المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

شرح سنن النسائي المسمَّى ذخيرة العقبى في شرح المجتبى لجامعه الفقير إلى مولاه - ذخيرة العقبى في شرح المجتبى - جـ ٣١

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

شرح سنن النسائي

المسمَّى

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى

لجامعه الفقير إلى مولاه الغني القدير

محمد ابن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى الأيتوبي الوَلَّوي

المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة

عفا اللَّه عنه وعن والديه آمين

الجزء الثلاثون

دار آل بروم للنشر والتوزيع

ص: 1

جميع الحقوق محفوظة

الطبعة الأولى

1424هـ - 2003م

دار آل بروم للنشر والتوزيع

المملكة العربية السعودية - مكة المكرمة - المكتب الرئيسي التنعيم

ص ب: 4145 - (تلفاكس 5211576 - جوّال 055541026)

ص: 2

شرح سنن النسائيّ

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 4

‌29 - (الْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: المراد بيان حكمه، أو فضله. قال اللَّه تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7]، يؤخذ منه أن الوفاء به قربة؛ للثناء على فاعله، لكن ذلك مخصوص بنذر الطاعة. وقد أخرج الطبريّ من طريق مجاهد في قوله تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} قال: إذا نذروا في طاعة اللَّه. قال القرطبيّ: النذر من العقود المأمور بالوفاء بها المثنَى على فاعلها، وأعلى أنواعه ما كان غير معلّق على شيء، كمن يعافى من مرض، فقال: للَّه عليّ أن أصوم كذا، أو أتصدق بكذا شكرًا للَّه تعالى، ويليه المعلق على فعل طاعة، كإن شفى اللَّه مريضي صمت كذا، أو صلّيت كذا، وما عدا هذا من أنواعه، كنذر اللجاج، كمن يستثقل عبده، فينذر أن يُعتقه ليتخلّص من صحبته، فلا يقصد القربة بذلك، أو يحمل على نفسه، فينذر صلاة كثيرة، أو صومًا مما يشق عليه فعله، ويتضرّر بفعله، فإن ذلك يكره، وقد يبلغ بعضه التحريم. قاله في "الفتح"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب

3836 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنْ زَهْدَمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ، يَذْكُرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ"، فَلَا أَدْرِي أَذَكَرَ مَرَّتَيْنِ بَعْدَهُ، أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْمًا يَخُونُونَ، وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ، وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيُنْذِرُونَ، وَلَا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ".

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا نَصْرُ بْنُ عِمْرَانَ، أَبُو جَمْرَةَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بْنُ عَبدِ الأعلى) الصنعاني، ثم البصريّ، ثقة [10] 5/ 5.

2 -

(خَالِدٌ) بن الحارث الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت البصريّ [7] 24/ 27.

4 -

(أبو جمرة) نصر بن عمران بن عصام الضُّبَعيّ البصريّ، نزيل خُرَاسان، ثقة ثبت [3] 88/ 2012.

5 -

(زَهْدَم) بن مُضَرِّب الجَرْمي البصريّ، ثقة [3] 14/ 3806.

6 -

(عمران بن حصين) بن عُبيد بن خَلَف الْخُزَاعيّ، أبو نُجَيد، أسلم عام خيبر، وصحب، وكان فاضلًا، وقضى بالكوفة، مات رضي الله عنه سنة (52) بالبصرة، وأبوه أيضًا صحابي رضي الله عنه. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"فتح" 13/ 433 - 434. "كتاب الأيمان والنذور".

ص: 5

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، ورواية الأقران، وفيه أبو جمرة، مشهور بكنيته، وليس له مشارك في هذه الكنية في الكتب الستّة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ زَهْدَمٍ) بوزن جعفر بن مُضَرِّب -بضمّ الميم، وفتح المعجمة، وتشديد الراء المكسورة، بعدها موحّدة- (قَالَ: سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَينٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (يَذْكُرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: خَيْرُكُمْ قَرْنِي) أي أهل قرني. قال أبو العبّاس القرطبيّ --رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "القرن" -بفتح، فسكون- من الناس: أهل زمان واحد، قال الشاعر [من الطويل]:

إِذَا ذَهَبَ الْقَرْنُ الَّذِ أَنْتَ فِيهِمُ

وَخُلِّقتَ في قَرنٍ فَأَنْتَ غَرِيبُ

وقيل: مقدار زمانه ثمانون سنة. وقيل: ستون. ويعني أن هذه القرون الثلاثة أفضل مما بعدها إلى يوم القيامة، وهذه القرون في أنفسها متفاضلة، فأفضلها الأول، ثم الذي بعده، ثم الذي بعده، هذا ظاهر الحديث، فأما أفضليّة الصحابة، وهم القرن الأول على من بعدهم، فلا تخفى، وقد بيّنّا إبطال قول من زعم أنه يكون فيمن بعدهم أفضل منهم، أو مسوٍ لهم في "كتاب الطهارة"

(1)

. وأما أفضليّة من بعدهم، بعضهم على بعض، فبحسب قربهم من القرن الأول، وبحسب ما ظهر على أيديهم من إعلاء كلمة الدين، ونشر العلم، وفتح الأمصار، واخماد كلمة الكفر، ولا خفاء أن الذي كان من ذلك في قرن التابعين كان أكثر، وأغلب مما كان في أتباعهم، وكذلك الأمر في الذين بعدهم، ثم بعد هذا غلبت الشرور، وارتُكبت الأمور، وقد دلّ على صحّة هذا قوله في حديث أبي سعيد رضي الله عنه: "يغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من صحب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فيقال: نعم، فيفتح لهم

" الحديث

(2)

. انتهى كلام القرطبيّ

(3)

.

وقال في "الفتح": والقرن أهل زمان واحد متقارب، اشتركوا في أمر من الأمور المقصودة، ويقال: إن ذلك مخصوص بما إذا اجتمعوا في زمن نبيّ، أو رئيس يجمعهم على ملة، أو مذهب، أو عمل، ويُطلق القرن على مدّة من الزمان، واختلفوا في

(1)

سيأتي نقل كلامه هذا بنصّه قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.

(2)

متّفقٌ عليه.

(3)

"المفهم" 6/ 485 - 486. "كتاب النبوّات".

ص: 6

تحديدها من عشرة أعوام إلى مائة وعشرين، قال الحافظ: لكن لم أر من صرّح بالسبعين، ولا بمائة وعشرة، وما عدا ذلك، فقد قال به قائل. وذكر الجوهريّ بين الثلاثين والثمانين. وقد وقع في حديث عبد اللَّه بن بُسْر عند مسلم ما يدلّ على أن القرن مائة، وهو المشهور. وقال صاحب "المطالع": القرن أمّةٌ هلكت، فلم يبق منهم أحد، وثبتت المائة في حديث عبد اللَّه بن بسر، وهي ما عند أكثر أهل العراق، ولم يذكر صاحب "المحكم" الخمسين، وذكر من عشر إلى سبعين، ثم قال: هذا هو القدر المتوسّط من أعمار أهل كلّ زمن، وهذا أعدل الأقوال، وبه صرّح ابن الأعرابيّ، وقال: إنه مأخوذ من الأقران، ويمكن أن يُحمل عليه المختلف من الأقوال المتقدّمة ممن قال: إن القرن أربعون، فصاعدًا، أما من قال: إنه دون ذلك، فلا يلتئم على هذا القول. واللَّه أعلم.

والمراد بقرن النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحابة وفي "صحيح البخاريّ" في صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم قوله: "وبُعثت في خير قرن بني آدم"، وفي رواية بُريدة عند أحمد:"خير هذه الأمة القرن الذين بعثت فيهم"، وقد ظهر أن الذي بين البعثة، وآخر من مات من الصحابة مائة وعشرون سنة، أو دونها، أو فوقها بقليل على الاختلاف في وفاة أبي الطفيل، وإن اعتُبر ذلك من بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فيكون مائة سنة، أو تسعين، أو سبعاً وتسعين. وأما قرن التابعين، فإن اعتُبر من سنة مائة كان نحو سبعين، أو ثمانين. وأما الذين بعدهم، فإن اعتُبر منها كان نحوًا من خمسين، فظهر بذلك أن مدّة القرن تختلف باختلاف أعمار أهل كلّ زمان. واللَّه أعلم.

واتّفقوا أن آخر من كان من أتباع التابعين ممن يُقبل قوله من عاش إلى حدود العشرين ومائتين، وفي هذا الوقت ظهرت البِدَع ظهورًا فاشيًا، وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورَفَعت الفلاسفة رؤوسها، وامتُحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن، وتغيّرت الأحوال تغيرًا شديدًا، ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن، وظهر قوله صلى الله عليه وسلم:"ثم يفشو الكذب" ظهورَا بينًا حتى يشمل الأقوال، والأفعال، والمعتقدات. واللَّه المستعان

(1)

.

(ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) أي القرن الذي بعدهم، وهم التابعون (ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) وهم أتباع التابعين، واقتضى هذا الحديث أن تكون الصحابة أفضل من التابعين، والتابعون أفضل من أتباع التابعين، لكن هذه الأفضلية بالنسبة إلى المجموع، أو الأفراد؟ محلّ بحث، وإلى الثاني نحا الجمهور، والأول قول ابن عبد البرّ.

(1)

"فتح" 7/ 351 - 352. "كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم ".

ص: 7

قال الحافظ: والذي يظهر أن من قاتل مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو في زمانه بأمره، أو أنفق شيئًا من ماله بسببه، لا يعدله في الفضل أحدٌ بعده كائنًا من كان، وأما من لم يقع له ذلك، فهو محلّ البحث، والأصل في ذلك قوله تعالى:{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} الآية [الحديد: 10].

واحتجّ ابن عبد البرّ بحديث: (مَثلُ أمتي مثل المطر، لا يُدرى أوّله خيرٌ، أم آخره"، وهو حديث حسنٌ له طرُق، قد يرتقي بها إلى الصّحّة، وأغرب النوويّ، فعزاه في "فتاويه" إلى مسند أبي يعلى، من حديث أنس رضي الله عنه، بإسناد ضعيف، مع أنه عند الترمذيّ بإسناد أقوى منه من حديث أنس رضي الله عنه، وصححه ابن حبّان، من حديث عمّار رضي الله عنه. وأجاب عنه النوويّ بما حاصله: أن المراد من يشتبه عليه الحال في ذلك من أهل الزمان الذين يدركون عيسى ابن مريم عليهما السلام، ويرون في زمانه من الخير، والبركة، وانتظام كلمة الإسلام، ودحض كلمة الكفر، فيشتبه الحال على من شاهد ذلك، أيُّ الزمانين خير، وهذا الاشتباه مندفع بصريح قوله صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني". واللَّه أعلم.

وقد روى ابن أبي شيبة من حديث عبد الرحمن بن جُبير بن نُفير، أحد التابعين بإسناد حسن، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لَيُدركنّ المسيحُ أقوامًا، إنهم لمثلكم، أو خيرٌ - ثلاثًا- ولن يُخزي اللَّه أُمّة أنا أوّلها، والمسيح آخرها". وروى أبو داود، والترمذيّ من حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه، رفعه:"تأتي أيّام، للعامل فيهنّ أجر خمسين"، قيل: منهم، أو منّا يا رسول اللَّه؟ قال:"بل منكم"، وهو شاهدٌ لحديث:"مثلُ أمتي مثل المطر".

واحتجّ ابن عبد البرّ أيضًا بحديث عمر رضي الله عنه، رفعه: "أفضل الخلق إيمانًا قومٌ في أصلاب الرجال، يؤمنون بي، ولم يروني

" الحديث. أخرجه الطيالسيّ وغيره، لكن سنده ضعيف، فلا حجّة فيه. وروى أحمد، والدارميّ، والطبرانيّ، من حديث أبي جمعة، قال: قال أبو عُبيدة؛ يا رسول اللَّه، أأحدٌ خيرٌ منّا؟ أسلمنا معك، وجاهدنا معك، قال: "قومٌ يكونون من بعدكم، يؤمنون بي، ولم يروني". وإسناده حسنٌ، وقد صححه الحاكم.

واحتجّ أيضًا بأن السبب في كون القرن الأول خير القرون أنهم كانوا غُرباء في إيمانهم؛ لكثرة الكفّار حينئذ، وصبرهم على أذاهم، وتمسّكم بدينهم، قال: فكذلك أواخرهم إذا أقاموا الدين، وتمسّكوا به، وصبروا على الطاعة حين ظهور المعاصي والفتن كانوا أيضًا عند ذلك غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الزمان كما زكت أعمال أولئك. ويشهد له ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، رفعه: "بدأ الإسلام غريبًا،

ص: 8

وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء".

وقد تُعُقّب كلام ابن عبد البرّ بأن مُقتضى كلامه أن يكون فيمن يأتي بعد الصحابة من يكون أفضل من بعض الصحابة، وبذلك صرّح القرطبيّ، لكن كلام ابن عبد البرّ ليس على إطلاقه في حقّ جميع الصحابة، فإنه صرّح في كلامه باستثناء أهل بدر، والحديبية،. نعم والذي ذهب إليه الجمهور أن فضيلة الصحبة لا يَعدِلها عملٌ لمشاهدة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأما من اتّفق له الذّبّ عنه، والسبق إليه بالهجرة، أو النُّصرة، وضبط الشرع المتلقّى عنه، وتبليغه لمن بعده، فإنه لا يَعدِله أحدٌ ممن يأتي بعده؛ لأنه ما من خَصلة من الخصال المذكورة إلا وللذي سبق بها مثلُ أجر من عمل بها من بعده، فظهر فضلهم.

ومُحَصَّلُ النّزاع يتمحّض فيمن لم يحصُل له إلا مجرّد المشاهدة، كما تقدّم، فإن جُمع بين الأحاديث المذكورة كان متجهًا، على أن حديث:"للعامل منهم خمسين منكم"، لا يدلّ على أفضلية غير الصحابة على الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن مجرّد زيادة الأجر لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة، وأيضًا فالأجر إنما يقع تفاضله بالنسبة إلى ما يماثله في ذلك العمل، فأما ما فاز به من شاهد النبيّ صلى الله عليه وسلم من زيادة فضيلة المشاهدة، فلا يَعدله فيها أحدٌ، فبهذه الطريق يمكن تأويل الأحاديث المتقدّمة. وأما حديث أبي جمعة، فلم تتّفق الرواة على لفظه، فقد رواه بعضهم بلفظ الخيريّة، كما تقدّم، ورواه بعضهم بلفظ؛ "قلنا: يا رسول اللَّه، هل من قوم أعظم منّا أجرًا؟

" الحديث. أخرجه الطبرانيّ، وإسناد هذه الرواية أقوى من إسناد الرواية المتقدّمة، وهي توافق حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه، وقد تقدّم الجواب عنه. واللَّه أعلم

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن مما سبق أن ما عليه الجمهور من أن الصحابة أفضل ممن بعدهم إلى يوم القيامة على الإطلاق، كائنًا من كان هو الحقّ.

قال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-- بعد أن ذكر قول ابن عبد البرّ: إنه يكون فيمن يأتي بعد الصحابة من يكون أفضل ممن كان في جملة الصحابة-: ما نصّه: وذهب معظم العلماء إلى خلاف هذا، وأن من صحب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورآه، ولو مرّة من عمره أفضل من كلّ من يأتي بعدُ، وأن فضيلة الصحبة لا يَعدِلها عملٌ، وهو الحقّ الذي لا ينبغي أن يُصار لغيره؛ لأمور:

[أولها]: مزيّة الصحبة، ومُشاهدة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

(1)

"فتح" 7/ 352 - 353. "كتاب فضائل الصحابة" رضي الله عنهم.

ص: 9

[وثانيها]: فضيلة السبق للإسلام.

[وثالثها]: خُصوصية الذبّ عن حضرة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

[ورابعها]: فضيلة الهجرة، والنصرة.

[وخامسها]: ضبطهم للشريعة، وحفظها عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

[وسادسها]: تبليغها لمن بعدهم.

[وسابعها]: السبق في النفقة في أول الإسلام.

[وثامنها]: أن كلّ خير، وفضل، وعلم، وجهاد، ومعروف فُعِل في الشريعة إلى يوم القيامة، فحظّهم منه أكمل حظّ، وثوابهم فيه أجزل ثواب؛ لأنهم سَنُّوا سُنَن الخير، وافتتحوا أبوابه، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"من سنّ في الإسلام سُنّةً حسنةً، كان له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة"

(1)

، ولا شكّ في أنهم الذين سنُّوا جميع السنن، وسبقوا إلى المكارم، ولو عُدّدت مكارمهم، وفُسّرت خواصّهم، وحُصرت لملأت أسفارًا، ولكَلَّت الأعين بمطالعتها حيارى.

وعن هذه الجملة قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البزّار عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما، مرفوعًا:"إن اللَّه اختار أصحابي على العالمين، سوى النبيين والمرسلين، واختار من أصحابي أربعة -يعني أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليًّا- فجعلهم أصحابي". وقال: "في أصحابي كلّهم خير"

(2)

. وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: "اتّقوا اللَّه في أصحابي، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مُد أحدهم، ولا نصيفه"

(3)

. وكفى من ذلك كلّه ثناء اللَّه تعالى عليهم جملةَ وتفصيلًا، وتعيينًا، وإبهامًا، ولم يحصل شيء من ذلك لمن بعدهم.

فأما استدلال المخالف بقوله صلى الله عليه وسلم: "إخواننا"

(4)

فلا حجة فيه؛ لأن الصحابة قد

(1)

رواه مسلم، وتقدّم للمصنّف 5/ 75 - 76 من حديث جرير بن عبد اللَّه البجلي رضي الله عنه.

(2)

رواه البزّار كما في "كشف الأستار" -2763 - قال الهيثميّ: ورجاله ثقات، وفي بعضهم خلاف. اهـ "مجمع الزوائد"10/ 16.

(3)

متّفقٌ عليه.

(4)

هو ما أخرجه مسلم في "صحيحه" في "الطهارة" - برقم 249 - والمصنّف في "الطهارة" أيضًا برقم - 150 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أتى المقبرة، فقال:"السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء اللَّه بكم لاحقون، وددت أنا قد رأينا إخواننا"، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول اللَّه؟ قال: "أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعدُ"، فقالوا:"فيف تَعرِف من لم يأت بعدُ من أمتك، يا رسول اللَّه؟ فقال: "أرأيت لو أن رجلاً له خيل، غُرّ، محجلة، بين ظهري خيل، دُهم، بُهم، ألا يعرف خيله؟ "، قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال: (فإنهم يأتون غرا محجلين، من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، ألا لَيُذادنّ رجال عن حوضي، كما يذاد البعير الضال، أناديهم، ألا هَلُمّ، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول سُحْقًا سُحْقًا".

ص: 10

حصل لهم من هذه الأخوّة الحظّ الأوفر؛ لأنها الأخوّة اليقينية العامّة، وانفردت الصحابة بخصوصيّة الصحبة. وأما قوله:"للعامل منهم أجر خمسين منكم" فلا حجة فيه؛ لأن ذلك-إن صحّ- إنما هو في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ لأنه قد قال صلى الله عليه وسلم في آخره:"لأنكم تجدون على الخير أعوانًا، ولا يجدون"، ولا بُعد في أن يكون في بعض الأعمال لغيرهم من الأجور أكثر مما لهم فيه، ولا تلزم منه الفضيلة المطلقة التي هي المطلوبة بهذا البحث. واللَّه أعلم. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(ثُمَّ الذينَ يَلُونُهمْ) وهم تبع أتباع التابعين (فَلَا أَدْرِي أَذَكَرَ مَرَّتَينِ بَعْدَهُ، أَوْ ثَلَاثًا) ولفظ البخاريّ: فلا أدري، أذكر بعد قرنه قرنين، أو ثلاثة". قال في "الفتح": وقع مثل هذا الشكّ في حديث ابن مسعود، وأبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم، وفي حديث بُريدة رضي الله عنه عند أحمد، وجاء في أكثر الطرق بغير شكّ، منها: عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عند أحمد، وعن مالك عند مسلم، عن عائشة: قال رجل: يا رسول اللَّه، أيّ الناس خيرٌ؟ قال: القرن الذي أنا فيه، ثم الثاني، ثم الثالث". ووقع في رواية الطبرانيّ، وسمويه ما يُفسّر به هذا السؤال، وهو ما أخرجاه من طريق بلال بن سعد بن تميم، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول اللَّه، أيّ الناس خير؟، فقال: أنا وقرني"، فذكر مثله. وللطيالسيّ من حديث عمر نهنى، رفعه:"خير أمتي القرن الذي أنا منهم، ثم الثاني، ثم الثالث". ووقع في حديث جعدة بن هُبيرة عند ابن أبي شيبة، والطبرانيّ إثبات القرن الرابع، ولفظه: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الآخرون أردأ"، ورجاله ثقات، إلا أن جعدة مختلف في صحبته. واللَّه أعلم. انتهى

(2)

.

(ثُمَّ ذَكَرَ) صلى الله عليه وسلم (قَوْمًا، يَخُونُونَ) قال في "الفتح": كذا في جميع الروايات التي اتّصلت لنا بالخاء المعجمة، والواو، مشتقّ من الخيانة، وزعم ابن حزم أنه وقع في نسخة "يَحْرِبُون" -بسكون المهملة، وكسر الراء، بعدها موحّدة- قال: فإن كان محفوظًا، فهو من قولهم؛ حَرَبه يَحرِبه: إذا أخذ ماله، وتركه بلا شيء، ورجلٌ محروبٌ: أي مسلوب المال. انتهى.

(وَلَا يُؤتَمَنُونَ) بالبناء للمفعول: أي لا يشق الناس بهم، ولا يَعتقدونهم أُمناء بأن تكون خيانتهم ظاهرةَ، بحيث لا يَبقَى للناس اعتمادٌ عليهم، بخلاف من خان بحقير مرّة واحدة، أو نحوها، فإنه يصدُق عليه أنه خان، ولكن لا يخرج به عن الأمانة على الإطلاق.

(1)

"المفهم" 1/ 501 - 503. "كتاب الطهارة".

(2)

"فتح" 7/ 353.

ص: 11

[تنبيه]: قال النوويّ: وبع في أكثر نسخ مسلم: "ولا يُتَّمنون" بتشديد المثنَّاة، قال غيره: هو نظير قوله:، "ثم يَتَّزِر" موضع قوله؛ "يأتزِر"، وادّعى أنه شاذ، ولكن قرأ ابن مُحيصن:"فليؤدّ الذي اتُّمِنَ أمانته"، ووجهه ابن مالك بأنه شُبّه بما فاؤه واو، أو تحتانيّةٌ، قال: وهو مقصور على السماع.

(وَيَشْهَدُونَ، وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ) ببناء الأول للفاعل، والثاني للمفعول. قال في "الفتح": يحتمل أن يكون المراد التحمّل بدون التحميل، أو الأداء بدون طلب، والثاني أقرب. ويعارضه ما رواه مسلم من حديث زيد بن خالد رضي الله عنه، مرفوعًا:"ألا أُخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بالشهادة قبل أن يُسألها". واختَلَف العلماءُ في ترجيحهما، فجنح ابن عبد البرّ إلى ترجيح حديث زيد بن خالد رضي الله عنه؛ لكونه من رواية أهل المدينة، فقدّمه على رواية أهل العراق، وبالغ، فزعم أن حديث عمران رضي الله عنه هذا لا أصل له. وجنح غيره إلى ترجيح حديث عمران رضي الله عنه لاتفاق صاحب الصحيح عليه، وانفراد مسلم بإخراج حديث زيد بن خالد رضي الله عنه. وذهب آخرون إلى الجمع بينهما، فأجابوا بأجوبة:

[أحدها]: أن المراد بحديث زيد من عنده شهادة لإنسان بحقّ، لا يَعلَم صاحبها، فيأتي إليه، فيُخبره بها، أو يموت صاحبها العالم بها، ويَخلُف ورثةً، فيأتي الشاهد إليهم، أو إلى من يتحدّث عنهم، فيُعلمهم بذلك. وهذا أحسن الأجوبة، وبهذا أجاب يحيى بن سعيد، شيخ مالك، ومالك، وغيرهما. أثانيها،: أن المراد شهادة الْحِسْبَة، وهي ما لا يتعلّق بحقوق الآدميين المختصّة بهم محضا، ويدخل في الحِسْبة مما يتعلّق بحق اللَّه، أو فيه شائبة منه، الْعَتَاق، والوقف، والوصية العامّة، والعدّة، والطلاق، والحدود، ونحو ذلك. وحاصله أن المراد بحديث ابن مسعود رضي الله عنه الشهادة في حقوق الآدميين، والمراد بحديث زيد بن خالد الشهادة في حقوق اللَّه. [ثالثها]: أنه محمولٌ على المبالغة في الإجابة إلى الأداء، فيكون لشدّة استعداده لها كالذي أدّاها قبل أن يُسألها، كما يقال في وصف الجواد: إنه ليُعطي قبل الطلب، أي يُعطي سريعًا عقب السؤال من غير توقّف.

وهذه الأجوبة مبنيّةٌ على أن الأصل في أداء الشهادة عند الحاكم أن لا يكون إلا بعد الطلب من صاحب الحقّ، فيُخصّ ذمّ من يشهد قبل أن يُستشهد بمن ذُكر ممن يُخبر بشهادة عنده لا يَعلم صاحبها بها، أو شهادة الحسبة.

وذهب بعضهم إلى جواز أداء الشهادة قبل السؤال على ظاهر عموم حديث زيد بن خالد رضي الله عنه، وتأوّلوا حديث عمران رضي الله عنه بتأويلات:

ص: 12

[أحدها]: أنه محمول على شهادة الزُّور، أي يؤدّون شهادة لم يَسبق لهم تحمّلها. وهذا حكاه الترمذيّ عن بعض أهل العلم.

[ثانيها]: المراد بها الشهادة في الحلف، يدلّ عليه قول إبراهيم النخعيّ في آخر حديث ابن مسعود رضي الله عنه:"كانوا يضربوننا على الشهادة"، أي قول الرجل أشهد باللَّه ما كان إلا كذا على معنى الحلف، فكره ذلك، كما كُره الإكثار من الحلف، واليمين قد تُسمّى شهادة، كما قال اللَّه تعالى:{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: 6]. وهذا جواب الطحاويّ.

[ثالثها]: المراد بها الشهادة على المغيب من أمر الناس، فيشهد على قوم أنهم في النار، وعلى قوم أنهم في الجنّة بغير ذلك، كما صنع ذلك أهل الأهواء. حكاه الخطّابيّ.

[رابعها]: المراد به من ينتصب شاهدًا، وليس من أهل الشهادة.

[خامسها]: المراد به التسارع إلى الشهادة، وصاحبها بها عالمٌ من قبل أن يسأله. واللَّه تعالى أعلم

(1)

.

(وَيَنْذِرُونَ) بكسر الذال، وضمّها، من بابي ضرب، ونصر، مبنيًّا للفاعل (وَلَا يُوفُونَ) مضارع أوفى رباعيًّا، ويحتمل أن يكون من وفّى مضعّف العين، من التوفية، وفي رواية البخاريّ:"ولا يَفُون" بفتح أوله، وضمّ ثالثه، من الوفاء ثلاثيًّا، قال ابن الأثير: يقال: وفَى بالشيء، وأوفَى، ووَفى بمعنى. انتهى.

(2)

. وقال الفيّوميّ: وفَيتُ بالعهد، والوعد، أَفِي به وَفَاءً، والفاعل وَفِيٌّ، والجمعُ أوفياءُ، مثلُ صَديق وأصدقاء، وأوفيتُ به إيفاءً، وقد جمعهما الشاعر، فقال [من البسيط]:

أَمَّا ابْنُ طَوْقٍ فَقَد أَوْفَى بِذِمَّتِهِ

كَمَا وَفَى بِقِلَاصِ النَّجْمِ حَادِيَها

وقال أبو زيد: أوفَى نذْره: أحسن الإيفاء، فجعل الرباعيّ يتعدّى بنفسه. وقال الفارابيّ أيضًا: أوفيته حقَّهُ، ووفّيته، إياه بالتثقيل، وأوفَى بما قال، ووفى بمعنى. انتهى

(3)

.

(وَيَظْهَرُ) بفتح أوله، وثالثه، من باب فتح (فِيهِمُ السِّمَنُ) -بكسر السين المهملة، وفتح الميم، آخره نون، وزان عِنَب- يقال: سَمِن يَسمَن، من باب تعِبَ، وفي لغة من باب قَرُب: إذا كثُر لحمه وشحمه، فهو سَمِينٌ، وجمعه سِمان. أفاده في "المصباح".

(1)

"فتح" 5/ 588 - 589.

(2)

"النهاية" 5/ 211.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 667.

ص: 13

والمعنى أنهم يُحبّون التوسّع في المآكل والمشارب، وهي أسباب السمن. قال ابن التين: المراد ذم محبته، وتعاطيه، لا من تخلّق بذلك. وقيل: المراد يظهر فيهم كثرة المال. وقيل: المراد أنهم يتسمّنون، أي يتكثّرون بما ليس فيهم، ويدّعون ما ليس لهم من الشرف. ويحتمل أن يكون جميع ذلك مرادًا. وقد رواه الترمذيّ من طريق هلال بن يساف، عن عمران بن حُصين رضي الله عنه بلفظ:"ثم يجيء قوم يتسمّنون، ويُحبّون السِّمَن"، وهو ظاهر في تعاطي السِّمَن على حقيقته، فهو أولى ما حُمِل عليه خبر الباب، وإنما كان مذمومًا؛ لأن السمين غالباً بليد اللهم، ثقيلٌ عن العبادة، كما هو مشهور. قاله في "الفتح"

(1)

.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم: "ثم يخلُفُ قومٌ يُحبْون السَّمَانةَ، يشهدون قبل أن يُستشهدوا". قال النوويّ: السمانة بفتح السين هي السِّمَن، قال جمهور العلماء في معنى هذا الحديث: المراد بالسمن هنا كثرة اللحم، ومعناه أنه يكثُر ذلك فيهم، وليس معناه أن يتمحّضوا سمانًا، قالوا: والمذموم منه من يستكسبه، وأما من هو فيه خلقَة، فلا يدخل في هذا، والمتكسب له هو المتوسّع في المأكول، والمشروب زائدًا على المعتاد. انتهى

(2)

.

وفي حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه عند الشيخين: "ثم يجيء قوم، تسبِق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته". قال في "الفتح": أي في حالين، وليس المراد أن ذلك يقع في حالة واحدة؛ لأنه دورٌ، كالذي يَحرص على ترويج شهادة، فيحلف على صحّتها ليُقوّيها، فتارة يحلف قبل أن يشهد، وتارة يشهد قبل أن يحلف. ويحتمل أن يقع ذلك في حالة واحدة، عند من يُجيز الحلف في الشهادة، فيريد أن يشهد، ويحلف. وقال ابن الجوزيّ: المراد أنهم لا يتورّعون، ويَستهينون بأمر الشهادة واليمين. وقال ابن بطّال: يُستدلّ به على أن الحلف في الشهادة يُبطلها، قال: وحكى ابن شعبان في "الزاهي": من قال: أشهد باللَّه أن لفلان على فلان كذا، لم تقبل شهادته؛ لأنه حلف، وليس بشهادة. قال ابن بطال: والمعروف عن مالك خلافه. انتهى

(3)

.

(قَالَ: أبُو عَبْد الرَّحْمَنِ) النسائيّ -رحمه اللَّه تعالى- (هَذَا) الراوي عن زهدم بن مضرّب (نَصْرُ ابْنُ عِمْرَانَ، أَبُو جَمْرَةَ) بالجيم، والراء. وإنما نصّ عليه لئلا يشتبه بأبي حمزة

(1)

"فتح" 5/ 589 "كتاب الشهادات".

(2)

"شرح مسلم" 16/ 303 "كتاب فضائل الصحابة".

(3)

"فتح" 5/ 590. "كتاب الشهادات".

ص: 14

بالحاء المهملة، والزاي، وهم جماعة، فإن شعبة -رحمه اللَّه تعالى- يروي عن سبعة كلهم يكنى بأبي حمزة بالحاء، والزاي، إلا واحدًا، فإنه بالجيم، والراء، وهو الذي في هذا السند، وإلى ذلك أشار السيوطيّ في "ألفية الحديث":

وَعَنْ أَبِي حَمْزَةَ يَروِي شُعْبَةُ

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِزَايِ عِدَّةُ

إِلَّا أَبَا جَمرَةَ فَهوَ بِالرَّا

وَهوَ الَّذِي يُطْلَقُ يُدْعَى نَصْرَا

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عمران حُصين رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-29/ 3836 - وفي "الكبرى" 6/ 4751. وأخرجه (خ) في "الشهادات" 2651 و"المناقب" 3650 و"الرقاق" 6428 و"الأيمان والنذور" 6695 (م) في "فضائل الصحابة" 2535 (د) في "السنّة" 4657 (ت) في "الفتن" 2221 و 2222 (أحمد) في "مسند البصريين" 19319 و 19334 و 1940 و 19451. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان وجوب الوفاء بالنذر. قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: فيه وجوب الوفاء بالنذر، وهو واجبٌ بلا خلاف، وإن كان ابتداء النذر منهيًا عنه، كما سبق في بابه. انتهى

(1)

. (ومنها): بيان فضل الوفاء بالنذر، حيث مُدِحَ به القرونُ المفضلة، وذُمَّ بتركه من بعدهم.

(ومنها): أن فيه معجزةً ظاهرةً للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن كلّ الأمور التي أخبر بها وقعت كما أخبر.

(ومنها): استُدلّ به على تعديل أهل القرون الثلاثة، وإن تفاوتت منازلهم في الفضل، وهذا محمولٌ على الغالب، والأكثرية، فقد وُجد فيمن بعد الصحابة من القرنين من وُجدت فيه الصفات المذمومة المذكورة، لكن بقلّة، بخلاف من بعد القرون الثلاثة، فإن ذلك كثُر فيهم، واشتهر. (ومنها): أن فيه بيان من تُردّ شهادتهم، وهم من اتصف بالصفات المذكورة، وإلى ذلك الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم:"ثم يفشو الكذب"، أي يكثر. (ومنها): أنه استُدلّ به على جواز المفاضلة بين الصحابة. قاله المازريّ.

(1)

"شرح مسلم" 16/ 305.

ص: 15

(ومنها): أنه استدُل بقوله: "يشهدون، ولا يُستشهدون" على أن من سمع رجلاً يقول: لفلان عندي كذا، فلا يسوغ له أن يشهد عليه بذلك، إلا أن استشهده، وهذا بخلاف من رأى رجلاً يقتل رجلاً، أو يغصبه ماله، فإنه يجوز له أن يشهد بذلك، وإن لم يَستشهده الجاني

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌30 - (النَّذْرُ فِيمَا لَا يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عز وجل

-)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ظاهر ترجمة المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- يدلّ على أنه يرى أن النذر إنما يكون في الطاعة، وأما المباح، فلا ينعقد نذره، وقد تقدّم الخلاف بين العلماء فيه، وأن الراجح عدم انعقاده، وحديث الباب دليل واضح في ذلك، ويدلّ عليه أيضًا حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم، يخطب، إذا هو برجل قائم، فسأل عنه؟ فقالوا، أبو إسرائيل، نذر أن يقوم، ولا يقعد، ولا يستظلّ، ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"مُرْهُ، فليتكلم، وليستظل، وليقعد، ولْيُتِمّ صومه".

فقد أمره صلى الله عليه وسلم بالطاعة، وهو إتمام صومه، وأسقط عنه المباح، وهو عدم الكلام، والاستظلال، والقعود، فدلّ على أن النذر لا ينعقد في المباح، وأصرح منه ما أخرجه أحمد في "مسنده"، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أدرك رجلين، وهما مقترنان يمشيان إلى البيت، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ما بالُ القران"، قالا: يا رسول اللَّه، نذرنا أن نمشي إلى البيت، مقترنين، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ليس هذا نذرا، فقطع قرانهما"، وفي رواية:"إنما النذر ما ابتُغي به وجه اللَّه عز وجل".

وهذا، وإن كان في سنده ابن أبي الزناد، وهو متكلّم فيه، إلا أنه يشهد له حديث الباب، وحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما المذكور.

وبهذا قال مالك، والشافعيّ -رحمهما اللَّه تعالى- حيث قالا: لا ينعقد نذر المباح، وهو الأصحّ؛ للأدلّة المذكورة، وخالف في ذلك أحمد بن حنبل -رحمه اللَّه تعالى-،

(1)

"فتح" 5/ 589.

ص: 16

فقال: من نذر مباحًا، يتخيّر بين فعله، فيبرّ بذلك، وإن شاء تركه، وعليه كفّارة يمين، وقد بين ذلك ابن قُدامة في "المغني"، فراجعه

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3837 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ الأَحْوَلُ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ، يَقُودُ رَجُلاً فِي قَرَنٍ، فَتَنَاوَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَطَعَهُ، قَالَ: إِنَّهُ نَذْرٌ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث أخرجه البخاريّ، دون قوله:"إنه نذرٌ"، وقد تقدّم سندًا ومتنًا في "كتاب الحجّ" -135/ 292 - "الكلام في الطواف"، وسبق شرحه هناك مستوفًى، وكذا بيان مسائله، وللَّه الحمد.

ودلالته على ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- واضحة، حيث يدلّ أن من نذر ما ليس طاعة لا ينعقد نذره، ولا يلزمه الوفاء به.

و"خالد": هو ابن الحارث الهُجَيميّ. و"سليمان الأحول": هو ابن طرخان التيميّ، أبو المعتمر البصريّ الثقة العابد.

وقوله: في "قرن" بفتحتين: هو الحبل الذي يُشدّ به. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3838 -

(أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ الأَحْوَلُ، أَنَّ طَاوُسًا أَخْبَرَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِرَجُلٍ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ، يَقُودُهُ إِنْسَانٌ بِخِزَامَةٍ فِي أَنْفِهِ، فَقَطَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَقُودَهُ بِيَدِهِ.

قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ، أَنَّ طَاوُسًا أَخْبَرَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِهِ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ، وَإِنْسَانٌ قَدْ رَبَطَ يَدَهُ بِإِنْسَانٍ آخَرَ بِسَيْرٍ، أَوْ خَيْطٍ، أَوْ بِشَيْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَطَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ:«قُدْهُ بِيَدِكَ» ).

قال الجامع عفا اللَّه تعَالى عنه: "يوسف بن سعيد": هو الْمِصّيصيّ الثقة الحافظ [11] 131/ 198 من أفراد المصنّف. و"حجاج": هو ابن محمد الأعور المصّيصيّ الحافظ.

وقوله: "بخِزامة" بكسر الخاء المعجمة، بعدها زايٌ مخفّفّة: هو حَلْقةٌ من شعر، أو وَبَر، تجُعل في الحاجز الذي بين منخري البعير، يشد فيها الزمام؛ ليسهل انقياده، إذا كان صعبًا.

وقوله: "قال ابن جُريج" هو موصول بالسند السابق، وإنما أتى به بيانًا إلى الاختلاف

(1)

"المغني" 13/ 626 - 628.

ص: 17

الواقع في ألفاظ المتن.

وقوله: "بسَير" بسين مهملة، مفتوحة، وياء تحتية ساكنة: هو ما يُقدّ من الجلد. والحديث أخرجه البخاريّ، كما سبق في الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌31 - (النَّذْرُ فِيمَا لَا يَمْلِكُ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا أنه إن نذر بشيء لا يملكه، لا يلزمه الوفاء به، كما هو نصّ حديثي الباب، لكن هل تلزمه الكفّارة، أم لا؟ فيه خلاف، فقال الجمهور: لا، وقال أحمد، والثوريّ، وإسحاق، وبعض طائفة: نعم، وسيأتي تحقيق القول في ذلك، في باب "كفّارة النذر"، إن شاء اللَّه تعالى.

3839 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَيُّوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو قِلَابَةَ، عَنْ عَمِّهِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، "محمد بن منصور" الْخُزاعيّ الْجَوّاز المكيّ، فإنه من أفراده، وهو ثقة.

و"سفيان": هو ابن عيينة. و"أيوب": هو ابن أبي تميمة كيسان السختيانيّ. و"أبو قلابة": هو عبد اللَّه بن زيد بن عمرو الْجَرْميّ البصريّ. و"عمه": هو أبو الْمُهلَّب الجَرْميّ البصريّ، اسمه عمرو، أو عبد الرحمن، أو ابن عمرو، وقيل: النضر. وقيل: مُعاوية، ثقة [2] 21/ 1236.

وشرح الحديث تقدّم في -17/ 3819 - "اليمين فيما لا يملك"، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عمران بن حُصين رضي الله عنهما هذا أخرجه مسلم.

ص: 18

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-31/ 3839 و 41/ 3867 و 3868 و 3869 و 3870 و 3871 و 3872 و 3873 و 3874 و 3875 و 3876 و 3878 - وفي "الكبرى" 8/ 4754. وأخرجه (م) في "النذور والأيمان" 1641 (د) في "الأيمان والنذور" 3292 و 3316 (ق) في "الكفّارات" 2124 (أحمد) في "مسند البصريين" 19355 و 19362 و 19382 و 19387 و 19483 (الدارمي) في "النذور والأيمان" 2337 و"السير" 2505. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3840 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ، سِوَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا، فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيَا، عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم في -7/ 3797 و 3798 - ومضى شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد.

ورجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح. و"إسحاق بن منصور": هو الكوسج المروزيّ الحافظ. و"أبو المغيرة": هو عبد القدّوس بن الحجّاج الخولانيّ الحمصيّ. و"يحيى": هو ابن أبي كثير. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌32 - (مَنْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى)

3841 -

(أَخْبَرَنِي يُوسُفُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا الْخَيْرِ، حَدَّثَهُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: نَذَرَتْ أُخْتِي، أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَفْتَيْتُ لَهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يوسف بن سعيد) بن مسلم الْمصِّيصِيُّ، ثقة حافظ [11] 131/ 198.

ص: 19

2 -

(حجاج) بن محمد الأعور، أبو محمد المصيصيّ، ترمذي الأصل، نزل بغداد، ثم المصّيصة، ثقة ثبت، لكنه اختلط في آخر عمره لما قدم بغداد قبل موته [9] 28/ 32.

3 -

(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقة فقيه فاضل، يدلس، ويرسل [6] 28/ 32.

4 -

(سعيد بن أبي أيوب) مِقلاص الخزاعيّ مولاهم، أبو يحيى المصريّ، ثقة ثبت [7] 27/ 188.

[تنبيه]: وقع في بعض النسخ: "سعيد بن أيوب"، وهو غلط، والصواب:"سعيد ابن أبي أيوب". فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

5 -

(يزيد بن أبي حبيب) سُويد، أبو رجاء المصريّ، ثقة فقيه، يرسل [5] 134/ 207.

6 -

(أبو الخير) مرثد بن عبد اللَّه اليزنيّ المصريّ، ثقة فقيه [3] 38/ 582.

7 -

(عقبة بن عامر) الجهنيّ الصحابيّ المشهور، ولي إمرة مصر لمعاوية - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وكان فقيهاً فاضلاً، مات في قرب الستين، وتقدم في 108/ 144.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمصريين من سعيد، وابن جريج مكيّ، والباقيان مصّيصيّان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) الْجُهَني - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: نَذَرَتْ أُخْتِي) قال الحافظ: قال المنذريّ، وابن القسطلّاني، والقطب الحلبيّ، ومن تبعهم: هي أمّ حِبّان بنت عامر، وهي -بكسر المهملة، وتشديد الموحّدة- ونسبوا ذلك لابن ماكولا، فوهموا، فإن ابن ماكولا إنما نقله عن ابن سعد، وابن سعد إنما ذكر في طبقات النساء أمّ حبّان بنت عامر بن نابي -بنون، وموحّدة- ابن زيد بن حَرَام -بمهلتين- الأنصارية، قال: وهي أخت عقبة بن عامر بن نابي، شهد بدرًا، وهي زوج حرام بن محيّصة، وكان ذكر قبلُ عقبةَ بنَ عامر بن نابي الأنصاريّ، وأنه شهد بدرًا، ولا رواية له، وهذا كلّه مغايرْ للجُهَنيّ، فإن له رواية كثيرة، ولم يشهد بدرًا، وليس أنصاريًّا، فعلى هذا لم يُعرَف اسم أخت عقبة بن عامر الجهني، وقد كنتُ تبعتُ في "المقدمة" من ذَكَرتُ، ثم

ص: 20

رجعت الآن عن ذلك، وباللَّه التوفيق. انتهى كلام الحافظ

(1)

.

(أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ) زاد في الرواية الآتية في الباب التالي: "نذرت أن تمشي حافية، غير مختمرة"، وزاد الطبريّ من طريق إسحاق بن سالم، عن عقبة بن عامر:"وهي امرأة ثقيلة، والمشي يشُقّ عليها". ولأبي داود من طريق قتادة، عن عكرمة، عن ابن عبّاس:"أن عقبة بن عامر، سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت، وشكا إليه ضعفها".

(فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي أسأله بيان الحكم، يقال: أفتى العالم: إذا بيّن الحكم، واستفتيته: إذا سألته الفتوى. أفاده الفيّوميّ (فَاسْتَفْتَيْتُ لَهَا النَّبِيَّ) وفي نسخة: "رسول اللَّه"(صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لِتَمْشِ) -بكسر اللام، وهي لام الأمر، ولذا جُزم الفعل بعدها- وفي نسخة:"لتمشي" بثبوت الياء، وهذا على لغة من يحذف الحركة المقدّرة على حروف العلة في المعتلّ، كما في قول الشاعر:

وَتَضحَكُ مِنِّي شَيْخَةٌ عَبشَمِيَّةٌ

كَأَنْ لَمْ تَرَى قَبْلي أَسِيرًا يَمَانِيَا

وخرّج بعضهم عليه قراءة قنبل: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} [يوسف: 90] بالياء، وجزم {وَيَصْبِرْ}

(2)

.

(وَلْتَرْكَبْ) بكسر اللام، ويجوز تسكينها تخفيفا، تشبيهًا لها بكتف، والتسكين بعد الواو والفاء أكثر، وتحريكها بعد "ثُمّ" أجود، وبنو سُليم يفتحونها كلام الابتداء

(3)

.

قال النوويّ: معناه: تمشي في وقت قدرتها على المشي، وتركب إذا عجزت عن المشي، أو لحقتها مشقّةٌ ظاهرة، فتركب.

وفي رواية عبد اللَّه بن مالك في الباب الآتي: "فلتختمر، ولتركب، ولتصم ثلاثة أيام". وروى مسلم عقب هذا الحديث حديث عبد الرحمن بن شِمَاسة -وهو بكسر المعجمة، وتخفيف الميم، بعدها مهملة- عن أبي الخير، عن عُقبة بن عامر رضي الله عنه، رفعه:"كفارة النذر كفّارة اليمين"، قال الحافظ: ولعلّه مختصرٌ من هذا الحديث، فإن الأمر بصيام ثلاثة أيام هو أحد أوجه كفّارة اليمين. لكن وقع في رواية عكرمة المذكورة: قال: "فلتركب، ولتهد بدنة". قاله في "الفتح"

(4)

.

(1)

"فتح"4/ 562 "كتاب الحجّ" رقم الحديث 1866.

(2)

انظر حاشية الخضري على شرح ابن عقيل على الخلاصة 1/ 67.

(3)

راجع "حاشية الخضريّ على شرح ابن عقيل على الخلاصة" 2/ 184. في باب "عوامل الجزم".

(4)

"فتح" 4/ 562 "كتاب الحجّ".

ص: 21

وقال في موضع آخر: وإنما أمر الناذر في حديث أنس رضي الله عنه

(1)

أن يركب جزمًا، وأمر أخت عقبة أن تمشي، وأن تركب؛ لأن الناذر في حديث أنس كان شيخًا ظاهر العجز، وأُخت عقبة لم توصف بالعجز، فكأنه أمرها أن تمشي إن قدرت، وتركب إن عجزت، وبهذا ترجم البيهقيّ للحديث، وأورده في بعض طرقه من رواية عكرمة، عن ابن عبّاس: أن أخت عقبة نذرت أن تحُجّ ماشية، فقال:"إن اللَّه غنيّ عن مشي أختك، فلتركب، ولتُهد بدنة". وأورده من طريق أخرى بلفظ: "ولتُهد هديًا"، ووهم من نسب إليه أنه أخرج هذا الحديث بلفظ:"ولتهد بدنة". وأورده من طريق أخرى عن عكرمة بغير ذكر الهدي. وأخرجه الحاكم من حديث ابن عبّاس بلفظ: جاء رجلٌ، فقال: إن أختي حلفت أن يتمشي إلى البيت، وإنه يشق عليها المشي، فقال:"مُرْها، فلتركب إذا لم تستطع أن تمشي، فما أغنى اللَّه أن يشقّ على أختك". ومن طريق كريب، عن ابن عبّاس: جاء رجل، فقال: يا رسول اللَّه، إن أختي نذرت أن تحُجّ ماشيةٌ، فقال:"إن اللَّه لا يصنع بشقاء أختك شيئًا، لتحُج راكبةً، ثم لتكفّر يمينها". وأخرجه أصحاب السنن من طريق عبد اللَّه بن مالك، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: نذرت أختي أن تحُجّ ماشيةٌ، غير مختصرة، فذكرتُ ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"مُر أختك، فلتختمر، ولتركب، ولتصُم ثلاثة أيام".

ونقل الترمذيّ، عن البخاريّ أنه لا يصحّ فيه الهدي. وقد أخرج الطبرانيّ من طريق أبي تَميم الجَيْشانيّ، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه في هذه القصّة: نذرت أن تمشي إلى الكعبة حافيةٌ، حاسرةَ، وفيه:"لتركب، ولتلبس، ولتصم". وللطحاويّ من طريق أبي عبد الرحمن الحُبُليّ، عن عقبة نحوه. وأخرج البيهقيّ بسند ضعيف، عن أبي هريرة رضي الله عنه: بينما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يسير في جوف الليل، إذ بصر بخيال، نفرت منه الإبل، فهذا امرأة عريانه، نافضةٌ شعرها، فقالت: نذرتُ أن أحجّ ماشيةً عريانةً، نافضة شعري، فقال:"مرها، فلتلبس ثيابها، ولتُهرق دمًا". وأورد من طريق الحسن، عن عمران، رفعه:"إذا نذر أحدكم أن يحجّ ماشيًا، فليُهد هديًا، وليركب"، وفي سنده انقطاع. انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

حديث أنس رضي الله عنه هو ما يأتي للمصنّف -رحمه اللَّه تعالى-3879 - من طريق ثابت، عن أنس، قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً، يُهادى بين رجلين، فقال:"ما هذا؟ "، قالوا: نذر أن يمشي إلى بيت اللَّه، قال:"إن اللَّه غني عن تعذيب هذا نفسه، مره، فليركب".

(2)

"فتح" 13/ 449. "كتاب الأيمان والنذور" رقم الحديث -6701.

ص: 22

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه هذا أخرجه متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-32/ 3841 و 33/ 3841 - وفي "الكبرى" 9/ 4756 و 10/ 4757. وأخرجه (خ) في "الحجّ" 1866 (م) في "النذور والأيمان" 1644 (د) في "الأيمان والنذور"3293 و 3299 (ت) في "النذور والأيمان" 1544 (ق) في "الكفّارات" 2134 (أحمد) في "مسند الشاميين" 16840 و 16855 و 16879 و 16897 و 16924 و 16935 و 17338 (الدارمي) في "النذور والأيمان" 2334. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم من نذر المشي إلى بيت اللَّه تعالى، وذلك أنه يلزمه المشي، إن قدر، وإلا ركب، وكفّر، كما تدلّ عليه الرواية الآتية في الباب التالي:"ولتصُم ثلاثة أيام"، إلا أنها ضعيفة، والصحيح أمرها بالهدي. (ومنها): جواز النذر من المرأة، كما يجوز من الرجل. (ومنها): عدم انعقاد النذر في المعصية، فإنه صلى الله عليه وسلم أمرها بالاختمار؛ لأن تكشّف المرأة معصية. (ومنها): جواز النذر بالحج والعمرة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة الرابعة): في أقوال أهل العلم فيمن نذر المشي إلى بيت اللَّه الحرام:

قال ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: من نذر المشي إلى بيت اللَّه الحرام لزمه الوفاء بنذره. وبهذا قال مالك، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأبو عُبيد، وابن المنذر، ولا نعلم فيه خلافًا. وذلك لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ولا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى". متّفقٌ عليه. قال: ولا يجزئه المشي إلا في حجّ، أو عمرة، وبه يقول الشافعيّ، ولا أعلم فيه خلافًا، وذلك لأن المشي المعهود في الشرع هو المشي في حجّ، أو عمرة، فإذا أطلق الناذر حُمل على المعهود الشرعيّ، ويلزمه المشي فيه؛ لنذره المشي، فإن عجز عن المشي ركب، وعليه كفّارة يمين. وعن أحمد رواية أخرى أنه يلزمه دم، وهو قول الشافعيّ، وأفتى به عطاء؛ لما روى ابن عبّاس رضي الله عنه:"أن أخت عقبة بن عامر رضي الله عنه نذرت المشي إلى بيت اللَّه الحرام، فأمرها النبيّ صلى الله عليه وسلم تركب، وتُهدي هديًا". رواه أبو داود، وفيه ضعف.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: سيأتي أنه حديث صحيح، فتنبّه.

قال: ولأنه أخلّ بواجب في الإحرام، فلزمه هديٌ، كتارك الإحرام من الميقات.

ص: 23

وعن ابن عمر، وابن الزبير رضي الله عنهما قالا: يحج من قابل، ويركب ما مشى، ويمشي ما ركب، ونحوه عن ابن عبّاس، وزاد، فقال: ويهُدي. وعن الحسن مثل الأقوال الثلاثة. وعن النخعي روايتان: إحداهما كقول ابن عمر. والثانية كقول ابن عبّاس. وهذا قول مالك. وقال أبو حنيفة: عليه هديٌ، سواء عجز عن المشي، أو قدر عليه، وأقلّ الهدي شاة. وقال الشافعيّ. لا يلزمه مع العجز كفّارة بحال، إلا أن يكون النذر مشيًا إلى بيت اللَّه الحرام، فهل يلزمه هديٌ، فيه قولان. وأما غيره، فلا يلزمه مع العجز شيء. قال: ولنا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قال لأخت عقبة بن عامر لما نذرت المشي إلى بيت اللَّه الحرام: "لتمش، ولتركب، ولتكفّر عن يمينها"، وفي رواية:"ولتصم ثلاثة أيام"، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"كفّارة النذر كفّارة اليمين". انتهى كلام ابن قُدامة باختصار

(1)

.

وقال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: وأما من خوطب بالمشي، فركب لموجب مرض، أو عجز، فيجب عليه الهدي، عند الجمهور، وقال الشافعيّ: لا يجب عليه الهدي، وُيختار له الهدي. وروي عن ابن الزبير أنه لم يجعل عليه هديًا، متمسّكًا بما قررناه من الظاهر. وقد تمسّك الجمهور بزيادة رواها أبو داود، والطحاويّ في حديث عقبة، وهذا لفظه: قال عقبة بن عامر: إنه أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبره أن أخته نذرت أن تمشي إلى الكعبة، حافيةً، ناشرة شعرها، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"مُرها، فلتركب، ولتختمر، ولتُهد هديًا". وعند أبي داود: بدنة، وليس فيه "ناشرة شعرها"، وزيادة الهدي رواها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مع عقبة بن عامر ابنُ عبّاس، ورواها عنهما الثقات، فلا سبيل إلى ردّها، وليس سكوت من سكت عنها حجة على من نطق بها، وقد عمل بها من السلف، وغيرهم. انتهى كلام القرطبيّ

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما ذهب إليه من قال بوجوب الهدي هو الأرجح؛ لصحّة الحديث بذلك، كما سمعته من كلام القرطبيّ، وكما سيأتي أيضًا تحقيقه في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى، وأما حديث:"ولتصم ثلاثة أيام"، فإنه ضعيف، وأما حديث "كفّارة النذر كفّارة يمين"

(3)

فسيأتي الكلام فيه في بابه، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة الخامسة): قال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: لم يَرِد فيما صحّ من الحديث أكثر من هذين اللفظين: "إلى بيت اللَّه"، و"إلى الكعبة"، وألحق العلماء بهما ما في معناهما، مثل أن يقول: إلى مكة، أو ذكر جزءًا من البيت. وهذا قول مالك،

(1)

"المغني" 13/ 635 - 636.

(2)

"المفهم" 4/ 617 - 618.

(3)

حديث صحيح، أخرجه مسلم في "صحيحه".

ص: 24

وأصحابه، واختلف أصحابه فيما إذا قال:"إلى الحرم"، أو مكانًا من مدينة مكة، أو المسجد، هل يرجع إلى البيت، أم لا؟ على قولين. وقال الشافعيّ: من قال: عليّ المشي إلى شيء مما يشتمل عليه الحرم لزمه، وإن ذكر ما خرج عنه لم يلزمه. وبه قال أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وابن حبيب من المالكيّة، إلا إذا ذكر عرفات، فيلزمه، وإن كانت خارج الحرم. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه في هذا مشيٌ، ولا مسيرٌ في القياس، لكن الاستحسان في قوله: إلى بيت اللَّه، أو الكعبة، أو مكة فقط، وكل هذا إذا ذكر المشي، فلو قال: عليّ المسير إلى مكة، أو الانطلاق، أو الذهاب، فلا شيء عليه، إلا أن يقول: في حجّ، أو عمرة، أو ينويهما. وتردّد قول مالك في الركوب، وأوجب أشهب الحجّ والعمرة فيهما، كالمشي. وكل هذا إذا ذكر مكة، أو موضعًا منها على ما فصّلناه. فلو قال: عليّ المشي إلى مسجد من المساجد الثلاثة، لم يلزمه المشي عند ابن القاسم، بل المضيّ إليها. وقال ابن وهب: يلزمه المشي، وهو القياس، ولو قال: إلى مسجد غير هذه الثلاثة قال ابن الموّاز: إن كان قريبًا كالأميال، لزمه المشي إليه، وإن كان بعيدًا لم يلزمه. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن من نذر إلى أحد المساجد الثلاثة يلزمه الوفاء به، وأما ما عداها من المساجد، فلا يُشرع النذر بالمشي إليها؛ للحديث المتّفق عليه: "لا تشدّ الرحال، إلا إلى ثلاثة مساجد

" الحديث، كما تقدّم، فيكون النذر إلى غيرها غير طاعة، فلا يلزم؛ لما ذُكر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌33 - (إِذَا حَلَفَتِ الْمَرْأَةُ لِتَمْشِيَ حَافِيَةً، غَيْرَ مُخْتَمِرَةٍ)

3842 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ، وَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زَحْرٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ أَخْبَرَهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم،

(1)

"المفهم" 4/ 618 - 619.

ص: 25

عَنْ أُخْتٍ لَهُ، نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ حَافِيَةً، غَيْرَ مُخْتَمِرَةٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مُرْهَا فَلْتَخْتَمِرْ، وَلْتَرْكَبْ، وَلْتَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "يحيى بن سعيد" الأول: هو القطّان، والثاني: هو الأنصاريّ.

و"عُبيد اللَّه بن زَحْر" -بفتح الزاي، وسكون الحاء المهملة- الضمريّ مولاهم الإفريقي، وُلد بإفريقية، ودخل العراق في طلب العلم، لَيِّن الحديث

(1)

[6].

قال حرب بن إسماعيل: سألت أحمد عنه، فضعّفه. وقال ابن أبي خيثمة وغيره، عن ابن معين: ليس بشيء. وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: كلّ حديثه عندي ضعيف. وقال أبو الحسن بن البراء، عن ابن المدينيّ: منكر الحديث. وقال الآجريّ، عن أبي داود: سمعت أحمد -يعني ابن صالح- يقول: عبيد اللَّه زحر ثقة. وقال أبو زرعة: لا بأس به صدوق. وقال الحاكم: لين الحديث. وقال النسائيّ: ليس به بأس. وقال ابن عديّ: ويقع في أحاديثه ما لا يُتابع عليه، وأروى الناس عنه يحيى بن أيوب. وقال الخطيب: كان رجلاً صالحًا، وفي حديثه لينٌ. ونقل الترمذيّ في "العلل" عن البخاريّ أنه وثّقه. وقال البخاريّ في "التاريخ": مقارب الحديث، ولكن الشأن في عليّ بن يزيد. وقال الحربيّ: غيره أوثق منه. وقال أبو مسهر: هو صاحب كلّ مُعضلة، وإن ذلك لبيّنٌ على حديثه. وقال العجليّ: يُكتب حديثه. وقال الدارقطنيّ: ضعيف. وقال ابن حبّان: يروي الموضوعات عن الأثبات، فإذا روى عن عليّ بن يزيد أتى بالطامّات، وإذا اجتمع في إسناد خبر عبيدُ اللَّه بن زخر، وعدي بن يزيد، والقاسم أبو عبد الرحمن، لم يكن متن ذلك الخبر إلا مما عملته أيديهم. انتهى. قال الحافظ: وليس في الثلاثة من اتُّهم إلا عليّ بن يزيد، وأما الآخران، فهما في الأصل صدوقان، وإن كانا يُخطئان، ولم يخرج البخاريّ من رواية ابن زحر عن عليّ بن يزيد شيئًا. انتهى. روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والأربعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

و"عبد اللَّه بن مالك" اليحصُبيّ -بفتح التحتانيّة، وسكون المهملة، وفتح الصاد المهملة، بعدها موحّدة- المقرئ المصريّ، يقال: هو أبو تميم الجيشانيّ، صدوق [3].

روى عن عقبة بن عامر في النذر. وعنه أبو سعيد جُعثُل بن هاعان. ذكره ابن حنان في "الثقات". وفرّق أبو حاتم بينه، وبين أبي تميم الجيشاني. وفرّق بينهما أيضًا ابن

(1)

وفي "التقريب" صدوق يخطئ والظاهر أنه أسوأ حالاً من هذا، كما يتبين من ترجمته. فتأمل.

ص: 26

حبّان تبعا للبخاريّ. واضطرب فيه كلام الحافظ المزيّ، فصوّب في "تهذيب الكمال" قول من وحد بينهما، وصوّب في "الأطراف" قول من فرَّق بينهما، والذي يظهر أن الفرق أرجح. روى له الأربعة، وليس له في هذا الكتاب غير هذا الحديث.

و"أبو سعيد": هو جُعْثُل-بضمّ الجيم، والمثلثة، بينهما عين مهملة ساكنة- ابن هاعان -بتقديم الهاء- ابن عمرو الرُّعَيْنيّ -براء مضمومة، وعين مهملة، مصغّرًا - القِتباني -بكسر القاف، وسكون المثنّاة، بعدها موحّدة- المصريّ، صدوقٌ فقيه [4].

روى عن أبي تميم الجيشانيّ. وعنه عبيد اللَّه بن زحر الإفريقي، وبكر بن سوادة الجُذَاميّ. قال ابن يونس: كان عمر بن عبد العزيز بعثه إلى المغرب ليقرئهم القرآن، وكان أحد القرّاء الفقهاء، وكان قاضي الجند بإفريقية لهشام، وتوفي في أول خلافته قريبًا من سنة (115). وقال أبو العرب في "طبقات علماء القيروان": كان تابعيًّا. وذكره ابن حيّان في "الثقات". روى له الأربعة حديث الباب فقط.

[تنبيه]: سقط من سند نسخ "المجتبى" ذكر أبي سعيد هذا، وذكره في "الكبرى"، وكذا ذُكر عند أبي داود-3293 - ، والترمذيّ - 1544 - ، وابن ماجه-2134 - ، وهو الصواب، كما تفيده كتب الرجال، والأطراف

(1)

. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "غير مختمرة" أي غير ساترة رأسها بالخمار، وقد أمرها بالاختمار والاستتار؛ لأن تركه معصية، لا نذر فيه، وأما المشي حافيًا، فإنه مباح، وقد سبق أن الأرجح أن النذر لا يكون في الأشياء المباحات، ومن يرى صحّة النذر في المباح يؤول الحديث بأنها لعلها عجزت عن المشي، واللازم حينئذ الهدي، فلعله تركه الراوي اختصارًا، وأما الأمر بالصوم فمبني على أن الكفّارة للنذر بمعصية كفارة اليمين. وقيل: عجزت عن الهدي، فأمرها بالصوم لذلك. وكل هذه التأويلات فيها نظر، والصحيح أن الأمر بالصوم لا يصحّ سنده، فلا يصلح للاحتجاج به. فتنبّه.

والحديث سبق شرحه، ومسائله في الباب الماضي، وهو حديث ضعيف؛ لضعف عبيد اللَّه بن زحر، فإن الأكثرين على تضعيفه، ولا سيّما عند المخالفة، كما في هذا الحديث.

[فإن قلت]: لم يتفرد به عبيد اللَّه بن زَحر، فقد تابعه بكر بن سوادة عند أحمد 4/ 147.

[قلت]: هذه المتابعة في سندها عبد اللَّه بن لَهِيعة، وهو ضعيف بعد احتراق كتبه، فلا تصلح متابعته، لا سيما وقد جاء الحديث من طريق أخرى عن عقبة، وليس فيه ذكر

(1)

راجع "تحفة الأشراف" 7/ 309. و"تهذيب التهذيب" 1/ 299.

ص: 27

الصوم. فقد أخرجه البخاريّ، وأبو داود، والمصنّف، وغيرهم، من طريق يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عنه بلفظ:"لتمش، ولتركب". وله شاهد من حديث ابن عبّاس: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تحُجّ ماشية، قال: "إن اللَّه لغنيّ عن نذرها، مُرها، فلتركب". أخرجه أبو داود من طريق هشام، وسعيد، كلاهما عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عبّاس. وتابعهما همّام، عن قتادة به إلا أنه زاد: "وتهُدي هديًا". أخرجه أبو داود، والدارميّ، وابن الجارود، والبيهقيّ من طريق أبي الوليد الطيالسيّ، ثنا همام به. قال الحافظ في "التلخيص": 4/ 187: وإسناده صحيح. وأخرجه أحمد من طرق أخرى عن همّام به، إلا أنه قال: "ولتهد بدنة". وتابعه مطر الوراق، عن عكرمة به. أخرجه أبو داود، والبيهقيّ، ومطر كثير الخطأ. وتابعه مطرّف ابن طَريف، إلا أنه قال: عن عكرمة، عن عقبة بن عامر الجهني، قال: نذرت أختي أن تمشي إلى الكعبة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه لغنيّ عن مشيها، لتركب، ولتُهد بدنة". أخرجه أحمد 4/ 201 - : ثنا عفان، قال: ثنا عبد العزيز بن مسلم، قال: ثنا مطرف. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، ومطرف بن طريف ثقة فاضل، فلا تضرّه مخالفته لغيره، ويحتمل أن يكون عكرمة حدّث به على الوجهين، مرّةً عن ابن عبّاس، وأخرى عن عقبة، وقد أجاد الشيخ الألباني في البحث في هذه الطرق في كتابه "إرواء الغليل" 8/ 218 - 221، فراجعه تستفد.

والحاصل أن الصحيح رواية "ولتهد بدنة"، وأما الصوم فلم يأت من طريق تقوم به الحجة، فلا يعارض رواية الهدي. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌34 - (مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَصُومَ)

أي هل يُشرع قضاؤه عنه، أم لا؟.

3843 -

(أَخْبَرَنَا بِشرُ بْنُ خَالِدِ الْعَسْكَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ،

ص: 28

قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ يحَدِّثُ، عَنْ مُسْلِمِ الْبَطِينِ

(1)

، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيرٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: رَكِبَتِ امْرَأَةْ الْبَحْرَ، فَنَذَرَتْ أَنْ تَصُومَ شَهْرًا، فَمَاتَتْ قَبلَ أَنْ تَصُومَ، فَأَتَتْ أُخْتُهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَأَمَرَهَا أَنَّ تَصُومَ عَنْهَا).

رجال الإسناد: سبعة:

1 -

(بشر بن خالد العسكريّ) أبو محمد الفرائضيّ، نزيل البصرة، ثقة يُغرب [10] 26/ 812.

2 -

(محمد بن جعفر) المعروف بغندر، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقة صحيح الكتاب، إلا أن فيه غفلةً [9] 21/ 22.

3 -

(شعبة) بن الحجاج بن الورد العتكيّ مولاهم، أبو بسطام الواسطي، نزيل البصرة ثقة حافظ متقن، أمير المؤمنين في الحديث [7] 24/ 27.

4 -

(سليمان) بن مِهران الأعمش الكوفيّ، ثقة ثبت ورع فاضل، لكنه يدلس [5] 17/ 18.

5 -

(مسلم البطين) -بفتح الباء الموحّدة، وكسر الطاء المهملة، بعدها تحتانيّة ساكنة، ثم نون- ابن عمران، أو ابن أبي عمران، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقة [6] 26/ 915.

6 -

(سعيد بن جبير) الأسديّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 28/ 436.

7 -

(ابن عبّاس) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، والباقون كوفيون، غير الصحابيّ، فمدني، بصريّ، مكيّ، طائفي. (ومنها): أن رواية الأعمش عن مسلم البطين من رواية الأكابر عن الأصاغر؛ لأن الأعمش من صغار التابعين؛ حيث رأى أنسًا رضي الله عنه، فهو من الطبقة الخامسة، بخلاف مسلم، فإنه من السادسة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: رَكِبَتِ امْرَأَةٌ الْبَحْرَ) هذا صريحٌ في أن صاحبة الفصّة امرأة، وسبب قصّتها أنها نذرت صوم شهر إن نجّاها اللَّه تعالى عن البحر.

(1)

عنعنة الأعمش هنا لا يضرّ:، فإن شعبة لا يحدّث عن شيوخه الذين ربما دلّسوا إلا بما تحقّق أنهم سمعوه. أفاده في "الفتح" 4/ 707 "كتاب الصوم" رقم الحديث 1953.

ص: 29

[تنبيه]: قد وقع في هذا الحديث اختلاف كثير، وقد ذكر الاختلاف البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه"، فقال:

حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا زائدة، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه، إن أمي ماتت، وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال:"نعم"، قال:"فدين اللَّه أحقّ أن يُقضَى".

قال سليمان: فقال الحكم، وسلمة، ونحن جميعًا جلوس، حين حدث مسلم بهذا الحديث، قالا: سمعنا مجاهدا يَذكُر هذا عن ابن عباس.

ويُذكَر عن أبي خالد

(1)

، حدثنا الأعمش، عن الحكم، ومسلم البطين، وسلمة بن كهيل، عن سعيد بن جبير، وعطاء، ومجاهد، عن ابن عبّاس، قالت امرأة للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إن أختي ماتت.

وقال يحيى

(2)

، وأبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قالت: امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي ماتت.

وقال عبيد اللَّه

(3)

، عن زيد بن أبي أنيسة، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قالت امرأة للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إن أمي ماتت، وعليها صوم نذر.

وقال أبو حَرِيز

(4)

: حدثنا عكرمة، عن ابن عباس، قالت امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم: ماتت أمي، وعليها صوم خمسة عشر يوما. انتهى.

فقال في "الفتح ": قوله: إن أمي" خالف أبو حامد جميع من رواه، فقال: "إن أختي"، واختلف على أبي بشر، عن سعيد بن جبير، فقال هُشيم عنه: "ذات قرابة لها"، وقال عنه: "إن أختها" أخرجهما أحمد. وقال حماد عنه: "ذات قرابة لها، إما أختها، وإما ابنتها"، وهذا يُشعر بأن التردّد فيه من سعيد بن جبير.

وقوله: "وعليها صوم شهر" هكذا في أكثر الروايات، وفي رواية أبي حَرِيز:"خمسة عشر يومًا"، وفي رواية أبي خالد:"شهرين متتابعين"، وروايته تقتضي أن لا يكون الذي عليها صومَ شهرِ رمضانَ، بخلاف رواية غيره، فإنها محتملة، إلا رواية زيد بن أبي أُنيسة، فقال:"إن عليها صوم نذر"، وهذا واضحٌ في أنه رمضان

(5)

، وبيّن أبو بشر في

(1)

هو الأحمر، سليمان بن حيان.

(2)

هو القطّان.

(3)

وابن عمرو الرقّيّ.

(4)

بفتح الحاء المهملة، وكسر الزاي، هو عبد اللَّه بن الحسين قاضي سجستان.

(5)

هكذا نسخة "الفتح" والظاهر أن الصواب "في أنه غير رمضان". فليتنبّه.

ص: 30

روايته سبب النذر، فروى أحمد من طريقه شعبة، عن أبي بشر:"أن امرأة ركبت البحر، فنذرت أن تصوم شهرًا، فماتت قبل أن تصوم، فأتت أختها النبيّ صلى الله عليه وسلم " الحديث.

قال الجامع: هو الحديث الذي نحن في شرحه، رواه هنا شعبة، عن الأعمش، عن مسلم البطين، فكان الأولى للحافظ أن يعزوه إلى المصنّف.

قال: ورواه أيضًا عن هُشيم، عن أبي بشر نحوه. وأخرجه البيهقيّ من حديث حماد ابن سلمة.

وقد ادّعى بعضهم أن هذا الحديث اضطرب فيه الرواة عن سعيد بن جُبير، فمنهم من قال: إن السائل امرأة، ومنهم من قال: رجل، ومنهم من قال: إن السؤال وقع عن نذر، فمنهم من فسّره بالصوم، ومنهم من فسّره بالحج.

قال: والذي يظهر أنهما قصّتان، ويؤيّده أن السائلة في نذر الصوم خثعميّة، كما في رواية أبي حَرِيز المعلّقة، والسائلة عن نذر الحجّ جهنيّةٌ، كما تقدّم في موضعه. وقد روى مسلم من حديث بُريدة أن امرأة سألت عن الحجّ، وعن الصوم معًا.

وأما الاختلاف في كون السائل رجلاً، أو امرأة، والمسؤول عنه أختًا، أو أمًّا، فلا يقدح في موضع الاستدلال من الحديث؛ لأن الغرض منه مشروعيّة الصوم، أو الحجّ عن الميت، ولا اضطراب في ذلك. انتهى المقصود من "الفتح"

(1)

.

(فَنَذَرَتْ أَنْ تَصُومَ شَهْرًا) الظاهر أن النذر كان لنجاتها من البحر (فَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَصُومَ، فَأَتَتْ أُخْتُهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَذكَرَتْ ذَلِك لَهُ، قأَمَرَهَا أَنْ تَصُومَ عَنْهَا) قال السنديّ: من لا يرى الصوم جائزًا يؤوّل الحديث بأن المراد الافتداء، فإنها إذا افتدت، فقد أدّت الصوم عنها، وهو تأويل بعيد جدًّا، وأحمد جوز الصوم في النذر، وقال: هو المورد، والقول القديم للشافعيّ جوازه مطلقًا، ورجحه محققو أصحابه بأنه الأوفق للدليل. انتهى. وسيأتي تحقيق المسألة قريبًا إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 34/ 3842 - وفي "الكبرى" 11/ 4758. وأخرجه (خ) في "الصوم"

(1)

"فتح" 4/ 708. "كتاب الصوم".

ص: 31

1953 (م) في "الصيام" 1184 (د) في "الأيمان والنذور" 2310 (ت) في "الصوم" 716 (ق) في "الصيام" 1758 (أحمد) في "مسند بني هاشم" 1971 و 2006 و 3232 و 3410 (الدارمي) في "الصوم"1768. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان أن من نذر صومًا، ثم مات قبل أدائه، صام عنه وليّه. (ومنها): مشروعيّة النيابة في العبادات. (ومنها): جواز ركوب البحر للمرأة، لكن بشرط أن تكون مع محرمها. (ومنها): مشروعيّة النذر للمرأة، وليس خاصًّا بالرجال. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في في قضاء النذر عن الميت:

قال ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: من نذر حجًّا، أو صيامًا، أو صدقةً، أو عتقًا، أو صلاةً، أو غيره من الطاعات، ومات قبل فعله، فعله الوليّ عنه. وعن أحمد في الصلاة لا يُصَلَّى عن الميت؛ لأنها لا بدّل لها بحال، وأما سائر الأعمال، فيجوز أن ينوب الوليّ عنه في هيا، وليس بواجب عليه، ولكن يُستحبّ له ذلك على سبيل الصلة والمعروف، وأفتى بذلك ابن عبّاس في امرأة نذرت أن تمشي إلى قباء، فماتت، ولم تقضه، أن تمشي ابنتها عنها. وروى سعيد، عن سفيان، عن عبد الكريم أبي أُميّة، أنه سأل ابن عبّاس عن نذر كان على أمه من اعتكاف، قال: صم عنها، واعتكف عنها. وقال: حدثنا الأحوص، عن إبراهيم بن مهاجر، عن عامر بن شُعيب أن عائشة اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن بعد ما مات. وقال مالك: لا يمشي أحدٌ على أحد، ولا يصليّ، ولا يصوم عنه، وكذلك سائر أعمال البدن، قياسًا على الصلاة. وقال الشافعيّ: يقضي عنه الحجّ، ولا يقضي الصلاة قولًا واحدًا، ولا يقضي الصوم في أحد القولين، ويُطعم عنه لكلّ يوم مسكين؛ لأن ابن عمر، قال: رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من مات، وعليه صيام شهر، فليطعم عنه مكان كلّ يوم مسكين". أخرجه ابن ماجه.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحديث المذكور ضعيف، والصحيح أنه موقوف، كما بيّن ذلك الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى-، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

وقال أهل الظاهر: يجب القضاء على وليّه، بظاهر الأخبار الوارد فيه. وجمهور أهل العلم على أن ذلك ليس بواجب على الوليّ، إلا أن يكون حقًّا في المال، ويكون للميّت تركة، وأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا محمول على الندب، والاستحباب، بدليل قرائن في الخبر، منها: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم شبّهه بالدين، وقضاء الدين على الميّت لا يجب على الوارث ما لم يُخلف تركة يقضَي بها، ومنها أن السائل سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، هل يفعل ذلك، أم لا،

ص: 32

ويختلف باختلاف مُقتضى سؤاله، فإن كان مقتضاه السؤال عن الإباحة، فالأمر في جوابه يقتضي الإباحة، وإن كان السؤال عن الإجزاء، فأمره يقتضي الإجزاء، كقولهم: أنُصلي في مرابض الغنم؟ قال: "صلّوا في مرابض الغنم"، وإن كان سؤالهم عن الوجوب، فأمره يقتضي الوجوب، كقولهم: أنتوضّأ من لحوم الإبل؟ قال: "توضّؤوا من لحوم الإبل"، وسؤال السائل في مسألتنا كان عن الإجزاء، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالفعل يقتضيه لا غير.

واحتجّ القائلون بجواز الصيام عن الميت بما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "من مات، وعليه صيام، صام عنه وليّه". وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه، إن أمّي ماتت، وعليها صوم شهر، أفاصوم عنها؟ قال: أرأيت لو كان على أمك دينٌ، أكنت قاضيه؟ "، قال: نعم، قال: "فدين اللَّه أحقّ أن يُقضى". وفي رواية قال: جاءت امرأة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول اللَّه، إن أمي ماتت، وعليها صوم، أفاصوم عنها؟ قال: "أرأيت لو كان على أمك دينٌ، فقضيته، كان يؤدّي ذلك عنها؟ "، قال: نعم، قال: "فصومي عن أمك". متّفقٌ عليها. وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما أن سعد ابن عُبادة الأنصاريّ رضي الله عنه استفتى النبيّ صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه، فتوفّيت قبل أن تقضيه؟ فأفتاه أن يقضيه، فكانت سنّة بعدُ. وعنه أن رجلاً أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أختي نذرت أن تحج، وإنها ماتت، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لو كان عليها دين، أكنت تقضيه؟ " قال: نعم، قال:"فاقض اللَّه، فهو أحقّ بالقضاء". رواهما البخاريّ. وهذا صريح في الصوم، والحجّ، ومطلق في النذر، وما عدا المذكور في الحديث يُقاس عليه.

وحديث ابن عمر في الصوم الواجب بأصل الشرع، ويتعيّن حمله عليه جمعًا بين الحديثين، ولو قُدّر التعارض، لكانت أحاديثنا أصحّ، وأكثر، وأولى بالتقديم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تقدّم أن حديث ابن عمر رضي الله عنهما المذكور لا يصحّ مرفوعًا، فلا حاجة إلى التكلّف للجمع، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

إذا ثبت هذا فإن الأولى أن يقضي النذر عنه وارئه، فإن قضاه غيره أجزأه عنه، كما لو قضى عنه دينه، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم شبّهه بالدين، وقاسه عليه، ولأن ما يقضيه الوارث إنما هو تبرّع منه، وغيره مثله في التبرّع، وإن كان النذر في مالٍ تعلّق بتركته. انتهى كلام ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بحثٌ نفيس، إلا أن قياس الصلاة على الصوم والحجّ فيه نظرٌ لا يخفَى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

ص: 33

‌35 - (مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ)

3844 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، اسْتَفْتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي نَذْرٍ، كَانَ عَلَى أُمِّهِ، تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ؟ ، فَقَالَ: "اقْضِهِ عَنْهَا").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه الحارث، وهو ثقة حافظ، وكلهم تقدّموا غير مرّة، و"سفيان": هو ابن عيينة.

[تنبيه]: وقع في النسخ المطبوعة من "المجتبى" هنا "عن سليمان" بدل "عن سفيان"، وهو غلطٌ فاحش، فالصواب "عن سفيان"، وهو الذي في النسخة الهنديّة، و"الكبرى"، فتنبّه. وباللَّه تعالى التوفيق.

و"عبيد اللَّه بن عبد اللَّه": هو ابن عتبة بن مسعود المدنيّ، أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، وقد تقدّموا قريبًا.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أحاديث هذا الباب متّفقٌ عليها، وقد تقدّمت في "كتاب الوصايا" -8/ 3683 - "فضل الصدقة عن الميت"، وتقدّم شرحها، وبيان مسائلها هناك، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

ودلالتها على ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- واضحة، حيث إن فيها بيان حكم من مات، وعليه نذرٌ، وهو أنّ وليّه قضاه عنه، وقد تقدّم أقوال أهل العلم فيه في الباب الماضي، وللَّه الحمد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3845 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: اسْتَفْتَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ؟ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اقْضِهِ عَنْهَا").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير مرّة. والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق القول فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3846 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ، وَهَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ، عَنْ عَبْدَةَ، عَنْ هِشَامٍ -وَهُوَ ابْنُ عُرْوَةَ- عَنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ

ص: 34

عَبَّاسٍ، قَالَ: جَاءَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا نَذْرٌ، فَلَمْ تَقْضِهِ، قَالَ:"اقْضِهِ عَنْهَا").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن آدم": هو الجهنيّ المصّيصيّ، صدوق [10] 93/ 115. وو"هارون بن إسحاق": هو الهمْدانيّ، أبو القاسم الكوفيّ، صدوق، من صغار [10] 13/ 346. و"عبدة": هو ابن سليمان الكلابي، أبو محمد الكوفيّ، ثقة ثبت، من صغار [8] 7/ 339. و"بكر بن وائل": هو التيميّ الكوفيّ، صدوق [8] 56/ 1945.

[تنبيه]: هذا الإسناد أنزل من الإسنادين السابقين؛ لأنهما كانا خماسيين، وهذا سباعيّ، فبين المصنّف وبين الزهريّ فيهما واستطتان، وفي هذا أربع وسائط. والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق القول فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌36 - (إِذَا نَذَرَ، ثُمَّ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يَفِيَ)

أي هل يلزمه الوفاء بذلك، أم لا؟، اختلف العلماء في ذلك، وسيأتي تحقيق القول فيه في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى.

3847 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ لَيْلَةٌ نَذَرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، يَعْتَكِفُهَا، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إسحاق بن موسى) الْخَطْمي، أبو موسى المدنيّ، قاضي نيسابور، ثقة متقنٌ [10] 35/ 1596.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الحجة الثبت المكيّ [8] 1/ 1.

3 -

(أيوب) بن أبي تميمة كيسان السختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت فقيه [5] 42/ 48.

ص: 35

4 -

(نافع) هو مولى ابن عمر المدني الفقيه، ثقة ثبت [3] 12/ 12.

5 -

(ابن عمر) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12.

6 -

(عمر) بن الخطاب بن نفيل العدويّ، أمير المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنه - 60/ 75. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها). أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير سفيان، فمكيّ، وأيوب، فبصريّ. (ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، والابن عن أبيه، وتابعيّ، عن تابعي، وفيه ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا. (ومنها): أن فيه عمر - رضي اللَّه تعالى عنه - أحد الخلفاء الراشدين، والعشرة المبشرين بالجنة - رضي اللَّه تعالى عنهم -. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، هذه الرواية صريحةٌ في أن الحديث من مسند عمر رضي الله عنه، ورواية عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع الآتية في الباب ظاهرة في كونه من مسند ابن عمر رضي الله عنهما، ولا يضرّ ذلك، فإن ابن عمر قد حضر القصّة، فإنها كانت في غزوة حنين، ففي رواية البخاريّ في "كتاب المغازي" من طريق معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: لَمّا قفلنا من حنين، سأل عمر النبيّ صلى الله عليه وسلم عن نذر كان نذره في الجاهليّة، اعتكافِ، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم بوفائه:. وفي رواية مسلم، من طريق جرير بن حازم، أن أيوب حدثه، أن نافعًا حدّثه، أن عبد اللَّه بن عمر حدّثه، أن عمر بن الخطّاب سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو بالجعرانة، بعد أن رجع من الطائف، فقال: يا رسول اللَّه، إني نذرت في الجاهليّة أن أعتكف يومًا في المسجد الحرام، فكيف ترى؛ قال:"اذهب، فاعتكف يومًا، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد أعطاه جارية من الخمس، فلما أعتق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سبايا الناس، قال عمر؛ يا عبد اللَّه اذهب إلى تلك الجارية، فخلّ سبيلها".

فقد تبيّن بهذا أن ابن عمر رضي الله عنهما كان حاضرًا سؤال عمر رضي الله عنه للنبيّ صلى الله عليه وسلم. ويحتمل أن يكون غائبًا في بعض حاجته حينما سأل عمر رضي الله عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبره عمر به، فكان يحدّث عنه تارةً، ويرسله أخرى، ومرسل الصحابيّ حجة، كما هو مقرّر في محلّه. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 36

وقال في "الفتح" بعد ما ذكر أن القصّة كانت بالجعرانة لَمّا رجعوا من حُنين: ما نصّه: ويستفاد منه الردّ على من زعم أن اعتكاف عمر رضي الله عنه كان قبل المنع من الصيام في الليل؛ لأن غزوة حنين متأخّرة عن ذلك. انتهى

(1)

.

(أنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ لَيلَةٌ) بالرفع اسم "كان"، والجاز والمجرور خبرها مقدّمًا، وقوله (نَذَرَ) جملةٌ في محلّ رفع صفة لـ "اليلة" والعائد محذوف، أي نذرها.

قال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: يحتج به من يُجيز الاعتكاف بالليل، وبغير صوم، ولا حجة له فيه؛ لأنه قد قال في الرواية الأخرى:"أنه نذر أن يعتكف يومًا"، والقصّة واحدة، فدلّ مجموع الراويتين على أنه نذر يومًا وليلةً، غير أنه أفرد أحدهما بالذكر لدلالته على الآخر من حيث إنهما تلازما في الفعل، ولهذا قال مالكٌ: إن أقلّ الاعتكاف يومٌ وليلة، فلو نذر أحدهما لزمه تكميله بالآخر، ولو سلّمنا أنه لم يجىء لليوم ذكرٌ لما كان في تخصيص الليلة بالذكر حجة؛ لإمكان حمل ذلك الاعتكاف على المجاورة؛ فإنها تُسمّى اعتكافًا لغةً، وهي تصحّ بالليل والنهار، وبصوم، وبغير صوم. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قوله: "أن أعتكف ليلةً" استُدلّ به على جواز الاعتكاف بغير صوم؛ لأن الليل ليس ظرفًا للصوم، فلو كان شرطًا لأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم به. وتُعُقّب بأن في رواية شعبة عن عبيد اللَّه عند مسلم:"يومًا" بدل "ليلة"، فجمع ابن حبّان وغيره بين الروايتين بأنه نذر اعتكاف يوم وليلة، فمن أطلق ليلة أراد بيومها، ومن أطلق يومًا أراد بليلته، وقد ورد الأمر بالصوم في رواية عمرو بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما صريحًا، لكن إسنادها ضعيف، وقد زاد فيها: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له: "اعتكف، وصم". أخرجه أبو داود، والنسائيّ، من طريق عبد اللَّه بن بديل، وهو ضعيف، وذكر ابن عديّ، والدارقطنيّ أنه تفرّد بذلك، عن عمرو بن دينار. ورواية من روى "يوما" شاذّة. وقد وقع في رواية سليمان بن بلال عند البخاريّ:"فاعتَكَفَ ليلةً"، فدلّ على أنه لم يزد على نذره شيئًا، وأن الاعتكاف لا صوم فيه، وأنه لا يُشترط له حدٌّ معين. انتهى.

(فِي الْجَاهِلِيَّةِ) المراد بالجاهليّة هنا جاهليّة عمر رضي الله عنه، وهو ما قبل إسلامه، لا أنه أراد ما قبل بعثة النبيّ صلى الله عليه وسلم، لأن جاهليّة كلّ أحد بحسبه، ووهم من قال: الجاهليّة في كلامه زمن فترة النبوّة، والمراد بها هنا ما قبل بعثة نبيّنا صلى الله عليه وسلم، فان هذا يتوقّف على النقل، وقد ثبت أنه نذر قبل أن يسلم، وبين البعثة، وإسلامه مدّة. قاله في "الفتح"

(3)

.

(1)

"فتح" 4/ 809 "كتاب الاعتكاف". رقم 2032.

(2)

"المفهم" 4/ 645 - 646.

(3)

"فتح" 13/ 443.

ص: 37

وقال أيضًا: وفيه ردٌّ على من زعم أن المراد بالجاهلية ما قبل فتح مكّة، وأنه نذر في الإسلام، وأصرح من ذلك ما أخرجه الدارقطنيّ، من طريق سعيد بن بشير، عن عُبيد اللَّه، بلفظ:"نذر عمر أن يعتكف في الشرك". انتهى

(1)

.

يَعْتَكِفُهَا، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ) هذا فيه أن نذر الكافر ينعقد، ولا مانع من القول أن نذره ينعقد موقوفًا على إسلامه، فإن أسلم لزمه الوفاء به في الخير، والكفرُ وإن كان يمنع عن انعقاده منجّزًا، لكن لا يمنع أن يعقد موقوفًا، وحديث:"الإسلام يَجُبُّ ما قبله" محمول على الخطايا، وليس النذر منها، وسيأتي قريبًا تمام البحث، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عمر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-36/ 3847 و 3848 و 3849 - وفي "الكبرى" 13/ 4762 و 4763 و 4764. وأخرجه (خ) في "الاعتكاف" 2032 و 2043 و"فرض الخمس" 3144 و"الأيمان والنذور" 6697 (م) في "الأيمان" 1656 (د) في "الأيمان والتذور" 2325 (ت) في "النذور والأيمان" 1539 (ق) في "الصيام" 1772 و"الكفّارات" 2129 (أحمد) في "مسند العشرة" 257 و"مسند المكثرين" 4691 و 5514 و 6382 (الدارمي) في "النذور والأيمان" 2333. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان أن الكافر إذا نذر، ثم أسلم قبل الوفاء، وفي به، بعد إسلامه.

(ومنها): ما قاله في "الفتح": وفي الحديث لزوم النذر للقربة من كلّ أحد حتى قبل الإسلام.

وقد أجاب ابن العربيّ بأن عمر لَمَّا نذر في الجاهليّة، ثم أسلم أراد أن يُكفّر ذلك بمثله في الإسلام، فلما أراده، ونواه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأعلمه أنه لزمه، قال: وكلّ عبادة ينفرد بها العبد عن غيره تنعقد بمجرّد النيّة العازمة الدائمة كالنذر في العبادة، والطلاق

(1)

"فتح" 4/ 5809 "كتاب الاعتكاف" رقم 2032.

ص: 38

في الأحكام، وإن لم يتلفّظ بشيء من ذلك.

كذا قال. ولم يوافق على ذلك، بل نقل بعض المالكيّة الاتفاق على أن العبادة لا تلزم إلا بالنية مع القول، أو الشروع، وعلى التنزّل، فظاهر كلام عمر رضي الله عنه مجرّد الإخبار بما وقع مع الاستخبار عن حكمه، هل لزم، أو لا؟ وليس فيه ما يدلّ على ما ادّعاه من تجديد نيّة منه في الإسلام.

وقال الباجيّ: قصَّة عمر رضي الله عنه هي كمن نذر أن يتصدّق بكذا إن قدم فلانٌ بعد شهر، فمات فلان قبل قدُومه، فإنه لا يلزم الناذر قضاؤها، فإن فعله فحسن، فلما نذر عمر قبل أن يسلم، وسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم أمره بوفائه استحبابًا، وإن كان لا يلزمه؛ لأنه التزمه في حالة لا ينعقد فيها.

(ومنها): ما قاله الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ": إنه استُدلّ به على أن الكفّار مخاطبون بفروع الشريعة، وإن كان لا يصحّ منهم إلا بعد أن يُسلموا؛ لأمر عمر رضي الله عنه بوفاء ما التزمه في الشرك، ونقل أنه لا يصحّ الاستدلال به لأن الواجب بأصل الشرع كالصلاة لا يجب عليهم قضاؤها، فكيف يكلّفون بقضاء ما ليس واجبًا بأصل الشرع؟ قال: ويُمكن أن يُجاب بأن الواجب بأصل الشرع مؤقّتٌ بوقت، وقد خرج قبل أن يُسلم الكافر، ففات وقتُ أدائه، فلم يؤمر بقضائه؛ لأن الإسلام يَجُبّ ما قبله، فأما إذا لم يؤقت نذره، فلم يتعين له وقت حتى أسلم، فإيقاعه له بعد الإسلام يكون أداء؛ لاتساع ذلك باتساع العمر.

قال الحافظ: وهذا البحث يقوّي ما ذهب إليه أبو ثور، ومن قال بقوله -يعني قولهم: إن نذر الاعتكاف قبل الإسلام لزمه الوفاء إذا أسلم- وإن ثبت النقل عن الشافعيّ بذلك، فلعلّه كان يقوله أوّلًا، فأخذه عنه أبو ثور. ويمكن أن يؤخذ من الفرق المذكور أن وجوب الحجّ على من أسلم لاتساع وقته، بخلاف ما فات وقته. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم فيمن نذر كافرًا، ثم أسلم:

قال أبو محمد ابن حزم -رحمه اللَّه تعالى-: ومن نذر في حال كفر طاعةً للَّه عز وجل، ثم أسلم لزمه الوفاء به؛ لقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"من نذر أن يُطيع اللَّه فليُطعه"، وهو عليه السلام مبعوث إلى الجنّ والإنس، وطاعته فرض على كلّ مؤمن، وكافر، من قال: غير هذا، فليس مسلمًا، وهذه جملة لم يَختلف فيها أحد ممن يدّعي الإسلام، ثم نقضوا في التفصيل. ثم أورد بسند مسلم حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه أنه قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أرأيت أمورًا كنت أتحنّث بها في الجاهليّة، من صدقة، أو عَتاقة، أو صِلَة رحم، أفيها

ص: 39

أجرٌ؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أسلمت على ما أسلفت من خير". ثم أخرج بسنده حديث عمر رضي الله عنه المذكور في الباب: "نذرت نذرًا في الجاهليّة، ثم أسلمت، فسألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فأمرني أن أوفي بنذري"، قال: فهذا حكم لا يسع أحدًا الخروج عنه. وأورد أيضًا حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه، قال: بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له: ثُمامة بن أُثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد

" وفيه: "أن ثمامة أسلم بعد أن أطلقه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال: يا محمد، واللَّه ما كان على الأرض وجه أبغض إلى من وجهك، فقد أصبح وجهك أحبّ الوجوه إليّ، واللَّه ما كان من دين أبغض إلى من دينك، فأصبح دينك أحد الدين إليّ، واللَّه ما كان من بلد أبغض إلى من بلدك، فأصبح بلدك أحبّ البلاد إليّ، وإن خيلك أخذتني، وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر

" الحديث.

قال: فهذا كافر خرج يريد العمرة، فأسلم، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم بإتمام نيّته. قال: وروينا عن طاوس: من نذر في كفره، ثم أسلم، فليوف بنذره، وعن الحسن، وقتادة نحوه، وبهذا قال الشافعيّ، وأبو سليمان -يعني داود الظاهريّ- وأصحابهما. انتهى المقصود من كلام ابن حزم

(1)

.

وقال الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى-: وفي حديث عمر رضي الله عنه دليلٌ على أنه يجب الوفاء بالنذر من الكافر متى أسلم، وقد ذهب إلى هذا بعض أصحاب الشافعيّ. وعند الجمهور: لا ينعقد النذر من الكافر، وحديث عمر رضي الله عنه حجة عليهم. وقد أجابوا عنه بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا عرف أن عمر صلى الله عليه وسلم قد تبرع بفعل ذلك أذن له به؛ لأن الاعتكاف طاعة، ولا يخفى ما في هذا الجواب من مخالفة الصواب. وأجاب بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم أمره بالوفاء استحبابًا، لا وجوبًا. وُيردّ بأن هذا الجواب لا يصلح لمن ادّعى عدم الانعقاد. انتهى كلام الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذُكر أن الصحيح قول من قال بانعقاد نذر الكافر، ووجوب الوفاء عليه بعد إسلامه؛ لما ذكر من الأدلّة الصحيحة الصريحة في الأمر بالوفاء، والمانعون لم يأتوا بحجة مقنعه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3848 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ عَلَى عُمَرَ نَذْرٌ، فِي اعْتِكَافِ لَيْلَةٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ،

(1)

"المحلّى" 8/ 25 - 26. "كتاب النذور".

(2)

"نيل الأوطار" 8/ 260.

ص: 40

فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ؟ فَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن عبد اللَّه بن يزيد": هو أبو يحيى المكيّ ثقة [10] 11/ 11. والباقون تقدّموا في السند الماضي، والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3849 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ كَانَ جَعَلَ عَلَيْهِ يَوْمًا، يَعْتَكِفُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ؟، فَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَكِفَهُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن عبد اللَّه بن الحكم": هو المعروف بابن الكُرْديّ، أبو الحسين البصريّ، ثقة [10] 39/ 583. و"محمد بن جعفر": هو غندر. و"عبيد اللَّه": هو ابن عمر العمريّ المدنيّ الفقيه. والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق القول فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3850 -

(حَدَّثَنَا

(1)

يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ تِيبَ عَلَيْهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَنْخَلِعُ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَقَالَ: لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ".

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ:: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الزُّهْرِيُّ، سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ، وَمِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْهُ، فِي هَذَا الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ، تَوْبَةُ كَعْبٍ).

قَال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا أورد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- هذا الحديث في هذا الباب في "المجتبى"، وفي "الكبرى"، وهو من أحاديث الباب التالي، وفي المناسبة بينه وبين هذه الترجمة بعدٌ لا يخفى، إذ لا مناسبة بين من نذر وهو مشركٌ، ثمّ أسلم، وبين من نذر بعد قبول توبته شكرًا، فليُتأمّل.

ورجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"يونس": هو ابن يزيد الأيليّ.

وقوله: "حين تيب عليه" أي من تخلّفه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك بدون عذر.

وقوله: "أن أنخلع من مالي" أي أخرُج من كله، وأتجرّد منه، كما يتجرّد الإنسان،

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 41

وينخلع من ثيابه.

وقوله: "صدقة إلى اللَّه الخ" منصوب على المفعوليّة لأجله، أي لأجل الصدقة إلى اللَّه سبحانه وتعالى، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم. وقال في "الفتح": قوله: "صدقةً" هو مصدر في موضع الحال، أي متصدّقًا، أو ضَمَّنَ "أنخلع" معنى أتصدّق، وهو مصدر أيضًا.

وقوله: "أمسك عليك بعض مالك، فهو خيرٌ لك"، وفي رواية أبي داود، عن كعب أنه قال: إن من توبتي أن أخرج من مالي كلّه إلى اللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم صدقة، قال:"لا"، قلت: نصفه، قال:"لا"، قلت: فثلثه، قال:"نعم". ولابن مردويه من طريق ابن عيينة، عن الزهريّ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"يجزي عنك من ذلك الثلث". ونحوه لأحمد في قصَّة أبي لبابة رضي الله عنه حين قال: إن من توبتي أن أنخلع من مالي كلّه صدقةً للَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم "يجزي عنك الثلث". انتهى

(1)

.

قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: وفيه أن التقرّب إلى غير اللَّه تعالى في العبادة لا يضرّ بعد أن يكون المقصد الأصليّ التقرّب إلى اللَّه تعالى؛ لأن المتقرّب إلى اللَّه تعالى متقرّب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قطعًا، فيتأمل. انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: في استدلاله على جواز التقرّب إلى غير اللَّه تعالى بهذا الحديث غير واضح.

ثم إن معنى التقرّب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إن صحّ الاستدلال، أنه لَمّا تصدّق شكرًا لقبول اللَّه تعالى توبته، فقد تقرب إليه به. بتقرّبه إلى اللَّه عز وجل، بعد أن ابتعد منه بسبب تخلّفه عنه حتى أقصاه صلى الله عليه وسلم منه خمسين ليلة، كما هو مشهور في قصَّة، فكان لا يسلّم عليه، ولا يردّ سلامه، ومنع أصحابه رضي الله عنهم أن يكلّموه، فهذا هو وجه التقرّب منه صلى الله عليه وسلم، ولا خفاء في كون هذا تقرّبًا شرعيًّا، وإنما التقرّب المذموم أن يتقرَّب إليه بصرف شيء من العبادة له، كان ينذر له، أو يعتقد فيه ما لا يستحقّه من صفات الربوبيّة، أو الألوهيّة. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم للمصنّف في "كتاب المساجد" -38/ 731 - "الرخصة في الجلوس فيه، والخروج منه بغير صلاة" "، وتقدّم شرحه مستوفًى، وكذا بيان مسائله، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

وقوله: "قال أبو عبد الرحمن الخ" أراد -رحمه اللَّه تعالى- أن هذا الحديث رواه الزهريّ عن عبد اللَّه بن كعب بن مالك، عن أبيه، كما في هذا الإسناد، ورواه أيضًا عن

(1)

"فتح" 8/ 465. "كتاب المغازي".

(2)

"شرح السندي" 7/ 22.

ص: 42

عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أخيه عبد اللَّه بن كعب بن مالك، كما في الإسناد الأول في الباب التالي، وأيضًا رواه عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب، عن عبد اللَّه ابن كعب، كما في الرواية التي بعدها، ورواه عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب، عن عمه عُبيد اللَّه بن كعب، كما في الرواية الأخيرة.

والحاصل أن الزهريّ يروي حديث كعب بن مالك رضي الله عنه هذا عن أربع طرق:

[الأولى]: عن عبد اللَّه بن كعب بن مالك، عن أبيه.

[الثانية]: عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب، عن أبيه.

[الثالثة]: عن عبد الرحمن كعب، عن أخيه عبد اللَّه بن كعب.

[الرابعة]: عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب، عن عمّه عبيد اللَّه بن كعب. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "في هذا الحديث الطويل" ذكرته بطوله في "كقال المساجد" من رواية البخاريّ، وهو من أطول أحاديث البخاريّ في "صحيحه".

وقوله: "توبة كعب" بالجرّ على البدلية من "هذا الحديث"، ويجوز قطعه إلى الرفع، والنصب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌37 - (إِذَا أَهْدَى مَالَهُ عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ترجمة المصنّف نحو ترجمة البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه"، ولفظها:"باب إذا أهدى ماله على وجه النذر والتوبة"، وللكشميهني:"والقربة" بدل و"التوبة". وقوله: "أهدى": أي تصدّق بماله، أو جعله هدية للمسلمين. قاله الكرمانيّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3851 -

(أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي

(1)

عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ، قَالَ:

(1)

وفي نسخة: "وأخبرني".

ص: 43

سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، يُحَدِّثُ حَدِيثَهُ، حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، قَالَ: فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي، أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي، صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ"، فَقُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ، مُخْتَصَرٌ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "سليمان بن داود": هو المَهْريّ، أبو الربيع المصريّ. وقوله:"أن أنخلع من مالي" -بنون، وخاء معجمة: أي أَعْرَى من مالي، كما يَعْرَى الإنسان إذا خلع ثوبه. قاله في "الفتح".

قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: قيل: الانخلاع ليس بظاهر في معنى النذر، وإنما هو كفّارة، أو شكرٌ، فلعلّه ذكره في الباب لمشابهته في إيجابه على نفسه ما ليس بواجب لحدوث أمر. قلت

(1)

: لو ظهر الإيجاب لما خفي كونه نذرًا. واللَّه تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": ما حاصله: مناسبة حديث كعب رضي الله عنه للترجمة أن معنى الترجمة أن من أهدى، أو تصدّق بجميع ماله، إذا تاب من ذنب، أو إذا نذر هل ينفذ ذلك؛ إذا نجّزه، أو علّقه؟ وقصّة كعب منطبقة على الأول، وهو التنجيز، لكن لم يصدر منه تنجيزٌ، كما تقرّر، وإنما استشار، فأُشير عليه بإمساك البعض، فيكون الأولى لمن أراد أن ينجّز التصدّق بجميع ماله، أو يعلّقه أَنْ يمسك بعضه، ولا يلزم من ذلك أنه لو نجّزه لم ينفذ، وقد تقدّمت الإشارة في "كتاب الزكاة" إلى أن التصدق بجميع المال يختلف باختلاف الأحوال، فمن كان قويًّا على ذلك، يعلم من نفسه الصبر لم يمنع، وعليه يتنرل فعل أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، وإيثار الأنصار على أنفسهم المهاجرين، ولو كان بهم خصاصة، ومن لم يكن كذلك، فلا، وعليه يتنزّل "لا صدقة، إلا عن ظهر غنى"، وفي لفظ:"أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى".

قال ابن دقيق العيد -رحمه اللَّه تعالى-: في حديث كعب رضي الله عنه أن للصدقة أثرا في محو الذنوب، ومن ثمّ شُرعت الكفّارة المالية. ونازعه الفاكهاني، فقال: التوبة تجُبّ ما قبلها، وظاهر حال كعب أنه أراد فعل ذلك على جهة الشكر. قال الحافظ: مراد الشيخ يؤخذ من قول كعب رضي الله عنه: "إن من توبتي الخ" أن للصدقة أثرًا في قبول التوبة التي يتحقّق بحصولها محو الذنب، والحجة فيه تقرير النبيّ صلى الله عليه وسلم له على القول المذكور. انتهى

(3)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وسبق البحث فيه في الباب الماضي، وبقي البحث فيما يتعلّق

(1)

القائل السنديّ.

(2)

"شرح السنديّ" 7/ 22 - 23.

(3)

"فتح" 13/ 430 - 431 "كتاب الإيمان والنذور" رقم 6690.

ص: 44

بما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، فأقول:

(مسألة): في اختلاف أهل العلم فيمن نذر أن يتصدّق بجميع ماله:

قال في "الفتح": قد اختلف السلف فيمن نذر أن يتصدّق بجميع ماله على عشرة مذاهب:

فقال مالك: يلزمه الثلث؛ لهذا الحديث، ونوزع في أن كعب بن مالك رضي الله عنه لم يُصرّح بلفظ النذر، ولا بمعناه، بل يحتمل أنه نجّز النذر، ويحتمل أن يكون أراده، فاستأذن، والانخلاع الذي ذكره ليس بظاهر في صدور النذر منه، وإنما الظاهر أنه أراد أن يؤكد أمر توبته بالتصدُّق بجميع ماله شكرًا للَّه تعالى على ما أنعم به عليه.

وقال الفاكهانيّ في "شرح العمدة": كان الأولى بكعب أن يستشير، ولا يستبدّ برأيه، لكن كأنه قامت عنده حال لفرحه بتوبته، ظهر له فيها أن التصدّق بجميع ماله مُستَحَقٌّ عليه في الشكر، فأراد الاستشارة بصيغة الجزم. انتهى. وكأنه أراد أنه استبدّ برأيه في كونه جزم بأن من توبته أن ينخلع من جميع ماله، إلا أنه نجّز ذلك.

وقال ابن المنيّر: لم يبُتَّ كعب الانخلاع، بل استشار، هل يفعل، أو لا؟. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون استفهم، وحُذفت أداة الاستفهام، ومن ثمّ كان الراجح عند الكثير من العلماء وجوب الوفاء لمن التزم أن يتصدّق بجميع ماله، إلا إذا كان على سبيل القربة. وقيل: إن كان مليًّا لزمه، وإن كان فقيرًا فعليه كفّارة يمين. وهذا قول الليث، ووافقه ابن وهب، وزاد: وإن كان متوسّطًا يُخرج قدر زكاة ماله، والأخير عن أبي حنيفة بغير تفصيل، وهو قول ربيعة. وعن الشعبيّ، وابن لبابة

(1)

لا يلزمه شيء أصلاً. وعن قتادة يلزم الغني العشر، والمتوسّط السبع، والمملق الخمس. وقيل: يلزم

الكلّ، إلا في نذر اللجاج، فكفّارة يمين. وعن سحنون يلزمه أن يُخرج ما لا يضرّ به. وعن الثوريّ، والأوزاعيّ، وجماعة يلزمه كفّارة يمين بغير تفصيل. وعن النخعيّ يلزمه الكلّ بغير تفصيل.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما ذهب إليه الإمام مالك -رحمه اللَّه تعالى- من أن من نذر بجميع ماله يلزمه الثلث أرجح؛ لظاهر قصّة كعب بن مالك رضي الله عنه؛ لأنه لما قال: أتصدّق بمالي كلّه، قال له صلى الله عليه وسلم:"يُجزىء عنك الثلث"، فهذا دليلٌ واضحٌ على أن من نذر بجميع ماله يجزيه الثلث. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3852 -

(أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا لَيْثُ

(1)

هكذا نسخة "الفتح" ولينظر.

ص: 45

ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، يُحَدِّثُ حَدِيثَهُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي، صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَمْسِكْ عَلَيْكَ مَالَكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ"، قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ عَلَيَّ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "يوسف بن سعيد": هو المصّيصيّ الثقة الحافظ [11] 198/ 131 من أفراد المصنّف روى عنه في هذا الكتاب ثلاثين حديثًا. و"حجّاج بن محمَّد": هو الأعور المصّيصيّ.

وقوله: "أمسك عليك مالك" أي بعض مالك، كما بينته الرويات المتقدّمة.

والحديث متّفق عليه، وقد سبق تمام البحث فيه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3853 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْدَانَ بْنِ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ عَمِّهِ، عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ عز وجل، إِنَّمَا نَجَّانِي بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي، صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، فَقَالَ: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ"، قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ).

قال الجامع عفا الَله تعالى عنه: "محمَّد بن معدان بن عيسى": هو الْحَرّانيّ الثقة [12] 16/ 649 من أفراد المصنف رحمه الله تعالى، روى عنه في هذا الكتاب تسعة أحاديث. و"الحسن بن أعين": هو ابن محمد بن أعين، نسب لجدّه، أبو عليّ الحرّانيّ، صدوق [6] 16/ 649. و"مَعْقِل" بفتح الميم، وكسر القاف-: هو ابن عُبيد الله الجَزَريّ، أبو عبد الله الحرانيّ، صدوق يُخطىء [8] 37/ 940.

والحديث متفقٌ عليه، وسبق القول عليه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

ص: 46

‌38 - (هَلْ تَدْخُلُ الْأَرْضُونَ فِي الْمَالِ إِذَا نَذَرَ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ترجم الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" بقوله: "باب هل يدخل في الأيمان والنذور الأرض، والغنم، والزرع، والأمتعة". قال في "الفتح": قال ابن عبد البرّ، وتبعه جماعة: المال في لغة دَوْس قبيلةِ أبي هريرة رضي الله عنه غير العين، كالعروض، والثياب. وعند جماعة: المال هو العين، كالذهب، والفضّة. والمعروف من كلام العرب أن كلّ ما يُتموّل، ويُملك فهو مال، وأشار البخاريّ في الترجمة إلى رجحان ذلك بما ذكره من الأحاديث، كقول عمر رضي الله عنه:"أصبت أرضًا لم اصب مالاً أنفس منه"، وقول أبي طلحة رضي الله عنه:"أحبّ أموالي إليّ بيرحاء"، وقول أبي هريرة رضي الله عنه:"لم نغنَم ذهبًا، ولا ورِقًا"، ويؤيّده قوله تعالى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5]، فإنه يتناول كلّ ما يملكه الإنسان. وأما قول أهل اللغة: العرب لا توقع اسم المال عند الإطلاق إلا على الإبل؛ لشرفها عندهم، فلا يدفع إطلاقهم المال على غير الإبل، فقد أطلقوها أيضًا على غير الإبل من المواشي. ووقع في "السيرة":"فسلك في الأموال" -يعني الحائط، "ونهى عن إضاعة المال"، وهو يتناول كلّ ما يُتموّل. وقيل: المراد به هنا الأرقّاء. وقيل: الحيوان كلّه. وفي الحديث أيضًا: "ما جاءك من الرزق، وأنت غير مُشرف، فخذه، وتموّله"، وهو يتناول كلّ ما يُتموّل، والأحاديث الثلاثة مخرجة في "الصحيحين"، و"الموطّإ". وحُكي عن ثعلب: المال كلّ ما تجب فيه الزكاة، قَلَّ، أو كَثُر، فما نقص عن ذلك، فليس بمال. وبه جزم الأنباريّ. وقال غيره: المال في الأصل العين، ثم أُطلق على كلّ ما يتملّك. انتهى

(1)

.

وقد تقدّم في الباب الماضي بيان اختلاف السلف فيمن حلف، أو نذر أن يتصدّق بماله على عشرة أقوال، فمنهم من قال: كأبي حنيفة: لا يقع نذره إلا على ما فيه الزكاة، ومنهم من قال: كمالك: يتناول جميع ما يقع عليه اسم مال. قال ابن بطّال: وأحاديث الباب تشهد لقول مالك، ومن تابعه.

وغرض المصنّف كالبخاريّ -رحمهما اللَّه تعالى- بهذه الترجمة الردّ على من قال: إذا حلف، أو نذر أن يتصدّق بماله كلّه اختصّ ذلك بما فيه الزكاة، دون سائر ما يملكه،

(1)

"فتح" 13/ 453. "كتاب الإيمان والنذور" رقم الحديث 6707.

ص: 47

وما ذهب إليه المصنّف، والبخاريّ، هو مذهب الجمهور، وهو الصحيح. ونقل محمد ابن نصر المروزيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "كتاب الاختلاف" عن أبي حنيفة وأصحابه فيمن نذر أن يتصدّق بماله كلّه: يتصدّق بما تجب فيه الزكاة، من الذهب، والفضّة، والمواشي، لا فيما ملكه مما لا زكاة فيه، من الأرض، والدُّور، ومتاع البيت، والرقيق، والحمير، ونحو ذلك، فلا يجب عليه فيها شيء. ونصّ أحمد -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- على أن من قال: مالي في المساكين إنما يُحمل ذلك على ما نواه، أو غلب على عرفه، كما لو قال ذلك أعرابيّ، فإنه لا يحمل ذلك إلا على الإبل. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الأدلّة الكثيرة التي تقدّم بيانها ترجّح مذهب الجمهور، كما قرّرناه آنفًا، فهو الراجح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3854 -

(قَالَ: الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، مَوْلَى ابْنِ مُطِيعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَامَ خَيْبَرَ، فَلَمْ نَغْنَمْ إِلَّا الْأَمْوَالَ، وَالْمَتَاعَ، وَالثِّيَابَ، فَأَهْدَى رَجُلٌ مِنْ بَنِي الضُّبَيْبِ، يُقَالُ لَهُ: رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ، لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، غُلَامًا أَسْوَدَ، يُقَالُ لَهُ: مِدْعَمٌ، فَوُجِّهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِلَى وَادِي الْقُرَى، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِوَادِي الْقُرَى، بَيْنَا مِدْعَمٌ، يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَهُ سَهْمٌ، فَأَصَابَهُ، فَقَتَلَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَكَ الْجَنَّةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كَلَّا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَانِمِ، لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا"، فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ بِذَلِكَ، جَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ، أَوْ بِشِرَاكَيْنِ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "شِرَاكٌ، أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(الحارث بن مسكين) بن محمد الأمويّ مولاهم، أبو عمرو المصريّ القاضي، ثقة فقيه [10] 9/ 9.

2 -

(ابن القاسم) عبد الرحمن الْعُتَقيّ، أبو عبد اللَّه المصريّ الفقيه، صاحب مالك، ثقة، من كبار [10] 19/ 20.

3 -

(مالك) بن أنس، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبتين [7] 7/ 7.

4 -

(ثور بن زيد) الدِّيليّ المدنيّ، ثقة [6] 11/ 1201.

[تنبيه]: وقع في "نسخ "المجتبى" المطبوعة هنا "ثور بن يزيد"، وهو غلطٌ، والصواب "ثور بن زيد"، كما هو الموجود في النسخة الهنديّة، وتقدّم مثل هذا، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

5 -

(أبو الغيث مولى ابن مطيع) سالم المدنيّ مشهور بكنيته، ثقة [3] 78/ 2577.

ص: 48

[تنبيه]: وقع عند البخاريّ من طريق أبي إسحاق الفزاريّ، عن مالك، قال: حدّثني ثور، قال: حدّثني سالم مولى ابن مطيع، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه، فقال في "الفتح": وسالم مولى ابن مطيع، يُكنى أبا الغيث، وهو بها أشهر، وقد سُمّي هنا، فلا التفات لقول من قال: إنه لا يوقف على اسمه صحيحًا. وهو مدنيّ، لا يُعرف اسم أبيه، وابن مطيع اسمه عبد اللَّه، وليس لسالم في الصحيح رواية عن غير أبي هريرة رضي الله عنه، له عنه تسعة أحاديث. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وله عند المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث كلّها عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ حديث الباب، وحديث-78/ 2577 - :"الساعي على الأمر والمساكين كالمجاهد في سبيل اللَّه عز وجل" تَقَدَّمَ في "كتاب الزكاة". وحديث -12/ 3698 - : "اجتنبوا السبع الموبقات

" الحديث تَقَدَّم في "كتاب الوصايا". واللَّه تعالى أعلم.

6 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، وأبي داود، وهو ثقة حافظ .. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وابن القاسم، فمصريان. (ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَامَ خَيْبَرَ) وفي رواية البخاريّ في "المغازي" من طريق أبي إسحاق الفزاريّ، عن مالك:"افتتحنا خيبر"، قال في "الفتح": في رواية عبيد اللَّه بن يحيى بن يحيى الليثيّ، عن أبيه في "الموطّإ":"حُنين" بدل خيبر، وخالفه محمد بن وضّاح، عن يحيى بن يحيى، فقال:"خيبر" مثل الجماعة. نبّه عليه ابن عبد البرّ. ووقع في رواية إسماعيل بن أبي أويس عند البخاريّ: "خرجنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى خيبر"، وهي رواية "الموطّإ"، أعني قوله:"خرجنا"، وأخرجها مسلم من طريق ابن وهب، عن مالك، ومن طريق عبد العزيز بن محمد الدراورديّ، عن ثور، فحكى الدارقطنيّ عن موسى بن هارون أنه قال: وَهِمَ ثور في هذا الحديث؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه لم يخرُج مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، وإنما قَدِم بعد

(1)

"فتح" 8/ 270 "كتاب المغازي".

ص: 49

خروجهم، وقدم عليهم خيبر بعد أن فُتحت. قال أبو مسعود: ويؤيّده حديث عنبسة بن خالد بن سعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد ما افتتحوها"، قال: ولكن لا يشكّ أحدٌ أن أبا هريرة رضي الله عنه حضر قسمة الغنائم، فالغرض من الحديث قصّة مِدْعَم في غلول الشملة.

قال الحافظ: وكان محمد بن إسحاق صاحب "المغازي" استشعر بوهم ثور بن زيد في هذه اللفظة، فروى الحديث عنه بدونها، أخرجه ابن حبّان، والحاكم، وابن منده من طريقه، بلفظ:"انصرفنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى"، ورواية أبي إسحاق الفزاريّ التي في هذا الباب تسلم من هذا الاعتراض، بأن يُحمل قوله:"افتتحنا" أي المسلمون. وروى البيهقيّ في "الدلائل" من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "خرجنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى وادي القرى"، فلعلّ هذا أصلُ الحديث. وحديثُ قدوم أبي هريرة رضي الله عنه المدينة، والنبيّ صلى الله عليه وسلم بخيبر أخرجه أحمد، وابن خُزيمة، وابن حبّان من طريق خُثيم بن عراك بن مالك، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"قدِمتُ المدينة، والنبيّ صلى الله عليه وسلم بخيبر، وقد استَخلف سباعَ بن عُرْفُطة"، فذكر الحديث، وفيه:"فزودُونا شيئًا حتى أتينا خيبر، وقد افتتحها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكلّم المسلمين، فأشركونا في سهامهم".

وُيجمع بين هذا وبين الحصر الذي في حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، حيث قال: قدِمنا على النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أن افتتح خيبر، فقسم لنا، ولم يَقسِم لأحد لم يَشهد الفتح غيرَنا"، متّفقٌ عليه، أن أبا موسى أراد أنه لم يُسهم لأحد لم يشهد الوقعة من غير استرضاء أحد من الغانمين، إلا لأصحاب السفينة، وأما أبو هريرة رضي الله عنه وأصحابه، فلم يُعطهم إلا عن طيب خواطر المسلمين. واللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

(فَلَمْ نَغنَمْ) -بفتح أوله، وثالثه- مضارع غَنِم -بكسر النون- من باب فَهِمَ، يقال: غَنِمتُ الشيء أغنمه غُنْمًا بضمّ، فسكون: أصبته غَنِيمة، ومَغْنَمًا، والجمع الغنائم، والمغانم. قال أبو عُبيد: الغَنِيمة: ما نِيلَ من أهل الشرك عَنْوَةً، والحربُ قائِمَةٌ، والفيء: ما نِيل منهم بعد أن تَضَعَ الحرب أوزارها. قاله الفيّوميّ (إِلَّا الأمْوَالَ، وَالْمَتَاعَ، وَالثيَابَ) وفي رواية البخاريّ: "ولم نَغنَم ذهبًا، ولا فضّةً، إنما غَنِمنا البقر، والإبل، والمتاع، والحوائط"، قال في "الفتح": وفي رواية مسلم: "غنمنا المتاع، والطعام، والثياب". وعند رواة "الموطّإ""إلا الأموال، والثياب، والمتاع"، وعند يحيى بن يحيى

(1)

"فتح" 8/ 270 - 271. "كتاب المغازي" رقم 4234.

ص: 50

الليثيّ وحده "إلا الأموال والثياب"، والأول هو المحفوظ، ومقتضاه أن الثياب، والمتاع، لا تُسمّى مالًا، وقد نقل ثعلب عن ابن الأعرابي في المفضّل الضبيّ قال: المال عند العرب الصامت والناطق، فالصامت: الذهب والفضّة، والجوهر والناطق: البعير والبقرة والشاة، فإذا قلت عن حضريّ: كثُر ماله، فالمراد الصامت، وإذا قلت عن بدويّ، فالمراد الناطق. انتهى. وقد أطلق أبو قتادة على البستان مالاً، فقال في قصّة السلب الذي تنازع فيه هو والقرشيّ في غزوة حُنين "فابتعت به مَخْرَفًا، فإنه لأول مال تأثّلته"، فالذي يظهر أن المال ما له قيمة، لكن قد يغلب على قوم تخصيصه بشيء، كما حكاه المفضل، فتحمل الأموال على المواشي، والحوائط التي ذكرت في رواية الباب، ولا يرِاد بها النقود؛ لأنه نفاها أوّلًا. انتهى

(1)

.

(فَأَهْدَى رَجُلٌ مِنْ بَنِي الضُّبَيْبِ) بضمّ أوّله، بصيغة التصغير، وفي رواية البخاريّ من طريق أبي إسحاق الفزاريّ، عن مالك:"أهداه له أحد بني الضّباب" -بكسر الضاد المعجمة، وموحّدتين الأولى خفيفة، بينهما ألف بلفظ جمع الضبّ. وفي رواية مسلم:"أهداه له رفاعة بن زيد، أحد بني الضّبيب". وفي رواية أبي إسحاق رفاعة بن زيد الْجُذاميّ، ثمّ الضبنيّ -بضمّ المعجمة، وفتح الموحّدة، بعدها نون، وقيل: بفتح المعجمة، وكسر الموحّدة-: نسبة إلى بطن من جُذام.

(يُقَالُ لَهُ: رِفَاعَةُ بْنُ زَيدٍ) قال الواقديّ: كان رفاعة قد وفَدَ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ناس من قومه قبل خروجه إلى خيبر، فأسلموا، وعقد له على قومه (لِرَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) متعلّق بـ "أهدى"(غُلَامًا أَسْوَدَ، يُقَالُ لَهُ: مِدْعَمٌ) بكسر الميم، وسكون الدال المهملة، وفتح العين المهملة (فَوَجَّهَ) بالبنا للفاعل، أي توجه، يقال: وَجَّهتُ إليك توجيهًا: تَوَجَّهْتُ. قاله في "القاموس". ويحتمل أن يكون المعنى فَوَجَّهَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وَجْهَهُ، فيكون المفعول محذوفًا. واللَّه تعالى أعلم. (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إلَى وَادِي الْقُرَى) هو: موضعٌ قريبٌ من المدينة، على طريق الحاجّ من جهة الشام. وأصل الوادي: كلُّ منفرج بين جبال، أو آكام، يكون مَنْفَذًا للسيل، والجمع أودية. أفاده الفيّوميّ (حَتَّى إِذَا كُنَّا بِوَادِي الْقُرَى، بَيْنَا مِدْعَمٌ، يَحُطّ) بضمّ الحاء المهملة، يقال: حَطَطتُ الرحلَ وغيره حَطا، من باب قتل: أنزلته من عُلْو إلى سُفل. قاله الفيّوميّ (رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) الرَّحْل -بفتح، فسكون-: كلُّ شيء يُعدّ للرحيل، من وعاء للمتاع، ومَرْكبٍ للبعير، وحِلْسٍ، ورَسَنٍ، وجمعه أرحُلٌ، ورِحَالٌ، مثلُ أفلُس، وسِهَام.

زاد البيهقيّ في "الدلائل": وقد استقبلتنا يهود بالرمي، ولم نكن على تعبية".

(فَجَاءَهُ سَهْمٌ) وفي رواية البخاريّ: "سهم عائر" -بعين مهملة، بوزن فاعل: أي لا

(1)

"فتح" 8/ 271.

ص: 51

يُدرَى من رمى به. وقيل: هو الحائد عن قصده (فَأَصَابَهُ) أي أصاب ذلك السهم مِدْعمًا (فَقَتَلَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَكَ الجَنَّةُ) أي لأنه مات شهيدًا، في خدمة النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (كَلَّا) حرف ردع، وزجر (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه، إِنَّ الشَّمْلَةَ) -بفتح الشين المعجمة، وسكون الميم-: كساء صغيرٌ، يؤتزر به، والجمع شَمَلات، مثلُ سَجْدة وسَجَدَات، وشِمَال أيضًا، مثلُ كلبة وكلاب. قاله الفيّوميّ (الَّتِي أَخَذَهَا يَومَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَانِمِ) أي قبل قسمتها غُلُولًا (لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا") يحتمل أن يكون ذلك حقيقةً بأن تصير الشَّمْلةُ نفسها نارًا، يُعذب بها، ويحتمل أن يكون المراد أنها سبب لعذاب النار، وكذا القول في "الشراك" الآتي ذكره. قاله في "الفتح".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاحتمال الأول هو الأولى؛ لأن ألفاظ الشارع إذا أمكن حمدها على ظاهرها لا ينبغي العدول عنه، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

(فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ بِذَلِكَ، جَاءَ رَجُلٌ) قال الحافظ: لم أقف على اسمه (بِشِرَاكٍ، أَوْ بِشِرَاكَينِ) -بكسر الشين المعجمة، وتخفيف الراء-: سَيْرُ النعل على ظهر القدم (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "شِرَاكٌ، أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ") أي لولا رددتها، أو هو ردّ بعد الفراغ من القسمة، وقسمتها وحدها لا يُتصوّر، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم ما قال، واللَّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

وفي حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما قال: "كان على ثَقَل النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ يقال له: كركرة

(1)

، فمات، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: هو في النار في عباءة غَلَّها".

قال في "الفتح": وكلام عياض يُشعر بأن قصّته مع قصَّة مِدعَم متّحدة، والذي يظهر من عدّة أوجه تغايرهما. نعم عند مسلم من حديث عمر رضي الله عنه:"لَمّا كان يوم خيبر قالوا: فلان شهيد، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم -كلّا إني رأيته في النار في بردة غَلّها، أو عباءة"، فهذا يمكن تفسيره بكركرة، بخلاف قصّة مِدعم، فإنها كانت بوادي القرى، ومات بسهم عائر، وغَلَّ شَمْلةً، والذي أهدى للنبيّ صلى الله عليه وسلم كركرة هَوْذَة بن عليّ، بخلاف مِدعَم، فأهداه رفاعة، فافترقا. واللَّه أعلم.

وذكر البيهقيّ في روايته أنه صلى الله عليه وسلم حاصر أهل وادي القرى حتى فتحها، وبلغ ذلك أهل تيماء، فصالحوه. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

بكسر الكافين، وقيل: بفتحهما.

ص: 52

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-38/ 3854 - وفي "الكبرى" 15/ 4768. وأخرجه (خ) في "المغازي" 4234 و"الأيمان والنذور" 6707 (م) في "الإيمان" 115 (د) في "الجهاد" 2711 (الموطأ) في "الجهاد" 997. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان أنه إذا أوصى الإنسان بماله، دخلت فيه الأراضي؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه أراد بقوله:"فلم نغنم إلا الأموال" ما يشمل الأراضي قطعًا، وإلا لا يستقيم الحصر، ضرورة أنهم غنِموا أراضي كثيرة، وأبو هريرة رضي الله عنه ممن يعلم اللغة، وإطلاقات الشارع، فعُلم أن اسم المال يطلق على الأراضي، وهذا هو مذهب المصنّف، والبخاريّ، وجمهور العلماء، وهو الراجح، كما تقدّم بيانه. واللَّه تعالى أعلم.

(ومنها): تحريم الغلول، وتعظيم شأنه، وإن كان قليلاً، وأنه من الكبائر؛ لتوعّده بالنار. (ومنها): حلّ الغنائم، وهو من خصوصيّات النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم تحلّ لأحد من الأنبياء قبله، كما تقدّم بيان ذلك في "كتاب التيمّم". (ومنها): أن فيه علمًا من أعلام النبوّة، ومعجزة ظاهرةً للنبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث يُطلعه اللَّه سبحانه وتعالى على المغيّبات، من أحوال الموتى، فيرى المعذّبين، ونوع عذابهم، وسببه، فيخبر بذلك أصحابه؛ تحذيرًا لهم، ولأمته جميعًا عن التعرْض لأسباب العذاب. (ومنها): جواز قبول الإمام الهديّة، فإن كان لأمر يختصّ به في نفسه أن لو كان غير والٍ، فله التصرّف فيها بما أراد، وإلا فلا يتصرّف فيها إلا في مصلحة المسلمين، وعلى هذا التفصيل يُحمل حديث:"هدايا الأمراء غُلُول"، فيُخصّ بمن أخذها، فاستبدّ بها. وخالف في ذلك بعض الحنفيّة، فقال: له الاستبداد مطلقًا، بدليل أنه لو ردّها على مُهديها لجاز، فلو كانت فيئًا للمسلمين لما ردّها. وفي هذا الاحتجاج نظرٌ لا يخفى. قاله في "الفتح"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

(1)

"فتح" 8/ 272 "كتاب المغازي".

ص: 53

‌39 - (الاسْتِثْنَاءُ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أراد بهذه الترجمة الاستثناء في النذر؛ لأن الاستثناء في اليمين تقدّم له في أبواب الأيمان -18/ 3820 - "من حلف، فاستثنى"، ولما كان النذر واليمين يتشابهان في كثير من أحكامهما استدلّ بالأحاديث الواردة في الاستثناء في الأيمان على جواز الاستثناء في النذور؛ لذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3855 -

(أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ كَثِيرَ بْنَ فَرْقَدٍ، حَدَّثَهُ أَنَّ نَافِعًا حَدَّثَهُمْ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَلَفَ، فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقَدِ اسْتَثْنَى»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"ابن وهب": هو عبد اللَّه. و"عمرو بن الحارث": هو أبو أيوب المصريّ الثقة الفقيه الحافظ [7] 63/ 79. و"كثير بن فّرْقّ": هو المدنيّ، نزيل مصر الثقة [7] 30/ 1589.

وقوله: "فقد استثنى" أي ثبت له حكم استثنائه، وهو معنى قوله في الحديث الثاني:"فهو بالخيار، إن شاء أمضى، وإن شاء ترك". ولفظ "الكبرى": "فله ثُنياه" وهو بضمّ الثاء المثلّثة، وسكون النون، بعدها تحتانيّة، مقصورًا، بمعنى الاستثناء، أي له استثناؤه. والحديث صحيحٌ، وقد سبق تمام البحث عنه في -18/ 3820 - "من حلف، فاستثنى"، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3856 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَلَفَ، فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقَدِ اسْتَثْنَى»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، وهو الجوّاز المكيّ الثقة فإنه من أفراده. و"سفيان": هو ابن عيينة. و"أيوب": هو السختياني. و"نافع": هو مولى ابن عمر. والحديث صحيح، كما سبق بيانه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3857 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ،

ص: 54

فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَمْضَى، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فهو من أفراده، وهو رُهاويّ ثقة حافظ. و"عفان": هو ابن مسلم الصفّار البصريّ الثقة الثبت. و"وُهيب": هو ابن خالد الباهليّ البصريّ الثقة الثبت. والحديث صحيح، كما سبق بيانه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌40 - (إِذَا حَلَفَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِنْ شَاءَ اللَّه، هَلْ لَهُ اسْتِثْنَاءٌ؟)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: يعني أنه إذا حلف شخصٌ، ولم يستثن، فذكّره رجلٌ، فقال له: قل: إن شاء اللَّه، فقال ذلك، هل يكون ذلك استثناء صحيحًا، أم لا؟، وقد اختُلف فيه، ولكن الظاهر أنه صحيحٌ، لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:"لو قال: إن شاء اللَّه لم يحنث"، فإن ظاهره أن قول الصاحب كان بعد كلام سليمان عليه السلام، فيدلّ على أنه إذا قاله متّصلاً جاز، ولا يُعد ذلك فصلاً مانعًا عن صحّة الاستثناء، كالفصل بالأشياء الضرورية؛ كالسعال، ونحوه؛ لأن نسيانه، مع قصر الزمن يكون عذرًا.

وقال في "الفتح": استدلّ بهذا الحديث من قال: الاستثناء إذا عَقَبَ اليمينَ، ولو تخلّل بينهما شيء يسير لا يضرّ، فإن الحديث دلّ على أن سليمان، لو قال: إن شاء اللَّه عقب قول صاحبه له: قل: إن شاء اللَّه لأفاد، مع التخلّل بين كلاميه بمقدار قول الصاحب. وأجاب القرطبيّ باحتمال أن يكون الملك قال ذلك في أثناء كلام سليمان. قال الحافظ: وهو احتمال ممكن يسقط به الاستدلال المذكور. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما دلّ عليه ظاهر الحديث كافٍ للتمسك به، فإنه يدلّ على أن الملك ذكّر سليمان عليه السلام، بعد سماعه كلامه، وتأكّده من عدم استثنائه، فاحتمال أنه ذكّره في أثناء كلامه بعيدٌ جدًّا؛ لأنه لا يدري هل يستثني بعد كلامه، أم لا؟، فلما تحقّق لديه أنه ما استثنى مع حاجته إلى الاستثناء ذكّره.

(1)

"فتح" 7/ 129.

ص: 55

والحاصل أن الاحتمال الذي ذكره القرطبيّ بعيد، فلا يسقط الاستدلال المذكور. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3858 -

(أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الزِّنَادِ، مِمَّا حَدَّثَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجُ، مِمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يُحَدِّثُ بِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ: لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً، كُلُّهُنَّ يَأْتِي بِفَارِسٍ، يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَطَافَ عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا، فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلاَّ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ، وَايْمُ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فُرْسَانًا أَجْمَعِينَ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عمران بن بكار) الكَلَاعيّ البرّاد الحمصيّ المؤذن، ثقة [11] 17/ 1541.

2 -

(عليّ بن عياش) - بتحتانيّة، ومعجمة-: هو الألهانيّ الحمصيّ الثقة الثبت [9] 123/ 182.

3 -

(شُعيب) بن أبي حمزة دينار الأمويّ مولاهم، أبو بشر الحمصيّ ثقة عابد، قال ابن معين: أثبت الناس في الزهريّ [7] 69/ 85.

4 -

(أبو الزناد) عبد اللَّه بن ذكوان القرشيّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقة فقيه [5] 7/ 7.

5 -

(الأعرج) عبد الرحمن بن هُرمُز، أبو داود المدنيّ، مولى ربيعة بن الحارث، ثقة ثبت فقيه [3] 7/ 7. .

6 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالحمصيين إلى شعيب، وبالمدنيين بعده. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين من الرواية، روى (5374) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن شعيب بن أبي حمزة، أنه قال:(حَدَّثَني أَبُو الزِّنَادِ) عبد اللَّه بن ذكوان (مِمَّا حَدَّثَهُ) أي من جملة الأحاديث التي حدّثه بها، فـ"من" تبعيضيّة، أو هي بمعنى "في" أي جملتها

ص: 56

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجُ، مِمَّا ذَكَرَ) بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير عبد الرحمن (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يُحَدِّثُ بِهِ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) الجملة في محلّ نصب على الحال من المفعول (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (قَالَ: سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ) النبيّ ابن النبيّ صلوات اللَّه وسلامه عليهما (لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ) وفي رواية: "لأُطيفنّ": قال القرطبيّ: كلاهما صحيح في اللغة، يقال: أطفت بالشيء أُطيف به، وأنا مُطيفٌ، وطُفتُ على الشيء وبه، أطوف، وأنا طائفٌ، كما قال تعالى:{فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم: 19]، وأصله الدوَرَان حول الشيء، ومنه الطواف بالبيت، وهو في هذا الحديث كناية عن الجماع، كما جاء عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه كان يطوف على نسائه، وهنّ تسعٌ في ساعة واحدة من ليل أو نهار، متّفقٌ عليه.

(1)

.

واللام جواب لقسم محذوف، أي واللَّه لأطوفنّ، ويؤيّده قوله في آخره:"لم يَحنث"؛ لأن الحنث لا يكون إلا قسم، والقسم لا بدّ له من مقسم به. قاله في "الفتح".

وقال القرطبيّ: هذا الكلام قسم، وإن لم يُذكر فيه مقسمٌ به؛ لأن لام "لأطوفنّ" هي الداخلة على جواب القسم، فكثيرًا ما تحَذِف معها العرب المقسمَ به، اكتفاءً بدلالتها على المقسم به؛ لكنها لا تدلّ على مقسم به معين. انتهى

(2)

.

(عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةَ) هكذا في هذه الرواية "تسعين"، وفي رواية "سبعين امرأة"، وفي رواية "كان لسليمان ستون امرأة"، وفي رواية "مائة امرأة"، وفي رواية:"مائة امرأة، أو تسع وتسعون" على الشكّ، وكلها في الصحيح.

قال في "الفتح": فمحصّل الروايات: ستون، وسبعون، وتسعون، وتسع وتسعون، ومائة. والجمع بينها أن الستّين كنّ حرائر، ومازاد عليهن كنّ سراري، أو بالعكس، وأما السبعون فللمبالغة، وأما التسعون، والمائة، فكن دون المائة، وفوق التسعين، فمن قال: تسعون ألغى الكسر، ومن قال: مائة جبره، ومن ثَمّ وقع التردد في بعض الروايات، كما تقدّم

(3)

.

وأما قول النوويّ، ومن وافقه في الجواب عن اختلاف العدد: إن مفهوم العدد ليس بحجة عند الجمهور، فذكر القليل لا ينفي ذكر الكثير. فقد تُعُقّب بأن الشافعيّ نصّ على أن مفهوم العدد حجة، وجزم بنقله عنه الشيخ أبو حامد، والماورديّ، وغيرهما، ولكن

(1)

"المفهم" 4/ 636.

(2)

"المفهم" 4/ 635.

(3)

"فتح" 7/ 127 - 128. "كتاب أحاديث الأنبياء" رقم 3424.

ص: 57

شرطه أن لا يُخالفه المنطوق. قال الحافظ: والذي يظهر مع كون مخرج الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، واختلاف الرواة عنه أن الحكم للزائد؛ لأن الجميع ثقات. انتهى

(1)

.

[فائدة]: قد حكى وهب بن منبه في "المبتدإ" أنه كان لسليمان ألف امرأة، ثلاثمائة مَهِيرَة

(2)

، وسبعمائة سريّة، ونحوه مما أخرج الحاكم في "المستدرك" من طريق أبي معشر، عن محمد بن كعب، قال: بلغنا أنه كان لسليمان ألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلاثمائة صريحة، وسبعمائة سريّة. ذكره في "الفتح"

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذه الحكاية من الإسرائيليات، تحتاج إلى التثبّت فيها، والذي ثبت عندنا في الصحيح ما جاوز المائة، فاللَّه تعالى أعلم بصحّتها.

(كُلُّهُن يَأتي يفَارِسٍ) ولفظ البخاريّ: "تحمل كلّ امرأة فارسًا"(يُجَاهِدُ فِي سَبِيل اللَّهِ عز وجل) هذا قاله على سبيل التمنّي للخير، وإنما جزم به لأنه غلب عليه الرجاء؛ لكونه قصد به الخير، وأمر الآخرة، لا لغرض الدنيا.

(فَقَالَ: لَهُ صَاحِبُهُ: إنْ شَاءَ اللَّهُ) جملة الشرط مقول يقول مقدّر، أي قل، وقد صُرّح به في رواية مسلم، ولفظه:"فقال له صاحبه، أو الملك: قل: إن شاء اللَّه". وفي رواية عند البخاريّ: "فقال له الملك"، وفي رواية:"فقال له صاحبه، قال سفيان: الملك". قال في "الفتح": وفي هذا إشعار بأن تفسير "صاحبه" بالملك، ليس بمرفوع، لكن في "مسند الحميديّ" عن سفيان:"فقال له صاحبه، أو الملك" بالشكّ، ومثلها لمسلم، وفي الجملة: ففيه ردّ على من فسّر "صاحبه" بأنه الذي عنده علم من الكتاب، وهو آصِف -بالمدّ، وكسر المهملة، بعدها فاء ابن بَرْخِيَا -بفتح الموحّدة، وسكون الراء، وكسر المعجمة، بعدها تحتانيّة-، وقال القرطبيّ في قوله:"فقال له صاحبه، أو الملك": إن كان صاحبه، فيعني وزيره من الإنس، والجنّ، وإن كان الملك، فهو الذي كان يأتيه بالوحي، وقال: وقد أبعد من قال المراد به خاطره. انتهى

(4)

. وقال النوويّ: قيل: المراد بصاحبه الملك، وهو الظاهر من لفظه. وقيل: القرين. وقيل: صاحبٌ له آدميّ. انتهى

(5)

.

