الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرح سنن النسائي
المسمَّى
ذخيرة العقبى في شرح المجتبى
لجامعه الفقير إلى مولاه الغني القدير
محمد ابن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى الأيتوبي الوَلَّوي
المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة
عفا اللَّه عنه وعن والديه آمين
الجزء الحادي والثلاثون
دار آل بروم للنشر والتوزيع
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
1424هـ - 2003م
دار آل بروم للنشر والتوزيع
المملكة العربية السعودية - مكة المكرمة - المكتب الرئيسي التنعيم
ص ب: 4145 - (تلفاكس 5211576 - جوّال 055541026)
شرح سنن النسائي
بسم الله الرحمن الرحيم
15 - (تَوْبَةُ الْمُرْتَدِّ)
4070 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ. قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -وَهُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ- قَالَ: أَنْبَأَنَا دَاوُدُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ أَسْلَمَ، ثُمَّ ارْتَدَّ، وَلَحِقَ بِالشِّرْكِ، ثُمَّ تَنَدَّمَ، فَأَرْسَلَ إِلَى قَوْمِهِ، سَلُوا لِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ ، فَجَاءَ قَوْمُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: إِنَّ فُلَانًا قَدْ نَدِمَ، وَإِنَّهُ أَمَرَنَا أَنْ نَسْأَلَكَ، هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ ، فَنَزَلَتْ: {كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {غَفُورٌ رَحِيمٌ}». فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَأَسْلَمَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(محمد بن عبد اللَّه بن بَزيع) بفتح الباء الموحّدة، وكسر الزاي، آخره عين مهملة- البصريّ، ثقة [10] 43/ 588.
2 -
(يزيد بن زُريع) أبو معاوية البصريّ، ثقة ثبت [8] 5/ 5.
3 -
(داود) بن أبي هند القشيريّ مولاهم البصريّ، ثقة متقنٌ، كان يهم بآخره [5] 21/ 538.
4 -
(عكرمة) مولى ابن عبّاس، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 2/ 325.
5 -
(ابن عبّاس) عبد اللَّه البحر - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ: داود، عن عكرمة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: كان رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ) هو الحارث ابن سُويد الأنصاريّ، فقد أخرج الإمام ابن جرير في "تفسيره" بسنده عن مجاهد، قال: جاء الحارث بن سُويد، فأسلم مع النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، ثم كفر الحارث، فرجع إلى قومه، فأنزل اللَّه عز وجل فيه القرآن:{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 86 - 89]، قال: فحملها إليه رجلٌ من قومه، فقرأها عليه، فقال الحارث: إنك واللَّه ما علمتُ
لصدُوقٌ، وإن رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - لأصدق منك، وإن اللَّه عز وجل لأصدق الثلاثة، قال: فرجع الحارث، فأسلم، فحسُن إسلامه.
وأخرج أيضًا بسنده عن السّدّيّ: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} [آل عمران: 86]، قال: أُنزلت في الحارث بن سُويد الأنصاريّ، كفر بعد إيمانه، فأنزل اللَّه عز وجل فيه هذه الآيات إلى:{خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} [آل عمران: 88]، ثم تاب، وأسلم، فنسخها اللَّه عنه، فقال:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 89].
وأخرج أيضًا عن ابن جُريج، عن مجاهد، قال: هو رجلٌ من بني عمرو بن عوف، كفر بعد إيمانه، قال ابن جريج: أخبرني عبد اللَّه بن كثير، عن مجاهد، قال: لحق بأرض الروم، فتنصّر، ثم كتب إلى قومه:"أرسلوا، هل لي من توبة؟ "، قال: فحسبت أنه آمن، ثم رجع. قال ابن جريج، قال عكرمة: نزلت في أبي عامر الراهب، والحارث بن سُويد بن الصامت، ووَحْوَح بن الأسلت، في اثني عشر رجلًا، رجعوا عن الإسلام، ولحقوا بقريش، ثم كتبوا إلى أهلهم: هل لنا من توبة؟، فنزلت:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} الآيات [آل عمران: 89].
(أَسْلَمَ، ثُمَّ ارْتَدَّ) أي رجع عن الإسلام إلى الكفر نعوذ باللَّه تعالى منه- (وَلَحِقَ بِالشِّرْكِ) أي بأهله (ثُمَّ تَنَدَّمَ) أي ندم على ارتداده، والتندّم تفعّل من الندم للمبالغة (فأرسل إِلى قومِهِ) قائلًا (سَلُوا لِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟، فَجَاءَ قَوْمُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: إِنَّ فُلانًا قَدْ نَدِمَ) بكسر الدال، من باب تَعِبَ (وَإِنَّهُ أَمَرَنَا أَنْ نَسأَلَكَ، هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةِ؟، فَنَزَلَتْ: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إِلى قَوْلِهِ: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 86 - 89]، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَأَسْلَمَ).
وقيل: نزلت هذه الآية في أهل الكتاب، فقد أخرج ابن جرير بإسناده عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، قال: هم أهل الكتاب عرفوا محمد - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، ثم كفروا به. وأخرج عن الحسن قال: هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، رأوا نعت محمد - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - في كتابهم، وأقرّوا به، وشهدوا أنه حقّ، فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك، فأنكروه، وكفروا بعد إقرارهم؛ حسدًا للعرب، حين بُعث من غيرهم. وعنه قال: هم أهل الكتاب، كانوا يجدون محمدًا - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - في كتابهم، ويستفتحون به، فكفروا بعد إيمانهم.
قال ابن جرير بعد ذكر القولين: وأشبه القولين بظاهر التنزيل ما قال الحسن، من أن هذه الآية معنيٌّ بها أهلُ الكتاب على ما قال، غير أن الأخبار بالقول الآخر أكثر، والقائلين به أعلم بتأويل القرآن، وجائز أن يكون اللَّه عز وجل أنزل هذه الآيات بسبب القوم الذين ذُكر أنهم كانوا ارتدّوا عن الإسلام، فجمع قصّتهم، وقصّة من كان سبيله
سبيلَهم في ارتداده عن الإيمان بمحمد - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - في هذه الآيات، ثم عرّف عباده سنّته فيهم، فيكون داخلًا في ذلك كلُّ من كان مؤمنًا بمحمد - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - قبل أن يُبعَث، ثم كفر به بعد أن يُبعث، وكلّ من كان كافرًا، ثم أسلم على عهده - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، ثم ارتدّ، وهو حيّ عن إسلامه، فيكون معنيًّا بالآية جميعُ هذين الصنفين، وغيرهما ممن كان بمثل معناهما، بل ذلك كذلك إن شاء اللَّه.
فتأويل الآية إذًا: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران: 86 - 89] يعني كيف يرشد اللَّه للصواب، ويوفّق للإيمان قومًا جحدوا نبوّة محمد - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - {بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} أي بعد تصديقهم إياه، وإقرارهم بما جاءهم به من عند ربّه {وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} يقول: وبعد أن أقرّوا أن محمدًا رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - إلى خلقه حقًا {وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} يعني وجاءهم الْحُجَج من عند اللَّه، والدلائل بصحّة ذلك؟ {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} يقول: واللَّه لا يوفّق للحقّ، والصواب الجماعة الظَّلَمة، وهم الذين بدّلوا الحقّ إلى الباطل، فاختاروا الكفر على الإيمان. {خَالِدِينَ فِيهَا} يعني هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم، وبعد أن شهدوا أن الرسول حقّ {جَزَاؤُهُمْ} ثوابهم من عملهم الذي عملوه {أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ} يعني أن يحلّ بهم من اللَّه الإقصاء والبعد، ومن الملائكة، والناس الدعاء بما يسوؤهم من العقاب {أَجْمَعِينَ} يعني من جميعهم، لا من بعض من سمّاه جلّ ثناؤه من الملائكة، والناس، ولكن من جميعهم، وإنما جعل ذلك جلّ ثناؤه ثواب عملهم؛ لأن عملهم كان باللَّه كفرًا. {خَالِدِينَ فِيهَا} يعني ماكثين فيها يعني في عقوبة اللَّه {لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ}: لا يُنقصون من العذاب شيئًا في حال من الأحوال، ولا يُنفّسون فيه {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}: يعني: ولا هم يُنظرون لمعذرة يعتذرون، وذلك كلّه عين الخلود في العقوبة في الآخرة. ثم استثنى جلّ ثناؤه الذين تابوا من هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم، فقال تعالى ذكرُهُ:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} يعني: إلا الذين تابوا من بعد ارتدادهم عن إيمانهم، فراجعوا الإيمان باللَّه، وبرسوله، وصدّقوا بما جاءهم به نبيّهم - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - من عند ربّهم، {وَأَصْلَحُوا} يعني: وعملوا الصالحات من الأعمال {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يعني: فإن اللَّه لمن فَعَلَ ذلك بعد كفره "غفورٌ" يعني ساتر عليه ذنبه الذي كان منه من الردّة، فتاركٌ عقوبته عليه، وفضيحته به يوم القيامة، غير مؤاخذه به إذا مات على التوبة منه "رحيم" متعطّفٌ عليه بالرحمة. انتهى كلام ابن جرير -رحمه اللَّه تعالى-. انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"تفسير ابن جرير" 6/ 573 - 575.
مسائل تتعلّق بهدا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-15/ 4070 - وفي "الكبرى" 15/ 3531. وأخرجه (د) في "الجهاد" 2683 و 4359. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم توبة المرتدّ، وهو القبول. (ومنها): بيان سبب نزول هذه الآيات الكريمات. (ومنها): أن الرّدّة تُبطل الأعمال الصالحة. (ومنها): أن التوبة النصوح تمحو ما قبلها من الذنوب أيًّا كان نوعه. (ومنها): بيان سعة فضل اللَّه تعالى، ووافر كرمه، حيث يَقبَل من أعرض عنه، إذا تاب إليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في استتابة المرتد:
قَالَ ابْن بَطَّال: اخْتُلِفَ فِي اسْتِتَابَة الْمُرْتَدّ، فَقِيلَ: يُسْتَتَاب، فَإِنَّ تَابَ، وَإلَّا قُتِلَ، وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُور. وَقِيلَ: يَجِب قَتْله فِي الحَال، جَاءَ ذَلِكَ عَنْ الحَسَنُ، وَطَاوُس، وبِهِ قَالَ أَهْل الظَّاهِر. وَنَقَلَهُ ابْن الْمُنْذِر عَنْ مَعَاذ، وَعُبَيْد بْن عُمَيْر، قال الحافظ: وَعَلَيْهِ يدُلّ تَصَرُّف الْبُخَارِيّ، فإِنَّهُ اسْتَظْهَرَ بِالآيَاتِ الَّتِي لَا ذِكْر فِيهَا لِلِاسْتِتَابةِ، وَالَّتِى فِيهَا أَنَّ التَّوْبَة لَا تَنْفَع، وَبِعُمُوم قَوْله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ بَدَّلَ دِينه فَاقْتُلُوهُ"، وبِقِصّةِ مَعَاذ الَّتِي بَعْدهَا
(1)
، وَلَمْ يَذْكُر غَيْر ذَلِكَ.
قَالَ الطحاوِيُّ: ذَهَبَ هَؤُلَاءِ إِلَى أنَّ حُكْم مَنْ ارتَدَّ عَنْ الإسْلَام، حُكْم الْحَرْبِيّ الَّذِي بَلَغَتْهُ الدَّعْوَة، فَإِنَّهُ يُقَاتَل مِنْ قَبْل أَنْ يُدْعَى، قَالُوا: وَإنَّمَا تُشْرَع الاسْتِتَابَة لِمَنْ خَرَجَ عَنْ الإسْلَام، لا عَنْ بَصِيرَة، فَأَمَّا مَنْ خَرَجَ عَنْ بَصِيرَة فَلا. ثُمَّ نَقَلَ عَنْ أَبِي يُوسُف مُوافَقَتهمْ، لَكِنْ قَالَ: إِنْ جَاءَ مُبَادِرًا بالتَّوْبةِ، خَلَّيْتُ سَبِيله، وَوَكَلْتُ أَمْره إِلَى اللَّه تَعَالَى. وَعَنْ ابْن عَبَّاس، وَعَطَاء: إنْ كَانَ أَصْله مُسْلِمًا لَمْ يُسْتَتَتْ، وَإِلَّا اسْتُتِيبَ. وَاسْتَدَلَّ ابْن الْقَصَّار لِقَوْلِ الْجُمْهُور بِالإجْمَاعِ -يَعْنِي السُّكُوتِيّ- لِأَنَّ عُمَر كَتَبَ فِي أَمْر الْمُرْتَدِّ:"هَلّا حَبَسْتُمُوهُ ثَلاثَة أيَّام، وَأَطْعَمْتُمُوهُ فِي كُلّ يَوْم رَغِيفًا، لَعَلَّهُ يَتُوب، فَيَتُوب اللَّه عَلَيْهِ؟ "، قَالَ: وَلَمْ يُنْكِر ذَلِكَ أَحَد مِنْ الصَّحَابَة، كَأَنَّهُم فَهِمُوا مِنْ قَوْله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ بَدَّلَ دِينه فَاقْتُلُوهُ"، أَيْ إِنَّ لَمْ يَرْجِع، وَقْدْ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ
(1)
يعني قصّته مع أبي موسى الأشعريّ في قتل اليهوديّ المرتدّ المتقدّم في الباب الماضي.
فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5].
وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُون بِالاسْتِتَابةِ، هَلْ يُكْتَفَى بِالْمَرَّةِ، أَوْ لَا بُدّ من ثَلَاث؟، وَهَل الثَّلَاث فِي مَجْلِس، أَوْ فِي يَوْم، أَوْ فِي ثَلَاثَة أَيَّام؟، وَعَنْ عَلِيّ: يُسْتَتَاب شَهْرًا، وَعَنْ النَّخَعِيِّ: يُسْتَتَاب أَبَدًا، كَذَا نُقِلَ عَنْهُ مُطْلَقًا، وَالتَّحْقِيق أَنَّهُ فِيمَنْ تَكَرَّرَتْ مِنْهُ الرِّدَّة.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الأرجح عندي قول الجمهور بأن المرتدّ يستتاب؛ لوضوح أدلّته. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في استتابة الزنديق:
ذهب بعضهم إلى قتل الزِّنْدِيق، مِن غير استِتابة، مستدلًا بحديث عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه - المتقدّم في الباب الماضي.
وتُعُقِّب بِأَنَّ فِي بَعْض طُرُقه: أَنَّ عَليًّا اسْتَتَابَهُمْ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِي عَلَى الْقَبُول مُطْلَقًا، وَقَالَ: يُسْتَتَاب الزِّنْدِيق، كَمَا يُسْتَتَاب الْمُرْتَدِّ، وَعَنْ أَحْمَدَ، وَأَبِي حَنِيفَة، رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: لَا يُسْتَتَاب، وَالأُخْرَى إِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ، لَمْ تُقْبَل تَوْبَته، وَهُوَ قَوْل اللَّيْث، وَإسْحَاق، وحُكِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاق الْمَرْوَزِيِّ، مِنْ أَئِمَّة الشَّافِعِيَّة، وَلَا يَثْبُت عَنْهُ، بَلْ قِيلَ: إِنَّهُ تَحْرِيف مِنْ إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْه، وَالأَوَّل هُوَ المَشْهُور عِنْد الْمَالِكِيَّة، وحُكي عَنْ مَالِك: إِنْ جَاءَ تَائِبًا يُقْبَل مِنْهُ، وَإلَّا فَلا، وَبِهِ قَالَ أبُو يُوسُف، وَاخْتَارَهُ الأُسْتَاذَانِ: أَبُو إِسْحَاق الإسْفَرَايِنِيّ، وَأَبُو مَنْصُور الْبَغْدَادِيّ. وَعَنْ بَقِيَّة الشَّافِعِيَّة أَوْجُه، كَالْمَذَاهِبِ الْمَذْكُورَة، وَخَامِس يُفْصَلُ بَيْن الداعِية، فَلَا يُقْبَل مِنْهُ، وتُقْبَل تَوْبَة غَيْر الدَّاعِيَة. وَأَفْتَى ابْن الصَّلَاح بِأَنَّ الزِّنْدِيق، إِذَا تَابَ تُقْبَل تَوْبَته، ويُعَزَّر، فَإنْ عَادَ بَادَرْنَاهُ بِضَرْبِ عُنُقه، وَلَمْ يُمْهَل.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [النور: 5]، فَقَالَ: الزِّنْدِيق لَا يُطَّلَع عَلَى صَلَاحه؛ لِأَنَّ الْفَسَاد إِنَّمَا أَتَى مِمَّا أَسَرَّهُ، فَإِذَا اطُّلِع عَلَيْهِ، وَأَظْهَرَ الإقْلَاع عَنْهُ، لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} الآية [النساء: 137].
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْمُرَاد مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا فَسَّرَهُ ابْن عبّاس، فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْن أَبِي حَاتِم وَغَيْره.
وَاسْتَدَلَّ لِمالِك بِأَنَّ تَوْبَة الزِّنْدِيق لَا تُعْرَف، قَالَ: وَإنَّمَا لَمْ يَقْتُل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم المُنافِقِينَ؛ لِلتَّأْليفِ، ولِأَنَّهُ لَوْ قَتَلَهُمْ لَقَتَلَهُمْ بِعِلْمِهِ، فَلَا يُؤمَن أَنْ يَقُول قَائِل: إِنَّمَا قَتَلَهُم لِمَعْنًى آخَر.
وَمِنْ حُجَّة مَنْ اسْتَتَابَهُم: قَوْله تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} الآية [المجادلة: 16]، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِظْهَار الإيمَان يُحْصَّنُ مِنْ الْقَتْل، وكُلّهمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ أَحْكَام الدُّنْيَا عَلَى الظَّاهِر، واللَّه يَتَوَلَّى السَّرَائِر، وقد قال صلى الله عليه وسلم لِأُسَامَة:"هَلَّا شَقَقَت عَنْ قَلْبه"، وَقَالَ لِلَّذِي
سَارَّهُ فِي قَتْل رَجُل: "أَلَيْس يُصَلِّي؟ "، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "أُولئِك الَّذِين نُهِيت عَنْ قَتْلهم". وقد جاء في بَعْض طُرُق حدِيث أبِي سعِيد الخدريّ - رضي اللَّه تعالى عنه -، أَنَّ خَالِد بْن الْوَلِيد، لَمَّا اسْتَأْذَنَ فِي قَتْل الَّذِي أَنْكَرَ الْقِسْمَة، وَقَالَ: كَمْ مِنْ مُصَلِّ، يَقُول بلِسَانِهِ، مَا لَيْسَ فِي قَلْبه؟، فَقَالَ: صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لَمْ أُومَرْ، أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوب النَّاس"، أَخْرَجَهُ مُسْلِم، والأَحَادِيث فِي ذَلِكَ كَثِيرَة. قاله في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن القول بأن الزنديق لا يُقتل حتى يستتاب، كالمرتدّ أرجح؛ لظهور أدلّته. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4071 -
(أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: فِي سُورَةِ النَّحْلِ: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} [النحل: 106] ، إِلَى قَوْلِهِ {لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، فَنُسِخَ، وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110] ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، الَّذِي كَانَ عَلَى مِصْرَ، كَانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ، فَلَحِقَ بِالْكُفَّارِ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُقْتَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَاسْتَجَارَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، فَأَجَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(زكريا بن يحيى) السجزيّ، أبو عبد الرحمن نزيل دمشق المعروف بخيّاط السنّة، ثقة حافظ [12] 189/ 1161.
2 -
(إسحاق بن إبراهيم) الحنظليّ ابن راهويه المروزيّ، ثقة ثبت [10] 2/ 2.
3 -
(عليّ بن الحسين بن واقد) المروزيّ، صدوقٌ يهم [10] 54/ 3526.
4 -
(أبوه) الحسين بن واقد، أبو عبد اللَّه المروزيّ، ثقة له أوهام [7] 5/ 463.
5 -
(يزيد النحويّ) ابن أبي سعيد، أبو الحسن القرشيّ مولاهم المروزيّ، ثقة عابد [6] 54/ 3526، والباقيان ترجما في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمراوزة. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"فتح" 14/ 273 - 274.
شرح الحديث
(عَنْ ابْنِ عبّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: فِي سُورَةِ النَّحْلِ) أي في تفسير الآية المذكورة في، "سورة النحل"، وهي قوله عز وجل {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} [النحل: 106] يجوز في إعراب "من" خمسة أوجه:
[الأول]: أن تكون شرطيّة مبتدأ، حذف جوابها؛ لدلالة جواب "من شرح" عليه، كأنه قيل: من كفر باللَّه من بعد إيمانه، فعليهم غضبٌ من اللَّه.
[الثاني]: أن تكون بدلًا من قوله: {الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} على أن يُجعل قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} اعتراضًا بين البدل والمبدل منه، والمعنى: إنما يفتري الكذب من كفر باللَّه من بعد إيمانه، واستثنى منهم المكره، فدم يدخل تحت حكم الافتراء، ثم قال:{وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} الآية.
[الثالث]: أن تكون بدلًا من المبتدأ الذي هو: {وَأُولَئِكَ} ، أي من كفر باللَّه من بعد إيمانه هو الكاذبون.
[الرابع]: أن تكون بدلًا من الخبر الذي هو {الْكَاذِبُونَ} ، أي وأولئك هم من كفر باللَّه من بعد إيمانه.
[الخامس]: انتصابها على الذّمّ، أذُمّ من كفر باللَّه من بعد إيمانه. أفاده النسفيّ في "تفسيره"
(1)
.
{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} إِلى قَوْلِهِ: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وهو قوله: {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وقوله: {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} أي ساكنٌ به. وقوله: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} أي طاب به نفسًا، واعتقده، قاله النسفيّ
(2)
. وقال القرطبيّ: أي وسّعه لقبول الكفر، ولا يقدر أحدٌ على ذلك إلا اللَّه، فهو يردّ على القدريّة، و {صَدْرًا} نُصب على المفعول به. وقوله {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وهو عذاب جهنّم. انتهى
(3)
.
(فَنسخَ) بالبناء للفاعل، أي نسخ اللَّه تعالى حكمه بأن من شرح بالكفر صدرًا له عذاب عظيم في حقّ من تاب من ذلك. وقوله (وَاسْتَثنَى مِنْ ذَلِكَ) أشار به إلى النسخ المذكور ليس على إطلاقه، بل في حقّ من تاب. والمعنى أنه سبحانه وتعالى أخرج من
(1)
"مدارك التنزيل وحقائق التأويل" 2/ 300 - 301. تفسير "سورة النحل".
(2)
"مدارك التنزيل" 2/ 300 - 301.
(3)
"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 191.
الحكم المذكور التائب (فَقَالَ) عز وجل {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا} أي انتقدوا من دار الكفر إلى المدينة تائبين {مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} بالارتداد {ثُمَّ جَاهَدُوا} الكفّار مع النبيّ صلّى اللَّه تعالى عليه وسلم - {وَصَبَرُوا} على ما يلقونه من البأساء والضرّاء في سبيل اللَّه تعالي {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا} أي من بعد هذه الخصال المذكورة، من التوبة، والهجرة، والجهاد، والصبر {لَغَفُورٌ} لهم بمحو ما سبق لهم من الجرائم {رَحِيمٌ} بهم بإدخالهم الجنّة.
(وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ) هذا الكلام من تتِمّة كلام ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، كما هو ظاهر السياق هنا، وعند ابن جرير الطبريّ في "تفسيره" -17/ 308 - فقد أخرجه بسنده عن يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد، بسند المصنّف، ومتنه، فما وقع في نسخة "صحيح النسائيّ" للشيخ الألباني-3/ 853 - من زيادة قوله:"قال أبو عبد الرحمن"، قبل قوله:"وهو عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح" غلط صريح، فإن هذا الكلام ليس للنسائيّ، وإنما هو من تَتِمّة كلام ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - بيانًا لسبب نزول الآية، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.
(الَّذِي كَانَ عَلَى مِصْرَ) أي كان واليًا عليها بعد موت النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - في خلافة عثمان - رضي اللَّه تعالى عنهما -، كما تقدّم بيانه (كَانَ يَكْتُبُ) الوحي (لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ) أي حمله على الزلل، وهو الخطأ والذنب. قاله ابن الأثير
(1)
(فَلَحِقَ بِالْكُفَّارِ) بكسر الحاء المهملة، من باب تعب لَحَاقًا، ولُحُوقًا: أي التجأ إليهم، ولاذ بهم (فَأَمَرَ) - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - (بِهِ أَنْ يُقْتَلَ) بالبناء للمفعول (يَوْمَ الْفَتْحِ) ظرف لـ"أمر"(فَاسْتَجَارَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ) أي طلب عثمان - رضي اللَّه تعالى عنه - من النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - أن يُجيره من القتل (فَأَجَارَهُ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وقد تقدّم تفصيل قصّته في الباب الماضي.
وقيل في سبب نزول هذه الآية الكريمة، غير ما ذُكر، فقد أخرج الإمام ابن جرير الطبريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "تفسيره" عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - قال: إن المشركين أصابوا عمّار بن ياسر، فعذّبوه، ثم تركوه، فرجع إلى رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، فحدّثه بالذي لقي من قُريش، والذي قال، فأنزل اللَّه تعالى عذره:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} ، إلى قوله:{وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106].
وأخرج عن قتادة، قال: ذُكر لنا أنها نزلت في عمّار بن ياسر، أخذه بنو المغيرة، فغطّوه
(1)
"النهاية" 2/ 310.
في بئر ميمون، وقالوا: اكفر بمحمد - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، فتابعهم على ذلك، وقلبه كاره، فأنزل اللَّه تعالى:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} الآية. وأخرج عن أبي عُبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر، فعذّبوه، حتى باراهم في بعض ما أرادوا، فشكا ذلك إلى النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، فقال النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -:"كيف تجد قلبك" قال: مطمئنًّا بالإيمان، قال النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -:"فإن عادوا فعد". وأخرج عن الشعبيّ، قال: لَمّا عُذّب الأعبد أعطوهم ما سألوا، إلا خبّاب بن الأرتّ - رضي اللَّه تعالى عنه -، كانوا يُضجعونه على الرَّضف، فلم يستقلّوا منه شيئًا.
قال ابن جرير: فتأويل الآية إذن: من كفر باللَّه من بعد إيمانه إلا من أُكره على الكفر، فنطق بكلمة الكفر بلسانه، وقلبه مطمئنّ بالإيمان، موقنٌ بحقيقته، صحيحٌ عليه عزمه، غير مفسوح الصدر بالكفر، لكن من شرح بالكفر صدرًا، فاختاره، وآثره على الإيمان، وباح به طائعًا، {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . ثم أخرج عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - نحو هذا المعنى، ثمّ قال: فأما من أكره، فتكلّم به لسانه، وخالفه قلبه بالإيمان؛ لينجو من عدوّه، فلا حرج عليه؛ لأن اللَّه سبحانه إنما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم. انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أحرجه معه:
أخرجه هنا-15/ 4071 - وفي "الكبرى" 15/ 3532. وأخرجه (د) في "الحدود" 4358 مختصرًا. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم توبة المرتدّ، وهو القبول. (ومنها): أن للَّه تعالى الحكمة البالغة في تشريعه، فيحكم بما يريد، ثم ينسخه إذا يريد. (ومنها): جواز النسخ ووقوعه في الشرع، وهو إجماع للمسلمين، وما حكي عن أبي مسلم الأصفهانيّ من المعتزلة أنه سمّاه تخصيصًا، فهو خلاف في التسمية، لا
(1)
راجع تفسير ابن جرير 17/ 304 - 305.
في وقوع النسخ. وإنما يخالف في ذلك اليهود، بعضهم في الجواز، وبعضهم في الوقوع، قال في "الكوكب الساطع"، مشيرًا إلى هذا:
النَّسْخُ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَاقِعُ
…
وَقَائِلُ التَّخْصِيصِ لَا يُنَازعُ
(ومنها): أنه لَمّا سمح اللَّه تعالى بالكفر به، وهو أصل الشريعة، عند الإكراه، ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلّها، فإذا وقع الإكراه عليها لم يُؤاخذ به، وَلَمْ يترتّب عليه حكم، وبه جاء الأثر المشهور عن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -:"إنّ اللَّه وضع عن أُمّتي الخطأ والنسيان، وما استُكرهوا عليه"
(1)
. رواه ابن ماجه، وابن حبّان في "صحيحه"، والداقطنيّ، والحاكم في "المستدرك"، وصححه، ووافقه الذهبيّ، وقال عبد الحقّ الإشبيليّ: صحيح الإسناد، كما نقله عنه القرطبيّ في "تفسيره" -10/ 182.
(ومنها): مكانة عثمان - رضي اللَّه تعالى عنه - عند النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، حيث قبل شفاعته فيمن استحلّ دمه، وأمر بقتله في الحلّ والحرم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): أجمع العلماء على أن من أُكره على الكفر حتى خشِي على نفسه القتل أنه لا إثم عليه إن كفر، وقلبه مطمئنّ بالإيمان، ولا تَبين منه زوجته، ولا يُحكم عليه بحكم الكفر. هذا قول مالك، والكوفيين، والشافعيّ، غير محمد بن الحسن، فإنه قال: إذا أظهر الشرك كان مرتدًّا في الظاهر، وفيما بينه وبين اللَّه تعالى على الإسلام، وتبين منه امرأته، ولا يُصلّى عليه إن مات، ولا يرث أباه إن مات مسلمًا. قال ابن بطّال: وهذا قول تغني حكايته عن الرّدّ عليه؛ لمخالفته النصوص.
وقال أبو عبد اللَّه القرطبيّ: وهذا قولٌ يردّه الكتاب والسنّة، قال اللَّه تعالى:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} الآية [النحل: 106]، وقال:{إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا} الآية [آل عمران: 28]، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} الآية [النساء:97]، وقال:{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} الآية [النساء:98]، فعذر اللَّه المستضعفين الذين يمتنعون من ترك ما أمر اللَّه به، والمكره لا يكون إلا مستضعفًا، غير ممتنع من فعل ما أُمر به. قاله البخاريّ
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
وأما ما اشتهر في كتب الفقه والأصول بلفظ: "رُفع عن أمتي الخطأ الخ"، فمنكر. راجع "الإرواء" للشيخ الألبانيّ 1/ 123 - 124، والصحيح بلفظ:"وَضَعَ".
(2)
راجع "صحيح البخاريّ" 14/ 321 بنسخة "الفتح". رقم 6940. وتفسير القرطبيّ 10/ 182.
(المسألة الخامسة): ذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن الرخصة إنما جاءت في القول، وأما في الفعل فلا رُخصة فيه، مثل أن يُكره على السجود لغير اللَّه، أو الصلاة لغير القبلة، أو قتل مسلم، أو ضربه، أو أكل ماله، أو الزنى، وشرب الخمر، وأكل الربا. يُروى هذا عن الحسن البصريّ، وهو قول الأوزاعيّ، وسُحنُون من المالكيّة. وقال محمد بن الحسن: إذا قيل للأسير: اسجُد لهذا الصنم، وإلا قتلتك، فقال: إن كان الصنم مقابل القبلة، فليسجُد، وتكون نيّته للَّه تعالى، وإن كان لغير القبلة فلا يسجد، وإن قتلوه.
والصحيح أنه يسجد، وإن كان لغير القبلة، وما أحراه بالسجود حينئذ؛ ففي "الصحيح" عن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - قال:"كان رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - يصلّي، وهو مقبلٌ من مكة إلى المدينة على راحلته، حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}، الآية [البقرة: 115]. وفي رواية: "ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة". فإذا كان هذا مباحًا في السفر في حالة الأمن؛ لتعب النزول عن الدّابّة للتنفّل، فكيف بهذا؟.
واحتجّ من قصر الرخصة على القول بقول ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -: ما من كلام يدرأ عنّي سوطين من ذي سلطان، إلا كنت متكلّمًا به. فقصر الرخصة على القول، ولم يذكُر الفعل، وهذا لا حجّة فيه؛ لأنه يحتمل أن يجعل الكلام مثالًا، وهو يريد أن الفعل في حكمه.
وقالت طائفة: الإكراه في الفعل والقول سواء، إذا أسرّ الإيمان. رُوي ذلك عن عمر ابن الخطّاب، ومكحول، وهو قولُ مالك، وطائفة من أهل العراق. روى ابن القاسم عن مالك أن من أُكره على شرب الخمر، وترك الصلاة، أو الإفطار في رمضان، أن الإثم عنه مرفوع. ذكره القرطبيّ
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا القول هو الحقّ؛ لدلالة النصوص السابقة عليه، وأما الاحتجاج بأثر ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - المذكور، ففيه نظر لا يخفى؛ لأن أثر الصحابة لا تكون حجةً يُدفع بها ما يدلّ عليه ظاهر الكتاب والسنة، فتبصّر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): أجمع العلماء على أن من أُكره على قتل غيره أنه لا يجوز له الإقدام على قتله، ولا انتهاك حرمته بجَلد، أو غيره، ويَصبر على البلاء الذي نزل به،
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 182 - 183.
ولا يحلّ له أن يَفدي نفسه بغيره ويسأل اللَّه تعالى العافية في الدنيا والآخرة.
واختُلف في الزنا، فقال مطرّفٌ، وأصبغ، وابن عبد الحكم، وابن الماجشون: لا يفعل أحدٌ ذلك، وإن قُتل لم يفعله، فإن فعله فهو آثم، ويلزمه الحدّ، وبه قال أبو ثور، والحسن.
قال ابن العربيّ: الصحيح أنه يجوز الإقدام على الزنى، ولا حدّ عليه؛ خلافًا لمن ألزمه ذلك؛ لأنه رأى أنها شهوة خِلقيّة، لا يُتصوّر الإكراه عليها، وغفل عن السبب في باعث الشهوة، وهو الإلجاء إلى ذلك، وهو الذي أسقط حكمه، وإنما يجب الحدّ على شهوة بَعَث عليها سبب اختياريّ، فقاس الشيء على ضدّه، فلم يحلّ بصواب من عنده. وقال ابن خُوَيز مَنْدَاد في "أحكامه": اختلف أصحابنا يعني المالكيّة- متى أُكره الرجل على الزنى، فقال بعضهم: عليه الحدّ؛ لأنه إنما يفعل ذلك باختياره. وقال بعضهم: لا حدّ عليه. قال ابن خُويز منداد: وهو الصحيح. وقال أبو حنيفة: إن أكرهه غير السلطان حُدّ، وإن أكرهه السلطان، فالقياس أن لا يُحدّ، ولكن أستحسن ألا يُحدّ، وخالفه صاحباه، فقالا: لا حدّ عليه في الوجهين. ولم يُراعوا الانتشار، وقالوا: متى علم أنه يَتخلّص من القتل بفعل الزنى جاز أن ينتشر. قال ابن المنذر: لا حدّ عليه، ولا فرق بين السلطان في ذلك، وغير السلطان. انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله ابن المنذر هو الصحيح عندي، كما سبق تصحيح ابن العربيّ، وابن خُويز منداد له. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): اختلف أهل العلم في طلاق المكره، وعتقه، فقال الشافعيّ وأصحابه: لا يلزمه شيء. وذكر ابن وهب عن عمر، وعليّ، وابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهم - أنهم كانوا لا يرون طلاقه شيئًا. وذكره ابن المنذر عن ابن الزبير، وابن عمر، وابن عبّاس، وعطاء، وطاوس، والحسن، وشُريح، والقاسم، وسالم، ومالك، والأوزاعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور.
وأجازت طائفة طلاقه، روي ذلك عن الشعبيّ، والنخعيّ، وأبي قلابة، والزهريّ، وقتادة، وهو قول الكوفيين، قال أبو حنيفة: طلاق المكره يلزم؛ لأنه لم يُعدَم فيه أكثرُ من الرضا، وليس وجوده بشرط في الطلاق كالهازل. وهذا قياسٌ باطلٌ، فإن الهازل قاصدٌ إلى إيقاع الطلاق، راضٍ به، والمكره غير راض، ولا نيّة له في الطلاق، وقد قال - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -:"إنما الأعمال بالنيّات". وفي "صحيح البخاريّ": وقال ابن عبّاس، فيمن يُكرهه اللصوص، فيُطلّق: ليس بشيء، وبه قال ابن عمر، وابن
الزبير، والشعبيّ، والحسن. وقال الشعبيّ: إن أكرهه اللصوص، فليس بطلاق، وإن أكرهه السلطان فهو طلاق. وفسّره ابن عيينة، فقال: إن اللصّ يُقدِمُ على قتله، والسلطان لا يقتله. ذكره القرطبيّ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أَنَّ قول الجمهور في هذا هو الحقّ؛ لحديث: "إن اللَّه وضع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استُكرهوا عليه". رواه ابن ماجه، وغيره، وهو حديث صحيح، كما تقدّم بيانه، وقوله - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -:"لا طلاق، ولا عَتاق في إغلاق"، رواه أحمد، وأبو داود، وهو حديث حسنٌ. ومعنى الإغلاق: الإكراه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثامنة): بيع المكره، إن كان لأجل حقّ وجب عليه جائزٌ، ماضٍ عليه، لا رجوع له فيه عند الفقهاء؛ لأنه يلزمه أداء ذلك الحقّ، فلما لم يفعل كان بيعه اختيارًا منه، فلزمه.
وأما إذا كان الإكراه ظلمًا، وقهرًا، فلا يجوز ذلك البيع، وهو أولى بمتاعه، يأخذه بلا ثمن، ويتّبع المشتري بالثمن ذلك الظالم، فإن فات المتاع رجع بثمنه، أو بقيمته بالأكثر من ذلك على الظالم، إذا كان المشتري غير عالم بظلمه. قال سُحنون: أجمع أصحابنا يعني المالكيّة- وأهل العراق على أن بيع المكره على الظلم والجور لا يجوز. وقال الأبهريّ: إنه إجماع. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة التاسعة): في اختلاف العلماء في نكاح المكره:
قال سحنون: أجمع المالكيّة على إبطال نكاح المكره والمكرهة، وقالوا: لا يجوز المقام عليه؛ لأنه لم ينعقد. قال محمد بن سُحنون: وأجاز أهل العراق نكاح المكره، وقالوا: لو أكره على أن ينكح امرأة بعشرة آلاف درهم، وصداق مثلها ألف درهم، أن النكاح جائز، وتلزمه الألف، ويبطل الفضل. قال: فكما أبطلوا الزائد على الألف، فكذلك يلزمهم إبطال النكاح بالإكراه، وقولهم خلاف السنّة الثابتة في حديث خنساء بنت خِذَام الأنصاريّة، ولأمره - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - بالاستثمار في أبضاعهنّ، فلا معنى لقولهم. ذكره القرطبيّ. وهو تحقيق حسن، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة العاشرة): إذا استُكرهت المرأة على الزنى، فلا حدّ عليها؛ لقوله:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} ، وقوله - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -:"إن تجاوز عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استُكرهوا عليه"؛ ولقوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، يريد الفتيات. وبهذا المعنى حكم عمر في الوليدة التي استكرهها العبد، فلم يحدّها. والعلماء متّفقون على أنه لا حدّ على امرأة مستكرهة. وقال مالك: إذا وُجدت المرأة
حاملًا، وليس لها زوجٌ، فقالت: استُكرهت، فلا يُقبل ذلك منها، وعليها الحدّ، إلا أن تكون لها بيّنة، أو جاءت تَدْمِي على أنها أُوتيت، أو ما أشبه ذلك، واحتجّ بحديث عمر بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى -عنه أنه قال:"الرجم في كتاب اللَّه حقّ على من زنى من الرجال والنساء، إذا أُحصن، إذا قامت البيّنة، أو كان الحبل، أو الاعتراف". قال ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: وبالقول الأول أقول.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وأنا أيضًا به أقول؛ لأن زناها لم يثبت ببيّنة، ولا باعتراف، بل ادّعت الإكراه، فلا حدّ عليها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الحادية عشرة): إذا أُكره الرجل أن يسلم زوجته لمن لا تحلّ له جاز له تسليمها، ولا يقتل نفسه دونها، ولا تحمّل أذيّة في تخليصها، والأصل في ذلك ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هاجر إبراهيم عليه السلام بسارة، فدخل بها قرية، فيها ملك من الملوك"، أو " جبار من الجبابرة، فقيل: دخل إبراهيم بامرأة، هي من أحسن النساء، فأرسل إليه، أن يا إبراهيم من هذه التي معك؟ قال: أختي، ثم رجع إليها، فقال: لا تكذّبي حديثي، فإني أخبرتهم أنك أختي، واللَّه إن على الأرض مؤمن غيري وغيرك، فأرسل بها إليه، فقام إليها، فقامت توضأ وتصلي، فقالت: اللهم إن كنتُ آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي، إلا على زوجي، فلا تسلط عليّ الكافر، فغُطَّ، حتى رَكَضَ برجله" الحديث.
فهذا الحديث دليلٌ على ما قلناه، ودليلٌ أيضًا على أنه لا لوم على المستكرهة، ولا حد عليها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية عشرة): أجمع العلماء على أن من أُكره على الكفر، فاختار القتل أنه أعظم أجرًا عند اللَّه ممن اختار الرخصة. واختلفوا فيمن أكره على غير القتل من فعل ما لا يحلّ له، فقال أصحاب مالك: الأخذ بالشدّة في ذلك، واختيار القتل، والضرب أفضل عند اللَّه من الأخذ بالرخصة. ذكره ابن حبيب، وسُحنون. وذكر ابن سُحنون عن أهل العراق أنه إذا تُهُدّد بقتل، أو قطع، أو ضرب، يخاف منه التلف، فله أن يفعل ما أُكره عليه، من شرب خمر، أو أكل خنزير، فإن لم يفعل حتى قُتل خِفنا أن يكون آثمًا؛ لأنه كالمضطرّ.
وقد أخرج البخاريّ من حديث خباب بن الأرت - رضي اللَّه تعالى عنه -، قال: شكونا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له، في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا
تدعو اللَّه لنا؟ قال: "كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض، فيُجعل فيه، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيُشق باثنتين، وما يَصُدُّه ذلك عن دينه، ويُمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه، من عظم، أو عَصَب، وما يصدّه ذلك عن دينه، واللَّه ليَتِمَّنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا اللَّه، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون".
فوصفه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - هذا عن الأمم السالفة على جهة المدح لهم، والصبر على المكروه في ذات اللَّه، وأنهم لم يكفروا في الظاهر، وتبطّنوا الإيمان؛ ليدفعوا العذاب عن أنفسهم. وهذه حجة من آثر الضرب، والقتل، والْهَوَان، على الرخصة، والمقام بدار الجنان. ذكره القرطبيّ
(1)
. وهو تحقيق حسن. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة عشرة): في اختلاف أهل العلم في حدّ الإكراه:
قال في "الفتح": أخرج عبد بن حُميد بسند صحيح عن عمر - رضي اللَّه تعالى عنه -
قال: "ليس الرجل بأمين على نفسه، إذا سُجن، أو أُوثق، أو عُذب". ومن طريق شُريح نحوه، وزيادة، ولفظه:"أربع كلّهنّ كره: السجن، والضرب، والوعيد، والقيد". وعن ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - قال: "ما كلام يدرأ عنّي سوطين إلا كنت متكلّما به". وهو قول الجمهور. انتهى
(2)
.
وقال أبو عبد اللَّه القرطبيّ بعد ذكر نحو ما تقدّم: وقال الحسن: التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة، إلا أن اللَّه تبارك وتعالى ليس يجعل في القتل تقيّة. وقال النخعيّ: القيد إكراه، والسجن إكراه. وهذا قول مالك، إلا أنه قال: والوعيد المخوّف إكراه، وإن لم يقع، إذا تحقّق ظلم ذلك المتعدّي، وإنفاذه لما يتوعّد به، وليس عند مالك وأصحابه في الضرب والسجن توقيت، إنما هو ما كان يؤلم من الضرب، وما كان من سجن يدخُل منه الضيق على المكره. وإكراه السلطان وغيره عند مالك إكراه.
وتناقض الكوفيّون، فلم يجعلوا السجن، والقيد إكراهًا على شرب الخمر، وأكل الميتة؛ لأنه لا يُخاف منهما التلف، وجعلوهما إكراهًا في إقراره لفلان عندي ألف درهم. قال ابن سُحنون: وفي إجماعهم على أن الألم، والوجع الشديد إكراه ما يدلّ على أن الإكراه يكون من غير تلف نفس. وذهب مالك إلى أن من أُكره على يمين بوعيد، أو سجن، أو ضرب أنه يحلف، ولا حِنث عليه، وهو قول الشافعيّ، وأحمد،
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 188 - 189.
(2)
"فتح" 14/ 325.
وأبي ثور، وأكثر العلماء
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي عليه أكثر العلماء هو الحقّ عندي؛ لما سبق من الأدلة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
16 - (الْحُكْمُ فِيمَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
-)
4072 -
(أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْرَائِيلُ، عَنْ عُثْمَانَ الشَّحَّامِ، قَالَ: كُنْتُ أَقُودُ رَجُلاً أَعْمَى، فَانْتَهَيْتُ إِلَى عِكْرِمَةَ، فَأَنْشَأَ يُحَدِّثُنَا، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَّ أَعْمَى كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ، وَكَانَ لَهُ مِنْهَا ابْنَانِ، وَكَانَتْ تُكْثِرُ الْوَقِيعَةَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَسُبُّهُ، فَيَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ، وَيَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، ذَكَرْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَوَقَعَتْ فِيهِ، فَلَمْ أَصْبِرْ أَنْ قُمْتُ إِلَى الْمِغْوَلِ، فَوَضَعْتُهُ فِي بَطْنِهَا، فَاتَّكَأْتُ عَلَيْهِ، فَقَتَلْتُهَا، فَأَصْبَحَتْ قَتِيلاً، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَجَمَعَ النَّاسَ، وَقَالَ: «أَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلاً لِي عَلَيْهِ حَقٌّ، فَعَلَ مَا فَعَلَ إِلاَّ قَامَ» ، فَأَقْبَلَ الأَعْمَى يَتَدَلْدَلُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا صَاحِبُهَا كَانَتْ أُمَّ وَلَدِي، وَكَانَتْ بِي لَطِيفَةً رَفِيقَةً، وَلِي مِنْهَا ابْنَانِ، مِثْلُ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تُكْثِرُ الْوَقِيعَةَ فِيكَ، وَتَشْتُمُكَ، فَأَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، وَأَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ، فَلَمَّا كَانَتِ الْبَارِحَةَ ذَكَرْتُكَ، فَوَقَعَتْ فِيكَ، فَقُمْتُ إِلَى الْمِغْوَلِ، فَوَضَعْتُهُ فِي بَطْنِهَا، فَاتَّكَأْتُ عَلَيْهَا، حَتَّى قَتَلْتُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا اشْهَدُوا، أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ»).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عثمان بن عبد اللَّه) بن محمد بن خُرَّزاد
(2)
: هو أبو عمرو البصريّ، نزيل أنطاكية، ثقة، من صغار [11] 112/ 155 من أفراد المصنّف.
2 -
(عباد بن موسى) الْخُتَّليّ
(3)
أبو محمد الأبناويّ، سكن بغداد، ثقة [10].
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 190. تفسير سورة النحل.
(2)
بضمّ الخاء المعجمة، وتشديد الراء،، بعدها زايّ.
(3)
بضمّ الخاء المعجمة، وتشديد المثنّاة المفتوحة-: نسبة إلى الْخُتَّل قرية بطريق خُرَاسان. أفاده في "اللباب" 1/ 421.
قال ابن معين، وأبو زرعه، وصالح بن محمد: ثقة. وقال ابن معين مرّةً: ليس به بأس. وقال الدارقطنيّ: صدوقٌ. وقال ابن قانع: صالح. وقال ابن أبي حاتم، عن أبي زُرعة: ثقة. قال أحمد بن عليّ الأَبّار، وغيره: مات بطَرَسُوس سنة (227). وقال ابن حبّان في "الثقات": مات سنة (30). وقال ابن قانع: مات سنة (29)، وقيل: سنة (30) وهو أصحّ عندي.
روى له الجماعة، سوى الترمذيّ، وابن ماجه، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديثان فقط: هذا الحديث، وفي "كتاب الزينة" 47/ 5199 - حديث أنس رضي اللَّه تعالى عنه:"كان لرسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - خاتم فضة" الحديث.
3 -
(إسماعيل بن جعفر) بن كثير: هو الأنصاريّ الزُّرقيّ المدنيّ القارئ، ثقة ثبت [8] 16/ 17.
4 -
(إسرائيل) بن يونس بن أبي إسحاق السَّبيعيّ الكوفيّ، ثقة [7] 75/ 1410.
5 -
(عثمان الشَّحّام) العدويّ، أبو سلمة البصريّ، يقال: اسم أبيه ميمون، أو عبد اللَّه، لا بأس به [6] 90/ 1347، والباقيان ترجما قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أن فيه ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى - عنهما من المكثرين السبعة، والعبادلة الأربعة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عُثْمَانَ الشَّحَّام) بتشديد الحاء المهملة: هو كما في "لبّ اللباب" نسبة إلى بيع الشحم، أنه (قَالَ: كُنْتُ أَقُودُ رَجُلًا أَعْمَى، فَانْتَهَيْتُ) أي بلغت (إِلَى عِكْرِمَةَ) أي إلى موضع عكرمة مولى ابن عبّاس (فَأَنْشَأَ) أي شرع، وأخذ (يُحَدِّثُنَا، قَالَ) عكرمة (حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ أَعْمَى) لم أعرف اسمه (كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ) أي غير مسلمة، ولذلك كانت تجرىء على ذلك الأمر الشنيع (وَكَانَ لَهُ مِنْهَا ابْنَانِ، وَكَانَتْ تُكْثِرُ الْوَقِيَعَةَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)"الوقيعة" -بفتح الواو، وكسر القاف: الذّمّ، والعيب، يقال: وقع فلانٌ في فلان وُقُوعًا، ووقِيعة: إذا سبّه، وثَلَبَه. قاله الفيّوميّ (وَتَسُبُّهُ) صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، وهو من باب قتل (فَيَزْجُرُهَا) من باب قتل أيضًا: أي يمنعها من ذلك (فَلَا تَنْزَجِرُ) أي لا تمتنع، ولا تترك ذلك، وقوله (وَيَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي) مؤكد لما قبله (فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ) وقال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: يمكن
رفعه على أنه اسم "كان"، ونصبه على أنه خبرها: أي كان الزمان، أو الوقت ذات ليلة. وقيل: يجوز نصبه على الظرفية: أي كان الأمر في ذات ليلة، ثم "ذات ليلة" قيل: معناه: ساعة من ليلة. وقيل: معناه: ليلة من الليالي، و"ذات" مقحمة. انتهى
(1)
(ذَكَرْتُ) بضمّ التاء، فهو ضمير المتكلّم، والكلام من قوله:"فلما كان ذات ليلة الخ" لذلك الأعمى (النَّبِيَّ) بالنصب مفعول "ذكرت"(صلى الله عليه وسلم، فَوَقَعَتْ فِيهِ) قال السنديّ: قيل: تعدى بـ "في" لتضمينه معنى الطعن، يقال: وقع فيه: إذا عابه، وذمّه انتهى (فَلَمْ أَصْبِرْ) بكسر الباء (أَنْ قُمْتُ) الفعل في تأويل المصدر مجرور بحرف جرّ محذوف قياسًا، كما قال ابن مالك في "خلاصته":
وَعَدِّ لَازِمًا بِحَرْفِ جَرّ
…
وَإِنْ حُذِفْ فَالنَّصْبُ لِلمُنْجَرِّ
نَقْلًا وَفِي "أَنَّ" و"أَنْ" يَطَّرِدُ
…
مَعْ أَمْنِ لَبْسٍ كَـ "عجِبْتُ أَنْ يَدُو"
والتقدير هنا: فلم أصبر عن القيام (إِلَى الْمِغْوَلِ) متعلّق بـ "قمتُ"، و"الْمِغْول" بكسر الميم، وسكون الغين المعجمة-: شبه سيفٍ قصير، يشتمل به الرجل تحت ثيابه، فيغطيه. وقيل: حديدة دقيقة، لها حدٌّ ماض، وقَفًا. وقيل: هو سَوْطٌ في جوفه سيف دقيقٌ يَشُدّه الفاتك على وسطه؛ ليغتال به الناس. قاله في "النهاية"
(2)
.
(فَوَضَعْتُهُ فِي بطنِها، فَاتَّكَأْتُ عَلَيْهِ) أي اعتمدت على ذلك الْمِغْوَل (فَقَتَلْتُهَا، فَأَصْبَحَتْ قَتِيلًا) إنما لم يقل: قتيلة؛ لأن فعيلًا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكّر والمؤنث.
وفي رواية أبي داود: "فقتلها، فوقع بين رجليها طفلٌ، فَلَطَخَت ما هُناك بالدم". (فَذُكِرَ) بالبناء للمفعول (ذلِك) أي كونها مقتولة (لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية أبي داود: "فلما أصبح ذُكر ذلك للنبيّ صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - (فَجَمَعَ النَّاسَ، وَقَالَ: "أَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلًا) أي أسال رجلاً مُقسمًا باللَّه تعالى، يقال: نشدتك اللَّه، وباللَّه، أنشُدُك، من باب نصر: ذكّرتك به، واستعطفتك، أو سألتك به مُقسمًا عليه. أفاده الفيّوميّ. والمناسب هنا المعنى الأخير. وقوله (لي عَلَيْهِ حَقٌّ) جملة من مبتدإ وخبر، في محلّ نصب صفة لـ "رجلاً"، والمعنى: أسأل باللَّه تعالى رجلاً مسلما تجب عليه طاعتي، وإجابة دعوتي، وإنما ناشد بهذا الأسلوب تأكيدًا؛ لعظم الأمر. وقوله (فَعَلَ مَا فَعَلَ) "ما" اسم موصول: أي الفعل الذي فعله، من قتل هذه الجارية، والجملة صفة لـ"رجلًا" بعد صفة، أو حال منه (إِلَّا قَامَ) أي من مجلسه حتى يعترف بأنه القاتل لها (فَأَقْبَلَ
(1)
"شرح السنديّ" 7/ 108.
(2)
"النهاية" 3/ 397.
الأَعْمَى يَتَدَلْدَلُ) بدالين مهملين، ولامين: أي يضطرب في مشيه. وفي رواية أبي داود: "فقام الأعمى يتخطّى رقاب الناس، وهو يتزلزل، حتّى قعد بين يدي النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -"(فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّهِ، أَنَا صَاحِبُهَا) أي صاحب تلك الجارية المقتولة (كَانَتْ أُمَّ وَلَدِي، وَكَانَتْ بِي لَطِيفَةٌ) فعلية بمعنى فاعلة، كـ (رَفِيقَةً) وزناً ومعنًى (وَلِي مِنْهَا ابْنَانِ، مِثْلُ اللُّؤْلُؤتَيْنِ) أي في الحسن، والبهاء، وصفاء اللون (وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تُكْثِرُ الْوَقيعَةَ فِيكَ، وَتَشْتُمُكَ) من بابي ضرب، وقتل كما في "القاموس"(فَأَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، وَأَزْجُرُهَا فَلْا تَنْزَجِرُ، فَلمَّا كَانَتْ الْبَارِحَةُ)"كانت" هنا تامّة، و"البارحة" فاعلها، أي جاءت البارحة، ويحتمل أن تكون ناقصة، واسمها ضمير يعود إلى الوقت المفهوم، و"البارحة" بالنصب على أنه خبرها و"البارحة" هي الليلة الماضية، تقول العرب قبل الزوال: فعلنا الليلة كذا؛ لقربها من وقت الكلام، وتقول بعد الزوال: فعلنا البارحة، مشتقّ من برح الشيء يبرحُ، من باب تعِب براحًا: إذا زال من مكانه. أفاده الفيّوميّ (ذَكَرَتُكَ، فَوَقَعَتْ فِيكَ، فَقُمْتُ إِلَى الْمِغْولِ، فَوَضَعْتُهُ فِي بَطْنِهَا، فَاتَّكَأْتُ عَلَيْهَا، حَتَّى قَتَلْتُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أَلا) بالتخفيف: أداة استفتاح وتنبيه (اشْهدُوا، أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ) بفتحين: أي باطل، لا قصاص فيه، يقال: هدر الدمُ هَدْرًا، من بابي ضرب، وقتل: بَطَلَ، وأَهدَرَ بالألف لغة، وهَدَرتُهُ، من باب قتل، وأهدرته: أبطلته، يُستعملان متعدّيين أيضًا، والْهَدَرُ بفتحتين -اسم منه، وذهب دمه هَدْرًا بالسكون، والتحريك: أي باطلاً، لا قود فيه. قاله الفيّوميّ.
والظاهر أن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - علم بالوحي صدقه، فأهدر دمها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-16/ 4072 - وفي "الكبرى" 16/ 3533. وأخرجه (د) في "الحدود" 4361. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم من سبّ النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، وهو قتله. (ومنها): أن الذميّ إذا لم يكفّ لسانه عن اللَّه تعالى، أو عن رسوله صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، ينتقض عهده، فلا ذمّة له. (ومنها): أن من
سبّ النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - يُقتلُ، وقد قيل: لا خلاف في أن سابّه من المسلمين يجب قتله، وإنما الخلاف إذا كان ذميًّا، وسيأتي تحقيق الخلاف في المسألة التالية إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): أنه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - كان أحيانًا لا يطلب البينة، بل يحكم بقول المدعي؛ لثبوت صدقه لديه وحيًا، وهذا لا يسع أحدًا غيره، كما سيأتي قول أبي بكر الصديق - رضي اللَّه تعالى عنه - في الباب التالي:"ما كان لأحد بعد محمد - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم من سبّ النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -:
نَقَلَ ابْن الْمُنْذِر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- الاتِّفَاق عَلَى أَنَّ مَنْ سَبّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم صَرِيحًا، وَجَبَ قَتْله. وَنَقَلَ أَبُو بَكْر الفَارِسِيّ أَحَد أَئِمة الشَّافِعِيَّة، فِي "كِتَاب الإجْماَع" أَنَّ مَنْ سَبَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، مِمَّا هُوَ قذفٌ صَرِيح، كَفَرَ بِاتِّفَاقِ العُلَمَاء، فَلَوْ تَابَ لَمْ يَسْقُط عَنْهُ الْقَتْل؛ لأَنَّ حَدَّ قَذْفه الْقَتْل، وَحَدّ الْقَذْف لا يَسْقُط بِالتَّوْبَةِ. وَخَالَفَهُ القَفَّال، فَقَالَ: كَفَرَ بِالسَّبِّ، فَيَسْقُط الْقَتْل بِالإسْلام. وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيّ: يَزُول القَتْل، وَيَجِب حَدّ الْقَذْف. وَضَعَّفَهُ الإمَام. فَإِنْ عَرَّضَ، فَقَالَ الخَطَّابِي: لَا أَعْلَمُ خِلافًا في وُجُوب قَتْله، إِذَا كَانَ مُسْلمًا.
وقال ابن بطّال -رحمه اللَّه تعالى-: اختلف العلماء فيمن سبّ النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، فأما أهل العهد والذمّة، كاليهود، فقال ابن القاسم، عن مالك: يُقتل من سبّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - منهم، إلا أن يُسلم، وأما المسلم، فيُقتل بغير استتابة. ونقل ابن المنذر عن الليث، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق مثله في حقّ اليهودي ونحوه.
وروي عن الأوزاعيّ، ومالك في المسلم أنها ردّة، يُستتاب منها. وعن الكوفيين: إن كان ذِميًّا عُزِّر، وإن كان مسلما فهي ردّةٌ. وحكى عياضٌ خلافًا، هل كان ترك من وقع منه ذلك لعدم التصريح، أو لمصلحة التأليف. ونقل عن بعض المالكيّة أنه إنما لم يقتل اليهود الذين كانوا يقولون: السام عليك؛ لأنهم لم تقُم عليهم البينة بذلك، ولا أقرّوا به، فلم يَقض فيهم بعلمه. وقيل: إنهم لما لم يُظهروه، ولووْه بألسنتهم ترك قتلهم. وقيل: إنه لم يحمل ذلك منهم على السبّ، بل على الدعاء بالموت الذي لا بدّ منه، ولذلك قال في الردّ عليهم:"وعليكم"، أي الموت نازلٌ علينا وعليكم، فلا معنى للدعاء به. أشار إلى ذلك القاضي عياض. وكذا من قال السأم بالهمز بمعنى السآمة، هو دعاء بأن يملّوا الدين، وليس بصريح في السبّ. وعلى القول بوجوب قتل من وقع منه ذلك، من ذميّ، أو معاهد، فترك لمصلحة التأليف، هل ينتقض بذلك عهده؟ محلّ تأمّل.
واحتجّ الطحاويّ لأصحابه بحديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه -، قال: مرّ يهودي
برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: السامُ عليك، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"وعليك"، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أتدرون ما يقول؟ "، قال:"السام عليك"، قالوا: يا رسول اللَّه، ألا نقتله؟، قال:"لا، إذا سلّم عليكم أهل الكتاب، فقولوا: وعليكم". رواه البخاريّ. وَأَيَّدَهُ بِأَنَّ هَذَا الْكَلَام لَوْ صَدَرَ مِنْ مُسْلِم، لَكَانَ رِدَّة، وَأَمَّا صُدُوره مِنْ اليَهُود، فَالَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الكُفْر، أَشَدّ مِنهُ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقْتُلهُم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ دِمَاءهُم لَمْ تُحقَن إلا بِالْعَهْدِ، وَلَيْسَ فِي الْعَهْد أَنَّهُم يَسُبُّون النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَمَنْ سَبَّهُ مِنْهُم، تَعَدَّى الْعَهْد، فَيَنْتَقِض، فَيَصِير كَافِرًا بِلا عَهْد، فَيُهْدَر دَمه، إِلا أَنْ يُسْلِم.
قال في "الفتح": وَيُؤيِّدهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كُلّ مَا يَعْتَقِدُونَهُ، لا يُؤَاخَذُون بِهِ، لَكَانُوا لَوْ قَتَلُوا مُسْلمًا، لَمْ يُقْتَلُوا؛ لَأَنَّ مِنْ مُعْتَقَدهمْ حِلَّ دِمَاء الْمُسْلِمِينَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ قَتَلَ مِنْهُمْ أَحَدٌ مُسْلِمًا قُتِلَ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا يُقْتَل بِالْمُسْلِمِ قِصَاصًا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُقْتَل بِهِ، وَلَوْ أَسْلَمَ، وَلَوْ سَبَّ، ثُمَّ أَسْلَمَ، لَمْ يُقْتَل.
قُلْنَا: الْفَرْق بَيْنهمَا أَنَّ قَتْل الْمُسْلِم، يَتَعَلَّق بِحَقِّ آدَمِيٍّ، فَلَا يُهْدَر، وَأَمَّا السَّبّ فَإِنَّ وُجُوب الْقَتْل بِهِ، يَرْجِع إِلَى حَقّ الدِّين، فَيَهْدِمهُ الإسْلام.
وَالَّذِي يَظْهر، أَنَّ تَرْك قَتْل الْيَهُود إِنَّمَا كَانَ لِمَصْلَحةِ التَّأْليف، أَوْ لِكَوْنِهمْ لَمْ يُعلِنُوا بِهِ، أَوْ لَهُمَا جَمِيعًا، وَهُوَ أَوْلَى، وَاللَّه أَعْلَمُ. انتهى. ما في "الفتح"
(1)
.
وقال الإمام ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-: ثبت عنه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - أنه قضى بإهدار دم أم ولد الأعمى، لمّا قتلها مولاها على السبّ. وقتل جماعة من اليهود على سبّه وأذاه، وأمّن الناس يوم الفتح إلا نفرًا ممن كان يؤذيه، ويهجوه، وهم أربعة رجال، وامرأتان. وقال:"مَن لكعب بن الأشرف؟، فإنه قد آذى اللَّه ورسوله"، وأهدر دمه، ودم أبي رافع. وقال أبو بكر الصّدّيق - رضي اللَّه تعالى عنه - لأبي برزة الأسلميّ - رضي اللَّه تعالى - عنه، وقد أراد قتل من سبّه: ليس لأحد بعد رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، فهذا قضاؤه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، وقضاء خلفائه من بعده، ولا مخالف لهم من الصحابة، وقد أعاذهم اللَّه تعالى من مخالفة هذا الحكم. وقد روى أبو داود في "سننه" عن عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه - أن يهوديّة كانت تشتم النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، وتقع فيه، فخنقها رجلٌ حتى ماتت، فأبطل رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - دمها
(2)
.
(1)
"فتح" 14/ 283 - 285. "كتاب استتابة المرتدين" رقم 6926.
(2)
رجاله ثقات، إلا أن فيه انقطاعًا؛ لأن الشعبيّ الراوي له عن عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه - لم يسمع منه.
وذكر أصحاب السير والمغازي عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - قال: هَجَت امرأة النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، فقال:"من لي بها؟ " فقال رجلٌ من قومها: أنا، فنهض، فقتلها، فأُخبر النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، فقال:"لا ينتطح فيها عنزان". وفي ذلك بضعة عشر حديثًا ما بين صحاح، وحسان، ومشاهير، وهو إجماع الصحابة - رضي اللَّه تعالى عنهم -.
وقد ذكر حربٌ في "مسائله" عن مجاهد، قال: أتي عمر - رضي اللَّه تعالى عنه - برجل سبّ النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، فقتله، ثم قال عمر - رضي اللَّه تعالى عنه -: من سبّ اللَّه ورسوله، أو سب أحدًا من الأنبياء، فاقتلوه. ثم قال مجاهد عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -: أيما مسلم سبّ اللَّه ورسوله، أو سبّ أحدًا من الأنبياء، فقد كذب برسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، وهي ردّة، يُستتاب منها، فإن رجع، وإلا قُتل، وأيّما معاهد عاند، فسبّ اللَّه، أو سبّ أحدًا من الأنبياء، أو جهر به، فقد نقض العهد، فاقتلوه.
وذكر أحمد عن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - أنه مرّ به راهب، فقيل له: هذا يسبّ النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، فقال ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -: لو سمعته لقتلته، إنا لم نُعطهم الذمة على أن يسبوا نبينا. والآثار عن الصحابة بذلك كثيرة.
وحكى غير واحد من الأئمة الإجماع على قتله. قال شيخنا يعني ابن تيمية -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وهو محمول على إجماع الصدر الأول، من الصحابة، والتابعين.
قال: وأما تركه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - قتل من قدح في عدله بقوله: "اعدِل، فإنك لم تعدل". أخرجه مسلم. وفي حكمه بقوله: "أن كان ابن عمّتك؟ "، متّفقٌ عليه. وفي قصده بقوله:"إن هذه قسمة ما أُريد بها وجه اللَّه"، أو في خلوته بقوله: "يقولون: إنك تنهى عن الغيّ، وتستخلي به
(1)
). وغير ذلك، فذلك أن الحقّ له، فله أن يستوفيه،
(1)
هو ما أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، فقال:
19538 -
حدثنا إسماعيل، أخبرنا بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه، أن أخاه، أو عمه قام إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: جيراني بما أُخذوا؟، فأعرض عنه، قال: جيراني بما أخذوا؟، فأعرض عنه، ثم قال: جيراني بما أخذوا؟، فأعرض عنه، قال: لئن قلت ذاك، لقد زعم الناس، أن محمدا ينهى عن الغي، ويستخلي به، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما قال؟، فقام أخوه، أو ابن أخيه، فقال: يا رسول اللَّه إنه إنه، فقال: "أما لقد قلتموها"، أو"قال قائلكم، ولئن كنت أفعل ذلك، إنه لعليّ، وما هو عليكم، خلوا له عن جيرانه". وسنده حسنٌ، ومعنى "يستخلي به" أي يستقلّ به، وينفرد. وسيأتي الحديث للمصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في "باب قطع السارق" برقم 4875 مختصرًا، إن شاء اللَّه تعالى.
وله أن يتركه، وليس لأمته ترك استيفاء حقّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -. وأيضًا فإن هذا كان في أوّل الأمر، حيث كان - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - مأمورا بالعفو والصفح. وأيضًا فإنه كان يعفو عن حقّه لمصلحة التأليف، وجمع الكلمة، ولئلّا يُنفّر الناس عنه، ولئلّا يتحدّثوا أنه يقتل أصحابه، وكل هذا مختصّ بحياته - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -. انتهى كلام ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى- هو الحقّ عندي. وحاصله وجوب قتل من سبّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - مطلقًا، سواء كان مسلمًا، أو ذميًّا؛ لحديث الباب، وغيره من الأدلة المتقدّمة، ولأنه إجماع الصدر الأول، كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه تعالى-. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
407388 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ تَوْبَةَ الْعَنْبَرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُدَامَةَ بْنِ عَنَزَةَ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ، قَالَ: أَغْلَظَ رَجُلٌ لأَبِى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَقُلْتُ: أَقْتُلُهُ، فَانْتَهَرَنِي، وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا لأَحَدٍ، بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عمرو بن عليّ) الفلاّس الصيرفيّ البصريّ، ثقة ثبت [10] 4/ 4.
2 -
(معاذ بن معاذ) العنبريّ، أبو المثنّى البصريّ الثقة الثبت، من كبار [9] 34/ 38.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت [7] 24/ 27.