قال الحافظ: ليس بين قوله: صاحبه، والملك منافاة، إلا أن لفظة "صاحبه" أعمّ، فمن ثم نشأ لهم الاحتمال، ولكن الشكّ لا يؤثّر في الجزم، فمن جزم بأنه الملك حجة

(1)

"فتح" 13/ 471. "كتاب الإيمان والنذور". رقم 6720.

(2)

الْمَهِيرَةُ بفتح اسم، وكَسر الهاء: الحرّة الغالية المهر. قاله في "القاموس".

(3)

"فتح" 7/ 128. "كتاب أحاديث الأنبياء".

(4)

"المفهم" 4/ 637.

(5)

"شرح مسلم" 11/ 123.

ص: 58

على من لم يجزم. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ: قوله: "قل: إن شاء اللَّه" هذا تذكير له بأن يقول بلسانه، لا أنه غفل عن التفويض إلى اللَّه تعالى بقلبه، فإن ذلك بعيد على الأنبياء عليهم السلام، وغير لائق بمناصبهم الرفيعة، ومعارفهم المتوالية، وإنما هذا كما قد اتّفق لنبينا صلى الله عليه وسلم لَمّا سُئل عن الروح، والخضر، وذي القرنين، فوعدهم بأن يأتي بالجواب غدًا، جازمًا بما عنده من معرفته باللَّه تعالى، وصدق وعده في تصديقه، وإظهار كلمته، لكنه ذهل عن النطق بكلمة "إن شاء اللَّه"، لا عن التفويض إلى اللَّه تعالى بقلبه، فأُدّب بأن تأخّر الوحي عنه؛ حتى رموه بالتكذيب لأجلها، ثم إن اللَّه تعالى علمه، وأدّبه بقوله:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24] فكان بعد ذلك يستعمل هذه الكلمة حتى في الواجب. وهذا لعلوّ مناصب الأنبياء، وكمال معرفتهم باللَّه تعالى، يناقَشُون، ويُعاتَبون على ما لا يُعاتب عليه غيرهم، كما قد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في حقّ لوط:"ويرحم اللَّه لوطًا لقد كان يأوي إلى ركن شديد"، فعتب عليه نطقه بكلمة يسوغ لغيره أن ينطق بها. انتهى كلام القرطبيّ

(2)

.

(فَلَمْ يَقُلْ: إن شَاءَ اللَّه) وفي رواية معمر، عن طاوس عند البخاريّ: قال: "ونسي أن يقول: إن شاء اللَّه". والمعنى: أنه لم يقل: إن شاء اللَّه بلسانه، لا أنه أبى أن يفوّض أمره إلى اللَّه سبحانه وتعالى، بل كان ذلك ثابتًا في قلبه، لكنه اكتفى بذلك أوّلًا، ونسي أن يُجريه على لسانه لَمّا قيل له؛ لشيء عرَضَ له.

(فَطَافَ) وفي رواية للبخاريّ: "فأطاف بهنّ، وتقدّم أن طاف، وأطاف بمعنى واحد (عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا، فَلَمْ تَحْمِلْ) بفتح أوله، وكسر ثالثه، من حمل يحمِل، من باب ضرب (مِنْهُنَّ إِلاَّ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ) وفي رواية للبخاريّ: "إلا واحدًا ساقطًا أحد شقيه"، وفي رواية له: "ولدت شِقّ غَلام"، وفي رواية: "نصف إنسان". قال في "الفتح": وحكى النقّاش في "تفسيره" أن الشقّ المذكور هو الجسد الذي أُلقي على كرسيّه، وقد ثبت عن غير واحد من المفسّرين أن المراد بالجسد المذكور شيطان، وهو المعتمد، والنقّاش صاحب مناكير. انتهى.

(وَايمُ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ) صلى الله عليه وسلم (بِيَدِهِ) فيه إثبات اليد للَّه سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله.

[تنبيه]: قوله: (وايم) بكسر الهمزة، وبفتحها، والميم مضمومة. وحكى الأخفش

(1)

"فتح"128. "كتاب أحاديث الأنبياء".

(2)

"المفهم" 4/ 637. "كتاب الأيمان والنذور".

ص: 59

كسرها مع كسر الهمزة، وهو اسم عند الجمهور، وحرفٌ عند الزّجاج، وهمزته همزة وصل عند الأكثر، وهمزة قطع عند الكوفيين، ومن وافقهم؛ لأنه عندهم جمع يمين، وعند سيبويه، ومن وافقه أنه اسم مفرد، واحتجّوا بجواز كسر همزته، وفتح ميمه، قال ابن مالك: فلو كان جمعًا لم تحُذف همزته، واحتجّ يقول عروة بن الزبير لَمّا أُصيب بولده، ورجله:"لَيْمُنُكَ، لئن ابتليتَ، لقد عافيت، ولئن كُنت سَلَبْتَ، لقد أبقيتَ"، قال: فلو كان جمعًا، لم يُتصرّف فيه بحذف بعضه، قال: وفيه اثنتا عشرة لغةً، جمعتها في بيتين، وهما [من البسيط]:

هَمْزَ ايْمُ أَيْمُنُ فَاَفْتَحِ اَكْسِرَ أَو أَمُ قُلْ

أَوْ قُلْ مُ أَوْ مُنُ بِالتَّثْلِيثِ قَدْ شُكِّلَا

وَأَيْمُنَ اخْتِم بِهِ وَاللَّهِ كُلّا أَضِفْ

إِلَيْهِ فِي قَسَمٍ تَسْتَوْفِ مَا نُقِلَا

قال ابن أبي الفتح تلميذ ابن مالك: فاته أَم بفتح الهمزة، وهيم بالهاء بدل الهمزة، وقد حكاها القاسم بن أحمد المعلم الأندلسيّ في "شرح المفصّل".

وقال غيره: أصله يمين اللَّه، ويجمع أيمنا، فيقال: وأيمن، حكاه أبو عُبيدة، وأنشد لزُهير بن أبي سُلْمَى [من الوافر]:

فَتُجمَعُ أَيْمُنٌ مِنَّا وَمِنْكُمْ

بِمُقْسَمَةٍ تَمُورُ بِهَا الدِّمَاءُ

وقالوا عند القسم: وأيمن اللَّه، ثم كثر، فحذفوا النون، كما حذفوها من لم يكن، فقالوا: لم يك، ثم حذفوا الياء، فقالوا: أم اللَّه، ثم حذفوا الألف، فاقتصروا على الميم مفتوحة، ومضمومة، ومكسورة، وقالوا: أيضًا من اللَّه بكسر الميم، وضمها، وأجازوا في أيمن فتح الميم، وضمّها، وكذا في أيم، ومنهم من وصل الألف، وجعل الهمزة زائدة، أو مسهلة، وعلى هذا تبلغ لغاتها عشرين. وقال الجوهريّ: قالوا: أيم اللَّه، وربّما حذفوا الياء، فقالوا: أم اللَّه، وربّما أبقوا الميم وحدها مضمومة، فقالوا: مُ اللَّه، وربّما كسروها؛ لأنها صارت حرفًا واحدًا، فشبّهوها بالباء، قالوا: وألفها ألف وصل عند أكثر النحويين، ولم يجىء ألف وصل مفتوحة غيرها، وقد تدخل اللام للتأكيد، فيقال: لَيْمُن اللَّه، قال الشاعر [من الطويل]:

فَقَالَ فَرِيقُ القَوْمِ لَمَّا نَشَدتُهُمْ

نَعَمْ وَفرِيق لَيْمُنُ اللَّهِ مَا نَدْرِي

وذهب ابن كيسان، وابن درستويه إلى أن ألفها ألف قطع، وإنما خُفّفت همزتها في الوصل لكثرة الاستعمال. وحكى ابن التين عن الداوديّ قال: أيم اللَّه معناه اسم اللَّه، أُبدلت السين ياءً، وهو غلطٌ فاحش؛ لأن السين لا تبدل ياءً. وذهب المبرّد إلى أنها

ص: 60

عوضٌ من واو القسم، وأن معنى قوله: وأيم اللَّه واللَّه لأفعلنّ. ونقل عن ابن عبّاس أن يمين اللَّه من أسماء اللَّه تعالى، ومنه قول امرئ القيس [من الطويل]:

فَقُلتُ يَمِينُ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا

وَلَوْ قَطَعُوا رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالِي

ومن ثَمّ قال المالكيّة، والحنفيّة: إنه يمين. وعند الشافعيّة: إن نوى اليمين انعقدت، وإن نوى غير اليمين لم ينعقد يمينًا، وإن أطلَقَ فوجهان: أصحّهما لا ينعقد إلا أن ينوي. وعن أحمد روايتان: أصحّهما الانعقاد. وحكى الغزاليّ في معناه وجهين: أحدهما أنه كقولهم: تالله. والثاني: كقوله: أحلف باللَّه، وهو الراجح. ومنهم من سوّى بينه وبين لعمر اللَّه. وفرق الماورديّ بأن لعمر اللَّه شاع في استعمالهم عرفًا، بخلاف أيم اللَّه. واحتجّ بعض من قال منهم بالانعقاد مطلقًا بأن معناه يمين اللَّه، ويمين اللَّه من صفاته، وصفاته قديمة. وجزم النوويّ في "التهذيب" أن قول وأيم اللَّه، كقوله: وحق اللَّه، وقال: إنه ينعقد به اليمين عند الإطلاق، وقد استغربوه. ويقويه قوله صلى الله عليه وسلم:"وايم الذي نفس محمد بيده، لو قال: إن شاء اللَّه لجاهدوا". واستدلّ من قال بالانعقاد مطلقًا بهذا الحديث. قال الحافظ: ولا حجة فيه إلا على التقدير المتقدّم، وأن معناه: وحقّ اللَّه. انتهى

(1)

.

(لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّه، لَجَاهَدُوا في سَبِيلِ اللَّهِ) وفي رواية للبخاريّ من طريق ابن سيرين: "لو استثنى، لحملت كلّ امرأة منهنّ، فولدت فارسًا يقاتل في سبيل اللَّه"، وفي رواية طاوس:"لو قال: إن شاء اللَّه لم يَحنث، وكان درَكًا لحاجته"، وفي رواية:"وكان أرجى لحاجته". وقوله: "دَرَكًا" بفتحتين: اسم من الإدراك، وهو كقوله تعالى:{لَا تَخَافُ دَرَكًا} [طه: 77]: أي لَحاقًا، والمراد أنه يحصل له ما طلب، ولا يلزم من إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك في حقّ سليمان في هذه القصّة أن يقع ذلك لكلّ من استثنى في أمنيّته، بل في الاستثناء رجوّ الوقوع، وفي ترك الاستثناء خشية عدم الوقوع، وبهذا يجاب عن قول موسى للخضر عليهما السلام:{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} [الكهف: 69] مع قول الخضر له آخزا: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 82]. قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال في موضع آخرة ما نصّه: وقد قيل: هو خاصّ بسليمان عليه السلام، وأنه لو قال في هذه الواقعة:"إن شاء اللَّه"، حصل مقصوده، وليس المراد أن كلّ من قالها وقع ما

(1)

"فتح" 13/ 367 - 369. "كتاب الأيمان والنذور".

(2)

"فتح" 7/ 129 "كتاب أحاديث الأنبياء".

ص: 61

أراد، ويؤيّده أن موسى عليه السلام قالها عند ما وعد الخضر أنه يصبر عما يراه منه، ولا يسأله عنه، ومع ذلك فلم يصبر، كما أشار إلى ذلك في الحديث الصحيح:"رحم اللَّه موسى، لوددنا لو صبر حتى يقصّ اللَّه علينا من أمرهما". وقد قالها الذبيح، فوقع ما ذكر في قوله عليه السلام:{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} ، فصبر حتى فداه اللَّه بالذبح. وقد سئل بعضهم عن الفرق بين الكليم والذبيح في ذلك، فأشار إلى أن الذبيح بالغ في التواضع في قوله:{مِنَ الصَّابِرِينَ} حيث جعل نفسه واحدًا من جماعة، فرزقه اللَّه الصبر. قال الحافظ: وقد وقِع لموسى عليه السلام أيضًا نظير ذلك مع شعيب، حيث قال له:{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص: 27]، فرزقه اللَّه ذلك. انتهى

(1)

.

(فُرْسَانًا) بضمّ الفاء جمع فارس، قال الفيّومي -رحمه اللَّه تعالى-: الفارس: الراكب على الحافر فرسًا كان، أو بغلًا، أو حمارًا، قاله ابن السِّكِّيت، يقال: مرّ بنا فارسٌ على بغل، وفارسٌ على حمار. وفي، "التهذيب": فارسٌ على الدّابّة: بَيِّنُ الفرُوسيّة، قال الشاعر [من الطويل]:

وَإِنِّي امْرُؤٌ لِلْخَيلِ عِنْدِي مَزِيَّةٌ

عَلَى فَارِسِ البرْذَونِ أَوْ فَارِسِ الْبَغْلِ

وقال أبو زيد: لا أقول لصْاحب البغل والحمار: فارس، ولكن أقول: بَغّالٌ، وحَمّارٌ. ويجمع فارسٌ أيضًا على فوارس، وهو شاذّ؛ لأن فواعل إنما هو جمع فاعلة، مثل ضاربة وضَوَارِب، وصاحبة وصَوَاحِب، أو جمع فاعل صفةً لمؤنّث، مثل حائض وحَوَائض، أو كان جمع ما لا يعقل، نحوْ جملِ بازلٍ وبَوَازِلَ، وحائط وحوائطَ، وأما مذكر من يَعقِل، فقالوا: لم يأت فيه فواعل، إلا فوارسُ، ونواكسُ، ناكس الرأس، وهوالك، ونواكص، وسوابق، وخوالف، جمع خالف، وخالفة، وهو القاعد المتخلّف، وقومٌ ناجعةٌ ونواجعُ. وعن ابن القطّان: ويجمَعُ الصاحب على صواحب. انتهى كلام الفيّوميّ

(2)

.

وإلى هذه القاعدة أشار ابن مالك -رحمه اللَّه تعالى- في "الخلاصة"، حيث قال:

فَوَاعِلٌ لِفَوْعَلِ وَفَاعَلِ

وَفَاعِلَاءَ مَعَ نَحْوِ كَاهِلِ

وَحَائِضٍ وَصَاهِلٍ وَفَاعِلَهْ

وَشَذَّ فِي الفَارِسِ مَعَ مَا مَاثَلَهْ

(أَجْمَعِينَ") هكذا نسخ "المجتبى"، والذي في "الكبرى":"أجمعون"، وهو الذي في "الصحيحين"، وهو الموافق لغالب الاستعمال، فإن المشهور في اللغة أن تستعمل

(1)

"فتح" 13/ 472. "كتاب الأيمان والنذور".

(2)

"المصباح المنير" 2/ 467 - 468.

ص: 62

"أجمعون" تاكيدًا، وللأول أيضًا وجه، وهو أن يعرب حالاً، وقد وقع مثله في بعض روايات البخاريّ في حديث "فصلوا قعودًا أجمون" بلفظ "أجمعين".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أما تغليط الفيّوميّ للمحدّثين في هذه الرواية، وقال: غَلِطَ من قال: إنه نُصِب على الحال؛ لأن ألفاظ التوكيد معارفُ، والحال لا تكون إلا نكرة، وما جاء منها معرفةً فمسموع، وهو مؤوّلٌ بالنكرة، والوجه في الحديث "فصلّوا قُعُودًا أجمعون"، وإنما هو تصحيفٌ من المحدّثين في الصدر الأول، وتمسّك المتأخّرون بالنقل. انتهى.

فمما لا يُلتفت إليه، بل الرواية صحيحة، وقد أجاز بعض أهل اللغة ذلك، قال ابن منظور -رحمه اللَّه تعالى-: و"أجمع" من الألفاظ الدالّة على الإحاطة، وليست بصفة، ولكنَّه يُلَمُّ به ما قبله من الأسماء، ويُجرَى على إعرابه، فلذلك قال النحويّون: صفةٌ، والدليل على أنه ليس بصفة قولهم: أجمعون، فلو كان صفة لم يَسلَم جمعه، ولكان مكسّرًا، والأنثى جَمْعاء، وكلاهما معرفة، لا يُنكّر عند سيبويه، وأما ثعلب، فحكى فيهما التنكير، والتعريف جميعًا، تقول: أعجبني القصر أجمعُ، وأجمعَ، الرفع على التوكيد، والنصب على الحال. انتهى

(1)

.

فقد ثبت صحّة هذا الاستعمال بنقل ثعلب، وهو ممن يُعتمد في اللغة على نقله، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، فقد ثبت النصب روايةً عن المحدّثين، ونقلًا عن اللغويين، فلا التفات إلى من ادّعى غَلَطَ المحدّثين، بناءً على نفي بعض اللغويين لها، فالمثبت مقدّم على النافي. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-40/ 3858 و 43/ 3883 - وفي "الكبرى" 17/ 4772. وأخرجه (خ) في "أحاديث الأنبياء" 2424 (م) في "الأيمان والنذور" 1654 (ت) في "النذور والأيمان" 1532 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 7097 و 7658 و 10202. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"لسان العرب" 8/ 60.

ص: 63

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو أنه إذا حلف رجل، ولم يستثن، فقال له آخرُ، مذكّرًا: قل: إن شاء اللَّه، فقال ذلك، هل يكون ذلك استثناء صحيحًا، أم لا؟، والظاهر نعم، وقد تقدّم تقريره في أول الباب.

(ومنها): أن فيه فضل فعل الخير، وتعاطي أسبابه، وأن كثيرًا من المباح، والملاذّ يصير مستحبًّا بالنية والقصد. (ومنها): استحباب الاستثناء لمن قال: سأفعل كذا، وأن إتباع المشيئة اليمين يرفع حكمها، وهو متّفقٌ عليه بشرط الاتصال. (ومنها): أن الاستثناء لا يكون إلا باللفظ، ولا تكفي فيه النيّة، وهو اتفاقْ، إلا ما حُكي عن بعض المالكيّة. (ومنها): ما خُصّ به الأنبياء عليهم السلام، من القوّة على الجماع الدّالّ ذلك على صحّة البِنْية، وقوّة الفُحُوليّة، وكمال الرجوليّة، مع ما هم فيه من الاشتغال بالعبادة والعلوم، وقد وقع لنبيّنا صلى الله عليه وسلم من ذلك أبلغ المعجزة؛ لأنه مع اشتغاله بعبادة ربّه، وعلومه، ومعالجة الخلق، كان متقللاً من المآكل، والمشارب المقتضية لضعف البدن على كثرة الجماع، ومع ذلك فكان يطوف على نسائه في ليلة بغسل واحد، وهنّ إحدى عشرة امرأة، وقد تقدّم هذا في "كتاب الغسل". ويقال: إن كلّ من كان أتقى للَّه، فشهوته أشدّ؛ لأن الذي لا يتّقي يتفرّج بالنظر، ونحوه.

(ومنها): ما قاله بعض السلف: نبه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث على آفة التمنّي، والإعراض عن التفويض، قال: ولذلك نسي الاستثناء؛ ليمضي فيه القدر.

(ومنها): جواز الإخبار عن الشيء، ووقوعه في المستقبل، بناء على غلبة الظنّ، فإن سليمان عليه السلام جزم بما قال، ولم يكن ذلك عن وحي، إلا لوقع. كذا قيل. وقال القرطبيّ: لا يَظُنُّ بسليمان عليه السلام أنه قطع بذلك على ربّه، إلا من جهِلَ حالَ الأنبياء، وأدبهم مع اللَّه تعالى. وقال ابن الجوزيّ:[فإن قيل]: من أين لسليمان عليه السلام أن يُخلق من مائه هذا العدد في ليلة؟ لا جائز أن يكون بوحي؛ لأنه ما وقع، ولا جائز أن يكون الأمر في ذلك إليه؛ لأن الإرادة للَّه. [والجواب]: أنه من جنس التمنّي على اللَّه، والسؤال له أن يفعل، والقسم عليه، كقول أنس بن النضر رضي الله عنه:"واللَّه لا تكسر سنّها". ويحتمل أن يكون لَمّا أجاب اللَّه دعوته أن يهب له ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، كان هذا عنده من جملة ذلك، فجزم به. وأقرب الاحتمالات ما ذكرته أوّلًا، وباللَّه التوفيق.

قال الحافظ: ويحتمل أن يكون أُوحي إليه بذلك مقيّدًا بشرط الاستثناء، فنسي الاستثناء، فلم يقع ذلك؛ لفقدان الشرط، ومن ثَم ساغ له أوّلًا أن يحلف. وأبعد من

ص: 64

استدلّ به على جواز الحلف على غلبة الظنّ. انتهى.

(ومنها): جواز السهو على الأنبياء عليهم السلام، وأن ذلك لا يقدَح في علوّ منصبهم. (ومنها): جواز الإخبار عن الشيء أنه سيقع، ومُستَنَدُ المخبِرِ الظنّ، مع وجود القرينة القويّة لذلك. (ومنها): جواز إضمار المقسم به في اليمين؛ لقوله: "لأطوفنّ"، مع قوله عليه السلام:"لم يَحنث"، فدلّ على أن اسم اللَّه فيه مقدّرٌ، فإن قال أحدٌ بجواز ذلك، فالحديث حجة له، بناء على أن شرع من قبلنا شرعٌ لنا، إذا ورد على لسان الشارع، وإن وقع الاتّفاق على على عدم الجواز، فيحتاج إلى تأويله، كأن يقال: لعلّ التلفّظ باسم اللَّه وقع في الأصل، وإن لم يقع في الحكاية، وذلك ليس بممتنع، فإن من قال: واللَّه لأطوفنّ، يصدُقُ أنه قال: لأطوفنّ، فإن اللافظ بالمركّب لا فظٌ بالمفرد.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا قال في "الفتح"، أما قوله:"فإن قال أحدٌ بجواز ذلك الخ" فعجيب منه، فإنه ذكر في الفائدة التالية: ما نصّه:

(ومنها): أنه احتجّ به من قال: لا يُشترط التصريح بمقسمم به معيّن، فمن قال: أحلف، أو أشهد، ونحو ذلك، فهو يمين، وهو قول الحنفيّة، وقيّده المالكيّة بالنيّة. وقال بعض الشافعيّة: ليست بيمين مطلقًا. انتهى.

فكيف يقول: "إن قال أحد بجواز ذلك"، مع أنه نسبه إلى الحنفيّة والمالكيّة في كلامه هذا؟. فتأمّل.

ونصّ القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "المفهم": هذا الكلامُ قَسَمٌ، وإن لم يُذكر فيه مقسم به؛ لأن لام "لأطوفنّ" هي التي تدخل على جواب القسم، فكثيرًا ما تَحذف معها العرب المقسم به اكتفاء بدلالتها على المقسم به، لكنها لا تدلّ على مقسم به معيّن، وعلى هذا، ففيه من الفقه ما يدلّ على أن من قال: أحلف، أو أشهد، أو ما أشبه ذلك، مما يُفيد القسم، ونوى بذلك الحلف باللَّه تعالى، كانت يمينًا جائزةً، منعقدةً، وهو مذهب مالك، وقد قال الشافعيّ: لا تكون يمينًا باللَّه تعالى؛ حتى يتلفّظ بالمقسم به، وقال أبو حنيفة: هي يمين أراد بها اليمين باللَّه تعالى، أم لا. وكأن الأولى ما صار إليه مالك؛ لأن ذلك اللفظ صالحٌ وضعًا للقسم باللَّه تعالى، فإذا أراده الحالف لزمه كسائر الألفاظ المقيّدة بالمقاصد من العمومات، والمطلقات، وغير ذلك، وأما إذا لم يرد باللفظ القسم، أو القسم بغير اللَّه تعالى

(1)

، فلا يلزمه شيء؛ لأن الأول لا يكون يمينًا،

(1)

هكذا نسخة "المفهم"، والظاهر أن صواب العبارة:"أو أراد القسم بغير اللَّه تعالى"، بزيادة لفظة "أراد"، فليُحرّر. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 65

والثاني غير جائز، ولا منعقد، فلا يلزم به حكم على ما تقدّم. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

وأما مسألة شرع من قبلنا شرع لنا، فقد تقدّم في عدّة مواضع أنه الصواب، وأنه مذهب المصنّف، والبخاريّ، ومسلم، وغيرهما، من أهل الحديث، فإنهم يبوّبون في كتبهم بشيء، ثم يوردون دليلاً عليه مما ذكره النبيّ صلى الله عليه وسلم للأنبياء السابقين، أو لأُممهم، مثل ما فعل المصنّف هنا، وكذا الشيخان، وإن كانا ذكرا هنا غيره من الأحاديث، إلا أن المصنّف اكتفى بإيراده فقط، وكذلك فعل كلهم في عدّة مواضع.

والحاصل أن شريعة من قبلنا شريعة لنا بشروط مذكورة في غير هذا المحلّ. واللَّه تعالى أعلم.

(ومنها): ما قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: فيه دليلٌ على جواز "لو"، و"لولا" بعد وقوع المقدور، وقد وقع من ذلك مواضع كثيرةٌ في الكتاب والسنّة، وكلام السلف، كقوله تعالى:{لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80] وكقوله: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} [الفتح: 25] وكقوله صلى الله عليه وسلم: "لولا حوّاءُ لم تُخن أنثى زوجها الدهر، ولولا بنو إسرائيل لم يخبُث الطعام، ولم يَخنَز اللحم". متفقٌ عليه.

فأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقولنّ أحدكم: "لو"، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان". رواه مسلم، فمحمولٌ على من يقول ذلك معتمدًا على الأسباب، مُعرضًا عن المقدور، أو متضجرا منه، كما حكاه اللَّه تعالى من قول المنافقين، حيث قالوا:{لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران: 168] ثم ردّ اللَّه قولهم، وبيّن لهم عجزهم، فقال:{قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 168] ولذلك قال صلى الله عليه وسلم ذلك الحديث: "المؤمن القويّ خيرٌ، وأحبّ إلى اللَّه من المؤمن الضعيف، وفي كلّ خيرٌ، احرص على ما ينفعك، واستعن باللَّه، ولا تعجز، ولا تقل: لو كان كذا لكان كذا، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان، قل: ما شاء اللَّه كان، وما شاء فعل". فالواجب عند وقوع المقدور التسليم لأمر اللَّه، وترك الاعتراض على اللَّه، والإعراض عن الالتفات إلى ما فات، فيجوز النطق بـ "لو" عند السلامة من تلك الآفات. انتهى كلام القرطبيّ

(2)

.

(ومنها): جواز استعمال الكناية في اللفظ الذي يُستقبح ذكره؛ لقوله: "لأطوفنّ"، بدل قوله: لأُجامعن

(3)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(1)

"المفهم" 4/ 635.

(2)

"المفهم" 4/ 638 - 639.

(3)

راجع "الفتح" 7/ 129 - 130. "كتاب أحاديث الأنبياء" رقم الحديث 3424.

ص: 66

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌41 - (كَفَّارَةُ النَّذْرِ)

3859 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ الْوَزِيرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِمَاسَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ»).

رجال هذا الإسناد. سبعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنِ يَحيَىَ بْنِ الوَزِيرِ بْنِ سُلَيْمَانَ) التجيبيّ، أبو عبد اللَّه المصريّ، ثقة [11] 42/ 2690.

(2)

(الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ) المذكور قبل بابين.

3 -

(ابن وهب) عبد اللَّهَ المصريّ، ثقة ثبت عابد [9] 9/ 9.

4 -

(عمرو بن الحارث) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقة فقيه حافظ [7] 63/ 79.

5 -

(كعب بن عَلقمة) التُّنُوخيّ، أبو عبد الحميد المصريّ، صدوقٌ [5] 37/ 678.

6 -

(عبد الرحمن بن شِماسة) -بكسر الشين المعجمة، وتخفيف الميم، وبعد الألف مهملة- ابن ذُؤيب بن أحور الْمَهْريّ -بفتح الميم، وسكون الهاء- أبو عمرو المصريّ، ثقة [3].

قال العجليّ: مصريّ، تابعي، ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وذكره يعقوب بن سُفيان في جملة الثقات. قال يحيى بن بُكير: مات بعد المائة. وقال يونس: مات في أول خلافة يزيد بن عبد الملك. روى له مسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وعند الترمذيّ حديث:"طوبى للشام"، وعند ابن ماجه حديث آخر في البيوع.

7 -

(عقبة بن عامر) الجهنيّ الصحابيّ الشهير - رضي اللَّه تعالى عنه - 108/ 144. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال

ص: 67

الصحيح، غير شيخيه، فقد تفرد بهما هو وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالمصريين من أوله إلى آخره. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِمَاسَةَ، عَنْ عُقْبَه بْنِ عَامِرٍ) رضي الله عنه، هكذا رواية المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وفي رواية مسلم، وأبي داود، والترمذيّ:"عن عبد الرحمن ابن شِماسة، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، والظاهر أن عبد الرحمن كان يرويه عن عقبة، بواسطة أبي الخير، ثم لقيه، فسمعه منه، أو سمعه منه أولاً، ثم ثبّته أبو الخير؛ لأن عبد الرحمن لم يوصف بالتدليس، وقد لقي عقبة، بل لقي من كان أقدم منه موتًا، كأبي ذرّ رضي الله عنه. وأبو الخير اسمه مَرْثَد بن عبد اللَّه اليَزَنيّ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "كَفَّارَةُ النَّذرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ") قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: اختلف العلماء في المراد به، فحمده جمهور أصحابنا على نذر اللَّجَاج، وهو أن يقول إنسان، يريد الامتناع من كلام زيد مثلاً: إن كلّمت زيدًا مثلاً، فللَّه عليّ حجة، أو غيرها، فيُكلّمه، فهو بالخيار بين كفّارة يمين، وبين ما التزمه، هذا هو الصحيح في مذهبنا. وحمله مالك، وكثيرون، أو الأكثرون على النذر المطلق، كقوله: عليّ نذرٌ. وحمله أحمد، وبعض أصحابنا على نذر المعصية، كمن نذر أن يشرب الخمر. وحمله جماعة من فقهاء أصحاب الحديث على جميع أنواع النذر، وقالوا: هو مخيّر في جميع النذور بين الوفاء بما التزم، وبين كفّارة يمين. واللَّه تعالى أعلم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا القول الأخير هو الذي يظهر لي؛ لأن حمله على بعض تلك الأنواع التي حملوها عليه يحتاج إلى دليل.

لكن ظاهر صنيع المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، يدلّ على أنه يختار حمله على نذر المعصية، حيث أورد بعده حديث "لا نذر في معصية، وكفّارته كفّارة يمين" بطرقه المختلفة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تنعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-41/ 3859 - وفي "الكبرى" 18/ 4773. وأخرجه (م) في "النذور

ص: 68

والأيمان" 1645 (د) في "الأيمان والنذور" 3323 (ت) في "النذور والأيمان" 1528 (أحمد) في "مسند الشاميين" 16850 و 16868 و 16874 و 16889 و 1670. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في أقسام النذر، وبيان مذاهب أهل العلم في حكم كلّ قسم منها: ذكر العلاّمة ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى- في كتابه "المغنى" أن النذر سبعة أقسام: (أحدها): نذر اللَّجَاج والغضب، وهو الذي يُخرجه مخرج اليمين للحثّ على فعل شيء، أو المنع منه، غير قاصد به النذر، ولا القربة، فهذا حكمه حكم اليمين.

(القسم الثاني): نذر طاعة وتبرّر، مثلُ الصلاة، والصيام، والحج، والعمرة، والعتق، والصدقة، والاعتكاف، والجهاد، وما في معناها، فهذا يلزم الوفاء به؛ لقوله تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7]، وقوله:{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29]، ولحديث عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع اللَّه، فليُطعه

" الحديث. رواه البخاريّ. وحديث عمران بن حصين رضي الله عنهما، مرفوعًا: "ثم يجيء قوم ينذرون، ولا يَفُون

" الحديث. رواه البخاريّ أيضًا. قال: وهو ثلاثة أنواع:

[أحدها]: التزام طاعة في مقابلة نعمة استجلبها، أو نقمة استدفعها، كقوله: إن شفاني اللَّه، فلله عليّ صوم شهر، فتكون الطاعة الملتزمة مما له أصل في الوجوب بالشرع، كالصوم، والصلاة، والصدقة، والحج، فهذا يلزم الوفاء به بإجماع أهل العلم.

[النوع الثاني]: التزام طاعة من غير شرط، كقوله ابتداءً: للَّه عليّ صوم شهر، فيلزمه الوفاء به، في قول أكثر أهل العلم، وهو قول أهل العراق، وظاهر مذهب الشافعيّ. وقال بعض أصحابه: لا يلزم الوفاء به؛ لأن أبا عمر غلام ثعلب قال: النذر عند العرب وعدٌ بشرط، ولأن ما التزمه الآدميّ بعوض يلزمه بالعقد، كالمبيع، والمستأجر، وما التزمه بغير عوض، لا يلزمه بمجرّد العقد، كالهبة.

[النوع الثالث]: نذر طاعة، لا أصل لها في الوجوب، كالاعتكاف، وعيادة المريض، فيلزمه الوفاء به عند عامّة أهل العلم. وحُكي عن أبي حنيفة أنه لا يلزمه الوفاء به؛ لأن النذر فرع على المشروع، فلا يجب به ما لا يجب له نظير بأصل الشرع.

قال: ولنا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يُطيع اللَّه فليُطعه"، وذمّه الذين ينذرون، ولا يوفون، وقول اللَّه تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 - 77] وقد صحّ أن

ص: 69

عمر رضي الله عنه قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؟، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم. "أوف بنذرك". متّفقٌ عليه. ولأنه ألزم نفسه قربةً على وجه التبرّر، فتلزمه، كموضع الإجماع، وكما لو ألزم نفسه أضحيّة، أو أوجب هديًا، وكالاعتكاف، وكالعمرة، فإنهم قد سلّموها، وليست واجبة عندهم، وما ذكروه يَبطُلُ بهذين الأصلين، وما حكوه عن أبي عمر لا يصحّ، فإن العرب تسمّي نذرًا، وإن لم يكن بشرط، قال

جمَيل [من الطويل]:

فَلَيْتَ رِجَالًا فِيكِ قَدْ نَذرُوا دَمِي

وَهَمُّوا بِقَتْلي يَا بُثَينُ لَقُوْنِي

والجَعَالةُ وعد بشرط، وليست بنذر.

(القسم الثالث): النذر المبهم، وهو أن يقول: للَّه عليّ نذرٌ، فهذا تجب به الكفّارة في قول أكثر أهل العلم، وروي ذلك عن ابن مسعود، وابن عبّاس، وجابر، وعائشة رضي الله عنهم، وبه قال الحسن، وعطاء، وطاوس، والقاسم، وسالمٌ، والشعبيّ، والنخعيّ، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومالك، والثوريّ، ومحمد بن الحسن، ولا أعلم فيه مخالفا إلا الشافعيّ، قال: لا ينعقد نذره، ولا كفّارة فيه؛ لأن من النذر ما لا كفّارة فيه. ولنا ما رواه عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "كفّارة النذر إذا لم يُسمّ كفّارة يمين". رواه الترمذيّ، وقال: هذا حديث حسنٌ صحيح غريب.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث في إسناده محمد بن يزيد مولى المغيرة ابن شعبة مجهول. واللَّه تعالى أعلم.

قال: ولأنه نصٌّ، وهذا قول من سمّينا من الصحابة والتابعين، ولا نعرف لهم في عصرهم مخالفًا، فيكون إجماعًا.

(القسم الرابع): نذر المعصية، فلا يحلّ الوفاء به إجماعًا؛ ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من نذر أن يعصي اللَّه فلا يعصه"، ولأن معصية اللَّه تعالى لا تحلّ في حال، ويجب على الناذر كفّارة يمين. روي نحو هذا عن ابن مسعود، وابن عبّاس، وجابر، وعمران بن حصين، وسمُرة بن جندب رضي الله عنهم. وبه قال الثوريّ، وأبو حنيفة، وأصحابه، وروي عن أحمد ما يدلّ على أنه لا كفّارة عليه، فإنه قال فيمن نذر لَيهدِمنّ دار غيره لبنةً لبنةً: لا كفّارة عليه، وهذا في معناه. وروي هذا عن مسروق، والشعبيّ، وهو مذهب مالك، والشافعيّ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا نذر في معصية اللَّه، ولا فيما لا يملك العبد". رواه مسلم. وقال: "ليس على الرجل نذرٌ فيما لا يملك". متّفقٌ عليه. وقال: "لا نذر إلا ما ابتُغي به وجه اللَّه". رواه أبو داود. وقال: "من نذر أن يعصي اللَّه فلا يعصه"، ولم يأمر بكفّارة. ولما نذرت المرأة التي كانت مع الكفارت، فنجت على ناقة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن تنحرها،

ص: 70

قالت: يا رسول اللَّه، إني نذرت إن أنجاني اللَّه عليها أن أنحرها؟ قال:"بئسما جزيتها، لا نذر في معصية اللَّه، ولا فيما لا يملك العبد". رواه مسلم، ولم يأمرها بكفّارة. وقال لأبي إسرائيل حين نذر أن يقوم في الشمس، ولا يقعد، ولا يستظلّ، ولا يتكلّم:"مُرُوه، فليتكلّم، وليجلس، وليستظلّ، وليُتِمّ صومه". رواه البخاريّ، ولم يأمره بكفّارة، ولأن النذر التزام الطاعة، وهذا التزام معصية، ولأنه نذر غير منعقد، فلم يوجب شيئًا، كاليمين غير المنعقدة.

ووجه الأول ما روت عائشة رضي الله عنها أنْ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: قال: "لا نذر في معصية، وكفّارته كفّارة يمين"، رواه الإمام أحمد في "امسنده"، وأبو داود في "سننه"، وقال الترمذيّ: هو حديث غريب. وعن أبي هريرة، وعمران بن حُصين رضي الله عنهم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثله.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح من حديث عائشة رضي الله عنها، لا من حديث أبي هريرة، وعمران رضي الله عنهما، كما سيأتي بيانه، إن شاء اللَّه تعالى.

قال: روى الجوزجانيّ بإسناده عن عمران بن حُصين قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "النذر نذران: فما كان من نذر في طاعة اللَّه، فذلك للَّه، وفيه الوفاء، وما كان من نذر في معصية اللَّه، فلا وفاء فيه، ويكفّره ما يكفّر اليمين". وهذا نصّ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث ضعيف، كما سيأتي قريبًا، إن شاء اللَّه

تعالى.

قال: ولأن النذر يمين، بدليل ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"النذر حَلْفَة"

(1)

. وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأخت عقبة رضي الله عنه لَمّا نذرت المشي إلى بيت اللَّه الحرام، فلم تطقه:"تكفّر يمينها"، صحيحٌ

(2)

أخرجه أبو داود. وفي رواية: "ولتصم ثلاثة أيام"

(3)

، قال أحمد: إليه أذهب. وقال ابن عبّاس في التي نذرت ذبح ابنها: كفّري يمينك

(4)

. ولو حلف على فعل معصية لزمته الكفّارة، فكذلك إذا نذرها.

فأما أحاديثهم، فمعناها لا وفاء بالنذر في معصية اللَّه، وهذا لا خلاف فيه، وقد جاء مصرّحًا به هكذا في رواية مسلم، ويدلّ على هذا أيضًا أن في سياق الحديث: "ولا

(1)

رواه أحمد في "مسنده" -16889 - عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، مرفوعًا، بلفظ:"إنما النذر يمين، كفارتها كفارة اليمين". وهو ضعيف؛ لأن في سنده عبد اللَّه بن لهيعة.

(2)

بل هو ضعيف بهذا اللفظ؛ لأنه من رواية شريك النخعي، وقد عنعنه، وهو متكلم فيه، ومدلّس أيضًا.

(3)

تقدّم أن حديث الأمر بالصيام ضعيف، وإنما الصحيح الأمر بالهدي، فتنبّه.

(4)

رواه البيهقيّ في "السنن الكبرى" 10/ 72 بإسناد صحيح موقوفًا.

ص: 71

يمين في قطيعة رحم"، يعني لا يبَرُّ فيها، ولو لم يبين الكفّارة في أحاديثهم، فقد بينها في أحاديثنا، فإن فعل ما نذره من المعصية، فلا كفّارة عليه، كما لو حلف ليفعلنّ معصيةً، ففعلها. ويحتمل أن تلزمه الكفّارة حتمًا؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم عيّن فيه الكفّارة، ونهى عن فعل المعصية.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الاحتمال الثاني هو الظاهر؛ لظاهر النصّ، فتأمّل.

والحاصل أن الأرجح وجوب الكفّارة على من نذر أن يفعل معصية، سواء تركها، وهو الواجب عليه، أو فعلها مع حرمتها؛ لإطلاق النصّ. واللَّه تعالى أعلم.

(القسم الخامس): المباح، كلبس الثوب، ورُكوب الدابّة، وطلاق المرأة على وجه مباح، فهذا يتخيّر الناذر فيه بين فعله، فيبَرُّ بذلك؛ لما رُوي أن امرأة أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدّفّ، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أوف بنذرك". رواه أبو داود. ولأنه لو حلف على فعل مباح برّ بفعله، فكذلك إذا نذره؛ لأن الناذر كاليمين، وإن شاء تركه، وعليه كفّارة يمين، ويتخرّج أن لا كفّارة فيه، فإن أصحابنا قالوا فيمن نذر أن يعتكف، أو يصلّي في مسجد معيّن: كان له أن يصلي، ويعتكف في غيره، ولا كفّارة، ومن نذر أن يتصدّق بماله كلّه: أجزأه الصدقة بثلثه بلا كفّارة، وهذا مثله. وقال مالك، والشافعيّ: لا ينعقد نذره؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا نذر إلا فيما ابتغي وجه اللَّه". وقد رَوَى ابن

عبّاس رضي الله عنهما قال: بينما النبيّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، إذا هو برجل قائم، فسأل عنه؟، فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يقوم في الشمس، ولا يستظلّ، ولا يتكلّم، ويصوم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"مروه، فليجلس، وليستظلّ، وليتكلّم، وليُتمّ صومه"، رواه البخاريّ. وعن أنس رضي الله عنه قال: نذرت امرأة أن تمشي إلى بيت اللَّه الحرام، فسئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال:"إن اللَّه لغني عن مشيها، مروها فلتركب". قال الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيح، ولم يأمر بكفّارة. وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يُهادى بين اثنين، فسأل عنه؟ فقالوا: نذر أن يحجّ ماشيًا، فقال:"إن اللَّه لغنيّ عن تعذيب هذا نفسه، مروه فليركب". متّفقٌ عليه، ولم يأمره بكفّارة، ولأنه نذرٌ غير موجب لفعل ما نذره، فلم يوجب كفّارةً، كنذر المستحيل.

قال: ولنا ما تقدّم في القسم الذي قبله، فأما حديث التي نذرت المشي، فقد أمر فيه بالكفارة في حديث آخر، ففيه زيادة عند أبي داود، ولفظه:"مروها، فلتركب، ولتكفّر عن يمينها"

(1)

، وهذه زيادة يجب الأخذ بها، ويجوز أن يكون الراوي للحديث روى البعض، وترك البعض، أو يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم ترك ذكر الكفّارة في بعض الحديث إحالةً

(1)

ضعيف بهذا اللفظ؛ لأن في سند شريكًا القاضي. وإنما الصحيح بلفظ: "ولتهد هديًا"، أو "ولتهد بدنة". واللَّه تعالى أعلم.

ص: 72

على ما عُلم من حديثه في موضع آخر.

ومن هذا القسم إذا نذر فعل مكروه، كطلاق امرأته، فإنه مكروه، بدليل قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أبغض الحلال إلى اللَّه الطلاق"

(1)

. فالمستحبّ أن لا يفي، ويكفّر، فإن وفى بنذره، فلا كفّارة عليه، والخلاف فيه كالذي قبله.

(القسم السادس): نذر الواجب، كالصلاة المكتوبة، فقال أصحابنا: لا ينعقد نذره، وهو قول أصحاب الشافعيّ؛ لأن النذر التزامٌ، ولا. يصحّ التزام ما هو لازم له. ويحتمل أن ينعقد نذره موجبًا كفّارة يمين إن تركه، كما لو حلف على فعله، فإن النذر كاليمين، وقد سمّاه النبيّ صلى الله عليه وسلم يمينًا، وكذلك لو نذر معصية.، أو مباحًا، لو يلزمه، ويكفّر إذا لم يفعله.

(القسم السابع): نذر المستحيل، كصوم أمس، فهذا لا ينعقد، ولا يوجب شيئًا؛ لأنه لا يُتصوّر انعقاده، ولا الوفاء به، ولو حلف على فعله لن تلزمه كفّارة، فالنذر أولى.

وعقدُ الباب في صحيح المذهب أن النذر كاليمين، وموجبه موجبها، إلا في لزوم الوفاء به، إذا كان قربةً، وأمكنه فعله، ودليل هذا الأصل قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لأخت عقبة لَمّا نذرت المشي، فلم تطقه:"ولتكفّر يمينها"

(2)

، وفي رواية:"فلتصم ثلاثة أيام"، قال أحمد: إليه أذهب. وعن عقبة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "كفّارة النذر كفّارة اليمين". أخرجه مسلم. وقول ابن عبّاس رضي الله عنهما للتي نذرت ذبح ولدها: "كفّري يمينك"

(3)

. ولأنه قد ثبت أن حكمه حكم اليمين في أحد أقسامه، وهو نذر اللجاج، فكذلك سائره في سوى ما استثناه الشرع. انتهى كلام ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-

(4)

، وإنما نقلته بطوله؛ لاستيفائه معظم أقوال أهل العلم بأدلتها في هذه الأقسام السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

وقال في "الفتح" في الكلام على حديث: "لا نذر في معصية اللَّه، ولا فيما لا يملك ابن آدم،: ما حاصله: اختُلف فيمن وقع منه النذر في ذلك، هل تجب فيه كفّارة؟، فقال الجمهور: لا، وعن أحمد، والثوريّ، واسحاق، وبعض الشافعيّة: نعم، ونقل

(1)

رواه أبو داود، وابن ماجه، وهو حديث ضعيف، ومنهم من حسّنه لطرقه.

(2)

تقدّم أنه ضعيف بلفظ: "ولتكفّر عن يمينها"، وكذا "فلتصم ثلاثة أيام"، وإنما الصحيح بلفظ:"ولتهد هديًا"، و"لتهد بدنة".

(3)

موقوف صحيح.

(4)

"المغني" 13/ 622 - 629.

ص: 73

الترمذيّ اختلاف الصحابة في ذلك كالقولين، واتفقوا على تحريم النذر في المعصية، واختلافهم إنما هو في وجوب الكفّارة، واحتجّ من أوجبها بحديث عائشة رضي الله عنها:"لا نذر في معصية، وكفّارته كفّارة يمين". أخرجه أصحاب السنن" ورواته ثقات، لكنه معلول، فإن الزهريّ رواه عن أبي سلمة، ثم بين أنه حمله عن سليمان بن أرقم، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، فدلّسه بإسقاط اثنين

(1)

، وحسّن الظنّ بسليمان، وهو عند غيره ضعيفٌ باتفاقهم. وحكى الترمذيّ عن البخاريّ أنه قال: لا يصحّ، ولكن له شاهدٌ من حديث عمران بن حصين، أخرجه النسائيّ -يعني في هذا الباب- وضعّفه، وشواهد أخرى ذكرتها آنفًا

(2)

. وفي الباب أيضًا عموم حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه: "كفارة النذر كفّارة يمين"، أخرجه مسلم.

وقد حمله الجمهور على نذر اللجاج والغضب، وبعضهم على النذر المطلق،، لكن أخرج الترمذيّ، وابن ماجه حديث عقبة رضي الله عنه بلفظ:"كفّارة النذر إذا لم يُسمّ كفّارة يمين"، ولفظ ابن ماجه: "من نذر نذرًا لم يسمّه، الحديث

(3)

.

وفي الباب حديث ابن عبّاس رضي الله عنها رفعه: "من نذر نذرًا لم يسمّه، فكفّارته كفّارة يمين"، أخرجه أبو داود، وفيه:"ومن نذر في معصية، فكفّارته كفّارة يمين، ومن نذر نذرًا لا يُطيقه، فكفّارته كفّارته يمين"، ورواته ثقات، لكنه أخرجه ابن أبي شيبة موقوفًا، وهو أشبه

(4)

.

وأخرجه الدارقطنيّ من حديث عائشة رضي الله عنهما

(5)

.

وحمله أكثر فقهاء أصحاب الحديث على عمومه، لكن قالوا: إن الناذر مخيّرٌ بين الوفاء بما التزمه، وكفارة اليمين.

(1)

لكن سيأتي للمصنّف برقم 3865 - بسند صحيح أن الزهريّ صرّح بالتحديث، فقال: حدثنا أبو سلمة، فالظاهر أنه ثابت عنه بالوجهين، فيكون الحديث صحيحًا، لتصريحه بالسماع. واللَّه تعالى أعلم.

(2)

ليُنظر، فإنه ما تقدّم له شاهد واحد يشهد لقوله:"وكفارته كفارة يمين" الذي محل الخلاف، فضلاً عن شواهد، بل كل ما تقدّم له لفظ:"لا نذر في معصية" وهو مما لا خلاف في صحته، فإن مسلمًا أخرجه، فيتنبّه.

(3)

أما رواية الترمذيّ، فتقدّم أنها ضعيفة، وأما رواية ابن ماجه، فأضعف منه لأن في سندها عبد الملك بن محمد الصنعانيّ، وهو ضعيف، وخارجة بن مصعب، متروك الحديث، يدلس عن الكذّابين، بل يقال: كذبه ابن معين.

(4)

الصحيح وقفه.

(5)

في إسناده غالب بن عبيد اللَّه العقيليّ مجمع على تركه، فتنبّه.

ص: 74

قال: ولو ثبتت الزيادة

(1)

لكانت مبيّنة لما أُجمل فيه.

واحتجّ بعض الحنابلة

(2)

بأنه ثبت عن جماعة من الصحابة، ولا يُحفظ عن صحابيّ خلافه، قال: والقياس يقتضيه؛ لأن النذر يمين كما وقع في حديث عقبة رضي الله عنه لما نذرت أخته أن تحج ماشيةً: "لتكفّر عن يمينها"

(3)

، فسقى النذر يمينًا، ومن حيث النظر هو عقدة للَّه تعالى بالتزام شيء، والحالف عقد يمينه باللَّه ملتزمًا بشيء، ثم بين أن النذر آكد من اليمين، ورتّب عليه أنه لو نذر معصيةً، ففعلها لم تسقط عنه الكفّارة، بخلاف الحالف، وهو وجه للحنابلة، واحتجّ له لأن الشارع نهى عن المعصية، وأمر بالكفّارة، فتعيّنت. انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-

(4)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما قاله فقهاء أصحاب الحديث من حملهم قوله في: "كفّارة النذر كفّارة يمين" على عمومه هو الحقّ؛ لعدم ثبوت تلك الزيادة التي اعتمد عليها من قيد عموم "كفّارة النذر كفّارة اليمين" بشي مما تقدّم، فدلّ على أن من نذر مخيّر بين الوفاء بما التزم، وبين كفّارة اليمين، فتنبّه.

هذا فيما إذا كان النذر نذر طاعة، أما إذا كان نذر معصية، فلا وفاء أصلاً، بل تجب الكفّارة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها، مرفوعًا:"لا نذر في معصية، وكفّارتها كفّارة اليمين"، وسيأتي أنه صحيح، ويؤيّده عموم حديث عقبة رضي الله عنه المذكور هنا:"كفارة النذر كفّارة اليمين"، وهو صحيح أيضًا.

والحاصل أن الراجح مذهب من أوجب الكفّارة في النذر مطلقًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3860 -

(أَخْبَرَنَا كَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير أنه منقطع، و"الزُّبيديّ": هو محمد بن الوليد الحمصيّ، والثلاثة الأولون حمصويّون، والآخرون مدنيّون.

والحديث ضعيفٌ للانقطاع بين الزهريّ، وبين القاسم؛ لكنه يصحّ بما يأتي قريبًا،

(1)

أي زيادة "إذا لم يُسمّ"، وقد عرفت أنها غير ثابتة، فلا تغفل.

(2)

الظاهر أنه أراد به ابن قُدامة، فإن هذا الكلام تقدّم أن نقلناه عنه. واللَّه تعالى أعلم.

(3)

تقدم أنه ضعيف بهذا اللفظ.

(4)

"فتح" 13/ 447. "كتاب الأيمان والنذور- باب النذ فيما لا يملك، وفي معصية".

ص: 75

إن شاء اللَّه تعالى.

وشرح الحديث مضى في -17/ 3819 - "اليمين فيما لا يملك"، تفرّد به المصنّف، فأخرجه هنا-41/ 3860.

[تنبيهات]: (الأول): هذا الحديث، والأحاديث التي بعده لم يخرجها المصنّف في "الكبرى"، فإنه لم يذكر من أحاديث الباب، إلا الحديث الأوّل، حديثَ عقبة بن عامر رضي الله عنه الماضي فقط.

(الثاني): أن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- قد أجاد في هذا الباب كما هو عادته غالبًا في استيفاء طرق حديث الباب الواحد، إذا كثرت الاختلافات، فإنه يعتني باستقصائها، فيورد أولاً الطرق المعلّلة، ثم يأتي آخرًا بالطريق الصحيح، فقد ذكر في أول الباب حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه الذي أخرجه مسلم، فاقتصر على طريق واحد؛ لعدم الاختلاف فيه.

ثم أورد حديث عائشة رضي الله عنها، بطرقه المختلفة، فقدم المنقطع، وهو رواية الزُّبيديّ، عن الزهريّ، ثم أتبعه برواية يونس، عنه بأربعة أوجه، وهي محتملة للاتّصال، والانقطاع، حيث إنها كلها معنعنة، وقد أشار في آخرها إلى ما قيل فيها من الانقطاع، حيث قال: وقد قيل: إن الزهريّ لم يسمع هذا من أبي سلمة، ثم أتبعها بروايته التي صرّح فيها الزهريّ بتحديث أبي سلمة له، وهذه هي الرواية الصحيحة، وظاهر صنيعه يدلّ على أنه يرجّحها، كما يرشد إلى ذلك تعبيره: بقد قيل. فليُتأمّل.

ثم أورد رواية الزهريّ، عن سليمان بن أرقم، وضعّفها، وبين الاختلاف على يحيى ابن أبي كثير، فإن في رواية سليمان بن أرقم عنه، جعله عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها، وفي رواية عليّ بن المبارك، والأوزاعيّ، وعبد اللَّه بن بِشْر، جعله عن محمد ابن الزبير، عن أبيه، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما، وبيّن أن محمد بن الزبير ضعيف، لا تقوم به حجة، مع أن الرواة اختلفوا عليه، فرواه يحيى بن أبي كثير، وحماد بن زيد عنه كما مرّ آنفًا، ورواه ابن إسحاق، وعبد الوارث بن سعيد، كلاهما عنه، عن أبيه، عن رجل، عن عمران رضي الله عنه، ورواه الثوريّ، وأبو بكر النهشليّ، كلاهما عنه، عن الحسن البصريّ، عن عمران رضي الله عنه. ورواه منصور بن زاذان، عن الحسن، عن عمران رضي الله عنه، مع مخالفة في لفظه. وخالفه عليّ بن زيد بن جُدعان، فرواه، عن الحسن، عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه، وذكر -رحمه اللَّه تعالى- أن رواية عليّ بن زيد، عن الحسن، عن عبد الرحمن رضي الله عنه خطأ، والصواب رواية الآخرين عن عمران رضي الله عنه، مع أن روايته أيضًا ضعيفة، حيث إن الحسن لم يسمع من عمران ن رضي الله عنه، كما سيأتي بيانه،

ص: 76

إن شاء اللَّه تعالى.

ثم ختم الباب بذكر الحديث الصحيح لعمران بن حصين رضي الله عنهما، وهو ما رواه أيوب، عن أبي قلابهّ، عن عمه أبي المهلّب، عنه رضي الله عنه.

فتلخّص مما ذُكر أن حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه المذكور أول الباب، بلفظ:"كفّارة النذر كفّارة اليمين" صحيح، وكذلك حديث عائشة رضي الله عنها الذي صرّح به الزهريّ بسماعه عن أبي سلمة، بلفظ:"لا نذر في معصية، وكفّارتها كفّارة اليمين"، وكذلك حديث عمران الذي رواه عنه أبو قلابة، عن عمه، عنه رضي الله عنه، بلفظ:"لا نذر في معصية، ولا فيما لا يملك بن آدم".

فلله درّه، ما أحسن استيفاءه لطرق الحديث، حتى يتبيّن ما وقع فيها من العلل، فيميّز المعلّ من الصحيح، فرحمه اللَّه تعالى، وأحسن إليه، كما أحسن إلينا. واللَّه تعالى أعلم.

(الثالث): قال في "التلخيص الحبير": حديث: "لا نذر في معصية اللَّه، وكفّارته كفّارة يمين" هذا الحديث بهذه الزيادة، رواه النسائيّ، والحاكم، والبيهقيّ، ومداراه على محمد بن الزبير الحنظليّ، عن أبيه، عن عمران بن حصين، ومحمد ليس بالقويّ، وقد اختُلف عليه فيه، ورواه ابن المبارك، عن عبد الوارث، عنه، عن أبيه، أن رجلاً حدثه أنه سأل عمران بن حصين، عن رجل حلف أنه لا يصلّي في مسجد قومه؟ فقال عمران: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا نذر في معصية، وكفّارته كفّارة يمين"، فقلت: يا أبا نُجيد إن صاحبنا ليس بالموسر فيم يكفّر؟ فقال: لو أن قومًا قاموا إلى أمير من الأمراء، فكساهم كلّ إنسان قلنسوةً، لقال الناس: قد كساهم كلَّ إنسان قلنسوةً، لقال الناس: قد كساهم الأمير". وإسناد ضعيف، وله طريق أُخرى إسنادها صحيح، إلا أنه معلول، ورواه أحمد، وأصحاب السنن، والبيهقيّ، من رواية الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة

(1)

، وهو منقطع، لم يسمعه الزهريّ من أبي سلمة، وقد رواه أبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، من حديث سليمان بن بلال، عن موسى ابن عقبة، ومحمد بن أبي عتيق، عن الزهريّ، عن سليمان بن أرقم، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها، قال النسائيّ: سليمان بن أرقم متروك، وقد خالفه غير واحد من أصحاب يحيى بن أبي كثيرً -يعني فرووه عن يحيى بن أبي كثير،

(1)

هكذا نسخة "التلخيص"، ولعله تصحّف من عائشة؛ لأن المصادر التي عزا إليها أخرجته من حديث عائشة رضي الله عنها، لا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فليحرّر. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 77

عن محمد بن الزبير الحنظليّ، عن أبيه، عن عمران، فرجع إلى الرواية الأولى. ورواه عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن رجل من بني حنيفة، وأبي سلمة، كلاهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلاً، والحنفيّ هو محمد بن الزبير، قاله الحاكم، وقال: إن قوله: من بني حنيفة تصحيف، وإنما هو من بني حنظلة، وله طريق أخرى عن عائشة، رواها الدارقطنيّ من رواية غالب بن عبيد اللَّه الجزريّ، عن عطاء، عن عائشة، مرفوعًا:"من جعل عليه نذرًا في معصية، فكفّارته كفّارة يمين"، وغالب متروك. وللحديث طريق أخرى، رواه أبو داود من حديث كريب، عن ابن عبّاس، وإسناده حسن

(1)

، فيه طلحة بن يحيى، وهو مختلفٌ فيه، وقال أبو داود: روي موقوفًا -يعني وهو أصحّ. وقال النوويّ في "الروضة": حديث: "لا نذر في معصية، وكفّارته كفّارة يمين" ضعيفٌ باتّفاق المحدّثين. قال الحافظ: قد صححه الطحاويّ، وأبو عليّ بن السكن، فأين الاتّفاق؟. انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: خلاصة القول في زيادة "وكفّارته كفّارة يمين" أنها لا تصحّ مرفوعًا، إلا من حديث عائشة رضي الله عنها من طريق الزهريّ، عن أبي سلمة التي صرّح فيها الزهريّ بتحديث أبي سلمة له، كما سيأتي، ويؤيّدها عموم حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه المرفوع:"كفّارة النذر كفّارة اليمين"، فيستفاد منه ترجيح قول من قال: بوجوب الكفّارة في النذر مطلقًا، طاعةً كان، أو معصية، كما قال به جمهور فقهاء المحدّثين، فتبصّر، ولا تتحيّر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3861 -

(أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. والحديث ضعيف؛ لأن في إسناده انقطاعًا، فإن الزهريّ لم يسمعه من أبي سلمة، بل سمعه من سليمان بن أرقم، وهو متروك، عن يحيى بن أبي كثير، كما سيبيّنه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- قريبًا.

وشرحه يعلم مما سبق، وأخرجه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- هنا - 41/ 3861

(1)

لكن الحديث ضعيف؛ لأن الحفّاظ أوقفوه على ابن عبّاس، وخالفهم طلحة بن يحيى، وتفرّد

برفعه، فصارت روايته منكرة. واللَّه تعالى أعلم.

(2)

"التلخيص الحبير" 4/ 323 - 324.

ص: 78

و 3862 و 3863 و 3864 و 3865 و 3866 - وأخرجه (د) في "الأيمان والنذور" 3290 و 3291 (ت) في "النذور والأيمان" 1524 (ق) في "الكفّارات"2125. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3862 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ الْمُخَرِّمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"ابن المبارك": هو عبد اللَّه. و"يونس": هو ابن يزيد الأيليّ. والحديث ضعيف؛ لأن في سنده انقطاعًا، كما تقدّم بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3863 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "إسحاق بن منصور": هو الكَوْسَج. و"عثمان بن عُمر": هو العبديّ البصريّ، بخاريّ الأصل. والحديث ضعيف، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3864 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَفْوَانَ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» .

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الزُّهْرِيَّ لَمْ يَسْمَعْ هَذَا مِنْ أَبِي سَلَمَةَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال الإسناد رجال الصحيح، إلا أنه منقطع، كما بينه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-. و"أبو صفوان": هو عبد اللَّه بن سعيد بن عبد الملك بن مروان الأمويّ الدمشقيّ، نزيل مكة، ثقة [9] 65/ 1790.

وقوله: "إن الزهريّ لم يسمعه هذا الحديث من أبي سلمة" يعني أنه منقطع، كما سيأتي وجه الانقطاع قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.

والحاصل أن الحديث ضعيف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3854 -

(أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ مُوسَى الْفَرْوِيُّ

(1)

، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، عَنْ يُونُسَ،

(1)

بفتح الفاء، وسكون الراء: نسبة إلى أبي فروة أحد أجداده.

ص: 79

عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ

(1)

، وَكَفَّارَتُهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "هارون بن موسى الفَرْوِيّ": هو المدنيّ، لا بأس به، من صغار [10] 22/ 1229. و"أبو ضمرة": هو أنس بن عياض بن ضمرة الليثيّ المدنيّ، ثقة [8] 22/ 1229.

هذه الرواية فيها تصريح الزهريّ بالسماع من أبي سلمة، ورجالها رجال الصحيح، غير شيخه، وهو ثقة.

وقوله: "وكفّارتها"، وفي نسخة:"وكفارته" بتذكير الضمير، وهو واضحٌ، وللأولى أيضًا وجه، وهو أنه إنما أنثه باعتبار أن النذر في المعصية معصية، فعاد إليه الضمير مؤنثًا على المعنى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3866 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ، وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ، أَنَّ يَحْيَى بْنَ أَبِي كَثِيرٍ، الَّذِي كَانَ يَسْكُنُ الْيَمَامَةَ، حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَمَةَ، يُخْبِرُ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ» .

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ

(2)

: سُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، خَالَفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن إسماعيل الترمذيّ": هو أبو إسماعيل السلمي، نزيل بغداد، ثقة حافظ [11] 30/ 558. و"أيوب بن سليمان": هو أبو يحيى المدنيّ، ثقة [9] 30/ 558. و"أبو بكر بن أبي أويس": هو عبد الحميد بن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن أويس الأصبحي المدنيّ، ثقة [9] 30/ 558. و"سليمان بن بلال": هو التيميّ، والد أيوب الراوي عن أبي بكر بن أبي أويس المدنيّ، ثقة [8] 30/ 558.

و"محمد بن أبي عَتيق": هو محمد بن عبد اللَّه بن أبي عتيق محمد بن عبد الرحمن ابن أبي بكر الصدّيق القرشيّ التيميّ المدنيّ، مقبول [7].

روى عن أبيه، وأنس، إن كان محفوظًا، ونافع، والزهريّ، وغيرهم. وعنه سليمان ابن بلال، والدراورديّ، وابن إسحاق، وغيرهم. ذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال

(1)

وفي نسخة: "في معصية اللَّه".

(2)

وسقط في بعض النسخ "أبو عبد الرحمن".

ص: 80

الذهليّ: ابن أبي ذئب، وابن أبي عَتيق مُقاربان في الرواية عن الزهريّ، فأما ابن أبي ذئب فمشهور، وأما ابن أبي عَتيق، فهو مدنيّ لم يرو عنه فيما علمت غيرُ سليمان بن بلال، وسمعت أيوب بن سليمان، سئل عن نسبه؟ فذكره، وقال: ما علمت أحدًا روى عنه بالمدينة غير أبي. قال الذهليّ: هو حسن الحديث عن الزهريّ، كثير الرواية، مقارب الحديث، لولا أن سليمان بن بلال قام بحديثه لذهب حديث. روى له البخاريّ، مقرنًا، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط

و"موسى بن عقبة": هو الأسديّ مولى آل الزبير المدنيّ، ثقة، فقيه، إمام في المغازي [5] 96/ 122.

و"سليمان بن أرقم"، أبو معاذ البصريّ، مولى الأنصار، وقيل: مولى قريش، وقيل: مولى قريظة، أو النضير، ضعيفٌ [7].

قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: لا يَسوَى حديثه شيئًا. وقال ابن معين: ليس بشيء، لشى يَسوَى فلسًا. وقال عمرو بن عليّ: ليس بثقة، روى أحاديث منكرة. قال: وقال محمد بن عبد اللَّه الأنصاريّ: كانوا ينهوننا عنه، ونحن شُبّان، وذكر عنه أمرًا عظيمًا. وقال البخاريّ: تركوه. وقال الآجريّ، عن أبي داود: متروك الحديث، قلت لأحمد: روى عن الزهريّ، عن أنس في التلبية، قال: لا نبالي روى أم لم يرو. وقال أبو حاتم، والترمذيّ، وابن خرَاش، وأبو أحمد الحاكم، والدارقطنيّ، وغير واحد: متروك الحديث. وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث، ذاهب الحديث. وقال الجُوزجانيّ: ساقطٌ. وقال ابن عديّ: عامة ما يرويه لا يُتابع عليه. وقال مسلم في "الكنى": منكر الحديث. وقال النسائيّ هنا: متروك الحديث، وقال في، التمييز": لا يُكتب حديثه. وقال ابن حبّان: سكن اليمامة، ومولده بالبصرة، وكان ممن يقلب الأخبار، ويروي عن الثقات الموضوعات. وقال الترمذيّ: ضعيف الحديث. روى له أبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب حديثان فقط: هذا الحديث، وحديث رقم-47/ 4854 - "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمامة بكتاب فيه الفرائض

" الحديث.

وقوله: "يسكن اليمامة" -بفتح المثنّاة التحتيّة، وتخفيف الميم-: بلدة من بلاد العوالي، وهي بلاد بني حنيفة، قيل: من عُرُوض اليمن، وقيل: من بادية الحجاز. قاله الفيّوميّ.

والحديث ضعيف، كما أشار إليه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-.

ص: 81

وقوله: خالفه غير واحد الخ" يعني أنه خالف سليمان بن أرقم في رواية هذا الحديث غير واحد من أصحاب يحيى بن أبي كثير، فرووه عنه، عن محمد بن الزبير الحنظليّ، عن أبيه، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما، فخالفوه في الإسناد، وجعلوه من مسند عمران ابن حُصين رضي الله عنهما، وهو جعله من مسند عائشة رضي الله عنها، وقد بين هذا المصنّف بما ساقه هنا، فقال:

3867 -

(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَهُوَ عَلِيٌّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْحَنْظَلِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عليّ بن المبارك": هو الْهُنائيّ البصريّ، ثقة، كان له عن يحيى بن أبي كثير كتابان: أحدهما سماع، والآخر إرسال، فحديث الكوفيين عنه فيه شيء، من كبار [7] 28/ 1411.

و"محمد بن الزبير" التميميّ الحنظليّ البصريّ، متروك [6].

قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ضعيف، لا شيء. وقال أبو حاتم: ليس بالقويّ، في حديثه نكارة. وقال البخاريّ: منكر الحديث، وفيه نظر. وقال النسائيّ: ضعيف. وقال في موضع آخر: ليس بثقة. وقال ابن عديّ: بصريّ، كوفيّ الأصل، قليل الحديث، والذي يرويه غرائب، وأمراد. وقال الساجيّ: كان شعبة لا يرضاه. وأسند ابن عديّ من طريق أبي داود الطيالسيّ: قلت لشعبة: مالك لا تحدّث عن محمد بن الزبير؟ فقال: مرّ به رجلٌ، فافترى عليه، فقلت له؟ فقال: إنه غاظني. روى له أبو داود في "المراسيل"، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب حديث عمران رضي الله عنه هذا فقط. و"أبوه": الزبير التميمي الحنظليّ البصريّ، ليّن الحديث [5].

روى عن عمران بن حُصين رضي الله عنها، وقيل: عن رجل، عن عمران. وعنه ابنه محمد. ذكر عبّاس الدُّوري، عن ابن معين، قال: قيل لمحمد بن الزبير: سمع أبوك من عمران؟ فقال: لا. وذكره أبو العرب الصَّقْليّ في "الضعفاء". تفرّد به المصنّف - رحمه اللَّه تعالى - بحديث عمران رضي الله عنه هذا فقط.

والحديث ضعيف؛ لضعف محمد بن الزبير، وأبيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3868 -

(أَخْبَرَنِي

(1)

عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو -وَهُوَ

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 82

الأَوْزَاعِيُّ -عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْحَنْظَلِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عمرو بن عثمان": هو الحمصيّ. "وبقيّة": هو ابن الوليد الحمصيّ. و"أبو عمرو": هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعيّ. والحديث ضعيف، كما سبق بيانه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3869 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ الْحَنْظَلِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا نَذْرَ فِي غَضَبٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» .

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ:: مُحَمَّدُ بْنُ الزُّبَيْرِ ضَعِيفٌ، لَا يَقُومُ بِمِثْلِهِ حُجَّةٌ، وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عليّ بن ميمون": هو الرّقّيّ العطّار، ثقة [10] 28/ 435. و"مُعَمَّر-بضمّ الميم، وفتح المهملة، وتشديد الميم الثانية، بوزن مُحَمَّد- ابن سليمان": هو النخعَيّ، أبو عبد اللَّه الرَّقي، ثقة فاضل، أخطأ في تليينه الأزديّ [9] 66/ 1798.

[تنبيه]: وقع في نسخة: "معتمر" بدل مُعَمَّر، وهو غلط فاحش، والصواب "مُعَمَّر" بوزن محمّد، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

و"عبد اللَّه بن بِشْر" -بكسر الموحّدة، وسكون الشين المعجمة- الرّقّيّ القاضي، كوفيّ الأصل، اختلف فيه قول ابن معين، وابن حبّان، وقال أبو زرعة، والنسائيّ: لا بأس به، وقال ابن عديّ: أحاديثه عندي مستقيمة. وحكى البزّار أنه ضعيف في الزهريّ خاصة [7]. تفرّد به المصنّف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

وقوله: "وقد اختُلف عليه في هذا الحديث" يعني أن الرواة اختلفوا على محمد بن الزبير الحنظلي في رواية هذا الحديث، فرواه بعضهم عنه، عن أبيه، عن عمران، بلفظ:"لا نذر في معصية، وكفّارته كفّارة يمين"، وبعضهم بلفظ:"لا نذر في غضب، وكفارته كفّارة اليمين"، ورواه بعضهم عنه، عن أبيه، عن رجل من أهل البصرة، عن عمران، بلفظ: "النذر نذران: فما كان من نذر طاعة

" الحديث، ورواه بعضهم عنه، عن الحسن، عن عمران، بلفظ: "لا نذر في معصية، ولا غضب، وكفّارته كفّارة يمين". واللَّه تعالى أعلم.

والحديث ضعيف، كما مرّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب،

ص: 83

وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3870 -

(أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِمْرَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا نَذْرَ فِي غَضَبٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ»).

قال الجامع عفا اللَّهَ تعالى عنه: "إبراهيم بن يعقوب": هو الْجُوزجانيّ الحافظ. و"الحسن بن موسى،: هو الأشيب، أو عليّ البغداديّ. و"شيبان": هو ابن عبد الرحمن النحويّ البصريّ، ثم الكوفيّ. و"يحيى": هو ابن أبي كثير.

والحديث ضعيف، كما تقدّم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3871 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، أَنْبَأَنَا حَمَّادٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِمْرَانَ، قَالَ: قَالَ: النَّبِيُّ

(1)

صلى الله عليه وسلم «لَا نَذْرَ فِي غَضَبٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» .

وَقِيلَ إِنَّ الزُّبَيْرَ لَمْ يَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "حماد": هو ابن زيد. و"محمد": هو ابن الزبير المتقدِّم. والحديث ضعيف، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله: "وقيل: إن الزبير لم يسمع الخ" يعني أنه قيل: لم يسمع الزبير والد محمد هذا الحديث من عمران بن حصين، بل بينهما واسطة، كما بيّنه بقوله:

3872 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، قَالَ: صَحِبْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «النَّذْرُ نَذْرَانِ: فَمَا كَانَ مِنْ نَذْرٍ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، فَذَلِكَ لِلَّهِ، وَفِيهِ الْوَفَاءُ، وَمَا كَانَ مِنْ نَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَذَلِكَ لِلشَّيْطَانِ، وَلَا وَفَاءَ فِيهِ، وَيُكَفِّرُهُ مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن وهب" بن عمر بن أبي كَرِيمة، أبو المعافَى الحرّانيّ، صدوق [10] 191/ 306. من أفراد المصنّف. و"محمد بن سلمة": هو الحرّانيّ. و"ابن إسحاق": هو محمد صاحب المغازي.

والحديث ضعيف، وساقه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- لبيان ما قيل: إن الزبير لم يسمع هذا الحديث من عمران بن حصين، وإنما سمعه بواسطة، وتلك الواسطة رجلٌ

(1)

وفي نسخة: "رسول اللَّه".

ص: 84

مجهول. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3873 -

(أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْحَنْظَلِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، أَنَّ رَجُلاً حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَأَلَ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ، عَنْ رَجُلٍ نَذَرَ نَذْرًا، لَا يَشْهَدُ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ قَوْمِهِ، فَقَالَ عِمْرَانُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «لَا نَذْرَ فِي غَضَبٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "إبراهيم بن يعقوب": تقدّم قبل حديثين. و"مُسدّد": هو ابن مُسرهَد بن مُسربل بن مستورد الأسديّ، أبو الحسن البصريّ ثقة ثبت حافظ، يقال: إنه أول من صنّف المسند بالبصرة [10] له عند المصنّف حديثان فقط، هذا، وحديث "احفروا، وأحسنوا

" الحديث في "كتاب الجنائز" - 90/ 2017. و"عبد الوارث": هو ابن سعيد بن ذكوان العنبريّ التَنُّوريّ البصريّ.

وقوله: "لا يشهد الصلاة في مسجد الخ" الظاهر أنه نذر غضبًا على بعض الناس ممن يُصلّي في ذلك المسجد، فأجابه عمران بأنه لا نذر في حال غضب.

والحديث ضعيف، كما من، وأتى به المصنّف أيضًا لبيان أن الزبير لم يسمع هذا الحديث من عمران رضي الله عنه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3874 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَلَا غَضَبٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن حرب": هو الطائيّ الْمَوْصليّ، صدوق [10] 102/ 135 من أفراد المصنّف. و"أبو داود": هو عمر بن سعد بن عُبيد الْحَفَريّ، ثقة عابد [9] 15/ 523. و"سفيان": هو ابن سعيد الثوريّ. و"الحسن": هو ابن أبي الحسن/ يسار البصريّ الإمام المشهور.

والحديث ضعيف؛ لما تقدّم، ولأن الحسن لم يسمع من عمران بن حصين رضي الله عنهما، كما قال بذلك الأئمة: أحمد بن حنبل، وابن معين، وأبو حاتم، وابن المدينيّ، انظر "تهذيب التهذيب" 1/ 388 - 391. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3875 -

(أَخْبَرَنَا هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سُلَيْمٍ -وَهُوَ عُبَيْدُ بْنُ يَحْيَى- قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ النَّهْشَلِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ،

ص: 85

قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا نَذْرَ فِي الْمَعْصِيَةِ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "هلال بن العلاء": هو الباهليّ مولاهم، أبو عمر الرّقيّ، صدوق [11] 10/ 1199 من أفراد المصنّف.

"وأبو سُليم عُبيد بن يحيى" الأسديّ الكوفيّ، نزل الرَّقّة، ثقة مقرىء [10].

قال النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". مات بالرقّة على رأس المائتين. تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

و"أبو بكر النَّهْشَليّ": قيل: اسمه عبد اللَّه بن قطاف، أو ابن أبي قطاف، وقيل: وهب، وقيل: معاوية، صدوقٌ، رُمي بالإرجاء [1] 26/ 1259.

والحديث ضعيف؛ كما سبق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعبم الوكيل.

وقوله (خَالَفَهُ مَنْصُورُ بْنُ زَاذَانَ فِي لَفْظِهِ) يعني أن منصور بن زاذان خالف محمد بن الزبير في لفظ الحديث، كما بيّنه بقوله:

3876 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَنْصُورٌ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: قَالَ -يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «لَا نَذْرَ لاِبْنِ آدَمَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَلَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عز وجل» .

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "يعقوب بن إبراهيم": هو الدَّوْرقيّ، أبو يوسف البغداديّ، ثقة [10] 21/ 22. و"هُشيم": هو ابن بَشير، أبو معاوية ابن أبي خازم الواسطي ثقة ثبت، كثير التدليس، والإرسال الخفيّ [7] 88/ 109. و"منصور": هو ابن زاذان، أبو المغيرة الثقفيّ، الواسطيّ، ثقة ثبت عابد [6] 5/ 475.

والحديث ضعيف؛ للانقطاع، كما سبق قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (خَالَفَهُ عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ فَرَوَاهُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ.) يعني أنه خالف عليّ بن زيد بن جُدعان خالف منصور بن زاذان في روايته عن الحسن، عن عمران رضي الله عنه، فرواه عن الحسن، عن عبد الرحمن بن سمُرة رضي الله عنه، كما بيّنه بقوله:

3877 -

(أَخْبَرَنِي

(1)

عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ تَمِيمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ» .

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 86

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عليّ بن محمد بن عليّ": هو المصّيصيّ القاضي، ثقة [11] 83/ 2415 من أفراد المصنّف. و"خلف بن تَميم": هو أبوعبد الرحمن الكوفيّ، نزيل المِصِّيصة، صدوق عابد [9] 83/ 2415. و"زائدة": هو ابن قُدامة الثقفيّ، أبو الصلت الكوفيّ، ثقة ثبت [7] 74/ 91.

و"عليّ بن زيد بن جُدعان": هو عليّ بن زيد بن عبد اللَّه بن أبي مُليكة زُهير بن عبد اللَّه بن جُدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مُرّة التيمي، أبو الحسن البصريّ، أصله من مكّة، نُسب أبوه إلى جدّ جدّه، ضعيفٌ [4].

قال ابن سعد: وُلد أعمى، وكان كثير الحديث، وفيه ضعف، ولا يُحتجّ به. وقال أحمد: ليس بالقويّ، روى عنه الناس. وعنه ليس بشيء. وعنه: ضعيف الحديث. وعن يحيى بن معين: ضعيف في كلّ شيء، وعنه: ليس بذاك القويّ. وقال العجليّ: كان يتشيّع، لا بأس به. وقال مرّة: يكتب حديثه، وليس بالقويّ. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة، صالح الحديث، وإلى الضعف ما هو. وقال الجُوزجانيّ: واهي الحديث، ضعيف، وفيه ميلٌ عن القصد، لا يُحتجّ بحديثه. وقال أبو زرعة: ليس بقويِّ. وقال أبو حاتم: ليس بقويّ، يكتب حديثه، ولا يُحتجّ به، وكان يتشيّع. وقال الترمذيّ: صدوقٌ إلا أنه ربّما رفع الشيء الذي يوقفه غيره. وقال النسائيّ: ضعيف. وقال ابن خزيمة: لا أحتجّ به لسوء حفظه. وقال ابن عديّ: لم أر أحدًا من البصريين وغيرهم امتنع من الرواية عنه، وكان يغلو في التشيّع، ومع ضعفه يُكتب حديثه. وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالمتين عندهم. وقال الدارقطنيّ: أنا أقف فيه، لا يزال عندي فيه لين. وقال معاذ بن معاذ، عن شعبة: حدثنا علي بن زيد قبل أن يختلط. وقال أبو الوليد وغيره، عن شعبة: حدثنا عليّ بن زيد، وكان رفّاعًا. وقال حماد بن زيد: كان يقلب الأحاديث. وفي رواية: كان يُحدثنا اليوم بالحديث، ثم يحدّثنا غدًا، فكأنه ليس بذاك. وقال عمرو بن عليّ: كان يحيى بن سعيد حدّث عنه مرّة، ثم تركه. وعن ابن عيينة، قال: كتبت عنه كتابا كثيرًا، فتركته زهدًا فيه. وقال يزيد بن زريع: رأيته، ولم أحمل عنه؛ لأنه كان رافضيًّا. وقال ابن حنان: يَهِم ويخطىء، فأكثر ذلك منه، فاستحقّ الترك. وقال غيره: أنكر ما روى ما حدّث به حماد بن سلمة، عنه، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد رضي الله عنه، رفعه:"إذا رأيتم معاوية على هذه الأعواد، فاقتلوه". وأخرجه الحسن بن سفيان في "مسنده" عن إسحاق، عن عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن علي بن زيد، والمحفوظ عن عبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان، عن عليّ. ولكن لفظ ابن عيينة:"فارجموه"، أورده ابن عديّ، عن الحسن بن سفيان.

ص: 87

وقال سعيد الجريريّ: أصبح فقهاء البصرة عُميان: قتادة، وعلي بن زيد، وأشعث الحُدّاني. مات سنة (129) وقيل: سنة (131). روى له البخاريّ في " الأدب المفرد،، ومسلم مقرونًا بغيره، والأربعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديثان فقط: هذا، وحديث رقم: 33/ 4799 - : "الحمد للَّه الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده

" الحديث. والحديث ضعيف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ:: عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ ضَعِيفٌ، وَهَذَا الْحَدِيثُ خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ) أراد به أن الصواب في هذا الحديث كونه عن الحسن، عن عمران رضي الله عنه، لا عن الحسن، عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه؛ لمخالفة عليّ بن زيد، وهو ضعيف، منصورَ بنَ زاذان، وهو ثقة حافظ، وليس غرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا تصحيح الحديث من رواية الحسن، عن عمران، وإنما مراده بيان الأخفّ ضعفًا، والأشدّ ضعفًا، فكونه من مسند عبد الرحمن رضي الله عنه أضعف من كونه من مسند عمران رضي الله عنه.

والحاصل أن الحديث لا يصحّ من كلا الوجهين، وإنما الصحيح من حديث عمران رضي الله عنه ما رواه أبو قلابة، عن عمه، عنه، فإنه صحيح؛ لاتصاله، وثقة رجاله، كما أشار إليه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، بقوله:

(وَقَدْ رُوِىَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.:

3878 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَيُّوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا

(1)

أَبُو قِلَابَةَ، عَنْ عَمِّهِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث أخرجه مسلم، وقد تقدّم سندًا، ومتنًا في -31/ 3839 - "النذر فيما لا يملك"، وتقدّم شرحه، وبيان مسائله، هناك، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

و"محمد بن منصور": هو الْجوّاز المكيّ. و"سفيان": هو ابن عيينة. و"أيوب": هو ابن أبي تَميمة السَّخْتيانيّ. و"أبو قِلابة": هو عبد اللَّه بن زيد بن عمرو الجَرْميّ. و"عمه": هو أبو المهلّب، عمرو بن معاوية، وقيل: غيره، الجرميّ البصريّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 88

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌42 - (مَا الْوَاجِبُ عَلَى مَن أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ نَذرًا، فَعَجَزَ عَنْهُ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: إنما ترجم المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بصيغة الاستفهام، ولم يبين جوابه؟ لكون المسألة مختلفًا فيها بين العلماء، فالجمهور يوجبون عليه الهدي، والشافعيّ يستحبّها، كما قال القرطبيّ، وحجة الجمهور حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه في قصّة أخته، المتقدّمة، ففيها:"مرها فلتركب، ولتختمر، ولتهد هديًا"، وفي رواية:"بدنةً"، قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: وزيادة الهدي رواها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مع عقبة بن عامر ابنُ عبّاس رضي الله عنهم، ورواها عنهما الثقات، فلا سبيل إلى ردّها، وليس سكوت من سكت عنها حجة على من نطق بها، وقد عمل بها الجماهير من السلف وغيرهم. انتهى"

(1)

.

لكن ظاهر صنيع المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- يرجح عدم الوجوب، حيث إنه أورد حديث أنس رضي الله عنه في الرجل الذي أمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يركب، ولم يأمره بالهدي، والذي قاله الجمهور أظهر؛ لحديث أخت عقبة رضي الله عنهما، فالسكوت في هذا الحديث لا ينفي ثبوته في غيره. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3879 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَقَالَ: «مَا هَذَا؟» ، قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ. قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ، مُرْهُ فَلْيَرْكَبْ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) المعروف بابن راهويه الحنظليّ المروزيّ، ثقة ثبت [10] 2/ 2.

2 -

(حمّاد بن مسعدة) التميميّ، أبو سعيد البصريّن ثقة [9] 97/ 1040.

(1)

"المفهم" 4/ 617 - 618.

ص: 89

3 -

(حميد) بن أبي حميد الطويل، أبو عبيدة البصريّ، ثقة مدلس [5] 87/ 108.

4 -

(ثابت) بن أسلم البُنَانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقة عابد [4] 53/ 45.

5 -

(أنس) بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، سوى شيخه، فمروزيّ، ثم نيسابوريّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه أنس من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة، مات سنة (92) أو (93)، وقد جاوز المائة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ ثَابِتٍ) وقد صرّح حميد بالتحديث عند البخاريّ، فقال: حدّثني ثابتٌ، قال في "الفتح": هَكذا قال أكثر الرواة عن حميد، وهذا الحديث مما صرّح حميد فيه بالواسطة بينه وبين أنس، وقد حذفه في وقت آخر، فأخرجه النسائيّ -يعني الرواية الثالثة- من طريق يحيى بن سعيد الأنصاريّ، والترمذيّ من طريق ابن أبي عديّ، كلاهما عن حميد، عن أنس. وكذا أخرجه أحمد، عن ابن أبي عديّ، ويزيد بن هارون، جميعًا عن حميد بلا واسطة. ويقال: إن غالب رواية حميد عن أنس بواسطة، لكن أخرج البخاريّ من حديث حميد، عن أنس أشياء كثيرة بغير واسطة، مع الاعتناء ببيان سماعه لها من أنس. وقد وافق عمران القطّان عن حميد الجماعة على إدخال ثابت بينه وبين أنس رضي الله عنه، ولكن خالفهم في المتن، أخرجه الترمذيّ من طريقه، بلفظ:"نذرت امرأةٌ أن تمشي إلى بيت اللَّه، فسُئل نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟، فقال: "إن اللَّه لغنيّ عن مشيها، مروها فلتركب". انتهى

(1)

.

(عَنْ أَنَس) بن مالك رضي الله عنه، أنه (قَالَ: رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، رَجُلاً) وفي الرواية التالية:"مرّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بشيخ يُهادى بين اثنين"(يُهَادَى) بضمّ أوله، من المهاداة، وهو أن يمشي معتمدًا على غيره. وللترمذي من طريق خالد بن الحارث، عن حميد:"يتهادى" بفتح أوله، ثم مثناة (بَيْنَ رَجُلَيْنِ) وفي الرواية الآتية:"بين ابنيه"، قال الحافظ: لم أقف على اسم هذا الشيخ، ولا على اسم ابنيه. وقرأت بخطّ مغلطاي: الرجل الذي يهُادى، قال الخطيب: هو أبو إسرائيل، كذا قال، وتبعه ابن الملقّن، وليس

(1)

"فتح" 4/ 561 "كتاب الحجّ" - باب من نذر المشي إلى الكعبة" 1865.

ص: 90

ذلك في كتاب الخطيب، وإنما أورده من حديث مالك، عن حميد بن قيس وثور، أنهما أخبراه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قائمًا في الشمس، فقال:"ما بال هذا"، قالوا: أبو إسرائيل نذر أن لا يستظلّ، ولا يتكلّم، ويصوم

الحديث. قال الخطيب: هذا الرجل هو أبو إسرائيل، ثم ساق حديث عكرمة، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يخطب يوم الجمعة، فرأى رجلاً يقال له: أبو إسرائيل، فقال:"ما باله؟ "، قالوا: نذر أن يصوم، ويقوم في الشمس، ولا يتكلّم

الحديث. وهذا الحديث أخرجه البخاريّ من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، والمغايرة بينه وبين حديث أنس رضي الله عنه ظاهرة من عدّة أوجه، فيحتاج من وحّد بين القصّتين إلى مستند. واللَّه المستعان

(1)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَا هَذَا؟ ") وفي الرواية التالية: "ما بال هذا؟ "، وفي الرواية التي بعدها:"ما شأن هذا؟ "(قَالُوا: نَذَرَ أن يَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّه) وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم أن الذي أجاب النبيّ صلى الله عليه وسلم عن سؤاله ولدا الرجل، ولفظه:"فقال ابناه: يا رسول اللَّه، كان عليه نذر"(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اللَّهَ غَنيٌّ ، عَنْ تَعْذِيب هَذَا نَفْسَهُ) أي بالمشي مع العجز (مُرْهُ، فَلْيَرْكَبْ) وفي الرواية التالية: "فأمره أن يركبَ". زاد أحمد عن الأنصاريّ، عن حميد "فركب" ء قال في "الفتح": وإنما لم يأمره صلى الله عليه وسلم بالوفاء بالنذر، إما لأن الحجّ راكبًا أفضل من الحجّ ماشيًا، فنذر المشي يقتضي التزام ترك الأفضل، فلا يجب الوفاء به، أو لكونه عجز عن الوفاء بنذره، وهذا هو الأظهر. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-42/ 3879 و 3880 و 3881 - ولم أره في "الكبرى". وأخرجه (خ) في "الحجّ" 1865 و"الأيمان والنذور" 6701 (م) في "النذور والأيمان" 1642 (د) في "الأيمان والنذور" 3301 (ت) في "النذور والأيمان" 1537 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 11627 و 11717 و 12478 و 13056 و 13454. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): أن من عجز عن الوفاء بنذره لا يجب عليه الوفاء، وقد تقدّم أول الباب

(1)

"فتح" 4/ 561 - 562.

ص: 91

اختلاف العلماء في وجوب الهدي عليه، فأوجبه الجمهور.

(ومنها): مشروعيّة النذر إلى بيت اللَّه الحرام. (ومنها): يُسر الدين وسهولة أمره، حيث يراعي عجز العاجزين، فلا يأمرهم بما يشق عليهم، كما قال اللَّه تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الآية [الحجّ: 78]. (ومنها): إثبات صفة الغنى للَّه سبحانه وتعالى، فهو الغنيّ، والخلق مفتقرون إليه سبحانه وتعالى، كما قال اللَّه تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3880 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِشَيْخٍ يُهَادَى بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَقَالَ:«مَا بَالُ هَذَا؟» ، قَالُوا نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ، قَالَ

(1)

: «إِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ، عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ، مُرْهُ فَلْيَرْكَبْ» . فَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.

و"خالدٌ": هو ابن الحارث الهجيميّ. والسند مسلسلٌ بالبصريين، وشيخ المصنّف هو أحد التسعة الذين يروي عنهم أصحاب الكتب الستة بلا واسطة، وتقدّموا غير مرّة. والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق شرحه، وبيان مسائله في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3881 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى رَجُلٍ يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ

(2)

، فَقَالَ:«مَا شَأْنُ هَذَا؟» ، فَقِيلَ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَقَالَ:«إِنَّ اللَّهَ لَا يَصْنَعُ بِتَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ شَيْئًا» ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"أحمد بن حفص": هو السلميّ، أبو عليّ النيسابوريّ، صدوق [11] 7/ 409. و"أبوه": هو حفص بن عبد اللَّه بن راشد السلميّ، أبو عمرو النيسابوريّ، قاضيها، صدوق [9] 7/ 409. و"إبراهيم بن طهمان": هو الخراسانيّ، سكن نيسابور، ثم مكة، ثقة يُغرب، وتكلّم فيه بالإرجاء، ويقال: إنه رجع عنه [7] 7/ 409. و"يحيى ابن سعيد": هو الأنصاريّ المدنيّ الثقة الثبت الفقيه. وهذا الإسناد سقط منه ثابتٌ بين حميد وأنس، ولعل حميدًا دلّسه بإسقاطه، فإنه موصوف بالتدليس، وقد تقدّم الكلام

(1)

وفي نسخة: " فقال".

(2)

وفي نسخة: "بين اثنين".

ص: 92

عليه قريبًا، فلا تغفل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌43 - (الاسْتِثْنَاءُ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الباب قد تقدّم قبل هذا مرَّتين، مرّة -18/ 3820 - بلفظ:"من حلف، فاستثنى"، وأورد فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "من حلف، فاستثنى

" الحديث، ومرّة -39/ 3855 - بلفظ: "الاستثناء"، وأورد فيه حديث ابن عم رضي الله عنهما المذكور من ثلاث طرق، فكان الأولى له أن يورد حديث أبي هريرة صلى الله عليه وسلم المذكور في هذا الباب هناك، اختصارًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3882 -

(أَخْبَرَنَا نُوحُ بْنُ حَبِيبٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقَدِ اسْتَثْنَى»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه: نوح ابن حبيب الْقُومسيّ الْبذَشِيّ، أبو محمد، فإنه من أفراده هو وأبي داود، وهو ثقة [10] 79/ 1010. و"عبد الرزاق": هو ابن همّام الصنعانيّ. و"معمر": هو ابن راشد الصنعانيّ. و"ابن طاوس": هو عبد اللَّه. وشرح الحديث مضى في شرح حديث ابن عمر رضي الله عنهما في -18/ 3820 - فراجعه هناك تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-43/ 3882 - وأخرجه (ق) في "الكفّارات" 2104 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين"8027. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 93

3883 -

(أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَفَعَهُ، «قَالَ: سُلَيْمَانُ لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ

(1)

امْرَأَةً، تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا، يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقِيلَ لَهُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ، فَطَافَ بِهِنَّ، فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلاَّ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، نِصْفَ إِنْسَانٍ» ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ دَرَكًا لِحَاجَتِهِ» ).

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم قبل بابين في - 40/ 3858 - "إذا حلف، فقال له رجلٌ: إن شاء اللَّه، هل له استثاء؟ "، وتقدّم شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد.

و"العبّاس بن عبد العظيم": هو العنبريّ، أبو الفضل البصريّ، ثقة حافظ، من كبار [11] 96/ 119.

وقوله: "نصف إنسان" بالنصف مفعول لفعل محذوف: أي ولدت نصف إنسان، وهو معنى قوله فيما سبق:" جاءت بشقّ رجل".

وقوله: "دركًا لحاجته" -بفتحتين، وسكون الراء لغةٌ-: اسم من أدركت الشيءَ: إذا طلبته، فلحقته، أفاده الفيّوميّ.

والمعنى هنا أنه لو قال: إن شاء اللَّه لكان سببًا لإدراك حاجته. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

(1)

وفي نسخة: "سبعين"، وتقدّم بيان اختلاف الروايات في "سبعين"، و"تسعين"، و"مائة"، فلا تغفل.

(2)

يوجد هنا في النسخة الهنديّة: ما نصّه: "آخر كتاب الأيمان والنذور".

ص: 94

ويوجد في النسخة المصريّة هنا: ما نصّه:

‌35 - (كِتَابُ الْمُزَارَعَةِ)

(1)

‌1 - (الثَّالِثُ مِنَ الشُّرُوطِ فِيهِ الْمُزَارَعَةُ وَالْوَثَائِقُ)

وكتب السنديّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرحه": ما نصّه: كأن ما ذكره في "كتاب الأيمان والنذور" اعتبره بمنزلةِ ما بين باب الأيمان، وباب النذور، واعتبر كلاًّ من الأيمان والنذور من الشروط؛ لأنه كثيرًا ما يجري فيهما التعليق، ولذلك سمّى هذا الباب الثالثَ من الشروط، وقال: فيه يُذكر المزارعة، والوثاثق. واللَّه تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

ولفظ النسخة الهنديّة -بعد قوله: "آخر كتاب الأيمان والنذور" -: " الثالثُ من الشروط فيه المزارعة والوثائق". وكتب في هامشه: ما نصّه: "كتاب شروط المزارعة والوثائق".

"المزارعة": مُفاعلة من الزرع، وهي دفعُ الأرض إلى من يزرعها، وَيعمَلُ عليها، والزرعُ بينهما

(3)

.

قال الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى-: زَرَعَ الْحرَّاث الأرضَ زَرْعًا: حَرَثَها للزراعة، وزرع

(1)

كتب في هامش النسخة التي حققها مكتب تحقيق التراث الإِسلامي: ما نصّه: بعد أن تمّ ما مضى من كتاب الأيمان والنذور كَتب في نسخة النظامية: "آخر كتاب الأيمان والنذور، الثالث من الشروط فيه المزارعة، والوثائق"، وعبارة "الثالث

والوثائق" من إحدى نسخ النظاميّة، وكتب مصحّح نسخة النظاميّة تحت هذه العبارة: "هذه العبارةُ في أكثر النسخ القديمة". انتهى المقصود مما كُتب في ذلك الهامش. 7/ 39.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: إنما لم أجعل لهذا الكتاب رقمًا تسلسليًّا، لعدم تأكّدي من كونه من وضع المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-.

(2)

"شرح السنديّ" 7/ 39.

(3)

"المغني" 7/ 555.

ص: 95

اللَّه الحرث: أنبته، وأنماه، والزرع: ما استُنْبِتَ بالبذر، تسميةً بالمصدر، ومنه يقال: حَصَدتُ الزرعَ: أي النبات. قال بعضهم: ولا يُسمّى زرعًا إلا وهو غَضٌّ طَرِيٌّ، والجمع زُرُوع. والْمُزَارعَةُ من ذلك، وهي المعاملة على الأرض ببعض ما يخرُج منها. والْمَزْرَعَةُ: مكان الزرع، وازدرَعَ: حَرَثَ، والْمُزْدَرَعُ: الْمَزْرَعَةُ. انتهى

(1)

.

وقال ابن منظور -رحمه اللَّه تعالى-: زَرَعَ الحبَّ يَزْرَعُهُ زَرْعًا، وزِرَاعَة: بَذَرَه، والاسم الزرع، وقد غلب على الْبُرّ، والشَّعِير، وجمعه زُرُوع. وقيل: الزَّرْعُ: نبات كلّ شيءٍ يُحرَثُ. وقيل: الزرعُ: طَرْحُ البذر. قال: واللَّه يزرع الزرعَ: يُنَمِّيه حتى يبلغ غايته، والزرعُ: الإنبات، يقال: زرعه اللَّه: أي أنبته، وفي التنزيل:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63، 64]: أي أنتم تُنَمُّونه، أم نحن المنَمُّون له؟. قال: والْمَزرَعَة -بفتح الر اء- والْمَزْرُعَةُ -بضمها - والزَّرَّاعة، والْمُزْدَرَع: موضع الزرع، قال الشاعر [من البسيط]:

وَاطْلُبْ لَنَا مِنْهُمُ نَخْلًا وَمُزْدَرَعًا

كَمَا لِجِيرَانِنَا نَخْلٌ وَمُزْدَرَعُ

مُفتعل من الزرع. وقال جرير [من الطويل]:

لَقَلَّ غَنَاءٌ عَنْكَ فِي حَرْبِ جَعْفَرٍ .... تُغَنِّيكَ زَرَّاعَاتُهَا وَقُصُورُهَا

أي قصيدتك التي تقول فيها: زَرّاعتها وقُصُورها. انتهى المقصود من كلام ابن منظور -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

.

و"الْوَثَائقُ" -بفتح الواو-: جمعُ وَثِيقَة، قال ابن منظور -رحمه اللَّه تعالى-: الوَثِيقةُ في الأمر: إحكامه، والأخذ بالثقة. والوَثِيقُ: الشيء الْمُحكَم، والجمع وِثَاقٌ، ويقال: أخذ بالوثيقة في أمره: أي بالثقة. وتَوَثَّقَ في أمره مثله. قال: ووَثُقَ الشيءُ بالضمّ وَثَاقَةً، فهو وَثِيقٌ: أي صار وَثِيقًا، والأنثى وَثِيقة. انتهى المقصود منه

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: المراد بالوثائق هنا الأشياء التي تُستوثق بالكتابة بين المتعاقدِين لإحكام الأمر، والوثوق به، بحيث إنه إذا وقع بينهم اختلاف في شيء يرجعون إليه، ويستثبتون الأمر منه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3884 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حِبَّانُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: إِذَا اسْتَأْجَرْتَ أَجِيرًا، فَأَعْلِمْهُ أَجْرَهُ).

(1)

"المصباح المنير" 1/ 252.

(2)

"لسان العرب" 8/ 141.

(3)

"لسان العرب" 10/ 371.

ص: 96

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن حاتم) بن نُعيم، مروزيّ ثقة [12] 1/ 397.

2 -

(حبّان) -بكسر الحاء المهملة، وتشديد الموحّدة- ابن موسى بن سوّار السلميّ، أبو محمد المروزيّ، ثقة [10] 1/ 397.

3 -

(عبد اللَّه) بن المبارك بن واضح الحنظليّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المروزي، ثقة ثبت فقيه جواد مجاهد، اجتمعت فيه خصال الخير [8] 32/ 36.

4 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت البصري [7] 24/ 27.

5 -

(حمّاد) بن أبي سليمان مسلم الأشعريّ، أبو إسماعيل الكوفيّ الفقيه، صدوق، له أوهام [5] 190/ 1165.

6 -

(إبراهيم) بن يزيد بن قيس النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ الفقيه، ثقة يرسل كثيرًا [5] 29/ 33.

7 -

(أبوسعيد) سعد بن مالك بن سنان الأنصاريّ الصحابيّ الشهير ابن الصحابيّ - رضي اللَّه تعالى عنهما - 169/ 262. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم موثقون، إلا أن فيه انقطاعًا، كما سيأتي قريبًا. (ومنها): أنه مسلسل بالمراوزة إلى ابن المبارك، وشعبة بصريّ، والصحابيّ مدني، والباقيان كوفيان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه أبا سعيد رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) الْخُدريّ - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: إِذَا اسْتَأْجَرْتَ أَجِيرًا) أي طلبت من شخص أن يكون أجيرك، أي عاملًا لك بأجرة (فَأَعْلِمْهُ أَجْرَهُ) أمر من الإعلام، يعني أنه يجب عليك أن تُعلمه مقدار أجرته، وصفتها. والمراد أنه لا تصحّ الإجارة إلا بأجرة معلومة، وهذا أمر مجمع عليه، لا خلاف بين أهل العلم في ذلك. قال ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-: يشترط في عوض الإجارة كونه معلومًا، لا نعلم في ذلك خلافًا، وذلك لأنه عوضٌ في عقد مُعاوضة، فوجب أن يكون معلومًا، كالثمن في البيع. قال: ويُعتبر العلم بالرؤية، أو بالصفة كالبيع سواءً، فإن كان العوض معلوما بالمشاهدة، دون القدر كالصُّبْرة احتمل وجهين، أشبههما الجواز؛ لأنه عوض معلوم

ص: 97

يجوز به البيع، فجازت به الإجارة، كما لو عُلم قدره. والثاني: لا يجوز؛ لأنه قد ينفسخ العقد بعد تَلَف الصبرة، فلا يَدرِي بكم يَرجع، فاشتُرِط معرفة قدره، كعوض المسلم فيه، والأول أولى. قال: وكلّ ما جاز ثمنًا في البيع جاز عوضًا في الإجارة؛ لأنه عقد معاوضة أشبه البيع، فعلى هذا يجوز أن يكون العوض عينًا، ومنفعة أخرى، سواءٌ كان الجنس واحدًا، كمنفعة دار بمنفعة دار أخرى، أو مختلفًا، كمنفعة دار، بمنفعة عبدٍ، قال أحمد: لا بأس أن يكتري بطعام موصوف معلوم. وبهذا كلّه قال الشافعيّ، قال اللَّه تعالى عن شعيب عليه السلام أنه قال:{قَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} الآية [القصص: 27]، فجعل النكاح عوض الإجارة. وقال أبو حنيفة فيما حُكي عنه: لا تجوز إجارة دار بسكنى دار أخرى، ولا يجوز إلا أن يختلف جنس المنفعة، كسكنى دار بمنفعة بهيمة؛ لأن الجنس الواحد عنده يُحرّم النَّسَاء. وكره الثوريّ الإجارة بطعام موصوف، والصحيح جوازه، وهو قول إسحاق، وأصحاب الرأي، وقياس قول الشافعيّ؛ لأنه عوضٌ يجوز في البيع، فجاز في الإجارة، كالذهب والفضة، وما قاله أبو حنيفة لا يصحّ؛ لأن المنافع في الإجارة ليست في تقدير النسيئة، ولو كانت نسيئة ما جاز في جنسين؛ لأنه يكون بيع دين بدين. انتهى كلام ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

، وهو كلام نفيسٌ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أثر أبي سعيد رضي الله عنه هذا ضعيفٌ؛ لانقطاعه؛ لأن إبراهيم لم يلق أبا سعيد الخدريّ رضي الله عنه، انظر ترجمته في "تهذب التهذيب" 1/ 92 - 93.

وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- من بين أصحاب الأصول، أخرجه هنا- 1/ 3884 - وفي "الكبرى" 3/ 4673. وأخرجه أبو داود في "المراسيل"، مرفوعًا، بلفظ: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن استئجار الأجير حتى يُبيّن له أجره". وأخرجه (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 1171 أو 11255 و 11279. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3885 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حِبَّانُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الرَّجُلَ، حَتَّى يُعْلِمَهُ أَجْرَهُ).

(1)

"المغني" 8/ 14/ 15.

ص: 98

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد": هو ابن حاتم المذكور في السند الماضي. وقوله: "أنبأنا حِبان" هكذا في نسخ "المجتبى"، والذي في "الكبرى":"أنا سُوَيدٌ"، وهو الذي في "تحفة الأشراف" ج 13/ ص 175 - ولفظه:"عن سُويد بن نصر" اهـ. ولكن ليس في هذا الاختلاف شيء يضرّ بصحّة الحديث؛ لأنهما ثقتان، ويروي كلّ منهما عن عبد اللَّه بن المبارك. واللَّه تعالى أعلم.

و"عبد اللَّه": هو ابن المبارك. و"يونس": هو ابن عُبيد. و"الحسن": هو البصريّ. وقوله: "أن يستأجر الأجير الخ" ببناء الفعل للفاعل، و"الأجير" بالنصب مفعوله، وقوله:"يُعلمه" بضمّ أوله، من الإعلام، و"أجره" بالنصب مفعوله، وهو بمعنى أثر أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه الماضي.

وهذا الأثر مقطوع صحيح الإسناد

(1)

، تفرّد به المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا- 1/ 3885 - وفي "الكبرى" 3/ 4674. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3886 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حِبَّانُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ حَمَّادٍ -هُوَ ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ- أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ، اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا عَلَى طَعَامِهِ؟ ، قَالَ: لَا حَتَّى تُعْلِمَهُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا مقطوع صحيح الإسناد، تفرّد به المصنّف - رحمه اللَّه تعالى -، أخرجه هنا- 1/ 3886 - وفي "الكبرى" 3/ 4675.

وقوله: "على طعامه" أي على أن يأكل معه، أو من بيته.

والأثر يدلّ على منع الاستئجار على أن تكون الأجرة طعامه، وهذه مسألة اختَلف فيها أهل العلم، قال العلاّمة ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: اختلفت الرواية عن أحمد فيمن استأجر أجيرًا بطعامه، وكسوته، أو جعل له أجرًا، وشرط طعامه، وكسوته، فروي عنه جواز ذلك، وهو مذهب مالك، وإسحاق. ورُوي عن أبي بكر، وعمر، وأبي موسى رضي الله عنهم أنهم استأجروا الأجراء بطعامهم، وكسوتهم. وروي أن ذلك جائزٌ في الظِّئر

(2)

دون غيرها، واختاره القاضي، وهذا مذهب أبي حنيفة؛ لأن ذلك مجهولٌ، وإنما جاز في الظِّئْر؛ لقول اللَّه تعالى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} الآية [البقرة: 233] فأوجب لهنّ النفقة، والكسوة على الرضاع، ولم يفرّق بين المطلّقة وغيرها، بل في الآية قرينة تدلّ على طلاقها؛ لأن الزوجة تجب نفقتها، وكسوتها

(1)

المقطوع عند المحدّثين: هو ما وُقف على التابعيّ، فمن دونه، قولاً له، أو غير ذلك.

(2)

"الظِّئر" بكسر الظاء المشالة، وسكون الهمزة-: المرضعة.

ص: 99

بالزوجية، دوان لم تُرضع؛ لأن اللَّه تعالى قال:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} الآية [البقرة:233]، والوارث ليس بزوج؛ ولأن المنفعة في الْحَضَانة، والرضاع غير معلومة، فجاز أن يكون عوضها كذلك. وروي عن أحمد رواية ثالثة: لا يجوز ذلك بحال، لا في الظئر، ولا في غيرها، وبه قال الشافعيّ، وأبو يوسف، ومحمد، وأبو ثور، وابن المنذر؛ لأن ذلك يختلف اختلافا كثيرًا، متباينًا، فيكون مجهولاً، والأجر من شرطه أن يكون معلومًا.

قال: ولنا ما روى ابنُ ماجه، عن عُتبة بن النُّذَّر، قال: كنا عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقرأ {طس} حتى بلغ قصّة موسى عليه السلام قال:" إن موسى آجر نفسه ثماني سنين، أو عشرًا على عفّة فرجه، وطعام بطنه"

(1)

، وشرعُ من قبلنا شرعٌ لنا ما لم يثبت نسخه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: كنت أجيرًا لابنة غَزْوَان بطعام بطني، وعُقْبة رجلي، أَحطِب لهم إذا نرْلوا، وأَحدُو بهم إذا رَكِبُوا

(2)

. ولأن من ذكرنا من الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم فعلوه، فلم يظهر له نكير، فكان إجماعًا، ولأنه قد ثبت في الظئر بالآية، فيثبت في غيرها بالقياس عليها، ولأنه عوض منفعة، فقام العرف فيه مقام التسمية، كنفقة الزوجة، ولأن للكسوة عرفًا، وهي كسوة الزوجات، وللإطعام عرف، وهي الإطعام في الكفّارات، فجاز إطلاقه كنقد البلد. ونخصّ أبا حنيفة بأن ما كان عوضًا في الرضاع جاز في الخدمة، كالأثمان.

إذا ثبت هذا، فإنهما إن تشاحّا في مقدار الطعام والكسوة رجع في القوت إلى الإطعام في الكفّارة، وفي الكسوة إلى أقلّ ملبوس مثله. قال أحمد: إذا تشاحّا في الطعام يُحكم له بمدّ كلَّ يوم، ذهب إلى ظاهر ما أمر اللَّه تعالى من إطعام المساكين، ففسَّرَت ذلك السنّة بأنه مدّ لكلّ مسكين، ولأن الإطعام مطلق في الموضعين، فما فُسّر به أحدهما يُفسّر به الآخر، وليس له إطعام الأجير إلا ما يوافقه من الأغذية؛ لأن عليه ضررًا، ولا

(1)

ضعيف جدًّا؛ لأن في سنده بقية بن الوليد مدلّس، ومسلمة بن عليّ متروك.

(2)

ولفظه عند ابن ماجه في "كتاب الأحكام":

2445 -

حدثنا أبو عمر حفص بن عمرو، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سَليم بن حيان، سمعت أبي، يقول: سمعت أبا هريرة، يقول:"نشأت يتيما، وهاجرت مسكينا، وكنت أجيرا لابنة غزوان بطعام بطني، وعُقْبة رجلي، أَحطِب لهم إذا نزلوا، وأَحدُو لهم إذا ركبوا، فالحمد للَّه الذي جعل الدين قِوَاما، وجعل أبا هريرة إماما".

وفي سند ابن ماجه والد سَليم، وهو حيّان بن بسطام، لم يرو عنه غير ابنه، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال عنه في "التقريب": مقبول.

لكن الحديث أورده الحافظ في "الإصابة" -12/ 77 - فقال: وفي الحلية من تاريخ أبي العبّاس =

ص: 100

يمكنه استيفاء الواجب له منه. انتهى كلام ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

وهو تحقيق نفيس. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3887 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حِبَّانُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ حَمَّادٍ، وَقَتَادَةَ، فِي رَجُلٍ قَالَ: لِرَجُلٍ: أَسْتَكْرِي مِنْكَ، إِلَى مَكَّةَ بِكَذَا وَكَذَا، فَإِنْ سِرْتُ شَهْرًا، أَوْ كَذَا وَكَذَا، شَيْئًا سَمَّاهُ، فَلَكَ زِيَادَةُ كَذَا وَكَذَا، فَلَمْ يَرَيَا بِهِ بَأْسًا، وَكَرِهَا أَنْ يَقُولَ: أَسْتَكْرِي مِنْكَ بِكَذَا وَكَذَا، فَإِنْ سِرْتُ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ، نَقَصْتُ مِنْ كِرَائِكَ كَذَا وَكَذَا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا السند هو السند المذكور قبله. و"حماد": هو ابن أبي سليمان. وقوله: "أستكري منك": أي أطلب منك أن تُكريني دابّتك، يقال: اكتريت، واستكريتُ، وتكاريت، كلها بمعنى. كما في "اللسان".

وقوله: فإن سرتُ أكثر من شهر نقصتُ من كرائك الخ قال السنديّ: يريد أن الازدياد في الأجر لأجل الاستعجال في السير جائز، وأما النقصان لأجل الإبطاء، فمكروه، فان الأول يُشبه العطاء، والهبة، والثاني يُشبه الظلم، والنقص من الحقّ. واللَّه تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

والأثر مقطوعٌ صحيح الإسناد، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا - 1/ 3887 - وفي "الكبرى" 3/ 4676. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3888 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حِبَّانُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قِرَاءَةً، قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: عَبْدٌ أُؤَاجِرُهُ سَنَةً بِطَعَامِهِ، وَسَنَةً أُخْرَى بِكَذَا وَكَذَا، قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَيُجْزِئُهُ اشْتِرَاطُكَ حِينَ تُؤَاجِرُهُ أَيَّامًا، أَوْ آجَرْتَهُ، وَقَدْ مَضَى بَعْضُ السَّنَةِ، قَالَ: إِنَّكَ لَا تُحَاسِبُنِى لِمَا مَضَى).

= السرّاج بسند صحيح، عن مضارب بن حَزْن، كنت أسير من الليل، فإذا رجلٌ يكبّر، فلحقته، فقلت: ما هذا؟ قال: أكثر شكر اللَّه على أن كنت أجيرًا لبرّة بنت غزوان، لنفقة رحلي، وطعام بطني، فإذا ركبوا سبقت بهم،، وإذا نزلوا خدمتهم، فزوّجنيها اللَّه، فأنا أركب، فإذا نزلت خُدمت. وأخرجه ابن خزيمة من هذا الوجه، وزاد: وكانت إذا أتت على مكان سهل نزلت، فقالت: لا أَرِيم حتى تجعل لي عصيدةً، فها أنا إذا أتيت على نحو من مكانها قلت: لا أريم حتى تجعلي لي عصيدة. انتهى.

(1)

"المغني" 8/ 68 - 70. "كتاب الإجارات".

(2)

"شرح السنديّ" 7/ 32.

ص: 101

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا السند هو السند الماضي، إلى ابن جريج، و"عطاء": هو ابن أبي رباح.

وقوله: "قلت لعطاء: عبد أؤاجره سنة بطعام وسنة أخرى بكذا وكذا الخ" قال السنديّ. كأنه صوّر المستأجَرَ في المسألة عطاءً، كما يُشير إليه آخر كلام عطاء، وهو قوله:"لا تحاسبني لما مضى"، ومقتضى جوابه أن الإجارة بالطعام عنده جائزة، وقوله:"ويُجزئك الخ"، فإنه لبيان أن السَّنَةَ غير لازمة، وإنما اللازم ما شرطه من الأيام انتهى.

وقوله: "أوَ آجرته" الظاهر أنه بفتح الواو، والهمزة للاستفهام، هو من كلام ابن جريج، كأنه يقول له: وهل يكون هذا إجارة صحيحة، وقد مضى بعض المدّة، فأجابه عطاء بقوله: " إنك لا تحاسبني لما مضى من المدّة، حيث إنه كان على طعامه، وقد استوفاه، وإنما تحاسبه لما تبقّى من المدة، حيث إنه كان بأجرة معلومة.

فقوله: "قال: إنك لا تحاسبني" ضمير "قال" لعطاء، وقال: لا تحاسبني بضمير المتكلّم، كأن عطاء نفسه هو الْمُسْتَأْجَرَ، كما أثار إليه السنديّ في كلامه السابق. هذا ما ظهر لي في حلّ معنى هذا الأثر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

والأثر مقطوع صحيح الإسناد، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا - 1/ 3888 - وفي "الكبرى" 3/ 4677. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: مناسبة إيراد هذه الآثار الخمسة في هذا الباب، وإن كانت من مسائل الإجارة، كونها مما يُستَوثق شروطها بالكتابة، كما أن شروط المزارعة تستوثق بكتابتها أيضًا، كما أنه أدخل أيضًا في آخره كتابة الشركة، وتفَرُّقَ الزوجين، وكتابةَ العبد، والتدبير، والعتق، حيث إن كلًّا منهما يُحفَظ في وثائق، ولم يُفرد للإجارة، ولا الشركة، ولا الكتابة، ولا التدبير، ولا العتق كتبا مختصّة بها، بل أوردها ضمن كتاب المزارعة، وبحث عن كيفية كتابة وثائقها، ولعله إيثارًا للاختصار. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

ص: 102

‌2 - (ذِكْرُ الأَحَادِيثِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي النَّهِيِ عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ بِالثُّلُثِ، وَالرُبُعِ، وَاخْتِلَافِ أَلْفَاظِ النَّاقِلِينَ لِلْخَبَرِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: (اعلم): أن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- قد أجاد في صنيعه في هذا الباب حيث أورد حديث المزارعة بطرقه المختلفة، فقد أورده من حديث تسعة من الصحابة رضي الله عنهم، وهم: أُسيد بن ظهير، وجابر بن عبد اللَّه، ورافع بن خديج، وظُهير بن رافع، عم رافع بن خديج، وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدريّ، وسعد بن أبي وقّاص، وعبد اللَّه بن عبّاس، وأبو هريرة رضي الله عنهم، وبيّن اختلاف طرق هؤلاء بيانًا شافيًا، ولا سيّما حديث رافع رضي الله عنه، فقد أخرجه من رواية ستة عشر راويًا، اثنان منهم صحابيان: أسيد ظهير، وعبد اللَّه بن عمر بن الخطاب، وأربعة عشر منهم تابعيّون، وهم مجاهد، وطاوس

(1)

، وعطاء بن أبي رباح، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والقاسم ابن محمد بن أبي بكر الصدّيق، وسعيد بن المسيّب، وسليمان بن يسار، وحنظلة بن قيس، وسالم بن عبد اللَّه بن عمر، ونافع مولى ابن عمر، ومحمد بن سيرين، والزهريّ

(2)

، وأبو النجاشيّ عطاء بن صُهيب، وعيسى بن سهل بن رافع بن خَدِيج --رحمهم اللَّه تعالى--، وأنا -إن شاء اللَّه تعالى- سازيده -مستعينًا باللَّه سبحانه وتعالى شرحًا، وإيضًا، على حسب ما أراه لائقًا به، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3889 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا خَالِدٌ -هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ- قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ رَافِعِ بْنِ أُسَيْدِ بْنِ ظُهَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، أُسَيْدِ بْنِ ظُهَيْرٍ، أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى قَوْمِهِ، إِلَى بَنِي حَارِثَةَ، فَقَالَ: يَا بَنِي حَارِثَةَ، لَقَدْ دَخَلَتْ عَلَيْكُمْ مُصِيبَةٌ، قَالُوا مَا هِيَ؟ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذًا نُكْرِيهَا بِشَيْءٍ مِنَ الْحَبِّ، قَالَ:«لَا» ، قَالَ: وَكُنَّا نُكْرِيهَا بِالتِّبْنِ، فَقَالَ:«لَا» ، وَكُنَّا نُكْرِيهَا بِمَا عَلَى الرَّبِيعِ السَّاقِي، قَالَ:«لَا، ازْرَعْهَا، أَوِ امْنَحْهَا أَخَاكَ» .

خَالَفَهُ مُجَاهِدٌ).

(1)

رواية مجاهد وطاوس عن رافع منقطعة، كما سيبينه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-.

(2)

راوية الزهريّ، عن رافع رضي الله عنه منقطعة، كما سيأتي بيانه، إن شاء اللَّه تعالى.

ص: 103

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن إبراهيم) بن صُدْران الأزدي السَّلَميّ -بالفتح- أبو جعفر المؤذّن البصريّ، صدوق [10] 66/ 82.

2 -

(خالد) بن الحارث الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ ثقة ثبت [8] 42/ 47.

3 -

(عبد الحميد بن جعفر) الأنصاريّ المدنيّ، صدوقٌ رُمي بالقدر، وربّما وهم [6] 26/ 914.

4 -

(أبوه) جعفر بن عبد اللَّه بن الحكم الأنصاريّ المدنيّ، ثقة [3] 145/ 1112.

5 -

(رافع بن أُسيد بن ظهير) الأنصاريّ الخزرجيّ المدنيّ، مقبول [3].

روى عن أبيه هذا الحديث، وعنه جعفر بن عبد اللَّه الأنصاريّ، واختُلف في الحديث على أُسيد. ذكره ابن حبّان في "الثقات"، تفرّد به المصنّف بحديث الباب فقط.

6 -

(أُسيد -بضمّ الهمزة- ابن ظُهير -مصغّرًا -) ابن رافع بن عديّ بن زيد بن عمرو ابن زيد بن جُشَم بن حارثة الأنصاريّ الأوسيّ، يكنى أبا ثابت، له ولأبيه صحبة

(1)

، وهو أخو عبّاد بن بشر لأمه، قيل: إنه ابن أخي رافع بن خَدِيج، وقيل: ابن عمّه. روى عن الحسن البصريّ، وجعفر بن أبي المغيرة، وغيرهما. وعنه ابنه رافع، وزياد أبو الأبرد، وعكرمة بن خالد، ومجاهد. استُصغر يوم أُحد، وشَهِد الخندق، ومات في خلافة مروان بن الحكم. وقال ابن عبد البرّ: توفّي في خلافة عبد الملك بن مروان. وفرّق ابن حبّان، والحاكم بين أُسيد بن ظُهير الصحابيّ، وبين أُسيد بن ظُهير ابن أخي رافع بن خَدِيج الذي يروي عنه أبو الأبرد، فقال الحاكم: لا تصحّ صحبته؛ لأن في إسناده أبا الأبرد، وهو مجهول. وقال ابن حبّان: قيل: له صحبة، ولا يصحّ عندي؛ لأن إسناد خبره فيه اضطراب، هكذا قال في ثقات التابعين، وذكر قبل ذلك أُسيد بن ظُهير في الصحابة، ولم يتردّد. والذي روى عنه أبو الأبرد فقد صحّح الترمذيّ أنه أُسيد ابن ظهير، صاحب الترجمة، وصحّح حديثه

(2)

. روى له الأربعة، وله عند جميعهم حديث الباب، وحديث:"صلاة في مسجد قباء كعمرة" عند الترمذيّ، وابن ماجه أيضًا: واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم

(1)

"الإصابة" 1/ 76 - 77. لكن في إثباته الصحبةَ لأُسيد نظرٌ؛ لأن الصحبة لأبيه لا له. فليتأمل.

(2)

"تهذيب التهذيب" 1/ 176 - 177.

ص: 104

ثقات، غير رافع بن أسيد، فمجهول. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وخالد، فبصريان. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه مرّتين، وتابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أُسَيْدِ بْنِ ظُهَيرِ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أنَّهُ خَرَجَ إِلَى قَوْمِهِ، إِلَى بَنِي حَارِثَةَ) بن الحارث بن الخزر، بطن من الأنصار، والجارّ والمجرور بدل من قوله:"إلى قومه"(فَقَالَ) أسيد (يَا بَنِي حَارِثَةَ لَقَدْ دَخَلَتْ عَلَيْكُمْ مُصِيبَةٌ) أي لمنعهم مما يرونه رفقًا بهم، والتعامل بإجار الأرض، وإن كان الرفق، واللطف فيما شرعه اللَّه سبحانه وتعالى؛ لأن اللَّه تعالى أعلم بمصالح عباده، وهم لا يعلمون، كما قال اللَّه عز وجل:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216](قَالُوا: مَا هِيَ؟) المصيبة التي دخلت علينا (قَالَ: نَهى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ) أي وأنتم أكثر معاشكم منه (قُلنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ) مرتب على محذوف، أي فلما سمعنا ذلك، ذهبنا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقلنا: يا رسول اللَّه (اِذًا) هي حرف جزاء وجواب، أي إذا كان الأمر كذلك، من نهي كراء الأرض بالدراهم، والدنانير (نُكْرِيهَا) بضن أوله، من الإكراء: أي نؤاجرها (بشَيْءٍ مِنَ الْحَبِّ) أي ببعض ما يخرج منها (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَا) أي تُكرُوها بشيء من الحبّ أيَضًا (قَالَ: وَكُنَّا نُكْرِيهَا بِالتِّبْنِ) أي فما حكمه؟، و"التِّبْن" -بكسر التاء المثنّاة، وتُفتح، وسكون الباء الموحّدة، آخره نون-: هو ساق الزرع بعد دِيَاسته. والمَتْبَنُ، والْمَتْبَنَة: بيت التبن. أفاده الفيّوميّ. وقال المجد في "القاموس": "التبن بالكسر: عَصِيفَةُ الزرع من بُرْ، ونحوه، ويُفتَح. انتهى.

(فَقَال) صلى الله عليه وسلم (لَا) أي لا تكروها به (وَكُنَّا نُكْرِيهَا بِمَا عَلَى الرَّبِيعِ) بفتح الراء، وكسر الموحّدة: النهر الصغير، وجمعه أربعاء، وأربعةٌ، مثلُ نصيبٍ وأَنصباء، وأنصبة، وقوله (السَّاقِي) صفة لـ "الربيع"، والمعنى: نُكريها بما يُزرَعُ على حافتي الربيع الذي يَسقِي الزرعَ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَا) تفعلوا هذا أيضًا (ازْرَعْهَا أَوِ امْنَحْهَا أَخَاكَ) الخطاب لصاحب الأرض، أمره أن يزرعها بنفسه، إن احتاج إليها، أو يعطيها لأخيه المحتاج إليها، إن كان مستغنيًا عنها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث أُسيد بن ظهير - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا ضعيف؛ لأن في إسناده رافع بن أُسيد، وهو مجهول العين، لم يرو عنه غير جعفر بن

ص: 105

عبد اللَّه الأنصاريّ، وقال عنه في "التقريب": مقبول، أي حيث يُتابع، ودم يتابع هنا، بل خالفه من هو ثقة حافظ، وهو مجاهد بن جبر، كما بيّنه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بعدُ.

وهو من أفراد المصنّف، أخرجه هنا-2/ 3889 - وفي "الكبرى" 1/ 4589. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (خَالَفَهُ مُجَاهِدٌ) يعني أن مجاهد بن جبر الإمام المثبت الحجة خالف رافع بن أُسيد في روايته لهذا الحديث، فجعله عن أُسيد بن ظهير، عن رافع بن خَدِيج رضي الله عنه، كما بيّنه بقوله:

3890 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى -وَهُوَ ابْنُ آدَمَ- قَالَ: حَدَّثَنَا مُفَضَّلٌ -وَهُوَ ابْنُ مُهَلْهَلٍ- عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ ظُهَيْرٍ، قَالَ: جَاءَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَاكُمْ عَنِ الْحَقْلِ، وَالْحَقْلُ الثُّلُثُ، وَالرُّبُعُ، - وَعَنِ الْمُزَابَنَةِ. وَالْمُزَابَنَةُ شِرَاءُ مَا فِي رُءُوسِ النَّخْلِ بِكَذَا وَكَذَا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن عبد اللَّه بن المبارك) الْمُخرَّميّ، أبو جعفر البغداديّ ثقة حافظ [11] 43/ 50.

2 -

(يحيى ابن آدم) أبو زكريا الكوفيّ ثقة حافظ فاضل [9] 1/ 451.

3 -

(مُفَضَّل بن مُهَلْهَل) أبو عبد الرحمن الكوفيّ الثقة الثبت النبيل العابد [7] 25/ 1240.

4 -

(منصور) بن المعتمر، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقة ثبت حجة [6] 2/ 2.

5 -

(مجاهد) بن جبر، أبو الحجّاج المخزوميّ مولاهم المكيّ الثقة الثبت الفقيه الإمام في التفسير وغيره من العلوم [3] 27/ 31.

6 -

(أُسيد بن ظهير) المذكور في السند الماضي.

7 -

(رافع بن خَدِيج) بن عديّ الحارثي الأوسي الأنصاريّ، الصحابيّ الجليل، أول مشاهده أُحدٌ، ثم الخندق، مات رضي الله عنه سنة (73) أو (74) وقيل: قبل ذلك، وقد تقدّمت ترجمته في 112/ 155. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير أُسيد بن ظُهير، فإنه من رجال الأربعة. (ومنها): أن فيه رواية صحابي عن صحابي، وتابعي عن تابعيّ عند من يقول بتابعية منصور. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 106

شرح الحديث

(عَنْ أُسَيْدِ بْنِ ظُهَيْر) بتصغير الاسمين - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: جَاءَنَا رَافِعُ ابْنُ خَدِيجٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَاكُمْ ، عَنِ الْحَقْلِ) -بفتح الحاء المهملة، وسكون القاف، آخره لام-: الأرض الْقَرَاح

(1)

، وهي التي لا شجر بها، وقيل. هو الزرع إذا تشعّب ورقه، ومنه أُخِذت المحاقلة، وهي بيع الزرع في سُنبله، وجمعه حُقُول، مثلُ فَلْس وفُلُوس. قاله الفيّوميّ

(2)

. وقال المجد: الْحَقْل: قَرَاحٌ طيّبٌ يُزرع فيه، كالْحَقْلة، والزرع قد تشغب ورقُهُ، وظهر، وكثُر، أو استجمع خروج نباته، أو ما دام أخضر، وقد أحقل في الكلّ. والمَحاقل: الْمَزَارع، والْمُحَاقَلَةُ: بيع الزرع قبل بدوّ صلاحه، أو بيعه في سنبله بالحنطة، أو المزارعة بالثلث، أو الربع، أو أقلّ، أو أكثر، أو اكتراء الأرض بالحنطة. انتهى

(3)

.

والمراد بالحقل هنا: كراء المزارع، كما بيّنه بقوله (وَالْحَقْلُ الثُّلُثُ، وَالرُّبُعُ) أي كراء الأرض بثلث ما يخرُج منها، أو بربعه (وَعَنِ المُزَابَنَةِ) مفاعلة من الزَّبْن -بفتح الزاي، وسكون الموحّدة، آخره نون-: وهو الدفع، يقال: زَبَنت الناقة حالبها زَبْنًا، من باب ضرب: دفعته برجلها، فهي زبون بالفتح، فَعُول بمعنى فاعل، مثلُ ضَرُوب بمعنى ضارب، وحَرْبٌ زَبُون بالفتح أيضًا؛ لأنها تَدْفع الأبطال عن الإقدام خوف الموت، وزَبَنتُ الشيءَ زَبْنًا: إذا دفعته، فأنا زَبُون أيضًا. وقيل: للمشتري زَبُون؛ لأنه يدفع غيره عن أخذ المبيع، وهي كلمة مولّدة، ليست من كلام أهل البادية، ومنه الزبانية؛ لأنهم يدفعون أهل النار إليها، وزُبانى العَقرَب قَرْنهُا، والمزابنة: بيع الثمر في رؤوس النخل بتمر كيلاً. قاله الفيّوميّ. (وَالمُزَابَنَةُ شِرَاءُ مَا فِي رُءُوسِ النَّخْلِ) أي الثمر الذي على رؤوس النخل (بِكَذَا وَكَذَا وَسْقًا) بفتح الواو، وسكون المهملة، ويجمع على وُسُوق، كفلس وفلوس، ويجوز كسر الواو، ويُجمع على أوساق، كحِمل وأحمال، وأصل الوسق حِمْلُ بعير، يقال: عنده وَسْقٌ من تمر. وقال الأزهريّ: الوسق ستّون صاعًا بصاع النبيّ صلى الله عليه وسلم، والصاع خمسة أرطال وثلث، والوسق على هذا الحسابِ مائة وستّون منًّا. والوسق ثلاثة أقفزة. أفاده الفيّوميّ. والمراد به هنا المكيل، كما بينه يقول (مِنْ تَمْرٍ) يعني أن المزابنة معناها: أن يشتري الثمر على رؤوس النخل بمقدار من التمر الذي في

(1)

القراح بالفتح، وزان كلام: المزرعة التي ليس فيه بناء، ولا شجر. اهـ المصباح.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 144.

(3)

"القاموس" ص 887.

ص: 107

الجرين، أو نحوه.

[تنبيه]: الظاهر أن تفسير الحقل، والمزابنة من رافع بن خَدِيج رضي الله عنه، ويحتمل أن يكون من غيره، لكن الأول أقرب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث رافع بن خَدِيج - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-2/ 3890 و 3891 و 3892 و 3893 و 3894 و 3895 و 3896 و 3897 و 3898 و 3899 و 3913 و 1394 و 3915 و 3916 و 3917 و 2918 و 3922 و 3923 و 3924 و 3925 و 3926 و 3927 و 3928 و 3929 و 3930 و 3931 و 3932 و 3933 و 3934 و 3935 و 3936 و 3937 و 3938 و 3939 و 3940 و 3941 و 3942 و 3943 و 3944 و 3945 و 3946 و 3949 و 3950 و 3951 و 3952.

وفي "الكبرى" 1/ 4590 و 4591 و 4592 و 4593 و 4594 و 4595 و 4596 و 4597 و 4598 و 4599 و 4600 و 4613 و 4614 و 4616 و 4617 و 4623 و 4624 و 4625 و 4626 و 4627 و 4628 و 4629 و 4630 و 4632و 4631 و 4633 و 4634 و 4636 و 4637 و 4638 و 4639 و 4640 و 4641 و 4642 و 4643 و 4644 و 4645 و 4646 و 4647 و 4653 و 4654 و 4655 و 4656 و 4657.

وأخرجه (خ) في "الإجارة" 2286 و"المزارعة" 2327 و2339 و "المساقاة" 2384 (م) في "البيوع" 1547 و 1548 (د) في "البيوع" 3389 و 3392 و 3393 و 3394 و 3395 و 3397 و 3398 و 3399 و 3400 و 3401 و 3402 (ت) في "البيوع" 1303 و"الأحكام" 1384 (ق) في "التجارات" 2267 و "الأحكام" 2449 و 2453 و 2458 و 2459 و 2460 و 2461 و 2465 (أحمد) في "مسند المكثرين" 4490 و 4522 و 52957 و"مسند المكيين" 15396 و 15384 و 15397 و"مسند الشاميين" 16805 و 16827 و 16836 (الموطأ) في "كراء الأرض"1415. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان النهي عن كراء الأرض بالثلث والربع، وسيأتي اختلاف العلماء في المراد بالنهي المذكور. (ومنها): جواز حراثة الأرض، وزراعتها؛ بل ورد فيه من الفضل ما أخرجه الشيخان في "صحيحيهما"

ص: 108

من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم، يَغرِس غَرْسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمةٌ، إلا كان له به صدقة".

وأما الحديث الوارد في الذمّ وهو ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" من حديث أبي أمامة الباهليّ رضي الله عنه، قال -ورأى سِكَّةٌ، وشيئا من آلة الحرث- فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول:"لا يدخل هذا بيت قوم، إلا أدخله اللَّه الذُّلُّ". وفي رواية أبي نعيم في "المستخرج": "إلا أدخلوا على أنفسهم ذُلّا، لا يَخرُج عنهم إلى يوم القيامة".

فمحمول على ما إذا شغله ذلك عن الجهاد في سبيل اللَّه تعالى، والقيام بالواجبات، ولذلك قال الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في ترجمته لهذا الحديث -بعد ذكر "باب فضل الزرع والغرس": ما نصّه: "باب ما يُحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع، أو مجاوزة الحدّ الذي أُمر به". انتهى

(1)

.

(ومنها): الحثّ على "الإحسان بمنح الأرض لمن يحتاج إلى زراعتها، وقد عمل بهذا الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك ترجم البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" بقوله: "باب ما كان من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم يُواسي بعضهم بعضًا في الزراعة والثمر"، ثم أورد حديث رافع بن خديج رضي الله عنه من طريق أبي النجاشيّ، عن رافع، عن عمه ظهير بن رافع رضي الله عنهما الآتي رقم-3950 - إن شاء اللَّه تعالى.

(ومنها): حرص الشارع على الحثّ في التراحم، والتعاطف، وعدم طلب المقابل على "الإحسان" والترغيب إلى ما فيه جلب المودّة والمحبّة، والترهيب عن ما يورث الشحناء، والبغضاء، والحقد، والحسد؛ فإن هذا هو سبب النهي عن المزارعة، كما بُين ذلك في بعض طرق حديث رافع رضي الله عنه، فقد أخرج مسلم -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" عن حنظلة بن قيس الأنصاريّ، قال: سألت رافع بن خديج، عن كراء الأرض بالذهب والورق؟ فقال: لا بأس به، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، على الْمَاذْيَانَاتِ، وأَقْبَال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا، ويَسلَم هذا، ويسلم هذا، ويهلك هذا، فلم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم، مضمون فلا بأس به. انتهى

(2)

.

(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من كمال إيمانهم، وتقديمهم أمر الشارع على

(1)

راجع "صحيح البخاري" بنسخة "الفتح" 5/ 266 - 268. "كتاب الحرث والمزارعة". رقم 2320 و 2321.

(2)

راجع "صحيح مسلم" بنسخة شرح النوويّ 10/ 449. رقم 3929.

ص: 109

هوى أنفسهم، وثقتهم بأن كلّ الخير مضمون فيما أمر اللَّه سبحانه وتعالى به، لا فيما يبدو لهم، ويظنّون الخيريّة فيه، فقد قال هذا الصحابيّ الجليل رضي الله عنه:"نهانا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا، وطواعية اللَّه، ورسوله صلى الله عليه وسلم أنفع لنا"، فبيّن أن النفع الظاهر للنفس لا يُعتمد عليه، بل الاعتماد على ما شرعه اللَّه تعالى، فان الخير كله مضمون فيه، وهذا هو واجب كلّ مسلم إذا سمع نهي الشارع أن يقول: سمعًا وطاعة للَّه سبحانه وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ويعتقد أن الخير كلّه في ذلك، وإن كان يظهر له بادئ ذي بدء أنَّ ما نهى عنه كان نافعًا له، ورافقًا به، فإن اللَّه سبحانه وتعالى أعلم بمصالح عباده منهم لأنفسهم، كما قال عز وجل:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم المزارعة:

قال الإمام ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: المزارعة جائزة في قول كثير من أهل العلم، قال البخاريّ: قال أبو جعفر: ما بالمدينة أهل بيت إلا ويزرعون على الثلث والربع. وزارع عليّ، وسعد، وابن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم، وعروة، وآل أبي بكر، وآل عليّ، وابن سيرين. وممن رأى ذلك سعيد بن المسيّب، وطاوسٌ، وعبد الرحمن بن الأسود، وموسى بن طلحة، والزهريّ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وابنه، وأبو يوسف، ومحمد. وروي ذلك عن معاذ، والحسن، وعبد الرحمن بن يزيد. قال البخاريّ: وعامل عمر الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر من عنده، فله الشطر، وإن جاءوا بالبذر، فلهم كذا.

وكرهها عكرمة، ومجاهد، والنخعيّ، وأبو حنيفة،. وروي عن ابن عبّاس الأمران جميعًا.

وأجازها الشافعيّ في الأرض بين النخيل، إذا كان بياض الأرض أقلّ، فإن كان أكثر فعلى وجهين، ومنعها في الأرض البيضاء؛ لما روى رافع بن خديج رضي الله عنه، قال: كنّا نُخابر على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فذكر أن بعض عمومته أتاه، فقال: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا، وطواعية اللَّه، ورسوله صلى الله عليه وسلم أنفع لنا، قلنا: ما ذاك؟ قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من كانت له أرضٌ، فليَزرَعها، ولا يُكريها بثلث، ولا بربع، ولا بطعام مسمّى"، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ما كنّا نرى بالمزارعة بأسًا حتى سمعت رافع ابن خَديج يقول: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عنها. وقال جابر رضي الله عنه: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن المخابرة.

وهذه كلها أحاديث صحاح متّفقٌ عليها، والمخابرة؛ المزارعة، واشتقاقها من

ص: 110

الْخَبَار، وهي الأرض الليّنة، والْخَبِير: الأَكّار. وقيل: المخابرة: معاملة أهل خيبر.

وقد جاء حديث جابر رضي الله عنه مفسّرًا، فروى البخاريّ بإسناده عن جابر رضي الله عنه قال: كانوا يزرعونها بالثلث، والربع، والنصف، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من كانت له أرضٌ، فليزرعها، أو ليمنحها أخاه، فإن لم يفعل، فليُمسك أرضه". ورُوي تفسيرها عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، فقد روى أبو داود بإسناده عن زيد رضي الله عنه قال: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن المخابرة، قلت: وما المخابرة؟ قال: أن يأخذ الأرض بنصف، أو ثلث، أو ربع.

واحتجّ الأولون بما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرُج منها، من زرع، أو ثمر. متّفقٌ عليه. وقد رُوي ذلك عن ابن عبّاس، وجابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهم. وقال أبو جعفر: عامل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بالشطر، ثم أبو بكر، ثم عمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم، ثم أهلوهم إلى اليوم، يُعطُون الثلث، والربع، وهذا أمر صحيحٌ، مشهور، عَمِل به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى مات، ثم خلفاؤه الراشدون حتى ماتوا، ثم أهلوهم من بعده، فروى البخاريّ عن ابن عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرُجُ منها، من زرع، أو ثمرٍ، فكان يُعطي أزواجه مائة وسق، ثمانون وسقًا تمرًا، وعشرون وسقًا شعيرًا، فقسم عمر رضي الله عنه خيبر، فخيّر أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يَقطع لهنّ من الأرض والماء، أو يُمضي لهنّ الأوسق، فمنهنّ مقلًا اختار الأرض، ومنهنّ من اختار الأوسق، فكانت عائشة رضي الله عنها اختارت الأرض.

ومثل هذا لا يجوز أن ينسخ؛ لأن النسخ إنما يكون في حياة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأما شيء عمل به إلى أن مات، ثم عمل به خلفاؤه بعده، وأجمعت الصحابة رضي الله عنهم، وعملوا به، ولم يُخالف فيه منهم أحد، فكيف يجوز نسخه، ومتى كان نسخه؟، فإن كان نُسخ في حياة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فكيف عُمل به بعد نسخه؟، وكيف خَفِي نسخه؟، فلم يبلغ خلفاءه، مع اشتهار قصّة خيبر، وعَملهم فيها؟ فأين كان رواي النسخ حتى لم يذكروه، ولم يخبرهم به؟.

فأما ما احتجّ به المانعون، فالجواب عن حديث رافع بن خديج رضي الله عنه من أربعة أوجه:

[أحدها]: أنه قد فُسّر المنهي عنه في حديثه بما لا يُختَلَفُ في فساده، فإنه قال: كنّا أكثر الأنصار حَقْلًا، فكنّا نكري الأرض على أن لنا هذه، ولهم هذه، فربّما أخرجت هذه، ولم تُخرج هذه، فنهانا عن ذلك، فأما بالذهب والورق، فلم ينهنا. متّفقٌ عليه. وفي لفظ: فأما بشيء معلوم، مضمون، فلا بأس. وهذا خارجٌ عن محلّ الخلاف، فلا دليل فيه عليه، ولا تعارض بين الحديثين.

[الثاني]: أن خبره ورد في الكراء بثلث، أو ربع، والنزاع في المزارعة، ولم يدلّ

ص: 111

حديثه عليها أصلاً، وحديثه الذي في المزارعة يُحمل على الكراء أيضًا؛ لأن الفضّة واحدةٌ، رُويت بألفاظ مختلفة، فيجب تفسير أحد اللفظين بما يوافق الآخر.

[الثالث]: أن أحاديث رافع رضي الله عنه مضطربة جدًّا، مختلفة اختلافا كثيرًا، يوجب ترك العمل بها لو انفردت، فكيف يُقدّم على مثل حديثنا؟ قال الإمام أحمد: حديث رافع ألوان. وقال أيضًا: حديث رافع ضُرُوبٌ. وقال ابن المنذر: قد جاءت الأخبار عن رافع بعلل تدلّ على النهي كان لذلك، منها: الذي ذكرناه، ومنها: خَمْسٌ أخرى. وقد أنكره فقيهان من فقهاء الصحابة: زيد بن ثابت، وابن عبّاس رضي الله عنهم، قال زيد بن ثابت: أنا أعلم بذلك منه، وإنما سمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلين قد اقتتلا، فقال:"إن كان هذا شأنكم، فلا تُكروا المزارع". رواه أبو داود، والأثرم. وروى البخاريّ، عن عمرو بن دينار، قال: قلت لطاوس: لو تركت المخابرة، فإنهم يزعمون أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عنها، قال: إن أعلمهم -يعني ابن عبّاس- أخبرني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يَنْهَ عنها، ولكن قال:"أن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها خَراجًا معلومًا".

ثم إن أحاديث رافع رضي الله عنه منها ما يُخالف الإجماع، وهو النهي عن كراء المزارع على الإطلاق، ومنها ما لا يُختَلَف في فسادهَ ، كما بيّنّاه، وتارة يُحدّث عن بعض عمومته، وتارة عن سماعه، وتارة عن ظُهير بن رافع رضي الله عنه، وإذا كانت أخبار رافع هكذا، وجب اطّراحها، واستعمال الأخبار الواردة في شأن خيبر الجارية مجرى التواتر التي لا اختلاف فيها، وبها عمل الخلفاء الراشدون، وغيرهم، فلا معنى لتركها بمثل هذه الأحاديث الواهية.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: في قوله: "الأحاديث الواهية" فيه نظر لا يخفى، فكيف تكون واهية، وقد أخرجها الشيخان؟، واعتمدا عليها، بل الصواب أنها صحيحة، ويجب تأويلها بما لا يتنافَى مع حديث شأن خيبر، وذلك هو التأويل الأول في كلام ابن قُدامة، وغير ذلك مما سنبيّنه، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم.

قال: [الجواب الرابع]: أنه لو قُدّر صحّة خبر رافع

(1)

، وامتنع تأويله، وتعذّر الجمع، لوجب حمله على أنه منسوخ؛ لأنه لا بدّ من نسخ أحد الخبرين، ويستحيل القول بنسخ حديث خيبر؛ لكونه معمولًا به من جهة النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى حين موته، ثم من بعده إلى عصر التابعين، فمتى كان نسخه؟.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: دعوى النسخ هنا غير صحيحة؛ لأن النسخ لا يُصار

(1)

هذه عبارة سخيفة، كيف يقول: لو قدّر، مع كونه هو الواقع حقيقة، لا تقديرًا، إن هذا لشيء

عجاب.

ص: 112

إليه إلا عند تعذّر العمل بالنصّ، وهنا لا تعذّر، بل يحمل على أحد المحامل التي ذكرها هو أو غيره، كما فعل هو هنا في حديث جابر، وزيد بن ثابت رضي الله عنهما حيث قال:

وأما حديث جابر رضي الله عنه في النهي عن المخابرة، فيجب حمله على أحد الوجوه التي حُمل عليها خبر رافع، فإنه قد روى حديث خيبر أيضًا، فيجب الجمع بين حديثيه مهما أمكن، ثم لو حُمل على المزارعة لكان منسوخًا بقصّة خيبر؛ لاستحالة نسخها، كما ذكرنا، وكذلك القول في حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.

قال؛ فإن قال أصحاب الشافعيّ: تحُمل أحاديثكم على الأرض التي بين النخيل، وأحاديث النهي على الأرض البيضاء؛ جمعًا بينهما. قلنا: هذا بعيد لوجوه خمسة:

[أحدها]: أنه يبعُدُ أن تكون بلدةٌ كبيرةٌ يأتي منها أربعون ألف وسق، ليس فيها أرض بيضاء، ويبعد أن يكون قد عاملهم على بعض الأرض دون بعض، فينقل الرواة كلهم القصّة على العموم من غير تفصيل، مع الحاجة إليه.

[الثاني]: أن ما يذكرونه من التأويل لا دليل عليه، وما ذكرناه دلّ عليه بعض الروايات، وفسّره الراوي بما ذكرناه، وليس معهم سوى الجمع بين الأحاديث، والجمع بينهما يحمل بعضها على ما فسّره راويه به أولى من التحكّم بما لا دليل عليه

[الثالث]: أن قولهم يُفضي إلى تقييد كلّ واحد من الحديثين، وما ذكرناه حملٌ لأحدهما وحده.

[الرابع]: أن فيما ذكرناه موافقة عمل الخلفاء الراشدين، وأهليهم، وفقهاء الصحابة، وهم أعلم بحديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وسنّته، ومعانيها، وهو أولى من قول من خالفهم.

[الخامس]: أن ما ذهبنا إليه مُجمَعٌ عليه، فإن أبا جعفر روى ذلك عن أهل كلّ بيت بالمدينة، وعن الخلفاء الأربعة، وأهليهم، وفقهاء الصحابة، واستمرار ذلك، وهذا مما لا يجوز خفاؤه، ولم يُنكره من الصحابة منكِرٌ، فكان إجماعًا، وما رُوي في مخالفته، فقد بيّنّا فساده، فيكون هذا إجماعًا من الصحابة رضي الله عنهم، لا يسوغ لأحد خلافه.

والقياس يقتضيه، فإن الأرض عينٌ تُنمّى بالعمل فيها، فجازت المعاملة عليها ببعض نمائها، كالأثمان في المضاربة، والنخل في المساقاة، أو نقول: أرضٌ، فجازت المزارعة عليها، كالأرض بين النخيل، ولأن الحاجة داعيةٌ إلى المزارعة؛ لأن أصحاب الأرض قد لا يقدرون على زرعها، والعمل عليها، والأكَرَةُ يحتاجون إلى الزرع، ولا أَرْضَ لهم، فاقتضت حكمة الشرع جواز المزارعة، كما قلنا في المضاربة، والمساقات، بل الحاجة ههنا آكد؛ لأن الحاجة إلى الزرع آكد منها إلى غيره؛ لكونه مُقتاتًا، ولكون الأرض لا يُنتفع بها إلا بالعمل عليها، بخلاف المال، ويدلّ على ذلك

ص: 113

قول راوي حديثهم: نهانا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا، والشارع لا ينهى عن المنافع، وإنما ينهى عن المضارّ والمفاسد، فدلّ على غلط الراوي في النهي عنه، وحصول المنفعة فيما ظنّه منهيًّا عنه. انتهى كلام ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى- تحقيقٌ نفيسٌ، غير محاولته لتضعيف حديث رافع بن خديج رضي الله عنه، فإنه غير مقبول، فإن الحديث صحيح، وقد اتفق الشيخان على تخريجه، والجمع بينه وبين حديث قصّة خيبر ممكنٌ، كما سبق في كلامه هو، فكيف يضعّفه؟.

والحقّ أن الحديث صحيح، وأنه لا يعارض الحديث المذكور، كما قاله الحذّاق العارفون بعلل الأحاديث، وفقهها، فمن تأمّله، وجمع طرقه، واعتبر بعضها ببعض، وحمل مجملها على مفسّرها، ومطلقها على مقيّدها على أن الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم في حديثهما كان أمرًا بين الفساد، وهي المزارعة الظالمة الجائرة، فإنه رضي الله عنه قال:"كنا نُكري الأرض على أن لنا هذه، ولهم هذه، فربّما أخرجت هذه، ولم تخرج هذه"، وفي لفظ:"كان الناس يؤاجرون على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات، وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع"، وقال أيضًا:"ولم يكن لهم كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، وأما بشيء معلوم، مضمون، فلا بأس"، فهذا، وما أشبهه من حديثه من أبين ما فيه، وأصحّه، وأصرح ما فسّر به ما أجمله، أو أطلقه، أو اختصره في سائر رواياته، فالواجب أن تُحْمَلَ تلك المجملاتُ على المفسّر المبيّن، المتّفق عليه لفظًا، وحكمًا.

قال الإمام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: قد جاءت الأخبار عن رافع بعلل تدلّ على أن النهي كان لتلك العلل.

وقال الإمام الليث بن سعد -رحمه اللَّه تعالى-: الذي نهى عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمر إذا نظر إليه ذو البصيرة بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز.

وأيضًا فقد وقع في حديث جابر رضي الله عنه نحو ما وقع في حديث رافع، لكن الجواب هو الجواب المذكور، فقد وقع في بعض طرقه: "أنهم كانوا يختصون بأشياء من الزرع من القِصْرَى

(2)

، ومن كذا، ومن كذا، فقال صلى الله عليه وسلم: من كان له أرض، فليزرعها، أو

(1)

"المغني" 7/ 555 - 561. "كتاب المزارعة".

(2)

"القِصْريْ" بكسر القاف، وسكون الصاد المهملة هي الرواية "الصحيحة" وهو ما يبقى من الحبوب في سنبله بعد الدَّوْس، وهي لغة شاميّة، قاله ابن دُريد. وقد قيّده بعضهم بفتح القاف مقصورًا، وبعضهم بضمّها مقصورًا. اهـ "المفهم" 5/ 410. وقال في "القاموس": الْقِصْرَى بالكسر، والْقَصَرُ، والقَصَرَةُ محركتين، والْقُصْرَى كبُشْرَى: ما يَبْقَى في الْمُنْخُلِ بعد الانتخال، أو يَخْرُج من القَتَّ بعد الدوسة الأُولى، أو القِشرةُ العُلْيَا من الجبّة. انتهى

ص: 114

ليمنها أخاه"، فهذا مفسّر مبين ذُكر فيه سبب النهي، وأُطلق في غيره من الألفاظ، فينصرف مطلقها إلى هذا المقيّد المبيّن، وأن المراد بالنهي هو هذا النوع.

وقال الإمام البيهقيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "السنن الكبرى" -6/ 133 - 136 - : "باب من أباح المزارعة بجزء معلوم مشاع، وحمل النهي عنها على التنزيه، أو على ما لو تضمّن العقد شرطًا فاسدًا"، ثم أورد الأحاديث، وأورد إنكار ابن عبّاس، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم على رافع ابن خَدِيج، حيث قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: "إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يُحرّم المزارعة، ولكن أمر أن يرفُق الناس بعضهم من بعض

(1)

. وقال زيد بن ثابت رضي الله عنه: يغفر اللَّه لرافع بن خَدِيج أنا واللَّه كنت أعلم بالحديث منه، إنما أتى رجلان من الأنصار إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قد اقتتلا، فقال:"إن كان هذا شأنكم، فلا تُكروا المزارع"، فسمع قوله:"لا تُكروا المزارع".

قال البيهقيّ -رحمه اللَّه تعالى-: زيد بن ثابت، وابن عبّاس رضي الله عنهم كأنهما أنكرا -واللَّه أعلم- إطلاق النهي عن كراء المزارع، وعَنَى ابن عبّاس بما لم يُنه عنه من ذلك كراءها بالذهب والفضّة، وبما لا غرر فيه، وقد قيّد بعض الرواة عن رافع الأنواع التي وقع النهي عنها، وبيّن علّة النهي، وهي ما يُخشى على الزرع من الهلاك، وذلك غرر في العوض، يوجب فساد العقد. قال: وقد روينا عن زيد بن ثابت ما يوافق رواية رافع بن خديج وغيره، فدلّ أن ما أنكره غير ما أثبته. واللَّه أعلم.

قال: ومن العلماء من حمل أخبار النهي على ما لو وقعت بشروط فاسدة، نحو شرط الجداول، والماذْيَانات، وهي الأنهار، وهي ما كان يشترط على الزارع أن يزرعه على هذه الأنهار خاصّة لربّ المال، ونحو شرط القصارة، وهي ما بقي من الحبّ في السنبل بعد ما يداس، ويقال القِصْرَى، ونحو شرط ما يسقي الربيع، وهو النهر الصغير، فكانت هذه، وما أشبهها شروطا شرطها ربّ المال لنفسه خاصّةً، سوى الشرط على النصف، والربع، والثلث، فيرى أن نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن المزارعة إنما كان لهذه الشروط؛ لأنها مجهولة، فإذا كانت الحصص معلومةً، نحو النصف، والثلث، والربع، وكانت الشروط الفاسدة معدومةً، كانت المزارعة جائزة، وإلى هذه ذهب أحمد بن حنبل، وأبو عُبيد، ومحمد بن إسحاق بن خُزيمة، وغيرهم من أهل الحديث، وإليه ذهب أبو يوسف، ومحمد بن الحسن من أصحاب الرأي -رحمهم اللَّه تعالى-، والأحاديث التي مضت في معاملة النبيّ صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر، أو زرع دليلٌ لهم في هذه المسألة.

وقال أيضًا: ومن ذهب إلى هذا زعم أن الأخبار التي ورد النهي فيها عن كرائها

(1)

هكذا نسخة السنن الكبرى" للبيهقي "من بعض" بـ "من"، فليُنظر.

ص: 115

بالنصف، أو الثلث، أو الربع إنما هو لما كانوا يُلحقون به من الشروط الفاسدة، فقصر بعض الرواة بذكرها، وقد ذكرها بعضهم، والنهي يتعلّق بها دون غيرها. انتهى المقصود من كلام البيهقيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد أجاد البيهقيّ -رحمه اللَّه تعالى-، وأفاد في كلامه المذكور.

والحاصل أن المزارعة جائزة، إلا ما كان فيها العوض مجهولاً، أو دخلت فيه الشروط الفاسدة، على ما فُصّل آنفًا.

فبهذا تتفق السنن المأثورة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وتتآلف، ويزول عنها الاضطراب المتوهّم، والاختلاف الذي يظهر في بادئ الرأي، ويظهر أن لكلّ منها وجهًا صحيحًا، ومَرَدًّا مَليحًا، وأن ما نهى عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم غير ما أباحه وفعله، وفعله أيضًا خلفاؤه الراشدون، وصحابته الأكرمون، رضي الله عنهم، وهذا هو الواجب، والواقع في نفس الأمر، وللَّه الحمد، والمنّة، وله الفضل والنعمة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3891 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، سَمِعْتُ مُجَاهِدًا، يُحَدِّثُ عَنْ أُسَيْدِ بْنِ ظُهَيْرٍ، قَالَ: أَتَانَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، فَقَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا، وَطَاعَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْرٌ لَكُمْ، نَهَاكُمْ عَنِ الْحَقْلِ، وَقَالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَمْنَحْهَا، أَوْ لِيَدَعْهَا» ، وَنَهَى عَنِ الْمُزَابَنَةِ، وَالْمُزَابَنَةُ الرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ الْمَالُ الْعَظِيمُ مِنَ النَّخْلِ، فَيَجِيءُ الرَّجُلُ، فَيَأْخُذُهَا بِكَذَا وَكَذَا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد": هو ابن جعفر المعروف بغندر.

وقوله: "أمر كان لنا نافعًا الخ". [فإن قيل]: كيف قال هذا الصحابيّ رضي الله عنه "نهانا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا"، وهو من أعلم الناس أن الشارع لا ينهى عن المنافع، وإنما ينهى عن المضارّ، والمفاسد؟.

[قلت]: نعم أنه لا ينهى عن المنافع، وإنما ينهى عن المضارّ، إلا أن هذه المنافع، إنما منشؤها ظنهم فقط، وليست واقعة في نفس الأمر،، فإنهم ظنّوا أن قد كان لهم في ذلك المنهي عنه منفعة لهم حيث إنهم أصحاب الأراضي، والشروط ملائمة لهم، فإن الأرضى غالبًا إنما تخرج الزرع أكثر في مكان الماء، وأقبال الجداول وهذا في

(1)

"السنن الكبرى" 6/ 133 - 135.

ص: 116

مصالحهم، وهذه مصلحة قاصرة، وتضرّر المزارع أكثر، وأكثر، ونظر الشارع واسعٌ، فإنه يراعي مصالح عموم المسلمين، لا المصحلة القاصرة على بعض الأفراد، ولهذا نهى عن مثل هذه المعاملات الظالمة، حيث كانت المنفعة، منفعة جزئيّة خاصّة بربّ الأرض؛ حيث اختصّ بخيار الزرع، وما يَسعَدُ منه بالماء، وما على أَقْبال الجداول، فهذه هي المنفعة التي تخيّلوها، وبمقابلها المضرّة البحتة على المزارع، فعدالة الشارع الحكيم اقتضت النهي عن ذلك، ونظير ذلك في باب الربا المنفعة التي يختصّ بها المرابي من أخذه الزيادة، مع تضرّر المأخوذ منه، فنهى الشارع عنها؛ لأن الشارع لا يبيح لأحد منفعة يترتّب عليها مضرّة إخوانه، فقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد اللَّه إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يَخذُله، ولا يحقره

" الحديث، أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

فلذلك لَمّا أدرك ذلك الصحابيّ غنى أن المنفعة التي يراها الشارع منفعة محقّقة لكلا الجانبين، بخلاف المنفعة التي كانون يظنّونها فإنها منفعة قاصرة، قال: (وطاعة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خير لكم". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

وقوله: "أو ليدَعْها": أي ليترك زرعها، وليُهملها. [فإن قيل]: كيف يأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بإهمالها، وهو تضييع لمنفعتها، فيكون من إضاعة المال، وقد ثبت النهي عنه؟.

[وأجيب]: يحمل النهي على إضاعة عين المال، أو منفعة لا تُخلَف؛ والأرض إذا تُركت بغير زرع لم تتعطّل منفعتها، فإنها قد تنبت من الكلإ، والحطب، والحشيش ما ينفع في الرعي وغيره، مثل منفعة الزراعة، بل قد يكون الانتفاع بهذا أكثر من الانتفاع بالزراعة، كما هو مشاهدٌ في بعض البلدان، أو بعض الأحيان. وعلى تقدير أن لا يحصل ذلك، فقد يكون تأخير الزرع عن الأرض إصلاحًا لها، كما يفعله كثير من الناس الخبراء بشؤون الزراعة قصدًا، فقد تُخلِف في السنة التي تليها أكثر مما فات في سنة الترك، وهذا كلّه إن حُمل النهي عن الكراء على عمومه، فأما لو حُمل الكراء على ما كان مألوفًا لهم من الكراء بجزء مما يخرج منها، ولا سيّما إذا كان غير معلوم، فلا يستلزم ذلك تعطيل الانتفاع بها في الزراعة، بل يُكريها بالذهب، أو الفضّة، كما تقرّر ذلك

(1)

.

والحديث صحيح، كما سبق القول فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع،

(1)

راجع "الفتح" 5/ 293. "كتاب الحرث والمزارعة".

ص: 117

والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3892 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ ظُهَيْرٍ، قَالَ: أَتَى عَلَيْنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، فَقَالَ: - وَلَمْ أَفْهَمْ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَاكُمْ عَنْ أَمْرٍ، كَانَ يَنْفَعُكُمْ، وَطَاعَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، خَيْرٌ لَكُمْ مِمَّا يَنْفَعُكُمْ، نَهَاكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحَقْلِ، وَالْحَقْلُ الْمُزَارَعَةُ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ أَرْضٌ، فَاسْتَغْنَى عَنْهَا، فَلْيَمْنَحْهَا أَخَاهُ، أَوْ لِيَدَعْ، وَنَهَاكُمْ عَنِ الْمُزَابَنَةِ، وَالْمُزَابَنَةُ الرَّجُلُ يَجِيءُ إِلَى النَّخْلِ الْكَثِيرِ بِالْمَالِ الْعَظِيمِ، فَيَقُولُ: خُذْهُ بِكَذَا وَكَذَا وَسْقًا مِنْ تَمْرِ ذَلِكَ الْعَامِ).

قال الجامع عفاَ اللَّه تعالى عنه: "محمد بن قُدامة": هو القرشيّ مولاهم المصّيصيّ، ثقة [10]. و"جرير": هو ابن عبد الحميد.

وقوله: "فقال: ولم أفهم": لعل المراد لم أفهم سرّ هذا النهي، أو لم أفهم بأيّ سبب جاء النهي. أفاده السنديّ.

وقوله: "بالمال العظيم" متعلّق بـ "الكثير"، والمراد عظم ثمره، وكثرته، يعني أن ذلك النخل كثير الثمر، عظيم الفوائد. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث صحيح، وقد سبق القول فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3893 -

(أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أُسَيْدُ بْنُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: قَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ: نَهَاكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا، وَطَاعَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْفَعُ لَنَا، قَالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ، فَلْيَزْرَعْهَا، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا، فَلْيُزْرِعْهَا أَخَاهُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق": هو الْجُوزَجانيّ، نزيل دمشق، ثقة حافظٌ، رمي بالنصب [11] 122/ 174.

[تنبيه]: هذا الذي ذكرته من كون شيخ المصنّف هنا هو "إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق" الْجُوزجانيّ هو الذي وقع في نسخ "المجتبى"، وكذا في "تحفة الأشراف" 3/ 139 - ووقع في "الكبرى" -3/ 90 - : ما نصّه: أخبرني إسحاق بن يعقوب بن إسحاق، وهو شيخ آخر للمصنّف، وهو:

"إسحاق بن يعقوب" بن إسحاق البغداديّ، أبو محمد، سكن الشام، ثقة [111].

روى عن عفّان، ومعاوية بن عمرو الأزديّ، وتفرّد بالرواية عنه المصنّف، وقال: ثقة. انظر "تهذيب التهذيب" 1/ 131 - و "التقريب" ص30 - ، ولم يتبيّن لي أيّهما

ص: 118

الصواب هنا؛ لأن كلًّا منهما يروي عن عفّان بن مسلم، ويروي عنه المصنّف، لكن مثل هذا لا يؤثّر في صحّة الحديث، فإن كلًّا منهما ثقة، فلا يضرّ عدم معرفة عينه. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

و"عفّان": هو ابن مسلم الصّفّار البصريّ. و"عبد الواحد": هو ابن زياد العبديّ مولاهم البصريّ.

و"سعيد بن عبد الرحمن" بن عبد اللَّه الزُّبَيديّ -بضمّ الزاي- أبو شَيبة الكوفيّ، قاضي الريّ، مقبول [6].

قال البخاريّ: لا يُتابع في حديثه. وقال الآجرّيّ، عن أبي داود: ثقة. وقال ابن عديّ: ليس بذاك المعروف. وذكره ابن حبّان في الثقات، وقال: يروي المقاطيع، مات سنة (156). تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

وقوله: "حدّثني أُسيد بن رافع بن خديج" هكذا وقع في نسخ "المجتبى"، و"الكبرى"، إلا أن فيها أُلحقت لفظة "أخي" بين قوسين هكذا: حدّثني أسيد بن [أخي] رافع بن خديج، والظاهر أن هذا هو الصواب، كما في "تحفة الأشراف" -3/ 139 - وقول المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بعد هذا: خالفه الخ يدلّ على هذا.

وأما أُسيد بن رافع بن خَديج، فستأتي روايته برقم 1395 و 3952 - ، من رواية بكير ابن عبد اللَّه بن الأشجّ، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج.

وذكر في "تهذيب التهذيب" - 1/ 176 - أنه من طريق مجاهد: عن أسيد بن أخي رافع بن خَدِيج، واختلف على مجاهد فيه أيضًا، والحديث واحد. انتهى.

والحاصل أن الظاهر هنا أنه أسيد ابن أخي رافع بن خديج، وهو أُسيد بن ظهير المتقدّم، على ما قيل. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث ضعيف؛ لأن في سنده سعيد بن عبد الرحمن، وقد سبق الكلام فيه، وقد خالف عبد الكريم الجزريّ -كما بينه المصنّف بعدُ-وهو أثبت، وأحفظ منه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله: (خَالَفَهُ عَبْدُ الْكَرِيم بْنُ مَالِكٍ) يعني أن عبد الكريم بن مالك الجزريَّ خالف سعيد بن عبد الرحمن، فجعلهَ عن ابن رافع بن خَديج، عن أبيه، كما بين ذلك بقوله:

3894 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ -يَعْنِي ابْنَ عَمْرٍو- عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: أَخَذْتُ بِيَدِ طَاوُسٍ، حَتَّى أَدْخَلْتُهُ عَلَى ابْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، فَحَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ نَهَى عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ، فَأَبَى طَاوُسٌ، فَقَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، لَا يَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا).

ص: 119

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عبيدُ اللَّه بن عمرو": هو الْجزريّ، أبو وهب الرّقّيّ الثقة. و"عبد الكريم": هو ابن مالك، أبو سعيد الجزريّ الثقة الثبت.

و"ابن رافع بن خَديج"، غير مُسمَّى هنا، ولا في "صحيح مسلم"، كما قال في "تحفة الأشراف" ج 3/ ص 161 - وأما ما قاله في "التقريب" مما نصّه:(م س) ابن رافع بن خديج، عن أبيه في النهي عن المزارعة، له ولدان: هُرَير، وعَبَاية، تقدّما. انتهى. ففيه نظر؛ لأن هريرًا ليس ابنه، وإنما هو حفيده، فقد تقدّم له في ترجمته: ما نصّه: هرير -بالتصغير- ابن عبد الرحمن بن رافع بن خدِيج الأنصاريّ، مقبول [5]. فتنبّه.

وأما عَبَاية: فهو -بفتح أوله، والموحّدة الخفيفة، وبعد الألف تحتانيّة خفيفة- ابن رفاعة بن رافع بن خديج الأنصاريّ الزرقيّ، أبو رفاعة المدنيّ، ثقة [3] 9/ 3116.

والحديث أخرجه مسلم، ولفظه من طريق حماد بن زيد، عن عمرو، أن مجاهدا، قال لطاوس: انطلق بنا إلى ابن رافع بن خديج، فاسمع منه الحديث، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: فانتهره، قال: إني واللَّه لو أعلم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عنه، ما فعلته، ولكن حدثني من هو أعلم به منهم -يعني ابن عباس- أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"لأن يمنح الرجل أخاه أرضه، خير له من أن يأخذ عليها خرجا معلوما". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (وَرَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ، ، عَنْ أَبيِ حَصِينِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَالَ: عَنْ رَافِعٍ، مُرْسَلاً) أراد بهذا أن أبا حصين خالف عبد الكريم الجزريّ، فجعله منقطعًا، بإسقاط الواسطة بين مجاهد، ورافع، فقال: عن مجاهد، عن رافع، بينما هو جعله متّصلاً بذكر الواسطة، وهو ابن رافع بن خَدِيج، وإنما كانت رواية أبي حصين منقطعة؛ لأن مجاهدًا لم يلق رافع بن خديج رضي الله عنه، كما بُيّن في ترجمته من "تهذيب التهذيب" 4/ 26.

وقوله: "مرسلاً" حال من فاعل "قال"، ومراده بالمرسل المنقطع، وكثيرًا ما يستعمل المصنّف، وأبو داود الإرسال بمعنى الانقطاع، وهو مذهب بعض المحدّثين، وهو المعروف عند الأصوليين، قال في "الكوكب الساطع" مبيّنا تعريفه، وحكمه عندهم:

قَوْلُ سِوَى الصَّاحِبِ قَالَ: الْمُصْطَفَى

مُرْسَلُنَا ثُمَّ احْتِجَاجَهُ اقْتَفَى

ثَلَاَثةُ الأَئِمَّةِ الأَعْلَامُ

وَقِيلَ إِنْ أَرْسَلَهُ إِمَامُ

وَقِيلَ مِنْ أَهْلِ القُرُونِ الْخُرَّدِ

(1)

وَقِيلَ أَقْوَى حُجَّةً مِنْ مُسْنَدِ

وَرّدُّهُ الأَقْوَى وَقَوْلُ الأَكْثَرِ

كَالشَّافِعِي وَأَهْلِ عِلْمِ الْخَبَرِ

(1)

جمع خَريدة، وهي النفيسة، أي القرون المفضّلة.

ص: 120

مَا لَمْ يَكُ الْمُرْسِلُ لَا يَعْتَمِدُ

إِلاَّ عَنِ العُدُولِ أَوْ بَعْتِضِدُ

مُرْسَلُ تَابِعٍ مِنَ الْكِبَارِ

بِقَوْلِ صَاحِبٍ أَوِ انْتِشَارِ

أَوْ فِعْلِهِ أَوْ فِعْلِ أَهْلِ الْعَصْرِ أَوْ

بِقَولِ جُمهُورٍ وَمُرْسَلٍ رَأَوْا

أَوْ مُسْنَدٍ أَوْ بِقِيَاسٍ يُوجَدُ

فَالحُجَّهُ المَجْمُوعُ لَا الْمُنْفَرِدُ

أَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ سِوَى مُرْسَلِهِ

فَالأَظْهَرُ انْكِفَافُنَا لأَجْلِهِ

وأما المرسل عند أكثر متأخّري المحدّثين فهو ما رفعه التابعيّ مطلقًا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقيل: التابعيّ الكبير، وإلى هذا، وحكمه عندهم أشرت في "شافية الْغُلل في ألفية العلل"، فقلت:

مَا رَفَعَ التَّابِعُ مُطلَقًا إِلَى

نَبِيِّنَا الْمُرّسَلُ عِنْدَ النُّبَلَا

وَقِيلَ بَلْ كَبِيرُهُم أَوْ مُطلَقُ

مُنْقَطِع كَذَا الخِلَافَ حَقَّقُوا

وَالأَرْجَحُ الأَوَّلُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا

فِي حُكْمِهِ فَالأَكَثَرُونَ ضَعَّفُوا

ذَكَرَهُ الحَاكِمُ عَنْ جَمَاعَةِ

أَهْلِ الْحَدِيثِ سَاكِنِي الْمَدِينَةِ

مِثلِ سعيدٍ مَالِكٍ وَالزُّهْرِي

وَأَحْمَدٍ وَالشَّافِعِيِّ الغُرِّ

(1)

كَذَاكَ الاوْزَاعِي وَفِي أَكْثَرِ مَا

ذَكَرَ يُنْظَرُ فَلَيْسَ مُحْكَمَا

وَلَا يَصِحُّ عَنْهُمُ الطَّعْنُ عَلَى

عُمُومِهِ بَلَى لِبَعْضٍ نُقِلَا

وَشَرَطَ الْحَبْرُ الإِمَامُ الشَّافِعِي

فِي مُرْسَلٍ يَقْبَلُهُ ، عَنْ تَابِعِي

عَدَمَ نَقْلِهِ لِمَنْ لَا يُقْبَلُ

وَعَدَمَ الْخِلَافِ حِينَ يَنْقُلُ

لِسَائِرِ الْحُفَّاظِ فِيمَا أَسْنَدَا

وَكَؤنَهُ مِنَ الكِبَارِ اعْتَمَدَا

وَأَيْضًا اشْتَرَطَ فِي مُرْسَلِهِ

كَوْنَهُ مَعْضُودًا بِمُرْسِي أَصْلِهِ

تَعْضِدُهُ أَشْيَاءُ مِنْهَا الأَقَوَى

كَوْنُهُ مُسْنَدًا بِوْجْهِ أَقْوَى

كَذَاكَ مُرْسَلٌ أَتَى عَمَّنْ نَقَلْ

عَنْ غَيْرِ مَنْ أَرْسَلَ عَنْهُ حَمَلْ

كَذَاكَ إِنْ وَافَقَهُ مَا قَدْ وَرَدْ

عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ الْمُعْتَمَدْ

كَذَاكَ إِنْ وَافَقَهُ مَا نُقِلَا

عَنْ جُلِّ أَهلِ العِلمِ أَيْضًا قُبِلَا

(1)

بالضمّ جمع أَغَرّ، صفة للجميع.

ص: 121

هَذَا خُلَاصَةُ مَقَالِ الشَّافِعِي

فِي مُرْسَلٍ يقْبَلُهُ عَنْ تَابِعِي

وَهوَ لَدَى الْحُجَّةِ دُونَ الْمُتَّصِلْ

وَنَحْوُ مَا قَالَهُ أَيْضًا قَدْ نُقِلْ

عَنْ غَيْرِهِ مِنْ جُلِّ أَهْلِ الْعِلْمِ

كَنَجْلِ حَنْبَل حَلِيفِ الْحِلْمِ

ثم أورد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- رواية أبي عوانة، عن أبي حَصِين، عن مجاهد، فقال:

3895 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَمْرٍ، كَانَ لَنَا نَافِعًا، وَأَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ، نَهَانَا أَنْ نَتَقَبَّلَ الأَرْضَ بِبَعْضِ خَرْجِهَا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح.

و"أبو عوانة": هو الوضّاح بن عبد اللَّه اليشكريّ الواسطيّ. و"أبو حَصِين" -بفتح الحاء، وكسر الصاد المهملتين-: هو عثمان بن عاصم الأسديّ الكوفيّ.

وقوله: "وقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم" مبتدأ، خبره "على الرأس والعين"، وهو كناية عن قبوله، وتقديمه على ما تهواه أنفسهم، من النفع المظنون لهم.

وقوله: "أن نتقبّل الأرض": أي نُكريها. وقوله: "ببعض خَرْجها" -بفتح الخاء المعجمة، وسكون الراء: أي ما يخرج منها، من ثمر، وحبوب.

والحديث في إسناده انقطاع، لكن المتن صحيح بالأسانيد المتقدّمة والآتية. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقول (تَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُهَاجِرٍ) الضمير لأبي حَصِين: يعني أن إبراهيم بن مهاجر تابع أبا حصين في إرسال هذا الحديث، كما بيّنه بقوله:

3896 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَرْضِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، قَدْ عَرَفَ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ، فَقَالَ: «لِمَنْ هَذِهِ الأَرْضُ؟» ، قَالَ: لِفُلَانٍ أَعْطَانِيهَا بِالأَجْرِ، فَقَالَ: «لَوْ مَنَحَهَا أَخَاهُ» ، فَأَتَى رَافِعٌ الأَنْصَارَ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَاكُمْ عَنْ أَمْرٍ، كَانَ لَكُمْ نَافِعًا، وَطَاعَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْفَعُ لَكُمْ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن سليمان": هو الرُّهَاويّ الثقة الحافظ.

و"عُبيد اللَّه": هو ابن موسى بن أبي الْمُختار باذام العبسيّ الكوفيّ الثقة الثبت.

و"إسرائيل": هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعيّ الكوفيّ الثقة الثبت. و"إبراهيم بن مُهاجر": هو البجليّ الكوفيّ، صدوق، ليّن الحفظ [5] 68/ 992.

وقوله: "وقد عرف أنه محتاج" أي عرف النبيّ صلى الله عليه وسلم أن ذلك الرجل ذو حاجة وفقر،

ص: 122

ولهذا قال: "لو منحها أخاه". وقوله: "لو منحها أخاه" جواب محذوف، أي لكان خيرًا له. وهذا يُفهم منه أنه صلى الله عليه وسلم إنما قاله ترغيبًا لصاحب الأرض أن لا يأخذ عليها أجرًا، بل الأحسن له أن يدفعها لأخيه دون مقابل؛ لكون الرجل محتاجًا.

وقوله: "إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهاكم الخ" أي نهي تنزيه، لا نهي تحريم بدليل الأحاديث الآخر، كما تقدّم تحقيقه.

والحديث سبق القول فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3897 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحَقْلِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد": هو ابن جعفر غندر. و"الحكم": هو ابن عُتيبة. وقوله: "عن الحقل" -بفتح، فسكون-: أي الزرع، والمراد به هنا كراء المزارع، وقد عرفت فيما سبق معنى النهي المذكور.

والحديث سبق القول فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3898 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ خَالِدٍ -وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ- قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: حَدَّثَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، قَالَ: خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَهَانَا عَنْ أَمْرٍ، كَانَ لَنَا نَافِعًا، فَقَالَ: «مَنْ كَانَ لَهُ أَرْضٌ، فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ يَمْنَحْهَا، أَوْ يَذَرْهَا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"عبد الملك": هو ابن ميسرة الهلاليّ الزّرّاد، أبو زيد العامريّ الكوفيّ. والحديث فيه انقطاع، كما سبق قريبًا، لكن المتن صحيح بما سبق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3899 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَمُجَاهِدٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَهَانَا عَنْ أَمْرٍ، كَانَ لَنَا نَافِعًا، وَأَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْرٌ لَنَا، قَالَ:«مَنْ كَانَ لَهُ أَرْضٌ، فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ لِيَذَرْهَا، أَوْ لِيَمْنَحْهَا» .

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عبد الرحمن بن خالد": هو القطّان الواسطيّ، ثم الرَّقّيّ، صدوق [11] 7/ 753. و"حجاج": هو ابن محمد الأعور المصّيصيّ.

ص: 123

و"عبد الملك": هو ابن ميسرة المذكور في السند الذي قبله. و"عطاء": هو ابن أبي رباح.

وقوله: "وطاوس، ومجاهدٍ" بالجرّ عطفًا على عطاء، فعبد الملك يروي عن الثلاثة.

والحديث صحيح، وإن كان في هذا الإسناد إنقطاع؛ لأن مجاهدًا لم يسمع من رافع،

كما سبق، وكذا عطاء، وطاوس، كما سينبّه عليه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَاوُسًا لَمْ يَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ) أي من رافع بن خديج رضي الله عنه، كما بيّنته عبارة "الكبرى"، كما سيأتي.

وقوله: "مما يدلّ الخ" - جارّ ومجرور خبر مقدّمٌ لقوله: "أخبرني محمد بن عبد اللَّه الخ" بتقدير اسم موصول، أي ما أخبرني الخ، ويوضّح ذلك ما في "الكبرى"، ولفظه: "قال أبو عبد الرحمن: ومما يدلّ على أن طاوسًا لم يسمع هذا الحديث من رافع بن خديج أن محمد بن عبد اللَّه بن المبارك قال: حدثنا زكريا بن عديّ الخ.

وحذف الموصول، وإبقاء صلته جائز في العربية، كما في قول حسّان بن ثابت رضي الله عنه:

أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ

وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ

والتقدير: ومن يمدحه، وليست جملة "يمدحه" معطوفةً على "يهجو" لفساد المعنى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم.

وغرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا الكلام بيان أن رواية طاوس المذكوة فيها انقطاع، كرواية مجاهد؛ لأنه لم يسمع هذا الحديث من رافع بن خديج رضي الله عنه وإنما سمعه بواسطة.

ووجه استدلال المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بالرواية الآتية على أن طاوسًا لم يسمع هذا الحديث من رافع رضي الله عنه أن قول مجاهد له: اذهب إلى ابن رافع بن خديج، فاسمع منه الخ يدلّ على أنه لم يسمعه من رافع رضي الله عنه؛ لأنه لو سمع منه لما طلب منه مجاهد أن يسمعه من ابنه، فتبيّن أن هذه الرواية منقطعة. واللَّه تعالى أعلم.

ثم ساق -رحمه اللَّه تعالى- الرواية التي استدلّ بها على أن طاوسًا لم يسمع هذا الحديث من رافع رضي الله عنه، فقال:

3900 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيٍّ، قَالَ:

(1)

راجع "حاشية الخضريّ على ألفية ابن مالك في النحو" 1/ 104.

ص: 124

حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: كَانَ طَاوُسٌ يَكْرَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ أَرْضَهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا يَرَى بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ بَأْسًا، فَقَالَ لَهُ مُجَاهِدٌ: اذْهَبْ إِلَى ابْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، فَاسْمَعْ مِنْهُ حَدِيثَهُ، فَقَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهُ، مَا فَعَلْتُهُ، وَلَكِنْ حَدَّثَنِي مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا قَالَ:«لأَنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ أَرْضَهُ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا خَرَاجًا مَعْلُومًا» .

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ) المخرّميّ المذكور قريبًا.

2 -

(زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيٍّ) بن الصلت التيمي مولاهم، أبو يحيى الكوفيّ، نزيل بغداد، ثقة جليل حافظ، من كبار [10] 28/ 551.

3 -

(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) بن درهم الأزديّ الجهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقة ثبت فقيه، من كبار [8] 3/ 3.

4 -

(عمْرُو بْنُ دِينَارٍ) الأثرم الجمحيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقة ثبت [4] 112/ 154.

5 -

(طَاوُسٌ) بن كيسان الحميريّ مولاهم، أبو عبد الرحمن اليمانيّ الفارسيّ، يقال: ذكوان، وطاوس لقبه، ثقة فقيه فاضل [3] 27/ 31.

6 -

(ابن عبّاس) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ) الأثرم -رحمه اللَّه تعالى-، أنه (قَالَ: كَانَ طَاوُس) ابن كيسان -رحمه اللَّه تعالى- (يَكْرَهُ) بفتح أوله، من الكراهية (أَنْ يُؤَاجِرَ أَرْضَهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا يَرَى بالثُّلُثِ وَالرُّبُع بَأْسًا) ولعله حمل النهي على المؤاجرة بالذهب والفضّة، وأباح بالثلثَ والربع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم عامل أهلِ خيبر على شطر ما يخرج منها (فَقَالَ: لَهُ مُجَاهِدٌ: اذْهَبْ إِلَى ابْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ) الظاهر إنما قاله له ذلك؛ لئلا يتعامل بالمزارعة؛ لأنه كان يُزارع، ومجاهد لا يرى ذلكَ، فأراد أن يقيم عليه الحجة في ذلك بما يسمعه من حديث

ص: 125

رافع بن خديج رضي الله عنه بواسطة ابنه.

وهذا الذي رواه عمرو بن دينار مما جرى لمجاهد مع طاوس وقع له مثله معه، فقد أخرج الشيخان واللفظ لمسلم من طريق سفيان بن عُيينة، عن عمرو بن دينار، وعبد اللَّه بن طاوس، عن طاوس، أنه كان يخابر، قال عمرو: فقلت له: يا أبا عبد الرحمن، لو تركت هذه المخابرة، فإنهم يزعمون أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، نهى عن المخابرة؟، فقال: أي عمرُو، أخبرني أعلمهم بذلك -يعني ابن عبّاس- أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، لم يَنْهَ عنها، إنما قال:"يمنح أحدكم أخاه، خير له من أن يأخذ عليها خرجا معلوما".

(فَاسْمَعْ مِنْهُ حَدِيثَهُ) أي الحديث الذي يحدّث به عن أبيه في النهي عن المخابرة، فإن المشهور في معنى المخابرة أنها المعاملة على الأرض ببعض ما يخرُج منها، فتدخل في النهي الصورة التي يتعامل بها طاوس، فأراد أن يسمع الحديث، فيترك تلك المعاملة.

(فَقَالَ) طاوس (إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهُ) أي عن هذا التعامل الذي أتعامله أنا في مؤاجرة الأرض (مَا فَعَلْتُهُ) هذا دليل على أن طاوسًا لم يصدّق بحديث النهي عن المخابرة على إطلاقه، وذلك لأنه يعتقد أن ابن عباس رضي الله عنهما أعلم من رافع بن خديج رضي الله عنه، فخديج وإن كان سمع ذلك إلا أنه أجراه على ظاهره، وابن عبّاس حمله على التنزيه، وهو أعلم منه، فيقدّم ما قاله، وقد سبق أن رافعًا رضي الله عنه أيضًا قائل بهذا، على ما يدلّ عليه بعض رواياته، فتفطّن. واللَّه تعالى أعلم.

(وَلَكِنْ حَدَّثَني مَن هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ) أي من رافع بن خديج رضي الله عنه الذي حدّث بالحديث على إطلاقه، ولم يقيده، ولم يفصّله. وقوله (ابْنُ عَبَّاسٍ) بالرفع بدل من "مَنْ هو"، أو عطف بيان له، ويجوز قطعه إلى الرفعِ بتقدير مبتدإ، أي هو ابن عبّاس، أو إلى النصب، أي أعني ابن عبّاس رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا قَالَ) وفي رواية البخاريّ من طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، قال: قلت لطاوس: لو تركت المخابرة، فإنهم يزعمون أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عنه، قال: أي عمرُو، إني أُعطيهم وأُعِنيُهم، وإن أعلمهم أخبرني -يعني ابن عبّاس رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، لم ينه عنه، ولكن قال:"أن يمنح أحدكم أخاه، خير له من أن يأخذ عليه خَرْجًا معلومًا".

وقوله: "لم ينه عنه" أي عن إعطاء الأرض بجزء مما يخرُج منها، ولم يُرِد ابن عبّاس بذلك نفي الرواية المثبتة للنهي مطلقًا، وإنما أراد أن النهي الوارد عنه ليس على حقيقته، وإنما هو على الأولويّة. وقيل: المراد أنه لم ينه عن العقد الصحيح، وإنما نهى عن الشرط الفاسد، لكن قد وقع في رواية الترمذيّ:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يُحرّم المزارعة"،

ص: 126

فيقوّي التأويل الأول. أفاده في "الفتح"

(1)

.

("لَأَنْ يَمْنَح) بفتح اللام؛ لأنها لام ابتداء، و"يمنح" بفتح النون، وكسرها: أي يُعطي، قال الفيّوميّ: الْمِنْحَةُ بالكسر في الأصل: الشاة، أو الناقة، يُعطيها صاحبها رجلاً، يشرب لبنها، ثم يردّها إذا انقطع اللبن، ثم كثُر استعماله حتى أُطلق على كلّ عطاء، ومَنَحْتُهُ مَنْحًا، من بأبي نفع، وضرب: أعطيتُهُ، والاسم الْمَنِيحَةُ. انتهى.

والمؤوّل بالمصدر مبتدأ، خبره قوله:"خير"، فهو نظير قوله تعالى:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184](أَحَدُكُم أَخَاهُ أَرْضَهُ)"أخاه" مفعول أول لـ "يمنح"، و"أرضه" مفعوله الثاني (خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا خَرَاجًا) بفتح الخاء المعجمة: أي أجرة، قال الفيّوميّ: الْخَرَاج، والْخَرَاجُ: ما يَحصُلُ من غلّة الأرض، ولذا أطلق على الجزية. انتهى (مَعْلُومًا) يعني أن إعطاءه الأرض لأخيه، لينتفع بها بدون عِوَضٍ أعظم أجرًا عند اللَّه تعالى من أخذه أجرًا معلومًا عليها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المر جع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-2/ 3900 - وفي "الكبرى"14600. وأخرجه (خ) في "المزارعة" 2330 و 2342 و"الهبة" 2634 (م) في "البيوع" 1550 (د) في البيوع" 3389 (ت) في "الأحكام"1385 (ق) في "الأحكام" 2456 و 2457 و 2462 و 2464 (أحمد) في "مسند بني هاشم" 2088. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): جواز المزارعة، لقول ابن عبّاس رضي الله عنهما، كما في رواية الشيخين:"إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يَنْهَ عنه"، أي لم يحرّمه، كما صرّح الترمذيّ به في روايته. (ومنها): استحباب المواساة بمنح الأرض لمن لا يجدها بدون عوض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لأن يمنح أحدكم أخا له أرضه الخ". (ومنها): أنه يدلّ على أن طاوسًا يرى ابن عبّاس رضي الله عنهما أعلم من رافع بن خَدِيج رضي الله عنه، وهو كذلك، فإنه كان يلقّب بالحبر والبحر؛ لسعة علمه بسبب دعوة النبيّ

(1)

راجع "الفتح" 5/ 281.

ص: 127

- صلى الله عليه وسلم، بقوله:"اللهم فقّهه في الدين، وعلمه التأويل"، كما رواه أحمد في "مسنده"، وقد بُين سببُ ذلك فيما رواه الشيخان عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أتى الخلاء، فوضعت له وَضُوءا، فلما خرج، قال:"من وضع هذا؟ "، قالوا: ابن عبّاس، قال:"اللَّهم فقهه في الدين". وفي رواية ابن ماجه في "سننه": قال: ضمّني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إليه، وقال:"اللهم علّمه الحكمة، وتأويل الكتاب". (ومنها): ما كان عليه السلف من التباحث في المسائل الفقهيّة، واحتجاج بعضهم على بعض؛ إرادة التوصّل إلى ظهور الحقّ، لا لحبّ المحمدة، والتعالي على الأقران. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقول: (وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَى عَطَاءٍ فِي هَذَا الْحَدِيث) يعني أن الرواة اختلفوا على عطاء ابن أبي رباح في روايته لهذا الحديث (فَقَالَ: عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ) العامريّ الزرّاد (عَنْ عَطَاء) بن أبي رباح (عَنْ رَافِعٍ) بن خديج رضي الله عنه (وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ) أي في الرواية التي قبل هذه الرواية (وَقالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبيِ سُلَيْمَانَ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ جَابِرٍ) يعني أن عبد الملك بن أبي سليمان خالف عبد الملك بن ميسرة الزّرّاد في هذا الحديث، فقال: عن عطاء، عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما، فجعله من مسند جابر رضي الله عنه مخالفا له في جعله من مسند رافع بن خديج رضي الله عنه، كما بين ذلك بما ساقه بقوله:

3901 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَنْ كَانَ لَهُ أَرْضٌ، فَلْيَزْرَعْهَا، فَإِنْ عَجَزَ أَنْ يَزْرَعَهَا فَلْيَمْنَحْهَا أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، وَلَا يُزْرِعْهَا إِيَّاهُ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "إسماعيل بن مسعود": هو الْجَحْدَريّ، أبو مسعود البصريّ الثقة، من أفراد المصنّف. و"عبد الملك": هو ابن أبي سليمان ميسرة الْعَرْزَميّ الكوفيّ، صدوقٌ، له أوهام [5] 7/ 406. واتّفق اسم أبيه مع اسم والد عبد الملك الزّرّاد المتقدِّم، لكن والد هذا مشهور بكنيته، بخلاف والد ذاك، فإنه لم يشتهر بكنية. و"عطاء": هو ابن أبي رباح. و" جابر": هو ابن عبد اللَّه بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ السُّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما.

وقوله: "فليزرعها" بفتح حرف المضارعة، أي ليزرعها بنفسه، لا بأجير يستأجره لزراعتها. وقوله:"ولا يُزرِعها" بضمّ حرف المضارعة، والمراد بالأخ الأخوّة الدينية، سواء كان معها نسبٌ، أم لا، أي لا يعطها أخاه مزارعة بالأجرة، وهذا النهي كما تقدّم محمول على التنزيه، إن كان بالثلث، والربع، أو بأجرة معلومة، وإن كان بشروط فاسدة، كأن يستثني صاحب الأرض بعضًا مما يخرج لنفسه، أو يدفعه بما على

ص: 128

الماذْياناة، أو السواقي، فعلى التحريم؛ لاشتماله على شروط فاسدة، مضرّة بأحد الجانبين، وتمام شرح الحديث، وفوائده يُعلم مما سبق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث جابر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-2/ 3901 و 3902 و 3903 و 3904 و 3905 و 3906 و 3907 و 39018 و 3909 و 3910 - وفي "الكبرى" 1/ 4601 و 4602 و 4603 و 4604 و 4605 و 4606 و 4607 و 4608 و 4609 و 4610. وأخرجه (خ) في "المزارعة" 2340 و"الهبة" 2632 و"المساقاة"2381 (م) في "البيوع" 1536 (ق) في "الرهون" 2451. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3902 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ، فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ، وَلَا يُكْرِيهَا» .

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق آخر لرواية عبد الملك بن أبي سليمان في جعله الحديث عن عطاء، عن جابر رضي الله عنه. و"عمرو بن عليّ": هو الفَلاس. و"يحيى": هو ابن سعيد القطّان.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تمام البحث فيه في الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله: (تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو الأَوْزَاعِيُّ) يعني أن الأوزاعيّ تابع عبد الملك بن أبي سليمان في روايته لهذا الحديث عن عطاء، عن جابر رضي الله عنه، كما بيّنه بقوله:

3903 -

(أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ حَمْزَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ لأُنَاسٍ فُضُولُ أَرَضِينَ، يُكْرُونَهَا بِالنِّصْفِ، وَالثُّلُثِ، وَالرُّبُعِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ، فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ يُزْرِعْهَا، أَوْ يُمْسِكْهَا» .

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "هشام بن عمّار": هو السلميّ الدمشقيّ الخطيب، صدوق، مقرىء، كبر، فصار يتلقّن، فحديثه القديم أصحّ، من كبار [10] 134/ 202.

و"يحيى بن حمزة": هو أبو عبد الرحمن الدمشقيّ القاضي، ثقة رُمي بالقدر [8] 60/ 1768. و"الأوزاعيّ": هو الإمام المشهور عبد الرحمن بن عمرو، أبو عمرو الفقيه الثقة

ص: 129

الحجة الجليل [7] 45/ 56.

وقوله: "فضول أرضين""فضول":-بالضمّ-: جمع فضل، كفلس وفلوس: بمعنى زائد، يقال: خذ الفضل: أي الزيادة. وقوله: "أرضين" -بفتحتين-: جمع أرض: أي أراض فاضلة عن قدر ما يحتاجونه للزراعة. وقوله: "يُكرونها" بضمّ أوله، من الإكراء: أي يدفعونها لأناس آخرين بالأجرة.

والحديث أخرجه مسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (وَافَقَهُ مَطَرُ بْنُ طَهْمَانَ) يعني أن مطر بن طهمان وافق عبد الملك بن أبي سليمان في روايته عن عطاء، عن جابر، كما تابعه على ذلك الأوزاعيُّ، والتعبير في الأوزاعيّ بالمتابعة، وفي مطر بالموافقة للتفنّن، ثم ساق موافقة مطر، بقوله:

3904 -

(أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ مُحَمَّدٍ -وَهُوَ أَبُو عُمَيْرِ بْنُ النَّحَّاسِ- وَعِيسَى بْنُ يُونُسَ - هُوَ الْفَاخُورِيُّ- قَالَا: حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ، عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ، عَنْ مَطَرٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ، فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ لِيُزْرِعْهَا، وَلَا يُؤَاجِرْهَا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عيسى بن محمد، أبو عُمير بن النحاس" -بمهملتين- الزملي، ويقال: اسم جدّه عيسى، ثقة فاضل، من صغار [10] 41/ 1688. و"عيسى بن يونس الفاخُوريّ": هو أبو موسى الرّمليّ، صدوق، ربّما أخطأ [11] 42/ 3177.

و"ضمرة": هو ابن ربيعة الفِلسطينيّ، أبو عبد اللَّه، دمشقي الأصل، صدوقٌ يهم قليلًا [9] 41/ 2688.

و"ابن شَوْذب": هو عبد اللَّه بن شَوْذَب الْبَلْخِيّ، أبو عبد الرحمن، سكن البصرة، ثم الشام، صدوقٌ عابد [7].

قال أبو طالب عن أحمد: ابن شوذب من أهل بَلْخ، نزل البصرة، وسمع بها الحديث، وتفقّه، وكتب، ثم انتقل إلى الشام، فأقام بها، وكان من الثقات. وقال سفيان: كان ابن شَوْذب من ثقات مشايخنا. وقال أبو زرعة الدمشقيّ، عن أحمد: لا أعلم به بأسًا. وقال مرّةً: لا أعلم إلا خيرًا. وقال ابن معين، هو ابن عمّار، والنسائيّ: ثقة. وقال أبو حاتم: لا بأس به. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال كثير بن الوليد: كنت إذا نظرت إلى ابن شَوْذب ذكرت الملائكة. ووثقه أيضًا ابن نُمير، والعجليّ. وأما ابن حزم، فقال: إنه مجهول. ولا التفات إلى قوله، فقد عرفه الأئمة الكبار: أحمد، هو ابن معين، وأبو حاتم، وغيرهم، فماذا بعد هؤلاء؟. ولد سنة (86) ومات سنة (6)

ص: 130

أو أول (157) وقيل: سنة (244). روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط: هذا، وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه في "كتاب القسامة""باب القود" 7/ 4730 - "أن رجلاً أتى بقاتل وليّه .... " الحديث.

و"مطر بن طهمان": هو الورّاق، أبو رجاء السلميّ مولاهم الْخُرَاسانيّ، سكن البصرة، صدوقٌ كثير الخطأ، وحديثه عن عطاء ضعيف [6] 38/ 3276.

والحديث أخرجه مسلم، ولا يضرّ كون مطرِ في إسناده، وقد ضُعّف في عطاء، كما مرّ آنفًا؛ لأنه تابعه غيره، كما مرّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3905 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ مَطَرٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، رَفَعَهُ: "نَهَى عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن إسماعيل بن إبراهيم" الأسديّ المعروف أبوه بابن عُليّة، البصريّ، نزيل دمشق وقاضيها، ثقة [11] 22/ 489.

و"يونس": هو ابن محمد: هو أبو محمد المؤدّب البغداديّ، ثقة ثبت، من صغار [9] 15/ 1632. و"حماد": هو ابن زيد

(1)

. وتقدّم المراد بالنهي عن كراء الأرض، فلا تغفل.

والحديث أخرجه مسلم، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله: (وَافَقَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبدِ الْعَزِيزِ بْنِ جُرَيجٍ عَلَى النَّهْي ، عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ) يعني أن ابن جُريج وافق مطرًا الوراق عن عطاء، عن جابر رضي الله عنه في النهي عن كراء الَأرض، وذلك لأن النهي عن المخابرة، والمحاقلة بمعنى النهي عن كراء الأرض، ثم ساق رواية ابن جريج بقوله:

3906 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَأَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "نَهَى عَنِ الْمُخَابَرَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ، وَالْمُحَاقَلَةِ، وَبَيْعِ الثَّمَرِ، حَتَّى يُطْعَمَ، إِلاَّ الْعَرَايَا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

(1)

كون حماد هنا هو ابن زيد هو الصواب كما صرّح به في "صحيح مسلم" برقم 3893 - ، و"تحفة الأشراف" 2/ 244، وقد أخطأ أصحاب برنامج الحديث الشريف، في النسائيّ برقم 3878 - فترجموا لحماد بن سلمة، وهو غلط فاحش، فتنبّه.

ص: 131

2 -

(المفَضَّل) بن فَضَالَة بن عُبيد بن ثُمامة الْقِتْبَانيّ، أبو معاوية المصريّ القاضي، ثقة عابد [8] 42/ 586.

3 -

(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقة فقيه فاضل، لكنه يدلّس [6] 28/ 32.

4 -

(عطاء) بن أبي رباح أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقة فقيه فاضل، لكنه كثير الإرسال [3] 112/ 154.

5 -

(أبو الزبير) محمد بن مسلم بن تدْرُس المكيّ، صدوق يدلّس [4] 31/ 35.

6 -

(جابر) بن عبد اللَّه بن عمرو بن حرام الصحابيّ ابن الصحابيّ - رضي اللَّه تعالى - عنهما 31/ 35. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمكيين غير شيخه، فبَغْلَاني، وشيخ شيخه، فمصريّ. (ومنها): أن فيه جابرًا - رضي اللَّه تعالى عنه - من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ جَابِرٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "نَهَى ، عَنِ المُخَابَرَةِ) قال ابن الأثير: قيل: هي المزارعة على نصيب معين، كالثلث، والربع، وغيرهما، والْخُبْرة: النصيب. وقيل: هو من الْخَبَار: الأرض الليّنة. وقيل: أصل المخابرة من خيبر؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقرّها في أيدي أهلها على النصف من محصولها، فقيل: خابرهم: أي عاملهم في خيبر. انتهى

(1)

.

(وَالمُزَابَنَةِ) هي بيع الرُّطَب في رؤوس النخل بالتمر، وأصله من الزَّبْنِ، وهو الدّفْعُ، كأن كلّ واحد من المتبايعين يزبِنُ صاحبه عن حقّه بما يزداد منه، وإنما نُهي عنها؛ لما يقع فيها من الغبن، والجهالة. قاله ابن الأثير

(2)

.

(وَالْمُحَاقَلَةِ) قال ابن الأثير: المحاقلة مختلف فيها، قيل: هي اكتراء الأرض بالحنطة، هكذا جاء مفسّرًا في الحديث، وهو الذي يسمّيه الزرّاعون: المحارثة. وقيل: هي المزارعة على نصيب معلوم، كالثلث، والربع، ونحوهما. وقيل: هي بيع الطعام

(1)

"النهاية" 2/ 7.

(2)

"النهاية" 2/ 294.

ص: 132

في سنبله بالبرّ. وقيل: بيع الزرع قبل إدراكه. وإنما نُهي عنها؛ لأنها من المكيل، ولا يجوز فيه إذا كان من جنس واحد، إلا مثلاً بمثل، ويدًا بيد، وهذا مجهولٌ، لا يُدرى أيهما أكثر. انتهى

(1)

.

(وَبَيْعِ الثمَرِ، حَتَّى يُطْعَمَ) بالبناء للمفعول: أي حتى يصير صالحًا للأكل (إِلَّا الْعَرَايَا) جمع عَرِية، كعَطيّة، وعطايا، وهَديّة وهدايا، وقد فِسّرت بتفاسير. قال ابن الأثير -رحمه اللَّه تعالى-: اختُلف في تفسيرها، فقيل: إنه لَمّا نَهَى عن المزابنة، وهو بيع الثمر في رؤوس النخل بالتمر رَخّص في جملة المزابنة في العرايا، وهو أن من لا نخل له، من ذوي الحاجة يُدرك الرُّطَب، ولا نقد بيده يشتري به الرطب لعياله، ولا نخل له يُطعمهم منه، ويكون قد فضل له من قوته تمر، فيجيىء إلى صاحب النخل، فيقول له: بِعْني ثمر نخلة، أو نخلتين بِخَرْصها من التمر، فيُعطيه ذلك الفاضل من التمر بثمر تلك النخلات؛ ليُصيب من رُطَبها مع الناس، فرَخَّص فيه، إذا كان دون خمسة أوسق. والْعَريّة: فَعيلة بمعنى مفعولة، من عراه يعروه: إذا قصده. ويحتمل أن تكون فَعِيلة بمعنى فاعلة، من عَرِيَ يَعْرَى: إذا خلع ثوبه، كأنها عُرِّيت من جملة التحريم، فعَرِيت: أي خرجت. انتهى كلام ابن الأثير

(2)

.

وقال السنديّ: وظاهر هذا الاستثناء أن المراد ما يُعطيه صاحب المال لبعض الفقراء، من نخلة، أو نخلتين، ثم يثقُل عليه دخول الفقير في ماله كلّ يوم لخدمة النخلة، فيستردّ منه النخلة على أن يعطيه قدرًا من التمر في أوانه، ولا يناسب للحديث تفسير العريّة بنخلة يشتريها من يريد أكل الرطب، ولا نقد بيده، يشتريها به، فيشتريها بتمر بقي من قوته، إذ لا وجه للرخصة في الشراء قبل بدوّ الصلاح، بل هو أحوج إلى اشتراط بدوّ الصلاح من غيره، فكيف يُرخّص له في خلافه من غير حاجة، إلا أن يُجعل الاستثناء عن المزابنة، كما في سائر الأحاديث، وإن كان بعيدًا من هذا الحديث، فليُتأمّل. انتهى كلام السنديّ

(3)

.

وسيأتي تمام البحث في ذلك في "كتاب البيوع"، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

(1)

"النهاية" 1/ 416.

(2)

"النهاية" 3/ 224 - 225.

(3)

"شرح السنديّ" 7/ 37 - 38.

ص: 133

حديث جابر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 2/ 3906 و 3907 و"البيوع" 28/ 4523 و 4524 وفي "الكبرى" 1/ 4606 و 4607 و"البيوع" 27/ 6114 و 6115. وأخرجه (خ) في "المزارعة" 2341 و"المساقاة" 2381 و"الهبة" 2633 (م) في "البيوع" 1536 (د) في "البيوع" 2370 و 2373 (ق) في "التجارات" 2216 و 2266 و"الأحكام" 2451 و 2454 (أحمد) في "مسند المكثرين" 13830 و 13857 و 13942 و 14399 و 14399 و2755 و 14588 و 14789 و 148559 و 2615. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (تَابَعَهُ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ) يعني أن يونس بن عُبيد العبديّ تابع ابن جُريج في رواية

هذا الحديث عن عطاء، عن جابر رضي الله عنه، كما بيّنه بقوله:

3907 -

(أَخْبَرَنِي زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمُحَاقَلَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ، وَالْمُخَابَرَةِ، وَعَنِ الثُّنْيَا إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "زياد بن أيوب": هو البغداديّ المعروف بدلّويه.

و"عبّاد بن العوّام" بن عمر بن عبد اللَّه بن المنذر بن مُصعب بن جَنْدل الكلابيّ مولاهم، أبو سهل الواسطيّ، ثقة [8].

قال الحسن بن عَرَفة: سألني وكيع عنه أتحدّث عنه؟، فقلت: نعم قال: ليس عندكم أحد يشبهه. وقال الفضل بن زياد عن أحمد: كان يُشبه أصحاب الحديث. وقال الأثرم، عن أحمد: مضطرب الحديث عن سعيد بن أبي عروبة. وقال ابن معين، والعجليّ، وأبو داود، والنسائيّ، وأبو حاتم: ثقة. وقال ابن خِراش: صدوق. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، ووثقه البزار. وقال القرّاب: وُلد سنة (118). وقال ابن سعد: كان ثقة، وكان يتشيّع، فأخذه هارون، فحبسه، ثم خَلَّى عنه، فأقام ببغداد، ومات سنة (185)، وكذا أرّخه غير واحد. وقال حاتم بن الليث، عن سعيد بن سليمان: حدّثنا عناد العوّام، وكان من نبلاء الرجال في كلّ أمره، ومات سنة ستّ. وكذا أرخه أبو موسى الْعَنَزيّ، وأبو أميّة. وقال أسلم الواسطيّ: مات سنة (87).

روى له الجماعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب ثمانية أحاديث: هذا الحديث، و 2/ 4002 حديث ابن عبّاس في قوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} الآية [النساء: 93]، و 50/ 4578 حديث أبي بكرة رضي الله عنه: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن بيع الفضّة

ص: 134

بالفضة

الحديث، و60/ 4612 حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل سَلَف وبيع"، و 74/ 4633 حديث جابر رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة

" الحديث، و 43/ 4841 حديث عبد اللَّه بن عمرو قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "في الأسنان خمس من الإبل"، و 79/ 5283 حديث أنس رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتختّم في يمينه، و 37/ 5494 حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتعوّذ من عين الجانّ.

" الحديث.

و"سفيان بن حسين": هو الواسطيّ، ثقة في غير الزهريّ باتفاقهم [7] 41/ 1716.

و"يونس بن عُبيد": هو العبديّ، أبو عبيد البصريّ، ثقة ثبت فاضل ورع [5] 88/ 109.

وقوله: "وعن الثُّنْيَا إلا أن تُعلَم": "الثنيا" -بضمّ المثلثة، وسكون النون، مقصورًا، كالدنيا: اسم من الاستثناء، و"تُعلم" بالبناء للمفعول: أي ونهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن استثاء شيء مجهول؛ لأنه يؤدي إلى النزاع، وكذلك لا يجوز استثناء قيل معلوم؛ لأنه قد لا يبقى بعده شيء.

والحديث صحيح، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (وَفِي رِوإيَةِ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى كَالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ عَطَاء لَمْ يَسْمَعْ من جَابِر حَدِيثَهُ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ كَانَ لَهُ أُرْضٌ فَلْيَزرَعْهَا) هذا الكلام من المصنّف مشكلٌ؛ لأنه ثبت حديث عطاء، عن جابر رضي الله عنه في "الصحيحين"، وغيرهما، كما سيتّضح قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى. ثم ذكر رواية همّام التي أشار إليها بقوله:

3908 -

(أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: سَأَلَ عَطَاءً سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَ جَابِرٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ، فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ لِيُزْرِعْهَا أَخَاهُ، وَلَا يُكْرِيهَا أَخَاهُ» .

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن يحيى": هو الأوديّ، أبو جعفر الكوفيّ العابد الثقة [11] 38/ 1274 من أفراد المصنّف. و"أبو نعيم": هو الفضل بن دُكين.

و"همام بن يحيى": هو العوذيّ البصريّ. و"سليمان بن موسى": هو الأشدق الدمشقيّ، صدوق في حديثه بعض لين، وخولط قبل موته بقليل [5] 7/ 504.

هكذا ساق المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- هنا، وفي "الكبرى" 3/ 92 رقم 4600 - هذه الرواية وهي بعكس رواية مسلم في "صحيحه"، فقد أخرجه من الوجه الذي أخرجه المصنّف، ودونك ولفظه، قال -رحمه اللَّه تعالى-:

حدثنا شيبان بن فَرُّوخَ، حدثنا همام، قال: سأل سليمان بن موسى عطاءً، فقال:

ص: 135

أحدثك جابر بن عبد اللَّه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"من كانت له أرض، فليزرعها، أو ليزرعها أخاه، ولا يُكرِها"؟ قال: نعم.

فهذا صريح في أن السائل هو سليمان بن موسى، والمسؤول هو عطاء، بخلاف رواية المصنّف، فإنه بالعكس، والذي يظهر لي أن رواية المصنّف مقلوبة، والدليل على ذلك أن الحديث أخرجه الشيخان، من رواية عطاء، عن جابر، فأخرجه البخاريّ في "الحرث والمزارعة"

2340 -

حدثنا عبيد اللَّه بن موسى أخبرنا الأوزاعي، عن عطاء، عن جابر رضي الله عنه، قال: كانوا يزرعونها بالثلث، والربع، والنصف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"من كانت له أرض فليزرعها، أو ليمنحها، فإن لم يفعل فليمسك أرضه".

وفي "كتاب الهبة، وفضلها" قال:

2632 -

حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا الأوزاعيّ، قال: حدثني عطاء، عن جابر رضي الله عنه، قال: كانت لرجال منا فُضول أرضين، فقالوا: نؤاجرها بالثلث، والربع، والنصف؟، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من كانت له أرض فليزرعها، أو ليمنحها أخاه، فإن أبى فليمسك أرضه".

وأخرجه مسلم من عدّة طرق، عن عطاء، عن جابر رضي الله عنه، فأخرجه من رواية مطر الوراق، والأوزاعيّ، وبُكيبر بن الأخنس، وعبد الملك بن ميسرة، أربعتهم، عن عطاء، عن جابر رضي الله عنه.

وقد صرّح عطاء بالسماع في رواية ابن ماجه، ولفظه:

2451 -

حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقيّ، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعيّ، حدثني عطاء، قال: سمعت جابر بن عبد اللَّه، يقول: كانت لرجال منا فضول أرضين، يؤاجرونها على الثلث والربع، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من كانت له فضول أرضين فليزرعها، أو ليزرعها أخاه، فإن أبى فليمسك أرضه".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أن سماع عطاء لهذا الحديث من جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنه، مما لا شكّ فيه، ولا ارتياب، والذي يظهر لي أن رواية المصنّف دخلها القلب، من بعض رواتها، أو منه -فسبحان من لا يسهو، ولا يغفل- فجعل السائل عطاءً، والمسؤول سليمان بن موسى، فاستنبط منه المصنّف أن رواية عطاء المتقدّمة منقطعة؛ لأنه إنما سمعها من سليمان بن موسى الأشدق، هذا الذي يفهم من كلامه.

ولكن كيف ساغ له ذلك؟ وسليمان عن جابر منقطع؛ لأنه لم يسمع منه، كما صرّح بذلك ابن معين، وغيره، كما ذكره في ترجمته من "تهذيب التهذيب" 2/ 111 - 112 -

ص: 136

وهذا الحديث اتفق أصحاب الصحاح، وغيرهم على تخريجه؟.

والحاصل أن الحديث صحيح متصل بسماع عطاء، من جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنه، وأن قول المصنّف هذا فيه نظر من وجوه:

1 -

اتفاق الشيخين على إخراج الحديث في "صحيحيهما، من رواية عطاء، عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما.

2 -

أن الفضّة المذكورة بعكس ما قصّه مسلم في "صحيحه".

3 -

أنه لو سُلّم ما قاله للزم عدم اتصال الحديث بوجه من الوجوه؛ لأن سليمان بن موسى لم يسمع من جابر رضي الله عنه، ولا حديثًا واحدًا كما تقدّم، بخلاف عطاء، فإنه ممن سمع منه غير هذا الحديث، وأكثر الرواية عنه، ففي الكتب الستة من روايته عنه ثمانية وستون حديثًا، راجع "تحفة الأشراف" -2/ 220 - إلى ص 246 - هذا بالنسبة للكتب الستة، فما بالك إذا ضمّت رواياته التي في غيرها من الكتب الحديثية. ولم أرَ من تعرّض لكلام المصنّف هذا، واللَّه تعالى المستعان.

والحديث أخرجه مسلم، وسبق تمام البحث فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله: (وَقَدْ رَوَى النَّهْيَ ، عَنِ الْمُحَاقَلَةِ يَزِيدُ بْنُ نُعَيْمٍ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أراد -رحمه اللَّه تعالى- بهذا أن يزيد تابع عطاء في رواية هذا الحديث عن جابر رضي الله عنه، كما بيّنه بقوله:

3909 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلاَّمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنِ يَزِيدَ بْنِ نُعَيْمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: نَهَى عَنِ الْحَقْلِ، وَهِيَ الْمُزَابَنَةُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن إدريس": هو الحنظليّ، أبو حاتم الرازيّ الحافظ الناقد، إمام الجرح والتعديل [11] 112/ 2879.

و"أبو توبة": هو الربيع بن نافع الحلبي، نزيل طَرَسُوس، ثقة حجة عابد [10]. قال أبو حاتم: ثقة صدوقٌ حجة. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صدوق. وقال الأثرم: سمعت أبا عبد اللَّه، وذكر أبا توبة، فأثنى عليه، وقال: لا أعلم إلا خيرًا. وقال النسائيّ: أخبرنا سليمان بن الأشعث، سمعت أحمد يقول: أبو توبة لم يكن به بأس، كان يجيئني. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال الآجريّ، عن أبي داود: أبو توبة كان يحفظ الطوال، يجىء بها، ورأيته يمشي حافيًا، وعلى رأسه طويلة، وكان يقال: إنه من الأبدال. وقال يعقوب بن سفيان: لا بأس به، ومات سنة (241). روى له الجماعة،

ص: 137

سوى الترمذيّ، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، وفي 50/ 4579 - في "البيوع " حديث أبي بكرة رضي الله عنه: "نهانا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن نبيع الفضّة بالفضّة

" الحديث.

و"معاوية بن سَلاّم": هو أبو سلّام الدمشقيّ، وكان يسكن حمص، ثقة [7] 13/ 1479.

و"يحيى بن أبي كثير" صالح بن المتوكّل الطائيّ مولاهم، أبو نصر اليماميّ، ثقة ثبت، يدلّس [5] 23/ 24.

و"يزيد بن نُعيم" بن هَزّال الأسلميّ، مقبول [5].

روى عن أبيه، وجدّه، ويقال: مرسل، وجابر، ويقال: لم يسمع منه، والصحيح أنه متصل، وقع التصريح بسماعه منه عند مسلم، وقال البخاريّ: سمع من جابر. وعنه زيد بن أسلم من أقرانه، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وهو أكبر منه، ويحيى بن أبي كثير، وغيرهم. ذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له مسلم، وأبو داود، والمصنّف، له عند مسلم، والمصنّف هذا الحديث فقط، وله عند أبي داود ثلاثة أحاديث.

وقوله: "نهى عن الحَقْل، وهي المزابنة"، هذا في رواية المصنّف أن الحقل هي المزابنة، وهي مخالفة لتفسير جابر رضي الله عنه في رواية مسلم، فقد أخرجه من الوجه الذي أخرجه منه المصنّف، ودونك نصّه:

وحدثنا الحسن الحلواني، حدثنا أبو توبة، حدثنا معاوية، عن يحيى بن أبي كثير، أن يزيد بن نعيم أخبره، أن جابر بن عبد اللَّه أخبره، أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ينهى عن المزابنة، والحقول، فقال جابر بن عبد اللَّه: المزابنة الثمر بالتمر، والحقول كراء الأرض.

فهذه الرواية صريحة أن الحقل غير المزابنة، وهذا التفسير هو المشهور، فقد ثبت في حديث عبد اللَّه بن عمر، رضي الله عنهما: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، نهى عن المزابنة، والمزابنة اشتراء الثمر بالتمر كيلا، وبيع الكرم بالزبيب كيلا. متّفق عليه. وفي حديث أبي سعيد الخدريّ، رضي الله عنه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، نهى عن المزابنةُ، والمحاقلة، والمزابنةُ اشتراءُ الثمر بالتمر في رءوس النخل.

والحاصل أن التفسير الذي في رواية مسلم هو المشهور في غير حديث جابر رضي الله عنه، وسنعود إلى تمام البحث فيه في "كتاب البيوع"، إن شاء اللَّه تعالى.

والحديث أخرجه مسلم، كما مرّ آنفًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 138

وقوله (خَالَفَهُ هِشَامٌ، وَرَوَاهُ عَنْ يَحيَىَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ) يعني أن هشام بن أبي عبد اللَّه الدستوائيّ خالف معاوية بن سلّام في إسناد هذا الحديث، فرواه عن يحيى ابن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما، لكن هذه المخالفة لا تضرّ، ولذلك أخرجه مسلم من الطريقين، وإن كان في لفظ المتن اختلاف، ثم ساق رواية هشام بقوله:

3910 -

(أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنِ الْمُزَابَنَةِ، وَالْمُخَاضَرَةِ، وَقَالَ: «الْمُخَاضَرَةُ: بَيْعُ الثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ يَزْهُوَ، وَالْمُخَابَرَةُ: بَيْعُ الْكَرْمِ بِكَذَا وَكَذَا صَاعٍ).

قاَلَ الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "أخبرنا الثقة" هذا الثقة لم يتبيّن لي من هو؟، فإن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- روى لحماد بن مسعدة في ثمانية مواضع من هذا الكتاب، فكلّها نصّ على اسم من روى عنه، إلا في هذا الموضع، فقد روى برقم 1040 عن عُبيد اللَّه بن سعيد السرخسيّ، عنه، وفي 3446 عن إسحاق بن إبراهيم ابن راهويه، عنه، وفي 3852 عن إسحاق، عنه أيضًا، وفي 4066 عن محمد بن بشّار، عنه، وفي 4679 عن هارون بن عبد اللَّه، عنه، وفي 5183 عن عُبيد اللَّه بن سعيد المتقدِّم، عنه، وفي 5489 عن عبد اللَّه بن محمد بن عبد الرحمن، فهولاء هم الذين روى عنهم حديث حماد بن مسعدة، فيحتمل أن يكون أحد هؤلاء، ويحتمل أن يكون غيره ..

[تنبيه]: اختلف العلماء في قبول التعديل على الإبهام، من غير تسمية المرويّ عنه، كقول الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى-: أخبرنا الثقة، وكذلك قول المصنّف المذكور هنا:

فقال أبو بكر الصيرفيّ، والخطيب البغداديّ: لا يُقبل؛ لجواز أن يكون فيه جرحٌ لم يَطلع عليه قائل ذلك، وصححه النوويّ، قال: وقد وَصَفَ مالك بذلك عبدَ الكريم بن أبي المخارق، وهو ضعيف؛ لخفاء حاله عليه.

وقيل: يُقبل مطلقًا، كما لو عيّنه؛ لأنه مأمون في الحالتين، واختار إمام الحرمين القبول، إن وقع من إمام عارف بأسباب "الجرح والتعديل" والاختلافِ في ذلك، ورجّحه الرافعي في "شرح مسند الشافعيّ".

ولم يَحْكِ ابن الصلاح، والنوويّ هذا القول على هذا الوجه، بل حكياه على وجه أن قائل ذلك إن كان مجتهدًا قُبل في حقّ مقلّديه، دون غيرهم بأن يذكر لأصحابه قيام الحجة عنده على الحكم، وقد عَرَفَ هو من روى عنه، وعلى هذا الوجه تكون الأقوال

ص: 139

ثلاثة، وعلى التقرير الأول قولان فقط؛ لأنه لا قائل بالقبول من غير عارف بأسباب الجرح والتعديل.

وكذا اختلفوا لو قال: حدّثني من لا أتهم، كما يقع ذلك في عبارة الشافعي، وغيره، فقال ابن السبكيّ: هو كقوله: أخبرنا الثقة، فيكون مقبولًا في قول، وغير مقبول في قول آخر. وقال الذهبيّ: ليس توثيق أصلا؛ لأنه نفيٌ للتهمة من غير تعرّض لإتقانه، وكونه حجة. قال ابن السبكيّ: وهذا صحيح، غير أن هذا إذا وقع من الشافعيّ محتجًّا به على حكم في دين اللَّه، فهو والتوثيق سواء في أصل الحجة، وإن كان مدلوله لا يزيد على ما ذكره الذهبيّ، فمن ثمّ خالفناه في مثل الشافعيّ، أما من ليس مثله، فالأمر كما قال. انتهى.

وإلى هذا أشار في "الكوكب الساطع"، حيث قال:

وَالوَصْفُ مِنْ كَالشَّافِعِيِّ بِالثِّقَة

عِنْدَ إِمَامِ الحَرَمَيْنِ تَوْثقَهْ

وَقِيلَ لَا وَمِثْلُهُ لَا أَتَّهِمْ

وَالذَّهَبِيُّ لَيْسَ تَوْثِيقًا نَسِمْ

(1)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي أن مثل المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- يُقبل تعديله على الابهام؛ لأنه لا يتساهل في الجرح والتعديل، فالحقّ قبول تعديله على الإبهام. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "المخاضرة": قال ابن الأثير: "المخاضرة": هي بيع الثمار خَضْرًا، لم يبد صلاحها. انتهى. وهي معنى قوله: بيع الثمر قبل أن يزهو،: يقال: زها النخل يزهو: إذا ظهرت ثمرته، وأزهى يُزهي: إذا اصفرّ، واحمرّ. وقيل: هما بمعنى الاحمرار والاصفرار. ومنهم من أنكر يزهُو، ومنهم من أنكر يزهي. قاله ابن الأثير

(2)

.

وقال الفيّوميّ: زها النخل يَزهُو زَهْوًا، والاسم الزُّهُوُّ بالضمّ: ظهرت الحمرة والصفرة في ثمره. وقال أبو حاتم: وإنما يُسمّى زَهْوًا إذا خَلَصَ لون الْبُسْرة في الحمرة، أو الصفرة، ومنهم من يقول: زها النخل: إذا نبت ثمره، وأزهى: إذا احمّر، أو اصفرّ، وزها النبت يزهو زَهْوًا: بلغ. انتهى.

وقوله؛ "بيع الكرم الخ": أي بيع العنب الذي على رؤوس الكرم بالزبيب الذي في البيت مثلاً.

والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو

(1)

راجع شرحي المسمّى "الجليس الصالح النافع بتوضيح معاني الكوكب الساطع" ص 294 - 29.

(2)

"النهاية" 2/ 323.

ص: 140

حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (خَالَفَهُ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ فَقَالَ: عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،) يعني أن عمر بن أبي سلمة خالف يحيى بن أبي كثير، فجعله عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهذا الاختلاف أيضًا لا يضرّ بصحّة الحديث، فإنه صحيح بالطريقين، فالحديث ثابت من حديث جابر، وأبي هريرة رضي الله عنهما، عند الشخين، وغيرهما من عدّة طرق، فتنبّه.

[تنبيه]: وقع في نسخ "المجتبى"، و"الكبرى" عمرو بفتح العين، بدل عُمر بضمّها، وهو تصحيف فاحش، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

ثم ساق رواية عمر بن أبي سلمة بقوله:

3911 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الْمُحَاقَلَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. و"سفيان": هو الثوريّ. و"سعد بن إبراهيم": هو الزهريّ المدنيّ القاضي.

و"عمر بن أبي سلمة" بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، قاضي المدينة، صدوقٌ يُخطىء [6].

قال ابن سعد: كان كثير الحديث، وليس يُحتجّ بحديثه. وقال ابن المدينيّ، عن يحيى بن سعيد: كان شعبة يُضعّف عمر بن أبي سلمة. وقال أبو قُدامة: قلت لابن مهديّ: إن شعبة أدركه، ولم يحمل عنه، قال: أحاديثه واهية. وقال ابن أبي خيثمة: سألت أبي عنه؟ فقال: صالح إن شاء اللَّه، وكان يحيى بن سعيد يختار محمد بن عمرو عليه. وقال أحمد: لم يسمع شعبة منه شيئًا. وقال ابن المدينيّ: تركه شعبة، وليس بذاك. وقال ابن معين: ليس به بأس. وفي رواية: ضعيف الحديث. وقال أبو حاتم: هو عندي صالح صدوقٌ في الأصل، ليس بذاك القويّ، يُكتب حديثه، ولا يُحتجّ به، يُخالف في بعض الشيء. وقال العجليّ: لا بأس به. وقال الجُوزجانيّ: ليس بقويّ في الحديث. وقال النسائيّ: ليس بالقويّ. وقال ابن خزيمة: لا يُحتجّ بحديثه. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد بن حنبل: هو صالح ثقة، إن شاء اللَّه. وقال البخاريّ في "التاريخ": صدوقٌ إلا أنه يُخالف في بعض حديثه. وذكره الْبَرْقيّ في "باب من احتُمل حديثه من المعروفين"، قال: وأكثر أهل العلم بالحديث يُثَبِّتونه. وقال ابن عديّ: حسن الحديث، لا بأس به. وقال الدُّوريّ: سألت ابن معين عن حديث من حديثه؟، فقال: صحيح، وسألته عن آخر، فاستحسنه. وحكى ابن أبي خيثمة أن ابن

ص: 141

معين ضعّفه، رواه هُشيم عنه. وذكره ابن حنان في "الثقات"، وقال: قدِم واسط، فكتب عنه هشيم، وأبو عوانة، وكان على قضاء المدينة، قيَّده عبد اللَّه بن عليّ بالشام سنة (132) وكذا ذكر ابن سعد، وخليفة، وفي رواية عن خليفة: قُتل سنة (133) والصحيح الأول

روى له الجماعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، و 16/ 4980 - : حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"إذا سرق العبد، فبعه، ولو بِنَشٍّ"، وقال: قال أبو عبد الرحمن: عمر بن أبي سلمة ليس بالقويّ في الحديث. انتهى.

والحديث أخرجه مسلم، 3910 - من رواية أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد سبق القول فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (خَالَفَهُمَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، فَفَالَ: عَنْ أَبي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) يعني أن محمد ابن عمرو بن علقمة بن وقّاص الليثيّ المدنيّ، خالف كلًّا من يحيى بن أبي كثير، وعمر ابن أبي سلمة، فرى الحديث عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، وهذا الاختلاف أيضًا لا يضرّ؛ لأن محمد بن عمرو لم يتفرد به، بل تابعه أبو سفيان، مولى ابن أبي أحمد، فرواه عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، أخرجه الشيخان به، فأخرجه البخاريّ في "البيوع" 2186 ومسلم في "البيوع" من هذا الوجه.

والحاصل أنَّ حديث أبي سعيد رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه. واللَّه تعالى أعلم، ثم ساق رواية محمد بن عمرو، فقال:

3912 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى -وَهُوَ ابْنُ آدَمَ- قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُحَاقَلَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح. "عبد الرحيم": هو ابن سليمان الكنانيّ، أو الطائيّ، أبو عليّ الأشلّ المروزيّ، نزيل الكوفة، ثقة، له تصانيف، من صغار [8] 57/ 2305. والحديث متّفقٌ عليه من رواية أبي سفيان، عن أبي سعيد رضي الله عنه، كما مرّ أنفًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (خَالَفَهُمُ الأَسْوَدُ بْنُ الْعَلَاءِ، فَقَالَ: عَنْ أَبِى سَلَمَةَ، عَنْ رَافِع بْنِ خَدِيجٍ) يعني أن الأسود بن العلاء بن جارية الثقفيّ، خالف الثلاثة: يحيى بن أبي كثير، وعمر بن أبي سلمة، ومحمد بن عمرو، فرواه عن أبي سلمة، عن رافع بن خديج رضي الله عنه، وهذا

ص: 142

الاختلاف أيضًا لا يضرّ؛ فإن الحديث ثابت عن رافع بن خديج رضي الله عنه من عدّة طرق عند الشيخين، وغيرهما، كما تقدّم بيانه في -2/ 3890 - فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

ثم ساق رواية الأسود بن العلاء، بقوله:

3913 -

(أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُمْرَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمُحَاقَلَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "زكريا بن يحيى": هو السِّجْزيّ الحافظ المعروف بخيّاط السنّة.

و"محمد بن يزيد بن إبراهيم": هو محمد بن سعيد بن يزيد بن إبراهيم -نُسب لجده- أبو بكر التُّستريُّ، نزيل البصرة، مقبول، من صغار [10].

روى عن أبي قُتيبة، ومعاذ بن هشام، وعبد اللَّه بن حُمْران، وغيرهم. وعنه ابن ماجه، وأبو بكر البزار، وزكريا السجزيّ، وجماعة. ذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له المصنّف، وابن ماجه، وله عند المصنّف حديث الباب فقط.

و"عبد اللَّه بن حُمران" -بضمّ المهملة، وسكون الميم- ابن عبد اللَّه بن حُمران بن أبان الأُمويّ مولاهم، أبو عبد الرحمن البصريّ، صدوقٌ يُخطىء قليلاً [9].

قال ابن معين: صدوق صالح. وقال أبو حاتم: مستقيم الحديث صدوقٌ. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: يُخطىء. وقال الدارقطنيّ: ثقة. وقال ابن شاهين: شيخٌ ثقةٌ مُبرِّرٌ. وقال ابن أبي عاصم: مات سنة (206) وقال غيره: سنة (5). علّق له البخاريّ، وأخرج له مسلم، وأبو داود، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

[تبيه]: وقع في معظم نسخ "المجتبى"، والكبْرى" "عبيد اللَّه بن حمران"، مصغّرًا، بدل "عبد اللَّه" مكبّرًا، وهو تصحيف، والصواب عبد اللَّه مكبّرًا، وهو الذي في النسخة الهندية، و"تُحفة الأشراف"، و"التقريب"، و"تهذيب التهذيب". فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث صحيحٌ، كما سبق الكلام فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (رَوَاهُ القَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ) يعني أن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصدّيق روى هذا الحديث عن رافع بن خديج رضي الله عنه، كما رواه أبو سلمة وغيره عنه.

ص: 143

[تنبيه]: تعبيره بقوله: (وقد رواه، مثل تعبيره فيما مضى تارة بتابعه، وتارة بوافقه، وهو من التفنّن بالعبارة، فكلها تعتبر متابعة، واللَّه تعالى أعلم.

ثم ساق المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- روايته بقوله:

3914 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مُرَّةَ، قَالَ: سَأَلْتُ الْقَاسِمَ، عَنِ الْمُزَارَعَةِ، فَحَدَّثَ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمُحَاقَلَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح.

و"أبو عاصم": هو الضّحّاك بن مَخلَد النبيل البصريّ.

و"عثمان بن مُرّة" البصريّ، مولى قريش، لا بأس به [7].

قال ابن معين: صالح. وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه. وذكره ابن حبّان في، "الثقات"، تفرّد به مسلم، له عنده حديث واحد في الشرب في إناء الفضّة، والمصنّف، وله عنده حديث الباب فقط.

والحديث صحيح، وأصله متّفقٌ عليه

(1)

، وهو بهذا الإسناد من أفراد المصنّف - رحمه اللَّه تعالى -، أخرجه هنا-2/ 3914 و 3915 - وفي "الكبرى" 1/ 4614 و 465. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (قَالَ: أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ مَرَّة أُخْرَى) ظاهر هذه العبارة أن الرواية مرّة أخرى من المصنّف لتلاميذه، وعبارة "الكبرى" ظاهرة أنها من عمرو بن عليّ للمصنّف ومن معه، ولفظه:"أخبرنا عمرو بن عليّ مرّة أخرى، قال الخ"، وليس فيه. "قال أبو عبد الرحمن الخ"، والأمر في ذلك سهل؛ إذ يحتمل أن يقع الإخبار مرّتين من المصنّف لتلاميذه، كما وقع له من شيخه. واللَّه تعالى أعلم.

3915 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ: أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: سَأَلْتُ الْقَاسِمَ، عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ، فَقَالَ: قَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ: "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ").

والحديث صحيح، كما سبق الكلام عليه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (وَاخْتُلِفَ عَلَى سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ فِيهِ) يعني أن هذا الحديث رواه سعيد بن

(1)

فقد أخرجه البخاريّ برقم 2327 ومسلم برقم 3928، من رواية حنظلة بن قيس، أنه سأل رافع ابن خديج عن كراء الأرض؟ فقال: "نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض

" الحديث، واللفظ لمسلم.

ص: 144

المسيّب، واختَلَفَ الرواة عليه، فرواه أبو جعفر الْخَطْميّ، عُمير بن يزيد، عنه، عن رافع بن خَدِيج، ورواه طارق بن عبد الرحمن، عنه، واختلف الرواة عليه، فرواه أبو الأحوص، عنه، عن سعيد، عن رافع، بلفظ: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، عن المحاقلة، والمزابنة، وقال:"إنما يزرع ثلاثة: رجلٌ له أرض فهو يزرعها، أو رجل مُنِح أرضا فهو يزرع ما مُنِح، أو رجل استكرى أرضا بذهب أو فضة".

ورواه إسرائيل بن يونس، عن طارق فروى قوله:"نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، عن المحاقلة، والمزابنة" مرسلاً، بدون ذكر رافع، وجعل قوله:"إنما يزرع ثلاثة الخ": من قول سعيد، موقوفًا عليه.

ورواه سفيان الثوريّ، عن طارق بن عبد الرحمن، عن سعيد، موقوفًا عليه، بلفظ:"لا يصلح الزرع غير ثلاث الخ".

ورواه الزهريّ، عن سعيد، مرسلاً، بلفظ:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة، والمزابنة".

ورواه محمد بن عبد الرحمن بن لَبيبة، عن سعيد، عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه، مرفوعًا، بلفظ: "كان أصحاب المزارع يُكرون في زمان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

" الحديث، وسنتكلّم على درجة كلّ رواية عند ذكرها، إن شاء اللَّه تعالى.

ثم أورد رواية أبي جعفر الْخَطْميّ، عُمير بن يزيد، فقال:

3916 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْخَطْمِيِّ -وَاسْمُهُ عُمَيْرُ بْنُ يَزِيدَ- قَالَ: أَرْسَلَنِي عَمِّي، وَغُلَامًا لَهُ، إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَسْأَلُهُ عَنِ الْمُزَارَعَةِ، فَقَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا، حَتَّى بَلَغَهُ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ حَدِيثٌ، فَلَقِيَهُ، فَقَالَ رَافِعٌ: أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَنِي حَارِثَةَ، فَرَأَى زَرْعًا، فَقَالَ: «مَا أَحْسَنَ زَرْعَ ظُهَيْرٍ؟» ، فَقَالُوا: لَيْسَ لِظُهَيْرٍ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ أَرْضُ ظُهَيْرٍ؟» ، قَالُوا: بَلَى، وَلَكِنَّهُ أَزْرَعَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «خُذُوا زَرْعَكُمْ، وَرُدُّوا إِلَيْهِ نَفَقَتَهُ» ، قَالَ: فَأَخَذْنَا زَرْعَنَا، وَرَدَدْنَا إِلَيْهِ نَفَقَتَهُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير أبي جعفر الخَطمي، فإنه من رجال الأربعة، وهو عُمير بن يزيد بن حَبيب الأنصاريّ الْخَطْميّ- بفتح الخاء المعجمة، وسكون الطاء المهملة- المدنيّ، نزيل البصرة، وثّقه ابن معين، وابن نُمير، والعجليّ، والنسائيّ، وغيرهم [6] 16/ 16.

و"يحيى": هو القطّان.

وقوله: "عمي" لم يُسمَّ. وقوله: "ما أحسن زرع ظُهير" هو عمّ رافع بن خَدِيج

ص: 145

- رضي الله عنهما. وقوله: "أليس أرض ظهير" اسم "ليس" ضمير يعود إلى الموضع، و"أرض" بالنصب خبرها، أي أليس هذا الموضع أرض ظُهير؟. ويحتمل أن يكون "أرضُ ظهير" اسمها، وخبرها محذوف، أي ليس أرض ظُهير هذه؟. وقوله:"أزرعها": أي أعطاها غيره ليزرعها بالأجرة. وقوله: "خذوا زرعكم" هذا يقتضي أن الزرع بالعقد الفاسد ملحق بالزرع في أرض غيره بغير إذنه، فيجب أن يُرد الزرع إلى صاحب الأرض؛ لأنه نماء أرضه، وُيعوّض المزارع بدفع عوض ما أنفقه في ذلك الزرع، وكون هذا بسبب فساد العقد يوضّحه رواية ابن المسيّب، عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه الآتية في 3921 - بلفظ: كان أصحاب المزارع، يُكرون في زمان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مزارعهم، بما يكون على الساقي من الزرع، فجاءوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فاختصموا في بعض ذلك، فنهاهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أن يكروا بذلك، وقال:"أكروا بالذهب والفضة".

فهذا هو الذي تضمّن شرطًا فاسدًا، فصار العقد فاسدًا، فمثل هذا يوجب ردّ الزرع لصاحب الأرض، وتعويض المزارع ما أنفقه فيه.

والحديث صحيح، وأخرجه أبو داد في "سننه"3399. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (وَرَوَاهُ طَارِقُ بْنُ عَبْدِ الرَّحمَنِ عَنْ سَعِيدٍ، وَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِيهِ) يعني أن طارق بن عبد الرحمن روى هذا الحديث عن سعيد بن المسيّب، ولكن اخْتَلَفَ الرواة عليه، وقد ذكرنا وجه اختلافهم ملخّصًا، فيما سبق، وسنوضّحه أيضًا فيما بعد عند تفصيل المصنّف له. واللَّه تعالى أعلم.

ثم ساق رواية طارق بقوله:

3917 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ طَارِقٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُحَاقَلَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ، وَقَالَ: «إِنَّمَا يَزْرَعُ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ لَهُ أَرْضٌ، فَهُوَ يَزْرَعُهَا، أَوْ رَجُلٌ مُنِحَ أَرْضًا، فَهُوَ يَزْرَعُ مَا مُنِحَ، أَوْ رَجُلٌ اسْتَكْرَى أَرْضًا بِذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، وتقدّموا، غير:

1 -

(طارق) بن عبد الرحمن البجليّ الأحمسيّ الكوفيّ، صدوق، له أوهام [5].

قال ابن معين، والعجليّ، وابن نُمير، والدارقطنيّ، ويعقوب بن سفيان: ثقة. وقال النسائيّ: ليس به بأس. وقال ابن عديّ: أرجو أنه لا بأس به. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: ليس بذلك، هو دون مُخارق. وقال عليّ ابن المدينيّ، عن يحيى بن سعيد: طارق بن عبد الرحمن ليس عندي باقوى من ابن

ص: 146

حرملة، وطارق، وإبراهيم بن مُهاجر يَجريان مَجْرَى واحدٍ. وذكره ابن الْبَرْقيّ في "باب من احتمل حديثه"، فقال فيه: وأهل الحديث يُخالفون يحيى بن سعيد، ويُوثّقونه. وحكى الساجيّ عن أحمد: في حديثه بعض الضعف. روى له الجماعة، له عند المصنّف هذا الحديث فقط.

و"أبو الأحوص": هو سلام بن سُليم الحنفيّ الكوفيّ.

وقوله: "وقال: إنما يزرع الخ" هو معطوف على جملة "قال: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الخ"، فهو على هذه الرواية مرفوع. وقوله:"مُنح" بالبناء للمفعول، أي أُعطي. وقوله:"استكرى" أي اكتراها، بمعنى أخذها بالكراء، فالسين والتاء زائدتان.

والحديث صحيح، دون الكلام الأخير، فإنه موقوفٌ على سعيد، كما يأتي فيما بعده، وأخرجه أبو داود في 3400 "البيوع والإجارات" - "باب في التشديد في ذلك" وابن ماجه 2449 في "الرهون" - "باب المزارعة بالثلث والربع". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله: (مَيَّزَهُ إِسْرَائِيلُ عَنْ طَارِقٍ، فَأَرْسَلَ الكَلَامَ الأَوَّلَ) أي جعل قوله: "نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الخ" من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأسقط رافعًا (وَجَعَلَ الأَخِيرَ) أي قوله:"إنما يزرع ثلاثة الخ"(مِنْ قَوْلِ سَعِيد) يعني أن إسرائيل بن يونس خالف أبا الأحوص، فجعل أول الحديث وهو قوله:"نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الخ" مرسلاً، وجعل آخر الحديث، وهو قوله:"إنما يزرع الخ" موقوفًا على سعيد بن المسيّب، ووافقه على إرسال الأول ابنُ شهاب، وعلى وقف الثاني على سعيد الثوريّ، كما يأتي بيان ذلك قريبًا.

والظاهر أن وقف الجزء الأخير من الحديث هو الأرجح؛ لمتابعة الثوريّ لإسرائيل، وأما إرسال الجزء الأول منه، فالذي يظهر ترجيح الوصل؟ لمتابعة أبي جعفر الخطميّ لأبي الأحوص على ذلك، كما سبق قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ثم ساق رواية إسرائيل بقوله:

3918 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ طَارِقٍ، عَنْ سَعِيدٍ، قَالَ:"نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الْمُحَاقَلَةِ"، قَالَ: سَعِيدٌ

فَذَكَرَهُ نَحْوَهُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن سليمان": هو الرُّهاويّ الحافظ، من أفراد المصنّف. و"عُبيد اللَّه بن موسى": هو ابن باذام العبسيّ الكوفيّ الحافظ.

وقوله: "قال سعيد"، فذكر نحوه، أي ذكر سعيد بن المسيّب معنى قوله: "إنما يزرع

ص: 147

ثلاثة: رجلٌ الخ"، والمراد أن هذا الكلام من قول سعيد، وليس مرفوعًا، كما هو في رواية أبي الأحوص المتقدّمة، وإنما المرفوع هو قوله: "نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو أيضًا مرسلٌ، فإنه لم يذكر فيه رافعًا رضي الله عنه، كما ذكر في رواية أبي الأحوص. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، هو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، عَنْ طَارِقٍ) يعني أن هذا الحديث رواه أيضًا سفيان الثوريّ، عن طارق بن عبد الرحمن، متابعًا لرواية إسرائيل، لكن في الجزء الأخير الموقوف على سعيد -رحمه اللَّه تعالى-، كما بيَّنهُ بقوله:

3919 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ -وَهُوَ ابْنُ مَيْمُونٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ طَارِقٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، يَقُولُ: "لَا يُصْلِحُ الزَّرْعَ، غَيْرُ ثَلَاثٍ: أَرْضٍ يَمْلِكُ رَقَبَتَهَا، أَوْ مِنْحَةٍ، أَوْ أَرْضٍ بَيْضَاءَ، يَسْتَأْجِرُهَا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن عليّ بن ميمون": هو أبو العبّاس الرّقّيّ العطّار الثقة، من أفراد المصنّف. و"محمد": هو ابن يوسف الفِرْيابيّ. و"سفيان": هو الثوريّ.

والحديث صحيح موقوف على سعيد، وهو المسمّى في مصطلح أهل الحديث بالمقطوع، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-2/ 3919 - وفي "الكبرى" 1/ 4619. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (وَرَوَى الزُّهْرِيّ الكَلَامَ الأَوَّلَ ، عَنْ سَعِيدٍ، فَأَرْسَلَهُ) يعني أن الزهريّ روى الجزء الأول من الحديث المذكور، عن سعيد بن المسيّب، مرفوعًا، لكنه جعله مرسلاً، بإسقاط الصحابيّ، موافقًا لرواية إسرائيل، عن طارق المتقدّمة، لكن هذا الإرسال لا يضرّ، فقد صحّ عن سعيد متصلاً فيما تقدّم.

ثم بين رواية الزهريّ المذكورة بقوله:

3920 -

قَالَ: الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسِيَّبِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"نَهَى عَنِ الْمُحَاقَلَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، وهو مصريّ حافظ ثقة.

والحديث صحيح بما تقدّم، وهو من أفراد المصنّف، أخرجه هنا-2/ 3920 - وفي "الكبرى" 1/ 4620. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو

ص: 148

حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ لَبِيبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، فَقَالَ: عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبيِ وَقَّاصٍ) يعني أن محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة خالف الرَواة عن سعيد الذين تقدّم بيان رواياتهم فيما مضى، فإن عمير بن يزيد رواه متصلاً بذكر رافع، وكذلك طارق بن عبد الرحمن، على اختلاف عليه في الوصل والإرسال، والرفع والوقف، ورواه الزهريّ مرسلاً، فخالفهم محمد بن عبد الرحمن، فرواه متّصلاً، لكن جعله من مسند سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه، لكن محمد بن عبد الرحمن ضعيف، فتعدّ مخالفته لهم منكرةٌ. واللَّه تعالى أعلم.

ثم ساق -رحمه اللَّه تعالى- رواية محمد بن عبد الرحمن هذه بقوله:

3921 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِكْرِمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ لَبِيبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ الْمَزَارِعِ، يُكْرُونَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَزَارِعَهُمْ، بِمَا يَكُونُ عَلَى السَّاقِي مِنَ الزَّرْعِ، فَجَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاخْتَصَمُوا فِي بَعْضِ ذَلِكَ، فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُكْرُوا بِذَلِكَ، وَقَالَ «أَكْرُوا بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عبيد اللَّه بن سعد بن إبراهيم": هو الزهريّ، أبو الفضل البغداديّ قاضي أصبهان، ثقة [11] 17/ 480. و"عمه": هو يعقوب بن إبراهيم بن سعد الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة فاضل، من صغار [9] 196/ 314. و"أبوه": هو إبراهيم بن سعد ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة حجة [8] 196/ 314.

و"محمد بن عكرمة" بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزوميّ المدنيّ، مقبول [6].

ذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال الذهبيّ في "الميزان": لم يرو عنه سوى إبراهيم ابن سعد. تفرّد به المصنّف، وأبو داود بهذا الحديث، فقط.

و"محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة" -بفتح اللام، وكسر الموحّدة، وسكون التحتانيّة، وفتح الموحّدة الأخرى- ويقال: ابن أبي لبيبة، ويقال: إن لبيبة أمه، وأبا لبيبة أبوه، واسمه وَزدان، المكيّ، ضعيفٌ، كثير الإرسال [6].

قال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ابن أبي لبيبة الذي يحدّث عنه وكيع ليس حديثه بشيء. وقال الدارقطنيّ: ضعيف. وذكره ابن حنان في "الثقات". تفرّد به أبو داود، والمصنّف، وله عنده هذا الحديث فقط.

ص: 149

وقوله: "بما يكون على الساقي من الزرع" أي بما ينبت على طرفي النهر من الزرع، فيجعلونه كراء الأرض. وقوله:"أُكْرُوا" بفتح الهمزة، أمر من الإكرا: أي آجروا الأرضَ بالذهب والفضة.

والحديث ضعيف؛ لما ذكرناه آنفًا، أخرجه المصنّف هنا -2/ 392 أو في "الكبرى" 4622 وأخرجه أبو داود في 3391. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (وَقَد رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ سُلَيْمَانُ، عَنْ رَافِعٍ، فَقَالَ: عَنْ رَجُلٍ مِنْ عُمُومَتِهِ) يعني أن سليمان بن يسار روى هذا الحديث عن رافع بن خَدِيج، عن رجل من عمومته، مبهمًا، وقد سمّي في رواية غيره، أنه ظُهير بن رافع رضي الله عنه، وقد أخرجه الشيخان من رواية أبي النجاشيّ عطاء بن صُهيب، عن رافع، عنه، وسيأتي للمصنّف برقم - 3950 - إن شاء اللَّه تعالى.

ثم ساق رواية سليمان المذكورة، بقوله:

3922 -

(أَخْبَرَنِي زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَيُّوبُ، عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: كُنَّا نُحَاقِلُ بِالأَرْضِ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَنُكْرِيهَا بِالثُّلُثِ، وَالرُّبُعِ، وَالطَّعَامِ الْمُسَمَّى، فَجَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ رَجُلٌ مِنْ عُمُومَتِىي، فَقَالَ: نَهَانِى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا، وَطَوَاعِيَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَنْفَعُ لَنَا، نَهَانَا أَنْ نُحَاقِلَ بِالأَرْضِ، وَنُكْرِيَهَا بِالثُّلُثِ، وَالرُّبُعِ، وَالطَّعَامِ الْمُسَمَّى، وَأَمَرَ رَبَّ الأَرْضِ أَنْ يَزْرَعَهَا، أَوْ يُزْرِعَهَا، وَكَرِهَ كِرَاءَهَا، وَمَا سِوَى ذَلِكَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(زياد بن أيوب) بن زياد البغداديّ، أبو هاشم، طوسيّ الأصل، و"دلويه" لقبه، وكان يغضب منه، ولقبه أحمد شعبة الصغير، ثقة حافظ [10] 101/ 132.

2 -

(ابن عليّة) إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسديّ مولاهم، أبو بشر البصريّ، ثقة حافظ [8] 19/ 18.

3 -

(أيوب) بن أبي تميمة كيسان السختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت حجة، من كبار الفقهاء العباد [5] 42/ 48.

4 -

(يعلي بن حكيم) الثقفيّ مولاهم المكيّ، نزيل البصرة، ثقة [6] 37/ 3272.

5 -

(سليمان بن يسار): هو الهلاليّ المدنيّ، مولى ميمونة، وقيل: أم سلمة رضي الله عنهما، ثقة فاضلٌ، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، من كبار [3] 122/ 156.

6 -

(رافع بن خديج) - رضي اللَّه تعالى عنه -، تقدّم قريبًا.

ص: 150

7 -

(عمه) هو: ظهير بن رافع - رضي اللَّه تعالى عنه -. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى يعلى، غير شيخه، فبغداديّ، والباقون مدنيون. (ومنها): أن فيه رواية الراوي عن عمه، وصحابيّ عن صحابيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: كُنَّا نُحَاقِلُ بِالأَرْضِ) أي نتعامل فيها بالمزارعة (عَلَى عَهدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَنُكْرِيَها) بضمّ أوله من الَإكراء (بالثُّلُثِ، وَ) بمعنى "أو"(الرُّبُع) أي بأن تكون أجرتها ثلث ما يخرج منها، أو ربعه (وَ) بَمعنى "أو" أيضًا (الطَّعَام المُسَمَّى) أي بأن يكون طعام معيّن مقداره أجرةً لها (فَجَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ رَجُلٌ مِنْ عُمُومَتِي) سيأتي أنه ظُهير بن رافِع الأنصاريّ الأوسي رضي الله عنه (فَقَالَ: نَهَانِي) ولفظ مسلم: "نهانا"(رَسُوْلُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا) أي حسب ظنّهم، وإلا فالواقع أنه ضارّ لهم؛ لأن اللَّه سبحانه وتعالى لا يُحرّم إلا ما فيه ضرّ عاجل، أو آجل (وَطَوَاعِيَةُ اللَّهِ) عز وجل (وَرَسُولِهِ) صلى الله عليه وسلم، و "الطواعية" على وزن الكَرَاهية: بمعنى الطاعة، كما في "القاموس". يقال: أطاعة إطاعة: أي انقاد له، وطاعه طوعًا، من باب قال، وبعضهم يُعدّيه بالحرف، فيقول: طاع له، وفي لغة من بأبي باع، وخاف، والطاعة اسم منه، والفاعل من الرباعي مُطيع، ومن الثلاثي طائع، وطيِّعٌ. قاله الفيّوميّ.

(أَنْفَعُ لَنَا) أي أكثر نفعًا لنا من النفع الذي نظنه في هذه المعاملة (نَهَانَا أَنْ نُحَاقِلَ بالأَرْضِ) جملة "نهانا الخ" جملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، وهو ما وقع جوابًا لسؤال مقدّر، كأن سائلاً قال له: وما الذي نهاكم صلى الله عليه وسلم عنه؟، فأجاب بقوله:"نهانا أن نحاقل بالأرض"(وَنُكْرِيَهَا بِالثُّلُثِ، وَالرُّبُعِ، وَالطَّعَام الْمُسَمَّى) وقوله (وَأَمَرَ) عطف على "نهانا"(رَبَّ الأَرْضِ) أي صاحبها، وفيه إطلاق لفظ الرب، مضافًا على غير اللَّه تعالى، قال الفيّوميّ: الربُّ يُطلق على اللَّه تبارك وتعالى، معرَّفًا بالألف والسلام، ومضافًا، ويُطلق على مالك الشيء الذي لا يعقل، مضافًا إليه، فيقال: ربّ الدَّين، وربّ المال، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في ضالّة الإبل:"حتى يلقاها ربها"، وقد استُعمل بمعنى السيّد، مضافًا إلى العاقل أيضًا، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"حتى تلد الأمة ربّتها"، وفي رواية:"ربها"، وفي التنزيل حكايةً عن يوسف عليه السلام:{أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} الآية [يوسف: 41]. قالوا: ولا يجوز

ص: 151

استعماله بالألف واللام للمخلوق بمعنى المالك؛ لأن اللام للعموم، والمخلوق لا يملك جميع المخلوقات، وربّما جاء باللام عوضًا عن الإضافة، إذا كان بمعنى السيّد، قال الحارث بن حِلِّزَة [من الخفيف]:

فَهُوَ الرَّبُّ وَالشَّهِيدُ عَلَى يَوْ

مِ الْحِيَارَينِ

(1)

وَالْبَلَاءُ بَلَاءُ

وبعضهم يمنع أن يقال: هذا ربّ العبد، وأن يقول العبد: هذا ربّي، وقوله صلى الله عليه وسلم:"حتى تلد الأمة ربّها"، حجّةٌ عليه. انتهى

(2)

.

(أَنْ يَزْرَعَهَا) بفتح أوله مبنيَّا للفاعل، أي يزرع أرضه بنفسه (أَوْ يُزْرِعَهَا) بضمّ أوله مبنيًّا للمفعول، أي يُعطيها لغيره لينتفع بزراعتها (وَكَرِهَ كِرَاءَهَا) الظاهر أنه الكراء المذكور، من الثلث، والربع، والطعام المسمّى، فيكون عطفه على ما قبله للتأكيد (وَمَا سِوَى ذَلِكَ) يحتمل أن يكون معطوفًا على ما قبله، فيكون المعنى: وكره المذكور، وغير ذلك، مما يُفسد العقد، كان يؤاجره على الماذيانات، وأقبال الجداول، كما سيأتي في -3926 - : (كان الناس على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يؤاجرون على الماذيانات، وأقبال الجداول، فيسلم هذا، ويَهلك هذا، ويسلم هذا، ويهلك هذا، فلم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه".

ويحتمل أن يكون "ما سوى ذلك" مبتدأ خبره محذوف، تقديره: جائزٌ، يعني أن ما سوى ما ذُكر من الثلث، والربع، والطعام المسمّى، جائز أن يكون أجرة للأرض، وذلك مثل الدراهيم، والدنانير المسمّى، فيكون بمعنى قول رافع صلى الله عليه وسلم في الرواية الآتية بعد حديثين، لَمّا سئل عن كرائها بالدينار والدرهم، قال:"ليس بها بأس بالدينار والدرهم"، وبمعنى قوله في الرواية التي بعدها:"فأما شيء معلوم، مضمون، فلا بأس به"، وأصرح منهما الرواية التي بعده:"عن حنظلة بن قيس، قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض، فقال: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض، قال: فقدت: أبا الذهب والورق؟، فقال: أما الذهب والورق، فلا بأس به". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث رافع بن خديج، عن رجل من عمومته - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفقٌ عليه.

(1)

"الحِياران" اسم موضع. قاله في "لسان العرب".

(2)

"المصباح المنير" 1/ 214.

ص: 152

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-2/ 3933 و 3923 و 3924 - وفي "الكبرى" 1/ 4623 و 4624 و 4625. وأخرجه (خ) في "الحرث والمزارعة" 2346 و 2347 (م) في "البيوع" 3922 (د) في "البيوع والإجارات" 3395 و 3396 (ق) في "الرهون" 2465. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (أَيُّوبُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ يَعْلَى) يعني أن أيوب السختيانيّ لم يسمع هذا الحديث من يعلي بن حكيم، وإنما أخذه عنه مكاتبة، وليس غرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا تضعيف الحديث، بل غرضه بيان كيفيّة أخذ أيوب عن يعلي بن حكيم، وإنما بيّن ذلك؛ للاختلاف بين العلماء في جواز المكاتبة بالحديث، والصحيح صحّتها

وصورة الكتابة: أن يكتب الشيخ مسموعه لحاضر، أو غائب بخطّه، أو يأمر من يكتب له، وهي ضربان:

[إحداهما]: مقرونة بالإجازة، كان يقول: أجزتك ما كتبت لك، أو نحوه من العبارة، وهذه في الصحّة والقوّة، كالمناولة المقرونة بالإجازة.

[الثانية]: مجرّدة عن الإجازة، وهذه منع الرواية بها قوم، منهم: القاضي أبو الحسن الماورديّ الشافعيّ في الحاوي، والآمديّ، وابن القطّان. وأجازها كثيرون من المتقدّمين، والمتأخّرين، منهم: أيوب السختياني، ومنصور، والليث، وابن سعد، وابن أبي سَبْرة، وغير واحد من الشافعيّة، وأصحاب الأصول، وهو الصحيح المشهور بين أهل الحديث، ويوجد في مصنّفاتهم كثيرًا: كتَبَ إليّ فلان، قال: حدّثنا فلانٌ، والمراد به هذا، وهو معمول به عندهم، معدود في الموصول من الحديث، دون المنقطع؛ لإشعاره بمعنى الإجازة، بل قال السمعانيّ: هي أقوى من الإجازة. قال الحافظ السيوطيّ: وهو المختار، بل وأقوى من أكثر صور المناولة، وفي "صحيح البخاريّ" في "الأيمان والنذور" وكتب إنّي محمد بن بشّار

وليس فيه بالمكاتبة عن شيوخه غيره، وفيه، وفي "صحيح مسلم" أحاديث كثيرة بالمكاتبة في أثناء السند.

وقال البيهقيّ في "المدخل": ما معناه: في هذا الباب آثار كثيرة عن التابعين، فمن بعدهم، وكُتُبُ النبيّ صلى الله عليه وسلم -إلى عُمّاله بالأحكام شاهدة لقولهم

(1)

.

والحاصل أن المكاتبة بالحديث من الطرق الصحيحة المتّصلة، تجوز الرواية، والعمل بها. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

راجع "تدريب الراوي" 2/ 55 - 57.

ص: 153

ثمّ ساق الرواية التي تبيّن أن أيوب السختيانيّ لم يسمع من يعلى، وإنما أخذه بالمكاتبة، فقال:

3923 -

(أَخْبَرَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ يَعْلَى بْنُ حَكِيمٍ، أَنِّي سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، يُحَدِّثُ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: كُنَّا نُحَاقِلُ الأَرْضَ، نُكْرِيهَا بِالثُّلُثِ، وَالرُّبُعِ، وَالطَّعَامِ الْمُسَمَّى).

و"محمد بن عُبيد" بن حساب -بكسر الحاء، وتخفيف السين المهملتين -الْغُبَريّ- بضم الغين المعجمة، وتخفيف الموحّدة- البصريّ، ثقة [10].

قال أبو حاتم: صدوقٌ. وقال النسائيّ، ومَسلَمة: ثقة. وقال الآجريّ، عن أبي داود: ابن حساب فوق الزبيريّ -يعني عبد اللَّه بن محمد بن الْمِسْوَر الزبيريّ- بكثير، ابنُ حساب عندي حجةٌ. قال محمد بن عبد اللَّه الحضرميّ: مات سنة (238) روى عنه مسلم، وأبو داود، والمصنّف، له عنده هذا الحديث فقط.

و"حمّاد": هو ابن زيد. و"أيوب": هو ابن أبي تميمة السختيانيّ. والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تمام البحث فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (رَوَاهُ سَعيد، عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ) يعني أن سعيد بن أبي عروبة مِهْران تابع أيوب في رواية هذا الحديث عن يعلي بن حكيم، كما بيّن روايته بقوله:

3924 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، قَالَ: كُنَّا نُحَاقِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَزَعَمَ أَنَّ بَعْضَ عُمُومَتِهِ أَتَاهُ، فَقَالَ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا، وَطَوَاعِيَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَنْفَعُ لَنَا، قُلْنَا: وَمَا ذَاكَ؟ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ، فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ لِيُزْرِعْهَا أَخَاهُ، وَلَا يُكَارِيهَا بِثُلُثٍ، وَلَا رُبُعٍ، وَلَا طَعَامٍ مُسَمًّى»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "إسماعيل بن مسعود": هو الجحدريّ البصريّ. و"خالد بن الحارث": هو الْهُجيميّ البصريّ. والإسناد مسلسل بالبصريين إلى يعلى.

والحديث أخرجه مسلم من طريق خالد بن الحارث، وعبد الأعلى، وعبدة كلهم، عن سعيد بن أبي عروبة، بسند المصنّف، لكن لم يسق متنه، أحاله على رواية أيوب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 154

وقوله (رَوَاهُ حَنْظَلَةُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ رَافِع، فاخْتُلِف) بالبناء للمفعول (عَلَى رَبِيعَةَ) بن أبي عبد الرحمن (فِي رِوايَتِهِ) زاد في "الكبرى": "عنه فيه"، والضمير في "عنه" لحنظلة، وفي "فيه" للحديث. يعني أن حنظلة بن قيس الزُّرَقيّ روى هذا الحديث عن رافع بن خديج رضي الله عنه، ورواه عنه ربيعة الرأي، لكن الرواة اختلفوا على ربيعة فيه، فرواه عنه الليث، عن حنظلة، عن رافع، عن عمه، مرفوعًا، ورواه الأوزاعيّ، عنه، عن حنظلة، عن رافع، مرفوعًا، ولم يذكر عمه، ووافق الأوزاعيّ مالكٌ في الإسناد، وخالفه في المتن، كما سيأتي، ورواه الثوريّ، عنه، عن حنظلة، عن رافع، موقوفًا عليه، ولم يذكر أيضًا عمه.

ثم إن هذا الاختلاف لا يضرّ، أما بالنسبة للرفع والوقف، فترجّح رواية الرفع؛ لأن معها زيادة علم من ثقات حفّاظ، وأما بالنسبة لذكر عمّ رافع، وعدمه، فيُحمل على أن رافعًا، سمعه من عمّه، ثم سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكان يُحدّث عنهما، ولذلك أخرج الحديث الشيخان من رواية حنظلة، عن رافع، كما سنبيّنه، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم.

ثم ساق روايات ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن حنظلة بن قيس، عن رافع، فقدم رواية الليث، عن ربيعة، فقال:

3925 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، أَنَّهُمْ كَانُوا يُكْرُونَ الأَرْضَ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِمَا يَنْبُتُ عَلَى الأَرْبِعَاءِ، وَشَيْءٍ مِنَ الزَّرْعِ، يَسْتَثْنِي صَاحِبُ الأَرْضِ، فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ ذَلِكَ، فَقُلْتُ لِرَافِعٍ: فَكَيْفَ كِرَاؤُهَا بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ؟ ، فَقَالَ رَافِعٌ: لَيْسَ بِهَا بَأْسٌ، بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن عبد اللَّه بن المبارك) الْمُخَرِّميِّ البغداديّ الثقة الحافظ [11] 43/ 50.

2 -

(حُجَين بن المثنّى) أبو عمير اليماميّ، سكن بغداد، وولي قضاء خُرَاسان، ثقة [9] 180/ 1150.

3 -

(الليث) بن سعد الإمام الحجة الثبت الفقيه المصريّ [7] 31/ 35.

4 -

(ربيعة) بن أبي عبد الرحمن فَرُّوخ، أبو عثمان المدنيّ، المعروف بربيعة الرأي، ثقة فقيه مشهورٌ، قيل: كانوا يتّقونه لموضع الرأي [5] 36/ 729.

5 -

(حنظلة بن قيس) بن عمرو بن حِصْن بن خلْدة الزُّرَقيّ المدنيّ، ثقة [2].

ص: 155

قال ابن سعد، عن الواقديّ: كان ثقة قليل الحديث. وحُكي عن الزهريّ قال: ما رأيت من الأنصار أحزّم، ولا أجود رأيًا من حنظلة بن قيس. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: رأى عمر، وعثمان. وذكره ابن عبد البرّ في الصحابة، جانحًا لقول الواقدي: إنه وُلد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم. روى له الجماعة، سوى الترمذيّ، وله عند المصنّف حديث الباب فقط. والباقيان تقدما قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من ربيعة، والليث مصريّ، والباقيان بغداديان. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وصحابيّ، عن صحابيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي) بالإفراد، وهو ظُهير بن رافع رضي الله عنه. وفي رواية البخاريّ، من طريق الأوزاعيّ، عن ربيعة:"حدّثني عَمَّاي" بالتثنية، قال الحافظ في "الفتح": هما ظُهير بن رافع، والآخر قال الكلاباذيّ: لم أقف على اسمه، وذكر غيره أن اسمه مُظَهِّر -وهو بضمّ الميم، وفتح الظاء، وتشديد الهاء المكسورة- وضبطه عبد الغنيّ، وابن ماكولا هكذا زعم بعض من صنّف في المبهمات، ورأيت في الصحابة لأبي القاسم البغويّ، ولأبي عليّ بن السكن، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن يعلي بن حكيم، عن سليمان بن يسار، عن رافع بن خَدِيج: أن بعض عمومته، قال سعيد: زعم قتادة أن اسمه مُهَير، فذكر الحديث، فهذا أولى أن يُعتمد، وهو بوزن أخيه ظُهير، كلاهما بالتصغير. انتهى

(1)

.

(أَنَّهُمْ كَانُوا يُكْرُونَ الأَرْضَ) بضمّ حرف المضارعة، من الإكراء رباعيًّا (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِمَا يَنْبُتُ عَلَى الأَرْبِعَاءِ) -بفتح الهمزة، وسكون الراء، وكسر الموحّدة-: جمع رَبيع -بفتح الراء، وكسر الموحّدة: وهو النهر الصغير، والمعنى أنهم كانوا يُكرون الأرض، ويشترطون لأنفسهم ما ينبُتُ على الأنهار (وَشَيْءِ) بالجرّ عطفًا على "ما ينبت"(مِنَ الزرْعِ، يَسْتَثْني صَاحِبُ الأرْضِ) ببناء الفعل للمفعول، و"صاحب" مرفوع على الفاعليّة، ومفعوله مقدّر، وقد صُرِّح به في رواية البخاريّ، ولفظه:"يستثنيه صاحب الأرض"، وهو من الاستثناء، أي يُخرجه لنفسه مما للزارع، وقال في "الفتح":

(1)

فتح 5/ 295.

ص: 156

وكأنه يُشير إلى استثناء الثلث، أوالربع، ليوافق الرواية الأخرى (فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ، عَنْ ذَلِكَ) قال حنظلة بن قيس (فَقُلْتُ لِرَافِعٍ) رضي الله عنه (فَكَيْفَ كِراؤُهَا بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمْ؟) أيجوز أم لا؟ (فَقَالَ: رَافِعٌ) رضي الله عنه (ليْسَ بِهَا) أي بإجارة الأرض (بَأْسٌ، بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ) في "الفتح": يحتمل أن يكون ذلك قاله رافع باجتهاده. ويحتمل أن يكون علم ذلك بطريق التنصيص على جوازه، أو عَلِم أن النهي عن كراء الأرض ليس على إطلاقه، بل بما إذا كان بشيء مجهول، ونحو ذلك، فاستنبط من ذلك جواز الكراء بالذهب والفضّة، ويرجّح كونه مرفوعًا ما أخرجه أبو داود، والنسائيّ بإسناد صحيح من طريق سعيد بن المسيّب، عن رافع بن خدِيج، قال:"نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة، والمزابنة، وقال: إنما يَزرع ثلاثة: رجلٌ له أرضٌ، ورجلٌ مُنِح أرضًا، ورجلٌ اكترى أرضًا بذهب، أو فضة"، لكن بيّن النسائيّ من وجه آخر أن المرفوع منه النهى عن المحاقلة، والمزابنة، وأن بقيّته مدرجٌ من كلام سعيد بن المسيّب. وقد رواه مالكٌ في "الموطّإ"، والشافعيّ عنه، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيّب. انتهى ما في "الفتح"

(1)

،

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تقدّم أن الأرجح كون قوله: "إنما يزرع ثلاثة الخ" من كلام سعيد بن المسيّب -رحمه اللَّه تعالى-، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث رافع بن خَديج، عن عمّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 2/ 3925 - وفي "الكبرى" 1/ 4626. وأخرجه (خ) في "الحرث، والمزارعة" 2346 و 2347 (م) في "البيوع" 3926 و 3928 (د) في "المزارعة" 3392 و 3393 (ق) في "الرهون" 2458. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (خَالَفَهُ الأَوْزَاعِيُّ) يعني أن الأوزاعيّ خالف الليث بن سعد في روايته لهذا الحديث، حيث إنه راوه عن ربيعة، عن رافع، عن عمّه، مرفوعًا، فخالفه الأوزاعيّ، فرواه عن ربيعة، عن حنظلة بن قيس الأنصاريّ، عن رافع بن خديج، مرفوعًا، ولم

(1)

"فتح" 5/ 295. "كتاب الحرث والمزارعة". رقم 2346 - و 2347.

ص: 157

يذكر عمّه، لكن مثل هذا الاختلاف لا يضرّ بصحة الحديث، كما تقدّم، ولذا أخرجه الشيخان من الوجهين، فأخرج البخاريّ رواية الليث بزيادة عقيه، وأخرج مسلم رواية الأوزاعيّ بإسقاطهما. واللَّه تعالى أعلم.

ثم ساق المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- رواية الأوزاعيّ التي أشار إليها، فقال:

3926 -

(أَخْبَرَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى -هُوَ ابْنُ يُونُسَ- قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ، بِالدِّينَارِ، وَالْوَرِقِ؟ ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، إِنَّمَا كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُؤَاجِرُونَ عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ، وَأَقْبَالِ الْجَدَاوِلِ، فَيَسْلَمُ هَذَا، وَيَهْلِكُ هَذَا، وَيَسْلَمُ هَذَا، وَيَهْلِكُ هَذَا، فَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إِلاَّ هَذَا، فَلِذَلِكَ زُجِرَ عَنْهُ

(1)

، فَأَمَّا شَيْءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ، فَلَا بَأْسَ بِهِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه المغيرة بن عبد الرحمن أبي أحمد الْحَرَّانيّ، من صغار [10] 94/ 2025، فإنه من أفراده، وهو ثقة.

وقوله: "على الماذيانات": بكسر الذال المعجمة، وحكي فتحها: مسايل المياه، مُعَرَّبة

(2)

. وقال ابن الأثير: هي جمع ماذِيان، وهو النهر الكبير، وليست بعربيّة، وهي سوادية. انتهى

(3)

. وقال الخطّابيّ: هي الأنهار، وهي من كلام المعجم، صارت دخيلًا في كلامهم. انتهى

(4)

.

وقال القرطبيّ: الماذيانات معروفة، بكسر الذال، وقد فُتحت، وليست عربيّة، ولكنها سواديّة. وهي مسايل الماء، والمراد بها هنا: ما يَنبُتُ على شطوط الجداول، ومسايل الماء، وهو من باب تسمية الشيء باسم غيره، إذا كان مجاورًا له، وكان منه بسبب. انتهى

(5)

.

وقوله: "وأقبال الجداول" بفتح الهمزة، ثم قاف، ثم موحّدة، قال في "النهاية": هي الأوائل، والرؤوس، جمع قُبْل، والقُبْل أيضًا رأس الجبل، والأَكَمَة، وقد يكون جمع قَبَل -بالتحريك- وهو الكلأ في مواضع من الأرض، والقَبَلُ أيضًا: ما استقبلك من الشيء.

(1)

"زجر عنه": من باب قتل: أي منع عن هذا الكراء، لأنه يفضي إلى النزاع.

(2)

"زهر الربى" 7/ 31.

(3)

"النهاية" 4/ 313.

(4)

راجع "شرح السندي" 7/ 43.

(5)

"المفهم" 4/ 408.

ص: 158

انتهى

(1)

. والجداول: جمع جدول: وهو النهر الصغير.

قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: ومعنى هذا أن صاحب الأرض كان يُؤاجر أرضه بالثلث، أو بالربع، أوبأن يكون له ما يُزرع على جوانب الأنهار، والجداول، وعلى أفواهها، وكان منهم من يؤاجر أرضه بالماذيانات خاصّةٌ. انتهى

(2)

.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله: (وَافَقَهُ مَالِكُ بْنُ أنسٍ، عَلَى إِسْنَادِهِ، وَخَالَفَهُ فِي لَفْظِهِ) يعني أن مالك بن أنس إمام دار الهجرة وافق الأوزاعيّ --رحمهما اللَّه تعالى-- في إسناد هذا الحديث، حيث روياه عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن حنظلة بن قيس، عن رافع بن خديج رضي الله عنه، لكنه خالفه في متن الحديث، والاختلاف بين المتنين واضح، كما بيّنه بما ساقه بقوله:

3927 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ رَبِيعَةَ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ؟ فَقَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ، قُلْتُ: بِالذَّهَبِ، وَالْوَرِقِ؟ قَالَ: لَا، إِنَّمَا نَهَى عَنْهَا بِمَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَأَمَّا الذَّهَبُ، وَالْفِضَّةُ، فَلَا بَأْسَ). رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رضي الله عنه عَنْ رَبِيعَةَ وَلَمْ يَرْفَعْهُ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"عمرو بن عليّ": هو الفلّاس. و"يحيى": هو ابن سعيد القطّان. والحديث أخرجه مسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رضي الله عنه، عَنْ رَبِيعَةَ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ) يعني أن سفيان بن سعيد الثوريّ -رحمه اللَّه تعالى- وافق الأوزاعيّ، ومالكًا في إسناد هذا الحديث، لكن خالفهما في متنه، فجعله موقوفًا على رافع رضي الله عنه، لكن الحكم في مثل هذا لمن رفع؛ لأن معه زيادة علم؛ ولأنهم أكثر. واللَّه تعالى أعلم.

ثم بيّن -رحمه اللَّه تعالى- رواية الثوريّ بقوله:

3928 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ الْبَيْضَاءِ، بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَقَالَ: حَلَالٌ، لَا بَأْسَ بِهِ، ذَلِكَ فَرْضُ الأَرْضِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح. والحديث صحيح مرفوعًا، كما سبق آنفًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب،

(1)

"النهاية" 4/ 9.

(2)

"المفهم" 4/ 408 - 409.

ص: 159

وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (رَوَاهُ يَحْيىَ بْنُ سَعِيدٍ، ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ، وَرَفَعَهُ كَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ ، عَنْ رَبِيعَةَ) يعني أن يحيى بن سعيد الأنصاريّ تابع ربيعة بن أبي عبد الرحمن في رواية هذا الحدَيث عن حنظلة بن قيس الأنصاريّ، فرواه مرفوعًا، مثل رواية مالك بن أنس، عن ربيعة، وهذا مما يقوّي ترجيح الرفع أيضًا.

ثم ساق رواية يحيى بن سعيد المذكورة بقوله:

3929 -

(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ، فِي حَدِيثِهِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ كِرَاءِ أَرْضِنَا، وَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ ذَهَبٌ، وَلَا فِضَّةٌ، فَكَانَ الرَّجُلُ يُكْرِى أَرْضَهُ بِمَا عَلَى الرَّبِيعِ، وَالأَقْبَالِ، وَأَشْيَاءَ مَعْلُومَةٍ

وَسَاقَهُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح.

وقوله: "في حديثه حمّاد بن زيد" يعني يحيى بن حبيب بن عربي البصريّ أخبر المصنّف، ومن معه بهذا الحديث في جملة أحاديث رواها عن حمّاد بن زيد. وقوله:"ولم يكن يومئذ ذهب الخ" يعني أن الناس في ذلك كانوا لا يؤاجرون بالذهب والفضّة، وإنما يؤاجرون بما يكون خطرًا، وهو الكراء الذي يكون مجهولاً، أو معلومًا، لكنه يضرّ بالآخر، كما بيّنه في قوله:، فكان الرجل يُكري أرضه بما على الربيع الخ".

والحديث أخرجه مسلم-1547 - من طريق ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن حنظلة الزُّرَقي، أنه سمع رافع بن خديج، يقول: كنا أكثر الأنصار حَقْلًا، قال: كنا نكري الأرض على أن لنا هذه، ولهم هذه، فربما أخرجت هذه، ولم تخرج هذه، فنهانا عن ذلك، وأما الورق، فلم ينهنا. انتهى.

وقوله: "وساقه" الضمير ليحيى بن سعيد، ويحتمل أن يكون لشيخه يحيى بن حبيب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (رَوَاهُ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيج، وَاخْتُلِفَ عَلَى الزُّهْرِيّ فِيهِ) يعني أن هذا الحديث رواه أيضًا سالم بن عبد الَله بن عمر، كما رواه من تقدّم ذكر رواياتهم عنه، ورواه عنه الزهريّ، لكن اختُلف عليه فيه، فرواه مالك بن أنس، وعُقيل ابن خالد، عنه، عن سالم، عن رافع، مرفوعًا، وخالفهما شعيب بن أبي حمزة، فرواه عن الزهريّ، قال: بلغنا أن رافع بن خديج، كان يُحدث أن عمّيه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، الخ، فجعله مرفوعًا، منقطعًا، وفي رواية عن شعيب بإسقاط عميّه، منقطعًا أيضًا،

ص: 160

وتابعه عليه عبد الكريم بن الحارث.

ثم إن هذه الاختلافات لا تضرّ بصحة الحديث؛ لأن الحكم لمن زاد، فيرجح الرفع، والوصل، فليس غرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- تضعيف الحديث بالاضطراب، وإنما هو بيان طرق الحديث المختلفة، ولذلك أخرجه الشيخان من رواية سالم، كما سنوضّحه فيما بعد، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم.

ثم ساق رواية مالك، عن سالم، بقوله:

3930 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ

وَذَكَرَ نَحْوَهُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح. و"محمد بن يحيى": هو الذهليّ الحافظ الحجة النيسابوريّ [11] 196/ 314. و"عبد اللَّه بن محمد ابن أسماء": هو الضُّبَعيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقة جليل [10] 197/ 315. و"جُويرية": هو ابن أسماء بن عُبيد الضُّبعيّ البصريّ، عمّ عبد اللَّه الراوي عنه، صدوقٌ [7] 197/ 315.

وقوله: "وذكر نحوه" هكذا نسخ "المجتبى" بالإحالة إلى ما سبق، ثم ذكر متابعة عُقيل لمالك، وهذا مشكلٌ؛ لأنه لم يتقدّم لسالم رواية حتى يُحال عليها، وأما في "الكبرى"، فقد ساق الرواية بتمامها، ونصّه:

4632/ 44 - أخبرنا محمد بن يحيى بن عبد اللَّه، قال: حدثنا عبد اللَّه بن محمد بن أسماء، عن جُويرية، عن مالك، عن الزهريّ، أن سالم بن عبد اللَّه، أخبره، وسأله عن كراء المزارع؟، فقال: أخبرنا رافع بن خديج، أن عمّيه، وكانا قد شهدا بدرًا، أخبراه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع، فترك عبد اللَّه كراءها، وكان يُكريها قبل ذلك

(1)

. والظاهر أن ما في "المجتبى" فيه سقط، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (وَتَابَعَهُ عُقَيلُ بْنُ خَالِدٍ) يعني أن عقيل بن خالد الأيليّ تابع مالكًا في روايته عن الزهريّ، كما بيّنه بقوله:

3931 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ جَدِّي، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، كَانَ يُكْرِى أَرْضَهُ، حَتَّى بَلَغَهُ أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، كَانَ يَنْهَى عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ، فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ خَدِيجٍ، مَاذَا تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي

(1)

"السنن الكبرى" 3/ 100.