4 -
(توبة) بن أبي الأسد كيسان بن راشد، أبو المُورّع البصريّ، ثقة [4] 33/ 2176.
5 -
(عبد اللَّه بن قُدامة) بن عَنَزَة بفتح المهملة، والنون، والزاي -أبي السّوَّار العنبريّ البصريّ، والد سوار القاضي الأكبر، ثقة [4].
روى عن أبي برزة. وعنه توبة العنبريّ. قال النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". تفرد به المصنّف بهذا الحديث فقط.
6 -
(أبو برزة الأسلميّ) نَضْلة بن عُبيد الصحابيّ المشهور، أسلم - رضي اللَّه تعالى عنه - قبل الفتح، وغزا سبع غزوات، ثم نزل البصرة، وغزا خُراسان، ومات بها سنة (65) على الصحيح، تقدّم في 2/ 495. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير عبد اللَّه بن قُدامة، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل
بالبصريين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيّ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: أَغْلَظَ رَجُلٌ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ) يقال: أغلظ له في القول إغلاظا: إذا عنّفه، والمعنى أن رجلاً عنّف أبا بكر - رضي اللَّه تعالى عنه - على أمر، إما على قسمة شيء، كما قال ذلك المنافق للنبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - حينما قسم الغنيمة: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه، أو على أمر آخر. واللَّه تعالى أعلم. قال أبو برزة - رضي اللَّه تعالى عنه - (فَقُلْتُ: أَقْتُلُهُ) وفي الرواية الآتية: "ألا أضرب عنقه؟ "، وفي رواية:"قال: غضب أبو بكر على رجل غضبًا شديدا، حتى تغيّر لونه، قلت: يا خليفة رسول اللَّه، واللَّه لو أمرتني لأضربنّ عنقه، فكأنما صُبّ عليه ماء بارد، فذهب غضبه عن الرجل"(فَانْتَهَرَنِي) أي زجرني عن قتله (وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا) أي قتل من أساء إلى وليّ الأمر، وأغضبه (لِأَحَدٍ، بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) قال الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى- مفسّرًا كلام أبي بكر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا: أي لم يكن لأبي بكر أن يقتل رجلاً إلا بإحدى ثلاث التي قالها رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -: "كُفرٌ بعد إيمان، أو زنًا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس"، وكان للنبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - أن يقتل. انتهى. ذكره أبو داود في "سننه"
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي بكر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-16/ 4073 و 17/ 4074 و 4075 و 4076 و 4077 و 4078 و 4079 - وفي "الكبرى" 16/ 3534 و 17/ 3535 و 3536 و 3537 و 3538 و 3539 و 3540. وأخرجه (د) في "الحدود" 4361 (أحمد) في "مسند العشرة"، وصححه الحاكم في "مستدركه". واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة) في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم من سبّ النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، وهو القتل، ووجه الاستدلال أنّ قول أبي بكر - رضي اللَّه تعالى
(1)
راجع "سنن أبي داود" في "كتاب الحدود" 12/ 19 - 20. بنسخة "عون المعبود".
عنه - هذا يدلّ على أنه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - مختصّ بقتل من أغضبه، ومعلوم أن من سبه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - يُغضبه؛ لأن ذلك يعود إلى الطعن في رسالته، وذلك كفر باللَّه تعالى؛ لكونه اتهامًا في عصمته إياه مما يوجب سبّه، وعيبه.
(ومنها): أن غيره - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - من الولاة ونحوهم، ليس له أن يقتُل من أغضبه، وإن بلغ به الغضب ما بلغ؛ لأن سبّه لا يبلغ الطعن في اللَّه تعالى، كما كان في شأن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، وإنما لهم القتل فيما شرع اللَّه تعالى لهم به، كما في حديث:"لا يحلّ دم امرئ مسلم، إلا بإحدى ثلاث" كما سبق في كلام الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى-.
(ومنها): ما كان عليه أبو بكر - رضي اللَّه تعالى عنه - من التحمّل والعفو فيمن اعتدى عليه. (ومنها): ما كان عليه أبو برزة - رضي اللَّه تعالى عنه - من طاعة أبي بكر - رضي اللَّه تعالى عنه -، وحبّه له، حيث غضب لغضبه، وطلب منه أن يؤدّب الذي أساء إليه الأدب، وينكل به، حتى لا يجتريء عليه أحد بعده. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
17 - (ذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى الأَعْمَشِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن أبا معاوية رواه عن الأعمش، عن عمرو بن مرّة، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي برْزَة، وخالفه يعلى بن عُبيد، فرواه عن الأعمش، عن أبي الْبَخْتَريّ، عن أبي برزة، وتابعه عليه أبو عوانة.
والذي يظهر لي أن هذا الاختلاف، لا يضرّ؛ لإمكان حمله على أن الأعمش رواه عن كلّ من سالم بن أبي الجعد، وأبي البَخْتَريّ.
وكان الأصل ترجيح رواية أبي معاوية على رواية يعلى وأبي عوانة؛ لأنه هو المقدّم من أصحاب الأعمش في الأعمش بعد سفيان الثوريّ، لكن اتفاقهما يقوّي حفظهما للحديث، فيكون الحديث ثابتًا بالطريقين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
4074 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَا، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ، قَالَ: تَغَيَّظَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَجُلٍ، فَقُلْتُ مَنْ هُوَ؟ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: لِمَ؟ قُلْتُ: لأَضْرِبَ عُنُقَهُ، إِنْ أَمَرْتَنِي بِذَلِكَ، قَالَ: أَفَكُنْتَ فَاعِلاً؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَوَاللَّهِ، لأَذْهَبَ عِظَمُ كَلِمَتِي الَّتِي قُلْتُ غَضَبَهُ، ثُمَّ قَالَ: مَا كَانَ لأَحَدٍ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.
و"محمد بن العلاء": هو أبو كُريب الْهَمْدانيّ الكوفيّ، أحد مشايخ الأئمة الستّة، ثقة حافظ [10] 95/ 117.
و"أبو معاوية": هو محمد بن خازم الضرير. و"عمرو بن مُرّة": هو الْجَمَليّ المراديّ الكوفيّ، ثقة عابد [5] 171/ 265. و"سالم بن أبي الجعد رافع الْغَطَفانيّ الأشجعيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة [3] 61/ 77.
وقوله: "فواللَّه لأذهب الخ" هذا من قول أبي برزة - رضي اللَّه تعالى عنه -، أي أن كلامي قد عظُم عند أبي بكر - رضي اللَّه تعالى عنه - حتى زال بسبب عظمته غضبه.
وقوله: ثُمّ قال الخ" أي ثم قال أبو بكر - رضي اللَّه تعالى عنه - بعد أن ذهب غضبه بسبب كلامي الذي عظُمَ عنده.
والحديث صحيح، وقد سبق شرحه وما يتعلّق به من المسائل في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4075 -
(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ، قَالَ: مَرَرْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ مُتَغَيِّظٌ عَلَى رَجُلٍ، مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقُلْتُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، مَنْ هَذَا الَّذِي تَغَيَّظُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: وَلِمَ تَسْأَلُ؟ قُلْتُ: أَضْرِبُ عُنُقَهُ، قَالَ: فَوَاللَّهِ، لأَذْهَبَ عِظَمُ كَلِمَتِي غَضَبَهُ، ثُمَّ قَالَ: مَا كَانَتْ لأَحَدٍ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، أبي داود سليمان بن سيف الْحَرَّانيّ، فإنه من أفراده، وهو ثقة حافظ [11] 103/ 136.
و"يعلى": هو ابن عُبيد بن أمية الطنافسيّ الكوفيّ، ثقة، من كبار [9] 105/ 140.
و"أبو الْبَخْتَريّ" بفتح الموحّدة، والمثنّاة، بينهما معجمة ساكنة-: سعيد بن فيروز الطائي مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبت، فيه تشيّع قليل، كثير الإرسال [3] 34/ 2486.
والحديث صحيح، وقد سبق الكلام عليه في الباب الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4076 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ يَحْيَى بْنِ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ، قَالَ: تَغَيَّظَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَجُلٍ، فَقَالَ: لَوْ أَمَرْتَنِي لَفَعَلْتُ، قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ، مَا كَانَتْ لِبَشَرٍ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.
و"يحيى بن حمّاد": هو الشيبانيّ البصريّ، خَتَنُ أبي عوانة، ثقة عابد، من صغار [9] 43/ 2225. و"أبو عوانة": هو الوضّاح بن عبد اللَّه اليَشْكُريّ الواسطيّ، ثقة ثبت [7] 41/ 46. و"سليمان": هو الأعمش المذكور قبله.
والحديث صحيح، سبق تمام البحث فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4077 -
(أَخْبَرَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ الأَشْعَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنِ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ، قَالَ: غَضِبَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَجُلٍ، غَضَبًا شَدِيدًا، حَتَّى تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، قُلْتُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَئِنْ أَمَرْتَنِي لأَضْرِبَنَّ عُنُقَهُ، فَكَأَنَّمَا صُبَّ عَلَيْهِ مَاءٌ بَارِدٌ، فَذَهَبَ غَضَبُهُ عَنِ الرَّجُلِ، قَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ أَبَا بَرْزَةَ، وَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ لأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ أَبُو نَصْرٍ، وَاسْمُهُ حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ، خَالَفَهُ شُعْبَةُ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "معاوية بن صالح الأشعريّ": هو أبو عبيد اللَّه الدمشقيّ، صدوقٌ [11] 49/ 2725 من أفراد المصنّف.
و"عبد اللَّه بن جعفر": هو القرشيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الرّقّيّ، ثقة، لكنه تغيّر بآخره، فلم يفحُش اختلاطه [10] 177/ 280.
و"عبيد اللَّه": هو ابن عمرو الرّقّيّ، أبو وهب الأسديّ، ثقة فقيه، ربّما وَهِمَ [8] 177/ 280.
و"زيد": هو ابن أبي أُنيسة واسمه زيد الجزَريّ، أبو أسامة، كوفيّ الأصل، ثم سكن الرُّها، ثقة، له أفراد [6] 191/ 306.
وقوله: "عن أبي نضرة" خطأٌ، والصواب:"عن أبي نصر"، كما بيّنه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، حيث قال (قال أبو عبد الرحمن) النسائيّ رحمه الله تَعَالَي- (هذا خطأ) أي قوله:"عن أبي نضرة" -بالضاد المعجمة، وآخره تاء التأنيث- خطأ (والصَّوَابُ أَبُو نَصْر) بالصاد المهملة، بدون تاء التأنيث (وَاسْمُهُ حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ) العدويّ البصريّ، ثقة عالمٌ، توقّف فيه ابن سيرين لدخوله في عمل السلطان [3] 4/ 4.
وإنما حكم المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بالخطإ على هذا السند؛ لمخالفة شعبة، لزيد
ابن أبي أُنيسة وهو أحفظ منه، وأتقن، فرواه عن عمرو بن مرّة، عن أبي نصر، وتؤيّده رواية يونس بن عبيد، حيث قال:"عن حُميد بن هلال"، وهو اسم أبي نصر.
والحديث صحيح بالطرق الماضية، والآتية. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
ثم أشار -رحمه اللَّه تعالى- إلى صواب الرواية" فقال (خَالَفَهُ شُعْبَةُ) أي خالف زيد بن أبي أُنيسة في روايته عن عمرو بن مرّة، قائلًا عن أبي نضرة بالضاد المعجمة، وهاء التأنيث، شعبةُ بْنُ الحجّاج، فرواه عن عمرو، وقال: "عن أبي نصر" بالصاد المهملة، بدون التاء، كما بيّنه بقوله:
4078 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا نَصْرٍ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ، قَالَ: أَتَيْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَقَدْ أَغْلَظَ لِرَجُلٍ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ، فَانْتَهَرَنِي، فَقَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ لأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَبُو نَصْرٍ حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ، وَرَوَاهُ عَنْهُ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، فَأَسْنَدَهُ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أبو داود": هو سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ، ثقة حافظ، غلِطَ في أحاديث [9] 13/ 343.
وقوله: "يُحدّث عن أبي برزة الخ" ظاهره يدلّ على أنه رواه عنه مباشرة، وليس كذلك؛ لما سيأتي أن بينهما واسطة، وهو عبد اللَّه بن مطرف بن الشخير، كما سيبينه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في كلامه الآتي قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى، وعليه فيكون معنى قول عمرو بن مرّة:"سمعت أبا نصر يُحدّث عن أبي برزة" سمعته يحدّث عن حديث أبي برزة، ولا يستلزم هذا أن يسمع من أبي برزة، كما لا يخفى. والحديث صحيح، كما سبق بيانه.
وقوله (قَالَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ: أَبُو نَصْرٍ: حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ) بيّن به أن أبا نصر الذي روى عنه عمرو بن مرّة في هذا الإسناد هو حُميد بن هلال الذي روى عنه يونس بن عُبيد في السند التالي.
وقوله (وَرَوَاهُ عَنْهُ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ فَأَسْنَدَهُ) أشار به أن يونس بن عُبيد خالف عمرو بن مرّة في هذا الإسناد، وذلك أن عمرًا رواه منقطعًا، حيث لم يذكر الواسطة بين حميد بن هلال، وأبي برزة - رضي اللَّه تعالى عنه -، وخالفه يونس بن عُبيد، فأسنده، أي رواه متّصلًا بذكر الواسطة بين حميد بن هلال، وأبي برزة الأسلميّ، وهو عبد اللَّه بن مطرّف ابن الشخّير. واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: أراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بقوله: "فأسنده" الإسنادَ بمعنى الاتصال، وهو إطلاقٌ صحيح.
وقد اختلف العلماء في معنى المسند، على أقوال، ذكرها في "التقريب"، مع شرحه "التدريب" فقال: قال الخطيب أبو بكر البغداديّ في "الكفاية": المسند عند أهل الحديث ما اتّصل سنده، من راويه إلى منتهاه، فشمل المرفوع، والموقوف، والمقطوع، وتبعه ابن الصبّاغ في "الْعُدّة"، والمراد اتّصال السند ظاهرًا، فيدخل ما فيه انقطاع خفيّ، كعنعنة المدلّس، والمعاصر الذي لم يثبت لُقيّه؛ لإطباق من خرّج المسانيد على ذلك. قال النوويّ كابن الصلاح: ولكن أكثر ما يُستعمل فيما جاء عن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - دون غيره.
وقال ابن عبد البرّ في "التمهيد": هو ما جاء عن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - خاصة، متّصلًا كان، كما لك، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، أو منقطعًا، كمالك، عن الزهريّ، عن ابن عبّاس، عن رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، قال: فهذا مسندٌ؛ لأنه قد أُسند إلى رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، وهو منقطعٌ؛ لأن الزهريّ لم يسمع من ابن عبّاس. وعلى هذا القول يستوي المسند والمرفوع. وقال الحافظ: يلزم عليه أن يصدُق على المرسل، والمعضل، والمنقطع، إذا كان مرفوعًا، ولا قائل به.
وقال الحاكم وغيره: لا يُستعمل إلا في المرفوع المتّصل، بخلاف الموقوف، والمرسل، والمعضل، والمدلَّس. وحكاه ابن عبد البرّ عن قوم من أهل الحديث، وهو الأصحّ، وليس ببعيد من كلام الخطيب، وبه جزم الحافظ في "النخبة"، فيكون أخصّ من المرفوع. قال الحاكم: من شرط المسند أن لا يكون في إسناده أُخبِرتُ عن فلان، ولا حُدثتُ عن فلان، ولا بلغني عن فلان، ولا أظنّه مرفوعًا، ولا رفعه فلان. انتهى ما في "التقريب" مع "التدريب" بتصرّف يسير
(1)
.
وإلى هذه الأقوال أشار السيوطيّ في "ألفيّة الأثر" بقوله:
الْمُسْنَدُ الْمَرْفُوعُ ذَا اتِّصَالِ
…
وَقِيلَ أَوَّلٌ وَقِيلَ التَّالِي
ثم ساق المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- رواية يونس بن عُبيد التي أشار إليها، فقال:
4079 -
(أَخْبَرَنِي أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطَرِّفِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ أَبِي
(1)
"التقريب" مع "التدريب" 1/ 182 - 183.
بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَغَضِبَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَيْهِ جِدًّا، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ، قُلْتُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ فَلَمَّا ذَكَرْتُ الْقَتْلَ، أَضْرَبَ عَنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ أَجْمَعَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، مِنَ النَّحْوِ، فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا، أَرْسَلَ إِلَيَّ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَرْزَةَ، مَا قُلْتَ؟ ، وَنَسِيتُ الَّذِي قُلْتُ، قُلْتُ: ذَكِّرْنِيهِ، قَالَ: أَمَا تَذْكُرُ مَا قُلْتَ؟ ، قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ، قَالَ: أَرَأَيْتَ حِينَ رَأَيْتَنِي غَضِبْتُ عَلَى رَجُلٍ، فَقُلْتَ: أَضْرِبُ عُنُقَهُ، يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، أَمَا تَذْكُرُ ذَلِكَ؟ ، أَوَكُنْتَ فَاعِلاً ذَلِكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ وَاللَّهِ، وَالآنَ إِنْ أَمَرْتَنِي فَعَلْتُ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا هِيَ لأَحَدٍ، بَعْدَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا الْحَدِيثُ أَحْسَنُ الأَحَادِيثِ، وَأَجْوَدُهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، أبي داود، سليمان بن سيف الحرّانيّ، وهو ثقة، وقد تقدّم قبل ثلاثة أحاديث.
و"عفّان": هو ابن مسلم الصفّار البصريّ الثقة الثبت، من كبار [10] 21/ 427.
و"يزيد بن زُيع": هو أبو معاوية البصريّ، كان يُقال له: ريحانة البصرة ثقة ثبت [8] 5/ 5. و"يونس بن عُبيد": هو العبديّ، أبو عُبيد البصريّ، ثقة ثبت فاضلٌ ورعٌ [5] 88/ 109.
و"عبد اللَّه بن مُطرِّف بن عبد اللَّه بن الشِّخِّير" بكسر المعجمة، وتشديد الخاء المعجمة، بعدها تحتانيّة ساكنة، ثم راء- العامريّ، أبو جَزْء بفتح الجيم، وسكون الزاي، بعدها همزة- البصريّ، صدوقٌ [3].
روى عن أبي برزة. وعنه حُميد بن هلال، وكاتبه عطيّة السّرّاج. وقتادة. مات قبل أبيه. ذكره ابن حبّان في "الثقات". تفرد به المصنّف، وأبو داود بهذا الحديث فقط. وقوله:"أضرب عن ذلك الحديث": أي أعرض عنه، يقال: ضربت عن الأمر، وأضربت بالألف: أعرضت تركًا، أو إهمالًا. قاله الفيّوميّ.
وقوله: "أجمع" توكيد لـ "ذلك الحديث". قال الفيّوميّ: وجاءوا بأجمعِهم بفتح الميم، وقد تُضمّ، حكاه ابن السِّكيت، وقبضتُ المال أجمعهُ، وجميعه، فتؤكّد به كلّ ما يصحّ افتراقه حِسًّا، أو حُكمًا. انتهى. وقوله:"إلى غير ذلك" متعلّق بحال محذوف، أي حال كونه منتقلًا إلى غير ذلك الحديث. وقوله:"من النحو": قال في "القاموس": النحو أي بفتح، فسكون-: الطريق، والجِهة، جمعه أنحاء، ونُحُو. انتهى. والمعنى هنا أنه أعرض عن ذلك الكلام الذي غضب من أجله، منتقلًا إلى غير ذلك من جهة الكلام.
وقوله: "أو كنت فاعلًا" بفتح الواو، لا بسكونها: هي همزة الاستفهام، وواو العطف.
وقوله: "قال أبو عبد الرحمن: هذا الحديث أحسن الأحاديث، وأجودها". الظاهر أنه أراد به أن الحديث بسند يونس بن عُبيد أجود منه بإسنادي عمرو بن مرّة، فإن رواية زيد بن أبي أُنيسة فيها غلط، وذلك قوله:"عن أبي نضرة"؛ لأن الصواب "عن أبي نصر"، ورواية شعبة عنه فيها انقطاع؛ لأنه لم يذكر عبد اللَّه بن مطرّف، وأما رواية يونس بن عُبيد فخالية عما ذُكر كلّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
18 - (السِّحْرُ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هو -بكسر السين، وسكون الحاء المهملتين- قال ابن فارس: هو إخراج الباطل في صورة الحقّ، ويقال: هو الخدِيعة، وسحره بكلامه يسحرُهُ، بفتح عين المضارع فيهما: استماله برقّته، وحسن تركيبه. وقال الفخر الرازيّ: ولفظ السحر في عرف الشرع مُختصّ بكلّ أمر يخفى سببه، ويتخيل على غير حقيقته، ويَجري مَجرَى التمويه والخِدَاع، قال اللَّه تعالى:{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66]، وإذا أُطلق ذُمَّ فاعله، وقد يُستعمل مقيّدًا فيما يُمدَح، ويُحمَد، نحو قوله - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -:"إن من البيان لسحرا"، رواه البخاريّ، أي إن بعض البيان سحرٌ؛ لأن صاحبه يُوضّح الشيء المشكل، ويكشِف عن حقيقته بحسن بيانه، فيَستميل القلوب، كما تُستَمالُ بالسحر. وقال بعضهم: لما كان في البيان من إبداع التركيب، وغرابة التأليف ما يجذِب السامع، ويُخرجه إلى حدّ يكاد يشغله عن غيره شُبِّه بالسحر الحقيقي، وقيل: هو السحر الحلال. قاله الفيّوميّ
(1)
. وسيأتي تمام البحث في ذلك في المسائل الآتية آخر الباب، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
4080 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، عَنِ ابْنِ إِدْرِيسَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلِمَةَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ، قَالَ: قَالَ يَهُوديٌّ لِصَاحِبِهِ: اذْهَبْ بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيِّ، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: لَا تَقُلْ نَبِيٌّ، لَوْ سَمِعَكَ كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَعْيُنٍ، فَأَتَيَا رَسُولَ
(1)
"المصباح المنير" 1/ 267 - 268.
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَسَأَلَاهُ عَنْ تِسْعِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، فَقَالَ لَهُمْ:«لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَلَا تَمْشُوا بِبَرِىءٍ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ، وَلَا تَسْحَرُوا، وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا، وَلَا تَقْذِفُوا الْمُحْصَنَةَ، وَلَا تَوَلَّوْا يَوْمَ الزَّحْفِ، وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةً يَهُودُ، أَنْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ» ، فَقَبَّلُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ، قَالَ:«فَمَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَتَّبِعُونِي؟» ، قَالُوا: إِنَّ دَاوُدَ، دَعَا بِأَنْ لَا يَزَالَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ وَإِنَّا نَخَافُ إِنِ اتَّبَعْنَاكَ، أَنْ تَقْتُلَنَا يَهُودُ).
رجال هذا الإسداد: ستة:
1 -
(محمد بن العلاء) الهمدانيّ، أبو كريب الكوفيّ، ثقة ثبت [10] 95/ 117.
2 -
(ابن إدريس) هو عبد اللَّه الأوديّ الكوفيّ، ثقة ثبت [8] 85/ 102.
3 -
(شعبة) بن الحجاج المذكور قريبًا.
4 -
(عمرو بن مرّة) بن عبد اللَّه بن طارق الْجَمَليّ المراديّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ الأعمى، ثقة عابد، ورمي بالإرجاء [5] 171/ 265.
5 -
(عبد اللَّه بن سلمة) بكسر اللام -المراديّ الكوفيّ، صدوقٌ، تغيّر حفظه [2] 171/ 265.
6 -
(صفوان بن عسّال) -بفتح العين وتشديد السين المهملتين- المراديّ الصحابيّ المشهور - رضي اللَّه تعالى عنه -، نزل الكوفة، وتقدم في "كتاب الطهارة" 98/ 126. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير عبد اللَّه بن سَلِمة، فمن رجال الأربعة. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شعبة، فإنه بصريّ. (ومنها): أن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: قَالَ يَهُودِيٌّ لِصَاحِبهِ) أي ليهودي مثله (اذْهَبْ بِنَا) الباء للمصاحبة، أو التعدية. قاله السنديّ (إِلَى هَذَا النَّبِيِّ) يريد نبينا محمدًا - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - (قال لهُ صاحِبُهُ) اليهودي (لَا تَقُلْ: نَبِيٌّ، لَوْ سَمِعَكَ) أي لو سمع قولك: إلى هذا النبيّ، وظهر له أنك تعتقده نبيًّا (كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَعْيُنِ) كناية عن زيادة الفرح، وفرط السرور؛ إذ الفرح يوجب قوّة الأعضاء، وتضاعفُ
القُوَى يشبه تضاعف الأعضاء الحاملة لها (فَأَتَيَا رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَسَأَلَاهُ عَنْ تِسْعِ آيَاتٍ) جمع آية، وهي العلامة الظاهرة، تُستعمل في المحسوسات، كعلامة الطريق، وغيرها، كالحكم الواضح، والمراد بها في الحديث: إِما المعجزات التسع، كما هو المراد في قوله تعالى:{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ} [النمل: 12]، وعلى هذا فالجواب في الحديث متروك، ترك ذكره الراوي، وقوله:"لا تُشركوا باللَّه شيئًا الخ" كلام مستأنف، ذُكر عقب الجواب. وإمّا الأحكام العامّة الشاملة للملل كلها، كما جُوّز ذلك في قوله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ} الآية [الإسراء: 101]، وعلى هذا فالمذكور في الحديث هو الجواب، لكن زيد فيه ذِكْرُ:"وعليكم خاصّةً يهود الخ"؛ لزيادة الإفادة. قاله السنديّ
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد وقع التصريح في رواية أحمد بأن هذه الآيات التسع هي المذكورة في هذا الحديث، ولفظه من طريق يزيد بن هارون، عن شعبة:"قال يهوديّ لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبيّ حتى نسأله عن هذه الآيات: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101] " الحديث. فهذا صريح في كون المراد بها ما في الآية.
وقال الإمام ابن كثير -رحمه اللَّه تعالى- في "تفسيره" بعد إيراد حديث الباب: ما نصّه: وهو حديث مشكل، وعبد اللَّه بن سَلِمَة في حفظه شيء، وقد تكلّموا فيه، ولعلّه اشتبه عليه التسع الآيات بالعشر الكلمات، فإنها وصايا في التوراة، لا تعلّق لها بقيام الحجة على فرعون. واللَّه أعلم. انتهى كلام ابن كثير
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر أن قوله في هذا الحديث: "عن تسع آيات" خطأ أخطأ فيه عبد اللَّه بن سلمة لسوء حفظه، فلعلّه اشتبه عليه عشر كلمات بتسع آيات كما قاله ابن كثير -رحمه اللَّه تعالى- آنفًا، فالظاهر أنهما سألاه عن عشر كلمات، وهي التي ذُكرت في الحديث، وعاشرها قوله:"وعليكم خاصّةً يهود الخ".
وأما التسع الآيات المذكورة في الآيتين الكريمتين، وهي التي أوتيها موسى عليه السلام فغير العشر الكلمات التي ذُكرت في هذا الحديث، وهي أيضًا مذكورة في التوراة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
وقال ابن كثير أيضًا في بيان المراد بتسع آيات في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} الآية [الإسراء: 101]: ما حاصله: وهي العصا، واليد، والسنين، والبحر، والطوفان، والجراد، والقُمّل، والضفادع، والدم آيات مفصّلات. قاله ابن
(1)
"شرح السنديّ" 7/ 111.
(2)
"تفسير بن كثير" 3/ 70 - 71. "تفسير سورة الإسراء".
عبّاس. وقال محمد بن كعب: هي اليد، والعصا، والخمس في "الأعراف"، والطمس، والحجر. وقال ابن عبّاس أيضًا، ومجاهد، وعكرمة، والشعبيّ، وقتادة: هي يده، وعصاه، والسنين، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم. وهذا القول ظاهر جلي، حسنٌ قويّ. وجعل الحسن البصريّ السنين ونقص الثمرات واحدة، وعنده التاسعة هي تلقّف العصا ما يأفكون. قال: فهذه الآيات التسع التي ذكرها هؤلاء الأئمة، هي المرادة ها هنا، وهي المعنيّة في قوله تعالى:{فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} الآية [النمل: 12]. قال: وقد أوتي موسى عليه السلام آيات أخر كثيرة، منها: ضربه الحجر بالعصا، وخروج الماء منه، ومنها تظليلهم بالغمام، وإنزال المنّ والسلوى، وغير ذلك مما أوتيه بنو إسرائيل بعد مفارقتهم بلاد مصر، ولكن ذكر ها هنا التسع آيات التي شاهدها فرعون وقومه، من أهل مصر، فكانت حجّة عليهم، فخالفوها، وعاندوها، كفرًا وجُحُودًا. انتهى المقصود من كلام ابن كثير -رحمه اللَّه تعالى-.
وقوله (بَيِّنَاتٍ) صفة لـ "آيات"، أي واضحة قاطعة على صحّة النبوة، وصدق الرسالة (فَقَالَ: لَهُمْ) النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، مجيبًا عن سؤالهم (لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا) نكره للتعميم، فالإشراك محرّم مطلقًا، سواء أشرك كثيرًا، أو قليلًا، كبيرًا، أو حقيرًا (وَلَا تَسْرقُوا) بفتح أوله، من باب ضرب (وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، إِلَّا بِالْحَقِّ) أي إلا إذا ارتكبت ما يوجب قتلها، كأن تقتل نفسًا بغير حقّ، أو تزني محصنة (وَلَا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ) الباء للتعدية (إِلَى ذِي سُلْطَانٍ) بضمّ، فسكون- يطلق على الشخص، وعلى الحجة والبرهان، وعلى الولاية، وهي المرادة هنا. قال الفيّوميّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: السلطان إذا أريد به الشخص مذكّرٌ، والسلطان: الحجة والبرهان، والسلطان: الولاية، والسلطنة، والتذكير أغلب عند الحُذّاق، وقد يؤنث، فيقال: قضتْ به السلطان: أي السَّلْطَنة. قاله ابن الأنباريّ، والزجّاج، وجماعةٌ. وقال أبو زيد: سمعتُ من أثق بفصاحته يقول: أتتنا سلْطَانٌ جائرة. والسُّلُطانُ بضمّ اللام للإتباع لُغةٌ، ولا نظير له. وقد يُطلق على الجمع، قال [من الرجز]:
عَرَفْتُ وَالْعَقْلُ مِنَ الْعِرْفَانِ
…
أَنَّ الْغِنَى قَدْ سُدَّ بِالْحِيطَانِ
إِنْ لَمْ يُغِثْنِي سَيِّدُ السُّلْطَانِ
أي سيّد السلاطين، وهو الخليفة. ويقال: إنه ها هنا جمع سَلِيطٍ، مثلُ رَغِيفٍ ورُغْفان. انتهى كلام الفيّوميّ.
والمعنى هنا: لا تتكلّموا بسوء فيمن ليس له ذنب عند ذي السلطنة، والحكم؛
ليقتله، أو يؤذيه (وَلَا تَسْحَرُوا) بفتح الحاء المهملة، من باب قطع-: أي لا تفعلوا السّحر (وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا) أي لا تتعاملوا بالربا، ولا تأخذوه (وَلَا تَقْذِفُوا) بكسر الذال المعجمة، من باب ضرب: أي لا ترموا بالزنا (الْمُحْصَنَةَ) بفتح الصاد المهملة، وكسرها -: أي المرأة العفيفة عن الزنا (وَلَا تَوَلَّوْا) -بفتح المثتاة الفوقية- أصله: تتولّوا، فحُذفت منه إحدى التاءين: أي لا تفرّوا (يَوْمَ الزَّحْفِ) بفتح الزاي، وسكون الحاء المهملة: أي يوم لقاء الجيش الكثير من العدوّ.
(وَعَليْكُمْ خَاصَّةَ يَهُودُ) بحذف حرف النداء: أي يا يهود (أَنْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) أي لا تتجاوزوا حد اللَّه تعالى فيه بالاصطياد (فَقَبَّلُوا يَدَيْه وَرِجْلَيْهِ) أي قتل اليهوديّان، ومن معهم يدي النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، ورجليه، تعظيمًا، وإكرامًا له؛ لما ظهر لهم من دلائل نبوّته، وصدق رسالته (وَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ، قَالَ) - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - (فَمَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَتَّبِعُونِي؟) أي فإذا علمتم، وتحقّق لديكم نبوّتي، فما الذي يمنعكم أن تدخلوا في دين الإسلام الذي تبيّن جئت به (قَالُوا: إِنَّ دَاوُدَ) عليه السلام (دَعَا بِأَنْ لَا يَزَالَ مِنْ ذُرِّيَّتَهِ نَبِيٌّ) أي فنحن ننتظر ذلك النبيّ، لنتبعه. وهذا من أكاذيبهم، وأباطيلهم، فإن داود عليه السلام يعلم بما أُوحي إليه أن محمدًا - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم سيكون خاتم الأنبياء، ولا يكون معه، ولا بعده نبي، وهو ليس من ذرّيّته، فلا يمكن أن يدعو بما زعموه، وعلى تقدير ثبوت ذلك منه، يُحمل على أنه دعا أن تكون النبوّة في ذريته في الزمان الذي قبل نبيّنا - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -.
وقال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: وهذا منهم تكذيب لقولهم: نشهد أنك نبيٌّ، وأنهم ما قالوه عن صدق اعتقاد، ضرورة أنه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - كان يدّعي ختم النبوّة به - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، فالقول بأنه نبيّ يستلزم صدقه فيه، وانتظار نبيّ آخر ينافيه، فانظر إلى تناقضهم وكذبهم. انتهى.
(وَإِنَّا نَخَافُ إِنْ اتَّبَعْنَاكَ، أَنْ تَقْتُلَنَا يَهُودُ) وهذا اعتذار آخر لتركهم الإيمان به صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، وهو أيضًا اعتذار باطل؛ لأنهم لو أسلموا لكانوا معه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، ومع أصحابه - رضي اللَّه تعالى عنهم -، ولا تستطيع اليهود أن تقتلهم، كما لم يستطيعوا قتل عبد اللَّه بن سلام - رضي اللَّه تعالى عنه - حينما أسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث صفوان بن عسّال - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا ضعيف، لسوء حفظ عبد اللَّه بن سَلِمة.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-18/ 4080 - وفي "الكبرى" 18/ 3541. وأخرجه (ت) في "الاستئذان" 2733 و"التفسير" 3144 (ق) في "الأدب" 3705. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: زاد في "الكبرى" بعد إخراج هذا الحديث: ما نصّه: قال أبو عبد الرحمن: وهذا حديث منكر. قال أبو عبد الرحمن: حُكي عن شعبة قال: سألت عمرو بن مرّة، عن عبد اللَّه بن سلِمة؟ فقال: تعرِف، وتُنكر. قال أبو عبد الرحمن: وعبد اللَّه بن سلمة الأفطس متروك الحديث. قال أبو عبد الرحمن: كان هذا الأفطس يطلُبُ الحديث مع يحيى بن سعيد القطّان، وكان من أسنانه. انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عبد اللَّه بن سَلِمَة الأفطس هذا ليس من رجال الكتب الستّة، وإنما ذكره المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- تمييزًا بينه وبين عبد اللَّه بن سَلِمَة المذكور في هذا السند، وقد أشار للفرق بينهما بشيئين:
[أحدهما]: أن الذي في السند تعرِف، وتُنكِر، وأما الأفطس، فمترك الحديث.
[والثاني]: أن الذي في السند متقدّم يروي عن صفوان بن عسّال، وغيره من الصحابة، والأفطس متأخّر، كان من أقران يحيى القطّان، وزملائه في طلب الحديث. ثم هذا الذي قاله المصنّف من تضعيف الأفطس، قاله غيره، فقال يحيى القطّان: ليس بثقة. وقال الفلّاس: كان وقّاعًا في الناس. وقال أحمد: ترك الناس حديثه، كان يجلس إلى أزهر، فيُحدّث أزهر، فيكتب على الأرض: كذب، كذب، وكان خبيث اللسان. وقال ابن المدينيّ: ذهب حديثه. وقال الفلّاس: سمعته يقول: حدّثني موسى ابن عُقبة، فذكرته ليحيى بن سعيد، فقال: لم يسمع منه، قدِم معنا المدينةَ، وقد مات موسى قبل ذلك. قال الفلاّس: وهو متروك الحديث. وقال أبو حاتم: متروك. وقال الساجيّ: كان يحيى ينسبه إلى الكذب. وقال أبو أحمد: سكتوا عنه. وقال سعيد بن عمرو الْبَرْدعيّ، عن أبي زرعة: كان صدوقًا، ولكنه كان يقع في يحيى بن سعيد القطّان، وعبد الواحد بن زياد. وقال ابن عديّ: مع ضعفه يُكتب حديثه. ذكر هذا كلّه في "لسان الميزان"
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة): في بيان أقسام السحر:
قال في "الفتح": قَال الرَّاغِب وَغَيْره: السّحْر يُطْلَق عَلَى مَعَانٍ:
(1)
راجع "الكبرى" 2/ 307 رقم 18/ 3541.
(2)
راجع "لسان الميزان" 3/ 346.
[أَحَدهَا]: مَا لَطُفَ وَدَقَّ، وَمِنْهُ سَحَرْتُ الصَّبِيَّ: خَادَعْته، وَاسْتَمَلْته، وَكُلّ مَن اسْتَمَالَ شَيْئًا فَقَدْ سَحَرَهُ، وَمِنْهُ إِطْلَاقَ الشُّعَرَاءَ سِحْر الْعُيُون، لِاسْتِمَالَتِهَا النُّفُوس، وَمِنْهُ قَول الأَطِبَّاء: الطَّبِيعَة سَاحِرَة، وَمِنْهُ قوله تعالى:{بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 15]: أَيْ مَصْرُوفُونَ عَنْ الْمَعْرِفَة، وَمِنْهُ حَدِيث:"إِنَّ مِنْ البَيَان لَسِحَرًا".
[الثَّانِي]: مَا يَقَع بِخِدَاع، وَتَخَيِيلَات، لَا حَقِيقَة لَهَا، نَحْوَهَا مَا يَفْعَلَهُ الْمُشعْوِذ مِنْ صَرْف الأَبْصَار، عَمَّا يَتَعَاطَاهُ بِخِفَّةِ يَده، وَإِلَى ذَلِكَ الإشَارَة بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66]، وقوله تعالى:{سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف: 116]، وَمِنْ هُنَاكَ سَمَّوُا مُوسىَ سَاحِرا. وَقَدْ يَسْتَعِين فِي ذَلِكَ بِمَا يَكُون فِيهِ خَاصِّيَّة، كَالحَجَرِ الَّذِي يَجْذِبُ الحَدِيد الْمُسَمَّى الْمِغْنَطِيس.
[الثَّالِث]: مَا يَحْصُل بمُعاونَةِ الشَّيَاطِين، بِضَرْب مِنْ التَّقَرُّب إلَيْهِمْ، وَإلَى ذَلِكَ الإِشَارَة بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102].
[الرَّابع]: مَا يَحْصُل بِمُخَاطَبَةِ الْكَوَاكِب، وَاسْتِنْزَال رُوحَانِيَّاتهَا بِزَعْمِهِمْ. قَالَ ابْن حَزْم: وَمِنْهُ مَا يُوجَد مِنْ الطَّلْسَمَات، كَالطَّابع المَنْقُوش فِيهِ صُورَة عَقْرَب، فِي وَقْت كَوْن الْقَمَر فِي الْعَقْرَب، فَيَنْفَع إِمْسَاكه مِنْ لَدْغَةَ الْعَقْرب. وَكَالمُشَاهَدِ بِبَعْضِ بِلَاد الغَرْب -وَهِيَ سَرْقَسْطَة- فَإِنَّهَا لَا يَدْخُلهَا ثُعْبَان قَطُّ، إِلَّا إِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِرَادَته. وَقَدَ يَجْمَع بَعْضهمْ بَيْن الأَمْرَيْنِ الأَخِيرَيْنِ، كَالِاسْتِعَانةِ بِالشَّيَاطِينِ، وَمُخَاطَبَة الكَوَاكِب، فَيَكُون ذَلِكَ أَقْوَى بِزَعْمِهِمْ.
قَالَ أَبُو بَكْر الرَّازِيُّ فِي "الأْحَكام" لهُ: كان أهل بابِل، قوما صابِئِين، يعبُدُون الكواكِب السَّبعة، ويُسمونها آلِهة، ويعتقِدُون أنها الفعَّالة لِكُل ما في العالم، وعمِلُوا أوثانا على أسمائِها، ولِكُل واحِد هيكل، فِيهِ صنمه، يتقرَّب إِليهِ بِما يُوافِقهُ بِزعمِهِمِ، من أدعِية، وبخُور، وهُم الذين بُعِث إِليهِم إِبراهِيمُ عليه السلام، وكانت علُومهم أحكام النجُوم، ومع ذلِك فكان السّحرة مِنهُم، يستعمِلُون سائِر وُجُوه السحر، وينسُبُونها إِلى فِعل الكواكِب؛ لِئلا يُبحث عنها، وينكشِف تموِيهُهُم. انتهى.
ثُمَّ السِّحْر يُطلق، وُيراد بِهِ الآلة الَّتِي يُسحر بهِا، ويُطلق ويراد بِهِ فِعل السَّاحِر، والآلة تارة تكُون معنى من المعانِي فقط، كالرُّقى، والنَّفثِ في العُقد. وتارة تكُون بِالمحسُوساتِ، كتصوِيرِ الصُّورة على صُورة المسحُور. وتارة بِجمع الأمرينِ: الحِسِّيّ، والمعنويّ، وهُو أبلغ. انتهى ما في "الفتح"
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه
(1)
"فتح" 11/ 384 - 385.
المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في أن السحر، هل له حقيقة، أم لا؟: ذهبت طائفة إلى أن السحر تَخْيِيل، ولا حقِيقة لهُ، وهذا اختِيار أبِي جعْفر الإستِرباذِيّ، من الشَّافِعِيّة، وأبِي بكر الرَّازِيَّ، من الحنفِية، وابن حزْم الظَّاهِرِيّ، وطائفة.
وذهبت طائفة إلى أن لهُ حقِيقة، قال النَّووِي: وهو الصحِيح وبِهِ قطع الجمهور، وعليهِ عامة العُلماء، ويدُل عليهِ الكِتاب، والسُّنَّة الصَّحِيحة المشهُورة. انتهى.
قال الحافظ في "الفتح": لكِنْ محلّ النزاع، هك يقع بِالسِّحرِ انقِلاب عين، أوْ لا؟، فمن قال: إِنَّهُ تخيِيل فقط، منع ذلِك، ومن قال: إِنَّ لهُ حقِيقة، اختلفُوا، هل له تأثير فقط، بِحيثُ يُغير المزَاج، فيكُون نوْعًا من الأمراض، أوْ يتتهِي إِلى الإحالة، بِحيثُ يصِير الجماد حيوانا مثلاً، وعكسه؟:
فالذِي عليهِ الجمهُور هُو الأوَّل. وذهبت طائِفة قييلة إِلى الثانِي. فإِن كان بِالنَّظرِ إِلى القُدْرة الإلهِيَّة، فمُسلم، وإن كان بالنظرِ إِلى الواقِع، فهُو محلّ الخلاف، فإن كثِيرًا مِمن يدعِي ذلِك، لا يستطِيع إِقامة البرهان عليهِ. ونقل الخطابِيّ أن قوْما أنكرُوا السحر مُطلقا، وكأنَّهُ عنى القائِلين بأنهُ تخيِيل فقط، وإلاَّ فهِي مُكابرة. وقال المازِرِيّ: جمُهُور العُلماء على إِثبات السحر، وأن لهُ حقيقة، ونفى بغضهم حقِيقته، وأضاف ما يقع مِتهُ إِلى خيالات باطِلة، وهُو مردُود؛ لِوُرُودِ النَّقل بإِثباتِ السِّحر، ولِأنَّ العقل لا يُنكِر أن اللَّه قدْ يخرِق العادة عِتد نُطق الساحِر بِكلام مُلفَّق، أوْ تركِيب أجسام، أوْ مزج بين قُوْى على ترتِيب مخصُوص، ونظِير ذلِك ما يقع من حُذَّاق الأطِباء، من مزج بعض العقاقِير بِبغض، حتّى ينْقلِب الضَّارّ مِتها بِمُفردِهِ بِالتَّرْكِيب نافِعا. وقِيل: لا يزِيد تأثِير السِّحْر على ما ذكر اللَّه تعالى في قوْله: {يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} الآية [البقرة: 102]؛ لِكوْنِ المقام مقام تهوِيل، فلو جاز أن يقع بِهِ أكثر من ذلِك لذكرهُ.
قال المازِرِيّ: والصحِيح من جِهة العقل، أنهُ يجُوز أن يقع بِهِ أكثر من ذلِك، قال: والآية ليست نصًّا في منع الزيادة، ولوْ قُلنا: إِنها ظاهِرة في ذلِكً.
ثُمَّ قال: والفرق بين السحر، والمعجِزة، والكرامة، أنَّ السِّحر يكُون بمُعاناةِ أقوال وأفعال، حتَّى يتم لِلساحِرِ ما يُرِيد، والكرامة لا تحتاج إِلى ذلِك، بك إنَّما تقع غالِبا اتّفاقًا، وأمَّا المعجِزة، فتمتاز عن الكرامة بِالتَّحدَّي. ونقل إِمام الحرمينِ الإجماع على أنَّ السحر، لا يظهر إِلا من فاسِق، وأن الكرامة لا تظهر على فاسِق. ونقل النَّووِي في زِيادات، "الرَّوْضة" عن المتولِّي نحو ذلِك. ويتبغِي أن يُعتبر بِحالِ من يقع الخارِق مِنهُ،
فإن كان مُتمسكا بِالشرِيعةِ، مُتجنبا لِلمُوبِقاتِ، فالذِي يظهر على يده، من الخوارِق كرامة، وإلاَّ فهُو سِحْر؛ لِأنة ينشأ عن أحد أنواعه، كإِعانةِ الشَّياطِين.
وقال القُرطُبِيّ: السحر حِيل صِناعِيَّة، يُتوصَّل إِليها بِالاكتِساب، غير أنَّها لِدِقتِها، لا يُتوصل إِليها إِلا آحاد الناس، ومادَّته الوُقُوف على خواصّ الأشياء، والعِلم بِوُجُوهِ تركِيبها، وأوْقاته، وأكثرها تخييلات بغيرِ حقِيقة، وإيهامات بِغيرِ ثُبُوت، فيغظُم عند من لا يعرِف ذلِك، كما قال اللَّه تعالًى عن سحرة فِرْعوْن:{وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116]، مع أنَّ حِبالهم وعِصِيهم، لم تخرُج عن كوْنها حِبالا وعِصِيًّا. ثُمَّ قال: والحقّ أَنَّ لِبعض أصناف الصحر تأثيرًا في القُلُوب، كالحب والبُغض، وإلقاء الخير والشَّرّ، وفِي الأبدانِ بالألمِ والسَّقَم، وإنَّما المنكُور، أنَّ الجماد يتقلِب حيوانا، أوْ عكسه بسِحْرِ السّاحِر، أو نحْو ذلِك. انتهى ما "الفتح"
(1)
. وهو بحث نفيسٌ جدا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في حكم السحر:
قال في " الفتح": ما حاصله: استُدِلَّ بقوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} الآية [البقرة: 102]- على أنَّ السِّحر كُفر، ومُتعلِّمه كافِر، وهُو واضِح في بعض أنواعه التِي قدَّمتها، وهُو التعبد لِلشياطِين، أوْ لِلكواكِب، وأمّا النَّوْع الآخر الذِي هُو من باب الشَّعودة، فلا يكفر بِهِ من تعلَّمهُ أصْلًا.
قال النَّووِيّ: عمل السحر حرام، وهُو من الكبائِر بِالإجماعِ، وقد عدَّهُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات، ومِنهُ ما يكُون كُفرًا، ومِنهُ ما لا يكُون كُفرا، بك معصِية كبِيرة، فإن كان فيهِ قوْل، أً وْ فِعل يقتضِي الكُفر، فهُو كُفر، وإلا فلا.
وأما تعلُّمه، وتعليمه فحرام، فإن كان فِيهِ ما يقتضِي الكُفر كفر، واستُتِيب مِنهُ، ولا يُقتل، فإِن تاب قُبِلت توْبته، وإن لم يكُن فِيهِ ما يقتضِي الكُفر عُزر. وعق مالِك: السَّاحِر كافِر، يُقتل بِالسَّحرِ، ولا يستتاب، بك يتحتَّم قتله، كالزندِيقِ. قال عِياض: وبِقوْلِ مالِك قال أحمد، وجماعة من الصَّحابة، والتَّابِعِين.
وقد أجاز بعض العُلماء، تعلم السِّحر لأحدِ أمرينِ: إما لِتميِيزِ ما فِيهِ كُفر من غيره، وإمَّا لإزالتِهِ علّق وقع فِيهِ:
فأمَّا الأول: فلا محذُور فِيهِ، إِلا من جِهة الاعتِقاد، فإِذا سلِم الاعتِقاد، فمعرِفة الشيء بِمُجرَّدِهِ، لا تستلزِم منعًا، كمن يعرِف كيفِية عِبادة أهل الأوْثان لِلأوْثانِ؛ لِأنَّ
(1)
"فتح" 11/ 385 - 386.
كيفِية ما يعملهُ السَّاحِر، إِنما هِي حِكاية قوْل، أوْ فِعل، بِخِلافِ تعاطِيه، والعمل بِهِ. وأمَّا الثانِي: فإِن كان لا يتِمّ كما زعم بعضهم، إِلاَّ بِنوْع من أنواع الكُفر، أوْ الفِسق، فلا يحِل أصلا، وإلا جاز؛ لِلمعنى المذكور. وهذا فصلُ الخطاب في هذِهِ المسألة.
قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-. ما حاصله: وفِي إِيرإد البخاريّ، قوله تعالى:{وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 102]، إشارة إِلى اختِياره الحكم بكُفرِ السَّاحِر؛ لِقوْلهِ فِيها:{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْر} [البقرة: 102]، فإن ظاهِرها أنهم كفرُوا بِذلِك، ولا يكفر بِتعليمِ الشيء، إِلا وذلِك الشيء كُفر، وْكذا قوْله في الآية على لِسان الملكينِ:{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} [البقرة: 102]، فإن فِيهِ إِشارة إِلى أن تعلُّم السِّحر كُفر، فيكُون العملُ بِهِ كُفرا، وهذا كُلّه واضِح على ما قِرَّرْته مِن العمل بِبعْضِ أنواعه. وقذ زعم بعضهم أن السِّحر، لا يصِحّ إِلاَّ بِذلِك، وعلى هذا فتسمِيه- ما عدا ذلِك سِحرا مجاز، كإِطلاقِ السحر على القوْل البليغ. انتهى المقصود من كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي ذكره الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-، وقرره بحث نفيسٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في قتل الساحر:
قال الإمام ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى- في "زاد المعاد": أخرج الترمذيّ عنه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -: "حدّ الساحر ضربةٌ بالسيف"، والصحيح أنه موقوف على جندب بن عبد اللَّه. وصح عن عمر - رضي اللَّه تعالى عنه - أنه أمر بقتله، وصح عن حفصة - رضي اللَّه تعالى عنها - أنها قتلت مُدبّرةً سحرتها، فأنكر عليها عثمان، إذ فعلته دون أمره. وروي عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - أيضًا أنها قتلت مدبّرة سحرتها. وروي أنها باعتها. ذكره ابن المنذر وغيره.
وقد صحّ أن رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - لم يقتل من سحره من اليهود، فأخذ بهذا الشافعيّ، وأبو حنيفة --رحمهما اللَّه تعالى--، وأما مالك، وأحمد --رحمهما اللَّه تعالى-- فإنهما يقتلانه، ولكن منصوص أحمد -رحمه اللَّه تعالى- أن ساحر أهل الذمة لا يُقتل، واحتجّ بأن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - لم يقتل لبيد بن الأعصم اليهوديّ حين سحره. ومن قال بقتل ساحرهم يُجيب عن هذا بأنه لم يُقرّ، ولم تقم عليه بيّنة، وبأنه خشي - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - أن يُثير على الناس شرًّا بترك إخراج السحر من
(1)
راجع "الفتح" 11/ 383 - 388. "كتاب الطبّ" رقم 5763.
البئر، فكيف لو قتله. انتهى كلام ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
وقال في "الفتح": ما حاصله: اسْتُدِلَّ بِقصّة عائشة في سحر اليهوديّ له - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، على آن السَّاحِر لا يُقْتَل حدًّا، إِذا كان لهُ عهد، وأمَّا ما أخرجهُ التزمِذِي من حدِيث جُندُب، رفعهُ، قال:"حد السَّاحِر ضربه بِالسيفِ"، ففِي سنده ضعف، فلو ثبت لخُصّ مِنهُ من لهُ عهد، وتقدم فِي "الجِزية" من رِواية بجالة
(2)
: "أن عُمر كتب إِليهِم أن اقتُلُوا كُل ساحِر وساحِرة"، وزاد عند الرَّزَّاق، عن ابن جُريج، عن عمرو بن دِينار، في رِوايته عن بجالة. "فقتلنا ثلاث سواحِر"، أخرج البُخارِيّ أصل الحدِيث، دُون قِصَّة قتل السَّواحِر.
قال ابن بطال: لا يُقتل ساحِر أهل الكِتاب، عِتد مالِك، والزهرِي، إِلا أن يقتُل بِسِحرِهِ فيُقتل، وهُو قوْل أبِي حنِيفة، والشَّافعِيّ، وعق مالِك إن أدخل بِسِحرِهِ ضررًا على مسلِم، لم يُعاهد عليهِ، نقض العهد بذلِك، فيحِلّ قتله. وانما لم يقتُل النبِي صلى الله عليه وسلم لبِيد بن الأعصم؛ لأنةُ كان لا ينتقِم لِنفسِهِ، ولأنةُ خشي إذاً قتلهُ أن تثُور بِذلِك فِتنة، بين المسلِمِين وبين حُلفائهِ من الأنصار، وهُو من نمط ما راعاهُ، من تزك قتل المنافِقِين، سواء كان لبِيد يهُودِيَّا، أوْ مُنافِقا، على ما سيأتي من الِاختِلاف فِيهِ. قال: وعِند مالِك أن حُكم السَّاحِر، حُكم الزنْديق، فلا تُقبل توْبته، ويُقتل حداً، إِذا ثبت عليهِ ذلِك، وبِهِ قال أحمد. وقال الشافِعِي: لا يُقتل إِلا إٍ ن اعترف بِسِحرِهِ، فيُقتل بِهِ، فإن اغترف أن سِحرهُ قدْ يقتُل، وقد لا يقتُل، وأنهُ سحرهُ، وأنهُ مات لم يجِب عليهِ القِصاص، ووجبت الدِّية في ماله، لا على عاقِلته، ولا يُتصوْر القتل بِالصحرِ بِالبيِّنةِ، وادعى أبُو بكِر الرَّازِيُّ في "الأحكام" أن الشافِعِي تفرد بِقوْلِهِ: إِنَّ السَّاحِر يُقتل قِصاصًا، إِذا اعترف أنهُ قتلهُ بِسِحرِهِ. واللَّه أعلم.
قال النووِي: إن كان الصحر قوْلاً أوْ فِعلا يقتضِي الكُفر، كفر السَّاحِر، وتُقبل توْبته إِذا تاب عندنا، واذا لم يكُن في سِحره ما يقتضِي الكُفر، عُزر، واستُتِيب. انتهى ما في "الفتح"
(3)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يترجح عندي أن قتل الساحر مطلقًا هو الحقّ، إلا إذا ترتب على تركه مصلحة، كما ترك النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - لبيد بن الأعصم، كما سيأتي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): في حكم النُّشرة، وهي بضمّ النون، وسكون المعجمة-: حَلّ
(1)
"زاد المعاذ" 5/ 62/ 63.
(2)
بفتح الباء الموحّدة. وتخفيف الجيم.
(3)
"فتح" 11/ 401 - 402. "كتاب الطبّ" رقم 5767.
السَّحر عن المْسحُور. وقيل: هي ضرب من العلاج، يُعالج به من يُظن أن به سحرًا، أو مسَّا من الجن، سميت بذلك لأنةُ يُكشف بها عنهُ ما خالطهُ من الدَّاء.
قال الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه": "باب هل يُستخرج السحر". وقال قتادة: قلت لسعيد بن المسيّب: رجلٌ به طبٌّ، أو يؤخذ عن امرأته
(1)
، أيُحلّ عنه، أو يُنشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع، فلم يُنه عنه. انتهى.
فقال في "الفتح": قوْله: "باب هل يُستخرج السحر؟ " كذا أوْرد الترجمة بِالاستِفهام، إِشارة إِلى الاختِلاف، وصدَّر بِما نقلهُ عن سعِيد بن المُسيب من الجواز، إِشارة إِلى ترْجِيحه.
قوْله: "وقال قتادة: قُلت لِسعِيدِ بن المُسيَّب إِلخ" وصلهُ أبُو بكر الأثرم في "كِتاب السُّنن" من طرِيق أبان العطار، عن قتادة، ومِثله من طرِيق هِشام الدَّستُوائِي، عن قتادة، بِلقظِ:"يلتمِس من يُداوِيه، فقال: إِنما نهى اللَّه عمَّا يضر، ولم ينه عمَّا ينفع". وأخرجهُ الطبرِي في "التهذِيب" من طرِيق يزِيد بن زُريع، عن قتادة، عن سعِيد بن المُسيَّب، أنهُ كان لا يرى بأسّا، إِذا كان بِالرجُلِ سِحْر، أن يمْشِي إِلى من يُطلِق عنهُ، فقال: هُو صلاح.
وُيوافِق قوْل سعِيد بن المُسيَّب هذا، ما في حدِيث جابِر - رضي اللَّه تعالى عنه -، عِند مسْلِم، مرفُوعّا:"من استطاع أن يتفع أخاهُ فليفعل".
قال قتادة: وكان الحسنُ يكره ذلِك، يقُول: لا يعلم ذلِك إِلا ساحِر، قال: فقال سعِيد بن المُسيَّب: إِنما نهى اللَّه عمَّا يضر، ولم ينه عمَّا يتفع.
وقد أخرج أبُو داوُد في "المراسِيل" عن الحسن، رفعهُ "النُّشرة من عمل الشيطان"، ووصلهُ أحمد، وأبُو داوُد بسند حسن، عن جابِر.
قال ابن الجوزي: النُّشْرَة حل السحر عن المسْحُور، ولا يكاد يقدِر عليهِ إِلا من يعرِف السَّحر.
وقد سُئل أحمد عمَّن يُطلِق السحر عن المسْحُور؟ فقال: لا بأس بِهِ. وهذا هُو المُعتمد. ويُجاب عن الحديث، والأثر بِأنَّ قوْله:"النُّشرة من عمل الشيطان" إِشارة إِلى أصلها، ويختلِف الحُكم بِالقصدِ، فمن قصد بها خيرًا، كان خيرًا، وإلا فهُو شرّ.
(1)
قوله: "به طب" بكسر الطاء: أي سحر. وقوله: "أو يؤخذ" أي يُحبس عن امرأته، ولا يصل إلى جماعها، والأُخذة بالضمّ هي الكلام الذي يقوله الساحر. وقيل: حرزة يُرقى عليها، أو هي الرُّقية نفسها.
ثُمّ الحصر المنقول عن الحسنُ، ليس على ظاهِره؛ لأنةُ قدْ ينحل بِالرُّقى، والأدْعِية، والتَّعْوِيذ، ولكِن يحتمِل أنْ تكُون النشرة نوْعينِ. انتهى.
وُيوْيِّد مشرُوعِيَّة النشرة ما ثبت في "الصحيح" في حدِيث: "العينُ حقّ" من الأمر باغتِسال العائن لمن أصابه بعينه.
وقد أخرج عند الرَّزاق من طرِيق الشعبِي قال: لا بأس بالنُّشرةِ العربيَّة، التِي إِذا وُطِئت لا تضرهُ، وهِي أن يخرُج الإنسان في موْضِع عِضاهٍ، فيأخُذ عن يمِينه، وعن شِماله، من كُل، ثُمَّ يدُقهُ، ويقرأ فِيهِ، ثُمَّ يغتسِل بِهِ.
وذكر ابن بطال: أنَّ في كُتُب وهب بن مُنبه، أن يأخُذ سبع ورقات، من سِدْر أخضر، فيدُقهُ بين حجرينِ، ثُمَّ يضرِبهُ بِالماءِ، ويقرأ فِيهِ آية الكُرْسِي، والقواقِل، ثُمَّ يحسُو مِنهُ، ثلاث حسوات، ثُمَّ يغتسِل بِهِ، فإِنةُ يذهِب عنهُ كُلُّ ما بِهِ، وهُو جيد لِلرّجُلِ، إِذا حُبس عن أهله.
ومِمن صرّح بِجوازِ النُّشرة المُزنيَّ، صاحِب الشَّافِعِي، وأبُو جعفر الطبرِي، وغيرهما.
قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: ثُمَّ وقفت على صِفة النشرة، في "كِتاب الطبّ التبوِي"، لِجعفر المستغفِرِي، قال: وجدت في خط نصُوح بن واصِل، على ظهر جُزء مِن "تفسِير قُتيبة بنِ أخمد البخاريّ"، قال: قال قتادة لِسعِيدِ بن المُسيَّب: رجُل بِهِ طِبّ، أخِذ عن امرأته، أيحِل لهُ أن يُنشر؟ قال: لا بأس، وانما يُريد بِهِ الإصلاح، فأمَّا ما يتفع، فلم ينه عنهُ. قال نصُوح: فسألنِي حماد بن شاكِر: مأ الحل؟ وما النُّشرة؟ فلم أعرِفهُما، فقال: هُو الرجُل، إِذا لم يقدِر على مُجامعة أهله، وأطاق ما سِواها، فإِن المُنتلى بِذلِك، يأخذ خزمة قُضبان، وفأسًا ذا قِطارينِ، ويضعهُ في وسط تِلك الحزمة، ثُمِ يُؤجَّج نارًا، في تِلك الحزمة، حتى إِذا ما حمِي الفأس، استخرجهُ مِن النار، وبال على حرّه، فإِنَّه يبرأ بِإذنِ اللَّه تعالى.
وأمَّا النُّشرة، فإِنَّه يجمع أيام الرَّبِيع، ما قدر عليهِ من وزد المُفارة، وورد البساتِين، ثُمَّ يُلقِيها في إِناء نظِيف، ويجعل فِيهِما ماء عذبًا، ثُمَّ يُغلي ذلِك الورْد، في الماء غليًا يسِيرّا، ثُمَّ يُمهِل، حتى إِذا فتر الماء، أفاضهُ عليهِ، فإِنة يبرأ بإِذنِ اللَّه تعالى.
قال حاشِد: تعلَّمت هاتينِ الفائدتينِ بِالشام.
قال الحافظ: وحاشِد هذا من رُواة "الصحيح" عن البخاريّ. انتهى المقصود من عبارة "الفتح"
(1)
.
(1)
"فتح" 11/ 398 - 399. "كتاب الطبّ".
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن مما سبق أن الأرجح جواز النّشرة بالأشياء المباحات، التي لا توْدّي إلى الشرك؛ ومن أقوى أدلّته ما أخرجه مسلم -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" من حديث جابر - رضي اللَّه تعالى عنه -، مرفوعًا:"من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".
19 - (الْحُكْمُ فِي السَّحَرَةِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحكم الذي دلّ عليه حديث الباب، وإن كان في صحته مقال، هو الشرك، وظاهره أن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- يرى كفر الساحر، وهو ظاهر اختيار البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى-، حيث استدلّ على الترجمة بقوله تعالى:{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} الآية [البقرة: 102]، فإن ظاهره أنهم كفروا بذلك، ولا يكفر بتعليم الشيء، إلا وذلك الشيء كفر، وكذا قوله على لسان الملكين:{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} فإن فيه إشارة إلى أن تعلّم السحر كفرٌ، فيكون العمل به كفرّا، وقد تقدّم في المسائل المذكورة في الباب الماضي أن السحر أنواع، فمنه ما يكون كفرًا، ومنه ما لا يكون كفرًا، فالأولى تنزيل رأي البخاريّ، والمصنّف -رحمهما اللَّه تعالى- على ذلك التفصيل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
4081 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ،، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ مَيْسَرَةَ الْمِنْقَرِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً، ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا، فَقَدْ سَحَرَ، وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِّلَ إِلَيْهِ»).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عمرو بن عليّ) الفلّاس البصريّ، ثقة حافظ [10] 4/ 4.
2 -
(أبو داود) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ، ثقة حافظ [9] 13/ 343.
3 -
(عبّاد بن مبسرة الْمنْقري) البصريّ المعلم، ليّن الحديث، عابد [7].
قال الأثرم: ضعّفه أحمد. وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ليس به بأس. وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: عبّاد بن ميسرة، وعبّاد بن راشد، وعبّاد بن كثير، وعباد ابن منصور، كلّهم حديثهم ليس بالقوقي، ولكنه يُكتب. وقال أبو داود: عبّاد بن ميسرة ليس بالقوي. وقال إبراهيم بن بكر الشيبانيّ، عن الهيثم بن حَبيب: شهِد عبّاد بن ميسرة عند عبّاد بن منصور، فردّ شهادته، قال: لم رددت شهادتي؟ قال: لأنك تضرب اليتيم، وتأكل مال الأرملة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: كان من العبّاد. وقال ابن عدي: هو ممن يُكتب حديثه. روى المصنّف له حديث الباب فقط، وعلّق له الترمذيّ حديثًا في "العلم"، وأخرج له ابن ماجه في "التفسير".
4 -
(الحسن) بن أبي الحسن يسار، أبو سعيد البصريّ، ثقة فقيه فاضل، لكنه يدلّس، ويرسل كثيرًا [3]. 32/ 36.
5 -
(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، سوى عباد، كما مرّ آنفًا، وفيه انقطاع على رأي الجمهور؛ لأن الحسن لم يسمع من أبي هريرة رضي الله عنه عندهم، وقد تقدّم تحقيق ذلك، وأن الأصحّ أنه سمع منه. (ومنها): أن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير الصحابيّ، فمدنيّ. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً) قال الفيّوميّ: عقدتُ الحبل عقدًا، من باب ضرب، فانعقد، والعُقْدة -أي بضمّ، فسكون-: ما يُمسكه، ويُوثقه. انتهى.
وقال السنديّ: دأب أهل السحر أن أحدهم يأخذ خيطًا، فيعقد عليه عُقْدةً، ويتكلّم عليه بالسحر بنفث، فمن أتى بذلك، فقد أتى بعمل من أعمال أهل السحر. انتهى. (ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا) أي بزق في تلك العقدة، قال الفيّوميّ: نفثه من فيه نَفْثًا، من باب ضرب: رمى به. ونفَثَ: إذا بزَقَ. ومنهم من يقول: إذا بزَقَ، ولا ريق معه. ونفث في الْعُقدة عند الرُّقَى، وهو البُصاق اليسير. ونفثه نَفْثًا أيضًا: سحره، والفاعل نافثٌ، ونفّاثٌ مبالغة، والمرأة نافثةٌ، ونفّاثةٌ. انتهى
(1)
.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 615 - 616.
وقال ابن الأثير: ما معناه: النفْثُ شبيه بالنفخ، وهو أقلّ من التفل؛ لأن التفل لا يكون إلا معه شيء من الريق. انتهى
(1)
.
(فَقَدْ سَحَرَ) أي عمل بأعمال أهل السحر (وَمَنَ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ) أي فقد أتى بفعل من أفعال المشركين، أو لأنه قد يُفضي إلى الشرك، إذا اعتقد أن له تأثيرًا حقيقةً. وقيل: المراد الشرك الخفيّ بترك التوكّل، والاعتماد على اللَّه سبحانه وتعالى. قاله السنديّ
(2)
. وقد تقدّم تحقيق البحث في السحر، وأنواعه، وأحكامه في المسائل المذكورة في الباب الماضي، بتوفيق اللَّه تعالى، وله الحمد والمنّة، والثناء الحسن.
(وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا) أي علّق شيئًا بعنقه، أو عنق صغير، من التعلّق بمعنى التعليق، يقال: تَعَلّقَ الشيء تعلُّقًا، وعلّقه تعليقًا: جعله مُعلَّقَا. أفاده في "القاموس"(وُكِلَ إِلَيْهِ) بالبناء للمفعول، يقال: وَكَلتُهُ إلى نفسه، من باب وَعَدَ وُكُولاً: لم أقم لامره، ولم أُعِنه. قاله الفيّوميّ. وهو هنا كناية عن عدم عون اللَّه سبحانه وتعالى له. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا ضعيف؛ للانقطاع، فإن الجمهور على أن الحسن البصريّ لم يسمع من أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه -، وقد تقدّم البحث في ذلك؛ وأن الراجح ثبوت سماعه منه في الجملة، لكنه مدلس، وقد عنعنه هنا، ولأن في إسناده عبّاد بن ميسرة، وهو متكلّم فيه، كما سبق في ترجمته قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.
وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-19/ 4581 - وفي "الكبرى" 19/ 3542. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".
…
20 - (سَحَرَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ)
4082 -
(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنِ ابْنِ حَيَّانَ -يَعْنِي يَزِيدَ - عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: سَحَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَاشْتَكَى لِذَلِكَ
(1)
"النهاية " 5/ 88.
(2)
"شرح السنديّ" 7/ 112.
أَيَّامًا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَقَالَ: إِنَّ رَجُلاً مِنَ الْيَهُودِ سَحَرَكَ، عَقَدَ لَكَ عُقَدًا، فِي بِئْرِ كَذَا وَكَذَا، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَخْرَجُوهَا، فَجِيءَ بِهَا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِذَلِكَ الْيَهُودِيِّ، وَلَا رَآهُ فِي وَجْهِهِ قَطُّ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(هنّاد بن السريّ) بن مصعب، أبو السريّ الكوفيّ، ثقة [10] 23/ 25.
2 -
(أبو معاوية) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقة أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يهم في حديث غيره [7] 26/ 30.
3 -
(الأعمش) سليمان بن مِهران الكوفيّ، ثقة ثبت ورع، لكنه يدلس [5] 17/ 18.
4 -
(يزيد بن حيّان) التيميّ، أبو حيان الكوفيّ، عمّ أبي حيّان التيميّ، من قُدماء أهل الكوفة، ثقة [4].
قال النسائيّ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له مسلم، وله عنده حديث واحد، وأبو داود، وله عنده حديث واحد أيضًا، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب حديث الباب فقط.
5 -
(زيد بن أرقم) بن زيد بن قيس الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابيّ المشهور، أول مثاهده الخندق، وأنزل اللَّه تعالى تصديقه في "سورة المنافقين"، مات سنة (6) أو (68)، تقدّم في 13/ 13. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعي. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: سَحَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ) هو لبيد بن الأعصم، فقد أخرج البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" من حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، قالت: سحر رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - رجل من بني زُريق، يقال له: لبيد بن الأعصم". و"لبيد" بفتح اللام، وكسر الموحّدة، بعدها تحتانيّة ساكنةٌ، ثم مهملة. و"الأعصم" بمهملتين، بوزن الأحمر. و"زُريق" بزاي قبل الراء، مصغر. وفي رواية للبخاريّ: "رجلٌ من بني زُريق، حَليف اليهود، وكان منافقًا". وفي رواية لمسلم: "سحر النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -
يهوديّ، من يهود بني زُريق". قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: ويجمع بينهما بأن من أطلق عليه أنّه يهوديّ نظر إلى ما في نفس الأمر، ومن أطلق عليه مناففًا نظر إلى ما في ظاهر أمره. وقال ابن الجوزيّ: هذا يدلّ على أنه كان أسلم نفاقًا، وهو واضحٌ. وقد حكى عياض في "الشفا" أنه كان أسلم. ويحتمل أن يكون قيل له: يهوديّ لكونه كان من حُلفائهم، لا أنه كان على دينهم.
وبنو زُريق بطنّ من الأنصار، مشهور من الخزرج، وكان بين كثير من الأنصار، وبين كثير من اليهود قبل الإسلام حِلفٌ، وإخاءٌ، ووُدّ، فلما جاء الإسلام، ودخل الأنصار فيه تبرّءوا منهم.
وقد بيّن الواقديّ السنة التي وقع ليها السحر، أخرجه عنه ابن سعد بسند له إلى عمر ابن الحكم، مرسلٌ، قال:"لَمّا رجع رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - من الحديبية، في ذي الحجة، ودخل المحرم، من سنة سبع، جاءت رؤساء اليهود إلى لَبيد ابن الأعصم وكان حليفًا في بني زُريق، وكان ساحرًا - فقالوا له: يا أبا الأعصم أنت أسحرنا، وقد سحرنا محمدًا، فلم نصنع شيئًا، ونحن نجعل لك جُعْلاً على أن تسحره لنا سحرّا ينكوْه، فجعلوا له ثلاثة دنانير".
(فَاشْتَكَى لِذَلِكَ أَيَّامًا) قال في "الفتح": وقع في رواية أبي ضمرة، عند الإسماعيليّ:"فاقام أربعين ليلة"، وفي رواية وُهيب، عن هشام، عند أحمد:"ستّة أشهر". ويمكن الجمع بأن تكون الستّة أشهر من ابتداء تغيّر مزاجه، والأربعين يومًا من استحكامه. وقال السُّهيلي: لم أقف في شيء من الأحاديث المشهورة على قدر المدّة التي مكث النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - فيها في السحر، حتّى ظفرت به في "جامع معمر"، عن الزهريّ أنه لبث ستّة أشهر. قال الحافظ: كذا قال، وقد وجدناه موصولاً بالإسناد الصحيح، فهو المعتمد. انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أراد الحافظ ما سبق في رواية أحمد أنه "ستة أشهر"، فإنه بسند البخاريّ، وهو موصول بذكر عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، بخلاف ما في " جامع معمر"، فإنه من مرسل الزهريّ. واللَّه تعالى أعلم.
زاد حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - عند الشيخين: "حتى كان رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - يُخيَّل إليه أنه كان يفعل الشيء، وما فعله".
قال المازري: أتكر المبتدعة هذا الحديث، وْزعمُوا أنهُ يحُط منصِب النُّبُوّة، وُيشكَّك
(1)
"فتح" 11/ 389 - 390 "كتاب الطبّ". رقم 5763.
فِيها، قالُوا: وكُل ما أدّى إِلى ذلِك فهُو باطِل، وزعمُوا أَنَّ تجوِيز هذا يُعدِم الثقة بِما شرعهُ من الشرائِع، إِذ يُحتمل على هذا أن يُخيل إِليهِ، أنّهُ يرى جِبرِيل، وليس هُو ثم، وأنهُ يُوحِي إِليهِ بِشيء، ولم يُوح إِليهِ بِشيء. قال المازري: وهذا كُله مردُود، لأن الدّلِيل قد قام على صِدق النبِي صلى الله عليه وسلم، فِيما يُبلغهُ عن اللَّه تعالى، وعلى عِصمته في التنليغ، والمعجِزات شاهِدات بِتصدِيقِهِ، فتجوِيز ما قام الدّلِيل على خِلافه باطِل. وأمّا ما يتعلّق بِبعضِ أُمُور الدنيا، التِي لم يُبعث لأجلِها، ولا كانت الرّسالة من أجلها، فهُو في ذلِك عُرضة لِما يعترِض البشر كالأمراضِ، فغير بعِيد أن يُخيَّل إِليهِ في أمر من أُمُور الدنيا، ما لا حقِيقة لهُ، مع عِصمته عن مِثل ذلِك في أُمُور الدّين.
قال: وقد قال بعض الناس: إِنَّ المراد بِالحدِيِثِ، أنهُ كان صلى الله عليه وسلم، يخيل إِليهِ أنَّه وطِىء زوجاته، ولم يكُن وطِأهُنّ، وهذا كثِيرًا ما يقع تخيله، لِلإِنسانِ في المنام، فلا يبعُد أن يُخيل إِليهِ في اليقِظة.
قال الحافظ: وهذا قد ورد صبريحًا في رِواية ابن عُيينة عند البخاريّ، ولفظه:"حتى كان يرى أنهُ يأتِي النساء، ولا يأتِيهِن". وفِي رِواية الحُميدِيّ: "أنّهُ يأتِي أهله، ولا يأتِيهِم".
وفِي مُرسل يحيى بن يعمُر، عِتد عبد الززاق:"سُحِر النبِي صلى الله عليه وسلم عن عائِشة، حتى أنكر بصره". وعِنده في مُرسل سعِيد بن المُسيّب: "حتى كاد يُنكِر بصره".
قال عِياض: فظهر بهذا أنَّ السّحر، إِنّما تسلط على جسده، وظواهِر جوارِحه، لا على تميِيزه ومُعتقده.
ووقع في مُرسل عبد الرحمن بن كعب، عند ابن سعد:"فقالت أُخت لبِيد بن الأعصم: إن يكُن نبِيا فسيُخبرُ، والأ فسيُذهِلُهُ هذا السَّحر، حتى يذهب عقله".
قال الحافظ: فوقع الشق الأول، كما في هذا الحديث الصحِيح.
وقذ قال بعض العُلماء: لا يلزم من أتهُ كان يظُت أنهُ فعل الشيء، ولم يكُن فعلهُ، أن يجزِم بِفِعلِهِ ذلِك. وإنما يكُون من جِنس الخاطر يخطُر، ولا يثبُت، فلا يبقى على هذا للملجد حُجَّة.
وقال عِياض: يحتمِل أن يكُون المراد بالتخيِيلِ المذكور، أنهُ يظهر لهُ من نشاطه، ما ألِفهُ من سابِق عادته، من الاقتِدار على الوًطء، فإِذا دنا من المرأة، فتر عن ذلِك، كما هُو شأن المعقود، ويكُون قوله في الرواية الأخرى:"حتى كاد يُنكِر بصره": أي صار كالذِي أنكرَ بصره، بِحيثُ إِنَّهُ إذا رأى الشيء يُخيَّل أنهُ على غير صِفته، فإذا تأمَّلهُ عرف حقِيقته. وُيوئد جميع ما تقدّم، أنّهُ لم يُنقل عنهُ، في خبر من الأخبار، أنَّهُ قال قولاً:
فكان بِجلافِ ما أخبر بِهِ.
وقال المهلب: صوْن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من الشياطِين، لا يمنع إِرادتهم كيدهُ، فقد مضى في "الصحيحِ"، أن شيطانًا أراد أتى يُفسِد عليهِ صلاته، فأمكنهُ اللَّه مِنهُ، فكذلِك السحر ما نالهُ من ضرره، ما يُدخِل نفصا على ما يتعلّق بِالتبليغِ، بك هُو من جِنس ما كان ينالهُ، من ضرر سائِر الأمراض، مِن ضعف عن الكلام، أوْ عجز عن بعض الفِعل، أوْ حُدُوث تخيل لا يستمِرّ، بك يزُول، ويُبطِل اللَّه كيد الشياطِين.
واشتدل ابن القصار على أنَّ الذِي أصابهُ، كان من جنس المرض، بقوْلِهِ في آخِر الحديث:"فأما أنا فقد شفاني اللَّه".
وفِي الاستِدلال بِذلِك نظر، لكن يُؤيد المُدَّعى أن في رِواية عمرة، عن عائشة، عِبد البيهقِى في "الدَّلائل":"فكان يدُور ولا يدرِي ما وجعه". وفِي حدِيث ابن عبّاس، عِند ابن سعد: "مرِض النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأُخِذ عن النساء، والطعام، والشَّراب، فهبط عليهِ ملكانِ
…
" الحدِيث. انتهى
(1)
.
(فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام وفي حديث عائشة المذكور: "حتى إذا كان ذات يوم، أو ذات ليلة، وهو عندي، لكنه دعا، ودعا، ثم قال: "يا عائشة أشعرتِ أن اللَّه أفتاني فيما استفتيته فيه؟، أتاني رجلان، فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؛ فقال: مطبوب، قال: من طبه؛ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أيّ شيء؛ قال: في مُشْط ومشاطة، وجُفّ طَلْع نخلةٍ ذكر، قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذَرْوَان، فأتاها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه، فجاء، فقال:"يا عائشة، كأن ماءها نُقَاعة الْحِنَّاء، أو كأن رءوس نخلها، رءوس الشياطين"، قلت: يا رسول اللَّه أفلا استخرجته؛ قال: قد عافاني اللَّه، فكرهت أن أُثير على الناس فيه شرا" فأمر بها فدفنت.
قال الحافظ: وقع في رواية معمر عند أحمد، ومرجّا بن رجاء عند الطبرانيّ، كلاهما عن هشام:"أتاني ملكان"، وسمّاهما ابن سعد في رواية منقطعة: جبريل، وميكائيل. انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لا تنافي بين حديث عائشة، وحديث زيد بن أرقم - رضي اللَّه تعالى عنهما -، حيث أفرد جبريل بالذكر؛ لإمكان الجمع بأن جبريل لَمّا كان هو المسؤول، ومكاثيل هو السائل، أفرده بالذكر؛ لفضله. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"فتح" 11/ 390 - 391 "كتاب الطبّ". رقم 5763.
(فَقَالَ) جبريل عليه السلام (إِنَّ رجُلا مِنْ الْيَهُودِ سَحَرَكَ) تقدّم أنه لَبيد بن الأعصم، ثمّ بيّن كيفية، فقال (عَقَدَ لَكَ عُقْدًا) بضمّ المهملة، وسكون القاف جمع عُقدة، بضمّ، فسكون، وسيأتي أنها إحدى عشرة عُقدة (فِي بِئْرِ كَذَا وَكَذَا) أي ثم وضعه فيها، وفي رواية للبخاري من حديث عائشة:"قال: أين هي؟ قال: هو في بئر ذَرْوَان"، وفي رواية:"تحت راعوفةٍ في بئر ذَروان".
و"الرَّاعُوفة": حجر يوضع على رأس البئر، لا يُستطاع قلعه، يقوم عليه المستقي، وقد يكون في أسفل البشر. قال أبو عُبيد: هي صخرة تنزل في أسفل البشر إذا حُفرت، يجلس عليها الذي يُنظف البئر، وهو حجر يوجد صلبًا، لا يُستطاع نزعه، فيُترك.
و"ذرْوان " بفتح المعجمة، وسكون الراء، وحكى ابن التين فتحها، وأنه قرأه كذلك، ولكنه بالسكون أشبه. وفي رواية عند مسلم:"في بثر ذي أروان"، وهو اسم البئر. (فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -:"فأتاها رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - في ناس من أصحابه". وفي حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، عند ابن سعد:"فبعث إلى عليّ، وعمَّار، فأمرهما أن يأتيا البئر"، وعنده ير مرسل عمر بن الحكم:"فدعا جُبير بن إياس الزّرَقيّ، وهو ممن شَهِدَ على موضعه في بئر ذروان، فاستخرجه"، قال: ويقال: الذي استخرجه قيس بن محصن الزرقيّ. قال الحافظ: ويُجمع بأنه أعان جبيرًا على ذلك، وباشر بنفسه، فنُسب إليه. وعند ابن سعد أيضًا: أن الحارث بن قيس قال: يا رسول اللَّه ألا يهور البئر. فيمكن تفسير من أُبهم بهؤلاء، أو بعضهم، وأن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - وجَهه أوّلًا، ثم توجّه، فشاهدها بنفسه. انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أنه لا تنافي بين حديث زيد بن أرقم، وحديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنهما -؛ لإمكان الجمع بأنه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - أرسل أوْلاً بعض أصحابه، ثم توجه إليهم، فشاهدها بنفسه. واللَّه تعالى أعلم.
(فَاسْتَخْرَجُوهَا) أي أخرجوا تلك العُقد من البشر (فَجِيءَ بِهَا) وفي بعض نسخ "الكبرى": فجيء بها إليه، فحللها". وفي حديث عائشة المذكور:"فأتى النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - البئر، حتى استخرجه، فقال: هذه البئر التي أُريتها، وكأن ماءها نُقاعة الحناء، وكأن نخلها رؤوس الشياطين، قال: فاستُخرج".
قال في " الفتح": كذا وقع في رواية ابن عُيينة، وفي رواية عيسى بن يونس:"قلت: يا رسول اللَّه، أفلا استخرجته؟ ". وفي رواية وُهيب: "قلت: يا رسول اللَّه -، فأخرجه للناس". وفي رواية ابن نُمير: "أفلا أخرجت؟ قال: لا". قال ابن بطّال: ذكر المهلّب أن
الرواة اختلفوا على هشام في إخراج السحر المذكور، فأثبته سفيان، وجعل سؤال عائشة عن النُّشرة، ونفاه عيسى بن يونس، وجعل سؤالها عن الاستخراج، ولم يذكر الجواب، وصرّح به أبو أسامة، قال: والنظر يقتضي ترجيح رواية سفيان؛ لتقدّمه في الضبط. ويؤيّده أن النَّشْرة لم تقع في رواية أبي أسامة، والزيادة من سفيان مقبولة؛ لأنه أثبتهم، ولا سيّما أنه كرّر استخراج السحر في روايته مرّتين، فيبعد من الوهم، وزاد ذكر النشرة، وجعل جوابه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - عنها بـ "لا" بدلاً عن الاستخراج. قال: ويحتمل وجهّا آخر، فذكر ما مُحصَّله: أن الاستخراج المنفيّ في رواية أبي أُسامة غير الاستخراج المثبت في رواية سفيان، فالمثبت هو استخراج الْجُفّ، والمنفيّ استخراج ما حواه. قال: وكأنّ السرّ في ذلك أن لا يراه الناس، فيتعلّمه من أراد استعمال السحر.
قال الحافظ: وقع في رواية عمرة: (فاستخرج جُفّ طلعة، من تحت راعوفة"، وفي حديث زيد بن ارقم: "فأخرجوه، فرموا به"، وفي مرسل عمر بن الحكم أن الذي استخرج السحر قيس بن محصن. كلّ هذا لا يُخالف الحمل المذكور، لكن في آخر رواية عمرة، وفي حديث ابن عبّاس: أنهم وجدوا وَتَرًا، فيه عُقد، وأنها انحلّت عند قراءة المعوّذتين، ففيه إشعار باستكشاف ما كان داخل الْجُفّ، فلو كان ثابتًا لقدَح في الجمع المذكور، لكن لا يخلو إسناد كلّ منهما من الضعف. انتهى
(1)
.
(فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي برىء من مرضه. وفي حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى - عنها، من رواية عمرة عنها: أنه وجد في الطلعة تمثالأ من شمع، تمثال رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، وإذا فيه إِبَرٌ مغروزة، وإذا وَتَرٌ فيه إحدى عشر عُقدةً، فنزل جبريل بالمعوْذتين، فكلّما قرأ آيةً انحلّت عُقْدة، وكلّما نزع إبرة وجد لها ألمًا، ثم يجد بعدها راحة". وفي حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - نحوه. وفي حديث زيد بن أرقم - رضي اللَّه تعالى عنه - عند عبد بن حُميد وغيره:"فأتاه جبريل، فنزل عليه بالمعوّذتين"، وفيه:"فأمره أن يحُلّ العقد، ويقرأ آية، فجعل يقرأ، ويحُلّ، حتى قام كأنّما نشط من عقال". وعند ابن سعد من طريق عمر مولى غُفْرة، معضلاً:"فاستخرج السحر من الجنّة من تحت البئر، ثم نزعه، فحلّه،، فكُشِف عن رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -. ذكره في "الفتح"
(2)
.
(كَأنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ) ببناء الفعل للمفعول: أي حُلّ من رِباطه. قال ابن الأثير في
(1)
"فتح" 11/ 400 "كتاب الطبّ" رقم 5765.
(2)
"فتح" 11/ 394.
"النهاية": "كأنما أُنشط من عقال": أي حُلّ، قال: وكثيرًا ما يجيء في الرواية: "نشط"، وليس بصحيح، يقال: نَشَطتُ الْعُقْدة: إذا عقدتها، وأنشطتها، وانتشطتها: إذا حلّلتها. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ: نَشَطتُ الحبلَ نَشْطًا، من باب ضرب: عقدتُه بأُنشوطة، والأُنشُوطة بضمّ الهمزة-: ربطة، دون العُقدة، إذا مُدّت بأحد طرفيها، انفتحت، وأنشطتُ الأُنشوطة بالألف: حللتها، وأنشطتُ العِقال: حللتُهُ، وأنشطت البعير من عِقَاله: أطلقتُهُ. انتهى. ونحوه في "اللسان"، و"القاموس".
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذُكر أهل اللغة أن صواب الرواية: "كأنما أُنشِط من عِقال" رباعيًا مبنيًا للمفعول؛ لأن نَشَطَ ثلاثيًّا للربط، وأَنْشَطَ رباعيًّا للحلّ، فلا يقال:"كأنما نُشِط من عقاله"، وإنما يقال:"أُنشِط من عقاله"، كما قاله ابن الأثير في كلامه السابق. واللَّه تعالى أعلم.
و"العِقَال" بكسر المهملة، وتخفيف القاف: الحبلُ، وجمعه عَقُلٌ، مثلُ كتاب وكُتُب. (فَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِذَلِكَ الْيَهُودِيِّ) وفي رواية:"فما ذكر رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - لذلك اليهودي شيئًا مما صنع به، ولا آه في وجهه". أي لم يذكر النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - لليهوديّ الساحر سحره الذي شاهده، والظاهر أنه أراد لم يعاتبه على ذلك، بل عفا عنه، كما هو هديه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - في العفو والصفح عمن اعتدى عليه، فلا يُنافي ما ورد أنه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - أخذه، فاعترف، فعفا عنه. وفي مرسل عمر بن الحكم:"فقال له: ما حملك على هذا؟ قال: حبّ الدنانير". وقوله (وَلَا رَآهُ فِي وَجْهِهِ قَطُّ) أي لم ير ذلك اليهوديّ الساحر في وجهه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - أثر فعله السيّء، من الكراهية، والغضب، وإرادة الانتقام منه، بل عامله بالبشر واللطف كغيره من المنافقين.
وفي حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -: "قلت: يا رسول اللَّه، أفلا استخرجته؟ قال: قد عافاني اللَّه، فكرهت أن أُثير على الناس فيه شرًّا". والمراد بالناس التعميم في الموجودين. قال النوويّ: خشي من إخراجه، وإشاعته ضررًا على المسلمين، من تذكّر السحر، وتعلّمه، ونحو ذلك، وهو من باب ترك المصلحة خوف المفسدة.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ويحتمل أن يكون معنى إثارة الشرّ هو أن الصحابة إذا انتشر بينهم هذا الأمر، ربمّا يقوم بعضهم، فينتقم لرسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه
(1)
"النهاية " 5/ 57.
وسلم، فيقتل لبيد بن الأعصم، فتكون هناك فتنة. واللَّه تعالى أعلم.
ووقع في رواية بلفظ: "على أمّتيُ" فقال الحافظ: وهو قابلُ أيضًا للتعميم؛ لأن الأمة تُطلق على أمة الإجابة، وأُمّة الدعوة على ما هو أعمّ، وهو يردّ على من زعم أن المراد بالناس هنا لبِيد بن الأعصم؛ لأنه كان منافقًا، فأراد - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - أن لا يُثير عليه شرًّا؛ لأنه كان يؤثر الإغضاء عمن يُظهر الإسلام، ولو صدر منه ما صدر.
وفي حديث عمرة، عن عائشة:"فقلت: يا رسول اللَّه لو قتلته، قال: ما وراءه من عذاب اللَّه أشدّ". وأخرج ابن سعد من مرسل عكرمة أنه لم يقتله. ونقل الواقديّ أن ذلك أصحّ من رواية من قال: إنه قتله. ومن ثمّ حكى عياضٌ في "الشفا" قولين: هل قُتل، أم لم يُقتل؟.
قال القرطبيّ: لا حُجة على مالك من هذه الفضّة؛ لأن ترك قتل لبيد بن الاعصم كان لخشية أن يُثير قتله فتنةً، أو لئلّا يُنفر الناس عن الدخول في الإسلام، وهو من جنس ما راعاه النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - من منع قتل المنافقين، حيث قال:"لا يتحدّث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه". انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تقدّم أن الأرجح قتل الساحر مطلقًا، ما لم يترتّب على تركه مصلحة راجحة، كالأمثلة التي ذكرها القرطبيّ في كلامه آنفًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
[تنبيه] حديث زيد بن أرقم - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-20/ 4082 - وفي "الكبرى" 20/ 3543.
وأخرجه (أحمد) في "أول مسند الكوفيين"18781. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلتُ، وإليه أنيب".
…
21 - (مَا يَفْعَلُ مَنْ تُعُرَّضَ لِمَالِهِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "ما" يحتمل أن تكون موصولة: أي هذا باب بيان الفعل الذي يفعله الشخص الذي تُعُرّض لأخذ ماله. ويحتمل أن تكون استفهاميّة، مفعولاً مقدّمًا و"يفعل": أي هذا باب أيَّ شيء يفعل الشخص الذي تُعُرّض لماله.
و"يفعل" مبنيّ للفاعل، و"من" فاعله، و"تُعُرِّض" مبني للمفعول، ونائب فاعله الجارّ والمجرور. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
4083 -
(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ. فِي حَدِيثِهِ عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ. عَنْ سِمَاكٍ. عَنْ قَابُوسَ. عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ح وَأَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ. قَالَ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ تَمِيمٍ. قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ. قَالَ: حَدَّثَنَا سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ. عَنْ قَابُوسَ بْنِ مُخَارِقٍ. عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: وَسَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ، يُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: الرَّجُلُ يَأْتِينِي، فَيُرِيدُ مَالِي؟ ، قَالَ: «ذَكِّرْهُ بِاللَّهِ» ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَذَّكَّرْ؟ ، قَالَ: «فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَنْ حَوْلَكَ، مِنَ الْمُسْلِمِينَ» ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَوْلِي أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟ ، قَالَ: «فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ بِالسُّلْطَانِ» ، قَالَ: فَإِنْ نَأَى السُّلْطَانُ عَنِّي؟ ، قَالَ: «قَاتِلْ دُونَ مَالِكَ، حَتَّى تَكُونَ مِنْ شُهَدَاءِ الآخِرَةِ، أَوْ تَمْنَعَ مَالَكَ»).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(هنّاد بن السريّ) المذكور في الباب الماضي.
2 -
(أبو الأحوص) سلام بن سُليم الحنفيّ الكوفيّ، ثقة متقنٌ [7] 79/ 96.
3 -
(عليّ بن محمد بن عليّ) المِضيصي القاضي، ثقة [11] 83/ 2415 من أفراد المصنّف.
4 -
(خلف بن تمِيم) أبو عبد الرحمن الكوفيّ، نزيل المِصِّيصة، صدوقٌ عابد [9] 83/ 52415
5 -
(سماك بن حرب) الذُّهْليّ البكريّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوقٌ تغيّر بآخره، فربّما تلقّن [4] 2/ 325.
6 -
(قابوس بن مُخارق) بضمّ الميم، بعدها معجمة خفيفة- ابن سُليم، ويقال: ابن أبي المخارق الشيبانيّ الكوفيّ، لا بأس به [3].
روى عن أبيه، عن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، وعن أمّ الفضل بنت الحارث، وقيل: عن أبيه، عنها. وروى عنه سماك بن حرب. وذكر الذهبيّ أنه لم يرو عنه غيره. قال النساقي: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وذكره ابن يونس فيمن قَدِمَ مع محمد بن أبي بكر مصر في خلافة عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه -، فهو على هذا قديم، لا يمتنع إدراكه لأتم الفضل، وحديثه عنها في "صحيح ابن خزيمة". روى له المصنّف هذا الحديث فقط، وروى له أبو داود، وابن ماجه حديثًا واحدًا، حديث النّضح من بول الغلام.
7 -
(أبوه) مخارق بن سُليم، أبو قابوس الشيبانيّ. روى عن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، وعن ابن مسعود، وعمّار بن ياسر، وعليّ بن أبي طالب - رضي اللَّه تعالى -
عنهم. وعنه ابناه قابوس، وعبد اللَّه. وذكره ابن حبّان في ثقات التابعين. ويقال: أبو المخارق بن سُليم، كذا وقع عند أبي نُعيم في الكنى من "الصحابة"، وقد ذكر له رواية عن أم الفضل. قال ابن عبد البرّ: فيه اختلافٌ؛ لأن من أهل الحديث طائفة يروون حديثه عن أبي قابوس بن مُخارق، عن أبيه، عن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم أتى أنم الفضل جاءت بالحسين، ومنهم من يرويه عن قابوس، عن أم الفضل، لا يذكر مُخارقا، وقد اختُلف فيه على سماك اختلافًا كثيرًا. تفرد به المصنّف بحديث الباب فقط. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى- بالنسبة للسند الأول، ومن سداسياته بالنسبة للثاني، فالثاني أنزل من الأول؛ لأن المصنّف وصل إلى أبي الأحوص في الأول بواسطة، بخلاف الثاني، فإنه وصل إليه بواسطتين. (ومنها): أن رجاله كلهم موثقون. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، والابن عن أبيه. (ومنها): أن صحابيه من المقلّين من الرواية، فليس له إلا هذا الحديث عند المصنّف فقط. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ قَابُوسَ بن مُخارق) الشيباني (عَنْ أَبِيهِ) مخارق بن سُليم الشيباني (قَالَ: وَسَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ، يُحَدِّثُ بِهِذَا الْحَدِيثِ) هذا من كلام خلف بن تميم، كما نبه عليه في "تحُفة الأشراف" -8/ 367 - ومعنى الكلام أن خلفًا روى هذا الحديث أوّلًا، عن أبي الأحوص، ثم بيّن أنه سمعه أيضًا عن سفيان الثوريّ، وكلاهما يرويه عن سماك ابن حرب (قَالَ) مخارق (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ) فاعله ضمير الرجل: أي قال الرجل الجائي إليه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - (الرَّجُلُ) مبتدأ، وخبره جمدة قوله (يَأْتِينِي) وقوله (فَيُرِيدُ مَالِي؟) أي ظلما، عطف على جملة الخبر، والجملة مقول القول، والمراد به السؤال عن حكم إعطائه ماله، فكأنه يقول: إذا أتاني الرجل مريدًا أخذ مالي ظلمًا، فهل أُدافع، أم ماذا؟ (قَالَ) - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - مبيّنًا الطريق الأسلم، والأسهل (ذَكِّرْهُ بِاللهِ) فعل أمر من التذكير: أي عظه بذكر وعبد اللَّه تعالى دمن أخذ أموال الناس ظلما، فإنه إن كان له وازع ديني، سيرتدع بذلك (قال) الرجل السائل (فَإِنْ لَمْ يَذَّكَّرْ؟) بتشديد الذال المعجمة، أصله يتذكر، فأبدلت التاء ذالا، وأُدغمت في الذال (قَالَ) صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - (فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ) يقال: استعان به، واستعانه، فيتعدّى بالباء،
وبنفسه، كما قاله الفيّوميّ، وما هنا من الثاني (مَنْ حَوْلَكَ) منصوب على الظرفية، صِلَةُ "من"، يقال: قعدنا حَوْلَهُ بالنصب على الظرفية، أي في الجهات المحيطة به، وَحَوَالَيْهِ بمعناه. قاله الفيّوميّ.
والمعنى: اطلب من الناس الذين يوجدون في الجهات المحيطة بك أن يعينوك على دفعه. وقوله (مِنْ الْمُسْلِمِينَ) بيان لـ "من"(قَالَ) الرجل (فَإنْ لَمْ يَكُنْ حَوْلِي أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلمينَ؟) أي فماذا أفعل؟ (قال) - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - (فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ بِالسُّلْطانِ) أي استعن عليه بمن له تسلط على الناس، من وُلاة الأمور (قَالَ) الرجل (فَإِنْ نَأَى) بألف، ثم همزة، أو بالعكس: أي بعُد (السُّلْطَانُ عَنِّي؟) أي من المحلّ الذي أنا فيه، فماذا أفعل؟ (قَالَ) - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - (قَاتِلْ) فعل أمر من المقاتلة، والمراد به المدافعة بالأسهل فالأسهل، فإن كان يردعه إغلاظ القول، والتهديد اكتفى به، وإلا انتقل إلى الضرب، وإلا قتله (دُونَ مَالِكَ) أي عنده، أو من أجله، وسيأتي تحقيق معنى "دون" في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى (حَتَّى تَكُونَ مِنْ شُهَدَاءِ الآخِرةِ) بأن تُقتل ظلمّا، فتنال أجر الشهداء في الآخرة، لا في الدنيا، فشهيد الآخرة هو الذي لا يكون له حكم شهداء الدنيا، من دفنه بدمه، ولباسه، وعدم غسله، إلا إذا كان جنبًا، وعدم الصلاة عليه عند من لا يقول به، كما تقدّم في بابه، وشهيد الدنيا هو الذي قُتل في المعركة، في سبيل اللَّه تعالى، وسيأتي بسط لذلك في المسألة الثانية، إن شاء اللَّه تعالى.
(أَوْ تَمْنَعَ مَالَكَ) بأن يخشى أن تقتله، فيهرُب منك، فيسلم لك مالك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث مخارق بن سُليم - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.
[فإن قلت]: لم يثبت كون مخارق صحابيًّا، كما تقدّم الخلاف فيه، فلا يثبت كونه متصلاً، فكيف يصحّ؟.
[قلت]: يشهد له حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي بعده، وغيره من الأحاديث التي وردت في هذا المعنى.
وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا- 21/ 4083 - وفي "الكبرى" 21/ 3544. وأخرجه (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 22507. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم من تعرّض له ظالم ليأخذ ماله، وهو جواز الدفاع عنه. (ومنها): أن الدفاع يكون بالأسهل، فالأسهل، فيبدأ بالتذكير بوعيد اللَّه تعالى لمن ظدم أخاه المسدم، فإن ارتدع، وإلا استعان بإخوانه المسلمين، فإن لم يجدهم استعدى عليه السلطان، فإن لم يجده قاتله، وليكن بالأسهل، فالأسهل أيضًا، بأن يبدأ بالتهديد، ثم بالضرب، ثم بالقتل، إن لم يجد بدًّا، فإن قتله، فدمه هدرٌ، وإن قُتل هو فهو شهيد.
(ومنها): ما قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: فيه جواز قتل القاصِد لِأخْذِ المْال بِغَيْرِ حَقّ، سَوَاء كَانَ الْمَال قَلِيلًا، أَوْ كَثِيرًا؛ لِعُمُوم الْحَدِيث، وَهَذَا قَوْلٌ لِجَمَاهِير الْعُلَمَاء، وَقَالَ بَعض أصحاب مالك: لا يجُوز قتله، إِذا طلب شيئًا يسِيرًا، كالثوْبِ، والطَّعام، وهذا ليس بِشيء، والصَّواب ما قالهُ الجماهِير. وأمَّا المدافعة عن الحرِيم، فواجِبة بِلا خِلاف. وفِي المدافعة عن النفس بالقتلِ خِلاف في مذهبنا، ومذهب غيرنا، والمُدافعة عن المال جائزة، غير واجِبة. واللَّه أعلم. انتهى كلام النوويّ ببعض اختصار
(1)
.
(ومنها): أن فيه انقسام الشهداء، إلى شهداء الدنيا، وشهداء الآخرة. قال النوويّ في "شرح مسلم": واعلم أنَّ الشهِيد، ثلاثة أقسام:
[أحدها]: المقتول في حرب بِسبب، من أسباب القِتال، فهذا لهُ حُكم الشُّهداء، في ثواب الأخِرة، وفِي أحكام الدنيا، وهُو أنهُ لا يُغسل، ولا يُصلَّى عليهِ.
[والثاني]،: شهِيد في الثواب، دُون أحكام الدُّنيا، وهو المبطون، والمطعون، وصاحِب الهدم، ومن قُتل دُون مالِهِ، وغيرهم، مِمن جاءت الأحادِيث الصَّحِيحة بِتسمِيتِهِ شهِيدًا، فهذا يُغسل، ويُصلى عليهِ، ولهُ في الآخِرة ثواب الشُهداء، ولا يلزم أن يكُون مِثل ثواب الأول.
[والثالِث]: من غلَّ في الغنِيمة وشِبهُه، ممن وردت الآثار بِنقي تسمِيته سهِيدًا، إِذا قُتِل في حرب الكُفار، فهذا لهُ حُكم الشُهداء، في الدنيا، فلا يُغسل، ولا يُصلى عليهِ، وليس لهُ ثوابهم الكامِل في الاخِرة. واللَّه أعلم. انتهى كلام النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4084 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قُهَيْدٍ الْغِفَارِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
(1)
"شرح مسلم" 2/ 165 "كتاب الإيمان".
(2)
"شرح مسلم" 2/ 5164 "كتاب الإيمان".
أَرَأَيْتَ إِنْ عُدِيَ عَلَى مَالِي، قَالَ:«فَانْشُدْ بِاللَّهِ» ، قَالَ: فَإِنْ أَبَوْا عَلَيَّ، قَالَ:«فَانْشُدْ بِاللَّهِ» ، قَالَ: فَإِنْ أَبَوْا عَلَيَّ؟ قَالَ: «فَانْشُدْ بِاللَّهِ» ، قَالَ: فَإِنْ أَبَوْا عَلَيَّ؟ قَالَ: «فَقَاتِلْ، فَإِنْ قُتِلْتَ فَفِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ قَتَلْتَ فَفِي النَّارِ» ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.
2 -
(الليث) سعد الإمام الحجة الثبت المصريّ [7] 31/ 35.
3 -
(ابن الهاد) يزيد بن عبد اللَّه بن أُسامة بن الهاد الليثيّ المدنيّ، ثقة مكثر [5] 73/ 90.
4 -
(عمرو بن قُهيد) هكذا وقع في هذه الرواية، والصواب عمرو، عن قُهيد، وهو عمرو ابن أبي عمرو ميسرة، مولى المطّلب، أبو عثمان المدنيّ، ثقة ربّما وَهِمَ [5] 81/ 2828.
و"قُهَيد" - بالتصغير- ابن مطرف الغفاري، قيل: له صحبة. كذا في "التقريب"، وفي "تهذيب التهذيب": عمرو بن قُهيد بن مُطرّف الغفاريّ، حجازيّ. روى عن أبي هريرة حديث "أرأيت إن عُدي على مالي". وعنه يزيد بن الهاد. قال قُتيبة وغيره، عن الليث، عن يزيد. وقال شعيب بن الليث، عن أبيه، عن يزيد، عن قُهيد بن مطرّف. وفيه غير ذلك من الاختلاف، والصواب رواية عبد اللَّه بن صالح، عن الليث، عن يزيد بن الهاد، عن عمرو، وهو مولى المطّلب، عن قُهيد بن مُطرّف، عن أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه -. هكذا رواه ابن وهب، عن يحيى بن عبد اللَّه بن سالم، عن يزيد، عن عمرو
(1)
.
وقال في "تهذيب الكمال" في حرف القاف: قُهيد بن مُطرِّف الغفاريّ، وقيل: عمرو ابن قُهيد. روى عن أبي هريرة حديث: "أرأيت إن عُدِى على مالي". روى عنه يزيد بن عبد اللَّه بن الهاد، وعمرو بن أبي عمرو، مولى المطّلب، ومولاه المطّلب بن عبد اللَّه ابن حنطب. ذكره ابن حبّان في "الثقات"، قال: وقد قيل: قُهَيد بن عوف. وقد ذكرنا ما فيه من الخلاف في ترجمة عمرو بن قُهيد بن مُطرّف
(2)
.
زاد الحافظ في "تهذيب التهذيب": ما نصّه: لكن فرّق بعضهم بين قُهيد بن مُطرّف، وبين عمرو بن قُهيد، فقال الأزديّ: إن قُهيدًا هذا تفرد بالرواية عنه المطّلب. وذكره ابن
(1)
"تهذيب التهذيب" 3/ 298 - 299.
(2)
"تهذيب الكمال" 23/ 629.
سعد في طبقة الخندقيين. وذكره أبو نُعيم في "الصحابة". وقال الدارقطنيّ: مختلفٌ في صحبته. وقال ابن حبّان في الصحابة: إن له صحبة. تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط
(1)
.
5 -
(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أبِي هُرَيْرَة) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّهِ أَرَأَيْتَ) أي أخبِرني (إِنْ عُدِي عَلَى مَالِي) ببناء الفعل للمفعول، أي أخذ ظلمّا، يقال: عدا عليه يعدُو عدْوْا، وعُدُوْا، مثلُ فلس وفُلُوس، وعُدوانًا، وعَدَاءً بالفتح، والمدّ: ظَلَمَ، وتجاوز الحدَّ، وهو عاب، والجمعُ عادونَ، مثلُ قاضٍ وقاضون. قاله الفيّوميّ (قَالَ) - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - (فَانْشُدْ بِاللَّهِ) أي ذكر به، يقال: نشدتك اللَّه، وباللَّه أنشُدك: ذكرتك به، واستعطفتك، أو سألتك به، مُقسمّا عليك (قَالَ) الرجل السائل (فَإِنْ أَبَوْا عَلَيَّ) أي امتنعوا عن قبول مناشدتي لهم (قَالَ) - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - (فَانْشُدْ بِاللَّهِ"، قال: فإن أبوْا على؛ قال: (فَانْشُدْ بِاللَّهِ"، قَالَ: فَإِنْ أَبَوْا عَلَيَّ؟ قال: "فَقَاتِلْ) أي إذا لم يقبلوا مناشدتك باللَّه تعالى ثلاث مرّات، فدافع عن مالك بقتالهم (فَإنْ قُتِلْتَ) بالبناء للمفعول: أي إن قتلك هؤلاء المعتدون على مالك (فَفِي الْجَنَّةِ) أي فأنت في الجنّة، لاستهشادك في سبيل الدفاع عن مالك، كما سيأتي في الباب التالي قوله - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -:"من قاتل دون ماله، فقُتل، فهو شهيد"(وَإِنْ قَتَلْتَ) بالبناء للفاعل، أي إن قتلت أنت هوْلاء الظلمة (فَفِي النَّارِ) أي فهم في نار جهنّم؛ لموتهم في سبيل الظلم.
وفي رواية مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه -: جاء رجل إلى رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، فقال: يا رسول اللَّه، أرأيت إن جاء رجلٌ، يريد أخذ مالي؟ قال:"فلا تُعطه مالك"، قال: أرأيتَ إن قاتلني؛ قال: "قاتله"، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد"، قال: أرأيتَ إن قتلته؟ قال: "هو في النار".
قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: معنى قَوْله صلى الله عليه وسلم: "فَلَا تُعْطِهِ" لا يَلْزَمَكَ أَنْ تُعْطِيَهُ، وَلَيْسَ الْمُرَاد تَحْرِيم الإِعْطَاء.
قال: ومعنى قَوْله صلى الله عليه وسلم: "هُوَ فِي النَّار" مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَسْتَحِقّ ذَلِكَ. وَقَدْ يُجَازَى، وَقَدْ
(1)
"تهذيب التهذيب" 3/ 443.
يُعْفَى عَنْهُ، إِلا أَنْ يَكُون مُسْتَحِلًّا لِذَلِكَ، بِغَيْرِ تَأْوِيل، فَإِنَّهُ يَكْفُر، وَلَا يُعْفَى عَنْهُ. وَاللَّه أَعْلَم. انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا- 21/ 4084 و 4085 - وفي "الكبرى" 21/ 3545 و 3546. وأخرجه (م) في (الإيمان " 140 (أحمد) في "باقي مسند الكوفيين"8270 و 8507. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4085 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ قُهَيْدِ بْنِ مُطَرِّفٍ الْغِفَارِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ عُدِيَ عَلَى مَالِي؟ ، قَالَ: «فَانْشُدْ بِاللَّهِ» ، قَالَ: فَإِنْ أَبَوْا عَلَيَّ؟ ، قَالَ: «فَانْشُدْ بِاللَّهِ» ، قَالَ: فَإِنْ أَبَوْا عَلَيَّ؟ ، قَالَ: «فَانْشُدْ بِاللَّهِ» ، قَالَ: فَإِنْ أَبَوْا عَلَيَّ؟ ، قَالَ: «فَقَاتِلْ، فَإِنْ قُتِلْتَ فَفِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ قَتَلْتَ فَفِي النَّارِ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم": هو المصريّ الفقيه الثقة [11]. 120/ 166 من أفراد المصنّف. و"شعيب بن الليث": هو أبو عبد الملك المصريّ الفقيه النبيل الثقة، من كبار [10]. 120/ 166.
وقوله: "وإن قتلت ففي النار" ببناء الفعل للفاعل: أي وإن قتلت هؤلاء الذين اعتدوا على مالك، فإنهم يدخلون النار؛ لكونهم ظالمين، وقد قال اللَّه تعالى:{وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)} [الإنسان: 31]
والحديث أخرجه مسلم، وقد سبق شرحه، وتخريجه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
(1)
"شرح مسلم" 2/ 165. "كتاب الإيمان".
22 - (مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ)
أي هذا باب ذكر الأحاديث الدّالّة على حكم من قُتل دون ماله، ويحتمل أن يكون التقدير: ما حكمه؟. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
4086 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَالِهِ، فَقُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ»).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(محمد بن عبد الأعلى) الصنعانيّ، ثم البصريّ، ثقة [10] 5/ 5.
2 -
(خالد) بن الحارث الْهُجَيميّ البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.
3 -
(حاتم) بن أبي صَغِيرة
(1)
، أبو يونس البصريّ، ثقة [6] 66/ 1800.
4 -
(عمرو بن دينا) الأثرم الْجُمحيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقة ثبت [4] 112/ 154.
5 -
(عبد اللَّه بن عمرو) بن العاص - رضي اللَّه تعالى عنهما - 89/ 111. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا االإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، إلى عمرو. واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: في هذا السند أن خالد بن الحارث روى هذا الحديث، عن حاتم بن أبي صغيرة، عن عمرو بن دينار، عن عبد اللَّه بن عمرو، وخالفه بشر بن المفضل، فرواه عن حاتم، عن عمرو، عن عبد اللَّه بن صفوان، عن عبد اللَّه بن عمرو، فأدخل واسطة، بين عمرو بن دينار، وبين عبد اللَّه بن عمرو.
والظاهر أن السندين كلاهما صحيحان؛ فيُحمل على أن عمرًا رواه عن عبد اللَّه بن صفوان أوّلاً، ثم لقي عبد اللَّه بن عمرو فسمعه منه، أو سمعه منه، فثبّته ابن صفوان، وقد ذكر الحافظ المزنيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "تحفة الأشراف" -6/ 370 - 371. أن
(1)
"أبو صَغِيرة" -بفتح الصاد المهملة، وكسر الغين المعجمة، مكبّرارً، واسمه مسلم، وهو جدّ حاتم لأمه، وقيل: زوج أمّه. اهـ "تقريب التهذيب".
حماد بن زيد، رواه عن عمرو بن ديار، عن عبد اللَّه بن عمرو، كما رواه حاتم بن أبي صغيرة هنا، فتكون روايته متابعة لرواية خالد. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو) بن العاص - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقُولُ: "مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَالِهِ" أي عنده، أو من أجله. قال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-:"دون" أصلها ظرف مكان، بمعنى "أسفل"، و"تحت"، وهو نقيض "فوقُ"، وقد استعملت مي هذا الحديث بمعنى "لأجل" السببيّة، وهو مجازٌ، وتوسّعٌ، ووجهه أن الذي يُقاتل على ماله إنما يجعله خلفه، أو تحته، ثم يقاتل عليه. انتهى
(1)
.
(فقُتل) بالبناء للمفعول (فَهُوَ شَهِيدٌ) قال النَّضر بن شُميل: سُمي شهيداً؛ لِأنَّهُ حَيّ؛ لأَنَّ أَرْوَاحهمْ شَهدَت دَار السَّلام، وأرْواح غيرهم لا تشهدها إِلا يوْم القِيامة. وقال ابن الأتبارِيّ: لأن اللَّه تعالى، وملائِكته عليهم السلام، يشهدُون لهُ بِالجنَّةِ. فمعْنى شهِيد: مشهُود لهُ. وقِيل: سُمي شهِيدًا لأنةُ يشهد عِتد خُرُوج رُوحه، ما لهُ من الثواب، والكرامة، كما قال اللَّه تعالى:{فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 170]. وقِيل: لأنَّ ملائكة الرَّحمْة يشهدُونهُ، فيأخُذُون رُوحه. وقِيل: لأنَّهُ شُهِد لهُ الإيمان، وخاتِمة الخير بِظاهِرِ حاله. وقِيل: لأن عليهِ شاهِدًا، يشهد بِكوْنِهِ شهِيدًا، وهُو دمه، فإِنَّهُ يُبعث وجُرْحه يثعبُ دمًا. وحكى الأزهرِيّ، وغيره قوْلاً آخر، أنهُ سُمي شهِيدًا؛ لِكوْنِهِ مِمن يشهد يوْم القِيامة على الأُمم، وعلى هذا القوْل لا اختصاص لهُ بهذا السبب.
(2)
.
وفي الحديث قصّة بيّنها مسلم في"صحيحه" من طريق سليمان الأحول، أن ثابتا هو ابن عياض- مولى عمر بن عبد الرحمن أخبره، أنه لَمّا كان بين عبد اللَّه بن عمرو، وبين عنبسة بن أبي سفيان ما كان، تَيَسّرُوا
(3)
للقتال، فركِب خالد بن العاص، إلى عبد اللَّه ابن عمرو، فوعظه خالد، فقال عبد اللَّه بن عمرو: أما علمت أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "من قُتِل دون ماله، فهِو شهيد". انتهى.
قال في "الفتح": وأشار بِقوْلِهِ: "ما كان" إِلى ما بيَّنهُ حيوة في رِوايتِهِ المُشار إِليها
(4)
، فإِن أوَّلها: "أنَّ عامِلا لِمُعاوِية، أجرى عينًا من ماء؛ لِيسْقِي بهِا أرْضا، فدنا من حائِط
(1)
"المفهم" 1/ 352 "كتاب الإيمان".
(2)
"شرح مسلم" 2/ 163 - 164. بزيادة من "المفهم" 1/ 352.
(3)
أي تهيّئوا للقتال.
(4)
هي التي ذكرها في "الفتح" بقوله: "وكذلك رواه حيوة بن شُريح، عن أبي الأسود بهذا اللفظ، أخرجه الطبريّ. وسيأتي هذا في شرح الحديث الثاني، إن شاء اللَّه تعالى.
لآلِ عمرِو بن العاص، فأراد أن يُخرِجهُ؛ لِيجْري العين مِنهُ إِلى الأرْضِ، فأقبل عبد اللَّه ابن عمرو، ومواليه، بِالسَّلاحِ، وقالُوا: واللهِ لا تخرِقُون حائطنا، حتى لا يبقى مِنَّا أحد"، فذكر الحديث.
والعامِل المذكُور، هُو عنبسة بن أبِي سُفيان، كما ظهر من رِوايةِ مُسْلِم، وكان عامِلا لِأخِيهِ على مكة، والطَّائف، والأرْض المْذْكُورة، كانت بِالطَّائفِ، وامْتِناع عبد اللَّه بن عمرو من ذَلِكَ؛ لِما يدْخُلُ عليهِ من الضَّررِ، فلا حُجَّة فِيهِ لِمن عارض بِهِ، حدِيث أبِي هُريرة، فِيمنْ أراد أن يضع جِذعة على جِدار جاره. واللهُ أعلمُ
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهدا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عبد اللَّه بن عمرو - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-22/ 4086 و 4087 و 4088 و 4089 و4090و4091 - وفي "الكبرى" 22/ 3547 و 3548 و 3549 و 3550 و 3551و 3553. وأخرجه (خ) في "المظالم والغصب"2480 (م) في "الإيمان"141 (د) في "السنّة"4771 (ت) في "الديات" 1419 و 1420 (أحمد) في "مسند المكثرين" 6486 و 6777 و 6784 و 6883 وه 697 و6991و 7015. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم من قُتل دون ماله، وهو كونه شهيدًا. (ومنها): تحريم مال المسلم، كدمه؛ لأنه ما أُبيح له قتل المسلم إذا أخذ ماله بغير رضاه، إلا لكونه محرّمًا عليه. (ومنها): ما قاله النَّووِيّ: وهو أن فِيهِ جواز قتلِ من قصد أخذ المال بِغيرِ حن، سواء كان المْالُ قليلا، أوْ كثِيرًا، وهُو قوْلُ الجمهور، وشذَّ من أوْجبهُ. وقال بعض المالِكِيَّةِ: لا يجُوزُ إِذا طلب الشَّيء الخفِيف.
قال القرْطُبِي: سببُ الخلافِ عِنْدنا، هل الإذنُ في ذَلِكَ، من باب تغيِيرِ المنْكرِ، فلا يفترِقُ الحال بين القليلِ والكثِيرِ، أوْ من باب دفع الضَّررِ، فيختلِفُ الحَالُ؟. وحكى ابن المْنْذِر، عن الشَّافِعِيَّ، قال: من أُرِيد ماله، أو نفسه، أوْ حرِيمه فلهُ الاختيارُ، أن
(1)
"فتح" 5/ 418 - 419 "كتاب المظالم" حديث رقم 2480.
يُكلّمهُ، أوْ يستغِيث، فإن مُنِع، أوْ امتنع لم يكُن لهُ قِتاله، والا فلهُ أن يدْفعهُ عن ذَلِكَ، ولوْ أتى على نفسِهِ، وليس عليهِ عقل، ولا دِية، ولا كفَّارة، لكِن ليس لهُ عمدُ قتله. قال انن المْنْذِر: والّذِيِ عليهِ أهل العِلم، أنَّ لِلرَّجُلِ أن يدْفع عمَّا ذُكِر، إِذا أُرِيد ظُلْمًا، بِغيرِ تفصِيل، إِلا أن كُل من يُحْفظُ عنهُ، من عُلماءِ الحديث المُجْمِعِينَ على استِثناءِ السُّلطانِ، للآثارِ الوارِدةِ بِالأمرِ بِالصبرِ على جوْرِهِ، وترْك القِيام عليهِ.
وفرَّق الأوْزاعي بين الحال التِي لِلنَّاسِ فِيها جماعة وإمام، فحمل الحديث عليها، وأمَّا في حال الاختِلاف والفُرْقة، فلْيسْتَسْلم، ولا يُقاتِل أحدًا.
ويردُّ عليهِ ما وقع في حدِيث أبِي هُريرة، عِند مُسْلِم، بِلفظ:"أرأيت إن جاء رجُل يُريدُ أخذ مالي؟ قال: "فلا تُعْطِهِ"، قال: أرأيت إنْ قاتلنِي؟ قال: "فاقتُلهُ"، قال: أرأيت إن قتلنِي؟ قال: "فأنت شهِيد"، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: "فهُو في النَّارِ"
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي القول بالإطلاق، كما هو رأي الجمهور هو الأرجح؛ لإطلاق النص. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4087 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ
(2)
، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ أَبِي يُونُسَ الْقُشَيْرِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَالِهِ، فَقُتِلَ، فَهُوَ شَهِيدٌ» ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا، و"محمد بن عبد اللَّه بن بزِيع": هو البصريّ الثقة [10]. 43/ 588. و"بِشر بن المفَضَّل": هو أبو إسماعيل البصريّ، الثقة الثبت العابد [8]. 66/ 82. و"أبو يونس القُشيريّ": هو حاتم بن أبي صغِيرة المذكور في السند الماضي.
و"عبد اللَّه بن صفوان": أبو صفوان الْجُمَحِيّ المكيّ، وُلد في عهد النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، ولأبيه صحبة مشهورة، وقُتل مع ابن الزبير، وهو متعلّقٌ بأستار الكعبة سنة (73)، وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين، وله عند المصنّف حديثان فقط: هذا الحديث، وفي "كتاب الحجّ" 112/ 2880 حديث حفصة بنت عمر - رضي اللَّه تعالى عنها -، مرفوعًا:"ليؤمّنّ هذا البيت جيش، يغزوه" الحديث، وتقدّمت ترجمته بالرقم المذكور.
والحديث متّفقٌ عليه، وتقدم شرحه، وبيان مسائله في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم
(1)
"فتح" 5/ 418 - 419 "كتاب المظالم" حديث رقم 2480.
(2)
بفتح الباء الموحّدة، وكسر الزاي، آخره عين مهملة.
بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4088 -
(أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ فَضَالَةَ
(1)
بْنِ إِبْرَاهِيمَ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو الأَسْوَدِ، مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ مَظْلُومًا، فَلَهُ الْجَنَّةُ» ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، وهو نساني، ثقة ثبت [11] 170/ 898. و"عبد اللَّه": هو ابن يزيد المكيّ، أبو عبد الرحمن المقرئ، البصريّ الأصل، أو الأهواز، ثقة فاضل، أقرأ القرآن نيّفًا وسبعين سنة، من كبار شيوخ البخاريّ [9] 4/ 746.
و"سعيد": هو ابن أبي أيّوب/ مِقلاص الْخُزَاعيّ مولاهم، أبو يحيى المصريّ، ثقة ثبت [7] 27/ 1880. و"أبو الأسود، محمد بن عبد الرحمن": هو المدنيّ المعروف بيتيم عروة، ثقة [6] 4/ 746. و"عكرمة": هو مولى ابن عبّاس.
وقوله: "من قُتل دون ماله مظلومًا الخ" هكذا في رواية المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا اللفظ، وهو اللفظ المشهور بهذا السند، ورواه البخاريّ، عن المقرئ، بسند المصنّف، بلفظ:"من قُتل دون ماله، فهو شهيد". فقال الإسْمَاعِيليّ: وكذا أخرجهُ البُخارِي، وكأنَّة كتبهُ من حِفظه، أوْ حدّث بِهِ المُقرئُ من حِفظه، فجاء بِهِ على اللفظِ المشهور، وإِلا فقد رواهُ الجماعة، عن المُقرئ بِلفظ:"من قُتِل دُون مالِهِ مظلُومًا، فلهُ الجنَّة"، قال: ومنْ أتى بِهِ على غيرِ اللفظِ الذِي اعْتِيد، فهُو أوْلى بِالحفظِ، ولا سِيَّما، وفِيهِم مِثلُ دُحيم. وكذلِك ما زِادُوهُ، من قوْلِهِ:"مظلُومًا"، فإِنة لا بُدّ من هذا القيدِ. وساقهُ مِن طرِيق دُحيم، وابن أبِي عُمر، وعبد العزِيز بن سلام.
قُال الحافظ: وكذلِك أخرجهُ النساثِي، عن عُبيدِ اللَّهِ بنِ فضالة، عن المُقرئ، وكذلِك رواهُ حيوة بن شُريح، عن أبِي الأسودِ، بِهذا اللفظِ، أخرجهُ الطَّبرِيّ.
نعم لِلحدِيثِ طرِيق أُخرى، عن عِكرِمة، أخرجها النَّسائِي بِاللفْظِ المشهور.
قال الجامع: هي الرواية التالية لهذه الرواية. قال: وأخرجهُ مسْلِم كذلِك، من طريقِ ثابِت بن عِياض، عن عند اللَّه بن عمرو. وفِي رِوايتِهِ قصَّة، قال:"لمَّا كان بين عبد اللَّه بن عَمْرو، وبين عنبسة بن أبِي سُفْيان، ما كان -يُشِيرُ لِفقِتالِ- فركِب خالِد بن العاصِ، إِلى عبد اللَّه بن عمرو، فوعظهُ، فقال عند اللَّه بن عمرو: أما علِمت .. "فذكر الحديث.
(1)
بفتح الفاء، وتخفيف الضاد المعجمة.
وأخرجه النسائيّ من وجهين آخرين
(1)
، وأبو داود، والترمذيّ من وجه آخر، كلهم عن عبد اللَّه بن عمرو باللفظ المشهور، وفي رواية لأبي داود، والترمذيّ:"من أُريد ماله بغير حقّ، فقاتل، فقُتل فهو شهيد"
(2)
، ولابن ماجه من حديث ابن عُمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - نحوه. قال: وروى الترمذيّ، وبقيّة أصحاب السنن
(3)
من حديث سعيد بن زيد - رضي اللَّه تعالى عنه - نحوه، وليه ذكر الأهل، والدم، والدِّين. وفي حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - عند ابن ماجه:"من أُريد ماله ظلمًا، فقُتل فهو شهيد". انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-
(4)
.
والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4089 -
(أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْهُذَيْلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُعَيْرُ بْنُ الْخِمْسِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ، فَهُوَ شَهِيدٌ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، "محمد بن جعفر ابن الْهُذَيل": هو الكوفيّ، سبط أبي أُسامة، ثقة صاحب حديث [11]. 2/ 3650.
و"عاصم بن يوسف": هو الْيَربوعيّ، أبو عمرو الخيّاط الكوفيّ، ثقة، من كبار [10] 67/ 2322.
و"سُعَير" آخره راء، مُصغرًا - ابن الخِمس" بكسر المعجمة، وسكون الميم،، آخره مهملة- التميميّ، أبو مالك، ويقال: أبو الأحوص، صدوقٌ [7].
قال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، يُكتب حديثه، ولا يُحتجّ به. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال عبد اللَّه بن داود الْخُرَيبيّ: شَهِدتُ سُعير بن الخِمس، وقُرَّب إلى قبره لَيُدفنَ، فتحرّك عضوٌ من أعضائه، فكُشف الثوب عن وجهه، فإذا نَفَسه، فرُدّ إلى منزله، فوُلد له مالك بن سُعير بعد ذلك. وقال الترمذيّ: ثقة عند أهل الحديث. وقال ابن سعد: كان صاحب سنّة، وعنده أحاديث.
وقال الدارقطنيّ: ثقة. وقال أبو الفضل بن عمّار الشهيد: أخطأ في غير ما حديث، مع
(1)
أحد الطريقين هو طريق حاتم بن أبي صغيرة المتقدّمة أول الباب. والثاني طريق محمد بن طلحة الآتية قريبًا.
(2)
هذه الرواية تأتي للمصنّف بعد حديث، وسيقول المصنف: إنها خطأ.
(3)
سيأتي للمصنّف بعد حديثين، إن شاء اللَّه تعالى.
(4)
"فتح" 5/ 418 - 419 "كتاب المظالم" رقم الحديث:2480.
قلّة ما روى. روى له مسلم حديثًا واحدًا في الوسوسة، رفعه هو، وأرسله غيره، وروى له المصنّف هذا الحديث فقط. وروى له الترمذيّ حديثين: هذا الحديث، وحديث:"بُني الإسلام على خمس" الحديث.
و"عبد اللَّه بن الحسن" بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب الهاشميّ، أبو محمد المدنيّ، وأمه فاطمة بنت الحسين بن عليّ، ثقة جليل القدر [5].
وثّقه ابن معين، وأبو حاتم، والنسائيّ. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال يحيى ابن المغيرة الرازيّ، عن جرير: كان مغيرة إذا ذُكر له الرواية عن عبد اللَّه بن الحسن، قال: هذه الرواية الصادقة. وقال مصعبٌ الزبيري: ما رأيت أحدًا من علمائنا يُكرمون أحدًا ما يُكرمونه. وقال محمد بن سعد: عن محمد بن عمر: كان من الْعُبّاد، وكان له شَرَفٌ، وعارضةٌ، وهيبةٌ، ولسانٌ شديد. وقال محمد بن سلام الجمحيّ: كان ذا منزلة من عمر بن عبد العزيز. قال ابنه موسى: تُوفّي في حبس أبي جعفر، وهو ابن (75) سنة. وقال الواقديّ: كان موته قبل قتل ابنه بأشهر، وكان قتل محمد في رمضان، سنة (145). روى له الأربعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديث الباب فقط.
والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4090 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَنْ أُرِيدَ مَالُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَقَاتَلَ، فَقُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ» .
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ حَدِيثُ سُعَيْرِ بْنِ الْخِمْسِ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عمرو بن عليّ": هو الفلاّس. و"يحيى بن سعيد": هو القطّان. و"سفيان": هو ابن سعيد الثوريّ.
و"إبراهيم بن محمد بن طلحة" بن عُبيد اللَّه التيميّ، أبو إسحاق المدنيّ، وقيل: الكوفيّ، ثقة [3].
قال يعقوب بن شيبة: ثقة. وقال العجليّ: ثقة رجلٌ صالح. وقال ابن سعد: كان شريفًا، صارمًا، له عارضة وإقدامٌ، وكان قليل الحديث. وقال النسائيّ: كان أحد النبلاء. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال مصعبٌ الزبيريّ: استعمله ابن الزبير على خراج الكوفة، وبقي حتى أدرك هشام بن عبد الملك. مات سنة (110)، ومولده سنة (36)، فروايته عن عمر مرسلة. روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديث الباب فقط.
وقولُهُ "من أُرِيد مالُهُ" بِالرَّفع: أي الإنسانُ الذِي أراد إِنسان آخرُ أن يأخُذ مالهُ. وقوله: "بِغيرِ حقّ": أي ظُلْمًا. وقوله: "فقاتل": أي ذَلِكَ الإنسانُ الّذِي هُو مالِكُ المال، دُون مالِهِ وقوله:"فقُتِل" بصِيغةِ المجهول، أيْ مالِكُ المال. وقوله:"فهُو شهِيدٌ": أفي مالِكُ المالِ المقتُولُ، أيْ في حُكم الآخِرةِ.
وقول المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-: "هذا خطأ، والصواب حديث سُعير بن الخِمْس"، أراد به أن الصواب كون حديث عبد اللَّه بن الحسن، عن عكرمة، عن عبد اللَّه بن عمرو، كما رواه سُعير بن الخمس، لا عن عبد اللَّه بن الحسن، عن إبراهيم بن محمد ابن طلحة، عن عبد اللَّه بن عمرو، كما رواه سفيان الثوريّ، هذا الذي يظهر من كلامه -رحمه اللَّه تعالى-.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لكن لم يظهر لي وجه تصويبه رواية سُعير بن الْخمس السابقة، وتخطئته رواية سفيان هذه، فإن كان لموافقتها لرواية محمد بن عبد الرحمن السابقة، حيث إنه رواها عن عكرمة، عن عبد اللَّه بن عمرو، بخلاف رواية سفيان، فإنه خالفه في ذلك، فجعله عن عبد اللَّه بن حسن، عن إبراهيم بن محمد، عن عبد اللَّه بن عمرو، فهذا لا يضرّ، فإن سفيان إمام ثقة حافظ متقنٌ، ومع ذلك لم ينفرد به، بل تابعه عليه عبد العزيز بن المطّلب، وهو صدوقٌ، فقد أخرجه الترمذيّ، عن بندار، عن أبي عامر العقديّ، عن عبد العزيز بن المطّلب، عن عبد اللَّه بن حسن، عن إبراهيم بن محمد، عن عبد اللَّه بن عمرو - رضي اللَّه تعالى عنه -، ثم قال الترمذيّ: حسن صحيح
(1)
.
فالذي يظهر أن الحديث صحيح، من كلتا الطريقين.
وله أيضًا طريق آخر، فقد أخرجه ابن ماجه في "الحدود" عن بندار، بسند الترمذيّ، لكنه قال: عن عبد اللَّه بن الحسن، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه -. قال الحافظ في "النكت الظراف": فكأنّ لعبد اللَّه بن الحسن فيه شيخان. انتهى.
والحاصل أن الحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4091 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ، فَهُوَ شَهِيدٌ»).
(1)
هكذا في "تحفة الأشراف" 6/ 279 عزه إلى الترمذيّ، والذي في النسخة الموجودة عندي لفظ "حديث حسن" فقط، ولعله لاختلاف النسخ. واللَّه تعالى أعلم.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن سليمان": هو أبو الحسين الرُّهاويّ، ثقة حافظ [11]. 38/ 42 من أفراد المصنّف.
و"معاوية بن هشام": هو القصّار، أبو الحسن الكوفيّ، صدوقٌ، له أوهامٌ، من صغار [9] 39/ 1754.
وقوله: "عن محمد بن إبراهيم بن طلحة" خطأٌ، والصواب:"عن إبراهيم بن محمد ابن طلحة"، كما تقدّم في السند الماضي، وقد أشار المصنّف إلى هذا في "الكبرى" حيث قال بعد إحراجه بهذا السند: ما نصّه: "قال أبو عبد الرحمن: هذا خطأ، والصواب الذي قبله". انتهى. يعني رواية يحيى بن سعيد القطّان التي في السند السابق، حيث سمّى الراوي "إبراهيم بن محمد بن طلحة". والخطأ فيه من معاوية بن هشام، حيث قلب "إبراهيم بن محمد" إلى "محمد بن إبراهيم"
(1)
.
[تنبيه]: تخطئة المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- هنا غير تخطئته في السند الماضي، فإنه هناك خطأ كون الحديث من رواية عبد اللَّه بن حسن، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة، عن عبد اللَّه بن عمرو، وصوّب كونه من رواية عبد اللَّه بن حسن، عن عكرمة، عن عبد اللَّه بن عمرو، وقد سبق ما فيه.
وأما تخطئته هنا فهو تخطئة قلب اسم إلى اسم آخر، فخطّأ قوله:"محمد بن إبراهيم"، وقال: الصواب: "إبراهيم بن محمد"، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق بيانه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4092 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَقُتَيْبَةُ، وَاللَّفْظُ لإِسْحَاقَ، قَالَا: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ، فَهُوَ شَهِيدٌ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "إسحاق بن إبراهيم": هو ابن راهويه. و"سفيان": هو ابن عُيينة. و"طلحة بن عبد اللَّه بن عوف": هو الزهريّ المدنيّ القاضي، الملقّب طلحة النَّدَى، ثقة مكثر فقيه [3] 77/ 1987.
و"سعيد بن زيد"بن عمرو بن نُفيل العدويّ، أبو الأعور، أحد العشرة. روى عن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، وعنه ابنه هشام، وابن عمر، وعمرو بن حُريث، وأبو الطُّفيل، وقيس بن أبي حازم، وغيرهم. ذكر عروة بن الزبير أنه ممن ضرب رسول
(1)
راجع "النكت الظراف" على الأطراف" للحافظ ابن حجر ج 6/ 367. في ترجمة عكرمة، عن عبد اللَّه بن عمرو - رضي اللَّه تعالى عنه -.
اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - سهمه، وأجره في بدر، هو وطلحة، وكان بعثهما يتجسّسان له أمر عِير قُريش، فلم يحضُرا بدرًا. وقال ابن عبد البرّ: كان إسلامه قديمًا قبل عمر، وبسبب زوجته كان إسلام عمر، وهاجر هو وامرأته فاطمه بنت الخطّاب.