ص: 161

كِرَاءِ الأَرْضِ، فَقَالَ رَافِعٌ لِعَبْدِ اللَّهِ: سَمِعْتُ عَمَّيَّ، وَكَانَا قَدْ شَهِدَا بَدْرًا، يُحَدِّثَانِ أَهْلَ الدَّارِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَلَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ الأَرْضَ تُكْرَى، ثُمَّ خَشِيَ عَبْدُ اللَّهِ، أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَحْدَثَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا، لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ، فَتَرَكَ كِرَاءَ الأَرْضِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلّهم رجال الصحيح، وتقدّموا.

والسند مسلسل برواية الأبناء، عن الآباء، وبالمصريين إلى عُقيل، فإنه وإن كان أيليًّا، إلا أنه نزل مصر، ومن فوقه مدنيّون، وفيه أحد الفقهاء السبعة، على بعض الأقوال، وهو سالم، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى (2630) من الأحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "سمعت عمّيّ"، قد تقدّم أنه رواه عن عمّه، وفي بعض الروايات سماه ظُهيرًا، وفي بعضها يقول:"نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الخ"، ولا يذكرهما، ولا أحدهما، ولا تنافي بين هذه الروايات، ولا اضطراب فيها، لأنه رواه عنهما، فكان أحيانًا يجمع بينهما، وأحيانا يُفرد أحدهما مبهمًا، وأحيانا يسمّيه ظُهيرًا، وأحيانًا يقول:"نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "، فلا يذكرهما أصلاً؛ فيحمل على أنه سمعه أولاً من عمّيه، إما على الاجتماع، أو على الانفراد، ثم سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو سمعه منه صلى الله عليه وسلم مجملًا، وسمع تفصيله منهما - كما يأتي تحقيقه في كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-- فكان يُحدِّث بهذا، وبهذا، ولذلك أخرج الحديث الشيخان بالوجهين.

ومما يؤيّد ذلك أنه سيأتي في رواية المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- تصريح رافع بسماعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم برقم 3942 - حيث قال له ابن عمر رضي الله عنهما: أسمعت النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض؟ قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تُكروا الأرض"، وبرقم 3945 - حيث قال ابن عمر: حتى أخبرنا ابن خديج أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الْخِبْر.

وقال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في "الفتح": وقد استظهر البخاريّ لحديث رافع رضي الله عنه بحديث جابر، وأبي هريرة رضي الله عنهما

(1)

رادًّا على من زعم أن حديث رافع رضي الله عنه فردٌ، وأنه

(1)

حديث جابر، وأبي هريرة رضي الله عنهما هو ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه"، فقال: 2340 - حدثنا عبيد اللَّه بن موسى، أخبرنا الأوزاعي، عن عطاء، عن جابر، رضي الله عنه، قال: كانوا يزرعونها بالثلث، والربع، والنصف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"من كانت له أرض فليزرعها، أو ليمنحها، فإن لم يفعل فليمسك أرضه".

وقال الربيع بن نافع أبو توبة، حدثنا معاوية، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من كانت له أرض فليزرعها، أو ليمنحها أخاه، فإن أبى فليمسك أرضه".

ص: 162

مضطربٌ، وأشار إلى صحّة الطريقين عنه، حيث روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد روى عن عمّه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأشار أن روايته بغير واسطة مقتصرة على النهي عن كراء الأرض، ورويته عن عمّه مفسّرة للمراد، وهو ما بينه ابن عبّاس رضي الله عنهما في روايته، من إرادة الرفق، والتفضّل، وأن النهي عن ذلك ليس للتحريم. انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا

(1)

.

والحاصل أن حديث رافع بن خَدِيج رضي الله عنه صحيح، فلا التفات إلى ما قاله الذين سلكوا مسلكًا غير صواب، مثل القرطبيّ، حيث قال: وعلى الجملة حديث رافع بن خديج مضطربٌ غاية الاضطراب، كما قد وقع في الأصل -يعني "صحيح مسلم" - وفي غيره من كتب الحديث، فينبغي أن لا يُعتمد عليه، وُيتمسّك في جواز كرائها بشيء معلوم بالقياس الذي ذكرناه إلى آخر كلامه.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله القرطبيّ

(2)

مما يُتعجّب منه كثيرًا؛ فكيف ساغ له أن يقول مضطرب غاية الاضطراب، فينبغي أن لا يُعتمد عليه، كيف لا يُعتمد عليه، وقد اعتمده الأئمة الكبار، مثل البخاريّ، ومسلم، وغيرهما من أصحاب الصحاح، ممن له العلم الواسع، والمعرفة التامّة بعلل الحديث، واستنباط الأحكام الفقهية، فصححوه، وأخرجوه في صحاحهم، واستنبطوا منه أحكام المزارعة التي أودعوها في تراجمهم، كقول البخاريّ:"باب كراء الأرض بالذهب والفضّة"، ثم أورد حديث رافع رضي الله عنه محتجًّا به، ثم الأعجب من ذلك قوله: وإنما يُتمسّك بالقياس، سبحان اللَّه يُضعّف ما صححه أهل المعرفة بالحديث والفقه، من الدليل النقليّ، ثم يعتمد على الدليل العقليّ، إن هذا لهو العجب العجاب.

وقوله: "أهل الدار": الدار مؤنّثة،، والجمع أَدْوُر، مثل أفلُس، وتُهْمَز الواو، ولا تُهْمَز، وتُقلَبُ، فيقال: آدُرٌ، وتجُمع أيضًا على دِيَار، ودُور، والأصل في إطلاق الدُّور على المواضع، وقد تطلق على القبائل مجازًا. قاله الفيّوميّ.

وقوله: "ثم خشي عبد اللَّه الخ" يعني أن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما، مع كونه يعدم يقينًا أن الأرض كانت تُكرى في عهده صلى الله عليه وسلم، لكنه تورّع، وخشي أن يكون صدر منه صلى الله عليه وسلم حكم بالنهي عنها على الإطلاق، فترك الكراء، تورّعًا، لا تحريمًا؛ لأنه لا نسخ بعده صلى الله عليه وسلم، وقد كان عبد اللَّه رضي الله عنه يعمل به بعده صلى الله عليه وسلم إلى آخر خلافة معاوية رضي الله عنه بمرأى من الناس، فلو كان منسوخًا لبلغه خبر النسخ، فدلّ على أنه تركه لمجرّد ورع فقط.

(1)

"فتح" 5/ 294.

(2)

راجع كلام القرطبيّ في "المفهم" 4/ 312 ترى العجب العجاب.

ص: 163

والحديث متّفقٌ عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (أَرْسَلَهُ شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ) يعني أن شعيب بن أبي حمزة مِهْران الحمصيّ خالف مالكًا، وعُقيلًا، فرواه عن الزهريّ، عن رافع بن خديج رضي الله عنه، فالمراد بالإرسال هنا الانقطاع، كما تقدّم البحث عنه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.

ثم ساق المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- رواية شعيب التي أشار إليها، فقال:

3932 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ خَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ عَمَّيْهِ، وَكَانَا -يَزْعُمُ - شَهِدَا بَدْرًا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، وقد وثّقه هو.

وقوله: "يزعم" ولفظ "الكبرى": "وكانا -زعم- شهدا بدرًا"، أي وزعم رافع، أنهما شهدا بدرًا، فالرواية فيها تقديم، وتأخير، والأصل: وزعم كانا شهدا بدرًا، والزعم يطلق على القول الحقّ، وإن كان كثيرًا ما يُطلق على الباطل، كقوله تعالى:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} الآية [التغابن: 7]، والأول هو المراد هنا.

والحديث بهذا الإسناد فيه انقطاع، كما تقدّم آنفًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (رَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدِ، عَنْ شُعَيْبٍ، وَلَمْ يَذكُرْ عَمَّيهِ) أشار به إلى أن عثمان بن سعيد الحمصيّ تابع بشر بن شعيب، في رواية هذا الحديث عن أبيه، منقطعًا، وخالفه في إسقاط عمّه، كما بيّنه بقوله:

3933 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعَيْبٍ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: لَيْسَ بِاسْتِكْرَاءِ الأَرْضِ، بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، بَأْسٌ، وَكَانَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ ذَلِكَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن محمد بن المغيرة": هو الأزديّ الحمصيّ، صدوقٌ [11] 69/ 85 من أفراد المصنّف. و"عثمان بن سعيد": هو القرشيّ مولاهم، أبو عمرو الحمصيّ، ثقة عابد [9] 69/ 85. و"شُعيب": هو ابن أبي حمزة المذكور في الذي قبله.

وقوله: "وكان رافع الخ" عطفٌ على "كان ابن المسيّب الخ"، فهو من مقول الزهريّ، فيكون منقطعًا.

ص: 164

والحديث بهذا الإسناد منقطع. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (وَافَقَهُ عَلَى إِرْسَالِهِ عَبْدُ الكَرِيمِ بْنُ الحَارِثِ) يعني أن عبد الكريم بن الحارث الحمصيّ وافق شُعيب بن أبي حمزة في رواية هذا الحديث عن الزهريّ منقطعًا، كما بيّنه بقوله:

3934 -

قَالَ: الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو خُزَيْمَةَ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَرِيفٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَسُئِلَ رَافِعٌ بَعْدَ ذَلِكَ، كَيْفَ كَانُوا يُكْرُونَ الأَرْضَ؟ قَالَ: بِشَيْءٍ مِنَ الطَّعَامِ مُسَمًّى، وَيُشْتَرَطُ أَنَّ لَنَا مَا تُنْبِتُ مَاذِيَانَاتُ الأَرْضِ، وَأَقْبَالُ الْجَدَاوِلِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أبو خُزيمة عبد اللَّه بن طَرِيف" البصريّ، روى عن ربيعة الرأي، وعبد الكريم بن الحارث. وعنه ابن وهب، مقبول [7]. تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

و"عبد الكريم بن الحارث": الحضرميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقة عابد [6] 39/ 3167.

وقوله: "يُكرُون" بضمّ أوله، من الإكراء، مبنيًّا للفاعل. وقوله:"ويُشتَرَط الخ" بالبناء للمفعول، يعني أن صاحب الأرض يشترط لنفسه أن يكون له ما تُنبته ماذِيَانات الأرض، أي أنهارها الكبار، وأَقبال الجداول، أي أوائل الأنهار الصغار.

والحديث بهذا الإسناد فيه انقطاع. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (رَوَاهُ نَافِعٌ ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيج، وَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِيهِ) بالبناء للمفعول، يعني أن حديث رافع بن خديج رضي الله عنه رواه نافع مولى ابن عمر، عن رافع، وهو السابع ممن رواه من التابعين عنه متّصلاً.

ثم ساق المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- رواياته، فقال:

3935 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا فُضَيْلٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، أَخْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، أَنَّ عُمُومَتَهُ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ رَجَعُوا، فَأَخْبَرُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ كُلُّ صَاحِبَ مَزْرَعَةٍ، يُكْرِيهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى أَنَّ لَهُ مَا عَلَى الرَّبِيعِ السَّاقِي، الَّذِي يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْمَاءُ، وَطَائِفَةٌ مِنَ التِّبْنِ، لَا

ص: 165

أَدْرِي كَمْ هِيَ؟).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.

و"فُضيل هو بن سليمان، أبو سليمان البصريّ.

وقوله: "أنه كان صاحب مزرعة الخ" الضمير لرافع بن خَديج رضي الله عنه، يقول ابن عمر رضي الله عنهما: إنما حفظ رافع رضي الله عنه هذا؛ لكونه صاحب مزرعة يُكريها بشروط فاسدة، فسمع النهي، فحفظه؛ لأن العادة أن من ابتُلي بقضيّة يحفظها. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "قد علمنا أنه كان صاحب مزرعة الخ": الظاهر من كلام ابن عمر رضي الله عنهما واللَّه أعلم- الإشارة إلى أن سبب نهيه صلى الله عليه وسلم عن كراء المزارع، كونهم يشترطون شروطًا فاسدة، تضرّ بأحد الجانبين، مثل اشتراط أن لصاحب الأرض ما ينبت على جانبي النهر، وكذا اشتراط التبن له، وهذا مما يؤدّي إلى الخصام والنزاع، فلذا نهى رسول صلى الله عليه وسلم عنه؛ دفعًا للفساد، لا أنه نهى عن المزارعة بالأجرة المعلومة من الدراهيم، والدنانير، ونحوها، مما لا يؤدّي إلى النزاع، فإن ذلك جائز، ومع هذا ترك ابن عمر رضي الله عنهما المزارعة مطلقًا؟ تورّعًا.

هذا الذي يظهر من كلامه، لكن في رواية البخاريّ ما يدلّ على غير هذا، ولفظه:"قد علمتَ أنا كنّا نُكري مزارعنا على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بما على الأربعاء، وبشيء من التبن"، فهذا يدلّ على أن ابن عمر كان يزارع على الصفة التي جاء بها النهي، فعلى هذا فترك ابن عمر رضي الله عنهما، لا للورع فقط، بل لعلمه بأن النهي للتحريم، فليُتأمل. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "التبن" بكسر التاء، وسكون الموحّدة: ساق الزرع بعد دياسته.

وحديث رافع رضي الله عنه من رواية نافع متّفقٌ عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (رَوَاهُ ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، فَقَالَ: عَنْ بَعْضِ عُمُومَتِهِ) يعني أن هذا الحديث رواه عبد اللَّه بن عون بن أرطبان البصريّ، عن نافع، متابعًا لموسى بن عُقبة، لكنه خالفه في قوله:"عمومته"، فقال:"عن بعض عمومته"، وهذا الاختلاف لا يضرّ؛ لأن "عمومته" يُحمل على بعضهم مجازا. واللَّه تعالى أعلم.

3936 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، كَانَ ابْنُ عُمَرَ، يَأْخُذُ كِرَاءَ الأَرْضِ، فَبَلَغَهُ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ شَيْءٌ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَمَشَى إِلَى رَافِعٍ، وَأَنَا مَعَهُ، فَحَدَّثَهُ رَافِعٌ، عَنْ بَعْضِ عُمُومَتِهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ، فَتَرَكَ عَبْدُ اللَّهِ بَعْدُ).

ص: 166

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، وهو المعروف أبوه بابن عليّة، فإنه من أفراده، وهو ثقة. و"يزيد": هو ابن زُريع. وقوله: "شيء": هو النهي عن كراء الأرض. وقوله: "بعدُ" بالبناء على الضمّ، أي بعد ما سمع النهي من رافع بن خديج رضي الله عنه. والحديث من رواية ابن عون هذه أخرجه مسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3937 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الأَزْرَقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ كِرَاءَ الأَرْضِ، حَتَّى حَدَّثَهُ رَافِعٌ، عَنْ بَعْضِ عُمُومَتِهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ، فَتَرَكَهَا بَعْدُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. وإسحاق الأزرق: هو ابن يوسف الواسطيّ. والحديث سبق القول فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (رَوَاهُ أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعِ، ، عَنْ رَافِعٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ عُمُومَتَهُ) يعني أن أيوب السختيانيّ روى هذا الحديث، عن نافع، عن رافع، فخالف موسى بنَ عقبة، وعبد اللَّه بن عون، فترك ذكر "عمومته"، وجعله من مسند رافع نفسه، وقد تقدّم أنه مما لا يضرّ بصحّة الحديث، فلا تغفُل.

ثم ساق رواية أيوب بقوله:

3938 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -وَهُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ، كَانَ يُكْرِى مَزَارِعَهُ، حَتَّى بَلَغَهُ فِي آخِرِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، يُخْبِرُ فِيهَا بِنَهْىِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَاهُ، وَأَنَا مَعَهُ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَنْهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ، فَتَرَكَهَا ابْنُ عُمَرَ بَعْدُ، فَكَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْهَا، قَالَ: زَعَمَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهَا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وقد تقدّموا غير مرّة. وقوله:"حتى بلغه في آخر خلافة معاوية رضي الله عنه الخ"، وفي رواية الشيخين، واللفظ للبخاريّ، من طريق حمّاد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، أن ابن عمر رضي الله عنهما، كان يُكري مزارعه على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعِمر، وعثمان، وصدرا من إمارة معاوية، ثم حُدِّث عن رافع بن خَدِيج، أن النبي صلى الله عليه وسلم، نَهَى عن كراء المزارع، فذهب ابن عمر إلى رافع، فذهبت معه، فسأله، فقال: نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن كراء المزارع، فقال ابن عمر: قد علمتَ أنا كنا نُكري مزارعنا على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، بما على الأربعاء، وبشيء من التبن.

ص: 167

وقوله: "وصدرًا من إمارة معاوية" قال في "الفتح": وإنما لم يذكر ابنُ عمر خلافة عليّ رضي الله عنه؛ لأنه لم يبايعه لوقوع الاختلاف عليه، كما هو مشهور في صحيح الأخبار، وكان يرى أنه لا يبايع لمن لم يجتمع عليه الناس، ولهذا لم يُبايع أيضًا لابن الزبير، ولا لعبد الملك في حال اختلافهما، وبايع ليزيد بن معاوية، ثم لعبد الملك بن مروان بعد قتل ابن الزبير، ولعلّ في تلك المدّة -أعني مدّة خلافة عليّ- لم يؤاجر أرضه، فلم يذكرها لذلك. وزاد مسلم في روايته:"حتى إذا كان في آخر خلافة معاوية"، وكان آخر خلافة معاوية في سنة ستّين من الهجرة. انتهى

(1)

.

وقوله: "زعم رافع": أي قال؛ وقد سبق أن زعم هنا للقول الحقّ.

والحديث متّفقٌ عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (وَافَقَهُ عُبَيْدُ اللَّه بْنُ عُمَرَ، وَكَثِيرُ بْنُ فَرْقَدِ، وَجُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ) يعني تابع أيوبّ السختيانيّ في روايته لهذا الحديث عن نافع: عبيد اللَّه بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمريّ الفقيه المدنيّ، وكثير بن فَرْقد المدنيّ، ثم المصريّ، وجُويرية ابن أسماء الضُّبَعيّ البصريّ، ثلاثتهم عن نافع، عن رافع بن خديج، وليم يذكروا عمومته، بل جعلوه من "مسنده"، ثم ساق روايات هؤلاء الثلاثة على اللفّ والنشر غير المرتّب،

(2)

فقدّم رواية كثير بن فرقد، فقال:

3939 -

(أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ بْنِ أَعْيَنَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ فَرْقَدٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، كَانَ يُكْرِي الْمَزَارِعَ، فَحُدِّثَ أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، يَأْثُرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ. قَالَ نَافِعٌ: فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَلَى الْبَلَاطِ، وَأَنَا مَعَهُ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: نَعَمْ، نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ، فَتَرَكَ عَبْدُ اللَّهِ كِرَاءَهَا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، وهو: أبو القاسم المصريّ، ثقة [11] 152/ 2944. و"الليث": هو ابن سعد الإمام المصريّ الحجة.

وقوله: "على البلاط" بفتح الموحّدة- قال ابن الأثير: ضرب من الحجارة تُفرش به الأرض، ثم سُمّي المكان بَلاطًا، اتّساعًا، وهو موضع معروف بالمدينة، تكرّر ذكره في

(1)

"فتح" 5/ 293.

(2)

هذا بالنسبة لرواية "المجتبى"، وأما في "الكبرى" فقد رتّبه، فقال:"وافقه كثير بن فَرْقد، وعبيد اللَّه بن عمر، وجويرية بن أسماء"، ثم ساق أحاديهم بالترتيب.

ص: 168

الحديث. انتهى

(1)

.

وقال ابن منظور: البلاط بالفتح: الحجارة المفروشة في الدار، وغيرها، قال الشاعر [من الرجز]:

هَذَا مَقَامِي لَكِ حَتَّى تَنْضَحِي

رِيًّا وَتَجْتَازِي بَلَاطَ الأَبْطَحِ

وأنشد ابنُ بَرِّيِّ لأبي داود الإياديّ [من الخفيف]:

وَلَقَدْ كَانَ ذَا كَتَائِبَ خُضْرِ

وَبَلَاطٍ يُشَادُ بِالآجُرُونِ

ويقال: دارٌ مُبَلَّطَةٌ بآجُرّ، أو حجارة، ويقال: بَلَطتُ الدارَ، فهي مبلُوطة: إذا فَرَشْتها بآجرّ، أو حجارة. انتهى

(2)

.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق القول فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ثم ساق رواية عبيد اللَّه بن عمر بقوله:

3940 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ -وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ - قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ رَجُلاً أَخْبَرَ ابْنَ عُمَرَ، أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، يَأْثُرُ فِي كِرَاءِ الأَرْضِ حَدِيثًا، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ أَنَا، وَالرَّجُلُ الَّذِي أَخْبَرَهُ، حَتَّى أَتَى رَافِعًا، فَأَخْبَرَهُ رَافِعٌ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ، فَتَرَكَ عَبْدُ اللَّهِ كِرَاءَ الأَرْضِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، وهو ثقة.

والحديث متّفقٌ عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ثم ساق رواية جُوَيرية بن أسماء، فقال:

3941 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، حَدَّثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه ممن انفرد به هو وابن ماجه، وهو أبو يحيى المكيّ، ثقة [11] 11/ 11. و"أبوه": هو عبد اللَّه بن يزيد، أبو عبد الرحمن المقرئ المكيّ، بصريّ الأصل، أو الأهواز، ثقة

(1)

"النهاية" 1/ 152.

(2)

"لسان العرب" 7/ 264.

ص: 169

فاضل، أقرأ القرآن نيّفًا وسبعين سنة [9] 4/ 746. و" جُويرية": هو أسماء الضُّبَعيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

والحديث متّفقٌ عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3942 -

(أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ عِنَانٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ، يُكْرِي أَرْضَهُ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَبَلَغَهُ أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ يَزْجُرُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، قَالَ: كُنَّا نُكْرِي الأَرْضَ قَبْلَ أَنْ نَعْرِفَ رَافِعًا، ثُمَّ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَنْكِبِي، حَتَّى دُفِعْنَا إِلَى رَافِعٍ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: أَسَمِعْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ، فَقَالَ رَافِعٌ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «لَا تُكْرُوا الأَرْضَ بِشَيْءٍ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "هشام بن عمّار": هو السلميّ الدمشقيّ الخطيب، صدوقٌ مُقرىء، كبر، فصار يتلقّن، فحديثه القديم أصحّ، من كبار [10] 134/ 202.

و"يحيى بن حمزة": هو أبو عبد الرحمن الدمشقيّ القاضى، ثقة رمي بالقدر [8] 65/ 1768. و"الأوزاعيّ": هو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الإمام المشهور.

و"حَفص بن عِنان" -بنونين- الحنفيّ اليمانيّ، ثقة [3].

روى عن أبي هريرة، وابن عمر، ونافع مولى ابن عمر، وعنه ابنه عمر، والأوزاعيّ، ويحيى بن أبي كثير. قال ابن معين: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: سمع أبا هريرة رضي الله عنه. تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

[تنبيه]: وقع في معظم نسخ "المجتبى"، و"الكبرى":"حفص بن غياث" بدل "حفص بن عِنان"، وهو تصحيفٌ فاحش، والصواب "ابن عنان"، راجعاً تحفة الأشراف" 3/ 158 - 159. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "يزجر" من باب نصر: أي يمنع، وينهى. وقوله:"ثم وجد في نفسه" يعني أن ابن عمر رضي الله عنهما بعد أن قال- لما سمع رافعًا رضي الله عنه ينهى عنه كراء الأرض-: كنا نُكري الأرض قبل أن نعرف رافعًا، ومراده أنه كان يتعامل بذلك سابقًا في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين، لكنه وجد في نفسه شيئًا من الشكّ والارتياب في النهي عن ذلك؛ إذ يحتمل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عنه، ولم يصل إليه قبل. وقوله:"فوضع يده الخ" فيه أنه يُشرع الاعتماد على الخادم، ونحوه، لحاجة، من تعب، أو مرض، أو نحو ذلك.

وقوله: "حتى دُفعنا" بضمّ الدال المهملة، وكسر الفاء، يقال: دُفعت إليه بالبناء للمفعول: أي انتهيتُ. قاله الفيّوميّ.

ص: 170

والحديث صحيح، وقال الشيخ الألبانيّ في "الإرواء" - 5/ 298 - : شاذّ بزيادة "بشيء"؛ لأنها تنافي كراءها بالذهب والفضّة، وهو جائز، كما في بعض الطرق، عن رافع التصريح بذلك. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أنه لا تنافي بين قوله: "بشىء"، وجواز الإكراء بالدراهيم، والدنانير، فإن المراد بقوله:"بشيء" أي مما يؤدّي إلى النزاع، وهي الصور التي تقدّم بيانها، مثل استثنائه ما على الماذيانات، ونحو ذلك، وقد صحّ في "الصحيحين"، وغيرهما عن رافع رضي الله عنه، أنه قال: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن كراء المزارع، كما تقدّم، ولم يقيده بشيء، بل أطلقه، وهو أيضًا يتعارض مع ما ذكره الشيخ، فما يكون جوابًا هناك يكون جوابا هنا، دون فرق، فليُتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3943 -

(أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، وَنَافِعٍ، أَخْبَرَاهُ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه - رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"عبد الوهّاب": هو ابن عبد المجيد الثقفيّ البصريّ. و"هشام": هو ابن حسّان القُرْدُوسيّ البصريّ. و "محمد": هو ابن سيرين. و"نافع": هو مولى ابن عمر.

والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ) أشار به إلى أن حديث رافع بن خديج رضي الله عنه رواه عنه عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو ثاني الصحابيين الذين رويا هذا الحديث عن رافع رضي الله عنه، فقد تقدّم أُسيد بن ظهير رضي الله عنه في ثاني حديثي الباب.

وقوله (وَاختُلِفَ عَلَى عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ) بالبناء للمجهول، وزاد في "الكبرى":"في روايته عنه فيه". يعني أن الرواة اختلفوا على عمرو بن دينار، في روايته لهذا الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما، كما بيّن ذلك بقوله:

3944 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: كُنَّا نُخَابِرُ، وَلَا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا، حَتَّى زَعَمَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنِ الْمُخَابَرَةِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.

و"سفيان": هو الثوريّ.

وقوله: "كنّا نخابر" تقدّم أن المشهور أن المخابرة هي المزارعة. والحديث أخرجه

ص: 171

مسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3945 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ، يَقُولُ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، وَهُوَ يُسْأَلُ عَنِ الْخِبْرِ، فَيَقُولُ: مَا كُنَّا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا، حَتَّى أَخْبَرَنَا عَامَ الأَوَّلِ ابْنُ خَدِيجٍ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنِ الْخِبْرِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، وتقدّموا، غير شيخه، فإنه ممن تفرّد به هو، وأبو داود، وهو واسطيّ، ثم رقيّ، صدوق. و"حجّاج": هو ابن محمد الأعور المصّيصيّ.

وقوله: "يُسأل عن الْخِبْر" ببناء الفعل للمفعول، و"الْخِبْر": قال النوويّ: ضبطناه -بكسر الخاء، وفتحها، والكسر أفصح، وأشهر، ولم يذكر الجوهريّ، وآخرون من أهل اللغة غيره. وحكى القاضي فيه الكسر، والفتح، والضم، ورجّح الكسر، ثم الفتح، وهو بمعنى المخابرة.

وقوله: "حتى أخبرنا عام الأول" أي قبل عامنا هذا. قال في "القاموس"، وشرحه: إذا جعلتَ "أوّلًا" صفة منعته من الصرف، وإلا صرفته، تقول: لَقِيته عامًا أَوَّلَ، ممنوعا من الصرف. قال ابن سِيدَهْ: أُجري مُجرى الاسم، فجاء بغير ألف ولام، ولقيته عامًا أوَّلاً، مصروفًا. قال ابن السِّكِّيت: ولا تقل: عامَ الأَوَّلِ. وقال غيره: هو قليلٌ. قال أبو زيد: يقال: لقِيتُهُ عامَ الأولِ، ويومَ الأوّلِ، بجرّ آخره، وهو كقولك: أتيتُ مسجدَ الجامعِ. قال الأزهريّ: وهذا من إضافة الشيء إلى نفسه. وحكاه ابن الأعرابيّ أيضًا. وتقول: ما رأيته مذْ عامٌ أوَّلُ، ومذ عامٌ أولَ، ترفعه على الوصف لعام، كأنه قال: أولُ من عامنا، وتنصبه على الظرف، كأنه قال: مذ عام قبلَ عامنا. انتهى

(1)

،

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: إضافة عام إلى الأول من إضافة الشيء إلى نفسه، كما تقدّم في قول الأزهريّ، وهو ممنوع، فلا بدّ من تأويله، بتقدير مضاف، أي عام الزمن الأول، كما يقدّر في مثل قولك: أتيت مسجد الجامع بالإضافة، أي مسجد المكان الجامع، وإلى هذا أشار ابن مالك في "الخلاصة" حيث قال:

وَلَا يُضَافُ اسْمٌ لِمَا بِهِ اتَّحَدْ

مَعْنًى وَأَوِّلْ مُوهِمًا إِذَا وَرَدْ

والحديث أخرجه مسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

"القاموس"، مع "شرحه تاج العروس" 8/ 150.

ص: 172

وقوله (وَافَقَهُمَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) يعني أن حمّاد بن زيد تابع الثوريّ، وابن جُريج في رواية هذا الحديث عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر، عن رافع بن خديج رضي الله عنهما، كما بين ذلك بقوله:

3946 -

(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: كُنَّا لَا نَرَى بِالْخِبْرِ بَأْسًا، حَتَّى كَانَ عَامَ الأَوَّلِ، فَزَعَمَ رَافِعٌ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. وهو من رباعيات المصنف، وهو (184) من رباعيات الكتاب.

وقوله: "حتّى كان عام الأول": أي حتى كان قبل عامنا هذا، وهو بنصب عام الأول خبرًا لـ"كان"، واسمها مقدّرٌ، أي حتى كان الوقت، ويحتمل أن تكون تامّةً، و"عام الأول" بالرفع اسمها، أي حتى جاء عام الأول.

والحديث أخرجه مسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (خَالَفَهُ عَارِمٌ، فَقَالَ: عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرٍ) أشار به إلى أن عارمًا محمد بن الفضل السدوسيّ خالف يحيى بن حبيب بن عربيّ في روايته لهذا الحديث، فرواه عن حماد بن زيد، عن عمر بن دينار، عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما، فجعله من مسند جابر، بدل كونه من مسند رافع بن خديج رضي الله عنهم، وليس غرض المصنّف - رحمه اللَّه تعالى - بهذا تضعيف الحديث بالاضطراب، بل غرضه بيان الاختلاف الواقع في إسناده، فلا يضرّ الاختلاف، بل يُجعل مما روي عن حديث رافع، وجابر كليهما رضي الله عنهما، ولذا أخرجه الشيخان من حديثهما:

فأما حديث رافع رضي الله عنه، فقد تقدّم تخريجهما له، وأما حديث جابر رضي الله عنه، فأخرجه البخاريّ، من رواية عطاء، عن جابر رضي الله عنه، وأخرجه مسلم بطرق متعدّدة عن جابر رضي الله عنه، وقد تقدّم بيان هذا كله مستوفىً في شرح حديث جابر رضي الله عنه برقم 3901، فراجعه تستفد، واللَّه تعالى وليّ التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ثم ساق رواية عارم التي أشار إليها بقوله:

3947 -

(1)

قَالَ: حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَارِمٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، وهو

(1)

أثبت في بعض النسخ هنا كلمة "قال" وليست هي من المصنّف، بل من تلاميذه، فتنبّه.

ص: 173

إبراهيبم بن يونس بن محمد البغداديّ، نزيل طرسوس، و"حَرَميّ" بلفظ النسبة لقبه، صدوقٌ [11] 1753/ 54 من أفراد المصنّف. و"عارم": هو محمد بن الفضل السدوسيّ، أبو النعمان البصريّ، وعارم لقبه، ثقة ثبت تغيّر في آخر عمره، من صغار [9] 46/ 1728.

والحديث متّفقٌ عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُسلِم الطَّائِفِيُّ) أشار به إلى أن حمّاد بن زيد لم ينفرد بهذه الرواية، بل تابعه عليها محمد بن مسلم الطائفيّ، كما بين روايته بقوله:

3948 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَامِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُرَيْجٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُخَابَرَةِ، وَالْمُحَاقَلَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح،

"محمد بن عامر": هو الأنطاكيّ، نزيل الرملة، ثقة [11] 8/ 313. من أفراد المصنّف. و"سُريج": هو ابن النعمان بن مروان الجوهريّ، أبو الحسن البغداديّ، خُراسانيّ الأصل، ثقة يهم قليلاً، من كبار [10] 10/ 2455.

[تنبيه]: وقع في نسخ "المجتبى""شُريح" بالشين المعجمة، آخره حاء مهملة، بدل "سُريج" بالسين المهملة، والجيم، وهو غلط فاحش، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

و"محمد بن مسلم"، واسم جدّه سوس، وقيل: سوسن، بزيادة نون في آخره. وقيل: بتحتانيّة بدل الواو فيهما، وقيل: مثلُ حُنين، الطائفيّ، يُعد في المكيين، صدوق يُخطىء [8].

قال عبّاس الدُّوريّ، عن ابن معين: ثقة، لا بأس به، وابن عُيينة أثبت منه، وكان إذا حدّث من حفظه يُخطىء، وإذا حدّث من كتابه، فليس به بأس، وابن عُيينة أوثق منه في عمرو ابن دينار، ومحمد بن مسلم أحبّ إليّ من داود العطّار في عمرو. وقال إسحاق ابن منصور، عن ابن معين: ثقة. وقال حجاج بن الشاعر، عن عبد الرزّاق: ما كان أعجب محمد بن مسلم إلى الثوريّ. وقال العجليّ، وأبو داود: ثقة. وقال البخاريّ، عن ابن مهديّ: كتبه صحاح. وقال أبو داود: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال. يُخطىء. وقال الساجيّ: صدوق يَهِم في الحديث، رَوَى عن عمرو ابن دينار حديثًا يَحتجّ به القدرية، لم يروه غيره، فأحسبه اتهُّم بالقدر لروايته. وقال يعقوب بن سُفيان: ثقة، لا بأس به، وإن كان ابن عيينة أحبّ منه. وذكر له ابن عديّ

ص: 174

أحاديث، وقال: له أحاديث حسان غرائب، وهو صالح الحديث، لا بأس به، ولم أر له حديثًا منكرًا. وقال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: ما أضعف حديثه. وقال الميمونيّ: ضعّفه أحمد على كلّ حال، من كتاب، وغير كتاب. مات قبل التسعين ومائة. علّق عنه البخاريّ، وأخرج له الباقون، له عند مسلم حديث واحد متابعة، حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما في ترك الوضوء مما مسّت النار، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديثان: هذا، وفي "كتاب القسامة " -35/ 4803 - حديث ابن عبّاس رضي الله عنه:"قتل رجل رجلاً على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفًا".

والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (جَمَعَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ الحَدِيثَينِ، فَقَالَ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَجَابِرٍ) يعني أن سفيان ابن عيينة روى هذا الحديث عن عمرو بن دينار، عن عبد اللَّه بن عمر، وجابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهم، فجمع بين حديثي الصحابيين، وهذا يؤيّد ما تقدّم أن الحديث صحيح ثابت عنهما جميعًا، ثم ذكر رواية ابن عيينة، بقوله:

3949 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَجَابِرٍ، نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ، وَنَهَى عَنِ الْمُخَابَرَةِ، كِرَاءِ الأَرْضِ بِالثُّلُثِ، وَالرُّبُعِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

[تنبيه]: وقع في نسخ "المجتبى" بعد قوله: "أخبرنا عبد اللَّه بن محمد بن عبد الرحمن": ما نصّه: "حدّثنا ابن المسور"، وهذا غلط فاحش، وإنما المسور جد عبد اللَّه بن محمد الأعلى، فإنه: عبد اللَّه بن محمد بن عبد الرحمن بن الْمِسْوَر بن مَخْرَمة الزهريّ البصريّ، ومن الغريب أن نسخة "الكبرى" كانت خالية منه، فألحق المحقق بين قوسين، هكذا: وأخبرنا عبد اللَّه بن محمد بن عبد الرحمن، قال:[حدّثنا ابن المسور، قال: حدّثنا] سفيان بن عيينة الخ، وهذا من عجائب محقّقي عصرنا هذا الذين يتولّون التحقيق بدون أن يكون لهم إلمام بهذا الفنّ، فيُلحقون كلّ ما يرونه زائدًا على أنه نسخة من نُسخ الكتاب، دون أن يتأملوا صحته، فليس لهم غرض، إلا التجارة بالكتب المشحونة بالأخطاء، وهذا من إضاعة الأمانة، فإن هذا العمل كان من أمانات أهل العلم، فتولّاه التجّار طمعًا في المال، فأضاعوا الأمانات العلمية، ولقد أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن إضاعة الأمانة من علامة الساعة، وذلك فيما أخرجه البخاريّ من حديث أبي

ص: 175

هريرة رضي الله عنه لمّا سأل أعرابي النبيّ صلى الله عليه وسلم، متى الساعة؟، قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"فإذا ضُيّعت الأمانة، فانتظر الساعة"، قال. كيف إضاعتها؟، قال:"إذا وُسّد الأمرُ إلى غير أهله، فانتظر الساعة". فإنا للَّه، وانا إليه راجعون.

والإسناد من رباعيّات المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (185) من رباعيات الكتاب، وهو أعلى ما وقع له من الأسانيد، وقد تقدّم غير مرّة.

وقوله: "حتى يبدو صلاحه" أي حتى يصلح للانتفاع به بالأكل، وغيره، وسيأتي تمام البحث فيه في "كتاب البيوع"، إن شاء اللَّه تعالى.

وقوله: "كراء الأرض" بالجرّ بدل من "المخابرة"، ويجوز قطعه إلى الرفع بتقدير مبتدإ، أوالى النصب، بتقدير فعل، كأعني.

والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (رَوَاهُ أَبُو النَّجَاشِيِّ، عَطَاءُ بْنُ صُهَيْبٍ، وَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِيهِ) هذا أحد الرواة الذين رووا هذا الحديث عن رافع بن خديج رضي الله عنه متّصلاً، وهم جماعة، تقدّم بيانهم، فلا تغفُل.

ثم بين روايات أبي النجاشيّ، فقال:

3950 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الطَّبَرَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بَحْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُبَارَكُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو النَّجَاشِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ لِرَافِعٍ: «أَتُؤَاجِرُونَ مَحَاقِلَكُمْ؟ ، قُلْتُ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، نُؤَاجِرُهَا عَلَى الرُّبُعِ، وَعَلَى الأَوْسَاقِ مِنَ الشَّعِيرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَفْعَلُوا، ازْرَعُوهَا، أَوْ أَعِيرُوهَا، أَوْ أَمْسِكُوهَا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أبو بكر محمد بن إسماعيل الطبرانيّ" ثقة [12] 3/ 1603 من أفراد المصنّف.

و"عبد الرحمن بن بحر" أبو عليّ الخلّال البصريّ، مقبول [10].

روى عن مبارك بن سعد اليماميّ، ورُدَيح بن عطيّة المقدسيّ، ورِشْدِين بن سعد، ويحيى بن عيسى الرمليّ. وعنه محمد بن إسماعيل الطبرانيّ، وعبيد اللَّه بن واصل البخاريّ، وجعفر بن محمد بن أبي عثمان الطيالسيّ، وغيرهم. تفرّد به المصنّف، له عنده حديثان فقط: هذا، وفي "كتاب قطع السارق"10/ 4934 - حديث عائشة رضي الله عنها: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "تقطع اليد في الْمِجَنّ".

[تنبيه]: وقع في نسخ "المجتبى": "عبد الرحمن بن يحيى" بدل "عبد الرحمن بن

ص: 176

بحر"، وهو تصحيفٌ فاحش، فتنبّه، وقد وقع في "الكبرى" على الصواب، وكذا في "تحفة ألأشراف" 3/ 153 - . واللَّه تعالى أعلم.

و"مبارك بن سَعْد" اليماميّ، نزيل البصرة، مقبول [8].

روى عن يحيى بن أبي كثير. وعنه أبو عليّ عبد الرحمن بن بحر الخلّال. ذكره ابن حبّان في "الثقات". تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

[تنبيه]: وقع في نسخ "المجتبى": "مبارك بن سعيد"، وكذا في نسخ "التقريب"، والصواب:"ابن سَعْد" بفتح، فسكون، وهو الذي في "الكبرى"، لكن ألصق به محققه "ابن سعيد"، تبعًا لما في "المجتبى"، فأفسده.

راجع الصواب في "تهذيب الكمال" 27/ 177 - 178 - و"تهذيب التهذيب" 4/ 17 - 18، و"خلاصة الخزرجيّ": ص 368. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

و"أبوالنجاشيّ" -بنون، وجيم خفيفة، وبعد الألف معجمة- عطاء بن صُهيب الأنصاريّ، ثقة [4].

روى عن مولاه رافع بن خَدِيج، صَحِبه ستّ سنين. وعنه الأوزاعيّ، ويحيى بن أبي كثير، وعكر مة بن عمَّار، وأيوب بن عُتبة. قال النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له الجماعة، سوى أبي داود، والترمذيّ، وله عند المصنّف حديث الباب فقط.

وقوله: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لرافع الخ" هذا فيه صريح في أنه صلى الله عليه وسلم خاطب بهذا رافعًا، وفي رواية الأوزاعيّ، عن أبي النجاشيّ الآتية في الرواية التالية، أن هذا الخطاب لظهير بن رافع عمّ رافع بن خديج رضي الله عنهم، وسيأتي الكلام عليه قريبًا.

وقوله: "محاقلكم" أي مزارعكم، والحقل الزرع. وقيل: ما دام أخضر، والمحاقلة: المزارعة بجزء مما يَخرُج. وقيل: بيع الزرع بالحنطة، وقيل: غير ذلك، وقد تقدّم تمام البحث فيه.

وقوله: "على الربع" -بضمّتين، أو بسكون الثاني- أي على رُبُع ما يخرج من الأرض. وفي رواية البخاريّ:"على الرَّبِيع" -بفتح الراء، وكسر الموحّدة- قال في "الفتح": وهي موافقة للرواية الأخيرة، وهي قوله:"على الأربعاء"، فإن الأربعاء جمع رَبيع، وهو النهر الصغير. وفي رواية المستملي:"الرُّبيع" بالتصغير، ووقع للكشميهنيّ:"على الرُّبُع"، وهي موافقة لحديث جابر المذكور بعدُ، لكن المشهور في حديث رافع الأولُ، والمعنى أنهم كانوا يُكرون الأرض، ويَشترطون لأنفسهم ما يَنبُتُ على الأنهار. انتهى

(1)

.

(1)

"فتح" 5/ 292 "كتاب الحرث والمزارعة".

ص: 177

وقوله: "وعلى الأوساق": الواو بمعنى "أو"، كما في "الفتح"، و"الأَوْساقُ" -بفتح الهمزة، جمع وِسق بكسر، فسكون، كحِمل وأحمال، وهو ستّون صاعًا، أو حِمْلُ بعير. وفي رواية البخاريّ:"وعلى الأَوْسُق" وهو جمع وَسْق، بفتح، فسكون.

وقوله: "ازرعوها": الهمزة هنا همزة وصل، وهي مكسورة في الابتداء، وتُحذف عند الدرج، والراء مفتوحة، أمر من زرع، من باب فَتَح.

وقوله: "أو أَعيروها": الهمزة هنا همزة قطع، فهي مفتوحة؛ لأنه أمر من الإعارة.

وقوله: "أو أمسكوها": أي اتركوها مُعطَّلَة، بغير زرع. زاد في رواية البخاريّ، من طريق الأوزاعيّ، عن أبي النجاشيّ:"قلت: سمعًا، وطاعةً"، وهما بالنصب، ويجوز رفعهما، كما قاله في "الفتح"

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (خَالَفَهُ الأَوْزَاعيُّ، فَقَالَ: عَنْ رَافِعٍ، عَنْ ظُهَيرِ بْنِ رَافِعٍ) أشار به إلى أن الأوزاعيّ خالف يحيى بن أبي كثير في روايته لهذا الحديث، عن أبي النجاشيّ، فرواه عنه، عن رافع رضي الله عنه، عن عمّه ظُهير رضي الله عنه، فجعله من مسند ظهير رضي الله عنه، لا من مسند رافع رضي الله عنه، وقد أشار الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في "الفتح"

(2)

إلى ترجيح رواية الأوزاعيّ، بأن حنظلة بن قيس تابعه عليه، وقد تقدّمت روايته في -3925 - لكن فيه أن يحيى بن أبي كثير لم ينفرد به، فقد تابعه عكرمة بن عمّار، عند مسلم، فقد أخرجه من طريق عبد الرحمن بن مهديّ، عن عكرمة، عن أبي النجاشيّ، عن رافع بن خديج رضي الله عنه، ولم يذكر ظُهيرًا، فالذي يظهر أن يُحمل على أنه صلى الله عليه وسلم خاطب كلًّا منهما بذلك؛ كما تقدّم تحقيق ذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

ثم ساق رواية الأوزاعيّ، فقال:

3951 -

(أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ أَبِي النَّجَاشِيِّ، عَنْ رَافِعٍ، قَالَ: أَتَانَا ظُهَيْرُ بْنُ رَافِعٍ، فَقَالَ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا رَافِقًا، قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ؟ ، قَالَ: أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ حَقٌّ، سَأَلَنِي كَيْفَ تَصْنَعُونَ فِي مَحَاقِلِكُمْ؟ ، قُلْتُ: نُؤَاجِرُهَا عَلَى الرُّبُعِ، وَالأَوْسَاقِ مِنَ التَّمْرِ، أَوِ الشَّعِيرِ، قَالَ: «فَلَا تَفْعَلُوا، ازْرَعُوهَا، أَوْ أَزْرِعُوهَا، أَوْ أَمْسِكُوهَا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا

(1)

"فتح" 5/ 292.

(2)

راجع الفتح 5/ 291.

ص: 178

إلى الأوزاعيّ قريبًا برقم -3942 - .

وقوله: "ازرعوها، أو أو أزْرِعُوها" الأول بهمزة الوصل المكسورة، وفتح الراء، والثاني بفتح همزة القطع، وكسر الراء، و"أو" للتخيير، لا للشكّ، والمراد ازرَعُوها أنتم، أو أعطوها لغيركم، يزرعها بغير أجرة.

والحديث متّفقٌ عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل

وقوله (رَوَاهُ بُكَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ، ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ رَافِعٍ، فَجَعَلَ الرِّوَايَةَ لِأَخِي رَافِعٍ) يعني أن بُكير بن عبد اللَّه بن الأشجّ روى هذا الحديث مخَالفًا غيره عن أسيد بن رافعَ، فجعله من مسند أخي رافع بن خَديج، لا من مسند رافع رضي الله عنه، كما بين ذلك بقوله:

3952 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حِبَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ لَيْثٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي بُكَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، أَنَّ أَخَا رَافِعٍ، قَالَ لِقَوْمِهِ: قَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْيَوْمَ، عَنْ شَيْءٍ كَانَ لَكُمْ رَافِقًا، وَأَمْرُهُ طَاعَةٌ وَخَيْرٌ، نَهَى عَنِ الْحَقْلِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن حاتم": هو المروزيّ الثقة، من أفراد المصنّف. و"حنان" -بكسر الحاء المهملة-: هو ابن موسى المروزيّ الثقة. و"ليث": هو ابن سعد الإمام الحجة الثبت المصريّ.

و"أسيد-بضمّ أوله، مصغّرًا، وقيل: بفتحه، مكبرًا - ابن رافع بن خَدِيج"، مقبول [6].

روى هذا الحديث، وروى عنه الأعرج، وبُكير بن الأشجّ. قال الدارقطنيّ: الصواب فيه أُسيد بالضم، وقد ذكره البخاريّ بالوجهين. قال الحافظ: وقد ذكر فيه البخاريّ في "التاريخ" اختلافًا كثيرًا في حديثه، وبُكير بن الأشجّ لم ينسبه إلى جدّه من طريق مجاهد عن أسيد ابن أخي رافع بن خديج، واختُلف على مجاهد فيه أيضًا، والحديث واحدٌ. وذكر ابن حبّان في "الثقات" في التابعين تبعًا للبخاريّ أُسيد بن أخي رافع بن خَديج، وفي أتباع التابعين أسيد بن رافع عن الحجازيين، وعنه بُكير بن الأشجّ، فاللَّه أعلم. انتهى. تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

والحديث من أفراد المصنّف، وهو ضعيف؛ للاضطراب في إسناده. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبا، ونعم الوكيل.

3953 -

(أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ

ص: 179

جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، قَالَ: سَمِعْتُ أُسَيْدَ بْنَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ الأَنْصَارِيَّ، يَذْكُرُ أَنَّهُمْ مَنَعُوا الْمُحَاقَلَةَ، وَهِيَ أَرْضٌ تُزْرَعُ، عَلَى بَعْضِ مَا فِيهَا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الربيع بن سُليمان": هو المراديّ، أبو محمد المصريّ المؤذّن، صاحب الشافعيّ، ثقة [:11] 195/ 311. و"الليث": هو ابن سعد الإمام المصريّ.

[تنبيه]: كون شيخ الليث في هذا السند هو جعفر بن ربيعة، هو الذي في النسخة "الهندية"، و"تحفة الأشراف" 11/ 125، وهو الصواب، ووقع في النسخة المطبوعة بدله "حفص بن ربيعة"، وهو غلط فاحش، فليس في الكتب الستة من يسمّى "حفص ابن ربيعة" أصلاً، فضلاً عن شيوخ الليث. ووقع في "الكبرى" بلفظ "عن ابن ربيعة"، ولم يسمه، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "منعوا المحاقلة" يحتمل أن يكون بالبناء للفاعل، أي إن الذين سمعوا النهي عن المحاقلة من النبيّ صلى الله عليه وسلم بلّغوا غيرهم ذلك. ويحتمل أن يكون مبنيًّا للمفعول، أي إن الناس مُنعوا من قبل الشارع عن المحاقلة.

والحديث سبق القول فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (رَوَاهُ عِيسَى بْنُ سَهْلِ بْنِ رَافِع) أي روى هذا الحديث عيسى بن سهل بن رافع ابن خديج، عن جدّه رافع بن خديج رضي الله عنه، كما بيّنه بقوله:

3954 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حِبَّانُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ أَبِي شُجَاعٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ سَهْلِ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: إِنِّي لَيَتِيمٌ فِي حَجْرِ جَدِّي، رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَبَلَغْتُ رَجُلاً، وَحَجَجْتُ مَعَهُ، فَجَاءَ أَخِي عِمْرَانُ بْنُ سَهْلِ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، فَقَالَ: يَا أَبَتَاهُ، إِنَّهُ قَدْ أَكْرَيْنَا أَرْضَنَا فُلَانَةَ، بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ دَعْ ذَاكَ، فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل، سَيَجْعَلُ لَكُمْ رِزْقًا غَيْرَهُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَدْ نَهَى عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "حِبّان" -بالكسر- هو ابن موسى. و"عبد اللَّه": هو ابن المبارك. و "سعيد بن يزيد، أبو شجاع" الْحِمْيَريّ الْقِتْبَانيُّ الإسكندرانيّ، ثقة عابد [7] 146/ 237.

و"عيسى بن سهل بن رافع بن خَدِيج" الأنصاريّ الحارثيّ المدنيّ، نزيل الإسكندريّة، ويقال: اسمه عثمان، وهو وَهَم، مقبول [4].

روى عن جدّه رافع بن خديج. وعنه سعيد بن يزيد، القتبانيّ، وأبو شُريح

ص: 180

الإسكندرانيّ، وموسى بن عُبيدة. ذكره ابن حبّان في "الثقات". تفرّد به المصنّف بحديث الباب فقط.

وقوله: "رجلا" منصوب على المفعولية المطلقة على النيابة، والأصل مبلغ رجل.

وقوله: "فلانة" فيه استعمال "فلانة" لغير العقلاء بغير الألف واللام، والذي في كتب اللغة، أنه يستعمل لغير العاقل بالألف واللام، قال الفيّوميّ: فلانٌ، وفلانةٌ بغير ألف ولام كناية عن الأَناسيّ، وبهما كناية عن البهائم، فيقال: ركبت الفلان، وحلَبْتُ الفلانة. انتهى

(1)

. وقال المجد: فلانٌ، وفلانةٌ كناية عن أسمائنا، وبـ "أل" عن غيرنا. انتهى

(2)

.

والحديث أخرجه المصنّف هنا - 2/ 3954 وفي "الكبرى" 1/ 4657. وأخرجه (د) في "البيوع والإجارات" 3401.

وهو شاذٌ مخالف لما تقدّم من أحاديث رافع بن خديج رضي الله عنه الصحيحة التي صرّح فيها بأن الإكراء بالدراهيم، والدنانير جائز، وهي في "الصحيحين"، من الحفّاظ المعروفين من أصحاب رافع رضي الله عنه، كحنظلة بن قيس، فتفرّد عيسى بن سهل بهذا يعتبر شاذًّا مردودًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3955 -

(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي الْوَلِيدِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، أَنَا وَاللَّهِ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ مِنْهُ، إِنَّمَا كَانَا رَجُلَيْنِ اقْتَتَلَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنْ كَانَ هَذَا شَأْنُكُمْ، فَلَا تُكْرُوا الْمَزَارِعَ» ، فَسَمِعَ قَوْلَهُ: «لَا تُكْرُوا الْمَزَارِعَ»).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(الحسين بن محمد) الذارع السعديّ، أبو عليّ البصريّ، صدوق [10] 97/ 1355.

2 -

(إسماعيل بن إبراهيم) بن مقسم المعروف بابن عُليّة، أبو بشر المصريّ، ثقة ثبت [8] 18/ 19.

3 -

(عبد الرحمن بن إسحاق) المدنيّ، نزيل البصرة، صدوقٌ رُمي بالقدر [6] 100/ 2618.

(1)

"المصباح المنير".

(2)

"القاموس".

ص: 181

4 -

(أبو عُبيدة بن محمد) بن عَمّار بن ياسر، المدنيّ أخو سلمة بن محمد، وقيل: هما واحد، ثقة

(1)

[4].

قال ابن معين: ثقة. وقال عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل: أبو عبيدة هذا ثقة. وأخوه سلمة لم يرو عنه إلا عليّ بن زيد، ولا يُعرف حاله. وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: منكر الحديث، ولا يُسمّى. وقال في موضع آخر: صحيح الحديث. وقال في موضع آخر: اسمه سلمة. وقد قال البخاريّ في ترجمة سلمة

(2)

: أراه أخا أبي عُبيدة. وذكر الحاكم أبو أحمد أبا عُبيدة فيمن لا يُعرف اسمه. روى له الأربعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، و 23/ 4094 و 4095/ 24 - حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه، مرفوعًا: "من قاتل دون ماله، فقُتل فهو شهيد

" الحديث.

5 -

(الوليد بن أبي الوليد) عثمان. وقيل: الوليد بن الوليد، وهو وهم، القرشيّ مولى عثمان بن عفان، أو ابن عمر بن الخطّاب، أبو عثمان المدنيّ، ثقة

(3)

[4].

روى عن جابر، وابن عمر، وعروة بن بن الزبير، وابن المسيب، وجماعة. وروى عنه بُكير ابن الأشجّ، وحيوة بن شُريح، والليث بن سعد، ويزيد بن الهاد، وأبو عبيدة ابن محمد، وجماعة آخرون. ووثقه ابن معين، وأبو زرعة، وقال يعقوب بن سفيان: مصري ثقة. وقال العجليّ: مصريّ تابعيّ ثقة. وقال أبو عبيدة الآجرّيّ: سألت أبا داود عنه؟ فقال فيه خيرًا. ذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: ربّما خالف على قلّة روايته. روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، و "خلق أفعال العباد"، ومسلم، والأربعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

6 -

(عروة بن الزبير) بن العوّام الأسديّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 40/ 44.

7 -

(زيد بن ثابت) بن الضحاك الأنصاريّ النجاري، أبو سعيد، وأبو خارجة الصحابيّ المشهور الفرَضيّ، كاتب الوحي، مات رضي الله عنه سنة (5) أو (48) وقيل: بعد (50)، تقدّمت ترجمته في 122/ 179. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

قال عنه في "التقريب": مقبول، لكن مقتضى ترجمته أنه ثقة، فقد روى عن جماعة، وروى عنه جماعة، ووثقه ابن معين، وعبد اللَّه ابن أحمد بن حنبل، وأبو حاتم في رواية. فتنبّه. راجع ترجمته في "تهذيب التهذيب" 4/ 553.

(2)

نص أبو حاتم الرازيّ بأنه مدينيّ. راجع "تهذيب الكمال" 34/ 62.

(3)

قال عنه في "التقريب": لين الحديث، وفيه نظر، فقد روى عن جماعة، وروى عنه جماعة، ووثقه جماعة، وليس فيه كلام لأحد إلا قول ابن حبّان المذكور، وهو في مقابل توثيق هؤلاء غير مقبول راجع ترجمته في "تهذيب الكمال" 31/ 107 - 109.

ص: 182

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو والترمذيّ، وأبي عبيدة، فإنه من رجال الأربعة. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وشيخ شيخه، فبصريان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه عروة من الفقهاء السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) بن العوام -رحمه اللَّه تعالى-، أنه (قَالَ: قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ) هذا تعريض بأنه أخطأ في هذه المسألة، فاستحقّ أن يَطلُب له المغفرةَ؛ لأن المجتهد، وإن كان يؤجر على اجتهاده، لكنه ربما يلام على خطئه، فيستحقّ أن يُطلب له المسامحة في ذلك، فقد أمر اللَّه بطلب عدم المؤاخذة، مع أن الخطأ مغفور، حيث قال اللَّه تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} الآية [البقرة: 286].

هذا بناء على ظنّ زيد بن ثابت رضي الله عنه، وإلا فليس في حديث رافع بن خديج رضي الله عنه خطأ، ولا نسيان، بل هو حفظه، كما حفظه الآخرون من الصحابة رضي الله عنهم الذين سنشير إليهم قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى (أَنَا وَاللَّهِ أَعْلَمُ بِالحَدِيثِ مِنْهُ) الضمير مبتدأ، و"أعلم" خبره، واعترض بينهما القسم لإفادة التأكيد (إِنَّما كَانَا رَجُلَيْنِ) ضمير "كانا" للمتنازعين، و"رجلين" خبر "كان"، وفي رواية في "الكبرى" من طريق يزيد بن زُريع، عن عبد الرحمن بن إسحاق:" "إنما جاء رجلان، قد اقتتلا"، وفي رواية بشر بن المفضّل، عن عبد الرحمن أيضًا: "إنما جاء رجلان من الأنصار إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد اقتتلا". وفي رواية أبي داود: "إنما أتاه رجلان". وقوله (اقْتَتَلَا) بالبناء للفاعل صفة لـ"رجلين"، ومعنى "اقتتلا": كادا يقتتلان من شدّة تنازعهما (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إن كَانَ هَذَا) التنازع، والتقاتُل (شَأْنُكُمْ) أي حالكم، وصفتكم في المزارعة (فَلَا تُكْرُوا المَزَارِعَ) أي تجنّبًا لهذه الحالة السيّئة (فَسَمِعَ قَوْلَهُ: "لَا تُكْرُوا المَزَارِعَ) يعنيب أنه ما سمع أول الحديث، وإنما سمع آخره، فحفظه ظانًّا أنه تمام الحديث، فأخطأ فيه. ومراد زيد بن ثابت رضي الله عنه النهي مخصوصٌ بما إذا أدّى إلى النزاع، والخصام، وإلا فلا.

لكن هذا ظنّ زيد بن ثابت رضي الله عنه، وإلا فليس رافع رضي الله عنه تفرّد بحديث:"لا تكروا المزارع"، فقد حدّث به معه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من الصحابة: جابر بن عبد اللَّه، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدريّ رضي الله عنهم، وأحاديثهم كلها صحيحة، وقد اتفق الشيخان عليها، كما تقدّم بيان ذلك كلّه.

ص: 183

فالصواب أن يُحمل النهي على معنى حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، أي فيما إذا اشتمل العقد على شروط فاسدة تؤدّي إلى النزاع، والخصام، وأما إذا خلا عن ذلك، فالنهي للتنزيه، لا للتحريم، بدليل الأحاديث الأخرى التي دلّت على الإباحة، فيكون المراد حثْ أصحاب الأراضي أن يتطوّعوا بها على إخوانهم المحتاجين، كما تقدّم توضيح هذا كلّه، مستوفىً، فلا ينبغي تخطئة هذا الصحابيّ الحافظ لما سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما حفظه الصحابة الآخرون رضي الله عنهم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث زيد بن ثابت - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح

(1)

.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 2/ 3955 - وفي "الكبرى" 1/ 4658. وأخرجه (د) في "البيوع والإجارات" 3390 (ق) في "الرهون" 2461. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في "الكبرى" بعد أن أخرج هذا الحديث بالسند المذكور: ما نصّه:

خالفه يزيد بن زريع، فقال: عن الوليد بن الوليد:

أخبرنا عمرو بن عليّ، قال: ثنا يزيد، ثنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن أبي عُبيدة بن محمد بن عمار، عن الوليد بن الوليد، عن عروة بن الزبير، عن زيد بن ثابت، قال: أنا واللَّه أعلم بالحديث من رافع بن خديج، إنما جاء رجلان قد اقتتلا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إن كان هذا شأنكم، فلا تُكروا المزارع".

وافقه على قول الوليد بن الوليد بشرُ بْنُ المفضّل

(2)

:

أخبرنا إسماعيل بن مسعود، قال لنا بشر، عن عبد الرحمن، عن أبي عُبيدة بن محمد ابن عمّار، عن الوليد بن الوليد، عن عروة بن الزبير، عن زيد بن ثابت، قال: يغفر اللَّه

(1)

والحاصل أنه ثقة. واللَّه تعالى أعلم.

(2)

ضعفه الشيخ الألبانيّ، ولعل مستنده ما تقدّم من تضعيف الحافظ ابن حجر لرجال سنده، كما سبق، وقد تقدّم أن الصحيح أنهم ثقات، كما صرّح بذلك الأئمة الكبار، فالحديث صحيح. فتنبّه.

لكن رواية بشر بن المفضل عند أبي داود كرواية إسماعيل بن علية التي أوردها المصنّف في "المجتبى"، بزيادة "أبي"، فقال:(عن الوليد بن أبي الوليد)، فتأمّل واللَّه تعالى أعلم.

ص: 184

لرافع ابن خَديج، أنا كنت أعلم بالحديث، إنما جاء رجلان من الأنصار إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد اقتتلا، فقال:"إن كان هذا شأنكم، فلا تُكروا المزارع"، فسمع قوله:"لا تُكروا المزارع". انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: كِتَابَةُ مُزَارَعَةٍ، عَلَى أَنَّ الْبَذْرَ، وَالنَّفَقَةَ عَلَى صَاحِبِ الأَرْضِ، وَلِلْمُزَارِعِ رُبُعُ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ عز وجل مِنْهَا:

هَذَا كِتَابٌ كَتَبَهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، فِي صِحَّةٍ مِنْهُ، وَجَوَازِ أَمْرٍ، لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، إِنَّكَ دَفَعْتَ إِلَيَّ، جَمِيعَ أَرْضِكَ الَّتِي بِمَوْضِعِ كَذَا، فى مَدِينَةِ كَذَا، مُزَارَعَةً، وَهِيَ الأَرْضُ الَّتِي تُعْرَفُ بِكَذَا، وَتَجْمَعُهَا حُدُودٌ أَرْبَعَةٌ، يُحِيطُ بِهَا كُلِّهَا، وَأَحَدُ تِلْكَ الْحُدُودِ بِأَسْرِهِ لَزِيقُ كَذَا، وَالثَّانِي، وَالثَّالِثُ، وَالرَّابِعُ، دَفَعْتَ إِلَيَّ جَمِيعَ أَرْضِكَ هَذِهِ، الْمَحْدُودَةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، بِحُدُودِهَا الْمُحِيطَةِ بِهَا، وَجَمِيعِ حُقُوقِهَا، وَشِرْبِهَا، وَأَنْهَارِهَا، وَسَوَاقِيهَا، أَرْضًا بَيْضَاءَ، فَارِغَةً، لَا شَيْءَ فِيهَا، مِنْ غَرْسٍ، وَلَا زَرْعٍ، سَنَةً تَامَّةً، أَوَّلُهَا مُسْتَهَلَّ شَهْرِ كَذَا، مِنْ سَنَةِ كَذَا، وَآخِرُهَا انْسِلَاخُ شَهْرِ كَذَا، مِنْ سَنَةِ كَذَا، عَلَى أَنْ أَزْرَعَ جَمِيعَ هَذِهِ الأَرْضِ الْمَحْدُودَةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، الْمَوْصُوفُ مَوْضِعُهَا فِيهِ، هَذِهِ السَّنَةَ الْمُؤَقَّتَةَ فِيهَا، مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، كُلَّ مَا أَرَدْتُ، وَبَدَا لِي أَنْ أَزْرَعَ فِيهَا، مِنْ حِنْطَةٍ، وَشَعِيرٍ، وَسَمَاسِمَ، وَأُرْزٍ، وَأَقْطَانٍ، وَرِطَابٍ، وَبَاقِلاَّ، وَحِمَّصٍ، وَلُوبِيَا، وَعَدَسٍ، وَمَقَاثِي، وَمَبَاطِيخَ، وَجَزَرٍ، وَشَلْجَمٍ، وَفِجْلٍ، وَبَصَلٍ، وَثُومٍ، وَبُقُولٍ، وَرَيَاحِينَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، مِنْ جَمِيعِ الْغَلاَّتِ، شِتَاءً وَصَيْفًا، بِبُذُورِكَ وَبَذْرِكَ، وَجَمِيعُهُ عَلَيْكَ دُونِي، عَلَى أَنْ أَتَوَلَّى ذَلِكَ بِيَدِي، وَبِمَنْ أَرَدْتُ مِنْ أَعْوَانِي، وَأُجَرَائِي، وَبَقَرِي، وَأَدَوَاتِي، وَإِلَى زِرَاعَةِ ذَلِكَ، وَعِمَارَتِهِ، وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ نَمَاؤُهُ، وَمَصْلَحَتُهُ، وَكِرَابُ أَرْضِهِ، وَتَنْقِيَةُ حَشِيشِهَا، وَسَقْىِ مَا يُحْتَاجُ إِلَى سَقْيِهِ، مِمَّا زُرِعَ، وَتَسْمِيدِ مَا يُحْتَاجُ إِلَى تَسْمِيدِهِ، وَحَفْرِ سَوَاقِيهِ وَأَنْهَارِهِ، وَاجْتِنَاءِ مَا يُجْتَنَى مِنْهُ، وَالْقِيَامِ بِحَصَادِ مَا يُحْصَدُ مِنْهُ، وَجَمْعِهِ، وَدِيَاسَةِ مَا يُدَاسُ مِنْهُ، وَتَذْرِيَتِهِ بِنَفَقَتِكَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ دُونِي، وَأَعْمَلَ فِيهِ كُلِّهِ بِيَدِي، وَأَعْوَانِي دُونَكَ، عَلَى أَنَّ لَكَ مِنْ جَمِيعِ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ عز وجل، مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الْمَوْصُوفَةِ، فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، فَلَكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ، بِحَظِّ أَرْضِكَ، وَشِرْبِكَ، وَبَذْرِكَ، وَنَفَقَاتِكَ، وَلِيَ الرُّبُعُ الْبَاقِى مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، بِزِرَاعَتِي، وَعَمَلِي، وَقِيَامِي عَلَى ذَلِكَ بِيَدِي، وَأَعْوَانِي، وَدَفَعْتَ إِلَيَّ جَمِيعَ أَرْضِكَ هَذِهِ الْمَحْدُودَةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، بِجَمِيعِ حُقُوقِهَا، وَمَرَافِقِهَا، وَقَبَضْتُ ذَلِكَ كُلَّهُ

(1)

راجع "السنن الكبرى" 3/ 106 - 107. رقم الأحاديث 71/ 4659 و 72/ 4660.

ص: 185

مِنْكَ، يَوْمَ كَذَا، مِنْ شَهْرِ كَذَا، مِنْ سَنَةِ كَذَا، فَصَارَ جَمِيعُ ذَلِكَ فِي يَدِي، لَكَ لَا مِلْكَ لِي فِي شَيْءٍ مِنْهُ، وَلَا دَعْوَى، وَلَا طَلِبَةَ، إِلاَّ هَذِهِ الْمُزَارَعَةَ الْمَوْصُوفَةَ، فِي هَذَا الْكِتَابِ، فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْمُسَمَّاةِ فِيهِ، فَإِذَا انْقَضَتْ، فَذَلِكَ كُلُّهُ مَرْدُودٌ إِلَيْكَ، وَإِلَى يَدِكَ، وَلَكَ أَنْ تُخْرِجَنِي بَعْدَ انْقِضَائِهَا مِنْهَا، وَتُخْرِجَهَا مِنْ يَدِي، وَيَدِ كُلِّ مَنْ صَارَتْ لَهُ فِيهَا يَدٌ بِسَبَبِي، أَقَرَّ فُلَانٌ، وَفُلَانٌ، وَكُتِبَ هَذَا الْكِتَابُ نُسْخَتَيْنِ).

شرح كلام المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-:

(قَالَ: أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ) النسائيّ -رحمه اللَّه تعالى- (كِتَابَةُ مُزَارَعَةٍ) خبر لمحذوف، أي هذه صفة كتابة مزارعة (عَلَى أَنَّ الْبَذْرَ) متعلق بصفة "مُزارعة" أي كائنة على أن البذر. و"البذر" بفتح الموحّدة، وسكون الذال المعجمة هو في الأصل مصدر بذر، لكن المراد هنا: الحَبّ المبذور. قال الفيّوميّ: بذَرت الحبّ، من باب قتل: إذا ألقيته في الأرض للزراعة، والبذر المبذورُ، إما تسمية بالمصدر، وإما فَعْلٌ بمعنى مفعولٍ، مثلُ ضَرْبِ الأمير، ونَسْج اليمن. قال بعضهم: البَذْرُ في الحبوب كالحنطة، والشعير، والْبِزْرُ في الرَّيَاحين، والْبُقُولِ، وهذا هو المشهور في الاستعمال، ونُقِل عن الخليل: كلُّ حَبّ يُبْذَرُ فهو بَذْرٌ، وبِزْرٌ. انتهى.

(وَالنَّفَقَةَ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ) يعني أن ما يُبذر في تلك الأرض من البذر، وما يُنفق عليها يكون على صاحب الأرض، لا على المزارع.

[تنبيه]: هذه الصفة التي ذكرها المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهي أن يكون البذر على صاحب الأرض، والعمل على المزارع جائزة عند من يُجيز المزارعة، وأما إذا شُرط البذر على المزارع، فقد اختلفوا فيه، كما بيّنه أبو محمد ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-، فقال: ظاهر المذهب أن المزارعة إنما تصحّ إذا كان البذر من رب الأرض، والعمل من العامل، نصِّ عليه أحمد في رواية جماعة، واختاره عامّة الأصحاب، وهو مذهب ابن سيرين، والشافعيّ، وإسحاق؛ لأنه عقد يشترك العامل، وربّ المال في نمائه، فوجب أن يكون رأس المال كلُّهُ من عند أحدهما، كالمساقاة، والمضاربة. وقد رُوي عن أحمد ما يدلّ على أن البذر يجوز أن يكون من العامل، فإنه قال في رواية مُهَنَّا في الرجل يكون له الأرض، فيها نخلٌ، وشجرٌ، يدفعها إلى قوم يزرعون الأرض، ويقومون على الشجر على أن له النصفَ، ولهم النصف: فلا بأس بذلك، وقد دفع النبيّ صلى الله عليه وسلم خيبر على هذا، فأجاز دفع الأرض لزرعها من غير ذكر البذر، فعلى هذا أيهما أخرج البذر جاز.

ورُوي ذلك عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، وهو قول أبي يوسف، وطائفة من أهل الحديث، وهو الصحيح، إن شاء اللَّه تعالى.

ص: 186

وروي عن سعد، وابن مسعود، وابن عمر رضي الله عنهم أن البذر من العامل، ولعلّهم أرادوا أنه يجوز أن يكون من العامل، فيكون كقول عمر رضي الله عنه، ولا يكون قولاً ثالثًا.

والدليل على صحّة ما ذكرنا قول ابن عمر رضي الله عنهما: دفع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى يهود خيبر نخل خيبر، وأرضها، على أن يعملوها من أموالهم، ولرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شطر ثمرها، وفي لفظ: على أن يعملوها، ويزرعوها، ولهم شطر ما يَخرُج منها. أخرجهما البخاريّ. فجعل عملها من أموالهم، وزرعَهَا عليهم، ولم يذكر شيئًا آخر، وظاهره أن البذر من أهل خيبر، والأصل المعوّل عليه في المزارعة قصّة خيبر، ولم يذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن البذر على المسلمين، ولو كان شرطًا لما أخلّ بذكره، ولو فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه لنُقِل، ولم يجز الإخلال بنقله.

ولأن عمر صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين جميعًا، فإن البخاريّ روى عنه أنه عامل الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر من عنده، فله الشطر، وإن جاؤوا بالبذر فلهم كذا. فظاهر هذا أن ذلك اشتهر، فلم يُنكَر عليه، فكان إجماعًا.

[فإن قلت]: فهذا بمنزلة بيعتين في بيعة، فكيف يفعله عمر رضي الله عنه؟.

[قلنا]: يحتمل أنه قال ذلك ليُخيّرهم في أيّ العقدين شاؤوا، فمن اختار عقدًا عقده معه معيّنًا، كما لو قال في البيع: إن شئت بعتكه بعشرة صحاح، وإن شئت بأحد عشر مكسّرة، فاختار أحدهما، فعقد البيع معه عليه معيّنًا.

ويجوز أن يكون مجيئه بالبذر، أو شروعه في العمل بغير بذر، مع إقرار عمر رضي الله عنه له على ذلك، وعلمه به، جرى مجرى العقد، ولهذا رُوي عن أحمد صحّة الإجارة فيما إذا قال: إن خطته رُوميًّا، فلك درهم، وإن خطته فارسيًّا ذلك نصف درهم.

قال: وما ذكره أصحابنا من القياس يُخالف ظاهر النصّ، والإجماع اللذين ذكرناهما، فكيف يُعمل به؟، ثم هو منتقضٌ بما إذا اشترك مالان، وبدن صاحب أحدهما. انتهى كلام ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي صحّحه ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى- من جواز كون البذر من صاحب الأرض، أو العامل، هو الصواب، لظاهر حديث قصّة خيبر المتقدّم، كما ذكره. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(وَلِلْمُزَارعِ رُبُعُ) بضمتين، وتسكن الثانية تخفيفًا (مَا يُخْرِجُ) بضمّ أوله مبنيًّا للفاعل من الإخراج رباعيّا (اللَّهُ عز وجل مِنْهَا).

(1)

"المغني" 7/ 562 - 564.

ص: 187

وحاصل معنى كلام المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-: هذه كيفيّة كتابة المزارعة التي شُرط فيها أن يكون البذر والنفقة على صاحب الأرض، وما يستحقّه المزارع عند إنتهاء عمله في تلك الأرض أن يأخذ ربع ما أخرج اللَّه تعالى من تلك الأرض، وثلاثة أرباع الخارج يكون لصاحب الأرض. ثم ذكر -رحمه اللَّه تعالى- نصّ الكتابة، فقال:

(هَذَا) مشيرًا إلى ما كُتِبَ من العقد (كِتَابٌ) أي مكتوب من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول (كَتَبَهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ) المراد به المزارع، ونسبه إلى جدّه ليتميّز عَمَّن يوافقه في اسمه، واسم أبيه. وفي بعض النسخ إسقاط لفظة "ابن فلان"(فِي صِحَّةِ مِنْهُ) أي كتبه في حال صحّة جسمه، لا في مرضه (وَجَوَازِ أَمْر) وفي بعض النسخ:"وصحة أمره" بالضمير، أي وفي حال كون أمره نافذًا في أمواله كلّه، واحترز بذلك عن أن يكون صبيًّا، أو مريضاً (لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ) المراد به صاحب الأرض (إِنَّكَ دَفَعْتَ إِلَيَّ، جَمِيعَ أَرْضِكَ الَّتِى بِمَوْضِعِ كَذَا، فِي مَدِينَةِ كَذَا، مُزَارَعَةً) منصوب على أنه مفعول من أجله، أي لأجل التعامل بالزراعة (وَهِيَ الأَرْضُ الَّتِى تُعرَفُ بِكَذَا) أي مسمّيًا لها باسمها الذي تُعرف به لئلا تلتبس بغيرها من أراضيه، فيقع النزاع بينهما (وَتجْمَعُهَا حُدُود أَرْبَعَةٌ، يُحِيطُ بِهَا كُلِّهَا) بالجرّ تأكيدٌ للضمير المجرور (وَأَحَدُ تِلْكَ الحُدُودِ بِأَسْرِه) بفتح الهمزة، وسكون السين المهملة-: أي جميعه (لَزِيقُ كَذَا) أي متّصل بكذا من المكان (وَالثَّاني) أي لزيق كذا أيضًا (وَالثَّالِثُ) أي لزيق كذَا (وَالرَّابعُ) أي لزيق كذا أيضًا (دَفَعْتَ) بالبناء للفاعل، والتاء ضمير المخاطب، وهو صاحب الأرض (إِلَيَّ جَمِيعَ أَرْضِكَ هَذِهِ، الْمَحْدُودَةِ فِي هَذَا الْكِتَاب، بِحُدُودِهَا) متعلقة بـ "المحدودة"(المُحِيطَةِ بِهَا) بالجرّ صفة "حدودها"(وَجَمِيعِ حُقُوقِهَا) أيَ كلّ ما تستحقه من المرافق، وهي التي بَيَّنَهَا بما عطفه عطفَ مفصّل على مجملِ بقوله (وَشِرْبِهَا) بكسر المعجمة، وسكون الراء: هو النصيب من الماء (وَأَنْهَارِهَا) جمع نَهر بفتحتين، مثلُ سبب وأسباب، ويقال: النفي -بفتح، فسكون- فيُجمع على نُهُرٍ بضمتين، وأَنهُر، وهو الماء الجاريّ المتّسع (وَسَوَاقِيهَا) جمع ساقية: وهو النهر الصغير (أَرْضًا بَيْضَاءَ) قال ابن منظور: وأرضٌ بيضاء: مَلْساء، لا نبات فيها، كأن النبات كان يسوّدها. وقيل: هي التي لم توطأ. ولْال أيضًا: البيضاء الخراب من الأرض؛ لأنه يكون أبيض، لا غرس فيه، ولا زرع. انتهى. فيكون قوله (فَارِغَةٌ، لَا شَيْءَ فِيهَا، مِنْ غَرْسٍ، وَلَا زَرْعٍ) مفسرًا لمعنى قوله: أرضا بيضاء (سَنَةً تَامَّةً، أَوَّلُهَا مُسْتَهَلَّ شَهْرِ كَذَا) مُسْتَهَلُّ الشهر بَضم الميم، بصيغة اسم المفعول: أوله، يقال: أُهِلّ الهلالُ بالبناء للمفعول، وللفاعل أيضًا، ومنهم من يمنعه، واستُهِلّ بالبناء للمفعول، ومنهم من يُجيز بناءه للفاعل، وهَلَّ، من باب ضرب لغةٌ أيضًا: إذا ظهر. قاله الفيّوميّ (مِنْ سَنَةِ كَذَا، وَآخِرُهَا

ص: 188

انْسِلَاخُ شَهْرِ كَذا) أي انتهاؤه، وسَلْخُ الشهرِ: آخره (مِنْ سَنَةِ كَذَا، عَلَى أَنَّ أَزرَعَ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَرْضِ الْمَحْدُودَةِ فِي هَذَا الكِتَابِ) أي التي ذُكرت حدودها في كتاب العقد (الْمَوْصُوفِ) بالجر صفة بعد صفة للأرض (مَوْضِعُهَا) بالرفع على أنه نائب فاعل للموصوف (فِيهِ) متعلق بالموصوف (هَذِهِ السَّنَةَ) منصوب على الظرفية متعلّق بـ "أزرِع"(المُؤَقَّتَةَ فِيهَا، مِنْ أَوَّلهَا إِلَى آخِرِهَا، كُلَّمَا أَرَدْتُ، وَبَدَا لِي) أي ظهر، وتيسّر لي (أَنْ أزرَعَ فِيهَا، مِنْ حِنْطَةِ، وَشَعِير، وَسَمَاسِمَ) جمع سِمْسِم بكسر المهملتين، وسمون الميم بينهما: حبٌّ معروف (وَأُرْزٍ) فيه لغات: أحدها: أُرْزٌّ كقُفْل، والثانية: أُرُزٌ بضمّ الراء أيضًا للإتباع، مثلُ عُسْرٍ وعُسُرٍ. والثالثة: ضم الهمزة والراء، وتشديد الزاي. والرابعة: فتح الهمزة، مع التشديد. والخامسة: رُزٌّ من غير همز، وزانُ قُفْل. قاله الفيّوميّ (وَأَقطَانٍ) بفتح الهمزة، جمع قُطن، مثل قفل وأقفال، ويقال فيه القُطُن بضمتين، وتخفيف النون، والْقُطُنّ بتشديد النون أيضًا (وَرِطَابٍ) بكسر الراء: جمع رَطبَة، مثل كَلْبة وكِلاب، والرَّطبَةُ: القَضْبَة خاصّة (وَبَاقِلَّا) وزان فَاعَلا، يُشدَّد، فيُقصرُ، وُيخفَّفُ، فيُمدّ، والواحدة: باقلّاة بالوجهين (وَحِمَّصِ) بكسر الحاء المهملة، وتشديد الميم، مكسورة أيضًا عند البصريين، ومفتوحة عند الكوفيين: حبٌّ؛ معروف. قاله الفيّوميّ (وَلُوبْيَا) بضمّ اللام، وكسر الموحّدة، بينهما واو ساكنة، وقبل الألف ياء تحتانيّة، يمدّ، وُيقصر، مذكّرٌ: نبات معروفٌ (وَعَدَسٍ) بفتحتين، واحدته عَدَسَةٌ: حبّ معروف (وَمَقَاثِي) بفتح الميم: جمع مَقثَأَة: أي محلّ قثّاء، قال في "القاموس": القِثّاء بالكسر، والضمّ: معروف، أو الخيار، وأقثَأَ المكانُ: كثُر به، وأقثأ القومُ كثُر عندهم، والْمَقْثَأَة، وتُضم ثاؤه: موضعه. انتهى (وَمَبَاطِيخَ) جمع مَبْطَخَة: موضع البِطِّيخ، قال في "القاموس": الْبِطِّيخُ -بالكسر- من اليَقْطين الذي لا يعلو، ولكن يذهب على وجه الأرض، واحدته بهاء، والْمَبْطَخَةُ، وتُضمّ الطاء: موضعه. انتهى (وَجَزَرٍ) بفتحتين، قال في "القاموس": الجَزَر بالتحريك: أُرُومة

(1)

تُؤكلُ، معرَّبة، وتُكسر الجيم، واحدتها بالهاء. انتهى (وَشَلْجَمٍ) قال ابن منظور: قال الجوهريّ: الشَّلْجَم -بفتح، فسكون-: نبت معروف، قال الراجز:

تَسألُنِي بِرَامَتَيْنِ شَلْجَمَا

لَوْ أَنَّهَا تَطْلُبُ شَيْئًا أَمَمَا

وقال في "التهذيب": المأكول يقال له: سَلْجَم- بالمهملة- ولا يقال له: شَلْجَم بالشين المعجمة-، ولا ثَلْجم -بالثاء المثلّة- وأنشد ابن بَريٍّ لأبي الزحف:

هَذَا وَرَبِّ الرَّقِصَاتِ الرُّسَّمِ

شِعْرِي وَلَا أُحْسِنُ أَكلَ السَّلْجَمِ

(1)

الأَرومة بالفتح، وتضمّ: الأصل.

ص: 189

قال: ومنهم من يتكلّم به بالشين المعجمة، وُيروَى الرجزُ بالسين والشين، قال: والصواب بالسين المهملة. وقال أبو حنيفة -يعني الدَّينوريّ-: السَّلْجَم معرّبٌ، وأصله بالشين، والعرب لا تتكلّم به إلا بالسين، قال: وكذا ذكره سيبويه. انتهى

(1)

.

(وَفُجْلٍ) بضمّ، فسكون، وزان قُقل: بَقلَةٌ معروفة. وعن ابن دُريد: ليس بعربيّ صحيح، قال: وأحسب اشتقاقه من فَجِلَ فَجَلًا، من باب تَعِب: إذا غَلُظ، واسترخى. قاله الفيّوميّ (وَبَصَلٍ) بفتحتين: معرف، الواحدة: بَصَلَةٌ، مثلُ قَصَب وقَصَبَة (وَثُومٍ) بالضمّ، واحدته ثُومة. قال في "القاموس": الثوم: بُستانيّ، وبَري، وُيعرف بثوم الحية، وهو أقوى، وكلاهما مُسخِّنٌ مُخرِجٌ للنفْخِ، والدّود، مُدرّ جدًّا، وهذا أفضل ما فيه، جيّدٌ للنسيان، والرَّبْوِ، والسُّعال المزمِن، والطِّحال، والخاصرة، والقَولَنْج، وعِرْقِ النَّسَا، ووجع الوَرِكِ، والنّقْرِسِ، ولَسْعِ الهوَامّ، والحيّات، والعقارب، والْكلْب الْكَلِب، والعطش الْبَلْغَميّ، وتقطير البولَ، وتصفية الحلق، بَاهِيّ جَذّاب، ومشويّهُ لوجع الأسنان المتأكِّلَة، حافظٌ صحّةَ المَبْرُودين، والمشايخ، ردِيء للبواسير والزَّحِير، والخنازير، وأصحاب الدّقّ، والْحَبَالَى، والمرضعات، والَصُّداع، إصلاحُهُ: سَلْقُهُ بماء ومِلْح، وتطجينه بدهن لَوْز، وإتباعه بمصذ رُمانةٍ مُرّةٍ. انتهى.

(وَبُقُولِ) بالضمّ: جمع بَقْل بفتح، فسكون: كلُّ نبات اخضرّت به الأرض. قاله ابن فارس

(2)

، فيكون عطفه على ما قبله من عطف العامّ على الخاصّ (وَرَيَاحِينَ) بفتح الراء: جمع رَيحان: نبتٌ طيّب الرائحة، أو كلُّ نبت كذلك، أو أطرافه، أو ورقه. قاله في "القاموس"، والمعنى الأول، والثاني هو المناسب هنا (وَغَيْرِ ذَلِكَ، مِنْ جمَيعِ الْغَلَّاتِ) بتشديد اللام: جمع غَلّة، وهي كلُّ شيء يحصلُ من رَيْعِ الأَرض، أو أجرتها، ونحو ذلك. قاله الفيّوميّ. والمعنى الأول هو المناسب هنا (شِتَاءً وَصَيْفًا) منصوبان على الظرفيّة، متعلّقان بـ "أزرع" المتقدِّم (ببُزُورِكَ، وَبَذْرِكَ) الجار والمجرور متعلّق بـ " أزرع" أيضًا. و"البزور" بالضم جمع بِزر بكَسر، فسكون، وتفتح الباء، قال الفيّوميّ: بِزْرُ البَقْلِ ونحوه بالكسر، والفتح لغة فيه، قال ابن السّكّيت: ولا تقوله الفصحاء إلا بالكسر، فهو أفصح. قال: قال بعضهم: البذر في الحبوب، كالحنطة والشعير، والبِزْرُ في الرياحين، والبقول، وهذا هو المشهور في الاستعمال. ونُقل عن الخليل: كلّ حبّ يُبذر، فهو بَذرٌ، وبِزْرٌ. انتهى.

وفي "القاموس": البَزرُ -بالفتح، ويُكسر-: كلُّ حبّ يُبزر للنبات، جمعه بُزور. و"البَذْرُ": هو ما عُزل للزراعة من الحبوب. انتهى.

(1)

"لسان العرب" 12/ 301 - 302.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 58.

ص: 190

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ويتحصّل مما ذُكر أن البزر والبذر بمعنى واحد، أو البذر بالذال لما يؤكل، كالحنطة والشعير، والبزر بالزاي لما لا يؤكل، كالرياحين. واللَّه تعالى أعلم.

(وَجَمِيعُهُ) أي ما ذُكر مما يُزرع في تلك الأرض (عَلَيْكَ دُونِي، عَلَى أَنْ أَتَوَلَّى ذَلِكَ بِيَدِي، وَبِمَنْ أَرَدْتُ مِنْ أَعْوَانِي، وَأُجَرَائِي) بضمّ الهمزة: جمع أَجير بفتحها (وَبَقَرِي، وَأَدَوَاتِي) وفي بعض النسخ: "وأداتي" بالإفراد" (وآتي) هكذا في النسخة الهندية، وعليها يكون فعلا مضارعًا لأتى، يقال: أَتَى الأمرَ: فَعَلَهُ. قاله في "القاموس". ووقع في النسخ المطبوعة "وإلى" بلفظ "إلى" الجارة، ولا يظهر لي معناه، ولعله من التصحيفات. (زِرَاعَةَ ذَلِكَ، وَعِمَارَتَهُ) بالكسر: أي تعميره (وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ نَمَاؤُهُ، وَمَصْلَحَتُهُ، وَكِرَابَ أَرْضِهِ) بكسر الكاف، يقال: كربتُ الأرضَ، من باب قتل كِرابًا بالكسر: قلبتها للحرث (وَتَنقِيَةَ حَشِيشِهَا) والحشيش: اليابس من النبات، فعيل بمعنى فاعل. وقال الفارابيّ: الحشيش: اليابس من الكلأ، قالوا: ولا يقال للرَّطْب حَشيش. قاله في "المصباح".

ومعنى تنقية الحشيش إزالتها من الأرض، حتى تكون صالحة للزراعة (وَسَقْيَ مَا يُحْتَاجُ) بالبناء للمفعول (إِلَى سَقيهِ، مِمَّا زُرِعَ) بالبناء للمفعول أيضًا (وَتَسْمِيدَ مَا يُحْتَاجُ إِلَى تَسْمِيدِهِ) أي إصلاحه، يقالَ: سَمَّدتُ الأرض تسميدًا: أصلحتها بالسَّمَاد، وهو بوزن سَلام: ما يُصلح به الزرع، من تُراب، وسِرْجين. قاله الفيّوميّ (وَحَفْرَ سَوَاقِيهِ وَأَنْهارِهِ، وَاجْتِنَاءَ مَا يُجْتَنَى مِنْهُ) أي اقتطاف ما كان صالحاً لاقتطافه من الثمار (وَالْقِيَامَ بحَصَادِ مَا يُحْصَدُ مِنْهُ، وَجَمْعِهِ) أي في بَيْدره، وهو الموضع الذي تُداس فيه الحبوب (وَدِيَاسَةِ مَا يُدَاسُ مِنْهُ) قال الفيّوميّ: دارس الرجلُ الحنطةَ يدوسها دَوْسًا، ودِياسًا، مثل الدِّراس، من كلام العرب، ومنهم من يقول: هو مجاز، وكأنه مأخوذ من داس الأرضَ دَوسًا: إذا شدّد وطأه عليها بقدمه. انتهى (وَتَذْرِيَتِهِ) أي تنقيته من التبن، يقال: ذرّيتُ الطعام تذريةً: إذا خلّصته من تبنه. وذَرَتِ الريحُ الشيءَ بالتخفيف تَذرُوه ذَرْوًا: نَسَفته، وفرّقته (بنَفَقَتِكَ) متعلق ب "آتي" المتقدم (عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ دُونِي) يعني أن النفقة على ما ذكر يكون علَى صاحب الأرض، لا على المزارع، وإنما هو عليه العمل فقط، كما بيّنه بقوله (وَأَعْمَلَ فِيهِ كُلِّهِ بِيَدِي، وَأَعوَاني دُونَكَ، عَلَى أَنَّ لَكَ مِنْ جَمِيعِ مَا يُخْرِجُ اللَّه عز وجل، من ذَلِكَ كُلِّهِ، فِي هَذِهِ المُدّةِ الْمَوْصُوفَةِ، في هَذَا الْكِتَاب مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، فَلَكَ) أعاد الجارّ والمجرور تأكيدًا؛ لطول الفصل، وقوله (ثَلَاَثةَ أَرْبَاعِهِ) بالنصب اسم "أن"(بِحَظِّ أَرْضِكَ) أي هذا بسبب نصيب أرضك، أي بأجرتها (وَشِرْبِكَ) بكسر الشين، وسكون الراء: النصيب من الماء (وَبَذْرِكَ، وَنَفَقَاتِكَ، وَلِى الرُّبُعُ البَاقِي مِنْ جمَيعِ ذَلِكَ،

ص: 191

بِزِرَاعَتِي، وَعَمَلِي، وَقِيَامِي، عَلَى ذَلِكَ بِيَدِي، وَأَعْوَانِي، وَدَفَعْتَ إِلَيَّ جَمِيعَ أَرْضِكَ، هَذِهِ الْمَحْدُودَةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ بِجَمِيعِ حُقُوقِهَا، وَمَرَافِقِهَا، وَقَبَضْتُ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْكَ، يَوْمَ كَذَا مِنْ شَهْرِ كَذَا، مِنْ سَنَةِ كَذَا، فَصَارَ جَمِيعُ ذَلِكَ فِي يَدِي، لَكَ لَا مِلْكَ لِي فِي شَيْءٍ مِنْهُ، وَلَا دَعْوَى، وَلَا طَلِبَةَ) بفتح الطاء المهملة، وكسر اللام: بمعنى الطّلَب، قال الفيّوميّ: الطلاب، مثل كتاب: ما تطلبه من غيرك، وهو مصدر في الأصل، تقول: طالبته مطالبة، وطِلَابًا، من باب قاتل، والطَّلِبَةُ وزانُ كَلِمة، والجمع طَلِبات مثله. انتهى (إِلاَّ هَذِهِ المُزَارَعَةَ الْمَوْصُوفَةَ، فِي هَذَا الكِتَاب) يعني أنه لا حقّ له في المطالبة إلا ما يتعلّق بحقوق المزارعة التي وصفها في كتابةَ العقد (فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْمُسَمَّاةِ فِيهِ، فَإِذَا انْقَضَتْ، فَذَلِكَ كُلُّهُ مَرْدُودٌ إِلَيْكَ، وَإِلَى يَدِكَ، وَلَكَ أَنْ تُخْرِجَنِي بَعْدَ انْقِضَائِهَا مِنْهَا، وَتُخْرِجَهَا مِنْ يَدِي، وَيَدِ كُلِّ مَنْ صَارَتْ لَهُ فِيهَا يَدٌ بِسَبَبِي) يعني أعوانه الذين ذكر قبل هذا أنه يستعين بهم، من الأعوان، والأُجراء (أَقَرَّ فُلَاَنٌ) أي المزارع (وَفُلَانٌ) أي صاحب الأرض (وَكُتِبَ) بالبناء ليمفعول (هَذَا الْكِتَابُ نُسْختَينِ) أي كتابين، يقال: كتاب منسوخ، ومُنتسخٌ: منقول، والنسخة الكتاب المنقول، والجمع نُسَخٌ، مثلُ غُرْفة وغُرَف، وكتب القاضي نسختين بحكمه: أي كتابين. قاله الفيّوميّ. فقوله: "وكتب هذا الكتاب نُسخين" يحتمل أن يكون إخبارًا، فيكون من تتمة كتابة العقد، ويحتمل أن يكون خبرًا بمعنى الإنشاء، فكأنه قال: وليُكتب هذا الكتاب نسختين، فيكون من كلام المصنّف، والأول أقرب، وإنما يكتب كذلك؛ ليكون عند كلّ من صاحب الأرض، والمزارع نسخة منه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌3 - (ذِكْرُ اخْتِلَافِ الأَلْفَاظِ الْمَأْثُورَةِ فِي الْمُزَارَعَةِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى - عنهما حدّث بما يدلّ على أن المزارعة كانت في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم على جزء مشاع، مشترك بين المتعاقدين، وهو ما دلّ عليه حديثه الأول، والثاني، فان في الأول أنه صلى الله عليه وسلم دفع خيبر إلى يهود على أنَّ له نصف ما يخرج منها، وفي الثاني أنه دفعها لهم على أن له نصف

ص: 192

ثمرتها، والثاني مفسّر للأول؛ لأن ما يخرج منها هو الثمر.

ثم أخبر ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - بأن المزارع كانت تكرى على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على شرط مجهول، وذلك أن يكون لصاحب الأرض ما ينبت على الربيع، وهو النهر الصغير، وعلى طائفة من التبن.

وهذا يخالف قصَّة خيبر، فإنها كانت أجرتها معلومة لا تؤذي إلى تفضيل أحدهما على الآخر، بخلاف هذا، فإنه مما يؤدّي إلى النزاع، وهو الذي كان سبباً للنهي عن المزارعة، كما سبق في حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، فإنه صلى الله عليه وسلم لَمّا جاءه الرجلان، وقد اقتتلا، قال:"إن كان هذا شأنكم، فلا تكروا المزارع ".

لكن هذا يمكن توجيهه بأن يقال: حديث ابن عمر الأخير كان قبل النهي، بدليل الأحاديث الأخرى، كحديث زيد رضي الله عنه المذكور، وغيره، فتكون أحاديث الإباحة متأخّرة عن أحاديث النهي، كما تقدّم بيان ذلك، مستوفي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3956 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، قَالَ: كَانَ مُحَمَّدٌ يَقُولُ: الأَرْضُ عِنْدِي مِثْلُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَمَا صَلُحَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، صَلُحَ فِي الأَرْضِ، وَمَا لَمْ يَصْلُحْ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، لَمْ يَصْلُحْ فِي الأَرْضِ، قَالَ: وَكَانَ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يَدْفَعَ أَرْضَهُ إِلَى الأَكَّارِ، عَلَى أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا بِنَفْسِهِ، وَوَلَدِهِ، وَأَعْوَانِهِ، وَبَقَرِهِ، وَلَا يُنْفِقَ شَيْئًا، وَتَكُونَ النَّفَقَةُ كُلُّهَا مِنْ رَبِّ الأَرْضِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عمرو بن زُرارة) أبو محمد الكلابيّ النيسابوريّ، ثقة ثبت [10] 7/ 368.

2 -

(إسماعيل) بن إبراهيم ابن عُليّة البصريّ، ثقة ثبت [8] 18/ 19.

3 -

(ابن عون) هو عبد اللَّه بن عون، أبو عون البصريّ، ثقة ثبت فاضل [5] 29/ 33.

4 -

(محمد) بن سيرين الأنصاريّ مولاهم البصريّ، ثقة ثبت فقيه عابد [3] 46/ 57. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الأثر

عن عبد اللَّه بن عون أنه (قال: كَانَ مُحَمَّدٌ) بن سيرين الأنصاريّ الإمام المشهور -رحمه اللَّه تعالى- (يَقُولُ: الأَرْضُ) المراد الأرض التي تدفع لمن يعمل فيها مزارعة (عِنْدِي مِثْلُ مَالِ المُضَارَيَةِ) هي في اللغة مفاعلة من الضرب، وهو السير في الأرض للتجارة، وشرعًا دفع مال لمن يتّجر فيه، فيكون له سهم معلوم من الربح. أفاده في "النهاية"(فَمَا صَلُحَ) بفتح اللام، من باب قعد، وصلاحًا أيضًا، وصَلُح بضم اللام لغة،

ص: 193

وصلَح يصلَح بفتح اللام فيهما لغة ثالثة: وهو خلاف فسد (فِي مَالِ المضَارَبَةِ، صَلُحَ فِي الأَرْضِ) يعني أن المال الذي يصلح لعقد المضاربة يصلح أيضًا لعقد المزارعة، فيجوز أن يكون كراء للمزارع. ويحتمل أن يكون المعنى أن شروط المزارعة كشروط المضاربة، فما يصلح لأن يكون شرطًا في المضاربة صلح أن يكون شرطًا في المزارعة. واللَّه تعالى أعلم. (وَمَا لَمْ يَصْلُحْ فِي مَالِ المُضَارَبَةِ، لَمْ يَصلُحْ فِي الأَرْضِ) بأن يكون مجهولاً، كأن يقول: لك جزء من الربح، ولم يعينه (قَالَ) ابن عون (وَكَانَ) محمد بن سيرين (لَا يَرَى بَأسًا أَنَّ يَدْفَعَ أَرْضَهُ إِلَى الأَكَّضارِ) أي الحراث، وهو بفتح الهمزة، وتشديد الكاف، صيغة مبالغة، من الأَكْر، وهو الحرث، والجمع أَكَرَةٌ بوزن كفَرَة، يقال: أرت الأرضَ أَكْرًا، من باب ضرب: حَرَثتها. أفاده الفيّوميّ (عَلَى أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا بِنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ، وَأَعْوَانِهِ، وَبَقَرِهِ، وَلَا يُنْفِقَ شَيْئًا، وَتَكُونَ النَّفَقَةُ كُلُّهَا مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ) وهذا هو الذي تقدّم للمصنّف في صفة كتابة عقد المزارعة.

وما قاله ابن سيرين -رحمه اللَّه تعالى- قد قاله كثير من التابعين، وقد نقل البخاريّ في "صحيحه"، جملة من القائلين بذلك، فقال -رحمه اللَّه تعالى-:

"باب المزارعة بالشطر، ونحوه":

وقال قيس بن مسلم، عن أبي جعفر، قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرةٍ، إلا يزرعون على الثلث والربع. وزارع عليّ، وسعد بن مالك، وعبد اللَّه بن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم، وعروة، وآل أبي بكر، وآل عمر، وآل عليّ، وابن سيرين. وقال عبد الرحمن بن الأسود: كنت أشارك عبد الرحمن بن يزيد في الزرع. وعامل عمرُ الناسَ على إن جاء عمر بالبذر من عنده، فله الشطر، وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا. وقال الحسن: لا بأس أن تكون الأرض لأحدهما، فينفقان جميعًا، فما خرج فهو بينهما. ورأى ذلك الزهري. وقال الحسن: لا بأس أن يُجتنَى القطن على النصف. وقال إبراهيم، وابن سيرين، وعطاء، والحكم، والزهري، وقتادة: لا بأس أن يُعطِي الثوبَ بالثلث، أو الربع، ونحوه. وقال معمر: لا بأس أن تكون الماشية على الثلث، والربع إلى أجل مسمى. انتهى

(1)

.

وقال الحافظ عند ذكر أثر عمر رضي الله عنه: في إيراد البخاريّ هذا الأثر وغيره في هذه الترجمة ما يقتضي أنه يرى أن المزارعة، والمخابرة بمعنى واحد، وهو وجه للشافعيّة، والوجه الآخر أنهما مختلفان، فالمزارعة في الأرض ببعض ما يخرج منها، والبذر من

(1)

راجع "صحيح البخاريّ" بنسخة "الفتح" 5/ 275. "كتاب الحرث، والمزارعة".

ص: 194

المالك، والمخابرة مثلها لكن البذر من العامل، وقد أجازهما أحمد في رواية، ومن الشافعيّة ابن خُزيمة، وابن المنذر، والخطّابيّ، وقال ابن سُريج لجواز المزارعة، وسكت عن المخابرة، وعكسه الجوريّ من الشافعيّة، وهو المشهور عن أحمد. وقال الباقون: لا يجوز واحد منهما، وحملوا الآثار الواردة في ذلك على المساقاة. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تقدّم أن الأرجح هو ما عليه الأولون، من جواز المزارعة مطلقًا، سواء كان البذر من صاحب الأرض، أو من العامل؛ لحديث قصَّة خيبر المتّفق عليه، فتبصّر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

وأثر ابن سيرين -رحمه اللَّه تعالى- هذا صحيح، أخرجه المصنّف هنا 3/ 3956 - وفي "الكبرى" 2/ 4662. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو

حسبنا، ونعم الوكيل.

3957 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، دَفَعَ إِلَى يَهُودِ خَيْبَرَ، نَخْلَ خَيْبَرَ، وَأَرْضَهَا، عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَأَنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَطْرَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(الليث) بن سعد بن عبد الرحمن الفهميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقة ثبت فقيه [7] 31/ 35.

3 -

(محمد بن عبد الرحمن) بن غَنَج -بفتح الغين المعجمة، والنون، بعدها جيم- ويقال: ابن يزيد بن غَنَج المدنيّ، نزيل مصر، مقبول [7].

قال الميمونيّ، عن أحمد: شيخٌ مُقارب الحديث. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، لا أعلم أحدًا روى عنه إلا الليث. وقال أبو داود: ابن غَنَج رجل من أهل المدينة كان بمصر، روى عنه الليث نحو ستّين حديثًا. وقال ابن حبّان في "الثقات": حدّث عن نافع بنسخة مستقيمة. روى له مسلم، وأبو داود، والمصنّف، وله عندهم حديث الباب، وله عند المصنّف حديث آخر،-57/ 4607 - حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -: "أنهم كانوا يبتاعون على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في أعلى السوق جزافًا، فنهاهم

" الحديث.

(1)

"فتح" 5/ 277 - 278.

ص: 195

4 -

(نافع) العدويّ، مولى ابن عمر المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 12/ 12.

5 -

(ابن عمر) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه فبلغلانيّ، والليث، فمصريّ. (ومنها): أن فيه ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، دَفَعَ إِلَى يهُودِ خَيْبَرَ، نَخلَ خَيبَرَ، وَأَرْضَهَا) أي بعد أن فتحها سنة سبع من الهجرة (عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) قال القرطبيّ: يعني به النفقة فيما تحتاج الثمرة إليه، من نفقة الأُجراء، والدّواب، والعلوفة، والآلات، والأجرفي العزاف، والجداد، وغير ذلك مما يذهب بذهاب المساقاة، وأما ما يبقى بعدها، كبناء حائط، أو حفر بئر، أو نحوه، فلا يلزم العامل. انتهى

(1)

(وَأَنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَطْرَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا) أي نصفه، فشطر كلّ شيء: نصفه. قاله الفيّوميّ. وفيه بيان الجزء المزارع عليه، من نصف، أو ربع، أو غيرهما من الأجزاء المعلومة، فلا تجوز على مجهول، كقوله: على أن لك بعض ما يخرج منها، واتفق المجوّزون للمزارعة أنها تجوز بما اتّفق عليه المتعاقدان، من قليل، أو كثير.

والحديث مختصر، وقد ساقه الشيخان بطوله، ولفظ البخاريّ: من طريق عبيد اللَّه ابن عمر، عن نافع، أن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما، أخبره: أن النبيّ- صلى الله عليه وسلم، عامل خيبر بشطر ما يخرج منها، من ثمر أو زرع، فكان يعطي أزواجه، مائة وسق ثمانون وسق تمر، وعشرون وسق شعير، فقسم عمر خيبر، فخَيَّر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، أن يُقْطِعَ لهنّ من الماء والأرض، أو يُمضِيَ لهن، فمنهن من اختار الأرض، ومنهن من اختار الوسق، وكانت

عائشة اختارت الأرض. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

(1)

"المفهم" 4/ 418.

ص: 196

حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-3/ 3956 و 3957 و 3958 - وفي "الكبرى" 2/ 4663 و 4664. وأخرجه (خ) في "الإجارة" 2286 و"المزارعة" 2328 و 2329 و 2331 و 2338 و"الشركة" 2499 و"الشروط" 2720 و"فرض الخمس" 3152 و"المغازي" 4248 (م) في "المساقاة" 1551 (د) في "الخراج" 3008 و"البيوع" 3408 و 3409 (ت) في "الأحكام" 1383 (ق) في "الأحكام" 2467 (أحمد) في "مسند المكثرين" 4649 و 4718 و 4927 (الدارمي) في "البيوع" 2614. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): جواز المزارعة، قال في "الفتح": هذا الحديث عمدة من أجاز المزارعة، والمخابرة؛ لتقرير النبيّ صلى الله عليه وسلم لذلك، واستمراره على عهد أبي بكر رضي الله عنه إلى أن أجلاهم عمر رضي الله عنه. انتهى.

(ومنها): جواز المساقاة في النخل، والكرْم، وجميع الشجر الذي من شأنه أن يُثمر بجزء معلوم، يُجعل للعامل من الثمرة، وبه قال الجمهور، وخصّه الشافعيّ في الجديد بالنخل والكرم، وألحق المقل بالنخل لشبهه به، وخصّه داود بالنخل. وقال أبو حنيفة، وزفر: لا يجوز بحال؛ لأنها إجارة بثمرة معدومة، أو مجهولة. وأجاب من جوّزه بأنه عقد على عمل في المال ببعض نمائه، فهو كالمضاربة؛ لأن المضارب يعمل في المال بجزء من نمائه، وهو معدوم، ومجهول، وقد صح عقد الإجارة، مع أن المنافع معدومة، فكذلك هنا، وأيضًا فالقياس في إبطال نصّ، أو إجماع مردود.

وأجاب بعضهم عن قصّة خيبر بأنها فُتحت صُلحًا، وأُقِرّوا على أن الأرض ملكهم بشرط أن يُعطوا نصف الثمرة، فكان ذلك يؤخذ بحق الجزية، فلا يدلّ على جواز المساقاة.

وتُعُقب بأن معظم خيبر فتح عنوة، وبأن كثيرًا منها قُسم بين الغانمين، وبأن عمر رضي الله عنه أجلاهم منها، فلو كانت الأرض ملكهم ما أجلاهم عنها.

(ومنها): أنه استدلّ به من أجاز المساقاة في جميع الثمار، وهو المذهب الراجح؛ لأن في بعض طرقه:"بشطر ما يخرُج منها من نخل، وشجر"، وفي رواية حماد بن سلمة، عن عبيد اللَّه بن عمر في حديث الباب:"على أن لهم الشطر من كلّ زرع، ونخل، وشجر"، وهو عند البيهقيّ من هذا الوجه.

ص: 197

(ومنها): أن قوله: "بشطر ما يخرج" يدلّ على أنه لا تجوز المزارعة، والمساقاة، إلا على جزء معلوم، لا مجهول. (ومنها): أنه يدلّ على جواز كون البذر، من أحد المتعاقدين، إما صاحب الأرض، أو العامل؛ لعدم تقييده بشيء من ذلك في هذا النص. واحتجّ من منع كونه من العامل بأن العامل حينئذ كأنه باع البذر من صاحب الأرض بمجهول من الطعام نسيئةً، وهو لا يجوز.

وأُجيب بأنه مستثنىً من النهي عن بيع الطعام بالطعام نسيئةً، جمعًا بين الحديثين، وهو أولى من إلغاء أحدهما.

(ومنها): أنه يدلّ على جواز دفع النخل مساقاة، والأرض مزارعة من غير ذكر سنين معلومة، فيكون للمالك أن يُخرج العامل متى شاء، وعلى ذلك ترجم الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه"، فقال:

17 -

(باب إذا قال ربّ الأرض: أُقرّك ما أقرّك اللَّه، ولم يذكر أجلاً معلومًا، فهما على تراضيهما"، ثم أخرج بسنده من طريق موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أجلى اليهود والنصارى، من أرض الحجاز، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لَمّا ظهر على خيبر، أراد أخراج اليهود منها، وكانت الأرض حين ظهر عليها، للَّه ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وللمسلمين، وأراد إخراج اليهود منها، فسألت اليهود رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ ليُقِرَّهم بها، أن يَكْفُوا عملها، ولهم نصف الثمر، فقال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "نُقِرُّكم بها على ذلك، ما شئنا"، فَقَرَّوا بها، حتى أجلاهم عمر، إلى تَيْمَاء، وأريحاء

(1)

وقد أجاز ذلك من أجاز المخابرة، والمزارعة. وقال أبو ثور: إذا أطلقا حُمل على سنة واحدة. وعن مالك: إذا قال: ساقيتك كلّ سنة بكذا جاز، ولو لم يذكر أمدًا، وحمل قصّة خيبر على ذلك

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: القول الأول هو الأرجح؛ لظاهر النصّ المذكور، والحمل الذي ذكره مالك -رحمه اللَّه تعالى- فيه بُعْدٌ، فتأمّل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3958 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، دَفَعَ إِلَى يَهُودِ خَيْبَرَ، نَخْلَ خَيْبَرَ، وَأَرْضَهَا عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا بِأَمْوَالِهِمْ، وَأَنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، شَطْرَ ثَمَرَتِهَا).

(1)

راجع "صحيح البخاريّ" بنسخة "الفتح" 5/ 289.

(2)

"فتح" 5/ 279 - 280.

ص: 198

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن عبد الحكم": هو أبو القاسم المصريّ، ثقة [11] 152/ 2944 من أفراد المصنّف. و"شعيب بن الليث": هو أبوعبد الملك الفهميّ مولاهم المصريّ، ثقة نبيلٌ فقيه، من كبار [10] 120/ 166، والباقون تقدّموا في السند الماضي.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3959 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، كَانَ يَقُولُ: كَانَتِ الْمَزَارِعُ، تُكْرَى عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى أَنَّ لِرَبِّ الأَرْضِ مَا عَلَى رَبِيعِ السَّاقِي مِنَ الزَّرْعِ، وَطَائِفَةً مِنَ التِّبْنِ، لَا أَدْرِي كَمْ هُوَ؟).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الإسناد هو الإسناد الماضي. وقوله: "تُكرى" بالبناء للمفعول: أي تؤاجرُ. وقوله: "على ربيع الساقي" الربيع بفتح، فكسر: هو النهر الصغير، وجمعه أربعاء، وأربعة، مثلُ نَصِيب وأنصباء، وأنصبة. والمراد "الساقي" هنا الماء الذي يسقي الزرع، فتكون إضافة "ربيع" إليه بمعنى اللام، أي الربيع الذي يجري فيه الماء الذي يسقي الأراضي الزراعية. واللَّه تعالى أعلم.

ثم إن هذه الكيفيّة التي ذكرها ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - في هذا الحديث من عقد المزارعة، هو النوع الذي جاء النهي بسببه في حديث زيد بن ثابت، رافع بن خديج، وغيرهما، ولعل ابن عمر أراد بهذا الإخبار بما كان عليه عمل الناس قبل النهي، يعني أن الناس كانوا أوّلًا يتعاملون هكذا، ثم جاء النهي عن هذه الكيفيّة التي تؤدّي إلى الخصام والنزاع، وأجيز التعامل بما لا يؤدّي إلى هذا، وهو ما عامل عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم أهل خيبر، كما سبق في روايتي ابن عمر رضي الله عنهما اللتين قبل هذا، وهو أن يكون الكراء جزءًا مشاعًا، كنصف ما يخرج من الأرض، أو ثلثه، أو ربعه، أو نحو ذلك، أو يكون بأجرة معلومة، كأن يؤاجرها بما سمّاه من دراهم، أو دنانير، أو طعام من غير ما يخرج منها، فهذا جائز، كما سبق بحثه مستوفىً.

والحديث صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا -3/ 3959 - وفي "الكبرى"4665. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3960 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ، قَالَ: كَانَ عَمَّايَ يَزْرَعَانِ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، وَأَبِي شَرِيكَهُمَا، وَعَلْقَمَةُ

ص: 199

وَالأَسْوَدُ، يَعْلَمَانِ، فَلَا يُغَيِّرَانِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "شريك": هو ابن عبد اللَّه القاضي الكوفيّ. و"أبو إسحاق": هو عمرو بن عبد اللَّه السبيعيّ الكوفيّ. وقوله: "كان عمّاي يزرعان" الظاهر أن أحد عمّيه هو عبد الرحمن بن يزيد، ولا أدري من هو الآخر؟. وقوله:"وأبي شريكهما" مبتدأ وخبر، والجملة حاليّة. وقوله:"وعلقمة، والأسود يعلمان، فلا يُغيران" يعني أن علقمة عمّ الأسود، والأسود كانا يعلمان مزارعة عمي عبد الرحمن، ولا ينكران عليهما؛ لكونهما يريان جوازه.

ثم يحتمل أن يكون مراده بالأسود هو الأسود بن هلال المحاربيّ الكوفيّ المخضرم، ويحتمل أن يكون غيره، ولا يريد به أباه الأسود بن يزيد؛ لأنه ذكره شريكًا لهما. والأثر هذا مقطوعٌ ضعيف الإسناد؛ لأن في إسناده شريكًا، وهو متكلّم فيه، وأبا إسحاق، وهو مدلسٌ، وقد عنعنه، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا -3/ 3960 - وفي "الكبرى" 2/ 4665. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3961 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، قَالَ: سَمِعْتُ مَعْمَرًا، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، قَالَ: قَالَ: سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ خَيْرَ مَا أَنْتُمْ صَانِعُونَ، أَنْ يُؤَاجِرَ أَحَدُكُمْ أَرْضَهُ، بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"المعتمر": هو ابن سليمان التيميّ. و"معمر": هو ابن راشد. و"عبد الكريم": هو ابن مالك الجَزَريّ. وقوله: "والورق" بكسر الراء، وتسكّن للتخفيف: النّقْرة

(1)

المضروبة، ومنهم من يطلق، فيقول: الورِق: هي النّقرة مضروبة كانت، أم غير مضروبة.

والأثر موقوف صحيح الإسناد، تفرّد به المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا 3/ 2961 - وفي "الكبرى" 2/ 4667. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3962 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّهُمَا كَانَا لَا يَرَيَانِ بَأْسًا، بِاسْتِئْجَارِ الأَرْضِ الْبَيْضَاءِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا

(1)

"النقرة بالضمّ: هو القطعة المذابة من الفضّة، وقبل الذَّوْب: هي تِبْرٌ. قاله في "المصباح".

ص: 200

غير مرّة.

و" جرير": هو ابن عبد الحميد. و"منصور": هو ابن المعتمر. و"إبراهيم": هو النخعيّ. وقوله: "البيضاء": هي الخالية من الزراعة، والأشجار. والأثر صحيح مقطوع، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-3/ 3962 - وفي "الكبرى" 2/ 4669. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3963 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: لَمْ أَعْلَمْ شُرَيْحًا، كَانَ يَقْضِي فِي الْمُضَارِبِ إِلاَّ بِقَضَاءَيْنِ، كَانَ رُبَّمَا قَالَ لِلْمُضَارِبِ: بَيِّنَتَكَ عَلَى مُصِيبَةٍ، تُعْذَرُ بِهَا، وَرُبَّمَا قَالَ لِصَاحِبِ الْمَالِ: بَيِّنَتَكَ أَنَّ أَمِينَكَ خَائِنٌ، وَإِلاَّ فَيَمِينُهُ بِاللَّهِ مَا خَانَكَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"عمرو بن زُرارة": هو أبو محمد النيسابوريّ الثقة الثبت المذكور في أول الباب. و"إسماعيل": هو ابن عليّة. و"أيوب": هو السختيانيّ، و"محمد": هو ابن سيرين. و"شُريحٌ": هو ابن الحارث النخعيّ القاضي المشهور، أبو أُميّة الكوفيّ الثقة المخضرم الفقيه [2] 51/ 3312.

وقوله: "لم أعلم شُريحًا الخ": يعني أن شُريحًا القاضي -رحمه اللَّه تعالى- كان إذا تخاصم المتعاقدان مضاربةً، بأن ادّعى المضارب هلاك شيء من مال المضاربة، يقضي بينهما بأحد قضاءين، إما أن يقول للمضارب: بيّنتك، أي أحضِرْ شُهودًا يشهدون لك على أن المال أصابته آفة، فتلف، فيكون لك عذر بذلك، وإما أن يقول لصاحب المال بينتك على أن المضارب الذي ائتمنته خانك، وإن لم يكن لك شهود بذلك، ذلك أن تحلّفه باللَّه عز وجل أنه ما خانك في أمانته.

وقوله: "إلا بقضاءين" هكذا نسخ "المجتبى"، بصيغة التثنية، والذي في "الكبرى":"بقضاء بين" -بفتح الموحّدة، وتشديد التحتانيّة، آخره نون-، صفة لـ"قضاء"، أي يقضي بينهما بقضاء واضح.

ولما في "المجتبى" أيضًا - إن صحّت الرواية به- وجه صحيح أيضًا، كما أسلفته آنفًا، وذلك أن يكون المعنى أنه يقضي بين الخصمين في المضاربة بأحد القضاءين: إما بالبينة، وإما بيمين المضارب. واللَّه تعالى أعلم.

ومناسبة أثر شُريح هذا للمزارعة، تَشَابُهُ كلّ من المزارعة والمضاربة في كون كلّ منهما إجارة ببعض ما يتحصّل من العمل، كما تقدّم في أثر ابن سيرين أول الباب.

ص: 201

وهذا الأثر صحيح مقطوع، تفرّد به المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا- 3/ 3963 - وفي "الكبرى" 2/ 4670. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3964 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ طَارِقٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: لَا بَأْسَ بِإِجَارَةِ الأَرْضِ الْبَيْضَاءِ، بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ).

قَالَ: الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "شريك": هو ابن عَبد اللَّه النخعيّ القاضى تقدّم قريبًا. و"طارق": هو ابن عبد الرحمن البجليّ الأحمسيّ الكوفيّ، صدوقٌ، له أوهام [5] 2/ 3890.

والأثر في سنده شريكٌ، وقد تقدّم الكلام فيه قريبًا، وهو من أفراد المصنّف - رحمه اللَّه تعالى -، أخرجه هنا 3/ -3964 وفي "الكبرى" 2/ 4668. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المر جع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(وَقَالَ إِذَا دَفَعَ رَجُلٌ إِلَى رَجُلٍ، مَالاً قِرَاضًا، فَأَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا، كَتَبَ: هَذَا كِتَابٌ، كَتَبَهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، طَوْعًا مِنْهُ، فِي صِحَّةٍ مِنْهُ، وَجَوَازِ أَمْرِهِ، لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، أَنَّكَ دَفَعْتَ إِلَيَّ، مُسْتَهَلَّ شَهْرِ كَذَا، مِنْ سَنَةِ كَذَا عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وُضْحًا، جِيَادًا، وَزْنَ سَبْعَةٍ، قِرَاضًا، عَلَى تَقْوَى اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، عَلَى أَنْ أَشْتَرِىَ بِهَا مَا شِئْتُ مِنْهَا، كُلَّ مَا أَرَى أَنْ أَشْتَرِيَهُ، وَأَنْ أُصَرِّفَهَا وَمَا شِئْتُ مِنْهَا، فِيمَا أَرَى أَنْ أُصَرِّفَهَا فِيهِ، مِنْ صُنُوفِ التِّجَارَاتِ، وَأَخْرُجَ بِمَا شِئْتُ مِنْهَا، حَيْثُ شِئْتُ، وَأَبِيعَ مَا أَرَى أَنْ أَبِيعَهُ، مِمَّا أَشْتَرِيهِ بِنَقْدٍ، رَأَيْتُ أَمْ بِنَسِيئَةٍ، وَبِعَيْنٍ رَأَيْتُ، أَمْ بِعَرْضٍ، عَلَى أَنْ أَعْمَلَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ كُلِّهِ بِرَأْيِي، وَأُوَكِّلَ فِي ذَلِكَ مَنْ رَأَيْتُ، وَكُلُّ مَا رَزَقَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ، مِنْ فَضْلٍ وَرِبْحٍ، بَعْدَ رَأْسِ الْمَالِ الَّذِي دَفَعْتَهُ الْمَذْكُورِ إِلَيَّ، الْمُسَمَّى مَبْلَغُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، فَهُوَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ نِصْفَيْنِ، لَكَ مِنْهُ النِّصْفُ، بِحَظِّ رَأْسِ مَالِكَ، وَلِيَ فِيهِ النِّصْفُ تَامًّا، بِعَمَلِي فِيهِ، وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ وَضِيعَةٍ، فَعَلَى رَأْسِ الْمَالِ، فَقَبَضْتُ مِنْكَ هَذِهِ الْعَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، الْوُضْحَ الْجِيَادَ، مُسْتَهَلَّ شَهْرِ كَذَا، فِي سَنَةِ كَذَا، وَصَارَتْ لَكَ فِي يَدِي، قِرَاضًا عَلَى الشُّرُوطِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، أَقَرَّ فُلَانٌ، وَفُلَانٌ.

وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُطْلِقَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ، وَيَبِيعَ بِالنَّسِيئَةِ، كَتَبَ: وَقَدْ نَهَيْتَنِي أَنْ أَشْتَرِيَ، وَأَبِيعَ بِالنَّسِيئَةِ).

قَالَ: الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الكلام الذي ذكره المصنّف في كيفيّة عقد المضاربة له، وليس من كلام سعيد بن المسيّب، ولذلك لم يذكره في "الكبرى"، مع أنه ذكر أثر سعيد المذكور.

ص: 202

فقوله (وَقَالَ) ملحقٌ من الراوي عن المصنّف، والظاهر أنه ابن السنّيّ؛ لأنه المشهور برواية "المجتبى"، والضمير الفاعل للمصنّف -رحمه اللَّه تعالى-.

(إِذَا دَفَعَ زجُلٌ إِلَى رَجُلِ مَالاً قِرَاضًا) بكسر القاف، من المقارضة: وهي المضاربة، يقال: قارضت فلانًا قِراضًا، من باب قاتل: أي دفعتُ إليه مالاً ليتجر فيه، ويكون الربح بينكما على ما تشترطان، والوضيعةُ على المال. وقال الأزهريّ في "التهذيب": القراض في كلام أهل الحجاز: المضاربةُ. قال الزمخشريّ: أصلها من القَرْض في الأرض، وهو قطعها بالسير فيها، وكذلك هي المضاربة أيضًا من الضرب في الأرض. أفاده في "لسان العرب"

(1)

.

(فَأَرَادَ أن يَكتُبَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا كَتَبَ) وقوله (هَذَا كِتَابٌ) مفعول "كتب"، لقصد لفظه، وقوله (كَتَبَهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ) في محلّ رفع صفة "كتابٌ"(طَوْعًا مِنْهُ) أي في حال كونه طائعًا، لا مكرها (فِي صِحَّةٍ مِنْهُ) أي ليس في مرض موته (وَجَوَازِ أَمْرِهِ) أي في حال نفوذ أمره، وهو مؤكد لقوله:"طوعًا"، وفي صحّة منه"؛ إذ لا يصحّ أمره في حال إكراهه، وحال مرض موته. ويحتمكل أن يكون إشارة إلى رُشده في التصرّف بأن يكون بالغًا عاقلاً. واللَّه تعالى أعلم. (لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ) متعلّق بـ "كتبه" (أنَّكَ) يحتمل فتح الهمزة، بتقدير جارّ، أي بأنك الخ، ويحتمل كسرها، مفعول به لـ "كتب" محكيّ لقصد لفظه أيضًا (دَفَعْتَ إِلَيَّ مُسْتَهَلَّ شَهْرِ كَذَا) بنصب "مستهلّ على الظرفية لـ "دفعت"(مِنْ سَنَةِ كَذَا عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وُضْحًا) -بضمّ الواو، وسكون الضاد المعجمة- هكذا مضبوطًا بالقلم، ومعناه الصحاح، لكن الذي في "القاموس"، أنه بفتحتين، فقد ذكر ما حاصله:"الوَضَحُ محرّكةً: الدرهم الصحيح، وجمعه أوضاح، ونحوه في "اللسان"، وأما جمعه بضمّ، فسكون، أو بضمتين، فلم يذكر فيهما. فاللَّه تعالى أعلم (جِيَادًا) بكسر الجيم، وتخفيف التحتانيّة، جمع جيّد بفتح الجيم، وتشديد التحتانيّة، قال الفيّوميّ: وأما جاد المتاع يجود، فقيل: من باب قال، وقيل: من باب قرُب، والْجُودة منه بالضمّ، والفتح، فهو جيّد، وجمعه جِيادٌ. انتهى (وَزْنَ سَبْعَةٍ) منصوب على الظرفيّة، أي موزونًا بسبعة مثاقيل.

[فائدة]: قال الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى-: الدرهم الإسلاميّ: اسم للمضروب من الفضّة، وهو معرّب، وزنه فِعْلَلٌ بكسر الفاء، وفتح اللام في اللغة المشهورة، وقد تكسر هاؤه، فيقال: دِرْهِمٌ، حملًا على الأوزان الغالبة. والدرهم ستّة دَوَانقَ، والدرهم

(1)

"لسان العرب" 7/ 218.

ص: 203

نصف دينار وخمسه، وكانت الدراهم في الجاهليّة مختلفةٌ، فكان بعضها خفافًا، وهي الطبريّةُ، كلّ درهم منها أربعة دوانيق، وهي طَبَريّةُ الشام، وبعضها ثقالَا، كلُّ درهم ثمانية دوانيق، وكانت تُسمّى العَبْديّة، وقيل: البَغلِية، نسبة إلى ملك، يقال له: رأس البَغل، فجُمِع الخفيفُ والثقيلُ، وجُعِلا درهمين، متساوفي، فجاء كلُّ درهم ستة دوانيق. ويقال: إن عمر رضي الله عنه هو الذي فعل ذلك؛ لأنه لَمّا أراد جِبَايةَ الْخَراج، طلب بالوزن الثقيل، فصَعُب على الرعيّة، وأراد الجمع بين المصالح، فطلب الْحُسّاب، فخلطوا الوزنين، واستخرجوا هذا الوزن. وقيل: كان بعض الدراهم وزن عشرين قيراطًا، وتسمّى وزن عشرةٍ، وبعضها وزن خمسة، وبعضها وزن اثني عشر، وتُسمّى وزنَ ستة، فَجَمَعُوا من الأوزان الثلاثة هذا الوزن، فكان ثُلُثَها، ويُسمّى وزنَ سبعة؛ لأنك إذا جمعت عشرة دراهم من كلّ صنف، كان الجميع أحدًا وعشرين مثقالًا، وثلثُ الجميع سبعةُ مثاقيل. انتهى. المقصود من كلام الفيّوميّ

(1)

.

(قِرَاضًا عَلَى تَقْوَى اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالعَلَانِيَةِ، وَأَدَاءِ الأمَانَةِ، عَلَى أَنْ أَشْتَرِيَ بِهَا) أي بالعشرة الآف (مَا شِئْتُ مِنْهَا) الظاهر أن "ما" بدل من الضمير المجرور بالباء، أي بما شت من تلك الدراهم (كُلَّ) بالنصب على المفعولية، وهو مضاف إلى (مَا أَرَى أَنْ أَشْتَرِيَهُ، وَأَنْ أُصَرِّفَهَا، وَمَا شِئْتُ مِنْهَا فِيمَا أَرَى أَنْ أُصَرِّفَهَا فِيهِ، مِنْ صُنُوفِ التِّجَارَاتِ) أي من أنواع التجارات (وَأَخْرُجَ بِمَا شِئْتُ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُ) أي أخرج إلى البلدان النائية بمبلغ من تلك الدارهم (وَأَبِيعَ مَا أَرَى أَنْ أَبيعَهُ مِمَّا أَشْتَرِيهِ بِنَقْدٍ) بفتح، فسكون: خلاف النسيئة (رَأَيْتُ أَمْ بنَسِيئَةٍ) أي بتأجيل ثمن (وَبِعَيْنٍ) أي بالدراهم، والدنانير، وهو خلاف العرض (رَأَيْتُ أَمْ بِعَرْضٍ) بفتح، فسكون، قال الفيّوميّ: العرضُ المتاع، قالوا: والدراهم، والدنانير عينٌ، وما سواهما عَرْضٌ، والجمع عُرُوض، مثلُ فلس وفُلُوس. وقال أبو عُبيد: الْعُرُوض: الأمتعة التي لا يدخلها كيلٌ، ولا وزنٌ، ولا تكون حيوانًا، ولا عَقَارًا. انتهى.

(عَلَى أَنْ أَعْمَلَ فِي جمَيع ذَلِكَ كُلِّهِ برَأيِي وَأُوَكلَ فِي ذَلِكَ مَنْ رَأَيْتُ) أي من رأيته صالحًا للبيع والشراء (وَكُلُّ) مبتدأ، مضاَف إلى قوله (مَا رَزَقَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ) أي في العمل المذكور من البيع والشراء بالطرق المذكور (مِنْ فَضْلٍ وَرِبْحٍ) بيان لـ "ما"(بَعْدَ رَأْسِ الْمَالِ الَّذِي دَفَعْتَهُ المذكُورِ إِلَيَّ) جارّ ومجرورٌ متعلق بـ "دفعته"، وقوله:"المذكور معترض بيان العامل والمعمول، وهو صفة لـ "رأس المال"، وكذلك قوله (المُسَمَّى مَبْلَغُهُ في هَذَا

(1)

"المصباح المنير" 1/ 193.

ص: 204

الْكِتَاب) أي وهو عشرة آلاف درهم. وقوله (فَهُوَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) خبر "كلّ"، ودخول الفاء في الخَبر جائز؛ لما في المبتدإ من معنى العموم (نِصْفَيْنِ) منصوب على الحال، أي مقسمًا على نصفين (لَكَ مِنْهُ النصْفُ بحَظِّ رَأْسِ مَالِكَ) أي بسبب ما دفعته من رأس المال الذي حصل منه ذلك الربح (وَلِي فِيهِ النِّصْفُ تَامًّا بِعَمَلي فِيهِ) يعني أنه يستحق نصف الربح الآخر بسبب عمله بالتجارة حتى حصل منه هذا الربح (وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ وَضيعَةٍ) -بفتح الواو، وكسر الضاد المعجمة-: الخسارة (فَعَلَى رَأْسِ الْمَالِ) يعني أنه إذا حصلت خسارة تكون على رأس المال خاصّةً، ليس على العامل منها شيء؛ وذلك لأن الوضعية عبارة عن نقصان رأس المال، وهو مُختصّ بملك ربّ المال، لا شيءَ للعامل فيه، فيكونَ نقصه من ماله، دون غيره، وإنما يشتركان فيما يحصل من النماء، فأشبه المساقاة والمزارعة، فإن ربّ الأرض، والشجر يُشارك العامل فيما يحدُث من الزرع والثمر، وإن تَلِف الشجر، أو هلك شيء من الأرض بغَرَقٍ، أو غيره لم يكن على العامل شيء

(1)

.

(فَقَبَضْتُ مِنْكَ هَذِهِ الْعَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَم الْوُضْحَ الْجِيَادَ، مُسْتهَلّ شَهرِ كَذَا، فِي سَنَةِ كَذَا، وَصَارَتْ لَكَ فِي يَدِي قِرَاضًا) أي مضاربة (عَلَى الشُّرُوطِ الْمُشْتَرَطَةٍ فِي هَذَا الْكِتَابِ، أَقرَّ فُلَانٌ وَفُلَانٌ) كناية عن صاحب المال، والمضارب، يعني أنه أقرّ بما في هذا الَكتاب كلّ واحد منهما (وَإذَا أَرَادَ أنْ لَا يُطْلِقَ لَهُ) ثبتت كلمة "لا" في النسخة الهندية، وهو الصواب، وسقطت من كثير من نسخ "المجتبى"، وهو غلطٌ فاحش، يَفسُدُ به المعنى، فتنبْه (أَنْ يَشتَرِيَ وَيَبِيعَ بِالنَّسِيئَةِ كَتَبَ: وَقَد نَهْيْتَني أَنْ أَشْتَرِيَ وَأَبِيعَ بِالنَّسِيئَةِ) يعني أن صاحب المال إذا أراد أن لا يُطلق للمضارب العمل، بل أراد أن يقيّده بنوع خاصّ من البيع والشراء، كان يريد منعه من البيع بالنسيئة، كَتَب المضارب في كتابة العقد قوله:"وقد نهيتني الخ؛ ليتمكّن أن يُلزمه به لو خالف بعد ذلك، فقوله: "وقد نهيتني الخ مفعول "كتَبَ" لقصد لفظه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

(1)

راجع "المغني" 7/ 145.

ص: 205

‌4 - (شَرِكَةُ عِنَانٍ بَيْنَ ثَلَاَثةٍ)

أي هذا كتابة عقد شركة عنان بين ثلاثة أشخاص.

و"الشرِكة" -بفتح الكاف، وكسر الراء، ويجوز تسكينها، معِ فتح المعجمة، وكسرها، ففيها ثلاث لغات، وهي في اللغة: مصدر شَرِكته في الأمر أشْرَكه، من باب تَعِبَ شَرِكًا، وشَرِكَةٌ، وزانُ كَلِم، وكَلِمَةٍ: إذا صرت له شَريكًا، وجمع الشريك شُرَكاء، وأَشْرَاك. وشرعًا: هي اجتماع في استحقاق، أو تصرّف.

وقال في "الفتح": الشركة -بفتح المعجمة، وكسر الراء، وبكسر أوله، وسكون الراء، وقد تحذف الهاء، وقد يُفتح أوله مع ذلك، فتلك أربع لغات، وهي شرعًا: ما يحدُث بالاختيار بين اثنين، فصاعدًا من الاختلاط لتحصيل الربح، وقد تحصُل بغير قصد، كالإرث. انتهى

(1)

.

و"العِنَانُ" -بكسر العين المهملة، ونونين خفيفتين، بينهما ألف، وشرِكة العنان هي أن يُخرج كلّ واحد من الشريكين، دنانير، أو دراهم مثل ما يُخرج صاحبه، ويخلطاها، ويأذن كلّ واحد منهما لصاحبه بأن يتجر فيه، ولا خلاف بين الفقهاء في جوازه، وأنهما إن ربِحا في المالين فبينهما، وإن وُضِعا فعلى رأس مال كلّ واحد منهما. وقيل: شركة العنان هي شرِكة في شيء خاصٍ، دون سائر أموالهما، كأنه عنّ لهما شيء، أي عَرَضَ، فاشترياه، واشتركا فيه، قال النابغة الجَعديّ:

وَشَارَكْنَا قُرَيشًا فِي تُقَاهَا

وَفِي أَحْسَابِهَا شِرْكَ الْعِنَانِ

بِمَا وَلَدَتْ نِسَاءُ بَنِي هِلَالٍ

وَمَا وَلَدَتْ نِسَاءُ بَنِي أَبَانِ

وقيل: شركة العنان أن يكونا سواءً في الْغَلَق، وأن يتساوى الشريكان فيما أخرجاه، من عين، أو ورِق، مأخوذ من عِنَان الدّابّة؛ لأن عنان الدّابّة طاقتان متساويتان. قال الجعد يمدح قومه، ويفتخر:

وَشَارَكْنَا قُرَيشًا فِي تُقَاهَا ..... البيتين.

أي ساويناها، ولو كان من الاعتراض لكان هِجَاءً. وسُمّيت هذه الشركة شركة عنان لمعارضة كلّ واحد منهما صاحبه بمال مثل ماله، وعمله فيه مثل عمله بيعًا وشراءً، يقال: عانّه عِنَانًا، ومُعانّةٌ، كما يقال: عارضه معاضةً وعِرَاضًا. أفاده ابن منظور -رحمه

(1)

"فتح" 5/ 425 "كتاب الشركة".

ص: 206

اللَّه تعالى-

(1)

.

وقال ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-: معنى شركة العنان أن يشترك رجلان بماليهما على أن يعملا فيهما بأبدانهما، والربحُ بينهما، وهي جائزة بالإجماع، ذكره ابن المنذر، وإنما اختُلِف في بعض شروطها، واختُلف في علّة تسميتها شركة العنان، فقيل: سُمّيت بذلك لأنهما يتساويان في المال والتصرف، كالفارسين إذا سوّيا بين فرسيهما، وتساويا في السير، فإن عِنَانيهما يكونان سواءً. وقال الفراء: هي مشتقّة من عَنَّ الشيءُ إذا عَرَضَ، يقال: عنْت لي حاجةٌ: إذا عرضت، فسُمّيت الشركة بذلك؛ لأن كلّ واحد منهما عنّ له أن يُشارك صاحبه. وقيل: هي مشتقّة من المُعَانَنَة، وهي المعارضة، يقال: عانَنْتُ فلانًا: إذا عارضته بمثل ماله وأفعاله، فكلّ واحد من الشريكين مُعارضٌ لصاحبه بماله وفِعاله. وهذا يرجع إلى قول الفرّاء. انتهى كلام ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

.

وتقييده بالثلاثة ليس لنفي ما عداه، بل لبيان أنه كما يجوز أن يشترك اثنان، كذلك يجوز أن يكونوا أكثر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(

(3)

- هَذَا مَا اشْتَرَكَ عَلَيْهِ فُلَانٌ، وَفُلَانٌ، وَفُلَانٌ، فِي صِحَّةِ عُقُولِهِمْ، وَجَوَازِ أَمْرِهِمُ، اشْتَرَكُوا شَرِكَةَ عِنَانٍ، لَا شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ بَيْنَهُمْ، فِي ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وُضْحًا جِيَادًا، وَزْنَ سَبْعَةٍ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشْرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، خَلَطُوهَا جَمِيعًا، فَصَارَتْ هَذِهِ الثَّلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فِي أَيْدِيهِمْ مَخْلُوطَةً، بِشَرِكَةٍ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، عَلَى أَنْ يَعْمَلُوا فِيهِ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَيَشْتَرُونَ جَمِيعًا بِذَلِكَ، وَبِمَا رَأَوْا مِنْهُ اشْتِرَاءَهُ بِالنَّقْدِ، وَيَشْتَرُونَ بِالنَّسِيئَةِ عَلَيْهِ، مَا رَأَوْا أَنْ يَشْتَرُوا مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ، وَأَنْ يَشْتَرِىَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى حِدَتِهِ، دُونَ صَاحِبِهِ بِذَلِكَ، وَبِمَا رَأَى مِنْهُ، مَا رَأَى اشْتِرَاءَهُ مِنْهُ بِالنَّقْدِ، وَبِمَا رَأَى اشْتِرَاءَهُ عَلَيْهِ بِالنَّسِيئَةِ، يَعْمَلُونَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُجْتَمِعِينَ، بِمَا رَأَوْا، وَيَعْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُنْفَرِدًا بِهِ، دُونَ صَاحِبِهِ بِمَا رَأَى، جَائِزًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْهِ، فِيمَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَفِيمَا انْفَرَدُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دُونَ الآخَرَيْنِ، فَمَا لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ، مِنْ قَلِيلٍ، وَمِنْ كَثِيرٍ، فَهُوَ لَازِمٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْهِ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، وَمَا رَزَقَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ، مِنْ فَضْلٍ، وَرِبْحٍ، عَلَى رَأْسِ مَالِهِمُ الْمُسَمَّى مَبْلَغُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، فَهُوَ بَيْنَهُمْ

(1)

"لسان العرب" 13/ 292 - 293.

(2)

"المغني" 7/ 123.

(3)

يوجد في النسخ المطبوعة هنا: ما نصّه: (شَرِكَةُ عِنَانٍ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ"، ولا يوجد في النسخة الهنديّة، وهو الصواب؛ لأنه تكرار محض، فتنبّه.