وقال قيس بن أبي حازم: قال سعيد بن زيد: لقد رأيتني، وإن عمر لموثقي على الإسلام. ودعا سعيد على أروى بنت أويس لَمّا استعدت عليه، وادّعت أنه غصبها أرضها، فقال: اللَّهمّ إن كانت ظالمةً، فأَعم بصرَها، واجعل قبرها في بئرها، فعَمِيت أروى، ثم وقعت في البئر، فماتت، وخبرها مشهور، ورواه الزبير بن بكّار في "كتاب النسب" بسند صحيح. وقال الواقديّ: توفّي بالعقيق، فحُمل إلى المدينة، فدُفن بها، وذلك سنة (50)، أو (51)، وكان يوم مات ابن بضع وسبعين سنة، وكان رجلاً طُوَالاً، آدم، أشعر. وقال: وهذا أثبت عندنا، لا خلاف فيه بين أهل البلد، وأهل العلم، وروى أهل الكوفة أنه مات عندهم. وقال يحيى بن بُكير، وخليفة،: مات سنة (51)، وقال عبد اللَّه بن سعيد الزهريّ: مات سنة (52).
روى له الجماعة، وله عند المصنّف هذا الحديث فقط، كرّره أربع مرّات، في هذا الباب، والبابين بعده.
وشرح الحديث تقدّم في حديث عبد اللَّه بن عمرو - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وفيه مسألتان تتعلّقان به:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث سعيد بن زيد - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-22/ 4092 و 23/ 406 و 4097/ 24 - وفي "الكبرى"22/ 3554 و 23/ 3557 و 24/ 3558. وأخرجه (د) في "السنّة" 4772 (ت) في "الديات" 1418 و1421 (ق) في "الحدود" 2580 (أحمد) في "مسند العشرة" 1631 و 1636 و 1652. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4093 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَالِهِ، فَهُوَ شَهِيدٌ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"عبدة": هو ابن سليمان الكلابيّ. و"محمد بن إسحاق": هو المطّلبي، إمام المغازي.
والحديث صحيح، كما سبق بيانه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه
المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4094 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُؤَمَّلُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ، فَهُوَ شَهِيدٌ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن نصر": هو النيسابوريّ الزاهد المقرئ، أبو عبد اللَّه بن أبي جعفر، ثقة فقيه حافظ [11]. 60/ 1782 من أفراد المصنّف، والترمذيّ.
و"المؤمّل" بهمزة، بوزن محمد- بن إسماعيل العدويّ، مولى آل الخطاب، وقيل: مولى بني بكر، أبو عبد الرحمن البصريّ، نزيل مكّة، صدوقٌ سيّء الحفظ، من صغار [9].
قال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة. وقال عثمان الدارميّ: قلت لابن معين: أيّ شيء حاله؟ فقال: ثقة، قلت: هو أحبّ إليك، أو عُبيد اللَّه يعني ابن موسى؟ فلم يُفضّل. وقال أبو حاتم: صدوق، شديدٌ في السنّة، كثير الخطإ. وقال البخاريّ: منكر الحديث. وقال الآجرّي: سألت أبا داود عنه؟ فعظّمه، ورفع مى شأنه، إلا أنه يَهِم في الشيء. وقال يعقوب بن سفيان: مؤمّل أبو عبد الرحمن شيخٌ جليلٌ سُنّيّ، سمعت سليمان بن حرب يُحسن الثناء عليه، كان مشيختنا يُوصُون به، إلا أن حديثه لا يُشبه حديث أصحابه، وقد يجب على أهل العلم أن يقِفوا عن حديثه، فإنه يروي المناكير عن ثقات شيوحه، وهذا أشدّ، فلو كانت هذه المناكير عن الضعفاء لكنّا نجعل له عُذرًا. وقال الساجيّ: صدوقٌ كثير الخطإ، وله أوهامٌ يطول ذكرها. وقال ابن سعد: ثقة كثير الغلط. وقال ابن قانع: صالحٌ يُخطىء. وقال إسحاق بن راهويه: حدثنا مؤمّل بن إسماعيل ثقة. وقال محمد بن نصر المروزيّ: المؤمّل إذا انفرد بحديث وجب أن يُتوقّف، ويُتثتت فيه؛ لأنه كان سيّء الحفظ، كثير الغلط. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: ربّما أخطأ، مات يوم الأحد لسبع عشرة ليلة، خلت من شهر رمضان، سنة (206) وهكذا أرّخه البخاريّ، عن ابن أبي بزّة. قال البخاريّ: أما ابنه، فقال: نحن من صليبة كنانة، قال: وحدّثني من أثق به أنه مولى لبني بكر.
علّق له البخاريّ، وأخرج له المصنّف، وأبو داود في" القدر"، والترمذيّ، وابن ماجه، وله عند المصنّف حديثان فقط: هذا الحديث، وفي "كتاب البيوع" 51/ 4587 - حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه كان لا يرى بأسًا في قبض الدراهم من الدنانير، والدنانير من الدراهم".
و"سفيان": هو الثوريّ. و"علقمة بن مَرْثَد": الحضرميّ، أبو الحارث الكوفيّ، ثقة [6] 103/ 2040. و"سليمان بن بُريدة": هو الأسلميّ المروزيّ، قاضيها، ثقة [3] 101/ 133. و"أبوه": هو بُريدة بن الْحُصيب، أبو سهل الأسلميّ، صحابيّ، أسلم قبل بدر، ومات - رضي اللَّه تعالى عنه - سنة (63) 101/ 133.
والحديث من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو صحيح بالأسانيد الماضية، وأما بهذا السند، فضعيف، كما سيأتي الكلام عليه في الذي بعده. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4095 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَتِهِ، فَهُوَ شَهِيدٌ». قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: حَدِيثُ الْمُؤَمَّلِ خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. و"سفيان": هو الثوريّ. وأبو جعفر": هو محمد بن عليّ بن الحسين المدنيّ المعروف بالباقر، ثقة فاضلٌ [4] 123/ 182.
وقوله: "دون مظلمته" بفتح الميم، وكسر اللام-: أي دون من أراد ظلمه بأخذ شيء من ماله، أو نحوه. قال المجد في "القاموس": والْمَظْلِمَةُ بكسر اللام، وكثُمَامة: ما تظلَّمه الرجل. انتهى. وقال الفيّوميّ في "المصباح": الظُّلْم أي بضمّ، فسكون-: اسم من ظَلَمَهُ ظَلْمًا، من باب ضرب، ومَظْلِمَةً بفتح الميم، وكسر اللام- وتُجعَلُ الْمَظْلِمَة اسمًا لما تَطْلُبُهُ عند الظالم. انتهى. وقال ابن منظور في "اللسان": والظُّلَامَةُ، والظَّليمَة، والْمَظلِمَةُ: ما تَطْلُبُهُ عند الظالم، وهو اسمُ ما أُخِذ منك. وفي "التهذيب": الظُّلَامة: اسم مَظْلِمَتِك التي تطلُبُها عند الظالم. انتهى.
وقوله: "قال أبو عبد الرحمن: حديث المؤمّل خطأ الخ" أشار به إلى أن حديث بُريدة بن الحُصيب المذكور قبله، من طريق المؤمّل موصولاً خطأ، والصواب حديث أبي جعفر مرسلاً، وإنما رتجح -رحمه اللَّه تعالى- المرسل على الموصول؛ لمخالفة المؤمّل وقد تكلّم فيه الأكثرون؛ لسوء حفظه، وكثرة أوهامه، كما سبق قرينًا في ترجمته- عبد الرحمن بن مهديّ، وهو إمام حافظ متقن، فتكون روايته محفوظة، وسيأتي حديث أبي جعفر موصولاً عن سُويد بن مقرّن - رضي اللَّه تعالى عنه - بعد بابين، إن شاء اللَّه تعالى.
والحاصل أن الحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
23 - (مَنْ قَاتَلَ دُونَ أَهْلِهِ)
4096 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَالِهِ، فَقُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قَاتَلَ دُونَ دَمِهِ، فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قَاتَلَ دُونَ أَهْلِهِ، فَهُوَ شَهِيدٌ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "إبراهيم بن سعد": هو الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة حجة [8]. 196/ 314. و"أبوه": هو سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف المدنيّ، قاضيها، ثقةٌ فاضلٌ، عابد [5]. 11/ 518. و"أبو عُبيدة بن محمد" بن عمّار بن ياسر، أخو سلمة، وقيل: هو هو، ثقة
(1)
[4] 2/ 3927. والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
وقولُهُ: "من قاتل دُون مالِهِ": أيْ عِند دفْعِهِ من يُرِيدُ أخذ مالِهِ ظُلمًا. وقوله: "دون دمِهِ": أي في الدفعِ عن نفسِهِ. وقوله: "دُون دِينِهِ": أفي في نُصرةِ دِينِ اللَّهِ، والذبَّ عنهُ. وقال السنديّ: أي من أراده أحدٌ ليفتنه في دينه، وإلا يُريد قتله، فقبِل القتل، أو قاتل عليه، حتى قُتل، فهو شهيد، وجُوّز له إظهار كلمة الكفر، مع ثبوت القلب على الإيمان، والأولى الصبر على القتل. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "دُون أهلِهِ": أيْ في الدَّفعِ عن زوجته، أوْ قرِيبتِهِ.
وقوله: "فهُو شهِيدٌ": أي لأنَّه مات في سبيل طلب الحقّ، والدفاع عن الحقّ؛ لأن المُوْمِن مُحتَرَمٌ، ذاتا، ودمّا، وأهلا، ومالا، فإذا أُرِيد مِنهُ أخذ شيءِ مِن ذَلِكَ، جاز لهُ الدَّفعُ عنهُ، فإِذا قُتِل بِسببِهِ، فهُو شهِيد، ينال أجر الشهيد في الآخرة، كما سبق بيانه.
والحديث صحيح، تقدّم تخريجه في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
…
(1)
قال عنه في "التقريب": مقبول، والصواب أنه ثقة، فقد وثّقه الأئمة: أحمد، وابن معين، وأبو
حاتم في رواية عنه. راجع "تهذيب التهذيب" 4/ 553.
24 - (مَنْ قَاتَلَ دُونَ دِينِهِ)
4097 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ -يَعْنِي ابْنَ دَاوُدَ الْهَاشِمِيُّ- قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ، فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ، فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ، فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ، فَهُوَ شَهِيدٌ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن رافع": هو القشيريّ النيسابوريّ، ثقة عابدٌ [11]. 92/ 114. و"محمد بن إسماعيل ابن إبراهيم": هو المعروف أبوه بابن علية البصريّ، نزيل دمشق، وقاضيها، ثقة [11] 22/ 489. و"سليمان بن داود الهاشميّ": هو أبو أيوب البغداوديّ الفقيه، ثقة جليل، قال أحمد: يصلح للخلافة [10]. 68/ 1316. والباقون تقدّموا في الباب الماضي، وقبله.
والحديث صحيح، تقدّم تخريجه قبل باب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
25 - (مَنْ قُتِل دُونَ مَظْلِمَتهِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "المظلمة" بفتح الميم، وكسر اللام، بمعنى الظلم، وهو وضع الشيء في غير محلّه، والمراد به أن من قُتل عند قصد قاصد له بالظلم، فله أجر شهيد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
4098 -
(أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْثَرٌ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ سَوَادَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَتِهِ، فَهُوَ شَهِيدٌ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "القاسم بن زكريّا": هو القرشيّ، أبو محمد الكوفيّ الطّحّان، ثقة [11] 8/ 410. و"سعيد بن عمرو الأشعثيّ": هو أبو عثمان الكنديّ الكوفيّ، ثقة [10]. 54/ 2288. و"عَبْثَر" بفتح المهملة، وسكون الموحّدة-: هو
القاسم الزُّبيديّ بالضم-، أبو زُبيد الكوفيّ، ثقة [8] 190/ 1164. و"مطرّف": هو ابن طرِيف الكوفيّ، ثقة فاضلٌ، من صغار [6] 2/ 327.
و"سوادة بن أبي الجعد"، أو ابن الجعد الجعفيّ، مقبول [6].
روى عن أبي جعفر، وروى عنه مطرّف بن طَرِيف. قال أبو حاتم: سوادة بن الجعد هو أخو عمران، وإبراهيم. وقال البخاريّ في "التاريخ الكبير": سوادة بن أبي الجعد روى عن أبي جعفر، مرسلٌ، يقال: هو أخو عمران، وإبراهيم. وذكره ابن حبّان في "الثقات". تفرد به المصنّف بحديث الباب فقط.
و"أبو جعفر" قال في "التقريب" ص 399: "أبو جعفر" شيخٌ لسوادة بن أبي الجعد مجهول، من الثالثة، وقيل: هو محمد الباقر. انتهى. وقال في "تهذيب "التهذيب" 4/ 504 - : "أبو جعفر" عن سُويد بن مُقرّن حديث "من دون مظلمته، فهو شهيد"، وعنه سوادة بن أبي الجعد. ورواه علقمة بن مرثد، عن أبي جعفر مرسلاً، يحتمل أن يكون أبو جعفر هذا هو محمد بن عليّ بن الحسين الباقر. انتهى.
و"سُويد بن مُقرّن" بن عائذ المزنيّ، أبو عديّ، ويقال: أبو عمرو الكوفيّ، أخو النعمان. روى عن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، وعنه ابنه معاوية، ومولاه أبو سعيد، وهلال بن يساف، وأبو جعفر شيخ لسوادة بن الأسود، وأبو مصعب هلال ابن يزيد المازنيّ، ويقال: الشيبانيّ. انتهى. روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، ومسلم، وأبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب حديث الباب فقط.
والحديث وإن كان في سنده أبو جعفر، وهو مجهول، إلا أنه صحيح بما تقدّم، وهو من أفراد المصنّف أخرجه هنا-25/ 4098 - . واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
26 - (مَنْ شَهَرَ سَيْفهُ، ثُمَّ وَضَعَهُ فِي النَّاسِ)
4099 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَنْ شَهَرَ سَيْفَهُ، ثُمَّ وَضَعَهُ، فَدَمُهُ هَدَرٌ»).
رجال هذا الإسناد؛ ستة:
1 -
(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه الحنظليّ المروزيّ، ثقة ثبت [10] 2/ 2.
2 -
(الفضل بن موسى) السَّينانيّ، أبو عبد اللَّه المروزيّ، ثقة ثبت ربما أغرب، من كبار [9] 83/ 100.
3 -
(معمر) بن راشد الأزدي مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقة ثبت [7] 10/ 10.
4 -
(ابن طاوس) هو عبد اللَّه اليمانيّ، أبو محمد، ثقة فاضل عابد [6] 11/ 514.
5 -
(أبوه) طاوس بن كيسان الحميريّ موهم الفارسي، أبو عبد الرحمن اليمانيّ، يقال: اسمه ذكران، وطاوس لقبه، ثقة فقيه فاضل [3] 27/ 31.
6 -
(ابن الزبير) هو عبد اللَّه بن الزبير بن العوّام القرشيّ الأسديّ، أبو بكر، وأبو خُبيب، ولي الخلافة تسع سنين، وقُتل في ذي الحجة سنة (73)، تقدّم في 189/ 1161 واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية الابن، عن أبيه. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ) عبد اللَّه (بْنِ الزُّبَيْرِ) بن العوّام - رضي اللَّه تعالى عنهما - (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أنه (قال: "مَنْ) شرطية مبتدأ، وجوابها قوله:"فدمه هدرٌ"(شَهَرَ سَيْفَهُ) بتخفيف الهاء، وتشديدها: أي من أخرجه من غِمّده للقتال. قال الفيّوميّ: شَهَرَ الرجلُ سيفَهُ شَهْرًا، من باب نَفَعَ: إذا سلّه. وقال المجد: وشَهَرَ سيفه، كَمَنَعَ، وشَهَّره يعني بالتضعيف-: انتضاه، فرفعه على الناس. انتهى. وفي الرواية الآتية:"من رَفَعَ السلاح"، وهو بمعناه،
وفي حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -: "من حمل علينا السلاح"(ثُمَّ وَضَعَهُ) أي في الناس، يعني أنه ضربهم به (فَدَمُهُ هَدَرٌ) بفتحتين: أي باطل، يعني أنه لا دية له، ولا قصاص بقتله. قال الفيّوميّ: هَدَرَ الدمُ هَدْرًا، من بأبي ضرب، وقَتَل: بطل، وأَهدَرَ بالألف لغة، وهَدَرتَهُ، من باب قتل، وأهدرته: أبطلته، يستعملان متعذيين أيضًا، والْهَدَرُ بفتحتين اسم منه، وذهب دمُهُ هَدْرًا بالسكون، وبالتحريك: أي باطلا، لا قَوَدَ فيه. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث عبد اللَّه بن الزبير - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا ضعيف؛ لمخالفة الفضل بن موسى لعبد الرزاق، وقد تابعه أبو عاصم، عن ابن جريج، فرووه موقوفًا، وهو الأصحّ، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-26/ 4099 و 4100 و 4101 وفي "الكبرى" 26/ 3560 و 3561 و 3562. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4100 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "ولم يرفعه" يعني أن عبد الرزاق بن همام الصنعاني رواه عن معمر موقوفًا، فخالف فيه الفضل بن موسى، وتابعه عليه أبو عاصم، عن ابن جريج، كما في الرواية التالية. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4101 -
(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: "مَنْ رَفَعَ السِّلَاحَ، ثُمَّ وَضَعَهُ، فَدَمُهُ هَدَرٌ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، أبي داود/ سليمان بن سيف الحرّانيّ، فإنه من أفراده، وهو ثقة. و"أبو عاصم": هو الضحّاك بن مخلد النبيلُ. و"ابن جُريج": هو عبد العزيز بن عبد الملك بن جُريج. والحديث موقوف صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4102 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَيُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، أَنَّ نَافِعًا أَخْبَرَهُمْ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ، فَلَيْسَ مِنَّا»).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أحمد بن عمرو بن السرح) هو أحمد بن عمرو بن عبد اللَّه بن عمرو بن
السرح، أبو الطاهر المصريّ، ثقة [10] 35/ 39.
2 -
(ابن وهب) هو عبد اللَّه القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقة حافظ عابد [9] 9/ 9.
3 -
(مالك) بن أنس، إمام دار الهجرة الحجة الثبت الفقيه [7] 7/ 7.
4 -
(عبد اللَّه بن عمر) بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، أبو عبد الرحمن العمريّ المدنيّ، ضعيف [7] 8/ 4029.
5 -
(أسامة بن زيد) الليثيّ مولاهم، أبو زيد المدنيّ، صدوق يهم [7] 33/ 2177.
6 -
(يونس بن يزيد) الأمويّ مولاهم، أبو يزيد الأيليّ، سكن مصر، ثقة [7] 9/ 9.
7 -
(نافع) العدويّ مولى ابن عمر، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 12/ 12.
8 -
(ابن عمر) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخه، وابن وهب، ويونس مصريون، والباقون مدنيون. (ومنها): أن فيه ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، ومن المشهورين بالفتوى من الصحابة - رضي اللَّه تعالى عنهم -. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا) أي المسلمين، وترك ذكر الذميين، والمستأمنين للمقايسة، أو المراد بـ "علينا" كلُّ من كان أهل أمن، أو حرام الدم بالإيمان، أو الذمّة، أو الاستئمان. قاله السنديّ
(1)
(السَّلَاحَ) وفي حديث سلمة بن الأكوع عند مسلم: "من سلّ علينا السيف".
قال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: يعني بذلك النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم نفسه وغيره من المسلمين، ولا شكّ في كفر من حارب النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، وعلى هذا فيكون قوله - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -:"فليس منّا" أي ليس بمسلم، بل هو كافر، وأما من حارب غيره من المسلمين، متعمّدًا، مستحلاً من غير تأويل، فهو أيضًا كافرٌ كالأول، وأما من لم يكن كذلك، فهو صاحب كبيرة إن لم يكون
(1)
"شرح السنديّ" 7/ 117.
متأولاً تاويلًا مسوّغًا بوجه. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": معنى الحديث حمل السلاح على المسلمين لقتالهم به بغير حقّ؛ لما في ذلك من تخويفهم، وإدخال الرعب عليهم، لا من حمله لحراستهم مثلا، فإنه يحمله لهم، لا عليهم
(2)
.
قال: وكأنه كنى بالحمل عن المقاتلة، أو القتل للملازمة الغالبة. قال ابن دقيق العيد -رحمه اللَّه تعالى-: يحتمل أن يراد بالحمل ما يُضادّ الوضع، ويكون كنايةً عن القتال به، ويحتمل أن يُراد بالحمل حملها؛ إرادة القتال به لقرينة قوله:"علينا". ويحتمل أن يكون المراد حمله للضرب به، وعلى كلّ حال ففيه دلالة على تحريم قتال المسلمين، والتشديد فيه. وقال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: جاء الحديث بلفظ: "من حمل علينا السلاح"، أخرجه البزّار، من حديث أبي بكرة، ومن حديث سمُرة، ومن حديث عمرو ابن عوف، وفي سند كلّ منها لينٌ، لكنّها يعضد بعضها بعضًا. وعند أحمد من حديث أبي هريرة بلفظ:"من رمانا بالنبل، فليس منّا""، وهو عند الطبرانيّ في "الأوسط"، بلفظ: "الليل" بدل "النبل"، وعند البزّار من حديث بُريدة مثله. انتهى
(3)
.
(فَلَيْسَ مِنَّا) قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: مذهب أهل الحقّ أنه لا يُكفّر أحدٌ من المسلمين بارتكاب كبيرة ما عدا الشرك، وعدى هذا فيُحمل قوله - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم:"ليس منّا" في حن مِثلِ هذا على معنى: ليس على طريقتنا، ولا على شريعتنا، إذ سنّة المسلمين، وشريعتهم التواصل، والتراحم، لا التقاطع، والتقاتل، ويَجري هذا مَجرى قوله - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -:"من غشّنا، فليس منّا"، ونظائره، وتكون فائدته الردع، والزجر عن الوقوع في مثل ذلك، كما يقول الوالد لولده إذا سلك غير سبيله: لستُ منك، ولستَ مني، كما قال الشاعر:
إِذَا حَاوَلْتَ فِي أَسَدٍ فُجُورًا
…
فِإنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي
انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-
(4)
.
وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح مسلم": مذهب أهل السنّة والفقهاء أن من حمل السلاح على المسلمين بغير حقّ، ولا تأويل، ولم يستحلّه، فهو عاص، ولا يكفر بذلك، فإن استحلّه كفر. فأما تأويل الحديث، فقيل: هو محمولٌ على المستحلّ بغير
(1)
"المفهم" 1/ 299. "كتاب الإيمان".
(2)
"فتح" 14/ 178 "كتاب الديات" حديث رقم 6874.
(3)
"فتح" 14/ 517 - 518 "كتاب الفتن" حديث رقم 7070.
(4)
"المفهم" 1/ 300 "كتاب الإيمان".
تأويل، فيكفر، ويخرُج من الملّة. وقيل: معناه ليس على سيرتنا الكاملة، وهدينا. وكان سفيان بن عُيينة -رحمه اللَّه تعالى- يَكرَه قول من يُفسّره بـ "ليس على هدينا"، ويقول: بئس هذا القول، يعني بل يُمسَك عن تأويله؛ ليكون أوقع في النفوس، وأبلغ لي الزجر. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "فليس منّا": أي ليس على طريقتنا، أو ليس متّبعًا لطريقتنا؛ لأن من حقّ المسلم على المسلم أن ينصُره، ويُقاتل دونه، لا أن يُرعبه يحمل السلاح عليه لإرادة قتاله، أو قتله، ونظيره:"من غشّنا فليس منّا"، و"ليس منّا من ضرب الخدود، وشقّ الجيوب". وهذا في حقّ من لا يستحلّ ذلك، فأما من يستحقه، فإنه يكفر باستحلال المحرّم بشرطه، لا مُجرّد حمل السلاح. والأولى عند كثير من السلف إطلاق لفظ الخبر من غير تعزض لتأويله؛ ليكون أبلغ في الزجر. وكان سفيان بن عُيينة يُنكر على من يصرفه عن ظاهره، فيقول: معناه ليس على طريقتنا، ويرى أن الإمساك عن تأويله أولى لما ذكرناه. والوعيد المذكور لا يتناول من قاتل البغاة من أهل الحقّ، فيُحمل على البغاة، وعلى من بدأ بالقتال ظالمًا. قاله في "الفتح"
(2)
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المساله الأولى): في درجته:
حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-26/ 4102 - وفي "الكبرى" 26/ 3563. وأخرجه (خ) في "الديات" 6874 و"الفتن" 7070 (م) في "الإيمان" 98 (ق) في "الحدود" 2576 (أحمد) "في مسند المكثرين"4453 و 4635 و 5127 و 6241 و6345. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم من شهر سيفه على المسلمين، وهو أنه ليس له حرمتهم، بل يقتل. (ومنها): تحريم حمل السلاح على المسلمين من غير حقّ؛ لما فيه من ترويعهم، وتخويفهم، بغير سبب شرعيّ. (ومنها): عظم حرمة المسلمين عند اللَّه تعالى، فلا يحلّ لأحد أن يتعرض لهم بأذى؛ إلا بما
(1)
"شرح مسلم" 2/ 108 "كتاب الإيمان".
(2)
"فتح" 14/ 518. "كتاب الفتن" حديث رقم 7070.
شرعه اللَّه تعالى عليهم، من الحدود. (ومنها): خطر حمل السلاح على من لا يستحقّه، فقد حكم الشارع عليه بأنه ليس من المسلمين، وهذا وإن كان فيه التفصيل السابق، إلا أنه خطر عظيم، أعاذنا اللَّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، إنه جواد كريم، رؤوفٌ رحيم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4103 -
(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: بَعَثَ عَلِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ بِالْيَمَنِ، بِذُهَيْبَةٍ فِي تُرْبَتِهَا، فَقَسَمَهَا بَيْنَ الأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ الْحَنْظَلِيِّ، ثُمَّ أَحَدِ بَنِي مُجَاشِعٍ، وَبَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيِّ، وَبَيْنَ عَلْقَمَةَ بْنِ عُلَاثَةَ الْعَامِرِيِّ، ثُمَّ أَحَدِ بَنِي كِلَابٍ، وَبَيْنَ زَيْدِ الْخَيْلِ الطَّائِيِّ، ثُمَّ أَحَدَ بَنِي نَبْهَانَ، قَالَ: فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ، وَالأَنْصَارُ، وَقَالُوا: يُعْطِي صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ، وَيَدَعُنَا، فَقَالَ: «إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ» ، فَأَقْبَلَ رَجُلٌ، غَائِرَ الْعَيْنَيْنِ، نَاتِئَ الْوَجْنَتَيْنِ، كَثَّ اللِّحْيَةِ، مَحْلُوقَ الرَّأْسِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اتَّقِ اللَّهَ، قَالَ: «مَنْ يُطِعِ اللَّهَ إِذَا عَصَيْتُهُ، أَيَأْمَنُنِي عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ، وَلَا تَأْمَنُونِي» ، فَسَأَلَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ قَتْلَهُ، فَمَنَعَهُ، فَلَمَّا وَلَّى، قَالَ: «إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا، قَوْمًا يَخْرُجُونَ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ، مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ، لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ، لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.
و"والد سفيان": هو سعيد بن مسروق الثوريّ الكوفيّ، ثقة [6] 156/ 1121. و"ابن أبي نُعْم" بضمّ النون، وسكون المهملة-: هو عبد الرحمن بن أبي نُعم البجليّ أبو الحكم الكوفيّ، صدوق عابد [3]. 79/ 2578.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم في "كتاب الزكاة"، وتقدم شرحه، وبيان مسائله، وإنما أتكلّم على إيضاح بعض الغرائب من ألفاظه.
فقوله: "وهو باليمن" أي واليًا على السنن. وقوله: "بذُهيبة" تصغير ذَهَبٍ، وأُلحقت بها هاء التأنيث؛ لأن الذهب يؤنّث، والمؤنّث الثلاثي إذاً صُغّر أُلحق تاء التأنيث، كعُيينة، تصغير عين، وأذينة تصغير أذن. وقيل: هو تصغير ذهبة على معنى قِطعة من الذهب، فصغّروها على لفظها.
وقوله: "في تُربتها" أي مخلوطة بترابها، بمعنى أنها لم تُميّز من تراب معدنها.
وقوله: "صناديد قُريش" جمع صِنديد، وهو الرئيس. وقوله:"غائر العينين" أي داخلهما إلى القعر. وقوله: "ناتىء الوجنتين بالهمز-: أي مرتفعهما، والوجنتان، تثنية
وجنة، وهو ما ارتفع من الخدّ. وقوله:"كثّ اللحية" بفتح الكاف، وتشديد المثلّثة: أي كبيرهما، وكثيفهما.
وقوله: "من يُطع اللَّه إذا عصيته": قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: إذ الخلقُ مأمورون باتّباعه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، فإذا عصى يتبعونه فيه، فمن يُطيعه؟. و"من" في "من يطع" استفهاميّةٌ، لا شرطيّةٌ، فالوجه إثبات الياء، أي من يطيعُ اللَّه؟، كما في "الكبرى".انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: كون "من" استفهامية هو الصواب؛ لأن كونها شرطيّة لا يستقيم به المعنى، وعلى هذا فـ"يُطيع" مرفوعٌ، لا مجزومٌ، لكن الموجود في نسخ "المجتبى" هنا محذوف الياء التي هي عين الكلمة بصيغة المجزوم، وما ذكره السنديّ من أنه في "الكبرى" بإثبات الياء، فلعله وجد نسخة منه كما ذكره، وإلا فنسخة "الكبرى" التي بين يدي مثل نسخ "المجتبى"، محذوفة الياء. فليُحرّر
وقد تقدّم في "كتاب الزكاة" مرفوعًا، ولفظه:"فمن يُطيع اللَّه عز وجل، إن عصيته الخ". واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "أيامنني" أي اللَّه تعالى، فالفاعل ضمير اللَّه تعالى. وقوله:"على أهل الأرض" أي على تبليغ الوحي، وأداء الرسالة إليهم.
وقوله: "فسأل رجل من القوم قتله" هو خالد بن الوليد، وقيل: عمر بن الخطاب، ويحتمل أن كلًّا منهما طلب قتله. وقوله:"فلما ولىّ" أي أدبر الرجل القائل له - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -: يا محمد اتّق اللَّه. وقوله: "قال: إن من ضِئضىء هذا" بكسر الضادين، وسكون الهمزة الأولى: أي قال - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -: إن من نسل وعقب هذا الرجل.
وقوله: "يخرجون": أي يظهرون.
وقوله: "لا يُجاوز حناجرهم" جمع حنجرة، وهي رأس الْغَلْصَمة، حيث تراه ناتئًا من خارج. قيل: معناه: لا تفهمه قلوبهم، ولا ينتفعون بما يتلون. وقيل: لا يصعد لهم عمل، ولا تلاوة، ولا يُتقبّل منهم.
وقوله: "يمرقون من الدين" من باب قعد: أي يخرجون منه. وقوله: "كما يمرق السهم من الرَّميّة": أي كما يخرج السهم من الصيد المرميّ، شبّه مروقهم من الإسلام بالسهم الذي يُصيب الصيد، فيدخل فيه، ويخرُج منه، ومن شدّة سرعة خروجه لقوة
(1)
"شرح السنديّ" 7/ 118.
الرامي، لا يَعْلَق به من جسد الشي شيء. قاله في " الفتح"
(1)
.
وقوله: "قتل عاد" أي قتلاً عامًّا، مستأصلاً، كما قال اللَّه تعالى في شأن هلاك عاد:{فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 8]. وقد تقدّم شرح هذا الحديث مستوفًى في "كتاب الزكاة" 79/ 2578 - فراجعه تستفد. وباللَّه تعالى التوفيق.
[فائدة]: ذكر في "الفتح" أنه جاء عن أبِي سعِيد الخُدْرِي قِصّة أُخرى، تتعلَّق بِالخوارجِ، فِيها ما يُخالِف هذِهِ الرَّواية، وذلِك فِيما أخرجهُ اخمدُ بِسندٍ جيَّد، عن أبِي سعِيد، قال:"جاء أبُو بكر إِلى رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسُول اللَّه، إِني مررْت بِوادِي كذا، فإِذا رجُل حسن الهيئة، مُتخشِّع، يُصلِّي فِيهِ، فقال: (اذهب إِليهِ، فاقتُلهُ". قال: فذهب إِليهِ أبُو بكر، فلمّا رآهُ يُصلي، كرِه أن يقتُلهُ، فرجع، فقال النبِي صلى الله عليه وسلم لِعُمر:"اذهت إِليهِ، فاقتُلْهُ"، فذهب، فرآهُ على تِلك الحالة، فرجع، فقال:"يا علِي، اذهب إِليهِ فاقتُلهُ"، فذهب عليّ، فلم يرهُ، فقال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ هذا وأصحابه، يقرءُون القرْآن، لا يُجاوِز تراقِيهم، يمرُقُون من الذين، كما يفرُق السَّهْم من الرَّميَّة، ثُمَّ لا يعُودُون فِيهِ، فاقتُلُوهُم، هُم شرّ البريَّة".
ولهُ شاهِد من حدِيث جابِر، أخرجهُ أبُو يعلى، ورِجاله ثِقات.
قال الحافظ: ويُمْكِن الجمع، بِأنْ يكُون هذا الرجُل هُو الأوَّل، وكانت قِصَّته هذِهِ الثانِية، مُتراخِية عن الأولى، وأذِن صلى الله عليه وسلم في قتله، بعد أن منع مِنهُ، لِزوالِ عِلة المنع، وهِي التألُف، فكأنهُ استعني عنهُ، بغد انتِشار الإسلام كما نهُي عن الصَّلاة على من يُتسب إِلى النَّفاق، بغد أن كان يُجرى عليهِم أحكام الإسْلام قبل ذَلِكَ، وكان أبا بكر وعُمر، تمسَّكا بالنَّهي الأوْل عن قتل المُصلِّين، وحملا الأمر هُنا على قيد أن لا يكُون لا يُصلي، فلِذلِك علَّلا عدم القتل بِوُجُودِ الصَّلاة، أوْ غلَّبا جانِب النَّهْىِ.
ثُمَّ وجدت في "مغازِي الأُموِي"، من مُرْسل الشَّعبِي، في نحو أصل القِصَّة:"ثُمَّ دعا رِجالا، فأعطاهُم، فقامِ رجُل، فقال: إِنك لتقسِم، وما نرى عدْلا، قال: إِذنْ لا يعدِل أحد بعدِي. ثمَّ دعا أبا بكر، فقال: اذهب، فاقتُلهُ، فذهب، فلم يجِدهُ، فقال: "لوْ قتلته لرجوْت أن يكُون أوْلهم وآخِرهم". فهذا يُوْيّد الجمع الذِي ذكرته، لِما يدُل عليهِ، "ثُمَّ" من التَّراخِي، واللَّه أعلمُ. انتهى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي ذكره الحافظ من وجه الجمع حسنٌ، وقد تقدّمت المسائل المتعلّقة بهذا الحديث في "كتاب الزكاة"، فراجعها تستفد. واللَّه تعالى
(1)
"فتح" 8/ 325.
(2)
"فتح" 14/ 305 - 306. "كتاب استتابة المرتدّين".
أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4104 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «يَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ، كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ، فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ»).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(محمد بن بشار) العبدي، أبو بكر البصريّ، بُندار، ثقة حافظ [10]. 24/ 27.
2 -
(عبد الرحمن) بن مهديّ بن حسّان البصريّ، ثقة ثبت حجة [9] 42/ 49.
3 -
(سفيان) بن سعيد الثوريّ الكوفيّ الإمام الثبت الحجة [7] 33/ 37.
4 -
(الأعمش) سليمان بن مهران الكوفيّ، ثقة ثبت فاضل، يدلّس [5] 17/ 18.
5 -
(خيثمة) بفتح الخاء المعجمة، والمثلّثة، بينهما تحتانيّةٌ ساكنة- ابن عبد الرحمن ابن أبي سَبْرَة بفتح المهملة، وسكون الموحّدة- الجعفيّ الكوفيّ، ثقة، وكان يرسل، ولأبيه، وجدّه صحبة [3]. 114/ 2056.
6 -
(سويد بن غَفَلَة) بفتح المعجمة، والفاء-: هو أبو أُميّة الجعفيّ، ثقة مخضرم، من كبار التابعين، قَدِم المدينة يوم دُفن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، وكان مسلمًا في حياته، ثم نزل الكوفة، ومات بها سنة (80)، وله (130) سنة تقدّم 63/ 1686.
[فائدة]: قال الدارقطنيّ -رحمه اللَّه تعالى-: لم يصحّ لسُويد بن غفلة عن عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه - مرفوعٌ إلا هذا الحديث. وقال الحافظ: -رحمه اللَّه تعالى-: وما له في الكتب الستة، ولا عند أحمد غيره، وله في "المستدرك" من طريق الشعبيّ عنه، قال:"خطب عليّ بنت أبي جهل"، أخرجه من طريق أحمد، عن يحيى بن أبي زائدة، عن زكريا، عن الشعبيّ، وسنده جيد، لكنه مرسلٌ، لم يقل فيه:"عن عليّ". انتهى
(1)
.
7 -
(عليّ) بن أبي طالب الهاشميّ الخليفة الراشد - رضي اللَّه تعالى عنهما - 74/ 91. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، وشيخ شيخه، فبصريان.
(1)
"فتح" 14/ 290 - 291.
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين الثقات يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن خيثمة، عن سُويد. (ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحد الخلفاء الراشدين، والعشرة المبشّرين بالجنّة، صاحب المناقب الجمّة - رضي اللَّه تعالى عنهم - أجمعين. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عَليّ) بن أبي طالب - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ) في رواية الشيخين، وغيرهما:"قال عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه -: إذا حدّثتكم عن رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - حديثًا، فو اللَّه لأن أخرّ من السماء أحبّ إليّ من أن أكذب عليه، وإذا حدّثتكم فيما بيني وبينكم، فإن الحرب خُدْعةٌ"(سَمِعْتُ رسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يقُولُ: يَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ) كذا وقع في هذه الرواية، وفي حديث أبي برزة الآتي بعد هذا:"يخرج في آخر الزمان قومٌ"، وهذا قد يُخالف حديث أبي سعيد المذكور قبل هذا، فإن فيه عند الشيخين وغيرهما:"يخرجون على حين فُرقة من الناس"، ومقتضى هذا أنهم خرجوا في خلافة عليّ، وكذا أكثر الأحاديث الواردة في أمرهم.
وأجاب ابن التين بأن المراد زمان الصحابة. قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأن آخر زمان الصحابة كان على رأس المائة، وهم قد خرجوا قبل ذلك بأكثر من ستّين سنة. ويمكن الجمع بأن المراد بآخر الزمان زمان خلافة النبوّة، فإن في حديث سفينة - رضي اللَّه تعالى - عنه المخرّج في "السنن"، و"صحيح ابن حبّان"، وغيره، مرفوعًا:"الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تفسير مُلْكًا"، وكانت قصّة الخوارج، وقتلهم بالنهروان في أواخر خلافة عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه - سنة ثمان وعشرين بعد موت النبيّ صلى الله عليه وسلم بدون الثلاثين بنحو سنتين.
(أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ) -بفتح الهمزة- جمع حدث بفتحتين، وهو الصغير السنّ، و"الأسنان" بفتح الهمزة أيضًا: جمع سنّ، والمراد به العمر، وهو كناية عن كونهم شبابًا (سُفَهَاءُ الأَحْلَامِ) بفتح الهمزة: جمع حِلْم بكسر، فسكون، والمراد العقل، والمعنى أن عقولهم رديئة.
قال النوويّ: يُستفاد منه أن التثبّت، وقوّة البصيرة تكون عند كمال السنّ، وكثرة التجارِب، وقوّة العقل. وتعقّبه الحافظ بأنه لم يظهر له وجه الأخذ منه، فإن هذا معلوم بالعادة، لا من خصوص كون هؤلاء كانوا بهذه الصفة. انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي لا وجه لتعقّب الحافظ لكلام النوويّ، فإن استنباطه - فيما يظهر- صحيح، فليُتأمّل. واللَّه تعالى أعلم.
(يَقُولُون مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ) أي يتكلمون ببعض الأقوال التي هي من خيار أقوال الناس. قال النوويّ: أي في الظاهر، مثلُ "إن الحكم إلا للَّه"، ونظائره، كدعائهم إلى كتاب اللَّه. انتهى. وقال في "الفتح": هو من المقلوب، والمراد من "قول خير البريّة"، أي من القرآن. قال: ويحتمل أن يكون على ظاهره، والمراد القول الحسن في الظاهر، وباطنه على خلاف ذلك، كقولهم:"لا حكم إلا للَّه" في جواب عليّ - رضي اللَّه تعالى - عنه. وقد وقع في رواية طارق بن زياد عند الطبريّ، قال:"خرجنا مع عليّ فذكر الحديث، وفيه- "يخرج قوم يتكلّمون كلمة الحقّ، لا تُجاوز حلقهم"، وفي حديث أنس، عن أبي سعيد - رضي اللَّه تعالى عنهما -، عند أبي داود، والطبرانيّ: "يُحسنون القول، وُيسيئون الفعل"، ونحوه في حديث عبد اللَّه بن عمر، عند أحمد، وفي حديث مسلم عن عليّ: "يقولون الحقّ، لا يُجاوز هذا، وأشار إلى حلقه"
(1)
(لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهمْ حَنَاجِرَهُمْ) وفي رواية عند البخاريّ: "لا يجوز"، والحناجر بالحاء المهملة، والنون، ثم الجيم- جمع حنجرة، بوزن قسورة، وهي الحلقوم، والبلعوم، وكلّه يُطلق على مجرى النفَسِ، وهو طرف المريء، مما يلي الفم. ووقع في رواية مسلم من رواية زيد بن وهب، عن عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه -:"لا تُجاوز صلاتهم تراقيهم"، فكأنه أطلق الإيمان على الصلاة. وله في حديث أبي ذرّ - رضي اللَّه تعالى - عنه:"لا يُجاوز إيمانهم حلاقيمهم"، والمراد أنهم يؤمون بالنطق، لا بالقلب (يَمْرُقُونَ) بضمّ الراء، من باب قعد: أي يخرجون (مِنْ الدَّينِ) وتقدّم في حديث أبي سعيد بلفظ: "من الإسلام"(كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ) بفتح الراء، وتشديد الياء التحتانيّة: أي الصيد المرميّ. شبه مروقهم من الدين بالسهم الذي يُصيب الصيد، فيدخل فيه، ويخرُج منه، ومن شدّة سُرعة خروجه لقوّة الرامي لا يعلَق به من جسد الصيد شيء {فَإِذَا لَقِيتُموهُمْ، فَاقْتُلُوهُمْ} هذا تصريح بوجوب قتال الخوارج، والبغاة، وهو إجماع العلماء، كما سيأتي البحث عنه قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى (فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ) أي ذو أجر وثواب، فهو على حذف مضاف، وفي رواية للبخاريّ:"فإن في قتلهم أجرًا" لِمَنْ قَتَلَهُم، يَوْمَ الْقِيَامةِ) ظرف متعلّق بـ "أجر"؛ لكونه مصدرًا يعمل عمل فعله.
وفي رواية زيد بن وهب عند البخاريّ: "لو يعلم الجيش الذين يُصيبونهم ما قُضي لهم على لسان نبيّهم - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - لنَكَلُوا عن العمل"، ولمسلم في رواية عبِيدة بن عمرو، عن عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه -: "لولا أن تَبْطَرُوا لحدّثتكم بما وعد اللَّه
(1)
"فتح" 14/ 292. "كتاب استتابة المرتدّين" رقم 6930.
الذين يقتلونهم على لسان محمد - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، قال عَبيدة: قلت لعليّ: أنت سعته؟ قال: إي وربّ الكعبة ثلاثًا"، وله في رواية زيد بن وهب قصّة قتل الخوارج: "أن عليًّا لَمّا قتدهم، قال: صدق اللَّه، وبلّغ رسوله - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، فقام إليه عَبيدة، فقال: يا أمير المؤمنين اللَّه الذي لا إله إلا هو، فقد سمعتَ هذا من رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -؟ قال: إي واللَّه الذي لا إله إلا هو، حتّى استحلفه ثلاثًا".
قال النوويّ: إنما استحلفه ليؤكّد الأمر عند السامعين، ولتظهر معجزة النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، وأن عليًّا، ومن معه على الحقّ. وقال الحافظ: وليطمئنّ قلب المستحلف لإزالة توهّم ما أشار إليه عليّ أن الحرب خدعة، فخشي أن يكون لم يسمع في ذلك شيئًا منصوصًا، وإلى ذلك يُشير قول عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - لعبد اللَّه بن شدّاد:"ما قال عدي حيئذ؟، قال: سمعته يقول: صدق اللَّه ورسوله، قالت: رحم اللَّه عليًّا، إنه كان لا يرى شيئًا يُعجبه، إلا قال: صدق اللَّه ورسوله، فيذهب أهل العراق، فيكذبون عليه، ويزيدونه". فمن هذا أراد عَبيدة بن عمرو التثبّت في هذه القصّة بخصوصها، وأن فيها نقلاً منصوصًا، مرفوعًا.
وأخرج أحمد نحو هذا الحديث عن عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه -، وزاد في آخره:"قتالهم حقّ على كلّ مسلم". ووقع سبب تحديث عدي - رضي اللَّه تعالى عنه - بهذا الحديث في رواية عُبيد اللَّه بن أبي رافع، فيما أخرجه مسلم من رواية بُسْر بن سعيد، عنه، قال:"أن الحروريّة لَمّا خرجت، وهو مع عليّ، قالوا: لا حكم إلا للَّه تعالى، فقال عليّ: كلمة حقّ أريد بها باطلٌ، إن رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - وَصَفَ ناسًا، إني لأعرف صفتهم في هؤلاء يقولون الحقّ بألسنتهم، ولا يُجاوز هذا منهم، وأشار إلى حلقه، من أبغض خدق اللَّه إليه". الحديث
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-26/ 4104 - وفي "الكبرى" 26/ 3563. وأخرجه (خ) في "المناقب"
(1)
راجع "الفتح" 14/ 292 - 293 "كتاب استتابة المرتدّين".
3611 و"فضائل القرآن " 5057 و"استتابة المرتدّين" 6930 (م) في "الزكاة" 1066 (2) في "السنّة" 4767 و 4768 (أحمد) في "مسند العشرة"617. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(1)
:
(فمنها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- هنا، وهو بيان حكم من شهر سيفه، ووضعه على المسلمين ظلمًا، وهو قتله، وذلك لأن الخوارج الذين ذُكروا في هذا الحديث قد وُصفوا بأنهم يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، وقد أمر النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - بقتلهم لذلك.
قال النوويّ عند قوله: "فإذا لقيتهم، فاقتلوهم الخ: هذا تصريح بوجوب قتل الخوارج، والبغاة، وهو إجماع العلماء، قال القاضي: أجمع أهل العلم على أن الخوارج، وأشباههم من أهل الباع، والبغي، متى خرجوا على الإمام، وخالفوا رأي الجماعة، وشقّوا العصا، وجب قتالهم بعد إنذارهم، والإعذار إليهم، قال اللَّه تعالى:{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} الآية [الحجرات: 9]، لكن لا يُجهّز على جريحهم، ولا يتّبع منهزمهم، ولا يُقتل أسيرهم، ولا تباح أموالهم، وما لم يخرُجوا عن الطاعة، وينتصبوا للحرب لا يُقاتلون، بل يُوعظون، وُيستتابون من بدعتهم،
(1)
المراد الفوائد التي اشتملت عليها أحاديث قصّة الخوارج، سواء كان من حديث عليّ، أو من حديث أبي سعيد - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وسواء كان من سياق المصنّف، أو سياق غيره كرواية البخاريّ لحديث أبي سعيد الخدريّ - رضي اللَّه تعالى عنه -، من طريق أبى سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال: بينما نحن عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو يَقْسِمُ قَسْمًا، أتاه ذو الخويصرة، وهو رجل من بني تميم، فقال: يا رسول اللَّه، اعدل، فقال:"ويلك، ومن يعدِل إذا لم أعدل، قد خبتُ وخسرت، إن لم أكن أعدل"، فقال عمر: يا رسول اللَّه، ائذن لي فيه، فأضرب عنقه، فقال:"دعه، فإن له أصحابا، يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، يمرُقون من الدين، كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، يَنظُر إلى نَصْله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصَافه فما يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نَضِيِّه- وهو قدحه- فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قُذَذه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة، تَدَردَر، ويخرجون على حين فرقة من الناس"، قال أبو سعيد: فاشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن عليّ بن أبي طالب قاتلهم، وأنا معه، فَأَمَرَ بذلك الرجل، فالتُمِس، فأتي به حتى نظرت إليه، على نعت النبيّ صلى الله عليه وسلم -الذي نعته.
و"النصل": حديدة السهم. والرَّصاف بالكسر: عصبه الذي يكون فوق مدخل النصل. و"النَّضِيّ النون، وضمها، وكسر المعجمة، وتشديد التحتانيّة: القدح بالكسر، وهو عُود السهم قبل أن يراش، ويُنصل. و"القُذّة" بضمّ القاف، وتشديد الذال المعجمة: رِيش السهم. واللَّه تعالى أعلم.
وباطلهم، وهذا كلّه ما لم يُكفروا ببدعتهم، فإن كانت بدعة مما يُكفّرون بها، جرت عليهم أحكام المرتدّين.
وأما البغاة الذين لا يُكفّرون، فيرثون، ويورثون، ودمهم في حال القتال هدَرٌ، وكذا أموالهم التي تتلَف في القتال، والأصح أنهم لا يُضمَّنون أيضًا ما أتلفوا على أهل العدل في حال القتال، من نفس، ومال، وما أتلفوا في غير حال القتال، من نفس، ومال، ضمنوه، ولا يحلّ الانتفاع بشيء من دوابهم، وسلاحهم في حال الحرب عند الجمهور، وجوّزه أبو حنيفة. انتهى كلام النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
(ومنِها): أن فِيهِ الكفَّ عن قتل من يعتقِد الخرُوج على الإمام، ما لم ينصِب لِذلِك حرْبا، اوْ يستعد لِذلِك؛ لِقوْلِهِ في بعض طرقه:"فإِذَا خرجُوا فاقتُلُوهُم". وحكى الطَّبرِيُّ الإجماع على ذَلِكَ في حقّ من لا يُكفَّر باعتِقادِهِ، وأسند عن عُمر بْن عبد العزِيز أنَّهُ كتب في الخوارج بِالكفِّ عنهُم، ما لم يسفِكُوا دمّا حرامًا، أوْ يأخُذُوا مالا، فإِن فعلُوا فقاتِلُوهُم، ولوْ كانُوا وُلدِي. ومِن طريق ابن جُريج: قُلت لِعطاء: ما يحِلّ في قِتال الخوارج؟ قال: إِذا قطعُوا السبِيل، وأخافُوا الأمن. وأسند الطبرِيُّ، عن الحسنُ، أنهُ سُئِل عن رجُل، كان يرى رأي الخوارج، ولم يخرُج؟ فقال: العمل أمْلكُ بِالنَّاسِ من الرَّأي. قال الطبرِي: ويُؤيَّدهُ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وصف الخوارج بِأنهُم يقُولُون الحقّ بِألسِنتِهِم، ثُمَّ أخبر أن قوْلهم ذَلِكَ، وِإن كان حقًّا من جِهة القوْل، فإِنَّه قوْل، لا يُجاوِز حُلُوقهُم. ومِنهُ قوْله تعالى:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، أخبر أن العمل الصَّالِح الموافِق لِلقوْلِ الطيب، هُو الذِي يرْفع القوْل الطيب، قال: وفِيهِ أنهُ لا يجُوز قِتال الخوارج، وقتلهم، إِلا بعْد إِقامة الحجَّة عليهِم، بِدُعائِهِم إِلى الرُّجُوع إِلى الحقّ، والإعذار إِليهِم.
(ومنها): أن فيه منقبة عظيمة لعليّ - رضي اللَّه تعالى عنه -، وأنه كان الإمام الحقّ، وأنه كان على الصواب في قتال من قاتله في حروبه، في الجَمَلِ، وصِفّين، وغيرهما؛ لقوله - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -:"تمرق مارقةٌ عند فُرْقة من المسلمين، يقتلها أولى الطائفتين بالحقّ"، فقد قتلهم عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه -.
(ومنها): أن الحصر الآتي في "كتاب القسامة" في قول عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه - عند ما سأله أبو جحيفة - رضي اللَّه تعالى عنه -: هل عهِد إليك نبيّ اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم شيئًا، لم يَعهَده إلى الناس عامّة؟، قال: لا، إلا ما كان في كتابي هذا الخ،
(1)
"شرح مسلم" 7/ 170. "كتاب الزكاة".
محمول على المقيّد بالكتابة، لا أنه ليس عنده عن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - شيء، مما أطلعه اللَّه عليه من الأحوال الآتية، إلا ما في كتابه، فقد اشتملت طرق هذا الحديث على أشياء كثيرة، كان عنده عن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - علم بها، مما يتعلّق بقتال الخوارج، وغير ذلك، وقد ثبت عنه أنه كان يُخبر بأنه سيقتله أشقى القوم، فكان ذلك، في أشياء كثيرة.
ويحتمل أن يكون النفي مقيّدًا باختصاصه بذلك، فلا يرد حديث الباب؛ لأنه شاركه فيه جماعة، وإن كان عنده زيادة عليهم؛ لأنه صاحب القصّة، فكان أشدّ عناية بها من غيره. أفاده في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن الاحتمال الثاني هو الأقرب؛ لدلالة قول أبي جُحيفة - رضي اللَّه تعالى عنه - عليه، حيث قال: "هل عهِد إليك نبيّ اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - شيئًا، لم يعهده إلى الناس عامّة؟، فإنه طاهر في أن السؤال عما خصّه به النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، دون غيره مِن الناس. واللَّه تعالى أعلم.
(ومنها): أن فيه علمًا من أغلام النُّبُوْة، حيثُ أخبر - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - بِما وقع قبلِ أن يقع، وذلِك أنَّ الخوارج لما حكمُوا بِكُفرِ من خالفهُم، استباحُوا دِماءهُم، وتركُوا أهل الذِّمّة، فقالُوا نفِي لهُم بِعهدِهِم، وتركُوا قِتال المشرِكِين، واشتغلُوا بِقِتالِ المسْلِمِين، وهذا كُلّه من آثار عِبادة الجهَّال، الذِين لم تنشرِح صُدُورهم بنُورِ العِلم، ولم يتمسكُوا بِحبل وثِيق من العِلم، وكفى أنَّ رأْسَهُم ردّ على رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمْرهُ، ونسبهُ إِلى الجوْر، نسأل اللَّه السَّلامة.
(ومنها): أن فيه أن قِتال الخوارج أوْلى من قِتال المُشرِكِين، والحكمة فِيهِ أنَّ في قِتالهم، حِفظ رأس قال الإسلام، وفِي قِتال أهل الشرْك طلب الرَّبْح، وحِفظ رأس المال أوْلى من طلب الربح.
(ومنها): أن فِيهِ الزَّجْر عن الأخذ بظواهِر جميع الآيات القابِلة لِلتأوِيلِ، الَّتِي يُفضِي القوْل بِظواهِرِها، إِلى مُخالفة إِجماع السَّلف.
(ومنها): التَّحْذِيرُ من الغُلُوْ في الدَّيانة، والتُّنطُعِ فِيِ العِبادة، بِالحمْلِ على النَّفْس فِيما لم يأذن فِيهِ الشَّرْع، وقد وصف الشَّارع الشرِيعة بِأنها سهلة سمْحة، وإنَّما ندب إِلى الشدَّة على الكُفَّار، والى الرَّأفة بِالمؤْمِنِين، فعكس ذَلِكَ الخوارجُ، كما تقدَّم بيانه.
(ومنها): جوازُ قِتال من خرج عن طاعة الإمام العادِل، ومنْ نصب الحرْب، فقاتل
(1)
راجع "الفتح" 14/ 306.
على اعتِقاد فاسِد، ومنْ خرج يقطع الطُّرُق، ويُخِيف السَّبِيل، ويسعى في الأرْض بِالفسادِ. وأمَّا من خرج عن طاعة إِمام جائِر، أراد الغلبة على ماله، أوْ نفسه، أوْ أهْله، فهُو معذُور، ولا يحِل قِتاله، ولهُ أن يدفع عن نفسه، وماله، وأهله بِقدرِ طاقته.
وقد أخرج الطبرِيُّ، بسند صحِيح، عن عبد اللَّه بن الحارِث، عن رجُل من بنِي نضر، عن علِيّ، وذكر الخوارج، فقال: إِنَّ خالفُوا إِمامًا عدْلا، فقاتِلُوهُم، وإن خالفُوا إِمامًا جائِرًا، فلا تُقاتِلُوهُم، فإِنَّ لهُم مقالا.
قال الحافظ: وعلى ذَلِكَ يُحمل ما وقع لِلحُسينِ بن عليّ، ثُمَّ لأهلِ المدِينة في الحرَّة، ثُمّ لِعبدِ اللَّه بن الزبير، ثُمَّ لِلقُرَّاءِ الذِين خرجُوا على الحجاج، في قِصة عبد الرحمن بن مُحمّد بن الأشعث. واللَّه أعلمُ.
(ومنها): ما قيل: إن فيه دم استئصال شعر الرَّأس، قال الحافظ: وفِيهِ نظرٌ لاحتِمالِ أن يكُون المراد بيان صِفتهم الواقِعة، لا لإرادةِ ذمها، وترْجم أبُو عوانة في "صحيحه" لِهذِهِ الأحادِيث:"بيان أنَّ سبب خُرُوج الخوارج، كان بسبب الأثرة في القِسمة، مع كوْنها كانت صوابا، فخفِي عنهُم ذَلِكَ".
(ومنها): أن فيه إِباحة قِتال الخوارج بِالشُرُوطِ المتقَدَّمة، وقتلهم في الحرْب، وثُبُوت الأجر لِمن قتلهُم.
(ومنها): أن فِيهِ أنَّ مِن المسُلِمِين من يخرُج من الدْين، من غير أن يقصِد الخرُوج مِنهُ، ومِن غير أن يختار دِينًا، على دِين الإسلام. (ومنها): ما قيل: أن الخوارج شرّ الفِرق المُبتدِعة، من الأُمَّة المحمَّديّة، ومِن اليهُود والنصارى.
قال الحافظ: والأخِير مبنِيّ على القوْل بِتكفِيرهِم مُطلقًا. (ومنها): أنه فِيهِ منقبةً عظِيمة لِعُمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد - رضي اللَّه تعالى عنهما -، حيث طلبا قتل ذلك الرجل، كما بين في حديث أبي سعيد - رضي اللَّه تعالى عنه -؛ وذلك لِشِدَّة غيرتِهما على الدَّين.
(ومنها): أن فِيهِ أنَّهُ لا يُكتفى في التعدِيل بِظاهِرِ الحال، ولوْ بلغ المشهُودُ بِتعدِيلِهِ الغاية في العِبادة، والتقشُّف، والورع، حتى يُختبر باطِن حاله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في تكفير الخوارج:
قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح مسلم": وفِي هذِهِ الأحادِيث دلِيل لِمن يُكفِّرُ الخوارج. قال القاضِي عِياض -رحِمهُ اللَّه تعالى-: قال المازريّ: اختلف العُلماء في تكفِير الخوارِج، قال: وقد كادت هذِهِ المسألة تكُون أشدّ إِشكالا من سائِر المسائِل،
ولقذ رأيت أبا المعالي، وقذ رغِب إِليه الفقيه عند الحقّ رحِمهُما اللَّه تعالى في الكلام عليها، فرهب لهُ من ذَلِكَ، واغتذر بِان الغلط فِيها يصْعُبُ موْقِعُهُ؛ لأن إِدْخال كافِر في الملَّة، واخراج مسلِم مِنها عظِيم في الدَّين، وقد اضطرب فِيها قوْل القاضِي أبِي بكر الباقِلانِي، وناهِيك بِهِ في علم الأُصُول، وأشار ابن الباقِلانِيّ إِلى أنها من المعوِّصات، لأن القوْم لم يُصرَّحُوا بالكُفرِ، وإنما قالُوا أقوالا تُؤدِّي إِليهِ، وأنا أكشِف لك نُكتة الخلاف، وسبب الإشكال، وذلِك أن المعتزليَّ مثلا يقُول: إِنَّ اللَّه تعالى عالِم، ولكِن لا عِلم لهُ، وحيٌّ ولا حياة لهُ، يُوقِع الالتِباس في تكفِيره، لأنَّا علِمْنا من دِين الأُمَّة ضرُورة، أنَّ من قال: إِنَّ اللَّه تعالى ليس بِحيٍّ، ولا عالِم كان كافِرًا، وقامت الحجَّة على استِحالة كوْن العالِم، لا عِلم لهُ، فهل نقُول: إِنَّ المعتزليَّ، إِذا نفى العِلم، نفى أنْ يكُون اللَّه تعالى عالِمًا، وذلِك كُفر بالإجماع، ولا ينفعُهُ اعتِرافُهُ بِأنهُ عالِم، مع نفيِهِ أصل العِلم، أوْ نقُول: قدْ اعترف بِأن اللَّه تعالى عالِم، وإنكاره العِلم لا يُكفرهُ، وإن كان يُوْدَّي إِلى أنهُ ليس بِعالِم، فهذا موْضِع الإشكال. هذا كلام المازريّ.
ومذهب الشَّافِعِي، وجمًاهِير أصحابه العلماء، أن الخوارج لا يكفرُون، وكذلِك القدرِية، وجماهِير المعتزِلة، وساثِر أهل الأهواء. قال الشَّافِعِي رحِمهُ اللَّه تعالى: أقبلُ شهادة أهل الأهواء إِلا الخطَّابِيَّة، وهُم طائفة من الرَّافِضة، يشهدُون لِمُوافِقِيهِم في المذهب بِمُجرَّدِ قوْلهم، فردَّ شهادتُهم لِهذا، لا لِبِدْعتِهِم. واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
وقال في "الفتح": استُدِلَّ بهِذا الحديث لِمن قال بِتكفِيرِ الخوارج. وهُو مُقتضى صنِيع البُخارِيّ، حيثُ قرنُهم بِاالملحِدِين، وأفرد عنهُم المتأوْلِين بترجمةٍ، وبِذلِك صرّح القاضِي أبو بكر بن العربِيّ، في شرح التزمِذِيّ، فقال: الصحِيح أنَّهم كُفَّار؛ لِقوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "يمرُقون من الإسلام"، ولِقوْلِهِ:"لأقتُلنَّهُم قتل عاد"، وفِي لفظ:"ثمُود"، وكُلّ مِنهُما إِنما هلك بِالكُفرِ، وبِقوْلِهِ:"هُم شرُّ الخلق"، ولا يُوصف بِذلِك إِلا الكُفَّار، ولِقوْلِهِ:"إِنَّهُم أبغضُ الخلق إِلى اللَّه تعالى"، ولِحُكمِهِم على كُلّ من خالف مُعتقدهم بِالكُفرِ، والتخليد في النار، فكانُوا هم أحقَّ بِالاسم مِنْهُم.
ومِمن جنح إِلى بعض هذا البحث الطبرِي، في "تهذِيبه"، فقال- بعد أن سرد أحادِيث الباب-: فِيهِ الرَّدّ على قوْل من قال: لا يخرُج أحد مِن الإسلام من أهل القِبلة بعد استِحقاقه حُكمهُ، إِلا بِقصدِ الخرُوج مِنهُ عالِمًا، فإِنةُ مُبطِل لِقوْلِهِ في الحديث: "يقُولُون
(1)
"شرح مسلم" 7/ 160. "كتاب الزكاة".
الحقّ، ويقرءُون القُرْآن، ويمْرُقُون من الإسلام، ولا يتعلقُون مِنهُ بِشيء"، ومِن المعلوم أنهم لم يرْتكِبُوا استِحْلال دِماء المُسْلِمِين وأموالهم، إِلا بِخطأٍ مِنْهُم، فِيما تأوَّلُوهُ من آيِ القُرْآن، على غير المراد مِنهُ. ثُمَّ أخرج بِسندٍ صحِيح، عن ابن عبّاس، وذُكر عِنْده الخوارج، وما يلقوْن عِتد قِراءة القُرْآن، فقال: يُؤمِنُون بِمُحْكمِهِ، ويهلِكُون عِنْد مُتشابِهه. قال الحافظ: ويؤيِّد القوْل المذكُور؛ الأمرُ بِقتلِهم، مع ما تقدّم من حدِيث ابْن مسعُود: "لا يحِلّ قتل امْرئ مُسلِم، إِلا بِإِحْدى ثلاث" - وفِيهِ "التَّارِك لِدِينِهِ، المُفارِق لِلجماعةِ". قال القُرطُبِيّ في "المُفهِمِ": يُؤيَّد القوْل بِتكفِيرِهِم التَّمْثِيل المذكور في
حدِيث أبِي سعِيد، فإِن ظاهِر مقصُوده أتُهم خرجُوا من الإسلام، ولم يتعلَّقُوا مِنهُ بِشيء، كما خرج السَّهْم من الرَّمِية؛ لِسُرْعتِهِ، وقُوّة رامِيه، بِحيثُ لم يتعلّق من الرَّمِيَّة بِشيء، وقد أشار إِلى ذَلِكَ بقوْلِهِ "سبق الفرْثَ والدَّم".
وقال صاحِب "الشفاء" فِيهِ: وكذا نقطع بِكُفرِ كُل من قال قوْلاً، يُتوصَّل بِهِ إِلى تضليل الأُمَّة، أوْ تكفِير الصَّحابة، وحكاهُ صاحِب "الرَّوْضة" في "كِتاب الرَّدَّة" عنهُ، وأقرَّهُ.
ومِمّن جنح إِلى ذَلِكَ، من أئمَّة المُتأخَّرِين، الشيخ تقِي الِدّين السُّبْكِيّ، فقال في فتاوِيه: احْتجَّ من كفَّر الخوارج، وغُلاة الرَّوافِض، بِتكفِيرِهِم أعْلام الصَّحابة؛ لِتضمُّنِهِ تكذِيب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، في شهادته لهُم بِالجنَّة، قال: وهُو عِندِي احْتِجاج صحِيح، قال: واحْتجَّ من لم يُكفرهُم، بِأن الحُكْم بِتكفِيرِهِم، يستدْعِي تقدُّم عِلْمهم بِالشَّهادةِ المْذْكُورة، عِلمًا قطعِيًّا، وفِيهِ نظر؛ لأنَّا نعْلم تزكِية من كفَّرُوهُ عِلْمًا قطعِيًّا، إِلى حِين موْته، وذلِك كاف في اعتِقادنا تكفِير من كفَّرهُم، ويُؤيِّدهُ حدِيث:"من قال لأخِيهِ: كافِر، فقد باء بِهِ أحدهما"، وفِي لفظ مُسلِمِ:"من رمي مسْلِمًا بِالكُفرِ، أوْ قال: عدُوّ اللَّه، إِلا حار عليهِ"، قال: وهؤلاءِ قدْ تحقَّق مِنهُم، أنَّهم يرمُون جمًاعة بالكُفرِ، مِمن حصل عِندنا القطع بِإِيمانِهم، فيجِب أن يُحكم بِكُفرِهِم، بِمُتقضى خبر الشَّارع، وهُو نحو ما قالُوهُ، فِيمن سجد لِلصّنم ونحوِه، مِمن لا تصرِيح بِالجحُودِ فِيهِ، بعْد أن فسَّرُوا الكُفر بِالجُحُودِ، فإِن احتجُّوا بِقِيًام الإِجماع على تكفِير فاعِل ذَلِكَ، قُلنا: وهذِهِ الأخبار الوارِدة في حقّ هؤلاءِ، تقتضِي كُفرهُم، ولوْ لم يعتقِدُوا تزكِية من كفرُوهُ، عِلمًا قطعِيًّا ولا يُنجيهِم اعتِقادُ الإسلام إِجمالا، والعمل بِالواجِباتِ عن الحكم بِكُقرِهِم، كما لا يُنجَّي السَّاجِد لِلصَّنم ذَلِكَ. واللَّه تعالى أعلم.
وذهب أكثًرُ أهل الأُصُول، من أهل السُّنَّة، إِلى أن الخوارج فُسَّاق، وأنَّ حُكم الإسلام يجرِي عليهِم؛ لِتلفُّظِهِم بِالشَّهادتين، ومُواظبتِهِم على أرْكان الإسلام، وإنَّمَا فُسَّقُوا بِتكفِيرِهِم المُسْلِمِين، مستنِدِين إِلى تأوِيل فاسِد، وجرَّهُم ذَلِكَ إِلى استِباحة دِماء
مُخالِفِيهِم، وأموالهمِ، والشَّهادة عليهِم بِالكُفرِ والشًرْك.
وقال الخطَّابيّ: أجمع عُلماء المُسلمِينَ، على أنَّ الخوارج مع ضلالتهم فِرْقة من فِرقِ المُسلمِينَ، وأجازُوا مُناكحتهم، وأكل ذبائحهمِ، وأنهُم لا يُكفَّرُون ما دامُوا مُتمسِّكِين بِأضلِ الإسلام. وقال عِياض: كادت هذِهِ المسْألة تكُون أشدّ إِشكالا عِتد المُتكلِّمِين من غيرها، حتّى سأل الفقِيهُ عبد الحقّ الإمام أبا المعالي عنها، فاعتذر بِأن إِدخال كافِر في الملة، وِإخراج مُسْلِم عنها عظِيم في الدين، قال: وقد توقَّف قبْله القاضِي أبُو بكر الباقِلانِي وقال: لم يُصرِّح القوْم بِالكُفرِ، وإِنما قالُوا أقوالا تُوْدِّي إِلى الكُفر. وقال الغزاليّ في كِتاب "التَّفرِقة بين الإيمان والزَّندقة": والذِي ينبغِي الاحتِراز عن التكفِير، ما وجد إِليهِ سبِيلا، فإنَّ استِباحة دِماء المُصلين المقرَّين بِالتوحِيدِ خطأ، والخطأ في ترْك ألف كافِر في الحياة، أهونُ مِن الخطأ في سفك دم لِمُسلِمِ واحِد.
ومِمَّا احتج بِهِ من لم يُكفرهُم، قوْله في الحديث بعد وصفهم بِالمرُوقِ من الدَّين:"كمُرُوقِ السَّهم، فينظُر الرَّامِي إِلى سهمه"، إلى أن قال:"فيتمارى في الفُوقة، هل علِق بهِا شيء".
قال ابن بطَّال: ذهب جُهُور العُلماء، إلى أنَّ الخوارج غير خارِجِين، عن جملة المُسلمِينَ؛ لِقوْلِهِ:"يتمارى في الْفُوق"؛ لأنَّ التَّمارِي من الشَّك، لمِاذا وقع الشَّكّ في ذَلِكَ، لم يُقطع عليهِم بِالخرُوجِ من الإسلام؛ لأنَّ من ثبت لهُ عقد الإسلام بِيقِينِ، لم يخرُج مِنهُ، إِلا بِيقِين، قال: وقد سُئِل علِي عن أهل النَّهر، هل كفرُوا؟ فقال: من الكُفر فرُّوا.
قال الحافظ: وهذا إن ثبت عن عليّ، حُمِل على أنهُ لم يكُن اطَّلع على مُعتقدهم، الذِي أوْجب تكفِيرهم عِند من كفَّرهُم، وفِي احتِجاجه بِقوْلِهِ:"يتمارى في الفُوق" نظر، فإِنّ في بعض طُرُق الحديث المذكور:"لم يعلق مِنهُ بِشيء"، وفِي بعضها "سِبق الفرث والدم"، وطرِيق الجمع بينهما، أنَّهُ تردَّد هل في الفُوق شيء، أوْ لا؟ ثُمَّ تحقَّق أنَّهُ لم يعلق بِالسَّهم، ولا بِشيءِ مِنهُ من الرَّمِي بِشيءِ. ويُمكِن أن يُحمل الاختِلاف فِيهِ، على اختِلاف أشخاص مِنْهُم، ويكون في قوْله:"يتمارى" إِشارة إِلى أنَّ بعضهم، قدْ يبقى معهُ من الإسلام شيء.
قال القُرطُبِيّ في "المفهم": والقوْل بِتكفِيرهِم أظهرُ في الحديث، قال: فعلى القوْل بِتكفِيرِهِم يُقاتِلُون، ويُقتلُون، وتُسبى أموالُهُم، وهُو قوْل طائِفة من أهل الحديث في أموال الخوارج، وعلى القوْل بِعدمِ تكفِيرهم، يُسلك بهم مسلك أهل البغي، إِذا شقُّوا العصا، ونصبُوا الحرْب، فأمَّا من استسرَّ مِنْهُم بِبِدعةٍ، فإِذا ظُهِر عليهِ، هل يُقتل بعْد
الاستِتابة، أو لا يُقتل، بك يُجتهد في ردّ بِدْعته؟ اختُلِف فِيهِ، بِحسبِ الاختِلاف في تكفِيرهم، قال: وباب التكفِير باب خطِر، ولا نعْدِل بِالسلامةِ شيئًا. انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي قول من قال بتكفير الخوارج أرجح؛ لقوّة أدلْته، ووُضوحها، فليُتأمّل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4105 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ الْبَصْرِيُّ الْحَرَّانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ الأَزْرَقِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: كُنْتُ أَتَمَنَّى أَنْ أَلْقَى رَجُلاً، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَسْأَلُهُ عَنِ الْخَوَارِجِ، فَلَقِيتُ أَبَا بَرْزَةَ، فِي يَوْمِ عِيدٍ، فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَذْكُرُ الْخَوَارِجَ؟ ، فَقَالَ: نَعَمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأُذُنِي، وَرَأَيْتُهُ بِعَيْنِي، أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَالٍ، فَقَسَمَهُ فَأَعْطَى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ، وَمَنْ عَنْ شِمَالِهِ، وَلَمْ يُعْطِ مَنْ وَرَاءَهُ شَيْئًا، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ وَرَائِهِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَا عَدَلْتَ فِي الْقِسْمَةِ، رَجُلٌ أَسْوَدُ، مَطْمُومُ الشَّعْرِ، عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَبْيَضَانِ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، غَضَبًا شَدِيدًا، وَقَالَ:«وَاللَّهِ لَا تَجِدُونَ بَعْدِي، رَجُلاً هُوَ أَعْدَلُ مِنِّي» ، ثُمَّ قَالَ:«يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ، كَأَنَّ هَذَا مِنْهُمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلَامِ، كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، سِيمَاهُمُ التَّحْلِيقُ، لَا يَزَالُونَ يَخْرُجُونَ، حَتَّى يَخْرُجَ آخِرُهُمْ مَعَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ» .
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، رحمه الله: شَرِيكُ بْنُ شِهَابٍ، لَيْسَ بِذَلِكَ الْمَشْهُورِ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن معمر البصريّ البحرانيّ": هو القيسيّ، صدوقٌ، من كبار [11]. 5/ 1829 من مشايخ الأئمة الستّة، دون واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.
[تنبيه]: وقع في معظم نسخ "المجتبى"، و"الكبرى""الحرّانيّ" بدل "البحراني"، والصواب كما في النسخة "الهنديّة" -:"البحرانيّ" بفتح الموحّدة، وسكون الحاء المهملة، وتخفيف الراء: نسبة إلى البحرين، إقليم بين البصرة، وعُمان. قاله في "لب اللباب" 1/ 106.
و"أبو داود الطيالسيّ": هو سليمان بن داود البصريّ. و"الأزرق بن قيس": هو الحارثيّ البصريّ، ثقة [3] 9/ 467.
و"شريك بن شهاب" الحازميّ البصريّ، مقبول [4].
روى عن أبي برزة الأسلميّ - رضي اللَّه تعالى عنه -، وعنه الأزرق بن قيس. ذكره ابن
حبّان في "الثقات". وتفرّد به المصنّف، أخرج له هذا الحديث فقط، وقال: ليس بذاك المشهور.
و"أبو برزة": هو نَضْلة بن عُبيد الأسلميّ الصحابيّ المشهور - رضي اللَّه تعالى عنه -، تقدّم قبل سبعة أبواب. واللَّه تعالى أعلم.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث أبي برزة الأسلميّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا ضعيف؛ لجهالة شريك بن شهاب؛ إذ لم يرو عنه إلا الأزرق بن قيس، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وشرحه يُعلم من شرح حديث أبي سعيد، وعليّ - رضي اللَّه تعالى عنهما - الماضيين.
وقوله: "أُتي" بالبناء للمفعول. وقوله: "من عن يمينه" بفتح ميم "من" موصولة، ويحتمل أن تكون بكسرها على أنها جازة، و"عن" اسم بمعنى الجانب، كما في قول الشاعر [من الكامل]:
وَلَقَدْ أَرَانِي لِلرِّمَاحِ دَرِيئَةً
…
مِنْ عَنْ يَمِينِي تَارَةً وَأَمَامِي
وكذا الحكم في قوله: "من عن شماله"، وقوله:"من وراءه"، وأما قوله:"فقام رجل من ورائه"، فبكسر الميم، لا غيرُ؛ لأنها جارّة فقط.
وقوله:: "ما عدَلْت" بتخفيف الدال المهملة: أي ما سوّيت بين المستحقّين. وقوله: "مطموم الشعر": أي مجزوز الشعر، أو معقوصه، يقال: طَمّ شعره طمًّا، وطُمومًا، من باب ردّ: إذا جزّه، أو عَقَصَه. أفاده في "القاموس".
وقوله: "سيماهم التحليق": السَّيما بالكسر-: العلامة، قال النوويّ: فيها ثلاث لغات: القصر، وهو الأفصح، وبه جاء القرآن، والمدّ، والثالثة السَّيمِيَاء بزيادة ياء، مع المدّ، لا غير، والمراد حلق الرأس، واستدلّ به بعض الناس على كراهة حلق الرأس، ولا دلالة فيه، وإنما هو علامة لهم، والعلامة قد تكون بحرام، وقد تكون بمباح، كما قال - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -:"وآيتهم رجلٌ أسود، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة"، ومعلوم أن هذا ليس بحرام، وقد ثبت في " سنن أبي داود" بإسناد على شرط البخاريّ ومسلم أنه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - رأى صبيًّا، قد حُلق بعض رأسه، فقال:"احلقوه كلّه، أو اتركوه كلّه"، وهذا صريح في إباحة حلق الرأس، لا يَحتمل تاويلًا. قال أصحابنا: حلقُ الرأس جائزٌ بكلّ حال، لكن إن شقّ عليه تعهّده بالدَّهْن والتسريح، استُحبّ حلقُهُ، وإن لم يشقّ استُحِبّ تركه. انتهى كلام النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
(1)
"شرح مسلم" 27/ 167 "كتاب الزكاة".
وقال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: قوله: "سيماهم التحليق": أي جعلوا ذلك علامة لهم على رفضهم زينة الدنيا، وشِعارًا ليُعرفوا به، كما يفعل البعض من رُهبان النصارى يفحصون عن أوساط رؤوسهم، وقد جاء في وصفهم، مرفوعًا:"سيماهم التسبيد"
(1)
أي الحلق، يقال سبد رأسهُ: إذا حلقه، وهذا كله منهم جهل بما يُزهَد فيه، وما لا يُزهد فيه، وابتداعٌ منهم في دين اللَّه تعالى شيئًا، كان النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، والخلفاء الراشدون، وأتباعهم على خلافه، فلم يُرْوَ عن أحد منهم أنهم اتّسموا بذلك، ولا حلقوا رؤوسهم في غير إحلال، ولا حاجة، وقد كان لرسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - شعرٌ، فتارةً فرقه، وتارة صيّره جُمّةً، وأخرى لِمّة. وقد رُوي عنه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - أنه قال:"من كانت شعرة، أو جُمّةٌ، فليُكرمها"
(2)
وكره مالكٌ الحلاقَ في غير إحرام، ولا حاجة ضروريّة. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-
(3)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: القول بكراهة الحلق محلّ نظر؛ بل هو جائزٌ؛ لما تقدّم من حديث: "احلقوه كلّه، أو اتركوه كلّه"، وإنما الأولى، والمستحبّ تركه؛ اتّباعا لهدي النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، فإنه ما كان يحلقه إلا للنسك، فليُتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "شرّ الخلق، والخليقة": "الخلق": الناس، و"الخليقة": البهائم، وقيل: هما بمعنًى واحد، ويريد بهما جميع الخلائق. قاله ابن الأثير
(4)
.
وقوله: "قَالَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ) النسائيّ رحمه الله: شَرِيكُ بْنُ شِهَابٍ، لَيْسَ بِذَلِكَ الْمَشْهُورِ" أراد به تضعيف الحديث بجهالة شريك، فإنه مجهول عين؛ لأنه لم يرو عنه غير الأزرق بن قيس. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
(1)
رواه أحمد في "مسنده " 3/ 64 وأبو داود في "سننه"4766.
(2)
حديث صحيح، راوه أبو داود بلفظ:"من كان له شعر، فليُكرِمه".
(3)
"المفهم" 3/ 122. "كتاب الزكاة".
(4)
"النهاية" 2/ 70.
27 - (قِتَالُ الْمُسْلِمِ)
4106 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «قِتَالُ الْمُسْلِمِ كُفْرٌ، وَسِبَابُهُ فُسُوقٌ»).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْراهِيمَ) ابن راهويه الحنظليّ المروزيّ، ثقة ثبت [10] 2/ 2.
2 -
(عبد الرزّاق) بن همّام الصنعانيّ، ثقة حافظ مصنّف مشهور، تغيّر بآخره، وكان يتشيّع [9] 61/ 77.
3 -
(معمر) بن راشد، أبو عروة البصريّ، ثم اليمنيّ، ثقة ثبت [7] 10/ 10.
4 -
(أبو إسحاق) عمرو بن عبد اللَّه السبيعيّ الهمدانيّ الكوفيّ، ثقة عابد اختلط بآخره [3] 38/ 42.
5 -
(عمر بن سعد) بن أبي وقّاص الزهريّ، أبو حفص المدنيّ، نزيل الكوفة، صدوقٌ، لكنه مقته الناس؛ لكونه كان أميرًا على الجيش الذين قَتَلوا الحسين بن عليّ [2].
قال العجليّ: كان يروي عن أبيه أحاديث، وروى الناس عنه، وهو تابعيٌّ ثقة، وهو الذي قتل الحسين. وذكر ابن أبي خيثمة بسند له أن ابن زياد بعث عمر بن سعد على جيش لقتال الحسين، وبعث شِمْر بن ذي الْجَوْشن، وقال له: اذهب معه، فإن قتله، وإلا فاقتله، وأنت على الناس. وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: كيف يكون من قتل الحسين ثقة؟. قال عمرو بن عليّ: سمعت يحيى بن سعيد يقول: حدّثنا إسماعيل، حدثنا العيزار، عن عمر بن سعد، فقال له موسى رجل من بني ضُبيعة: يا أبا سعيد، هذا قاتل الحسين، فسكت، فقال له: عن قاتل الحسين تُحدّثنا؟ فسكت. وروى ابن خِراش، عن عمرو بن عليّ لحو ذلك، وقال: فقال له رجل: أما تخاف اللَّه، تروي عن عمر بن سعد، فبكى، وقال: لا أعود. وقال الحميديّ: حدثنا سفيان، عن سالم، قال: قال عمر بن سعد للحسين: إن قومًا من السفهاء يزعمون أني أقتلُك، فقال حسين: ليسوا سفهاء، ثم قال: واللَّه إنك لا تأكل بُرّ العراق بعدي إلا قليلاً. وقال غيره: وُلد في عصر النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -.
وأغرب ابن فتحون، فذكره في الصحابة، معتمِدًا على ما نقله عن "الفتوح" أن أباه
أمّره على جيش في فتوح العراق. وقال ابن سعد: كان عبيد اللَّه بن زياد استعمل عمر ابن سعد على الرّيّ، وهمذان، فلما قَدِم الحسين العراق أمره ابن زياد أن يسير إليه، وندب معه أربعة آلاف من جنده، فأبى عمر ذلك، فقال له: إن لم تفعل عزلتك عن عملك، وهدمت دارك، فأطاعه، وخرج إلى الحسين، فقاتله حتى قُتل الحسين - رضي اللَّه تعالى عنه -، فلما غلب المختار على الكوفة قتل عمر بن سعد، وابنه حفصًا.
وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: وُلد عام مات عمر - رضي اللَّه تعالى عنه -، وقُتل سنة سبع وستّين. وكذا قال يعقوب بن سُفيان. وقال خليفة: قتله المختار بن أبي عُبيد سنة (66)، وقال في موضع آخر: سنة (5). تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.
6 -
(سعد بن أي وقّاص) مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب، أبو إسحاق الزهريّ، ذو المناقب الجمّة، مات - رضي اللَّه تعالى عنه - بالعقيق سنة (55) على المشهور، تقدّم في 96/ 121. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير عمر بن سعد، فإنه من أفراده. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، والابن عن أبيه. (ومنها): أن صحابيه أحد العشرة المبشرين بالجنّة، وهو آخر من مات منهم - رضي اللَّه تعالى عنهم -، وأول من رمى بسهم في سبيل اللَّه، وكان - رضي اللَّه تعالى عنه - مجاب الدعوة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ) بن أبي وقاص، أنه (قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "قِتَالُ الْمُسْلِمِ) هذا هو المشهور في معظم الرواية، وسيأتي في حديث ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - الآتي آخر الباب بلفظ:"قتال المؤمن"(كُفْرٌ) أي من أعمال أهل الكفر، فإنهم الذين يقصدون قتال المسلم، وأما تأويله بحمله على القتال مستحلًّا، فيؤدّي إلى عدم صحّة المقابلة؛ لكون السباب مستحلًّا كفرًا أيضًا (وَسِبَابُهُ) بكسر السين المهملة، وتخفيف الموحّدة: مصدر سبّ، يقال: سبّه يسبّه سبًا، وسِبَايًا: أي شتمه. وقال إبراهيم الحربيّ: السباب أشدّ من السبّ، وهو أن يقول الرجل ما فيه، وما ليس فيه، يريد بذلك عيبه. وقال غيره: السباب مثل القتال، فيقتضي المفاعلة. وهو من السبّ بالتشديد، وأصله القطع، وقيل: مأخوذ من السبّة، وهي حلقة الدبر، سُمّي الفاحش من القول بالفاحش من الجسد،
فعلى الأول المراد قطع المسبوب، وعلى الثاني المراد كشف عورته؛ لأن من شأن السابّ إبداء عورة المسبوب. قاله في "الفتح"
(1)
(فُسُوقٌ) أي خروج عن الذي يجب من احترام المسلم، وحرمة عرضه، وسبّه. أو هو من أعمال أهل الفسوق. و"الفسق" في اللغة: الخروج، وفي الشرع: الخروج عن طاعة اللَّه تعالى، وطاعة رسوله - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، وهو في عرف الشرع أشدّ من العصيان، قال اللَّه تعالى:{وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} الآية [الحجرات: 7].
ولا متمسّك في هذا الحديث للخوارج الذين يُكفرون بالمعاصي؛ لأن ظاهره غير مراد؛ وإنما عبر بلفظ الكفر لكون القتال أشدّ من السباب؛ لأنه يفضي إلى إزهاق الروح، ولم يُرد حقيقة الكفر التي هي الخروج عن الملّة، بل أطلق عليه الكفر مبالغةً في التحذير، معتمدًا على ما تقرّر من القواعد أن مثل ذلك لا يُخرج عن الملّة، مثلُ حديث الشفاعة، ومثل قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} الآية [النساء: 48]. أو أطلق عليه الكفر؛ لشبهه به؛ لأن قتال الموْمن من شأن الكافر. وقيل: المراد هنا الكفر اللغويّ، وهو التغطية؛ لأن حقّ المسلم على المسلم أن يُعينه، ويَنصره، ويكُفّ عنه أذاه، فلما قاتله كان كأنه غطّى على هذا الحقّ. وقيل: أراد بقوله "كفر" أي قد يؤول هذا الفعل بشؤمه إلى الكفر، وهذا بعيد، وأبعد منه حمله على المستحلّ لذلك؛ لأنه يلزم منه أن لا يحصُل التفريق بين السباب والفسوق، فإن مستحلّ لعن المسلم بغير تأويل يكفر أيضًا.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أولى ما قيل في معنى هذا الحديث أنه أطلق عليه الكفر مبالغة في التحذير من ذلك؛ لينزجر السامع عن الإقدام عليه، أو أنه على سبيل التشبيه؛ لأن ذلك من فعل الكفّار
(2)
.
ويأتي هذا في توله - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -: "لا ترجعوا بعدي كُفّارًا يضرب بعضكم رقاب بعض"، كما سيأتي بيان الأقوال التي قيلت في تأويه، وهي عشرة أقوال، في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى. ونظير هذا قوله تعالى:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} بعد قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ} الآية [البقرة: 85]، فدلّ على أن بعض الأعمال يُطلق عليه الكفر تغليظا. وأما قوله - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - فيما رواه مسلم:"لعن المسلم كقتله"، فلا يُخالف هذا الحديث؛ لأن المشبّه به فوق المشبّه، والقدر الذي اشتركا فيه بلوغ
(1)
راجع "الفتح" 1/ 121 و 154 - "كتاب الإيمان". حديث رقم 30 و 48.
(2)
راجع "الفتح" 14/ 521.
الغاية في التأثير، هذا في الْعِرْض، وهذا في النفس. أفاده في "الفتح"
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث سعد بن أبي وقّاص - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح، إن سلم من عنعنة أبي إسحاق، فإنه مدلّس.
[فإن قلت]: فيه عمر بن سعد، وقد عرفت كلام العلماء فيه، فكيف يصحّ؟.
[قلت]: لم ينفرد به عمر، بل تابعه عليه أخوه محمد بن سعد بن أبي وقّاص، فقد أخرجه ابن ماجه في "الفتن"3941 - من طريق أبي إسحاق، عنه، عن أبيه. وقد عزاه في "تحفة الأشراف" 3/ 356 - 307 إلى المصنّف أيضًا، لكن لم أجده عنده، فاللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: قد اختلف في هذا الحديث على أبي إسحاق، فرواه شعبة، عنه، عن أبي الأحوص، وغيره، عن ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -، كما في الرواية الآتية بعدُ. ورواه معمر، عنه، عن عمر بن سعد، عن أبيه، كما في هذه الرواية، ورواه إسرائيل، عنه، عن محمد بن سعد بن أبي وقّاص، عن أبيه، كما هو عند ابن ماجه، وقد ذكر البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في، "التاريخ"1/ 88 - : ما حاصله: أن كونه عن أبي إسحاق، عن محمد بن سعد، عن أبيه أصحّ، من كونه عن أبي إسحاق، عن عمر بن سعد، عن أبيه، وساقه من رواية زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن محمد به.
[تنبيه آخر]: ذكر في "الفتح" أن لهذا الحديث سببًا، وهو ما أخرجه البغوي، والطبرانيّ من طريق أبي خالد الوالبيّ، عن عمرو بن النعمان بن مقرّن المزنيّ، قال: انتهى رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - إلى مجلس من مجالس الأنصار، ورجلٌ من الأنصار كان عُرِف بالبذاء، ومشاتمة الناس، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى اللَّه تعالى عليه وسلم:"سباب المسلم فسوقٌ، وقتاله كفر"، زاد البغويّ في روايته:"فقال الرجل: واللَّه لا أُسابّ رجلاً". انتهى.
(2)
.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-27/ 4106 - وفي "الكبرى" 27/ 3567. وأخرجه (ق) في "الفتن"
(1)
"فتح" 1/ 155 "كتاب الإيمان" حديث رقم 48.
(2)
"فتح" 14/ 521 "كتاب الفتن" رقم الحديث 7076.
3941.
واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم قتال المسلم، وهو أنه كفرٌ، على ما تقدّم من بيان المراد بالكفر هنا. (ومنها): أن فيه تعظيم حقّ المسلم، والحكم على سبّه بغير حقّ بالفسق، وعلى من قاتله بالكفر. (ومنها): أن فيه الردّ على المرجئة القائلين بأن المعاصي لا تضرّ مع الإيمان، وفي "صحيح البخاريّ" من طريق شعبة، عن زُبيد، قال: سألت أبا وائل عن المرجئة؟ فقال: حدّثني عبد اللَّه يعني ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -، أن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - قال:"سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر"، يعني أن مذهبهم هذا باطلٌ، فكأنه قال: كيف يكون مذهبهم حقًّا، وقد خالف قول النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - هذا، فمراده إبطال رأيهم الفاسد المذكور.
[فإن قيل]: هذا، وإن تضمّن الردّ على المرجئة، لكن ظاهره يقوّي مذهب الخوارج الذين يُكفّرون بالمعاصي.
[أجيب]: بأن المبالغة في الرَّدّ على المبتدعة اقتضت ذلك، ولا متمسّك للخوارج فيه؛ لأن ظاهره غير مراد، لكن لَمّا كان القتال أشدّ من السباب؛ لأنه مفض إلى إزهاق الروح، عبر عنه بلفظ أشدّ من لفظ الفسق، وهو الكفر، ولم يُرِد به الكفر المخرج عن المقة، وإنما أراد المبالغة في الحديث، معتمدًا على ما تقرّر من القواعد أن مثله لا يُخرج عن الملّة، مثل أحاديث الشفاعة، وغيرها
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4107 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: "سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، وتقدّموا. و"عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. و"أبو إسحاق": هو السبيعيّ المذكور في السند السابق. و"أبو الأحوص": هو عوف بن مالك بن نَضْلَة الْجُشَميّ الكوفيّ، ثقة [3] 50/ 849.
والحديث موقوفٌ صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا- 27/ 4107 و 4108 و 4109 و 4114 - وفي "الكبرى" 27/ 3568 و 3569 و 3570
(1)
راجع "الفتح" 1/ 155. "كتاب الإيمان". رقم 48.
و 3578. وشرحه، وفوائده تقدّمت في الذي قبله.
[تنبيه]: حديث ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في هذا الباب من رواية أبي الأحوص، وأبي وائل، عنه، وقد رواه غيرهما عنه أيضًا، فقد أخرجه أبو يعلى في "مسنده" 8/ 408 - رقم 4991 - من رواية أبي عمرو الشيباني، عن ابن مسعود، مرفوعًا، ولفظه:
حدّثنا أبو بكر
(1)
، حدثنا معتمرٌ، عن أبيه، حدثنا أبو عمرو الشيبانيّ، عن عبد اللَّه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوقٌ، وقتاله كفر". وهذا إسناد على شرط الشيخين، وأبو بكر هو ابن أبي شيبة.
وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" 5/ 23 - من رواية مسروق، عن ابن مسعود، مرفوعًا أيضًا، لكن في إسناده إسماعيل بن أبي عيّاش، وفيه ضَعْفٌ إذا روى عن غير أهل بلده، كما هنا، عن ليث بن أبي سليم، وهو مترك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4108 -
(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: "سِبَابُ الْمُسْلِمِ فِسْقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ"، فَقَالَ لَهُ أَبَانُ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ، أَمَا سَمِعْتَهُ إِلاَّ مِنْ أَبِي الأَحْوَصِ، قَالَ: بَلْ سَمِعْتُهُ مِنَ الأَسْوَدِ، وَهُبَيْرَةَ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، يحيى ابن حكيم، وهو الْمُقَوِّم، أبو سعيد البصريّ، وهو ثقة حافظ، عابد، مصنّفٌ [10] 51/ 621.
وقوله: "فقال له أبان الخ" الظاهر أنه أبان بن تغلب؛ لأنه الذي يروي عن أبي إسحاق، كما تقدّمت روايته عند المصنّف في "كتاب الحجّ" في 54/ 2751 - "كيفيّة التلبية".
ثم وجدت الخطيب صرّح به في روايته في "تاريخ بغداد"10/ 87 - ولفظه:
أخبرنا الْبَرْقانيّ، قال: قرأنا على أبي الحسن الدارقطنيّ، حدثكم محمد بن مخلد بن حفص، حدّثنا عبد اللَّه بن محمد بن عبيدة، حدّثنا عليّ بن المدينيّ، حدّثنا عبد الرحمن بن مهديّ، عن شُعبة، قال: سمعت أبان بن تغلب يقول لأبي إسحاق: ممن سمعت حديث عبد اللَّه: "سباب المسلم فسوقٌ، وقتاله كفرٌ"، فقال: حدّثنيه الأسود،
(1)
هو ابن أبي شيبة.
وأبو الأحوص، وهُبيرةُ عن عبد اللَّه، عن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -.
قال الدارقطنيّ: تفرّد به هذا الشيخ، عن عليّ بن المدينيّ، ولم نكتبه إلا عن ابن مخلد انتهى.
قال الجامع: الظاهر أنه أراد بسؤاله هذا الاستزادةَ من شيوخ أبى إسحاق غير أبي الأحوص؛ للتأكيد، فأجابه بأنه سمعه أيضًا من الأسود بن يزيد، ومن هُبيرة بن يَرِيم. واللَّه تعالى أعلم.
و"الأسود": هو ابن يزيد بن قيس النخعيّ، أبو يزيد الكوفيّ، ثقة مكثر فقيه مخضرم [2] 29/ 33.
و"هُبيرة" بن يَرِيم بوزن عظِيم- الشيبانيّ بمعجمة، ثمّ موحّدة خفيفة، ويقال: الخارفيّ بمعجمة، وفاء-، أبو الحارث الكوفيّ، لا بأس به، وقد عِيب بالتشيّع [2].
روى عن عليّ، وطلحة، وابن مسعود، والحسن بن عليّ، وابن عبّاس. وعنه أبو إسحاق السبيعيّ، وأبو فاختة.
قال الأثرم عن أحمد: لا بأس بحديثه، هو أحسن استقامةً من غيره يعني الذين تفرد أبو إسحاق بالرواية عنهم-. وقال عبد اللَّه بن أحمد: هُبيرة أحبّ إلينا من الحارث. وقال عيسى بن يونس: كان هُبيرة خال العالية زوجة أبي إسحاق السبيعيّ. وقال النسائيّ: ليس بالقويّ. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى، وقال: كانت منه هفوة أيام المختار، وكان معروفًا، وليس بذاك. وقال الساجيّ: قال يحيى بن معين: هو مجهول. وقال النسائيّ في "الجرح والتعديل": أرجو أن لا يكون به بأس، ويحيى، وعبد الرحمن لم يتركا حديثه، وقد روى غير حديث منكر. وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: شبيه بالمجهول. وقال الجوزجانيّ: كان مختاريًّا، كان يُجهز على الجرحى يوم الجازر. وقال ابن خراش: ضعيف. وقال ابن أبي عاصم: مات سنة (66). روى له الأربعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب خمسة أحاديث: هذا الحديث، وحديث ابن مسعود في "كتاب الزينة" 10/ 5065 "لقد قرأت على رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - بضعًا وسبعين سورة" الحديث، وفيه 43/ 5167 - حديث عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه - "نهى رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم عن خاتم الذهب" الحديث، و 5168 حديثه، "نهى رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - عن خاتم الذهب " الحديث، و 5169 حديثه "نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - عن حلقة الذهب" الحديث.
والحديث موقوف صحيح، وقد سبق تخريجه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم
بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4109 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزَّعْرَاءِ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: "سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن حرب": هو الطائيّ الْمَوْصليّ، ثقة [10] 102/ 135 من أفراد المصنّف. و"أبو الزعراء": عمرو بن عمرو، أو ابن عامر بن مالك ابن نَضْلة الْجُشَميّ الكوفيّ، ثقة [6] 16/ 3815.
والحديث موقوف صحيحٌ. وقد سبق القول فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4110 -
(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ عُمَيْرٍ، يُحَدِّثُهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمود بن غيلان": هو أبو أحمد المروزيّ، نزيل بغداد، ثقة [10] 33/ 37.
و"وهب بن جرير": أبو عبد اللَّه الأزديّ البصريّ، ثقة [9]196.
و"أبوه": هو جرير بن حازم بن زيد، أبو النضر البصريّ، ثقة، إلا في قتادة، ففيه ضعف، وله أوهام إذا حدّث من حفظه [6] 172/ 1141
و"عبد الملك بن عُمير": اللَّخْميّ الكوفيّ، ويقال له: الْفَرَسيّ، نسبة لفرس له سابق، يقال له: الْقِبْطيّ، ثقة فقيه، تغيّر حفظه، وربّما دلّس [3]. 41/ 947
و"عبد الرحمن بن عبد اللَّه": هو ولد ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -، وهو كوفيّ، ثقة، من صغار [2]. 48/ 3194، وقد سمع من أبيه، لكن شيئًا يسيرًا.
والحديث صحيح، أخرجه المصنّف هنا -4110/ 27 - وفي "الكبرى" 27/ 3571 وأخرجه (ت) في "الإيمان" 2634 بلفظ:"قتال المسلم أخاه كفر، وسبابه فسوق"، ثم قال: حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح، وقد روي عن عبد اللَّه بن مسعود من غير وجه. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4111 -
(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: قُلْتُ لِحَمَّادٍ: سَمِعْتُ مَنْصُورًا، وَسُلَيْمَانَ، وَزُبَيْدًا، يُحَدِّثُونَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» ، مَنْ تَتَّهِمُ؟ أَتَتَّهِمُ مَنْصُورًا؟ ، أَتَتَّهِمُ زُبَيْدًا؟ ، أَتَتَّهِمُ سُلَيْمَانَ؟ ، قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أَتَّهِمُ أَبَا وَائِلٍ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أبو داود": هو الطيالسيّ. و"منصور": هو ابن المعتمر. و"سليمان": هو الأعمش. و"زُبيد": هو الحارث اليامي. و"أبو وائل": هو شقيق بن سلمة.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن حمّادًا هنا هو ابن أبي سُليمان، وهو شيخٌ لشعبة، وكان مرجئًا، والظاهر أنه جرى بينه وبين شعبة النقاش في الإرجاء، فذكر له شعبة هذا الحديث محتجًّا عليه، ثم قال له: أتتّهم هؤلاء الرواة، إنهم حدّثوا بحديث غير ثابت عن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -؟، فقال: لا أتهمهم، وإنما أتّهم شيخهم، أبا وائل.
وإنما اتّهم أبا وائل؛ لأنه كان يردّ على هذا الرأي الباطل، ويذكر حديث ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا احتجاجًا على إبطاله، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" من طريق شعبة، عن زبيد، قال: سألت أبا وائل عن المرجئة؟ فقال: حدّثني عبد اللَّه أن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - قال: "سباب المسلم فسوقٌ، وقتاله كفر". وفي رواية أبي داود الطيالسيّ، عن شعبة، عن زبيد، قال: لما ظهرت المرجئة، أتيت أبا وائل، فذكرت ذلك له".
قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: فظهر من هذا أن سؤاله كان عن معتقدهم، وأن ذلك كان حين ظهورهم، وكانت وفاة أبي وائل سنة (99)، وقيل: سنة (82)، ففي ذلك دليلٌ على أن بدعة الإرجاء قديمة انتهى
(1)
.
ثمّ إن اتّهام حماد لأبي وائل بهذا الحديث اتّهام باطلٌ، وذلك لأن أبا وائل من العدول الثقات، الذين شهد لهم أهل عصرهم، ومن بعدهم بالعدالة، والصيانة، وبرّؤوهم من وصمة الاتهامات، فقال الأعمش، عن إبراهيم: عليك بشقيق، فإني أدركت الناس، وهم متوافرون، دهانهم ليعدّونه من خيارهم. وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة، لا يُسأل عنه. وقال وكيع: كان ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال ابن حبّان: سكن الكوفة، وكان من عُبّادها. وقال العجليّ: رجل صالح. وقال ابن عبد البرّ: أجمعوا على أنه ثقة
(2)
.
وايضا، فلم ينفرد أبو وائل برواية هذا الحديث عن ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -، فقد تابعه أبو الأحوص، وعبد الرحمن بن عبد اللَّه بن مسعود، كما تقدّم للمصنّف في هذا الباب، وأبو عمرو الشيبانيّ عند أبي يعلى في "مسنده"4991 - والأسود، وهُبيرة
(1)
"فتح" 1/ 154.
(2)
راجع ترجمته في "تهذيب التهذيب" 2/ 178 - 179. وغيره.
ابن يَريم عند الخطيب البغداديّ في "تاريخه" 10/ 86 - 87 - ومسروق عند أبي نعيم في "الحلية" 23/ 5 ستتهم عن ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -.
والحاصل أن اتهام حماد لأبي وائل في هذا باطلٌ، وإنما حمله عيه هذا المذهب الباطل، واللَّه المستعان على المتّهِمِين أهلَ الحقّ بالباطل زورًا، وبُهتانًا. واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: قال في "الفتح": قد تابع أبا وائل في رواية هذا الحديث عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن مسعود، عن أبيه، أخرجه الترمذيّ، مصحّحًا، ولفظه:"قتال المسلم أخاه كفرٌ، وسبابه فسوقٌ"، ورواه جماعة عن عبد اللَّه بن مسعود، موقوفًا، ومرفوعًا، ورواه النسائيّ 27/ 4106 - من حديث سعد بن أبي وقّاص أيضًا، مرفوعًا، فانتفت بذلك دعوى من زعم أن أبا وائل تفرّد به. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، أخرجه المصنّف هنا 27/ 4111 و 4112 و 4113 و 4114 و 4115 - وفي "الكبرى" 27/ 3574 و"357 و 3576 و 3577 و 3578. وأخرجه (خ) في "الإيمان" 48 و"الأدب" 6044 و"الفتن" 7076 (مسلم) في "الإيمان" 64 (الترمذيّ) في "البرّ والصلة" 1983 و"الإيمان " 2634 و2635 (ابن ماجه) في "المقدمة" 69 و"الفتن" 3939 (أحمد) في "مسند المكثرين" 3639 و 3893 و 3947 و 4115 و 4167 و 4250 و 4332 و3480. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
ثم إن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أورد روايات زُبيد، ومنصور، والأعمش، متتالية، فقال:
4112 -
(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» ، قُلْتُ لأَبِي وَائِلٍ: سَمِعْتَهُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"سفيان": هو الثوريّ.
وقوله: "قلت لأبي وائل الخ" القائل هو زبيدٌ اليامي، كما صرّح به في رواية مسلم، ولفظه: (قال زبيد: فقدت لأبي وائل: أنت سمعته من عبد اللَّه يرويه عن رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عيه وسلم؟ قال: نعم". انتهى.
(1)
"فتح" 1/ 154 "كتاب الإيمان " حديث 48.
[تنبيه]: قد روى هذا الحديث شعبة أيضًا عن منصور بن المعتمر، كما عند البخاريّ في "الأدب"، وعن الأعمش، وهو عند مسلم، وقال ابن منده: لم يُختلف في رفعه عن زُبّيد، واختُلف على الآخَرَين. ورواه عن زبيد غيرُ شعبة أيضًا، عند مسلم، وغيره. أفاده في "الفتح"
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وتقدّم تخريجه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4128 -
(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "معاوية": هو ابن هشام القصّار، أبو الحسن الكوفيّ، صدوقٌ له أوهامٌ، من صغار [9] 39/ 1704.
والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق آنفًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4114 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: " جرير": هو ابن عبد الحميد.
والحديث موقوف صحيح، وقد سبق قبله مرفوعًا، وهو الأرجح؛ ولذا أخرجه البخاريّ في "صحيحه" من طريق شعبة، عن منصور. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4115 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: "قِتَالُ الْمُؤْمِنِ كُفْرٌ، وَسِبَابُهُ فُسُوقٌ").
"أبو معاوية": هو محمد بن خازم الضرير الكوفيّ.
والحديث موقوف صحيح، وقد اقتصر المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في رواية الأعمش على الموقوف فقط، وقد رواه أيضًا، مرفوعًا، وهو الأرجح، ولذا أخرجه البخاريّ في "صحيحه" من طريق حفص بن غياث، عن الأعمش. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
(1)
راجع "الفتح" 1/ 154 "كتاب الإيمان" حديث 48.
28 - (التَّغْلِيظُ فِيمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةِ عِمَّيَّةِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الْعِمِّيّةُ" بالكسر، والضمّ، مشدّدتي الميم، والياء: الْكِبْرُ، أو الضلال. قاله في "القاموس". وقال ابن منظور في "اللسان": العميّة: الدعوة العمياء. وقيل: الفتنة، وقيل: الضلالة. قال: "ميتة عمّيّة": أي ميتة فتنة، وجهالة. انتهى باختصار. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
4116 -
(أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ هِلَالٍ الصَّوَّافُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ، فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي، يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا، لَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا، وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدِهَا، فَلَيْسَ مِنِّي، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ، يَدْعُو إِلَى عَصَبِيَّةٍ، أَوْ يَغْضَبُ لِعَصَبِيَّةٍ، فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ»).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(بشر بن هلال الصّوّاف) أبو محمد النُّميريّ البصريّ، ثقة [10] 117/ 162.
2 -
(عبد الوارث) بن سعيد بن ذكران البصريّ، ثقة ثبتٌ [8] 6/ 6.
3 -
(أبوب) بن أبي تميمة السختيانيّ البصريّ، ثقة فقيه حجة [5] 42/ 48.
4 -
(غيلان بن جرير) الْمِعْوليّ الأزدي البصريّ، ثقة [5] 124/ 1082.
5 -
(زياد بن رِيَاح) -بكسر أوّله، ثم مثنّاة تحتانيّة خفيفة- أبو قيس البصريّ، أو المدنيّ، ثقة [3].
روى عن أبي هريرة. وعنه الحسن البصريّ، وجرير بن غيلان. قال العجليّ: تابعيّ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". أخرج له مسلم، والمصنّف، وابن ماجه هذا الحديث فقط، وله عند مسلم حديث آخر:"بادروا بالأعمال ستًّا" الحديث.
[تنبيه]: وقع في معظم نسخ "المجتبى"، و"الكبرى""زياد رباح" بالباء الموحّدة، وهو خطأ
(1)
، والصواب "ابن رياح" بالياء التحتانيّة، وهو الذي في "النسخة الهنديّة"،
(1)
وذكر النوويّ في شرح مسلم 12/ 441 - أن البخاريّ قاله بالمثنّاة، وبالموحّدة، وقاله الجماهير بالمثنّاة، لا غير. انتهى.
فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.
- (أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير الصحابيّ، فمدنيّ. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: أيوب، عن غيلان، عن زياد، ورواية أيوب عن غيلان من رواية الأقران، وفيه أبو هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - أحفظ من روى الحديث في دهره. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ) أي من طاعة وُلاة الأمور (وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ) أي جماعة المسلمين المجتمعين على إمام واحد، أو إجماع المسلمين على أمر واحد، ففيه تحريم مخالفة الإجماع (فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً) بكسر الميم: فِعلة للَّهيئة، وهي حالة الموت، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":
وَفَعْلة لِمَرَّة كَجَلْسَهْ
…
وَفِعْلةٌ لِهَيْئَةٍ كَجِلْسَهْ
(جَاهِلِيَّةً) بالنصب صفة لـ"مِيتة" أي كمِيتة أهل الجاهليّة، من الضلال والفُرقة. قاله القرطبيّ. وقال النوويّ: أي على صفة موتهم من حيث إنهم فوضى، لا إمام لهم. انتهى.
ويحتمل أن يكون مجرورًا بإضافة "مِيتة" إليه (وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي، يَضْرِبُ بَرَّهَا) بفتح الباء، وتشديد الراء: وهو التقيّ (وَفَاجِرَهَا) بالجيم: وهو المسيء (لَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا) من التحاشي، وهو المجانبة. قال النوويّ: معناه: لا يكترث بما يفعله فيها، ولا يَخاف وباله، وعُقوبته. انتهى.
وفي لفظ عند مسلم: "ولا ينحاش" بالنون: أي لا يجانب، يقال: انحاش إلى كذا: أي انضتم إليه، ومال. قاله القرطبيّ. والمعنى أنه لا يترك أحدًا من الموْمنين إلا قتله (وَلَا يَفِى لِذِي عَهْدِهَا) أي لا يوفي بعهد الذّمّيّين الذين لهم عهد وأمان من المسلمين ذمّتهم، بل ينقضه، ويقتلهم، كما يقتل المسلمين، أو المعنى أنه لا يوفي بعهد البيعة، والولاية (فَلَيْسَ مِنِّي) زاد في رواية مسلم:"ولست منه". قال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: هذا التبرّي أنه ليس بمسلم، وهذا صحيحٌ إن كان معتقدًا لحلّيّة ذلك، وإن كان معتقدًا لتحريمه، فهو عاصٍ من العصاة، مرتكب كبيرةً، فأمره إلى اللَّه تعالى،
ويكون معنى التبرّي على هذا: أي ليست له ذمّة، ولا حرمة، بل إن ظُفِر به قُتل، أو عُوقب بحسب حاله، وجريمته. ويحتمل أن يكون معناه: ليس على طريقتي، ولستُ أرضى طريقته، كما تقدّم أمثالُ هذا.
وهذا الذي ذكره في هذا الحديث هي أحوال المقاتلين على الملك، والأغراض الفاسدة، والأهواء الركيكة، وحميّة الجاهليّة، وقد أبعد من قال: إنهم الخوارج، فإنهم إنما حملهم على الخروج الْغَيْرة للدين، لا شيء من العصبيّة، والملك؛ لكنّهم اخطؤوا التأويل، وحرّفوا التنزيل. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي ذكره القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا. واللَّه تعالي أعلم.
(وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمَّيَّةٍ) بضمّ العين، وكسرها لغتان مشهورتان، والميم مكسورة، مشدّدة، والياء مشدّدة أيضًا، قالوا: هي الأمر الأعمى الذي لا يستبين وجهه. كذا قاله أحمد بن حنبل، والجمهور. وقال إسحاق بن راهوية: هذا كتقاتل القوم للعَصَبيّة. قاله النوويّ
(2)
.
وقال القرطبيّ: قال بعضهم: العمّيّة: الضلالة. وقال أحمد بن حنبل: هو الأمر الأعمى، كالعصبيّة، لا يستبين ما وجهه؟. وقال إسحاق: هذا في تهارُج القوم، وقتل بعضهم بعضًا، كأنه من التعمية، وهو التلبيس. انتهى
(3)
.
وقال ابن الأثير: العِمَّيّةٌ فِعّيلة، من العَمَاء: الضلالة، كالقتال في العَصَبيّة والأهواء. وحكَى بعضهم فيها ضمّ العين. انتهى
(4)
.
(يَدْعُو إِلَى عَصَبِيَّة، أَوْ يَغْضَبُ لِعَصَبِيَّةٍ) قال في "النهاية": العصبيّة، والتعصّبُ: المحاماة، والمدافعة. والعَصَبيّ: من يُعين قومه على الظلم، وقال أيضًا: هو الذي يغضب لعَصَبته، ويُحامي عنهم. انتهى بتصرّف
(5)
.
وقال القرطبيّ في "المفهم": قوله: "يغضب لعصبته، أو ينصر عصبته" هكذا رواية الجمهور بالعين، والصاد المهملتين، من التعصّب. وقد رواه العذريّ بالغين، والضاد المعجمتين، من الغضب، والأول أصحّ، وأبين، ويَعضِده تأويل أحمد بن حنبل
(1)
"المفهم" 4/ 60 "كتاب الإمارة".
(2)
"شرح مسلم" للنووي 12/ 331."كتاب الإمارة"
(3)
"المفهم" 4/ 59. "كتاب الإمارة".
(4)
"النهاية" 3/ 304.
(5)
"النهاية" 3/ 246.
المتقدِّم، ولرواية العذريّ وجهٌ، وهو أن يريد به الغضب الذي يحمل عليه التعصّب. انتهى
(1)
.
(فَقُتِلَ) بالبناء للمفعول (فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ) بكسر القاف، هو مثل قوله:"فميتةٌ جاهليّة". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المساله الأولى): في درجته:
حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-28/ 4116 - وفي "الكبرى" 28/ 3579. وأخرجه (م) في "الإمارة" 1848 (ق) في "الفتن" 3948 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 7884 و8000 و9960. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثه): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان التغليظ فيمن قاتل تحت راية عِمّيّة. (ومنها): أن فيه وجوب طاعة الإمام، ولزوم جماعة المسلمين. (ومنها): وجوب نصب الإمام. (ومنها): تحريم مخالفة إجماع المسلمين، وأنه واجب الاتّباع. (ومنها): ما قاله القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: ويَستَدِلّ بظاهره من كفّر بخرق الإجماع مطلقًا، والحقّ التفصيل، فإن كان الإجماع مقطوعًا به، فمخالفته، وإنكاره كفرٌ، وإن كان الإجماع مظنونًا، فإنكاره، ومخالفته معصيةٌ، وفُسوقٌ. انتهى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا التفصيل الذي ذكره القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- حسنٌ حدًّا.
وإلى الاختلاف في تكفير منكر الإجماع أشار في "الكوكب الساطع"، حيث قال:
جَاحِدُ مُجْمَع عَلَيْهِ عُلِمَا
…
ضَرُورَةً فِي الدِّينِ لَيْسَ مُسْلِمَا
قَطْعًا وفِي الأَظْهَرِ مَنْصُوصٌ شُهِرْ
…
وْالْخُلْفُ فِمَا لَمْ يُنَصَّ الْمُشْتَهِرْ
أَصَحُّهُ تَكْفِيرُهُ خُصُوصَا
…
لَا جَاحِدُ الْخَفِي وَلَوْ مَنْصُوصَا
(ومنها): أن من لم يدخل تحت طاعة إمام، فقد شابه أهل الجاهليّة في ذلك، فإن مات على تلك الحالة مات على مثل حالتهم، مرتكباً كبيرةً من الكبائر، ويُخاف عليه
(1)
"المفهم" 4/ 59 - 60 "كتاب الإمارة".
(2)
"المفهم" 4/ 59.
بسببها أن لا يموت على الإسلام.
وهذا فيما إذا كانت للمسلمين جماعة، وامام، وأمكنه الدخول معهم، فتركه، فإن لم يكن أمرهم منتظمًا، بل كان فوضى، فلا شيء عليه، بل يلزم بيته، ويشتغل بأمر نفسه، ويدع أمر العامّة، فقد فصّل النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - هذا الأمر تفصيلاً، لم يبق معه التباس، وذلك في سؤالات حذيفة - رضي اللَّه تعالى عنه - في هذا الأمر، فقد أخرج الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه"، فقال:
حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ابن جابر، حدثني بسر بن عبيد اللَّه الحضرمي، أنه سمع أبا إدريس الخولاني، أنه سمع حذيفة بن اليمان، يقول: كان الناس يسألون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إنا كنا في جاهلية وشرّ، فجاءنا اللَّه بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال:"نعم"، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: "نعم، وفيه دَخَنٌ"، قلت: وما دخنه؟ قال: "قوم يَهدُون بغير هدي، تَعرِف منهم وتنكر"، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: "نعم دُعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها، قذفوه فيها"، قلت: يا رسول اللَّه، صفهم لنا، قال:"هم من جِلْدتنا، ويتكلمون بألسنتنا"، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم"، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة، ولا إمام؟ قال:"فاعتزِل تلك الفِرق كُلَّها، ولو أن تَعَضَّ بأصل شجرة، حتى يدركك الموت، وأنت على ذلك".
فقد أوضح رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - في هذا الحديث كيف يعيش المسلم في أيّ زمان، وفي أيّ مكان، ومع أيّ أناس، فما أشمل هذا النصّ، وأكمله، وأنبله، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4].
(ومنها): أن فيه أن ارتكاب المعاصي والفجور، لا يُخرج عن الملّة، أيا كان نوعه، إلا بالارتداد عن الإسلام صريحًا، أعاذنا اللَّه تعالى من ذلك، ومن كلّ سوء، بمنّه، وكرمه، إنه جواد كريم، رؤوفٌ رحيم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4117 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ الْقَطَّانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ، يُقَاتِلُ عَصَبِيَّةً، وَيَغْضَبُ لِعَصَبِيَّةٍ، فَقِتْلَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ» .
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: عِمْرَانُ الْقَطَّانُ، لَيْسَ بِالْقَوِيِّ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. و"عمران القطّان":
هو: عمران بن داود- بالراء- البصريّ، صدوقٌ يهم، ورمي برأي الخوارج [7] 9/ 466. و"أبو مِجْلَز" بكسر الميم، وسكون الجيم، وفتح اللام، آخره زاي-: هو حُمَيد بن لاحق السدوسي البصريّ، ثقة، من كبار [3] 188/ 296.
هذا الإسناد مسلسلٌ بالبصريين، كسابقه، ورجاله رجال الصحيح، غير عمران، فعلّق له البخاريّ فقط، وأخرج له الأربعة، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، قتادة، عن أبي مجلز.
والحديث أخرجه مسلم في "الإمارة" 1850، وأخرجه المصنّف هنا -28/ 4117 - وفي "الكبرى" 28/ 3580. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: (قَالَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ: عِمْرَانُ القَطَّانُ، لَيْسَ بِالْقَوِيِّ) أشار به إلى تضعيف الحديث بسبب ضعف عمران القطّان، وهذا الذي قاله المصنّف في عمران قاله غيره أيضًا، فقد نقل الدوريّ عن ابن معين: ليس بالقويّ. وقال مرّة: ليس بشيء، لم يرو عنه يحيى بن سعيد. وقال أبو داود مرّة: ضعيف. وقال البخاريّ: صدوق يهم. وقال الدارقطنيّ: كان كثير المخالفة والوهم. وأثنى عليه غيرهم، فعن أحمد، أنه قال: أرجو أن يكون صالح الحديث. وقال ابن عديّ: هو ممن يُكتب حديثه. وقال الساجيّ: صدوقٌ وثّقه عفّان. وقال العجليّ: بصريّ ثقة. وقال الحاكم: صدوق. وذكره ابن حبّان في "الثقات"
(1)
.
لكن الحديث لم ينفرد به عمران، بل تابعه سليمان بن طَرْخَان، عند مسلم، ولفظه:
1850 -
حدثنا هريم بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر، قال: سمعت أبي يحدث عن أبي مجلز، عن جندب بن عبد اللَّه البجلي، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من قُتِل تحت راية عِمّية، يدعو عصبية، أو ينصر عصبية، فقِتْلة جاهلية".
والحاصل أن حديث جندب بن اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
(1)
راجع "تهذيب التهذيب" 3/ 318 - 319.
29 - (تَحْرِيمُ الْقَتْلِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: المراد تحريم قتل المسلم الذي لم يرتكب ما يستحق به قتله. واللَّه تعالى أعلم.
4118 -
(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْصُورٌ، قَالَ: سَمِعْتُ رِبْعِيًّا، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَشَارَ الْمُسْلِمُ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ بِالسِّلَاحِ، فَهُمَا عَلَى جُرُفِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا قَتَلَهُ خَرَّا جَمِيعًا فِيهَا»).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(محمود بن غيلان) العدويّ مولاهم، أبو أحمد المروزيّ، ثقة [10] 33/ 37.
2 -
(أبو داود) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ، ثقة حافظ [9] 13/ 343.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة المشهور [7] 24/ 27.
4 -
(منصور) بن المعتمر السلميّ، أبو عتاب الكوفيّ، ثقة ثبت [6] 2/ 2.
5 -
(رِبعيّ) -بكسر أوله، وسكون الموحّدة-: هو ابن حِرَاش بكسر الحاء المهملة، وآخره شينٌ معجمةٌ- أبو مريم الْعَبْسيّ الكوفيّ، ثقة مخضرمٌ [2] 8/ 508.
6 -
(أبو بكرة) نُفيع بن الحارث بن كَلَدَة بفتحتين- ابن عمرو الثّقفيّ، الصحابيّ المشهور بكيته، وقيل: اسمه مَسْرُوح بمهملات- أسلم بالطائف، ثمّ نزل البصرة، ومات - رضي اللَّه تعالى عنه - بها سنة (51) أو (52) تقدّمت ترجمته في 41/ 836. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين من منصور، وشيخه مروزي، ثم بغدادي، والباقيان بصريّان. (ومنها): أن صحابيّه ممن اشتهر بأبي بكرة، وهو لقب بصورة الكنية، كما تقدّم سبب تدقيبه غير مرّة، وكنيته أبو عبد الرحمن. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي بَكْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَشَارَ الْمُسْلِمُ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ بِالسِّلَاحِ" والمراد أن يُشير كلٌّ منهما على صاحبه، كما توضّحه الرواية الآتية قريبًا بلفظ: "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، كلٌّ منهما يريد قتل
صاحبه (فَهُمَا عَلَى جُرُفِ جَهَنَّمَ) بضمّ الجيم، والراء، ويجوز تسكين الراء-: هو ما جزفته السيول، وأكلته من الأرض. أفاده في "المصباح". وقال السنديّ: هو مُستعارٌ من جُرُف النهر الطرف، كالسيل، وهو كناية عن قربهما من جهنّم. انتهى.
(فَإِذَا قَتَلَهُ خَرًّا) أي سقط القاتل والمقتول (جَمِيعًا فِيهَا) أي جهنم.
قال في "الفتح": قال العُلماء: مغنى كوْنهما في النار، أنهما يستحِقَّانِ ذَلِكَ، ولكِنَّ أمرهما إِلى اللَّه تعالى، إن شاء عاقبهُما، ثُمَّ أخرجهُما من النار، كسائِرِ الموحِّدِين، وإن شاء عفا عنهُما، فلم يُعاقِبهُما أصلا. وقِيل: هُو محمُول على من استحلّ ذَلِكَ، ولا حُجة فِيهِ لِلخوارِج، ومنْ قال من المعتزِلة، بِان أهل المعاصِي مُخلَّدُون في النار؛ لِأنَّه لا يلزم من قوْله:"فهُما في النار"، استِمرار بقائِهِما فِيها. واحتجّ بِهِ من لم ير القِتال في الفِتنة، وهُنم كُل من ترك القِتال مع عليّ، في حُرُوبه، كسعدِ بْن أبِي وقاص، وعبد اللَّه ابن عُمر، ومُحمد بْن مسلمة، وأبِي بكرة، وغيرهم، وقالُوا: يجِب الكف حتى لوْ أراد أحد قتله، لم يدْفعهُ عن نفسه: ومِتهُم: من قال: لا يدْخُل في الفِتنة، فإن أراد أحد قتله، دفع عن نفسه. وذهب جمُهُور الصحابة والتابِعِين إِلى وُجُوب نصر الحقّ، وقتال الباغِين، وحمل هؤُلاءِ الأحادِيث الوارِدة في ذَلِكَ، على من ضعُف عن القِتال، أوْ قصر نظرُهُ عن معرِفة صاحِب الحقّ.
واتّفق أهل السُّنّة على وُجُوب منع الطّعن على أحد من الصحابة، بِسبب ما وقع لهُم من ذَلِكَ، ولوْ عُرِف المُحِقُّ مِنْهُم؛ لأنهُم لم يُقاتِلُوا في تِلك الحرُوب، إِلا عن اجتِهاد، وقد عفا اللَّه تعالى عن المُخطِئ في الاجتِهاد، بل ثبت أنهُ يُؤجر أجرًا واحِدًا، وأن المصِيب يُؤجر أجرين؛ لما أخرجه الشيخان من حديث عمرو بن العاص، أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا حكم الحاكم، فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد، ثم أخطأ فله أجر". وحمل هَؤُلاءِ الوعِيد المذكُور في الحديث، على من قاتل بِغيرِ تأوِيل سائِغ، بك بمُجرَّدِ طلب المُلك، ولا يرِد على ذَلِكَ منع أبِي بكرة الأخنف من القِتال، مع عليّ؛ لأن ذَلِكَ وقع عن اجتِهاد من أبِي بكرة، أذاهُ إِلى الامتِناع والمنع، احتِياطا لِنفسِهِ، ولِمن نصحهُ.
قال الطّبرِيّ: لوْ كان الوْاجِب في كُل اختِلاف يقع بين المُسلمِينَ الهرب مِنهُ، بِلُزُومِ المنازِل، وكسر السيُوف، لما أُقِيم حد، ولا أُبطِل باطِل، ولوجد أهل الفُسُوق سبيلا إِلى ارْتِكاب المحرَّمات، من أخذ الأموال، وسفك الدَّماء، وسبي الحرِيم، بأنْ يُحارِبُوهُم، وْيكُف المُسْلِمُون أيدِيهم غنهُم، بِأن يقُولُوا: هذِهِ فتنة، وقد نهُينا عن القِتال فِيها، وهذا مُخالِف لِلأمْرِ بِالأخذِ على أيدِي السُّفهاء. انتهى.
وقد أخرج البزَّار في حدِيث: "القاتِل والمقتُول في النَّار" زِيادة تُبيِّن المراد، وهِي:"إِذا اقتتلتُم على الدنيا، فالقاتِل والمقتُول في النَّار"، وُيؤيِّدهُ ما أخرجهُ مسلِم بِلفظِ:"لا تذهبُ الدُّنْيا حتى يأتِي على الناس زمان، لا يدْرِي القاتِل فِيم قتل، ولا المقتُول فِيم قُتِل"، فقِيل: كيف يكُون ذَلِكَ؛ قال: "الهرْج" القاتِل والمقتُول في النَّار".
قال القُرْطُبِيّ: فبيَّن هذا الحديث أنَّ القِتال، إِذا كان على جهل من طلب الدنيا، أوْ اتَّباع هوْى، فهُو الذِي أُرِيد بِقوْلِهِ:"القاتِل والمقتُول في النَّار".
قال الحافظ: ومِن ثمَّ كان الذين توقّفُوا عن القِتال في الجمل، وصفِّين أقلّ عددًا من الًذِين قاتلُوا، وكُلهم مُتأوِّل، مأجُور إن شاء اللَّه، بِخِلافِ من جاء بعدهُم مِمَّن قاتل على طلب الدُّنيا. انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهدا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي بكرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا- 4118/ 29 و 4119 و 4122 و 4123 و 4124 و 4125 - وفي "الكبرى" 29/ 3581 و 3582 و 3585 و 3586 و 3587 و 3588 و 3589.وأخرجه (خ) في "الإيمان" 31 و"الديات" 6875 و"الفتن" 7083 (م) في "الفتن"2888 (د) في "الفتن" 4268 (أحمد) في "مسند البصريين" 19908 و 19926 و 19959 و 19980 و 19995. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان تحريم قتل المسلم ظلمًا. (ومنها): أن قتل المسلم ظلمًا كبيرة، من الكبائر، يستحق بها النار. (ومنها): أن العبد يؤاخذ بالعزم على المعصية، وسيجيء في المسألة التالية أقوال أهل العلم في ذلك، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): أن أصحاب الكبائر لا يخرجون بارتكابها عن كونهم مؤمنين؛ لأن اللَّه سماهم مؤمنين، حيث قال:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]. وسمّاهم النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - مسلمين في حديث أبي بكرة، وأبي موسى - رضي اللَّه تعالى عنهما -، حيث قال: "إذا تواجه المسلمان
(1)
"فتح" 14/ 530 - 531 "كتاب الفتن".
بسيفيهما" الحديث. وبهذه الآية الكريمة، والحديث المذكور يُرد على الخوارج، والمعتزلة. (ومنها): ما قيل: إن لفظ "في النار" مشعر بتصويب مذهب المعتزلة، حيث قالوا بوجوب عقاب العاصي. وأجيب بالمنع؛ لأن معناه أن يدخل النار، إن لم يَعْفُ اللَّه عنه، وقد يعفو؛ لسبب من الأسباب، كالشفاعة، ونحوها. (ومنها): ما قيل: لم أدخل الحرص على القتل وهو صغيرة، في سلك القتل، وهو كبيرة؟.
وأجيب بأنه إنما أدخلهما في سلك واحد في مجرّد كونهما سببًا لدخول النار فقط، وإن تفاوتا صِغَرًا وكِبَرًا، وغير ذلك.
(ومنها): ما قيل: إن ظاهر عموم الحديث يشمل القاتل والمقتول من الصحابة - رضي اللَّه تعالى عنهم -. وأجيب بأن عموم الحديث مخصوصٌ بعدم الاجتهاد، وعدم ظنّ أن فيه الصلاح الدينيّ، فأما إذا كان عن اجتهاد، وظنّ صلاح دينيّ، فالقاتل والمقتول مأجوران مثابان، من أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر، وما وقع بين الصحابة فهو من هذا القسم، فإنهم كلهم مجتهدون، فلا يعمّهم الحديث. واللَّه تعالى أعلم.
(ومنها): ما قيل: إنما سمى اللَّه الطائفتين في الآية المذكورة مؤمنين، وسمّاهما النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - في هذا الحديث مسلمين، حال الالتقاء، لا حال القتال وبعده. وأجيب بأن دلالة الآية ظاهرة، فإن في قوله تعالى:{فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} الآية [الحجرات: 10]، سماهما اللَّه أخوين، وأمر بالإصلاح بينهما، ولأنهما عاصيان قبل القتال، وهو من حين سعيا إليه، وقصداه. وأما الحديث، فمحول على معنى الآية. أفاده العيني في "شرح البخاريّ"
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في المؤاخذة بالعزم:
وقال في "الفتح": واستدلّ بِقوْلِهِ: "إِنَّهُ كان حرِيصًا على قتل صاحِبه" من ذهب إِلى المؤاخذة بِالعزْم، وإن لم يقع الفِعل، وأجاب من لم يقُل بذلِك أنّ في هذا فِعلا، وهُو المواجهة بِالسِّلَاحِ، ووُقُوع القِتال، ولا يلزم من كوْن القًاتِل رالمقتُول في النَّار، أن يكُونا في مرْتبة وْاحِدة، فالقاتِل يُعذب على القِتال والقتل، والمقتول يُعذب على القِتال فقط، فلم يقع التعذِيب على العزم المُجرَّد.
قال: وقالوا في قوْله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، اختِيار باب الافتِعال في الشّرِّ؛ لِأنةُ يُشعِر بِانهُ لا بُد فِيهِ من المعالجة، بِخِلافِ الخير، فإنَّه يُثاب
(1)
"عمدة القاري" 1/ 5243 "كتاب الإيمان".
عليهِ بالنيةِ المُجرَّدة، وُيؤيّدهُ حدِيث:"إِنَّ اللَّه تجًاوز لأُمتِي ما حدّثت بِهِ أنفُسها، ما لم يتكلّمُوا بِهِ، أوْ يعملوا".
والحاصِل أن المراتِب ثلاث: الهم المُجرَّد، وهُو يُثاب عليهِ، ولا يُؤاخذ بِهِ، واقتِران الفِعْل بالهمَّ، أوْ بِالعزمِ، ولا نِزاع في المُؤَاخذة بِهِ، والعزْم، وهُو أقوى من الهَمّ، وفِيهِ النزاع. انتهى
(1)
.
وقال في "كتاب الرقاق" عِند الكلام على حديث: "ومنْ همَّ بِسيِّئةٍ، فلم يعملها، كتبها اللَّه عنده حسنة كاملة":
قال المازريّ: ذهب ابن الباقِلَّانيّ -يعني ومنْ تبِعهُ- إِلى أن من عزم على المعصية بِقلبِهِ، ووطَّن عليها نفسهُ، أنهُ يأثم، وحمل الأحادِيث الوارِدة في العفو عمن هَمَّ بِسيَّئةٍ، ولم يعملها على الخاطِرِ الذِي يمُرُّ بِالقلب، ولا يستقرّ.
قال المازريّ: وخالفهُ كثير من الفُقهاء، والمحدِّثِين، والمُتكلِّمِين، ونقل ذَلِكَ عن نصّ الشّافِعِيِّ، وُيؤيدُهُ قوْله في حدِيث أبِي هُريرة، فِيما أخرجهُ مُسلم، من طرِيق همّام عنهُ، بِلفظِ:"فأنَا أغفِرُها لهُ ما لم يعملها"، فإِنّ الظّاهِر أن المراد بِالعملِ هُنا عمل الجارِحة بِالمعصِيةِ المهموم بِهِ.
وتعقَّبهُ عِياض بِأن عامّة السلف، وأهل العِلم على ما قال ابْنِ الباقِلَّانِي؛ لاتفاقِهِم على المؤاخذة بِأعمالِ القُلُوِب، لكِنهُم قالُوا: إِنَّ العزم على السَّيّئة، يُكتب سيِّئة مُجرَّدة، لا السَّيِّئة التِي هم أن يعملها، كمن يأمر بِتحصِيلِ معصِية، ثُمَّ لا يفعلُها بعد حُصُولها، فإنَّه يأثم بِالأمرِ المذكور، لا بِالمعصِيةِ، ومِمّا يدُل على ذَلِكَ حدِيث:"إِذا التقى المسلِمانِ بِسيفيهِما، فالقاتِل والمقتُول في النَّار"، قِيل: هذا القاتِل، فما بالُ المقتُول؟ قال: إِنَّهُ كان حرِيصًا على قتل صاحِبهِ".
قال الحافظ: والذِي يظهر أنهُ من هذا الجِنس، وهُو أنهُ يُعاقب على عزمه، بِمِقدارِ ما يستحِقّهُ، ولا يُعاقب عِقاب من باشر القتل حِسًّا.
وهُنا قِسم آخرُ، وهُو من فعل المعصِية، ولم يتُب مِنها، ثُمَّ همَّ أن يعُود إِليها، فإنَّه يُعاقب على الإصرار، كما جزم بِهِ ابْنِ المبارك وغيره، في تفسِير قوْله تعالى:{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135]، وُيؤيِّدهُ أن الإصرار معصِية اتفاقًا، فمن عزم على المعصِية، وصمَّم عليها، كُتِبت عليهِ سيِّئة، فإذا عمِلها كُتِبت عليهِ معصِية ثانِية.
قال النّووِيّ: وهذا ظاهِرٌ حسنٌ، لا مزِيد عليهِ، وقد تظاهرت نُصُوص الشَّرِيعة
(1)
"فتح" 14/ 530 - 351. "كتاب الفتن" حديث رقم 7083.
بِالمؤاخذةِ على عزم القلب المستقر، كقوْلِهِ تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي} الآية [النور: 19]، وقوْله:{اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات: 12]، وغير ذَلِكَ.
وقال ابنُ الجوزيّ: إِذا حدّث نفسه بالمعصِيةِ، لم يُؤاخذ، فإِن عزم، وصمّم، زاد على حدِيث النفس، وهُو من عمل القلب. قال: والدلِيل على التّفرِيق بين الهمّ والعزم، أن من كان في الصلاة، فوقع في خاطِرِهِ أن يقطعها، لم تنقطِع، فإِن صَمَّمَ على قطعها بطلت. وأُجِيب عن القوْل الأوَّل، بِان المؤاخذة على أعمال القُلُوب المسْتقِلَّة بِالمعصِيةِ، لا تستلزِم المُؤاخذة على عمل القلب، بِقصدِ معصِية الجارِحة، إِذا لم يعمل المقصُود؛ لِلفرقِ بين ما هُو بالقصْدِ، وما هُو بِالوسِيلةِ.