ص: 207

أَثْلَاثًا، وَمَا كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ وَضِيعَةٍ، وَتَبِعَةٍ فَهُوَ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا، عَلَى قَدْرِ رَأْسِ مَالِهِمْ.

وَقَدْ كُتِبَ هَذَا الْكِتَابُ، ثَلَاثَ نُسَخٍ مُتَسَاوِيَاتٍ، بِأَلْفَاظٍ وَاحِدَةٍ، فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ فُلَانٍ، وَفُلَانٍ، وَفُلَانٍ وَاحِدَةٌ وَثِيقَةً لَهُ، أَقَرَّ فُلَانٌ، وَفُلَانٌ، وَفُلَانٌ).

شرح كتاب العقد المذكور:

قوله: (هَذَا) إشارة إلى كتاب العقد (مَا اشْتَرَكَ عَلَيْهِ فُلَانٌ، وَفُلَانٌ، وَفُلَانٌ، فِي صِحَّةِ عُقُولِهِم، وَجَوَازِ أَمْرِهِمُ) أي ليسوا مجانين، ولا صبيانًا حتى تمنع تصرّفاتهم (اشْتَرَكُوا شَرِكَةَ عَنَانٍ) تقدّم تفسيرها قريبًا (لَا شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ) سيأتي تفسيرها قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى (بَينَهُم) متعلّق بـ "شركة"(فِي ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَم، وُضْحًا) بضمّ، فسكون: أي صحاحًا، وتقدّم الكلام عليه في شرح عقد المضاربة، وأن هذه اللفظة لم أجدها في كتب اللغة التي عندي، وإنما ذكروا وَضَحًا بفتحتين، وجمعه أوضاح (جِيَادًا، وَزْنَ سَبْعَةٍ) أي كلّ عشرة منها وزن سبعة مثاقيل، كما تقدّم بيانه (لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشْرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، خَلَطُوهَا جَمِيعًا، فَصَارَتْ هَذِه الثَّلَاِثِينَ أَلْفَ دِرْهَمْ، فِي أَيْدِيِهمْ مَخْلُوطَةً، بِشَرِكةٍ) أي بسبب اشتراك (بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، عَلَى أَنْ يَعْمَلُوا فِيهِ بِتَقوَى اللَّهِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُم، إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ) يعني أن كلّ واحد من الشركاء الثلاثة يؤدّي ما ائتُمن عليه إلى صاحبيه (وَيَشْتَرُونَ جَمِيعًا بِذَلِكَ) المال الذي جعلوه رأس مالهم في هذه الشركة (وَبِمَا رَأَوْا مِنْهُ اشْتِرَاءَهُ بِالنَّقْدِ) هو خلاف النسية (وَيَشْتَرُونَ بِالنَّسِيئَةِ عَلَيْهِ) أي بتأخير وقت دفعه (مَا رَأَوْا أن يَشتَرُوا من أَنوَاع التجَارَاتِ، وَأَنْ يَشتَرِيَ كُل وَاحِدِ مِنْهُم عَلَى حِدَتِهِ) بكسر الحاء المهملة، وفتح الدالَ: أي منفردًا، يقال: وحَدَ يَحِدُ حِدَةً، من باب وَعَدَ: انفرد بنفسه، فهو وَحَدٌ بفتحتين، وكسرُ الحاء لغة. ووَحُدَ بالضمّ وَحَادةً، ووَحْدَةً، فهو وَحِيدٌ كذلك، وكلُ شيء على حِدَةِ: أي متميِّزٌ عن غيره. قاله الفيّوميّ (دُونَ صَاحِبِهِ) هكذا النسخ بالإفراد، وكان الأولى "صاحبيه"، لأنهما اثنان، وأجيب بأنه مفرد مضاف، فيعمّ، فيجوز إطلاقه على الاثنين (بذَلِكَ) المال كلّه (وَبمَا رَأَى مِنْهُ) أي ببعضه (مَا رَأَى اشْتِرَاءَهُ مِنْهُ بالنَّقْدِ، وَبِمَا رَأَى اشتِرَاءَهُ عَلَيْهِ بالنَّسِيئَةِ، يَعْمَلُونَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُجْتَمِعِينَ، بمَا رَأَوا، وَيَعْمَلُ كُلُّ وَاحِدِ مِنْهُمْ مُنْفَرِدًا بِهِ، دُونَ صَاحِبهِ) بالإفراد، وتقدّم آنفًا توجيهه (بِمَا رَأَى، جَائِزًا) منصوب على الحال، وفي نسخة بالَرفع، على أنه خبر لمقدّر، أي هذا جائزٌ (لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيهِ، فِيمَا اجتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَفِيمَا انْفَرَدُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ، كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ) الظاهر أن "كلّ" بالرفع على الفاعلية لـ"انفردوا"، فيكون من باب "أكلوني البراغيث"، ويحتمل أن يكون مبتدأ خبره محذوف: أي جائز له، فتكون الجملة مؤكّدة لما قبلها (دُونَ الآخَرَيْنِ،

ص: 208

فَمَا لَزِمَ) بكسر الزاي، من باب تَعِبَ (كُلَّ واحدٍ مِنْهُم فِي ذَلِكَ، مِنْ قَلِيلِ، وَمِنْ كَثِيرٍ) أي من الغرامات، والضمانات بسبب البيع والشراء (فَهُوَ لَازِمٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْهِ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهمْ جمِيعًا، وَمَا رَزَقَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ، مِنْ فَضْلِ، وَرِبْحٍ) عطف تفسير لـ"فضل"(عَلَى رَأسِ مَالِهِمُ المُسَمَّى مَبْلَغُهُ فِي هَذَا الكِتَابِ) أي وهو ثلاثون ألف درهم (فَهُوَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا) أَي يقسم بينهم بالسويّة؛ لتساويهم فيَ رأس المال والعمل (وَمَا كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ وَضِيعَةٍ) أي خسارة (وَتَبِعَةٍ) بفتح المثنّاة الفوقيّة، وكسر الموحّدة، بوزن كلمة: ما تطلُبُه من ظُلَامة، ونحوها، فيكون عطفه على ما قبله من عطف العامّ على الخاص (فَهُوَ عَلَيْهِم أَثْلَاثًا) أي لأن الغُرْم بالغُنْم، فإنهم لما استووا في الربح، لزم استواؤهم في الغرامات (عَلَى قَدْرِ رَأْسِ مَالِهِمْ) فإن كلّ واحد منهم كان له ثلث المبلغ.

(وَقَد كُتِبَ هَذَا الكِتَابُ، ثَلَاثَ نُسَخِ مُتَسَاوِيَات، بِألفَاظٍ وَاحِدَةٍ، فِي يَدِ كُل واحدٍ مِنْ فُلَانٍ، وَفُلَانٍ، وَفُلَانٍ، وَاحِدَةٌ وَثِيقَةٌ لَهُ) أي عهد موثّق، أي محكم له من صاحبيه، قال في "اللسان": الوثيقة في الأمر: إحكامه، والأخذ بالثقة، والجمع الوثائق. انتهى.

(أَقَرَّ فُلَانٌ، وَفُلَانٌ، وَفُلَانٌ) أي الشركاء الثلاثة الذين جرى بينهم كتابة هذه الوثيقة. واللَّه تعالى أعلمِ بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(شَرِكَةُ مُفَاوَضةٍ بَيْنَ أَرْبَعَةٍ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُهَا):

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: معنى: "شركة المفاوضة": أن يشترك اثنان في كلّ شيء في أيديهما، أو فيما يستفدانه فيما بعدُ. أفاده ابن منظور. وقال الفيّوميّ: شرِكة المفاوضة أن يكون جميع ما يملكانه بينهما. انتهى.

وإنما قال: "على مذهب من يُجيزها"؛ لأن هذه الشركة قد اختلف فيها العلماء.

قال العلامة ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: وأما شركة المفاوضة، فنوعان:

[أحدهما]: أن يشتركا في جميع أنواع الشركة، مثل أن يجمعا بين شركة العنان، والوجوه، والأبدان، فيصحّ ذلك؛ لأن كلّ نوع منها يصحّ على انفراده، فصحّ مع غيره.

و [الثاني]: أن يُدخلا بينهما في الشركة الاشتراك فيما يحصل لكلّ واحد منهما من ميراث، أو يجده من ركاز، أو لقطة، ويلزم كلّ واحد منهما ما يلزم الآخر، من أرش جناية، وضمان غصب، وقيمة مُتلَف، وغَرَامة الضمان، أو كفاله، فهذا فاسدٌ، وبهذا قال الشافعيّ. وأجازه الثوريّ، والأوزاعيّ، وأبو حنيفة، وحُكي ذلك عن مالك.

وشَرَط أبو حنيفة لها شُروطًا، وهي أن يكونا حرّين مسلمين، وأن يكون مالهما في

ص: 209

الشركة سواءً، وأن يُخرجا جميع ما يملكانه من جنس الشركة، وهو الدارهم والدنانير. انتهى المقصود من كلام ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، هَذَا مَا اشْتَرَكَ عَلَيْهِ فُلَانٌ، وَفُلَانٌ، وَفُلَانٌ، وَفُلَانٌ، بَيْنَهُمْ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ، فِي رَأْسِ مَالٍ، جَمَعُوهُ بَيْنَهُمْ، مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ، وَنَقْدٍ وَاحِدٍ، وَخَلَطُوهُ، وَصَارَ فِي أَيْدِيهِمْ مُمْتَزِجًا، لَا يُعْرَفُ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ، وَمَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ، وَحَقُّهُ سَوَاءٌ، عَلَى أَنْ يَعْمَلُوا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَفِي كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ سَوَاءً، مِنَ الْمُبَايَعَاتِ، وَالْمُتَاجَرَاتِ، نَقْدًا وَنَسِيئَةً، بَيْعًا وَشِرَاءً، فِي جَمِيعِ الْمُعَامَلَاتِ، وَفِي كُلِّ مَا يَتَعَاطَاهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ، مُجْتَمِعِينَ بِمَا رَأَوْا، وَيَعْمَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى انْفِرَادِهِ، بِكُلِّ مَا رَأَى، وَكُلِّ مَا بَدَا لَهُ، جَائِزٌ أَمْرُهُ فِي ذَلِكَ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَعَلَى أَنَّهُ كُلُّ مَا لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، عَلَى هَذِهِ الشَّرِكَةِ، الْمَوْصُوفَةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، مِنْ حَقٍّ، وَمِنْ دَيْنٍ، فَهُوَ لَازِمٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، مِنْ أَصْحَابِهِ الْمُسَمِّينَ مَعَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَعَلَى أَنَّ جَمِيعَ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، فِي هَذِهِ الشَّرِكَةِ، الْمُسَمَّاةِ فِيهِ، وَمَا رَزَقَ اللَّهُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيهَا، عَلَى حِدَتِهِ، مِنْ فَضْلٍ، وَرِبْحٍ، فَهُوَ بَيْنَهُمْ جَمِيعًا بِالسَّوِيَّةِ، وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ نَقِيصَةٍ، فَهُوَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا بِالسَّوِيَّةِ بَيْنَهُمْ، وَقَدْ جَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ فُلَانٍ، وَفُلَانٍ، وَفُلَانٍ، وَفُلَانٍ، كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ الْمُسَمِّينَ، فِي هَذَا الْكِتَابِ مَعَهُ، وَكِيلَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ، بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهُ، وَالْمُخَاصَمَةِ فِيهِ، وَقَبْضِهِ، وَفِي خُصُومَةِ كُلِّ مَنِ اعْتَرَضَهُ بِخُصُومَةٍ، وَكُلِّ مَنْ يُطَالِبُهُ بِحَقٍّ، وَجَعَلَهُ وَصِيَّهُ فِي شَرِكَتِهِ، مِنْ بَعْدِ وَفَاتِهِ، وَفِي قَضَاءِ دُيُونِهِ، وَإِنْفَاذِ وَصَايَاهُ، وَقَبِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، مَا جَعَلَ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، أَقَرَّ فُلَانٌ، وَفُلَانٌ، وَفُلَانٌ، وَفُلَانٌ).

شرح هذا العقد

قوله: (قَالَ: اللَّهُ تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}) ذكر الآية الكريمة؛ استدلالًا على وجوب الوفاء بالعهد الذي يجري بين الشركاء (هَذَا مَا اشْتَرَكَ عَلَيْهِ فُلَانٌ، وَفُلَانٌ، وَفُلَانٌ، وَفُلَانٌ، بَيْنَهُمْ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ، فِي رَأسِ مَالٍ، جَمَعُوهُ بَيْنَهُمْ، مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ، وَنَقْدٍ وَاحِدٍ، وَخَلَطُوهُ، وَصَارَ فِي أَيْدِيهِمْ مُمْتَزِجًا) أي مختلطا (لَا يُعْرَفُ) بالبناء للمفعول (بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ) وقوله (وَمَالُ كُلِّ وَاحِدٍ) مبتدأ خبره "سواء (مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ، وَحَقُّهُ سَواءٌ، عَلَى أن يَعْمَلُوا في ذَلِكَ كُلِّهِ، وَفِي كلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ سَوَاءً،

(1)

"المغني" 7/ 137.

ص: 210

مِنَ الْمُبَايَعَاتِ، وَالْمُتَاجَرَاتِ) عطف تفسير لما قبله (نَقْدًا وَنَسِيئَة، بَيْعًا وَشِرَاءً، فِي جَمِيعِ الْمُعَامَلَاتِ، وَفِي كلّ مَا يَتَعَاطاهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ، مُجْتَمِعِينَ بِمَا رَأَوْا، وَيَعْمَلَ كُلّ واحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى انْفِرَادِهِ، بِكُلِّ مَا رَأَى، وَكُلِّ مَا بَدَا لَهُ) أي ظهر من المصلحة (جَائِزٌ) أي ثابت، ولازم (أَمْرُهُ في ذَلِكَ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ) يعني أن كلّ واحد من الشركاء لو فعل شيئًا مما ذكر من البيع نقدًا، أو نسيئة، والشراء كذلك، ونحو ذلك لزم الآخرين، وليس لهم أن يعترضوا على شيء من ذلك (وَعَلَى أنَّهُ) الضمير للشأن، تُفَسِّرُهُ الجملة بعده، (كُلُّ مَا لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، عَلَى هَذهِ الشَّركَةِ، الْمَوْصُوفَةِ في هَذَا الكِتَاب، مِنْ حَقٍّ، وَمِنْ دَينِ، فَهُوَ لَازِمٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، مِنْ أَصْحَابهِ الْمُسَمَّينَ مَعَهُ فِي هَذَا الكَتَابِ، وَعَلَى أَنَّ جمَيعَ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، فِي هَذِهِ الشَّرِكَةِ، المُسَمَّاةِ فِيهِ، وَمَا رَزَقَ اللَّهُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيهَا) أَي الشركة (عَلَى حِدَتِهِ، مِنْ فَضْلٍ، وَرِبح، فَهُوَ بَيْنَهُمْ جَمِيعًا بِالسَّوِيَّةِ، وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ نَقِيصَةٍ) أي نقص، مثل الغرامات (فَهُوَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا بالسَّوِيَّةِ بَيْنَهُمْ، وَقَد جَعَلَ كُلُّ واحِدٍ من فُلَانِ، وَفُلَانٍ، وَفُلَانٍ، وَفُلَانٍ، كُلّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ المُسَمَّينَ، فِي هَذَا الكِتَابِ مَعَهُ، وَكِيلَهُ فِي المطَالَبَةِ، بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهُ، وَالْمُخَاصَمَةِ فِيهِ، وَقَبْضِهِ، وَفِي خُصُومَةِ كُلِّ مَنِ اعْتَرَضَهُ بخُصُومَةٍ، وَكُلِّ مَن يُطَالِبُهُ بِحَقٍّ، وَجَعَلَهُ وَصِيَّهُ فِي شَرِكَتِهِ، مِنْ بَعْدِ وَفَاتِهِ) هذا يدلّ عَلى أن الشركة لا تبطل بموت أحد الشركاء، والمشهور عند الفقهاء أنها تبطل بالموت، وبالجنون، ونحو ذلك، فليُتأمّل (وَفِي قَضَاءِ دُيُونه، وَإِنْفَاذِ وَصَايَاهُ، وَقَبِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، مَا جَعَلَ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، أَقَرَّ فُلَانٌ، وَفُلَانٌ، وَفُلَانٌ، وَفُلَانٌ) واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

‌5 - (بَابُ شَرِكَةِ الأَبْدَانِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: شَرِكةُ الأبدان أصلها شَرِكةٌ بالأبدان، لكن حُذفت الباء، ثم أُضيفت؛ سُمِّيت بذلك لأنهم بذلوا أبدانهم في الأعمال؛ لتحصيل المكاسب. قاله في "المصباح المنير".

وقال ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: معنى شرِكة الأبدان أن يشترك اثنان، أو أكثر فيما يكتسبونه بأيديهم، كالصُّنّاع، يشتركون على أن يعملوا في صناعاتهم، فما رزق اللَّه تعالى، فهو بينهم، وإن اشتركوا فيما يكسبون من المباح، كالحطب، والحشيش،

ص: 211

والثمار المأخوذ من الجبال، والمعادن، والتلَصُّص على دار الحرب، فهذا جائز، نصٌّ عليه أحمد في رواية أبي طالب، فقال: لا بأس أن يشترك القوم بأبدانهم، وليس لهم مال، مثلُ الصيّادين، والنقّالين، والحمّالين. انتهى المقصود من كلام ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3965 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: اشْتَرَكْتُ أَنَا، وَعَمَّارٌ، وَسَعْدٌ، يَوْمَ بَدْرٍ، فَجَاءَ سَعْدٌ بِأَسِيرَيْنِ، وَلَمْ أَجِئْ أَنَا، وَلَا عَمَّارٌ بِشَيْءٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلاّس الصيرفيّ البصريّ، ثقة ثبت [10] 4/ 4.

2 -

(يحيى بن سعيد) القطّان الأحول، أبو سعيد البصريّ، ثقة ثبت حجة [9] 4/ 4.

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوريّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقة ثبت حجة [7] 33/ 37.

4 -

(أبو إسحاق) عمرو بن عبد اللَّه السبيعيّ الكوفيّ، ثقة عابد اختلط بآخره [3] 38/ 42.

5 -

(أبو عُبيدة) بن عبد اللَّه بن مسعود، مشهور بكنيته، والأشهر أنه لا اسم له غيرها، ويقال: اسمه عامر، كوفيّ، ثقة، من كبار [3] 55/ 622.

6 -

(عبد اللَّه) بن مسعود الهذليّ الصحابيّ الشهير - رضي اللَّه تعالى عنه - 35/ 39. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح، غير أبي عبيدة، فإنه من رجال الأربعة، ولم يسمع من أبيه، ففي الإسناد انقطاع. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، ويحيى، فبصريان. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ اللَّه) بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: اشْتَرَكتُ أَنَا، وَعَمَّارٌ) هو ابن ياسر الصحابيّ ابن الصحابيّ - رضي اللَّه تعالى عنهما - (وَسَعْدٌ) الظاهر أنه ابن أبي وقاص رضي الله عنه (يَوْمَ بَدْرٍ) الظاهر أن المراد يوم وقعة بدر، ويحتمل أن يكون المراد زمن

(1)

"المغني" 7/ 111.

ص: 212

بدر، ووقعة بدر كانت في السنة الثانية من الهجرة يوم سابع عشر رمضان (فَجَاءَ سَعْدٌ) رضي الله عنه (بِأَسِيرَينِ، وَلَمْ أَجِئْ أَنَا، وَلَا عَمَّارٌ بِشَيْءٍ) استدلّ بهذا على جواز شركة الأبدان، وهي أن يشترك العاملان فيما يعملانه، فيوكّل كلّ واحد منهما صاحبه أن يتقبّل العمل، ويعمل عنه في قدر معلوم، مما استؤجر عليه، ويُعيّنان الصنعة، وقد ذهب إلى صحّتها مالك بشرط اتحاد الصنعة، وإلى صحّتها ذهب أبو حنيفة، وأصحابه. وقال الشافعيّ: شركة الأبدان كلها باطلة؛ لأن كلّ واحد منهما متميّز ببدنه، ومنافعه، فيختصّ بفوائده، وهذا كما لو اشتركا في ماشيتيهما، وهي متميّزة ليكون الدرّ والنسلُ بينهما، فلا يصحّ.

وأجابت الشافعيّة عن هذا الحديث بأن غنائم بدر كانت لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يدفعها لمن يشاء، وهذا الحديث حجة على أبي حنيفة وغيره، ممن قال: إن الوكالة في المباحات لا تصحّ. أفاده الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لكن الحديث ضعيف، كما سيأتي قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد اللَّه بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا ضعيف؛ للانقطاع بين أبي عُبيدة، وأبيه؛ لأن الراجح أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، ولأن فيه عنعنة أبي إسحاق، وهو مدلّس. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-6/ 3965 - وفي "الكبرى" 3/ 4671. وأخرجه (د) في "البيوع" 2388 (ق) في "التجارات" 2288. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3966 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فِي عَبْدَيْنِ مُتَفَاوِضَيْنِ، كَاتَبَ أَحَدُهُمَا، قَالَ: جَائِزٌ إِذَا كَانَا مُتَفَاوِضَيْنِ، يَقْضِي أَحَدُهُمَا عَنِ الآخَرِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

وقوله: "متفاوضين" المفاوضة: المساواة، والمشاركة، وهي مفاعلة من التفويض،

(1)

"نيل الأوطار" 5/ 283.

ص: 213

كأن كلّ واحد منهما رَدَّ ما عنده إلى صاحبه، وتفاوض الشريكان في المال: إذا اشتركا فيه أجمع. قاله ابن الأثير

(1)

.

والظاهر أن العبدين كان متعاقدين شركة المفاوضة، وهذا محمول على أن سيّدهما أذن لهما في ذلك. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "يقضي الخ" الظاهر أن معناه: إذا كان يؤدي أحدهما عن الآخر بدل الكتابة، ولفظ "الكبرى":"يقضي أحدهما على الآخر في الإجارات".

والأثر هذا صحيح مقطوع، تفرّد به المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أخرجه هنا-6/ 3966 - وفي "الكبرى" 2/ 4672. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌6 - (تَفَرُّقُ الشُّرَكَاءِ ، عَنْ شَرِكَتِهِمْ)

أي هذا بيان عقد تفرّق الشركاء عن شرِكتهم. وهذا هو الذي في النسخة الهنديّة، وفي بعض النسخ:"عن شركهم" بحذف التاء، وقد تقدّم أنه لغة في الشركة، ووقع في النسخة المصريّة:"عن شريكهم" بالياء، مع حذف التاء، وهو تصحيف، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(هَذَا كِتَابٌ، كَتَبَهُ فُلَانٌ، وَفُلَانٌ، وَفُلَانٌ، وَفُلَانٌ، بَيْنَهُمْ، وَأَقَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، الْمُسَمِّينَ مَعَهُ، فِي هَذَا الْكِتَابِ، بِجَمِيعِ مَا فِيهِ، فِي صِحَّةٍ مِنْهُ، وَجَوَازِ أَمْرٍ، أَنَّهُ جَرَتْ بَيْنَنَا مُعَامَلَاتٌ، وَمُتَاجَرَاتٌ، وَأَشْرِيَةٌ، وَبُيُوعٌ، وَخُلْطَةٌ، وَشَرِكَةٌ فِي أَمْوَالٍ، وَفِي أَنْوَاعٍ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ، وَقُرُوضٌ، وَمُصَارَفَاتٌ، وَوَدَائِعُ، وَأَمَانَاتٌ، وَسَفَاتِجُ، وَمُضَارَبَاتٌ، وَعَوَارِي، وَدُيُونٌ، وَمُؤَاجَرَاتٌ، وَمُزَارَعَاتٌ، وَمُؤَاكَرَاتٌ، وَإِنَّا تَنَاقَضْنَا، عَلَى التَّرَاضِي مِنَّا جَمِيعًا بِمَا فَعَلْنَا، جَمِيعَ مَا كَانَ بَيْنَنَا، مِنْ كُلِّ شَرِكَةٍ، وَمِنْ كُلِّ مُخَالَطَةٍ كَانَتْ، جَرَتْ بَيْنَنَا، فِي نَوْعٍ مِنَ الأَمْوَالِ، وَالْمُعَامَلَاتِ، وَفَسَخْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ، فِي جَمِيعِ مَا جَرَى بَيْنَنَا، فِي جَمِيعِ الأَنْوَاعِ، وَالأَصْنَافِ، وَبَيَّنَّا ذَلِكَ كُلَّهُ، نَوْعًا نَوْعًا، وَعَلِمْنَا

(1)

"النهاية" 3/ 479.

ص: 214

مَبْلَغَهُ، وَمُنْتَهَاهُ، وَعَرَفْنَاهُ عَلَى حَقِّهِ وَصِدْقِهِ، فَاسْتَوْفَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا جَمِيعَ حَقِّهِ، مِنْ ذَلِكَ أَجْمَعَ، وَصَارَ فِي يَدِهِ، فَلَمْ يَبْقَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا، قِبَلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، الْمُسَمِّينَ مَعَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَلَا قِبَلَ أَحَدٍ بِسَبَبِهِ، وَلَا بِاسْمِهِ حَقٌّ، وَلَا دَعْوَى، وَلَا طَلِبَةٌ، لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا، قَدِ اسْتَوْفَى جَمِيعَ حَقِّهِ، وَجَمِيعَ مَا كَانَ لَهُ، مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَصَارَ فِي يَدِهِ مُوَفَّرًا.

أَقَرَّ فُلَانٌ، وَفُلَانٌ، وَفُلَانٌ، وَفُلَانٌ).

شرح كتابة تفرّق الشركاء عن شركتهم

(هَذَا كِتَابٌ، كَتَبَهُ فُلَانٌ، وَفُلَانٌ، وَفُلَانٌ، وَفُلَاقٌ، بَيْنَهُمْ، وَأَقَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُم، لِكُلِّ وَاحِدٍ من أَصْحَابِهِ، المسَمَّينَ مَعَهُ، فِي هَذَا الكِتَاب، بِجَمِيعِ مَا فِيهِ، فِي صِحَّةٍ مِنْهُ، وَجَوَازِ أَمر، أنَّهُ جَرَتْ بَيْنَنَا مُعَامَلَاتْ) وقوله (وَمُتَاجَرَاتٌ) وما بعده من عطف المفسّر على المفسّر؛ لأن المعاملات تعمّها كلها (وَأَشْرِيَةٌ) جمع شراء، كبناء وأبنية، وإنما جمعه، وإن كان المصدر لا يُجمع، نظرًا إلى أنواعه، فإنه أنواع، كالشراء نقدًا، أو نسيئة، أو مرابحة، أو تولية، أو وضيعة، أو نحو ذلك، وكذلك في قوله (وَبُيُوعٌ) وقوله (وَخُلْطَةٌ) بضمّ الخاء المعجمة، وسكون اللام: اسمِ من الاختلاط، والمراد به هنا: الاشتراك، فيكون قوله (وَشَرِكَةٌ) عطف تفسير له (في أمْوَالٍ، وَفِي أَنوَاع مِنَ الْمُعَامَلَاتِ، وَقُرُوضٌ) قَرض، كفلس وفُلُوس: وهو: ما تُعطيه غيرك من المال، لتُقضاه. قاله الفيّوميّ (وَمُصَارَفَاتٌ) بضمّ أوله مفاعلة من الصرف، وهو بيع الأثمان بعضها ببعض (وَوَدَائِعُ، وَأَمَانَاتٌ) من عطف العامّ على الخاص (وَسَفَاتِجُ) بفتح أوله: جمع سُفْتَجة، بضمّ السين، وقيل: بفتحها، وأما التاء، فمفتوحة فيهما، فارسيّ مُعَرَّبٌ، وفسّرها بعضهم، فقال: هي كتابُ صاحب المال لوكيله أن يدفع مالاً قرضًا، يأمَنُ به خَطَرَ الطريق. قاله الفيّوميّ. والمراد هنا التعامل بالسفاتج (وَمُضَارَبَاتٌ، وَعَوَارِي) بفتح العين المهملة، وتخفيف آخره، وُيشدّد، وهو الأصل: جمع عاريّة بتشديد الياء، وتخفّف قليلاً.

قال الفيّوميّ: أصل العارية فَعَليّة بفتح العين، قال الأزهريّ: نسبة إلى العارة، وهي اسم من الإعارة، يقال: أعرته الشيء إعارةً، وعَارَةً، مثلُ أطعته إطاعةً، وطاعةً، وأجبته إجابة، وجابة. قال: وقد تُخفّف العاريّة في الشعر، والجمع الْعَوَاريُّ بالتخفيف، وبالتشديد على الأصل. انتهى (وَدُيُونٌ، وَمُؤَاجَرَاتٌ، وَمُزَارَعَاتٌ، وَمُؤَاكَرَاتٌ) من الكراء، وهو الأجرة (وَإِنَّا تَنَاقَضْنَا) أي نقضنا، وفسخنا عقد الشركة (عَلَى الترَاضِي مِنَّا جميعًا بِمَا فَعَلْنَا، جَمِيعَ مَا كَانَ بَيْنَنَا) بنصب "جميع" على أنه مفعول "تناقضنا"(مِنْ كُلِّ شَرِكَةٍ، ومنْ كُلِّ مُخَالَطَةٍ كَانَتْ، جَرَتْ بَيْنَنَا، فِي نَوْعٍ مِنَ الأَمْوَالِ، وَالْمُعَامَلَاتِ) وقوله (وَفَسَخْنَا ذَلِكَ كُلهُ) جملة معطوفة على "تناقضنا" للتؤكيد (فِي جَمِيعِ مَا جَرَى بَيْنَنَا، فِي

ص: 215

جمِيع الأنْوَاعِ، وَالأَصْنَافِ، وَبَيَّنَّا ذَلِكَ كُلهُ، نَوْعًا نَوْعًا، وَعَلِمْنَا مَبلَغَهُ، وَمُنْتَهَاهُ، وَعَرَفْنَاهُ عَلَىَ حَقهِ وَصِدْقِهِ، فَاسْتوفَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا جَمِيعَ حَقهِ، مِنْ ذَلِكَ أَجمَعَ، وَصَارَ فِي يَدِهِ، فَلَمْ يَبقَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا، قِبَلَ) بكسر القاف، وفتح الموحّدة بوزن عِنَب: أي جِهَة (كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، الْمُسَمَّينَ مَعَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَلَا قِبَلَ أَحَدٍ بسَبَبهِ، وَلَا بِاسْمِهِ) مؤكّد لما قبله (حَقٌّ، وَلَا دَعْوَى، وَلَا طَلِبَةٌ) بفتح، فَكسر: بمعنى الطَلبَ (لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا، قَدِ اسْتَوفَى جَمِيعَ حَقهِ، وَجَمِيعَ مَا كَانَ لَهُ، مِنْ جَمِيع ذَلِكَ كُلِّهِ، وَصَارَ فِي يَدِهِ مُوَفَّرًا) أي كاملاً تامَّا (أَقَرَّ فُلَانٌ، وَفُلَانٌ، وَفُلَانٌ، وَفُلَانٌ) يعني أن جميع الشركاء أقرُّوا بما كُتب في هذا الكتاب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌7 - (تَفَرُّقُ الزَّوْجَيْنِ ، عَنْ مُزَاوَجَتِهِمَا)

أي هذا صورة كتابة تفرّق الزوجين عن نكاحهما، فالمزاوجة: بمعنى الزَّواج، أي النكاح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]. هَذَا كِتَابٌ، كَتَبَتْهُ فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، فِي صِحَّةٍ مِنْهَا، وَجَوَازِ أَمْرٍ، لِفُلَانِ بْنِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، إِنِّي كُنْتُ زَوْجَةً لَكَ، وَكُنْتَ دَخَلْتَ بِي، فَأَفْضَيْتَ إِلَيَّ، ثُمَّ إِنِّي كَرِهْتُ صُحْبَتَكَ، وَأَحْبَبْتُ مُفَارَقَتَكَ، عَنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ مِنْكَ بِي، وَلَا مَنْعِي لِحَقٍّ وَاجِبٍ لِي عَلَيْكَ، وَإِنِّي سَأَلْتُكَ عِنْدَمَا خِفْنَا، أَنْ لَا نُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ، أَنْ تَخْلَعَنِي، فَتُبِينَنِي مِنْكَ بِتَطْلِيقَةٍ، بِجَمِيعِ مَالِي عَلَيْكَ، مِنْ صَدَاقٍ، وَهُوَ كَذَا وَكَذَا دِينَارًا، جِيَادًا، مَثَاقِيلَ، وَبِكَذَا وَكَذَا دِينَارًا، جِيَادًا، مَثَاقِيلَ، أَعْطَيْتُكَهَا عَلَى ذَلِكَ، سِوَى مَا فِي صَدَاقِي، فَفَعَلْتَ الَّذِي سَأَلْتُكَ مِنْهُ، فَطَلَّقْتَنِي تَطْلِيقَةً بَائِنَةً، بِجَمِيعِ مَا كَانَ بَقِيَ لِي عَلَيْكَ، مِنْ صَدَاقِي الْمُسَمَّى مَبْلَغُهُ، فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَبِالدَّنَانِيرِ الْمُسَمَّاةِ فِيهِ، سِوَى ذَلِكَ، فَقَبِلْتُ ذَلِكَ مِنْكَ، مُشَافَهَةً لَكَ، عِنْدَ مُخَاطَبَتِكَ إِيَّايَ بِهِ، وَمُجَاوَبَةً عَلَى قَوْلِكَ، مِنْ قَبْلِ تَصَادُرِنَا، عَنْ مَنْطِقِنَا ذَلِكَ،

ص: 216

وَدَفَعْتُ إِلَيْكَ جَمِيعَ هَذِهِ الدَّنَانِيرِ، الْمُسَمَّى مَبْلَغُهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، الَّذِي خَالَعْتَنِي عَلَيْهَا وَافِيَةً، سِوَى مَا فِي صَدَاقِي، فَصِرْتُ بَائِنَةً مِنْكَ، مَالِكَةً لأَمْرِي، بِهَذَا الْخُلْعِ، الْمَوْصُوفِ أَمْرُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، فَلَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيَّ، وَلَا مُطَالَبَةَ، وَلَا رَجْعَةَ، وَقَدْ قَبَضْتُ مِنْكَ، جَمِيعَ مَا يَجِبُ لِمِثْلِي، مَا دُمْتُ فِي عِدَّةٍ مِنْكَ، وَجَمِيعَ مَا أَحْتَاجُ إِلَيْهِ، بِتَمَامِ مَا يَجِبُ لِلْمُطَلَّقَةِ الَّتِي تَكُونُ فِي مِثْلِ حَالِي، عَلَى زَوْجِهَا الَّذِي يَكُونُ فِي مِثْلِ حَالِكَ، فَلَمْ يَبْقَ لِوَاحِدٍ مِنَّا قِبَلَ صَاحِبِهِ حَقٌّ، وَلَا دَعْوَى، وَلَا طَلِبَةٌ، فَكُلُّ مَا ادَّعَى وَاحِدٌ مِنَّا قِبَلَ صَاحِبِهِ، مِنْ حَقٍّ، وَمِنْ دَعْوَى، وَمِنْ طَلِبَةٍ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَهُوَ فِي جَمِيعِ دَعْوَاهُ مُبْطِلٌ، وَصَاحِبُهُ مِنْ ذَلِكَ أَجْمَعَ بَرِىءٌ، وَقَدْ قَبِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا، كُلَّ مَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ صَاحِبُهُ، وَكُلَّ مَا أَبْرَأَهُ مِنْهُ، مِمَّا وُصِفَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مُشَافَهَةً، عِنْدَ مُخَاطَبَتِهِ إِيَّاهُ، قَبْلَ تَصَادُرِنَا عَنْ مَنْطِقِنَا، وَافْتِرَاقِنَا عَنْ مَجْلِسِنَا، الَّذِي جَرَى بَيْنَنَا فِيهِ، أَقَرَّتْ فُلَانَةُ، وَفُلَانٌ).

شرح كتاب عقد تفرّق الزوجين المذكور

(قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ذكره الآية استدلالاً على أن تفرّق الزجين بالخلع مشروع بنصّ كتاب اللَّه عز وجل.

قال الحافظ ابن كثير -رحمه اللَّه تعالى-: قال طائفة من السلف، وأئمة الخلف: إنه لا يجوز الخلع إلا أن يكون الشقاق والنشوز من جانب المرأة، فيجوز للرجل حينئذ قبول الفدية، واحتجّوا بهذه الآية، قالوا: فلم يشرع الخلع إلا في هذه الحالة، فلا يجوز في غيرها إلا بدّليل، والأصل عدمه، وممن ذهب إلى هذا ابنُ عبّاس، وطاوس، والحسن، والجمهور، حتى قال مالك، والأوزاعيّ: لو أخذ منها شيئًا، وهو مضارّ لها وجب ردّه إليها، وكان الطلاق رجعيًا، قال مالك: وهو الأمر الذي أدركت الناس عليه. وذهب الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى- إلى أنه يجوز الخلع في حال الشقاق، وعند إلاتفاق بطريق الأولى والأحرى، وهذا قول جميع أصحابه قاطبة. وحكى الشيخ أبو عمر بن عبد البرّ في كتاب "الاستذكار" له عن بكر بن عبد اللَّه المزنيّ إلى أنه ذهب إلى أن الخلع منسوخ بقوله تعالى:{وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]، ورواه ابن جرير عنه، وهذا قول ضعيف، ومأخذ مردود على قائله. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تقدّم البحث عن هذه المسألة في محلّها، من

(1)

"تفسير ابن كثير" 1/ 280 - 281.

ص: 217

"كتاب الطلاق" مستوفًى، بحمد اللَّه تعالى، وحسن توفيقه، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

(هَذَا كِتَابٌ، كَتَبَتهُ فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، فِي صِحَّةٍ مِنْهَا، وَجَوَازِ أَمْرٍ، لِفُلَانِ بْنِ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ، إِنِّي كُنْتُ زَوْجَةً لَكَ، وَكُنْتَ دَخَلتَ بِي، فَأَفْضَيْتَ إِلَيَّ) كناية عن جماعها، يقال: أفضى إلى امرأته: إذا باشرها، وجامعها، وأما أفضاها بدون حرف جرّ، فمعناه جعل مسلكيها بالافتضاض واحدًا. وقيل: جعل سبيل الحيض والغائط واحدًا، فهي مُفضاة. قاله الفيّوميّ (ثُمَّ إِنِّي كَرِهْتُ صُحْبَتَكَ، وَأَحْبَبْتُ مُفَارَقَتَكَ، عَنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ مِنْكَ بِي، وَلَا مَنْعِي لِحَق وَاجِبٍ لِي عَلَيْكَ، وَإنِّي سَأَلْتُكَ عِنْدَمَا خِفْنَا، أَنْ لَا نُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ،) أي ما حدّه اللَّه عز وجل على كلّ واحد من الزوجين من الحقوق (أَنْ تَخْلَعَنِي) بفتح أوله، وثالثه، من باب فتح (فَتُبينَنِي) بضمّ أوله من الإبانة رباعيًّا (مِنْكَ بِتَطْلِيقَةٍ، بِجَمِيعِ مَالي عَلَيْكَ، مِنْ صَدَاقٍ) أيَ بكونه عوضًا على ذلك (وَهُوَ كَذَا وَكَذَا دِينَارًا، جِيادًا، مَثَاقِيلَ، وَبكَذَا وَكَذَا دِينَارًا، جيَادًا، مَثَاقِيلَ، أَعْطَيتُكَهَا عَلَى ذَلِكَ، سِوَى مَا فِي صَدَاقِي، فَفَعَلْتَ الَّذِي سَأَلْتُكَ مِنْهُ، فَطَلَّقْتَنِي تَطْلِيقَةً بَائِنَة، بجَمِيعِ مَا كَانَ بَقِيَ لِي عَلَيْكَ، مِنْ صَدَاقِي المُسَمَّى مَبلَغُهُ، فِي هَذَا الكِتَاب، وَبِالدَّنَانِيرِ المُسَمَّاةِ فِيهِ، سِوَى ذَلِكَ، فَقَبِلتُ ذَلِكَ مِنْكَ، مُشَافَهَةً لَكَ، عِنْدَ مُخَاطَبَتِكَ إيَّايَ بِهِ، وَمُجَاوَبَةٌ عَلَى قَوْلِكَ، مِنْ قَبْلِ تَصَادُرِنَا عَنْ مَنطِقِنَا ذَلِكَ) أي تراجعنا عن محلّ نطقَنا، والمراد: قبل قيامهما وتفرّقهما عن مجلسهما ذلك. واللَّه تعالى أعلم (وَدَفَعْتُ إِلَيْكَ جمَيعَ هَذِهِ الدَّنَانِيرِ، الْمُسَمَّى مَبلَغُهَا فِي هَذَا الْكِتَاب، الَّذِي) هكذا النسخ، وكان الأولى أن يقول:"التي"؛ لأنه صفة للدنانير، أو يذكر الضَمير في قوله (خَالَعْتَنِي عَلَيْهَا) فيقول: عليه، فيعود إلى المبلغ (وَافِيةٌ، سِوَى مَا في صدَاقي، فَصِرْتُ بَائِنَة مِنْكَ، مَالِكَةٌ لِأَمْرِي، بِهَذَا الخُلعِ، الْمَوْصُوفِ أَمْرُهُ فِي هَذَا الكِتَابِ، فَلَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيَّ، وَلَا مُطَالَبَةَ، وَلَا رَجعَةَ، وَقَد قَبَضْتُ مِنْكَ، جَمِيعَ مَا يَجِبُ لِمِثليَ، مَا دُمْتُ فِي عِدَّةٍ مِنْكَ) أرادت به ما يجب لها من نفقة العدّة (وَجَمِيعَ مَا أَحْتَاجُ إِلَيْهِ، بِتَمَام مَا يَجِبُ لِلمُطَلَّقَةِ الَّتِى تكُونُ فِي مِثلِ حَالي، عَلَى زَوْجِهَا الَّذِي يَكُونُ فِي مِثْلِ حَالِكَ، فَلمْ يبْقَ لِوَاحِدٍ مِنَّا قِبَلَ صَاحِبِهِ حَقٌّ، وَلَا دَعْوَى، وَلَا طَلِبَةٌ) بفتح، فكسر: أيَ مطالبة (فَكُلُّ مَا ادَّعَى وَاحِدٌ مِنَّا قْبَل صَاحِبِهِ، مِنْ حَقٍّ، وَمِنْ دَعْوى، وَمِنْ طَلبَة بِوَجهٍ مِنَ الوُجُوهِ، فَهُوَ فِي جَمِيع دَعوَاهُ مُبْطِلٌ) أرادت بذلك الدعوى المتعلقة بالزوجية (وَصَاحِبُهُ مِنْ ذَلِكَ أَجْمَعَ) توكيدَ لاسم الإشارة، مجرور بالفتحة؛ للعلميّة ووزن الفعل؛ لأن ألفاظ التوكيد معارف للعلميّة الجنسيّة، كما هو مقرّر في محلّه (بَرِيءٌ، وَقَدْ قَبِلَ كُلُّ وَاحِدٍ منَّا، كُلَّ مَا أَقرَّ لَهُ بِهِ صَاحِبُهُ، وَكُلَّ مَا أَبْرَأَهُ مِنْهُ، مِمَّا وُصِفَ فِي هَذَا الكِتَابِ مُشَافَهَةً، عِنْدَ

ص: 218

مُخَاطَبَتِهِ إيَّاهُ، قَبْلَ تَصَادُرِنَا عَنْ مَنْطِقِنَا) وقوله (وَافْتِرَاقِنَا عَنْ مَجْلِسِنَا الَّذِي جَرَى بَيْنَنَا فِيهِ) تفسير لما قبله، من قولها: قبل تصادرنا عن مطقنا (أَقَرَّتْ فُلَانَةُ، وَفُلَانٌ) تعني أن المرأة الطالبة للخلع أقرّت بما اشتمل عليه هذا الكتاب، وأقرّ بقبول ذلك الزوج المخالع. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌8 - (الْكِتَابَةُ)

قال الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى-: يقال: كاتبتُ العبدَ مُكاتبةً، وكتابًا، من باب قاتل، قال اللَّه تعالى:{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} [النور: 33]، وكتبنا كتابًا في المعاملات، وكتابة بمعنى، وقول الفقهاء:"باب الكتابة" فيه تسامحٌ؛ لأن الكتابة اسم المكتوب، وقيل: للمكاتبة كتابةٌ تسميةٌ باسم المكتوب، مجازًا، واتساعًا؛ لأنه يُكتَب في الغالب للعبد على مولاه كتابٌ بالعتق عند أداء النجوم، ثم كثُر الاستعمال حتى قال الفقهاء للمكاتبة: كتابة، وإن لم يُكتب شِيء. قال الأزهريّ: وسُمّيت المكاتبة كتابةً في الإسلام، وفيه دليلٌ على أن هذا الإطلاق ليس عربيًّا، وشذّ الزمخشريّ، فجعل المكلاتبة، والكتابة بمعنًى واحد، ولا يكاد يوجد لغيره ذلك، ويجوز أنه أراد الكتاب، فطغا القلم بزيادة الهاء. قال الأزهريّ: الكتاب، والمكاتبة أن يُكاتِبَ الرجلُ عبدَهُ، أو أمته على مال منجَّمٍ، ويَكتُب العبدُ عليه أنه يَعتِقُ إذا أدَّى النجوم. وقال غيره بمعناه، وتكاتبا كذلك، فالعبدُ مكاتبٌ؛ بالفتح، اسم مفعول، وبالكسر اسم فاعل؛ لأنه كاتب سيّده، فالفعل منهما، والأصل في باب المفاعلة أن يكون من اثنين، فصاعدًا، يفعل أحدهما بصاحبه ما يفعل هو به، وحينئذ، فكل واحد فاعلٌ ومفعول من حيث المعنى. انتهى كلام الفيّوميّ

(1)

.

(قَالَ اللَّهُ عز وجل: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] ، هَذَا كِتَابٌ، كَتَبَهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، فِي صِحَّةٍ مِنْهُ، وَجَوَازِ أَمْرٍ، لِفَتَاهُ النُّوبِيِّ، الَّذِي يُسَمَّى فُلَانًا، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ فِي مِلْكِهِ وَيَدِهِ، إِنِّي كَاتَبْتُكَ عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وُضْحٍ

(1)

"المصباح المنير" 2/ 524 - 525.

ص: 219

جِيَادٍ، وَزْنِ سَبْعَةٍ، مُنَجَّمَةٍ عَلَيْكَ، سِتُّ سِنِينَ مُتَوَالِيَاتٍ، أَوَّلُهَا مُسْتَهَلَّ شَهْرِ كَذَا، مِنْ سَنَةِ كَذَا، عَلَى أَنْ تَدْفَعَ إِلَيَّ هَذَا الْمَالَ، الْمُسَمَّى مَبْلَغُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي نُجُومِهَا، فَأَنْتَ حُرٌّ بِهَا، لَكَ مَا لِلأَحْرَارِ، وَعَلَيْكَ مَا عَلَيْهِمْ، فَإِنْ أَخْلَلْتَ شَيْئًا مِنْهُ عَنْ مَحِلِّهِ، بَطَلَتِ الْكِتَابَةُ، وَكُنْتَ رَقِيقًا، لَا كِتَابَةَ لَكَ، وَقَدْ قَبِلْتُ مُكَاتَبَتَكَ عَلَيْهِ، عَلَى الشُّرُوطِ الْمَوْصُوفَةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، قَبْلَ تَصَادُرِنَا عَنْ مَنْطِقِنَا، وَافْتِرَاقِنَا عَنْ مَجْلِسِنَا، الَّذِي جَرَى بَيْنَنَا ذَلِكَ فِيهِ، أَقَرَّ فُلَانٌ، وَفُلَانٌ).

شرحِ كتاب عقد الكتابة المذكور

(قَالَ اللَّه عز وجل: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33])

قال الحافظ ابن كثير -رحمه اللَّه تعالى-: هذا أمر من اللَّه تعالى للسادة إذا طلب عبيدهم منهم الكتابة أن يُكاتبوهم بشرط أن يكون للعبد حِيلةٌ، وكسبٌ يؤدّي إلى سيّده المال الذي شارطه على أدائه.

وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن هذا الأمر أمر إرشاد، واستحباب، لا أمر تحتّم وإيجاب، بل السيّد مخيّرٌ إذا طلب منه عبده الكتابة، إن شاء كاتبه، وإن شاء لم يكاتبه. رُوي ذلك عن الشعبيّ، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصريّ، ومقاتل بن حيّان.

وذهب آخرون إلى أنه يجب على السيّد إذا طلب منه عبده ذلك أن يجيبه إلى ما طلب، أخذا بظاهر هذا الأمر. وقال البخاريّ: وقال روح، عن ابن جُريج: قلت لعطاء: أواجبٌ عليّ إذا علمت له مالاً أن أكاتبه؟ قال: ما أراه إلا واجبًا. وقال عمرو ابن دينار: قلت لعطاء: أتأثُره عن أحد؟ قال: لا، ثم أخبرني أن موسى بن أنس أخبره أن سيرين سأل أنسًا رضي الله عنه المكاتبة، وكان كثير المال، فأبى، فانطلق إلى عمر رضي الله عنه، فقال: كاتبه، فأبى، فضربه بالدِّرَّة، ويتلو عمر رضي الله عنه:{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} ، فكاتبه، هكذا ذكره البخاريّ معلّقًا، ورواه عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أواجب عليّ إذا علمت له مالًا أن أكاتبه؟ قال: ما أراه إلا واجبًا. وأخرج ابن جرير بسند صحيح، عن قتادة، عن أنس بن مالك، أن سيرين أراد أن يكاتبه، فتلكّأ عليه، فقال له عمر لتكاتبنّه.

قال. وهذا هو القول القديم للشافعيّ، وذهب في الجديد إلى أنه لا يجب. وكذا قال مالك، والثوريّ، وأبو حنيفة، وغيرهم. واختار ابن جرير القول بالوجوب؛ لظاهر الآية. انتهى كلام ابن كثير باختصار

(1)

.

(1)

"تفسير ابن كثير" 3/ 298.

ص: 220

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن القول بالوجوب هو الأرجح، كما اختاره ابن جرير -رحمه اللَّه تعالى-؛ لأن الأمر في الآية للوجوب؛ إذ لا صارف لها عنه إلى الاستحباب، لا من نصّ، ولا من إجماع، فهي على الوجوب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

وقوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} اختلفوا في المراد بالخير، فقال بعضهم: أمانةً. وقال بعضهم: صدقًا. وقال بعضهم: مالاً. وقال بعضهم: حِيلةً وكسبًا. وروى أبو داود في "المراسيل"، عن يحيى بن أبي كثير، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} قال: "إن علمتم فيهم حرفةً، ولا تُرسلوهم كلًّا على الناس"

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: التفسير الأخير هو الأقرب عندي، وإن كان الحديث مرسلاً. واللَّه تعالى أعلم.

(هَذَا كِتَابٌ، كَتَبَهُ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، فِي صِحَّةٍ مِنْهُ، وَجَوَازِ أَمْرٍ، لِفَتَاهُ) الفتى: العبد، وجمعه في القلّة فِتْيةٌ، وفي الكثرة فِتيانٌ، والأمة فتاةٌ، وجمعها فتياتٌ، والأصل فيه أن يقال للشاب الْحَدَثِ فَتى، ثم استُعير للعبد، وإن كان شيخًا، مجازًا تسميةً باسم ما كان عليه. قاله الفيّوميّ (النُّوبِيِّ) بضمّ النون: نسبة إلى بلاد واسعة للسودان، بجنوب الصّعيد، منها بلال الحبشيّ رضي الله عنه، قاله في "القاموس. وأراد به هنا توضيح نسبة العبد المكاتب، لا لزوم كونه نوبيًا (الَّذِي يُسَمَّى فُلَانًا، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ فِي مِلْكِهِ وَيَدِهِ، إِنِّي كَاتَبْتُكَ عَلَى ثَلَاثَةِ آلافِ دِرْهَم، وُضْح جِيَادٍ، وَزْنِ سَبْعَةٍ) أي كلّ عشرة منها وزن سبعة مثاقيل (مُنَجَّمَةً عَلَيْكَ) أي مقَطّعة نَجْمًا نجمًا، قال في "اللسان": قال في "التهذيب": والنجوم وظائف الأشياء، وكلُّ وظيفة نَجْمٌ، والنجم الوقت المضروب، وبه سُمّي المنجّم، ونَجّمتُ المالَ: إذا أدّيته نُجُومًا، قال زُهير في ديات جُعلت نُجُومًا على العاقلة [من الطويل]:

يُنَجِّمُهَا قَومٌ لِقَوْمٍ غرَامَةً

وَلَمْ يُهْرِيقُوا بَيْنَهُمْ مِلْءَ مِحْجَمِ

قال: تنجيمُ الدين هو أن يُقَدْر عطاؤه في أوقات معلومة متتابعة، مُشاهرةٌ، أو مساناةٌ، ومنه تنجيم المكاتب، ونُجوم الكتابة، وأصله أن العرب كانت تجعل مطالع منازل القمر، ومَساقطها مواقيتَ حلول ديونها وغيرها، فتقول: إذا طلع النجم حلّ عليك مالي، أي الثريّا، وكذلك باقي المنازل، فلما جاء الإسلام جعل اللَّه تعالى الأهلّة مواقيت لما يحتاجون إليه من معرفة أوقات الحجّ، والصوم، ومَحِلّ الديون، وسَمَّوْها

(1)

"تفسير ابن كثير" 3/ 298.

ص: 221

نُجومًا، اعتبارًا بالرسم القديم الذي عرفوه، واحتذاءً حَذْوَ ما أَلِفُوه. انتهى المقصود من "اللسان".

(سِتَّ سِنِينَ) منصوب على الظرفية متعلق بـ "منجّمَة"، وهذا أيضًا إنما ذُكر لبيان لزوم تحديد المدة في العقد، لا لزوم تعيين ستّ سنين (مُتَوَالِيَاتٍ، أَوَّلُهَا مُسْتَهَلُّ شَهْرِ كَذَا، مِنْ سَنَةِ كَذَا، عَلَى أَنْ تَدْفَعَ إِلي هَذَا المَالَ، المسمى مَبلَغُهُ في هَذَا الكتَاب في نُجُومِهَا) أي في أوقاتها المنجّمة، أي المقطّعة (فَأَنْتَ حُرٌّ بَها، لَكَ مَا لِلأَحْرَارِ، وَعَلَيْكَ مَا عَلَيْهِمْ، فَإِنْ أَخْلَلْتَ شَيْئًا مِنْهُ ، عَنْ مَحِلِّهِ) بكسر الحاء المَهملة: أي أجله المضروب له (بَطَلَتِ الْكِتَابَةُ، وَكُنْتَ رَقِيقًا، لَا كِتَابَةَ لَكَ، وَقَدْ قَبِلْتُ مُكَاتَبَتَكَ عَلَيْهِ، عَلَى الشُّرُوطِ الْمَوْصُوفَةِ فِي هَذَا الْكِتَاب، قَبْلَ تَصَادُرِنَا عَنْ مَنْطِقِنَا، وَافْتِرَاقِنَا عَنْ مَجْلِسِنَا، الَّذِي جَرَى بَيْنَنَا ذَلِكَ فِيهِ، أَقَرَّ فُلَانٌ، وَفُلَانٌ) يعني المولى المكاتِب، والعبدَ المكاتَب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌9 - (تَدْبِيرٌ)

أي هذا كتاب عقد تدبير العبد. و"التدبير": مصدر دبرّ الرجل عبده تدبيرًا: إذا علّق عتقه على موته. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(هَذَا كِتَابٌ، كَتَبَهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، لِفَتَاهُ الصَّقَلِّيِّ، الْخَبَّازِ، الطَّبَّاخِ، الَّذِي يُسَمَّى فُلَانًا، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ فِي مِلْكِهِ وَيَدِهِ، إِنِّي دَبَّرْتُكَ لِوَجْهِ اللَّهِ عز وجل، وَرَجَاءِ ثَوَابِهِ، فَأَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي، لَا سَبِيلَ لأَحَدٍ عَلَيْكَ بَعْدَ وَفَاتِي، إِلاَّ سَبِيلَ الْوَلَاءِ، فَإِنَّهُ لِي وَلِعَقِبِي مِنْ بَعْدِي، أَقَرَّ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، بِجَمِيعِ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ طَوْعًا، فِي صِحَّةٍ مِنْهُ، وَجَوَازِ أَمْرٍ مِنْهُ، بَعْدَ أَنْ قُرِئَ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَيْهِ، بِمَحْضَرٍ مِنَ الشُّهُودِ، الْمُسَمِّينَ فِيهِ، فَأَقَرَّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ قَدْ سَمِعَهُ، وَفَهِمَهُ، وَعَرَفَهُ، وَأَشْهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ، وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، ثُمَّ مَنْ حَضَرَهُ مِنَ الشُّهُودِ عَلَيْهِ، أَقَرَّ فُلَانٌ الصَّقَلِّيُّ الطَّبَّاخُ، فِي صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ وَبَدَنِهِ، أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ حَقٌّ، عَلَى مَا سُمِّىَ، وَوُصِفَ فِيهِ).

قوله: (لِفَتَاهُ الصَّقَلِّيِّ): ضبطه في "القاموس": بكسرات، مشدّد اللام، ونصّه: وصِقِلِّيَةُ بكسرات مُشدّدة اللام: جزيرة بالمغرب. انتهى. وضبطه في "لُبّ اللباب"

ص: 222

بفتحتين: وقال: نسبة إلى جزيرة صَقَليّة في بحر الروم

(1)

.

وقوله: "وَرَجَاءِ ثَوَابِهِ": أي أنه لا يريد عوضًا على عتقه، مثل ما تقدّم في الكتابة. وقوله:"فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ": كناية عن المولى. وتمام شرح هذا العقد يُعلم مما سبق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌10 - (عِتْقٌ)

أي هذا كتاب عقد عتق العبد.

(هَذَا كِتَابٌ، كَتَبَهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، طَوْعًا فِي صِحَّةٍ مِنْهُ، وَجَوَازِ أَمْرٍ، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ كَذَا، مِنْ سَنَةِ كَذَا، لِفَتَاهُ الرُّومِىِّيِّ، الَّذِي يُسَمَّى فُلَانًا، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ فِي مِلْكِهِ وَيَدِهِ، إِنِّي أَعْتَقْتُكَ، تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ عز وجل، وَابْتِغَاءً لِجَزِيلِ ثَوَابِهِ، عِتْقًا بَتًّا، لَا مَثْنَوِيَّةَ فِيهِ، وَلَا رَجْعَةَ لِي عَلَيْكَ، فَأَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ، وَالدَّارِ الآخِرَةِ، لَا سَبِيلَ لِي، وَلَا لأَحَدٍ عَلَيْكَ، إِلاَّ الْوَلَاءَ، فَإِنَّهُ لِي، وَلِعَصَبَتِي مِنْ بَعْدِي).

قوله: "لِفَتَاهُ الرُّوميِّ: أي المنسوب إلى الرُّوم: جِيل من ولد الروم بن عيصو. قاله في "القاموس".

وقوله: "عِتْقًا بَتًّا" بفتح الموحّدة، وتشديد التاء الفوقانيّة: أي مقطوعًا. وقوله: "لا مَثْنَوِيَّةَ فِيهِ" بفتح الميم، وسكون المثلّثة، وتشديد ياء النسبة: أي لا رجوع فيه، فيكون مبيّنًا لمعنى البتّ، ويكون قوله:، وَلَا رَجْعَةَ لِي عَلَيْكَ" عطف تفسير له.

وقول: "وَلِعَصَبَتِي مِنْ بَعْدِي" يعني أن ولاءه يرثه منه عصبته الذين يرثون ماله. وتمام شرح العقد المذكور يُعلم مما سبق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

(1)

"لبّ اللباب" 2/ 73.

ص: 223

‌36 - (كِتَابُ الْمُحَارَبَةِ)

أي هذا كتاب ذكر الأحاديث الدّالة على أحكام المحاربة، هكذا ترجم في النسخة الهنديّة، وترجم في النسخ المطبوعة، "كتاب تحريم الدم"، والأُولى أَولى.

و"المحاربة": مصدر حاربه: إذا قاتله، والحربُ المقاتلة، والمنازلة، ولفظها أُنثَى، يقال: قامت الحرب على ساق: إذا اشتدّ الأمر، وصَعُبَ الخلاصُ، وقد تذكّرُ؛ ذَهَابًا إلى معنى القتال، فيقال: حربٌ شديدٌ، وتصغيرها حُريبٌ، والقياس بالهاء، وإنما سقطت كيلا يلتبس بمصغَّر الْحَرْبة التي هي كالرمح. ودار الحرب: بلاد الكفّار الذين لا صلح لهم مع المسلمين. قاله الفيّوميّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب

‌1 - (تَحْرِيمِ الدَّمِ)

أي هذا بابَ ذكر الأحاديث الدّالّة على تحريم إراقة دم المسلم بغير حقّ.

3967 -

(أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بَكَّارِ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى -وَهُوَ ابْنُ سُمَيْعٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ الْمُشْرِكِينَ، حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَإِذَا شَهِدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا، وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا، وَأَكَلُوا ذَبَائِحَنَا، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ، وَأَمْوَالُهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا»).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(هارون بن محمد بن بكّار بن بلال) العامليّ الدمشقيّ، صدوق [11] 128/ 1091.

2 -

(محمد بن عيسى بن سُميع) -بالتصغير-: هو الأمويّ مولاهم، الدمشقيّ، صدوقٌ يُخطىء، وُيدلّس، ورُمي بالقدر [9] 24/ 1663.

3 -

(حُميد الطويل) ابن أبي حميد، أبو عبيدة البصريّ، ثقة يُدلّس [5] 87/ 108.

4 -

(أنس بن مالك) الأنصاريّ الصحابيّ الخادم الشهير - رضي اللَّه تعالى عنه - 6/ 6.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (187) من رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أن فيه دمشقيين، وبصريين. (ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة - رضي اللَّه تعالى عنهم - بالبصرة، مات سنة (92) أو (93)، وهو من المعمّرين، فقد جاوز عمره مائة سنة. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 224

شرح الحديث

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، وفي رواية للبخاريّ تصريح حميد الطويل بالتحديث، ولفظه: قال ابن أبي مريم: أخبرنا يحيى بن أيوب، حدثنا حميد، حدثنا أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقال علي بن عبد اللَّه، حدثنا خالد بن الحارث، قال: حدثنا حميد، قال: سأل ميمون بن سياه، أنس بن مالك، قال: يا أبا حمزة ما يُحرِّم دمَ العبد وماله؟ فقال: "من شهد أن لا إله إلا اللَّه، واستقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم، له ما للمسلم، وعليه ما على المسلم".

قال في "الفتح": لَمّا لم يكن في قول حميد: "سأل ميمون بن سياه أنسًا" التصريح بكونه حضر ذلك عقبه بطريق يحيى بن أيوب التي فيها تصريح حُميد بأن أنسًا حدّثهم؛ لئلا يُظنّ أنه دلّسه، ولتصريحه أيضًا بالرفع، وإن كان للأخرى حكمها. وقد روينا طريق يحيى بن أيوب موصولةً في "الإيمان" لمحمد بن نصر، ولابن منده، وغيرهما، من طريق ابن أبي مريم المذكور.

وأعلّ الإسماعيليّ طريق حميد المذكورة، فقال: الحديث حديث ميمون، وحُميد إنما سمعه منه، واستدلّ على ذلك برواية معاذ بن معاذ، عن حميد، عن ميمون، قال: سألتُ أنسًا، قال: وحديث يحيى بن أيوب لا يُحتجّ به -يعني في التصريح بالتحديث- قال: لأن عادة البصريين، والشاميين ذكر الخبر فيما يروونه.

قال الحافظ: هذا التعليل مردودٌ، ولو فُتح هذا الباب لم يوثق برواية مدلّس أصلاً، ولو صرّح بالسماع، والعمل على خلافه، ورواية معاذ لا دليل فيها على أن حميدًا لم يسمعه من أنس؛ لأنه لا مانع أن يسمعه من أنس، ثم يستثبت فيه من ميمون؛ لعلمه بأنه كان السائلَ عن ذلك، فكان حقيقًا بضبطه، فكان حُميد تارةً يُحدِّث به عن أنس لأجل العلوّ، وتارة عن ميمون؛ لكونه ثبته فيه، وقد جرت عادة حميد بهذا، يقول: حدّثني أنسٌ، وثبّتني فيه ثابت، وكذا وقع لغير حُميد. انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم.

(عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "أُمِرْتُ) بالبناء للمفعول: أي أمرني اللَّه؛ لأنه لا أمر لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا اللَّه، وقياسه في الصحابيّ، إذا قال: أُمرتُ، فالمعنى أمرني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا يحتمل أن يُريد أمرني صحابيّ آخر؛ لأنهم من حيث إنهم مجتهدون لا

(1)

"فتح" 2/ 54 - 55. "كتاب الصلاة" رقم 393.

ص: 225

يحتجّون بأمر مجتهد آخر، وإذا قاله التابعيّ احتمل، والحاصل أن من اشتهر بطاعة رئيس إذا قال ذلك، فُهم منه أنّ الآمر له هو ذلك الرئيس. قاله في "الفتح"

(1)

.

(أَنْ أُقَاتِلَ الْمُشْرِكِينَ) هذه الرواية مفسّرة للروايات الآتية بلفظ: "أمرت أن أُقاتل الناس"، فالمراد بالناس هو المشركون (حَتَّى يَشْهَدُوا) [إن قيل]: جَعْلُ غاية المقاتلة وجودَ ما ذُكر في هذا الحديث، يقتضي أن من شهد الشهادتين، وأتى بهذه الأمور المذكورة، فقد حرم دمه، وماله، ولو جحد سائر الأحكام الشرعيّة.

[أُجيب]: بأن الشهادة بالرسالة تتضمّن التصديق بما جاء به، مع أن نصّ الحديث بقوله:"إلا بحقّها"، وفي رواية:"إلا بحقّ الإسلام" يدخل فيه جميع أحكام الشريعة.

وحكمة الاقتصار على ما ذكر أن من يقرّ بالتوحيد من أهل الكتاب، وإن صلُّوا، واستقبلوا، وذبحوا، لكنهم لا يُصلُّون مثل صلاتنا، ولا يستقبلون قبْلتنا، ومنهم من يذبح لغير اللَّه تعالى، ومنهم من لا يأكل ذبيحتنا، ولهذا قال:"وأكل ذبيحتنا"، والاطلاع على حال المرء في صلاته، وأكله يمكن بسرعة في أول يوم، بخلاف غير ذلك من أمور الدين. أفاده في "الفتح"

(2)

.

(أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَإذَا شَهِدُوا أن لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا) أي صلّوا كما نصلي نحن، فـ "صلاتنا" منصوب بنزع الخافض، وهو في نفس الأمر صفة لمصدر محذوف، أي صلّوا صلاة كصلاتنا (وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا) إنما ذكر استقبال القبلة، وإن كانت الصلاة متضمّنةٌ له، مشروطةً به؛ لأن القبلة أعرف من الصلاة، فإن كلّ أحد يَعرف قبلته، وإن كان لا يعرف صلاته؛ ولأن من أعمال صلاتنا ما هو موجود في صلاة غيرنا، كالقيام، والقراءة، واستقبالُ قبلتنا مخصوص بنا.

(وَأَكَلُوا ذَبَائِحَنَا) جمع ذبيحة، وفي رواية البخاريّ:"وذبحوا ذبيحتنا" أي ذبحوا المذبوح مثل مذبوحنا.

قال في "عمدة القاري": ثم لَمّا ذكر من العبادات ما يُميّز المسلم من غيره -يعني الصلاة- أعقبه بذكر ما يُميّزه عادةً وعبادةٌ، فقال:"وأكلوا ذبيحتنا"، فإن التوقّف عن أكل الذبائح كما هو من العادات، فكذلك هو من العبادات الثابتة في كلّ ملّة. قال الطيبيّ: وأقول -واللَّه أعلم-: إذا أُجري الكلام على اليهود، سَهُل تعاطى عطف الاستقبال على الصلاة بعد الدخول فيها، ويعضده اختصاص ذكر الذبيحة؛ لأن اليهود

(1)

"فتح" 1/ 107.

(2)

"فتح" 2/ 54 "كتاب الصلاة".

ص: 226

خصوصًا يمتنعون من أكل ذبيحتنا، وهم الذين حين تحوّلت القبلة شنّعوا بقولهم:{مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142]، أي صلّوا صلاتنا، وتركوا المنازعة في أمر القبلة، والامتناع عن أكل الذبيحة؛ لأنه من عطف الخاصّ على العامّ، فلما ذكر الصلاة عطف ما كان الكلام فيه، وما هو مهتمّ بشأنه عليها، كما أنه يجب عليهم أيضًا عند الدخول في الإسلام أن يقرّوا ببطلان ما يُخالفون به المسلمين في الاعتقاد بعد إقرارهم بالشهادة. انتهى

(1)

.

وفائدة عطف الصلاة، واستقبال القبلة، وأكل الذبيحة على الشهادتين، بيان تحقيق القول بالفعل، وتأكيد أمره، فكأنه قال: إذا قالوها، وحقّقوا معناها بموافقة الفعل لها، تكون محرّمة لدمائهم، وأموالهم، وإنما خُصَّت هذه الثلاثة من بين سائر الأركان، وواجبات الدين، لكونها أظهرها، وأعظمها، وأسرعها علمًا بها، إذ في اليوم الأول من الملاقاة مع الشخص يُعلم صلاته، وطعامه غالبًا، بخلاف نحو الصوم، فإنه لا يظهر الامتياز بيننا وبينهم منه، ونحو الحجّ، فإنه قد يتأخّر إلى شهور، وسنين، وقد لا يجب عليه أصلاً.

(2)

.

(فَقَد حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ، وَأَمْوَالُهُمْ) وفي رواية للبخاريّ، من طريق منصور بن سعد، عن ميمون بن سياهٍ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من صَلَى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم، الذي له ذمة اللَّه، وذمة رسوله، فلا تُخفِروا اللَّه في ذمته".

وقوله: "ذمّة اللَّه" أي أمانته، وعهده. وقوله:"فلا تُخفروا اللَّه" بضمّ أوله رباعيًّا: أي لا تَغدروا، يقال: أخفرت: إذا غدرتَ، وخَفَرتُ: إذا حَمَيتَ، ويقال: إن الهمزة في أخفرت للإزالة: أي تركتُ حمايته.

وقوله: (فلا تُخفروا اللَّه في ذمّته، أي ولا رسوله، وحُذف لدلالة السياق عليه، أو لاستلزام المذكورِ المحذوفَ. قاله في "الفتح"

(3)

.

(إِلَّا بِحَقِّهَا) أي إلا بحقّ الدماء والأموال، كأن يقتل معصوم الدم بغير حقّ، أو يأخذ مال غيره ظلمًا. وزاد في رواية البخاريّ:"وحسابهم على اللَّه": أي حساب سرائرهم على اللَّه سبحانه وتعالى، وكلمة "على" بمعنى اللام، أو المعنى على التشبيه، أي هو كالواجب عليه تعالى في تحقّق وقوعه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع،

(1)

راجع عمدة القاري" 4/ 125.

(2)

راجع "عمدة القاري" 4/ 126.

(3)

"فتح" 2/ 53. "كتاب الصلاة" رقم 391.

ص: 227

والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 1/ 3967 و 3968 و 3969 و"الإيمان وشرائعه" 9/ 4998 و 15/ 5003. وأخرجه (خ) في "الصلاة" 391 و 393. (د) في "الجهاد" 2641 (ت) في "الإيمان" 2608 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 12643 و 12935. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان تحريم دم المسلم بالتزامه شرائع الإسلام، إلا بحقّه. (ومنها): تحريم مال المسلم، إلا بحقه. (ومنها): أن أمور الناس محمولة على الظاهر، دون الباطن، فمن أظهر شعائر الدين أُجريت عليه أحكام أهله، ما لم يَظهر منه خلاف ذلك، فإذا دخل رجلٌ غريبٌ في بلد من بلاد المسلمين بدين، أو مذهب في الباطن، غير أن عليه زيُّ المسلمين، حُمل على ظاهر أمره على أنه مسلم، حتى يُظهر خلافَ ذلك. (ومنها): أن فيه تعظيمَ شأن القبلة، وأنها من فرائض الصلاة، والصلاة أعظم قربات الدين بعد الشهادتين، فمن ترك القبلة متعمّدًا، فلا صلاة له، ومن لا صلاة له، فلا دين له. (ومنها): أن استقبال القبلة شرط للصلاة مطلقًا، إلا في حالة الخوف، لأدلة أخرى. (ومنها): أن من جملة الشواهد على إسلام الشخص أكل ذبيحة المسلمين، وذلك لأن طوائف من الكتابيين، والوثنيين يتحرّجون من أكل ذبائح المسلمين. (ومنها): أن من دخل في الإسلام له من الحقوق ما للمسلمين، وعليه من الواجبات ما عليهم؛ لقوله في الرواية التالية:"لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3968 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ نُعَيْمٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حِبَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا شَهِدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا، وَأَكَلُوا ذَبِيحَتَنَا، وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ، وَأَمْوَالُهُمْ، إِلاَّ بِحَقِّهَا، لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه

ص: 228

من أفراده، وهو مروزيّ ثقة. و"حِبّان" -بالكسر-: هو ابن موسى المروزيّ. و"عبد اللَّه": هو ابن المبارك.

[تنبيه]: "حميد الطويل" هكذا وقع في النسخة الهنديّة، و"الكبرى"، وهو الصواب، ووقع في النسخ المطبوعة:"حميد ابن الطويل"، وهو غلطٌ لأن الطويل صفة لِحُميد، لا لوالده، وإنما قيل له ذلك؛ لطول في يديه، وقيل: لأنه كان له جارٌ اسمه حميد، وكان قصيرًا، ففرّقوا بينهما بوصف هذا بالطويل، وذاك بالقصير. قال الأصمعيّ: رأيت حميدًا، ولم يكن بطويل، ولكن كان طويل اليدين، وكان قصيرًا، لم يكن بذاك الطويل، ولكن كان له جارٌ، يقال له: حُميد القصير، فقيل: حُميد الطويل؛ ليُعرف من الآخر. انتهى. وقال النوويّ في "تهذيب الأسماء": كان حميدٌ لطول يديه يقف عند البيت، فتصل إحدى يديه رأسه، والأخرى رجديه. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث أخرجه البخاريّ، وقد سبق شرحه، وبيان مسائله في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3969 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حُمَيْدٌ، قَالَ: سَأَلَ مَيْمُونُ بْنُ سِيَاهٍ، أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، قَالَ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، مَا يُحَرِّمُ دَمَ الْمُسْلِمِ وَمَالَهُ؟ فَقَالَ: مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَصَلَّى صَلَاتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَهُوَ مُسْلِمٌ، لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ).

قال الجامع عفا اللَّه تَعالى عنه: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا، غير:

1 -

(ميمون بن سِياهٍ) -بكسر المهملة، بعدها تحتانيّةٌ- أبي بحرٍ البصريّ، صدوق عابد يُخطىء [4].

قال أبو حاتم: ثقة. وقال حمزة، عن الدارقطنيّ: يُحتجّ به. وقال مسلم بن إبراهيم، عن سلّام بن مسكين: ميمون بن سياهٍ سيّد القرّاء. وقال الحسن بن سفيان: يقال: إنه سيّد القرّاء. وقال سعيد بن عامر، عن حَزْم القُطَعيّ: كان لا يغتاب أحدًا، ولا يَدَعُ أحدًا يَغتاب عنده. وقال الدُّوريّ، عن يحيى بن معين: ضعيف. وقال أبو داود: ليس بذاك. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: يُخطىء، ويُخالف، ثم أعاد ذكره في "الضعفاء"، فقال: ينفرد بالمناكير عن المشاهير، لا يُحتجّ به إذا انفرد. وقال يعقوب بن سفيان: ضعيف. وقال كَهْمَس: كان ميمون أسنّ من الحسن البصريّ. تفرّد به

(1)

راجع هامش "خلاصة الخزرجيّ" ص94.

ص: 229

البخاريُّ، والمصنّف، وله عندهما حديث أنس رضي الله عنه المذكور، وقد أعاد المصنّف الحديث في "كتاب الإيمان" برقم 9/ 4998.

والحديث أخرجه البخاريّ، كما سبق بيانه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3970 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ أَبُو الْعَوَّامِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، كَيْفَ تُقَاتِلُ الْعَرَبَ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ، حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ» ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا، مِمَّا كَانُوا يُعْطُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ، قَالَ عُمَرُ: فَلَمَّا رَأَيْتُ رَأْىَ أَبِي بَكْرٍ قَدْ شُرِحَ، عَلِمْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عمرو بن عاصم": هو الكلابيّ القيسيّ، أبو عثمان البصريّ، صدوق، في حفظه شيء، من صغار [9] 17/ 1552. و"عمران أبو الْعَوَّام": هو ابن دَاور القطّان البصريّ، صدوقٌ يَهِم، ورُمي برأي الخوارج [7] 9/ 466. و"معمر": هو ابن راشد.

وقوله: "تُوُفّي الخ" بالبناء للمفعول. وقوله: "عناقًا" بفتح المهملة، بوزن سحاب: هي الأنثى من ولد العز، وهي ليست من سن الزكاة، فإما هو للمبالغة، أو مبنيّ على أن من عنده أربعون سَخْلةٌ يجب عليه واحدة منها، وأن حول الأمهات حول للنتاج، فلا يُستأنف لها حول.

وفي الروايات الآتية: "عِقَالًا"،-بالكسر- بدل "عَنَاقًا"، قيل: أراد به الحبل الذي يُعقل به البعير، وقيل: غير ذلك، مما سبق بيانه في "كتاب الزكاة".

وقوله: "فلما رأيت رأي أبي بكر قد شُرح الخ" هو بمعنى قوله الآتي: "رأيت اللَّه قد شَرَحَ صدرَ أبي بكر الخ"، أطلق الرأي على الصدر؛ لأن الرأي يصدُرُ من القلب الذي محلّه الصدر.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث تقدّم في "كتاب الزكاة" رقم 3/ 2444 - من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وتقدم شرحه، وبيان مسائله هناك، وكذا سبق في "كتاب الجهاد" برقم 1/ 3094 من حديث أنس رضي الله عنه بسند الباب ومتنه، وتقدّم أن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، قال: "عمران القطّان ليس بالقويّ في الحديث، وهذا الحديث خطأٌ، والذي قبله هو الصواب، حديثُ الزهريّ، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، عن أبي هريرة رضي الله عنه. انتهى.

ص: 230

والحاصل أن الحديث بهذا السند لا يصحّ؛ لما ذُكر، وأما متنه، فهو صحيحٌ متّفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، كما سيسوقه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بطرقه المختلفة بعد هذا، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3971 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، قَالَ عُمَرُ لأَبِى بَكْرٍ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ، حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ، إِلاَّ بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ».، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالاً، كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ، قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ، مَا هُوَ إِلاَّ أَنِّي رَأَيْتُ اللَّهَ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

وقوله: "لَمّا توفّي" بالبناء للمفعول، وكذا قوله:"استُخلف". وقوله: "كيف تقاتل الناس" أي الذين امتنعوا عن أداء الزكاة.

وقوله: "إلا بحقه" الضمير لما ذُكر من المال، والنفس، أفرده باعتبار المذكور.

والحديث متّفقٌ عليه، وتقدّم شرحه، وبيان مسائله في "كتاب الزكاة" -3/ 2443 - والحمد للَّه، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3972 -

(أَخْبَرَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ، حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ، فَلَمَّا كَانَتِ الرِّدَّةُ، قَالَ عُمَرُ لأَبِى بَكْرٍ: أَتُقَاتِلُهُمْ، وَقَدْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ كَذَا وَكَذَا؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أُفَرِّقُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَلأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، فَقَاتَلْنَا مَعَهُ، فَرَأَيْنَا ذَلِكَ رُشْدًا.

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سُفْيَانُ فِي الزُّهْرِيِّ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَهُوَ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "زياد بن أيوب": هو الحافظ البغداديّ المعروف بدلّويه.

ص: 231

و"محمد بن يزيد" الكَلَاعيّ مولى خَوْلان، أبو سعيد، أو أبو يزيد، أو أبو إسحاق الواسطيّ، شاميّ الأصل، ثقة ثبتٌ عابد، من كبار [9].

قال أحمد بن حنبل: كان ثبتًا في الحديث، وكان يزيد -يعني ابن هارون- إذا قيل له في الحديث: هو في كتاب محمد بن يزيد كذا كأنه يخاف يتوقّاه. ووثقه ابن معين، وأبو داود، والنسائيّ. وقال نُعيم بن حماد: سمعت وكيعًا يقول: إن كان أحدٌ من الأبدال فهو محمد بن يزيد الواسطيّ. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال عليّ بن حُجْر: نِعْم الشيخُ كان. وقال أسلم في "تاريخ واسط": كان يقال: إنه مستجاب الدعوة، أخبرني تميم -يعني ابن المنتصر- أنه توفي سنة (190). وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مات سنة (188) وفيها أرّخه ابن سعد، وقال: كان ثقة. وقال ابن حبّان مرّة: مات سنة تسعين، ويقال: سنة تسع وثمانين، وقال مطين: مات سنة (191) وقال ابن قانع: سنة (188) وقالوا: سنة (192). روى له أبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث، وحديث آخر في "كتاب الإيمان" برقم -82/ 5295 - حديث أبي الأحوص: دخلت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فرآني سيء الهيئة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"هل لك من شيء؟ "، قال: نعم من كلّ المال قد آتاني اللَّه، فقال:"إذا كان مالٌ، فليُرَ عليك".

و"سفيان": هو ابن حُسين الواسطيّ، ثقة في غير الزهريّ باتفاقهم [7] 41/ 176.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في "كتاب الزكاة" -3/ 2443. فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

وقوله: (قَالَ: أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ: سُفْيَانُ فِي الزُّهْرِيّ، لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَهُوَ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ).

يعني أن سفيان بن حسين، وإن كان ثقة، إلا أنه ضعيف في روايته عن الزهريّ خاصّة، وهذا الذي قاله المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- وافقه عليه غيره، فقالوا: ثقة بالاتفاق في غير الزهريّ، كما أسلفته آنفًا.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ظاهر تصرّف المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- يدلّ على أنه يرجّح كونه الحديث من مسند أبي هريرة رضي الله عنه، كما هو رواية يونس عن الزهريّ، حيث ضعّف سفيان بن حسين في الزهريّ، وأتبعه برواية يونس، عن الزهريّ، عن ابن المسيّب، عن أبي هريرة ن رضي الله عنه: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

" الحديث.

لكن سفيان بن حسين لم ينفرد بهذا لحديث، بل تابعه عليه غيره من ثقات أصحاب الزهريّ، فقد تابعه شعيب بن أبي حمزة عند البخاريّ، وكذا عند المصنّف في روايته

ص: 232

الآتية قريبًا، وتابعه أيضًا عقيل بن خالد عند البخاريّ، بل أكثر الرواة يوافقون سفيان بن حسين في هذا.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: ما ملخّصه: رواه الأكثر عن الزهريّ بهذا السند على أنه من رواية أبي هريرة، عن عمر، وعن أبي بكر رضي الله عنهما. وقال يونس بن يزيد عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيّب أن أبا هريرة أخبره أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أمرتُ أن أقاتل الناس

" الحديث، فساقه على أنه في مسند أبي هريرة رضي الله عنه ، ولم يذكر أبا بكر، ولا عمر، أخرجه مسلم. وهو محمولٌ على أن أبا هريرة رضي الله عنه سمع أصل الحديث من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وحضر مناظرة أبي بكر وعمر، فقصّها كما هي، ويؤيّده أنه جاء عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بلا واسطة من طرُق، فأخرجه مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، ومن طريق أبي صالح ذكوان كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه ابن خزيمة من طريق أبي العنبس سعيد بن كثير بن عُبيد، عن أبيه، وأخرجه أحمد من طريق همّام بن منبّه، ورواه مالك خارج "الموطّإ" عن أبي الزناد، عن الأعرج، وذكره ابن منده في "كتاب الإيمان" من رواية عبد الرحمن بن أبي عمرة، كلّهم عن أبي هريرة رضي الله عنه. ورواه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أيضًا ابن عمر، عند البخاريّ، وجابر، وطارق الأشجعيّ، عند مسلم، وأخرجه أبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ من حديث أنس، وأصله عند البخاريّ، وأخرجه الطبريّ من وجه آخر عن أنس، وهو عند ابن خزيمة من وجه آخر عنه، لكن قال: "عن أنس، عن أبي بكر"، وأخرجه النسائيّ، والبزّار من حديث النعمان بن بشير، وأخرجه النسائيّ من حديث أوس رضي الله عنه، وأخرجه الطبريّ من حديث سهل بن سعد، وابنِ عبّاس، وجرير البجليّ، وفي الأوسط من حديث سمرة رضي الله عنهم. انتهى كلام الحافظ بزيادة

(1)

.

والحاصل أن كون حديث أبي هريرة رضي الله عنه، من مسند أبي بكر وعمر رضي الله عنهما هو رواية أكثر الرواة عن أبي هريرة رضي الله عنه، وكونه من مسنده أيضًا صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3973 -

قَالَ: الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ، حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ، إِلاَّ بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ عز وجل» . جَمَعَ

(1)

"فتح" 14/ 278 - 279.

ص: 233

شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، وهو مصريّ ثقة فقيه حافظ.

وغرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بيان مخالفة يونس لسفيان بن حسين في روايته لهذا الحديث، حيث جعله من مسند أبي هريرة رضي الله عنه، وقد سبق الجواب عن هذا في الحديث الذي قبله، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

وقوله (جَمَعَ شُعَيْبُ بْنُ أَبي حَمْزَةَ الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا) أي روى حديثي الزهريّ المذكورين، حديثه عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، عن أبي هريرة رضي الله عنه بقصّة عمر مع أبي بكر رضي الله عنهما، وحديثه عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه من مسنده" لكن مراده بالجمع رواية الحديثين، لا أنه جمعهما بسند واحد، كما يتبيّن من صنيعه، فإنه أخرج كلّا من الروايتين بإسنادين منفصلين، فقد ساق الرواية الأولى بقوله:

3974 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، قَالَ عُمَرُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ، حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ، إِلاَّ بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ عز وجل» ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، فَوَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا، كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا، قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ، إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: (أحمد بن محمد بن المغيرة): هو الأزديّ الحمصيّ، صدوقٌ [11] 69/ 85 من أفراد المصنّف. و"عثمان": هو ابن سعيد بن كثير بن دينار القرشيّ مولاهم، أبو عمرو الحمصيّ، ثقة عابد [9] 69/ 85. والباقون من رجال الصحيح، و "شعيب": هو ابن أبي حمزة الحمصيّ.

وقوله: "وكان أبو بكر الخ""كان" هنا تامّة، أي حصل ووُجد، أو هي ناقصة، وخبرها محذوف، أي خليفةً، ويدلّ لهذا الرواية الأخرى بلفظ:"واستُخلف أبو بكر".

وقوله: "ما هو الخ" أي ليس سبب رجوعي إلى رأي أبي بكر رضي الله عنه إلا لرؤيتي شرح اللَّه سبحانه وتعالى صدر أبي بكر رضي الله عنه لإصابة الحقّ في قتال المرتدّين، فرجعت إلى الحقّ. والحديث متَّفَقٌ عليه، كما سبق قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 234

ثم ساق الرواية الثانية لشُعيب بقوله:

3975 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ، حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي نَفْسَهُ وَمَالَهُ، إِلاَّ بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ. خَالَفَهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ).

الحديث متّفقٌ عليه، كما سبق آنفًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله (خَالَفَهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ) يعني أن الوليد بن مسلم الدمشقيّ خالف عثمان بن سعيد في روايته لهذا الحديث، عن شعيب بن أبي حمزة، فجعله عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه بقصّة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

وحاصل الخلاف بينهما أن عثمان بن سعيد رواه عن شعيب، فجعل الحديث عن الزهريّ، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، عن أبي هريرة بالقصّة المذكورة، فجعله من مسند عمر رضي الله عنه، ورواه عن شعيب عن الزهريّ، عن ابن المسيّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه من مسنده، وأما الوليد فرواه عن شعيب، عن الزهريّ، عن ابن المسيّب، عن أبي هريرة، من مسند عمر رضي الله عنه، لكن الوليد وإن كان ثقة، إلا أنه مشهور بتدليس التسوية، فهو وإن صرّح هنا بالتحديث عن شيوخه، فربما دلّس على من فوقهم، فلا تعارض روايته رواية عثمان بن سعيد المذكورة.

هذا كلّه بالنسبة للإسناد، وأما المتن فقد تقدّم أنه صحيح من مسند أبي هريرة رضي الله عنه، ومن مسند عمر رضي الله عنه، فأبو هريرة رضي الله عنه سمع أصل الحديث من النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم حضر واقعة أبي بكر وعمر رضي الله عنهم، فرواه مع قصّتهما. ثم ساق رواية الوليد، فقال:

3976 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنِي شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَذَكَرَ آخَرَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: فَأَجْمَعَ أَبُو بَكْرٍ لِقِتَالِهِمْ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ؟ ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ، حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إِلاَّ بِحَقِّهَا» ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا، كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا، قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ، إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِقِتَالِهِمْ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن سليمان": هو الرُّهاويّ الحافظ، من أفراد

ص: 235

المصنّف. و"مؤمّل -بوزن محمد- ابن الفضل": هو أبو سعيد الْجَزَريّ، صدوق [10] 1/ 3093.

وقوله: "وذكر آخر" لم أعرفه. وقوله: "فأجمع أبو بكر الخ" بقطع الهمزة، بمعنى عزم، يقال: أجمعت المسيرَ والأمر، وأجمعت عليه، يتعدّى بنفسه، وبالحرف: إذا عزمتَ عليه. أفاده الفيّوميّ.

والكلام مرتّبٌ على محذوف، تدلّ عليه الروايات الأخرى، أي ارتدّ بعض القبائل في خلافة أبى بكر رضي الله عنه، ومنعوا الزكاة، فأجمع الخ. والحديث متّفقٌ عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3977 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ح وَأَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ، حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا، مَنَعُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عز وجل»).

"محمد بن عبد اللَّه بن المبارك": هو الْمُخَرِّميّ، أبو جعفر البغداديّ الثقة الحافظ [11] 43/ 50.

و"أحمد بن حرب": هو الطائيّ الموصليّ، صدوق [10] 102/ 135 من أفراد المصنّف.

[تنبيه]: وقعِ في النسخ المطبوعة من "المجتبى"، و"الكبرى""محمد بن حرب"، وهو غلط فاحشٌ، والصواب "أحمد بن حرب"، وهو الذي في النسخة الهنديّة، و"تحفة الأشراف" 9/ 377.

و"أبو معاوية"؛ هو محمد بن خازم الضرير الكوفيّ الحافظ الثبت، أحفظ من روى عن الأعمش. و"أبو صالح": هو ذكون السمّان الزيّات.

والحديث متّفقٌ عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3978 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ، حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا مَنَعُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

ص: 236

و "إسحاق": هو ابن راهويه. و"يعلى بن عُبيد": هو الطنافسيّ، أبو يوسف الكوفيّ، ثقة، إلا في حديثه عن الثوريّ، ففيه ليّن، من كبار [9] 105/ 140. و"أبو سفيان": هو طلحة بن نافع الواسطيّ الإسكاف، نزيل مكّة، صدوقٌ [4] 21/ 3823.

وقوله: "وعن أبي صالح" عطف على أبي سفيان، فالأعمش يروي الحديث بالطريقين: طريق أبي سفيان، عن جابر رضي الله عنه، وطريقِ أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

والحديث أخرجه مسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3979 -

(أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «نُقَاتِلُ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "القاسم بن زكريّا بن دينار": هو أبو محمد الكوفيّ الطحان، ثقة [11] 8/ 410. و"عُبيد اللَّه بن موسىى": هو العبسيّ الكوفيّ. و"شيبان": هو ابن عبد الرحمن النحويّ. و"عاصم": هو ابن أبي النَّجُود.

و"زياد بن قيس" القرشيّ مولاهم المدنيّ مقبول [3].

روى عن أبي هريرة رضي الله عنه، وعنه عاصم بن بَهْدَلة. ذكره ابن حبّان في "الثقات". تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

والحديث صحيح؛ لشواهده التي تقدّمت. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3980 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ رَجُلٌ، فَسَارَّهُ، فَقَالَ: «اقْتُلُوهُ» ، ثُمَّ قَالَ: «أَيَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟» ، قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنَّمَا يَقُولُهَا تَعَوُّذًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقْتُلُوهُ، فَإِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ، حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"الأسود بن عامر": هو أبو عبد الرحمن الشاميّ، نزيل بغداد، الملقّب بشاذان، ثقة [9] 7/ 407.

و"إسرائيل": هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعيّ، أبو يوسف الكوفيّ، ثقة [7]

ص: 237

75/ 1006. و"سماك": هو ابن حرب بن أوس بن خالد الذهليّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوق، وقد تغيّر بآخره، فكان ربّما يتلقّن [4] 2/ 325.

و"النعمان بن بَشِير": هو الصحابيّ ابن الصحابيّ الأنصاريّ الْخزرجيّ، سكن الشام، ثم ولي إمرة الكوفة، ثم قُتل بحمص سنة (65) وله (64) سنة رضي الله عنه.

وقوله: "سارّه" أي تكلم معه سرًّا. وقوله: "فقال: اقتلوه" قال السنديّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: الضمير لمن تكلّم فيه السارُّ، وهو الظاهر، أو للسّارّ، وكأنه تكلّم بكلام عَلِمَ منه رضي الله عنه أنه ما دخل الإيمان في قلبه، فأراد قتله، ثم رجع إلى تركه حين تفكّر في إسلامه، أي إظهاره الإيمان ظاهرًا، إذ مدار العصمة عليه، لا على الإيمان الباطنيّ. وظاهر هذا التقدير يقتضي أنه قد يجتهد في الحكم الجزئيّ، فيخطىء في المناط، نعم لا يقرّ عليه، ولا يقضي الحكم بالنظر إليه، بل يوقف للرجوع من ساعته إلى درك المناط، والحكم به، ولا يخفى بُعده. والأقرب أن يقال: إنه قد أُذن له في العمل بالباطن، فأراد أن يعمل به، ثم ترجّح عنده العمل بالظاهر؛ لكونه أعمّ، وأشمل له، ولأمته، فمال إليه، وترك العمل بالباطن، وبعض الأحاديث يشهد لذلك، وعلى هذا فقوله:"إنما أُمرت"، أي وجوبًا، وإلا فأُذن له في القتل بالنظر إلى الباطن. واللَّه تعالى أعلم. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "أو للسّارّ" فيه نظر لا يخفى، إذ يردّه قوله في الرواية الآتية-3983 - :" فجاء رجلٌ، فسارّه، فقال: اذهب، فاقتله"، فإنه لا شكّ أن الخطاب للسّارّ، فيكون المقتول غيره، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "قال: نعم" أي قال السارّ، أو من توجّه إليه بالسؤال. قاله السنديّ. قال الجامع: فيه ما تقدّم، فالصواب أن القائل هو السارّ، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: جعل المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في "الكبرى" هذه الرواية خطأ، وصوّب التالية: ونصه: قال أبو عبد الرحمن: حديث الأسود بن عامر هذا خطأ، والصواب الذي بعده. انتهى.

يعني أن كون الحديث عن النعمان بن بشير - رضي اللَّه تعالى عنهما - خطأٌ، وإنما الصواب كونه عن النعمان بن سالم، عن رجل. وإنما خطّأ المصنّف الأسود في هذا لمخالفته لعبيد اللَّه بن موسى، فإنه رواه عن إسرائيل، عن النعمان بن سالم، عن رجل، وروايته توافق رواية زهير بن معاوية، وشعبة، فإنهما روياه عن سماك، عن النعمان بن سالم، عن أوس بن أبي أوس. وكذلك رواية حاتم بن أبي صغيرة، فإنه رواه عن النعمان بن سالم، عن عمرو بن أوس، عن أبيه، فحكم المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- على

ص: 238

رواية الأسود بن عامر بكونها خطأ؛ لما ذُكر

(1)

.

والحديث قد عرفت الكلام فيه آنفًا، وأن الصواب كونه من مسند أوس بن أوس الثقفي رضي الله عنه، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا- 1/ 3980 - وفي "الكبرى" 1/ 3441. وأخرجه البزّار في "مسنده"، كما عزاه إليه الحافظ في "الفتح"، ولم يعزه إلى المصنّف، وكان هو الأولى. واللَّه تعالى أعلم.

ثم أورد -رحمه اللَّه تعالى- ما أشار إلى أنه الصواب، فقال:

3981 -

قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ رَجُلٍ حَدَّثَهُ، قَالَ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ فِي قُبَّةٍ، فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَقَالَ فِيهِ: «إِنَّهُ أُوحِىَ إِلَيَّ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ، حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ

» ، نَحْوَهُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا في رواية "المجتبى"، معلّقًا بقوله:"قال عُبيد اللَّه"، وهو ابن موسى بن أبي الْمختار باذام العبسيّ الكوفيّ المذكور في السند الماضي. وأورده في بعض نسخ "الكبرى" موصولًا، فقال: "أخبرنا أحمد بن سليمان، قال: ثنا عبيد اللَّه، حدّثنا إسرائيل

" الخ، وهذا هو الذي اعتمد عليه في "تحفة الأشراف"، فذكره موصولاً، ولم يُشر إلى كونه معلّقًا.

و"أحمد بن سليمان" شيخه هو المذكور قبل أربعة أحاديث. و"النعمان بن سالم": هو الطائفيّ، ثقة [4] 67/ 83.

وقوله: "نحوه" أي روى عُبيد اللَّه نحو حديث الأسود المذكور.

والحديث صحيح من هذا الوجه، كما سبق بيانه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3982 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَعْيَنَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سِمَاكٌ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَوْسًا يَقُولُ، دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ فِي قُبَّةٍ

) وَسَاقَ الْحَدِيثَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الحسن بن محمد بن أَعْيَنَ": هو أبو عليّ الْحرّانيّ، صدوق [9] 16/ 649. و"زُهير": هو ابن معاوية بن حُديج الجعفيّ، أبو خيثمة الكوفيّ الثقة الثبت [7] 34/ 42.

(1)

صحح الحديث بهذا السند الشيخ الألبانيّ في "صحيح النسائيّ" 3/ 837 وفي "سلسلته الصحيحة" 1/ 696. نظرًا لصحة السند، ولم يلتفت إلى إعلال المصنف له، لكن الذي يظهر أن العلة التي أظهرها المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- مانعة من الحكم بصحّته من حديث النعمان بن بشير، وإنما هو من حديث أوس بن أوس الثقفيّ رضي الله عنه، كما رواه الجماعة. فليُتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 239

و"أوس": هو ابن أبي أوس، واسم أبي أوس حذيفة الثقفيّ الصحابيّ رضي الله عنه تقدّم في 67/ 83.

وقوله: "وساق الحديث" الضمير لزهير، أي ساق زهير الحديث المذكور بتمامه.

والحديث صحيح من هذا الوجه، كما مرّ آنفًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3983 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَوْسًا، يَقُولُ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ، فَكُنْتُ مَعَهُ فِي قُبَّةٍ، فَنَامَ مَنْ كَانَ فِي الْقُبَّةِ، غَيْرِي وَغَيْرُهُ، فَجَاءَ رَجُلٌ، فَسَارَّهُ، فَقَالَ:«اذْهَبْ، فَاقْتُلْهُ» ، فَقَالَ:«أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟» ، قَالَ: يَشْهَدُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«ذَرْهُ» ، ثُمَّ قَالَ:«أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ، حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا، حَرُمَتْ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، إِلاَّ بِحَقِّهَا» .

قَالَ مُحَمَّدٌ: فَقُلْتُ لِشُعْبَةَ، أَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ:«أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟» ، قَالَ: أَظُنُّهَا مَعَهَا، وَلَا أَدْرِي).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد": هو ابن جعفر المعروف بغندر. وقوله: "ذَرْه" -بفتح الذال المعجمة، وسكون الراء -أي اتركه. وقوله:"قال محمد الخ": هو ابن جعفر غندر، وإنما سأله تثبّتًا، فأجابه شعبة بظنه أنه في الحديث، ولكن لا يدري يقينًا.

والحديث صحيح، أخرجه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- هنا - 1/ 3983 - وفي "الكبرى" 1/ 3444. وأخرجه (ق) في "الفتن" 3929 (أحمد) في "مسند المدنيين" 15727 (الدارمي) في "السير" 2446. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3984 -

(أَخْبَرَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ أَوْسٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ أَوْسًا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، ثُمَّ تَحْرُمُ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، إِلاَّ بِحَقِّهَا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "هارون بن عبد اللَّه": هو الحمّال البغداديّ الحافظ. و"عبد اللَّه بن بكر": هو السهميّ الباهليّ، أبو وهب البصريّ، نزيل بغداد، ثقة حافظ [9] 55/ 3532.

و"حاتم بن أبي صغيرة": هو أبو يونس البصريّ، واسم أبي صغيرة مسلم، جدّه لأمه، أو زوج أمه، ثقة [6] 66/ 1800. و "عمرو بن أوس": هو الثقفيّ الطائفيّ،

ص: 240

تابعيّ كبير ذكره ابن حبّان في "الثقات"، ووهم من ذكره في الصحابة [2] 17/ 653.

والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3985 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، عَنْ ثَوْرٍ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ، يَخْطُبُ، وَكَانَ قَلِيلَ الْحَدِيثِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَخْطُبُ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَهُ، إِلاَّ الرَّجُلُ يَقْتُلُ الْمُؤْمِنَ، مُتَعَمِّدًا، أَوِ الرَّجُلُ يَمُوتُ كَافِرًا»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن المثنّى) العنزيّ الزَّمِنُ أبو موسى البصريّ، ثقة ثبت [10] 64/ 80.

2 -

(صفوان بن عيسى) الزهريّ، أبو محمد القسّام البصريّ، ثقة [9] 37/ 1272.

3 -

(ثور) بن يزيد، أبو خالد الحمصيّ ثقة ثبت، رمي بالقدر [7] 7/ 504.

4 -

(أبو عون) الأعور الأنصاريّ الشاميّ، اسمه عبد اللَّه بن أبي عبد اللَّه، مقبول [5].

روى عن أبي إدريس الخولانيّ، وعنه ثور بن يزيد، وأرطاة بن المنذر. ذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال الحاكم أبو أحمد: أبو عون عبد اللَّه الشاميّ الأعور، سمّاه أحمد بن عُمير، روى عن أبي إدريس، وسعيد بن المسيّب، ويقال: إن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم روى عنه. انتهى. وكذا ذكر مسلم في الرواة عنه ابن حَزْم. وذكر ابن عبد البرّ في "الكنى": أنه روى عن عثمان مرسلاً، وزاد في الرواة عنه الزُّبَيديّ. تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

5 -

(أبو إدريس) عائذ اللَّه بن عبد اللَّه، الخَوْلانيّ الشاميّ، وُلد في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم حُنين، وسمع من كبار الصحابة، ومات سنة (80)، قال سعيد بن عبد العزيز: كان عالم الشام بعد أبي الدّرداء رضي الله عنه، تقدّم في 72/ 80

6 -

(معاوية) بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية الأمويّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، أسلم قبل الفتح، وكتبَ الوحي للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ومات في رجب سنة (60)، وقد قارب (80)، تقدّم في 286/ 394. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح، غير أبي عون، فإنه من أفراد المصنّف، كما مرّ آنفًا. (ومنها): أنه مسلسل بالشاميين، غير شيخه، وعيسى بن صفوان، فبصريان. (ومنها): أن فيه رواية

ص: 241

تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ) الخولانيّ -رحمه اللَّه تعالى-، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ) بن أبي سفيان - رضي اللَّه تعالى عنهما - (يَخْطُبُ) جملة حالية في محلّ نصب (وَكَانَ قَلِيلَ الْحَدِيثِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي كان معاوية رضي الله عنه ممن لا يُكثر الرواية عنه صلى الله عليه وسلم؛ إما لكونه مشغولا بأمر الخلافة، أو لغير ذلك (قَالَ: سَمِعتُهُ يَخْطُبُ) فاعل "قال" ضمير معاوية رضي الله عنه، فالجملة مؤكّدة لما قبلها (يَقُولُ: سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَهُ، إِلَّا الرَّجُلُ) أي إلا ذنب الرجل، فالكلام على حذف مضاف (يَقْتُلُ الْمُؤمِنَ، مُتَعَمِّدًا، أَوِ الرَّجُلُ) أي أو إلا ذنب الرجل (يَمُوتُ كَافِرًا) هذا الحديث بظاهره يعارض قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية. فلا بدّ من تأويله، فقال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: وكأن المراد كلّ ذنب تُرجى مغفرته ابتداءً، إلا قتل المؤمن، فإنه لا يُغفر بلا سبق عقوبة، وإلا الكفر، فإنه لا يُغفر أصلاً، ولو حُمل على القتل مستحلًّا لا يبقى المقابلة بينه وبين الكفر، ثم لا بُد من حمله على ما إذا لم يتب، وإلا فالتائب من الذنب، كمن لا ذنب له، كيف، وقد يدخل القاتل والمقتول الجنّة معًا، كما إذا قتله، وهو كافر، ثم آمن، وقُتل. انتهى.

وحمل المناويّ تبعًا لغيره الحديث على ما إذا استحلّ، وإلا فهو تهويلٌ وتغليظ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله السنديّ أقرب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث معاوية - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، أخرجه هنا- 1/ 3985 - وفي "الكبرى" 1/ 3446. وأخرجه (أحمد) في "مسند الشاميين" 16464. (الحاكم) في "المستدرك"، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبيّ.

[تنبيه]: أخرج أبو داود -رحمه اللَّه تعالى- هذا الحديث في "سننه" من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، فقال:

حدثنا مؤمل بن الفضل الحرّاني، حدثنا محمد بن شعيب، عن خالد بن دِهْقان، قال: كنا في غزوة القُسطنطينية، بِذُلُقْيَةَ، فأقبل رجل من أهل فلسطين، من أشرافهم وخيارهم، يَعرِفون ذلك له، يقال له: هانئ بن كُلثوم بن شريك الكناني، فسلم

ص: 242

على عبد اللَّه بن أبي زكريا، وكان يعرف له حقّه، قال لنا خالد: فحدثنا عبد اللَّه بن أبي زكريا، قال. سمعت أم الدرداء، تقول: سمعت أبا الدرداء، يقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول:"كلُّ ذنب عسى اللَّه أن يغفره، إلا من مات مشركا، أو مؤمنٌ قتل مؤمنا متعمدا". وهو حديث صحيح، ورجاله كلهم ثقات، وخالد بن دهقان وثّقه أبو مسهر، وأبو زرعة الدمشقيّ، ودُحَيم، وغيرهم، فقول الحافظ في "التقريب": مقبول غير مقبول. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة الثانية): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان تحريم دم المسلم.

(ومنها): تعظيم شأن قتل المسلم، وسيعقد له المصنّف بعد هذا بابًا مستقلًا (ومنها): سعة رحمة اللَّه تعالى، حيث يغفر الذنوب جميعًا، إلا المستثنى. (ومنها): تعظيم شأن الشرك باللَّه تعالى، وأن من مات مشركًا، لا يُرجى له العفو، كما قال اللَّه عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الآية [النساء: 48]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3986 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ

(1)

، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا، إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ، كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ» ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلّاس البصريّ، ثقة ثبت [10] 4/ 4.

2 -

(عبد الرحمن) بن مهديّ بن حسّان البصريّ، ثقة ثبت حجة [9] 42/ 49.

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوريّ

(2)

الكوفيّ، ثقة ثبت إمام [7] 33/ 37.

4 -

(الأعمش) سليمان بن مهران الكوفي، ثقة ثبت يدلس [5] 17/ 18.

5 -

(عبد اللَّه بن مُرّة) الهمدانيّ الخارفيّ الكوفيّ، ثقة [3] 17/ 1860.

[تنبيه]: وقع في كثير من نسخ "المجتبى"، و"الكبرى":"عبد الرحمن بن مرّة"،

(1)

وفي رواية حفص بن غياث عن الأعمش: "حدّثني عبد اللَّه بن مرّة". فصرّح بالتحديث. قاله في "الفتح" 14/ 173.

(2)

وأخرج البخاريّ الحديث عن قبيصة، عن سفيان، عن الأعمش الخ، فقال في "الفتح": سفيان هو الثوريّ، ويخمل أن يكون ابن عُيينة، فسيأتي في "الاعتصام" من رواية الحميديّ عنه: حدثنا الأعمش. انتهى. قلت: لكن الذي يترجّح عندي في سند المصنّف أنه الثوريّ؛ لأن عبد الرحمن ابن مهديّ من كبار الآخذين عن الثوريّ، فإذا أطلقه فهو الثوريّ. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 243

وهو غلطٌ، والصواب "عبد اللَّه بن مرّة"، كما هو في النسخة الهنديّة، و"تحفة الأشراف" 7/ 143 - 144. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

6 -

(مسروق) بن الأجدع بن مالك الهمدنيّ، أبو عائشة الكوفيّ، مخضرم ثقة فقيه عابد [2] 90/ 112.

7 -

(عبد اللَّه) بن مسعود الهذليّ الصحابيّ الشهير - رضي اللَّه تعالى عنه - 35/ 39. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، وعبد الرحمن، فبصريّان. (ومنها): أن شيخه أحد المشايخ التسعة الذين يروي عنهم الجماعة بلا واسطة. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن عبد اللَّه بن مُرّة، عن مسروق. (ومنها). أن فيه "عبد اللَّه" مهملًا، والقاعد أنه إذا أطلق عند الكوفيين فإنه ابن مسعود رضي الله عنه، كما تقدّم غير مرّة، قال الحافظ السيوطيّ في "ألفية الحديث":

وَحَيْثُمَا أُطلِقَ عَبْدُ اللَّهِ فِي

طَيْبَةَ فَابْنُ عُمَرٍ وَإِنْ يَفِي

بِمَكَّةٍ فَابْنُ الزُّبَيرِ أَوْ جَرَى

بِكُوفَةٍ فَهوَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُرَى

وَالْبَصْرَةِ الْبَحْرُ وَعِنْدَ مِصْرِ

وَالشَّامَ مَهْمَا أُطْلِقَ ابْنُ عَمْرِو

وقد تقدّم هذا غير مرّة، وإنما أعدته تذكيرًا؛ لطول العهد به. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا) وفي رواية للبخاريّ: "وليس من نفس تُقتَلُ ظلمًا". قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: يدخل فيه بحكم عمومه نفس الذمّيّ، والمعاهد، إذا قُتلا ظُلمًا؛ لأنّ نفسًا نكرة في سياق النفي، فهي للعموم. انتهى.

(إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ) بالجرّ صفة لـ "ابن"، أي الذي هو أول في القتل، ويحتمل أن يكون المراد الأول في الولادة. واللَّه أعلم.

وقال في "الفتح": وهو قابيل، عند الأكثر، وعكس القاضي جمال الدين بن واصل في "تاريخه"، فقال: اسم المقتول قابيل، اشتُقّ من قبول قربانه. وقيل: اسمه قابن بنون بدل اللام بغير ياء. وقيل: قبن مثله بغير ألف. انتهى. وقال في "الفتح" أيضًا في موضع آخر: واختُلف في اسم القاتل، فالمشهور قابيل بوزن المقتول، لكن أوله هاء. وقيل:

ص: 244

اسم المقتول قَيْن بلفظ الْحَدّاد. وقيل: قاين بزيادة ألف. وذكر السدّيّ في "تفسيره" عن مشايخه بأسانيده أن سبب قتل قابيل لأخيه هابيل أن آدم عليه السلام كان يزوج ذكر كلّ بطن من ولده بأنثى الآخر، وأن أخت قابيل كانت أحسن من أخت هابيل، فأراد قابيل أن يستأثر بأخته، فمنعه آدم، فلمّا ألحّ عليه أمرهما أن يُقربا قُربانًا، فقرب قابيل حُزْمة من زرع، وكان صاحب زرع، وقرب هابيل جذعة سمينة، وكان صاحب مواش، فنزلت نار، فأكلت قربان هابيل، دون قابيل، وكان ذلك بسبب الشرّ بيهما، وهذا هو المشهور.

ونقل الثعلبيّ بسند واهٍ عن جعفر الصادق أنه أنكر أن يكون آدم زوّج ابنا له بابنة له، وإنما زوّج قابيل جنّيّةً، وزوّج هابيل حُوريّةً، فغضب قابيل، فقال: يا بُنيّ ما فعلته إلا بأمر من اللَّه، فقرِّبا قربانًا. وهذا لا يثبت عن جابر، ولا عن غيره، ويلزم منه أن بني آدم من ذريّة إبليس؛ لأنه أبو الجنّ كلّهم، أو من ذريّة الحور العين، وليس لذلك أصلٌ، ولا شاهد. انتهى

(1)

.

وأخرج الطبريّ عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -: كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يُتصدّق عليه، إنما كان القربان يقرّبه الرجل، فمهما قُبل تنزل النار، فتأكله، وإلا فلا. وعن الحسن. لم يكونا ولدي آدم لصلبه، وإنما كانا من بني إسرائيل. أخرجه الطبريّ. ومن طريق ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، قال: كانا ولدي آدم لصلبه، وهذا هو المشهور، ويؤيّده حديث الباب لوصفه "ابنَ" بأنه الأول، أي أول ما وَلَد آدم، ويقال: إنه لم يولد في الجنّة لآدم غيره وغير توأمته، ومن ثَمّ فخر على أخيه هابيل، فقال: نحن من أولاد الجنّة، وأنتما من أولاد الأرض. ذكر ذلك ابن إسحاق في "المبتدإ". وعن الحسن: ذُكر لي أن هابيل قُتل وله عشرون سنة، ولأخيه القاتل خمس وعشرون سنة. وتفسير هابيل هبة اللَّه، ولَمّا قُتل هابيل، وحزِن عليه آدم وُلد له بعد ذلك شيث، ومعناه عطية للَّه، ومنه انتشرت ذرّية آدم. وقال الثعلبيّ: ذكر أهل العلم بالقرآن أن حوّاء وَلَدت لآدم أربعين نفسًا في عشرين بطنًا، أولهم قابيل، وأخته اقليما، وآخرهم عبد المغيث، وأمة المغيث، ثم لم يمت حتى بلغ ولده، وولد ولده أربعين ألفًا، وهلكوا كلّهم، فلم يبق بعد الطوفان إلا ذرّيّة نوح، وهو من نسل شيث، قال اللَّه تعالى:{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافّات: 77]، وكان معه في السفينة ثمانون نفسًا، وهم المشار إليهم بقوله تعالى:{وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40]، ومع ذلك فما بقي إلا نسل نوح، فتوالدوا حتى ملأوا الأرض. انتهى

(2)

.

(1)

"فتح" 7/ 13. "كتاب أحاديث الأنبياء" رقم 3335.

(2)

"فتح" 14/ 173 - 174. "كتاب الديات" رقم الحديث 6867.

ص: 245

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذه الحكايات معظمها تكون من الإسرائليّات، فالله تعالى أعلم بصحّتها.

[تنبيه]: اختُلف في كيفيّة قتله، وموضعه: فعن السدّيّ: شَدَخ رأس أخيه بحجر، فمات. وعن ابن جريج: تمثّل له إبليس، فأخذ بحجر، فشدخ به رأس طير، ففعل ذلك قابيل، وكان ذلك على جبل ثور. وقيل: على عقبة حراء. وقيل: بالهند. وقيل: بموضع المسجد الأعظم بالبصرة، وكان من شأنه في دفنه ما قصّه الله تعالى في كتابه. قاله في "الفتح".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذه الاختلافات من جنس ما قبلها، لا يُعتمد على شيء منها، إذ لا تعتمد على حجة، فلا ينبغي الركون إليها، وإنما الركون والاعتماد على ما قصّه الله في كتابه العزيز، فقط، حيث قال الله سبحانه وتعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا} إلى قوله عز وجل: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 27 - 31]. والله تعالى أعلم.

(كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا) بكسر الكاف، وسكون الفاء: النصيب، وأكثر ما يُطلق على الأجر، والضِّعْفُ على الإثم، ومنه قوله تعالى:{كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} ، ووقع على الإثم في قوله تعالى:{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} . قاله في "الفتح "(وَذَلِكَ أنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ) أي فهو متبوع في هذا الفعل، وللمتبوع نصيب من فعل تابعه، وإن لم يقصد التابع اتّباعه في الفعل.

وقال القرطبيّ -رحمه الله تعالى-: هذا نصّ على تعليل ذلك الأمر؛ لأنه لما كان أول من قتل، كان قتله ذلك تنبيهًا لمن أتى بعده، وتعليمًا له، فمن قتل كأنه اقتدى به في ذلك، فكان عليه من وزره، وهذا جارٍ في الخير والشرِّ، كما قد نصّ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"من سنّ في الإِسلام سنّة حسنة، كان له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ في الإِسلام سنّة سيّئةً كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة". رواه مسلم. قال: وبهذا الاعتبار يكون على إبليس كفلٌ من معصية كلّ من عصى بالسجود

(1)

؛ لأنه أول من عصى به. انتهى

(2)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:.

(1)

هكذا عبارة "المفهم"، ولعل الأولى:"كلّ من عصى بعدم السجود الخ"، فليُتأمل.

(2)

"المفهم" 5/ 40 - 41. "كتاب القسامة".

ص: 246

حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 1/ 3986 - وفي "الكبرى" 1/ 3447. وأخرجه (خ) في "أحاديث الأنبياء" 3335 و"الديات" 6867 و "الاعتصام بالكتاب والسنّة" 7321 (م) في "القسامة والمحاربين" 1677 (ت) في "العلم" 2673 (ق) في "الديات" 2616 (أحمد) في "مسند المكثرين" 3623 و 4081 و 4112. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان تحريم دم المسلم إلا بالحق، كما قال اللَّه تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} الآية [الإسراء: 33]. (ومنها): أن من سنّ شيئًا، كُتب له، أو عليه، وقد أخرج مسلم، وأصحاب السنن، من حديث جرير بن عبد اللَّه البجليّ رضي الله عنه: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من سنّ في الإسلام سنة حسنة، فعُمِل بها بعده، كُتِب له مثلُ أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة، فعُمل بها بعده، كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء".

وهذا محمولٌ على إذا ما لم يتب ذلك القاتل الأول من تلك المعصية؛ لأن آدم عليه السلام أول من خالف في أكل ما نُهي عنه، ولا يكون عليه شيء من أوزار من عصى بأكل ما نهُي عنه، ممن بعده بالإجماع؛ لأن آدم عليه السلام تاب من ذلك الذنب، وتاب اللَّه عليه، فصار كأن لم يَجْنِ، فإن التائب من الذنب، كمن لا ذنب له. أفاده القرطبيّ

(1)

.

(ومنها): أن هذا الحديث أصل في أن المعونة على ما لا يحلّ حرام. قاله في "الفتح"

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

(1)

"المفهم" 5/ 41. "كتاب القسامة".

(2)

"فتح" 14/ 174 "كتاب الديات".

ص: 247

‌2 - (تَعْظِيمُ الدَّمِ)

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدّالة على تعظيم شأن دم المسلم، وقد تقدّم في الباب الماضي بعض ما يدلّ على تعظيمه، قال ابن العربيّ -رحمه اللَّه تعالى-: ثبت النهي عن قتل البهيمة بغير حقّ، والوعيد في ذلك، فكيف بقتل الآدميّ، فكيف بالمسلم، فكيف بالتقيّ الصالح. انتهى

(1)

.

3987 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَالَجَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْحَرَّانِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَتْلُ مُؤْمِنٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ، مِنْ زَوَالِ الدُّنْيَا» .

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُهَاجِرِ، لَيْسَ بِالْقَوِيِّ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن معاوية بن مالج) -بميم، وجيم، واسم جدّه يزيد: هو الأنماطيّ، أبو جعفر البغداديّ، صدوقٌ ربّما وَهِم [10] 100/ 2858 من أفراد المصنّف.

2 -

(محمد بن سلمة الحَرّانيّ) الباهليّ مولاهم، ثقة [9] 191/ 306.

3 -

(ابن إسحاق) هو محمد بن إسحاق بن يسار المطّلبيّ مولاهم، أبو بكر المدنيّ، نزيل بغداد، إمام المغازي، صدوقٌ يُدلّس، ورُمي بالتشيّع والقدر، من صغار [5] 5/ 480.

4 -

(إبراهيم بن مهاجر) البجليّ الكوفيّ، صدوقٌ ليّن الحفظ [5] 68/ 992.

5 -

(إسماعيل، مولى عبد اللَّه بن عمرو) بن العاص السّهْميّ، مقبول

(2)

[3].

روى عن مولاه هذا الحديث، وعنه إبراهيم بن مهاجر. ذكره ابن حبّان في "الثقات". تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

6 -

(عبد اللَّه بن عمرو بن العاص) بن وائل بن هاشم بن سُعَيد بن سَعْد بن سَهْم السهميّ، أبو محمد، أو أبو عبد الرحمن الصحابيّ ابن الصحابيّ - رضي اللَّه تعالى عنهما - 89/ 11. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

راجع "الفتح" 14/ 168. "كتاب الديات" رقم 6863.

(2)

هذا هو الموافق لقاعدة الحافظ في "التقريب"، فيمن يُطلق عليه لفظا مقبول"، فإنه قليل الرواية" ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله، فإنه مقبول حيث يتابع، وإلا فليّن الحديث، وأما قوله فيها:"صدوق"، ففيه نظر لا يخفى. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 248

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَتْلُ مُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ) اللام لام الابتداء، دخلت على المبتدإ للتأكيد (مِنْ زَوَالِ الدُّنْيَا) قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: الكلام مسوقٌ لتعظيم القتل، وتهويل أمره، وكيفيّةُ إفادة اللفظ ذلك، هو أن الدنيا عظيمة في نفوس الخلق، فزوالها يكون عندهم عظيمًا، على قدر عظمتها، فهذا قيل: قتلُ المؤمن أعظم منه، أو الزوال أهون من قتل المؤمن يفيد الكلام من تعظيم القتل، وتهويله، وتقبيحه، وتشنيعه ما لا يحيطه الوصف، ولا يتوقّف ذلك على كون الزوال إثمًا، أو ذنبًا، حتّى يقال: إنه ليس بذنب، فكلّ ذنب من جهة كونه ذنبًا أعظم منه، فأيّ تعظيم حصل للقتل يجعله أعظم منه. وإن أُريد بالزوال الإزالة، فإزالة الدنيا يستلزم قتل المؤمنين كلّهم، فكيف يُقال: إن قتل واحد أعظم مما يستلزم قتل الكلّ، وكذا لا يتوقّف على كون الدنيا عظيمة في ذاتها، أو عند اللَّه، حتى يقال: هي لا تساوي جناح بعوضة عند اللَّه، وكلّ شيء أعظم منه، فلا فائدة في القول بأن قتل المؤمن أعظم منه. وقيل: المراد بالمؤمن الكامل الذي يكون عارفا باللَّه تعالى وصفاته، فإنه المقصود من خلق العالم؛ لكونه مظهرًا لآيات اللَّه، وأسراره، وما سواه في هذا العالم الحسّيّ من السموات والأرض مقصود لأجله، ومخلوق ليكون مسكنا له، ومحلًّا لتفكره، فصار زواله أعظم من زوال التابع. انتهى كلام السنديّ

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا القول الأخير غير صحيح؛ لأنه مخالف لإطلاق النصّ، فبأي دليل يخالفه، وما ذكره من أن العالم خُلق لأجل المؤمن الكامل، مخالف لقوله عز وجل:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} الآية [البقرة: 29]، وقوله عز وجل:{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} الآية [لقمان: 20] وقوله عز وجل: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} الآية [الجاثية: 13] إلى غير ذلك من النصوص التي بيّنت أن السموات والأرض خلقها اللَّه تعالى لخدمة بني آدم عمومًا؛ لأن الخطاب في الآيات المذكورات، وغيرها لجميعهم، لا لخصوص الكامل منهم، فمن أين له أنها خُلقت للمؤمن الكامل، فقط، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتحيّر بتقليد ذوي الاعتساف، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وقوله: (قَالَ: أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ) النسائيّ -رحمه اللَّه تعالى- (إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُهَاجِرِ، لَيْسَ

(1)

"شرح السنديّ" 7/ 82 - 83.

ص: 249

بِالْقَوِيِّ) فيه إشارة إلى تضعيف هذا الحديث؛ لأنه من روايته؛ وما قاله المصنّف نُقِلَ أيضًا عن يحيى القطّان، وغيره، ولكن قوّاه غيرهم، فقال الثوريّ، وأحمد: لا بأس به، ووثقه ابن سعد، وقال أبو داود: صالح الحديث. وفي الإسناد أيضًا شيخه إسماعيل مجهول الحال؛ لأنه لم يرو عنه غيره، وفيه عنعنة ابن إسحاق، وهو مدلسٌ، إلا أن الحديث يشهد له حديث بريدة بن الحُصيب رضي الله عنه، كما سيأتي قريبًا، فيصحّ به. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح؛ لأن حديث بريدة - رضي اللَّه تعالى عنه - يشهد له، كما سبق الكلام عليه آنفًا.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 2/ 3987 و 3988 و 3989 و 3990 - وفي "الكبرى" 2/ 3448 و 3449 و 3450 و 3451. وأخرجه (ت) في "الديات" 1395. وفوائد الحديث تُعلم مما سبق في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3988 -

(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ، مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "يحيى بن حَكيم البصريّ": هو أبو سعيد الْمُقَوِّم، ثقة حافظ عابد [10] 51/ 612.

"ابن أبي عديّ": هو محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، أبو عمرو البصريّ، ثقة [9] 122/ 175. و"يعلي بن عطاء": هو العامريّ، أو الليثيّ الطائفيّ، ثقة [4] 40/ 584.

و"عطاء" الطائفيّ، مقبول [3].

روى عن أوس بن أبي أوس، وابن عمرو بن العاص، وابن عبّاس، وأبي علقمة الهاشمي، وعنه ابنه يعلى. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال شعبة عن يعلي بن عطاء: وُلد أبي لثلاث سنين بقين من خلافة عمر. قال أبو الحسن بن القطّان: مجهول الحال، ما روى عنه غير ابنه يعلى. وتبعه الذهبيّ في "الميزان". أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب حديثان

ص: 250

فقط: هذا، وحديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - في "كتاب الاستعاذة"، مرفوعًا: "استعيذوا باللَّه من خمس

" الحديث.

والحديث صحيح، كما سبق بيانه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3989 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ يَعْلَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: "قَتْلُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ زَوَالِ الدُّنْيَا").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد": هو ابن جعفر غندر. والحديث صحيح موقوف، لكنه في حكم المرفوع. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال الإمام الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى- بعد إخراجه طريق شعبة من رواية محمد بن جعفر عنه: ما نصّه: وهذا أصحّ من حديث ابن أبي عديّ يعني المرفوع المذكور قبل هذا - قال: وهكذا روى سفيان الثوريّ، عن يعلى بن عطاء موقوفًا، وهذا أصحّ من المرفوع. انتهى.

وحاصل ما أشار إليه -رحمه اللَّه تعالى- في كلامه هذا ترجيح رواية محمد بن جعفر عن شعبة موقوفًا على رواية ابن أبي عديّ عن شعبة مرفوعًا؛ لأن الثوريّ روى الحديث عن يعلي بن عطاء موقوفًا، فيُرجّح به الوقف على الرفع.

لكن الذي يظهر لي أن الرفع هنا أرجح؛ لسببين:

[أحدهما]: أن الوقف هنا في حكم الرفع؛ لأن هذا مما لا يقال بالرأي.

[الثاني]: أن رواية بُريدة بن الحصيب رضي الله عنه الآتية تؤيّده.

والحاصل أن الحديث صحيح مرفوعًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3990 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: "قَتْلُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ، مِنْ زَوَالِ الدُّنْيَا").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عمرو بن هشام": هو أبو أُميّة الْحَرّانيّ، ثقة [10] 141/ 222 من أفراد المصنّف.

و"مخلد بن يَزيد": هو القرشيّ الحرّانيّ، صدوقٌ له أوهامٌ، من كبار [9] 141/ 222.

و"سفيان": هو الثوريّ. و"منصور": هو ابن المعتمر. والحديث صحيح موقوف، وهو في حكم المرفوع، كما سبق الكلام عليه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه

ص: 251

المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3991 -

(أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ ثِقَةٌ، حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ خِدَاشٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «قَتْلُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ، مِنْ زَوَالِ الدُّنْيَا»).

"الحسن بن إسحاق" بن زياد الليثيّ مولاهم، أبو عليّ المروزيّ، يُلقب حَسْنويه، ثقة [11].

وثقه المصنّف هنا، وقال أيضًا: شاعر ثقة. وقال في "مشيخته": كان صاحب حديث. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: يروي عن ابن المبارك. وقال أبو حاتم: إنه مجهول، وكأنه ما لقيه، فلم يَعرفه، ولا يضره هذا، فقد عرفه البخاريّ، والنسائيّ، قال البخاريّ، وغيره: مات سنة (241). تفرّد به البخاريّ، والمصنّف، وله عند البخاريّ حديثان، وعند المصنّف ثلاثة أحاديث: حديث بُريدة هذا، وحديثه في "كتاب القسامة" 7/ 4732:"أن رجلاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إن هذا قتل أخي" الحديث. وحديث حُميد بن شكل في "كتاب الاستعاذة" 4/ 4545 و 10/ 5456 قال: "أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا نبيّ اللَّه علمني تعوّذًا أتعوّذ به" الحديث.

و"خالد بن خداش، بكسر الخاء المعجمة، وتخفيف الدّال، وآخره معجمةٌ- ابن عَجْلان، أبو الْهَيثم الأزديّ الْمُهَلَّبيّ مولاهم البصريّ، سكن بغداد، صدوقٌ يُخطىء [10].

قال ابن معين، وأبو حاتم، وصالح بن محمد البغداديّ: صدوق. وقال ابن سعد: ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: كان ثقة صدوقا. وقال ابن المدينيّ: ضعيف. وقال زكريا الساجيّ: فيه ضعف. وقال ابن معين: قد كتبت عنه، ينفرد عن حماد بن زيد بأحاديث. وقال أبو داود: روى عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن عمر حديث الغار، ورأيت سليمان بن حرب يُنكره عليه. وقال أبو حاتم الرازيّ: سألت سليمان بن حرب عنه؟ فقال: صدوق، لا بأس به، كان يختلف معنا إلى حماد بن زيد، وأثنى عليه خيرًا. قال مطيّن: مات سنة (224) وأرخه ابن قانع، وقال: ثقة. وفي كتاب الساجيّ أيضًا: كان أحمد يلزمه. روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، ومسلم، وأبو داود في "مسند مالك"، والمصنّف، له عنده حديثان فقط، هذا الحديث، وحديث بريدة المذكور في ترجمة الحسن بن إسحاق.

و"حاتم بن إسماعيل": هو الحارثيّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، كوفيّ الأصل، صدوقٌ يَهِم، صحيح الكتاب [8] 24/ 543.

ص: 252

و"بشير بن المهاجر" الغَنَويّ بفتح المعجمة، والنون- الكوفيّ، صدوقٌ ليّن الحديث، ورُمي بالإرجاء [5].

رأى أنس بن مالك. قال ابن معين: ثقة. وقال النسائيّ: لا بأس به. وقال العجليّ: كوفي ثقة. وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه، ولا يُحتجّ به. وقال الأثرم، عن أحمد: منكر الحديث، قد اعتبرت أحاديثه، فإذا هو يجيء بالعجب. وقال البخاريّ: يخالف في بعض حديثه. وقال ابن عديّ: روى ما لا يُتابع عليه، وهو ممن يُكتب حديثه، وإن كان فيه بعض الضعف. وقال ابن حبّان في "الثقات": دلس عن أنس، ولم يره، وكان يُخطىء كثيرًا. وقال العقيليّ: مرجىء مُتّهمٌ، متكلّم فيه. وقال الساجيّ: منكر الحديث. روى له مسلم، والأربعة، وله عند المصنّف ثلاثة أحاديث فقط، حديث بُريدة هذا، وحديثه المتقدّم في ترجمة الحسن بن إسحاق آنفًا، و 53/ 5726 حديث:"سألت الحسن عما يُطبخ من العصير؟ قال: ما تطبخه حتى يذهب الثلثان، ويبقى الثلث".

والحديث صحيحٌ، تفرّد به المصنّف، أخرجه هنا 2/ 399 أو في "الكبرى" 2/ 3452. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3992 -

(أَخْبَرَنَا سَرِيعُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيُّ الْخَصِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْرَقُ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ الصَّلَاةُ، وَأَوَّلُ مَا يُقْضَي بَيْنَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سريع بن عبد اللَّه الواسطيّ الْخَصِيّ) بفتح الخاء المعجمة، وتخفيف الصاد المهملة-، أبو عبد اللَّه الْجَمّال بالجيم- مولى عبد القاهر، من بني جمرة. مقبول [11].

روى عن إسحاق الأزرق، وعنه المصنّف، وأسلم بن سهل الواسطيّ. تفرّد به المصنّف بهذا الحديث.

2 -

(إسحاق بن يوسف الأزرق) المخزوميّ الواسطيّ، ثقة [9] 22/ 489.

3 -

(شريك) بن عبد اللَّه النخعيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ القاضي بواسط، ثم بالكوفة، صدوقٌ يُخطىء كثيرًا، تغيّر حفظه منذ ولّي القضاء بالكوفة، وكان عادلاً فاضلاً عابدًا شديدًا على أهل البدع [8] 25/ 129.

4 -

(عاصم) بن بَهْدلة، وهو ابن أبي النجود الأسديّ مولاهم، أبو بكر الكوفيّ المقرئ صدوقٌ، له أوهام، حجة في القراءة، وحديثه في "الصحيحين" مقرون [6] 20/ 1221.

ص: 253

5 -

(أبو وائل) شقيق بن سلمة الأسديّ الكوفيّ، مَشهُورٌ بِكُنْيَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ اسْمِهِ، مخضرم ثقة [2] 2/ 2.

6 -

(عبد اللَّه) بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - 35/ 39. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح غير شيخه كما مرّ آنفًا. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، وإسحاق، فواسطيان. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ) مبتدأٌ، مضاف إلى (مَا) اسم موصول، أو نكرة موصوفة (يُحَاسَبُ) بالبناء للمفعول (بِهِ) الباء سببيّة، ويحتمل أن تكون بمعنى "عن": أي أوّل الذي، أو أول شيء يُحاسب بسببه العبد من أعماله، أو أول الذي، أو أول شيء يُحاسب عنه العبد من الأعمال (الْعَبْدُ) بالرفع على أنه نائب الفاعل (الصَّلَاةُ) بالرفع على الخبريّة لـ"أول". والمراد بها هنا الفريضة، بدليل قوله في حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - المتقدّم في "كتاب الصلاة" 9/ 465 - :"إن أول ما يُحاسب به العبد صلاته إلى أن قال- فإن انتقص من فريضته شيء، قال: انظروا هل لعبدي من تطوّع، فيكمل به ما نقص من فريضته" الحديث.

(وَأَوَّلُ مَا يُقْضَي بَيْنَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ")"ما" موصول حرفيّ، والفعل مبنيّ للمفعول، والجار والمجرور متعلّق بمحذوف، والتقدير: أول القضاء القضاء في الأمر المتعلّق بالدماء، التي وقعت بَيْن الناس في الدُّنْيَا. وَيَحتَمِل أن يَكُون "ما" موصولا اسميًّا، أو نكرة موصوفة، والتقدير: أَوَّلُ الذي، أول شيء يُقْضَى فِيهِ الأَمر الْكَائِن في الدِّمَاء.

[فإن قيل]: هذا يُعارض قوله الأول: أَوَّل مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ الصلاة، فكيف الجمع بينهما؟

[قلت]: يُجمع بينهما بأن هذا في حقّ اللَّه تعالى، وذلك في حقوق الآدميين فيما بينهم. أو هذا من فعل السيّئات، وذاك من ترك العبادات. وقيل: المحاسبة غير القضاء، فتكون المحاسبة أوّلًا في الصلاة، ويكون القضاء أوّلًا في الدماء. وقيل: غير ذلك. وقد تقدّم تمام البحث في هذا في "كتاب الصلاة" بالرقم الماضي، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 254

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد اللَّه بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا جزؤه الأخير متّفقٌ عليه.

وأما جزؤه الأول، فصحيح أيضًا؛ لأن له شواهد من حديث أبي هريرة، وتميم الداريّ عند أبي داود، وغيره، وحديث تميم عند الطبرانيّ أيضًا

(1)

.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا 2/ 3992 و 3993 و 3994 و 3995 و 3996 و 3997 - وفي "الكبرى" 2/ 3453 و 3454 و 3455 و 3456 و 3457 و 3458 و 3459. وأخرج الجزء الأخير منه (خ) في (الرقاق) 6533 "الديات" 6864 (م) في "القسامة" 1678 (ت) في "الديات" 1396 و 1397 (ق) في "الديات" 2615 و 2617 (أحمد) في "مسند المكثرين" 3665 و 4188 و 4201. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان تعظيم دم المسلم المعصوم، ووجه ذلك أن الابتداء إنما يكون بالأهمّ، فالأهمّ، والذنب يعظُم بحسب عظم المفسدة، وتفويت المصلحة، وإعدام البنية الإنسانيّة غاية في ذلك

(2)

. (ومنها): أن فيه تعظيم شأن الصلاة، وأنها أفضل سائر العبادات، بعد الشهادتين، حيث وقعت المحاسبة عليها قبل سائر الأعمال. (ومنها): أن بعضهم استدلّ. به على أن القضاء يختصّ بالناس، ولا مدخل للبهائم فيه. ورد بأن حصر الأولية فيه بالنسبة لما بين الناس، وليس فيه نفي القضاء بين البهائم، بل غاية ما يفيده أن يكون القضاء بين البهائم بعد القضاء بين الناس. وقد وردت النصوص الدالّة على ثبوت القصاص بين البهائم، فقد أخرج مسلم في "صحيحه" من حديث أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. قال:"لَتُؤدَّنَّ الحقوقُ إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء، من الشاة القرناء". وغير ذلك من الأدلّة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3993 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، عَنْ خَالِدٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ، يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَوَّلُ مَا يُحْكَمُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ»).

(1)

راجع "السلسة الصحيحة" للشيخ الألبانيّ 4/ 328 - 329 رقم 1748.

(2)

"فتح" 13/ 211 "كتاب الرقاق".

ص: 255

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "خالد": هو ابن الحارث الْهُجَيميّ. و"سليمان": هو ابن مِهران الأعمش.

والحديث صحيح موقوف، وهو في حكم المرفوع. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3994 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "أَوَّلُ مَا يُقْضَي بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أبو داود": هو عمر بن سعد بن عُبيد الْحَفَريّ

(1)

ثقة ثبت [9] 15/ 523. و"سفيان": هو الثوريّ. والحديث صحيح موقوف، سبق القول فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3995 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ -ثُمَّ ذَكَرَ كَلِمَةً مَعْنَاهَا- عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: "قَالَ: "أَوَّلُ مَا يُقْضَي بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"أبو أحمد": هو حفص بن عبد اللَّه بن راشد السلميّ النيسابوريّ قاضيها، صدوق [9] 7/ 409. و"عمرو بن شُرَحبيل": هو أبو ميسرة الهمدانيّ الكوفيّ العابد المخضرم الثقة.

وقوله: "ثم ذكر كلمة الخ" القائل هو الأعمش، والذاكر هو شقيق، والمعنى أن شقيقًا ذكر كلمة لم أحفظ لفظها، لكن معناه:"عن عمرو بن شُرحبيل الخ"، وإطلاق الكلمة على الكلام شائع في اللغة، كما قال ابن مالك في "خلاصته":

وَكِلْمَةٌ بِهَا كَلَامٌ قَدْ يُؤَمُّ

والحديث صحيح موقوف، كما سبق القول فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3996 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَوَّلُ مَا يُقْضَي فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح. و"أبو معاوية":

(1)

بفتحتين: نسبة إلى موضع بالكوفة.

ص: 256

هو محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، أحفظ من روى عن الأعمش، غير سفيان الثوريّ. والحديث مرسل صحيح بما سبقه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3997 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: "أَوَّلُ مَا يُقْضَي بَيْنَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، والحديث صحيح موقوف، وهو في حكم المرفوع. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3998 -

(أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُسْتَمِرِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَجِيءُ الرَّجُلُ، آخِذًا بِيَدِ الرَّجُلِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ هَذَا قَتَلَنِي، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: لِمَ قَتَلْتَهُ؟ ، فَيَقُولُ: قَتَلْتُهُ لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لَكَ، فَيَقُولُ: فَإِنَّهَا لِي، وَيَجِيءُ الرَّجُلُ آخِذًا بِيَدِ الرَّجُلِ، فَيَقُولُ: إِنَّ هَذَا قَتَلَنِي، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: لِمَ قَتَلْتَهُ؟ فَيَقُولُ: لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لِفُلَانٍ، فَيَقُولُ: إِنَّهَا لَيْسَتْ لِفُلَانٍ، فَيَبُوءُ بِإِثْمِهِ»).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(إبراهيم بن الْمُسْتَمِرّ) الْهُذَليّ، الْعُرُوقيّ -بالقاف الناجيّ بالنون، والجيم- أبو إسحاق البصريّ، صدوقٌ يُغرب [11].

قال النسائيّ: صدوق. وقال في موضع آخر: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: ربّما أغرب. روى عنه أبو داود، والترمذيّ في "الشمائل"، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب حديثان فقط: هذا الحديث، وفي "كتاب الزينة" 10/ 5065 - حديث الحصين "لما قدم على النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة" الحديث.

2 -

(عمرو بن عاصم) الكلابيّ القيسيّ، أبو عثمان البصريّ، صدوقٌ في حفظه شيء، من صغار [9] 17/ 1552.

3 -

(معتمر) بن سليمان بن طرخان التيميّ، أبو محمد الملقّب بالطفيل البصريّ، ثقة، من كبار [9] 10/ 10.

4 -

(أبوه) سليمان بن طرخان التيميّ، أبو المعتمر البصريّ، ثقة عابد [4] 87/ 107.

5 -

(الأعمش) سليمان بن مِهران، أبو محمد الكوفيّ، ثقة ثبت ورع، لكنه يدلّس [5] 17/ 18.

6 -

(شقيق بن سلمة) أبو وائل المترجم قريبًا.