وقَسَمَ بعضهم ما يقع في النفس أقسامّا، يظهر مِنها الجواب عن الثّانِي: أضعفُها أنْ يخطُر لهُ، ثُمَّ يذهب في الحال، وهذا من الوسوسة، وهُو معفُوْ عنهُ، وهُو دُون التّردُّد. وفوْقهُ أن يتردّد فِيهِ، فيهُم بِهِ، ثُمَّ ينفِر عنهُ، فيترُكهُ، ثُمَّ يَهُم بِهِ، ثُمَّ يترُك كذلِك، ولا يستمرُّ على قصْده. وهذا هُو التّردُّد، فيُعفى عنهُ أيضًا. وفوْقه أن يمِيل إِليهِ، ولا ينفِر عنهُ، لكِن لا يُصمّم على فِعله، وهذا هُو الهمّ، فيُعفى عنهُ أيضًا. وفوْقه أن يمِيل إِليهِ، ولا ينفِر مِنهُ، بل يُصمّم على فِعله، فهذا هُو العزمِ، وهُو مُتتهى الهمّ، وهُو على قِسمينِ:
القِسم الأوَّل: أن يكُونُ من أعمال القُلُوب صِرْفًا، كالشَّك في الوحدانِيَّة، أوْ النُّبُوْة، أوْ البعث، فهذا كُفر، ويُعاقب عليهِ جزمّا. ودُونه المعصِية التِي لا تصِل إِلى الكُفر، كمن يُحِبّ ما يُبغِض اللَّه، ويُنغِض ما يُحِبّهُ اللَّه، ويُحِب لِلمسلِم الأذى بِغيرِ مُوجِب لِذلِك، فهذا يأثم، ويلتحِق بِهِ الكِبر، والعُجْب، والبغي، والمكر، واحسد، وفِي بعض هذا خِلاف، فعن الحسنِ البصرِيّ أن سُوء الظن بِالمسلِم، وحسدهُ معفُوّ عنهُ، وحملُوهُ على ما يقع في النَّفس، مِمّا لا يُقدر على دفعه. لكِن من يقع لهُ ذَلِكَ مأمُور بِمُجاهدتِهِ النفس على ترْكه.
والقِسمِ الثانِي: أن يكُون من أعمال الجوارح، كالزِّنا والسَّرِقة فهُو الذِي وقع فِيهِ النزاع: فذهبت طائِفة إِلى عدم المؤاخذة بِذلِك أصلا، ونُقل عن نصّ الشّافِعِيّ، وُيؤيِّدهُ ما وقع في حدِيث خُريم بن فاتِك
(1)
فإِنَّه حيثُ ذكر الهمّ بِالحسنةِ، قال: "علِم اللَّه أنَّهُ
(1)
حديث خُريم بن فاتك - رضي اللَّه تعالى عنه - هو ما أخرجه أحمد -رحمه اللَّه تعالى- في "مسنده"، فقال:
18556 -
حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن، عن الرُّكَين بن الربيع،
عن أبيه، عن عمه فلان بن عَمِيلة، عن خريم بن فاتك الأسدي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الناس=
أشعرها قلبه وحرص عليها"، وحيثُ ذكر الهمّ بالسيَّئةِ، لم يُقيد بِشيء، بل قال فِيهِ: "ومن همّ بِسيئةٍ لم تُكتب عليهِ"، والمقام مقام الفضل، فلايليق التَّحْجِير فِيهِ.
وذهب كثِير من العُلماء إِلى المؤاخذة بِالعزمِ المصمم، وسأل ابنُ المُبارك سُفْيان الثورِي: أيُوْاخذُ العبد بما يَهُمُّ بِهِ؟ قال: إِذا جزم بذلِك. واستدلّ كثِير مِنهُم بِقوْلِهِ تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]، وحملُوا حدِيث أبِي هُريرة الصَّحِيح المرفُوع:"إِنَّ اللَّه تجاوز لِأُمَّتِي عمَّا حدّثت بِهِ أنفُسها، ما لم تعمل بِهِ، أو تكلَّم" على الخطرات.
ثُمَّ افترق هؤُلاءِ، فقالت طائِفة: يُعاقب عليهِ صاحِبُهُ في الدّنيا خاصَّة، بِنحوِ الهمّ والغمّ، وقالت طائِفة: بل يُعاقب عليهِ يوْم القِيامة، لكِن بالعِتاب، لا بالعذاب، وهذا قول ابْنِ جُريج، والرَّبِيع بن أنسِ، وطائفة، ونُسِب ذَلِكَ إِلى ابْنِ عبّاس أيضًا، واستدلُّوا بِحدِيثِ النَّجوْى
(1)
.
واستثنى جمًاعة، مِمّن ذهب إِلى عدم مُؤاخذة من وقع مِنهُ الهم بالمعصِيةِ، ما يقع في الحرم المكيّ، ولوْ لم يُصمِّم، لِقوْلِهِ تعالى:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحجّ: 25]، ذكرهُ السُّدِّيّ في تفسِيره عن مُرّة، عن ابْنِ مسعُود، وأخرجهُ أحمد مِن طرِيقه مرفُوعًا. ومِنهُم من رجَّحهُ موْقُوفا، ويُوْيِّد ذَلِكَ أن الحرم يجِبُ اعتِقاد تعظِيمه، فمن همّ بِالمعصِيةِ فِيهِ، خالف الواجِب بِانتِهاكِ حُرمتِهِ.
وتُعُقّب هذا البحث بِأنَّ تعظِيم اللَّه آكَدُ، مِن تعظِيمِ الحرم، ومع ذَلِكَ فمن هَمَّ
= أربعة، والأعمال ستة، فالناس مُوسَّع عليه في الدنيا والآخرة، وموسع له في الدنيا، مقتور عليه في الآخرة، ومقتور عليه في الدنيا، موسع عليه في الآخرة، وشقي في الدنيا والآخرة، والأعمال موجبتان، ومثل بمثل، وعشرة أضعاف، وسبع مائة ضعف، فالموجبتان من مات مسلما مؤمنا، لا يشرك باللَّه شيئًا، فوجبت له الجنة، ومن مات كافرا وجبت له النار، ومن هم بحسنة، فلم يعملها فعلم اللَّه أنه قد أشعرها قلبه، وَحَرَصَ عليها، كتبت له حسنة، ومن همّ بسيئة لم تكتب عليه، ومن عملها كتبت واحدة، ولم تضاعف عليه، ومن عمل حسنة كانت له بعشر أمثالها، ومن أنفق نفقة في سبيل اللَّه، كانت له بسبع مائة ضعف". وهذا الإسناد صحيح، رجاله رجال الصحيح، و"فلان بن عميلة": هو يُسير بن عميلة، ويقال له: أُسير، ثقة من الطبقة الثالثة.
(1)
حديث النجوى هو ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه"، بإسناده، عن صفوان بن مُحرِز، قال: بينا ابن عمر يطوف، إذ عرض رجل، فقال: يا أبا عبد الرحمن، أو قال: يا ابن عمر، سمعتَ النبي صلى الله عليه وسلم في النجوى، فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يُدنَى الموْمنُ من ربه، حتى يضع عليه كَنَفَه، فيُقرّره بذنو به، تعرف ذنب كذا، يقول: أعرف، يقول: رب أعرف مرتين، فيقول: سترتها في الدنيا، وأغفرها لك اليوم، ثم تطوى صحيفة حسناته، وأما الآخرون، أو الكفار، فينادى على رءوس الأشهاد:{هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} .
بِمعصِيتِهِ، لا يُؤاخِذُهُ، فكيف يُؤاخذ بِما دُونه؟.
وُيمكِن أن يُجاب عن هذا، بِأن اتتهاك حُرْمة الحرم بالمعصية، تستلزم انتهاك حُرْمة اللَّه، لأن تعظِيم الحرم من تعظِيم اللَّه، فصارت المعصية في الحرم، أشَدَّ من المعصية في غيره، وإن اشترك الجميع في ترْك تعظِيم اللَّه تعالى.
نعم من هَمّ بالمعصية، قاصِدًا الاستِخفاف بالحرم عصى، ومنْ هَمّ بِمعصِيةِ اللَّه، قاصِدًا الاستِخفاف باللهِ كفر، وإنما المعفو عنهُ من هَمَّ بعصية، ذاهِلا عن قضد الاستِخفاف. قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وهذا تفصِيل جيد، يتبغِي أن يُستحضر عِند شرحِ حدِيث "لا يزنِي الزانِي، وهُو مُوْمِن".
وقال السُّبكِيّ الكبير: الهاجس لا يُؤاخذ بِهِ إِجماعًا، والخاطِر، وهُو جريان ذَلِكَ الهاجِس، وحدِيثُ النفس، لا يُؤاخذ بهِما؛ لِحدِيثِ المُشار إِليهِ، والهمّ، وهُو قصد فِعل المعصية مع التّردُّد، لا يُؤاخذ بِهِ؛ لحدِيث الباب، والعزم -وهُو قوة ذَلِكَ القصد أوْ الجزْم بِهِ، ورفع التَّردُّد- قال المُحقِّقُون: يُؤاخذ بِهِ، وقال بعْضهِم: لا، واحتجَّ بقوْلِ أهل اللّغة: هم بالشيءِ، عزم عليهِ، وهذا لا يكفِي. قال: ومِن أدِلّة الأوَّل حدِيث "إِذا التقى المسْلِمانِ بِسيفيهِما" الحدِيث، وفِيهِ أنَّهُ كان حرِيصًا على قتل صاحِبِهِ، فعُلِّل بِالحرْصِ.
واحتجَّ بعضهم بأعمالِ القُلُوب، ولا حُجة معهُ؛ لِأنها على قِسمينِ:
[أحدُهُما]: لا يتًعلق بفِعل خارِجِيَّ، وليس البحث فِيهِ.
[والثاني]: يتعلّق بِالمُلتقِيَينِ، عزم كُل مِنهُما على قتل صاحِبِهِ، واقترن بِعزمِهِ فِعل بعض ما عزم عليهِ، وهُو شهر السِّلاح، وإشارته بِهِ إِلى الآخر، فهذا الفِعل يُؤاخذ بِهِ، سواء حضل القتل أم لا. انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا التفصيل الذي قاله السبكيّ -رحمه اللَّه تعالى- حسنٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[فائدة]: استثنى بعض العُلماء من حديث: "فإن هم بسيئة، فعملها، كُتبت له سيئة واحدة" وُقُوع المعصية في الحرم المكّيِّ. قال إِسحاق بن منصُور: قُلت لِأحمد: هل ورد في شيء من الحديث، أنّ السَّيئة تُكتب بأكثر من واحِدة؟ قال: لا، ما سمِعْت، إِلا بِمكة؛ لِتعظِيم البلد.
والجمهُور على التعمِيم، في الأزمِنة والأمْكِنة، لكِن قدْ يتفاوتُ بِالعِظم.
ولا يرِدُ على ذَلِكَ قوْله تعالى: {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ
(1)
"فتح" 13/ 122 - 127 "كتاب الرقاق". حديث: 6491
ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30]؛ لأن ذَلِكَ ورد تعظِيمًا لِحقّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن وُقُوع ذَلِكَ من نِسائهِ، يقتضِي أمرًا زائِدًا على الفاحِشةِ، وهُو أذى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم. أفاده في "الفتح"
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4119 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: "إِذَا حَمَلَ الرَّجُلَانِ الْمُسْلِمَانِ السِّلَاحَ، أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ، فَهُمَا عَلَى جُرُفِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا قَتَلَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فَهُمَا فِي النَّارِ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن سليمان": هو أبو الحسين الرُّهاويّ الثقة الحافظ [11] من أفراد المصنّف. و"يعلى": هو ابن عُبيد ابن أُميّة الطنافسيّ، أبو يوسف الكوفيّ، ثقة، إلا في حديثه عن الثوريّ، ففيه ليّن، من كبار [9] 105/ 140. و"سفيان": هو الثوريّ.
والحديث بهذا السند موقوف، وقفه سفيان، عن منصور، وخالفه شعبة في روايته التي قبل هذه، فرفعه، وهو الأرجح؛ لموافقة روايته لرواية الأحنف بن قيس عن أبي بكرة الآتية، ولذا اتّفق الشيخان على تخريج الحديث مرفوعًا، فقد أخرجاه من رواية الأحنف، عن أبي بكرة - رضي اللَّه تعالى عنه -، وأخرجه مسلم من رواية ربعيّ، عن أبي بكرة - رضي اللَّه تعالى عنه -.
والحاصل أن الحديث صحيح مرفوعًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4120 -
(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا، فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَهُمَا فِي النَّارِ» ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الْقَاتِلُ ،فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ ، قَالَ: «أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن إسماعيل": هو المعروف أبوه بابن عليّة، البصريّ، نزيل دمشق، وقاضيها، ثقة [11]. 22/ 489 من أفراد المصنّف. و"يزيد": هو ابن هارون الواسطيّ الثقة الثبت العابد [9] 153/ 244. و"سليمان التيميّ": هو ابن طرخان، أبو المعتمر البصريّ، ثقة عابدٌ [4]. 87/ 107. و"الحسن": هو ابن أبي الحسن يسار البصريّ الإمام الثقة الحجة الفقيه [4] 32/ 36.
و"أبو موسى": هو عبد اللَّه بن قيس بن سُليم بن حضّار الأشعريّ الصحابيّ الشهير
(1)
"فتح" 13/ 127 "كتاب الرقاق".
- رضي اللَّه تعالى عنه -، أمّره عمر، ثم عثمان، وهو أحد الحكمينِ بصِفّين، مات سنة (50) وقيل: بعدها، وتقدّمت ترجمته في 3/ 3.
وقوله: "هذا القاتل" قال الكرمانيّ: هو مبتدأ وخبر: أي هذا يستحق النار؛ لأنه قاتل، فالمقتول لِمَ يستحقّها؟ وهو مظلوم. قال العينيّ: الأولى أن يقال: "هذا" مبتدأ، و"القاتل" مبتدأ ثانٍ، وخبره محذوف، والجملة خبر المبتدإ الأول، والتقدير: هذا القاتل يستحقّ النار لكونه ظالمًا، فما بال المقتول؟ وهو مظلوم. ونظيره: هذا زيدٌ عالمٌ، وقد عُلم أن المبتدأ إذا اتحد بالخبر لا يحتاج إلى ضمير، ومنه قوله تعالى:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} الآية [الأعراف: 26]، وقوله - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -:"أفضل ما قلتُ أنا، والنبيّون من قبلي: لا إله إلا اللَّه". انتهى
(1)
.
وقوله: "أراد قتل صاحبه"، وفي رواية أبي بكرة الآتية:"إنه كان حريصًا على قتل صاحبه".
والمراد أنه كان حريصًا على قتله، مع السعي في أسبابه؛ لأنه توجّه بسيفه، فليس هذا من باب المؤاخذة بمجرّد نيّة القلب بدون عمل، كما تقدّم تحقيقه.
والحديث فيه انقطاع، فقد قال ابن المدينيّ: لم يسمع الحسن من أبي موسى، وقال أبو حاتم، وأبو زرعة: لم يره، انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب"1/ 390 - .
والحاصل أن حديث أبي موسى هذا غير صحيح، وإنما الصحيح حديث أبي بكرة - رضي اللَّه تعالى عنه -، فقد أخرجه الشيخان، وغيرهما، كما تقدّم، ويأتي أيضًا. واللَّه تعالى أعلم.
وهذا الحديث أخرجه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- هنا -29/ 4120 و 4120 و 4126 - وفي "الكبرى" 29/ 3583 و 3584 و 3589. وأخرجه ابن ماجه في "الفتن" 3964 و 19199. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4121 -
(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -وَهُوَ ابْنُ هَارُونَ- قَالَ: أَنْبَأَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا، فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَهُمَا فِي النَّارِ، مِثْلَهُ سَوَاءً»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "سعيد": هو ابن أبي عَرُوبة، و"قتادة": هو ابن دِعامة.
(1)
"عمدة القاري" 1/ 242 "كتاب الإيمان".
وقوله: "مثله" منصوب على الحاليّة، أي كون الحديث مثله. يعني أن رواية سعيد، عن قتادة، عن الحسن، مثلُ رواية سليمان التيميّ، عن الحسن. وقوله:"سواءٌ" حال مؤكدة لـ "مثله"، إذ المراد بـ"مثله" أن لفظ حديث قتادة كلفظ حديث سليمان، لا تفاوت بينهما، وهذا هو معنى "سواء". وقد تقدّم البحث عن قول المحدّثين "مثله"، و"نحوه"، غير مرّة.
والحديث فيه انقطاعٌ، كما سبق الكلام عليه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4122 -
(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْمِصِّيصِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَلَفٌ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُرِيدُ قَتْلَ صَاحِبِهِ، فَهُمَا فِي النَّارِ» ، قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عليّ بن محمد بن عليّ المِصّيصيّ": هو ابن الْمَضَاء القاضي، ثقة [11] من أفراد المصنّف.
و"خلف": هو ابن تميم بن أبي عتّاب، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، نزيل الْمِصّيصة، صدوقٌ، عابدٌ [9] 83/ 2415.
و"زائدة": هو ابن قُدامة. و"هشام": هو ابن حبّان القُرْدُوسيّ البصريّ. و"الحسن": هو البصريّ المتقدّم.
والحديث فيه عنعنة الحسن، وهو مدلس، وقد اختُلف في سماعه من أبي بكرة - رضي اللَّه تعالى عنه -، فقد أنكر الدارقطنيّ سماعه من أبي بكرة - رضي اللَّه تعالى عنه -، وقال: بينهما الأحنف، لكن الصحيح أنه ثبت سماعه منه، ففي "صحيح البخاريّ" من طريق إسرائيل بن موسى، عن الحسن، قال: ولقد سمعت أبا بكرة، قال:"بينا النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - يخطب، جاء الحسن، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم: ابني هذا سيّدٌ، ولعلّ اللَّه يُصلح به بين فئتين من المسلمين".
(1)
.
ثم إنَّ الحسن، وإن قلنا بسماعه من أبي بكرة، لكنّه لم يصرح هنا بالسماع، إلا أن واسطته، ثقة مشهور، وهو الأحنف، فلا يضرّ، بصحّة الحديث.
والحاصل أن حديث الحسن عن أبي بكرة - رضي اللَّه تعالى عنه - صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
(1)
راجع "الفتح" 14/ 565 - 570 "كتاب الفتن".
4123 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْخَلِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي قَتَادَةُ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا، فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الخليل بن عُمر بن إبراهيم" العبديّ، أبو محمد البصريّ، صدوقٌ، ربّما خالف [9].
قال يعقوب بن شيبة: ذكر عليّ بن المدينيّ الخليل يومًا، فقال: هو أحبّ إليّ من شاذ بن فيّاض. قال يعقوب: وقد كتبت عنهما، وهما ثقتان. غوقال يره عن عليّ بن المدينيّ: كان من أهل القرآن. وقال العقيليّ: يُخالفُ في بعض حديثه. وذكره ابن حبّان في " الثقات"، وقال: يُعتبر حديثه من روايته عن غير أبيه؛ لأن أباه كان واهيًا، والمناكير في أخباره من ناحية أبيه، فإذا سُبر ما روى عن غير أبيه، وُجد أشياء مُستقيمة. ذكره أبو القاسم بن أبي عبد اللَّه بن منده فيمن مات سنة (220) روى له المصنّف هذا الحديث فقط، وأبو داود في "القدر".
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: في قول ابن حبّان: الآن أباه كان واهيًا، فيه نظر؛ لأنه ليس واهيًا، كما يتبيّن من ترجمة بعدُ، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.
و"ابوه" هو: عمر بن إبراهيم" العبديّ، أبو حفص البصريّ، صاحب الْهَرَويّ بفتح الهاء، والراء- صدوقٌ، في حديثه عن قتادة ضعف [7].
قال حربٌ: قلت لأحمد: تعرفه؟ قال: نعم ثقة، لا أعلم إلا خيرًا. وقال يعقوب بن شيبة: سمعت أحمد سُئل عنه؟ قال: قال عبد الصمد: أخرج إلينا كتابًا في لوح، قال: وكان عبد الصمد يحمده. قال أحمد: وهو يروي عن قتادة أحاديث مناكير، يُخالف، قال: وقد روى عبّاد بن العوّام عنه حديثًا منكرًا. وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: صالح. وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه، ولا يُحجّ به. وقال أحمد بن الدَّوْرقيّ، وعليّ بن مسلم، عن عبد الصمد: حدّثنا عمر بن إبراهيم، وكان ثقة، وفوق الثقة. وقال ابن عديّ: يروي عن قتادة أشياء لا يُوافق عليها، وحديثه خاصة عن قتادة مضطرب. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: يُخطىء، ويُخالف. وذكره في "الضعفاء"، فقال: كان ممن ينفرد عن قتادة بما لا يُشبه حديثه، فلا يُعجبني الاحتجاج به إذا انفرد، فأما فيما رَوَى عن الثقات، فإن اعتبر به معتبر لم أر بذلك بأسًا. وقال البَرْقَاني، عن الدارقطنيّ: ليّن، يُترك. وقال أبو بكر البزّار: ليس بالحافظ. روى له المصنّف هذا الحديث فقط، وأبو داود في "القدر"، والترمذيّ، وابن ماجه.
والحديث سبق الكلام فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4124 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ فَضَالَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ «إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا، فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ:«إِنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ»
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، أحمد ابن فضالة -بفتح الفاء- أبي المنذر النسائيّ، فإنه من أفراده، وهو صدوقٌ، ربّما أخطأ [11]. 26/ 2664.
و"عبد الرزّاق": هو ابن همّام الصنعانيّ. و"معمر": هو ابن راشد الصنعانيّ. و"أيوب": هو ابن أبي تمِيمة السختيانيّ.
و"الأحنف": هو ابن قيس بن معاوية بن حُصين التميميّ السعديّ، اسمه الضحّاك، وقيل: صخر، ثقة مخضرم، وقد رأى النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، لكن قبل إسلامه، وكان رئيس بني تميم في الإسلام، وبه يُضرب المثل في الحلم [2] 44/ 3182.
[تنبيه]: للأحنف بن قيس في هذا الحديث قصّة ساقها في "الصحيحين"، من طريق حمّاد بن زيد، عن أيوب، ويونس، عن الحسن، عن الأحنف بن قيس، قال: ذهبت لأنصر هذا الرجل، فلقيني أبو بكرة، فقال: أين تريد؟ قلت: أنصر هذا الرجل، قال: ارجع، فإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار"، فقلت: يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال:"إنه كان حريصا على قتل صاحبه".
والمراد بقوله: هذا الرجل، عليّ بن أبي طالب - رضي اللَّه تعالى عنه -، ففي رواية لمسلم:"ذهبت نُصرة ابن عمّ رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم يعني عليّا".
قال في "الفتح": وكان الأحنف أراد أن يخرُج بقومه إلى عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه - ليقاتل معه يوم الجمل، فنهاه أبو بكرة، فرجع، وحمل أبو بكرة الحديث على عمومه في كلّ مسلمين التقيا بسيفيهما؛ حسمًا للمادّة، وإلا فالحقّ أنه محمول على ما إذا كان
(1)
ولفظ "الكبرى": "إنه أراد أن يقتُل أخاه".
القتال منهما بغير تأويل سائغ، كما قدّمنا، ويُخصّ ذلك من عموم الحديث المتقدِّم بدليله الخاصّ في قتال أهل البغي، وقد رجع الأحنف عن رأي أبي بكرة في ذلك، وشهِد مع عدي باقي حروبه. انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(تتبيه آخر): ورد فراعتِزال الأخنفِ القِتال، في وقعة الجملِ سببٌ آخرُ، فأخرج الطَّبريّ بِسندٍ صحِيح، عن حُصينِ بن عبد الرَّحمن، عن عمرو بن جاوان، قال: "قُلت لهُ: أرأيت اعتِزال الأخنف ما كان؟ قال: سمِعت الأخنف قال: حججنا، فإِذا الناس مُجتمِعُون في وسط المسجد يعني النّبوِي- وفِيهِم عليّ، والزبير، وطلحة، وسعد، إِذ جاء عُثمان، فذكر قِصة مُناشدته لهُم في ذِكر مناقِبه، قال الأحنف: فلقِيت طلحة، والزُّبير، فقُلت: إِني لا أرى هذا الرجُل يعني عُثمان- إِلا مقتُولا، فمن تأمُرانِي بِهِ؟ قالا: عليّ، فقدِمنا مكة، فلقِيت عائشة، وقد بلغنا قتل عُثمان، فقُلت لها: من تأمُرِينِي بِهِ؟ قالت: عليّ، قال: فرجعنا إِلى المدِينة، فبايعت عَليًّا، ورجعت إِلى البصرة، فبينما نحنُ كذلِك، إِذ أتانِي آتٍ، فقال: هذِه عائِشة، وطلحة، والزبير، نزلُوا بِجانِب الخريبة، يستنصِرُون بِك، فأتيت عائِشة، فذكرْتها بِما قالت لي، ثُمَّ أتيت طلحة والزبير، فذكَّرتهما، فذكر القِصة وفِيها: قال: فقُلت: واللَّه لا أُقاتِلكُم، ومعكُم أُمّ المؤمِنِين، وحوارِيّ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا أُقاتِل رجُلا أمرتُمُونِي بِبيعتِهِ، فاعتزل القِتال مع الفريقينِ.
قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: ويُمكِن الجمع بِأئهُ هم بِالترْكِ، ثُمَّ بدا لهُ في القِتال مِع علِي، ثُمَّ ثبطهُ عن ذَلِكَ أبُو بكرة، أوْ هَمَّ بِالقِتالِ مع عليّ، فثبَّطهُ أبُو بكرة، وصادف مُراسلة عائشة لهُ، فرجح عِندهُ التَّرْك.
وأخرج الطّبرِيُّ أيضًا من طرِيق قتادة، قال: نزل عليّ بِالزَّاوِيةِ، فأرسل إِليهِ الأحنف: إن شِئت أتيتُك، وإن شِئت كففت عنك أربعة آلاف سيف، فأرسل إِليهِ: كُفَّ من قدرت على كفه. انتهى
(2)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تخريجه أوّل الباب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4125 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ أَيُّوبَ، وَيُونُسَ، وَالْعَلَاءِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا الْتَقَى
(1)
"فتح" 1/ 120 "كتاب الإيمان" حديث 31.
(2)
"فتح" 14/ 531. "كتاب الفتن" حديث 7083.
الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا، فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن عبدة": هو الضبيّ، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقة رُمي بالنصب [10]. 3/ 3.
و"حمّاد": هو ابن زيد. و"أيوب": هو السختيانيّ. و"يونس": هو ابن عُبيد.
و"المعلى بن زياد" الْقُرْدوسيّ بقاف أبو الحسين البصريّ، صدوقٌ، قليل الحديث، زاهد، اختلف قول ابن معين فيه [7].
قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين، وأبو حاتم: ثقة. وعن أحمد بن سعيد بن أبي مريم، قال: سألت ابن معين، عن معلّى بن زياد؛ فقال: ليس بشيء، ولا يُكتب حديثه. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن عدي: هو معدود من زُهّاد أهل البصرة، ولا أرى بروايته بأسًا، ولا أدري من أين قال ابن معين: لا يُكتب حديثه. انتهى. وقال أبو بكر البزّار: ثقة. استشهد به البخاريّ، وأخرج له الباقون.
[تنبيه]: في هذا السند غلط فاحش، في جميع نسخ "المجتبى" التي بين يديّ، حيث وقع فيه "العلاء بن زياد"، بدل "المعلّى بن زياد"، وهو تصحيفٌ فاحشٌ، والصواب:"المعلّى بن زياد"، كما في "الكبرى" 2/ 316 - و"تحفة الأشراف" 36 - 37 - وهو الذي في "الصحيحين". فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.
والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4126 -
(أَخْبَرَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ- عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا، فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: «إِنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "مجاهد بن موسى": هو الْخُوَارَزميّ الْخُتَّليّ، أبو عليّ، نزيل بغداد، ثقة [10] 85/ 102.
و"يونس": هو ابن عُبيد.
والحديث صحيحٌ، وقد سبق البحث فيه في 4120 - فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4127 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ، يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أحمد بن عبد اللَّه بن الحكم) المعروف بـ "ابن الْكُرْديّ"، أبو الحسين البصريّ، ثقة [10] 39/ 583
2 -
(محمد بن جعفر) المعروف بـ "غندر"، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقة صحيح الكتاب [9] 21/ 22
3 -
(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة المشهور [7] 27/ 24.
4 -
(واقد بن محمد بن زيد) بن عبد اللَّه بن عمر العدويّ المدنيّ، ثقة [6].
قال أحمد، وابن معين، وأبو داود: ثقة. وقال ابن معين مرّة أخرى: صالح الحديث. وقال أبو حاتم: لا بأس به، ثقة، يُحتجّ بحديثه. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له الجماعة، سوى الترمذيّ، وابن ماجه، وله عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
5 -
(أبوه) محمد بن زيد بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب القرشيّ العدويّ المدنيّ، ثقة [3].
قال أبو زرعة: ثقة. وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: ثقة، قال: قلت: يُحتجّ بحديثه؟ قال: نعم. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له الجماعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
6 -
(ابن عمر) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بثقات البصريين، والثاني بثقات المدنيين. (ومنها): أن فيه رواية الابن، عن أبيه، عن جدّه، وتابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ) العدويّ المدنيّ (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ) محمد بن زيد (يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ) بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى عنهما - (عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "لَا تَرْجِعُوا) أي لا تصيروا، قال ابن مالك:"رجع" هنا استُعمل استعمال "صار" معنًى، وعملاً: أي لا تصيروا بعدي كُفّارًا، فعلى هذا "كُفّارًا" منصوب؛ لأنه خبر "لا ترجعوا"(بَعْدِي) أي
بعد موتي، أو بعد مجلسي هذا.
وقال العينيّ -رحمه اللَّه تعالى-: قال الطبريّ: أي بعد فراقي في موقفي هذا. وقال غيره: خلافي، أي لا تخلفوني في أنفسكم بعد الذي أمرتكم به. ويحتمل أنه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - عَلِم أن هذا لا يكون في حياته، فنهاهم عنه بعد وفاته. وقال المظهري: يعني إذا فارقت الدنيا، فأثبتوا بعدي على ما أنتم عليه من الإيمان والتقوى، وِلا تُحاربوا المسلمين، ولا تاخذوا أموالهم بالباطل. وقال يحيى السنّة: أي لا تكن أفعالكم شبيهةً بأفعال الكفّار في ضرب رقاب المسلمين. انتهى كلام العيني -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-
(1)
.
وقوله (كُفَّارًا) ذكر في "الفتح" جملة ما قيل في معناه، وهي عشرة أقوال:
[أحدها]: قول الخوارج: إنه على ظاهره.
[ثانيها]: هو في المستحلّ.
[ثالثها]: المعنى كُفّارًا بحرمة الدماء، وحرمة المسلمين، وحقوق الدين.
[رابعها]: تفعلون فعل الكفّار في قتل بعضهم بعضًا.
[خامسها]: لابسين السلاحِ، يقال: كَفَرَ دِرْعه: إذا لبس فوقها ثوبا.
[سادسها]: كُفّارًا بنعمة اللَّه.
[سابعها]: المراد الزجر عن الفعل، وليس ظاهره مرادًا.
[ثامنها]: لا يُكَفِّر بعضكم بعضًا، كان يقول أحد الفريقين للآخر: يا كافر، فَيَكْفُرُ أحدهما
(2)
.
[تاسعها]: المراد سَتْرُ الحقّ، والكفر لغةً الستر؛ لأن حقّ المسلم على المسلم أن ينصره، ويُعينه، فلما قاتله كأنه غطّى على حقّه الثابت له عليه.
[عاشرها]: أن الفعل المذكور يُفضي إلى الكفر؛ لأن من اعتاد الهُجُوم على كبار المعاصي جرّه شؤم ذلك إلى أشدّ منها، فيُخشى أن لا يُختَم له بخاتمة الإسلام.
قال: واستشكل بعض الشرّاح غالب هذه الأجوبة بأنّ راوي الخبر، وهو أبو بكرة، فَهِم خلاف ذلك.
والجواب أن فهمه ذلك إنما يُعرف من توقفه عن القتال، واحتجاجه بهذا الحديث، فيحتمل أن يكون توقّفه بطريق الاحتياط؛ لما يحتمله ظاهر اللفظ، ولا يلزم أن يكون يعتقد حقيقة كفر من باشر ذلك. ويؤيّده أنه لم يمتنع من الصلاة خلفهم، ولا امتثال
(1)
"عمدة القاري" 2/ 155 "كتاب العلم".
(2)
"فتح" 14/ 174 - 175. "كتاب الديات". حديث 6875.
أوامرهم، ولا غير ذلك، مما يدلّ على أنه يعتقد فيهم حقيقته. انتهى
(1)
.
(يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) بجزم "يضرب" على أنه جواب النهي، وبرفعه على الاستئناف، أو يُجعل حالاً، فعلى الأول يُقوّي الحمل على الكفر الحقيقيّ، ويحتاج إلى التأويل بالمستحلّ مثلاً، وعلى الثاني لا يكون متعلّقًا بما قبله. ويحتمل أن يكون متعلّقًا، وجوابه ما تقدّم. قاله في "الفتح"
(2)
.
وقال العينيّ -رحمه اللَّه تعالى-: قوله: "يضرب" برفع الباء
(3)
، وهو الصواب، وهو الرواية التي رواها المتقدّمون والمتأخّرون، وفيه وجوه:
[أحدها]: أن يكون صفة لكفّار: أي لا ترجعوا بعدي كُفّارًا، متّصفين بهذه الصفة القبيحة، يعني ضرب بعضكم رقاب بعض.
[والثاني]: أن يكون حالاً من ضمير "لا ترجعوا": أي لا ترجعوا بعدي كُفّارًا حال ضرب بعضكم رقاب بعض.
[والثالث]: أن يكون جملة استئنافيةً، كأنه قيل: كيف يكون الرجوع كفّارًا؟ فقال: يضرب بعضكم رقاب بعض.
فعلى الأول يجوز أن يكون معناه: لا ترجعوا عن الدين بعدي، فتصيروا مرتدّين، مقاتلين، يضرب بعضكم رقاب بعض بغير حقّ على وجه التحقيق، وأن يكون لا ترجعوا كالكفّار المقاتل بعضكم بعضًا على وجه التشبيه بحذف أداته.
وعلى الثاني يجوز أن يكون معناه: لا تكفروا حال ضرب بعضكم رقاب بعض لأمر يعرِض بينكم؛ لاستحلال القتل بغير حقّ، وأن يكون لا ترجعوا حال المقاتلة لذلك كالكفّار في الانهماك في تهييج الشرِّ، وإثارة الفتن بغير إشفاق منكم بعضكم على بعض في ضرب الرقاب.
وعلى الثالث: يجوز أن يكون معناه: لا يضرب بعضكم رقاب بعض بغير حقّ، فإنه فعل الكفّار، وأن يكون "لا يضربُ بعضكم رقاب بعض"، كفعل الكفّار على ما تقدّم.
وجوّز ابن مالك، وأبو البقاء جزم الباء على أنه بدل من "لا ترجعوا"، وأن يكون جزاءً لشرط مقدّر على مذهب الكسائيّ: أي فإن رجعتم يضرب بعضكم رقاب بعض. وقيل: يجوز الجزم بأن يكون جوابَ النهي على مذهب من يُجوّز "لا تكفرْ، تدخلِ النار".
(1)
"فتح" 14/ 521 "كتاب الفتن" حديث 7077.
(2)
"فتح" 14/ 521. حديث 7077.
(3)
فيه تسامحٌ، إذ الصواب بالرفع.
وقال القاضي عياض: رواه من لم يضبط "يضرب" بالإسكان، وهو إحالة للمعنى، والصواب ضمّ الباء، نهاهم عن التشبه بالكفّار، فتشبّهوا بهم في حالة قتل بعضهم بعضًا، ومُحاربة بعضهم لبعضٍ. وهذا أولى ما يتأوّل عليه الحديث. ويؤيّده ما رُوي
(1)
مما جرى بين الأنصار بمحاولة يهود، وتذكيرهم أيامهم، ودخولهم في الجاهليّة، حتى ثار بعضهم إلى بعض في السلاح، فنزلت:{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ} الآية [آل عمران: 101]. أي تفعلون فعل الكفّار، أو نهاهم عن إظهار جحد ما أمرهم به، من تحريم دمائهم، وكفرهم في ذلك بقتالهم، لا بقولهم، واعتقادهم، أو أن يَتكفّروا في السلاح يقتل بعضهم بعضًا، أو عن كفر نعمة اللَّه بتأليف قلوبهم، وتودّدهم، وتراحمهم الذي به صلاحهم بأن رجعوا إلى ضدّ ذلك.
وعلى سكون الباء فإنها نهي عن الكفر مجرّدًا، ثم يجيء ضرب الرقاب جواب النهي، ومجازات الكفر، ومساق الخبر، ومفهومه يدلّ على النهي عن ضرب الرقاب، والنهي عفا قبله بسببه. وقال الخطّابيّ: معناه: لا يُكفّر بعضكم بعضًا، فتستحلّوا قتال بعضكم بعضًا.
انتهى كلام القاضي عياض -رحمه اللَّه تعالى-
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عبد اللَّه بن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا- 29/ 4127 و 4128 وفي "الكبرى" 29/ 3590 و3591 وأخرجه (خ) في "الأدب" 6166 و"الديات" 6868 و"الفتن" 7077 (م) في "الإيمان" 65 و 66 (د) في "السنّة 4686 (ق) في "الفتن" 3943 (أحمد) في "مسند المكثرين" 5553 و 5572 و 5775. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان تحريم دم المسلم.
(ومنها): أن فيه تحذير الأمّة من وقوع ما يحذر منه. (ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله
(1)
ذكره ابن هشام في "سيرته" 2/ 184 والحافظ في "الإصابة" 1/ 88.
(2)
"إكمال المعلم بفوائد مسلم" 1/ 323 - 324. "كتاب الإيمان".
تَعَالَى -: وفيه ما يدلّ على أن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - كان يعلم ما يكون بعده في أمّته من الفتن، والتقاتل، ويدلّ أيضًا على قرب وقوع ذلك من زمانه، فإنه خاطب بذلك أصحابه، وظاهره أنه أرادهم؛ لأنه بهم أعنى، وعليهم أحنَى، ويحتمِلُ غير ذلك. انتهى
(1)
.
(ومنها): ما قاله المازريّ -رحمه اللَّه تعالى-: أنه تعلق بهذا الحديث من أنكر حجيّة الإجماع، من أهل البدع، قال: لأنه نهى الأمة بأسرها عن الكفر، ولولا جواز اجتماعها عليه، لما نهاها عنه، هاذا جاز اجتماعها على الكفر، فغيره من الضلالات أولى، وإذا كان ممنوعًا اجتماعها عليه لم يصحّ النهي عنه.
وهذا الذي قاله خطأ؛ لأنّا إنما نشترط في التكليف أن يكون ممكنًا متأتّيًا من المكلّف، هذا أيضًا على رأي من منع تكليف ما لا يُطاق، واجتماع الأمة على الكفر، وإن كان ممتنعًا، فإنه لم يمتنع من جهة أنه لا يمكن، ولا يتأتّى، ولكن من جهة خبر الصادق عنه أنه لا يقع، وقد قال اللَّه تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} الآية [الزمر: 65] والشرك قد عُصم منه النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، وبعد هذا نزل عليه مثل هذا، على أن المراد بهذا الخطاب كلّ واحد في عينه، أو جمهور الناس، وهذا لا يُنكر أحدٌ أن يكون مما يصحّ حمل هذا الخطاب عليه. انتهى المقصود من كلام القاضي
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4128 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، لَا يُؤْخَذُ الرَّجُلُ بِجِنَايَةِ أَبِيهِ، وَلَا جِنَايَةِ أَخِيهِ» .
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ مُرْسَلٌ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أبو أحمد الزبيري": هو محمد بن عبد اللَّه بن الزبير الكوفيّ، ثقة ثبت، [9] 34/ 2239.
[تنبيه]: "الزبيريّ" بضمّ الزاي، مصغّرًا: نسبة إلى زبير جدّه، ووقع في "الكبرى""الزُّبيديّ" بالدل المهملة، بدل الزاي، وهو تصحيف فاحشٌ، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.
و"شريك": هو ابن عبد اللَّه النخعيّ الكوفيّ القاضي.
(1)
"المفهم" 1/ 256 "كتاب الإيمان".
(2)
"إكمال المعلم بفوائد مسلم" 1/ 323. "كتاب الإيمان".
و"أبو الضّحى": هو مسلم بن صُبيح الكوفيّ، ثقة فاضلٌ [4] 96/ 123.
والسند مسلسل بالكوفيّين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وفيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن أبي الضّحى، عن مسروق.
وقوله: "لا يؤخذ الرجل بجناية أبيه الخ" يعني أنه لا يجوز أن يؤاخذ أحدٌ بسبب جناية أبيه، أو أخيه، بأن يجب عليهما القصاص، أو الحدّ، أو يُتلفا شيئًا، فلا يُقتصّ منه، ولا يقام عليه الحدّ، ولا يضمن ما أتلفا، هذا في العمد، وأما الخطأ، فإن العاقلة تتحمّل الدية عن الجاني.
ويحتمل أن يكون المراد المؤاخذة في الآخرة، فلا يعاقب أحدٌ بسبب جناية أبيه، أو أخيه.
[فإن قيل]: إنه قد يُعاقب بسببهما، وذلك إذا تركهما يفعلان الجناية، وهو يقدر على الأخذ بأيديهما.
[أجيب]: بأن هذه المعاقبة بفعل نفسه، لا فعلهما، حيث ترك واجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. واللَّه تعالى أعلم.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا 29/ 4129 و4130و4131 - وفي "الكبرى" 29/ 3591 و 3592 و 3593 و 3594. وهو ضعيف؛ لأن في سنده شريكًا النخعيّ القاضي، وهو كثير الخطإ، وتغيّر حفظه، وقد خالف في وصله غيره من حفّاظ أصحاب الأعمش، كما سيشير المصنّف إلى ذلك، في قولِهِ: (قَالَ: أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ) النسائيّ -رحمه اللَّه تعالى- (هَذَا خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ مُرْسَلٌ) يعني أن رواية هذا الحديث متّصلاً خطأٌ، وإنما الصواب فيه الإرسال؛ وذلك لأن شريكًا، وهو كثير الخطإ، خالف فيه أبا معاوية، وهو أثبت أصحاب الأعمش ما عدا الثوريّ، فقد رواه مرسلاً، وتابعه عليه أيضًا يعلي بن عبيد.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: كان الأولى للمصنّف تأخير هذا الكلام عن الحديث التالي؛ لأنه متعلّق به أيضًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4129 -
(أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، وَلَا يُؤْخَذُ الرَّجُلُ بِجَرِيرَةِ أَبِيهِ، وَلَا بِجَرِيرَةِ أَخِيهِ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "إبراهيم بن يعقوب": هو الْجُوزجانيّ الحافظ. و"أحمد بن يونس": هو ابن عبد اللَّه بن يونس التميميّ اليربوعيّ الكوفيّ، نُسب لجدّه. و"مسلم": هو ابن صُبيح، أبو الضُّحى المذكور في السند الماضي. و"عبد اللَّه": هو ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -.
وقوله: "بجريرة أبيه" -بفتح الجيم، وكسر الراء الأولى-: هو ما يجرّه الإنسان من ذنب، فعِيلة بمعنى مفعولة. أفاده في "المصباح". وقال في "اللسان": الْجَرِيرَة: الذنب، والجناية يَجنِيها الرجلُ، وقد جرّ على نفسه، وغيره جريرةً يجُرّها جَرًّا: أي جنىِ عليهم جنايةً، قال الشاعر [من الطويل]:
إِذَا جَرَّ مَوْلَانَا عَلَيْنَا جَرِيرَةً
…
صَبَرْنَا لَهَا إِنَّا كِرَامٌ دَعَائِمُ
(1)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث عبد اللَّه بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو ضعيف أيضًا؛ لمخالفة أبي بكر بن عيّاش بوصله، لأبي معاوية، وهو أثبت في الأعمش، حيث أرسله، وقد تابعه يعلي بن عُبيد عليه، كما سيأتي قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4130 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا أُلْفِيَنَّكُمْ تَرْجِعُونَ بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، لَا يُؤْخَذُ الرَّجُلُ بِجَرِيرَةِ أَبِيهِ، وَلَا بِجَرِيرَةِ أَخِيهِ». هَذَا الصَّوَابُ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن العلاء": هو أبو كريب. والسند مسلسل بالكوفيين.
وقوله: "لا أُلفينّكم" بضمّ الهمزة، من ألفيته: إذا وجدتّه، أي لا أجدنّكم. قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: والنهي ظاهرًا يتوجّه إلى المتكلّم، والمراد توجيهه إلى المخاطب: أي لا تكونوا بعدي كذلك، فإنهم إذا كانوا كذلك يجدهم كذلك.
[فإن قلت]: كيف يجدهم بعده؟.
[قلت]: بعد موتهم، أو تُعرض حالهم عليه، أو يوم القيامة. واللَّه تعالى أعلم. انتهى
(2)
.
والحديث صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-29/ 4130 و 4131 - وفي "الكبرى" 293593 و 3594.
(1)
"لسان العرب" 4/ 129.
(2)
"شرح السنديّ" 7/ 127 - 128.
[فإن قلت]؛ كيف يصحّ، وهو مرسلٌ، كما صوّبه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، والمرسل من قسم الضعيف؟.
[قلت]: إنما صحّ بشواهده، فيشهد لجزئه الأول حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى - عنهما المتقدِّم، وحديث جرير بن عبد اللَّه الآتي، ولجزئه الأخير ما يأتي للمصنّف في "القسامة" من حديث أبي رِمْثة 41/ 4835 - رضي اللَّه تعالى عنه -، عن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -:"أما إنك لا تجني عليه، ولا يجني عليك". و41/ 4836 - من حديث ثعلبة بن زهدم اليربوعيّ - رضي اللَّه تعالى عنه -، عن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -:"ألا لا تجني نفس على أخرى".
وما أخرجه ابن ماجه في "سننه" من طريق شَبِيب بن غَرْقدة، عن سليمان بن عمرو ابن الأحوص، عن أبيه، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول في حجة الوداع: (ألا لا يجني جان إلا على نفسه، لا يجني والد على ولده، ولا مولود على والده". ورجاله رجال الصحيح، غير سليمان بن عمرو، وقد وُثق، وقال عنه في "التقريب": مقبول. فمثله يصلح للاستشهاد.
وأخرج أيضًا من طريق عمران القطّان، عن محمد بن جُحادة، عن زياد بن عِلاقة، عن أسامة بن شريك، - رضي اللَّه تعالى عنه -، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تجني نفس على أخرى". ورجاله رجال الصحيح، غير عمران القطّان، فقد تُكلّم فيه من جهة حفظه، إلا أنه لا بأس به في المتابعة.
والحاصل أن الحديث صحيح بهذه الشواهد. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "هذا الصواب": يعني أن كونه مرسلاً هو الصواب من كونه موصولاً؛ لأن أبا معاوية مُقدّم في الأعمش على غيره؛ لكونه أحفظ، ولا سيّما مثل شريك سيّىء الحفظ، وأبي بكر بن عيّاش، وقد ساء حفظه في آخره، وأيضًا فقد تابعه يعلي بن عبيد، كما في الرواية التالية. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، لوإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4131 -
(أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا». مُرْسَلٌ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "يعلى": هو ابن عُبيد بن أميّة الطنافسيّ، أبو يوسف الكوفيّ، ثقة، إلا في حديثه عن الثوريّ، ففيه لينٌ، من كبار [9] 105/ 140.
وقوله: "مرسل" خبر لمحذوف، أي هذا الحديث مرسل، حيث إن مسروقًا تابعيّ،
وهو مرسل صحيح الإسناد، وقد سبق تمام البحث فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4132 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلاَّلاً، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح. و"عمرو بن زُرارة": هو أبو محمد النيسابوريّ، ثقة ثبت [10] 7/ 368. و"إسماعيل": هو ابن عُلية. و"أيوب": هو السختيانيّ.
وقوله: "ضُلّالًا" بضمّ المعجمة- جمع ضالّ، وهو بمعنى قوله:"لا ترجعوا بعدي كفّارًا"، وقد سبق البحث فيه مستوفًى قريبًا، فارجع إليه تزدد علمًا.
والحديث صحيح، تفرد به المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-29/ 4132 - وفي "الكبرى" 29/ 3595. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4133 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ بْنَ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ جَرِيرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: اسْتَنْصَتَ النَّاسَ، قَالَ: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»).
قال الجامع عفا اللَّه تعافى عنه: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"محمد" شيخ ابن بشّار: هو ابن جعفر، غندر. و"عبد الرحمن": هو ابن مهدي. و"عليّ ابن مُدرك": هو النخعيّ، أبو مدرك الكوفيّ، ثقة [4] 168/ 261 و"أبو زرعة بن عمرو ابن جرير": هو البجليّ، حفيد جرير بن عبد اللَّه الصحابيّ - رضي اللَّه تعالى عنه -، راوي الحديث، قيل: اسمه هرِم، وقيل: عبد اللَّه، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: جرير، ثقة [3] 43/ 50. و"جرير": هو ابن عبد اللَّه بن جابر البجليّ الصحابيّ الشهير، مات - رضي اللَّه تعالى عنه - سنة (51) وقيل: بعدها، تقدّمت ترجمته في 43/ 51.
وقوله: "في حجة الوداع" سمّيت بذلك؛ لأن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - ودّع الناس فيها، وعلّمهم في خطبته فيها أمر دينهم، وأوصاهم بتبليغ الشرع فيها إلى من غاب عنها، فقال - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -:"ليُبلّغ الشاهد منكم الغائب". والمعروف في الرواية "حَجّةُ الوداع" بفتح الحاء، وقال الهرويّ وغيره، من أهل اللغة: المسموع من العرب في واحدة الْحِجَج حِجة بكسر الحاء، قالوا: والقاس فتحها؛ لكونها اسمًا
للمرة الواحد، وليست عبارة عن الهيئة حتى تُكسر، قالوا: فيجوز الكسر بالسماع، والفتح بالقياس. ذكره النوويّ
(1)
.
وقوله: "اسْتَنْصَتَ الناسَ" بصيغة الماضي: أي طلب منهم الإنصات، وهو السكوت، ليمكنهم الاستماع لخطبته. ولفظ الشيخين:"اسْتَنْصِتِ الناسَ" بصيغة الأمر، وهي الرواية التالية للمصنّف، وهو أمر لجرير - رضي اللَّه تعالى عنه - أن يأمر الناس بالإنصات.
قال النوويّ في "شرح مسلم": معناه: مُرْهُمْ بالإنصات؛ ليسمعوا هذه الأمور المهمّة، والقواعد التي سأقرّرها لكم، وأُحمّلكموها. انتهى
(2)
.
وقال العينيّ في "شرح البخاريّ": أمرٌ من الاستنصات، استفعال من الإنصات، ومثله قليلٌ، إذ الغالب أن الاستفعال يُبنَى من الثلاثي، ومعناه طلب السكوت، وهو متعدّ، والإنصات جاء لازمًا، ومتعدّيا. قال: يعني استُعمِل أنصتوه، وأنصتوا له، لا أنه جاء بمعنى الإسكات. انتهى
(3)
.
وفيه أن الإنصاف للعلماء لازم للمتعلّمين؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، وقوله - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - هذا لجرير كان في حجة الوداع، وذلك أنه أراد أن يخطب الناس، وكان الجمع كثيرًا جدًّا، وكان اجتماعهم لرمي الجمار، وغير ذلك من أمور الحجّ، وقد قال لهم:"خُذُوا عنّي مناسككم"، كما ثبت في "صحيح مسلم"، فلما خطبهم ليعلّمهم ناسب أن يأمرهم بالإنصات.
وقد وقع التفريق بين الإنصاف والاستماع في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، ومعناهما مختلفٌ، فالإنصات هو السكوت، وهو يحصل ممن يستمع، وممن لا يستمع، كأن يكون مفكّرًا في أمر آخر، وكذلك الاستماع قد يكون مع السكوت، وقد يكون مع النطق بكلام آخر، لا يشغل الناطق به عن فهم ما يقول الذي يستمع منه.
وقد قال سفيان الثوريّ وغيره: أوّل العلم الاستماع، ثم الإنصاف، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر. وعن الأصمعيّ تقديم الإنصاف على الاستماع. وقد ذكر عليّ بن المدينيّ أنه قال لابن عُيينة: أخبرني معتمر بن سليمان، عن كهمس، عن مُطرّف، قال: الإنصات من العينين. فقال ابن عيينة: وما ندري كيف ذلك؟، قال: إذا حدّثت رجلاً،
(1)
"شرح مسلم" 2/ 56 "كتاب الإيمان".
(2)
"شرح مسلم" 2/ 56. "كتاب الإيمان".
(3)
"عمدة القاري" 2/ 155 "كتاب العلم".
فلم ينظر إليك لم يكن منصتا. انتهى. وهذا محمول على الغالب. ذكره لى "الفتح"
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، أخرجه المصنّف هنا 29/ 4133 و 4134 - وفي "الكبرى" 29/ 3596 و 3597. وأخرجه (خ) في "العل"121 و"المغازي" 4405 و"الديات" 6869 و"الفتن" 7080 (م) في "الإيمان" 65 (ق) في "الفتن" 3942 (أحمد) في "مسند الكوفيين" 18686 و 18732 و 18774 (الدارمي) في "المناسك" 1921. وشرحه، وفوائده تقدّمت قريبًا، فأرجع إليها تزدد علمًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4134 -
(أَخْبَرَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ أَبِي السَّفَرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ قَيْسٍ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اسْتَنْصِتِ النَّاسَ» ، ثُمَّ قَالَ: «لَا أُلْفِيَنَّكُمْ بَعْدَ مَا أَرَى، تَرْجِعُونَ بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أبو عُبيدة بن أبي السّفَر": هو أحمد بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد اللَّه بن أبي السّفَر بفتح الفاء- سعيد بن يُحْمِد بضمّ التحتانيّة، وكسر الميم- الْهَمْدَانيّ الكوفيّ، صدوقٌ يَهِم [11].
قال أبو حاتم: شيخ. وقال النسائيّ: ليس بالقويّ. وذكره ابن حبّان في "الثقات". قال مطيّن: مات سنة (258). روى عنه المصنّف، والترمذيّ، وابن ماجه، وله عند المصنّف حديثان فقط: هذا الحديث، وفي "كتاب الزينة" 31/ 5118 - حديث محمد ابن عليّ، سألت عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، أكان رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم يتطيب؟ قالت: نعم، بذِكارة الطيب: المسك، والعنبر".
وباقي رجال الإسناد رجال الصحيح، وقد تقدّموا غير مرّة، وهو مسلسل بثقات الكوفيين. و"إسماعيل": هو ابن أبي خالد. و"قيس": هو ابن أبي حازم.
وقوله: "أن جرير بن عبد اللَّه، قال: قال لي رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - الخ" قال في "الفتح": فيه دليلٌ على وهم من زعم أن إسلام جرير كان قبل موت النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - بأربعين يومًا؛ لأن حجة الوداع كانت قبل وفاته - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - بأكثر من أربعين يومًا، وقد ذكر جرير أنه حجّ مع النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - حجة الوداع
(2)
.
(1)
"فتح" 1/ 293 - 494. "كتاب العلم". حديث 121.
(2)
"فتح" 8/ 445 "كتاب المغازي" حديث 4405.
وقال قبل ذلك في "كتاب العلم": ادّعى بعضهم أن لفظ "له" يعني في قوله: "أن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - قال له" -زيادة؛ لأن جريرًا إنما أسلم بعد حجة الوداع بنحو من شهرين، فقد جزم ابن عبد البرّ بأنه أسلم قبل موت النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم بأربعين يومًا. وما جزم به يعارضه قول البغويّ، وابن حبّان: إنه أسلم في رمضان، سنة عشر. قال: ووقع في روايه البخاريّ لهذا الحديث في "باب حجة الوداع" بلفظ أن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - قال لجرير وهذا لا يحتمل التأويل، فيقوَى ما قال البغويّ. انتهى
(1)
.
وقوله: "لا أُلفينّكم" بضمّ الهمزة: أي لا أجدنّكم. وقوله: "بعد ما أرى" أي بعد الذي أراه منكم، وهو كونهم متحابّين، متصافين، غير متخالفين، ولا متخاذلين.
والحديث فيه انقطاع؛ يقول قيس: بلغني، لكنه صحيح بما قبه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب"
(2)
.
…
37 - (كِتَابُ قَسْمِ الْفَيْءِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أراد -رحمه اللَّه تعالى- بالفيء هنا الخمس، كما صرّح به في ترجمة "الكبرى".
ثم إنه كان الأولى له أن يقدم هذا الكتاب، فيذكره عقب "كتاب الجهاد"؛ للمناسبة الواضحة بينهما، وهو الذي صنعه في "الكبرى" حيث ذكر عقب "كتاب الجهاد""كتاب الخيل"، ثم أتبعه بهذا الكتاب، وترجم له بـ"كتاب الخمس"، فكان ترتيبه فيه على ما يليق.
و"القسم" بفتح، فسكون- مصدر قَسَم الشيء قَسْمًا، من باب ضرب: إذا فَرَزَه، وجعله أجزاءً، والفاعل قاسم، والقَسّام مبالغة فيه، والموضع مَقْسِم، مثلُ مَسْجِدٍ، والاسم الْقِسْم بالكسر، ثم أُطلق على الحصّة والنَّصيب، فيقال: هذا قِسْمي: أي حظّي، والجمع أقسامٌ، مثلُ حِمْلٍ وأحمالٍ، واقتسموا المالَ بينهم، والاسم القِسْمة،
(1)
"فتح" 1/ 293 "كتاب العلم". حديث 121.
(2)
يوجد في النسخة الهنديّة هنا: ما نصّه: "آخر كتاب المحاربة"، وأوّل "كتاب قسم الفيء".
وأُطلقت على النصيب أيضًا، وجمعها قِسَم، مثلُ سِدْرة وسِدَرٍ. أفاده في "المصباح المنيّر"
(1)
.
و"الْفَيْءُ" بفتح الفاء، وسكون التحتانيّة-: الْخَرَاج، والغنيمة، وهو بالهمز، ولا يجوز الإبدال والإدغام، وباب ذلك الزائد، مثلُ الخطيئة، ولا يكون في الأصليّ على الأكثر، إلا في الشعر. قاله الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى-.
وفي "المغرب": "الفىء: هو ما نِيل من الكفّار بعد ما تضع الحرب أوزارها، وتصير الدار دار الإسلام، وذكروا في حكمه أنه لعامّة المسلمين، ولا يُخمس، ولا يُقسم كالغنيمة، والمراد هنا ما يعمّ الغنيمة، أو الغنيمةُ. ذكره السنديّ
(2)
.
وقال ابن الأثير -رحمه اللَّه تعالى-: قد تكرّر ذكر "الفيء" في الحديث على اختلاف تصرّفه، وهو ما حصل للمسلمين من أموال الكفّار، من غير حرب، ولا جهاد، وأصل الفيء: الرجوع، يقال: فاء يفِيء فِئَةً، وفُيُوءًا، كأنه كان في الأصل لهم، فرجع إليهم، ومنه قيل للظلّ الذي يكون بعد الزوال: فَيْءٌ؛ لأنه يرجع من جانب الغرب إلى جانب الشرق. انتهى
(3)
.
وقال في "اللسان" نقلاً عن "تهذيب الأزهري": الفيءُ: ما ردّ اللَّه تعالى على أهل دينه من أموال من خالف دينه، بلا قتال، إمّا بأن يُجْلَوْا عن أوطانهم، ويُخَلُّوها للمسلمين، أو يُصالحوا على جزية يؤدّونها عن روْوسهم، أو مالٍ غير الجزية، يَفتدون به من سَفْك دمائهم، فهذا المال هو الفيءُ في كتاب اللَّه، قال اللَّه تعالى:{فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6]: أي لم تُوجفوا عليه خيلً، ولا ركابًا، نزلت في أموال بني النضير، حين نقضوا العهد، وجُلُوا
(4)
عن أوطانهم إلى الشام، فقسم رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - أموالهم، من النخيل، وغيرها في الوجوه التي أراده اللَّه تعالى أن يقسمها فيه. وقسمة الفيء غير قسمة الغنيمة التي أوجف اللَّه عليها بالخيل والرجاب. وأصل الفيء: الرجوع؛ سمّي هذا المال فيئًا؛ لأنه رجع إلى المسلمين من أموال لكفّار عَفْوًا، بلا قتال. وكذلك قوله تعالى في قتال أهل البغي:{حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]: أي ترجع إلى طاعة اللَّه تعالى. انتهى
(5)
(1)
2/ 502.
(2)
راجع "شرح السنديّ" 7/ 128.
(3)
"النهاية" 3/ 482.
(4)
بضمّ الجيم، مبنيا للمفعول، من جلا ثلاثيا، كأجلى رباعيا.
(5)
"لسان العرب"1/ 126 - 127.
واللَّه تعالى أعلم. بالصواب.
4135 -
(أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَمَّالُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ، أَنَّ نَجْدَةَ الْحَرُورِيَّ، حِينَ خَرَجَ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، يَسْأَلُهُ عَنْ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى، لِمَنْ تُرَاهُ؟ قَالَ: هُوَ لَنَا، لِقُرْبَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَسَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ عَرَضَ عَلَيْنَا شَيْئًا، رَأَيْنَاهُ دُونَ حَقِّنَا، فَأَبَيْنَا أَنْ نَقْبَلَهُ، وَكَانَ الَّذِي عَرَضَ عَلَيْهِمْ، أَنْ يُعِينَ نَاكِحَهُمْ، وَيَقْضِىَ عَنْ غَارِمِهِمْ، وَيُعْطِىَ فَقِيرَهُمْ، وَأَبَى أَنْ يَزِيدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هارون بن عبد اللَّه الحمّال) أبو موسى البغداديّ، ثقة [10] 50/ 62.
2 -
(عثمان بن عمر) العبديّ البصريّ، بخاريّ الأصل، ثقة [9] 151/ 1118.
3 -
(يونس بن يزيد) الأمويّ مولاهم، أبو يزيد الأيليّ، ثقة [7] 9/ 9.
4 -
(الزهريّ) محمد بن مسلم الإمام الحجة الشهير المدنيّ [4] 1/ 1.
5 -
(يريد بن هُرمز) المدنيّ، والد عبد اللَّه، مولى بني ليث، وقيل: عفّان، وقيل: آل ذئاب، وقيل: إنه يزيد الفارسيّ، والصحيح أنه غيره، ثقة [3].
قال ابن سعد: كان على الموالي يوم الحرّة، ومات بعد ذلك، وكان ثقة، إن شاء اللَّه تعالى. وقال ابن معين، وأبو زرعة: ثقة. وقال محمد بن إسحاق، عن الزهريّ: حدّثني يزيد بن هُزمُز، وكان من الثقات. وقال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقة. وقال ابن أبي حاتم: اختلفوا، هل هو يزيد الفارسيّ، أو غيره، فقال ابن مهديّ، وأحمد: هو ابن هرمز. وأنكر يحيى بن سعيد القطّان أن يكونا واحدًا. وسمعت أبي يقول: يزيد بن هرمز هذا ليس بيزيد الفارسيّ، هو سواه، فأما ابن هرمز فهو والد عبد اللَّه بن يزيد بن هرمز، وكان من أبناء الفرس الذين جالسوا أبا هريرة، وليس بحديثه بأس. انتهى.
وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز. روى له مسلم، وأبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب حديث الباب فقط.
6 -
(ابن عبّاس) عبد اللَّه البحر - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من الزهريّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة
الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا، ومن المشهورين بالفتيا. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ) المدنيّ (أَنَّ نَجْدَةَ) -بفتح النون، وسكون الجيم، بعدها دالٌ مهملة، ثم هاء- ابن عامر الحنفيّ، من بني حنيفة، خارجيّ من اليمامة، وأصحابه النجدات، محرّكةٌ، وهم قومٌ من الحروريّة، ويقال لهم أيضًا: النَّجْديّة. قاله في "القاموس"، و"شرحه"
(1)
.
(الْحَرُورِيَّ) بفتح الحاء المهملة، نسبة إلى حَرُوراه، وهي موضع بقرب الكوفة، خرج منه الخوارج على عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه -، وفيها قُتلوا، وكان نجدة هذا منهم، وعلى رأيهم؛ لذلك استثقل ابن عبّاس مجاوبته، وكرهها، لكنه أجابه مخافة جهل يَقَع له، فيُفتي، ويعمل به. قاله القرطبيّ
(2)
.
(حِينَ خَرَجَ فِي فِتْنَةِ) عبد اللَّه (بْنِ الزُّبَيْرِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وسبب فتنبّه رضي اللَّه تعالى عنه أنه لما أراد أن يبايع معاوية - رضي اللَّه تعالى عنه - لولده يزيد بن معاوية امتنع ابن الزبير، وتحوّل إلى مكة، وعاذ بالحرم، فارسل إليه يزيدُ سليمانَ أن يُبايع له، فأبى، ولقّب نفسه عائذ اللَّه، فلما كانت وقعة الحرّة، وفَتَك أهل الشام بأهل المدينة، ثم تحوّلوا إلى مكة، فقاتلوا ابن الزبير، واحترقت الكعبة أيام ذلك الحصار، ففجعهم الخبر بموت يزيد بن معاوية، فتوادعوا، ورجع أهل الشام، وبايع الناس عبد اللَّه بن الزبير بالخلافة، وأرسل إلى أهل الأمصار يُبايعهم إلا بعض أهل الشام، فسار مروان، فغلب على بقيّة الشام، ثم على مصر، ثم مات، فقام عبد الملك بن مروان، فغلب على العراق، وقَتل مصعب بن الزبير، ثم جهّز الْحَجّاجَ بن يوسف إلى ابن الزبير، فقاتله إلى أن قَتَلَ ابن الزبير في جمادى الأولى، سنة (73) من الهجرة، وهذا هو المحفوظ، وهو قول الجمهور. وقيل: غير ذلك في سنة قتله. ذكره في "الإصابة"
(3)
.
(أَرَسَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (يَسْأَلُهُ عَنْ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَي) اختصر المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- من مسائل نجدة الحروريّ لابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - على مسألة واحدة، وهي خمس مسائل، وقد ساق مسلم -رحمه اللَّه تعالى- في
(1)
"تاج العروس في شرح القاموس" 2/ 511.
(2)
"المفهم" 3/ 687 "كتاب الجهاد والسير".
(3)
"راجع الإصابة" 6/ 88.
"صحيحه" الحديث بطوله، فذكرها، فقد أخرجه من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن يزيد بن هرمز، أن نجدة كتب إلى ابن عبّاس، يسأله عن خمس خلال، فقال ابن عبّاس: لولا أن أكتم علما، ما كتبت إليه
(1)
، كتب إليه نجدة: أما بعدُ فأخبرني هل كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟، وهل كان يضرب لهن بسهم؟، وهل كان يقتل الصبيان؟، ومتى ينقضي يُتمُ اليتيم؟، وعن الخمس لمن هو؟ فكتب إليه ابن عبّاس، كتبت تسألني هل كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يغزو بالنساء؟ وقد كان يغزو بهن، فيداوين الجرحى، ويُحذَين
(2)
من الغنيمة، وأما بسهم فلم يضرب لهن، وإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لم يكن يقتل الصبيان، فلا تقتل الصبيان، وكتبت تسألني متى ينقضي يُتمُ اليتيم، فلعمري إن الرجل لتنبت لحيته، وإنه لضعيف الأخذ لنفسه، ضعيف العطاء منها، فإذا أخذ لنفسه، من صالح ما يأخذ الناس، فقد ذهب عنه اليتم، وكتبت تسألني عن الخمس لمن هو؟ وإنا كنا نقول هو لنا، فأبى علينا قومنا ذاك.
وأخرجه من طريق قيس بن سعد، عن يزيد بن هرمز، قال: كتب نجدة بن عامر إلى ابن عبّاس، قال: فشهدت ابن عبّاس حين قرأ كتابه، وحين كتب جوابه، وقال ابن عبّاس: واللَّه لولا أن أرده عن نَتْنٍ يقع فيه
(3)
، ما كتبت إليه، ولا نُعْمَةَ عينٍ، قال: فكتب إليه: إنك سألت عن سهم ذي القربى، الذي ذكر اللَّه، من هم؟ وإنا كنا نَرَى أن قرابة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هم نحن، فأبى ذلك علينا قومنا، وسألت عن اليتيم متى ينقضي يتمه؟، وإنه إذا بلغ النكاح، وأُونس منه رشد، ودُفع إليه ماله، فقد انقضى يتمه، وسألت هل كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقتل من صبيان المشركين أحد؟ فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لم يكن يقتل منهم أحدا، وأنت فلا تقتل منهم أحدا، إلا أن تكون تعلم منهم ما علم الخضر من الغلام، حين قتله، وسألت عن المرأة والعبد هل كان لهما سهم معلوم، إذا حضروا البأس؟ فإنهم لم يكن لهم سهم معلوم، إلا أن يُحذَيا من غنائم القوم.
فقوله (عَنْ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى) -بضمّ، فسكون، فُعْلَى، أي القرابة، وهو مصدر قرُب، ككَرُمَ، يقال: قرُب الشيء منّا قُرْبًا، وقَرَابةً، وقُرْبَةٌ، وقُرْبَى، ويقال: القُرْب في المكان، والقُرْبة في المنزلة، والقُرْبى، والقَرَابة في الرَّحِم. قاله الفيّوميّ.
وأراد بالسهم السهم الذي ذكره اللَّه تعالى في كتابه في آية الغنيمة: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} الآية [الأنفال: 41].
(1)
أي لكونه من الخوارج.
(2)
بضمّ أوله مبنيا للمافعول: أي يعطين تلك العطيّة، وتسمّى الرضخ.
(3)
يعني بالنتن الفعل القبيح.
وفي رواية مسلم المذكورة: "كتبت تسألني عن الخمس لمن هو؟، فأبى علينا قومنا".
قال القرطبيّ: هذا الخمس المسؤول عنه هو خمس الخمس، لا خمس الغنيمة، ولا يقول ابن عبّاس، ولا غيره: إن خمس الغنيمة يُصرف في القرابة، وإنما يُصرف إليهم خمس الخمس، على قول من يقسم الغنيمة على خمسة أخماس، وهو مذهب الشافعيّ، وأحمد بن حنبل. انتهى ببعض تصرّف
(1)
.
وقال النوويّ: قوله: "أبى علينا قومنا ذاك": أي رأوا أنه لا يتعيّن صرفه إلينا، بل يصرفونه في المصالح، وأراد بقومه ولاة الأمر من بني أمية، قال: وقد قال الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى-: يجوز أن ابن عبّاس أراد بقوله: "أبى ذاك علينا قومنا" من بعد الصحابة، وهم يزيد بن معاوية. واللَّه أعلم. انتهى
(2)
.
(لِمَنْ تَرَاهُ؟) أي لمن تعتقده، لقربى رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، أم يصرف الإمام في مصالح المسلمين؟. وقال السنديّ: وكأنه تردّد أنه لقربى الإمام، أو لقربى الرسول - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، فبيّن له ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - أن المراد الثاني، لكن الدليل الذي استدلّ به على ذلك، لا يتمّ؛ لجواز أن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - قسم لهم ذلك؛ لكونه هو الإمام، فقرابته قرابة الإمام، لا لكون المراد قرابة الرسول - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، إلا أن يُقال: المراد قسم لهم مع قطع النظر عن كونه إمامًا، والمتبادر من نظم القرآن، هو قرابة الرسول - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، مع قطع النظر عن هذا الدليل، فليتأمّل. واللَّه تعالى أعلم. انتهى
(3)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الاحتمال الذي ذكره السنديّ، من جواز أنه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - إنما قسم لهم لكونه هو الإمام الخ، بعيدٌ جدًّا عن سياق الآية، كما اعترف به هو في آخر كلامه، حيث قال: والمتبادر من نظم القرآن الخ، ودعواه عدم استدلال ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - على ما قاله بقسم رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - لهم، غير صحيح، فإن رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم إنما قسم لهم عملاً بما في الآية، وقد اعترف نفسه بأن المتبادر نظم الآية هو المعنى الثاني، وهو المتبادر أيضًا من فعده - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، فاستدلال ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - تامٌ، فتبصّر، ولا تتحيّر، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 3/ 688 - 689.
(2)
"شرح مسلم" 12/ 397.
(3)
"شرح السنديّ" 7/ 128 - 129.
(قَالَ) ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - (هُوَ لَنَا، لقُرْبَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فـ"لقربى" بدل من "لنا". وقوله (قَسَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ) جمدة تعليليّة؛ أي لأنه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - قسمه لذوي القربى، فنحن أحقّ به (وَقَدْ كَانَ عُمَرُ) بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه (عرض) بفتح الراء، من باب ضرب (عَلَيْنَا شَيْئًا) أي أنه كان يُعطينا شيئًا من الخمس (رَأَيْنَاهُ دُونَ حَقِّنَا) قال السنديّ: لعده مبني على أن عمر - رضي اللَّه تعالى عنه - رآهم مصارف، فجوّز الصرف إلى بعض كما في الزكاة عند الجمهور، وهو مذهب مالك هاهنا، والمختار من مذهب الحنفيّة أنّ الخيار للإمام، إن شاء قسم بينهم بما يرى، وإن شاء أعطى بعضا، دون بعض، حسبما تقتضيه المصلحة، وابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - رآهم مستحقّين لخمس الخمس، كما يقول الشافعيّ ههنا وفي الزكاة، فقال ابن عبّاس بناء على ذلك: إنه عرض عليهم دون حقّهم. واللَّه تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
(فَأَبَيْنَا أَنْ نَقْبَلَهُ) أي امتنعنا من قبوله. ثم بيّن الذي عرضه عليهم عمر - رضي اللَّه تعالى عنه - بقوله (وَكَانَ الَّذِي عَرَضَ عَلَيْهِمْ، أَن يُعِينَ) بضمّ أوّله، من الإعانة (نَاكِحَهُمْ) أي في مؤن النكاح، من المهر وغيره (وَيَقْضِي) بفتح أوّله من القضاء، أي يؤدي (عَنْ غَارِمِهِمْ) أي مدِينهم (وَيُعطِيَ) بضمّ أوله، من الإعطاء (فَقِيرَهُمْ، وَأَبَى أَنْ يَزِيدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ) أي امتنع عمر - رضي اللَّه تعالى عنه - أن يعطيهم أكثر مما يسدّ حاجتهم؛ لأنه لا يراهم مستحقّين أكثر من ذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-1/ 4135 و 4136 - وفي "الكبرى" 1/ 4435 و 4436. وأخرجه (م) في "الجهاد والسير" 1812 (د) في "الخراج" 2982 (أحمد) في "مسند بني هاشم" 1968و 2807 و 2935 (الدارمي) "في "السير" 2471. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان قسم الفيء. (ومنها): جواز
(1)
"شرح السنديّ" 7/ 129.
أخذ العلم بالمكاتبة، والمراسلة. (ومنها): إفتاء العالم لأهل البدع إذا كان فيه مصلحة، أو خاف مفسدة، لولم يُفتِهِم، فإن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - قال:"فلولا أن يقع في أُحموقة ما كتبت إليه "(ومنها): حلّ الغنائم. (ومنها): أن لقربى رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - سهمًا خاصًا بهم، يستحقّونه، وهو خمس الخمس، كما قال ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هنا، وبهذا قال الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى-، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك، إن شاء اللَّه تعالى. وذوو القربى هم عند الشافعيّ، والأكثرين بنو هاشم، وبنو المطّلب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيلِ.
4136 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -وَهُوَ ابْنُ هَارُونَ- قَالَ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ، قَالَ: كَتَبَ نَجْدَةُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، يَسْأَلُهُ عَنْ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى، لِمَنْ هُوَ؟ قَالَ يَزِيدُ بْنُ هُرْمُزَ: وَأَنَا كَتَبْتُ كِتَابَ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى نَجْدَةَ، كَتَبْتُ إِلَيْهِ، كَتَبْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى، لِمَنْ هُوَ؟ وَهُوَ لَنَا، أَهْلَ الْبَيْتِ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ، دَعَانَا إِلَى أَنْ يُنْكِحَ مِنْهُ أَيِّمَنَا، وَيُحْذِىَ مِنْهُ عَائِلَنَا، وَيَقْضِيَ مِنْهُ عَنْ غَارِمِنَا، فَأَبَيْنَا إِلاَّ أَنْ يُسَلِّمَهُ لَنَا، وَأَبَى ذَلِكَ، فَتَرَكْنَاهُ عَلَيْهِ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"عمرو بن عليّ": هو الفلاّس البصريّ الحافظ الثبت [10]. و"يزيد بن هارون": هو أبو خالد الواسطيّ الثقة الحافظ العابد [9]. و، محمد بن إسحاق": هو أبو بكر المطّلبيّ مولاهم المدنيّ، إمام المغازي، صدوقٌ يُدلّس، من صغار [5]. و"محمد بن عليّ": هو أبوجعفر الباقر المدنيّ، ثقة فاضل [4].
وقوله: "ومحمد بن عليّ " بالجرّ عطفًا على "الزهريّ"، فابن إسحاق يروي عن كلٍّ من الزهريّ ومحمد بن عليّ. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "كتبت إليه كتبت الخ" الأول بضمّ التاء؛ لأنه ضمير للمتكلّم، وهو يزيد، والثاني بفتحها؛ لأنه ضمير للمخاطب، وهو نجدة، والمعنى أن يزيد بن هُرمز كتب إلى نجدة بأمر ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - كتابًا، نصُّهُ:"كتبت تسألني الخ".
وقوله: "أن يُنكح" بضمّ أوله، من الإنكاح. وقوله:"أيّمنا" -بفتح الهمزة، وتشديد التحتانيّة اللَّهُمَّ: قال الفيّوميّ: الأَيَم: الْعَزَبُ، رجلاً كان، أو امرأةً، قال الصغانيّ: وسواءٌ تزوّج من قبلُ، أو لم يتزوّج، فيُقال: رجلٌ أيّمٌ، وامرأةٌ أيمٌ، قال الشاعر [من الطويل]:
فَأُبْنَا وَقَدْ آبَتْ نِسَاءٌ كَثِيرَةٌ
…
وَنِسَاءُ سَعْدٍ لَيْسَ فِيهِنَّ أَيِّمُ
وقال ابْنِ السّكّيت أيضًا: فلانةٌ أَيّمٌ، إذا لم يكن لها زوجٌ، بكرًا كانت، أو ثيّبًا، ويقال أيضًا أَيِّمَةٌ للأنثى. انتهى.
وقوله: "ويُحْذي " بضمّ أوّله، يقال: أحذيته أُحذِيه إِحذاء: إذا أعطيته، وهي الحُذيا، والحذِيّةُ. أفاده ابن الأثير
(1)
. وقوله: "عائلنا": أي فقيرنا. وقوله: "عن غارمنا": أي مديوننا.
وقوله: "إلا أن يسلّمه لنا" من التسليم: أي يدفع سهم ذوي القربى لنا. والمراد أنهم أرادوا أن يدفعه كلّه لهم، وعمر - رضي اللَّه تعالى عنه - لم ير ذلك، بل حقّهم بحسب حاجتهم فقط.
والحديث أخرجه مسلم مطوّلاً من رواية جعفر بن محمد، عن أبيه، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4137 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مَحْبُوبٌ -يَعْنِي ابْنَ مُوسَى- قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ -وَهُوَ الْفَزَارِيُّ- عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، إِلَى عُمَرَ بْنِ الْوَلِيدِ كِتَابًا، فِيهِ: وَقَسْمُ أَبِيكَ لَكَ الْخُمُسُ كُلُّهُ، وَإِنَّمَا سَهْمُ أَبِيكَ، كَسَهْمِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهِ حَقُّ اللَّهِ، وَحَقُّ الرَّسُولِ، وَذِى الْقُرْبَى، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، فَمَا أَكْثَرَ خُصَمَاءَ أَبِيكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَكَيْفَ يَنْجُو مَنْ كَثُرَتْ خُصَمَاؤُهُ، وَإِظْهَارُكَ الْمَعَازِفَ، وَالْمِزْمَارَ بِدْعَةٌ فِي الإِسْلَامِ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَبْعَثَ إِلَيْكَ مَنْ يَجُزُّ جُمَّتَكَ، جُمَّةَ السُّوءِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عمرو بن يحيى) الحمصيّ، ثقة [12]. 67/ 2329 من أفراد المصنّف-
2 -
(محبوب بن موسى) أبو موسى الأنطاكيّ الفرّاء، صدوقٌ [10] 1/ 3589.
3 -
(أبو إسحاق الفزاريّ) إبراهيم بن محمد بن الحارث الإمام الحافظ الثقة، صاحب التصانيف [8]. 58/ 863.
4 -
(الأوزاعيّ) أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو، الدمشقيّ، الإمام الحجة الفقيه الثبت [7] 45/ 56.
5 -
(عمر بن عبد العزيز) بن مروان بن الحكم بن أبي العاص الأمويّ الخليفة
الراشد، والإمام الزاهد، أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطّاب، ولي إمرة
المدينة للوليد، وكان مع سليمان كالوزير، وولي الخلافة بعده، فعُدّ مع الخلفاء
الراشدين، مات في رجب سنة (101)، وله (40) سنة، ومدّة خلافته سنتان ونصفٌ
[4]
122/ 171. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"النهاية" 1/ 358.
شرح الحديث
(عَنْ الأَوْزَاعِيِّ) أنه (قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) الخليفة الراشد (إِلَى عُمَرَ بْنِ الْوَلِيدِ) الظاهر أنه ولد الوليد بن عبد الملك بن مروان. ولم أجد ترجمته (كِتابًا فِيهِ) أي في ذلك الكتاب (وَقَسْمُ أَبِيكَ لَكَ الْخُمُسُ كُلُّهُ) الظاهر أن "قسم" مبتدأٌ، مضاف إلى "أبيك"، وخبره قوله:"لك": أي وَحَظُّ أبيك كائن لك، وقوله:"الخمس كلّه" خبر لمحذوف: أي وهو الخمس كله، والظاهر أنه أراد توبيخه على أخذه الخمس كلّه، راضيا بفعل أبيه، مع أنه يتعلّق به حقوق غيره، كما بيّنه في قوله:"وفيه حقّ اللَّه الخ". وقال السنديّ: قوله: "وقسم أبيك" هكذا في نسختنا "أبيك" بالياء، والظاهر أن الجملة فعليةٌ، فالأظهر "أبوك" بالواو، إلا أن يُجعل "أُبَيَّكَ" تصغير "أَبٍ"، إما لأن المقام يُناسب التحقير، أو لأن اسم "الوليد" يُنبىء عن الصغر، فصغّره لذلك.
ويحتمل أن يكون "قسم" بفتح، فسكون، مصدر "قَسَمَ"، مبتدأ، والخبر مقدّرٌ، أي "غير مستقيم"، أو"غير لائق"، أو نحو ذلك، أو "الخمس كلّه"، على أن القسم بمعنى المقسوم. انتهى كلام السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لا حاجة لجعله جملة فعليّة؛ لأنه تكلّف لا يُساعده تركيب الجملة، وإنما الأقرب عندي أن يكون جملة اسميّة، على الوجه الذي قدّمته. واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: وقع في "الكبرى" بلفظ: "وقسم أباك لك الخ" فيحتمل أن يكون على لغة من يستعمل الأسماء الستّة بالألف مقصورة. واللَّه تعالى أعلم.
(وَإنَّمَا سَهْمُ أَبِيكَ، كَسَهْمِ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِين) يعني أنه لا يستحقّ من الفيء أكثر من سهم رجل من المسلمين، فضلاً عن أن يستأثر بالخمس كلّه، ففيه ذمّه على أخذه ما لا يستحقّه؛ لأن الخمس قد بيّن اللَّه تعالى من يستحقّه في كتابه، حيث قال:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية [الأنفال: 41]، هالى هذا المعنى أشار عمر بن عبد العزيز -رحمه اللَّه تعالى- بقوله (وفِيهِ) أي في الخمس الذي أخذه عبد الملك، واستأثر به (حَقُّ اللَّهِ) تعالى (وَحَقُّ الرَّسُولِ) - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - (وَذِي الْقُرْبَى، وَالْيَتَامَى، والْمَسَاكِينِ، وَابْنِ السَّبَيلِ) أي كما بيّنته الآية المذكورة (فَمَا) تعجّبية (أَكْثَرَ خُصَمَاءَ أَبِيكَ) هكذا نسخ "المجتبى" بلفظ "أبيك"، وهو الصواب، ووقع في "الكبرى": فما أكثر خصماء ابنك " بلفظ "ابنك"، وهو تصحيف. واللَّه تعالى أعلم (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) حيث منع
(1)
"شرح السنديّ" 7/ 129 - 130.
المستحقين من حقوقهم، مستأثرًا بها (فَكَيْفَ يَنْجُو مَنْ كَثُرَتْ خُصَمَاؤُهُ) أي لأنهم يستوفون حقوقهم من حسناته، فإن لم تف حسناته، حُمَّل خطاياهم، فدخل النار، كما أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه -، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"أتدرون ما المفلس؟ "، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له، ولا متاع، فقال:"إن المفلس من أمتي، يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقْضَى ما عليه، أُخذ من خطاياهم، فطُرِحت عليه، ثم طرح في النار".
وقال السنديّ: قوله: "من كثرت خصماؤه" الظاهر من جهة الخطّ والسَّوْق أن "من" بفتح الميم، موصولة، فاعل "ينجو". ويحتمل على بُعْد أن فاعل "ينجو" ضمير أبيه، و"من" جارّة، فيتأمّل. انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الاحتمال الذي ذكره السنديّ بعيد عن سياق الحديث، فلا ينبغي ارتكابه. واللَّه تعالى أعلم.
(وَإِظْهَارُكَ الْمَعَازِفَ) بعين مهمدة، وزاي معجمة، وفاء: أي آلات اللَّهو. قال المجد: و"المعازف":الملاهي، كالعُود، والطُّنبور، الواحد عزفٌ، أو مِعرْفٌ، كمِنبر، ومِكنسة. انتهى. وقال الفيّوميّ: عرّف عزفًا، من باب ضرب، وعزِيفًا: لعِب بالمعازف، وهي آلات يُضرب بها، الواحد عزْف، مثلُ فلس، على غير قياس. قال الأزهري: وهو نقلٌ عن العرب، قال: وإذا قيل: المعزفُ بكسر الميم- فهو نوع من الطَّنابير، يتّخذه أهل اليمن، قال: وغير الليث يجعل العُود مِعزفًا. وقال الجوهري: المعازف: الملاهي. انتهى.
(وَالْمِزْمَارَ) بكسر الميم: آلة الزَّمرِ، أي الغناء، يقال: زمر يزمر، من بابي نصر، وضرب، زمرًا، وزمِيرًا، وزمَّر تزميرا: إذا غنّى في القصب. قاله في "القاموس"(بدْعةٌ في الإسلام) أي مُحدث فيه، حيث إن الشارع ذمّه، بل نهى عنه، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحها" من طريق الرحمن بن غنم الأشعريّ، قال: حدثني أبو عامر، أو أبو مالك الأشعريّ، واللَّه ما كذبني، سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"ليكوننّ من أمتي أقوام، يستحلون الحِر، والحرير، والخمر، والمعازف، ولينزلنّ أقوام إلى جنب علم، يرُوح عليهم بسارحة لهم، يأتيهم -يعني الفقير لحاجة- فيقودون: ارجع إلينا غدا، فيُبيِّتهم اللَّه، ويضعِ العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير، إلى يوم القيامة".
(وَلَقَدْ هَمَمْتُ) بفتح الميم: أي قصدت، يقال: هممتُ بالشيء همّا، من باب قتل: إذا أردته، ولم تفعله. قاله الفيّوميّ (أَنْ أَبْعَثَ إِلَيْكَ مَنْ يَجُزُّ) بجيم، وزاي مشدّدة، من باب نصر: أي يقطع (جُمَّتَكَ) بضمّ الجيم، وتشديد الميم: مُجتمع شعر الرأس، قاله المجد. وقال الفيّوميّ: والجُمة من الإنسان: مُجتمع شعر ناصيته، يقال: هي التي تبلُغ
المنكبين، والجمع جمُم، مثلُ غُرْفة وغُرف. انتهى. وقوله (جُمَّةَ السَّوءِ) بالنصب بدل من " جمتك". و"السَّوءُ" بالفتح، ويُضم، قال الفيّوميّ: هو رجُلُ سوءٍ بالفتح والإضافةِ، وعملُ سوْءِ، فإن عرّفت الأول قلت: الرجلُ السَّوْءُ، والعملُ السَّوْءُ على النعت. انتهى وقال في "القاموس": ساءهُ سوْءًا وسواءً وسواءَةً وسوايةً وسوائيةً ومساءَةً ومسائيةً: فعل به ما يكرهُ، فاستاء هو، والسُّوءُ بالضم الاسم منه، ويقال:"لا خير في قولِ السوْءِ" بالفتح والضم، إذا فتحت فمعناه: في قولٍ قبيح، وإذا ضممت فمعناه: في أن تقول سُوءًا، وقُرِئ "عليهم دائرة السوء" بالوجهين: أي الهزيمةُ، والشرُّ، والرَّدى، والفسادُ، وكذا "أُمطِرت مطر السَّوْءِ"، أو المضموم الضرر، والمفتوح الفساد. انتهى باختصار. فأفادت عبارة "القاموس" أن "السوء" في قوله:" جمة السوء" يجوز فتح سينه وضمها. واللَّه تعالى أعلم. قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: ولا كراهة في اتّخاذ الجُمّة، فلعله كرهها؛ لأنه يتبختر بها، فلذلك أضافها إلى السوء. انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أثر عمر بن عبد العزيز هذا مقطوع صحيح الإسناد، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-1/ 4137 - وفي "الكبرى"4437.
ومناسبته للباب واضحة، حيث إن عمر بن عبد العزيز -رحمه اللَّه تعالى- يرى أن الخمس يقسم على من ذكرهم اللَّه تعالى في كتابه، من الأصناف، ولا حقّ فيه لغيرهم، فما يفعله بعض الملوك، والأمراء من الاستبداد به، فإنه ظلم، وأكل بالباطل لأموال الناس. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4138 -
(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ جَاءَ هُوَ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُكَلِّمَانِهِ فِيمَا قَسَمَ مِنْ خُمُسِ حُنَيْنٍ، بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنِي الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَسَمْتَ لإِخْوَانِنَا بَنِي الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَلَمْ تُعْطِنَا شَيْئًا، وَقَرَابَتُنَا مِثْلُ قَرَابَتِهِمْ، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا أَرَى هَاشِمًا وَالْمُطَّلِبَ شَيْئًا وَاحِدًا» ، قَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: وَلَمْ يَقْسِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وَلَا لِبَنِي نَوْفَلٍ، مِنْ ذَلِكَ الْخُمُسِ شَيْئًا، كَمَا قَسَمَ لِبَنِي هَاشِمٍ، وَبَنِي الْمُطَّلِبِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن عبد الحكم) أبو القاسم المصريّ، ثقة [11] 152/
(1)
"شرح السنديّ" 7/ 130.
2944 في أفراد المصنّف.
2 -
(شعيب بن يحيى) بن السائب التُّجِيبيّ العباديّ، أبو يحيى المصريّ، صدوقٌ عابدٌ [10].
قال أبو حاتم: شيخٌ، ليس بالمعروف. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: إنه مستقيم الحديث. واحتجّ به ابن خُزيمة في "صحيحه". وقال ابن يونس: كان رجلًا صالحًا، غَلَبت عليه العبادة، توفّي سنة (11)، وقيل:(215). تفرد به المصنّف بهذا الحديث فقط.
3 -
(نافع بن يزيد) الْكَلَاعيّ، أبو يزيد المصريّ، ثقة عابد [7] 3/ 2098.
4 -
(يونس) بن يزيد الأيليّ المذكور أول الباب.
5 -
(ابن شهاب) محمد بن مسلم الإمام المذكور أول الباب أيضًا.
6 -
(سعيد بن المسيّب) بن حزن المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت فاضل، من كبار [3] 9/ 9.
7 -
(جُبير بن مطعم) بن عديّ بن نوفل بن عبد مناف القرشيّ النوفليّ، الصحابيّ، مات سنة ثمان، أو تسع وخمسين، وتقدّمت ترجمته في 158/ 250. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بثقات المصريين إلى يونس، فإنه سكن مصر أيضًا، وبعده بثقات المدنيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه ابن المسيّب من الفقهاء السبعة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
عن ابن المسيّب -رحمه اللَّه تعالى- (أَنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِم) - رضي اللَّه تعالى عنه - أنه (حَدَّثَهُ) أي حدث سعيدًا (أَنَّهُ جَاءَ هُوَ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ) بن أبي العاص بن أميّة بن عبد شمس الأمويّ، أمير المؤمنين، وأحد الخلفاء الأربعة، والمبشّرين بالجنة، استُشهد - رضي اللَّه تعالى عنه - في ذي الحجة، بعد عيد الأضحى سنة (35)، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة، وعمره ثمانون، وقيل: أكثر، وقيل: أقلّ، وتقدّمت ترجمته في 68/ 84.
وإنما اختصّ جبير، وعثمان بالمجيء؛ لأن عثمان من بني عبد شمس، وجبير بن مطعم من بني نوفل، وعبدُ شمس، ونوفلٌ، وهاشم، والمطّلب سواء، الجميعُ بنو عبد مناف، وهذا معنى قولهما:"وقرابتنا مثل قرابتهم".
(رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بنصب "رسول " على المفعوليّة لـ"جاء" (يُكَلِّمَانِهِ فِيمَا قَسَمَ مِنْ
خُمُسِ حُنَينٍ) أي خُمُسِ الغنيمة التي حصلت من غزوة حُنين، بصيغة التصغير: واد بين مكة والطائف، وهو مذكر منصرفٌ، وقد يؤنّث على معنى البقعة.
وقصّة حُنين أن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - فتح مكة في رمضان سنة ثمان، ثم خرج منها لقتال هوازن، وثَقِيف، وقد بقيت أيام من رمضان، فسار إلى حنين، فلما التقى الجمعان، أنكشف المسلمون، ثم أمدّهم اللَّه بنصره، فعطفوا، وقاتلوا المشركين، فهزموهم، وغنِموا أموالهم، وعيالهم، ثم صار المشركون إلى أوطاس، فمنهم من سار على نَخلَةَ اليمانيّة، ومنهم من سلك الثنايا، وتبِعت خيلُ رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - من سلك نخلة. ويقال: إنه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - أقام عليها يومًا وليلةً، ثم صار إلى أوطاس، فاقتتلوا، وانهزم المشركون إلى الطائف، وغنِم المسلمون منها أيضًا أموالهم وعيالهم، ثم صار إلى الطائف، فقاتلهم بقيّة شوّال، فلما أهل ذو القعدة ترك القتال؛ لأنه شهرٌ حرامٌ، ورحل راجعاً، فنزل الجعرانة، وقسم بها غنائم أوطاس، وحُنين، ويقال: كانت ستة آلاف سبيّ. واللَّه تعالى أعلم.
(بَينِ بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنِي الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، فَقَالَا: يَا رَسُول اللَّهِ، قَسَمْتَ لإِخْوَانِنَا بَنِي الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَلَمْ تُعْطِنَا شَيْئًا، وَقَرَابَتُنَا مِثْلُ قَرَابَتِهِمْ) حيث إنهم كلهم أولاد عبد مناف. وفي الرواية التالية: "فقلنا: يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هؤلاء بنو هاشم، لا ننكر فضلهم، لمكانك الذي جعلك اللَّه به منهم، أرأيت بني المطّلب أعطيتهم، ومنعتنا، فإنما نحن وهم منك بمنزلة"(فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا أَرَى هَاشِمًا وَالْمُطَّلِبَ شَيْئًا وَاحِدًا") وفي نسخة: "كشيء واحد". والمراد بهاشم، والمطّلب أولادهما، أي هم لكمال الاتحّاد بينهم في الجاهليّة والإِسلام كشيء واحد، كما أوضحه في الرواية التالية، حيث قال:"إنهم لم يفارقوني في جاهليّة، ولا إسلام، إنما بنو هاشم، وبنو المطّلب شيء واحد، وشبّك بين أصابعه".
[تنبيه]: قوله: "إنما أرى الخ" هكذا نسخ "المجتبى"، ووقع في "الكبرى" بدله:"إنما أبناء هاشم والمطّلب واحد". ووقع عند أكثر رواة البخاريّ: "إنما بنو المطّلب، وبنو هاشم شيء واحد"، بالشين المعجمة المفتوحة، والهمزة. قال الحافظ: ووقع في رواية الحمويّ "سِيٌّ
(1)
واحدٌ" بكسر المهملة، وتشديد التحتانيّة، وكذلك كان يرويه يحيى بن معين وحده. قال الخطّابيّ: هو أجود في المعنى. ووقع في رواية أبي زيد المروزيّ: "شيء أحدٌ" بغير واو، وبهمز الألف، فقيل: هما بمعنى. وقيل: الأحد الذي ينفرد بشيء لا يشاركه فيه غيره، والواحد أول العدد. وقيل: الأحد المنفرد بالمعنى، والواحد المنفرد بالذات. وقيل: الأحد لنفي ما يُذكر معه من العدد، والواحد
(1)
"السَّيّ" بكسر السين المهملة وتشديد الياء التحتانيّة: المثل، فمعناه هنا: مثلٌ واحدٌ، فيكون وحد مؤكدًا لسيّ. واللَّه تعالى أعلم.
اسم لمفتاح العدد من جنسه. وقيل: لا يقال: أحد إلا للَّه تعالى. حكى جميع هذا عياض. ونقله في "الفتح".
(قَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: وَلَمْ يَقْسِمْ) بفتح أوْله (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِبنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وَلَا لِبَنِي نَوْفَلِ، مِنْ ذَلِكَ الْخُمُسِ شَيْئًا، كَمَا قَسَمَ لِبَنِي هَاشِمٍ، وَبَنِي الْمُطَّلِبِ) زاد في رواية أبي داود: "وكان أبو بكر يقسم الخمس نحو قسم رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، غير أنه لم يكن يُعطي قربى رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، وكان عمر يُعطيهم منه، وعثمان بعده".
قال في "الفتح": وهذه الزيادة بيّن الذهليّ في " جمع حديث الزهريّ" أنها مدرجة من كلام الزهريّ، وأخرج ذلك مفصّلاً من رواية الليث، عن يونس، وكأنّ هذا هو السرّ في حذف البخاريّ هذه الزيادة، مع ذكره لرواية يونس. انتهى
(1)
.
[فائدة]: ذكر البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- عقب الحديث المذكور: ما نصّه: وقال ابن إسحاق: عبد شمس، وهاشم، والمطّلب إخوة لأمّ، وأمّهم عاتكة بنت مرّة، وكان نوفل أخاهم لأبيهم. انتهى. قال في "الفتح": وصله في "التاريخ". وقوله: عاتكة بنت مرّة" أي ابن هلال، من بني سليم. وقوله: "وكان نوفلٌ أخاهم لأبيهم" لم يُسمّ أمه، وهي واقدة بالقاف- بنت عديّ، واسمه نوفل بن عُبادة، من بني مازن بن صعصعة. وذكر الزبير بن بكّار في "النسب" أنه كان يقال لهاشم والمطّلب: البدران، ولعبد شمس ونوفل: الأبهران. وهذا يدلّ على أن بني هاشم والمطّلب ائتلافًا، سرى في أولادهما من بعدهمالأولهذا لَمّا كتبت قريش الصحيفة بينهم وبين بني هاشم، وحصروهم في الشّعب، دخل بنو المطّلب مع بني هاشم، ولم تدخل بنو نوفل، وبنو عبد شمس. انتهى
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث جبير بن مطعم - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه البخاريّ.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-1/ 4138 و 4139 - وفي "الكبرى" 1/ 4438 و 4439. وأخرجه (خ)
(1)
"فتح" 6/ 375 "كتاب فرض الخمس" حديث: 3140.
(2)
"فتح" 6/ 375 - 376.
في "فرض الخمس" 3140 و"المناقب" 3503 و"المغازي" 4229 (د) في "الخراج والإمارة والفيء" 2978 و 2979 و 2980 (ق) في "الجهاد" 2881 (أحمد) في "أول مسند المدنيين" 16299 و 16327 و 16341. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان أن قسم الفيء، حيث قسم النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - خمس الخمس على بني هاشم والمطّلب، عملًا بما في الآية الكريمة. (ومنها): أن في الحديث حجة للشافعيّ، ومن وافقه أن سهم ذوي القربى لبني هاشم، والمطّلب، دون بقية قرابة رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - من قريش. وعن عمر بن عبد العزيز: هم بنو هاشم خاصّة، وبه قال زيد بن أرقم، وطائفة من الكوفيين، وهذا الحديث يدلّ لإلحاق بني المطّلب بهم. وقيل: هو قريش كلها، لكن يُعطي الإمام منهم من يراه، وبهذا قال أصبغ، وهذا الحديث حجة عليه. (ومنها): أن فيه توهين قول من قال: إن النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - إنما أعطاهم بعلّة الحاجة، إذ لو أعطاهم بعلة الحاجة لم يخصّ قومًا دون قوم، والحديث ظاهر في أنه أعطاهم بسبب النصرة، وما أصابهم بسبب الإسلام من بقيّة قومهم الذين لم يُسلموا، والملخّص أن الآية نصّت على استحقاق قربى النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، وهي متحقّقة في بني عبد شمس؛ لأنه شقيق، وفي بني نوفل، إذا لم تُعتبر قرابة الأمّ.
واختلف الشافعيّة في سبب إخراجهم، فقيل: العلّة القرابة مع النصرة، فلذلك دخل بنو هاشم، وبنو المطّلب، ولم يدخل بنو عبد شمس، وبنو نوفل؛ لفقدان جزء العلة، أو شرطها. وقيل: الاستحقاق بالقرابة، ووُجد ببني عبد شمس، ونوفل مانع؛ لكونهم انحازوا عن بني هاشم، وحاربوهم.
(ومنها): ما قاله ابن بطال: وفيه ردّ لقول الشافعيّ: إن خمس الخمس يُقسم بين ذوي القربى، لا يُفضل غني على فقير، وإنه يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين. وتعقّبه الحافظ بأنه لا حجة فيه لما ذكر، لا إثباتًا، ولا نفيًا:
أما الأول، فليس في الحديث إلا أنه قسم خمس الخمس بين بني هاشم والمطّلب، ولم يتعرّض لتفضيل، ولا عدمه، وإذا لم يتعرض، فالأصل في القسمة إذا أُطلقت التسوية والتعميم، فالحديث إذًا حجة للشافعيّ، لا عليه. ويمكن التوصّل إلى التعميم بأن يأمر الإمام نائبه في كلّ إقليم بضبط من فيه، ويجوز النقل من مكان إلى مكان للحاجة. وقيل: لا، بل يختصّ كلّ ناحية بمن فيها.
وأما الثاني فليس فيه تعرّض لكيفيّة القسم، لكن ظاهره التسوية، وبها قال المزنيّ، وطائفة، فيحتاج من جعل سبيله الميراث إلى دليل.
وذهب الأكثر إلى تعميم ذوي القربى في قسمة سهمهم عليهم، بخلاف اليتامى، فيخص الفقراء منهم عند الشافعيّ، وأحمد. وعن مالك يعمّهم في الإعطاء. وعن أبي حنيفة يخصّ الفقراء من الصنفين. وحجة الشافعيّ أنهم لما منعوا الزكاة عُمّوا بالسهم، ولأنهم أُعطوا بجهة القرابة، إكرامًا لهم، بخلاف اليتامى، فإنهم أعطوا لسدّ الخلّة. ذكر هذا كلّه في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: القول بالتعميم هو الذي يرتجحه المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في كلامه الآتي، لكنه يخصّه بالفقراء، وسيأتي البحث في ذلك عند ذكر المصنّف له، إن شاء اللَّه تعالى.
(ومنها): أنه استُدلّ به على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة، فإن ذوي القربى لفظٌ عامّ، خُصّ ببني هاشم، والمطلب. قال ابن الحاجب: ولم يُنقل اقتران إجماليّ، مع أن الأصل عدمه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4139 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: لَمَّا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى، بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، أَتَيْتُهُ أَنَا، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَؤُلَاءِ بَنُو هَاشِمٍ، لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ، لِمَكَانِكَ الَّذِي جَعَلَكَ اللَّهُ بِهِ مِنْهُمْ، أَرَأَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ، أَعْطَيْتَهُمْ وَمَنَعْتَنَا، فَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونِي فِي جَاهِلِيَّةٍ، وَلَا إِسْلَامٍ، إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ، وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ» ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.
وقوله: "لمكانك" أي لمكانتك، وفضلك، أي لا ننكر فضلهم بسبب فضلك الذي جعلك اللَّه مقرونًا به، أي بذلك الفضل، حال كونك منهم، فحصل لهم بذلك فضلٌ أَيْ شرفٌ.
وقوله: "بمنزلة" أي بدرجة واحدة في النسب والفضل.
(1)
"فتح" 6/ 376 "كتاب فرض الخمس" حديث: 3140.
والحديث صحيح، وقد تقدّم تخريجه في الحديث الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4140 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَحْبُوبٌ -يَعْنِي ابْنَ مُوسَى- قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ -وَهُوَ الْفَزَارِيُّ- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي سَلاَّمٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ وَبَرَةً، مِنْ جَنْبِ بَعِيرٍ، فَقَالَ:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِي، مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ قَدْرَ هَذِهِ، إِلاَّ الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ» .
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: اسْمُ أَبِي سَلاَّمٍ: مَمْطُورٌ وَهُوَ حَبَشِيٌّ، وَاسْمُ أَبِي أُمَامَةَ، صُدَيُّ بْنُ عَجْلَانَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(عبد الرحمن بن عيّاش) بتحتانيّة ثقيلة، ومعجمة-: هو عبد الرحمن بن الحارث ابن عبد اللَّه بن عيّاش بن أبي ربيعة، واسمه عمرو بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عُمر بن مخزوم المخزوميّ، أبو الحارث المدنيّ، نُسب إلى جدّه الأعلى، صدوق، له أوهام [7].
قال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: صالح. وقال أبو حاتم: شيخ. وقال النسائيّ: ليس بالقويّ. وقال العجليّ: مدنيّ ثقة. وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ليس به بأس. وقال أحمد: متروك. وضعّفه عليّ بن المدينيّ. وقال ابن نمير: لا أقدم على ترك حديثه. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: كان من أهل العلم. وقال ابن سعد: كان ثقة، وتوفّي في أول خلافة أبي جعفر. وقال غيره: وُلد في عام الْجُحَاف
(1)
سنة (80)، ومات سنة (143). روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والأربعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط،
2 -
(سليمان بن موسى) الأمويّ الدمشقيّ الأشدق، صدوق فقيه، في حديثه بعض لين، وخولط قبل موته بقليل [5] 7/ 504.
3 -
(مكحول) أبو عبد اللَّه الشاميّ، ثقة فقيةٌ، كثير الإرسال، مشهور [5] 4/ 630.
4 -
(أبو سلّام) ممطور الأسود الحبشيّ، ثقة، يرسل [3] 2/ 1370.
5 -
(أبو أمامة الباهليّ) صُديّ بصيغة التصغير- ابن عجلان الصحابيّ المشهور، سكن الشام، ومات بها - رضي اللَّه تعالى عنه - سنة (86) تقدّمت ترجمته في 108/ 147.
(1)
"الْجُحاف" كغراب: الموت، ومَشيُ البطن عن تُخَمة. قاله في "القاموس".
6 -
(عبادة بن الصامت) بن قيس الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو الوليد المدنيّ، أحد النقباء، البدريّ المشهور، مات - رضي اللَّه تعالى عنه - بالرملة، سنة (34)، وله (72) سنة، وقيل: عاش إلى خلافة معاوية، تقدّمت ترجمته في -6/ 461، والباقون ترجموا قبل حديثين. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من تساعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، فهو من أنزل الأسانيد له، فإن أعلاها الرباعيّات، وأنزلها الْعُشاريّات، كما مرّ بيانه في مقدمة هذا الشرح. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أنه مسلسل بالشاميين من عبد الرحمن بن عيّاش. (ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين يروي بعضهم، عن بعض: سليمان، عن مكحول، عن أبي سلام. (ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَوْمَ حُنَيْنِ) أي يوم قسمه الغنائم التي حصلت للمسلمين في غزوة حنين، وقد تقدّم بيانها قبل حديث (وَبَرَةً) بفتحات-: واحدة الْوَبَر، كقَصَبَة وقَصَب، وهو للبعير كالصوف للغنم، وهو في الأصل مصدرٌ، من باب تعِب، وبعيرٌ وَبِرٌ بالكسر: كثير الوَبَر، وناقةٌ وَبِرَةٌ، والجمع أوبار، مثلُ سبب وأسباب. قاله الفيّوميّ (مِنْ جَنْبِ بَعِيرٍ، فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِي، مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) أي رجعه اللَّه من أموال الكفار على المسلمين، ورزقهم إياه، وفيه تنبيه على أنهم هو المستحقون للأموال أصالة، وإن الكفّار متغلبون على حقوق المسلمين (قَدْرُ هَذِهِ) برفع "قدرُ" على الفاعلية لـ"لا يحلّ"(إِلاَّ الْخُمُسُ) بالرفع على أنه بدل من "قدر"؛ إذ الاستثناء مفرّغ (وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ) أي مصروف في مصالحكم، وذلك أنه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - كان يقسم الغنالم على خمسة اقسام، فأربعة أخماسه بين الغانمين، لا يشاركهم فيه أحد غيرهم، ثم يقسم الخمس خمسة أقسام، له خمسه، ومثله لذوي القربى، ولكلّ من اليتامى، والمساكين، وابن السبيل مثل ذلك، على ما في آية الغنيمة، ثم يصرف ما فضل عن أهله في مصالح المسلمين، وسيأتي تمام البحث في هذا عند ذكر المصنّف له، إن شاء اللَّه تعالى.
(قَالَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ) النسائيّ -رحمه اللَّه تعالى- (اسْمُ أَبِي سَلَّام) بتشديد اللام (مَمْطُورٌ) بصيغة اسم مفعول "مَطَرَ"(وَهُوَ حَبَشِيٌّ) أي منسوب إلى الحبشة الجيل
المعروف (وَاسْمُ أَبِي أُمَامَةَ) بضمّ الهمزة (صُدَيُّ) بضمّ الصاد، وفتح القال المهملتين بصيغة التصغير (ابْنُ عَجْلَانَ) بفتح العين المهملة، وسكون الجيم.
ودلالة الحديث على الترجمة من حيث إن الخمس حقّ للنبيّ أنه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، فكان يعطيه مستحقيه، وما بقي منه كان يصرف الخمس في مصالح المسلمين، فلا يستأثر به دونهم. واللَّه تعالى أعلم.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث عبادة بن الصامت - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا- 1/ 4140 - وفي "الكبرى" 1/ 4440. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4141 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى بَعِيرًا، فَأَخَذَ مِنْ سَنَامِهِ وَبَرَةً بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ لِي مِنَ الْفَىْءِ شَيْءٌ، وَلَا هَذِهِ، إِلاَّ الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -. "ابن أبي عديّ": هو محمد بن إبراهيم.
وقوله: "من سنامه" بفتح السين المهملة: هو ما ارتفع من ظهر الجمل.
وقوله: إصبيعيه" بكسر الهمزة أفصح، وفيها عشر لغات: تثليث الهمزة، مع تثليث الباء، والعاشرة: أُصبوع، بوزن أُسبوع.
والحديث صحيح، وقد تقدّم مطولًا في "كتاب الهبة" 1/ 715 - وقد سبق شرحه، وتخريجه هناك، وقد سبق وجه استدلال المصنّف به في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4142 -
(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو -يَعْنِي ابْنَ دِينَارٍ- عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ، عَنْ عُمَرَ، قَالَ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ، بِخَيْلٍ، وَلَا رِكَابٍ، فَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهَا قُوتَ سَنَةٍ، وَمَا بَقِيَ جَعَلَهُ فِي الْكُرَاعِ، وَالسِّلَاحِ، عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح. و"عبيد اللَّه ابن سعيد": هو أبو قُدامة السرخسيّ. و"سفيان": هو ابن عيينة.
و"مالك بن أوس بن الحدثان" بفتح المهملتين، والمثلّثة- ابن سعد بن يَرْبُوع النَّصْريّ بالنون-، أبو سعيد المدنيّ، مختلف في صحبته. روى عن النبيّ - صلى اللَّه
تعالى عليه وسلم - مرسلاً. وقيل: إنه رأى أبا بكر. ذكره ابن سعد في طبقة من أدرك النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، ورآه، ولم يحفظ عنه شيئًا، قال: ويقولون: إنه ركب الخيل في الجاهليّة. قال: وكان قديمًا، ولكنه تأخّر إسلامه. وقال البخاريّ: قال بعضهم: له صحبة، ولا تصح. وقال أبو حاتم، وابن معين: لا تصحّ له صحبة. وقال عُقيل، عن الزهريّ: ذكرت لعروة حديث مالك بن أوس، فقال: صدق. وقال ابن خراش: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: من زعم أن له صحبة فقد وهم. وأثبت له الصحبة أحمد بن صالح المصريّ. وذكره ابن عبد البرّ، وقال: إنه روى عن العشرة. وقال أنس بن عياض، عن سلمة بن وردان، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: كنّا عند النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، فقال:"وجبت، وجبت" الحديث. ولكن سلمة ضعيف. وقال ابن منده: إن الصواب عن سلمة بن وردان، عن أنس بن مالك. وقال أبو القاسم البغويّ: يقال: إنه رأى النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، ولم تثبت له عنه رواية. قال الواقديّ، وآخرون: مات سنة (92). وقال يحيى بن بكير مرّة أخرى: مات سنة (91). روى له الجماعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديثان فقط: أحدهما: هذا، وسيعيده مطوّلًا آخر هذا الباب، والثاني: في "كتاب البيوع" 41/ 3560 - حديث عمر - رضي اللَّه تعالى عنه -، مرفوعًا:"الذهب بالذهب ربًا، إلا هاء وهاء" الحديث.
وقوله: "مما أفاء اللَّه على رسوله" أي ردّها اللَّه إليه، وكانت في ملكه بعد أن خرجت عنه بوضع يد الكفرة عليها ظلمًا وعدوانا، كما دلّ عليه التعبير بالفيء الذي هو عود الظل إلى الناحية التي كان ابتدأ منها. ومعنى ذلك-كما قال بعضهم- أنّ هذا المال الذي استولى عليه الكفار كان حقيقًا بأن يكون له - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -؛ لأن اللَّه تعالى خلق الناس لعبادته، وخلق ما خلق لهم ليتوصّلوا به إلى طاعته، فهو جدير بأن يكون للمطيعين، وهو - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - رأسهم ورئيسهم، وبه أطاع من أطاع، فكان أحقّ به. انتهى
(1)
.
وقوله: "مما لم يوجف عليه المسلمون": أي لم يُسرع، ولم يُجْرِ، أي بلا حرب. وفي "المصباح": وَجَفَ الفرس والبعير وَجِيفًا: عدا، وأو جفته بالألف: أعديته، وهو الْعَنَقُ في السير، وقولهم: ما حصل بإيجاف: أي بإعمال الخيل والركاب في تحصيله انتهى.
(1)
راجع "حاشية الجمل على الجلالين" 4/ 312. في "تفسير سورة الحشر".
وقوله: "اولا ركاب": هي ما يركب من الإبل، غلب ذلك عليها من بين المركوبات، واحدها راحلةٌ، ولا واحد لها من لفظها.
وقوله: "في الكراع " بضمّ الكاف: جماعة الخيل. وقوله: "عُدّة" بضمّ العين، وتشديد الدال المهملتين، جمعه عُدَدٌ، مثلُ غرفة وغُرَف: هو ما أعددته من مال، أو سلاح، أو غير ذلك". قاله الفيّوميّ.
والحديث متّفقٌ عليه، وسيأتي تمام شرحه، وتخريجه آخر الباب، حيث يذكره المصنّف هناك مطولاً، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4143 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَحْبُوبٌ -يَعْنِي ابْنَ مُوسَى- قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ - هُوَ الْفَزَارِيُّ- عَنْ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ فَاطِمَةَ، أَرْسَلَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، مِنْ صَدَقَتِهِ، وَمِمَّا تَرَكَ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا نُورَثُ»).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عمرو بن بن يحيى الحارث) الحمصيّ ثقة [12]. 67/ 2329، من أفراد المصنّف.
2 -
(محبوب بن موسى). أبو صالح الأنطاكيّ الفرّاء، صدوقٌ [10] 1/ 3589 من أفراد المصنّف، وأبي داود.
3 -
(أبو إسحاق الفزاريّ) إبراهيم بن محمد بن الحارث الكوفيّ، ثم المصّيصيّ، ثقة حافظ ثبت [8] 58/ 863.
4 -
(شُعيب بن أبي حمزة) دينار الأمويّ مولاهم، أبو بشر الحمصيّ، ثقة ثبت [7] 85/ 69. 5 - (الزهريّ) محمد بن مسلم الإمام الحافظ الحجة الثبت [4] 1/ 1.
6 -
(عروة بن الزبير) بن العوّام الأسديّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 40/ 44.
7 -
(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها -5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فمن أفراده، ومحبوب، فقد تفرد به هو وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من الزهريّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه عروة من
الفقهاء السبعة، وعائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.
شرحِ الحديث
(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّ فَاطِمَةَ) بنت رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم (أَرْسَلَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ) الصديق - رضي اللَّه تعالى عنه -، وذلك في خلافته. وزاد في رواية للبخاريّ العباس - رضي اللَّه تعالى عنه -، ولفظه من طريق معمر، عن الزهريّ: أن فاطمة والعباس -عليهما السلام أتيا أبا بكر، يلتمسان ميراثهما من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهما حينئذ يطلبان أرضيهما من فدك، وسهمهما من خيبر" الحديث (تَسْأُلُهُ) جملة في محلّ نصب على الحال من فاعل "أرسلت" (مِيرَاثَهَا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أي مما تركه من المال، كما بيّنه بقوله (مِنْ صَدَقَتِهِ، وَمِمَّا تَرَكَ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ) وفي رواية البخاريّ: "وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - من خيبر، وفدك، وصدقته بالمدينة ". وهذا كما قال في "الفتح" - يدلّ على أنها لم تطلب من جميع ما خلف، وإنما طلبت شيئًا مخصوصًا.
فأما خيبر، ففي رواية معمر:"وسهمه من خيبر". وقد روى أبو داود بإسناد صحيح إلى سهل بن أبي حثمة، قال: قسم رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - خيبر نصفين: نصفها لنوائبه، وحاجته، ونصفها بين المسلمين، قسمها بينهم على ثمانية عشر سهمًا"، ورواه بمعناه من طرُق أخرى عن بشِير بن يسار، مرسلاً، ليس فيه سهل.
وأما فدك وهي بفتح الفاء، والمهملة، بعدها كاف-: بلد بينها وبين المدينة ثلاث مراحل، وكان من شأنها ما ذكر أصحاب المغازي قاطبة أن أهل فدك كانوا من يهود، فلما فُتحت خيبر أرسل أهل فدك يطلبون من النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - الأمان على أن يَتركوا البلد، ويرحلوا. وروى أبو داود من طريق ابن إسحاق، عن الزهريّ وغيره، قالوا:"بقيت بقيّةٌ من خيبر تحصّنوا، فسألوا النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - أن يحقِن دماءهم، ويُسيِّرهم، ففعل، فسمع بذلك أهل فدك، فنزلوا على مثل ذلك. وكانت لرسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - خاصّة". ولأبي داود أيضًا من طريق معمر، عن ابن شهاب:"صالح النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - أهل فدَك، وقرى سمّاها، وهو يُحاصر قوما آخرين"، يعني بقيّة أهل خيبر.
وأما صدقته بالمدينة، فروى أبو داود من طريق معمر، عن الزهريّ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن رجل من أصحاب النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، فذكر قصّة بني النضير، فقال في آخره: "وكانت نخل بني النضير لرسول اللَّه - صلى اللَّه
تعالى عليه وسلم - خاصّة أعطاها إياه، فقال:{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} الآية [الحشر: 6]. قال: فأعطى أكثرها للمهاجرين، وبقي منها صدقة رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - التي في أيدي بني فاطمة". وروى عمر بن شبّة من طريق أبي عون، عن الزهريّ، قال: "كانت صدقة النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - بالمدينة أموالًا لمُخيريق بالمعجمة، والقاف، مصغرًا- وكان يهوديًّا، من بقايا بني قينقاع، نازلاً ببني النضير، فشهد أحدًا، فقتل به، فقال النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -:"مُخيريقٌ سابق يهود، وأوصى مخيريقٌ بأمواله للنبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -". ومن طريق الواقديّ بسنده عن عبد اللَّه بن كعب، قال:"قال مخيريقٌ إن أُصبتُ فأموالي لمحمد، يضعها حيث أراه اللَّه"، فهي عامّة صدقة رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، قال: وكانت أموال مخيريق في بني النضير. أفاده في "الفتح"
(1)
.
(قَالَ أَبُو بَكْرِ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (إِنَّ رسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا نُوَرَثُ" هكذا الرواية في نسخ "المجتبى" مختصرة، وزاد في "الكبرى" - وهي رواية الشيخين، وغيرهما-:"ما تركنا صدقة"، ولعلها سقطت من بعض لساخ "المجتبى"، فإن الإسناد في الكتابين واحد. واللَّه تعالى أعلم.
فقوله: "لا نورث" بفتح الراء في الرواية، ولو رُوي بالكسر لصحّ المعنى أيضًا. قاله في "الفتح"
(2)
.
وقال السنديّ: "لا نورث " أي نحن، يريد معاشر الأنبياء، وهذا الخبر قد رواه غير أبي بكر أيضّا، وتكفي رواية أبي بكر لوجوب العمل به، ولا يرد أن خبر الآحاد كيف يُخضص عموم القرآن؛ لأن ذلك بالنظر إلى من بلغه الحديث بواسطة، وأما من أخذه بلا واسطة، فالحديث بالنظر إليه كالقرآن في وجوب العمل، فيصحّ به التخصيص، على أن كثيرًا من العلماء جوّز التخصيص بأخبار الآحاد، فلا غبار أصلاً. انتهى
(3)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحقّ أن القول بجواز التخصيص بخبر الآحاد هو الصواب، وهو قول الجمهور، ومنهم الأئمة الأربعة، فيما حكاه ابن الحاجب، وقد أُجيب عن قول المانعين بأنه إن جاز يلزم ترك القطعي بالظنّي، بأن محل التخصيص دلالة العامّ، وهي ظنيّة، والعمل بالظننين أولى من إلغاء أحدهما. وإلى الأقوال في مسألة نسخ الكتاب بالسنّة وعكسه أشار في "الكوكب الساطع" حيث قال:
(1)
راجع "الفتح" 6/ 323 - 324 "كتاب فرض الخمس" حديث: 3092.
(2)
"فتح" 13/ 490 "كتاب الفرائض" حديث 6728.
(3)
"شرح السنديّ" 7/ 132.
وَجَازَ أَنْ يُخَصَّ في الصَّوَابِ
…
سُنَّتُهُ بِهَا وَبِالْكِتَابِ
وَهْوَ بِهِ وَخَبَرِ التَّوَاتُرِ
…
وَخَبَرِ الْوَاحِدِ عِنْدَ الأَكْثَرِ
وَقِيلَ إِنَّ خُصَّ بِقَاطِعٍ جَلِي
…
وَعَكْسُهُ وَقِيلَ بِالْمُنْفَصِلِ
انظر ما كتبته على هذه الأبيات في "الجليس الصالح النافع، شرح الكوكب الساطع" ص 194 - 196.
وقوله: "ما تركنا صدقة" برفع "صدقةٌ": أي المتروك عنّا صدقة. وادّعى الشيعة أنه بالنصب على أن "ما" نافيةٌ. ورُدّ عليهم بأن الرواية ثابتة بالرفع، وعلى التنزّل، فيجوز النصب على تقدير محذوف: أي ما تركنه مبذولٌ صدقةً. قاله ابن مالك. قال الحافظ: وينبغي الإضراب عنه، والوقوف مع ما ثبتت به الرواية. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: قال في "الفتح": وأمَّا ما اشتهر في كُتُبِ أهلِ الأُصُولِ وغيرِهِم، بِلفظِ:"نحنُ مُعاشِر الأنبِياءِ لا نُورث"، فقد أنكرهُ جمًاعة من الأئِمَّة، وهُو كذلِك بِالنَّسْبةِ لِخُصُوصِ لفظ:"نحنُ"، لكِق أخرجهُ النَّسائيُّ من طرِيق ابن عُيينة، عن أبِي الزَّناد، بِلفظِ:"إِنا مُعاشِر الأنبِياءِ لا نُورث" الحدِيث، أخرجهُ عن مُحمّد بن منصُور، عن ابن عُيينة، عنهُ، وهُو كذلِك في "مُسْنَد الحُميدِيَّ"، عن ابن عُيينة، وهو من أتقن أصْحاب ابن عُيينة فِيهِ. وأوردهُ الهيثم بن كُليب في "مُسنده"، مِن حدِيث أبِي بكر الصَّدَّيق بِاللَّفْظِ المذكُور. وأخرجهُ الطبرانِيُّ في "الأوْسط" بِنحوِ اللقظ المذكور. وأخرجهُ الدَّارقُطنِيُّ في "العِلل" مِن رِواية أُمّ هانِىءٍ، عن فاطِمة عليها السلام، عن أبِي بكر الصَّدَّيق، بلفظِ:"إِنَّ الأنبِياء لا يُورثُون". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي بكر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا- 1/ 4143 - وفي "الكبرى" 1/ 4443. وأخرجه (خ) في "فرض الخمس" 3093 و"المناقب" 3712 و"المغازي" 4036 و 4241 و"الفرائض" 6725
(1)
المصدر السابق.
(م) في "الجهاد والسير" 1759 (د) في " الخراج والإمارة والفيء" 2968 و 2976 (أحمد) في "مسند العشرة" 26 (الموطأ) في "الجامع"1870. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): بيان أن الأنبياء عليه الصلاة والسلام لا يورثون. (ومنها): أن الحكمة في كون الأنبياء عليهم السلام لا يورثون -واللهُ أعْلمُ- أن اللَّه بعثهُم مُبلغِين رِسالته، وأمرهُم أن لا يأخُذُوا على ذَلِكَ أجرا، كما قال تعالى:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام: 90]، وقال نُوخ، وهُود، وغيرُهُما نحو ذَلِكَ، فكانت الحكمة في أن لا يُورثُوا؛ لِئلا يُظنَّ أنهُم جمًعُوا المال لِوارِثِهِنم. وقيل: الحِكمة في كوْن النبيّ لا يُورثُ، حسمُ المادَّةِ في تمنَّي الوارِث موْت المُورّثِ، من أجْلِ المال. وقِيل: لِكونِ النَّبِي كالأبِ لأُمَّتِهِ، فيكُون مِيراثه لِلجمِيع، وهذا معْنى الصَّدقة العامّة. واللَّه تعالى أعلم. (ومنها): أن الراجح أن المراد بالإرث الذي ذكره اللَّه تعالى، حكايته عن زكريا عليه السلام، بقوله:{يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} الآية [مريم: 6] هو إرث النبوّة والحكمة، لا إرث المال.
وقد حكى ابن عبد البّر أن لِلعُلماءِ في ذَلِكَ قوْلينِ: وأن الأكثر على أن الأنبِياء لا يُورثُون. وقيل: إنهم يورثون، وممن ذُكِر أنه قال بذلِك مِن الفُقهاء، إِبراهِيم بن إِسماعِيل ابن عُلية، ونقلهُ عن اِلحسن البصرِي عِياضٌ في "شرحِ مُسلِم"، وأخرج الطبرِيُّ من طرِيق إِسماعِيل بْن ابِي خالِد، عن أبِي صالِح، في قوله تعًالى حِكاية عن زكرِيّا:{وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ} [مريم: 5]، قال: انعصبة. ومِن قوله: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي} [مريم: 5، 6] قال: يرِث مالي، ويرِث مِن آلِ يعقُوب النبُوْة. ومِق طرِيق قتادة، عن الحسنُ نخوه، لكِن لم يذكُر المال. ومِن طرِيق مُبارك بن فضالة، عن الحسنُ، رفعهُ مُرْسلا:"رحِم اللَّه اخِي زكرِيّا، ما كان عليهِ من يرِثُ مالهُ".
قال الحافظ: وعلى تقدِير تسييم القوْل المذكُورِ، فلا مُعارِض من القُرآن لِقوْلِ نبيَّنا عليه الصلاة والسلام:"لا نُورث، ما تركنا صدقة"، فيكُون ذَلِكَ مِن خصائصه، التي أُكرِم بِها. وأمَّا عُمُوم قوْله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} الآية [النساء: 11]، فأُجِيب عنها بِأنها عامَّة، فِيمن ترك شيئًا كان يملِكُهُ، وإِذا ثبت أنهُ وقفهُ قبل موْتِهِ، فلم يُخلف ما يُورث عنهُ، فلم يُورث. وعلى تقدِير أنهُ خلف شيئًا، مِمّا كان يملِكُهُ، فدُخُولُهُ في الخطاب قابِل لِلتَّخصِيصِ؛ لِما عُرِف من كثرةِ خصائِصِهِ صلى الله عليه وسلم. وقد اشتهر عنهُ أنَّهُ لا
يُورَث، فظهر تَخْصِيصُهُ بِذَلِكَ دُون النَّاس. أفاده في "الفتح"
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4144 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مَحْبُوبٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ
(2)
، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ، فِي قَوْلِهِ عز وجل {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] ، قَالَ: خُمُسُ اللَّهِ، وَخُمُسُ رَسُولِهِ وَاحِدٌ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَحْمِلُ مِنْهُ، وَيُعْطِي مِنْهُ، وَيَضَعُهُ حَيْثُ شَاءَ، وَيَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(زائدة) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصلت الكوفيّ، ثقة ثبت، صاحب سنّة [7] 74/ 91.
2 -
(عبد الملك بن أبي سُليمان) واسمه ميسرة الْعَرْزَميّ الكوفيّ، صدوق، له أوهام [5] 7/ 406.
3 -
(عطاء) بن أبي رباح أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد الفقيه المكيّ، ثقة فقيه فاضل، لكنه كثير الإرسال، مات سنة (114) على المشهور، وقيل: إنه تغيّر بآخره، ولم يكن ذلك منه، وتقدّم في 112/ 154. والباقون ترجموا في السند الماضي. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَطَاءٍ) بن أبي رَباح -رحمه اللَّه تعالى- (في) معنى (قوْلِهِ عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} الغنيمة في اللغة: ما يناله الرجل، أو الجماعة بسعي، ومن ذلك قول الشاعر [من الوافر]:
وَقَدْ طَوَّفْتُ فِي الآفَاقِ حَتَّى
…
رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالإيَابِ
وقال آخر [من البسيط]:
وَمَطْعَمُ الْغُنْمِ يَوْمَ الْغُنْمِ مَطْعَمُهُ
…
أَنِّى تَوَجَّهَ وَالْمَحْرُومُ مَحْرُومُ
والمغنم، والغنيمة بمعنًى، يقال: غنِم الشيء يغنمه، من باب تَعِب غُنمًا بالضمّ، وغَنِيمة، وَمَغْنَمًا: إذا فاز به. وقال في "اللسان": الغُنم بالضمّ: الاسم، وبالفتح المصدر.
(1)
راجع "الفتح" 13/ 491 - 492. "كتاب الفرائض".
(2)
هو إبراهيم بن محمد بن الحارث الفزاريّ.
قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: واعلم أن الاتفاق حاصل على أن المراد بقوله تعالى: {غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] مال الكفّار، إذا ظفِر به المسلمون على وجه الغلبة والقهر، ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص على ما بيّتّاه، ولكن عُرف الشرع قيّد اللفظ بهذا النوع. وسَمّى الشرع الواصل من الكفّار إلينا من الأموال باسمين: غنيمةً، وفيئًا، فالشيء الذي يناله المسلمون من عدوّهم بالسعي، وإيجاف الخيل والركاب، يُسمّى غنيمةً، ولزم الاسم هذا المعنى حتى صار عُرْفًا. والفيء مأخوذ من فاء يفيء: إذا رجع، وهو كلّ مال دخل على المسلمين من غير حرب، ولا إيجاف، كخراج الأرضِين، وجزية الجماجم
(1)
، وخمس الغنائم، ونحو هذا. قاله سفيان الثوريّ، وعطاء بن السائب. وقيل: إنهما واحدٌ، وفيهما الخمس. قاله قتادة. وقيل: الفيء عبارة عن كلّ ما صار للمسلمين من الأموال بغير قهر، والمعنى متقارب. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-
(2)
.
({فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى})، قال) عطاء (خُمُسُ اللَّهِ، وخُمُسُ رسُولِهِ واحدٌ) يريد أن ذكر اللَّه تعالى في قوله: {لِلَّهِ} للتبرّك والتعظيم (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَحْمِلُ مِنْهُ) أي يحمل من ذلك الخمس الفقراء الذين لا يجدون ما يغزون عليه من الدوابّ (وَيُعْطِي مِنْهُ) أي يعطي من ذلك الخمس للمحتاجين وقوله (وَيَضَعُهُ حَيْثُ شَاءَ) تعميم بعد تخصيص. وقوله (وَيَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ) من عطف التأكيد لما قبله.
وحاصل تفسير عطاء -رحمه اللَّه تعالى- أن المراد بذكر اللَّه تعالى في الآية الكريمة للتبرّك، وأن الخمس الذي جعله اللَّه تعالى له فيها للرسول - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، يضمّ إلى خمسه، فيصنع به ما ذُكر. واللَّه تعالى أعلم.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث عطاء -رحمه اللَّه تعالى- هذا مرسلٌ صحيح الإسناد، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا- 1/ 4144 - وفي "الكبرى" 1/ 4444. وأخرجه ابن جرير في "تفسير سورة الأنفال" 13/ 548 رقم 16093. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4145 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَحْبُوبٌ -يَعْنِي ابْنَ مُوسَى- قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ -هُوَ الْفَزَارِيُّ- عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ، عَنْ قَوْلِهِ عز وجل {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ
(1)
لعله أراد بالجماجم الناس. واللَّه أعلم.
(2)
"الجامع لأحكام القرآن" 8/ 1 - 2.
خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]، قَالَ: هَذَا مَفَاتِحُ كَلَامِ اللَّهِ، الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ لِلَّهِ، قَالَ: اخْتَلَفُوا فِي هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ، بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، سَهْمِ الرَّسُولِ، وَسَهْمِ ذِي الْقُرْبَى، فَقَالَ: قَائِلٌ سَهْمُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لِلْخَلِيفَةِ مِنْ بَعْدِهِ، وَقَالَ قَائِلٌ: سَهْمُ ذِي الْقُرْبَى لِقَرَابَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ قَائِلٌ سَهْمُ ذِي الْقُرْبَى لِقَرَابَةِ الْخَلِيفَةِ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ جَعَلُوا هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ، فِي الْخَيْلِ وَالْعُدَّةِ، فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَكَانَا فِي ذَلِكَ، خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ).
رجال هذا الإسناد. ستة:
1 -
(سفيان) بن سعيد الثوريّ الإمام الحجة الثبت الكوفيّ [7] 33/ 37.
2 -
(عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ) الْجَدَليّ بفتح الجيم- أبي عمرو الكوفيّ، ثقة، رُمي بالإرجاء [6] 50/ 2738.
3 -
(الحسن بن محمد) بن عليّ بن أبي طالب الهاشميّ، أبو محمد المدنيّ، وأبوه هو المعروف بابن الحنفيّة، ثقة فقيه، يقال: إنه أول من تكلم في الإرجاء [3] مات سنة مائة، أو قبلها [3] 71/ 3366، والباقون تقدّموا قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ) الْجَدَلِيّ -رحمه اللَّه تعالى-، أنه (قَالَ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ) الهاشمي -رحمه اللَّه تعالى- (عَنْ) معنى (قَولِهِ عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]، قَالَ) الحسن (هَذَا) أي قوله تعالى: {فإن للَّه خمسه} (مَفَاتِحُ كَلَام اللَّهِ) أي ابتداء كلام اللَّه تعالى باسمه تبرّكا (الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ لِلَّهِ) مبتدأ وخبر، ولفظ "الكبرى": للَّه الدنيا والآخرة ". يعني أن الأشياء كلّها للَّه سبحانه وتعالى، لا خصوص الخمس، ففائدة ذكره هنا هو التبرّك (قَالَ) الحسن (اخْتَلَفُوا) ولفظ ابن جرير: "ثم اختلف الناس" (فِي هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ، بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، سَهْمِ الرَّسُولِ) بالجرّ على أنه بدل تفصيل للسهمين، ويجوز قطعه إلى الرفع، والنصب، بتَقدير مبتدإ، أي هو، وتقدير فعل، أي أعني، وكذا إعراب قوله (وَسَهْمِ ذِي القُرْبَى، فَقَالَ قَائِلٌ: سَهْمُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لِلْخَلِيفَةِ مِنْ بَعْدِهِ) أي لمن كان خليفة للرسول - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - بعد وفاته. هكذا في رواية المصنّف، والذي عند ابن جرير في "تفسيره" من طريق عبد الرحمن بن مهديّ، عن سفيان: "سهم النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - لقرابة النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -" (وَقَالَ قَائِلٌ: سَهْمُ ذِي القُرْبى لِقَرَابَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ قَائِلٌ: سَهْمُ ذِي القُرْبى لِقَرَابةِ الْخَلِيفَةِ) يعني أنه يصرفه الخليفة لأقاربه، فمعنى "وذي القربى" في الآية الكريمة على هذا أقارب الخليفة، لا أقارب الرسول - صلى اللَّه
تعالى عليه وسلم -، لكن الأرجح حمل القربى في الآية على أقاربه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، وهو الذي رجحه ابن جرير الطبريّ في "تفسيره"، والمصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في كلامه الآتي قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى (فَاجْتَمَعَ رَأْيَهُمْ، عَلَى أَنْ جَعَلُوا هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ) أي سهم الرسول - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، وسهم ذي القربى (فِي الْخَيْلِ) أي في شراء الخيل (وَالْعُدَّةِ) بالضم: هو ما يُعد، ويهُيأ، من آلات الحرب، كالسلاح، ونحوه (فِي سِبِيلِ اللَّهِ) أي للجهاد لإعلاء كلمة اللَّه تعالى (فَكَانَا فِي ذَلِكَ) أي كان السهمان مصروفين في ذلك الأمر المذكور، من الخيل، والعُدّة. ولفظ "الكبرى":"فكان في ذلك"، ولفظ ابن جرير:"فكانا على ذلك"(خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ)"خلافة" منصوب على الظرفية، على حذف مضاف، أي مُدّة خلافتهما - رضي اللَّه تعالى عنهما -. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث الحسن بن محمد هذا مرسلٌ صحيح الإسناد، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا- 1/ 4145 - وفي "الكبرى" 1/ 4445. وأخرجه ابن جرير في "تفسيره" 13/ 557 رقم 16121 - في "تفسير سورة الأنفال". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
4146 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَحْبُوبٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ
(1)
، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ الْجَزَّارِ، عَنْ هَذِهِ الآيَةِ:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] قَالَ: قُلْتُ: كَمْ كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْخُمُسِ؟ قَالَ: خُمُسُ الْخُمُسِ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "موسى بن أبي عائشة": هو الْهَمْدانيّ مولاهم، أبو الحسن الكوفيّ، ثقة عابدٌ [5] 40/ 834.