ص: 257

7 -

(عمرو بن شُرَحْبيل) الهمدانيّ، أبو ميسرة الكوفيّ، مخضرم ثقة عابد [2] 180/ 285.

8 -

(عبد اللَّه بن مسعود) - رضي اللَّه تعالى عنه - 3/ 39. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من ثمانيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، كما سبق آنفًا. (ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالبصريين، والثاني مسلسل بالكوفيين. (ومنها): أن فيه أربعة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض: سليمان بن طرخان، عن الأعمش، عن شقيق، عن عمرو بن شُرحبيل، ورواية الأول من الثاني من رواية الأكابر عن الأصاغر؛ لأن سليمان من الطبقة الرابعة، والأعمش من الخامسة، ورواية الثالث من الرابع من رواية الأقران؛ لأنهما مخضرمان. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "يَجيءُ الرَّجُلُ) أي المقتول، وفي رواية جندب التالية:"يجيء المقتول بقاتله يوم القيامة"(آَخِذًا بيَدِ الرّجُلِ) أي قاتله (فَيَقُولُ: يَا رَبِّ هَذَا قَتَلَنِي، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ) أي للقاتل (لِمَ قَتَلتَهُ؟) أَي لأيّ سبب قتل هذا الرجل (فَيَقُولُ: قَتَلتُهُ لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لَكَ) هذا ظاهر فيمن قتل مستحقًّا للقتل، كمن قتل للقصاص، أو للبغي، أو نحو ذلك؛ دفعا للفتنة، ورفعًا للفساد عن البلاد والعباد، وهذا فيه إظهار عزّة اللَّه تعالى بتنفيذ أحكامه، وظهور الحقّ والعدل في الأرض فلذلك (يَقُولُ) تعالى (فَإِنَّهَا) أي العزة (لِي) أي ثابتة، ومستَحقَّةٌ لي (وَيَجيءُ الرَّجُلُ) المقتول (آخِذًا بِيَدِ الرَّجُلِ) أي قاتله (فَيَقُولُ: إِنَّ هَذَا قَتَلَنِي، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: لِمَ قَتَلتَهُ؟ فَيَقُولُ) القاتل (لِتَكُونَ العِزَّةُ لِفُلَانٍ) هذا فيمن قتل للعصبيّة، أو لنصرة من لا يستحقّ النصر، بأن كان ظالمًا (فَيَقُولُ) اللَّه تعالى (إِنَّهَا) أي العزّة التي قتل من أجلها (لَيْسَتْ لِفُلَانٍ) حيث كان ظالمًا، وإنما يستحقّ العزّة من عمل بطاعة المولى العزيز، كما قال اللَّه تعالى:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} الآية [المنافقون: 8](فَيَبُوءُ) من باب قال: أي يرجع (بِإِثْمِهِ) أي إثم القاتل، أي إثم قتله المؤمن ظلمًا. ويحتمل أن يكون الضمير للمقتول، ويؤيّد هذا قوله عز وجل في قصّة ابني آدم عليه السلام:{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 29].

[فإن قيل]: هذا يعارض قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الآية [الإسراء: 15].

ص: 258

[أجيب]: بأن الآية فيمن لم يستحقّ حمل ذنب غيره بفعله، وأما إذا استحقّ ذلك، فإنه يحمل وزر غيره، حيث ظلمه، فجوزي بتحميل وزره عليه، كما قال اللَّه تعالى:{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} الآية [النحل: 25]. وقد جاء في حمل ذنوب غيره ما أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه -: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"أتدرون ما المفلس؟ " قالوا: المفلس فينا من لا درهم له، ولا متاع، فقال:"إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته، قبل أن يُقضَى ما عليه، أُخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار".

قَالَ: الْمَازرِيُّ: وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَة أَنَّ هَذَا الْحَدِيث مُعَارِض لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15]، وَهَذَا الاعتِرَاض غَلَط مِنْهُ، وَجَهَالَة بَيِّنَة؛ لِأنَّه إِنَّمَا عُوقِبَ بِفِعْلِهِ وَوِزْره وَظُلْمه، فَتَوَجَّهَت عَلَيْهِ حُقُوق لِغُرَمَائِهِ، فَدُفِعَتْ إِلَيْهِمْ مِنْ حَسَنَاته، فَلَمَّا فَرَغَت وَبَقِيَت بَقِيَّة قُوبِلَتْ عَلَى حَسَب مَا اقْتَضَتهُ حِكمَة اللَّه تَعَالَى فِي خَلْقه، وَعَدْلُه فِي عِبَاده، فَأُخِذَ قَدْرهَا من سَيِّئَات خُصُومه، فَوُضِعَ عَلَيْهِ، فَعُوقِبَ بِهِ فِي النَّار. فَحَقِيقَة العُقُوبَة إِنَّمَا هىَ بسَبَبِ ظُلمه، وَلَمْ يُعَاقَب بِغَيْرِ جِنَايَة وَظُلْم مِنْهُ، وَهَذَا كُلّه مَذهَب أَهل السُّنَّة. واللَّه أَعْلَم انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث عبد اللَّه بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-2/ 3998 - وفي "الكبرى" 2/ 3460. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3999 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ تَمِيمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، قَالَ: قَالَ جُنْدَبٌ، حَدَّثَنِي فُلَانٌ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «يَجِيءُ الْمَقْتُولُ بِقَاتِلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي، فَيَقُولُ: قَتَلْتُهُ عَلَى مُلْكِ فُلَانٍ» ، قَالَ: جُنْدَبٌ: فَاتَّقِهَا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ تَمِيمٍ) أبو حُميد المصّيصيّ، ثقة [11] 200/ 319.

2 -

(حجّاج) بن محمد الأعور، أبو محمد المصّيصيّ، ثقة ثبت، لكنه اختلط لما

ص: 259

قدم بغداد [9] 28/ 32.

3 -

(شعبة) بن الحجّاج الإمام الحجة الثبت البصريّ [7] 24/ 27.

4 -

(أبو عمران الْجَوْنيّ) عبد الملك بن حبيب الأزديّ البصريّ، مشهور بكنيته، ثقة، من كبار [4] 14/ 14.

5 -

(جندب) بن عبد اللَّه بن سفيان البجليّ، ثم الْعَلَقيّ بفتحتين، ثم قاف- أبو عبد اللَّه، وربّما نُسب لجدّه، له صحبة، ويقال: جندب بن خالد بن سفيان. روى عن حذيفة. وقال البغويّ: عن أحمد: جندب ليست له صحبة قديمة. قال ابن حبّان: هو جندب الخير. وقال البغويّ: هو جندب ابن أم جندب. وذكره البخاريّ في "التاريخ" فيمن توفّي من الستين إلى السبعين. روى له الجماعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث: هذا الحديث، و-28/ 4116 - :"من قاتل تحت راية عمّية" الحديث. وفي "كتاب الضحايا" -4/ 4369 و 5/ 4370 - : "من ذبح قبل الصلاة، فليذبح شاة" الحديث.

6 -

(الرجل المبهم) والظاهر أنه صحابيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنيّ) -بفتح الجيم، وسكون الواو-: نسبة إلى جَوْن بطن من الأزد (قَالَ: قَالَ جُنْدَبْ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (حَدَّثَني فُلَانٌ) كناية عن اسم رجل سمّاه، والظاهر أنه صحابيّ؛ وجهالتهم لا تضرّ؛ لأنهم كلهم عدول (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "يَجِيءُ الْمَقْتُولُ بِقَاتِلِهِ) الباء للتعدية: أي يأتي به، أو يُحضِره، أو للمصاحبة: أي يجيء معه (يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ) أي المقتول للَّه سبحانه وتعالى (سَلْ هَذَا) أي القاتل (فِيمَ) هي "ما" الاستفهاميّة، حذفت ألفها؛ لدخول الجار عليها؛ تخفيفًا، كما قال في "الخلاصة":

وَمَا فِي الاسْتِفْهَامِ إِنَّ جُرَّتْ حُذِفْ

أَلِفُهَا وَأَوْلِهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ

(قَتَلَنِي) أي لأي سبب قتلتني حين قتلني؟، فـ"في" تعليليّة (فَيَقُولُ) أي القاتل (قَتَلْتُهُ عَلَى مُلْكِ فُلَانٍ") بكسر الميم، أو ضمها، قال الطيبيّ:[فإن قلت]: كيف طابق هذا قوله: "فيم قتلني؟ "؛ لأنه سأله عن سبب قتله؟. [قلت]: قوله: "على ملك فلان، معناه: على عهده ملك من السلاطين، وزمانه، أي في نُصرته، هذا إذا كانت الرواية بضمّ الميم في "ملك"، وإذا كانت بالكسر، كان المعنى: قتلته على مشاجرة بيني وبينه في ملك زيد مثلاً. انتهى

(1)

.

(1)

راجع "المرقاة" 7/ 40.

ص: 260

(قَالَ: جُنْدَبٌ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (فَاتَّقِهَا) أي فاجتنب هذه السيّئة القبيحة المؤدّية إلى مثل هذا الجواب الفاضح. وقال في "المرقاة": أي اجتنب القتلة، أو احترز النُّصرة، أو المشاجرة، وهي المخالفة، والمنازعة المفضية إلى القتل. قال الطيبيّ: وكان جندب رضي الله عنه ينصح رجلاً، أراد هذه الفعلة، واستشهد بهذا الحديث، ثم قال: فإذا سمعت بذلك، فاتّقها. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث جندب، عن رجل مبهم هذا صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا 3/ 3999 - وفي "الكبرى" 2/ 3461.

وأخرجه (أحمد) في أول مسند المدنيين" 16164 و"باقي مسند الأنصار"22600 و 22654 و 2278. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4000 -

(2)

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، سُئِلَ عَمَّنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا، مُتَعَمِّدًا، ثُمَّ تَابَ، وَآمَنَ، وَعَمِلَ صَالِحًا، ثُمَّ اهْتَدَى؟ ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَنَّى لَهُ التَّوْبَةُ؟ ، سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يَجِيءُ مُتَعَلِّقًا بِالْقَاتِلِ، تَشْخُبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ سَلْ هَذَا، فِيمَ قَتَلَنِي؟» ، ثُمَّ قَالَ وَاللَّهِ لَقَدْ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، ثُمَّ مَا نَسَخَهَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(سفيان) بن عيينة الهلاليّ مولاهم، أو بحمد المكيّ الإمام الحافظ الحجة [8] 1/ 1.

3 -

(عمّار الدُّهْنيّ) -بضمّ، فسكون-: هو ابن معاوية البجليّ، أبو معاوية الكوفيّ، صدوقٌ يتشيّع [5] 7/ 697.

(1)

"المرقاة" 7/ 40.

(2)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث تمام الأف الرابع، انتهيت منه بحمد اللَّه تعالى ليلة الخميس بعد صلاة العشاء 15/ 5/ 1420 هـ الموافق 26/ أغسطس/ 1999 م. وكان إتمام الألف الثالث في 16/ 6/ 1419 هـ فيكون ما بين إتماميهما عشرة أشهر، وهذا بفضل اللَّه سبحانه تعالى، وحسن توفيقه، وأسأله المزيد من فضله، وعونه حتى أكمّله في أقرب وقت على الوجه المطلوب، إنه وليّ ذلك، والقادر عليه. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك.

ص: 261

4 -

(سالم بن أبي الجعد) رافع الغَطفانيّ الأشجعيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة، يرسل كثيرًا [3] 61/ 77.

5 -

(ابن عبّاس) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه ابن عبّاس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ) -رحمه اللَّه تعالى- (أَنَّ ابْنَ عَبَّاسِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (سُئِلَ) بالبناءَ للمفعول، والسائل هو سعيد بن جبير، كما تبيّنه الروايات الآتية (عَمَّنْ قَتَلَ) بالبناء للفاعل (مُؤْمِنًا، مُتَعَمِّدًا، ثمّ تَابَ) بشرط التوبة، ومنها تمكينه للاقتصاص منه (وَآمَنَ، وَعَمِلَ صَالِحًا، ثُمَّ اهْتَدَى؟، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (وَأَنَّى لَهُ التَّوْبَةُ؟)"أنى" بفتح الهمزة بمعنى "كيف"، أي كيف تكون له التوبة، وتصحّ، وتُقبل منه، وقد قتل مؤمنًا متعمّدًا، ثمّ ذكر مستنده في ذلك، فقال (سَمِعتُ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: يَجِيءُ) أي المقتول، كما تبيّنه الرواية الآتية في 406 - (مُتَعَلِّقا بِالْقَاتِلِ، تَشْخَبُ) بمعجمتين، يقال: شَخَبَت أوداج القتيل دمًا شَخْبًا، من بابي قتل، ونفع: جرت، وشَخَب اللبنُ، وكلُّ مائع شَخْبًا: دَرَّ، وسالَ، وشَخَبته أنا، يتعدّى، ولا يتعدّى. قاله الفيّوميّ (أَوْدَاجُهُ) بفتح الهمزة، جمع وَدَج. قال الفيّوميّ: الْوَدْجُ بفتح الدال، والكسر لغةٌ-: عِرْق الأخدع الذي يَقطعه الذابح، فلا يبقى معه حياةٌ، ويقال: في الجسد عرقٌ واحدٌ حيثما قُطع مات صاحبه، وله في كلّ عضو اسمٌ، فهو في العنق الودج، والْوَرِيد أيضًا، وفي الظهر النِّيَاطُ، وهو عرقٌ ممتدّ فيه، والأبهر، وهو عرقٌ مُستبطِنُ الصُّلْب، والقلبُ متّصلٌ به، والوَتِين في البطن، والنَّسَا في الفخذ، والأبجلُ في الرجل، والأكحلُ في اليد، والصافن في الساق. وقال في "المجرد" أيضًا: الوريد عِرْقٌ كبير، يدور في البدن، وذكر معنى ما تقدّم، لكنه خالف في بعضه، ثم قال: والْوَدَجان: عِرْقان غليظان، يكتنفان ثُغْرَة النحر يمينًا ويسارًا، والجمع أوداجٌ، مثلُ سبب وأسباب، وودَجْتُ الدّابّةَ وَدْجًا، من باب وَعَدَ: قطعت وَدَجَها، ووَدَّجْتُها بالتثقيل مبالغةٌ، وهو لها كالفصد للإنسان؛ لأنه يقال: وَدَجتُ المالَ: إذا أصلحته، وودجتُ بين القوم: أصلحتُ. انتهى كلام الفيّوميّ.

- وقوله (دَمًا) منصوب على التمييز (فَيَقُولُ: أَي) حرف نداء للأوسط، كما قال في

ص: 262

"الكوكب الساطع":

"أَي" لِنِدَا الأَوْسَطِ فِي الشَّهِيرِ

لَا الْقُرْبِ وَالبُعْدِ وَلِلتَّفْسِيرِ

لكنها هنا مستعملة للقرب، واللَّه تعالى أعلم.

(رَبِّ) أصله "ربّي" مضافًا إلى ياء المتكلّم، ثم خُفف بحذفها، استغناءً بالكسرة، وهذا هو الأكثر في الاستعمال، ويجوز "ربّي" بإبقاء الياء ساكنة، ويجوز فيه "رَبَّ" بقلب الياء ألفًا، وحذفها استغناء بالفتحة، ويجوز فيه "ربّا" بقلب الياء ألفًا، والكسرة فتحةً، ويجوز فيه "ربّيَ" بفتح الياء، ويجوز على قلّة ضمّها تشبيهًا بالمفرد، وإلى هذه القاعدة، سوى الأخيرة أشار ابن مالك في "خلاصته" حيث قال:

وَاجْعَلْ مُنَادًى صَحَّ إنْ يَضَفْ لِيَا

كَعَبْدِ عَبْدِي عَبْدَ عَبْدَا عَبْدِيَا

(سلْ هَذَا) القاتل (فِيمَ قَتَلَنِي؟) ووجه استدلال ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - بالحديث على أن قتل المؤمن عمدًا لا توبة له أن تعلّق المقتول بالقاتل شاخبةً أوداجه يقتضي أن يحكم له على خصمه، وقد تبيّن بالنصوص الأخرى أن القضاء عليه أن يبوء بإثمه، فيكون من أهل النار، كما قصّ اللَّه تعالى ذلك في حكايته نبأ ابني آدم عليه السلام، حيث قال:{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 29]، وكقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - الماضي:"فيبوء بإثمه"، مع أن آية:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} الآية [النساء: 93] ظاهرة في ذلك، كما أشار إليه قوله (ثُمَّ قَالَ) ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - (وَاللَّهِ لَقَدْ أَنزَلَهَا اللَّهُ) أي الآية التي تدلّ على أن قاتل المؤمن عمدًا من أهل النار، وهي قوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93](ثُمَّ مَا نَسَخَهَا) أي ثم بعد ما أنزلها لم يُنزل اللَّه تعالى ما ينسخ ما تضمّنته، فهي محكمة، غير منسوخة، تدلّ على أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدًا. هذا تقرير رأي ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - في هذه المسألة، وقد خالفه فيها جمهور السلف والخلف، فقالوا: إن له توبة، وإنه تحت المشيئة.

وقد اختلفت الروايات عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، فقال في "الفتح": وَحَاصِل مَا في هَذِهِ الرِّوَايَات أَنَّ ابْنِ عَبَّاس كَانَ تَارَة يَجْعَل الآيَتَيْنِ فِي مَحَلّ وَاحِد، فلِذَلِكَ يَجْزِم بِنَسْخِ إِحْدَاهُمَا، وَتَارَة يَجْعَل مَحَلَّهُمَا مُخْتَلِفًا.

وَيُمْكِن الْجَمْعَ بَيْنَ كَلَامَيهِ بأن عُمُوم الَّتِي فِي الفُرْقَان خَصَّ مِنْهَا مُبَاشَرَةَ الْمُؤْمِن القَتْلَ مُتَعَمِّدًا، وَكَثِيرٌ مِنْ السَّلَف يُطلَقُونَ النَّسْخ عَلَى التَّخْصِيص، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ حَمْل كَلَامه

ص: 263

عَلَى التَّنَاقُض، وَأَوْلَى مِنْ دَعْوَى أَنَّهُ قَالَ: بِالنَّسْخِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ. وَقَوْل ابْن عَبَّاسِ بِأَنَّ

الْمُؤمِن إِذَا قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا لَا تَوْبَة لَهُ مَشْهُور عَنه، وَقَدْ جَاءَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ أَصْرَح

مِمَّا تَقَدَّمَ: فَرَوَى أَحْمَد، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيق يَحْيَى الْجَابِر، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ

طَريق عَمَّار الدُّهْنِيّ كِلَاهُمَا ، عَنْ سَالِم بْنِ أَبِي الْجَعْد، قَالَ:"كُنْت عِنْدَ ابْنِ عَبَّاس بَعْدَمَا كُفَّ بَصَره، فَأتَاهُ رَجُل فَقَالَ: مَا تَرَى فِي رَجُل قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا؟ قَالَ: جَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدًا فِيهَا، وَسَاقَ الآيَة إِلَى {عَظِيمًا}، قَالَ: لَقَدْ نَزَلَت فِي آخِر مَا نَزَلَ، وَمَا نَسَخَهَا شَيْء حَتَّى قُبِضَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَمَا نَزَلَ وَحْي بَعْدَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم. قَالَ: أَفَرَأَيْت إنْ تَابَ وَوَآمَنَ عَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى؟ قَالَ: وَأَنَّى لَهُ التَّوْبَة وَالْهُدَى "لَفْظ يَحْيَى الْجَابِر، وَالآخَر نَحْوه.

وَجَاءَ عَلَى وَفْق مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنِ عَبَّاس فِي ذَلِكَ أَحَادِيث كَثيرَة: مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَد وَالنَّسائِيُّ مِنْ طَرِيق أَبي إِدْرِيس الْخَوْلَانِيّ، عَنْ مُعَاوِيَة، سمِعت رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُول:"كُلّ ذَنْب عَسَى اللَّهَ أَنْ يَغفِرَهُ إِلَّا الرَّجُل يَمُوت كَافِرًا، وَالرَّجُل يَقْتُل مُؤمِنًا مُتَعَمِّدًا".

وَقَدْ حَمَلَ جُمْهُور السَّلَف، وَجَمِيع أَهْل السُّنَّة مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى التَّغْليظ، وَصَحَّحُوا تَوْبَة الْقَاتِل كَغَيْرِهِ، وَقَالُوا: مَعْنَى قَوله: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} أَيْ إِنْ شَاءَ اللَّه أن يُجَازِيَهُ تَمَسُّكًا بِقَولِهِ تَعَالَى في سُورَة النسَاء أَيْضًا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].

وَمِنْ الْحُجَّة فِي ذَلِكَ حَدِيث الإسْرَائِيلِيّ الذِي قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا ثُمْ أَتَى تَمَام الْمِائَه فَقَالَ لَهُ: لَا تَوْبَةَ، فَقَتَلَهُ فَأَكْمَلَ بِهِ مِائةَ. ثُمَّ جَاءَ آخَر فَقَالَ:"وَمَنْ يَحُول بَيْنَك وَبَيْنَ التَّوْبَة" الْحَدِيث، وَهُوَ مَشْهُور

(1)

. وَاِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ لِمَنْ قُبِلَ من غَيْر هَذِهِ الأُمَّة

(1)

هو ما أخرجه الشيخان، واللفظ لمسلم، قال -رحمه اللَّه تعالى-:

حدثنا محمد بن المثنى، ومحمد بن بشار، واللفظ لابن المثنى، قالا: حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن أبي الصديق، عن أبي سعيد الخدريّ، أن نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: (كان فيمن كان قبلكم رجل، قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على راهب، فأتاه، فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسا، فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله، فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدلّ على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسا يعبدون اللَّه، فاعبد اللَّه معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى اللَّه، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: قِيسُوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة".

ص: 264

فَمِثْله لَهُمْ أَوْلَى لِمَا خَفَّفَ اللَّه عَنْهُمْ مِنْ الأَثْقَال التِي كَانَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى- في شرح حديث قصَّة الرجل الإسرائيليّ المذكور: ما نصُّهُ: هَذَا مَذْهَب أَهْل العلم، وَإجْماعهمْ عَلَى صِحَّة تَوبَة الْقَاتِل عَمْدًا، وَلَمْ يُخَالِف أَحَد مِنْهُمْ إِلا ابْنِ عَبَّاس. وَأَمَّا مَا نُقِلَ ، عَنْ بَعْض السَّلَف مِنْ خِلَاف هَذَا، فَمُرَاد قَائِله الزَّجْر ، عَنْ سَبَب التَّوْبَة، لَا أَنَّهُ يَعْتَقِد بُطْلَان تَوْبَته. وَهَذَا الْحَدِيث ظَاهِر فِيهِ، وَهُوَ إِنْ كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلنَا، وَفِي الِاحتِجَاج بِهِ خِلَاف فَلَيْسَ مَوْضِع الخِلَاف، وَإِنَّمَا مَوْضِعه إِذَا لَمْ يَرِدْ شَرْعنَا بِمُوَافَقَتِهِ وَتَقرِيره، فَإن وَرَدَ كَانَ شَرْعًا لَنَا بِلَا شَكٍّ، وَهَذَا قَدْ وَرَدَ شَرْعُنَا بِهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} إِلَى قَوْله: {إِلَّا مَنْ تَابَ} الآية [الفرقان: 68 - 70]. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} الآية [النساء: 93] فَالصَّوَاب فِي مَعْنَاهَا: أَنَّ جَزَاءَهُ جَهَنَّم، وَقَد يُجَازَى بِهِ، وَقَد يُجَازَى بِغَيْرِهِ وَقَد لَا يُجَازَى بَل يُعْفَى عَنْهُ، فَإِنْ قتَلَ عَمْدًا مُسْتَحِلًا لَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا تَأوِيل، فَهُوَ كَافِر مُرْتَدّ، يُخَلَّد بِهِ فِي جَهَنَّم بِالإجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ غَيْر مُسْتَحِلّ بَل مُعْتَقِدًا تَحْرِيمه فَهُوَ فَاسِق عَاصٍ مُرْتَكِب كَبِيرَة، جَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدًا فِيهَا، لَكِنْ بِفَضْلِ اللَّه تَعَالَى ثُمَّ أَخبَرَ أَنهُ لَا يُخَلَّدْ مَنْ مَاتَ مُوَحِّدًا فِيهَا، فَلَا يَخْلُد هَذَا، وَلَكِنْ قَدْ يُعْفَى عَنْهُ، فَلَا يَدْخُل النَّار أَصْلًا، وَقَد لَا يُعْفَى عَنْهُ، بَل يُعَذَّب كَسَائِرِ العُصَاة المُوَحِّدِينَ، ثُمَّ يَخْرُج مَعَهُمْ إِلَى الْجَنَّة، وَلَا يُخَلَّد فِي النَّار، فَهَذَا هُوَ الصَّوَاب فِي مَعْنَى الآيَة، وَلَا يَلْزَم من كَوْنه يَسْتَحِقّ أَنْ يُجَازَى بِعُقُوبَةٍ مَخْصُوصَة أَنْ يَتَحَتَّم ذَلِكَ الجَزَاء، وَلَيْسَ فِي الآيَة إِخْبَار بأَنَّهُ يُخَلَّد فِي جَهَنَّم، وَإِنَّمَا فِيهَا أَنَّهَا جَزَاؤُهُ أَيْ: يَسْتَحِقّ أنْ يُجَازَى بِذَلِكَ، وَقِيلَ: إِنَّ المُرَاد مَنْ قتَلَ مُسْتَحِلًا، قيلَ: وَرَدَتْ الآيَة فِي رَجُل بِعَيْنِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَاد بِالخُلُودِ طُول المُدَّة لَا الدَّوَام، وَقيل: مَعْنَاهَا هَذَا جَزَاؤُهُ إِنْ جَازَاهُ، وَهَذِهِ الأقوَال كُلّهَا ضَعِيفَة أَوْ فَاسِدَة لِمُخَالَفَتِهَا حَقِيقَة لَفْظ الآيَة، وَأَمَّا هَذَا الْقَوْل فَهُوَ شَائِع عَلَى أَلسِنَة كَثِير مِنْ الناس، وَهُوَ فَاسِد لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ إِذَا عُفِيَ عَنْهُ خَرَجَ ، عَنْ كَونَها كَانَتْ جَزَاء، وَهِيَ جَزَاء لَهُ، لَكِنْ تَرَكَ اللَّه مُجَازَاته عَفوا عَنْهُ وَكَرَمًا، فَالصَّوَاب مَا قَدَّمْنَاهُ. وَاللَّه أَعْلَم. انتهى كلام النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

. وسيأتي بيان الخلاف مفصّلًا في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"فتح" 9/ 442 - 443. "كتاب التفسير" رقم الحديث 4766.

(2)

"شرح صحيح مسلم" 17/ 85 - 86. "كتاب التوبة".

ص: 265

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-2/ 4000 و 4001 و 4002 و 4005 وفي "كتاب القسامة" 48/ 4864 و 4865 و 4866 و 4867 - وفي " الكبرى" 2/ 3462 و 3463 و 3464 و 3465 و 3468. وأخرجه (خ) في "المناقب" 3855 و"التفسير" 4590 و 4762 و 4763 و 4764 و 4765 و 4766 (م) في "الإيمان" 122 و"التفسير" 3023 (د) في "الفتن" 4275 (ق) في "الديات"2621. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان تعظيم دم المسلم.

(ومنها): مجيء المقتول متعلّقًا بقاتله، شاخبة أوداجه بالدم؛ إظهرارّ للحجة، وإلزامًا لخصمه دون إقامة بيّنة. (ومنها): إثبات مخاطبة اللَّه تعالى للمتخاصمين، وفصل القضاء بينهما. (ومنها): أن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - استدلّ بهذا الحديث على أن قاتل المؤمن عمدًا لا توبة له، وقد خالفه جمهور السلف والخلف في ذلك، كما يأتي بيانه في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في توبة قاتل المؤمن عمدًا:

قال أبو عبد اللَّه القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "تفسيره": واختلف العلماء في قاتل العمد، هل له توبة؟. فروى البخاريّ عن سعيد بن جبير، قال: اختلف أهل الكوفة، فرحلت فيها إلى ابن عبّاس، فسألته عنها، فقال: نزلت هذه الآية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] هي آخر ما نزل، وما نسخها شيء. وروى النسائيّ عنه، قال: سألت ابن عبّاس، هل لمن قتل مؤمنًا متعمّدًا من توبة؟ قال: لا، وقرأت عليه الآية التي في الفرقان:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68] قال: هذه آية مكيّةٌ نسختها آية مدنيّةٌ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [النساء: 93]. وروى عن زيد بن ثابت نحوه، وأن آية النساء نزلت بعد الفرقان بستّة أشهر، وفي رواية بثمانية أشهر، ذكرهما النسائيّ عن زيد بن ثابت رضي الله عنه.

وإلى عموم هذه الآية، مع هذه الأخبار عن زيد، وابن عبّاس ذهبت المعتزلة،

ص: 266

وقالوا: هذا مخصّص عموم قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، ورأوا أن الوعيد نافذ حتمًا على كلّ قاتل، فجمعوا بين الآيتين بأن قالوا: التقدير: ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء إلا من قتل عمدًا.

وذهب جماعة من العلماء منهم: عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنه وهو أيضًا مرويّ عن زيد بن ثابت، وابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهم - إلى أن له توبةً، روى يزيد بن هارون قال: أخبرنا أبو مالك الأشجعيّ، عن سعيد عبيدة، قال: جاء رجل إلى ابن عبّاس، فقال: ألمن قتل مؤمنًا متعمّدًا توبة؟ قال: لا إلا النار، قال: فلمّا ذهب قال له جلساؤه: أهكذا كنت تفتينا؟ كنت تفتينا أن لمن قتل توبةً مقبولة، قال: إني لأحسبه رجلاً مُغضبًا، يريد أن يقتُل مؤمنًا، قال: فبعثوا في إثره، فوجدوه كذلك.

وهذا مذهب أهل السنّة، وهو الصحيح، وأن هذه الآية مخصّصة، ودليل التخصيص آياتٌ وأخبارٌ، وقد أجمعوا على أن الآية نزلت في مقيس بن ضبابة، وذلك أنه كان قد أسلم هو وأخوه هشام بن ضبابة، فوجدوا هشامًا قتيلًا في بني النجّار، فأخبر بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكتب له إليهم أن يدفعوا إليه قاتل أخيه، وأرسل معه رجلاً من بني فهو، فقال بنو النجَّار: واللَّه ما نعلم له قاتلًا، ولكنّا نؤدّي الدية، فأعطوه مائة من الإبل، ثم انصرفا راجعين إلى المدينة، فعدا مقيس على الفهريّ، فقتله بأخيه، وأخذ الإبل، وانصرف إلى مكة كافرًا مرتدًا، وجعل يُنشد:

قَتَلتُ بِهِ فِهْرًا وَحَمَّلْتُ عَقْلَهُ

سَرَاةَ بَنِي النَّجَّارِ أَرْبَابَ فَارعِ

(1)

حَلَلْتُ بِهِ وِتْرِي وَأَدْرَكتُ ثَوْرَتِي

وَكُنْتُ إِلَى الأَوْثَانِ أَوَّلَ رَاجِعِ

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا أُأمّنه في حلّ، ولا حرم"، وأمر بقتله يوم فتح مكّة، وهو متعلّقٌ بالكعبة. وإذا ثبت هذا بنقل أهل التفسير، وعلماء الدين، فلا ينبغي أن يُحمل على المسلمين. ثم ليس الأخذ بظاهر الآية بأولى من الأخذ بظاهر قوله تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، وقوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} الآية [الشورى: 25]، وقوله تعالى:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، والأخذ بالظاهرين تناقضٌ، فلا بُدّ من التخصيص.

ثم إن الجمع بين آية "الفرقان"، وهذه الآية ممكن، فلا نسخ، ولا تعارض، وذلك أن يُحمل مطلق آية "النساء" على مقيّد آية "الفرقان"، فيكون معناه: فجزاؤه كذا إلا من تاب، لا سيّما وقد اتحد الموجِب، وهو القتل، والموجَب، وهو التواعد بالعقاب.

(1)

"فارع": حصن بالمدينة.

ص: 267

وأما الأخبار، فكثيرة، كحديث عُبادة بن الصامت - رضي اللَّه تعالى عنه - الذي قال فيه:"تبايعوني على أن لا تُشركوا باللَّه شيئًا، ولا تزنوا، ولا تسرِقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرّم اللَّه إلا بالحقّ، فمن وفي منكم فأجره على اللَّه، ومن أصاب شيئًا من ذلك، فعوقب به، فهو كفّارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا، فستره اللَّه عليه، فأمره إلى اللَّه، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذّبه". متّفقٌ عليه. وكحديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الذي قتل مائة نفس. متّفقٌ عليه. إلى غير ذلك من الأخبار الثابتة.

ثم إنهم قد أجمعوا معنا في الرجل يشهد عليه بالقتل، ويُقرّ بأنه قتل عمدًا، ويأتي السلطانَ الأولياءُ، فيقام عليه الحدّ، ويُقتل قَوَدًا، فهذا غير متَّبَع في الآخرة، والوعيد غير نافذ عليه إجماعًا على مقتضى حديث عبادة - رضي اللَّه تعالى عنه -، فقد انكسر عليهم ما تعلقوا به من عموم قوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93]، ودخله التخصيص بما ذكرنا، وإذا كان كذلك فالوجه أن هذه الآية مخصوصة كما بيّنّا، أو تكون محمولةً على ما حُكي عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى - عنهما أنه قال:{مُتَعَمِّدًا} معناه مستحلًّا لقتله، فهذا أيضًا يؤول إلى الكفر إجماعًا.

وقالت جماعة: إن القاتل في المشيئة تاب، أو لم يتُب. قاله أبو حنيفة، وأصحابه. [فإن قيل]: إن قوله تعالى: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} دليلٌ على كفره؛ لأن اللَّه تعالى لا يغضب إلا على كافر خارج من الإيمان. [قلنا]: هذا وعيد، والخلف في الوعيد كرم، كما قال:

وَإِنِّي مَتَى أَوْعَدتُهُ أَوْ وَعَدتُهُ

لَمُخلِفٌ إيعَادِي وَمُنْجِزٌ مَوْعِدِي

وقد تقدّم جوابٌ ثان: إن جازاه بذلك، أي هو أهلٌ لذلك، ومستحقّه لعظم ذنبه. نصّ على هذا أبو مِجْلَز لاحقُ بْنُ حُميد، وأبو صالح، وغيرهما. وروى أنس بن مالك رضي الله عنه، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا وعد اللَّه لعبد ثوابًا، فهو منجزه، وإن أوعد له العقوبةَ، فله المشيئة، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه"

(1)

. وفي هذين التأويلين دَخَلٌ، أما الأول، فقال القشيريّ: وفي هذا نظرٌ؛ لأن كلام الربّ لا يَقبل الخلف، إلا أن يُراد بهذا تخصيص العامّ، فهو إذًا جائزٌ في الكلام. وأما الثاني، وإن روي أنه مرفوع، فقال النّحّاس: وهذا الوجه الغلط فيه بيّنٌ، وقد قال اللَّه عز وجل:{ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا} الآية [الكهف: 106]، ولم يقل أحدٌ: إن جازاهم، وهو

(1)

قال الجامع: هذا يحتاج إلى البحث في سنده، ولم يعزه القرطبيّ إلى أي مرجع، ولم اتمكن من البحث عنه، فاللَّه تعالى أعلم بثبوته.

ص: 268

خطأٌ في العربية؛ لأن بعده: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء: 93]، وهو محمول على معنى جازاه.

وجوابٌ ثالث {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} إن لم يتُب، وأصرّ على الذنب حتى وافى ربّه على الكفر بشؤم المعاصي. وذكر هبة اللَّه في "كتاب الناسخ والمنسوخ" أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، وقال: هذا إجماع الناس إلا ابن عبّاس، وابن عمر، فإنهما قالا: هي محكمة. وفي هذا الذي قاله نظرٌ؛ لأنه موضع عموم وتخصيص، لا موضع نسخ. قاله ابن عطيّة.

قال القرطبيّ: هذا حسنٌ؛ لأن النسخ لا يدخل الأخبار، إنما المعنى: فهو يَجزيه. وقال النحّاس في "معاني القرآن" له: القول فيه عند العلماء أهلِ النظر أنه محكم، وأنه يُجازيه إذا لم يتُب، فإن تاب فقد بيّن أمره بقوله:{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} [طه: 82]، فهذا لا يخرج عنه، والخلود لا يقتضي الدوام، قال اللَّه تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} الآية [الأنبياء: 34]، وقال تعالى:{يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [الهمزة: 3]، وقال زُهَير:

وَلَا خَالِدًا إِلَّا الْجِبَالَ الرَّوَاسِيَا

وهذا كلّه يدلّ على الخلد يُطلق على غير معنى التأبيد، فإن هذا يزول بزوال الدنيا، وكذلك العرب تقول: لأخلدنّ فلانًا في السجن، والسجن ينقطع ويفنى، وكذلك المسجون. ومثله قولهم في الدعاء: خلد اللَّه ملكه، وأبّد أيامه. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما تقدّم أن الأرجح هو ما ذهب إليه الجمهور من أن قاتل المؤمن عمدًا تُقبل توبته؛ جمعًا بين النصوص المذكور، والعمل بالدليلين إذا أمكن أولى من إهمال أحدهما.

على أنه قد جاء عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - القول بموافقة قول الجمهور، فقد أخرج البخاريّ في "الأدب المفرد" رقم 4 - بسند صحيح، على شرط الشيخين، عن عطاء بن يسار، عن ابن عبّاس أنه أتاه رجلٌ، فقال: إني خطبت امراةٌ، فأبت أن تنكحني، وخطبها غيري، فأحبّت أن تنكحه، فغِرتُ عليها، فقتلتها، فهل لي من توبة؟ قال: أمّك حيّةٌ؟ قال: لا، قال: تب إلى اللَّه عز وجل، وتقرّب إليه ما استطعت، فذهبتُ، فسألت ابن عبّاس: لم سألته عن حياة أمه؟ فقال: إني لا أعلم عملاً أقرب إلى

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 5/ 332 - 335. "تفسير سورة النساء".

ص: 269

اللَّه عز وجل من برّ الوالدة.

وأخرج ابن جرير 5/ 138 بسند جيّد، عن سعيد، عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى - عنهما في قوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93]، قال: ليس لقاتل توبة، إلا أن يستغفر اللَّه

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - قد تراجع عن قوله الأول، فقال بقول الجمهور في قبول توبة القاتل، وهذا القول منه هو الحقّ؛ لما ذكرنا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4001 -

(قَالَ: وَأَخْبَرَنِي أَزْهَرُ بْنُ جَمِيلٍ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْكُوفَةِ فِي هَذِهِ الآيَةِ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93] فَرَحَلْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: لَقَدْ أُنْزِلَتْ فِي آخِرِ مَا أُنْزِلَ، ثُمَّ مَا نَسَخَهَا شَيْءٌ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلّهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"المغيرة بن النعمان": هو النخعيّ الكوفيّ، ثقة [6] 118/ 2082.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4002 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ: هَلْ لِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: لَا، وَقَرَأْتُ عَلَيْهِ الآيَةَ الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68] ، قَالَ: هَذِهِ آيَةٌ مَكِّيَّةٌ نَسَخَتْهَا آيَةٌ مَدَنِيَّةٌ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93]).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا، غير:

1 -

(القاسم بن أبي بزّة

(2)

) بفتح الموحّدة، وتشديد الزاي- واسمه نافع، ويقال: يسار، ويقال: نافع بن يسار المكيّ، أبو عبد اللَّه، ويقال: أبو عاصم القارئ

(1)

راجع "السلسلة الصحيحة" للشيخ الألبانيّ المجلد السادس- القسم الأول ص 711 - 712. رقم الحديث 2799.

(2)

وفي "الفتح" 9/ 440 - : مكيّ تابعيّ صغير، ثقة عندهم، وهو والد جدّ البزّيّ المقرئ، وهو أحمد بن محمد بن عبد اللَّه بن القاسم. ويقال: أبو بزّة جدّ القاسم، لا أبوه. انتهى.

ص: 270

المخزوميّ مولاهم، قيل: إن أصله من هَمَذَان، ثقة [5].

قال ابن معين، والعجليّ، والنسائيّ: ثقة. وقال ابن سعد: قال محمد بن عُمر: توفي سنة أربع وعشرين ومائة بمكّة، وكان ثقة، قليل الحديث. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مات سنة أربع عشرة، أو خمس عشرة، وقد قيل: سنة خمس وعشرين ومائة، والأول أصحّ. وجدّه من فارس، أسلم على يد السائب بن صَيْفيّ، وَلَمْ يسمع التفسير من مجاهد أحدٌ غير القاسم، وكلّ من يروي عن مجاهد التفسير، فإنما أخذه من كتاب القاسم. وذكر البخاريّ في "الأوسط" عن أحمد بن محمد بن عبد اللَّه بن القاسم بن أبي بزّة أن جدّه القاسم مات سنة (115). روى له الجماعة.

وقوله: {ومن يقتُل} الآية بدل من "آية مدنيّة"، أو خبر لمحذوف: أي هي: {ومن يقتُل} .

والحديث متّفقٌ عليه، كما تقدّم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4003 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: أَمَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى

(1)

، أَنْ أَسْأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ، عَنْ هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93]، فَسَأَلْتُهُ؟ فَقَالَ: لَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ، وَعَنْ هَذِهِ الآيَةِ:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68]، قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير مرّة. و"محمد": هو ابن جعفر غندر. و"منصور": هو ابن المعتمر.

وقوله: "أمرني عبد الرحمن بن أبي ليلى" هكذا في رواية المصنف هنا، وفي "الكبرى"، وهو غلطٌ، والصواب "أمرني عبد الرحمن بن أبزى"، كما سيأتي له في آخر "كتاب القسامة" برقم (4865)، وهو الذي في "الصحيحين"، فقد رواه البخاريّ عن عبدان، عن أبيه، عن شعبة، ورواه مسلم عن محمد بن المثنّى، ومحمد بن بشّار، كلاهما عن غندر، عن شعبة، عن منصور، عن سعيد بن جُبير، قال: أمرني عبد الرحمن بن أبزى الخ. وأشار في هامش "الكبرى" إلى أنه يوجد في بعض النسخ: "عبد الرحمن بن أبزى"، وهذا هو الصواب، والأول تصحيف، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

هذا خطأٌ، والصواب "عبد الرحمن بن أبزى"، كما سيأتي في الشرح.

ص: 271

وقوله: "هاتين الآتين" أي آية {ومن يقتُل مُؤمِنًا} الآية، وآية {ولا يقتُلُون النّفس} الآية.

وقوله: "وعن هذه الآية" هذه هي الآية الثانية المسؤول عنها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4004 -

(أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمَنْبِجِيُّ

(1)

، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي رَوَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى الثَّعْلَبِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ قَوْمًا كَانُوا قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا، وَانْتَهَكُوا، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالُوا يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ الَّذِي تَقُولُ، وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ، لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} إِلَى {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 68 - 70]، قَالَ: يُبَدِّلُ اللَّهُ شِرْكَهُمْ إِيمَانًا، وَزِنَاهُمْ إِحْصَانًا، وَنَزَلَتْ {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية [الزمر: 53] الآيَةَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حاجب بن سليمان المِنبجيّ) أبو سعيد، صدوق يَهِم [10] 7/ 634 من أفراد المصنّف.

2 -

(ابن أبي روّاد) هو عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي روّاد بفتح الراء، وتشديد الواو- المكيّ، صدوقٌ يخطئ، وكان مُرْجِئًا، أفرط ابن حبّان، فقال: متروك [9] 127/ 2910.

3 -

(ابن جُريج) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقة فقيه فاضل، يدلس ويرسل [6] 28/ 32.

4 -

(عبد الأعلى الثعلبيّ) هو عبد الأعلي بن عامر الثعلبيّ الكوفيّ، صدوقٌ يَهِم

(2)

[6] 85/ 2009.

5 -

(سعيد بن جُبير) الأسديّ الوالبيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه عابد [3] 28/ 436.

6 -

(ابن عبّاس) عبد اللَّه البحر الحبر - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

بفتح الميم، وسكون النون، وكسر الموحّدة، بعدها جيم: نسبة إلى مدينة بالشام. قاله في "لبّ اللباب" 2/ 276.

(2)

هكذا قال "التقريب"، وهي عبارة الساجيّ، لكن الذي في ترجمته من "تهذيب التهذيب" أن الأكثرين على تضعيفه، فتنبّه.

ص: 272

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فمن أفراده، وعبد الأعلى، فمن رجال الأربعة. (ومنها): أن فيه ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ ابْنِ عبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ قَوْمًا كَانُوا قَتَلُوا) المسلمين (فَأَكْثَرُوا) من القتل (وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا) من الزنا (وَانْتَهَكُوا) قال الفيّوميّ: انتهك الرجل الْحُرمةَ: تناولها بما لا يحلّ. انتهى. وحُذف المفعول هنا للتعميم. والمعنى: تناولوا جميع ما حرّم اللَّه تعالى عليهم.

(فَأَتَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ) قال في "الفتح": في رواية الطبرانيّ من وجه آخر عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - أن السائل عن ذلك هو وَحْشِيّ بن حَرْب قاتل حمزة - رضي اللَّه تعالى عنه -، وأنه لما قال ذلك نزلت:{إِلّا من تاب وآمن وعمِل عملًا صالِحًا} الآية [الفرقان: 70]، فقال: هذا شرط شديد، فنزلت:{قُل يا عِبادِي} الآية. وروى ابن إسحاق في "السيرة" قال: حدّثني نافع، عن ابن عمر، عن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - قال:"اتّعدتّ أنا وعيّاش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص أن نهاجر إلى المدينة"، فذكر الحديث في قصّتهم، ورجوع رفيقه، فنزلت:{قُل يا عِبادِي الّذِين أسرفُوا على أنفُسِهِم} الآية [الزمر:53]، قال: فكتب بها إلى هشام. انتهى

(1)

.

(إِنَّ الَّذِي تقُولُ) من كلمة التوحيد (وَتَدْعُو إِليْهِ) من عبادة اللَّه تعالى (لَحَسَنٌ، لَوْ تُخْبِرُنَا) قال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- عنه: يحتمل أن تكون "لو" هنا للامتناع، ويكون جوابها محذوفًا، تقديره: لأسلمنا، أو نحوه. ويحتمل أن تكون للتمنّي، بمعنى "ليت"، والأول أظهر. انتهى

(2)

.

(أَنَّ) بفتح الهمزة؛ لوقوعهما مفعولاً لـ "تخبر"، أو مجرورة بحرف جرّ محذوف قياسًا، كما قال ابن مالك:

وَعَدِّ لَازِمًا بِحَرْفِ جَرِّ

وَإِنْ حُذِفْ لِلمُنْجَرِّ

(1)

"فتح" 9/ 513 "تفسير سورة الزمر".

(2)

"المفهم" 1/ 331.

ص: 273

نَقْلًا وفِي "أَنَّ" و"أَنْ" يَطَّرِدُ

مَعْ أَمْنِ لَبْسٍ كَـ"عجِبْتُ أَنْ يَدُوا

أي بأنّ لما عملنا الخ (لِمَا عَمِلْنَا) جارّ ومجرورٌ خبر مقدّم لـ "أنّ"، وقوله (كَفَّارَةً) بالنصب اسم "أنّ" مؤخّرًا.

فأنزل اللَّه عز وجل: {والّذِين لا يدعُون مع اللَّهِ إِلهًا آخر} إِلى {فأُولئِك يُبدِّلُ اللَّه سيِّئاتِهِم حسناتٍ} ، قال: يُبَدِّلُ اللَّهُ شِرْكَهُمْ إِيمَانًا، وزِنَاهُمْ إِحْصَانًا) هذا أحد القولين في معنى التبديل المذكور في هذه الآية الكريمة، قال الإمام ابن كثير -رحمه اللَّه تعالى- في "تفسيره": في معنى قوله تعالى: {يُبدِّلُ اللَّه سيِّئاتِهِم حسناتٍ} قولان:

[أحدهما]: أنهم بُدّلوا مكان عمل السيّئات بعملِ الحسنات. قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - في الآية، قال: هم المؤمنون كانوا من قبل إيمانهم على السيّئات، فرغب اللَّه بهم عن السيّئات، فحوّلهم إلى الحسنات، فأبدلهم مكان السيّئات الحسنات. ورُوي عن مجاهد، عن ابن عبّاس أنه كان يُنشد عند هذه الآية:

بُدِّلْنَ بَعْدَ حَرِّهِ خَرِيفًا

وَبَعْدَ طُولِ النَّفَسِ الْوَجِيفَا

يعني تغيّرت تلك الأحوال إلى غيرها. وقال عطاء بن أبي رباح: هذا في الدنيا يكون الرجل على صفة قبيحة، ثمّ يُبدّل اللَّه بها خيرًا. وقال سعيد بن جُبير: أبدلهم اللَّه بعبادة الأوثان عبادة الرحمن، وأبدلهم بقتال المسلمين قتال المشركين، وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات. وقال الحسن البصريّ: أبدلهم اللَّه بالعمل السيّىء العملَ الصالح، وأبدلهم بالشرك إخلاصًا، وأبدلهم بالفجور إحصانًا، وبالكفر إسلامًا. وهذا قول أبي العالية، وقتادة، وجماعة آخرين.

[والقول الثاني]: أن تلك السيّئات الماضية تنقلب بنفس التربة النَّصُوح حسنات، وما ذاك إلا لأنه كلّما تذكّر ما مضى نَدِمَ، واسترجع، واستغفر، فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار، فيوم القيامة وإن وجده مكتوبًا عليه، فإنه لا يضرّه، وينقلب حسنةً في صحيفته، كما ثبتت السنّة بذلك، وصحّت به الآثار المرويّة عن السلف - رضي اللَّه تعالى - عنهم، فعن أبي ذر - رضي اللَّه تعالى عنه -، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف آخر أهل النار خروجا من النار، آخر أهل الجنة دخولا الجنة، يؤتى برجل، فيقول: نَحُّوا كبار ذنوبه، وسلُوه عن صغارها، قال: فيقال له عملت كذا، يوم كذا وكذا، وعملت كذا، يوم كذا وكذا، قال: فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئًا، فيقال: فإن لك بكل سيئة حسنة، فيقول: يا رب، لقد عملت أشياء، لم أرها هنا، قال: فضحك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، حتى بدت نواجده" رواه مسلم.

ص: 274

وأخرج الطبرانيّ بسنده عن أبي مالك الأشعريّ - رضي اللَّه تعالى عنه -، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا نام ابن آدم قال الملك للشيطان أعطني صحيفتك، فيُعطيه إياها، فما وجد في صحيفة من حسنة محا بها عشر سيئات من صحفية الشيطان، وكتبهنّ حسنات، فإذا أراد أحدكم أن ينام، فليُكبّر ثلاثًا وثلاثين تكبيرةً، ويحمد أربعًا وثلاثين تحميدةً، ويُسبّح ثلاثين تسبيحة، فتلك مائة". ثم ذكر ابن كثير آثارًا كثيرة تدلّ على أن ذلك التبديل في الآخرة، فراجع "تفسيره" تستفد

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أنه لا تنافي بين القولين، فالآية عامّة لكليهما، ولا داعي لقصرها على أحد المعنيين؛ مع صحّة الدليل على أن كلًّا من التبديلين مقصود بالآية، فتبديل اللَّه تعالى أحوالهم السيّئة بعد التربة النصوح إلى الأحول الحسنة مما لا نقاش فيه، وتبديل اللَّه تعالى لهم ذنوبهم بالحسنات، يعطيهم مكان كلّ سيئة حسنة، ثابت في الحديث الصحيح، فاتّضح أن التبديل الدنيويّ والأخرويّ معًا ثابت لهم، والآية الكريمة دالّةٌ عليه دلالة واضحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(ونزلت: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية) قال في "الفتح" بعد أن ذكر قصّة وحشيّ - رضي اللَّه تعالى عنه - الآنفة الذكر: في رواية الطبرانيّ: "فقال الناس: يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إنا أصبنا ما أصاب وحشيّ، فقال: هي للمسلمين عامّةً". وروى أحمد، والطبرانيّ في "الأوسط" من حديث ثوبان - رضي اللَّه تعالى عنه - قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى اللَّه تعالى عليه وسلم يقول: "ما أُحبّ أنّ لي بهذه الآية الدنيا، وما فيها: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية، فقال رجلٌ: ومن أشرك؟ فسكت ساعة، ثم قال: "ومن أشرك" ثلاث مرّات.

واستُدِلّ بعموم هذه الآية على غفران جميع الذنوب، كبيرِها، وصغيرِها، سواء تعلقت بحّق الآدميين، أم لا، والمشهور عند أهل السنّة أن الذنوب كلّها تُغفر بالتوبة، وأنها تُغفر لمن شاء اللَّه، ولو مات على غير توبة، لكن حقوق الآدميين إذا تاب صاحبها من العود إلى شيء من ذلك تنفعه التوبة من العود، وأما خصوص ما وقع منه فلابدّ له من ردّه لصاحبه، أو محاللته منه. نعم في سعة فضل اللَّه ما يمكن أن يعوّض اللَّه صاحب الحقّ عن حقّه، ولا يُعذّب العاصي بذلك، ويُرشد إليه عموم قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . واللَّه أعلم. انتهى ما في "الفتح"

(2)

.

(1)

"تفسير ابن كثير" 3/ 339 - 341. في تفسير سورة الفرقان.

(2)

"فتح" 9/ 413 - 414. "تفسير سورة الزمر".

ص: 275

ولبعضهم في هذه الآية الكريمة من [الوافر]:

وَمِمَّا زَادنِي شَرَفًا وَتِيهًا

وَكِدتُّ بِأَخْمَصِي أَطَأُ الثُّرَيَّا

دُخُولِي تَحْتَ قَوْلِكَ {يَا عِبَادِي}

وَأَنْ صَيَّرْتَ لِي أَحْمَدَ نَبِيَّا

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح. [فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده ابن أبي روّاد، وعبد الأعلى الثعلبيّ، وقد تكلّم فيهما، كما تقدّم؟.

[قلت]: نعم الإسناد فيه ضعف، لكن يصحّ بالحديث الذي بعده، فإنه متّفقٌ عليه كما سيأتي، إن شاء اللَّه تعالى.

وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- عنه، أخرجنا هنا -2/ 4004 - وفي "الكبرى" 2/ 3466. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4005 -

(أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي يَعْلَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ أَتَوْا مُحَمَّدًا، فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ، وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ، لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً، فَنَزَلَتْ {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68] ، وَنَزَلَتْ {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53]).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير:

1 -

(يعلى) بن مسلم بن هُرمز المكيّ، بصريّ الأصل، ثقة [6].

قال ابن معين، وأبو زرعة: ثقة. وقال يعقوب بن سفيان: مستقيم الحديث. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال الآجريّ، عن أبي داود: يعلي بن مسلم بصريّ، كان بمكّة، وهو غير يعلي بن مسلم المكيّ، ذاك أخو الحسن بن مسلم. روى له الجماعة، سوى ابن ماجه، وله عند المصنّف ثلاثة أحاديث: هذا الحديث، وفي "كتاب البيعة" 13/ 4167 - حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، قال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر وعمر" الحديث، وفي "كتاب البيعة" أيضًا 28/ 4195 - حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -: {يا أيُّها الّذِين آمنُوا أطِيعُوا اللَّه وأطِيعُوا الرّسُول} [النساء: 59] قال: نزلت في عبد اللَّه بن حُذافة" الحديث.

وحديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفقٌ عليه، أخرجه المصنّف هنا -2/ 4005 - وفي "الكبرى" 2/ 3467. وأخرجه (خ) في "التفسير" 4810 (م) في

ص: 276

"الإيمان" 122 (د) في "الفتن"4273. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4006 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي وَرْقَاءُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَجِيءُ الْمَقْتُولُ بِالْقَاتِلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَاصِيَتُهُ وَرَأْسُهُ فِي يَدِهِ، وَأَوْدَاجُهُ تَشْخُبُ دَمًا، يَقُولُ: يَا رَبِّ قَتَلَنِي، حَتَّى يُدْنِيَهُ مِنَ الْعَرْشِ، قَالَ: فَذَكَرُوا لاِبْنِ عَبَّاسٍ التَّوْبَةَ، فَتَلَا هَذِهِ الآيَةَ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93] ، قَالَ: مَا نُسِخَتْ مُنْذُ نَزَلَتْ، وَأَنَّى لَهُ التَّوْبَةُ؟).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، وتقدّموا.

و"رقاء": هو ابن عمر اليشكريّ، أبو بشر الكوفيّ، نزيل المدائن، صدوقٌ [7] 60/ 866.

و"عمرو": هو ابن دينار.

وقوله: "ناصيته، ورأسه في يده": أي ناصية القاتل، ورأسه في يد المقتول، والجملة حالٌ بلا واو، بل الرابط هو الضمير، وفيها ضمير للقاتل والمقتول جميعًا، فيجوز أن تكون حالاً عنهما، أو عن أحدهما. قاله السنديّ.

وقوله: "حتى يدنيه" من الإدناء، وهو متعلّق بـ "يجيء"، أو يقول يكرر السؤال حتى يُدنيه، وضمير الفاعل للَّه تعالى، وضمير المفعول للمقتول، أو الفاعل للمقتول، والمفعول للقاتل. قاله السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاحتمال الثاني هو الصواب؛ لما في رواية الطبرانيّ في "المعجم الكبير" 3/ 95/ 2 - 96/ 1، و"الأوسط" رقم (4375) بإسناد حسن بلفظ:"يجيء المقتول متعلّقًا رأسه بإحدى يديه، متلبّبًا قاتله بيده الأخرى، تشخب أوداجه دمًا، حتى يأتي به العرش، فيقول المقتول لربّ العالمين: هذا قتلني، فيقول اللَّه للقاتل: تَعِسْتَ، ويذهب به إلى النار".

وحديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح، أخرجه المصنّف هنا -2/ 4006 - وفي "الكبرى" 2/ 3468. وأخرجه (ت) في "التفسير" 3029. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4007 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ:

(1)

"شرح السنديّ" 7/ 87.

ص: 277

{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} الآية [النساء: 93] كُلُّهَا بَعْدَ الآيَةِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي الْفُرْقَانِ، بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"الأنصاريّ": هو محمد بن عبد اللَّه بن المثنى بن عبد اللَّه بن أنس بن مالك البصريّ القاضي، ثقة [9] 23/ 1236.

و"محمد بن عمرو" بن علقمة بن وقّاص الليثيّ المدنيّ، صدوقٌ، له أوهام [6] 16/ 17.

و"أبو الزناد": هو عبد اللَّه بن ذكران، أبو عبد الرحمن المدنيّ الفقيه الثقة [5] 7/ 7.

و"خارجة بن زيد": هو ولد زيد بن ثابت الأنصاريّ شيخه في هذا السند، وهو أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، المجموعين في قول بعضهم:

إِذَا قِيلَ مَنْ فِي الْعِلْمِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ

مَقَالَتُهُمْ لَيْسَتْ عَنِ الْحَقِّ خَارِجَهْ

فَقُلْ هُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ عُرْوَةُ قَاسِمُ

سَعِيدٌ أَبُو بَكْرٍ سُلْيْمَانُ خَارِجَهْ

أبو زيد المدنيّ، ثقة [3] 45/ 1920. و"زيد بن ثابت": هو الصحابيّ المشهور - رضي اللَّه تعالى عنه -.

وقوله: "الآية كلّها" يحتمل الرفع على أنه نائب فاعل لفعل محذوف: أي تُقرأ الآية كلُّها. ويحتمل النصب، على أنه مفعول لفعل محذوف: أي اقرأ الآية كلَّها.

وحديث زيد بن ثابت - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح، أخرجه المصنّف هنا -2/ 4007 - وفي "الكبرى" 2/ 3469. وأخرجه [د] في "الفتن والملاحم"4272. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله (قَالَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ) أي النسائيّ -رحمه اللَّه تعالى- (مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو لَمْ يَسْمَعَهُ مِنْ أَبِى الزِّنَادِ) أشار به إلى أن هذا السند منقطع؛ لأن محمد بن عمرو لم يسمعه من أبي الزناد، وإنما سمعه بواسطة، لكن هذا لا يضرّ بصحّة الحديث؛ لأن الواسطة معروف، وهو موسى بن عُقبة، على أنه يحتمل أن يكون سمعه منه، ثم سمعه من شيخه أبي الزناد، فكان يحدّث تارةً عن هذا، وتارة عن هذا، وهذا كثير في روايات الحفّاظ.

والحاصل أن الحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ثم ذكر المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- عنه الواسطة التي أشار إليها في كلامه السابق، فقال:

4008 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو،

ص: 278

عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} ، قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ بَعْدَ الَّتِي فِي تَبَارَكَ الْفُرْقَانِ، بِثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} .

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَدْخَلَ أَبُو الزِّنَادِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَارِجَةَ مُجَالِدَ بْنَ عَوْفٍ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"عبد الوهّاب": هو ابن عبد المجيد الثقفيّ البصريّ، ثقة، تغيّر قبل موته بثلاث سنين [8] 42/ 48. و"موسى بن عقبة": هو الأسديّ مولاهم المدنيّ، ثقة فقيه، إمام في المغازي [5] 96/ 122.

والحديث صحيح، لكن الظاهر أن لفظ:"ستّة أشهر" أصحّ؛ لأنها ثبتت من طريق آخر عن أبي الزناد، فقد أخرجه الطبرانيّ في "المعجم الكبير" 5/ 150/ 4869 بإسناد حسن من طريق سعيد بن أبي هلال، عن يهم بن أبي الجهم، أن أبا الزناد أخبرهم، أن خارجة بن زيد بن ثابت أخبره، عن زيد بن ثابت، قال:"لما نزلت هذه الآية التي في "الفرقان": {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68] عجِبنا للينها، فلبثنا ستة أشهر، ثم نزلت التي في "النساء": {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء: 93] حتى فرغ"

(1)

. وجهم بن أبي الجهم روى عنه ثلاثة، ووثقه ابن حبّان، فيكون حسن الحديث، وبقية الرواة رجال الشيخين. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله (قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَدْخَلَ أَبُو الزِّنَادِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَارِجَةَ مُجَالِدَ بْنَ عَوْفٍ) أشار به إلى أن هذا الإسناد السابق فيه انقطاع، حيث سقط بين أبي الزناد، وبين خارجة مجالد بن عوف، لكن الذي يظهر أنه لا انقطاع فيه؛ لإمكان حمله على أن أبا الزناد سمعه من مجالد، ثم سمعه من خارجة، بدليل رواية الطبرانيّ السابقة، حيث صرّح فيها أن خارجة أخبره، وهذا موجود كثيرًا في روايات الحفّاظ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ثم ذكر رواية مجالد التي أشار إليها بقوله:

4009 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ مُجَالِدِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: سَمِعْتُ خَارِجَةَ

(1)

راجع "السلسلة الصحيحة" للشيخ الألبانيّ 6/ 708 - 709. رقم 2799.

ص: 279

بْنَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93] أَشْفَقْنَا مِنْهَا، فَنَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي فِي (الْفُرْقَانِ):{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68].

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عمرو بن عليّ": هو الفلّاس. و"مسلم بن إبراهيم": هو الأزديّ الفراهيديّ البصريّ، ثقة مأمون مكثرٌ، من صغار [9] 62/ 2315.

و"عبد الرحمن بن إسحاق": هو المدنيّ، نزيل البصرة، يقال له: عبّادٌ، صدوقٌ، رُمي بالقدر [6] 100/ 2618.

و"مجالد بن عوف"، ويقال: عوف بن مُجالد الحضرميّ، حجازيّ صدوقٌ [4].

روى عن خارجة بن زيد. وعنه أبو الزناد، وقال: كان امرأ صدق. قال ابن أبي حاتم: سمع زيد بن ثابت. وذكره ابن حبّان في "الثقات" فيمن اسمه عوف. وقال الذهبيّ: لا يُعرف، تفرّد به أبو الزناد. تفرّد به المصنّف، وأبو داود، له عندهما هذا الحديث فقط.

وقوله: "أشفقنا منه": أي خِفنا من الشّدّة التي فيها، فنزلت الآية التي في (الفُرْقَانَ) للتخيف علينا. قاله السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحديث بهذا اللفظ منكر؛ لأنه مخالف للأحاديث الصحيحة التي سبق بيانها، وذلك فيها أن آية "الفرقان" هي التي نزلت أوّلاً، ثم نزلت آية "النساء"، وفي هذه الرواية بالعكس، وهي من رواية مجالد المذكور، وهو ليس بالمشهور، ولا سيّما مع هذه المخالفة، فتأمّل.

وأما جواب السنديّ في "شرحه"، حيث قال: وهذا يفيد خلاف ما ذكره ابن عبّاس، والجمع ممكنٌ بأنه بلغ بعضًا إحدى الآيتين أوّلاً، ثم بلغتهم الثانية، فظنّوا التي بلغت ثانيًا أنها نزلت ثانيًا، إلا أن روايات هذا الحديث في نفسها أيضًا متعارضة، فالاعتماد على حديث ابن عبّاس. واللَّه تعالى أعلم. انتهى. فغير مقبول، كما أشار إليه نفسه في آخر كلامه، فالحقّ أن هذه الرواية بهذا اللفظ منكرة، والصحيح الروايات المتقدّمة الموافقة لحديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

"شرح السنديّ" 7/ 88.

ص: 280

‌3 - (ذِكْرُ الْكَبَائِرِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أراد به بعض الكبائر؛ إذ لم يستوف الأحاديث الواردة في ذلك، وسأذكر ما ذكره العلماء، مما ورد فيه في المسألة الثالثة،، إن شاء اللَّه تعالى.

و"الكبائر": جمع كبيرة، وقد اختُلف في حدّها على أقوال كثيرة، سيأتي تفصيلها مستوفًى في المسألة الخامسة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

4010 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا بَقِيَّةُ قَالَ: حَدَّثَنِي بَحِيرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، أَنَّ أَبَا رُهْمٍ السَّمَعِيَّ حَدَّثَهُمْ، أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِيَّ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ جَاءَ يَعْبُدُ اللَّهَ، وَلَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَيُؤْتِى الزَّكَاةَ، وَيَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ، كَانَ لَهُ الْجَنَّةُ» ، فَسَأَلُوهُ عَنِ الْكَبَائِرِ؟ ، فَقَالَ: «الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُسْلِمَةِ، وَالْفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) الحنظليّ المروزيّ المعروف بابن راهويه، ثقة ثبت [10] 2/ 2.

2 -

(بقيّة) بن الوليد الكلاعيّ، أبو يُحمِد الحمصيّ، صدوق كثير التدليس عن الضعفاء [8] 45/ 55.

3 -

(بَحِير بن سَعْد) السَّحُوليّ، أبو خالد الْحمصيّ، ثقة ثبت [6] 1/ 688.

[تنبيه]: وقع في "الكبرى""يحيى بن سعيد" بدل "بحِير بن سعد"، وهو تصحيفٌ فاحش، والصواب ما هنا، وقد وقع على الصواب عنده في "كتاب السير" 53/ 8655 - فقد رواه عن عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير، عن بقيّة، عن بحير، عن خالد، وهو ابن معدان الخ. واللَّه تعالى أعلم.

4 -

(خالد بن معدان) الكلاعيّ الحمصيّ، ثقة عابد [3] 1/ 688.

5 -

(أبو رُهْم) بضمّ، فسكون- السَّمَعيّ

(1)

- اسمه أحزاب بن أسِيد، مخضرم ثقة [2] 25/ 2163.

(1)

"السَّمَعِيُّ-: قال في "القاموس": والسَّمَعُ محَرّكةً، أو كعِنَبٍ هو ابن مالك بن زيد بن سهل، أبو قبيلة من حِمْير منهم: أبو رُهْم أحزاب بن أَسِيد. انتهى.

ص: 281

6 -

(أبو أيوب الأنصاريّ) خالد بن زيد بن كُليب النجّاريّ الصحابيّ الشهير، شهد بدرًا، وما بعدها، ونزل النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه حين قَدِمَ المدينة، ومات - رضي اللَّه تعالى عنه - غازيًا بالروم سنة (50) وقيل: بعدها، تقدّم في 20/ 20. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير بحير، فمن رجال الأربعة، وغير أبي رُهم، فمن رجالهم، غير الترمذيّ. (ومنها): أنه مسلسل بالشاميين، غير شيخه، فمروزيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، أَنَّ أَبَا رُهْمٍ السَّمَعِيَّ حَدَّثَهُمْ) أي حدّث خالدًا ومن معه (أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِيَّ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (حَدَّثَهُ) أي حدّث أبا رُهم (أَنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ جَاءَ) أي في يوم القيامة (يَعْبُدُ اللَّهَ) أي يوحّده (وَلَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) تأكيد لما قبله، ولا يضرّه صورة العطف للمغايرة بالمفهوم، أو معنا "يعبد اللَّه": يُطيعه فيما يُطيقه، فما بعده إلى قوله:"ويجتنب الكبائر" تخصيص بعد تعميم (ويُقِيمُ الصَّلَاةَ، ويُؤْتِي الزَّكَاةَ) زاد في "الكبرى" في "السير" من طريق عمرو بن عثمان المذكورة، عن بقيّة زيادة:"ويصوم شهر رمضان"، وهي عند أحمد في "مسنده" من طريق حَيْوَةَ بن شُريح، عن بقيّة، ولفظه:"ويصوم رمضان"(وَيَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ) أي يبتعد عنها (كَانَ لَهُ الْجَنَّةُ"، فَسَأَلُوهُ) أي الصحابة الذين كانوا حاضرين عنده صلى الله عليه وسلم حينما حدّث بهذا الحديث (عَنْ الْكَبَائِرَ؟) أي عن المراد بقوله: "ويجتنب الكبائر"(فقال) صلى الله عليه وسلم (الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ) خبر لمحذوف: أي هي الإشراك باللَّه تعالى (وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُسْلِمَةِ) أي المعصومة الدم، وأما غير المعصومة بأن قتل نفسًا، فاستحقّ القصاص، أو زنى محصنًا، فاستحقّ الرجم، أو نحو ذلك، فليس داخلاً في هذا (وَالفِرَارُ) بكسر الفاء أي الهروب، يقال: فرّ من عدوّه يفرّ، من باب ضرب فِرارًا: هرب (يَوْمَ الزَّحْفِ) أي يوم الجهاد، ولقاء العدوّ في الحرب، والزَّحْفُ: الجيش، يَزحَفُون إلى العدوّ، أي يمشون، يقال: زَحَفَ إليه زَحْفًا، من باب نَفَعَ: إذا مشى نحوه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 282

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي أيوب الأنصاريّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا 3/ 4010 - وفي "الكبرى" 3/ 3472 وفي "السير" أيضًا 53/ 8655. وأخرجه (أحمد) في "باقي مسند الأنصار"229 [9] واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان بعض الكبائر. (ومنها): أن من جاء يوم القيامة موحّدًا، وملتزمًا لأحكام الإسلام، ومجتنبًا لكبائر الذنوب دخل الجنّة. (ومنها): أن فيه إشارة إلى أنه لابدّ من هذه الأمور حتى يكون المكلّف عابدًا له تعالى، وأن مناط الأمر عليه، فمن أتى بهذا القدر من الطاعة فله الجنّة، وإن قصّر في غيره (ومنها): أن الصغائر تُغفر باجتناب الكبائر، كما قال اللَّه تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} الآية [النساء: 31]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): فيما ذكر ما ورد من الآثار في الكبائر:

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: المراد بالموبقة هنا الكبيرة، كما ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه من وجه آخر، أخرجه البزّار، وابن المنذر، من طريق عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه رضي الله عنه، رفعه: "الكبائر الشرك باللَّه، وقتل النفس

" الحديث، مثل رواية أبي الغيث، إلا أنه ذكر بدل السحر الانتقال إلى الأعرابيّة بعد الهجرة. وأخرج النسائيّ، والطبرانيّ، وصححه ابن حبّان، والحاكم من طريق صُهيب، مولى العتواريين، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأبي سعيد، قالا: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يُصلّي الخمس، ويجتنب الكبائر السبع، إلا فُتحت له أبواب الجنّة" الحديث، ولكن لم يفسّرها. والمعتمد في تفسيرها ما وقع في رواية سالم، وقد وافقه كتاب عمرو بن حزم الذي أخرجه النسائيّ، وابن حبّان في "صحيحه"، والطبرانيّ، من طريق سليمان بن داود، عن الزهريّ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جدّه، قال: "كتب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كتاب الفرائض، والديات، والسنن، وبعث به مع عمرو بن حزم إلى اليمن" الحديث بطوله، وفيه: "وكان في الكتاب: وإن أكبر الكبائر الشرك"، فذكر مثل حديث سالم سواء. وللطبرانيّ من حديث سهل بن أبي حثمة، عن عليّ رضي الله عنه رفعه: "اجتنب الكبائر السبع"، فذكرها، لكن ذكر "التعرّب بعد

ص: 283

الهجرة"، بدل "السحر". وله في "الأوسط" من حديث أبي سعيد مثله، وقال: "الرجوع إلى الأعراب بعد الهجرة". ولإسماعيل القاضي من طريق المطّلب بن عبد اللَّه بن حنطب، عن عبد اللَّه بن عمرو، قال: "صعد النبيّ صلى الله عليه وسلم المنبر، ثم قال: أبشروا، من صلّى الخمس، واجتنب الكبائر السبع، نودي من أبواب الجنّة"، فقيل له: أسمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يذكرهنّ؟ قال: نعم، فذكر مثل حديث عليّ سواءً. وقال عبد الرزّاق: أنبأنا معمرٌ، عن الحسن، قال: "الكبائر الإشراك باللَّه"، فذكر مثل الأصول سواءً، إلا أنه قال: "اليمين الفاجرة"، بدل "السحر". ولابن عمرو فيما أخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد"، والطبريّ في "التفسير"، وعبد الرزاق، والخرائطيّ في "مساوئ الأخلاق"، وإسماعيل القاضي في "أحكام القرآن"، مرفوعًا، وموقوفًا، قال: "الكبائر تسع"، فذكر السبعة المذكورة، وزاد "الإلحاد في الحرم، وعُقُوق الوالدين". ولأبي داود، والطبرانيّ، من رواية عُبيد بن عُمير بن قتادة الليثيّ، عن أبيه، رفعه: "إن أولياء اللَّه المصلّون، ومن يجتنب الكبائر"، قالوا: ما الكبائر؟ قال: هنّ تسعٌ، أعظمهنّ الإشراك باللَّه"، فذكر مثل حديث ابن عمر سواءً، إلا أنه عبّر عن "الإلحاد في الحرم" باستحلال البيت الحرام. وأخرج الإسماعيليّ القاضي بسند صحيح إلى سعيد بن المسيّب، قال:"هنّ عشرٌ"، فذكر السبعة التي في الأصل، وزاد:"وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وشرب الخمر". ولابن أبي حاتم من طريق مالك بن حريث، عن عليّ رضي الله عنه قال:"الكبائر"، فذكر التسعة، إلا مال اليتيم، وزاد العقوق، والتعرّب بعد الهجرة، وفراق الجماعة، ونكث الصفقة. وللطبرانيّ عن أبي أمامة أنهم تذاكروا الكبائر، فقالوا: الشرك، ومال اليتيم، والفرار من الزحف، والسحر، والعقوق، وقول الزور، والغلول، والزنا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"فأين تجعلون الذين يشترون بعهد اللَّه ثمنًا قليلاً؟ ". وعند عبد الرزّاق، والطبرانيّ، عن ابن مسعود رضي الله عنه:"أكبر الكبائر الإشراك باللَّه، والأمن من مكر اللَّه، والقنوط من رحمة اللَّه، واليأس من روح اللَّه"، وهو موقوف. وروى إسماعيل بسند صحيح، من طريق ابن سيرين، عن عبد اللَّه بن عمرو مثل حديث الأصل، لكن قال:"البهتان" بدل السحر، والقذف، فسُئل عن ذلك؟ فقال: البهتان يجمع.

وفي "الموطّإ" عن النعمان بن مرّة مرسلاً: "الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، فواحش"، وله شاهد من حديث عمران بن حُصين عند البخاريّ في "الأدب المفرد"، والطبرانيّ، والبيهقيّ، وسنده حسنٌ، وتقدّم حديث ابن عبّاس في النميمة، ومن رواه بلفظ الغيبة، وترك التنزّه من البول، كلّ ذلك في "الطهارة". ولإسماعيل القاضي، من

ص: 284

مرسل الحسن، ذكر "الزنا والسرقة"، وله عن أبي إسحاق السبيعيّ:"شتم أبي بكر وعمر"، وهو لابن أبي حاتم من قول مغيرة بن مِقسم. وأخرج الطبريّ عنه بسند صحيح:"الإضرار في الوصيّة من الكبائر"، وعنه "الجمع بين الصلاتين من غير عذر"، رفعه، وله شاهد أخرجه ابن أبي حاتم عن عمر قوله، وعند إسماعيل من قول ابن عمر ذكر النُّهْبة، ومن حديث بُريدة عند البزّار منع فضل الماء، ومنع طروق الفحل، ومن حديث أبي هريرة عند الحاكم:"الصلوات كفّارات إلا من ثلاث: الإشراك باللَّه، ونكث الصفقة، وترك السنّة"، ثم فسّر نكث الصفقة بالخروج على الإمام، وترك السنّة بالخروج عن الجماعة. أخرجه الحاكم. ومن حديث ابن عمر عند ابن مردويه:"أكبر الكبائر سوء الظنّ باللَّه".

ومن الضعيف في ذلك نسيان القرآن. أخرجه أبو داود، والترمذيّ، عن أنس رضي الله عنه رفعه:"نظرت في الذنوب، فلم أرَ أعظم من سورة من القرآن أوتيها رجل، فنسيها". وحديث: "من أتى حائضًا، أو كاهنًا، فقد كفر". أخرجه الترمذيّ.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: فهذا جميع ما وقفت عليه، مما ورد التصريح بأنه من الكبائر، أو من أكبر الكبائر، صحيحًا، وضعيفًا، مرفوعًا، وموقوفًا، وقد تتبّعته غاية التتبّع، وفي بعضه ما ورد خاصًّا، ويدخل في عموم غيره، كالتسبّب في لعن الوالدين، وهو داخل في العقوق، وقتل الولد، وهو داخل في قتل النفس، والزنا بحليلة الجار، وهو داخلٌ في الزنا، والنُّهْبة، والغلول، واسم الخيانة يشمله، ويدخل الجميع في السرقة، وتعلّم السحر، وهو داخل في السحر، وشهادة الزور، وهي داخلة في قول الزور، ويمين الغموس، وهي داخلة في اليمين الفاجرة، والقنوط من رحمة اللَّه،

كاليأس من روح اللَّه.

والمعتمد في كلّ ذلك ما ورد مرفوعًا بغير تداخل من وجه صحيح، وهي السبعة المذكورة في حديث الباب، والانتقال عن الهجرة، والزنا، والسرقة، والعقوق، واليمين الغموس، والإلحاد في الحرم، وشرب الخمر، وشهادة الزور، والنميمة، وترك التنزّه من البول، والغلول، ونكث الصفقة، وفراق الجماعة، فتلك عشرون خصلة، وتتفاوت مراتبها، والمجمع على عدّه من ذلك أقوى من المختلف فيه، إلا ما عضده القرآن، أو الإجماع،، فيلتحق بما فوقه، ويجتمع من المرفوع، ومن الموقوف ما يقاربها.

ويحتاج عند هذا إلى الجواب عن الحكمة في الاقتصار على سبع. ويجاب بأن مفهوم العدد ليس بحجة، وهو جواب ضعيف. وبأنه أُعلم أوّلًا بالمذكورات، ثم أعلم

ص: 285

بما زاد، فيجب الأخذ بالزائد، أو أن الاقتصار وقع بحسب المقام بالنسبة للسائل، أو من وقعت له واقعة، ونحو ذلك. وقد أخرج الطبريّ، واسماعيل القاضي، عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - أنه قيل له: الكبائر سبع، فقال: هنّ أكثر من سبع، وسبع، وفي رواية عنه: هي إلى السبعين أقرب، وفي رواية إلى السبعمائة. ويحمل كلامه على المبالغة بالنسبة إلى من اقتصر على سبع، وكأن المقتصر عليها اعتمد على حديث الباب المذكور. انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في تقسيم الذنوب إلى صغائر، وكبائر: وقد اختلف السلف في الكبائر والصغار، فذهب الجمهور إلى أن من الذنوب كبائر، ومنها صغائر. وشذّت طائفة منهم: أبو إسحاق الاسفرايينيّ، فقال: ليس في الذنوب صغيرة، بل كلّ ما نهى اللَّه عنه كبيرة. ونقل ذلك عن ابن عبّاس، وحكاه القاضي عياض عن المحقّقين، واحتجّوا بأن كلّ مخالفة للَّه، فهي بالنسبة إلى جلاله كبيرة اهـ.

ونسبه ابن بطّال إلى الأشعريّة، فقال: انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر هو قول عامّة الفقهاء، وخالفهم في ذلك من الأشعريّة أبو بكر بن الطيّب، وأصحابه، فقالوا: المعاصي كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال: القُبْلة المحرّمة صغيرة بإضافتها إلى الزنا، وكلّها كبائر، قالوا: ولا ذنب عندنا يُغفر واجبًا باجتناب ذنب آخر، بل كلّ ذلك كبيرة، مرتكبه في المشيئة غير الكفر؛ لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]. وأجابوا عن الآية التي احتجّ أهل القول الأول بها، وهي قوله تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31]، أن المراد الشرك. وقد قال الفرّاء: من قرأ "كبائر"، فالمراد بها كبير، وكبير الإثم هو الشرك، وقد يأتي لفظ الجمع، والمراد به الواحد، كقوله تعالى:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105]، ولم يُرسل إليهم غير نوح عليه السلام، قالوا: وجواز العقاب على الصغيرة كجوازه على الكبيرة اهـ.

قال النوويّ: قد تظاهرت الأدلّة من الكتاب والسنّة إلى القول الأول. وقال الغزاليّ في "البسيط": إنكار الفرق بين الصغيرة والكبيرة، لا يليق بالفقيه.

قال الحافظ: قد حقّق إمام الحرمين المنقول عن الأشاعرة، واختاره، وبيّن أنه لا يخالف ما قاله الجمهور، فقال في "الإرشاد": المرضيّ عندنا أن كلّ ذنب يُعصى اللَّه به كبيرة، فربّ شيء يُعدّ صغيرة بالإضافة إلى الأقران، ولو كان في حقّ الملك لكان كبيرة، والربٌ أعظم من عُصي، فكلّ ذنب بالإضافة إلى مخالفته عظيم، ولكن

ص: 286

الذنوب، وإن عظمت، فهي متفاوتة في رتبها. وظنّ بعض الناس أن الخلاف لفظيّ، فقال: التحقيق أن للكبيرة اعتبارين، فبالنسبة إلى مقايسة بعضها لبعض، فهي تختلف قطعًا، وبالنسبة إلى الآمر الناهي، فكلّها كبائر اهـ.

والتحقيق أن الخلاف معنويّ، وإنما جرى إليه الأخذ بظاهر الآية، والحديث الدالّ على أن الصغائر تُكفّر باجتناب الكبائر، كما تقدّم. واللَّه تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ: ما أظنّه يصحّ عن ابن عباس أن كلّ ما نهى اللَّه عز وجل عنه كبيرة؛ لأنه مخالف لظاهر القرآن في الفرق بين الصغائر والكبائر في قوله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32]، وقوله:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]، فجعل في المنهيّات صغائر وكبائر، وفرّق بينهما في الحكم، إذ جعل تكفير السيّآت في الآية مشروطًا باجتناب الكبائر، واستثنى اللمم من الكبائر والفواحش، فكيف يخفى ذلك على حبر القرآن.

قال الحافظ: ويؤيّده ما سيأتي عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - في تفسير اللمم، لكن النقل المذكور عنه، أخرجه إسماعيل القاضي، والطبريّ بسند صحيح على شرط الشيخين إلى ابن عبّاس، فالأولى أن يكون المراد بقوله:"نهى اللَّه عنه" محمولًا على نهي خاصّ، وهو الذي قُرن به وعيد، كما قُيّد في الرواية الأخرى عن ابن عباس، فيحمل مطلقه على مقيّده جمعًا بين كلاميه.

وقال الطيبيّ: الصغيرة والكبيرة أمران نسبيّان، فلا بدّ من أمر يضافان إليه، وهو أحد ثلاثة أشياء: الطاعة، أو المعصية، أو الثواب، فأما الطاعة، فكلّ ما تكفّره الصلاة مثلاً هو من الصغائر، وكلّ ما يكفّره الإسلام، أو الهجرة فهو من الكبائر. وأما المعصية، فكلّ معصية يستحقّ فاعلها بسببها وعيدًا، أو عقابًا أزيد من الوعيد، أو العقاب المستحقّ بسبب معصية أخرى، فهي كبيرة. وأما الثواب، ففاعل المعصية إذا كان من المقرّبين، فالصغيرة بالنسبة إليه كبيرة، فقد وقعت المعاتبة في حقّ بعض الأنبياء على أمور لم تعدّ من غيرهم معصية اهـ.

وكلامه فيما يتعلّق بالوعيد والعقاب يخصّص عموم من أطلق أن علامة الكبيرة ورود الوعيد، أو العقاب في حقّ فاعلها، لكن يلزم منه أن مطلق قتل النفس مثلاً كبيرة، كأنه وإن ورد الوعيد فيه، أو العقاب، لكن ورد الوعيد والعقاب في حقّ قاتل ولده أشدّ، فالصواب ما قاله الجمهور، وأن المثال المذكور، وما أشبهه ينقسم إلى كبير وأكبر. انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم

(1)

"فتح" 12/ 14 - 16. "كتاب الأدب".

ص: 287

بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حدّ الكبيرة:

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: واختلفوا في ضبط الكبيرة اختلافًا كثيرًا منتشرًا، فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها كلّ ذنب ختمه اللَّه بنار، أو غَضَبٍ، أو لعنةٍ، أو عذابٍ، قال: وجاء نحو هذا عن الحسن البصريّ. وقال آخرون: هي ما أوعد اللَّه عليه بنار في الآخرة، أو أوجب فيه حدًّا في الدنيا. قال الحافظ: وممن نصّ على هذا الأخير الإمام أحمد فيما نقله القاضي أبو يعلى، ومن الشافعيّة الماورديّ، ولفظه: الكبيرة ما وجبت فيه الحدود، أو توجّه إليها الوعيد. والمنقول عن ابن عبّاس أخرجه ابن أبي حاتم بسند لا بأس به، إلا أن فيه انقطاعًا. وأخرج من وجه آخر متّصل لا بأس برجاله أيضًا عن ابن عبّاس، قال:"كلّ ما توعّد اللَّه عليه بالنار كبيرة".

وقد ضبط كثير من الشافعيّة الكبائر بضوابط أخرى، منها: قول إمام الحرمين: كلّ جريمة تؤذن بقلّة اكتراث مرتكبها بالدين، ورقّة الديانة. وقول الْحَلِيميّ: كلّ محرّم لعينه، منهيّ عنه لمعنى في نفسه. وقال الرافعي: هي ما أوجب الحدّ. وقيل: ما يلحق الوعيد بصاحبه بنصّ كتاب، أو سنّة.

هذا أكثر ما يوجد للأصحاب، وهم إلى ترجيح الأول أميل، لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر انتهى كلامه.

وقد استُشكل بأن كثيرًا مما وردت النصوص بكونه كبيرةً لا حدّ فيه، كالعقوق. وأجاب بعض الأئمة بأن مراد قائله ضبط ما لم يرد فيه نصٌّ بكونه كبيرةً. وقال ابن عبد السلام في "القواعد": لم أقف لأحد من العلماء على ضابط للكبيرة، لا يَسلَم من الاعتراض، والأولى ضبطها بما يُشعر بتهاون مرتكبها بدينه، إشعارَ أَدْوَنِ الكبائر المنصوص عليها. قال الحافظ: وهو ضابط جيّد. وقال القرطبيّ في "المفهم": الراجح أن كلّ ذنب نصّ على كبره، أو عظمه، أو توعّد عليه بالعقاب، أو عُلِّق عليه حدّ، أو شدّد النكير عليه، فهو كبيرة. وكلام ابن الصلاح يوافق ما نقل أوّلًا عن ابن عبّاس، وزاد إيجاب الحدّ. وعلى هذا يكثر عدد الكبائر. وقد ذهب آخرون إلى أن الذنوب التي لم يُنصّ على كونها كبيرة مع كونها كبيرة لا ضابط لها، فقال الواحديّ: ما لم ينصّ الشارع على كونه كبيرة، فالحكمة في إخفائه أن يمتنع العبد من الوقوع فيه خشية أن يكون كبيرة، كإخفاء ليلة القدر، وساعة الجمعة، والاسم الأعظم. واللَّه أعلم

(1)

.

(1)

(2) راجع "الفتح" 12/ 14 - 16 "كتاب الأدب".

ص: 288

وقال الحافظ في "كتاب الحدود" من "الفتح" بعد أن أورد الأحاديث الواردة في الكبائر: ما نصّه: وإذا تقرّر ذلك عُرف فساد من عرّف الكبيرة بأنها ما وجب فيها الحدّ؛ لأن أكثر المذكورات لا يجب فيها الحدّ. قال الرافعيّ في "الشرح الكبير": الكبيرة هي الموجبة للحدّ. وقيل: ما يُلحق الوعيد بصاحبه بنصّ كتاب، أو سنّة. وهذا أكثر ما يوجد للأصحاب، وهم إلى ترجيح الأول أميل، لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر. وقد أقرّه في "الروضة"، وهو يُشعر بأنه لا يوجد عن أحد من الشافعيّة الجمع بين التعريفين، وليس كذلك، فقد روى الماورديّ في "الحاوي": هي ما يوجب الحدّ، أو توجه إليها الوعيد، و"أو" في كلامه للتنويع، لا للشكّ، وكيف يقول عالم: إن الكبيرة ما ورد فيه الحدّ مع التصريح في "الصحيحين" بالعقوق، واليمين الغموس، وشهادة الزور، وغير ذلك، والأصل فيما ذكره الرافعيّ قول البغويّ في "التهذيب": من ارتكب كبيرة، من زنا، أو لواط، أو شرب خمر، أو غصب، أو سرقة، أو قتل بغير حقّ، تُردّ شهادته، وإن فعله مرّةً واحدةً، ثم قال: فكلّ ما يوجب الحدّ من المعاصي، فهو كبيرةٌ. وقيل: ما يلحق الوعيد بصاحبه بنصّ كتاب، أو سنّة انتهى. والكلام الأول لا يقتضي الحصر، والثاني هو المعتمد.

وقال ابن عبد السلام: لم أقف على ضابط الكبيرة -يعني يسلم من الاعتراض- قال: والأولى ضبطها بما يُشعر بتهاون مرتكبها إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها، قال: وضبطها بعضهم بكلّ ذنب قُرن به وعيدٌ، أو لعنٌ.

قال الحافظ: وهذا أشمل من غيره، ولا يَرِد عليه إخلاله بما فيه حدّ؛ لأن كلّ ما ثبت فيه الحدّ، لا يخلو من ورود الوعيد على فعله، ويدخل فيه ترك الواجبات الفوريّة منها مطلقًا، والمتراخية إذا تضيّق.

وقال ابن الصلاح: لها أمارات: [منها]: إيجاب الحدّ. [ومنها]: الإيعاد عليها بالعذاب بالنار، ونحوها في الكتاب أو السنّة. [ومنها]: وصف صاحبها بالفسق. [ومنها]: اللعن. قال الحافظ: وهذا أوسع مما قبله.

وقد أخرج إسماعيل القاضي بسند فيه ابن لَهِيعة، عن أبي سعيد - رضي اللَّه تعالى عنه - مرفوعًا:"الكبائر كلّ ذنب أدخل صاحبه النار"، وبسند صحيح عن الحسن البصريّ، قال:"كلّ ذنب نسبه اللَّه تعالى إلى النار، فهو كبيرة".

ومن أحسن التعاريف قول القرطبيّ في "المفهم": كلّ ذنب أُطلق عليه بنصّ كتاب، أو سنة، أو إجماع أنه كبيرة، أو عظيم، أو أخبر فيه بشدّة العذاب، أو عُلّق عليه الحدّ، أو شُدّد النكير عليه، فهو كبيرة".

ص: 289

وعلى هذا فينبغي تتبّع ما ورد فيه الوعيد، أو اللعن، أو الفسق، من القرآن، أو الأحاديث الصحيحة والحسنة، ويُضمّ إلى ما ورد فيه التنصيص في القرآن، والأحاديث الصحاح، والحسان على أنه كبيرة، فمهما بلغ مجموع ذلك عُرف منه تحرير عَدّها.

قال الحافظ: وقد شرعت في جمع ذلك، وأسأل اللَّه الإعانة على تحريره بمنّه وكرمه.

وقال الْحَلِيميّ في "المنهاج": ما من ذنب إلا وفيه صغيرة، وكبيرة، وقد تنقلب الصغيرة كبيرة بقرينة تُضمّ إليها، وتنقلب الكبيرة فاحشةً كذلك، إلا الكفر باللَّه، فإنه أفحش الكبائر، وليس من نوعه صغيرة. قال الحافظ: ومع ذلك فهو ينقسم إلى فاحش، وأفحش.

ثم ذكر الحليميّ أمثلةً لما قال:

فالثاني كقتل النفس بغير حقّ، فإنه كبيرة، فإن قتل أصلًا، أو فرعًا، أو ذا رحم، أو بالحرم، أو بالشهر الحرام، فهو فاحشة. والزنا كبيرة، فإن كان بحليلة الجار، أو بذات رحم، أو في شهر رمضان، أو في الحرم، فهو فاحشة. وشرب الخمر كبيرة، فإن كان في شهر رمضان نهارًا، أو في الحرم، أو جاهر به، فهو فاحشةٌ.

والأول: كالمفاخذة مع الأجنبيّة صغيرة، فإن كان مع امرأة الأب، أو حليلة الابن، أو ذات رحم، فكبيرة. وسرقة ما دون النصاب صغيرةٌ، فإن كان المسروق منه لا يملك غيره، وأفضى به عدمه إلى الضعف، فهو كبيرة، وأطال في أمثلة ذلك. وفي الكثير منه ما يُتعقّب، لكن هذا عنوانه، وهو منهجٌ حسنٌ، لا بأس باعتباره، ومداره على شدّة المفسدة، وخفّتها. انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

وقد أشار الحافظ السيوطيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "الكوكب الساطع" إلى الخلاف المذكور في حدّ الكبيرة، وذكر بعض أمثلة الكبائر، فقال:

وَفِي الْكَبِبرَةِ اضْطِرَابٌ إِذْ تُحَدُّ

فَقِيلَ ذُو تَوَعُّدٍ وَقِيلَ حَدُّ

وَقِيلَ مَا فِي جِنْسِهِ حَدٌّ وَمَا

كِتَابُنَا بِنَصِّهِ قَدْ حَرَّمَا

وَقِيلَ لَا حَدَّ لَهَا بَلْ أُخْفِيَتْ

وَقِيلَ كُلٌّ وَالصِّغَارُ نُفِيَتْ

وَالْمُرْتَضَى قَوْلُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنْ

جَرِيمَةٌ تُؤْذِنُنَا بِغَيْرِ مَينْ

بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ مَنْ أَتَاهُ

بِالدِّينِ وَالرِّقَّةِ فِي تَقْوَاهُ

كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ

وَمُطْلَقِ الْمُسْكِرِ ثُمِّ السِّحْرِ

(1)

"فتح" 14/ 159 - 161. "كتاب الحدود" رقم الحديث 6857.

ص: 290

وَالْقَذْفِ وَاللِّوَاطِ ثُمَّ الْفِطْرِ

(1)

وَيَأْسِ رَحْمَةٍ وَأَمْنِ مَكْرِ

وَالْغَصْبِ وَالسَّرْقَةِ وَالشَّهَادَةِ

بِالزُّورِ وَالرَّشْوَةِ وَالْقِيَادَةِ

(2)

مَنْعِ زَكَاةٍ وَدِيَاثَةٍ

(3)

فِرَارْ

خِيَانَةٍ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ ظِهَارْ

نَمِيمَةٍ كَتْمِ شَهَادَةٍ يَمِينْ

فَاجِرَةٍ عَلَى نَبِيِّنَا يِمِينْ

(4)

وَسَبِّ صَحْبِهِ وَضَرْبِ الْمُسْلِمٍ

سِعَايَةٍ

(5)

عَقِّ وَقَطْعِ الرَّحِمِ

حِرَابَةٍ تَقْدِيمِهِ الصَّلَاةَ أَوْ

تَأْخِيرِهَا وَمَالَ أَيْتَامٍ رَوَوْا

وَأَكَلِ خِنْزِيرِ وَمَيْتٍ وَالرِّبَا

وَالْغَلِّ

(6)

أَوْ صَغِيرَةٍ قَدْ وَاظَبَا

(7)

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

4011 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ح وَأَنْبَأَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْكَبَائِرُ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَقَوْلُ الزُّورِ»).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن عبد الأعلى) الصنعانيّ، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقة [10] 5/ 5.

2 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه المذكور في السند السابق.

3 -

(خالد) بن الحارث الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.

4 -

(النضر بن شُمَيل) المازنيّ النحويّ اللغويّ، أبو الحسن البصريّ، نزيل مرو، ثقة ثبت، من كبار [9] 41/ 45.

5 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت [7] 24/ 27.

(1)

أي في رمضان من غير عذر.

(2)

هي استحسان الرجل الفاحشة على غير أهله.

(3)

هي استحسان الرجل الفاحشة على أهله.

(4)

أي يكذب على النبيّ صلى الله عليه وسلم.

(5)

هو أن يذهب بشخص إلى ظالم ليؤذيه.

(6)

أي الغلول، وهي الخيانة في الغنيمة.

(7)

راجع "الكوكب الساطع في نظم بيع الجوامع" ص 295 - 303. بنسخة شرحي "الجليس الصالح النافع".

ص: 291

6 -

(عُبيد اللَّه بن أبي بكر) أنس بن مالك، أبو معاذ الأنصاريّ البصريّ، ثقة [4].

قال أحمد، وابن معين، وأبو داود، والنسائيّ: ثقة. وقال أبو حاتم: صالحٌ. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له الجماعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وأعاده سندًا ومتنًا في "كتاب القسامة" -48/ 4868 - باب "ما جاء في كتاب القصاص من المجتبى". واللَّه تعالى أعلم.

7 -

(أنس) بن مالك بن النضر الصحابيّ الخادم الشهير - رضي اللَّه تعالى عنه - 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين، غير إسحاق، فمروزيّ. (ومنها): أن فيه رواية الراوي عن جدّه. (ومنها): أن فيه أنسًا - رضي اللَّه تعالى عنه - من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا) - رضي اللَّه تعالى عنه - (يَقُولُ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية للبخاريّ: "سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الكبائر؟، قال الإشراك باللَّه (الْكَبَائِرُ) المراد أكبرها، كما صرّح به في حديث أبي بكرة - رضي اللَّه تعالى عنه -: "ألا أنبّئكم بأكبر الكبائر"، وليس المراد حصر الكبائر في هذه الأشياء، كما تقدّم بيانه في مسائل الحديث الماضي (الشِّرْكُ بِاللَّهِ) يحتمل مطلق الكفر، ويكون تخصيصه بالذكر لغلبته في الوجود، ولاسيّما في بلاد العرب، فذكره تنبيهًا على غيره. ويحتمل أن يراد به خصوصيّته، إلا أنه يرد عليه أن بعض الكفر أعظم قُبحًا من الإشراك، وهو التعطيل؛ لأنه نفي مطلقٌ، والشرك إثبات مقيّدٌ، فيترجّح الاحتمال الأول. أفاده في "الفتح"

(1)

.

(وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ) أي عصيانهما، وقطع البرّ الواجب عنهما، وأصل العقّ: الشّقّ والقطع، ومنه قيل للذبيحة عن المولود: عقيقة؛ لأنه يُشقّ حلقومها. قاله الهرويّ، وغيره.

(2)

(1)

"فتح" 5/ 592 - 593. "كتاب الشهادات".

(2)

"المفهم" 1/ 282. "كتاب الإيمان".

ص: 292

(وَقَتْلُ النَّفْسِ) أي التي حرّم اللَّه قتلها، وهي المعصومة (وَقَوْلُ الزُّورِ) أي شهادة الزور، وهي الشهادة بالكذب والباطل، وإنما كانت من أكبر الكبائر؛ لأنها يُتوصّل بها إلى إتلاف النفوس والأموال، وتحليل ما حرّم اللَّه، وتحريم ما أحلّ اللَّه، فلا شيء من الكبائر أعظم ضررًا، ولا أكثر فسادًا منها بعد الشرك

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-3/ 4011 و"كتاب القسامة" -48/ 4868 - وفي "الكبرى" 3/ 3473. وأخرجه (خ) في "الشهادات" 2653 و"الأدب" 5977 و"الديات" 6871 (م) في "الإيمان" 88 (ت) في "البيوع" 1207 و"التفسير" 3018 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 11927 أو 11963. وفوائد الحديث تُعلم مما سبق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4012 -

(أَخْبَرَنِي عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا فِرَاسٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «الْكَبَائِرُ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، وهو مروزيّ، نزيل دمشق، صدوقٌ، من صغار [10] 85/ 1341. و"ابن شُميل": هو النضر المذكور في السند الماضي. و"فِرَاس": هو ابن يحيى الهَمْدانيّ الخارفيّ، أبو يحيى الكوفيّ، صدوقٌ، ربما وَهِم [6] 59/ 2541. و"الشعبيّ": هو عامر بن شَرَاحيل الإمام المشهور.

قَوْله: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) أَيْ ابْنِ الْعَاصِ - رضي اللَّه تعالى عنهما -.

وقوله: "الكبائر الإشراك باللَّه"، في رواية شيبان، عن فراس، في أوله: " جاء أعرابي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه ما الكبائر؟

" فذكره. قال الحافظ: ولم أقف على اسم هذا الأعرابي. انتهى.

وقوله: "الكبائر الإشراك باللَّه الخ": ذكر هنا ثلاثة أشياء بعد الشرك، وهو العقوق،

(1)

راجع "المفهم" 1/ 282.

ص: 293

وقتل النفس، واليمين الغموس. ورواه غندر عن شعبة بلفظ:"الكبائر الإشراك باللَّه، وعقوق الوالدين"، أو قال:"اليمين الغموس"، شكّ شعبة، أخرجه أحمد عنه هكذا، وكذا أخرجه البخاريّ في أوائل "الديات"، والترمذيّ جميعا عن بندار، عن غندر، وعلقه البخاريّ هناك، ووصله الإسماعيلي من رواية معاذ بن معاذ، عن شعبة بلفظ:"الكبائر الإشراك باللَّه، واليمين الغموس، وعقوق الوالدين"، أو قال:"قتل النفس"، ووقع في رواية شيبان المذكورة:"الإشراك باللَّه"، قال: ثم ماذا؟ قال: "ثم عقوق الوالدين"، قال: ثم ماذا؟ قال: "اليمين الغموس" ولم يذكر قتل النفس، وزاد في رواية شيبان: قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: التي تَقتَطِع مال امرئ مسلم، هو فيها كاذب، والقائل: قلت، هو عبد اللَّه بن عمرو، راوي الخبر، والمجيب النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون السائل من دون عبد اللَّه بن عمرو، والمجيب هو عبد اللَّه، أو من دونه، ويؤيّد كونه مرفوعًا حديث ابن مسعود والأشعث المذكور في الباب الذي بعده

(1)

.

قال الحافظ: ثم وقفت على تعيين القائل: "قلت: وما اليمين الغموس؟ "، وعلى تعيين المسئول، فوجدت الحديث في النوع الثالث من القسم الثاني من "صحيح ابن حبّان"، وهو قسم النواهي، أخرجه عن النضر بن محمد، عن محمد بن عثمان العجليّ، عن عبيد اللَّه بن موسى بالسند الذي أخرجه به البخاريّ، فقال في آخره، بعد قوله:"ثم اليمين الغموس": "قلت لعامر: ما اليمين الغموس؟ الخ"، فظهر أن السائل عن ذلك فراس، والمسئول الشعبي، وهو عامر. فللَّه الحمد، ثم للَّه الحمد، ثم للَّه الحمد، فإني لم أر من تحرّر له ذلك من الشرّاح، حتى الإسماعيليّ، وأبا نعيم لم يخرجاه في هذا الباب من رواية شيبان، بل اقتصرا على رواية شعبة. انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

.

(1)

يعني في "صحيح البخاريّ" رقم (6676) - حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد اللَّه رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين صبر، يقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي اللَّه وهو عليه غضبان، فأنزل اللَّه تصديق ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} إلى آخر الآية، فدخل الأشعث بن قيس، فقال: ما حدثكم أبو عبد الرحمن؟، فقالوا: كذا وكذا، قال: فِيَّ أنزلت، كانت لي بئر في أرض ابن عم لي، فأتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: "بينتك أو يمينه"، قلت: إذا يحلفَ عليها يا رسول اللَّه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين صبر، وهو فيها فاجر، يقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي اللَّه يوم القيامة وهو عليه غضبان".

(2)

راجع "الفتح" 13/ 410 "كتاب الأيمان والنذور".

ص: 294

وقوله: و"اليمين الغَمُوس" -بفتح المعجمة، وضم الميم الخفيفة، وآخره مهملة- قيل: سمّيت بذلك لأنها تَغمِسُ صاحبها في الإثم، ثمّ في النار، فهي فَعُول بمعنى فاعلٍ. وقيل: الأصل في ذلك أنهم كانوا إذا أرادوا أن يتعاهدوا أحضروا جَفْنَة، فجعلوا فيها طيبًا، أو دمًا، أو رَمَادًا، ثم يحلفون عند ما يُدخلون أيديهم فيها؛ ليتمّ لهم بذلك المراد من تأكيد ما أرادوا، فسُمّيت تلك اليمين إذا غدر صاحبها غَمُوسًا؛ لكونه بالغ في نقض العهد، وكأنها على هذا مأخوذةٌ من اليد المغموسة، فيكون فَعُول بمعنى مفعولة. وقال ابن التين: اليمين الغَمُوسُ التي ينغمس صاحبها في الإثم، ولذلك قال مالكٌ: لا كفّارة فيها، واحتجّ أيضًا بقوله تعالى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]، وهذه يمينٌ غير منعقِدَة؛ لأن المنعقد ما يُمكن حَلُّهُ، ولا يتأتّى في اليمين الغموس الْبَرُّ أصلًا. قاله في "الفتح"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان،

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد اللَّه بن عمرو - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-3/ 4012 و"القسامة" 48/ 4869 - وفي "الكبرى" 3/ 3474 وأخرجه (خ) في "الأيمان والنذور" 6675 و"الديات" 6870 و"استتابة المرتدّين" 6920 (ت) و"التفسير" 3021 (أحمد) في "مسند المكثرين" 6845 و 6965 (الدارميّ) في "الديات"2360. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): استدل بهذا الحديث الجمهور على أن اليمين الغموس لا كفارة فيها؛ للاتفاق على أن الشرك، والعقوق، والقتل، لا كفارة فيه، وإنما كفارتها التوبة منها، والتمكين من القصاص في القتل العمد، فكذلك اليمين الغموس حكمها حكم ما ذكرت معه.

وأجيب بأن الاستدلال بذلك ضعيف؛ لأن الجمع بين مختلف الأحكام جائز، كقوله تعالى:{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، والإيتاء واجب، والأكل غير واجب. وقد أخرج ابن الجوزي في "التحقيق" من طريق ابن شاهين بسنده إلى خالد بن معدان، عن أبي المتوكل، عن أبي هريرة، أنه سمع

(1)

"فتح" 13/ 409 "كتاب الأيمان والنذور".

ص: 295

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس فيها كفارة، يمين صبر، يقتطع بها مالا بغير حقّ".

قال الحافظ: وظاهر سنده الصحة، لكنه معلول؛ لأن فيه عنعنة بقية، فقد أخرجه أحمد من هذا الوجه، فقال في هذا السند عن المتوكل، أو أبي المتوكل، فظهر أنه ليس هو الناجي الثقة، بل آخر مجهول، وأيضا فالمتن مختصر، ولفظه عند أحمد: "من لقي اللَّه لا يشرك به شيئًا دخل الجنّة

" الحديث، وفيه: "وخمس ليس لها كفارة: الشرك باللَّه

" وذكر في آخرها: "ويمين صابرة يقتطع بها مالا بغير حقّ".

ونقل محمد بن نصر في "اختلاف العلماء"، ثم ابن المنذر، ثم ابن عبد البرّ اتفاق الصحابة على أن لا كفارة في اليمين الغموس. وروى آدم بن أبي إياس في مسند شعبة، وإسماعيل القاضي في "الأحكام" عن ابن مسعود:"كنا نَعُدّ الذنب الذي لا كفارة له اليمين الغموس، أن يحلف الرجل على مال أخيه كاذبا ليقتطعه"، قال: ولا مخالف له من الصحابة، واحتجوا بأنها أعظم من أن تكفر.

وأجاب من قال بالكفارة، كالحكم، وعطاء، والأوزاعيّ، ومعمر، والشافعيّ، بأنه أحوج للكفارة من غيره، وبأن الكفارة لا تزيده إلا خيرا، والذي يجب عليه الرجوع إلى الحقّ، ورد المظلمة، فإن لم يفعل، وكفر فالكفارة لا ترفع عنه حكم التعدي، بل تنفعه في الجملة. وقد طعن ابن حزم في صحّة الأثر عن ابن مسعود، واحتجّ بإيجاب الكفارة فيمن تعمد الجماع في صوم رمضان، وفيمن أفسد حجه، قال: ولعلهما أعظم إثما من بعض من حلف اليمين الغموس، ثم قال: وقد أوجب المالكيّة الكفارة على من حلف أن لا يزني، ثم زنى ونحو ذلك.

ومن حجة الشافعيّ قوله في الحديث الماضي في "كتاب الأيمان والنذور": "فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه"، فأمر من تعمد الحنث أن يكفر، فيؤخذ منه مشروعيّة الكفارة لمن حلف حانثا. قاله في "الفتح" 13/ 410 - 411.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي أن ما ذهب إليه الجمهور من عدم إيجاب الكفّارة في اليمين الغَمُوس أرجح؛ لعدم نصّ، أو إجماع على ذلك، ولاسيّما والصحابة متّفقون على عدم الوجوب، كما تقدّم في قول ابن مسعود رضي الله عنه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4013 -

(أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هَانِئٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَبُوهُ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْكَبَائِرُ؟ ، قَالَ: «هُنَّ سَبْعٌ، أَعْظَمُهُنَّ إِشْرَاكٌ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَفِرَارٌ

ص: 296

يَوْمَ الزَّحْفِ» ، مُخْتَصَرٌ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "العباس بن عبد العظيم": هو العنبريّ، أبو الفضل البصريّ، ثقة حافظ، من كبار [11] 96/ 119.

و"معاذ بن هانىء" القيسيّ، ويقال: العيشيّ، ويقال: اليشكريّ، ويقال: البَهْرَانيّ، أبو هانيء البصريّ، ثقة، من كبار [10].

وثقه النسائيّ. وقال ابن قانع: بصريّ صالح. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال مطيّن: مات سنة (209). روى له الجماعة، سوى مسلم، له في البخاريّ حديث واحد في صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وله عند المصنّف حديثان: هذا الحديث، و-35/ 4804 - "كتاب القسامة" - "ذكر الدية من الورِق" حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -: "قتل رجلٌ رجلًا على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم

" الحديث.

و"حرب بن شدّد": هو اليشكريّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقة [7] 96/ 119.

و"عبد الحميد بن سِنَان" مكيّ، مقبول [6].

روى عن عبيد بن عُمير، عن أبيه حديث: "إن أولياء اللَّه المصلّون

" الحديث، وفيه ذكر الكبائر. وعنه يحيى بن أبي كثير. ذكره ابن حبّان في "الثقات". تفرّد به المصنّف، وأبو داود بهذا الحديث فقط.

و"عُبيد بن عُمير": الليثيّ، أبو عاصم المكيّ، وُلد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان قاصّ أهل مكّة، مجمع على ثقته [2] 12/ 416.

و"أبوه" عُمير بن قتادة بن سعد بن عامر بن جُنْدَع بن ليث بن بكر بن عَبْد مناة الليثيّ الْجُنْدعيّ الكوفيّ. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وعنه ابنه عُبيد وحده.

ذكر العسكريّ أنه شهد الفتح. وذكر البغويّ أنه شهد حجة الوداع. وروى أبو يعلى في "مسنده" من طريق عُبيد اللَّه بن عبيد بن عمير الليثيّ، عن أبيه، قال: أتيت إلى عمر - رضي اللَّه تعالى عنه -، وهو يُعطي الناس، فقلت: يا ابن الخطّاب أعطني، فإن أبي استُشهد مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأقبل إليّ، وضمّني إليه، ثم قال، فذكر قصّةٌ. قال الحافظ: فإن صحّ هذا، فحديث عبيد بن عمير، عن أبيه مرسل. انتهى.

روى له المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، وله عندهم هذا الحديث، وله عند ابن ماجه حديث آخر في "كتاب الصلاة": حديث: "يرفع يديه مع كلّ تكبيرة في الصلاة المكتوبة".

ص: 297

وقول: "هنّ سبعٌ" وفي رواية أبي داود الآتية: "هنّ تسع"، فهو مختصرٌ في رواية المصنّف، كما أشار هو إليه.

وقوله: "مختصر" يعني أن هذا الحديث مختصر من حديث طويل، وقد أخرجه الطبرانيّ في "معجمه الكبير" 17/ 47 - 48 - والحاكم في "مستدركه" 1/ 59، والبيهقيّ في "سننه" 10/ 186 - ، ولفظ الطبرانيّ

(1)

: حدثنا أحمد بن داود المكيّ، حدّثنا العبّاس ابن الفضل الأزرق، ثنا حرب بن شدّاد، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الحميد بن سِنَان، أنه حدّثه عُبيد بن عمير الليثيّ، عن أبيه

(2)

، قال: قال رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - في حجة الوَداع: "إن أولياء

(3)

اللَّه المصلُّون، ومن يُقيم الصلوات الخمسَ التي كتبهنّ اللَّه على عباده، ويصوم رمضان، ويحتسب صومه، ويُؤتي الزكاة، طيّبةً بها نفسه، يحتسبها، وَيجتنب الكبائر التي نهى اللَّه عنها، فقال رجلٌ من أصحابه: يا رسول اللَّه، وكم الكبائر؟ قال: هنّ تسعٌ، أعظمهنّ الإشراك باللَّه، وقتلُ المؤمن بغير حقّ، والفِرَار يوم الزحف، وقَذْفُه المحصنة، والسحر، وأكل مال اليتيم، وأكلُ الربا، وعُقوق الوالدين المسلمين، وإحلال

(4)

البيت الحرام، قبلتِكم أحياءً وأمواتًا، لا يموت رجلٌ لم يعمل هؤلاء الكبائر، ويُقيم الصلاة، ويؤتي الزكاةَ، إلا رافقَ محمدًا - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - في بُحبوحة جنّةٍ أبوابها مصاريع الذهب".

والحديث حسنٌ، ولا يضرّه كون عبد الحميد بن سنان مقبولًا، فأحاديث الباب، وغيرها تشهد له، أخرجه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- عنه هنا -3/ 4013 - وفي "الكبرى" 3/ 3475 وأخرجه (د) في "الوصايا". 2874 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

اخترت لفظ الطبرانيّ؛ لكونه أقدمهم.

(2)

زاد في رواية الحاكم: "وكانت له صحبة".

(3)

ولفظ "المستدرك": ألا إن أولياء اللَّه

".

(4)

لفظ المستدرك: "واستحلال".

ص: 298

‌4 - (ذِكْرُ أَعْظَمِ الذّنْبِ، وَاخْتِلَافِ يَحْيَى، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ عَلَى سُفْيَانَ فِي حَدِيثِ وَاصِلٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِيهِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن عبد الرحمن بن مهديّ روى الحديث عن سفيان الثوريّ، عن واصل بن حيّان، عن أبي وائل، عن عمرو بن شرحبيل، عن عبد اللَّه بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -، فخالفه يحيى القطّان، فرواه عن سفيان، عن واصل، عن أبي وائل، عن ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -، فأسقط عمرو ابن شُرحبيل بين أبي وائل، وابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -. والمشهور في رواية واصل إسقاط الواسطة، فطريق يحيى هي الراجحة، كما يرشد إليه صنيع المصنّف، حيث إنه يأتي غالبًا بالأسانيد التي فيها الخطأ، أوّلًا، ثم يُتبعها بالأسانيد الصحيحة، كما صنع هنا، فإنه قدّم رواية ابن مهديّ التي فيها الخطأ، ثم أتى برواية يحيى الصحيحة.

والحاصل أن سفيان الثوريّ -رحمه اللَّه تعالى- يروي هذا الحديث عن ثلاثة أنفس: أما اثنان، فأدخلا فيه بين أبي وائل، وابن مسعود عمرو بن شُرَحْبيل، وهما منصور، والأعمش، وأما الثالث، فأسقطه، وهو واصل، وقد رواه ابن مهديّ، عن سفيان، عن واصل، عن عمرو، فعُدّ غلطًا، والصواب إسقاط عمرو من رواية واصل، كما فعل يحيى القطّان في روايته التالية.

والحديث صحيح بالطريقين، فقد أخرج الشيخان معًا طريق منصور والأعمش، بإثبات الواسطة، وأخرج البخاريّ وحده طريق واصل، بإسقاطها.

وقد أشار البخاريّ في "صحيحه" إلى هذا الاختلاف الذي أشار إليه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، فقال البخاريّ في "كتاب الحدود":

حدثنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى، حدثنا سفيان، قال: حدثني منصور، وسليمان، عن أبي وائل، عن أبي مَيْسَرة، عن عبد اللَّه رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول اللَّه، أيُّ الذنب أعظم؟ قال:"أن تجعل للَّه نِدًّا، وهو خلقك"، قلت: ثم أيّ؟، قال:"أن تقتل ولدك، من أجل أن يطعم معك"، قلت: ثم أيّ؟ قال: "أن تزاني حليلةَ جارك".

ص: 299

قال يحيى: وحدثنا سفيان، حدثني واصل، عن أبي وائل، عن عبد اللَّه، قلت: يا رسول اللَّه

مثله.

قال عمرو: فذكرته لعبد الرحمن، وكان حدثنا عن سفيان، عن الأعمش، ومنصور، وواصل، عن أبي وائل، عن أبي ميسرة، قال: دَعْهُ، دَعْه.

وَقَوْله: "قَالَ: عَمْرو: "هُوَ ابْن عَلِيّ الفلّاس: فَذَكَرْته لِعَبْدِ الرَّحْمَن" يَعْنِي ابْن مَهْدِيّ.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: هكذا ذكره البخاريّ، عن عمرو بن علي، قدم رواية يحيى على رواية عبد الرحمن، وعقبها بالفاء. وقال الهيثم بن خلف، فيما أخرجه الإسماعيليّ عنه: عن عمرو بن علي، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، فساق روايته، وحذف ذكر واصل من السند، ثم قال: وقال عبد الرحمن مرة: عن سفيان عن منصور والأعمش وواصل، فقلت لعبد الرحمن: حدثنا يحيى بن سعيد، فذكره، فقال عبد الرحمن: دعه.

والحاصل أن الثوريّ حدث بهذا الحديث عن ثلاثة أنفس، حدثوه به عن أبي وائل، فأما الأعمش ومنصور، فأَدْخلا بين أبي وائل وبين ابن مسعود أبا ميسرة، وأما واصل فحذفه، فضبطه يحيى القطّان عن سفيان هكذا مفصلا، وأما عبد الرحمن فحدث به أولا بغير تفصيل، فحمل رواية واصل على رواية منصور والأعمش، فجمع الثلاثة، وأدخل أبا ميسرة في السند، فلما ذَكر له عمرو بن عليّ أن يحيى فصله، كأنه تردد فيه، فاقتصر على التحديث به عن سفيان عن منصور والأعمش حسب، وترك طريق واصل، وهذا معنى قوله: فقال: دعه دعه: أي اتركه، والضمير للطريق التي اختلف فيها، وهي رواية واصل. وقد زاد الهيثم بن خلف في روايته بعد قوله: دعه، فلم يذكر فيه واصلا بعد ذلك، فعُرف أن معنى قوله: دعه: أي اترك السند الذي ليس فيه ذكر أبي ميسرة.

وقال الكرماني: حاصله أن أبا وائل، وإن كان قد رَوَى كثيرا عن عبد اللَّه، فان هذا الحديث لم يروه عنه، قال: وليس المراد بذلك الطعن عليه، لكن ظهر له ترجيح الرواية بإسقاط الواسطة لموافقة الأكثرين.

قال الحافظ: كذا قال، والذي يظهر ما قدمته أنه تركه من أجل التردد فيه؛ لأن ذكر أبي ميسرة، إن كان في أصل رواية واصل، فتحديثه به بدونه، يستلزم أنه طعن فيه بالتدليس، أو بقلة الضبط، وإن لم يكن في روايته في الأصل، فيكون زاد في السند ما لم يسمعه، فاكتفى برواية الحديث عمن لا تردد عنده فيه، وسكت عن غيره، وقد كان عبد الرحمن حدث به مرّة، عن سفيان، عن واصل وحده بزيادة أبي ميسرة، كذلك

ص: 300

أخرجه الترمذيّ، والنسائيّ، لكن الترمذيّ بعد أن ساقه بلفظ واصل، عطف عليه بالسند المذكور طريق سفيان عن الأعمش ومنصور، قال بمثله، وكأن ذلك كان في أول الأمر.

وذكر الخطيب هذا السند مثالا لنوع من أنواع مدرج الإسناد، وذكر فيه أن محمد بن كثير وافق عبد الرحمن على روايته الأولى، عن سفيان فيصير الحديث عن الثلاثة بغير تفصيل.

وقد أخرجه البخاريّ في "الأدب" عن محمد بن كثير، لكن اقتصر من السند على منصور، وأخرجه أبو داود عن محمد بن كثير، فضم الأعمش إلى المنصور، وأخرجه الخطيب من طريق الطبرانيّ، عن أبي مسلم الليثيّ، عن معاذ بن المثني، ويوسف القاضي، ومن طريق أبي العباس البرقي، ثلاثتهم عن محمد بن كثير، عن سفيان عن الثلاثة، وكذا أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" عن الطبرانيّ، وفيه ما تقدّم. وذكر الخطيب الاختلاف فيه على منصور، وعلى الأعمش، في ذكر أبي ميسرة وحذفه، ولم يختلف فيه على واصل في إسقاطه، في غير رواية سفيان. وقد أخرجه الترمذيّ، والنسائيّ من رواية شعبة، عن واصل بحذف أبي ميسرة، لكن قال الترمذيّ رواية منصور أصحّ -يعني بإثبات أبي ميسرة- وذكر الدارقطنيّ الاختلاف فيه، وقال: رواه الحسن بن عبيد اللَّه، عن أبي وائل، عن عبد اللَّه، كقول واصل، ونقل عن الحافظ أبي بكر النيسابوري أنه قال: يشبه أن يكون الثوريّ جمع بين الثلاثة لما حدث به ابن مهدي ومحمد بن كثير، وفصله لما حدث به غيرهما -يعني فيكون الإدراج من سفيان، لا من عبد الرحمن، والعدم عند اللَّه تعالى. انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- ببعض تصرّف

(1)

وهو بحث نفيس جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

4014 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ وَاصِلٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ ، قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا، وَهُوَ خَلَقَكَ» ، قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا؟ ، قَالَ: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ، خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» ، قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ»).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن بشار) العبديّ، بُنْدار أبو بكر البصريّ، ثقة حافظ [10] 24/ 27.

2 -

(عبد الرحمن) بن مهديّ بن حسّان العنبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقة ثبت

(1)

راجع "الفتح" 14/ 73 - 74.

ص: 301

إمام [9] 42/ 49.

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوريّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقة ثبت حجة [7] 33/ 37.

4 -

(واصل) بن حيّان الأحدب الأسديّ الكوفيّ، بَيّاعُ السابَريّ، ثقة ثبت [6] 172/ 268.

5 -

(أبو وائل) شقيق بن سلمة الأسديّ الكوفيّ، مخضرم ثقة [2] 2/ 2.

6 -

(عمرو بن شُرَحْبيل) أبو ميسرة الهمدانيّ الكوفيّ، ثقة عابدٌ، مخضرمٌ [2] 180/ 285.

[تنبيه]: قوله: "شُرَحبيل" -بضمّ الشين المعجمة، وفتح الراء- غَيْر مُنْصَرِف؛ لِكَوْنِهِ اسْمًا، عَجَمِيًّا، عَلَمًا. قاله النوويّ

(1)

. واللَّه تعالى أعلم.

7 -

(عبد اللَّه) بن مسعود الصحابيّ الشهير - رضي اللَّه تعالى عنه - 35/ 39 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيّات المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين من سفيان، وشيخه، وعبد الرحمن بصريّان. (ومنها): أن شيخه أحد المشايخ التسعة الذين يروي عنهم أصحاب الأصول بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ مخضرم، عن تابعيّ مخضرم، فيكون من رواية الأقران. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ) وفي رواية لأحمد من وجه آخر، عن مسروق، عن ابن مسعود: " جلس رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - على نشز من الأرض، وقعدت أسفل منه، فاغتنمت خلوته، فقلت: بأبي وأمّي أنت يا رسول اللَّه، أيُّ الذنب أكبر؟

" الحديث (أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟) وفي رواية للبخاريّ: "أكبر"، ووقع في رواية عاصم، عن أبي وائل، عن عبد اللَّه: "أعظم الذنوب عند اللَّه"، أخرجها الحارث، وفي رواية أبي عبيدة بن معن، عن الأعمش: "أي الذنوب أكبر عند اللَّه"، وفي رواية الأعمش عند أحمد وغيره: "أي الذنب أكبر"، وفي رواية الحسن بن عبيد اللَّه، عن أبي وائل: "أكبر الكبائر".

قال ابن بطال عن المهلب: يجوز أن يكون بعض الذنوب أعظم من بعض من الذنبين

(1)

"شرح مسلم" 2/ 80.

ص: 302

المذكورين في هذا الحديث، بعد الشرك؛ لأنه لا خلاف بين الأمة أن اللواط أعظم إثما من الزنا، فكأنه صلى الله عليه وسلم إنما قصد بالأعظم هنا ما تكثر مواقعته، ويظهر الاحتياج إلى بيانه في الوقت، كما وقع في حق وفد عبد القيس، حيث اقتصر في منهياتهم على ما يتعلق بالأشربة؛ لفُشُوّها في بلادهم.

وتعقّبه الحافظ: فقال: وفيما قال نظر من أوجه:

[أحدها]: ما نقله من الإجماع، ولعله لا يقدر أن يأتى بنقل صحيح صريح بما ادعاه عن إمام واحد، بل المنقول عن جماعة عكسه، فإن الحد عند الجمهور، والراجح من الأقوال إنما ثبت فيه بالقياس على الزنا، والمقيس عليه أعظم من المقيس، أو مساويه، والخبر الوارد في قتل الفاعل والمفعول به، أو رجمهما ضعيف.

[وأما ثانيا]: فما من مفسدة فيه إلا ويوجد مثلها في الزنا وأشد، ولو لم يكن إلا ما قيد به في الحديث المذكور، فإن المفسدة فيه شديدة جدا، ولا يتأتى مثلها في الذنب الآخر، وعلى التنزل فلا يزيد.

[وأما ثالثا]: ففيه مصادمة للنص الصريح على الأعظمية، من غير ضرورة إلى ذلك.

[وأما رابعا]: فالذي مثل به من قصّة الأشربة ليس فيه، إلا أنه اقتصر لهم على بعض المناهي، وليس فيه تصريح، ولا إشارة بالحصر في الذي اقتصر عليه، والذي يظهر أن كلا من الثلاثة على ترتيبها في العظم، ولو جاز أن يكون فيما لم يذكره شيء يتصف بكونه أعظم منها، لما طابق الجواب السؤال.

نعم يجوز أن يكون فيما لم يذكر شيء يساوي ما ذكر، فيكون التقدير في المرتبة الثانية مثلا بعد القتل الموصوف، وما يكون في الفحش مثله، أو نحوه، لكن يستلزم أن يكون فيما لم يذكر في المرتبة الثانية شيء هو أعظم مما ذكر في المرتبة الثالثة، ولا محذور في ذلك. وأما عَدُّ عقوق الوالدين في أكبر الكبائر في حديث أبي بكرة رضي الله عنه فيما أخرجه الشيخان، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبّئكم بأكبر الكبائر

" الحديث، وفيه: "وعقوق الوالدين"، وذكرت بالواو، فيجوز أن تكون رتبة رابعة، وهي أكبر مما دونها .. انتهى كلام الحافظ ببعض تصرّف

(1)

.

(قَالَ) - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - (أَنْ تَجْعَلَ للَّه نِدًّا) قال الفيّوميّ: النِّدُّ -بالكسر-: المثل، والنَّديدُ مثله، ولا يكون النّدّ إلا مُخالفًا، والجمع أنداد، مثلُ حِمْلٍ وأحمال. انتهى. وقال النوويّ: وَالنِّدّ: الْمِثْل، رَوَى شَمِر، عَنْ الْأَخْفَش، قَالَ: النِّدّ: الضِّدّ،

(1)

"الفتح" 14/ 74.

ص: 303

وَالشَّبَه، وَفُلَان نِدّ فُلَان، وَنَدِيده، وَنَدِيدَتُهُ: أَيْ مِثْله. انتهى

(1)

.

(وَهُوَ خَلَقَكَ) جملة في محلّ نصب على الحال، أي والحال أن اللَّه تعالى هو الذي خلقك، وحده، دون أن يشاركه في ذلك أحد، حتى يَشَرَّك في العبادة. قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: هو نحو قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]، ومعناه أَنَّ اتّخاذ الإنسان إلهًا غير خالقه المنعم عليه، مع علمه بأن ذلك المتّخذ ليس هو الذي خلقه، ولا الذي أنعم عليه، من أقبح القبائح، وأعظم الجهالات، وعلى هذا، فذلك أكبر الكبائر، وأعظم العظائم. انتهى

(2)

.

قال ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - (قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا؟) أي ثمّ أي شيء يكون أعظم ذنبًا عند اللَّه تعالى؟.

قيل: الصواب أن "أَيُّ" هنا غير منوّن؛ لأنه غير موقوف عليه في الكلام، والسائل ينتظر الجواب، والتنوين لا يوقف عليه، فتنوينه، ووصله بما بعده خطأٌ، فيوقف عليه وقفةً لطيفة، ثم يؤتى بما بعده. قاله الفاكهيّ. وحكى ابن الجوزيّ عن ابن الخشّاب الجزم بتنوينه؛ لأنه معربٌ، غير مضاف. وتُعُقّب بأنه مضافٌ تقديرًا، والمضاف إليه محذوفٌ لفظًا، والتقدير: ثمّ أيُّ الذنب أعظم؟ فيُوقف عليه بلا تنوين.

(3)

.

(قَالَ) - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - (أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ، خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ) أي لأجل خوفك أن يشاركك في طعامك. وقال في "الفتح": أي من جهة إيثار نفسه عليه عند عدم ما يكفي، أو من جهة البخل مع الوجدان. انتهى

(4)

.

وخصّ الطعام بالذكر؛ لِأَنَّهُ كَانَ الأَغْلَب مِنْ حَال الْعَرَب.

قال القرطبيّ - رضي اللَّه تعالى عنه -: هذا من أعظم الذنوب؛ لأنه قتلُ نفسٍ محرّمة شرعًا، محبوبةٍ طبعًا، مرحومة عادةً، فإذا قتلها أبوها كان ذلك دليلًا على غلبة الجهل، والبخل، وغِلَظ الطبع، والقسوة، وأنه قد انتهى من ذلك كلّه إلى الغاية القصوى، وهذا نحو قوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} الآية [الأنعام: 151]، أي فقر، وهو خطاب لمن كان فقره حاصلًا في الحال، فيُخفّف عنه بقتل ولده مؤنته من طعامه، ولوازمه، وهذه الآية بخلاف الآية الأخرى التي قال فيها:{خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31]، فإنه خطابٌ لمن كان واجدًا لما يُنفق عليه في الحال، غير أنه يقتله

(1)

"شرح مسلم" 2/ 80.

(2)

"المفهم" 1/ 280.

(3)

راجع "الفتح" 2/ 191 "كتاب الصلاة" رقم الحديث 527.

(4)

"فتح" 9/ 439. "كتاب التفسير".

ص: 304

مخافة الفقر في ثاني الحال، وكان بعض جُفاة الأعراب، وجُهّالهم ربما يفعلون ذلك.

وقد قيل: إن الأولاد في هاتين الآيتين هم البنات، كانوا يَدفنُونهنّ أحياء، أَنَفَةً، وكبرًا، ومخافة العيلة، والْمَعَرَّة، وهي المؤودة التي ذكر اللَّه تعالى:{وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8 - 9].

والحاصل أن أهل الجاهليّة كانوا يصنعون كلّ ذلك، فنهى اللَّه تعالى عن ذلك، وعظّم الإثم فيه، والمعاقبة عليه، وأخبر النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - أن ذلك من أعظم الكبائر. انتهى

(1)

.

(قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا؟، قَالَ) - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - (أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ") بِفَتْحِ الْحَاء الْمُهْمَلَة، وَزْن عَظِيمَة: والمراد زوجته الَّتِي يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا. وَقِيلَ: الَّتِي تَحُلُّ مَعَهُ فِي فِرَاش وَاحِد. وقال في "الفتح": هي مأخوذة من الحلّ؛ لأنها تحلّ له، فهي فَعيلة بمعنى فاعلة. وقيل: من الحلول؛ لأنها تحلّ معه، ويحلّ معها.

وقال القرطبيّ: "الحَليلة": هي التي يحلّ وطؤها بالنكاح، أو التسرّي.

و"الجارُ": هو المجاور في المسكن، والداخلُ في جوار العهد. و"تُزاني": أي تحاول الزنى، يقال: المرأة تُزاني مُزاناةَ من زَنى. والزنى وإن كان من أكبر الكبائر، والفواحش، لكنه بحليلة الجار أفحش، وأقبح؛ لما ينضمّ إليه من خيانة الجار، وهَتْك ما عظّم اللَّه تعالى ورسوله - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - من حرمته، وشدّة قبح ذلك شرعًا وعادة، فلقد كان الجاهليّة يتمدّحون بصون حرائم الجار، ويغُضّون دونهم الأبصار، كما قال عَنْتَرة [من الكامل]:

وَأَغُضُّ طَرْفِي مَا بَدَتْ لِيَ جَارَتِي

حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي مَأْوَاهَا

(2)

وَقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: معنى تزاني: أَيْ تَزْنِي بِهَا برضاها، وذلك يتَضَمَّن الزِّنَا، وإِفْسَادها على زوجها، وَاسْتِمَالَة قَلْبهَا إلى الزَّانِي، وذلك أَفْحَشُ، وهو مع امرأَة الْجَار أَشَدُّ قُبْحًا، وأَعْظَمُ جُرْمًا؛ لأَنَّ الْجَار يَتَوَقَّع مِنْ جَاره الذَّبّ عَنْهُ، وعن حَرِيمه، وَيَأْمَنِ بَوَائِقه، وَيطْمَئِنُّ إِلَيْه، وَقَدْ أُمِرَ بِإِكْرامه، والإحْسَان إِلَيْه، فَإِذا خالف هَذَا كُلّه بِالزِّنَا بامرَأَته، وَإِفْسَادها عليْه، مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْها، على وَجْهٍ لَا يَتَمَكِّن غَيْره منْه، كَانَ فِي غَايَةٍ من الْقُبْح. انتهى.

وزاد في رواية الشيخين: "فأنزل اللَّه تصديقها: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا

(1)

"المفهم" 1/ 280 - 281.

(2)

"المفهم" 1/ 281.

ص: 305

يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68].

قال النوويّ: وَقَوْله- سبحانه وتعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء: 33]، مَعْنَاه: أَيْ لا تقْتُلُوا النَّفْس الَّتِي هِي معصومة في الأَصْل، إِلا مُحِقِّينَ فِي قَتْلهَا. انتهى

(1)

.

وقوْله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31]: أَيْ فَقْر. وَقَوْله تَعَالَى: {يَلْقَ أَثَامًا} قِيلَ: مَعْنَاهُ جَزَاء إِثْمه، وَهو قَوْل الْخَلِيل، وَسِيبَوَيْهِ، وَأَبِي عَمْرو الشَّيْبَانِيِّ، وَالْفَرَّاءِ، وَالزَّجَّاجِ، وَأَبِي عَلِيّ الْفَارِسِيِّ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ عقوبَةً. قَالَهُ يُونُس، وَأَبُو عُبَيْدَة. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ جَزَاءً، قَالَهُ ابن عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيُّ. وَقَالَ أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ، أَوْ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ: هُوَ وَادٍ، فِي جَهَنَّم، عَافَانَا اللَّه الْكرِيم، وَأَحْبَابنَا مِنْهَا. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ: ظاهر هذا أن هذه الآية نزلت بسبب هذا الذنب الذي ذكره النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، وليس كذلك؛ لأن الترمذيّ قد روى هذا الحديث، وقال فيه: وتلا النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - هذه الآية: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الآية [الفرقان: 68]، بدل "فأنزل اللَّه"، وظاهره أنه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - قرأ بعد ذكر هذا الحديث ما قد كان أُنزل منها، على أن الآية تضمّنت ما ذكره في حديثه بحكم عمومها. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": والقتل، والزنا في الآية مطلقان، وفي الحديث مقيّدان، أما القتل فبالولد، خشية الأكل معه، وأما الزنا فبزوجة الجار، والاستدلال لذلك بالآية سائغٌ؛ لأنها وإن وردت في مطلق الزنا، والقتل، لكن قتل هذا، والزنا بهذه أكبر، وأفحش. وقد روى أحمد من حديث المقداد بن الأسود - رضي اللَّه تعالى عنه -، قال: قال رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -: "ما تقولون في الزنا؟ "، قالوا: حرامٌ، قال: لأن يزني الرجل بعشر نسوة، أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره". انتهى

(4)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسانل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد اللَّه بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(1)

"شرح مسلم" 2/ 80.

(2)

"شرح مسلم" 2/ 80 - 81. "كتاب الإيمان".

(3)

"المفهم" 1/ 281 - 282.

(4)

"فتح" 9/ 440. "كتاب التفسير".

ص: 306

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-4/ 4014 و 4015 و 4016 - وفي "الكبرى" 4/ 3476 و 3477 و 3478 وأخرجه (خ) في "التفسير" 4477 و 4761 و"الأدب" 6001 و"الحدود" 6811 و"الديات" 6861 و"التوحيد" 7520 و 7532 (م) في "الإيمان" 86 (د) في "الطلاق" 2310 (ت) في "التفسير" 3182 و 3183 (أحمد) في "مسند المكثرين" 3601 و 4091 و 4120 و 4397 و 4409. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان أعظم الذنوب، وهو الذي تضمّنه هذا الحديث. (ومنها): بيان تفاوت الذنوب فيما بينها، فمنها ما هو أكبر، ومنها ما هو كبير، ومنها ما هو صغير، وقد تقدّم بيان اختلاف العلماء في ذلك في الباب الماضي، وللَّه الحمد (ومنها): ما قاله النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: فِيهِ أَنَّ أَكْبَر الْمَعَاصِي الشِّرْك، وَهَذَا ظاهر، لا خَفَاء فِيه. وَأَنَّ الْقَتْل بغير حقّ يَلِيه، وَكَذَلِكَ قَالَ: أصحابنا: أَكْبَر الْكَبَائِر بَعْد الشِّرْك الْقَتْلُ. وكذا نَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ -رحمه اللَّه تعالى- فِي "كِتَاب الشَّهَادَات" مِنْ "مُختصر الْمُزَنِيِّ"، وَأَمَّا مَا سواهما مِنْ الزِّنَا، وَاللِّوَاط، وَعُقُوق الْوَالِدَيْنِ، وَالسِّحْر، وَقَذْف الْمُحْصَنَات، وَالْفِرَار يَوْم الزَّحْف، وَأَكْل الرِّبَا، وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِر، فَلَهَا تَفَاصيلُ، وَأَحكامٌ تُعْرَف بِهَا مَرَاتِبهَا، وَيَخْتَلِف أَمْرها باختلاف الأَحوال، والْمَفَاسِد الْمُرَتَّبَة عَلَيْهِ. وَعَلَى هَذَا يُقَال، فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا: هِيَ مِنْ أَكْبَر الْكَبَائِر، وَإِنْ جَاءَ فِي مَوْضِعٍ أَنَّها أَكْبَرُ الْكَبَائِر، كَانَ الْمُرَاد مِنْ أَكْبَر الْكَبَائِر، كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَفْضَل الْأَعْمَال. وَاَللَّه أَعْلَم انتهى كلام النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

. وهو تحقيق نفيس. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4015 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي وَاصِلٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ ، قَالَ:«أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا، وَهُوَ خَلَقَكَ» ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ ، قَالَ:«أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ، مِنْ أَجْلِ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ ، قَالَ:«ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلّهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرَّة. و"عمرو بن عليّ": هو الْفَلّاس. و"يحيى": هو ابن سعيد القطّان.

والحديث أخرجه البخاريّ في "التفسير" - رقم 4761

(2)

، وغرض المصنّف -رحمه

(1)

"شرح مسلم" 2/ 81 "كتاب الإيمان".

(2)

رواه البخاريّ في "التفسير" 9/ 438 - رقم 4761. بنسخة "الفتح".

ص: 307

اللَّه تعالى منه بيان مخالفة يحيى القطّان لعبد الرحمن بن مهديّ في إسقاط عمرو بن شُرَحبيل بين أبي وائل، وعبد اللَّه بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -، وقد تقدّم أن الصواب في رواية واصل إسقاطه، وفي رواية منصور والأعمش إثباته، والحديث ثابت بكلا الطريقين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4016 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا يَزِيدُ قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ ، قَالَ:«الشِّرْكُ، أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا، وَأَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ، وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ، مَخَافَةَ الْفَقْرِ، أَنْ يَأْكُلَ مَعَكَ» ، ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68].

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ الَّذِي قَبْلَهُ، وَحَدِيثُ يَزِيدَ هَذَا خَطَأٌ، إِنَّمَا هُوَ وَاصِلٌ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلّهم رجال الصحيح، إلا أن فيه علّة، كما سيبيّنه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- آخر الحديث.

و"عبدة": هو ابن عبد اللَّه الصفّار الْخُزَاعيّ، أبو سهل البصريّ، كوفيّ الأصل، ثقة [11] 18/ 800. و"يزيد": هو ابن هارون الواسطيّ. و"عاصم": هو ابن أبي النجود.

وقوله (قَالَ: أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ) أي النسائيّ -رحمه اللَّه تعالى- (هَذَا خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ الَّذِي قَبْلَهُ، وَحَدِيثُ يَزِيدَ هَذَا خَطَأٌ، إِنَّمَا هُوَ وَاصِلٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ) يعني أن رواية يزيد بن هارون هذه خطأ، أخطأ فيها يزيد على شعبة، فروى عنه عن عاصم، عن أبي وائل، مخالفًا لرواية الثقات، حيث رووه عن شعبة وغيره عن واصل، عن أبي وائل، فتصحّف على يزيد بعاصم. فجملة قوله:"وحديث يزيد الخ" تفسير وتوضيح لقوله: "هذا خطأ الخ".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: كلام المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- هذا إنما هو بالنسبة للسند، وأما المتن فإنه صحيح بما سبق من الإسناد، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 308

‌5 - (ذِكْرُ مَا يَحِلُّ بِهِ دَمُ الْمُسْلِمِ)

4017 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، إِلاَّ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ: التَّارِكُ لِلإِسْلَامِ، مُفَارِقُ الْجَمَاعَةِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ» .

قَالَ الأَعْمَشُ: فَحَدَّثْتُ بِهِ إِبْرَاهِيمَ، فَحَدَّثَنِي عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إسحاق بن منصور) بن بَهْرَام الْكَوْسَج، أبو يعقوب المروزيّ، ثقة ثبت [11] 72/ 88.

2 -

(الأعمش) سليمان بن مِهْرَان الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقة ثبت ورع فاضل، لكنه يدلّس [5] 17/ 18.

3 -

(عبد اللَّه بن مُرّة) الهمدانيّ الخارفيّ الكوفيّ، ثقة [3] 17/ 1860.

4 -

(مسروق) بن الأجدع بن مالك الهمدانيّ، أبو عائشة الكوفيّ، مخضرم ثقة فقيه عابد [2] 90/ 112.

5 -

(عبد اللَّه) بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - 35/ 39، و"عبد الرحمن" بن مهديّ، و"سفيان" الثوريّ تقدّما في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيّات المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين، غير شيخه، فمروزيّ، وعبد الرحمن، فبصريّ. (ومنها): أن فيه ثلاثة من ثقات التابعين يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، وعبد اللَّه بن مرّة، ومسروق. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ) وفي رواية مسلم: قام فينا رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، فقال: "والذي لا إله غيره" (لَا يَحِلُّ) قال في "الفتح": ظاهره إثبات إباحة قتل من استُثني، وهو كذلك بالنسبة لتحريم قتل غيرهم، وإن كان قتلُ من أُبيح قتلُهُ منهم واجبًا

ص: 309

في الحكم. انتهى

(1)

(دَمُ امْرِئِ مُسْلِمٍ) وفي رواية: "دم رجل"، والمراد لا يحلّ إراقة دمه، أي كلّه، وهو كنايةٌ عن قتله، ولو لم يُرق دمه. قاله في "الفتح".

وقال السنديّ: والمرء: الإنسان، أو الذكر، لكن أُريد به هنا الإنسان مطلقًا، أو أريد الذكر، وترك ذكر الأنثى على المقايسة والإتباع، كما هو العادة الجارية في الكتاب والسنّة. انتهى

(2)

.

وقوله (يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ) صفة ثانيةٌ، ذُكرت لبيان أن المراد بالمسلم هو الآتي بالشهادتين، أو هي حالٌ مقيّدةٌ للموصوف؛ إشعارًا بأن الشهادة هي العمدة في حقن الدم. وهذا رجحه الطيبيّ، واستشهد بحديث أُسامة - رضي اللَّه تعالى - عنه:"كيف تصنع بلا إله إلا اللَّه".

(إِلَّا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ: التَّارِكُ لِلْإِسْلَامِ، مُفَارِقُ الْجَمَاعَةِ) وفي رواية البخاريّ: "والمفارق لدينه، التارك للجماعة"، قال في "الفتح": كذا فِي رِوَايَة أَبِي ذَرّ، عَنْ الْكُشْمِيهَنِيّ، وَلِلْبَاقِينَ "وَالْمَارِق من الدِّين"، لكنْ عِنْد النَّسَفِيّ، وَالسَّرَخْسِيّ، وَالْمُسْتَمْلِي:"والْمارق لدينه". قال الطَّيبِيُّ: الْمَارِق لدينه: هو التَّارِك له، من الْمروق، وهو الْخروج. وَفي رواية مسلم:"وَالتَّارِك لدينه الْمفارق للجماعة". وله فِي رواية الثَّوْرِيّ: "الْمفَارق للجماعة".

وقد أخرجه مسلم أَيْضًا بَعْده، من طريق شَيْبَانَ بْن عَبْد الرَّحمن، عن الأعمش، ولم يسق لَفْظه، لكن قال:"بِالإسْنَادين جميعا"، ولم يقُل:"وَاَلَّذِي لا إِله غَيْره". وَأَفرده أبو عوانة فِي "صحيحه" من طريق شَيْبَانَ بِاللفظ الْمَذْكُور سواء.

وَالْمُرَاد بِالجماعة جماعة المسلمين، أَي فارقهم، أَوْ تَرَكهم بِالارتدادِ، فهي صفة لـ"التَّارِكِ"، أَو"الْمُفَارِقِ"، لا صِفة مُستقلَّة، وإلا لكانت الخصال أربعا، وهو كقوله قبل ذلكَ:"مُسلم، يَشْهَد أَنْ لا إِله إِلا اللَّه"، فإنها صِفَة مُفَسِّرَة لقوله:"مسلم"، وليست قيدًا فيه، إِذْ لا يكون مُسلمًا إلا بذلكَ.

وَيُؤَيِّد هذا أَنَّهُ وَقَعَ عند المصنّف 14/ 4058 - بسند صحيح فِي حَدِيث عُثْمَان - رضي اللَّه تعالى عنه -: "أَوْ يَكْفُر بَعْد إِسْلَامه". وَفِي لَفْظ لَهُ صَحِيح أَيْضًا: "أو ارْتَدَّ بَعْد إِسْلَامه"، وَلَهُ في حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - التالي:"أَوْ كَفَرَ بَعْد إسلامه". وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس عِنْد النسائيّ

(3)

: "مُرْتَدّ بَعْد إِيمَان".

(1)

"فتح" 14/ 184. "كتاب الديات" رقم 6878.

(2)

"شرح السنديّ" 7/ 91.

(3)

وفي نسخة من "الفتح": "عند الطبرانيّ"، بدل النسائيّ، والظاهر أنه الصواب؛ لأني لم أر عند النسائيّ هذه الرواية. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 310

قال ابْن دَقِيق الْعِيد -رحمه اللَّه تعالى-: الرِّدَّة سَبَب لإباحة دَم الْمُسلم بالإجماع في الرجُل. وَأَمَّا الْمَرْأَة ففيها خلاف، وقد اُسْتُدِلَّ بهذا الْحَدِيث للْجُمْهورِ في أَنَّ حكمها حُكْم الرَّجُل لِاسْتِوَاءِ حُكْمهمَا فِي الزِّنَا. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّها دَلَالَة اقْتِرَان وَهِيَ ضَعِيفَة.

وقال البَيْضاويّ: "التَّارِك لِدِينِهِ" صِفة مؤكِّدةَ لِـ"لْمَارِقِ": أي الَّذِي تَرَكَ جَماعة الْمُسلمينَ، وخرج مِنْ جُمْلَتهمْ.

قال: وَفي الْحدِيث دليل لمنْ زعم أَنَّه لا يُقتلُ أحدٌ دخل في الإسلام بشيْءٍ، غير الذي عُدِّدَ، كَتَرْكِ الصَّلَاة، ولم يَنْفَصِل عن ذلك. وَتَبِعهُ الطَّيبِيُّ، وقال ابن دقيق العيد: قد يُؤخذ من قوْله "الْمُفَارِق للجماعةِ": أَنَّ الْمراد الْمخالِفُ لأهل الإجْماعِ، فيكون مُتَمَسكًا لمنْ يَقُول: مُخَالِفُ الإجماع كَافِرٌ. وقد نُسِبَ ذلك إلى بَعْض النَّاس. وليس ذلك بِالهَيِّنِ، فإنَّ الْمَسَائِل الإجماعِيَّة، تَارَة يَصحبها التَّوَاتُر بالنقل، عن صاحب الشَّرْعِ، كَوُجُوبِ الصلاة مثلاً، وتارَةً لا يَصْحَبهَا التَّوَاتُر. فالأول: يُكَفَّر جَاحِدُهُ؛ لِمُخَالَفة التَّوَاتُر، لا لمخالفة الْإجْمَاع. وَالثَّانِي: لَا يُكَفَّر بِهِ.

قَال الحافظ العراقيّ في "شرح التِّرْمِذِيّ": الصَّحِيح في تَكْفِير مُنْكِر الْإجْمَاع، تَقيِيدُهُ بِإِنْكَارِ مَا يُعْلَم وُجُوبُهُ من الدِّين بالضرورة، كَالصَّلوات الخمس. وَمِنْهُمْ مَنْ عَبَّرَ بِإِنْكَارِ مَا عُلِمَ وُجُوبه بِالتَّوَاتُرِ، وَمِنْهُ القول بِحُدُوثِ الْعَالَمِ. وقد حَكَى عِيَاض، وَغَيْره، الْإجْمَاع على تَكْفِير من يَقُول بِقِدَمِ الْعَالَم. وقال ابن دَقِيق الْعيد: وقع هنا من يَدَّعِي الْحِذْق في الْمعقولات، ويميل إلى الْفَلْسَفة، فَظَنَّ أَنَّ الْمُخَالِف في حدوث الْعَالَم، لا يُكَفَّر؛ لأَنَّهُ من قبيل مُخالَفَة الإجماع. وَتَمَسَّكَ بقولنا: إِنَّ مُنْكر الإجماع، لا يُكَفَّر على الإطلاق، حتى يَثْبُتَ النَّقْلُ بذلك مُتَوَاتِرًا، عَنْ صَاحِب الشَّرْع. قال: وهو تَمَسُّكٌ ساقط، إِمَّا عن عَمًى في البَصيرة، أو تَعام؛ لأَنَّ حُدُوث الْعَالَم من قبيل ما اجتمع فيه الإجماع، وَالتَّوَاتُر بِالنَّقْلِ. وقال النَّوويّ: قَوْله: "التَّارِك لدينِه" عامٌّ في كُلّ من ارْتَدَّ، بِأَيِّ رِدَّة كانت، فيجبُ قَتْله، إن لم يرجع إلى الإسلام.

وَقَوْله: "الْمُفَارِق للجماَعة" يَتَنَاوَل كُلّ خَارِج عن الجماعة، ببدعة، أو نفي إجماع، كَالرَّوَافِضِ، والخوارج، وَغَيْرهمْ. كَذَا قَالَ:. وَسَيَأْتِي الْبَحْث فِيهِ.

وَقال الْقُرْطُبِيّ في "الْمُفْهِم": ظَاهِر قَوْله: "الْمُفَارِق للجماعة" أَنَّهُ نعت لِلتَّارك لدينه؛ لأَنَّهُ إذا ارْتَدَّ، فارق جماعة المسلمين، غير أَنَّهُ يَلتحق به كلُّ من خرج عن جماعة الْمُسْلمِين، وإن لم يَرْتَدَّ، كمن يَمْتَنع من إقامة الحدّ عليه، إذا وجب، ويقاتل على ذلك، كأهل الْبَغْي، وَقُطَّاع الطريق، والمحاربين، من الخوارج، وغيرهم. قال: فيتناوَلهُمْ لَفْظ "الْمُفَارِق للجماعة" بطريق العموم، ولو لم يكن كذلك، لم يصحّ

ص: 311

الحصر؛ لأَنَّهُ يلزم أنْ ينفى مَنْ ذُكِرَ، ودمه حلال، فلا يَصِحّ الحصر، وكلام الشارع مُنَزَّه عن ذلك، فدلَّ على أَنَّ وَصْف الْمُفَارَقَة للجماعة، يَعُمّ جميع هؤلاء. قال: وَتَحقيقه أَنَّ كلَّ من فارق الْجماعة، ترك دينه، غير أَنَّ المرتدّ تركَ كلّه، وَالْمُفَارِق بغير رِدَّة ترك بَعْضه. انتهى. قال الحافظ: وفيه مناقشة؛ لأَنَّ أَصل الخصلة الثالثة الارتدَاد، فلابدّ من وجوده، والْمُفارِق بغير ردَّة، لا يُسَمَّى مرتَدًّا، فيلزم الخلف في الحصر. وَالتَّحقيق في جواب ذلك، أَنَّ الحصر فيمن يجب قَتْله عينًا. وأَمَّا من ذكرهم، فَإِنَّ قتل الواحد منهم، إنما يُباحُ إِذا وقع حال المحاربة، والمقاتلة، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أُسِرَ لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ صَبْرًا اتِّفَاقًا، فِي غَيْر الْمُحَارِبِينَ، وَعَلَى الرَّاجِح فِي الْمُحَارِبِينَ أَيْضًا، لَكِنْ يَرِد عَلَى ذَلِكَ قَتْل تَارِك الصَّلاة، وسيأتي مزيد بسط للبحث في المسألة الثالثة، إن شاء اللَّه تعالى.

(وَالثَّيِّبُ الزَّانِي) أَيْ فَيَحِلّ قَتْلُهُ بِالرَّجْمِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيث عُثْمَان - رضي اللَّه تعالى عنه - الآتي 14/ 4058 - بِلَفْظِ "رَجُل زَنَى بَعْد إِحْصَانه، فَعَلَيْهِ الرَّجْم". قَالَ: النَّوَوِيّ: الزَّانِي يَجُوز فِيهِ إِثْبَات الْيَاء، وَحَذْفهَا، وَإِثْبَاتهَا أَشْهَرُ.

(وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ) أَيْ مَنْ قَتَلَ عَمْدًا، بِغَيْرِ حَقّ قُتِلَ بِشَرْطِهِ. وَوَقَعَ فِي حَدِيث عُثْمَان الْمَذْكُور:"أو قَتَلَ عَمْدًا، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ". وَفِي حَدِيث جَابِر - رضي اللَّه تعالى عنه -، عِنْد الْبَزَّار:"وَمَنْ قَتَلَ نَفْسًا ظُلْمًا".

وقوله (قَالَ: الْأَعْمَشُ: فَحَدَّثْتُ بِهِ إِبْرَاهِيمَ، فَحَدَّثَنِي عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، بِمِثْلِهِ) يعني أن الأعمش حدث بحديث ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا إبراهيمَ النخعيَّ، فحدّثه إبراهيم، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -.

والغرض من هذا أن الأعمش وإبراهيم استفاد كلٍّ واحد منهما من صاحبه ما ليس عنده، فالأعمش كان عنده حديث ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -، وليس عنده حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، وإبراهيم بالعكس، فاستفاد كلٍّ منهما من الآخر ما ليس عنده. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: هَذِهِ الرواية، أَغْفَلَ الْمِزِّيّ -رحمه اللَّه تعالى- فِي "الْأَطْرَاف" ذِكْرهَا، فِي مُسْنَد عَائِشَة، وَأَغْفَلَ التَّنْبِيه عَلَيْهَا فِي تَرْجَمَة عَبْد اللَّه بْن مُرَّة، عَنْ مَسْرُوق، عَنْ ابْن مَسْعُود. أفاده في "الفتح". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد اللَّه بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

ص: 312

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-5/ 4017 وفي "القسامة" 5/ 4722 - وفي "الكبرى" 5/ 3479 و"القسامة" 5/ 6923. وأخرجه (خ) في "الديات" 6878 (م) في "القسامة" 1676 (د) في "الحدود" 4352 (ت) في "الديات" 1402 (ق) في "الحدود" 2534 (أحمد) في "مسند المكثرين" 3614 و 4055 و 4233 و 4415 و"باقي مسند الأنصار" 24947 (الدارمي) في "الحدود" 2298 و"السير" 2447. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان ما يحلّ به دم المسلم. (ومنها): أنه اسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: "النَّفْس بِالنَّفْسِ" عَلَى تَسَاوِي النُّفُوس فِي الْقَتْل الْعَمْد، فَيُقَاد لِكُلِّ مَقْتُول مِنْ قَاتِله، سَوَاء كَانَ حرًّا، أو عبدا.

(ومنها): أنه تَمَسَّكَ بِهِ الحنفيةُ، وَادَّعَوْا أَنَّ آيَة الْمَائِدَة:{أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية [المائدة: 45]، نَاسِخَة لآيَةِ الْبَقَرَة:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178]، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْن عَبْد الْجَانِي، وعبد غَيْره، فَأَقَادَ مِنْ عَبْد غَيْره، دُون عَبْد نَفْسه.

وَقَالَ الْجُمْهُور: آيَة الْبَقَرَة مُفَسِّرَة لِآيَةِ الْمَائِدَة، فَيُقْتَلُ العبد بِالْحُرِّ، ولا يُقْتَل الْحُرّ بالعبدِ؛ لِنَقْصِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيّ: لَيْسَ بَيْن الْعَبْد وَالْحُرّ قِصَاص، إِلَّا أَنْ يَشَاء الْحُرّ. وَاحْتُجَّ لِلْجُمْهُورِ بِأَنَّ الْعَبْد سِلْعَة، فَلَا يَجِب فِيهِ إِلَّا الْقِيمَة، لَوْ قُتِلَ خَطَأ.

(ومنها): أنه اسْتُدِلَّ بِعُمُومِهِ، عَلَى جَوَاز قَتْل الْمُسْلِم بِالْكَافِرِ الْمُسْتَأْمَن، وَالْمُعَاهَد.

(ومنها): أن فيه جَوَاز وَصْف الشَّخْص بِمَا كَانَ عَلَيْهِ، وَلو انْتَقَلَ عَنْهُ؛ لاسْتِثنَائِهِ الْمُرْتَدَّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ.

(ومنها): أنه اسْتُدِلَّ بَهِذَا الْحَدِيث لِلْجُمْهُورِ فِي أَنَّ حُكْم المرأة حُكْم الرَّجُل لاسْتِوَاءِ حُكْمهمَا فِي الزِّنَا.

وَتُعُقِّبَ بِأَنَّها دَلَالَة اقْتِرَان وَهِيَ ضَعِيفَة. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: "التَّارِك لِدِينِهِ" صِفَة مُؤَكِّدَة لِـ"لْمَارِقِ": أَيْ الَّذِي ترك جماعة المسلمين، وخرج من جُملتْهم.

(ومنها): ما ذكره ابن دَقِيق العيد -رحمه اللَّه تعالى-، أنه اسْتُدِلَّ بهذا الحديث أَنَّ تَارِك الصَّلاة، لا يُقْتَل بِتَرْكِهَا؛ لكونه ليس من الأمور الثَّلَاثَة، قال الحافظ: وبذلك اسْتَدَلَّ الحافظ أَبُو الْحَسَن بْن الْمُفَضَّل الْمَقْدِسِيُّ، فِي أَبْيَاته الْمَشْهُورَة، ثُمَّ سَاقَهَا، وَمِنْهَا، وَهُوَ كَافٍ فِي تَحْصِيل الْمَقْصُود هُنَا:

وَالرَّأْي عِنْدِي أَنْ يُعَزِّرَهُ الْإمَا

مُ بِكُلِّ تَعْزِيزٍ يَرَاهُ صَوَابَا

ص: 313

فالأصلُ عِصمتُهُ إِلَى أَنْ يَمْتَطِي

إِحْدَى الثَّلَاث إِلى الْهَلَاك رِكَابَا

قَالَ: فَهَذَا مِنْ الْمَالِكِيَّة، اخْتَارَ خِلَاف مَذْهَبه، وَكَذَا اسْتَشْكَلَهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ، مِنْ الشَّافِعِيَّة.

قال الحافظ: تَارِك الصَّلاة اخْتُلِفَ فِيهِ، فَذَهَبَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاق، وَبَعْض الْمَالِكِيَّة، وَمِنْ الشَّافِعِيَّة ابْن خُزَيْمَةَ، وَأَبُو الطَّيِّب بْن سَلَمَة، وَأَبُو عُبَيْد بْن جُوَيْرِيَةَ، وَمَنْصُور الْفَقِيه، وَأَبُو جَعْفَر التِّرْمِذِيّ، إِلَى أَنَّهُ يُكَفَّر بِذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَجْحَد وُجُوبَها. وَذَهَبَ الْجُمْهُور إِلَى أَنَّهُ يُقْتَل حدًّا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّة، وَوَافَقَهُمْ الْمُزَنِيُّ، إِلَى أَنَّهُ لَا يُكَفَّر، وَلَا يُقْتَل.

وَمِنْ أَقْوَى مَا يُسْتَدَلّ بِهِ عَلَى عَدَم كُفْره حَدِيث عُبَادَةَ - رضي اللَّه تعالى عنه -، رَفَعَهُ:"خَمْس صَلَوَات، كَتَبَهُنَّ اللَّه عَلَى الْعِبَاد" الْحَدِيث، وَفِيهِ:"وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهنَّ، فَلَيْسَ لَهُ عِنْد اللَّه عَهْد، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّة". أَخْرَجَهُ مَالِك، وَأَصْحَاب السُّنَن، وَصَحَّحَهُ ابْن حِبَّان، وَابْن السَّكَن، وَغَيْرهمَا.

وَتَمَسَّكَ أَحْمَدُ، وَمَنْ وَافَقَهُ بِظَوَاهِر أَحَادِيثَ، وَرَدَتْ بِتَكْفِيْرِهِ، وَحَمَلَهَا مَنْ خَالَفَهُمْ عَلَى الْمُسْتَحِلّ؛ جَمْعًا بَيْن الْأَخْبَار، وَاللَّه أَعْلَمُ.

وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: وَأَرَادَ بَعْض مَنْ أَدْرَكْنَا زَمَانه، أَنْ يُزِيل الإِشْكَال، فَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ:"أُمِرْت أَنْ أُقَاتِل النَّاس، حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَه إِلا اللَّه، وَيُقِيمُوا الصَّلَاة، وَيُؤْتُوا الزَّكَاة". وَوَجْه الدَّلِيل مِنْهُ، أَنَّهُ وَقَفَ الْعِصْمَة عَلَى الْمَجْمُوع، والْمُرَتِّبُ عَلَى أَشْيَاء، لا يَحْصُل إِلا بِحُصُولِ مَجْمُوعهَا، وَينْتَفِي بِانْتِفَاءِ بَعْضهَا. قَالَ: وَهَذَا إِنْ قَصَدَ الِاسْتِدْلَال بِمَنْطُوقِهِ، وَهُوَ "أُقَاتِل النَّاس إِلَخْ"، فَإِنَّه يَقْتَضِي الْأَمْر بِالْقِتَالِ إِلَى هَذِهِ الْغَايَة، فَقَدْ ذَهِلَ لِلْفَرْقِ بَيْن الْمُقَاتَلَة عَلَى الشَّيْء، وَالْقَتْل عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُقَاتَلَة مُفَاعَلَةٌ، تَقْتَضِي الْحُصُول مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَلَا يَلْزَم مِنْ إِبَاحَة الْمُقَاتَلَة عَلَى الصَّلاة، إِبَاحَة قَتْل الْمُمْتَنِع مِنْ فِعْلهَا، إِذَا لَمْ يُقَاتِل، وَلَيْسَ النِّزَاع فِي أَنَّ قَوْمًا، لَوْ تَرَكُوا الصَّلَاة، وَنَصَبُوا الْقِتَال، أَنَّهُ يَجِب قِتالهمْ، وَإِنَّمَا النَّظَر فِيمَا إِذَا تَرَكَهَا إِنْسَان، مِنْ غَيْر نَصْب قِتَال، هَلْ يُقْتَل أَوْ لَا، وَالْفَرْق بَيْن الْمُقَاتَلَة عَلَى الشَّيْء، وَالْقَتْل عَلَيْهِ ظاهِرٌ. وَإِنْ كَانَ أَخَذَهُ مِنْ آخِر الْحَدِيث، وَهُوَ تَرَتُبُ الْعِصْمَةِ عَلَى فِعْل ذلِك، فَإِنَّ مفهُومه يَدُلّ عَلَى أنها لا تترتَّب عَلَى فِعْل بعضه، هَان الأمر؛ لأنها دلالة مفهوم، وَمُخَالِفُهُ في هذه المسألة لا يقول بالمفهومِ، وأمَّا من يقول به، فله أن يدفع حجته، بأنه عارضته دلالة المنطوق، في حدِيث البَاب، وهي أرجح، من دلالة المفهوم، فَيُقَدَّم عليها.

وَاسْتَدَلَّ به بَعْض الشَّافِعِيَّة لِقَتلِ تارِك الصَّلَاة؛ لأنه تارِكٌ لِلدِّينِ، الذي هو العمل،

ص: 314

وإنما لم يقولوا بِقتلِ تارِك الزَّكَاة؛ لإمكانِ انتزاعها منه قَهرًا، ولا يُقْتَلُ تاركُ الصِّيَام؛ لإمكانِ منعه المفطرات، فَيَحتاج هو أن يَنْوي الصيام؛ لأنه يعتقد وجوبه.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الأرجح في تارك الصلاة أنه يقتلُ، وأنه كافر؛ لقوله - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -:"فمن تركها فقد كفر"، ولكنه كفر دون كفر؛ لحديث عبادة بن الصامت - رضي اللَّه تعالى عنه - المتقدّم ذكره، وقد تقدّم تمام البحث في هذا في "كتاب الصلاة"، في 8/ 463 - "باب الحكم في تارك الصلاة"، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم.

(ومنها): أنه اسْتُدِلَّ به على أَنَّ الحرّ لا يُقْتَلُ بالعبدِ؛ لأنَّ العبد لا يُرْجَمُ إذا زنى، ولو كان ثَيّبًا، حكاهُ ابن التِّين، قال: وليس لأحدٍ أن يُفَرِّق ما جَمَعَهُ اللَّه، إلا بدليلٍ، من كتاب، أو سُنة، قال: وهذا بخلاف الخَصْلَة الثالثة، فإنَّ الإجماع، انعقد على أَنَّ العبد، والحرّ فِي الرِّدَّة سواء، فكأنه جعَلَ أنَّ الأصل العمل بدلالة الاقتران، ما لم يأت دليل يُخَالِفهُ.

وقال الحافظ العراقيّ في "شرح التِّرْمِذِيّ": اسْتَثنى بعضهم من الثلاثة، قتل الصائل، فإنه يَجُوز قَتْله لِلدِّفْعِ، وَأَشَارَ بِذَلِك إِلَى قَوْل النَّووِيّ: يُخَصّ مِنْ عُمُوم الثَّلَاثَة الصَّائِل، ونَحوه، فيُباح قتله في الدَّفْع. وَقَدْ يُجاب بِأَنَّهُ داخِل في المُفارِق لِلْجَمَاعَةِ، أَوْ يكُون الْمُرَاد لا يَحِلّ تَعَمُّد قتله، بمعنى أنه لا يحِلّ قتله، إلا مُدَافَعة، بخلاف الثلاثة. واسْتَحْسَنَهُ الطَّيبِيُّ، وَقَالَ: هُو أَوْلى مِنْ تَقْرِير الْبَيْضَاوِيّ؛ لِأَنَّهُ فَسَّرَ قَوْله: "النَّفْس بِالنَّفْسِ" يحِلّ قَتْل النَّفْس قصاصًا، للنفسِ التي قتلها عُدْوَانًا، فاقتضى خروج الصَّائِل، ولو لم يقصِد الدَّافع قتله.

قال الحافظ: وَالْجواب الثَّاني هو الْمُعْتَمَد، وَأَمَّا الأَوَّل فَتَقَدَّمَ الجواب عنه. وحكى ابن التين، عن الدَّاوُدِيّ، أن هذا الْحَدِيث مَنْسُوخِ بِآيةِ الْمُحَارَبَة:{مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 32]، قَالَ: فَأَبَاح القتل بمجرَّد الفساد في الأرض، قال: وقد ورد في القتل بِغَيرِ الثَّلاث أَشْيَاءُ، منها: قَوْله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: 9]، وحدِيث:"مِنْ وَجَدتُمُوهُ يَعْمَلُ عمل قَوْم لُوط، فَاقْتُلُوهُ"، وحدِيث:"من أتى بِهيمة فاقتلوه"، وحدِيث:"من خَرَجَ، وَأَمْرُ الناسِ جَميعٌ، يريد تَفَرُّقَهُم فاقتلوه"، وقول عُمر:"تغِرَّة أن يُقْتلا"، وَقَوْل جماعة مِنْ الأئمَّة: إن تاب أَهْلُ الْقَدَر، وإلا قُتِلُوا، وقال جماعة مِنْ الأئمَّة: يُضرب الْمُبتَدِعُ حتى يَرْجِع، أو يموت، وَقَوْل جماعة مِنْ الأئمَّة: يُقْتَل تارِكُ الصلاة، قال: وهذا كُلّه زائِد عَلَى الثَّلَاث. قال الحافظ: وزاد غَيْره: قَتْل مِنْ طلب أخذ مَالَ إنسان، أَوْ حَرِيمه بِغَيْر حقّ، ومانِع الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة، ومن ارتدَّ، وَلَمْ

ص: 315

يُفَارِق الْجَمَاعَة، وَمَنْ خَالَفَ الإجْمَاع، وأظهر الشقاق، والْخِلاف، وَالزِّنْدِيق إذا تاب على رَأْي، والسَّاحِر.

والجواب عن ذلك كُلّه: أَنَّ الأكثر في الْمُحَارِبَة أَنَّهُ إن قَتَلَ قُتِلَ، وبِأَنَّ حُكْم الآية في الْباغي أَنْ يُقَاتَل، لا أن يُقصد إِلى قتلِهِ، وبِأَنَّ الخبرين في اللِّوَاط، وَإِتْيَان الْبَهِيمَة، لم يصِحَّا، وعلى تَقْدِير الصِّحَّة، فهما داخلان في الزِّنَا، وحدِيثُ الْخَارج عن الْمُسْلِمِينَ تَقَدَّمَ تَأْوِيله، بِأَنَّ الْمُرَاد بِقَتْلِهِ حبْسه، ومنعه مِنْ الخروج، وأثرُ عُمر مِنْ هَذَا الْقَبِيل، والقول في القَدَرِيَّة، وسائِر الْمُبْتَدِعَة، مُفَرَّع على الْقَوْل بِتَكْفِيرهم، وبِأَنَّ قَتْل تارِك الصلاة، عند مِنْ لا يُكَفِّرهُ، مُخْتَلَف فيه، كَمَا تَقَدَّمَ إيضَاحه، وأمَّا مِنْ طلب الْمَالَ، أَوْ الْحَرِيم، فمن حُكْم دَفْع الصَّائِل، ومانِع الزَّكَاة تَقَدَّم جوابه، ومُخالِف الإجْمَاع دَاخِل في مُفارِق الْجَمَاعَة، وقتل الزِّنْدِيق لاسْتِصْحَابِ حُكْم كُفْره، وكذا السَّاحِر، والْعِلْم عِنْد اللَّه تَعَالَى.

وقد حكى ابن العَرَبِي، عن بعض أشياخه، أن أسباب القتل عشرة، قال ابن الْعَرَبِيّ: ولا تخرُج عن هذه الثلاثة بحال، فَإِنَّ مِنْ سَحَرَ، أو سبَّ نبِي اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، كَفَرَ، فهُو دَاخِل في التَّارِك لِدِينِهِ

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4018 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ غَالِبٍ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: أَمَا عَلِمْتَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، إِلاَّ رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ، أَوْ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، أَوِ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ». وَقَّفَهُ زُهَيْرٌ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلّاس البصريّ، ثقة ثبت [10] 4/ 4.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطّان البصريّ، ثقة ثبت حجة [9] 4/ 4.

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوريّ المذكور قريبًا.

4 -

(أبو إسحاق) عمرو بن عبد اللَّه السبيعيّ الكوفيّ، ثقة عابد اختلط بأَخَرَة [3] 38/ 42.

5 -

(عمرو بن غالب) الهمدانيّ الكوفيّ، مقبولٌ [3].

رَوَى عن عليّ، وعمّار، وعائشة، والأشتر النخعيّ. وعنه أبو إسحاق السبيعيّ.

(1)

راجع "الفتح" 14/ 184 - 188. "كتاب الديات" رقم الحديث 6878.

ص: 316

ذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن الْبَرْقيّ: كوفيّ مجهولٌ، احْتُمِلَت روايته لرواية أبي إسحاق عنه. وقال مسلم في "الوحدان": تفرّد عنه أبو إسحاق. وقال أبو عليّ الصدفيّ: وثّقه النسائيّ. وقال الذهبيّ: ما حدّث عنه سوى أبي إسحاق. تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط، والترمذيّ بحديث آخر. واللَّه تعالى أعلم.

6 -

(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير عمرو بن غالب، كما سبق آنفًا. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، ويحيى، فبصريان، وعائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، فمدنيّة. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَمْرِو بْنِ غَالِبٍ) الهمدانيّ، أنه (قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (أَمَا عَلِمْتَ)

في الحديث قصّة، ساقها الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى- في "مسنده"، ولفظه:

حدثنا ابن نمير، حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن غالب، قال: انتهيت إلى عائشة أنا وعمار والأشتر، فقال عمار: السلام عليك يا أُمَّتَاه، فقالت: السلام على من اتبع الهدى، حتى أعادها عليها مرتين، أو ثلاثا، ثم قال: أما واللَّه إنكِ لأمي، وإن كرهت، قالت: من هذا معك؟ قال: هذا الأشتر، قالت: أنت الذي أردت أن تقتل ابن أختي، قال: نعم، قد أردت ذلك، وأراده، قالت: أَمَا لو فعلت، ما أفلحت، أَمَّا أنت يا عمار، فقد سمعت، أو سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يحل دم امرئ مسلم، إلا من ثلاثة، إلا مَنْ زنى بعدما أُحصِن، أو كفر بعدما أسلم، أو قَتْل نفسا، فقُتِل بها".

حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن غالب، قال: جاء عمار، ومعه الأشتر، يستأذن على عائشة، قال: يا أُمَّهْ، فقالت: لست لك بأم، قال: بلى، وإن كرهتِ، قالت: من هذا معك؟ قال: هذا الأشتر، قالت: أنت الذي أردت قَتْل ابن أختي، قال: قد أردت قتله، وأراد قتلي الحديث.

(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئِ مُسْلِمٍ، إِلَّا رَجُلٌ) بالرفع على البدليّة من

ص: 317

"دمُ امرئ"، على حذف مضاف، أي إلا دم رجل (زنَى بَعْدَ إِحْصانِهِ، أَوْ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلامِهِ) أي ارتدّ عن الإسلام، وفي الرواية الآتية في - 11/ 4050 - من رواية عُبيد بن عمير، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -:(أو رجلٌ يخرج من الإسلام، فيُحارب اللَّه عز وجل ورسوله، فيُقتل، أو يُصلب، أو يُنفى من الأرض" (أَوْ النَّفْسُ بالنَّفْسِ) أي النفس التي تطالب لتُقتل في مقابل قتلها النفس التي لا يحلّ لها قتلها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا صحيح.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده أبو إسحاق، وهو مدّلسٌ، وقد عنعنه؟.

[قلت]: قد رُوِي هذا الحديثُ عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - بغير هذا السند، فسيأتي للمصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في 11/ 4050 - بسند صحيح عن عُبيد بن عُمير، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث" الحديث. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-5/ 4018 و 4019 و 11/ 4050 وفي "القسامة" 13/ 4745 - وفي "الكبرى" 5/ 3480 و 3481 وفي "القسامة" 12/ 6945. وأخرجه (د) في "الحدود" 4353 (أحمد) في "مسند الأنصار" 23783 و 2494 و 2572 و 25266. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله: (وقفه زُهيرٌ) يعني أن زُهير بن معاوية خالف سفيان الثوريّ في هذا الحديث، فرواه موقوفًا على عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، كما بيّنه بقوله:

4019 -

(أَخْبَرَنَا هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ غَالِبٍ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا عَمَّارُ، أَمَا إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ، إِلاَّ ثَلَاثَةٌ: "النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، أَوْ رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ مَا أُحْصِنَ"، وَسَاقَ الْحَدِيثَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "هلال بن العلاء": هو أبو عمر الرّقّيّ، صدوقٌ [11] 10/ 1199 من أفراد المصنّف.

و"حسين": هو ابن عيّاش بن حازم السلميّ مولاهم، أبو بكر الباجُدّائيّ، ثقة [10] 15/ 1484، من أفراد المصنّف أيضًا.

ص: 318

و"زُهير": هو ابن معاوية بن حُديج الجعفيّ، أبو خيثمة الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقة ثبت، إلا أن سماعه من أبي إسحاق بآخره [7] 38/ 42.

وقوله: "إلا ثلاثة" أي إلا دم ثلاثة، فهو على حذف مضاف.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث موقوف، ورواية سفيان التي قبله، أرجح منه؛ لأمور:

[منها]: أن الرفع زيادة من ثقة حافظ، فتُقبل، ومعلومٌ أن سفيان الثوريّ أحفظ من زُهير بكثير.

[الثاني]: أن زهيرًا، وإن كان ثقةً ثبتًا، إلا أنه إنما سمع من أبي إسحاق بعد أن اختلط، كما هو مبين في ترجمته من "تهذيب التهذيب"، وغيره، فتكون روايته ضعيفة.

[الثالث]: أن سفيان له متابع فقد روى الحديث عُبيد بن عُمير، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، مرفوعًا، كما سيأتي للمصنّف في 11/ 4050 - إن شاء اللَّه تعالى.

والحاصل أن الحديث صحيح مرفوعًا، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4020 -

(أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَا: كُنَّا مَعَ عُثْمَانَ، وَهُوَ مَحْصُورٌ، وَكُنَّا إِذَا دَخَلْنَا مَدْخَلاً، نَسْمَعُ كَلَامَ مَنْ بِالْبَلَاطِ، فَدَخَلَ عُثْمَانُ يَوْمًا، ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَيَتَوَاعَدُونِي بِالْقَتْلِ، قُلْنَا: يَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ، قَالَ: فَلِمَ يَقْتُلُونِّي؟ ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، أَوْ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ» ، فَوَاللَّهِ مَا زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ، وَلَا إِسْلَامٍ، وَلَا تَمَنَّيْتُ أَنَّ لِي بِدِينِي بَدَلاً، مُنْذُ هَدَانِي اللَّهُ، وَلَا قَتَلْتُ نَفْسًا، فَلِمَ يَقْتُلُونَنِي؟).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إبراهيم بن يعقوب) بن إسحاق، أبو إسحاق الْجُوزَجانيّ، نزيل دمشق، ثقةٌ حافظٌ، رُمي بالنصب [11] 122/ 174 من أفراد المصنّف، والترمذيّ.

2 -

(محمد بن عيسى) أبو جعفر ابن الطبّاع البغداديّ، نزيل أَذَنَةَ، ثقة فقيه [10] 39/ 3278.

3 -

(حمّاد بن زيد) بن درهم الجهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقة ثبت فقيه [8] 3/ 3.

4 -

(يحيى بن سعيد) بن قيس الأنصاريّ، أبو سعيد المدنيّ القاضي، ثقة ثبت [5]

ص: 319

22/ 23.

5 -

(أبو أُمامة بن سَهْل) هو أسعد بن سهْل بن حُنيف الأنصاريّ، معدود في الصحابة لرؤيته، ولا سماع له [2] 8/ 509.

6 -

(عبد اللَّه بن عامر بن ربيعة) الْعَنَزيّ، حليف بني عديّ، أبو محمد المدنيّ، وُلد على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبوه صحابيّ مشهور، وثّقه العجليّ، وتقدّم في 4/ 3416.

7 -

(عثمان) بن عفّان بن أبي العاص بن أميّة بن عبد شمس الأمويّ، أمير المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنه -، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة، استُشهد في ذي الحجة بعد عيد الأضحى سنة (35هـ) وعمره (80) سنة، وقيل: أكثر، وقيل: أقلّ، تقدّم في 68/ 84. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، كما سبق آنفًا. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من يحيى. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّّين. (ومنها): أن صحابيه أحد السابقين إلى الإسلام، وأحد الخلفاء الراشدين، والعشرة المبشّرين بالجنّة - رضي اللَّه تعالى عنهم - أجمعين. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن يحيى بن سعيد أنه (قال: حَدَّثَنِي أَبُو أُمَامَةَ) أسعد (بْنُ سَهْلٍ) الأنصاريّ المدنيّ (وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بنِ رَبِيعَةَ) العنزيّ المدنيّ (قَالَا: كُنَّا مَعَ عُثْمَانَ) بن عفّان - رضي اللَّه تعالى عنه - (وهُو مَحْصُورٌ) جملة في محلّ نصب على الحال، والمحصور: اسم مفعول من حَصَره العدوّ حَصْرًا، من باب قتل: أحاطوا به، ومنعوه من المضيّ لأمره. وقال ابن السّكّيت، وثعلبٌ: حَصَره العدوّ في منزله: حَبَسَهُ، وأحصره المرضُ بالألف: منعه مني السفر. وقال الفرّاء: هذا هو كلام العرب، وعليه أهلُ اللغة. وقال ابن الْقُوطيّة، وأبو عَمْرو الشيبانيّ: حصره العدوّ والمرض، وأحصره، كلاهما بمعنى حبسه. ذكره الفيّوميّ.

(وكُنَّا إِذَا دَخَلْنَا مَدْخَلًا) بفتح الميم، وضمّها: أي موضع دخول (نَسْمَعُ كَلَام مَنْ بِالْبَلَاطِ) بفتح الباء، بوزن سحاب: موضع بالمدينة بين المسجد والسوق، مُبلَّطٌ، ويقال: بَلَطَ الدار، وأبلطها، وبلّطها: إذا فرَشها بالبَلاط، وهي الحجارة التي تُفرَش في

ص: 320

الدار. أفاده في "القاموس"(فَدَخَلَ عُثْمَانُ يَوْمًا) أي دخل ذلك المكان، ففي رواية أحمد:"فدخل ذلك المدخل"(ثُمَّ خَرَجَ) ولفظ أحمد: "وخرج إلينا"(فقال: إِنَّهُمْ لَيَتَوَاعَدُونِي بِالْقَتْلِ) من المواعدة، ولفظ أحمد:"إنهم يتوعّدوني بالقتل آنفًا"، من التوعّد: أي يتهدّدوني، يقال: توعّدته: تهدّدته، والمعنى أنهم يهدّدونه بأن يقتلوه، والقاتلون هم أهل مصر.

وسبب قتله -كما ذكره في "الإصابة" أن أمراء الأمصار كانوا من أقاربه، كان بالشام كلّها معاوية، وبالبصرة سعيد بن العاص، وبمصر عبد اللَّه بن سعيد بن أبي سَرْح، وبخراسان عبد اللَّه بن عامر، وكان من حجّ منهم يشكو من أميره، وكان عثمان ليّن الْعرِيكة"

(1)

، كثير الإحسان والحلم، وكان يستبدل ببعض أمرائه، فيُرضيهم، ثم يُعيده بعدُ، إلى أن دخل أهل مصر يشكون من ابن أبي سَرْحٍ، فعزله، وكتب لهم كتابًا بتولية محمد بن أبي بكر الصّدّيق، فرضُوا بذلك، فلما كانوا في أثناء الطريق، رأوا راكبًا على راحلة، فاستخبروه، فأخبرهم أنه من عند عثمان باستقرار ابن أبي سَرْحٍ، ومعاقبة جماعة من أعيانهم، فأخذوا الكتاب، ورجعوا، وواجهوه به، فحلف أنه ما كتب، ولا أذن، فقالوا: سَلَّمْنا كاتبك، فخشي عليه منهم القتل، وكان كاتبه مروان بن الحكم، وهو ابن عمّه، فغضبوا، وحصَرُوه في داره، واجتمع جماعةٌ، يحمونه منهم، فكان ينهاهم عن القتال، إلى أن تسوّروا عليه من دار إلى دار، فدخلوا عليه، فقتلوه، فعظُم ذلك على أهل الخير من الصحابة وغيرهم، وانفتح باب الفتنة، فكان ما كان، وباللَّه تعالى المستعان. انتهى

(2)

.

(قُلْنَا: يَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ، قال: فَلِمَ يَقْتُلُونِّي؟، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ)

وفي رواية للإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى- في "مسنده" من طريق محمد بن عبد الرحمن بن مجبر، عن أبيه، عن جدّه، أن عثمان رضي الله عنه، أشرف على الذين حصروه، فسلم عليهم، فلم يردّوا عليه، فقال عثمان رضي الله عنه: أفي القوم طلحة؟ قال طلحة: نعم، قال: فإنا للَّه وإنا إليه راجعون، أُسَلِّم على قوم، أنت فيهم، فلا ترُدُّون؟ قال: قد رددتُ، قال: ما هكذا الردُّ، أسمعك ولا تسمعني، يا طلحة أنشُدُك اللَّه، أسمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يُحِلُّ دم المسلم، إلا واحدة من ثلاث، أن يكفر بعد إيمانه، أو يزني بعد إحصانه، أو يَقتُل نفسا فيقتل بها"، قال: اللَّهم نعم، فكبّر عثمان، فقال: واللَّه ما أنكرت اللَّهَ منذ عرفته، ولا زنيت، في جاهلية ولا إسلام، وقد تركته في

(1)

يقال: رجلٌ ليّنُ العَرِيكة: سَلِسُ الخُلُق. اهـ ق.

(2)

"الإصابة" 6/ 392 - 393.

ص: 321

الجاهليّة تَكَرُّهًا، وفي الإسلام تَعَفَّفًا، وما قتلت نفسًا، يحل بها قتلي.

(لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ) المراد قتله (إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ) أي إلا بسبب إحدى ثلاث خصال (رَجُلٌ) يجوز جرّه على البدليّة، ورفعه على أنه خبر لمحذوف، وهو على حذف مضاف: أي إحداها خصلة رجل (كَفَرَ بَعْدَ إِسْلامِهِ) أي ارتدّ عن الإسلام، وهو بمعنى الحديث الآتي:"من بدّل دينه، فاقتلوه"(أَو زَنَى بعد إِحْصَانِهِ) المراد بالإحصان هنا أن يتزوّج نكاحًا صحيحًا، ويدخل بالمرأة (أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيرِ نَفْسٍ) أي بغير قتل نفس معصومة الدم (فَوَاللَّهِ مَا زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّة، ولا إِسْلَام) زاد في رواية أحمد السابقة: "وقد تركته في الجاهليّة تكرُّهًا، وفي الإسلام تَعَفَّفًا"(وَلَا تَمَنَّيتُ أَنَّ لِي بِدِينِي بَدَلًا، مُنْذُ هَدَانِي اللَّهُ) وفي رواية أحمد المذكورة: "واللَّه ما أنكرت اللَّه منذ عرفته"(وَلَا قَتَلْتُ نَفْسًا) وما قتلت نفسًا، يحل بها قتلي (فَلِمَ يَقْتُلُونَنِي؟) على لفظ الاستفهام الإنكاريّ، يعني أن أسباب القتل هي المذكورة في هذا الحديث، وعثمان - رضي اللَّه تعالى عنه - ما ارتكب شيئًا منها يوجب قتله، فلذلك استنكر عليهم تجمعهم لقتله، ولكنّهم ما انكفّوا عنه، بل قتلوه، فإنا للَّه، وإنا إليه راجعون. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عثمان بن عفّان - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-5/ 4020 و 14/ 4059 و 4060 - وأخرجه (د) في "الديات" 4502 (ت) في "الفتن" 2158 (ق) في "الحدود" 2533 (أحمد) في "مسند العشرة" 439 و 454 و 1411 و 1405 (الدارمي) في "الحدود"2297. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان ما يحلّ به دم المسلم. (ومنها): أن فيه منقبةً عظيمة لعثمان - رضي اللَّه تعالى عنه -، حيث كان مجبولًا على مكارم الأخلاق جاهليّةً، وإسلامًا، فكان مبتعدًا عن الفواحش، ف- رضي اللَّه تعالى عنه -، وأرضاه. (ومنها): أن الذين اعتدوا عليه، وقتلوه بغاةٌ، ظالمون له، حيث إنه لم يرتكب ما يوجب قتله. (ومنها): أن في قتله علمًا من أعلام النبوّة، حيث كان صلى الله عليه وسلم، أخبره بذلك، فقد أخرج الشيخان، من طريق شريك بن أبي نمر، عن سعيد بن المسيّب، قال: أخبرني أبو موسى الأشعري، أنه توضأ في بيته، ثم خرج،

ص: 322

فقلت: لألزمنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولأكوننّ معه يومي هذا، قال: فجاء المسجد، فسأل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: خرج، ووجَّه ها هنا، فخرجت على إثره، أسأل عنه حتى دخل بئر أَرِيس، فجلست عند الباب، وبابها من جريد، حتى قضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حاجته، فتوضأ، فقمت إليه، فإذا هو جالس على بئر أريس، وتوسط قُفَّها، وكشف عن ساقيه، ودلَّاهما في البئر، فسلمت عليه، ثم انصرفت، فجلست عند الباب، فقلت: لأكوننّ بواب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اليوم، فجاء أبو بكر، فدفع الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: أبو بكر، فقلت: على رِسْلِك، ثم ذهبت، فقلت: يا رسول اللَّه هذا أبو بكر يستأذن، فقال:"ائذن له، وبشره بالجنة"، فأقبلت حتى قلت لأبي بكر: ادخل، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يبشرك بالجنة، فدخل أبو بكر، فجلس عن يمين رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم معه في القُفّ، ودَلَّى رجليه في البئر، كما صنع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكشف عن ساقيه، ثم رجعت، فجلست، وقد تركت أخي يتوضأ، ويَلحقُني، فقلت: إن يرد اللَّه بفلان خيرا يريد أخاه- يأت به، فإذا إنسان يحرك الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: عمر بن الخطاب، فقلت: على رسلك، ثم جئت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فسلمت عليه، فقلت: هذا عمر بن الخطاب يستأذن، فقال:"ائذن له، وبشره بالجنة"، فجئت، فقلت: ادخل، وبشرك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالجنة، فدخل، فجلس مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في القفّ، عن يساره، ودلَّى رجليه في البئر، ثم رجعت، فجلست، فقلت: إن يرد اللَّه بفلان خيرا، يأت به، فجاء إنسان يحرك الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: عثمان بن عفان، فقلت: على رسلك، فجئت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال:"ائذن له، وبشره بالجنة، على بلوى تصيبه"، فجئته، فقلت له: ادخل، وبشرك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالجنة، على بلوى تصيبك، فدخل، فوجد القُفَّ قد ملئ، فجلس وِجاهه من الشق الآخر.

قال شريك بن عبد اللَّه: قال سعيد بن المسيب: فأولتها قبورهم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 323

‌6 - (قَتْلُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ، وَذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ، عَنْ عَرْفَجَةَ فِيهِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: المراد قتله إذا لم يندفع شرّه إلا به، وإلا فيكون الدفع بالأسهل، فالأسهل.

ووجه الاختلاف المذكور أن زيد بن عطاء بن السائب خالف الحفّاظ من أصحاب زياد بن عِلاقة، وهم يزيد بن مَرْدَانبة، وأبو حمزة السَّكَّريّ، وشعبة، عند المصنّف، وأبو عوانة، وشيبان النحويّ، وإسرائيل، وعبد اللَّه بن المختار، عند مسلم في "صحيحه"، حيث رووه كلّهم، عن زياد بن عِلاقة، عن عرفجة بن شُريح، عن النبيّ صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، فخالفهم زيد بن عطاء، فرواه عن زياد بن عِلاقة، عن أسامة بن شَرِيك - رضي اللَّه تعالى عنه -، والمحفوظ رواية الجماعة، فإن زيد بن عطاء رجل مجهول، لا يُقبل تفرّده، فكيف إذا خالف سبعة من الحفّاظ المتقنين، فروايته شاذّة منكرة. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال في "تحفة الأشراف" 7/ 293 - : رواه زيد بن عطاء بن السائب، وأبو شيبة إبراهيم بن عثمان، عن زياد بن عِلاقة، عن أُسامة بن شريك. ورواه شريك ابن عبد اللَّه القاضي، عن زياد بن عِلاقة، عن أسامة بن شريك، أو عرفجة. ورواه صدقة بن الفضل المروزيّ، عن أبي حمزة السّكّريّ، عن ليث بن أبي سُليم، قال: حدّثني زياد رجل قد أدرك ابن مسعود- عن عرفجة. وكذلك رواه عبد الحميد بن أبي طالب، عن حمّاد، عن ليث، عن زياد، عن عرفجة. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذه الطرق التي أشار إليها في "التحفة" كلها ضعيفة، والصحيح ما تقدّم، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

4021 -

(أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الصُّوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ مَرْدَانْبَهْ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ، عَنْ عَرْفَجَةَ بْنِ شُرَيْحٍ الأَشْجَعِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النَّاسَ، فَقَالَ: «إِنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدِي هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ، فَمَنْ رَأَيْتُمُوهُ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ، أَوْ يُرِيدُ تَفْرِيقَ أَمْرِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، كَائِنًا مَنْ كَانَ فَاقْتُلُوهُ، فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ عَلَى

(1)

"تحفة الأشراف" 7/ 293.

ص: 324

الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ يَرْكُضُ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أحمد بن يحيى الصوفيّ) أبو جعفر الأوديّ الكوفيّ العابد، ثقة [11] 26/ 1674.

2 -

(أبو نُعيم) الفضل بن دُكين، واسم دُكين عمرو بن حماد بن زُهير التيميّ مولاهم الأحول الْمُلائيّ، ثقة ثبت [9] 11/ 516.

3 -

(يزيد بن مُرْدانُبة) بنون، ثم موحّدة- القرشيّ، مولى عَمرو بن حُريث الكوفيّ، أصله من أصبهان، صدوقٌ [5].

قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: قال وكيعٌ: حدّثنا يزيد ابن مردانُبة، وكان ثقة. وقال أبو حاتم: لا بأس به. وقال العجليّ: كوفيّ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

4 -

(زياد بن عِلَاقة) -بكسر المهملة-: هو أبو مالك الثعلبيّ الكوفيّ، ثقة رُمي بالنصب [3] 43/ 950.

5 -

(عَرْفَجة بن شُريح) ويقال: ضُريح، ويقال: ابن شَرِيك، ويقال: ابن شَرَاحيل الأشجعيّ، له صحبة. روى عن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - هذا الحديث. وعنه زياد بن عِلاقة، وسَلْمَان بن حازم الأشجعيّ، ووقدان أبو يَعفور العبديّ. وقيل: عن أبي عون الثقفيّ، عن عرفجة السلميّ، عن أبي بكر الصّدّيق - رضي اللَّه تعالى عنه -. وصحح ابن حبّان أنه ابن شُريح. وفرّق ابن أبي خيثمة بين عرفجة الأشجعيّ، راوي الحديث المذكور، وبين عرفجة الكنديّ. وأما البخاريّ، فجعلهما واحدًا، وهو الصواب. وحكى ابن عبد البرّ في اسم أبيه أيضًا: دُرَيح، وقال: لا أعلم له غير هذين الحديثين انتهى. وقد أورد له العسكريّ في "الصحابة" حديثين غيرهما

(1)

. أخرج له مسلم، والمصنّف، وأبو داود، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، كرّره ثلاث مرّات برقم 4021 و 4022 و 4023. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له إلا حديث الباب عند مسلم، والمصنّف، وأبي داود. راجع "تحفة الأشراف" 7/ 292 - 293. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"تهذيب التهذيب" 3/ 90 - 91.

ص: 325

شرح الحديث

(عَنْ عَرْفَجَةَ بْنِ شُرَيحٍ الأَشْجَعِيّ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النَّاسَ) جملة حاليّة (فَقَالَ:"إِنَّهُ) الضمير للشأن: أي إن الأمر والشأن (سَيَكُونُ) وفي رواية مسلم: "ستكون" بالتاء (بَعْدِي) أي بعد وفاتي (هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ) وكرّره في الرواية التالية ثلاث مرّات: أي شرورٌ، وإفسادات متتابعة، خارجة، والمراد بها الفتن المتوالية، والمعنى أنه سيظهر في الأرض أنواع الفساد، والفتن؛ لطلب الإمارة من كلّ جهة، وإنما الإمام من انعقدت له البيعة أوّلًا. أفاده القاري

(1)

.

وقال القرطبيّ: الهنات: جمع هَنَة، وهي كناية عن نكرةٍ أيَّ شيء كان، ويعني به أنه سيكون أمور منكرة، وفتنٌ عظيمةٌ، كما قد ظهر، ووُجِد. انتهى

(2)

. وقال النوويّ: الهنات جمع هَنَة، وتُطلق على كلّ شيء، والمراد بها هنا الفتن، والأمور الحادثة. انتهى

(3)

(فَمَنْ رَأَيْتُمُوهُ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ) أي خرج منهم، وبغى عليهم. وقال السنديّ: أي خالف ما اتفق عليه المسلمون، تفريقًا بين المسلمين، وإيقاعًا للخلاف بينهم. انتهى (أَوْ) للشكّ من الراوي. قاله السنديّ.

قال الجامع: ويحتمل أن تكون للتنويع، وأن الأول هو الذي وقع منه الشقاق بالفعل، والثاني هو الذي أراد ذلك، وظهرت منه أماراته، فيؤخذ على يديه قبل أن يحدُث منه شيء. واللَّه تعالى أعلم (يُرِيدُ يُفَرِّقُ) بتشديد الراء بالرفع، وتقدير "أن" المصدريّة، مفعول "يُريد": أي يريد أن يفرّق (أَمْرَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، كَائِنًا مَنْ كَانَ) أي شخص كان، شريفًا، أو وضيعًا، عالمًا، أو جاهلًا، أو غير ذلك.

وقال القرطبيّ: أي لا يُحترم لشرفه، ونسبه، ولا يُهاب لعشيرته، ونَشَبه

(4)

، بل يُبادر بقتله قبل شرارة شرّه، واستحكام فساده، وعدوى عُرِّه

(5)

. انتهى

(6)

.

وقال القاري: "كائنًا من كان" أي سواء كان من أقاربي، أو من غيرهم، بشرط أن يكون الأول أهلًا للإمامة، وهي الخلافة. وفي نسخة:"كائنًا ما كان"، ومشى عليه

(1)

"المرقاة" 7/ 258 - 259.

(2)

"المفهم" 4/ 62 - 63.

(3)

"شرح مسلم" 12/ 444.

(4)

"النَّشَب" -بفتحتين-: قيل: العقار، وقيل: المال والعقار. انتهى "المصباح". والمراد أنه لا يهاب لكثرة ماله.

(5)

"العُرُّ": الجَرَبُ.

(6)

"المفهم" 4/ 63.

ص: 326

الطيبيّ، حيث قال: إنه حالٌ فيه معنى الشرط، أي ادفعوا من خرج على الإمام بالسيف، وإن كان أشرف، وأعلم، وترون أنه أحقّ وأولى، وهذا المعنى أظهر في لفظه مما في المتن؛ لأنه يجري حينئذ على صفة ذوي العلم، كما في قوله تعالى:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7]، أي عظيم القدرة على الشأن. انتهى

(1)

.

(فَاقْتُلُوهُ) أي إن لم يندفع شرّه إلا بالقتل، وإلا فإن الواجب في حقّه أن يُنهَى أوّلًا عن ذلك، فإن انتهى فذاك، وإلا قُوتل، وإن لم يندفع شرّه إلا بقتله، فقُتل، كان دمه هدرًا (فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ) قال في "النهاية": يد اللَّه كناية عن الحفظ، أي إن الجماعة المتّفقة من أهل الإسلام في كنف اللَّه، ووقايته فوقهم، وهو يُعيذهم من الأذى والخوف. انتهى. وقال السنديّ: أي حفظه تعالى، ونصره مع المسلمين، إذا اتفقوا، فمن أراد التفريق بينهم، فقد أراد صرف النصر عنهم. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله في "النهاية"، ونحوه للسنديّ، إن كان الغرض منه نفي صفة اليد عن اللَّه تعالى، وتأويلها بالحفظ، فغير صحيح، وإن كان المراد التفسير باللازم مع إثبات أصل المعنى، أي أن اليد صفة للَّه تعالى على ما يليق بجلاله، فالخطب سهل. واللَّه تعالى أعلم.

(فَإِنَّ) وفي "الكبرى": "وإن" بالواو (الشَّيْطَانَ مَعَ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ يَرْكُضُ) من باب قتل: أي يَعْدُو، ويُسرع. قال في "القاموس": الرَّكضُ تحريك الرِّجل، ومنه:{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [سورة ص: 42]، والدفعُ، واستحثاث الفرس للعدّوِ، وتَحرُّكُ الْجَنَاح، والْعَدْوُ. انتهى.

والمراد هنا. أنه يتغلغل بينهم، ويحثّهم بأن يعادي بعضهم بعضًا، ويُسرع في الإفساد بينهم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عَرْفجة بن شُريح الأشجعيّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-6/ 4021 و 4022 و 4023 وفي "الكبرى" 6/ 3483 و 3484 و 3485.

(1)

"المرقاة" 7/ 259.

ص: 327

وأخرجه (م) في "الإمارة" 1852 (د) في "السنّة" 4862 (أحمد) في "أول مسند الكوفيين" 17830 و 18520 و"أول مسند البصريين"19766. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان وجوب قتل من فارق الجماعة. (ومنها): أن فيه علمًا من أعلام النبوّة، فإن هذا وقع كما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم. (ومنها): إثبات اليد للَّه سبحانه وتعالى، على ما يليق بجلاله. (ومنها): أن فيه فضل الجماعة، وبركتهم، وأن عون اللَّه تعالى، ونصره لا يفارقهم. (ومنها). بيان مضرّة التفرّق، واختلاف الكلمة، وأنه سبب لاستيلاء الشيطان على المسلمين، فإنه يحبّ ذلك، حيث إن الجماعة، واتفاق الكلمة يصحبها عون اللَّه تعالى، ونصره، فهو يحبّ ضدّ ذلك، فيركُض مع من فارق جماعة المسلمين، ويكون أولياءهم، {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء: 38]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4022 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ، عَنْ عَرْفَجَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ وَهَنَاتٌ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَمَنْ رَأَيْتُمُوهُ يُرِيدُ تَفْرِيقَ أَمْرِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَهُمْ جَمِيعٌ، فَاقْتُلُوهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ مِنَ النَّاسِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أبو عليّ، محمد يحيى المروزيّ": هو الصائغ اليشكريّ، ثقة [11] 53/ 3524. و"عبد اللَّه بن عثمان" بن جَبَلَةَ بفتح الجيم، والموحّدة- ابن أبي رَوّاد بفتح الراء، وتشديد الواو- واسمه ميمون. وقيل: أيمن الأزديّ الْعَتَكيّ بفتح المهملة، والمثنّاة- مولاهم، أبو عبد الرحمن المروزيّ الملقّب عبدان، ثقة حافظٌ [10].

قال أحمد بن عَبْدة: تصدّق عبدان في حياته بألف ألف درهم، وكتب كُتُب ابن المبارك بقلم واحد. وقال ابن حبّان في "الثقات": قال أحمد بن حنبل: ما بقي الرحلة إلا إلى عبدان بخراسان، مات سنة (220). وقد قيل: سنة (222). وقال البخاريّ وغيره: سنة (221) زاد غيره: وهو ابن (76) سنة. وفيها أرّخه الحاكم، والقرّاب، وزاد: في العشر الأواخر من شعبان. وقال الكلاباذيّ: وُلد سنة (140). وقال ابن عديّ في "شيوخ البخاريّ": حدّث عن شعبة أحاديث تفرّد بها. وقال أبو رجاء محمد بن حمدويه: رأيته يخضِبُ، وهو ثقة مأمون. وقال الحاكم: كان إمام أهل الحديث ببلده، ولّاه عبد اللَّه بن طاهر قضاء جُوزَجَان، فاحتال حتى اعتفى. وفي "الزهرة" روى عنه

ص: 328

البخاريّ (110) أحاديث. روى له الجماعة، سوى ابن ماجه، وله عند المصنّف في هذا الكتاب خمسة أحاديث: هذا الحديث، وفي "كتاب قطع السارق" حديث 1/ 4872 و 4873 - حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - قال: قال رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -: "لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن" الحديث. وفي "كتاب الزينة" 26/ 5108 - حديث ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -: "سمعت رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - يلعن المتنمّصات" الحديث. وفي "كتاب الاستعاذة" 40/ 5656 - حديث بُريدة - رضي اللَّه تعالى عنه - "أن رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - بينا هو يسير" الحديث.

و"أبو حمزة": هو السُّكَّريّ، محمد بن ميمون المروزيّ، ثقة فاضلٌ [7] 22/ 206.

وقوله: "وهم جميع": أي مجتمعون على إمام واحد، كما فسّرته رواية مسلم من طريق يونس بن أبي يعفور، عن أبيه، عن عرفجة، ولفظه:"من أتاكم، وأمركم جميعٌ على رجل واحد، يريد شقّ عصاكم، أو يفرّق جماعتكم، فاقتلوه".

والحديث أخرجه مسلم، وقد سبق تمام البحث فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4023 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عِلَاقَةَ، عَنْ عَرْفَجَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «سَتَكُونُ بَعْدِي هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَهُمْ جَمْعٌ، فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عَمْرُو بْنُ عَلِيِّ": هو الفلاّس. و"يحيى": هو القطّان.

والحديث أخرجه مسلم، وقد سبق تمام البحث فيه قبل حديث. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4024 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّمَا رَجُلٍ خَرَجَ يُفَرِّقُ بَيْنَ أُمَّتِي، فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بْنُ قُدامة": هو المصّيصيّ، ثقة [10] 19/ 528. و" جرير": هو ابن عبد الحميد بن قُرْط الضبيّ المصّيصيّ، ثقة [8] 2/ 2.

و"زيد بن عطاء بن السائب" الكوفيّ الثقفيّ، مقبول [7].

روى عن زياد بن عِلاقة، وابن المنكدر، وجعفر الصادق، وعمرو بن يحيى بن

ص: 329

عُمارة. وعنه إسرائيل، وجرير بن عبد الحميد، وحُصين بن مُخارق، وعبد الغفّار بن القاسم. قال أبو حاتم: شيخٌ ليس بالمعروف. وذكره ابن حبّان في "الثقات". تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط، والترمذيّ بحديث آخر.

و"أسامة بن شريك" الثعلبيّ- بالثاء المثلثة، والمهملة- من بني ثعلبة بن سعد، صحابيّ تفرّد بالرواية عنه زياد بن علاقة على الصحيح. وقيل: روى عنه أيضًا عليّ بن الأقمر. روى له الأربعة، وله عند المصنّف هذا الحديث فقط.

والحديث صحيح بالسند المتقدّم، وأما هذا فضعيف، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌7 - (تَأْوِيلُ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33]، وَفِيمَ نَزَلَتْ، وَذِكْرُ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ النَّاقِلِينَ لِخَبَرِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه فِيهِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: في هذه الآية الكريمة مسائل:

(المسألة الأولى): في اختلاف أهل العلم في سبب نزولها:

(اعلم): أَنَّ ظاهر صنيع المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أن الآية الكريمة نزلت في أهل الردّة، ومثله صنيع الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى-، قال ابن بطال -رحمه اللَّه تعالى-: ذهب البخاريّ إلى أن آية المحاربة نزلت في أهل الكفر والردة، وساق حديث العرنيين، وليس فيه تصريح بذلك، ولكن أخرج عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة حديث

ص: 330

العرنيين، وفي آخره: قال: بلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [المائدة: 33]. ووقع مثله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وممن قال ذلك الحسن، وعطاء، والضحاك، والزهري. قال: وذهب جمهور الفقهاء إلى أنها نزلت فيمن خرج من المسلمين، يسعى في الأرض بالفساد، ويقطع الطريق، وهو قول مالك، والشافعيّ، والكوفيين، ثم قال: وليس هذا منافيا للقول الأول؛ لأنها وإن نزلت في العرنيين بأعيانهم، لكن لفظها عام يدخل في معناه كلّ من فعل مثل فعلهم، من المحاربة والفساد.

قال الحافظ: بل هما متغايران، والمرجع إلى تفسير المراد بالمحاربة، فمن حملها على الكفر خص الآية بأهل الكفر، ومن حملها على المعصية عمم، ثم نقل ابن بطال عن إسماعيل القاضي، أن ظاهر القرآن، وما مضى عليه عمل المسلمين، يدل على أن الحدود المذكورة في هذه الآية، نزلت في المسلمين، وأما الكفار فقد نزل فيهم:{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} إلى آخر الآية [سورة محمد صلى الله عليه وسلم: 4]، فكان حكمهم خارجا عن ذلك. وقال تعالى في آية المحاربة:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} الآية [المائدة: 34]، وهي دالة على أن من تاب من المحاربين يسقط عنه الطلب بما ذكر بما جناه فيها، ولو كانت الآية في الكافر لنفعته المحاربة، ولكن إذا أحدث الحرابة مع كفره اكتفينا بما ذكر في الآية، وسلم من القتل، فتكون الحرابة خففت عنه القتل.

وأجيب عن هذا الإشكال بأنه لا يلزم من إقامة هذه الحدود على المحارب المرتد مثلا، أن تسقط عنه المطالبة بالعود إلى الإسلام، أو القتل. وقد نقل البخاريّ في تفسير "سورة المائدة"، عن سعيد بن جبير أن معنى المحاربة للَّه الكفر به. وأخرج الطبري من طريق روح بن عبادة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس في آخر قصة العرنيين، قال: فذكر لنا أن هذه الآية نزلت فيهم: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33]، وأخرج نحوه من وجه آخر عن أنس. وأخرج الإسماعيلي هناك من طريق مروان بن معاوية، عن معاوية بن أبي العباس، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] قال: هم من عكل.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: والمعتمد أن الآية نزلت أولا فيهم، وهي تتناول بعمومها من حارب من المسلمين بقطع الطريق، لكن عقوبة الفريقين مختلفة، فإن كانوا كفارا يخير الإمام فيهم إذا ظفر بهم، وإن كانوا مسلمين فعلى قولين: أحدهما: وهو

ص: 331

قول الشافعيّ، والكوفيين ينظر في الجناية، فمن قَتل قُتل، ومن أخذ المال قُطع، ومن لم يقتل ولم يأخذ مالا نُفي، وجعلوا "أو" للتنويع. وقال مالك: بل هي للتخيير، فيتخير الإمام في المحارب المسلم بين الأمور الثلاثة، ورجح الطبري الأول. ذكره في "الفتح"

(1)

.

وقال أبو عبد اللَّه القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: اختلف الناس في سبب نزول هذه الآية، فالذي عليه الجمهور أنها نزلت في العرنيين، روى الأئمة، واللفظ لأبي داود، عن أنس بن مالك: "أن قوما من عكل، أو قال: من عرينة، قدموا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فاجتووا المدينة، فأمر لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بلقاح، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا، فلما صَحُّوا قتلوا راعي النبيّ صلى الله عليه وسلم، واستاقوا النعم، فبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم خبرهم من أول النهار، فأرسل في آثارهم، فما ارتفع النهار حتى جيء بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم، وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون، قال أبو قلابة: فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا اللَّه ورسوله، وفي رواية: فأمر بمسامير، فأحميت وكحلهم، وقطع أيديهم وأرجلهم، وما حسمهم، وفي رواية: بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في طلبهم قافة، فأتي بهم، قال: فأنزل اللَّه تبارك وتعالى في ذلك: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} الآية [المائدة: 33]، وفي رواية: قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يَكْدِم الأرض بفيه عطشا حتى ماتوا، وفي البخاري

(2)

قال جرير بن عبد اللَّه في حديثه: فبعثني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين، حتى أدركناهم وقد أشرفوا على بلادهم، فجئنا بهم إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال جرير: فكانوا يقولون: الماء، ويقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"النار".

وقد حكى أهل التواريخ والسير، أنهم قطعوا يدي الراعي ورجليه، وغرزوا الشوك في عينيه حتى مات، وأدخل المدينة ميتا، وكان اسمه يسار، وكان نوبيا، وكان هذا الفعل من المرتدين سنة ستّ من الهجرة، وفي بعض الروايات عن أنس: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم.

وروي عن ابن عباس، والضحاك، أنها نزلت بسبب قوم من أهل الكتاب، كان بينهم وبين رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عهد، فنقضوا العهد، وقطعوا السبيل، وأفسدوا في الأرض.

وفي مصنف أبي داود، عن ابن عباس قال:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}

(1)

راجع "الفتح" 14/ 66 - 67.

(2)

هكذا نسخة تفسير القرطبيّ، والظاهر أنه تصحيف من "الطبري"؛ لأن هذه الرواية ليست في البخاريّ، بل في تفسير الطبريّ، وإسنادها ضعيف، كما قاله في "الفتح" 1/ 452 فتنبّه.

ص: 332

إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] نزلت هذه الآية في المشركين، فمن أُخذ منهم قبل أن يُقدَر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصابه، وممن قال: إن الآية نزلت في المشركين عكرمة، والحسن، وهذا ضعيف، يرده قوله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} الآية [الأنفال:38]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"الإسلام يهدم ما قبله"، أخرجه مسلم. والصحيح الأول؛ لنصوص الأحاديث الثابتة في ذلك.

وقال مالك، والشافعيّ، وأبو ثور، وأصحاب الرأي: الآية نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل، ويسعى في الأرض بالفساد، قال ابن المنذر: قول مالك صحيح، قال أبو ثور محتجًا لهذا القول: وفي الآية دليل على أنها نزلت في غير أهل الشرك، وهو قوله جل ثناؤه:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} الآية [المائدة: 34]، وقد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدينا فأسلموا، أن دماءهم تحرم، فدلّ ذلك على أن الآية نزلت في أهل الإسلام.

وحكى الطبري عن بعض أهل العلم أن هذه الآية نَسخت فعل النبي صلى الله عليه وسلم في العرنيين، فوُقف الأمر على هذه الحدود. ورَوى محمد بن سيرين قال: كان هذا قبل أن تنزل الحدود، يعني حديث أنس، ذكره أبو داود.

وقال قوم: منهم الليث بن سعد: ما فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم بوفد عرينة نُسخ، إذ لا يجوز التمثيل بالمرتد. قال أبو الزناد: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما قطع الذين سرقوا لقاحه، وسمل أعينهم بالنار، عاتبه اللَّه عز وجل في ذلك، فأنزل اللَّه تعالى في ذلك:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} الآية [المائدة: 33]، أخرجه أبو داود، قال أبو الزناد: فلما وُعظ، ونُهي عن المثلة لم يعد.

وحُكي عن جماعة أن هذه الآية ليست بناسخة لذلك الفعل؛ لأن ذلك وقع في مرتدين، لاسيما وقد ثبت في "صحيح مسلم" وكتاب النسائيّ، وغيرهما قال:"إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك؛ لأنهم سملوا أعين الرعاة، فَكَانَ هذا قصاصا"، وهذه الآية في المحارب المؤمن.

قال القرطبيّ: وهذا قول حسن، وهو معنى ما ذهب إليه مالك، والشافعي، ولذلك قال اللَّه تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34]، ومعلوم أن الكفار لا تختلف أحكامهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة، كما تسقط قبل القدرة، والمرتد يستحق القتل بنفس الردة، دون المحاربة، ولا يُنفَى، ولا تُقطع يده ولا رجله، ولا يُخَلَّى سبيله، بل يُقتل إن لم يسلم، ولا يُصَلّب أيضًا، فدلّ أن ما

ص: 333

اشتملت عليها الآية ما عُني به المرتد، وقال تعالى في حق الكفار:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، وقال في المحاربين:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} الآية، وهذا بَيّنٌ، وعلى ما قررناه في أول الباب لا إشكال، ولا لوم، ولا عتاب، إذ هو مقتضى الكتاب، قال اللَّه تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الآية [البقرة: 194]، فمَثَلوا فمُثِل بهم، إلا أنه يحتمل أن يكون العتاب إن صح على الزيادة في القتل، وذلك تكحيلهم بمسامير محماة، وتركهم عَطَاشَى حتى ماتوا، واللَّه أعلم.

وحكى الطبري عن السدي، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمل أعين العرنيين، وإنما أراد ذلك، فنزلت الآية ناهية عن ذلك، وهذا ضعيف جدا، فإن الأخبار الثابتة وردت بالسمل، ففي "صحيح البخاريّ":"فأمر بمسامير فأحميت، فكحلهم"، ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام، وإن كانت نزلت في المرتدين، أو اليهود. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الأرجح عندي ما ذهب إليه الجمهور، وهو مذهب البخاريّ، والمصنّف أن الآية الكريمة نزلت في العرنيين المرتدّين، ولكنها تشمل بعمومها من حارب من المسلمين بقطع الطريق، وسيأتي تحقيق الخلاف في حكم معاقبتهم في المسألة الثالثة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): أنه اختلف العلماء فيمن يستحق اسم المحاربة، فقال مالك: المحارب عندنا من حمل على الناس في مصر، أو في برية، وكابرهم على أنفسهم وأموالهم، دون نائرة

(2)

ولا ذحل

(3)

ولا عداوة، قال ابن المنذر: اختلف عن مالك في هذه المسألة، فأثبت المحاربة في المصر مرّة، ونفى ذلك مرّة. وقالت طائفة: حكم ذلك في المصر، أو في المنازل والطرق، وديار أهل البادية والقرى سواء، وحدودهم واحدة، وهذا قول الشافعيّ، وأبي ثور، قال ابن المنذر: كذلك هو؛ لأن كلا يقع عليه اسم المحاربة، والكتاب على العموم، وليس لأحد أن يُخرِج من جملة الآية قوما بغير حجة. وقالت طائفة: لا تكون المحاربة في المصر، وإنما تكون خارجا عن المصر، هذا قول سفيان الثوريّ، وإسحق، والنعمان، والمغتال كالمحارب، وهو الذي يحتال

(1)

راجع "الجامع لأحكام القرآن" 6/ 148 - 150.

(2)

يقال: نارت نائرة في الناس: هاجت هائجة.

(3)

الذحل: الثأر.

ص: 334

في قتل إنسان على أخذ ماله، وإن لم يَشهَر السلاح، لكن دخل عليه بيته، أو صحبه في سفر فأطعمه سما فقتله، فيقتل حدّا، لا قودا.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الأرجح عندي ما ذهب إليه الشافعيّ، وأبو ثور، ورجحه ابن المنذر، من أن المحارب يعم كلّ من حمل السلاح على المسلمين مطلقًا، في المصر، أو المنازل، والطرق، أو البرية؛ لعموم الآية الكريمة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): اختلفوا في حكم المحارب، فقالت طائفة: يقام عليه بقدر فعله، فمن أخاف السبيل، وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف، وإن أخذ المال، وقتل قطعت يده ورجله، ثم صلب، فإذا قتل ولم يأخذ المال قتل، وإن هو لم يأخذ المال، ولم يقتل نفي، قاله ابن عباس، وروي عن أبي مجلز، والنخعي، وعطاء الخراساني، وغيرهم.

وقال أبو يوسف: إذا أخذ المال وقتل صلب وقتل على الخشبة، قال الليث: بالحربة مصلوبا. وقال أبو حنيفة: إذا قتل قتل، وإذا أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وإذا أخذ المال وقتل فالسلطان مخير فيه، إن شاء قطع يده ورجله، وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه، قال أبو يوسف: القتل يأتي على كلّ شيء، ونحوه قول الأوزاعيّ. وقال الشافعيّ: إذا أخذ المال قطعت يده اليمنى وحسمت، ثم قطعت رجله اليسرى وحسمت، وخُلي؛ لأن هذه الجناية زادت على السرقة بالحرابة، وإذا قتل قتل، وإذا أخذ المال وقتل قتل وصلب، وروي عنه أنه قال: يصلب ثلاثة أيام، قال: وإن حَضَرَ وكَثر وهِيب، وكان رِدْئًا للعدو حُبس، وقال أحمد: إن قتل قتل، وإن أخذ المال قطعت يده ورجله، كقول الشافعيّ، وقال قوم: لا ينبغي أن يصلب قبل القتل، فيحال بينه وبين الصلاة والأكل والشرب. وحُكي عن الشافعيّ أكره أن يقتل مصلوبا؛ لنهي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن المثلة. وقال أبو ثور: الإمام مخير على ظاهر الآية، وكذلك قال مالك، وهو مروي عن ابن عبّاس، وهو قول سعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد، والضحاك، والنخعي، كلهم قال: الإمام مخير في الحكم على المحاربين، يحكم عليهم بأي الأحكام التي أوجبها اللَّه تعالى، من القتل والصلب، أو القطع، أو النفي بظاهر الآية، قال ابن عبّاس: ما كان في القرآن "أو" فصاحبه بالخيار.

قال القرطبيّ: وهذا القول أسعد بظاهر الآية، فإن أهل القول الأول الذين قالوا: إن "أو" للترتيب، وإن اختلفوا، فإنك تجد أقوالهم أنهم يجمعون عليه حدين، فيقولون: يقتل ويصلب، ويقول بعضهم: يصلب ويقتل، ويقول بعضهم: تقطع يده ورجله

ص: 335

وينفى، وليس كذلك الآية، ولا معنى "أو" في اللغة، قاله النحاس.

واحتج الأولون بما ذكره الطبريّ عن أنس بن مالك، أنه قال: سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام، عن الحكم في المحارب؟ فقال:"من أخاف السبيل وأخذ المال، فاقطع يده للأخذ ورجله للإخافة، ومن قتل فاقتله، ومن جمع ذلك فاصلبه"، قال ابن عطية: وبقي النفي للمخيف فقط، والمخيف في حكم القاتل، ومع ذلك فمالك يرى فيه الأخذ بأيسر العذاب والعقاب استحسانا. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي القول بتخيير الإمام أرجح؛ لظاهر الآية. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): اختلفوا في معنى قوله تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} الآية [المائدة: 33]: فقال السدي: هو أن يطلب أبدا بالخيل والرجل حتى يؤخذ، فيقام عليه حد اللَّه، أو يخرج من دار الإسلام هربا ممن يطلبه، عن ابن عباس، وأنس بن مالك، ومالك بن أنس، والحسن، والسدي، والضحاك، وقتادة، وسعيد بن جبير، والربيع بن أنس، والزهري، حكاه الرماني في كتابه. وحكي عن الشافعي أنهم يُخرجون من بلد إلى بلد، ويطلبون لتقام عليهم الحدود، وقاله الليث بن سعد، والزهري أيضا، وقال مالك أيضا: ينفى من البلد الذي أحدث فيه هذا إلى غيره، ويحبس فيه كالزاني، وقال مالك أيضا، والكوفيون: نفيهم سجنهم، فينفى من سعة الدنيا إلى ضيقها، فصار كأنه إذا سُجن فقد نفي من الأرض، إلا من موضع استقراره، واحتجوا بقول بعض أهل السجون في ذلك:

خَرَجْنَا مِنَ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنْ أَهْلِهَا

فَلَسْنَا مِنَ الأَمْوَاتِ فِيهَا وَلَا الأَحْيَا

إِذَا جَاءَنَا السَّجَّانُ يَوْمًا لِحَاجَةٍ

عَجِبْنَا وَقُلْنَا جَاءَ هَذَا مِنَ الدُّنْيَا

حكى مكحول أن عمر بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى عنه - أول من حبس في السجون، وقال: أحبسه حتى أعلم منه التوبة، ولا أنفيه من بلده إلى بلد، فيؤذيهم، والظاهر أن الأرض في الآية هي أرض النازلة، وقد تجنب الناس قديما الأرض التي أصابوا فيها الذنوب، ومنه حديث الذي ناء بصدره نحو الأرض المقدسة

(1)

. وينبغي للإمام إن كان هذا المحارب مخوف الجانب، يُظن أنه يعود إلى حرابة، أو إفساد أن يسجنه في البلد الذي يُغَرَّب إليه، وإن كان غير مخوف الجانب، فظن أنه لا يعود إلى جناية سرح. قال ابن عطية: وهذا صريح مذهب مالك أن يغرب، ويسجن حيث يغرب، وهذا على

(1)

هو الرجل الذي قتل تسعا وتسعين نفسًا، ثم جاء تائبًا، وقصته مشهور في "الصحيح".

ص: 336

الأغلب في أنه مخوف، ورجحه الطبريّ، وهو الواضح؛ لأن نفيه من أرض النازلة هو نص الآية، وسجنه بعدُ بحسب الخوف منه، فإن تاب وفُهمت حاله سرح. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما ذهب إليه الإمام مالك -رحمه اللَّه تعالى-، وهو التغريب والسجن أرجح، كما رجحه الطبريّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): اختلفوا، هل يشترط في قطع المحارب أخذ النصاب، أم لا؟:

قال ابن خويزمنداد: ولا يراعى المال الذي يأخذه المحارب نصابا كما يراعى في السارق، وقد قيل: يراعى في ذلك النصاب، ربع دينار، قال ابن العربي: قال الشافعي، وأصحاب الرأي: لا يقطع من قطاع الطريق إلا من أخذ قدر ما تقطع فيه يد السارق، وقال مالك: يحكم عليه بحكم المحارب، وهو الصحيح، فإن اللَّه تعالى وَقّت على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام القطع في السرقة في ربع دينار، ولم يُوَقّت في الحرابة شيئًا، بل ذكر جزاء المحارب، فاقتضى ذلك توفية الجزاء لهم على المحاربة عن حبة، ثم إن هذا قياس أصل على أصل، وهو مختلف فيه، وقياس الأعلى بالأدنى، والأدنى بالأسفل، وذلك عكس القياس، وكيف يصحّ أن يقاس المحارب على السارق، وهو يطلب خطف المال، فإن شُعر به فرّ، حتى إن السارق إذا دخل بالسلاح يطلب المال، فإن منع منه، أو صيح عليه وحارب عليه فهو محارب، يحكم عليه بحكم المحارب، قال القاضي ابن العربي: كنت في أيام حكمي بين الناس، إذا جاءني أحد بسارق، وقد دخل الدار بسكين، يحبسه على قلب صاحب الدار، وهو نائم وأصحابه يأخذون مال الرجل، حكمت فيهم بحكم المحاربين، فافهموا هذا من أصل الدين، وارتفعوا إلى يَفَاع

(2)

العلم عن حضيض الجاهلين. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: القول بعدم اشتراط النصاب في قطع المحارب هو الأرجح عندي؛ لعدم اشتراطه في النصّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): أنه لا خلاف في أن الحرابة يقتل فيها من قَتل، وإن لم يكن المقتول مكافئا للقاتل، وللشافعي قولان: أحدهما: أنها تعتبر المكافأة؛ لأنه قتل، فاعتبر فيه المكافأة كالقصاص، وهذا ضعيف؛ لأن القتل هنا ليس على مجرد القتل،

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 6/ 152 - 153.

(2)

اليفع: أعلى الجبل، ومنه غلام يَفَعَةٌ، إذا ارتفع إلى البلوغ، والحضيض: الحفرة في أسفل الوادي، كذلك قال أهل اللغة. انتهى "تفسير القرطبيّ" 6/ 154.

ص: 337

وإنما هو على الفساد العام، من التخويف، وسلب المال، قال اللَّه تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا} الآية [المائدة: 33]، فأمر تعالى بإقامة الحدود على المحارب، إذا جمع شيئين: محاربة، وسعيا في الأرض بالفساد، ولم يخص شريفا من وضيع، ولا رفيعا من دنيء. قاله القرطبيّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): إذا أخاف المحاربون السبيل، وقطعوا الطريق، وجب على الإمام قتالهم، من غير أن يدعوهم، ووجب على المسلمين التعاون على قتالهم، وكفهم عن أذى المسلمين، فإن انهزموا لم يتبع منهم مُدبرا، إلا أن يكون قد قَتل وأخذ مالا، فإن كان كذلك اتبع ليؤخذ ويقام عليه ما وجب لجنايته، ولا يُدَفَّف

(1)

منهم على جريح، إلا أن يكون قد قتل، فإن أُخذوا ووجد في أيديهم مال لأحد بعينه، رد إليه أو إلى ورثته، وإن لم يوجد له صاحب جعل في بيت المال، وما أتلفوه من مال لأحد غَرِموه، ولا دية لمن قتلوا إذا قُدر عليهم قبل التوبة، فإن تابوا وجاءوا تائبين لم يكن للإمام عليهم سبيل، وسقط عنهم ما كان حدا للَّه، وأُخذوا بحقوق الآدميين، فاقتُصَّ منهم النفس والجراح، وكان عليهم ما أتلفوه من مال ودم لأوليائه في ذلك، ويجوز لهم العفو، والهبة كسائر الجناة من غير المحاربين، هذا مذهب مالك، والشافعيّ، وأبي ثور، وأصحاب الرأي، وإنما أخذ ما بأيديهم من الأموال، وضمنوا قيمة ما استهلكوا؛ لأن ذلك غصب فلا يجوز ملكه لهم، ويُصرف إلى أربابه، أو يوقفه الإمام عنده حتى يعلم صاحبه.

وقال قوم من الصحابة والتابعين: لا يطلب من المال إلا بما وجد عنده، وأما ما استهلكه فلا يطلب به، وذكر الطبري ذلك عن مالك، من رواية الوليد بن مسلم عنه، وهو الظاهر من فعل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، بحارثة بن بدر الْغُدَاني، فإنه كان محاربا، ثم تاب قبل القدرة عليه، فكتب له بسقوط الأموال والدم عنه كتابا منشورا، قال ابن خويزمنداد: واختلفت الرواية عن مالك في المحارب، إذا أقيم عليه الحد، ولم يوجد له مال، هل يتبع دينا بما أخذ، أو يسقط عنه كما يسقط عن السارق، والمسلم والذمي في ذلك سواء. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

يقال: دفّف على الجريح: أجهز عليه.

ص: 338

(المسألة الثامنة): أجمع أهل العلم على أن السلطان ولي من حارب، فإن قَتَل محارب أخا امريء أو أباه في حالة المحاربة، فليس إلى طالب الدّم من أمر المحارب شيء، ولا يجوز عفو ولي الدم، وإنما القائم بذلك هو الإمام، جعلوا ذلك بمنزلة حد من حدود اللَّه تعالى. قاله القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة التاسعة): قوله عز وجل: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} الآية بيان لشناعة المحاربة، وعظم ضررها، وإنما كانت المحاربة عظيمة الضرر؛ لأن فيها سد سبيل الكسب على الناس؛ لأن أكثر المكاسب وأعظمها التجارات، وركنها وعمادها الضرب في الأرض، كما قال عز وجل:{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} الآية [المزّمّل: 20]، فإذا أُخيف الطريق انقطع الناس عن السفر، واحتاجوا إلى لزوم البيوت، فانسد باب التجارة عليهم، وانقطعت أكسابهم، فشرع اللَّه على قطاع الطريق الحدود المغلظة، وذلك الخزي في الدنيا؛ ردعا لهم عن سوء فعلهم، وفتحا لباب التجارة التي أباحها لعباده لمن أرادها منهم، ووعد فيها بالعذاب العظيم في الآخرة، وتكون هذه المعصية خارجة عن المعاصي، ومستثناة من حديث عبادة رضي الله عنه في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"فمن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة"، واللَّه أعلم.

ويحتمل أن يكون الخزي لمن عوقب، وعذاب الآخرة لمن سلم في الدنيا، ويجري هذا الذنب مجرى غيره، ولا خلود لمؤمن في النار، ولكن يعظم عقابه لعظم الذنب، ثم يخرج إما بالشفاعة، وإما بالقبضة، ثم إن هذا الوعيد مشروط الإنفاذ بالمشيئة؛ لقوله تعالى:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة العاشرة): قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] استثنى اللَّه عز وجل التائبين قبل أن يُقدَر عليهم، وأخبر بسقوط حقه عنهم بقوله:{فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، أما القصاص، وحقوق الآدميين فلا تسقط، ومن تاب بعد القدرة فظاهر الآية أن التوبة لا تنفع، وتقام الحدود عليه، كما تقدّم، وللشافعي قول أنه يسقط كل حد بالتوبة، والصحيح من مذهبه أن ما تعلق به حق الآدمي قصاصا كان أو غيره، فإنه لا يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه، وقيل: أراد بالاستثناء المشرك إذا تاب، وآمن قبل القدرة عليه، فإنه تسقط عنه الحدود، وهذا ضعيف؛ لأنه إن آمن بعد القدرة عليه لم يقتل أيضًا بالإجماع، وقيل: إنما لا يسقط الحد عن المحاربين بعد القدرة عليهم -واللَّه أعلم- لأنهم متهمون بالكذب في توبتهم،

ص: 339

والتصنع فيها إذا نالتهم يد الإمام، أو لأنه لما قُدر عليهم صاروا بمعرض أن ينكل بهم، فلم تقبل توبتهم كالمتلبس بالعذاب من الأمم قبلنا، أو من صار إلى حال الغرغرة فتاب، فأما إذا تقدمت توبتهم القدرة عليهم فلا تهمة، وهي ناقصة، فأما الشُّرّاب، والزُّناة، والسُّرّاق إذا تابوا وأصلحوا وعرف ذلك منهم، ثم رفعوا إلى الإمام فلا ينبغي أن يحدهم، وإن رُفعوا إليه فقالوا: تبنا لم يتركوا، وهم في هذه الحال كالمحاربين إذا غُلبوا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

[تنبيه]: قوله: "وذكر اختلاف ألفاظ الناقلين الخ": وجه الاختلاف المذكور أن أبا رجاء رواه عن أبي قلابة بلفظ: "أن نفرًا من عكل ثمانية"، وقال: أيضًا: "فاستوخموا المدينة، وسقمت أجسامهم، فشكوا ذلك الخ"، وقال:"ونبذهم في الشمس"، ورواه يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة، وقال:"فاجتووا المدينة"، وقال:"ولم يحسمهم، وتركهم حتى ماتوا"، وزاد:"فأنزل اللَّه عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ} الآية. ورواه أيوب، عن أبي قلابة، وقال: "نفر من عكل، أو عرينة"، وقال: "بذود، أو لقاح"، وقال. "وسمل أعينهم" باللام.

لكن هذه الاختلافات تعتبر اختلافًا في اللفظ فقط، وأما من حيث المعنى فلا تخالف بينها، كما يتضح ذلك من شرحها، فلا تضرّ بصحة الحديث. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

4025 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ حَجَّاجٍ الصَّوَّافِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ، مَوْلَى أَبِي قِلَابَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو قِلَابَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي

(1)

أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ نَفَرًا مِنْ عُكْلٍ ثَمَانِيَةً، قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ، وَسَقِمَتْ أَجْسَامُهُمْ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«أَلَا تَخْرُجُونَ مَعَ رَاعِينَا فِي إِبِلِهِ، فَتُصِيبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا؟» ، قَالُوا بَلَى، فَخَرَجُوا، فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَصَحُّوا، فَقَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثَ فَأَخَذُوهُمْ، فَأُتِيَ بِهِمْ، فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَّرَ أَعْيُنَهُمْ، وَنَبَذَهُمْ فِي الشَّمْسِ حَتَّى مَاتُوا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، وهو بصريّ ثقة. و"حجاج الصوّاف": هو ابن أبي عثمان ميسرة، أو سالم،

(1)

وفي نسخة: "حدثنا".

ص: 340

أبو الصلت الكنديّ مولاهم البصريّ، ثقة حافظ [6] 12/ 790.

و"أبو رجاء، مولى أبي قلابة": هو سلمان الجرميّ البصريّ، صدوقٌ [6]. رَوَى عن مولاه، وعمر بن عبد العزيز، وعنه أيوب، وحجاج الصواف، وابن عون، وحميد الطويل، ووثقه العجليّ، وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له البخاريّ، ومسلم، والمصنّف، وأبو داود أخرجوا له هذا الحديث فقط.

و"أبو قلابة": هو عبد اللَّه بن زيد بن عمرو الجرمىّ البصريّ، ثقة فاضل، [3] 103/ 322.

والسند مسلسل بثقات البصريين، وفيه أنس رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة بالبصرة، سنة (2) أو (93)، وقد جاوز مائة.

وقوله: من عُكل" -بضمّ العين المهملة، وسكون الكاف، أبو قبيلة. وقوله: "ثمانية" بالنصب بدل من "نفرًا". وقوله: "فاستوخموا المدينة": أي استثقلوها، ولم يوافق هواؤها أبدانهم. وقوله: "وسَقِمت" بكسر القاف، وضمها من بابي تعب، وكَرُم: أي مرضت.

وقوله: "ألا تخرجون""ألا" هي أداة عرض. وقوله: "في إبله": أي في الإبل التي مع الراعي، فالإضافة لأدنى ملابسة. قاله السنديّ. وقوله:"فتصيبوا" بضمّ أوله، من الإصابة، والمراد: تشربوا، كما في الروايات الآتية. وقوله:"فبعث" الضمير للنبيّ صلى الله عليه وسلم: أي أرسل صلى الله عليه وسلم ناسًا في طلبهم. وقوله: "فأتي بهم" ببناء الفعل للمفعول. وقوله: "فقطع الخ" بتشديد الطاء، وتخفّف، والتشديد للتكثير في المفعول. وقوله:"وسمر" بتخفيف الميم، وتشديدها، وبناء الفعل للفاعل: أي كحلهم بمسامير الحديد التي أُحميت. وقوله: "ونبذهم": أي ألقاهم، ونسبة هذه الأفعال إليه صلى الله عليه وسلم لكونه آمرًا بها.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم في "الطهارة" 191/ 305 وتقدّم شرحه مستوفًى هناك، وكذا بيان مسائله، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4026 -

(أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ الْوَلِيدِ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ نَفَرًا مِنْ عُكْلٍ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ، فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَفَعَلُوا، فَقَتَلُوا رَاعِيَهَا وَاسْتَاقُوهَا، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي طَلَبِهِمْ، قَالَ: فَأُتِيَ بِهِمْ، فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَّرَ أَعْيُنَهُمْ، وَلَمْ يَحْسِمْهُمْ، وَتَرَكَهُمْ حَتَّى مَاتُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآيَةَ [المائدة: 33]).

ص: 341

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، وهو حمصيّ صدوقٌ [10].

و"الوليد": هو ابن مسلم، أبو العباس الدمشقيّ. و"الأوزاعيّ": هو عبد الرحمن بن عمرو. و"يحيى": هو ابن أبي كثير.

وقوله: "فاجتووا المدينة": بالجيم: افتعال من الْجَوَى، يقال: اجتويت البلد: إذا كرهت المقام فيه، وإن كنت في نعمة، والمراد كرهوا الْمُقام بها؛ لكونهم أصابهم الجوى، وهو المرض، وداء الجوف إذا تطاول، وذلك إذ لم يوافقهم هواؤها، واستوخموها.

وقوله: "ولم يحسمهم": أي لم يَكْوِهِمْ لينقطع الدم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق بيانه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4027 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ مِنْ عُكْلٍ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، إِلَى قَوْلِهِ: "لَمْ يَحْسِمْهُمْ"، وَقَالَ: "قَتَلُوا الرَّاعِيَ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

و"إسحاق بن منصور": هو الكوسج الحافظ الثبت [11]. و"محمد بن يوسف": هو الفريابيّ الثقة الثبت [9].

وقوله: "فذكر الخ" فاعل "ذكر" ضمير محمد بن يوسف. والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4028 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَفَرٌ مِنْ عُكْلٍ، أَوْ عُرَيْنَةَ، فَأَمَرَ لَهُمْ، وَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، بِذَوْدٍ أَوْ لِقَاحٍ، يَشْرَبُونَ أَلْبَانَهَا وَأَبْوَالَهَا، فَقَتَلُوا الرَّاعِيَ، وَاسْتَاقُوا الإِبِلَ، فَبَعَثَ فِي طَلَبِهِمْ، فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، وهو ثقة. و"محمد بن بشر": هو العبديّ الكوفيّ، ثقة ثبت [9]. و"سفيان": هو الثوريّ. و"أيوب": هو السختيانيّ.

ص: 342

وقوله: "واجتووا المدينة" جملة حالية معترضة بين العامل، وهو"فأمر"، ومعموله، وهو "بذود".

وقوله: "بذود" بفتح الذال المعجمة، وسكون الواو، آخره دال مهملة: هي من الإبل ما بين الثلاث إلى العشر، وهي مؤنثة؛ ولذا جاء:"ليس في أقلّ من خمس ذود صدقة"، والجمع أذواد، مثل ثوب وأثواب. أفاده الفيّوميّ.

وقوله: "أو لقاح""أو" فيه للشكّ من الراوي، و"اللقاح" بكسر اللام: جمع لَقُوح بفتحها، مثل قلوص وقِلاص، وهي الناقة ذات اللبن، ويقال فيها أيضًا: اللِّقْحة، بكسر، فسكون، وفتح اللام لغة، وجمعها لِقَح، مثل سِدْرة وسِدَر، أو مثل قَصْعة وقِصَع. أفاده الفيّوميّ.

وقوله: "وسمل أعينهم" باللام آخره: أي فقأها بحديدة، أو غيرها، وهو بمعنى السمر في الرواية السابقة، وإنما فعل بهم ذلك لأنهم فعلوا بالراعي مثله، فجازاهم على صنيعهم. وقيل: إن هذا قبل أن تنزل الحدود، والأول أصحّ، وقد تقدّم تمام البحث فيه في المسائل المتعلقة بالآية المذكورة أول الباب.

والحديث متفق عليه، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌8 - (ذِكْرُ اخْتِلَافِ النَّاقِلِينَ لِخَبَرِ حُمَيْدِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَيهِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن عبد اللَّه بن عمر العمريّ رواه عن حميد، فزاد في آخر الحديث:"وصلبهم"، فخالف الثقات: إسماعيل بن أبي كثير، وخالد الهجيميّ، ومحمد بن أبي عديّ، فتعتبر زيادته شاذّة منكرة؛ لضعفه، مع المخالفة المذكورة.

وفيه أيضًا اختلاف آخر، وهو أن عبد اللَّه بن عمر، وإسماعيل وقع في روايتهما زيادة "وأبوالها" من رواية حميد، عن أنس، وخالفهما خالد، وابن أبي عديّ، فجعلا

ص: 343

هذه الزيادة من رواية حميد، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه، والظاهر أن روايتهما أرجح؛ لأنهما أثبت من العمريّ، وإسماعيل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

4029 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي

(1)

ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَغَيْرُهُ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ نَاسًا مِنْ عُرَيْنَةَ، قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَبَعَثَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى ذَوْدٍ لَهُ، فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَلَمَّا صَحُّوا ارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلَامِ، وَقَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُؤْمِنًا، وَاسْتَاقُوا الإِبِلَ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي آثَارِهِمْ، فَأُخِذُوا، فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، وَصَلَبَهُمْ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "ابن وهب": هو عبد اللَّه الحافظ الثقة الثبت [9].

و"عبد اللَّه بن عمر": هو ابن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، العدويّ، أبو عبد الرحمن العمريّ المدنيّ، ضعيف عابد [7].

رَوَى عن نافع، وزيد بن أسلم، وسعيد المقبريّ، وسهيل بن أبي صالح، وغيرهم. وعنه ابنه عبد الرحمن، وعبد الرحمن بن مهدي، والليث بن سعد، وابن وهب، وعبد الرزاق، وغيرهم. قال أبو طلحة عن أحمد: لا بأس به، قد رُوي عنه، ولكن ليس مثل أخيه عبيد اللَّه. وقال أبو زرعة الدمشقيّ عن أحمد: كان يزيد في الأسانيد ويخالف، وكان رجلا صالحا. وقال أبو حاتم: رأيت أحمد بن حنبل يُحسن الثناء عليه. وقال أحمد: يروي عبد اللَّه عن أخيه عبيد اللَّه، ولم يرو عبيد اللَّه عن أخيه عبد اللَّه شيئا، كان عبد اللَّه يسأل عن الحديث في حياة أخيه، فيقول: أما وأبو عثمان حي فلا. وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: صويلح. وقال ابن أبي مريم عن ابن معين: ليس به بأس، يكتب حديثه. وقال عبد اللَّه بن علي بن المديني عن أبيه: ضعيف. وقال عمرو ابن عليّ: كان يحيى بن سعيد لا يحدث عنه، وكان عبد الرحمن يحدث عنه. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صدوق، في حديثه اضطراب. وقال صالح جزرة: لين مختلط الحديث. وقال النسائيّ: ضعيف الحديث. وقال ابن عدي: لا بأس به في رواياته صدوق. وقال ابن سعد: خرج مع محمد بن عبد اللَّه بن حسن، فحبسه المنصور، ثم خلاه، وتوفي بالمدينة سنة إحدى، أو اثنتين وسبعين ومائة في خلافة هارون. وقال خليفة: مات سنة (71) وقال ابن أبي الدنيا: كان يكنى أبا القاسم فتركها، واكتنى أبا عبد الرحمن، وأرّخ وفاته مثل ابن سعد. وقصة الكنية حكاها ابن سعد أيضًا، وزاد:

(1)

وفي نسخة: "أنا".

ص: 344

وكان كثير الحديث يُستضعف. وقال أبو حاتم: وهو أحبّ إلى من عبد اللَّه بن نافع، يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال العجليّ: لا بأس به. وقال ابن حبّان: كان ممن غلب عليه الصلاح، حتى غفل عن الضبط، فاستحق الترك، مات سنة (173)) وقال الترمذيّ في "العلل الكبير" عن البخاريّ: ذاهب لا أروى عنه شيئًا. وقال البخاريّ في "التاريخ": كان يحيى بن سعيد يضعفه. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عنده. وقال يعقوب بن سفيان، عن أحمد بن يونس: لو رأيت هيئته لعرفت أنه ثقة. وقال المروذي: ذكره أحمد، فلم يرضه. وقال ابن عمار الموصلي: لم يتركه أحد إلا يحيى ابن سعيد، وزعموا أنه أخذ كتب عبيد اللَّه فرواها. وأورد له يعقوب بن شيبة في "مسنده" حديثًا، فقال: هذا حديث حسن الإسناد مدني، وقال في موضع آخر: هو رجل صالح مذكور بالعلم والصلاح، وفي حديثه بعض الضعف والإضطراب، ويزيد في الأسانيد كثيرا. وقال الخليلي: ثقة غير أن الحفاظ لم يرضوا حفظه. وقول ابن معين فيه: إنه صويلح، إنما حكاه عنه إسحاق الكوسج، وأما عثمان الدارميّ، فقال عن ابن معين: صالح ثقة. روى له الجماعة إلا البخاريّ، وله عند المصنّف ثلاثة أحاديث: هذا، و 4102 حديث:"من حمل علينا السلاح، فليس منا"، و 4912 حديث:"قطع في مِجَنّ قيمته ثلاثة دراهم".

وقوله: "وغيره" يحتمل أن يكون ابن لهيعة، كما تقدّم البحث عنه في مقدّمة هذا الشرح.

والحديث صحيح، دون قوله:"وصلبهم"، فإنها شاذّة منكرة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4030 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا

(1)

إِسْمَاعِيلُ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُنَاسٌ مِنْ عُرَيْنَةَ، فَقَالَ: لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى ذَوْدِنَا، فَكُنْتُمْ فِيهَا، فَشَرِبْتُمْ مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا» ، فَفَعَلُوا، فَلَمَّا صَحُّوا قَامُوا إِلَى رَاعِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَتَلُوهُ، وَرَجَعُوا كُفَّارًا، وَاسْتَاقُوا ذَوْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَرْسَلَ فِي طَلَبِهِمْ، فَأُتِيَ بِهِمْ، فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"إسماعيل": هو ابن أبي كثير الأنصاريّ المدنيّ الثقة الثبت [8]. والسند من رباعيات المصنف، وهو (188) من رباعيات الكتاب وهو أعلى الأسانيد له، كما تقدّم غير مرّة.

(1)

وفي نسخة: "ثنا"، وفي أخرى:"أنبأنا".

ص: 345

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4031 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَدِمَ نَاسٌ مِنْ عُرَيْنَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَقَالَ: لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى ذَوْدِنَا، فَشَرِبْتُمْ مِنْ أَلْبَانِهَا» ، قَالَ: وَقَالَ قَتَادَةُ: «وَأَبْوَالِهَا» ، فَخَرَجُوا إِلَى ذَوْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا صَحُّوا كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ، وَقَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُؤْمِنًا، وَاسْتَاقُوا ذَوْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَانْطَلَقُوا مُحَارِبِينَ، فَأَرْسَلَ فِي طَلَبِهِمْ، فَأُخِذُوا فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَّرَ أَعْيُنَهُمْ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة، و"خالد": هو ابن الحارث الْهجيميّ البصريّ.

والسند مسلسل بثقات البصريين، وهو من رباعيات المصنف أيضًا، وهو (189) من رباعيات الكتاب، وفيه أن شيخه أحد مشايخ الأئمة التسعة بلا واسطة، كما سبق غير مرّة.

وقوله: "قال: وقال قتادة الخ" فاعل "قال" الأول هو ضمير حميد، كما تبينه الرواية التالية، والمعنى: أن حُميدًا روى هذا الحديث عن أنس بلا واسطة، ولفظه:"فشربتم من ألبانها"، ورواه عن قتادة، عن أنس، ولفظه:"فشربتم من ألبانها، وأبوالها"، فزادة لفظة "أبوالها"، والمراد أن أنسًا حدث به حميدًا، واقتصر على "ألبانها"، وحدث به قتادة، فزاد:"وأبوالها"، وكلّ صحيح. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث متفق عليه، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4032 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: أَسْلَمَ أُنَاسٌ مِنْ عُرَيْنَةَ، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَقَالَ: لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى ذَوْدٍ لَنَا

(2)

، فَشَرِبْتُمْ مِنْ أَلْبَانِهَا» ، قَالَ حُمَيْدٌ: وَقَالَ قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ: «وَأَبْوَالِهَا» ، فَفَعَلُوا، فَلَمَّا صَحُّوا كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ، وَقَتَلُوا رَاعِىَيَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُؤْمِنًا، وَاسْتَاقُوا ذَوْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهَرَبُوا مُحَارِبِينَ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَنْ أَتَى بِهِمْ، فَأُخِذُوا، فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَّرَ أَعْيُنَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"محمد بن أبي عديّ": هو محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ البصريّ، ثقة [9].

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

(2)

وفي نسخة: "إلى ذودنا".

ص: 346

وقوله: "وتركهم في الحرّة": بفتح الحاء المهملة، وتشديد الراء: اسم موضع بالمدينة، فيه حجارة سود.

والسند أيضًا مسلسل بثقات البصريين، وهو من رباعيات المصنف أيضًا، وهو (190) من رباعيات الكتاب.

والحديث متّفقٌ عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4033 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -وَهُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ، أَنَّ نَاسًا، أَوْ رِجَالاً مِنْ عُكْلٍ، أَوْ عُرَيْنَةَ، قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا أَهْلُ ضَرْعٍ، وَلَمْ نَكُنْ أَهْلَ رِيفٍ، فَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَوْدٍ وَرَاعٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فِيهَا، فَيَشْرَبُوا مِنْ لَبَنِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَلَمَّا صَحُّوا، وَكَانُوا بِنَاحِيَةِ الْحَرَّةِ، كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ، وَقَتَلُوا رَاعِىَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ، فَأُتِيَ بِهِمْ، فَسَمَّرَ

(1)

أَعْيُنَهُمْ، وَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، ثُمَّ تَرَكَهُمْ فِي الْحَرَّةِ عَلَى حَالِهِمْ حَتَّى مَاتُوا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. والسند مسلسل أيضًا بثقات البصريين.

[تنبيه]: قوله: "حدثنا شعبة" هكذا وقع في نسخ "المجتبى"، ووقع في "الكبرى" جـ 2 ص 296 "حدثنا سعيد"، والظاهر أن ما في "الكبرى" هو الصواب؛ لأن الشيخين أخرجا طريق يزيد بن زريع من روايته عن سعيد بن عروبة، لا من روايته عن شعبة، راجع "تحفة الأشراف" جـ 1 ص 309 واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "أهل ضرع": المراد به أهل لبن، نعيش بشرب اللبن. وقوله:"أهل رِيف" بكسر الراء، وسكون الياء: هي كل أرض فيها زرع، ونخل، وقيل: هو ما قارب الماء من أرض العرب وغيرها. وقوله: "فبعث الطلب" بفتحتين: جمع طالب، كخادِمٍ وَخَدَمٍ.

4034 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى نَحْوَهُ).

"عبد الأعلى": هو ابن عبد الأعلى الساميّ البصريّ، ثقة [8]. يعني أن محمد بن المثنى أخبره عن عبد الأعلى عن شعبة نحو حديث محمد بن عبد الأعلى عن يزيد بن زريع، عن شعبة، لكن الظاهر أن الصواب عن سعيد بن أبي عروبة، كما سبق بيانه، والحديث متفق عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4035 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَافِعٍ، أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَهْزٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ،

(1)

وفي نسخة: "فسمّر" بالراء.

ص: 347

قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، وَثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ نَفَرًا مِنْ عُرَيْنَةَ نَزَلُوا فِي الْحَرَّةِ، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكُونُوا فِي إِبِلِ الصَّدَقَةِ، وَأَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَقَتَلُوا الرَّاعِيَ، وَارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلَامِ، وَاسْتَاقُوا الإِبِلَ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي آثَارِهِمْ، فَجِيءَ بِهِمْ فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَّرَ

(1)

أَعْيُنَهُمْ، وَأَلْقَاهُمْ فِي الْحَرَّةِ، قَالَ أَنَسٌ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَحَدَهُمْ يَكْدُمُ الأَرْضَ بِفِيهِ، عَطَشًا حَتَّى مَاتُوا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.

و"محمد بن نافع": هو محمد بن أحمد بن نافع العبديّ البصريّ، نُسب لجده، صدوق، من صغار [10] 27/ 813.

[تنبيه]: وقع في النسخة الهندية: "ابن رافع" بالراء بدل "ابن نافع" بالنون، وهو تصحيف فاحش، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

و"بهز": هو ابن أسد البصريّ الثقة الثبت [9]. و"حماد": هو ابن سلمة البصريّ، ثقة [8]. و"ثابت": هو ابن أسلم البنانيّ.

وقوله: "يكدُم الأرض" بضمّ الدال المهملة، من بابي نصر، وضرب: أي يتناولها بفيه، ويَعَضّ عليها بأسنانه. قيل: ما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، وإنما فعله الصحابة من عند أنفسهم، والإجماع على أن من وجب عليه القتل لا يمنع الماء إذا طلب. وقيل: فعل ذلك قصاصًا؛ لأنهم فعلوا بالراعي مثل ذلك، وهو الأصحّ.

والحديث متفق عليه، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌9 - (ذِكْرُ اخْتِلَافِ طَلْحَةِ بْنِ مُصَرِّفٍ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن طلحة بن مصرّف رواه عن يحيى بن سعيد، عن أنس رضي الله عنه، فجعله متّصلًا، وخالفه يحيى بن أيوب الغافقيّ،

(1)

وفي نسخة: "وسمر" بالراء.

ص: 348

ومعاوية بن صالح، فرواياه عن يحيى بن سعيد، عن سعيد المسيّب، قال: قدم ناس الخ، فجعلاه من مرسل ابن المسيّب، وقد تقدّم في "الطهارة" أن المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- رجّح الإرسال على الوصل، وعبارته هناك- بعد أن أخرج الحديث-:

قال أبو عبد الرحمن: لا نعلم أحدًا قال: "عن يحيى، عن أنس" في هذا الحديث غير طلحة، والصواب عندي -واللَّه تعالى أعلم-:"يحيى، عن سعيد بن المسيّب"، مرسلٌ. انتهى.

وحاصل ما أشار إليه -رحمه اللَّه تعالى- ترجيح رواية الإرسال؛ لأنها من رواية يحيى ابن أيوب، ومعاوية بن صالح؛ على رواية الوصل؛ لأنها من رواية طلحة بن مصرّف وحده.

لكن الذي يظهر لي أن كونه موصولًا هو الذي يترجّح؛ لأن طلحة ثقة حافظ، فلا تضرّه مخالفة يحيى، ومعاوية؛ لأنهما دونه في الحفظ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

4036 -

(أَخْبَرَنِي

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ الرَّحِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَدِمَ أَعْرَابٌ مِنْ عُرَيْنَةَ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْلَمُوا، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، حَتَّى اصْفَرَّتْ أَلْوَانُهُمْ، وَعَظُمَتْ بُطُونُهُمْ، فَبَعَثَ بِهِمْ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى لِقَاحٍ لَهُ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، حَتَّى صَحُّوا، فَقَتَلُوا رُعَاتِهَا، وَاسْتَاقُوا الإِبِلَ، فَبَعَثَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي طَلَبِهِمْ، فَأُتِيَ بِهِمْ، فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَّرَ أَعْيُنَهُمْ، قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: عَبْدُ الْمَلِكِ لأَنَسٍ، وَهُوَ يُحَدِّثُهُ هَذَا الْحَدِيثَ: بِكُفْرٍ، أَوْ بِذَنْبٍ؟ قَالَ: بِكُفْرٍ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن وهب": هو ابن عمر بن أبي كريمة، أبو المعافى الْحَرّانيّ، صدوقٌ [10] من أفراد المصنف 191/ 306. و"محمد بن سلمة": هو ابن عبد اللَّه الباهليّ مولاهم الحرانيّ، ثقة [9] 191/ 306. و"أبو عبد الرحيم": هو خالد بن أبي يزيد بن سماك بن رستم الأمويّ مولاهم الحرّانيّ، ثقة [6] 191/ 306. و"زيد بن أبي أُنيسة": هو الجزريّ، أبو أسامة، كوفي الأصل، ثم سكن الرُّها، ثقة، له أفراد [6] 191/ 306. و"طلحة بن مصرّف": هو الياميّ الكوفيّ، ثقة قارئ فاضل [5] 191/ 306 و"يحيى بن سعيد": هو الأنصاريّ القاضي المدنيّ، ثقة ثبت [5] 22/ 23.

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 349

وقوله: "قال أمير المؤمنين عبد الملك": هو ابن مروان بن الحكم بن أبي العاص. وقوله: "بكفر، أم بذنب؟ " يعني أن عقابهم هذا أكان بسبب كفرهم، أم بسبب ذنبهم. وقوله:"بكفر": أي كان العقاب بسبب كفرهم، وارتدادهم عن الإسلام، وفي رواية البخاريّ: قال أبو قلابة: "فهؤلاء سرقوا، وقتلوا، وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا اللَّه ورسوله".

والحديث صحيح، وقد تقدّم في "الطهارة" 191/ 306 سندًا ومتنًا، ومضى شرحه، وبيان مسائله هناك، وقد رجح المصنّف هناك رواية يحيى بن أيوب، ومعاوية بن صالح المرسلة الآتية في الرواية التالية على هذه الرواية، لكن الذي يظهر أن رواية طلحة الموصولة هذه أرجح؛ لأنها زيادة من ثقة حافظ، كما عرفت. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4037 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: قَدِمَ نَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ، عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْلَمُوا، ثُمَّ مَرِضُوا، فَبَعَثَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى لِقَاحٍ؛ لِيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا، فَكَانُوا فِيهَا، ثُمَّ عَمَدُوا إِلَى الرَّاعِي، غُلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَتَلُوهُ، وَاسْتَاقُوا اللِّقَاحَ، فَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اللَّهُمَّ عَطِّشَ مَنْ عَطَّشَ آلَ مُحَمَّدٍ اللَّيْلَةَ» ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي طَلَبِهِمْ، فَأُخِذُوا، فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى بَعْضٍ، إِلاَّ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ-: اسْتَاقُوا إِلَى أَرْضِ الشِّرْكِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "يحيى بن أيوب": هو الغافقيّ، أبو العبّاس المصريّ، صدوقٌ ربما أخطأ [7] 60/ 1771.

و"معاوية بن صالح" هو الحضرميّ المصريّ، قاضي الأندلس، صدوقٌ له أوهام [7] 50/ 62.

وقوله: "ثمّ عَمَدوا إلى الراعي" بفتح الميم، من باب ضرب-: أي قصدوا إليه.

وقوله: "غلام رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -" بالجرّ بدل من "الراعي"، واسم الراعي يسار بالياء التحتانيّة، والسين المهملة.

وقوله: "فزعموا الخ" أي قالوا، لأن الزعم يُطلق على القول الحقّ، وإن كان أكثر استعماله للباطل، كما في قوله تعالى:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} الآية [التغابن: 7].

وقوله: "عطّش" بتشديد الطاء المهملة، في الموضعين، من التعطيش.

ص: 350

وقوله: "فسمل أعينهم": قَالَ: النَّوَوِيّ: مَعْنَى سَمَلَ بِاللَّامِ: فَقَأَهَا، وَأَذْهَبَ مَا فِيهَا، وَمَعْنى سَمَرَ: كَحَلَهَا بِمَسَامِير مَحْمِيَّة. وَقِيلَ: هُمَا بِمعْنًى. انْتَهَى.

ولَا تَخَالُف بين الروايتين؛ لِأَنَّ مَعْنَى السَّمْل عَلَى مَا قَالَ: الْخَطَّابِيُّ، هُوَ فَقْء الْعَيْن بِأَيِّ شَيْء كَانَ، فَإِذَا سَمَلَ الْعَيْن بِالمِسْمَارِ الْمَحْمِيّ، يَصْدُق عَلَيْهِ السَّمْل والسَّمْر، كِلَاهُمَا، كَمَا لَا يَخْفَى. ذكره في "عون المعبود".

وقوله: "يزيد بعضهم على بعض" هو من كلام ابن وهب، والضمير لشيوخه الذين حدّثوه بهذا الحديث.

[فإن قلت]: إنهما اثنان: يحيى بن أيوب، ومعاوية بن صالح، لا ثلاثة، فكيف أعاد ضمير جماعة إليهما؟.

[أجيب]: بأن الأصحّ أن أقلّ الجمع اثنان، ويحتمل أن قوله:"وأخبرني يحيى بن أيوب الخ" معطوف على شيخ آخر أخبره بالحديث معهما.

لكن يلزم منه أن الحديث ضعيف؛ لإبهام هذا الشيخ الآخر، ولم يتميّز ما حدّثه به عما حدّثه الآخران، كما يدلّ عليه قوله:"يزيد بعضهم على بعض"، فالاحتمال الأول أولى.

والحديث مرسل صحيحٌ؛ لأنه من مراسيل ابن المسيّب، وهي عند المحديثين صحاح، كما نُقل عن الإمام الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى-، وغيره. ولأن أحاديث الباب الموصولة تعضده.

وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- عنه، أخرجه هنا-9/ 4037 - وفي "الكبرى" 9/ 3499. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4038 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَنْجِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ سُعَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها، قَالَتْ: أَغَارَ قَوْمٌ عَلَى لِقَاحِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخَذَهُمْ، فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن عبد اللَّه الْخَلَنْجِيّ

(1)

) صدوقٌ [10] 43/ 1724.

و"مالك بن سُعير" بالتصغير، آخره راء- ابن الخِمْس بكسر المعجمة، وسكون الميم، بعدها مهملة- التميميّ، أبو محمد، ويقال: أبو الأحوص الكوفيّ، لا بأس به [9].

(1)

بفتح الخاء المعجمة، واللام، وسكون النون، بعدها جيم-: اسم شجر، كما في "القاموس".

ص: 351

قال أبو زرعة، وأبو حاتم: صدوقٌ. وقال أبو داود: ضعيف، زعموا أنه مات قبل ابن عُيينة. وقال الدارقطنيّ: صدوقٌ. وقال الأزديّ: عنده مناكير. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مات سنة (200) أو قبلها، أو بعدها بقليل. روى له البخاريّ حديثًا واحدًا في "التفسير" متابعةً، وأبو داود في "القدر"، والمصنّف هذا الحديث فقط، وابن ماجه حديثين فقط.

والحديث صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا 9/ 4038 - وفي "الكبرى "3500. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4039 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي الْوَزِيرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ ح وَأَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْوَزِيرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ قَوْمًا أَغَارُوا، عَلَى لِقَاحِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأُتِيَ بِهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَطَّعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ. اللَّفْظُ لاِبْنِ الْمُثَنَّى).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "إبراهيم بن أبي الوزير": هو إبراهيم بن عمر بن مطرّف الهاشميّ مولاهم، أبو إسحاق المكيّ، نزيل البصرة، صدوقٌ [9] 1/ 1600.

و"عبد العزيز": هو ابن محمد الدراورديّ المدنيّ، صدوقٌ، يُحدّث من كتُب غيره، فيُخطىء [8] 84/ 101.

وقوله: "فأُتي" بالبناء للمفعول. وقوله: "فقطع" بالبناء للفاعل، والطاء مشدّدة، أو مخفّفة.

والحديث صحيح، وهو من أفراد المصنّف، أخرجه هنا-9/ 4039 - وفي "الكبرى" 9/ 3501. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4040 -

(أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ قَوْمًا أَغَارُوا، عَلَى إِبِلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عيسى بن حمّاد": هو التُّجِيبيّ، أبو موسى المصريّ، الملقّب زُغْبة، ثقة [10] 135/ 211.

و"الليث": هو ابن سعد إمام أهل مصر.

والحديث مرسلٌ صحيح بما سبق، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا -9/ 4040 - وفي "الكبرى" 9/ 3502. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 352

4041 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَذَكَرَ آخَرَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ قَالَ: أَغَارَ نَاسٌ مِنْ عُرَيْنَةَ، عَلَى لِقَاحِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَاقُوهَا، وَقَتَلُوا غُلَامًا لَهُ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي آثَارِهِمْ، فَأُخِذُوا، فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "يحيى بن عبد اللَّه بن سالم" بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطّاب القرشيّ المدنيّ، صدوق، من كبار [8] 51/ 1746 له عند المصنف حديثان فقط: هذا، وحديث الحسن بن عليّ - رضي اللَّه تعالى عنهما - في "كتاب الصلاة":"اللَّهم اهدني فيمن هديت" الحديث.

و"سعيد بن عبد الرحمن": هو الْجُمَحيّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، صدوقٌ، له أوهام [8] 43/ 2236.

وقوله: "قال ابن وهب: وأخبرني الخ"، زاد في "الهنديّة"، و"الكبرى" كلمة "يعني"، ولفظه: "أنبأنا ابن وهب، قال يعني: وأخبرني يحيى بن عبد اللَّه بن سالم الخ.

وقوله: "وذكر آخر" يحتمل أن يكون ابن لهيعة. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث مرسل، صحيح بما سبق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4042 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَزَلَتْ فِيهِمْ آيَةُ الْمُحَارَبَةِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عمرو بن الحارث: هو أبو أيوب المصريّ، ثقة فقيهٌ حافظ [7] 63/ 79. و"سعيد بن أبي هلال": هو أبو العلاء المصريّ، صدوق [6] 41/ 686. و"أبو الزناد": هو عبد اللَّه بن ذكوان المدنيّ الفقيه الثبت.

و"عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن عمر بن الخطّاب العدويّ، مقبول [4].

روى عن عمّه. وعنه أبو الزناد. ذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له المصنّف، وأبو داود هذا الحديث فقط.

وقوله: "ونزلت فيهم آية المحاربة" هكذا رواية المصنّف في "المجتبى"، وفي "الكبرى"، وفيها اختصار شديد، لا يتبيّن معه المراد، وقد أخرجه أبو داود في "سننه"، تامًّا، وهذا لفظه:

حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا عبد اللَّه بن وهب، أخبرني عمرو، عن سعيد بن أبي

ص: 353

هلال، عن أبي الزناد، عن عبد اللَّه بن عبيد اللَّه -قال أحمد: هو يعني عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن عمر بن الخطاب- عن ابن عمر، أن ناسا أغاروا على إبل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاستاقوها، وارتدوا عن الإسلام، وقتلوا راعي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مؤمنًا، فبعث في آثارهم، فأُخِذوا، فقطّع أيديهم وأرجلهم، وسَمَلَ أعينهم، قال: ونزلت فيهم آية المحاربة، وهم الذين أخبر عنهم أنس بن مالك الحجاج حين سأله. انتهى.

والحديث صحيح، وقد أخرجه المصنّف هنا -9/ 4042 - وفي "الكبرى" 9/ 3504. وأخرجه (د) في "الحدود" 4369 - 4370. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4043 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَمَّا قَطَّعَ الَّذِينَ سَرَقُوا لِقَاحَهُ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ بِالنَّارِ، عَاتَبَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآيَةَ كُلَّهَا [المائدة: 33]).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الليث": هو ابن سعد. و"ابن عجلان": هو محمد. و"أبو الزناد": هو عبد اللَّه بن ذكوان.

وقوله: "عاتبه اللَّه في ذلك" هذا غير صحيح، والصحيح أن الآية نزلت بيانًا لحكم المحاربين، لا عتابًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد تقدّم أن هذا القول ذُكر للأوزاعيّ -رحمه اللَّه تعالى- عنه، فأنكر أن تكون نزلت معاتبة، وقال: بل كانت عُقُوبة أولئك النفر بأعيانهم، ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم، ورُفع عنهم السمل. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وقول الأوزاعيّ هذا لا ينافي ما يأتي عن أنس - رضي اللَّه تعالى عنه -، حيث قال: إنما سمَل النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - أعيُن أولئك النفر؛ لأنهم سملوا أعين الرعاة. انتهى.

والحاصل أن القول بأن الآية نزلت للعتاب ضعيف، والصحيح أن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - لم يُعاتب في ذلك؛ لأنه إنما سمل قصاصًا؛ وإنما الآية نزلت في المحاربين عمومًا، فلو اتّفق أن المحاربين سملُوا أعين الناس، فُعل بهم ذلك قصاصًا. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث مرسلٌ ضعيفٌ، تفرّد به المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- عنه، أخرجه هنا-9/

(1)

راجع "تفسير ابن كثير" 2/ 52 - 53. "سورة المائدة".

ص: 354

4043 -

وفي "الكبرى" 9/ 343505. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4044 -

(أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ الأَعْرَجُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ غَيْلَانَ، ثِقَةٌ مَأْمُونٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: إِنَّمَا سَمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، أَعْيُنَ أُولَئِكَ؛ لأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرُّعَاةِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الفضل بن سهل الأعرج": هو البغداديّ، خراسانيّ الأصل، صدوق [11] 68/ 992.

و"يحيى بن غيلان" بن عبد اللَّه بن أسماء بن حارثة الْخُزاعيّ، ثمّ الأسلميّ، أبو الفضل البغداديّ، ويقال: يحيى بن عبد اللَّه بن غيلان، ثقة [10].

قال الفضل بن سهل: ثقة مأمون. وقال الخطيب: كان ثقة. وقال ابن قانع: صالح. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن سعد: كان ثقة، نزل بغداد، ثم خرج إلى البصرة في حاجة له، فمات هناك سنة (210)، وفيها أرّخه مطيّن. وقيل: سنة (213). تفرّد به مسلم، والمصنّف، والترمذيّ، وله عندهم هذا الحديث فقط.

وقوله: "ثقة مأمون" هو من كلام الفضل بن سهل. واللَّه تعالى أعلم.

و"يزيد بن زُريع": هو أبو معاوية البصريّ، ثقة ثبت [8] 5/ 5. و"سليمان التيميّ": هو ابن طرخان، أبو المعتمر البصريّ، ثقة عابد [4] 87/ 107.

وقوله: "إنما سمل الخ" يعني أن ما فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم من سمل أولئك المحاربين؛ لكونهم فعلوه بالرعاة، فكان ذلك قصاصًا، وهذا هو الصحيح في الجواب عما فُعل بهم، من التعذيب، والتمثيل.

قَالَ: العلّامة شَمْس الدِّين بن الْقَيِّم رَحِمَهُ اللَّه تعالى في "تهذيب السنن": قَدْ ذَكَرَ مُسْلِم فِي "صَحِيحه" عَنْ أَنَس، قال:"إِنَّما سَمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَعْيُنَ أُولَئِكَ، لِأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُن الرِّعَاء". وَذَكَرَ ابْن إِسْحَاق: أَنَّ هؤُلاءِ كَانُوا قَدْ مَثَّلُوا بِالرَّاعِي، فَقَطَعُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَغَرَزُوا الشَّوْك فِي عَيْنَيهِ، فأُدْخِل الْمَدِينَة مَيِّتًا عَلَى هَذِهِ الصِّفَة. وَتَرْجَمَة الْبُخَارِيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحِيحه" تدُلّ عَلَى ذَلِكَ، فإِنَّهُ سَاقَهُ فِي باب "إِذَا حَرَّقَ الْمُسْلِم، هَلْ يُحَرَّق؟ " فَذَكَرَهُ. وَذَكَرَ الْبُخَارِيّ أَيْضًا أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْل الصُّفَّة، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَحْسِمهُمْ حَتَّى مَاتُوا. انتهى.

والحديث أخرجه المصنّف هنا -9/ 4044 - وفي "الكبرى" 9/ 3506. وأخرجه مسلم في 4336 - عن شيخ المصنّف بنفس هذا السند، وأخرجه (ت) في "الطهارة" 73. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 355

4045 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَجُلاً مِنَ الْيَهُودِ، قَتَلَ جَارِيَةً مِنَ الأَنْصَارِ، عَلَى حُلِىٍّ لَهَا، وَأَلْقَاهَا فِي قَلِيبٍ، وَرَضَخَ رَأْسَهَا بِالْحِجَارَةِ، فَأُخِذَ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يُرْجَمَ حَتَّى يَمُوتَ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَحمدُ بْنُ عمرِو بنِ السَّرْحِ) أبو الطاهر المصريّ، ثقة [10] 35/ 39.

2 -

(الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ) بن محمد القاضي المصريّ، ثقة فقيه [10] 9/ 9.

3 -

(ابن وهب) عبد اللَّه المصريّ الحافظ، ثقة عابد [9] 9/ 9.

4 -

(محمد بن عمرو) اليافعيّ- بالياء التحتانيّة- المصريّ الرُّعَينيّ، صدوقٌ له أوهام [9].

روى عن ابن جُريج، وعنه ابن وهب. قال ابن أبي حاتم: سألت أبي، وأبا زرعة عنه؟ فقالا: شيخٌ لابن وهب. وقال ابن يونس: روى عنه ابن وهب وحده، وهو قريبٌ السنّ من ابن وهب، حدّث بغرائب. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن عديّ: له مناكير، وأورد له حديثه عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر:"لا يرث المسلم النصرانيّ، إلا أن يكون عبده، أو أمته"

(1)

، واستنكره، وقد رواه عبد الرزّاق، عن ابن جريج، موقوفًا، وهو الصواب. وذكره الساجيّ في "الضعفاء"، ونقل عن يحيى بن معين، أنه قال. غيره أقوى منه. وقال ابن القطّان: لم تثبت عدالته. تفرّد به مسلم، له

عنده حديث واحد، متابعة. والمصنّف وله عنده هذا الحديث فقط.

5 -

(ابن جريج) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأمويّ مولاهم، أبو الوليد، وأبو خالد المكيّ، ثقة فقيه فاضل، يدلّس [6] 28/ 32.

6 -

(أيّوب) بن أبي تميمة كيسان السختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت فقيه عابد [5] 42/ 48.

7 -

(أبو قلابة) عبد اللَّه بن زيد بن عمرو الجرميّ البصريّ، ثقة فاضلٌ، كثير الإرسال، فيه نصب يسير [3] 103/ 322.

8 -

(أنس بن مالك) - رضي اللَّه تعالى عنه - 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

عزى هذا الحديث في "تهذيب التهذيب" -3/ 665. إلى النسائيّ، ولم أجده عنده، فاللَّه تعالى أعلم.

ص: 356

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه الحارث، فقد تفرّد به هو وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالمصريين إلى محمد بن عمرو، والباقون بصريّون، سوى ابن جريج، فمكيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة - رضي اللَّه تعالى عنهم - بالبصرة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّ رجُلًا مِنْ الْيَهُودِ) قال الحافظ: لم أقف على اسمه (قَتَلَ جَارِيةً مِنْ الأَنْصَارِ) قال في "الفتح": يحتمل أن تكون الجارية أمة، ويحتمل أن تكون حرّة، لكن دون البلوغ (عَلَى حُليِّ لَهَا) بضمّ الحاء المهملة، وكسر اللام، وتشديد الياء التحتانيّة- جمع حَلْي بفتح، فسكون، كثَدْيٍ وثُدِيّ، والأصل فُعُول، كفلس وفُلُوس-: أي لأجل زينتها، فـ"على" بمعنى اللام، وفي الرواية الآتية: في "القسامة": "أن يهوديًّا أخذ أوضاحًا من جارية"، و"الأوضاح" بحاء مهملة: هي نوع من الْحُليّ تصاغ من الفضّة، سميت بها؛ لبياضها، واحدها وَضَحٌ بفتحتين-، ولا يُعرف اسم الجارية.

وقال في "الفتح": معنى: "على أوضاح": بسبب أوضح، وهي بالضاد المعجمة، والحاء المهملة جمع وضح، قال أبو عُبيد: هي حليّ الفضّة. ونقل عياض أنها حليّ من حجارة، ولعله أراد حجارة الفضّة؛ احترازًا من الفضّة المضروبة، أو المنقوشة. انتهى

(1)

.

(وَأَلْقَاهَا فِي قَلِيبٍ) بفتح القاف، وكسر اللام-: البئر، وهو مذكّرٌ، قال الأزهريّ: القليب عند العرب: البئر العادِيّة القديمة، مَطويّةً كانت، أو غير مطويّة، والجمع قُلُبٌ بضمّتين- مثلُ بَرِيد وبُرُد. أفاده الفيّوميّ (وَرَضَخَ) بضاد، وخاء معجمتين، مبنيًّا للفاعل، وقد ذكر أهل اللغة أنه يقال أيضًا: رَضَح بالحاء المهملة، قال الفيّوميّ: رَضَحته رَضْحًا أي بالحاء المهملة- من باب نَفَعَ، وهو كسره، ودقّه، كالنوى وغيره، ورَضَحتُ رأسه: إذا كسرته، والخاء المعجمة لغة فيهما. انتهى. وفي رواية:"رَضَّ رأس جارية"، والرضّ بالضاد المعجمة بمعنى الرضخ (رَأْسَهَا بِالْحِجَارَةِ) وفي رواية:"رضّ رأسها بين حجرين"، وفي رواية:"رماها بحجر"، وفي رواية:"رضخ رأسها"، قال في

(1)

"فتح" 14/ 180 - 181 "كتاب الديات". رقم الحديث 6876.

ص: 357

الفتح": لا تنافي بين هذه الروايات؛ لأنه يُجمع بينها بأنه رماها بحجر، فأصاب رأسها، فسقطت على حجر آخر. انتهى

(1)

.

(فَأُخِذَ) بالبناء للمفعول (فَأَمَرَ بِهِ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي بعد أن اعترف بقتلها، ففي الرواية الآتية في "القسامة"، من طريق قتادة، عن أنس:"فأُدركت، وبها رَمَقٌ، فأتي بها رسولُ اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، فقال: "من قتلكِ، فلان؟ "، قالت برأسها: لا، قال: "فلان؟ "، قال: حتى سَمَّى اليهوديّ، قالت برأسها: نعم، فأُخذ، فاعترف، فأَمر به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "(أَنْ يُرجَمَ) بالبناء للمفعول (حَتَّى يَمُوتَ) وفي رواية قتادة المذكورة: "فرُضخ رأسه بين حجرين"، وفي رواية هشام بن زيد، عن أنس:"فقتله بين حجرين". وفي رواية البخاريّ: "فرُضّ رأسه بالحجارة". قال القاضي عياض: رضخه بين حجرين، ورميه بالحجارة، ورجمه بها بمعنى، والجامع أنه رمي بحجر، أو أكثر، ورأسه على آخر.

وقال ابن التين: أجاب بَعْض الْحَنَفِيَّة، بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيث لَا دَلَالَة فِيهِ عَلَى الْمُمَاثَلَة فِي الْقِصَاص؛ لِأَنَّ الْمَرْأَة كَانَتْ حَيَّة، وَالْقَوَد لَا يَكُون فِي حَيِّ. وَتَعَقَّبهُ بِأَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَ بِقَتْلِهِ بَعْد موْتها؛ لِأَنَّ فِي الْحَدِيث:"أَفُلَان قَتَلَك؟ "، فَدلَّ عَلَى أَنَّهَا مَاتَتْ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَجُود بِنَفْسِها، فَلَمَّا مَاتَتْ اقْتَصَّ مِنْهُ.

وَادَّعى ابْن الْمُرَابِط مِنْ الْمَالِكِيَّة، أَنَّ هَذَا الْحُكْم كان في أَوَّل الإسْلَام، وهُو قَبُول قَوْل الْقَتِيل، وأمَّا مَا جَاءَ أَنَّهُ اعْترف، فَهُوَ فِي رِوَايَة قَتَادَة، وَلَمْ يَقُلْهُ غَيْره، وَهَذَا مِمَّا عُدَّ عَلَيْهِ انْتَهَى.

قال الحافظ: وَلَا يَخْفَى فَسَادَ هَذِهِ الدَّعْوَى، فَقَتَادَةُ حَافِظٌ، زِيَادَتُهُ مَقْبُولَة؛ لِأَنَّ غَيْره لَمْ يَتَعَرَّض لِنَفْيِهَا، فَلَمْ يَتَعَارَضَا، وَالنَّسْخ لا يَثْبُت بِالِاحْتِمَالِ. قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- عند قوله: "فأمر به رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - أن يُرجم حتى يموت، فرُجم حتى مات": هذا مخالفٌ لمساق الرواية الأولى، فلذلك قيل في هذا: إنها قضيّةٌ أُخرى غير تلك. والأولى أن القضيّةَ واحدةٌ، غير أن الراوي عبّر عن رَضِّ رأس اليهوديّ بالحجارة بالرجم، ولا بُعد في ذلك؛ فإنه من تسمية الشيء بما يُشبهه. انتهى

(3)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"فتح" 14/ 180 - 181. "كتاب الديات". رقم الحديث 6876.

(2)

"فتح" 14/ 182. "كتاب الديات" رقم الحديث 6876.

(3)

"المفهم" 5/ 31. "كتاب القسامة".

ص: 358

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أنس بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-9/ 4045 و 4047 وفي "القسامة" 12/، 13/ 4742 و 4743 و 4744 و 26، 27/ 4781 - وفي "الكبرى" 9/ 3507 و 3508 وفي "القسامة" 11/ 6942 و 6943 و 6944 و 25/ 6981. وأخرجه (خ) في "الخصومات" 2413 و"الوصايا" 2746 و"الديات" 6876 و 6877 و 6879 و 6884 و 6885 (م) في "القسامة" 1672 (د) في "الديات" 4527 و 4728 و 4729 و 4535 (ت) في "الديات" 1394 (ق) في "الديات" 2665 و 2666 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 12337 و 12594 و 12694 (الدارمي) في "الديات" 2355. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان الحكم الذي اشتملت عليه الآية الكريمة، ووجه مناسبة الحديث لتأويل الآية أن هذا اليهوديّ ممن بغى على الناس، وأفسد في الأرض، بقتله الجارية، وأخذ حليّها، فدخل تحت حكم الآية الكريمة، التي نزلت لبيان حكم المحاربين، والساعين في الأرض فسادًا، وهو القتل، أو التصليب أو تقطيع أيديهم، وأرجلهم من خلاف، أو نفيهم، من الأرض، وقد قدّمنا أن المختار أن "أو" في الآية للتخيير، فيفعل الإمام ما يراه فيهم، وقد فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا اليهوديّ، ما يناسب فعله، حيثُ رُضّ رأسه بالحجارة، كما فعل بالجارية. واللَّه تعالى أعلم.

(ومنها): أن فيه أنه ينبغي للحاكم أن يستدلّ على أهل الجنايات، ثم يتلطّف بهم حتّى يقرّوا؛ ليُؤخذوا بإقرارهم، وهذا بخلاف ما إذا جاءوا تائبين، فإنه يعرض عمن لم يُصرّح بالجناية، فإنه يجب إقامة الحدّ عليه إذا أقرّ، وسياق القصّة يقتضي أن اليهوديّ لم تقُم عليه بيّنة، وإنما أُخذ بإقراره.

(ومنها): أنه تجب المطالبة بالدم بمجرّد الشكوى، وبالإشارة. (ومنها): أن فيه دليلًا على جواز وصيّة غير البالغ، ودعواه بالدين والدم. قاله المهلّب. وتعقّبه الحافظ، فقال: في هذا نظر؛ لأنه لم يتعيّن كون الجارية دون البلوغ. (ومنها): أنه استدلّ به بعضهم على التدمية؛ لأنها لو لم تُعتبر لم يكن لسؤال الجارية فائدة، قال: ولا يصحّ اعتباره مجرّدًا؛ لأنه خلاف الإجماع، فلم يبقَ إلا أنه يُفيد القسامة. وقال النوويّ: ذهب

ص: 359

مالكٌ إلى ثبوت قتل المتّهم بمجرّد قول المجروح، واستدلّ بهذا الحديث، ولا دلالة فيه، بل هو قولٌ باطلٌ؛ لأن اليهوديّ اعترف، كما وقع التصريح به في بعض طرقه. ونازعه بعض المالكيّة، فقال: لم يقل مالكٌ، ولا أحد من أهل مذهبه بثبوت القتل على المتّهم بمجرّد قول المجروح، وإنما قالوا: إن قول المحتضر عند موته فلانٌ قتلني لَوْثٌ، يوجب القسامة، فيُقسِم اثنان، فصاعدًا من عصبته بشرط الذكوريّة، وقد وافق بعض المالكيّة الجمهور. واحتجّ من قال بالتدمية أن دعوى من وصل إلى تلك الحالة، وهي وقت إخلاصه، وتوبته عند معاينة مفارقة الدنيا يدلّ على أنه لا يقول إلا حقًّا، قالوا. وهي أقوى من قول الشافعيّة: إن الوليّ يُقسم إذا وَجَدَ قربَ وليّه المقتولِ رجلًا معه سكين؛ لجواز أن يكون القاتل غير من معه السكّين.

(ومنها): أنه استدلّ به على وجوب القصاص على الذمّيّ. وتُعُقّب بأنه ليس فيه تصريح بكونه ذميًّا، فيحتمل أن يكون معاهدًا، أو مستأمنًا.

(ومنها): مشروعيّة قتل الرجل بالمرأة، وهو قول الجمهور، خلافًا لمن شذّ، فقال: لا يُقتل بها، وهو عطاء، والحسن. وقد رُوي عن عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه -، وأما القصاص بينهما في الأطراف، فهو أيضًا مذهب الجمهور. وقد ذهب إلى نفيه فيها من نفاه في النفس، وأبو حنيفة

(1)

، وحمّاد، وإن قالا به في النفس، والصحيح قول الجمهور في المسألتين؛ لقوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية [المائدة: 45]

(2)

.

(ومنها): أنه استدُلّ به على أن القاتل يُقتل بما قتَلَ به، وهو مذهب الجمهور، وتمسّكوا بهذا الحديث، وبقوله تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} الآية [النحل: 126]، وبقوله تعالى:{فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى} الآية [البقرة: 194]. وخالف في ذلك الكوفيّون، فاحتجّوا بحديث:"لا قَوَدَ إلا بالسيف"، وهو حديث ضعيف، أخرجه البزّار، وابن عديّ من حديث أبي بكرة - رضي اللَّه تعالى عنه -، وذكر البزّار الاختلاف فيه مع ضعف إسناده. وقال ابن عديّ: طرقه كلُّها ضعيفة. وعلى تقدير ثبوته، فإنه على خلاف قاعدتهم في أن السنّة لا تنسخ الكتاب، ولا تُخصّصه.

وتمسّكوا أيضًا بالنهي عن المثلة، وهو صحيحٌ، لكنه محمولٌ عند الجمهور على غير المماثلة في القصاص؛ جمعًا بين الدليلين. قاله في "الفتح"

(3)

.

(1)

قوله: "وأبو حنيفة" عطف على "من" أي ونفاه أبو حنيفة إلخ.

(2)

"المفهم" 5/ 24. "كتاب القسامة".

(3)

"فتح" 14/ 183. "كتاب الديات".

ص: 360

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: مذهب الجمهور في هذه المسألة هو الحقّ؛ لوضوح أدلّته، وسيأتي تمام البحث في ذلك في "كتاب القصاص"، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4046 -

(أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلاً قَتَلَ جَارِيَةً مِنَ الأَنْصَارِ، عَلَى حُلِيٍّ لَهَا، ثُمَّ أَلْقَاهَا فِي قَلِيبٍ، وَرَضَخَ رَأْسَهَا بِالْحِجَارَةِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يُرْجَمَ حَتَّى يَمُوتَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "يوسف بن سعيد": هو المصّيصيّ الثقة الحافظ [11] 131/ 198، من أفراد المصنّف.

و"حجاج": هو ابن محمد الأعور المصّيصيّ. و"معمر": هو ابن راشد.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق شرحه، وبيان مسائله في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4047 -

(أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ النَّحْوِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآيَةَ [المائدة: 33] ، قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي الْمُشْرِكِينَ، فَمَنْ تَابَ مِنْهُمْ، قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الآيَةُ لِلرَّجُلِ الْمُسْلِمِ، فَمَنْ قَتَلَ، وَأَفْسَدَ فِي الأَرْضِ، وَحَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، ثُمَّ لَحِقَ بِالْكُفَّارِ، قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ، لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ، أَنْ يُقَامَ فِيهِ الْحَدُّ الَّذِي أَصَابَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(زكريا بن يحيى) الحافظ المعروف بخيّاط السنّة، ثقة [12] 189/ 1161، من أفراد المصنّف.

2 -

(إسحاق بن إبراهيم) الحنظليّ المعروف بابن راهويه المروزيّ، ثقة ثبت [10] 2/ 2.

[تنبيه]: إسحاق هذا من شيوخ المصنّف، يروي عنه كثيرًا بلا واسطة، وقليلًا ما يروي عنه بواسطة، كهذا الحديث، فتنبّه.

3 -

(عليّ بن الحسين) المروزيّ، صدوق يَهِم [10] 54/ 3526.

4 -

(أبوه) الحسين بن واقد، أبو عبد اللَّه المروزيّ القاضي، ثقة له أوهام [7] 5/ 463.

ص: 361

5 -

(يزيد النحويّ) بن أبي سعيد، أبو الحسن المروزيّ، ثقة عابد [6] 54/ 3526، [تنبيه]:"النحويّ" -بفتح، فسكون-: نسبة إلى نحو بطنٌ من الأزد، وليس نسبةً إلى علم النحو المعروف، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

6 -

(عكرمة) مولى ابن عبّاس البربريّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ ثقة ثبت فقيه [3] 2/ 325.

7 -

(ابن عبّاس) عبد اللَّه البحر - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فمن أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمراوزة إلى يزيد، والباقيان مدنيان. (ومنها): أن فيه ابن عبّاس من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عِكْرِمَةَ) مولى ابن عبّاس (عَنْ ابْنِ عَبَّاسِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (في) بيان معنى (قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33]) المحاربة هي: المضادّة، والمخالفة، وهي صادقة على الكفر، وعلى قطع الطريق، وإخافة السبيل، وكذا الإفساد في الأرض. قاله ابن كثير

(1)

(الْآيَةَ) يجوز فيها أوجه الإعراب: الرفع على تقدير تُقرأ الآية بتمامها، والنصب على تقدير اقرأ الآية بتمامها، والجرّ على تقدير إلى آخر الآية، وهذا الوجه ضعيف؛ لأن حذف الجارّ، وإبقاء عمله شاذّ (قال) ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي الْمُشرِكِينَ، فَمَنْ تَابَ مِنْهُمْ) أي من المشركين (قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ) بالبناء للمفعول (لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَبِيلٌ) أي طريق إلى معاقبته (وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لِلرَّجُلِ الْمُسْلِمِ) أي لم تنزل في شأن محاربة المسلم، فإن عقوبته لا تسقط بتوبته، كما بيّنه بقوله (فَمَنْ قَتَلَ) من المسلمين (وَأَفْسَدَ فِي الأَرْضِ) بأخذ أموال الناس، ظلمهم (وَحَارَبَ اللَّه وَرَسُولَهُ) بقطع الطريق، وإخافة المسلمين (ثُمَّ لَحِقَ بِالْكُفَّارِ، قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ) بالبناء للمفعول (لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ أَنْ يُقَامَ فِيهِ الْحَدُّ الَّذِي أَصَابَ) أي إذا جاء تائبًا بعد ذلك كلّه قبل أن يُقدر عليه.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله ابْن عَبَّاس، - رضي اللَّه تعالى عنهما -،

(1)

راجع "تفسير ابن كثير" 2/ 50.

ص: 362

هو أحد الأقوال التي ذُكرت في معنى: هذه الآية الكريمة، وقد استوفى تلك الأقول الإمام ابن جرير الطبريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "تفسيره"، أحببت تلخيصه فيما يلي:

[القول الأول]: أن المعنى: إلا الذين تابوا من شركهم، ومناصبتهم الحرب للَّه، ولرسوله صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، والسعي في الأرض بالفساد بالإسلام، والدخول في الإيمان من قبل قدرة المؤمنين عليهم، فإنه لا سبيل للمؤمنين عليهم بشيء من العقوبات التي جعلها اللَّه جزاء لمن حاربه ورسوله، وسعى في الأرض فسادًا، من قتل، أو صلب، أو قطع يد ورجل من خلاف، أو نفي من الأرض، فلا تِباعة قِبَله لأحد فيما كان أصاب في حال كفره، وحربه المؤمنين في مال، ولا دم، ولا حرمة، قالوا: فأما المسلم إذا حارب المسلمين، أو المعاهدين، وأتى بعض ما يجب عليه العقوبة، فلا تَضَعُ توبته عنه عقوبةَ ذنبه، بل توبته فيما بينه وبين اللَّه، وعلى الإمام إقامة الحدّ الذي أوجبه اللَّه عليه، وأخذه بحقوق الناس.

[القول الثاني]: أن هذه الآية الكريمة معنيّ بالحكم بها المحاربون اللَّه ورسوله الْحُرّاب من أهل الإسلام من قطع منهم الطريق، وهو مقيم على إسلامِهِ، ثم استأمن، فأومن على جناياته التي جناها، وهو للمسلمين حرب، ومن فعل ذلك منهم مرتدًّا عن الإسلام، ثم لحق بدار الحرب، ثم استأمن، فأومن، قالوا: فإذا أمّنه الإمام على جناياته التي سلفت لم يكن قِبَله لأحد تَبِعة في دم، ولا مال أصابه قبل توبته، وقبل أمان الإمام إياه.

ثم أخرج بسنده، عَنْ الشَّعْبِيّ، أن حَارِثَة بْن بَدْر حارب في عهد عليّ بن أبي طالب، فأتى الحسن بن عليّ، - رضي اللَّه تعالى عنهما -، فطلب إليه أن يستأمن له من عليّ، فأبى، ثم أتى ابن جعفر، فأبى عليه، فَأَتَى سَعِيد بْن قَيْس الْهَمْدَانِيَّ، فأمنه، وضمّه إليه،، وقال له: استأمن لي أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، قال: فلما صلّى عليّ الغداةَ أتاه سعيد بن قيس، فقال: يا أمِير الْمُؤْمِنِينَ، ما جزاء الذين يحاربون اللَّه ورسُوله؟ قَالَ:{أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33]، قال: ثُمَّ قال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} ، فَقَالَ سَعِيد: وَإِنْ كَانَ حَارِثَة بْن بَدْر؟، قال: وإن كان حارثة بن بدر، قال: فَهَذَا حَارِثَة بْن بَدْر، قَدْ جَاءَ تَائِبًا، فهُو آمِنُ؟، قَالَ نَعَمْ، قَالَ: فَجَاءَ بِهِ إِليْهِ، فَبَايَعَهُ، وَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَكَتَبَ لَهُ أَمَانًا.

فقال حارثة [من الطويل]:

أَلَا أَبْلِغَا هَمْدَان إِمَّا لَقِيتَهَا

عَلَى النَّأْيِ لَا يَسْلَمْ عَدُوٌّ يَعِيبُهَا

ص: 363

لَعَمْرُ أَبِيهَا إِنَّ هَمْدَانَ تتَّقِي الْـ

إلَهَ وَيَقْضِي بِالْكِتَابِ خَطِيبُهَا

[القول الثالث]: أن معنى ذلك كلّ من جاء تائبًا من الْحُرّاب قبل القدرة عليه، استأمن الإمام، فأمّنه، أو لم يستأمنه بعد أن يجيء مستسلمًا تاركًا للحرب.

ثم أخرج بسنده من طريق الأَشْعَث، عن عامر الشعبيّ، قال: جاء رَجُل من مراد إلى أبِي مُوسَى، وهو على الكوفة، في إمرة عثمان - رضي اللَّه تعالى عنه - بعد ما صلّى المكتوبة، فقال: يا أبا موسى: هَذَا مَقَام الْعَائِذ بك، أَنَا فُلان بْن فُلان المراديّ، وإني كُنْت حَارَبَت اللَّه ورَسُوله، وسعيت في الأرض فسادًا، وإني تبت مِنْ قَبْل أَنْ يُقْدَرَ عَلَيَّ، فَقَالَ أبُو مُوسَى: إِنَّ هذا فُلان بْن فُلَان، وإنه كَانَ مِمَّنْ حَارَبَ اللَّه ورَسُوله، وسعىِ في الأرض فسادًا، وإنه تاب مِنْ قَبْل أَنْ يُقْدَر عَلَيْهِ، فمن لقيه فَلَا يَعْرِض لَهُ أَحَد إِلَّا بِخَيْرٍ، فَإِنْ يَكُ صَادِقًا، فَسَبِيلِ من صدق، وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا، تدركه ذنوبه، فأقام الرجل ما شاء اللَّه، ثم إنه خرج، فأدركه اللَّه تعالى بذنوبه، فقتله.

[القول الرابع]: أن المستثنى في الآية هو التائب من حربه للَّه ورسوله، وسعيه في الأرض بالفساد بعد لحاقه بدار الكفر، فأما إذا كانت حرابته، وحربه وهو مقيم في دار الإسلام، وداخلٌ في غمارة الأمة، فليست توبته واضعةٌ عنه شيئًا من حدود اللَّه عز وجل، ولا من حقوق المسلمين والمعاهدين، بل يؤخذ بذلك.

[القول الخامس]: أنه إن كانت حرابته وحربه في دار الإسلام، وهو في غير مَنْعَةَ من فئة يلجأ إليها، ثم جاء تائبًا قبل القدرة عليه، فإن توبته لا تضع عنه شيئًا من عقوبته، ولا من حقوق الناس، وإن كانت حرابته، وحَرْبه في دار الإسلام، أو هو لاحقٌ بدار الكفر، غير أن في كلّ ذلك كان يلجأ إلى فئة تمنعه ممن أراده من سلطان المسلمين، ثم جاء تائبًا قبل القدرة عليه، فإن توبته تضع عنه كلّ ما كان من أَحْداثه في أيام حرابته تلك، إلا أن يكون أصاب حدًّا، أو أمر الرُّفْقة بما فيه عقوبة، أو غُرْمٌ لمسلم، أو مُعاهد، وهو غير ملتجىء إلى فئة تمنعه، فإنه يؤخذ بما أصاب من ذلك، وهو كذلك، ولا يضع ذلك عنه توبته.

[القول السادس]: أن توبته تضع عنه حدّ اللَّه الذي وجب عليه بمحاربته، ولا يسقط عنه حقوق بني آدم، وممن قال بذلك الشافعيّ، كما رواه عنه الربيع.

قال ابن جرير -رحمه اللَّه تعالى-: وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب عندي قول من قال: توبة المحارب الممتنع بنفسه، أو بجماعة معه قبل القدرة عليه تضع عنه تَبِعات الدنيا التي كانت لزمته في أيام حَرْبه، وحرابته، من حدود اللَّه، وغُرْم لازم، وقَوَد، وقصاص، إلا ما كان قائمًا في يده من أموال المسلمين، والمعاهدين بعينه، فيُردّ على

ص: 364

أهله؛ لإجماع الجميع على أن ذلك حكم الجماعة الممتنعة المحاربة للَّه ولرسوله الساعية في الأرض فسادًا، جماعةً كانوا أو واحدًا.

فأما المستخفي بسرقته، والمتلَصِّص على وجه اغتفال مَنْ سرقَهُ، والشاهر في خلاء على بعض السابلة، وهو عند الطلب غير قادر على الامتناع، فإن حكم اللَّه عليه، تاب، أو لم يتُب ماضٍ، وبحقوق من أخذ ماله أو أصاب وليّه بدم، أو خَتْلٍ مأخوذٌ، وتوبته فيما بينه وبين اللَّه جلّ وعز، قياسًا على إجماع الجميع على أنه لو أصاب شيئًا من ذلك، وهو للمسلمين سِلْمٌ، ثم صار لهم حَرْبًا أن حربه إياهم لن يضع عنه حقًّا للَّه عز وجل، ولا لآدميّ، فكذلك حكمه إذا أصاب ذلك في خلاء، أو باستخفاء، وهو غير ممتنع من السلطان بنفسه إن أراده، ولا له فئةٌ يَلجأ إليها مانعةٌ منه.

وفي قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] دليلٌ واضحٌ لمن وُفّق لفهمه أن الحكم الذي ذكره اللَّه تعالى في المحاربين يجري في المسلمين والمعاهدين، دون المشركين الذين قد نصبوا للمسلمين حربًا، وذلك أن ذلك لو كان حكما في أهل الحرب من المشركين، دون المسلمين، ودون ذمّتهم لوجب أن لا يُسقِط إسلامهم عنهم إذا أسلموا، أو تابوا بعد قدرتنا عليهم ما كان لهم قبل إسلامهم، وتوبتهم، من القتل، وما للمسلمين في أهل الحرب من المشركين، وفي إجماع المسلمين أن إسلام المشرك الحربيّ يضع عنه بعد قدرة المسلمين عليه ما كان واضعه عنه إسلامه قبل القدرة عليه ما يدلّ على أن الصحيح من القول في ذلك قول من قال: عُنِي بآية المحاربين في هذا الموضع حُرّابُ أهل الملّة، أو الذمّة، دون من سواهم من مشركي أهل الحرب. انتهى كلام ابن جرير -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي رجّحه الإمام ابن جرير -رحمه اللَّه تعالى- في تأويل هذه الآية هو الأرجح عندي؛ لقوّة مُتمسّكه، كما بيّنه هو. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

"تفسير ابن جرير الطبريّ" 10/ 277 - 289. "تفسير سورة المائدة".

ص: 365

‌10 - (النَّهْيُ عَنِ الْمُثْلَةِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ظاهر صنيع المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- عنه في عقد هذه الترجمة عقب الباب الماضي، كأنه يرجّح قول من قال: إن حديث العرنيين منسوخٌ بحديث النهي عن المثلة، لكن تقدّم أن الراجح أنه ليس بمنسوخ، وأنه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - إنما فعل بأولئك النفر ذلك قصاصًا، حيث فعلوا بالراعي ذلك، كما بيّنه أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - في قوله السابق:"إنما سمل النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - أعين أولئك؛ لأنهم سملوا أعين الرعاة". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

4048 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحُثُّ فِي خُطْبَتِهِ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُثْلَةِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن المثنّي) العنزيّ، أبو موسى البصريّ، ثقة ثبت [10] 64/ 80.

2 -

(عبد الصمد) بن عبد الوارث بن سعيد التّنُّوريّ، أبو سهل البصريّ، صدوق [9] 122/ 174.

3 -

(هشام) بن أبي عبد اللَّه سَنْبَر الدستوائيّ البصريّ، ثقة ثبت، من كبار [7] 30/ 34.

4 -

(قتادة) بن دِعامة السدوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقة ثبت مدلّس [4] 30/ 34.

5 -

(أنس) بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخه أحد التسعة الذين يروي عنهم الجماعة بلا واسطة. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَنَسٍ) بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَحُثُّ) من باب نصر: أي يحرّض (فِي خُطْبَتِهِ عَلَى الصَّدَقَةِ) يعني أنه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - إذا خطب كان يأمر الناس بأن يتصدّقوا، وفي حديث سمرة بن جندب، وعمران بن حصين

ص: 366

- رضي اللَّه تعالى عنهم - عند أحمد في "مسنده" -4/ 436 - بإسناد جيّد: ما خطبنا رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - خطبة، إلا أمرنا بالصدقة، ونهانا عن المثلة" (وَيَنْهَى عَنْ الْمُثْلَةِ") بضمّ الميم، وسكون المثلّثة، وزان غُرْفة-: قطع بعض أطراف الحيوان، وهو حيّ. قال الفيّوميّ: مَثَلتُ بالقتيل مَثْلًا، من بابي قتل، وضرب: إذا جَدعته، وظهرتْ آثار فعلك عليه تنكيلًا، والتشديد مبالغةٌ، والاسم: الْمُثْلة، وزان غُرفة. انتهى.

وقال ابن الأثير: يقال: مثلتُ بالحيوان أمثُلُ به مَثْلًا: إذا قطعت أطرافه، وشَوَّهتَ به، ومَثَلْتُ بالقتيل: إذا جَدَعتَ أنفه، أو أُذنه، أو مذاكيره، أو شيئًا من أطرافه، والاسم الْمُثْلة، فأمّا مثّل بالتشديد، فهو للمبالغة. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح، وإن كان في إسناده علّة، كما سيتّضح في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى.

وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- عنه، أخرجه هنا- 10/ 4048 - وفي "الكبرى" 10/ 3510. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): أعلّ الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في "الفتح" رواية المصنّف هذه بأن فيها إدراجًا، فقال عند قول البخاريّ:"قال قَتَادَةُ: وَبَلَغَنَا أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعْد ذَلِكَ كَانَ يَحْثُ عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُثْلَةِ". فقال: ما ملخّصه:

هَذَا الْمَتْنُ جَاءَ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ، عَنْ الْحَسَنُ الْبَصْرِيّ، عن هَيَّاج بْن عِمْرَان، عَنْ عِمْرَان بْن حُصَيْنٍ، وَعَنْ سَمُرة بْن جُنْدُب، قَالَ:"كَانَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَحُثُّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ، وَيَنْهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ". أَخْرَجَهُ أبُو دَاوُدَ، مِنْ طَرِيقِ مُعاذ بْن هِشَام، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ، بِهَذَا الإسْنادِ واللَّفْظِ، وَفِيهِ قِصَّة

(2)

. وأخرجهُ أَحْمَد مِنْ طَرِيق سَعِيد، عَنْ قَتَادَةَ، بِهَذا الإسْنَادِ إِلَى عِمْرَان بْن حُصَيْنٍ، وفِيهِ الْقِصَّة، وَلَفْظه:"كَانَ يَحُثّ في خُطْبَتِهِ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَيَنْهَى عَنْ الْمُثْلَةِ". وَعَنْ سَمُرَة مِثْل ذَلِكَ. وإِسْنَاد هَذَا الْحَدِيث قَوِيّ، فَإِنَّ هيَّاجًا -بِتَحْتانيَّةٍ ثَقِيلةٍ وَآخِرُهُ جِيمٌ- هُوَ ابْن عِمْرَان الْبَصْرِيّ، وثَّقهُ ابْن سَعْد، وابْن حِبَّانَ، وبقِيَّة رِجَاله مِنْ رِجَال الصَّحِيح. قال: وروي أيضًا مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بن يَزِيد الأَنْصَارِيّ، قال:"نَهَى رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُثْلة، وَالنُّهْبَى".

(1)

"النهاية" 4/ 294.

(2)

سيأتي قريبًا ذكر القصّة، إن شاء اللَّه تعالى.

ص: 367

قال: وَقَدْ تَبَيّنَ بِهَذَا أَنَّ فِي الْحَدِيث الَّذِي أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، مِنْ طَرِيق عَبْد الصَّمَد بْن عَبْد الْوَارِث، عَنْ هِشَام، عَنْ قَتَادَةَ،، عَنْ أَنَس، قال:"نَهَى رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُثْلَة"، إِدْرَاجًا، وأنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْحَدِيث، لَمْ يُسْنِدْهُ قَتَادَةُ، عَنْ أَنَس، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ بَلَاغًا، ولَمَّا نَشِط لِذِكْرِ إِسْنَادِهِ سَاقَهُ بِوَسَائِطَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- عنه بالاختصار

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لكن الحديث، وإن كان في إسناده العلّةُ المذكورة، صحيح، لأنه قد أخرجه البخاريّ في "صحيحه"، من حديث عبد اللَّه بن زيد الأنصاريّ، فقال:

حدثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا شعبة، حدثنا عدي بن ثابت، سمعت عبد اللَّه ابن يزيد الأنصاريّ -وهو جدّه أبو أمه- قال:"نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم، عن النهبى والمثلة".

ومن حديث سمرة بن جندب، وعمران بن حصين، عند أبي داود، وأحمد، ولفظ أبي داود من طريق قتادة، عن الحسن، عن الْهَيَّاج بن عمران، أن عمران أبق له غلام، فجعل للَّه عليه، لئن قدر عليه ليقطعن يده، فأرسلني لأسأل له، فأتيت سمرة بن جندب، فسألته، فقال: كان نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم يحثنا على الصدقة، وينهانا عن المثلة، فأتيت عمران بن حصين، فسألته، فقال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحثنا على الصدقة، وينهانا عن المثلة.

والحاصل أن حديث الباب صحيح من حديث هؤلاء الصحابة - رضي اللَّه تعالى - عنهم، وأما من حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه -، فقد عرفت أنه معلّ، فتبصّر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌11 - (الصَّلْبُ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الصَّلْب" -بفتح الصاد المهملة، وسكون اللام-: مصدر صَلَبَ، يقال: صلبت القاتل صَلْبًا، من باب ضرب: إذا شددت أطرافه وعلّقته على شيء، فهو مصلوب، وصلّبته بالتشديد مبالغة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

4049 -

(أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، عَنْ

(1)

"فتح" 8/ 231 - 232. "كتاب المغازي". رقم الحديث 4192.

ص: 368

إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: زَانٍ مُحْصَنٌ يُرْجَمُ، أَوْ رَجُلٌ قَتَلَ رَجُلاً مُتَعَمِّدًا، فَيُقْتَلُ، أَوْ رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ الإِسْلَامِ، يُحَارِبُ اللَّهَ عز وجل وَرَسُولَهُ، فَيُقْتَلُ، أَوْ يُصْلَبُ، أَوْ يُنْفَى مِنَ الأَرْضِ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه العبّاس ابن محمد، فإنه من رجال الأربعة، وهو بغداديّ ثقة حافظ.

و"أبو عامر العَقَديّ": هو عبد الملك بن عمرو البصريّ. و"عبد العزيز بن رُفيع": هو أبو عبد اللَّه المكيّ، نزيل الكوفة، ثقة [4] 190/ 2997. و"عُبيد بن عُمير": هو أبو عاصم الليثيّ المكيّ، وُلد في عهد النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، وكان قاصّ أهل مكّة، مجمع على توثيقه.

والحديث صحيح، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله في 5/ 4018 - فراجعه تستفد.

واستدلال المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- به على ما ترجم له واضح، حيث إنه يدلّ على مشروعيّة العقوبة بالصلب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌12 - (الْعَبْدُ يَأْبِقُ إِلَى أَرْضِ الشِّرْكِ، وَذِكْرِ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ الْنَّاقِلِينَ لِخَبَرِ جَرِيرِ فِي ذَلِكَ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: مناسبة هذا الباب لـ"كتاب المحاربين" أن العبد إذا أبق إلى أرض الشرك، فهو في حكم المحارب، يقام عليه الحدّ، كما فعل جرير بن عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنه - في قصته الآتية.

وقوله: "يأبق" بفتح الباء الموحّدة، وكسرها، وسيأتي الكلام في ضبطه قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(الاخْتِلافُ عَلَى الشَّعْبيِّ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن منصورًا رواه عن

ص: 369

الشعبيّ، عن جرير، عن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، مرفوعًا، بلفظ:"إذا أبق العبد، لم تُقبل صلاة"، وتابعه مُغيرة في رواية جرير بن عبد الحميد عنه، وزاد:"وإن مات مات كافرًا"، وقصّةَ إباق غلام جرير. وخالف جريرًا إسرائيلُ، فرواه عن مغيرة، عن الشعبيّ بلفظ:"إذا أبق العبد إلى أرض الشرك، فلا ذمّة له"، موقوفًا على جرير، لكن الرفع هنا أرجح؛ لاتفاق منصور، ومغيرة في رواية عليه؛ ولذا أخرج مسلم في "صحيحه" رواية جرير، عن مغيرة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

4050 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

«إِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَوَالِيهِ» ).

رجال هذا الإسناد: ستة.

1 -

(محمود بن غيلان) العدويّ مولاهم، أبو أحمد المروزيّ، نزيل بغداد، ثقة [10] 33/ 37.

2 -

(أبو داود) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ الحافظ، ثقة [9] 13/ 343.

3 -

(شعبة) بن الحجّاج البصريّ الإمام الحجة الثبت [7] 24/ 27.

4 -

(منصور) بن عبد الرحمن الغُدانيّ بضمّ الغين المعجمة، وتخفيف الدال المهملة- الأشلّ البصريّ، صدوقٌ يَهِم [6].

قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: صالحٌ، روى عنه شعبة، قلت: ثقة؟ قال: حدّث عنه شعبة، وإسماعيل، إلا أنه يُخالف في أحاديث، وهو ثقة، ليس به بأس. وقال ابن معين، وأبو داود: ثقة. وقال أبو حاتم: ليس بالقويّ، يُكتب حديثه، ولا يُحتجّ به. وقال النسائيّ: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له مسلم، وأبو داود، والمصنّف.

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح مسلم": وفي الرواة خمسة، يقال لكلّ واحد منهم: منصور بن عبد الرحمن، هذا أحدهم. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: كون منصور في هذا السند، هو ابن عبد الرحمن المترجم آنفًا هو الذي يظهر لي؛ لأن مسلمًا أخرج الحديث في "صحيحه" عن عليّ بن حجر السعديّ، عن إسماعيل ابن عليّة، عن منصور بن عبد الرحمن المذكور، عن الشعبيّ، عن جرير - رضي

(1)

"شرح مسلم" 2/ 59. "كتاب الإيمان".

ص: 370

اللَّه تعالى عنه -، فالظاهر أنه المراد في سند المصنّف أيضًا. ويحتمل أن يكون هو ابن المعتمر؛ وهو الذي يؤيّده صنيع أصحاب كتب الرجال، كـ"تهذيب الكمال"، و"تهذيب التهذيب"، و"التقريب"؛ حيث إنهم لم يرمزوا للمصنّف في ترجمة منصور بن عبد الرحمن المذكور، بل رمزوا لمسلم، وأبي داود فقط. فيتأمّل. واللَّه تعالى أعلم.

5 -

(الشعبيّ) عامر بن شَراحيل الهمدانيّ، أبو عمرو الكوفيّ، ثقة فقيه فاضل [3] 66/ 82.

6 -

(جرير) بن عبد اللَّه بن جابر البجليّ الأحمسيّ الصحابيّ المشهور، مات - رضي اللَّه تعالى عنه - سنة (51) وقيل: بعدها، تقدّم في 43/ 51. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين غير شيخه، فبغداديّ، والشعبيّ، وجرير، فكوفيان. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ جَرِيرٍ) بن عبد اللَّه رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ: رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ) بفتح الباء الموحّدة، وكسرها، قال الفيّوميّ: أَبق العبدُ أبقًا، من بابي تَعِبَ، وقَتَلَ في لغة، والأكثر من باب ضَرَب: إذا هرب من سيّده، من غير خوفٍ، ولا كدّ عملٍ، هكذا قيّده في "العين"، وقال الأزهريّ: الأَبْقُ: هُرُوب العبدِ من سيّده، والإباق بالكسر-: اسم منه، فهو آبقٌ، والجمعُ أُبَّاقٌ، مثلُ كافر وكُفّار. انتهى. وقال النوويّ: ويقال: أبق العبد، وأبِقَ بفتح الباء، وكسرها لغتان مشهورتان، الفتح أفصح، وبه جاء القرآن:{إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} . انتهى

(1)

.

وفي رواية مغيرة الآتية: "إذا أبق العبد إلى أرض الشرك، فلا ذمّة له"، وفي رواية أبي إسحاق الآتية:"أيما عبد أبق إلى أرض الشرك، فقد حلّ دمه"، وفي رواية له:"أيما عبد أبق من مواليه، ولَحِقَ بالعدوّ، فقد أحلّ بنفسه".

(لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ) قيل: القبول أخصّ من الإجزاء، فإن القبول هو أن يكون العملُ سببًا لحصول الأجر، والرضا، والقرب من اللَّه تعالى، والإجزاء كونه سببًا لسقوط التكليف عن الذّمّة، فصلاة العبد الآبق صحيحة مجزئة لسقوط التكليف عنه بها، لكن لا

(1)

"شرح صحيح مسلم" 2/ 59. "كتاب الإيمان".

ص: 371

أجر له عليها، لكن باقي روايات الحديث تدلّ على أن المراد إذا أبق بقصد اللحاق بدار الحرب؛ إيثارًا لدينهم، ولا يخفى أنه حينئذ، يصير كافرًا، فلا تُقبل له صلاة، ولا تصحّ، لو فُرض أنها صلّاها. قاله السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

وقال النوويّ في "شرح مسلم": أول الإمام المازريّ، وتبعه القاضي عياض -رحمهما اللَّه تعالى- هذا الحديث على أن ذلك محمول على المستحلّ للإباق، فيكفر، ولا تُقبل له صلاة، ولا غيرها، ونبّه بالصلاة على غيرها. وأنكر الشيخ أبو عمرو يعني ابن الصلاح- هذا التأويل، وقال: بل ذلك جارٍ في غير المستحلّ، ولا يلزم من عدم القبول عدم الصحّة، فصلاة الآبق صحيحة غير مقبولة، فعدم قبولها لهذا الحديث، وذلك لاقترانها بمعصية، وأما صحّتها، فلوجود شروطها، وأركانها المستلزمة صحّتها، ولا تناقض في ذلك، ويظهر أثر عدم القبول في سقوط الثواب، وأثر الصّحّة في سقوط القضاء، وفي أنه لا يُعاقب عقوبة تارك الصلاة. هذا آخر كلام الشيخ أبي عمرو -رحمه اللَّه تعالى-. قال النوويّ: وهو ظاهر لا شكّ في حسنه، وقد قال جماهير أصحابنا: إن الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة، لا ثواب فيها، ورأيت في "فتاوى أبي نصر بن الصبّاغ" من أصحابنا التي نقلها عنه ابن أخيه الْقَاضِي أبُو مَنْصُور، قال: الْمَحْفُوظُ مِنْ كَلَام أَصْحَابنا بِالْعِرَاقِ، أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الدَّار الْمَغْصُوبَةِ صَحِيحَة، يَسْقُط بِهَا الْفرْض، وَلَا ثَوَاب فِيها. قَالَ أبُو منْصُور: وَرَأَيْت أَصْحَابَنَا بِخُراسَان اخْتَلَفُوا؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا تصِحُّ الصَّلاة. قَالَ: وَذَكَرَ شَيْخُنَا فِي "الْكَامِل" أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ، ويَحْصُل الثَّوَاب على الْفِعْل، فيَكُون مُثَابًا عَلَى فِعْله، عاصِيًا بِالْمُقامِ فِي الْمَغْصُوب، فَإِذا لَمْ نَمْنَع مِنْ صِحَّتهَا، لَمْ نَمْنَع مِنْ حُصُول الثَّوَاب. قَالَ أبُو مَنْصُور: وهذا هُو الْقِيَاسُ عَلَى طَرِيق مَنْ صَحَّحَهَا. واللَّه أَعْلَم. انتهى كلام النوويّ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي نقله النوويّ هذا من الشيخ أبي عمرو، واستظهره، وحسّنه فيه نظر لا يخفى، بل تأويل المازريّ، والقاضي عياض هو الواضح؛ لأن روايات حديث الباب تدلّ عليه، كقوله:"إلى أرض الشرك"، وقوله:"ولحق بالعدو"، فإن هذا ظاهر في كونه ارتدّ عن الإسلام، وهو رأي المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، حيث أورده في "كتاب المحاربين"، وترجم له بقوله:"العبد إلى أبق إلى أرض الشرك"، فالحقّ أن المراد بالآبق في حديث الباب هو الذي هرب إلى المشركين، ولحق بدار الحرب، فلو فرضنا أنه صلى الصلوات في تلك الحالة، فإنها لا تصحّ.

(1)

"شرح السنديّ" 7/ 102 - 103.

ص: 372

وما ذكره من أن الصلاة في الدار المغصوبة تصحّ، مما لا دليل عليه، وقد خالف الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى-، فقال: إنها لا تصحّ، ولا يسقط بها الطلب، وهو الأصحّ، كما ذكرته في "شرح الكوكب الساطع" في الأصول، عند قوله:

مُطْلَقُ الأَمْرِ عِنْدَنَا لَا يَشْمَلُ

كُرْهًا فِفِى الْوَقْتِ الصَّلَاةُ تَبْطُلُ

أَمَّا الَّذِي جِهَاتُهُ تَعَدَّدَا

مِثْلُ الصَّلاةِ فِي مَكَانٍ اعْتَدَى

فَإِنَّهَا تَصِحُّ عِنْدَ الأَكْثَرِ

وَلَا ثَوَابَ عِنْدَهُم فِي الأَشْهَرِ

وقِيلَ لَا تَصِحُّ لَكِنْ حَصَلَا

سُقُوطُهُ والْحَنْبَليّ لَا وَلَا

وقوله: "والحنبلي لا لا" أي قال الإمام أحمد رحمه الله: لا تصح الصلاة، ولا ثواب فيها، وهو الحقّ. واللَّه تعالى أعلم.

(حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَوَالِيهِ) أي إلى يرجع إلى مواليه تائبًا، فإذا رجع تائبًا قُبلت توبته؛ لحديث ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -، مرفوعًا:"التائب من الذنب كمن لا ذنب له"، أخرجه ابن ماجه

(1)

.

[تنبيه]: زاد مسلم في روايته بعد تخريج طريق منصور بن عبد الرحمن، موقوفة على جرير-: ما نصّه: "قَالَ: مَنْصُور: قَدْ واللَّه، رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنِّي أَكْرَه أن يُرْوَى عَنِّي هَاهُنَا بِالْبَصْرَةِ".

قال النوويّ في "شرحه": مَعْنَاهُ أنَّ مَنْصُورًا، رَوَى هَذَا الْحَدِيث عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَرِيرٍ، مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ منْصُورٌ- بَعْد رِوايته إِياهُ موقُوفًا -: واللَّه إِنَّهُ مَرْفُوعٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَاعْلَمُوهُ أَيُّها الْخَوَاصُّ الْحَاضِرُونَ، فإِنِّي أَكْرَه أَنْ أُصَرِّحَ بِرَفْعِهِ فِي لَفْظ رِوَايَتِي، فَيَشِيع عَنِّي فِي الْبَصْرَة، الَّتِي هِيَ مَمْلُوءَة مِنْ الْمُعْتَزِلَة، وَالْخَوَارج الَّذِين يَقُولُونَ بِتَخْلِيدِ أَهْل الْمَعَاصِي فِي النَّار، والْخَوَارجُ يَزِيدُونَ عَلَى التخليد، فَيَحْكُمُون بِكُفْرِهِ، وَلَهُمْ شُبْهَةٌ فِي التَّعَلُّق بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيث، وَقَدْ قدَّمْنَا تَأْوِيلَهُ، وبُطْلَانَ مَذَاهِبِهِمْ، بِالدَّلائِلِ الْقَاطِعَةِ الْوَاضِحَةِ، الَّتِي ذَكَرْناها فِي مَوَاضِع مِنْ هَذَا الْكِتَاب. وَاللَّه أَعْلَم. انتهى كلام النوويّ

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

(1)

حديث حسنٌ، أخرجه ابن ماجه، وفيه أبو عبيدة بن عبد اللَّه بن مسعود، عن أبيه، وهو منقطع، لكن له شواهد.

(2)

"شرح مسلم" 2/ 56. "كتاب الإيمان".

ص: 373

حديث جرير بن عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-12/ 4051 و 4052 و 4053 و 13/ 4054 و 4055 و 4056 و 4057 و 4058 - وفي "الكبرى" 12/ 3512 و 3513 و 3514 و 13/ 3515 و 3516 و 3517 و 3518 و 3519. وأخرجه (م) في "الإيمان" 68 و 69 و 70 (د) في "الحدود" 4360. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان أن العبد إذا أبق إلى أرض الشرك، فهو في حكم المحارب، فيُقتل، كما فعله جرير - رضي اللَّه تعالى عنه -. (ومنها): أن صلاة الآبق غير مقبولة، إلى أن يرجع إلى مواليه. (ومنها): أن الرضى بالكفر كفر؛ لأن العبد الآبق لما هرب إلى دار الكفر راضيًا به، صار مرتدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4052 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: كَانَ جَرِيرٌ يُحَدِّثُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «إِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ، وَإِنْ مَاتَ مَاتَ كَافِرًا» ، وَأَبَقَ غُلَامٌ لِجَرِيرٍ فَأَخَذَهُ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به هو وأبو داود، وهو مِصّيصيّ ثقة. و"جرير": هو ابن عبد الحميد. و"مُغيرة ": هو ابن مِقْسم الضبّيّ الكوفيّ.

وقوله: "وإن مات مات كافرًا": أي لارتداده باللحوق بأرض الشرك راضيًا بالشرك، واللَّه أعلم.

والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4053 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: "إِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ إِلَى أَرْضِ الشِّرْكِ، فَلَا ذِمَّةَ لَهُ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، وهو ثقة حافظ. و"عبيد اللَّه بن موسى": هو العبسيّ الكوفيّ، من كبار شيوخ البخاريّ. و"إسرائيل": هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعيّ.

وقوله: "فلا ذمّة له"، وفي رواية مسلم:"فقد برئت منه الذمّة". قال القرطبيّ: أي

ص: 374

ذمّة الإيمان وعهده، وخَفَارته، إن كان مستحلًّا للإباق، فيجب قتله بعد الاستتابة؛ لأنه مرتدّ، وإن لم يكن كذلك، فقد خرج عن حُرْمة المؤمنين وذمّتهم، فإنه تجوز عقوبته على إباقه، وليس لأحد أن يحول بين سيّده وبين عقوبته الجائزة، إذا شاءها السيّد. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ: قال الشيخ أبو عمرو -رحمه اللَّه تعالى-: الذمة هنا يجوز أن تكون هي الذّمّة المفسّرة بالذمام، وهي الحرمة. ويجوز أن يكون من قبيل ما جاء في قوله:"ذمّة اللَّه تعالى، وذمَّةُ رسوله - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -": أي ضمانه، وأمانته، ورعايته، ومن ذلك أن الآبق كان مصونًا عن عقوبة السيّد له، وحبسه، فزال ذلك بإباقه. انتهى

(2)

.

والحديث صحيح مرفوعًا، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أُنيب".

‌13 - (الاخْتِلافُ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن عبد الرحمن بن حُميد رواه عن أبي إسحاق السبيعيّ، عن الشعبيّ، عن جرير بن عبد اللَّه، عن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، مرفوعًا، وتابعه إسرائيل في رواية قاسم بن يزيد، وخالفه في رواية خالد بن عبد الرحمن الخراسانيّ، وأحمد بن خالد الوهبيّ، عنه، فجعله موقوفًا على جرير، وتابعه شريك بن عبد اللَّه النخعيّ.

لكن تقدّم في الباب الماضي أن الرفع هو الأرجح. واللَّه تعالى أعلمِ بالصواب.

4054 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ إِلَى أَرْضِ الشِّرْكِ، فَقَدْ حَلَّ دَمُهُ»).

(1)

"المفهم" 1/ 256. "كتاب الإيمان".

(2)

"شرح مسلم" 2/ 58. "كتاب الإيمان".

ص: 375

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، وتقدّموا. و"حميد بن عبد الرحمن": هو الرُّؤاسيّ، أبو عوف الكوفيّ، ثقة [8] 2/ 497. و"أبو حميد": هو عبد الرحمن بن حُميد بن عبد الرحمن الرؤاسيّ الكوفيّ، ثقة [7] 17/ 798.

والحديث صحيح.

[فإن قيل]: كيف يصحّ، وفيه عنعنة أبي إسحاق؟.

[أجيب]: بأنه لم يتفرّد بروايته، بل تابعه المغيرة عن الشعبيّ، كما سبق في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4055 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَاسِمٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ إِلَى أَرْضِ الشِّرْكِ، فَقَدْ حَلَّ دَمُهُ»).

"أحمد بن حرب": هو الطائيّ الموصليّ، صدوقٌ [10] 102/ 135 من أفراد المصنّف.

و"قاسم": هو ابن يزيد الْجَرْميّ، أبو يزيد الْمَوصِليّ، ثقة عابد [9] 102/ 135 من أفراد المصنّف أيضًا.

[تنبيه]: سقط عن هذا السند من نسخ "المجتبى" قوله: "عن الشعبيّ"، وهو غلطٌ فاحشٌ، والصواب إثباته، كما هو في "الكبرى" 2/ 300، و"تحفة الأشراف" 2/ 424 - 425. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث صحيح، كما سبق بيانه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4056 -

(أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: "أَيُّمَا عَبْدٍ أَبَقَ إِلَى أَرْضِ الشِّرْكِ، فَقَدْ حَلَّ دَمُهُ").

"الربيع بن سليمان": هو المراديّ المؤذّن، صاحب الشافعيّ، أبو محمد المصريّ، ثقة [10] 195/ 311.

و"خالد بن عبد الرحمن"، الْخُرَاسانيّ، أبو الْهَيْثم، ويقال: أبو محمد الْمرُّوذيّ، سكن ساحل دمشق، صدوقٌ، له أوهام [9].

قال يزيد بن عبد الصمد، عن ابن معين: ثقة. وقال ابن صاعد: حدّثنا بحر بن نصر، ومحمد بن عبد اللَّه بن الحكم، قالا: حدّثنا خالد، وكان ثقة. وقال أبو زرعة،

ص: 376

وأبو حاتم: لا بأس به، زاد أبو حاتم: كان ابن معين يُثني عليه خيرًا. وقال ابن عديّ: ليس بذاك. وقال العقيليّ: في حفظه شيء، ثم ذكر له حديثًا مُعلّلًا، رُوي على وجوه. قال الحافظ: ولعلّ الخطأ من غيره. تفرّد به المصنّف، وله عنده هذا الحديث فقط، وأبو داود، وله عنده حديث واحد.

[تنبيه]: وقع في النسخ المطبوعة من "المجتبى": "خالد عن عبد الرحمن"، وهو تصحيف فاحشٌ، تصحّفت على الناسخ كلمة "ابن" إلى "عن"، والصواب:"خالد بن عبد الرحمن"، وهو الذي في "النسخة الهنديّة" 2/ 168، و"الكبرى" 2/ 300، و"تحفة الأشراف" 2/ 425. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث صحيح مرفوعًا، كما تقدّم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4057 -

(أَخْبَرَنِي

(1)

صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَرِيرٍ قَالَ:"أَيُّمَا عَبْدٍ أَبَقَ إِلَى أَرْضِ الشِّرْكِ، فَقَدْ حَلَّ دَمُهُ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "صفوان بن عمرو": هو الحمصيّ الصغير

(2)

، صدوقٌ [11] 67/ 2330 من أفراد المصنّف. و"أحمد بن خالد": هو الوهْبيّ الكنديّ، أبو سعيد، صدوقٌ [9] 56/ 2300.

والحديث صحيح، مرفوعًا، كما مرّ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4058 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: "أَيُّمَا عَبْدٍ أَبَقَ مِنْ مَوَالِيهِ، وَلَحِقَ بِالْعَدُوِّ، فَقَدْ أَحَلَّ بِنَفْسِهِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "شريك": هو ابن عبد اللَّه النخعيّ الكوفيّ القاضي. و"عامر": هو الشعبيّ المذكور قبلُ.

وقوله: "لحِق" بكسر الحاء المهملة، من باب تَعِب-: أي أدرك الكفّارَ، والتجأ إليهم. وقوله:"فقد أحلّ بنفسه": أي قد أنزل على نفسه ما يستحقّ به العقوبة. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث صحيح، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

(2)

أما الكبير فهو صفوان بن عمرو بن هِرَم السكسكيّ، أبو عمرو الحمصيّ، ثقة [5] تقدم في 112/ 2053.

ص: 377

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أُنيب".

‌14 - (الْحُكْمُ فِي الْمُرْتَدِّ)

4059 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو الأَزْهَرِ، أَحْمَدُ بْنُ الأَزْهَرِ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرَّازِيُّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ، فَعَلَيْهِ الرَّجْمُ، أَوْ قَتَلَ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، أَوِ ارْتَدَّ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، فَعَلَيْهِ الْقَتْلُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أبو الأزهر، أحمد بن الأزهر النيسابوريّ": هو العبديّ، صدوقٌ، كان يحفظ، ثم كبر، فصار كتابه أثبت من حفظه [11] 66/ 1802 من أفراد المصنّف، وابن ماجه.

و"إسحاق بن سليمان الرّازيّ": هو أبو يحيى كوفيّ الأصل، ثقة فاضل [9] 11/ 1623.

و"المغيرة بن مسلم" الْقَسْملىّ بقاف، وميم، مفتوحتين، بينهما سين مهملة ساكنة- أبو سلمة السّرّاج بتشديد الراء- المدائنيّ، مروزيّ الأصل، صدوق [6].

قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: ما أرى به بأسًا. وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: صالحٌ. وقال الغلّابيّ، عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، صدوقٌ. وقال العجليّ: ثقة. وقال الدارقطنيّ: لا بأس به. وقال يونس بن حبيب: حدّثنا أبو داود الطيالسيّ، حدّثنا المغيرة بن مسلم، وكان صدوقًا مسلمًا. وذكره ابن حبّان في "الثقات".

روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والترمذيّ، وابن ماجه، وله عند المصنّف ثلاثة أحاديث: حديث الباب، وحديث جابر - رضي اللَّه تعالى عنه - في "كتاب قطع السارق" 13/ 4977 وحديث معاوية - رضي اللَّه تعالى عنه - في "كتاب الزينة" 40/ 5154.

و"مطر": هو ابن طهمان السلميّ مولاهم، أبو رجاء الخراسانيّ، سكن البصرة، صدوقٌ كثير الخطأ، وحديثه عن عطاء ضعيف [6] 38/ 3276. و"نافعٌ": هو مولى ابن عمر. و"ابن عمر": هو عبد اللَّه بن عمر بن الخطّاب - رضي اللَّه تعالى عنهما -.

ص: 378

وقوله: إلا بإحدى ثلاث": أي بسبب خصال ثلاث. وقوله: "رجل" يجوز جرّه على البدليّة، وقطعه إلى الرفع بتقدير مبتدأ: أي إحداها رجل، وهو على حذف مضاف، أي خصلة رجل الخ، أو النصب بتقدير فعل، ولا يمنع كونه بصورة المرفوع؛ لإمكان جعله على لغة ربيعة: أي أعني رجلًا. وقوله: "أو قتل الخ" صفة لرجل محذوف دلّ عليه ما قبله، أو رجل قتل الخ، وكذا قوله: "أو ارتدّ الخ".

والحديث صحيح، وهو بهذا السند من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وقد سبق شرحه، وبيان مسائله في 5/ 4020 - فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4060 -

(أَخْبَرَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ إِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، إِلاَّ بِثَلَاثٍ: أَنْ يَزْنِيَ بَعْدَ مَا أُحْصِنَ، أَوْ يَقْتُلَ إِنْسَانًا فَيُقْتَلُ، أَوْ يَكْفُرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ فَيُقْتَلُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "مؤمّل بن إهاب": هو الرَّبَعيّ العجليّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، نزيل الرَّمْلَة، أصله من كرمان، صدوقٌ له أوهام [11] 45/ 593. و"عبد الرزاق": هو ابن همّام الصنعانيّ. و"أبو النضر": هو سالم بن أبي أُميّة، مولى عمر بن عبيد اللَّه التيميّ المدنيّ، ثقة ثبت [5] 98/ 121. و"بُسر بن سعيد": هو العابد المدنيّ، مولى ابن الحضرميّ، ثقة جليلٌ [2] 11/ 517.

والحديث في سنده انقطاعٌ على ما قيل، قال ابن أبي حاتم في "العلل": سمعت أبي يقول: بسر بن سعيد، عن عثمان مرسل. انتهى. ذكره الحافظ في "النكت الظراف" 7/ 247.

لكنه صحيح بشواهده، فإن الحديث الذي قبله يشهد له، وكذا ما تقدّم في 5/ 4018. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4061 -

(أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه عمران ابن موسى القزّاز الليثيّ، أبي عمرو البصريّ، وقد وثّقه هو وغيره. والسند مسلسلٌ بالبصريين، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: أيوب السختيانيّ، عن عكرمة، وفيه ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، وتقدّموا غير مرّة. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 379

شرح الحديث

(عَنْ عِكْرِمَةَ) مولى ابن عبّاس، أنه (قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ بَدَّلَ دِينة فَاقْتُلُوهُ) "من" شرطيّة مبتدأ، وجوابها: "فاقتلوه"، وهو الخبر على الراجح. وهو عامّ يُخصّ منه من بدّل دينه في الباطن، ولم يثبت عليه ذلك في الظاهر، فإنه تُجرى عليه أحكام الظاهر، ويُستثنى منه أيضًا من بدّل دينه في الظاهر، مكرهًا. أفاده في "الفتح"

(1)

.

وعمومه أيضًا يشمل الأنثى، ومنهم من خصّ الذكر؛ لما جاء من النهي عن قتل النساء في الحرب، والصحيح الأول، كما سيأتي تحقيقه في المسألة الثالثة، إن شاء اللَّه تعالى.

والمراد بالدين هو الدين الإسلام الذي هو الدين الحقّ الذي رضيه اللَّه تعالى لعباده، حيث قال تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} الآية، وقوله تعالى:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} الآية، فلا يشمل عموم هذا الحديث كلّ الأديان، فمن انتقل من اليهوديّة، إلى النصرانيّة، أو غيرها من ملل الكفر، أو بالعكس، لا يقتل بذلك، وهذا الراجح، وفيه خلافٌ، سيأتي تحقيقه في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-14/ 4061 و 4062 و 4063 و 4064 و 4065 و 4067 - وفي " الكبرى" 14/ 3522 و 3523 و 3524 و 3525 و 3526 و 3567 و 3658. وأخرجه (خ) في "الجهاد والسير" 3017 و"استتابة المرتدّين" 6922 (د) في "الحدود" 4351 (ت) في "الحدود" 1458 (ق) في "الحدود" 2535 (أحمد) في "مسند بني هاشم" 1874 و 2547 و 2960. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم المرتدّة:

قَالَ ابْن الْمُنْذِر: قَالَ الْجُمْهُور: تُقْتَل الْمُرْتَدَّة، وَقَالَ عَلِيّ: تُسْتَرَقّ، وَقَالَ عُمَر بْن

(1)

"فتح" 14/ 272 - 273 "كتاب استتابة المرتدين" رقم الحديث 6922.

ص: 380

عَبْد الْعَزِيز: تُبَاع بِأَرْضٍ أُخْرَى، وَقَالَ الثَّوْرِيّ: تُحْبَس، وَلَا تُقْتَل، وَأَسْنَدَهُ عَنْ ابْن عبَّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، قَالَ: وَهُوَ قَوْل عَطَاء. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: تُحْبَس الْحُرَّة، ويُؤْمَر مَوْلَى الأَمَة أَنْ يُجْبِرهَا.

وقال البخاريّ في "صحيحه": وقال ابْن عُمر، والزَّهْرِيّ، وَإبراهِيم -يَعْنِي النَّخَعِيَّ-: تُقتَل الْمُرْتَدَّة. انتهى.

قال في "الفتح": أمَّا قَوْل ابْن عُمَر، فَنَسَبَهُ مُغَلْطَاي إِلَى تَخْرِيج ابْن أَبِي شَيْبَة. وأمَّا قَوْل الزُّهرِيّ، وَإِبْرَاهِيم، فَوَصَلَهُ عَبْد الرَّزَّاق، عَنْ مَعْمَر، عَنْ الزُّهرِيّ، فِي الْمَرْأَة تَكْفُر بَعْد إِسْلَامهَا، قَالَ: تُستَتَاب، فَإِنَّ تَابَتْ، وَإِلَّا قُتِلت. وَعَنْ مَعْمَر، عَنْ سَعِيد بْن أَبِي عَرُوبَة، عَنْ أَبِي مَعْشَر، عَنْ إِبرَاهِيم مِثْله. وَأَخْرَجَهُ ابْن أَبِي شَيْبَة، مِنْ وَجْه آخَر، عَنْ حَمَّاد بْن أَبِي سُلَيْمَان، عَنْ إِبْرَاهِيم. وَأَخْرَجَ سَعِيد بْنِ مَنْصُور، عَنْ هُشَيْم، عَنْ عُبَيْدَة ابْن مُغِيث، عن إِبْرَاهِيم، قَالَ: إِذَا ارْتَدَّ الرَّجُل، أَوْ الْمَرْأَة عَنْ الإسْلَام، اُسْتُتِيبَا، فَإِنْ تَابَا تُرِكَا، وَإِنْ أَبَيَا قُتِلَا. وَأَخْرَجَ ابْن أَبِي شَيْبَة، عَنْ حَفْص، عَنْ عُبَيْدَة، عَنْ إِبرَاهِيم، "لا يُقَتْل"، وَالأَوَّل أقْوَى، فَإِنَّ عُبَيْدَة ضَعِيف، وَقَدْ اخْتَلَفَ نَقْله عَنْ إِبرَاهِيم.

ومُقَابِل قَوْل هؤُلاءِ، حَدِيث ابْن عبَّاس:"لا تُقْتَل النِّسَاء، إِذَا هُنَّ ارْتَدَدْنَ"، رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَة، عَنْ عَاصِمِ، عَنْ أَبِي رَزِين، عَنْ ابْن عَبَّاس، أَخْرَجَهُ ابْن أَبِي شَيْبَة، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَخَالفَهُ جَمَاعَة مِنْ الْحُفَّاظ، فِي لَفْظ الْمَتْن. وَأَخْرَجَ الدَّارقُطْنِيُّ، عَنْ ابْن الْمُنْكَدِر، عَنْ جَابِر:" أَنَّ امْرَأَة ارْتَدَّتْ، فَأَمَرَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِهَا"، وَهُوَ يعكُر عَلَى مَا نَقَلَهُ ابْن الطَّلَّاع فِي "الأَحْكَام" أَنَّهُ لَمْ يُنْقَل عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَتَلَ مُرتَدَّة.

وقال في "الفتح" أيضًا: واسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى قَتْل الْمُرْتَدَّة كَالْمُرْتَدِّ، وخَصَّهُ الْحَنَفِيَّة بِالذِّكْرِ، وَتَمَسَّكُوا بِحَدِيثِ النَّهي عَنْ قَتْل النِّسَاء، وَحَمَلَ الْجُمْهُور النَّهْي عَلَى الْكَافِرَة الأَصْليَّة، إِذَا لَمْ تُبَاشِر الْقِتال، وَلَا الْقَتْل؛ لِقَوْلِهِ فِي بَعْض طُرُق حَدِيث النَّهْي عَنْ قَتْل النِّسَاء، لَمَّا رَأَى الْمَرْأَة مَقْتُولَة:"مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ"، ثُمَّ نَهَى عَنْ قَتْل النِّسَاء.

واحْتَجُّوا أيضًا بِأَنَّ "مَنْ" الشَّرْطِيَّة، لَا تَعُمّ الْمُؤنَّث. وتُعُقِّب بِأَنَّ ابْن عبَّاس رَاوِي الْخَبَر، قَدْ قَالَ: تُقْتَل الْمُرْتَدَّة، وَقَتَلَ أَبُو بَكْر فِي خِلافته امْرَأَة ارْتَدَّتْ، وَالصَّحَابَة مُتَوَافِرُونَ، فَلَمْ يُنْكِر ذَلِكَ عَلَيْهِ أَحَد، وَقَدْ أَخْرَجَ ذَلِكَ كُلّه ابْن الْمُنْذِر، وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطنيُّ أَثَر أَبِي بَكْر مِنْ وَجْه حَسَن، وَأَخْرَجَ مِثْله مَرْفُوعًا، فِي قَتْل الْمُرْتَدَّة، لَكِنَّ سَنَده ضَعِيف.

وَاحْتَجُّوا مِنْ حَيْثُ النَّظَر، بِأَنَّ الْأَصْليَّة تُسْتَرَقّ، فَتَكُون غَنِيمَة لِلْمُجَاهِدِينَ، وَالْمُرْتَدَّة لَا تُسْتَرَقّ عِنْدهمْ، فَلَا غُنْم فِيهَا، فَلَا يُتْرَك قَتْلهَا. وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيث مَعَاذ - رضي اللَّه

ص: 381

تعالى عنه -: أنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، لَمَّا أَرسَلَهُ إِلَى الْيَمَن، قَالَ لَهُ:"أَيّمَا رَجُل ارْتَدَّ عَنْ الإسْلَام، فَادْعُهُ، فَإِنْ عَادَ، وَإلَّا فَاضْرِبْ عُنُقه، وَأَيّمَا امْرَأَة ارْتَدَّتْ عَنْ الإسْلَام، فادْعُها، فَإِنْ عَادَتْ، وَإِلَّا فَاضْرِبْ عُنُقها"، وَسَنَده حَسَن. وَهُوَ نَصٌّ فِي مَوْضِع النِّزَاع، فَيَجِب الْمَصِير إِلَيْهِ. وُيؤيِّدهُ اشْتِرَاك الرِّجال والنِّسَاء فِي الْحُدُود كُلّهَا، الزِّنَا، وَالسَّرِقَة، وَشُرْب الْخَمْر، وَالقَذْف، وَمِنْ صُوَر الزِّنَا رَجْم الْمُحْصَن حَتَّى يَمُوت، فَاسْتُثنِي ذَلِكَ مِنْ النَّهْي عَنْ قَتْل النِّسَاء، فَكَذَلِكَ يُسْتَثْنَى قَتْل الْمُرْتَدَّة. قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تحصّل مما تقدّم أن الأرجح قول الجمهور وهو أَنّ المرتدّة تُقتل، كما يُقتل المرتدّ من دون فرق بينهما؛ لوضوح الأدلة في ذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): أنه استَدلّ بَعْض الشافعيّة بِعموم هذا الحديث على قَتْل مَنْ انْتَقَلَ مِنْ دِين كُفْر إِلَى دِين كُفْر، سَوَاء كَانَ مِمَّنْ يُقَرّ أَهْله عَلَيْهِ بِالْجِزْيَةِ، أَوْ لا.

وقد أجاب بعض الحنفيّة بِأَنَّ الْعُمُوم فِي الْحَدِيث فِي الْمُبدِل، لَا فِي التَّبْدِيل، فَأَمَّا التَّبدِيل فَهُوَ مُطْلَق، لا عُمُوم فِيهِ، وَعَلَى تَقْدِير التَّسليم، فَهُوَ مَتْرُوك الظَّاهِر اتِّفَاقًا فِي الْكَافِر، لَوْ أَسْلَمَ، فَإِنَّهُ يَدْخُل فِي عُمُوم الْخَبَر، وَلَيْسَ مُرَادًا.

وَاحْتَجُّوا أيضًا بِأَنَّ الكُفْر مِلَّة وَاحِدَة، فَلَوْ تَنَصَّرَ الْيَهُودِيّ، لَمْ يَخْرُج عَنْ دِين الْكُفْر، وَكَذَا لَوْ تَهَوَّدَ الْوَثَنِيّ، فوَضَحَ أَنَّ الْمُرَاد مَنْ بَدَّلَ دِين الإسْلَام بِدِينٍ غَيْره؛ لِأنَّ الدِّين فِي الْحَقِيقَة هُوَ الإسْلَام، قَالَ اللَّه تَعَالَى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} ، وَمَا عَدَاهُ فَهُوَ بِزَعْم المُدَّعِي.

وأمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا، فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} ، فقد احتجَّ بِهِ بَعْض الشَّافِعِيَّة، فَقَالَ: يُؤخَذ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُقَرّ عَلَى ذَلِكَ.

وَأُجيبَ بِأنَّهُ ظَاهِر فِي أَنَّ مَنْ ارتَدَّ عَنْ الإسْلَامِ، لَا يُقَرّ عَلَى ذَلِكَ. سَلَّمْنَا: لَكِنْ لَا يَلْزَم مِنْ كَوْنه لَا يُقْبَل مِنْهُ، أَنَّهُ لَا يُقَرّ بِالْجِزْيَةِ، بَلْ عَدَم الْقَبُول وَالْخُسْرَان، إِنَّمَا هُوَ فِي الآخِرَة.

سَلَّمْنَا: أَنَّ عَدَم الْقَبُول، يُسْتَفَاد مِنْهُ عَدَم التَّقْرِير فِي الدُّنْيَا، لَكِنَّ الْمُسْتَفَاد أَنَّهُ لَا يُقَرّ عَلَيْهِ، فَلَوْ رَجَعَ إِلَى الدِّين الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، وَكَانَ مَقَرًّا عَلَيْهِ بالْجِزْيةِ، فَإنَّهُ يُقْتَل، إِنْ لَمْ يُسْلِم مَعَ إِمْكَان الإمْسَاك بأَنَّا لَا نَقْبَل مِنْهُ، وَلَا نَقْتُلهُ، وَيُؤيِّدُ تَخْصِيصَهُ بِالإسْلامِ، مَا جَاءَ فِي بَعْض طُرُقه، فَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْه آخَر، عَنْ عِكْرِمَة، عَنْ ابْن عَبَّاس،

(1)

"فتح" 14/ 273. "كتاب استتابة المرتدّين".

ص: 382

رَفَعَه: "مَنْ خَالَفَ دِينَهُ دِينَ الإسْلَام، فَاضْرِبُوا عُنُقه"، قاله في "الفتح".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد ظهر بهذا أن الحقّ أن المراد بالدين هو الإسلام، فقَتلُ من ارتدّ عن دينه خاصّ بالدين الإسلاميّ فقط. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4062 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّ نَاسًا ارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلَامِ، فَحَرَّقَهُمْ عَلِيٌّ بِالنَّارِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ أَحَدًا» ، وَلَوْ كُنْتُ أَنَا لَقَتَلْتُهُمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.

و"أبو هشام": هو المغيرة بن سلمة المخزوميّ البصريّ، ثقة ثبت، من صغار [9] 28/ 815. و"وُهيب": هو ابن خالد بن عجلان الباهليّ، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت، لكنه تغيّر قليلاً بآخره [7] 21/ 427 و"أيوب" هو السختيانيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عِكْرِمة، أنَّ نَاسًا ارْتَدُّوا عَنْ الإسْلَامِ، فَحَرَّقَهُمْ عَلِيِّ بِالنَّارِ) وفي رواية للبخاريّ: "أُتيّ بزنادقة، فأحرقهم"، وسيأتي قريبًا معنى الزنادقة، وفي رواية الْحُمَيْدِيّ، عَنْ سُفْيَان:"حَرَقَ الْمُرْتَدِّينَ". ورواه ابْن أبِي شَيْبَة من وجه آخر بلفظ: "كَانَ أُنَاس يَعْبُدُونَ الأَصْنَام فِي السِّرّ"، وَعِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي "الأَوْسَط" مِنْ طَرِيق سُوَيْد بْن غَفَلَة:"أَنَّ عَليًّا بَلَغَهُ أَنَّ قَوْمًا، ارْتدُّوا عَنْ الإسْلَام، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ، فَأَطْعَمَهُمْ، ثُمَّ دَعَاهُم إِلَى الإسْلام، فَأَبَوْا، فَحَفَرَ حَفِيرَة، ثُمَّ أَتَى بهِمْ، فَضَرَبَ أَعْنَاقهمْ، وَرَمَاهُمْ فِيهَا، ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمْ الْحَطَب، فَأَحْرَقَهُم، ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ اللَّه وَرَسُوله"

(1)

.

وفي رواية لأحمد: "أن عليًّا أُتي بقوم من هؤلاء الزنادقة، ومعهم كتب، فأمر بنار، فأُجّجت، ثم أحرقهم وكتبهم". وروى ابن أبي شيبة من طريق عبد الرحمن بن عبيد، عن أبيه، قال:"كان ناس يعبدون الأصنام في السرّ، ويأخذون العطاء، فأُتي بهم عليّ، فوضعهم في السجن، واستشار الناس، فقالوا: اقتلهم، فقال: لا، بل أصنع بهم كما صُنع بأبينا إبراهيم، فحرّقهم بالنار"

(2)

.

وَزَعَمَ أَبُو الْمُظَفَّر الإسْفَرَايِنِيّ فِي "الْمِلَل والنِّحَل" أَنَّ الَّذِينَ أَحْرَقَهُمْ عَلِيّ طَائِفَة مِنْ

(1)

"فتح" 14/ 270 - 271.

(2)

"فتح" 6/ 260. "كتاب الجهاد" رقم الحديث 3017.

ص: 383

الرَّوافِض، ادَّعَوْا فِيهِ الإلَهِيَّة، وَهُمْ السَّبَائِيَّة، وَكَانَ كَبِيرهمْ عَبْد اللَّه بْن سَبَأ يَهُودِيًّا، ثُمَّ أَظْهَرَ الإسْلَام، وَابْتَدَعَ هَذِهِ الْمَقَالَة.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وَهَذَا يُمْكِن أَنْ يَكُون أَصْله، مَا رَوَيْنَاهُ فِي الْجُزْء الثَّالِث مِنْ حَدِيث أَبِي طَاهِر الْمُخَلِّص، مِنْ طَرِيق عَبْد اللَّه بْن شَرِيك الْعَامِرِيّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قِيلَ لِعَليِّ إِنَّ هُنَا قَوْمًا، عَلَى بَاب الْمَسْجِد، يَدَّعُونَ أنَّك رَبّهمْ، فَدَعَاهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: وَيْلكُمْ مَا تَقُولُون؟ قَالُوا: أَنْتَ رَبُّنَا، وَخَالِقنَا، وَرَازِقنَا، فَقَالَ: وَيْلكُمْ إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ مِثلُكُم، آكُلُ الطَّعَام كَمَا تَأْكُلُونَ، وَأَشْرَبُ كَمَا تَشْرَبُونَ، إِنْ أَطَعْت اللَّه أَثَابَنِي، إِنْ شَاءَ، وَإنْ عَصَيْته خَشِيت أَنْ يُعَذِّبنِي، فَاتَّقُوا اللَّه، وارْجِعُوا، فَأَبَوْا، فَلَمَّا كَانَ الْغَد، غَدَوْا عَلَيْهِ، فَجَاءَ قَنْبَر، فَقَالَ: قَدْ واللَّهِ رَجَعُوا، يقُولُونَ: ذَلِكَ الْكَلَام، فَقَالَ: أَدْخِلْهُمْ، فَقَالُوا: كَذَلِك، فَلَمَّا كَانَ الثَّالِث، قَالَ: لَئِن قُلْتُمْ ذَلِكَ، لأَقْتُلَنَّكُمْ بِأَخْبَثِ قِتْلَة، فَأَبْوا إِلَّا ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا قَنْبَر ائْتِنِي بِفَعَلَةٍ، مَعَهُمْ مررُوهُمْ، فَخَدَّ لهُمْ أُخْدُودًا، بَيْن باب الْمَسْجِد والقَصْر، وَقَالَ: احْفِرُوا فَأَبْعِدُوا فِي الأَرْض، وَجَاءَ بِالْحَطَبِ، فَطَرَحَهُ بِالنَّارِ فِي الأُخْدُود، وَقَالَ: إِنِّي طَارِحكُمْ فِيهَا، أَوْ تَرْجِعُوا، فَأَبَوْا أَنْ يَرجِعُوا، فَقَذَفَ بهِمْ فِيهَا، حَتَّى إِذَا احْتَرَقُوا، قَالَ [من الرجز]:

إِنِّي إِذَا رَأَيْت أَمْرًا مُنْكَرًا

أَوْقَدْت نَارِي وَدَعَوت قَنْبَرَا

وَهَذَا سَنَد حَسَن. وَأَمَّا مَا أَخْرَجهُ ابْن أَبِي شَيْبَة، مِنْ طَرِيق قَتَادَة، "أَنَّ عَليًّا أُتِى بِنَاسٍ مِنْ الزُّطّ، يَعْبُدُون وَثَنًا، فَأَحْرَقَهُمْ"، فَسَنَدُهُ مُنْقَطِع. فَإِنْ ثَبَتَ حُمِلَ عَلَى قِصَّة أُخْرَى، فَقَد أَخْرَجَ ابْن أَبِي شَيْبَة أَيْضًا، مِنْ طَرِيق أَيُّوب بْن النُّعْمَان، "شَهِدت عَليًّا فِي الرَّحْبَة، فَجَاءَهُ رَجُل، فَقَالَ: إِنَّ هُنَا أَهْل بَيْت، لَهُمْ وَثَن فِي دَار، يَعْبُدُونَهُ، فَقَامَ يَمْشِي إِلَى الدَّار، فَأَخْرَجُوا إِلَيْهِ بمِثالِ رَجُل، قَالَ: فَأَلْهَبَ عَلَيْهِمْ عَلِيٌّ الدَّارَ".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قصّة الزّطّ الذي قال عنه الحافظ: إنه منقطع، من رواية ابن أبي شيبة، سيأتي قريبًا للمصنّف موصولًا برواية قتادة، عن أنس - رضي اللَّه تعالى عنه -، فهو صحيح، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: أخرجِ الإسْمَاعِيليّ من طريق ابْن أَبِي عُمَر، وَمُحَمَّد بْن عَبَّاد، كلاهما عَنْ سُفْيَان: قَالَ: "رَأَيْت عَمْرو بْن دِينَار، وَأَيُّوب، وَعَمَّارًا الدُّهْنِيّ، اجْتَمَعُوا، فَتَذاكرُوا الَّذِين حَرَقَهُم عَلِيّ، فَقَالَ أيُّوب: فَذَكَرَ الْحَدِيث، فَقَالَ عَمَّار: لَمْ يَحْرقهُمْ، وَلَكِنْ حَفَرَ لَهُمْ حَفَائِر، وَخَرَقَ بَعْضهَا إِلَى بَعْض، ثُمَّ دَخَّنَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ عَمْرو بْن دِينَار: قَالَ الشَّاعِر [من الوافر]:

لِتَرْمِ بِيَ الْمَنَايَا حَيْثُ شَاءَتْ

إِذَا لَمْ تَرْمِ بِي فِي الْحُفرَتَيْنِ

ص: 384

إِذَا مَا أَجّجُوا حَطَبًا وَنَارًا

هُنَاكَ الْمَوْت نَقْدًا غَيْر دَيْن

انتهى. قال الحافظ: وَكَأَنَّ عَمْرو بْن دِينَار، أَرَادَ بِذَلِكَ الرَّدّ عَلَى عمّار الدُّهْنِيّ، فِي إِنْكَاره أَصْل التَّحْرِيق.

قال: ثُمَّ وَجَدْت فِي الْجُزْء الثَّالِث مِنْ حَدِيث أَبِي طَاهِر الْمُخْلِص: "حَدَّثَنَا لُوَيْنٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ"، فَذَكَرَهُ عَنْ أَيُّوب وَحْده، ثُمَّ أَوْرَدَهُ عَنْ عَمَّار وَحْده، قال ابن عُيَيْنَةَ: فَذَكَرْته لِعَمْرِو بْن دِينَار، فَأَنْكَرَهُ، وَقَالَ:"فَأَيْنَ قَوْله: أَوْقَدْت نَارِي وَدَعَوْت قَنْبَرًا"، فَظَهَرَ بهِذَا صِحَّة مَا كُنْت ظَنَنْته. انتهى

(1)

.

(قَالَ ابْنُ عَبَّاس) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، لَمّا بلغه تحريق عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه - لهم، وكان ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - حينئذ أميرًا على البصرة من قبل عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه - (لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ) أي للنهي عن التحريق، كما بيّنه بقوله (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ أَحَدًا") أي وهو التعذيب بالنار. قال في "الفتح": هذا يحتمل أن يكون مما سمعه ابن عباس من النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، ويحتمل أن يكون سمعه من بعض الصحابة. انتهى.

وقد أخرج البخاريّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: بعثنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بعث، فقال:"إن وجدتم فلانا وفلانا، فأحرقوهما بالنار"، ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، حين أردنا الخروج:"إني أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا، وإن النار لا يعذب بها إلا اللَّه، فإن وجدتموهما فاقتلوهما".

(وَلَوْ كُنْتُ أَنَا لَقَتَلْتُهُمْ) أي لأمر النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - بذلك، كما بيّنه بقوله (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ") زاد إسماعيل ابن عليّة في روايته: "فبلغ ذلك عليًّا، فقال: وَيْحَ أم ابن عبّاس"، كذا عند أبي داود، وعند الدارقطنيّ بحذف "أُمّ"، وهو محتمل أنه لم يرض بما اعترض به، ورأى أن النهي للتنزيه، وهذا بناء على أن "ويح" كلمة رحمة، فتوجّع له؛ لكونه حمل النهي على ظاهره، فاعتقد التحريم مطلقًا، فأنكر. ويحتمل أن يكون قالها رضًا بما قال، وأنه حفظ ما نسيه، بناء على أحد ما قيل في تفسير "ويح" أنها تقال بمعنى المدح، والتعجّب، كما حكاه في "النهاية"، وكأنه أخذه من قول الخليل: هي في موضع رأفة، واستملاح، كقولك للصبيّ: ويحه ما أحسنه، حكاه الأزهريّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"فتح" 6/ 260. "كتاب الجهاد".

ص: 385

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تقدّم في الحديث الماضي بيان المسائل المتعلّقة بالحديث، فلا حاجة إلى إعادتها، وباللَّه تعالى التوفيق.

[فائدة]: قال في "الفتح": الزنادِقة:- بِزَايٍ، وَنُون، وَقَاف- جَمْع زِنْدِيق- بِكَسْرِ أَوّله، وَسُكُون ثَانِيه، قَالَ أَبُو حَاتِم السِّجِسْتَانِيّ وَغَيْره: الزِّندِيق فَارِسِيّ مُعَرَّب أَصْله: "زنده كرداي" يَقُول بِدَوَامِ الدَّهْر؛ لِأَنَّ "زنده": الْحَيَاةُ، وَ"كرد": الْعَمَلُ، وَيُطْلَق عَلَى مَنْ يَكُون دَقِيق النَّظَر فِي الأُمُور. وَقَالَ ثَعْلَب: لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب زِنْدِيق، وَإِنَّمَا قَالُوا: زَنْدَقِيّ لِمَنْ يَكُونَ شَدِيد التَّحَيُّل، وَإِذَا أَرَادُوا مَا تُرِيد الْعَامَّة، قَالُوا: مُلْحِد، وَدَهْرِيّ بِفَتْحِ الدَّال- أَيْ يَقُول بِدَوَامِ الدَّهْر، وَإذَا قَالُوهَا بِالضَّمِّ، أَرَادُوا كِبَر السِّنّ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ: الزِّنْدِيق مِنْ الثَّنَوِيّةِ، كَذَا قَالَ، وَفَسَّرهُ بَعْض الشُّرّاح بِأَنَّهُ الَّذِي يدّعِي، أَنَّ مَعَ اللَّه إِلَهًا آخَر. وَتُعُقِّب بِأَنَّهُ يَلْزَم مِنْهُ أَنَّ يُطْلَق عَلَى كُلّ مُشْرِك. والتَّحْقِيق مَا ذَكَرَهُ مَنْ صنّف فِي "المِلَل" أَنَّ أَصْل الزَّنَادِقة أَتْباع دَيْصَان، ثُمَّ مانِّي، ثُمَّ مَزْدَك، الأَوَّل: بِفَتْح الدَّال، وسُكُون الْمُثنَّاة التَّحْتَانِيَّة، بَعْدهَا صَاد مُهْمَلَة. والثَّانِي: بِتَشْدِيدِ النُّون، وَقَدَ تُخَفَّف، وَالْيَاء خَفِيفَة. والثَّالِث: بِزَايٍ سَاكِنَة، وَدَال مُهْمَلَة مَفْتُوحَة، ثُمَّ كاف. وَحَاصِل مَقَالَتهمْ: أَنَّ النُّور وَالظُّلمَة قَدِيمَانِ، وَأَنَّهُمَا امْتَزَجَا، فَحَدَثَ الْعَالَم كُلُّهُ مِنْهُمَا، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْل الشَّرّ، فَهُوَ مِنْ الظُّلْمَة، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْخَيْر، فَهُوَ مِنْ النُّور. وَأَنَّهُ يَجِب السَّعْي فِي تَخْليص النُّور مِنْ الظُّلْمَة، فَيَلْزَم إِزْهَاق كُلّ نَفْس، وَإلَى ذَلِكَ أَشَارَ الْمُتَنَبِّي، حَيْثُ قَالَ فِي قَصِيدَته الْمَشْهُورَة [من الطويل]:

وَكَمْ لِظَلَامِ اللَّيْلِ عِنْدكَ مِنْ يَدٍ

تُخَبِّر أَنَّ الْمَانَوِيَّةَ تَكْذِبُ

وَكَانَ بَهْرَام جَدُّ كِسْرَى، تَحَيَّلَ عَلَى مَانِّي، حَتَّى حَضَرَ عِنْده، وَأَظْهَرَ لَهُ أَنَّهُ قَبِلَ مَقَالَته، ثُمَّ قَتَلَهُ، وَقَتَلَ أَصْحَابه، وَبَقِيَت مِنْهُمْ بَقَايَا، اتَّبَعُوا مَزْدَك الْمَذْكُور، وَقَامَ الإِسْلَام، والزِّندِيق يُطْلَق عَلَى مَنْ يَعْتَقِد ذَلِكَ، وَأَظْهَرَ جَمَاعَة مِنْهُمْ الإسْلَام، خَشْيَة الْقَتْل، وَمِنْ ثَمَّ أُطْلِقَ الاسْمُ عَلَى كُلّ مَنْ أَسَرَّ الْكُفْر، وَأَظْهَرَ الإسْلَام، حَتَّى قَالَ مَالِك: الزَّنْدَقَة مَا كَانَ عَلَيْهِ المُنَافِقُونَ، وَكَذَا أَطْلَقَ جَمَاعَة مِنْ الْفُقَهَاء الشَّافِعِيَّة، وَغَيْرهمْ، أَنَّ الزِّنْدِيق: هُوَ الَّذِي يُظْهِر الإسْلَام، ويُخْفِي الْكُفْر، فَإِنْ أَرَادُوا اشْتِرَاكهمْ فِي الْحُكْم، فَهُوَ كَذلِكَ، وَإِلَّا فَأَصْلهمْ مَا ذَكَرْت.

وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيّ فِي لُغَات "الرَّوْضَة": الزِّنْدِيق الَّذِي لَا يَنْتَحِل دِينًا. وَقَالَ مُحَمَّد بْن مَعْن فِي "التَّنْقِيب عَلَى الْمُهَذَّب": الزَّنَادِقة مِنْ الثَّنَوِيَّةِ، يَقُولُون بِبَقَاءِ الدَّهْر، وَبالتَّنَاسُخِ، قَالَ: وَمِنْ الزَّنَادِقَة الْبَاطِنِيَّة، وَهُمْ قَوْم، زَعَمُوا أَنَّ اللَّه خَلَقَ شَيْئًا، ثُمَّ خَلَقَ مِنْهُ شَيْئًا آخَر، فَدَبَّرَ الْعَالَم بِأَسْرِهِ، وَيُسَمُّونَهُمَا الْعَقْل، وَالنَّفْس، وَتَارَة الْعَقْل الأَوَّل، وَالْعَقْل

ص: 386

الثَّانِي، وَهُوَ مِنْ قَوْل الثَّنَوِيَّةِ فِي النُّور وَالظُّلمَة، إِلاَّ أَنَّهُمْ غَيَّرُوا الِاسْمَيْنِ، قَالَ: وَلَهُمْ مَقَالَات سَخِيفَة فِي النُّبُوَّات، وَتَحْرِيف الآيَات، وَفَرَائِض الْعِبَادَات. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ سَبَب تَفْسِير الْفُقَهَاء الزِّنْدِيق، بِمَا يُفَسَّر بِهِ الْمُنَافِقُ، قَوْلُ الشَّافِعِيّ فِي "المُخْتَصَر": وَأَيّ كُفْر ارْتَدَّ إِلَيْهِ، مِمَّا يُظْهِر أَوْ يُسِرّ منْ الزَّنْدَقَةِ، وَغَيْرهَا، ثُمَّ تَابَ، سَقَطَ عَنْهُ الْقَتْل. وَهَذَا لَا يَلْزَم مِنْهُ اتِّحاد الزِّنْدِيق وَالْمُنَافِق، بَلْ كُلّ زِنْدِيق مُنَافِق، مِنْ غَيْر عَكْس، وَكَانَ مَنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ فِي الْكِتَاب وَالسُّنَّة، الْمُنَافِق يُظْهِر الإسْلام، وَيُبْطِن عِبَادَة الْوَثَن، أَوْ الْيَهُودِيَّة، وَأَمَّا الثَّنَوِيَّة، فَلَا يُحْفَظ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ أَظْهَرَ الإسْلام، فِي الْعَهْد النَّبَوِيّ. وَاللَّه أَعْلَمُ. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّقَلَة، فِي الَّذِينَ وَقَعَ لَهُمْ، مَعَ عَلِيّ مَا وَقَعَ، عَلَى مَا تقدّم بيانه.

وَاشْتَهَرَ فِي صَدْر الإسْلَام الْجَعْد بْن دِرْهَم، فَذَبَحَهُ خَالِد الْقَسْريّ، فِي يَوْم عِيد الَأضْحَى، ثُمَّ كَثُرُوا فِي دَوْلَة الْمَنْصُور، وَأَظْهَرَ لَهُ بَعْضهمْ مُعْتَقَده، فَأَبَادَهُم بِالْقَتْلِ، ثُمَّ ابْنه الْمَهْدِيّ، فَأَكْثَرَ فِي تَتَبُّعهمْ وَقَتْلهمْ، ثُمَّ خَرَجَ فِي أَيَّام الْمَأْمُون بَابَك- بِمُوَحَّدتَيْنِ مَفْتُوحَتَينِ، ثُمَّ كَاف مُخَفَّفَة- الْخُرَّمِيّ

(1)

-بِضَمِّ الْمُعْجَمَة، وَتَشْدِيد الرَّاء- فَغَلَبَ عَلَى بِلاد الْجَبَل، وَقَتَلَ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَهَزَمَ الْجُيُوش، إِلَى أَنْ ظَفِرَ بِهِ الْمُعْتَصِم، فَصَلَبَهُ، وَلَهُ أَتْبَاع، يُقَال لَهُمْ: الْخُرَّمِيَّة، وَقِصَصهمْ في التَّوَارِيخ مَعْرُوفَة. انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: سيأتي اختلاف العلماء، هل يُستتاب الزنديق، أم يقتل بدون استتابة؟، في الباب التاليّ، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4063 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.

و"محمد بن بكر": هو الْبُرْسانيّ، أبو عثمان البصريّ. و"إسماعيل": هو ابن عُليّة،

(1)

"الْخُرَّميّ" بضمّ الخاء المعجمة، وتشديد الراء المفتوحة، وكسر الميم: هذه النسبة إلى طائفة من الباطنيّة، وإلى جدّ المنتسب إليه، فأما الباطنيّة، فإنما قيل لهم الخرمدينيّة؛ لإباحتهم الحرمات، من شرب الخمر، والزنا، وغير ذلك، مما يتلذّذون به، فلما شابهوا بهذه الإباحة المزدكيّة من المجوس الذين خرجوا أيام قباذ، وأباحوا النساء، والمحرّمات، وقتلهم أنو شروان، قيل لهم: الخرمدينية؛ لأن المزدكيّة، كانوا يقال لهم هذا اللقب أيضًا.

وأما النسبة إلى الجدّ، فهو الحسين بن إدريس الأنصاريّ الخرّميّ المعروف بابن خرّم. انتهى "اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 436 - 437، و"الأنساب" 2/ 352.

(2)

"فتح" 14/ 271 - 272. "كتاب استتابة المرتدّين".

ص: 387

ورواية ابن جُريج عنه من رواية الأكابر عن الأصاغر، فإن ابن جريج من شيوخه، كما ذكر ذلك في "تهذيب التهذيب" 1/ 140 - من ترجمة إسماعيل. "ومعمر": هو ابن راشد.

[تنبيه]: ذكر الحافظ المزّيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "تحفة الأشراف" 5/ 109 - عن المصنّف، أنه قال:"محمد بن بكر ليس بالقويّ في الحديث". ونقله أيضًا في "تهذيب التهذيب" في ترجمة محمد بن بكر، ونصّه: وقال النسائيّ في "كتاب المحاربة" من "سننه": ليس بالقويّ. انتهى.

قال الجامع: لم أر هذا الكلام في "كتاب المحاربين"، لا في "المجتبى"، ولا في "الكبرى"، فاللَّه تعالى أعلم.

ثم إن ما نُقل عن المصنّف في محمد بن بكر نقل نحوه عن ابن عمّار الموصليّ، فإنه قال: لم يكن صاحب حديث، تركناه، لم نسمع منه. لكن الجمهور على توثيقه، فقد وثّقه ابن معين، وأبو داود، والعجليّ، وابن قانع، وابن سعد وابن حبّان، وقال أحمد: صالح الحديث، وقال أبو حاتم: شيخٌ، محلّه الصدق

(1)

.

والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4064 -

(أَخْبَرَنِي هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُرَارَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "هلال بن العلاء": هو أبو عمرو الرَّقّيّ، صدوق [11] 10/ 1199 من أفراد المصنّف.

و"إسماعيل بن عبد اللَّه بن زُرارة"، أبو الحسن الرقّيّ، صدوقٌ تكلّم فيه الأزديّ بلا حجّة [10].

روى عن حماد بن زيد، وشريك، وإسماعيل بن عيّاش، وشعيب بن صفوان، وعبّاد بن العوّام، وغيرهم. وعنه ابنه إبراهيم، وإسماعيل سمّويه، وأحمد بن يونس الضبّيّ، وعبد اللَّه بن أحمد بن حنبل، وهلال بن العلاء، وأبو شعيب الحرّاني، وأبو بكر الصغانيّ، وجماعة.

ذكره ابن حبّان في "الثقات". قال ابن عساكر: روى عنه ابن ماجه، وروى النسائيّ

(1)

انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" 3/ 522 - 523.

ص: 388

عن رجل عنه. قال الحافظ المزّيّ: فأما ابن ماجه فقد تبيّن أنه لم يرو إلا عن القرشيّ، وأما النسائيّ، فلم نقف على روايته عن رجل عنه. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن في هذا الحديث أن النسائيّ روى عن هلال بن العلاء، عنه، والحمد للَّه، وقد ذكر جماعة من الحفاظ أيضًا بأن البخاريّ روى عنه، منهم الدارقطنيّ، والْبَرْقانيّ، والحاكم، وأبو إسحاق الحَبّال، وأبو عبد اللَّه بن منده، وأبو الوليد الباجيّ، وابن خلفون، وابن طاهر. انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" 1/ 156 - 157.

والحاصل أن رواية المصنّف له ثابتة، دون ريب، ولا شكّ، وكذا رواية البخاريّ عنه، على ما قاله هؤلاء الأئمة الحفّاظ، وهم القدوة في ذلك. واللَّه تعالى أعلم.

و"عبّاد بن العوّام": هو الكلابيّ، أبو سهل الواسطيّ، ثقة [8] 2/ 3907.

و"سعيد": هو ابن أبي عروبة.

والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4065 -

(أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، وهو الكنديّ المسروقيّ، أبو عيسى الكوفيّ، وهو ثقة، من كبار [11] 74/ 91.

و"محمد بن بشر": هو العبديّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقة حافظ [9] 5/ 882.

و"سعيد": هو ابن أبي عروبة. و"الحسن": هو ابن أبي الحسن يسار البصريّ.

والحديث مرسلٌ، صحيح بما تقدّم.

وقوله (قَالَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ) النسائيّ (وَهَذَا أَوْلى بِالصَّوابِ، مِنْ حَدِيثِ عَبَّادٍ) يعني أن كونه من رواية سعيد، عن قتادة، عن الحسن، مرسلاً هو الصواب، من كونه عن سعيد، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عبّاس موصولًا.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: إنما رجّح المصنّف الإرسال على الوصل؛ لأن محمد بن بشر أحفظ من عبّاد بن العوّام، فإنه وإن كان ثقة إلا أن في روايته عن سعيد بن أبي عروبة اضطرابًا، كما قاله الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى-، فقد نقل في "تهذيب التهذيب" في ترجمته، عن الأثرم، عن أحمد أنه قال: مضطرب الحديث عن سعيد بن أبي عروبة. انتهى

(1)

.

(1)

"تهذيب التهذيب" 2/ 279 - 280.

ص: 389

لكن الحديث صحيحٌ موصولًا بما تقدّم من الأسانيد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4066 -

(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عِيسَى، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"الحسين بن عيسى": هو أبو عليّ البسطامي القومسيّ، نزيل نيسابور، صدوقٌ، صاحب حديث [10] 69/ 86.

و"عبد الصمد": هو ابن عبد الوارث بن سعيد العنبريّ مولاهم، أبو سهل البصريّ، صدوقٌ [9] 122/ 174. و"هشام": هو ابن أبي عبد اللَّه الدستوائيّ البصريّ.

والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4067 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ عَلِيًّا أُتِيَ بِنَاسٍ مِنَ الزُّطِّ، يَعْبُدُونَ وَثَنًا، فَأَحْرَقَهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الإسناد هو الإسناد الماضي، وشيخ المصنّف هو أحد المشايخ التسعة الذين روى عنهم أصحاب الأصول بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة، والسند كله مسلسل بالبصريين.

وقوله: "أن عليًّا" هو ابن أبي طالب - رضي اللَّه تعالى عنه -. وقوله: "أُتي" بالبناء للمفعول. وقوله: "بناس من الزُّطّ" قال في "القاموس"، و"شرحه":"الزّطّ" بالضمّ: جِيلٌ من الناس، كما في "الصحاح"، وقد جاء ذكره في "البخاريّ" في صفة موسى عليه السلام:"كأنه من رجال الزُّطّ". واختُلف فيهم: فقيل: هم السيابجة، قومٌ من السند بالبصرة. وقال القاضي عياض: هم جنسٌ من السودان، طوال، ومثله في "التوشيح" للجلال، وزاد:"مع نحافة". ونقل الأزهريّ عن الليث: أنهم جِيلٌ من الهند، إليهم تُنسب الثياب الزُّطِّيَة، قال: وهو معرّب جَتّ بالفتح، بالهنديّة. قال الصاغانيّ: أما الليث، فلم يقل في كتابه هذا، وأما جَتْ بالهنديّة، فصحيحٌ، بفتح الجيم، وكذلك هو مضبوطٌ في نسخة صححها الأزهريّ، وعليها خطّه بفتح الجيم، وعلى هذا القياسُ يقتضي فتح مُعرَّبه أيضًا، وفي "الصحاح": الواحد زُطّيّ، كالروم والروميّ، والزنج والزنجيّ. وقال ابن دُريد: الزُّطّ: هذا الجِيلُ، وليس بعربيّ محضٍ، وقد تكلّمت به العرب، وأنشد [من الطويل]:

ص: 390

فَجِئْنَا بِحَيِّ وَائِلٍ وَبِلَفِّهَا

وَجَاءَتْ تَمِيمٌ زُطُّهَا وَالأَسَاوِرُ

وقال أبو النجم [من الرجز]:

جَارِيةٌ إِحْدَى بَنَاتِ الزُّطّ

ذَاتُ جِهَادٍ مُضْغَطٍ مُلطٍّ

وكان خالد بن عبد اللَّه أعطى أبا النجم جاريةٌ من سبي الهند، وله فيها أرجوزةٌ، أوّلُها:

عَلِقْتُ خودًا مِنْ بَنَاتِ الزُّطِّ

انتهى "القاموس"، مع شرحه "تاج العروس"

(1)

.

وقوله: "يعبدون وثنًا" أي بعد ما أسلموا. وقوله: "فأحرقهم" قال السنديّ: قالوا: كان ذلك منه عن رأي، واجتهاد، لا عن توقيف، ولهذا لمّا بلغه قول ابن عبّاس، استحسنه، ورجع إليه، كما تدلّ عليه الروايات. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: يشير السنديّ بقوله هذا إلى ما تقدّم من قول عليّ، لما بلغه إنكار ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهم -:"وَيْحَ أُمِّ ابْنِ عبَّاس"، وفي رواية:"ويح ابن عبّاس". لكن هذا الكلام ليس نصًّا في الاستحسان، بل هُو مُحْتَمَل له، ومحتملٌ للإنكار عليه، وقد تقدّم بيان ذلك، فلا تغفُل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4068 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنِي حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ، ثُمَّ أَرْسَلَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمَّا قَدِمَ، قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، فَأَلْقَى لَهُ أَبُو مُوسَى وِسَادَةً؛ لِيَجْلِسَ عَلَيْهَا، فَأُتِيَ بِرَجُلٍ، كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ، ثُمَّ كَفَرَ، فَقَالَ مُعَاذٌ: لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ، قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا قُتِلَ قَعَدَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن بشّار) بُندار البصريّ، ثقة حافظ [10] 24/ 27.

2 -

(حماد بن مسعدة) التميميّ، أبو سعيد البصريّ، ثقة [9] 97/ 1040.

[تنبيه]: وقع في نسخ "المجتبى" غلطٌ،، ونصّه:"حدّثنا محمد بن بشار، وحدّثني حماد بن مسعدة، قالا: حدثنا قرّة الخ"، بوا العطف في "وحدّثني"، وضمير التثنية في "قالا"، وهو غلط فاحش؛ لأن ظاهره أن حماد بن مسعدة شيخ ثان للمصنّف، وليس

(1)

"القاموس"، مع شرحه "تاج العروس" 5/ 146 - 147.

ص: 391

كذلك، وإنما هو شيخٌ لمحمّد بن بشّار، فهو من الطبقة التاسعة، مات سنة (202) قبل ولادة المصنّف بأكثر من عشر سنين، وإنما يروي عنه محمد بن بشّار، والصواب ما في "الكبرى"، ونصّه:"حدّثنا محمد بن بشّار، حدّثني حماد بن مسعدة، قال: حدثني قرّة الخ"، فقائل: حدّثني حماد هو محمد بن بشّار، وقائل:"حدّثني قرّة" هو حماد بن مسعدة، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

3 -

(قُرّة بن خالد) السدُوسيّ البصريّ، ثقة ضابطٌ [6] 4/ 4.

4 -

(حُميد بن هلال) أبو نصر العدويّ البصريّ، ثقة عالمٌ [3] 4/ 4.

5 -

(أبو بُردة بن أبي موسى الأشعريّ) اسمه عامر، وقيل: الحارث، ثقة [3] 3/ 3.

6 -

(أبوه) عبد اللَّه بن قيس بن سُليم بن حضّار، أبو موسى الأشعريّ الصحّابيّ المشهور، - رضي اللَّه تعالى عنه -، توفّي سنة (50)، وقيل: بعدها، وتقدّمت ترجمته في 3/ 3. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى أبي بردة، وهو كوفيّ، وأبوه كوفيّ بصريّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، والابن عن أبيه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيّ، عَنْ أَبِيهِ) أبي موسى الأشعريّ رضي اللَّه تعالى عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ) وقد تقدّم في "كتاب الطهارة" سبب بعث صلّى اللَّه تعالى عليه وسلم له، فقد رواه من طريق، يحيى القطّان، عن قرة بن خالد عن حميد بن هلال، قال: حدثني أبو بردة، عن أبي موسى، قال: أقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومعي رجلان من الأشعريين، أحدهما عن يميني، والآخر عن يساري، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يستاك، فكلاهما سأل العمل، قلت: والذي بعثك بالحق نبيا، ما أطلعاني على ما في أنفسهما، وما شعرت أنهما يطلبان العمل، فكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته قَلَصَت، فقال:"إنا لا، أو لن نستعين على العمل من أراده، ولكن اذهب أنت"، فبعثه على اليمن، ثم أردفه معاذ بن جبل رضي الله عنهما.

وكان بعثه بعد الرجوع من غزوة تبوك؛ لأنه شهد غزوة تبوك مع النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -. واستُدلّ به على أن أبا موسى - رضي اللَّه تعالى عنه - كان عالمًا فطنًا

ص: 392

حاذقًا، ولولا ذلك لم يُولّه النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - الإمارة، ولو كان فوّض الحكم لغيره لم يحتج إلى توصيته بما وصّاه به، حيث قال له، ولمعاذ:"يسّرا، ولا تُعسّرا، وبشّرا، ولا تُنفّرا، وتطاوعا"، ولذلك اعتمد عليه عمر، ثم عثمان، ثم عليّ. وأما الخوارج، والروافض، فطعنوا فيه، ونسبوه إلى الغفلة، وعدم الفطنة؛ لما صدر منه في التحكيم بصِفِّين. قال ابن العربيّ وغيره: والحقّ أنه لم يصدُر منه ما يقتضي وصفه بذلك، وغاية ما وقع منه أن اجتهاده أدّاه إلى أن يجعل الأمر شُورَى بين من بقي من أكابر الصحابة من أهل بدر، ونحوهم، لما شاهد من الاختلاف الشديد بين الطائفتين بصفّين، وآل الأمر إلى ما آل إليه. قاله في "الفتح"

(1)

.

(ثُمَّ أَرْسَلَ مُعَاذَ بْنَ جَبَل) بن عمرو بن أوس الأنصاريّ الخزرجي، من أعيان الصحابة، شهد بدرًا وما بعدها، وكان إليه المنتهى في العلم بالأحكام والقرآن، مات - رضي اللَّه تعالى عنه - بالشام سنة (18) على المشهور، وتقدّمت ترجمته في 42/ 587 (بَعْدَ ذلِك) هذا نصّ في كون بعثه بعد أبي موسى الأشعريّ - رضي اللَّه تعالى - عهما، وظاهر رواية البخاريّ تقتضي أنهما أُرسلا معًا، ولفظه من طريق عبد الملك بن عُمير، عن أبي بردة، قال: بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أبا موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن، قال: وبعث كلّ واحد منهما على مِخْلاف

(2)

، قال: واليمن مخلافان، ثم قال:"يسرا، ولا تعسرا، وبَشِّرا، ولا تنفّرا"، فانطلق كل واحد منهما إلى عمله، وكان كل واحد منهما، إذا سار في أرضه، كان قريبا من صاحبه، أحدث به عهدا، فسلم عليه، فسار معاذ في أرضه، قريبًا من صاحبه أبي موسى، فجاء يسير على بغلته، حتى انتهى إليه، وإذا هو جالس، وقد اجتمع إليه الناس، وإذا رجل عنده، قد جُمِعت يداه إلى عنقه، فقال له معاذ: يا عبد اللَّه بن قيس، أَيُّمَ هذا؟ قال: هذا رجل كفر بعد إسلامه، قال: لا أنزل حتى يُقتَل، قال: إنما جيء به لذلك، فأنزل، قال: ما أنزل حتى يُقتل، فأمر به، فقُتِل، ثم نزل، فقال: يا عبد اللَّه، كيف تقرأ القرآن؟ قال: أَتَفَوَّقُه تَفَوُّقًا، قال: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: أنام أول الليل، فأقوم، وقد قضيت جزئي من النوم، فأقرأ ما كتب اللَّه لي، فأحتسب نومتي، كما أحتسب قومتي.

وفي رواية للبخاري في "كتاب استتابة المرتدّين": "ثم أتبعه معاذ بن جبل"، فقال في "الفتح": ظاهره أنه ألحقه به بعد أن توجّه، قال: لكن تقدّم في "المغازي" بلفظ: "بعث

(1)

"فتح" 8/ 387 - 388. "كتاب المغازي" رقم الحديث 4342.

(2)

المخلاف بكسر الميم، وسكون الخاء المعجمة، آخره فاء: هو الكورة، والإقليم. قاله في "الفتح". 8/ 386.

ص: 393

النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - أبا موسى، ومعاذًا إلى اليمن، فقال: يسّرا، ولا تعسّرا" الحديث. ويُحمَل أنه أضاف معاذًا إلى أبي موسى بعد سبق ولايته، لكن قبل توجّهه، فوصّاهما عند التوجّه بذلك. ويمكن أن يكون المراد أنه أوصى كلًّا منهما، واحدًا بعد آخر. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاحتمال الأخير هو الأقرب عندي؛ لأنه اختُلف في وقت بعث معاذ - رضي اللَّه تعالى عنه - إلى اليمن، فقيل: سنة عشر من الهجرة، قبل حجة النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، كما ذكره البخاريّ في أواخر "كتاب المغازي". وقيل: كان ذلك في أواخر سنة تسع عند منصرفه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - من تبوك. رواه الواقديّ بإسناده إلى كعب بن مالك، وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" عنه، ثم حكى ابن سعد أنه كان في ربيع الآخر سنة عشر. وقيل: بعثه عام الفتح سنة ثمان. واتفقوا على أنه لم يزل على اليمن إلى أن قَدِم في عهد أبي بكر - رضي اللَّه تعالى عنه -، ثم توجّه إلى الشام، فمات بها. واختُلف هل كان معاذٌ واليًا، أو قاضيًا؟، فجزم ابن عبد البرّ بالثاني، والغسّانيّ بالأول. قاله في "الفتح"

(2)

.

فالظاهر من هذا أنهما لم يذهبا إلى اليمن معًا، بل ذهب كلّ منهما وحده. واللَّه تعالى أعلم.

(فَلَمَّا قَدِمَ) أي معاذ - رضي اللَّه تعالى عنه - إلى اليمن (قَالَ: أَيُّها النَّاسُ، إِنِّي رَسُولُ رسُولِ اللَّهِ إِليْكُمْ) إنما ذكر لهم ذلك ليعرفوا له حقّه، ويستجيبوا دعوته؛ لأنهم إذا لم يعلموا ربّما لا يتساهلون في حقّه (فَأَلقَى لَهُ أَبُو مُوسَى) الأشعريّ (وِسَادَةً) بكسر الواو: المِخَذة، والجمع وِسادات، ووَسَائدُ، والوِسَاد بغير هاء: كلُّ ما يُتوسّد به، من قُماش، وتُراب، وغير ذلك. ويقال: الوِساد لغةٌ في الوسادة. قاله في "المصباح".

والمعنى أن أبا موسى فرش لمعاذ - رضي اللَّه تعالى عنهما - وسادة (لِيَجْلِسَ عَلَيْهَا) قال في "الفتح": وقد ذكر الباجيّ، والأصيليّ، فيما نقله عياضٌ عنهما أن المراد بقول ابن عبّاس:"فاضطجعتُ في عَرْض الوسادة": الفراشُ. وردّه النوويّ، فقال: هذا ضعيفٌ، أو باطلٌ، وإنما المراد بالوسادة ما يُجعل تحت رأس النائم، وهو كما قال، قال: وكانت عادتهم أن من أرادوا إكرامه، وضعوا الوسادة تحته مبالغة في إكرامه. وقد وقع في حديث عبد اللَّه بن عمرو: إن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - دخل عليه، فألقى له وِسادةً"، كما تقدّم في "الصيام"، وفي حديث ابن عمر: أنه دخل على عبد اللَّه

(1)

"فتح" 14/ 275.

(2)

"فتح" 4/ 126 - 127 "كتاب الزكاة" رقم الحديث 1496.

ص: 394

ابن مطيع، فطرح له وسادة، فقال له: ما جئتُ لأجلس". أخرجه مسلم، ولم أر في شيء من كتب اللغة أن الفراش يُسمّى وسادة. انتهى.

(فَأُتِي بِرَجُلِ) ببناء الفعل للمفعول: أي جيء أبو موسى - رضي اللَّه تعالى عنه - برجل (كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ، ثُمَّ كَفَرَ) وفي رواية مسلم، وأبي داود:"ثم راجع دينه دين السوء"، ولأحمد من طريق أيوب، عن حُميد بن هلال، عن أبي بُردة، قال:"قَدِم معاذ بن جبلٍ على أبي موسى، فإذا رجلٌ عنده، فقال: ما هذا؟ "، فذكر مثله، وزاد:"ونحن نُريده على الإسلام منذ -أحسبه- شهرين"، وأخرج الطبرانيّ من وجه آخر، عن معاذ، وأبي موسى:"أن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - أمرهما أن يعلّما الناس، فزاد معاذٌ أبا موسى، فإذا عنده رجلٌ، موثَقٌ بالحديث، فقال: يا أخي أوَ بُعِثت تُعذّب الناس، إنما بُعثنا نُعلّمهم دينهم، ونأمرُهم بما ينفعهم، فقال: إنه أسلم، ثم كفر، فقال: والذي بعث محمدًا بالحقّ، لا أبرح حتى أحرّقه بالنار"

(1)

.

(فَقَالَ: مُعَاذٌ) - رضي اللَّه تعالى عنه - بعد أن سأل سبب قيده، ففي رواية البخاريّ المذكورة:"وإذا رجلٌ عنده، قد جُمِعت يداه إلى عُنُقه، فقال له معاذٌ: يا عبد اللَّه بن قيس، أَيُّمَ هذا؟، قال: هذا رجلٌ كفر بعد إسلامه، قال: لا أنزِل حتى يُقتل" الحديث (لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ) بالبناء للمفعول (قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوفٍ: أي هذا قضاء اللَّه تعالى، وقضاء رسوله صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، ويجوز نصبه على أنه مفعول لفعل محذوف: أي اقضِ قضاء اللَّه تعالى، وقضاء رسوله صلّى اللَّه تعالى عليه وسلم (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) أي قال معاذ هذا الكلام ثلاث مرّات. وفي رواية أبي داود أنهما كرّرا القول، أبو موسى يقول: اجلس، ومعاذ يقول: لا أجلس، فعلى هذا فقوله:"ثلاث مرّات" من كلام الراوي، لا تتمّة كلام معاذ. وزاد في رواية بعد قوله:"قضاء اللَّه، ورسوله: إن من رجع عن دينه أو قال-: "بدّل دينه، فاقتلوه".

(فَلَمَّا قُتِلَ قَعَدَ) وفي رواية: "فقال: واللَّه لا أقعد حتى تضربوا عنقه، فضُرب عنقه".

وفي رواية الطبرانيّ: "فأُتي بحطب، فألهب فيه النارُ، فكتفه، وطرحه فيها".

قال الحافظ: ويمكن الجمع بأنه ضَرَب عنقه، ثم ألقاه في النار. ويؤخذ منه أن معاذًا، وأبا موسى كانا يريان جواز التعذيب بالنار، وإحراق الميت بالنار، مبالغة في إهانته، وترهيبًا عن الاقتداء به. وأخرج أبو داود من طريق طلحة بن يحيى، ويزيد بن عبد اللَّه، كلاهما عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال:"قَدِمَ عليّ معاذ"، فذكر قصّة

(1)

"فتح" 14/ 276. "كتاب استتابة المرتدّين".

ص: 395

اليهوديّ، وفيه:"فقال: لا أنزل عن دابّتي حتى يُقتل، فقُتل"، قال أحدهما: وكان قد استُتيب قبل ذلك. وله من طريق أبي إسحاق الشيبانيّ، عن أبي بُردة:"أُتي أبو موسى برجل قد ارتدّ عن الإسلام، فدعاه، فأبى عشرين ليلة، أو قريبًا منها، وجاء معاذ، فدعاه، فأبى، فضرب عنقه". قال أبو داود: رواه عبد الملك بن عُمير، عن أبي بُردة، فلم يذكر الاستتابة، وكذا ابن فُضيل، عن الشيبانيّ. وقال المسعوديّ، عن القاسم- يعني ابن عبد الرحمن- في هذه القصّة:"فلم ينزل حتى ضرب عنقه، وما استتابه".

قال الحافظ: وهذا يعارضه الرواية المثبتة أن معاذًا استتابه، وهي أقوى من هذه، والرواياتُ الساكتةُ عنها لا تعارضها، وعلى تقدير ترجِيح رواية المسعوديّ، فلا حجّة فيه لمن قال: يُقتل المرتدّ بلا استتابة؛ لأن معاذًا يكون اكتفى بما تقدّم من استتابة أبي موسى. انتهى كلام الحافظ

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي موسى الأشعريّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-14/ 4068 - وفي "الكبرى" 14/ 3529. وأخرجه (خ) في "المغازي" 4342 و 4343 و 4345 (م) في "الإمارة" 1824 (د) في "الحدود" 4354 و 4355 (أحمد) في "أول مسند الكوفيين" 19167. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم المرتدّ، وهو وجوب قتله، وهو مجمع عليه، وإنما الخلاف في حكم استتابته، وسيأتي البحث عنه في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): أنه ينبغي للشخص أن يُعرّف برتبته لمن لا يعرفه، حتّى يستفيد منه، ولا يُقصّر في حقّه، فإن معاذًا - رضي اللَّه تعالى عنه - لَمّا أتى قال:"أيها الناس، إني رسول رسول اللَّه إليكم". (ومنها): تزاور الإخوان، والأمراء، والعلماء. (ومنها): إكرام الضيف، حيث إن أبا موسى ألقى لمعاذ - رضي اللَّه تعالى عنهما - وسادة؛ إكرامًا له. (ومنها): المبادرة إلى إنكار المنكر. (ومنها): وجوب إقامة الحدّ على من وجب عليه. (ومنها): ما قاله القرطبيّ: أن ظاهره يدلّ على أنه - صلى اللَّه تعالى عليه

(1)

"فتح" 14/ 276.

ص: 396

وسلم - ولّى معاذًا على أبي موسى، ولم يَعزل أبا موسى، وعلى هذا يدلّ تنفيذ مُعاذ الحكم بقتل المرتدّ، وإمضاؤه. ويحتمل أن يكون - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - ولّى كلّ واحد منهما على عمل غير عمل الآخر، فإما في الجهات، وإما في الأعمال، وهذا هو الصحيح بدليل ما وقع في "صحيح البخاريّ" أن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - ولّى معاذًا على مِخْلاف من اليمن، وأبا موسى على مخلاف، والمِخْلافُ واحد المخاليف: وهي الْكُوَر. انتهى

(1)

.

(ومنها): أن بعضهم استدلّ به على أن المرتدّ يُقتل، ولا يُستتاب. وتُعقّب بأنه تقدّم أن هذا اليهوديّ استتيب عدّة أيام، فلم يتب.

(ومنها): أن فيه حجة على أن لوُلاة الأمصار إقامةَ الحدود في القتل، والزنى، وغيرهما، قال القرطبيّ: وهو مذهب كافّة العلماء: مالك، والشافعيّ، وأبي حنيفة، وغيرهم. واختُلف في إقامة ولاة المياه، وأشباههم لذلك، فرأى أشهب ذلك، إذا جَعَل ذلك لهم الإمام. وقال ابن القاسم نحوه. وقال الكوفيّون: لا يُقيمه إلا فقهاء الأمصار، ولا يُقيمه عاملُ السواد.

واختُلف في القضاة إذا كانت ولايتهم مطلقةً، غير مقيّدة بنوع من الأحكام، فالجمهور على أن جميع ذلك لهم، من إقامة الحدود، وإثبات الحقوق، وتغيير المناكر، والنظر في المصالح، أكان الحقّ لآدميّ، أو للَّه تعالى، وحكمه عندهم حكم الوصيّ المطلق اليد في كلّ شيء، إلا ما يَختصّ بضبط بيضة الإسلام، من إعداد الجيوش، وجباية الخراج. واختلف أصحاب الشافعيّ، هل له نظر في مال الصدقات، والتقديم للجمع والأعياد، أم لا؟ على قولين. وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا نظر له في إقامة حدّ، ولا في مصلحة إلا لطالب مُخاصم، وحكمه عندهم حكم الوكيل. انتهى كلام القرطبيّ

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4069 -

(أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، قَالَ: زَعَمَ السُّدِّيُّ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ، أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ، إِلاَّ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ، وَامْرَأَتَيْنِ، وَقَالَ:«اقْتُلُوهُمْ، وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ، مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ» ، عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ، وَمِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي السَّرْحِ، فَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ، فَأُدْرِكَ

(1)

"المفهم" 4/ 17 - 18. "كتاب الإمارة".

(2)

"المفهم" 4/ 18 - 19. "كتاب الإمارة".

ص: 397

وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَاسْتَبَقَ إِلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فَسَبَقَ سَعِيدٌ عَمَّارًا، وَكَانَ أَشَبَّ الرَّجُلَيْنِ، فَقَتَلَهُ، وَأَمَّا مِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ، فَأَدْرَكَهُ النَّاسُ فِي السُّوقِ، فَقَتَلُوهُ، وَأَمَّا عِكْرِمَةُ، فَرَكِبَ الْبَحْرَ، فَأَصَابَتْهُمْ عَاصِفٌ، فَقَالَ أَصْحَابُ السَّفِينَةِ: أَخْلِصُوا، فَإِنَّ آلِهَتَكُمْ، لَا تُغْنِي عَنْكُمْ شَيْئًا هَاهُنَا، فَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ يُنَجِّنِي مِنَ الْبَحْرِ، إِلاَّ الإِخْلَاصُ، لَا يُنَجِّينِي فِي الْبَرِّ غَيْرُهُ، اللَّهُمَّ إِنَّ لَكَ عَلَيَّ عَهْدًا، إِنْ أَنْتَ عَافَيْتَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ، أَنْ آتِيَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، حَتَّى أَضَعَ يَدِي فِي يَدِهِ، فَلأَجِدَنَّهُ عَفُوًّا كَرِيمًا، فَجَاءَ، فَأَسْلَمَ، وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي السَّرْحِ، فَإِنَّهُ اخْتَبَأَ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَلَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ، جَاءَ بِهِ حَتَّى أَوْقَفَهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَايِعْ عَبْدَ اللَّهِ، قَالَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلَاثًا، كُلَّ ذَلِكَ يَأْبَى، فَبَايَعَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ:«أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ، يَقُومُ إِلَى هَذَا، حَيْثُ رَآنِي كَفَفْتُ يَدِي عَنْ بَيْعَتِهِ، فَيَقْتُلَهُ؟» ، فَقَالُوا: وَمَا يُدْرِينَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فِي نَفْسِكَ؟ ، هَلاَّ أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَيْنِكَ؟ ، قَالَ:«إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ، أَنْ يَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ أَعْيُنٍ» ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(القاسم بن زكريا بن دينار) أبو محمد الكوفيّ الطحّان، ثقة [11] 8/ 410.

2 -

(أحمد بن مفضّل

(1)

) القرشيّ الأمويّ، أبو عليّ الكوفيّ، الْحَفَريّ -بفتح المهملة، والفاء-، صدوقٌ شِيعيّ، في حفظه شيء [9].

أثنى عليه أبو بكر بن أبي شيبة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن إشكاب: حدثنا أحمد بن المفضّل، دلّني عليه ابن أبي شيبة، وأثنى عليه خيرًا. وقال الأزديّ: منكر الحديث. وقال ابن سعد: توفّي سنة (15) وقيل: (214). تفرّد به المصنّف، وأبو داود بهذا الحديث فقط.

3 -

(أسباط) بن نصر الْهَمْدانيّ، أبو يوسف، ويقال: أبو نصر الكوفيّ، صدوق، كثير الخطأ، يُغرِب [8].

قال حربٌ: قلت لأحمد: كيف حديثه؟ قال: ما أدري، وكأنّه ضعّفه. وقال أبو حاتم: سمعت أبا نُعيم يُضعّفه، وقال: أحاديثه عامتها سَقَطٌ، مقلوبة الأسانيد. وقال

(1)

وفي كتب الرجال: "أحمد بن المفضّل"، بـ"أل"، وهي جائز الحذف، والذكر، كما قال ابن

مالك:

وَبَعْضُ الاعْلَامِ عَلَيْهِ دَخَلا

لِلَمْحِ مَا قَدْ كَانَ عَنْهُ نُقِلَا

كَالفَضْلِ وَالْحَارِثِ والنُّعمَانِ

فَذِكْرُ ذَا وَحَذْفُهُ سِيَّانِ

ص: 398

النسائيّ: ليس بالقويّ. وقال البخاريّ في "تاريخه الأوسط": صدوقٌ. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال مرّة: ثقة. وقال موسى بن هارون: لم يكن به بأس. وقال الساجيّ في "الضعفاء": روى أحاديث لا يُتابع عليها عن سماك ابن حرب.

علّق له البخاريّ حديثًا واحدًا، وأخرج له الباقون، وله عند المصنّف في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث: هذا الحديث، وفي "كتاب القسامة" 40/ 4830 - حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، قال:"كانت امرأتان جارتان، كان بينهما صَخَبٌ، فرمت إحداهما" الحديث. وفي "كتاب قطع السارق" 4/ 4886 - حديث صفوان بن أميّة - رضي اللَّه تعالى عنه -، قال:"كنت في المسجد نائمًا على خميصة لي، ثمنها ثلاثون درهمًا، فجاء رجلٌ، فاختلسها" الحديث.

4 -

(السُّدّي) إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كَرِيمة، أبو محمد الكوفيّ، صدوق يَهِمُ، ورُمي بالتشيّع [4] 100/ 359.

5 -

(مصعب بن سعد) بن أبي وقّاص الزهريّ، أبو زُرارة المدنيّ، ثقة [3] 91/ 1032.

6 -

(أبوه) سعد بن أبي وقّاص مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب الزهريّ، أبو إسحاق، مات - رضي اللَّه تعالى عنه - بالعقيق سنة (55) تقدّم في 96/ 1021. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم موثّقون. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، والابن عن أبيه. (ومنها): أن صحابيّه أحد العشرة المبشَرين بالجنة، وهو آخر من مات منهم - رضي اللَّه تعالى عنهم -، وأول من رمى بسهم في سبيل اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ مُصعَبِ بْنِ سَعْدٍ) -رحمه اللَّه تعالى- (عَنْ أَبِيهِ) سعد بن أبي وقّاص - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ) "كان هنا تامّة، ولذا اكتفت بمرفوعها، أي لَمّا وقع يوم فتح مكة. ويحتمل أن تكون ناقصةٌ، ويقدّر لها الخبر، أي لَمّا كان يوم فتح مكة حاضرًا.

ص: 399

وفتح مكة كان في رمضان من السنة الثامنة من الهجرة (أَمَّنَ) بتشديد الميم، من التأمين، ويحتمل أن يكون بمد الهمزة، وتخفيف الميم، أي الإيمان، يقال: آمنت الأسير بالمدّ: أعطيته الأمان، فأَمِنَ هو بالكسر (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ، إِلاَّ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ) قال الفيّوميّ: -النفر بفتحتين-: جماعة الرجال، من ثلاثة إلى عشرة، وقيل: إلى سبعة، ولا يُقال: نفرٌ فيما زاد على العشرة. انتهى (وَامْرَأَتَيْنِ، وقال: (اقْتُلُوهُمْ) أي المذكورين من النفر الأربعة، والمرأتين، أعاد ضمير جمع الذكور عليهم تغليبًا للذكور (وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُم، مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعبَةِ"، عِكْرِمةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ) يجوز نصبه بدلًا من "أربعة"، ورفعه خبر لمحذوف: أي أحد النفر الأربعة عكرمة بن أبي جهل عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عُمَر بن مَخْزُوم القرشيّ المخزوميّ، كان كأبيه من أشدّ الناس على رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، ثم أسلم عام الفتح، وخرج إلى المدينة، ثم إلى قتال أهل الرّدّة، ووجّهه أبو بكر الصّدّيق إلى جيش نَعْمان، فظهر عليهم، ثم إلى اليمن، ثم رجع، فخرج إلى الجهاد عام وفاته، فاستُشهد. وذكر الطبريّ أن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - استعمله على صدقات هوازن، عام وفاته، وأنه قُتل بأجنادين. وكذا قال الجمهور حتى قال الواقديّ: لا اختلاف بين أصحابنا في ذلك. وقال ابن إسحاق، والزبير بن بكّار: قُتِل يوم الْيَرْمُوك في خلافة عمر. وروى سيف في "الفتوح" بسند له، أنّ عكرمة نادى من يبايع على الموت؟ فبايعه عمّه الحارث، وضِرَار بن الأزور في أربعمائة من المسلمين، وكان أميرًا على بعض الكراديس

(1)

، وذلك سنة خمس عشرة في خلافة عمر، فقُتلوا كلّهم إلا ضرارًا. وقيل: قُتل يوم مرج الصُّفَّر

(2)

، وذلك سنة ثلاث عشرة في خلافة أبي بكر - رضي اللَّه تعالى عنه -.

(وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ) وقد تقدّمت قصّة قتله في "كتاب الحجّ" في 107/ 2868 - "باب دخول مكة بغير إحرام"، فراجعها تستفد، واللَّه تعالى وليّ التوفيق

(وَمَقِيسُ بْنُ صُبَابَةَ) بالصاد المهملة، وموحّدتين، بينهما ألف، هذا هو المشهور، وضبطه المجد في "القاموس" بالحاء المهملة بدل الصاد، ونصّه، مع شرحه: و"مِقيس" -كمِنبر- ابن حُبَابة بالضمّ، من بني كلب بن عوف من الدِّيل، وهو أحد الأربعة الذين لو يؤمّنهم النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - يوم فتح مكّة. وذكر الجوهريّ مقيص بالصاد، وهو بالسين. انتهى

(3)

.

(1)

في "القاموس": "الكُردوسة" بالضمّ: قطعة عظيمة من الخيل. اهـ.

(2)

في "القاموس": مَرْجُ الصُّفَّر، كسُكَّر: موضع بالشام. اهـ.

(3)

"القاموس" مع شرحه "التاج" 4/ 238.

ص: 400

(وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي السَّرْحِ) بن الحارث بن حُبيّب بالمهملة، مصغّرًا- ابن حُذافة بن مالك بن حِسل بن عامر بن لؤيّ القرشيّ العامريّ، يكنى أبا يحيى، وكان أخا عثمان بن عفّان - رضي اللَّه تعالى عنه - من الرضاعة، وكانت أمه أشعريّة. وقال ابن يونس: شهد فتح مصر، واختطّ بها، وكان صاحب الميمنة في الحرب مع عمرو بن العاص في فتح مصر، وله مواقف محمودةٌ في الفتوح، وأقرّه عثمان على مصر، ولما وقعت الفتنة سكن عسقلان، ولم يُبايع لأحد، ومات بها سنة ستّ وثلاثين. وقيل: كان قد سار من مصر إلى عثمان، واستخلف السائب بن هشام بن عمير، فبلغه قتله، فرجع، فغلب على مصر محمد بن أبي حذيفة، فمنعه من دخولها، فمضى إلى عسقلان، وقيل: إلى الرملة، وقيل: بل شهد صفّين، وعاش إلى سنة سبع وخمسين. وذكره ابن سعد في تسمية من نزل مصر من الصحابة، وهو الذي افتتح إفريقية زمن عثمان، وولي مصر بعد ذلك، وكانت ولايته مصر سنة خمس وعشرين، وكان فتح إفريقية من أعظم الفتوح، بلغ سهم الفارس فيه ثلاثة آلاف دينار، وذلك سنة ثمان، وأما الأساود، فكان فتحها سنة إحدى وثلاثين بالنوبة، وهو هادنهم الهُدنة الباقية بعده. وقال خليفة: وفي سنة سبع وعشرين عُزل عمرو عن مصر، وولي عبد اللَّه بن سعد، فغزا إفريقية، ومعه العبادلة، وأرّخ الليث عَزل عمرو سنة خمس وعشرين، وغَزَاةَ إفريقية سنة سبع وعشرين، وغزاة الأساود سنة إحدى وثلاثين، وذات الصواري سنة أربع وثلاثين. وقال ابن الْبَرقيّ في "تاريخه": حدثنا أبو صالح، عن الليث، قال: كان ابن أبي سرح على الصعيد في زمن عمر، ثمّ ضمّ إليه عثمان مصر كلّها، وكان محمودًا في ولايته، وغزا ثلاث غَزَوات: إفريقية، وذات الصواري، والأساود. وروى البغويّ بإسناد صحيح، عن يزيد بن أبي حبيب، قال: خرج ابن أبي سرح إلى الرملة، فلما كان عند الصبح، قال: اللَّهم اجعل آخر عملي الصبح، فتوضّأ، ثم صلّى، فسلّم عن يمينه، ثم ذهب يُسلّم عن يساره، فقبض اللَّه روحه، يرحمه اللَّه. وذكره البخاريّ من هذا الوجه. وأخرج السّرّاج عن عبد العزيز بن عمران، قال: مات ابن أبي سرح سنة تسع وخمسين في آخر عهد معاوية - رضي اللَّه تعالى عنهما -. ذكره في "الإصابة"

(1)

.

(فَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ، فأُدْرِكَ) بالبناء للمفعول (وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الكعبةِ، فاسْتَبَقَ إِلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ) بن عمرو بن عثمان بن عبد اللَّه بن عُمر بن مخزوم القرشيّ المخزوميّ، له صحبةٌ. قال الواقديّ: يقولون: إنه شَهِد فتح مكة، وهو ابن (15) سنة.

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 6/ 100 - 102.

ص: 401

مات بالكوفة. وهو أخو عمرو، وكان أسنّ منه. وقال الزبير بن بكّار: قُتل بظهر الحِيرة (وَعمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ) بن عامر بن مالك الْعَنْسيّ، مولى بني مخزوم، أبو الْيقْظان الصحابيّ المشهور، من السابقين الأولين، بدريّ قُتل بصفّين مع عليّ - رضي اللَّه تعالى عنهما - سنة (37)، وتقدّمت ترجمته في 195/ 312 (فَسَبَقَ سَعِيدٌ عَمَّارًا، وَكَانَ أَشَبَّ الرَّجُلَيْنِ) أي أحدثهما سنًّا، وأجلدهما، وأقواهما؛ لكونه في أوائل شبابه (فَقَتَلَهُ) وقيل: إن الذي قتله هو أبو برزة الأسلميّ، وقيل: قتله سعيد بن ذؤيب، وقيل: قتله الزبير بن العوّام، وتقدّم كلّ هذا في "كتاب الحجّ" في 107/ 2868 - "باب دخول مكة بغير إحرام".

(وَأَمَّا مَقِيسُ بْنُ صُبَابَةَ، فَأَدْرَكَهُ النَّاسُ فِي السُّوقِ) أي سوق مكة (فَقَتَلُوهُ، وَأَمَّا عِكْرِمةُ) بن أبي جهل (فَرَكِبَ الْبَحْرَ، فَأَصَابَتْهُمْ عَاصِفٌ) أي ريح شديدة، يقال: عصفت الريح عَصفًا، من باب ضرب، وعُصُوفًا: اشتدّت، فهي عاصفٌ، وعاصفةٌ، وجمع الأولى عَوَاصف، والثانية عاصفات، ويقال: أعصفت، ويقال: أعصفت بالهمزة أيضًا، فهي مُعصفةٌ، ويُسند الفعل إلى اليوم والليلة؛ لوقوعه فيهما، فيقال: يومٌ عاصفٌ، كما يقال: باردٌ؛ لوقوع البرد فيه. قاله الفيّوميّ (فَقَالَ أَصْحَابُ السَّفِينَةِ: أَخْلِصُوا) توحيدكم للَّه تعالى (فإِنَّ آلِهَتَكُمْ، لَا تُغْنِي عَنْكُمْ شَيْئًا هَاهُنَا) أي في هذا الموضع الذي ماج فيه البحر، واضطرب، وكادت تغرق فيه السفينة، فلا منجي إلا اللَّه تعالى (فَقَالَ عِكْرِمَةُ: واللَّهِ لَئِنْ لَمْ يُنَجِّنِي) بتشديد الجيم، من التنجية، أو تخفيفها، من الإنجاء (مِنْ الْبَحْرِ، إِلاَّ الإخْلَاصُ) أي إخلاص التوحيد للَّه سبحانه وتعالى (لا يُنَجِّيني فِي الْبَرِّ غَيْرُهُ) أي لأن البرّ والبحر في تصرّفه وحده لا شريك له (اللَّهُمَّ إِنَّ لَكَ عَلَيَّ عَهْدًا) أي ميثاقًا (إِنَّ أَنْتَ عَافَيْتَني) أي خلّصتني، وأخرجتني (مِمَّا أَنَا فِيهِ) من شدّة الخوف من الغرق (أَنْ آتِيَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم،)"أَنْ" بفتح الهمزة، مصدريّة، والفعل في تأويل المصدر مجرور بحرف محذوف قياسًا: أي بإتيان محمد - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - (حَتَّى أَضَعَ يَدِي فِي يَدِهِ) كناية عن مبايعته على الإسلام (فَلأَجِدَنَّهُ عَفُوًّا كَرِيمًا) يريد أن يؤكّد لنفسه ما عزمت به من الإتيان إليه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - بأن خلُقه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - العفو، والصفح، والكرم، فمن كان مجبولًا على هذا الأخلاق الكريمة يحقّ لمن عاداه أن يأتي إليه تائبًا، وينال من كرمه العظيم العميم (فَجَاءَ، فَأَسْلَمَ) فأبلى في الإسلام بلاء حسنًا، حتى استُشهد في خلافة عمر، وقيل: في خلافة أبي بكر - رضي اللَّه تعالى عنهم -.

(وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي السَّرْحِ، فَإنَّهُ اخْتَبَأَ) بالهمز: أي اختفى، واستتر خوفًا من القتل (عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ) لأنه أخوه من الرضاعة، كما سبق (فَلَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، النّاسَ إِلَى البَيْعَةِ) بعد أن استقرّ الحال في مكة، وقُتل من قُتل ممن أمر النبيّ - صلى

ص: 402

اللَّه تعالى عليه وسلم - بقتله (جَاءَ بِهِ) أي جاء عثمان بعبد اللَّه بن أبي سرح (حَتَّى أَوْقَفَهُ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال) عثمان (يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَايعْ عَبْدَ اللَّهِ) أي ابن أبي سرح (قَالَ فَرَفَعَ) - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - (رَأْسَهُ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلَاثًا) أي فعل ذلك ثلاث مرّات (كُلَّ ذَلِكَ) منصوب على الظرفية، متعلّق بـ (يَأْبَي) أي يمتنع النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - في كلّ مرّة من المرّات الثلاث أن يبايع ابن أبي سرح؛ لعظم جريمته؛ لأنه كان كاتب الوحي، فسيأتي للمصنّف في الباب التالي، عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أن عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح، كان يكتب لرسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، فأزلّه الشيطان، فلحق بالكفّار الحديث.

وذكر ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى- في "الاستيعاب" أنه أسلم قبل الفتح، وهاجر، وكان يكتب الوحي لرسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، ثم ارتدّ مشركًا، وصار إلى قريش بمكة، فقال لهم: إني كنت أصرّف محمدًا حيث أريد، كان يُملي عليّ:"عزيز حكيم"، فأقول: أو عليم حكيم، فيقول: نعم، كلٌّ صواب، فلما كان يوم الفتح أمر رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - بقتله"

(1)

(فَبَايَعَهُ) - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - (بَعْدَ ثَلاثٍ) أي بعد مرّات، لا بعد ثلاث ليال (ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: "أَمَا) بفتح الهمزة، وتخفيف الميم-: أداة استفتاح، وتنبيه، مثلُ "ألا" (كَانَ فِيكُم رَجُلٌ رَشِيدٌ) الرُّشدُ: الصلاح، وهو خلاف الغَيّ والضلال، وهو إصابة الصواب، يقال: رشِد رَشَدًا، من باب تَعِبَ، ورَشَدَ يَرْشُدُ، من باب قتل، فهو راشدٌ، والاسم الرَّشَاد، ويتعدّى بالهمز. قاله الفيّوميّ. والمعنى هنا: رجلٌ فطنٌ لصواب الحكم (يقُومُ إِلَى هَذَا، حَيْثُ رَآنِي كَفَفْتُ) من باب نصر: أي منعت (يَدِي عَنْ بَيْعَتِهِ، فَيَقْتُلُهُ؟ ") فيه أنه إنما أمهله، وامتنع ثلاث مرّات لأجل ذلك، فقد أخرج ابن سعد عن ابن المسيّب، قال: كان رجل من الأنصار نذر إن رأى ابن أبي سَرْح أن يقتله.

(فَقَالُوا: وَمَا يُدْرِينَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فِي نَفْسِكَ، هَلَّا أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَيْنِكَ؟) أي أشرت إلينا بأن نقتله (قال: "إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ، أَنْ يَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ أَعْيُنٍ) أي أن يُضمر في نفسه غير ما يُظهره للناس، فإن كفّ لسانه، وأومأ بعينه إلى ذلك، فقد خان، ولكون ظهور تلك الخيانة من قِبَل العين سُمّيت خائنة الأعين، ومنه قوله تعالى:{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} [غافر: 19]: أي ما يخونون فيه من مسارقة النظر إلى ما لا يحلّ، والخائنة

(1)

"الاستيعاب" 6/ 221. بهامش "الإصابة".

ص: 403

بمعنى الخِيانة، وهي من المصادر التي جاءت على لفظ الفاعل، كالعافية. أفاده ابن الأثير.

(1)

.

وقال الفيّوميّ: خائنة الأعين: قيل: هي كسر الطَّرْف بالإشارة الخفيّة. وقيل: هي النظرة الثانية عن تعمّد، وفرّقوا بين الخائن، والسارق، والغاصب، بأن الخائن هو الذي خان ما جُعل عليه أمينًا، والسارق من أخذ خُفيةً من موضع كان ممنوعًا من الوصول إليه، وربّما قيل: كلُّ سارق خائنٌ، دون عكس، والغاصب من أخذ جهارًا، معتمِدًا على قوّته. انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث سعد بن أبي وقّاص - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-14/ 4069 - وفي "الكبرى" 14/ 3530. وأخرجه (د) في "الجهاد" 2683 و 4359. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم المرتدّ، وهو وجوب قتله. (ومنها): جواز إقامة الحدّ في الحرم، وقد تقدّم اختلاف العلماء في ذلك في "كتاب الحجّ". (ومنها): أن إخلاص التوحيد، والالتجاء إلى اللَّه تعالى هو الذي ينجي العبد من مكاره الدنيا والآخرة. (ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - من مكارم الأخلاق، من العفو، والصفح، والكرم، حتى شهد له بذلك أعداؤه، فهذا عكرمة من أشدّ أعدائه له بعد أبيه أبي جهل، فقد وصفه بقوله: فلأجدنّه عفُوًّا كريمًا، وهذا مصداق قوله عز وجل:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وقوله:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، وقد قال اللَّه تعالى له:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، فكان كما أمره اللَّه تعالى به، وقال - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -:"بُعثت لأتمّم صالح الأخلاق". رواه أحمد في "مسنده" بإسناد صحيح.

(1)

"النهاية" 2/ 89.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 184.

ص: 404

(ومنها): تأنّيه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - في مبايعته عبد اللَّه بن سعد؛ لشدّة جريمته، كما سبق بيانها، فأراد أن ينفّذ عليه القتل، إلا أن اللَّه تعالى أراد له الخير، فبايعه. (ومنها): جواز العمل بالقرائن القويّة؛ لأنه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - لامهم على عدم قتله مع قيام القرينة القويّة على حلّ قتله، حيث أعلن بإهدار دمه سابقًا، ثم لما شفع له أخوه عثمان - رضي اللَّه تعالى عنه -، أمهل الصحابة ثلاث مرّات لعلهم ينتبهون لإشارته بسكوته أن يقتلوه. (ومنها): أدب الصحابة - رضي اللَّه تعالى عنهم -، حيث أمسكوا عن قتله؛ تأدّبًا معه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - حتى يأذن لهم صريحًا؛ عملا بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [الحجرات: 1]. (ومنها): أن فيه: أَنَّ التوبة من الكفر في حياته - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - كانت موقوفة على رضاه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، وأن الذي ارتدّ، وآذاه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - إذا آمن سقط قتله، وهذا ربّما يؤيّد القول أن قتل سابّ النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - للارتداد، لا للحدّ. قاله السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: سيأتي بيان الاختلاف في حكم من سبّ النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - بعد باب، إن شاء اللَّه تعالى.

(ومنها): أن شأن الأنبياء أرفع، وأنبل من أن يعاملوا أممهم معاملة الملوك والأمراء، وسائر الناس، حيث تكون لهم خائنة الأعين، ويعاملون الناس بالطرق الخفيّة التي لا يهتدي إليها إلا بعض الحذّاق، والنبهاء. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير، محمد ابن الشيخ عليّ بن آدم بن موسى الإِتيُوبيّ الولّويّ، نزيل مكة المكرّمة، - عفا اللَّه تعالى عنه - وعن والديه ومشايخه آمين:

قد انتهيت من كتابة الجزء الحادي والثلاثين من شرح سنن الإمام الحافظ الحجة أبي عبد الرحمن النسائيّ -رحمه اللَّه تعالى-، المسمّى "ذخيرةَ العُقْبَى في شرح المجتبى"، أو "غاية المنى في شرح المجتنى".

وذلك بحيّ الزهراء، مخطّط الأمير طلال، في مكة المكرمة زادها اللَّه تعالى تشريفًا وتعظيمًا، وجعلني من خيار أهلها حيًّا وميتًا، وأَعْظِمْ به تكريمًا.

وأخر دعوانا {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

ص: 405

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} .

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

"اللهم صلّ عليّ محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام عليك أيها النبيّ، ورحمة اللَّه، وبركاته".

ويليه -إن شاء اللَّه تعالى- الجزء الثاني والثلاثون مفتتحًا بالباب 15 "توبة المرتد" الحديث رقم 4070.

"سبحانك اللهمّ، وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".

ص: 406