و"يحيى بن الْجَزّار": هو الْعُرَنيّ الكوفيّ، قيل: اسم أبيه زَبّان بزاي، ثم نون- وقيل: بل لقبه هو، صدوقٌ، رمي بالغلوّ في التشيّع [3] 29/ 1707.
والحديث مرسلٌ صحيح الإسناد، من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا- 1/ 4146 - وفي "الكبرى" 1/ 4446. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4147 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَحْبُوبٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ (1) ، عَنْ مُطَرِّفٍ، قَالَ: سُئِلَ الشَّعْبِيُّ، عَنْ سَهْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَصَفِيِّهِ؟ فَقَالَ: أَمَّا
(1)
هو إبراهيم بن محمد بن الحارث الفزاري.
سَهْمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَكَسَهْمِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا سَهْمُ الصَّفِيِّ، فَغُرَّةٌ تُخْتَارُ مِنْ أَىِّ شَيْءٍ شَاءَ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: [مطرّف] بضمّ الميم، وتشديد الراء المكسورة-: هو ابن طريف الكوفيّ، ثقة فاضلٌ، من صغار [6] 2/ 327. و"الشعبيّ": هو عامر بن شراحيل الهمدانيّ، أبو عمرو الكوفيّ الإمام الحجة الثبت الفقيه [3] 66/ 82.
وقوله: "وصفيّه": هو ما يأخذه رئيس الجيش، ويختاره لنفسه من الغنيمة قبل القسمة. قاله ابن الأثير
(1)
. وقال الفيّوميّ: والصَّفيّ، والصفية: ما يصطفيه الرئيس لنفسه من المغنم قبل القسمة: أي يختاره، وجمع الصَّفِيّة صَفَايَا، مثلُ عطيّة وعَطَايَا، قال الشاعر
(2)
[من الوافر]:
لَكَ الْمِرْبَاعُ مِنْهَا وَالصَّفَايَا
…
وَحُكْمُكَ والنَّشِيطةُ وَالْفُضُولُ
وقال ابن السِّكِّيت: قال الأصمعيّ: الصَّفَايَا: جمعُ صَفِيّ، وهو ما يَصطفيه الرئيس لنفسه دون أصحابه، مثلُ الفرس، وما لا يستقيم أن يُقسم على الجيش. والْمِرْباع: رُبع الغنيمة. والفُضُولُ: بقايا تبقى من الغنيمة، فلا تستقيم قسمته على الجيش؛ لقلّته، وكثرة الجيش. والنَّشِيطة: ما يغنَمُه القوم في طريقهم التي يمرّون بها، وذلك غير ما يقصدونه بالغزو. وقال أبو عُبيدة: كان رئيس القوم في الجاهليّة إذا غزا بهم، فغَنِم أخذ الْمِرباع من الغنيمة، ومن الأسرى، ومن السبي قبل القسمة على أصحابه، فصار هذا الربع خمساً في الإسلام، قال: والصَّفِيُّ: أن يصطفي لنفسه بعد الربع شيئًا، كالناقة، والفرس، والسيف، والجارية، والصفي في الإسلام على تلك الحال، وقد اصطفى رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - سيف مُنَبِّه بن الحجّاج يوم بدر، وهو ذو الفقار، واصطفى صفيّة بنت حُيّيّ. انتهى كلام الفيّوميّ.
كوله: "فغُرّة" بضمّ الغين المعجمة، وتشديد الراء-: هي خيار الشيء، ونفيسه.
[تنبيه]: وقع في "الكبرى": "فغده" بالدال بدل الراء، وهو تصحيف، فليُنتبّه. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "تختار من أيّ شيء شاء" ببناء الفعل للمفعول، أي تختار له - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - من أيّ نوع أراد أن يُختار له من الغنيمة.
والحديث مرسل صحيح، أخرجه المصنّف هنا - 1/ 4147 - وفي "الكبرى" 1/
(1)
"النهاية" 3/ 40.
(2)
هو عبد اللَّه بن عَنَمَة يُخاطب بِسْطام بن قيس. قاله في "اللسان" 14/ 462.
4447.
وأخرجه أبو داود في "الخراج والإمارة والفيء"2991. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4148 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مَحْبُوبٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ
(1)
، عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الشِّخِّيرِ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا مَعَ مُطَرِّفٍ بِالْمِرْبَدِ، إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ مَعَهُ قِطْعَةُ أُدْمٍ، قَالَ: كَتَبَ لِي هَذِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَهَلْ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَقْرَأُ، قَالَ: قُلْتُ: أَنَا أَقْرَأُ، فَإِذَا فِيهَا:«مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لِبَنِي زُهَيْرِ بْنِ أُقَيْشٍ، أَنَّهُمْ إِنْ شَهِدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَفَارَقُوا الْمُشْرِكِينَ، وَأَقَرُّوا بِالْخُمُسِ فِي غَنَائِمِهِمْ، وَسَهْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَصَفِيِّهِ، فَإِنَّهُمْ آمِنُونَ بِأَمَانِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(سعيد الجريريّ) -بضمّ الجيم- ابن إياس، أبو مسعود البصريّ، ثقة، تغيّر قبل موته بثلاث سنين [5] 32/ 672.
2 -
(يزيد بن الشِّخِّير) -بكسر الشين المعجمة، وكسر الخاء المشدّدة المعجمة- هو يزيد ابن عبد اللَّه بن الشخير -نُسب لجدّه- العامري، أبو العلاء البصريّ، ثقة، مات سنة (111) أو قبلها، وكان مولده في خلافة عمر - رضي اللَّه تعالى عنه -، فوهم من زعم أن له رؤية [2] 32/ 672، والباقون تقدّموا قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ يَزِيدَ بْنِ الشِّخِّيرِ) العامري، أنه (قَالَ: بَيْنَا أَنَا مَعَ مُطَرِّفٍ) هو أخوه، أكبر منه، وهو ابن عبد اللَّه بن الشخير العامري، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقة عابدٌ فاضل، مات سنة (95)[2] 53/ 67) (بِالْمِرْبَدِ) بكسر الميم، وسكون الراء، وفتح الموحّدة- وزان مِنبر: المحبسُ، والجرينُ، وموضع بالبصرة. قاله في "القاموس"، وفي "المصباح":"الْمِرْبد" وزان مِقود، وهو موقف الإبل، ومِربد النعم: موضع بالمدينة، يقال: على نحو من ميل. والمربد أيضًا: موضع التمر، ويقال له: أيضًا: مِسْطَح. انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: المراد بالمربد هنا كما قال المنذريّ- محلّة بالبصرة، من أشهر محالّها، وأطيبها.
(إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ مَعَهُ قِطْعَةُ) بكسر القاف، وسكون الطاء المهملة (أَدَمٍ) بفتحتين، وبضمتين، وهو القياس، مثلُ بَرِيد وبُرُد: هو الجلد المدبوغ. قاله في "المصباح"، وفي
(1)
هو الفزاري.
"القاموس": والأدِيم" الجلد، أو أحمره، أو مدبوغه، جمعه آدِمةٌ أي بالمد-، وأُدُمٌ أي بضمتين- وآدام أي بالمد- و"الأَدَمُ" أي بالتحريك- اسم للجمع. انتهى.
وفي رواية أبي داود من طريق قُرّة، عن يزيد بن عبد اللَّه بن الشخّير، قال:"كنّا بالمربد، فجاء رجل، أشعث الرأس، بيده قطعة أديم أحمر، فقلنا: كأنك من أهل البادية؟ قال: أجل، قلنا: ناولنا هذه القطعة الأديم التي في يدك، فناولناها، فقرأنا ما فيها، فإذا فيها: "من محمد رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - إلى بني زُهير بن أقيش" الحديث.
قال الحافظ المنذريّ: ورواه بعضهم عن يزيد بن عبد اللَّه، وسمّى الرجل النَّمِر بن تَوْلَب، الشاعر، صاحب رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، ويقال: إنه ما مدح أحدًا، ولا هجا أحدًا، وكان جوادًا، لا يكاد يُمسك شيئًا، وأدرك الإسلام، وهو كبير. (قَالَ: كَتَبَ) أي أمر بكتابه (لِي هَذِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَهَلْ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَقْرَأُ، قَالَ) يزيد (قُلْتُ: أَنَا أَقَرَأُ، فَإِذَا فِيهَا) أي في تلك القطعة (مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيّ) بالجرّ على البدليّة (صلى الله عليه وسلم، لِبَنِي زُهيرِ بْنِ أُقيْشِ) بضمّ الهمزة، مصغّرًا: حي من عُكل (أَنَّهُمْ إِنَّ شَهِدُوا أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) ولفظ أبي داود في الرواية المذكورة: "إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأديتم الخمس من المغنم، وسهم النبيّ صلى الله عليه وسلم الصفي، أنتم آمنون بأمان اللَّه ورسوله" الحديث.
(وَفَارَقُوا الْمُشْرِكينَ) أي فارقوا دينهم، وعاداتهم (وَأَقَرُوا بِالخُمُسِ فِي غَنَائِمِهِمْ، وَسَهْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) قال السنديّ: ظاهره أن سهمه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - زائدٌ على الخمس. انتهى.
وقال المنذريّ -رحمه اللَّه تعالى-: قوله: "وسهم النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -": السهم في الأصل واحد السهام التي يُضرب بها في الميسر، وهي القداح، ثم سُمّي ما يفوز به الفالج
(1)
سهما، ثم كثُر حتى سُمّي كلّ نصيب سهمًا. انتهى
(2)
.
(وَصَفِيَّهِ) أي ما يختاره - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - من الغنيمة قبل القسمة، وقد تقدّم البحث عنه قريبًا.
وقال الخطّابيّ -رحمه اللَّه تعالى-: أما سهم النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، فإنه كان كسهم رجل ممن يشهد الوقعة، حضرها رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، أو
(1)
أي الفائز.
(2)
"مختصر المنذريّ" 4/ 231.
غاب عنها. وأما الصفي، فهو ما يصطفيه من عُرْض الغنيمة، من شيء قبل أن يخمس، عبد، أو جارية، أو فرس، أو سيف، أو غيرها، كان النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - مخصوصًا بذلك مع الخمس الذي له خاصّة. انتهى
(1)
.
وقال المنذريّ: قيل: كان للنبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - سهم رجل، شهد الوقعة، أو غاب عنها. والصفيّ: هو ما اصطفاه من عرض المغنم قبل القسمة، من فرس، أو غلام، أو سيف، أو ما أحبّ، وخمس الخمس، خُصّ بهذه الثلاثة، عوضًا من الصدقة التي حرّمت عليه. انتهى
(2)
.
(فَإِنَّهُمْ آمِنُون بِأَمَانِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي بسبب إعطاء اللَّه تعالى، ورسوله - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - الأمان لهم، فأما أمان اللَّه، فبقوله سبحانه وتعالى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، وقوله عز وجل:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} الآية. وأما أمانه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، فبكتابته لهم الكتاب المذكور؛ عملاً بما أمره اللَّه تعالى في كلامه المذكور. واللَّه تعالى أعلم.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث يزيد بن الشِّخِّير، عن رجل من بني زُهير بن أُقيش هذا صحيح، أخرجه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- هنا - 1/ 4148 - وفي "الكبرى" 1/ 4448. وأخرجه (د) في "الخراج، والإمارات، والفيء" 2999. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4149 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَحْبُوبٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: الْخُمُسُ الَّذِي لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ، كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَرَابَتِهِ، لَا يَأْكُلُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ شَيْئًا، فَكَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، خُمُسُ الْخُمُسِ، وَلِذِى قَرَابَتِهِ خُمُسُ الْخُمُسِ، وَلِلْيَتَامَى مِثْلُ ذَلِكَ، وَلِلْمَسَاكِينِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلِابْنِ السَّبِيلِ مِثْلُ ذَلِكَ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أبو إسحاق": هو إبراهيم بن محمد الفَزَاريّ المذكور في الأسانيد الماضية. و"شريك": هو ابن عبد اللَّه النخعيّ القاضي الكوفيّ، صدوقٌ يُخطىء كثيرًا، وتغيّر حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة [8] 25/ 29. و"خُصيف" بالخاء المعجمة، والصاد المهملة-: هو ابن عبد الرحمن الجزريّ، صدوقٌ سيء الحفظ، وخلط بآخره [5] 95/ 1353. و"مجاهد": هو ابن جبر الإمام الحجة
(1)
"معالم السنن" 4/ 230.
(2)
"مختصر السنن" 4/ 231.
المشهور. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث مرسل ضعيف الإسناد؛ لضعف شريك، وخُصيف، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا- 1/ 4149 - وفي "الكبرى" 1/ 4449. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: قَالَ: اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} وَقَوْلُهُ عز وجل: {لِلَّهِ} ابْتِدَاءُ كَلَامٍ؛ لأَنَّ الأَشْيَاءَ كُلَّهَا لِلَّهِ عز وجل، وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا اسْتَفْتَحَ الْكَلَامَ، فِي الْفَىْءِ وَالْخُمُسِ بِذِكْرِ نَفْسِهِ، لأَنَّهَا أَشْرَفُ الْكَسْبِ، وَلَمْ يَنْسُبِ الصَّدَقَةَ إِلَى نَفْسِهِ عز وجل، لأَنَّهَا أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَقَدْ قِيلَ: يُؤْخَذُ مِنَ الْغَنِيمَةِ شَيْءٌ، فَيُجْعَلُ فِي الْكَعْبَةِ، وَهُوَ السَّهْمُ الَّذِي لِلَّهِ عز وجل.
وَسَهْمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الإِمَامِ، يَشْتَرِي الْكُرَاعَ مِنْهُ وَالسِّلَاحَ، وَيُعْطِي مِنْهُ مَنْ رَأَى، مِمَّنْ رَأَى فِيهِ غَنَاءً، وَمَنْفَعَةً لأَهْلِ الإِسْلَامِ، وَمِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَالْقُرْآنِ.
وَسَهْمٌ لِذِى الْقُرْبَى، وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، بَيْنَهُمُ الْغَنِيُّ مِنْهُمْ وَالْفَقِيرُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لِلْفَقِيرِ مِنْهُمْ دُونَ الْغَنِيِّ، كَالْيَتَامَى، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَهُوَ أَشْبَهُ الْقَوْلَيْنِ بِالصَّوَابِ عِنْدِي -وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ- وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَالذَّكَرُ وَالأُنْثَى سَوَاءٌ، لأَنَّ اللَّهَ عز وجل، جَعَلَ ذَلِكَ لَهُمْ، وَقَسَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَا خِلَافَ نَعْلَمُهُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فِي رَجُلٍ لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِبَنِي فُلَانٍ، أَنَّهُ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى فِيهِ سَوَاءٌ، إِذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ، فَهَكَذَا كُلُّ شَيْءٍ صُيِّرَ لِبَنِي فُلَانٍ، أَنَّهُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، إِلاَّ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ الآمِرُ بِهِ، وَاللَّهُ وَلِىُّ التَّوْفِيقِ.
وَسَهْمٌ لِلْيَتَامَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَسَهْمٌ لاِبْنِ السَّبِيلِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُعْطَى أَحَدٌ مِنْهُمْ سَهْمُ مِسْكِينٍ وَسَهْمُ ابْنِ السَّبِيلِ، وَقِيلَ لَهُ: خُذْ أَيَّهُمَا شِئْتَ، وَالأَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ، يَقْسِمُهَا الإِمَامُ بَيْنَ مَنْ حَضَرَ الْقِتَالَ، مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْبَالِغِينَ).
قوله: (قَالَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ) أي النسائيّ -رحمه اللَّه تعالى-، مفسّرًا الآية الكريمةَ، ومبيّنًا مُختاره فيما يتعلّق في تأويلها (قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} ، وَقَوْلُهُ عز وجل:{للَّه} ابْتِدَاءُ كَلَامٍ) أي استفتاح كلام (لِأَنَّ الَأشْيَاء كُلَّهَا لِلَّهِ عز وجل) أي فلا مفهوم
لتخصيص الخمس للَّه تعالى، وإنما فائدة ذكره الاستفتاح باسمه تعالى تبرّكًا (وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا اسْتَفْتَحَ الْكَلَامَ، فِي الْفَيْءِ وَالْخُمُسِ بِذِكْرِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ الْكَسْبِ) أي لكون الغنيمة أفضل مكاسب المسلم، فناسب ذكره تعالى معها (وَلَمْ يَنْسِبِ الصَّدَقَةَ إِلَى نَفْسِهِ عز وجل) أي في آية الصدقة، فإنه ذكر المستحقّين لها، دون أن يستفتح بذكر اسمه عز وجل، حيث قال:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية [التوبة: 60]، (لِأَنَّهَا أَوْسَاخُ النّاسِ) كما بيّنه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - فيما أخرجه مسلم، وأبو داود، والمصنّف:"إن هذه الصدقة لا تنبغي لمحمد، ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس"(وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ).
(وَقَدْ قِيلَ: يُؤخَذُ مِنْ الْغَنِيمَةِ شَيْءٌ، فَيُجْعَلُ فِي الْكَعْبَةِ) أي في مصالحها (وَهُوَ السَّهْمُ الَّذِي لِلهِ عز وجل) وهذا القول مرويّ عن أبي العالية، فقد أخرج ابن جرير في "تفسيره" من طريق الربيع بن أنس، عنه، قال: كان رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - يُؤتى بالغنيمة، فيقسمها على خمسة، تكون أربعة أخماس لمن شهدها، ثم يأخذ الخمس، فيضرب بيده فيه، فيأخذ منه الذي قبض كفه، فيجعله في الكعبة، وهو سهم اللَّه، ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم، فيكون سهم للرسول، وسهم لذي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل. انتهى
(1)
. (وَسَهْمُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الإِمَامِ، يَشْتَرِي الكُراَعَ) بالضم: أي الخيل (مِنْهُ وَالسِّلَاحَ، وَيُعْطِي مِنْهُ مَنْ رَأَى) أي من علم أنه مستحق للعطاء بسبب نفعه لعموم المسلمين، كما أوضحه بقوله (مِمَّنْ رَأَى فِيهِ غَنَاءً) بالفتح، والمدّ: الكفايةُ: أي ممن كان في وجوده كفاية للمسلمين، يكفيهم بشجاعته في الحرب مثلاً (وَمَنْفَعَةً) بفتح الميم، والفاء: أي نفعًا (لِأَهْلِ الإِسْلَامِ) وقوله (وَمِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَالقُرْآنِ) من عطف الخاصّ على العامّ.
(وَسَهْمٌ لِذِي القُرْبَى، وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، بَيْنَهُمْ الْغَنِيُّ مِنْهُمْ وَالْفَقِيرُ) يعني أنه لا يختصّ به الفقير، بل يشترك فيه الغني والفقير (وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لِلْفَقِيرِ مِنْهُمْ دُونَ الغَنِيِّ، كَالْيَتَامَى، وَابْنِ السَّبِيلِ) يعني أن بعضهم خصّ به الفقير، دون الغني، وهذا القول هو الذي ماله إليه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، حيث قال (وَهُوَ أَشْبَهُ الْقَوْلَيْنِ بِالصَّوَابِ عِنْدِي- واللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ-) لكن ظاهر النصّ العموم، فيحتاج تخصيصه بالفقير إلى دليل، فالظاهر حمله على عمومه. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"تفسير ابن جرير" 13/ 550 - 551.
(وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَالذَّكَرُ وَالأُنْثَى سَوَاءٌ) يعني أنه يستوي في سهم ذي القربى صغيرهم، وكبيرهم، وذكرهم، وأنثاهم، ثم استدلّ على ذلك بثلاثة أدلة، أولها ما أشار إليه بقوله (لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل، جَعَلَ ذَلِكَ لَهُمْ) يعني أن اللَّه سبحانه وتعالى جعل سهم ذي القربى لهم من غير تخصيص لبعضهم. والثاني ما أشار إليه بقوله (وَقَسَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) والثالث ما أشار إليه بقوله (وَلَا خِلَافَ نَعْلَمُهُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فِي رَجُلٍ لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِبَنِي فُلَانِ، أَنَّهُ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى فِيهِ سَوَاءٌ، إِذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ) بالبناء للمفعول (فَهَكَذَا كُلُّ شَيْءٍ صُيِّرَ" بتشديد الياء التحتانيّة، مبنيا للمفعول: أي جُعل (لِبَنِي فُلَانِ، أَنَّهُ بَيْنَهُمْ بِالسَّويَّة، إِلَّا أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ الآمِرُ بِهِ) يعني أنه إذا بين ذلك الموصي أن يفضل بين الذكر والأنثى، فيُنقذ ذلك على ما ما قاله (وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ) وحاصل ما أشار إليه -رحمه اللَّه تعالى- من الأدلّة أن اللَّه تعالى جعل سهم ذوي القربى بينهم من غير تفضيل بعضهم على بعض، ثم إن رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - قسم ذلك بينهم بالسوية، وأن العلماء اتفقوا على أنه إذا أوصى شخص لبني فلان، أنه يقسم المال بينهم بالسوية، من غير تفضيل الذكور على الإناث، إلا إذا فضّلهم الموصي، فعند ذلك يُعمل به. واللَّه تعالى أعلم.
(وَسَهْمٌ لِليَتَامَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيل مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُعْطَى أَحَدٌ مِنْهُمْ سَهْمُ مِسْكِينِ وَسَهْمُ ابْنِ السَّبِيلِ، وَقِيلَ لَهُ: خُذْ أَيُّهُمَا شِئْتَ) يعني أنه لا يُعطى الشخص الواحد إذا كان مسكينا، وابن سبيل سهمين بهما، وإنما يُخير أن يأخد أحد السهمين فقط (وَالأَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ) ولفظ "الكبرى":"والأربعة الأخماس" بتعريف الجزأين، وهو الجاري على القاعدة. (يَقْسِمُها الإِمَامُ بَيْنَ مَنْ حَضَرَ القِتَالَ) فيه أنه لا يستحق الغنيمة من غاب عنها، وسيأتي تحقيق ذلك، في مسائل الحديث التالي، إن شاء اللَّه تعالى (مِنْ الْمُسْلِمِينَ) خرج الكافر، فلو حضر بإذن الإمام، وقاتل مع المسلمين، ففي الإسهام له خلاف بين العلماء، سيأتي تحقيقه أيضًا، إن شاء اللَّه تعالى.
(الْبَالِغِينَ) وأما الصبيان، فلا يسهم لهم بل يرضخ لهم على الصحيح، وقيل: يسهم لهم، وقيل: إن قاتلوا يسهم لهم، وإلا فلا، وسيأتي تمام البحث في ذلك قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4150 -
(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -يَعْنِي ابْنَ إِبْرَاهِيمَ- عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ، قَالَ: جَاءَ الْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ،
إِلَى عُمَرَ، يَخْتَصِمَانِ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا، فَقَالَ النَّاسُ: افْصِلْ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ عُمَرُ: لَا أَفْصِلُ بَيْنَهُمَا، قَدْ عَلِمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» ، قَالَ: فَقَالَ الزُّهْرِيُّ: وَلِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخَذَ مِنْهَا قُوتَ أَهْلِهِ، وَجَعَلَ سَائِرَهُ سَبِيلَهُ سَبِيلَ الْمَالِ، ثُمَّ وَلِيَهَا أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ، ثُمَّ وُلِّيتُهَا بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ، فَصَنَعْتُ فِيهَا الَّذِي كَانَ يَصْنَعُ، ثُمَّ أَتَيَانِي، فَسَأَلَانِي أَنْ أَدْفَعَهَا إِلَيْهِمَا عَلَى أَنْ يَلِيَاهَا، بِالَّذِي وَلِيَهَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالَّذِي وَلِيَهَا بِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَالَّذِي وُلِّيتُهَا بِهِ، فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِمَا، وَأَخَذْتُ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَهُمَا، ثُمَّ أَتَيَانِي يَقُولُ هَذَا: اقْسِمْ لِي بِنَصِيبِي مِنِ ابْنِ أَخِي، وُيَقُولُ هَذَا: اقْسِمْ لِي بِنَصِيبِي مِنِ امْرَأَتِي، وَإِنْ شَاءَا أَنْ أَدْفَعَهَا إِلَيْهِمَا عَلَى أَنْ يَلِيَاهَا، بِالَّذِي وَلِيَهَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالَّذِي وَلِيَهَا بِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَالَّذِي وُلِّيتُهَا بِهِ، دَفَعْتُهَا إِلَيْهِمَا، وَإِنْ أَبَيَا كُفِيَا ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] ، هَذَا لِهَؤُلَاءِ، {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60] هَذِهِ لِهَؤُلَاءِ، {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6] ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: هَذِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً، قُرًى عَرَبِيَّةً فَدَكُ كَذَا وَكَذَا، فَـ {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7] ، وَ {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8] ، {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر: 9] ، {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] ، فَاسْتَوْعَبَتْ هَذِهِ الآيَةُ النَّاسَ، فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ لَهُ فِي هَذَا الْمَالِ حَقٌّ، أَوْ قَالَ: حَظٌّ، إِلاَّ بَعْضَ مَنْ تَمْلِكُونَ مِنْ أَرِقَّائِكُمْ، وَلَئِنْ عِشْتُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَيَأْتِيَنَّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حَقُّهُ، أَوْ قَالَ: حَظُّهُ
(1)
).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عليّ بن حُجر) السعديّ المروزيّ، ثقة حافظ، من صغار [9] 13/ 12.
2 -
(إسماعيل بن إبراهيم) ابن عليّة، أبو بشر البصريّ، ثقة ثبت [8] 18/ 19.
3 -
(أيوب) بن أبي تميمة كيسان، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت حجة [5] 42/ 48.
4 -
(عكرمة بن خالد) بن العاص بن هشام بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم القرشيّ، المخزوميّ المكيّ، ثقة [3] 37/ 940.
5 -
(مالك بن أوس بن الْحَدَثَان) -بفتح المهملتين والمثلّثة- النصري -بفتح النون،
(1)
يوجد هنا في النسخة الهنديّة ص 179: ما نصّه: "آخر كتاب قسم الفيء".
وسكون الصاد المهملة- أبو سعيد المدنيّ، له رؤية، مات سنة (92)، وقيل:(91).
6 -
(عمر) بن الخطّاب بن نوفل العدويّ الخلفية الراشد - رضي اللَّه تعالى عنه - 60/ 75.
واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: أيوب، عن عكرمة، عن مالك بن أوس. (ومنها): أن صحابيه أحد الخلفاء الراشدين الأربعة، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة، جمّ المناقب - رضي اللَّه تعالى عنهم - أجمعين. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عِكرِمة بنِ خالِد) المخزومي القرشيّ -رحمه اللَّه تعالى-.
[تنبيه]: هذه الرواية ترد على من زعم أن الزُّهرِيّ تفرَّد بِرِوايةِ هذا الحدِيثِ، عن مالك بن أوس، قال أبُو علِيّ الكرابيسِيّ: أنكرهُ قومٌ، وقالُوا: هذا مِن مُستنكرِ ما رواهُ ابن شِهاب، قال: فإن كانُوا علِمُوا أنهُ ليس بِفردٍ، فهيهات، وإِن لم يعلمُوا، فهُو جهل، فقد رواهُ عن مالِك بن أوس عِكرِمةُ بن خالِد، وأيوب بن خالِد، ومُحمد بن عمرو بن عطاء، وغيرهم. أفاده في "الفتح"
(1)
. واللَّه تعالى أعلم.
(عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ) بفتحتات النصريّ -رحمه اللَّه تعالى-، أنه (قَالَ: جَاءَ الْعَبَّاسُ) بن عبد المطّلب، عم رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، - رضي اللَّه تعالى - عنه (وَعَلِيّ) بن أبي طالب - رضي اللَّه تعالى عنه - (إِلَى عُمَرَ) بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى - عنه (يَخْتَصِمَانِ) حديث هذه القصّة، قد ساقها البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" مطولة، فقال:
3094 -
حدثنا إسحاق بن محمد الفَرْوي، حدثنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الحَدَثَان، وكان محمد بن جبير ذكر لي ذِكْرًا من حديثه ذلك، فانطلقت حتى أدخلَ على مالك بن أوس، فسألته عن ذلك الحديث؟ فقال مالك: بينا أنا جالس في أهلي، حين مَتَعَ النهار
(2)
إذا رسول عمر بن الخطاب يأتيني، فقال: أجب أمير المؤمنين، فانطلقت معه، حتى أدخل على عمر، فإذا هو جالس على رِمَال سرير،
(1)
"فتح" 6/ 325.
(2)
أي ارتفع.
ليس بينه وبينه فراش، متكئ على وسادة من أَدَم، فسلمت عليه، ثم جلست، فقال: يا مال، إنه قَدِمَ علينا من قومك أهل أبيات، وقد أمرت فيهم برَضْخٍ، فاقبضه، فاقسمه بينهم، فقلت: يا أمير المؤمنين، لو أمرت به غيري، قال: اقبضه أيها المرء، فبينا أنا جالس عنده، أتاه حاجبه يَرْفًا، فقال: هل لك في عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وسعد بن أبي وقّاص، يستأذنون؟، قال: نعم، فأذن لهم، فدخلوا، فسلموا، وجلسوا، ثم جلس يرفا يسيرًا، ثم قال: هل لك في عليّ وعباس؟ قال: نعم، فأذن لهما، فدخلا، فسلما، فجلسا، فقال عبّاس: يا أمير المؤمنين، اقض بيني وبين هذا، وهما يختصمان فيما أفاء اللَّه على رسوله صلى الله عليه وسلم من مال بني النضير، فقال الرهط: عثمان، وأصحابه: يا أمير المؤمنين، اقض بينهما، وأرح أحدهما من الآخر، قال عمر: تَيدَكُم
(1)
أنشدكم باللَّه الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمون أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"لا نورث، ما تركنا صدقة"؟، يريد رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم نفسه، قال: الرهط: قد قال ذلك، فأقبل عمر على عليّ وعباس، فقال: أنشدكما اللَّه، أتعلمان أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قد قال ذلك، قالا: قد قال ذلك، قال عمر: فإني أحدّثكم عن هذا الأمر، إن اللَّه قد خَصَّ رسوله صلى الله عليه وسلم، في هذا الفيء بشيء، لم يعطه أحدا غيره، ثم قرأ:{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} إلى قوله: {قَدِيرٌ} [الحشر: 6] ، فكانت هذه خالصة لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، واللَّه ما احتازها
(2)
دونكم، ولا استأثر بها عليكم، قد أعطاكموها، وبَثّها فيكم، حتى بقي منها هذا المال، فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ينفق على اهله نفقة سنتهم، من هذا المال، ثم يأخذ ما بقي، فيجعله مجعل مال اللَّه، فعمل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بذلك حياته، أنشدكم باللَّه، هل تعلمون ذلك؟ قالوا: نعم، ثم قال لعلي وعباس: أنشدكما باللَّه، هل تعلمان ذلك؟ قال عمر: ثم تَوَفَّى اللَّهُ نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أنا ولي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقبضها أبو بكر، فعمل فيها بما عمل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، واللَّه يعلم إنه فيها لصادق بارّ راشد تابع للحق، ثم توفي اللَّه أبا بكر، فكنت أنا ولي أبي بكر، فقبضتها سنتين من إمارتي، أعمل فيها بما عمل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وما عمل فيها أبو بكر، واللَّه يعلم إني فيها لصادق بار راشد تابع للحق، ثم جئتماني تكلماني، وكلمتكما واحدة، وأمركما واحد، جئتني يا عبّاس، تسألني نصيبك من ابن أخيك، وجاءني هذا يريد عليا- يريد نصيب امرأته من أبيها، فقلت لكما: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"لا نورث، ما تركنا صدقةٌ"، فلما بدا لي أن أدفعه إليكما، قلت: إن شئتما دفعتها إليكما
(1)
أي اصبروا، وتمهّلوا.
(2)
أي ما استأثر، وانفرد بها.
على أن عليكما عهد اللَّه وميثاقه، لَتَعمَلان فيها بما عمل فيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وبما عمل فيها أبو بكر، وبما عملت فيها منذ وليتها، فقلتما: ادفعها إلينا، فبذلك دفعتها إليكما، فأنشدكم باللَّه، هل دفعتها إليهما بذلك؟ قال الرهط: نعم، ثم أقبل على علي وعباس، فقال: أنشدكما باللَّه، هل دفعتها إليكما بذلك؟ قالا: نعم، قال: فتلتمسان مني قضاء غير ذلك؟، فواللَّه الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، لا أقضي فيها قضاءً غير ذلك، فإن عجزتما عنها، فادفعاها إلى، فإني أكفيكماها. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ الْعَبَّاسُ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا) زاد شعيب، ويونس عن ابن شهاب عند البخاريّ:"فاستبّ عليّ وعبّاسٌ"، وفي رواية عقيل، عن ابن شهاب عنده:"اقض بيني، وبين هذا الظالم، استبّا"، وفي رواية جويرية:"وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن"، قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: ولم أر في شيء من الطرق أنه صدر من عليّ في حقّ العباس شيء، بخلاف ما يُفهم من قوله في رواية عقيل:"استبّا". واستصوب المازري صنيع من حذف هذه الألفاظ من هذا الحديث، وقال: لعلّ بعض الرواة وَهِمَ فيها، وإن كانت محفوظة، فأجود ما تُحمل عليه أن العبّاس قالها، دلالاً على عليّ؛ لأنه كان عنده بمنزلة الولد، فأراد ردْعه عما يعتقد أنه يُخطىء فيه، وأن هذه الأوصاف يتّصف بها لو كان يفعل عن عمد، قال: ولا بدّ من هذا التأويل لوقوع ذلك بمحضر الخليفة، ومن ذُكر معه، ولم يصدر منهم إنكارٌ لذلك، مع ما عُلم من تشدّدهم في إنكار المنكر. انتهى
(2)
.
(فَقَالَ النَّاسُ) المراد عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وسعد بن أبي وقّاص - رضي اللَّه تعالى عنهم -. وفي رواية معمر، عن الزهريّ في "مسند ابن أبي عمر":"فقال الزبير بن العوّام: اقض بينهما"، فيحتمل أنه باشر السؤال، ورضي الباقون به، فنُسب إليهم، واللَّه تعالى أعلم (افْصِلْ بَيْنَهُمَا) وزاد في رواية مسلم:"فقال مالك بن أوس: يُخيّل إليّ أنهم قد كانوا قدّموهم لذلك"(فَقَالَ عُمَرُ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (لَا أَفْصِلُ بَيْنَهُمَا) أي لا أقض بينهما على ما يريدانه، من قسمة مال بني النضير، ولس المراد أنه يتركهما يتخاصمان دائماً (قَدْ عَلِمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:"لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ") تقدّم شرحه في شرح حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - السابق في هذا الباب (قَالَ) الراوي، وهو عكرمة بن خالد (فَقَالَ الزُّهْرِيُّ) ظاهر هذا أن الكلام الآتي لم يروه أيوب عن عكرمة بن خالد، عن مالك بن أوس، وإنما رواه عن الزهريّ، عن مالك بن أوس،
(1)
راجع "صحيح البخاريّ" بنسخة "الفتح" 6/ 316 - 317.
(2)
راجع "الفتح" 6/ 327. "كتاب فرض الخمس".
فلذلك صرح بنسبته إليه.
لكنه ثبت من رواية أيوب، عن خالد أيضًا، فقد أخرجه ابن جرير الطبريّ في تفيسره بإسناد صحيح، من طريق معمر، عن أيوب، عن عكرمة بن خالد، عن مالك بن أوس ابن الحدثان، قال: قال عمر بن الخطّاب - رضي اللَّه تعالى عنه -: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} حتى بلغ {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60] ثم قال: هذه لهؤلاء، ثم قال:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} الآية [الأنفال: 41]، ثم قال: هذه الآية لهؤلاء، ثم قرأ:{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} حتي بلغ {لِلفُقَرَاءِ} ، {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ} ، {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 7 - 10] ، ثم قال: استوعبت هذه الآية المسلمين عامة، فليس أحدٌ إلا له حقّ، ثم قال: لئن عشتُ ليأتينّ الراعي، وهو بسرو حِمير
(1)
نصيبه، لم يعرّق فيها جبينه. انتهى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: بهذا يتبيّن أن الحديث ثابت بالطريقين: طريق أيوب، عن الزهريّ، عن مالك بن أوس، وطريق أيوب، عن عكرمة بن خالد، عن مالك، وليس كما يوهمه ظاهر صنيع المصنّف، من كونه عن طريق الزهريّ فقط. واللَّه تعالى أعلم.
وأما رواية الزهريّ، فقد أخرجها أبو داود في "سننه"، فقال:
حدثنا مسدد، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، أخبرنا أيوب، عن الزهريّ، قال: قال عمر: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6]، قال الزهريّ: قال عمر. هذه لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خاصة، قرى عرينة، وفدك، وكذا وكذا، {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} ، و {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} ، {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ، {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر:7 - 10] ، فاستوعبت هذه الآية الناس، فلم يبق أحد من المسلمين إلا له فيها حقّ، قال أيوب: أو قال: حظ، إلا بعض من تملكون من أرقائكم. انتهى.
(1)
وقع في أصل تفسير ابن جرير: "وهو يسير حمره"، وما هنا من تفسير ابن كثير، وتفسير القرطبيّ، والظاهر أن ما في ابن جرير تصحيفٌ، وما هنا هو الصواب، كما يدلّ له كلام ابن الأثير في "النهاية" -2/ 363 - فقد ذكره بلفظ:"لئن بقيت إلى قابل ليأتينّ الراعي بسَرْو حِمْير حقّه، لم يعرق جبينه فيه"، وقال: السرو: ما انحدر من الجبل، وارتفع عن الوادي في الأصل، والسّرْو أيضًا: محلّة حِمْير. انتهى.
(2)
"تفسير ابن جرير" 23/ 276.
قال المنذريّ: وهذا منقطع، الزهريّ لم يسمع من عمر. انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لكن تقدّم عند ابن جرير متصلاً من رواية عكرمة بن خالد، عن مالك بن أوس، فهو صحيح. واللَّه تعالى أعلم.
(وَلِيَهَا) بفتح الواو، وكسر اللام، أي تولى شأنها، ويحتمل أن يكون بتشديد اللام، مبنيا للمفعول، أي ولّاه اللَّه، وأعطاه إياها، والضمير المنصوب للأموال التي كانا يختصمان فيها، وهي أموال بني النضير، ففي رواية البخاريّ السابقة:"وهما يختصمان فيما أفاء اللَّه على رسوله من مال بني النضير"(رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخَذَ مِنْهَا قُوتَ أَهْلِهِ) وفي رواية عمرو بن دينار، عن ابن شهاب عند البخاريّ في "التفسير": كانت أموال بني النضير مما أفاء اللَّه على رسوله، فكانت خالصةً، وكان يُنفق على أهله منها نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح، والكراع، عُدّةً في سبيل اللَّه". وفي رواية سفيان، عن معمر، عن الزهريّ عنده في "النفقات": "كان النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - يبيع نخل بني النضير، ويَحبس لأهله قوت سنتهم". أي ثمر النخل. وفي رواية أبي داود من طريق أُسامة بن زيد، عن ابن شهاب: "كانت لرسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - ثلاث صَفَايَا: بنو النضير، وخيبر، وفَدَك، فأما بنو النضير، فكانت حَبْسًا لنوائبه، وأما فدك، فكانت حبسًا لابناء السبيل، وأما خيبر فجزأها بين المسلمين، ثم قسم جزءًا لنفقة أهله، وما فضل منه جعله في فقراء المهاجرين".
قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: ولا تعارض بينهما؛ لاحتمال أن يقسم في فقراء المهاجرين، وفي مشترى السلاح والكراع، وذلك مفسّرٌ لرواية معمر عند مسلم:"ويجعل ما بقي منه مَجْعل مال اللَّه". وزاد أبو داود في رواية أبي البختري: "وكان يُنفق على أهله، ويتصدّق بفضله"، وهذا لا يعارض حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -:"أنه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - توفّي، ودرعه مرهونة على شعير"؛ لأنه يُجمع بينهما بأنه كان يدّخر لأهله قوت سنتهم، ثم في طول السنة يحتاج لمن يطرُقه إلى إخراج شيء منه، فيُخرجه، فيحتاج إلى أن يعوّض من يأخذ منها عوضه، فلذلك استدان. انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
. وهو كلام نفيسٌ.
(وَجَعَلَ سَائِرَهُ) أي ما بقي منه (سَبِيلَهُ) بالنصب بدل مما قبله، أي طريقه (سَبِيلَ الْمَالِ) بالنصب أيضًا على أنه مفعول ثان لـ " جعل" ، يعني أنه يجعل ما فضل عن قوت أهله كسائر مال الصدقة، يصرفه في مصالح المسلمين، وهو بمعنى رواية مسلم
(1)
"فتح" 6/ 327 - 328. "كتاب فرض الخمس".
المذكورة: "ويجعل ما بقي منه مجعل مال اللَّه"(ثُمَّ وَلِيَهَا) تقدّم ضبطه (أَبُو بَكْرٍ) الصديق - رضي اللَّه تعالى عنه - (بَعْدَهُ) أي فعمل بما عمل به النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، ففيه اختصارٌ، ففي رواية البخاريّ المذكورة:"ثم توفّى اللَّه نبيّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، فقال أبو بكر: أنا وليّ رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -، فقبضها أبو بكر، فعمِل فيها بما عمل رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -"(ثُمَّ وَلِيتُهَا) تقدّم ضبطه (بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (فَصَنَعْت فِيهَا الَّذِي كَانَ يَصْنَعُ) أي يفعله أبو بكر - رضي اللَّه تعالى عنه - (ثُمَّ أَتَيَانِي) أي عبّاس، وعليّ - رضي اللَّه تعالى عنهما - (فَسَأَلَانِي أَنْ أَدْفَعَهَا إِلَيْهِمَا عَلَى أَنْ يَلِيَاهَا، بِالذِي وَلِيَهَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي على أن يعملا بمثل الذي عمل به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - (وَالَّذِي وَلِيَهَا بِهِ أَبُو بَكْرِ) أي ويلياها بمثل ولايته، ويعملا بمثل عمله (وَالَّذي وُلِّيتُها بِهِ، فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِمَا، وَأَخَذْتُ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَهُمَا) أي أيمانهما (ثُمَّ أَتَيَانِي يَقُولُ هَذَا) أي العباس - رضي اللَّه تعالى عنه - (اقْسِمْ لِي بِنَصِيبِي مِنْ ابْنِ أَخِي) يريد النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - (وَيَقُولُ هَذَا) أي عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه - (اقْسِمْ لِي بِنَصِيبِي مِنْ امْرَأَتِي) أي فاطمة - رضي اللَّه تعالى عنها -.
وفي رواية مسلم: "فجئتما تطلب ميراثك من ابن أخيك، ويطلب ميراث امرأته من أبيها، فقال أبو بكر: قال رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم -: "لا نورث، ما تركنا صدقة"، فرأيتماه كاذبًا آثمًا، غادرًا، خائنًا".
قال في "الفتحِ": وكأن الزهريّ كاد يحدث بِهِ تارة، فيُصرِّحُ، وتارة فيُكني، وكذلِك مالِك، وقد حُذِف ذَلِكَ في رِوايةِ بِشر بن عُمر عنهُ، عِند الإسماعِيلِيِّ وغيره، وهُو نظِيرُ ما سبق من قولِ العباس لِعلِيٍّ.
قال في "الفتح": وهذِهِ الزيادة من رِوايةِ عُمر عن أبِي بكر، حُذِفت من رِوايةِ إِسحاق الفروِي شيخ البخاريّ، وقد ثبت أيضًا في رِوايةِ بِشر بن عُمر عنهُ، عِند أصحاب "السُّننِ"، والإسماعِيلِيّ، وعمرو بن مرزُوق، وسعِيد بن داوُد، كِلاهُما عِند الدَّارقطنيّ، عن مالِكٍ، على ما قال جُويرِية، عن مالِكٍ، واجتِماعُ هؤُلاءِ عن مالِكِ، يدُلُّ على أنهم حفِظُوهُ، وهذا القدر المحذُوفُ من رِوايةِ إسحاق ثبت من رِوايتِهِ في موضع آخر من الحديث، لكِن جعل القصة فِيهِ لِعُمر، حيثُ قال:" جِئتنِي يا عبّاس، تسألُنِي نصِيبك من ابن أخِيك"، وفِيهِ:"فقُلت لكُما: إِنَّ رسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لا نُورثُ"، فاشتمل هذا الفضلُ على مُخالفةِ إسحاق لِبقِيَّةِ الرُّواةِ عن مالِكٍ، في كونهِم جعلُوا القصّة عِند أبِي بكر، وجعلُوا الحديث المرفُوع من حدِيث أبِي بكر، من رِوايةِ عُمر عنهُ، وإسحاق الفروي جعل القصة عِند عُمر، وجعل الحديث المرفوع من رِوايتِهِ، عن النّبِي صلى الله عليه وسلم، بِغيرِ
وَاسِطَةِ أبِي بَكْر، وقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْب، عَنْ ابْن شِهَاب نَظِير مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ إسحاق الْفَرْوِيّ سَوَاءً. وَكَذَلِكَ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنْ ابْن شِهَاب، عِنْد عُمَر بنْ شَبَّة، وَأَمَّا رِوَايَة عُقَيل عند البخاريّ في "الْفَرَائِضِ"، فاقْتَصَرَ فِيهَا عَلَى أَنَّ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ عِنْد عُمَرَ، بِغَيْرِ ذِكْرِ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوع أَصْلًا.
قال الحافظ: وَهَذا يُشْعِرُ بِأنَّ لِسِياق إِسْحَاق الْفَرْوِيّ أصْلا، فَلَعَلَّ القِصَّتَيْنِ مَحْفُوظَتَانِ، واقْتَصَرَ بَعْض الرُّواةِ على مَا لَمْ يَذكُرهُ الآخَرُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ أَحَدٌ مِنْ الشُّرَّاحِ لِبَيَانِ ذَلِكَ.
وفِي ذَلِكَ إِشْكَال شَدِيد، وهُوَ أَنَّ أَصْلَ الْقِصَّةِ صَرِيح فِي أَنَّ الْعَبَّاس وَعَليًّا، قَدْ عَلِمَا بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"لا نُورَثُ"، فَإِنْ كَانَا سَمِعَاهُ مِنْ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَكَيْفَ يَطْلُبَانِهِ مِنْ أبِي بَكْرِ؟ وَإِنْ كَانَا إِنَّمَا سَمِعَاهُ مِنْ أبِي بَكْر، أَوْ فِي زَمَنِهِ، بِحَيْثُ أَفَادَ عِنْدَهُمَا الْعِلْم بِذَلِكَ، فَكَيْفَ يَطْلُبَانِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ عُمَر؟.
والجواب والله أعْلَمُ حَمْلُ الأمْر فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كُلا مِنْ عَلِيّ، والْعَبَّاس، ومثلهما فاطمة رضي الله تعالى عنهم اعْتَقَدُوا أنَّ عُمُوم قولِهِ:"لا نُورَثُ"، مَخْصُوص ببَعْضِ مَا يَخْلُفُهُ دُون بَعْض، وَلِذَلِك نَسَبَ عُمَر إِلَى عَليّ وَعَبَّاس رضي الله تعالى عنهما أنَّهُمَا كَانَا يَعْتقِدَانِ ظُلْم مَنْ خَالَفْهُمَا فِي ذَلِك.
وَأَمَّا مُخَاصَمَةُ عَلِيّ وَعَبَّاس بَعْدَ ذَلِكَ ثَانِيًا، عِنْدَ عُمر، فَقَال إسْمَاعِيل الْقَاضِي -فِيمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطنِيّ مِنْ طَرِيقِهِ-: لَمْ يَكُنْ فِي الْمِيرَاثِ، إِنَّمَا تنَازَعَا فِي ولايةِ الصَّدَقَةِ، وَفِي صَرْفِهَا كَيْفَ تُصْرفُ؟ كَذَا قَالَ، لَكِنّ رِوَايَة النَّسائيّ هنا، تدُلُّ عَلَى أنَّهُمَا أرَادَا أَنْ يُقسَّم بَيْنَهُمَا عَلَى سَبِيلِ الْمِيرَاثِ، حيث قال عمر رضي الله تعالى عنه:"ثُمَّ أتيانِي، يقول هذا: اقسم لي بنَصِيبِي مِنْ ابْنِ أَخِي، وَيَقُولُ هَذَا: اقسم لي بنَصِيبِي مِنْ امْرَأتِي".
وفِي "سُنَنِ أبِي دَاوُد"، وَغَيْرِهِ:"أرَادَا أنَّ عُمَرَ يُقسِّمُها لِيَنْفَرِد كُلّ مِنْهُما بِنَظَرِ مَا يَتَوَلاهُ، فَامْتَنَعَ عُمَر مِنْ ذَلِكَ، وَأَرَاَدَ أَنْ لا يَقَعَ عَلَيْهَا اسْمُ قَسْمٍ، ولِذَلِكَ أَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ"، وعَلَى هَذَا اقْتَصَر أَكْثَر الشُّرَّاحِ، واسْتَحْسَنُوهُ.
قال الحافظ: وفِيهِ من النَّظَرِ مَا تَقَدَّمَ، وأعْجَب مِنْ ذَلِكَ جَزْم ابْن الْجَوْزِيّ، ثُمَّ الشَّيْخ مُحْيي الدِّين، بِأنَّ عليًّا وعبَّاسًا، لَمْ يَطْلُبا مِنْ عُمَرَ إِلا ذَلِك، مَعَ أنَّ السِّيَاقَ صَرِيحِ فِي أنَّهُمَا جَاءَاهُ مَرَّتَيْنِ، فِي طَلَبِ شَيْءٍ وَاحِدٍ، لَكِنَّ الْعُذْرَ لابْنِ الْجَوْزيِّ، والنَّووِيّ أنَّهُمَا شَرَحَا اللَّفْظَ الْوَارِدَ في مُسْلِم، دُونَ اللَّفْظِ الْوَارِدِ فِي الْبُخَاري، واللهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَولُ عمَر: "جِئْتَنِي يا عَبَّاس، تَسْأَلُنِي نَصِيبك مِنْ ابْنِ أخِيك"، فَإِنَّمَا عَبَّرَ بِذَلِكَ لِبَيَان قِسْمَة الْمِيرَاثِ، كَيْفَ يُقسَمُ؟ أنْ لَوْ كَانَ هُنَاكَ مِيرَاث، لا أنَّهُ أَرَادَ الْغَضَّ مِنْهُمَا بِهَذَا الْكَلامِ.
وزاد عِند عُمر بن شَبَّة فِي آخِرِهِ: "فَأَصْلِحا أمْرَكُمَا، وَإلَّا لَمْ يَرجِعْ واللهِ إِلَيْكُمَا، فَقَامَا، وَتَرَكَا الخُصُومَة، وأُمْضِيَتْ صَدَقَة". وَزَاد شُعَيْب فِي آخِرِهِ: "قَالَ ابْن شِهَاب: فَحَدَّثت بِهِ عُرْوَة، فَقَالَ: صَدَقَ مَالِك بن أوس، أنا سَمِعْت عَائِشَة تقُولُ، فَذَكَر حدِيثًا، قَالَ: "وَكَانَتْ هَذِهِ الصَّدَقَة بِيَدِ عَلِيّ، مَنَعهَا عَبَّاسًا، فَغَلبَهُ عَليهَا، ثُمَّ كَانَتْ بِيَدِ الْحَسَنِ، ثُمّ بِيَدِ الْحُسَيْن، ثُمَّ بيدِ عَلِيّ بْن الحُسَيْن، والْحَسَن بْن الْحَسَنُ، ثُمَّ بِيَدِ زيْد بْن الْحَسَنُ، وهِيَ صَدَقَة رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم حَقًّا".
وَرَوَى عَبْد الرَّزَّاق، عَنْ مَعْمَرِ، عَنْ الزَّهْريِّ مِثْلَهُ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: قَالَ معمَر: ثُمَّ كَانَتْ بِيد عَبْد الله بْن حَسَن، حَتَّى وَلِيَ هَؤُلاءِ -يَعْنِي بنِي الْعَبَّاس فقَبَضُوهَا. وَزَادَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي: أَنَّ إِعْراض الْعَبَّاس عَنْهَا، كَانَ فِي خِلافَةِ عُثْمَان، قَالَ عُمَر بْن شَبَّة: سمِعْت أبا غَسَّان -هُو مُحَمَّد بن يَحْيَى المدنِيُّ- يقُولُ: إِنَّ الصَّدَقَةَ الْمَذْكُورَةَ الْيَوْم بِيَدِ الْخليفةِ، يَكْتُبُ فِي عَهْدِهِ، يُولِّي عَلَيْهَا مِنْ قِبَلِهِ مَنْ يقْبِضُها، ويُفرِّقُها فِي أهْلِ الْحَاجَةِ، مِنْ أهْلِ الْمَدِينَةَ.
قال الحافظ: كَانَ ذَلِكَ عَلَى رَأْسِ الْمِائَتَيْنِ، ثُمَّ تَغَيَّرتْ الأُمُورُ، واللهُ الْمُسْتَعَانُ. انتهى
(1)
.
(وَإِنْ شَاءَا أَنْ أَدْفَعَهَا إِلَيْهِمَا عَلَى أَنْ يَلِيَاهَا، بِالَّذِي وَلِيَهَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالَّذِي وَلِيَهَا بِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَالَّذِي وُلِّيتُهَا بِهِ، دَفَعْتُهَا إِلَيْهِمَا، وَإِنْ أَبَيَا) أي امتنعا من أخذها على الوجه المذكور (كُفِيَا ذَلِكَ) ببناء الفعل للمفعول، أي يردّانها إلى من يكفيهما ذلك، وهو وليّ الأمر، وهو عمر رضي الله تعالى عنه.
(ثُمَّ قَالَ) عمر رضي الله تعالى عنه في هذه الآية الكريمة ({وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}، هذا) إشارة إلى ما غنموه (لِهؤُلاءِ) يعني أن الغنيمة لهؤلاء الذين ذُكروا في هذه الآية الكريمة، لا يجوز لأحد ممن ليس منهم أن يُنازعهم فيها ({إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 41] هذِهِ) أي الصدقة (لِهؤُلاءِ) أي مستحَقة للمذكورين في هذه الآية الكريمة، لا تجوز لغيرهم ({وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ}، قال الزُّهْرِيُّ) وهذا أيضاً مما لم يروه أيوب عن عكرمة بن خالد، عن مالك بن أوس، وإنما رواه عن الزهريّ، كما تقدّم في رواية أبي داود.
(1)
"فتح" 6/ 328 - 329. "كتاب فرض الخمس".
(هَذِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً) منصوب على الحال، أي حال كونها مخصوصة به، لا يشاركه في استحقاقها غيره. وقوله (قُرًى عَرَبِيَّةً) يحتمل النصب على الحال، والرفع على أنه خبر لمبتدإ محذوف، أي هي قرى. وقوله:"عربيّة" هكذا عند المصنّف في "المجتبى"، و"الكبرى"، وهي نسبة إلى العرب. ووقع في هامش "الهندية" الإشارة إلى أن في بعض النسخ:"قرى عُرينة" بصيغة التصغير، وهو الذي في "سنن أبي داود"، ولعل قبيلة عُرينة تسكنها. وفي "عون المعبود": و"عُرينة" بالنون بعد الياء التحتانية، تصغير عرنة: موضع به قُرى، كأنه بنواحي الشام. كذا في "مراصد الاطّلاع"
(1)
.
وقوله (فَدَكُ) خبر لمحذوف: أي هي فَدَكٌ بفتحتين، بلدة بينها وبين المدينة يومان، وبينها وبين خيبر دون مرحلة. قاله الفيّوميّ. وفي رواية أبي داود المذكورة:"قُرَى عُرينة، فدك، وكذا وكذا".
وقوله (كذا وكذا) وفي "الكبرى" بالواو في الموضعين، وهو إشارة إلى القرى الأخرى، كخيبر، وبني النضير، وقال ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى:{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] هي قُريظة، والنضير، وهما بالمدينة، وفَدَك، وهي على ثلاثة أميال من المدينة، وخيبر،، وقُرى عُينة، وينبع
(2)
.
(فـ {مَا أَفَاءَ اللَّهُ}) هكذا في "المجتبى" بالفاء، وفي "الكبرى" بدونها، وهو الذي في أبي داود أيضًا، وهو الموافق للتلاوة ({عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7]، و {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8]) أي فلهم الحقّ في الفيء ({وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر: 9]، أي فلهم الحق فيه أيضاً ({وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ}) أي فلهم الحق فيه أيضاً (فَاسْتَوْعَبَتْ هَذِهِ الآيَةُ) يعني الآية الأخيرة، أي مع ما تقدّمها من الآيات، أو المراد بالآية الآيات الأربع كلّها، وإنما أفردها، باعتبار جنس الآية. والله أعلم (النَّاسَ) أي جميع المسلمين (فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ لَهُ فِي هَذَا الْمَالِ حَقٌّ، أَوْ) للشكّ من الراوي (قال) ولفظ أبي داود: "قال أيوب"، فتبين أن الشكّ من أيوب السختياني الراوي عن الزهري (حَظٌّ) مكان قوله:"حقّ"(إِلاَّ بَعْضَ مَنْ تَمْلِكُونَ مِنْ أَرِقَّائِكُمْ) بنصب "بعض" على الاستثناء، و"الأرقّاء" بفتح الهمزة جميع رقيق، أي إلا بعض عبيدكم، فإنه لا حق لهم في هذا الفيء، لأنهم تحت سيّدهم، وفي ملكم.
ثم إن تقييده ببعض، يقتضي أن بعضهم له حقّ، قال ابن الأثير رحمه الله تعالى:
(1)
"عون المعبود" 8/ 188.
(2)
راجع تفسير القرطبيّ "الجامع لأحكام القرآن" 18/ 12.
قيل: أراد عمر رضي الله تعالى عنه عبيدا مخصوصين، وذلك أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يُعطي ثلاثة مماليك لبني غفار، شهدوا بدرًا، لكل واحد منهم في كلّ سنة ثلاثة آلاف درهم، فأراد بهذا الاستثناء هؤلاء الثلاثة. وقيل: أراد جميع المماليك، وإنما استثنى من جملة المسلمين بعضاً من كل، فكان ذلك منصرفًا إلى جنس المماليك، وقد يوضع البعض موضع الكلّ، حتى قيل: إنه من الأضداد. انتهى
(1)
.
(وَلَئِنْ عِشْتُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَيَأْتِيَنَّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حَقُّهُ، أَوْ قَالَ: حَظُّهُ) يعني أن كلّ مسلم يصل إليه حقّه بدون تعب. وفي رواية ابن جرير المتقدّمة: "ثم قال: لئن عِشتُ ليأتينّ الراعي، وهو بِسَرْوِ حِمْيَر
(2)
نصيبه، لم يَعْرَق فيها جبينه". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عمر رضي الله تعالى عنه هذا متَفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -1/ 4150 - وفي "الكبرى" 2/ 4450. وأخرجه (خ) في "الجهاد" 2904 و"فرض الخمس" 3094 و"المغازي" 4034 و"التفسير" 4885 و"النفقات" 5357 و5358 و"الفرائض" 6728 و"الاعتصام بالكتاب والسنّة" 7305 (م) في "الجهاد" 1757 (د) في "الخراج" 2963 و2965 و2966 و2975 (ت) في "الجهاد" 1719. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): الشفاعة عِنْدَ الحاكم في إِنْفَاذ حُكْم، وَتَبْيِين الْحَاكِم وَجْه حُكْمِهِ. (ومنها): أن فِيهِ إِقامةُ الإمام مَنْ يَنظُرُ عَلَى الْوَقْفِ نِيابَة عَنْهُ، والتَّشْرِيك بَيْنَ الاثْنَيْنِ فِي ذَلِكَ. (ومِنْها): أنه يُؤخَذ منه جَوَاز أكْثَرَ مِن الاثنين بِحَسَبِ المَصْلَحَة. (ومنها): أن فِيهِ جَوَاز الادِّخار، خِلافًا لقِولِ من أنْكَرهُ، مِنْ مُتشَدِّدِي المُتَزَهِّدِين، وأنَّ ذَلِك لا يُنَافِي التَّوكُّل. (ومنها): جَوَازُ اتِّخَاذِ العَقَارِ، واسْتِغْلال مَنْفَعَته، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَاز اتِّخَاذِ غَيْر ذَلِك، من الأمْوَالِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا النَّمَاءُ، والمَنْفَعةُ، مِنْ زِرَاعةٍ، وتِجَارَةٍ، وَغَيْر ذَلِكَ. (ومنها): أَنَّ الإمَامَ إِذَا قَامَ عِنْدهُ الدَّلِيلُ صَارَ إِلَيْهِ، وَقَضَى بِمُقْتَضَاهُ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلى أخْذِهِ مِنْ غَيْرِهِ.
(1)
"النهاية" 2/ 252.
(2)
سَرْوُ حمير: منازل حمير بأرض اليمن. والسرو من الجبل: ما ارتفع عن مجرى السيل، وانحدر عن غلظ الجبل.
(ومنها): أنه يُؤْخذُ مِنْهُ جوازُ حُكْم الْحَاكِمِ بِعِلمِهِ. (ومنها): أنه اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لا يَمْلِكُ شَيْئًا منْ الْفَيْءِ، ولا خُمُس الغَنِيمةِ، إِلا قَدْر حاجتِهِ، وَحَاجَة مَنْ يمُونُهُ، وَمَا زاد عَلَى ذَلِك، كَانَ لهُ فِيهِ التَّصَرُّف بالْقَسْمِ، والْعَطِيةِ. وَقَالَ آخَرُون: لَمْ يَجْعَلْ الله لِنبِيهِ صلّى الله تعالى عليه وسلم مِلْكَ رَقَبَةَ مَا غَنِمهُ، وإِنَّمَا ملكهُ مَنَافِعه، وجعل لهُ مِنْهُ قَدْر حَاجتِهِ، وَكَذلِك القَائِم بِالأمْرِ بَعْدَهُ.
وَقَالَ ابْن الْبَاقِلانِيّ فِي الرَّدِّ عَلَى منْ زَعَمَ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يُوَرثُ: احْتَجُّوا بِعُمُوم قَوْلِهِ تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11]، قَالَ: أمَّا مَنْ أنْكَر العُمُوم، فَلا اسْتِغْرَاَق عِنْدَهُ لِكُلِّ مَنْ مَاتَ أنَّهُ يُورَثُ، وأمَّا مَنْ أثْبَتَهُ، فَلا يُسَلِّمُ دُخُول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذلِك، ولو سلم دُخُولهُ لوَجَبَ تَخْصِيصُهُ، لِصِحَّةِ الْخَبَرِ، وَخَبرُ الآحادِ يُخَصِّصُ، وِإنْ كَانَ لا يَنْسَخُ، فَكَيْف بالْخَبَرِ إِذَا جَاءَ مِثْلَ مَجِيءِ هَذَا الْخَبَرِ، وهُو:"لا نُوَرثُ". ذكره فِي "الفتح"
(1)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قول الباقلّاني: "وإن كان لا يَنسَخ"، فيه أن الحقّ جواز نسخ الكتاب بخبر الآحاد، وانظر ما كتبته عَلَى "الكوكب الساطع" ص 232 - 233. فِي الأصول. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي اخْتَلاف أهل العلم فِي مَصْرِف الْفَيْء:
ذهب مَالِك رحمه الله تعالى إلى أن الْفَيَء والخُمُس سَوَاءٌ، يُجْعَلانِ فِي بَيْتِ المَالِ، وَيُعْطِي الإمَامُ أقَارِب النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، بِحَسَب اجْتِهَاده.
وذهب الجُمْهُور إلى الفرق بين خُمُسِ الْغنِيمَةِ، وَبَيْن الْفَيَءِ، فَقَالوا: الْخُمُسُ مَوْضُوع فِيمَا عَيَّنَهُ الله فِيهِ، منْ الأصنَافِ المُسَمَّيْن فِي آيةِ الْخُمُسِ، مِنْ "سُورةِ الأنْفَالِ"، لا يُتعَدَّى بِهِ إِلَى غَيْرِهِمْ. وأمَّا الْفَيْءُ، فَهُوَ الَّذِي يَرْجِعُ النَّظرُ فِي مَصْرِفِهِ إِلَى رَأْي الإِمَامِ، بِحَسَب الْمَصْلَحَة.
وانْفَردَ الشَّافِعِيّ -كَمَا قَالَ ابْن الْمُنْذِر وَغَيرُهُ- بأَنَّ الْفَيْء يُخَمَّسُ، وأَنَّ أَرْبَعَة أَخْمَاسه لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ولَهُ خُمُسُ الخُمُسِ، كَمَا فِي الغنِيمة، وأرْبَعَة أخْمَاسِ الخُمُسِ لِمُسْتَحِقِّ نظِيرِها منْ الْغَنِيمَةِ.
وَقَالَ الْجُمْهُور: مَصْرِف الْفَيْء كُلّه إِلَى رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، واحْتَجُّوا بِقَوْلِ عُمَر:"فَكَانَتْ هَذِهِ لِرسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّة"، وتَأوَّلَ الشَّافِعِي قَوْل عُمَر الْمَذْكُور بأنَّهُ يُرِيدُ الأخْمَاس الأرْبَعَة. قاله فِي "الفتح"
(2)
.
(1)
"فتح" 6/ 330. "كتاب فرض الخمس".
(2)
"فتح" 6/ 330.
وَقَالَ الإِمام ابن القيم رحمه الله تعالى فِي "الهدي": وقد اختلف الفقهاء فِي الفيء، هل كان ملكاً لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، يتصرّف فيه كيف يشاء، أو لم يكن ملكاً له؟ عَلَى قولين فِي مذهب أحمد وغيره. والذي تدلّ عليه سننه، وهديه أنه كان يتصرّف فيه بالأمر، فيضعه حيث أمره الله، ويقسمه عَلَى منْ أُمر بقسمته عليهم، فلم يكن يتصرف فيه تصرف المالك بشهوته، وإرادته، يُعطي منْ أحبّ، ويمنع منْ أحبّ، وإنما كان يتصرّف فيه تصرف العبد المأمور، يُنفّذ ما أمره به سيّده ومولاه، فيُعطي منْ أمر بإعطائه، ويمنع منْ أمر بمنعه، وقد صَرَّحَ رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم بهذا، فقال:"والله إني لا أعطي أحدًا، ولا أمنعه، إنما أنا قاسم أضع حيث أُمرت"، فكان عطاؤه ومنعه وقسمه بمجرّد الأمر، فإن الله سبحانه خيّره بين أن يكون عبدًا رسولا، وبين أن يكون مَلِكًا رسولاً، فاختار أن يكون عبداً رسولا.
والفرق بينهما أن العبد الرسول لا يتصرف إلا بأمر سيّده ومُرسله، والملِك الرسول له أن يُعطي منْ يشاء، ويَمنع منْ يشاء، كما قَالَ تعالى للملك الرسول سليمان عليه السلام:{هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 39]. أي أعط منْ شئت، وامنع منْ شئت، لا نُحاسبك، وهذه المرتبة التي عُرِضت عَلَى نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم، فرغِب عنها إلى ما هو أعلى منها، وهي مرتبة العبودية المحضة التي تصرف صاحبها فيها مقصورٌ عَلَى أمر السيّد فِي كلّ دقيق وجليل.
والمقصود أن تصرفه فِي الفيء بهذه المثابة، فهو ملك يُخالف حكم غيره منْ المالكين، ولهذا كان يُنفق مما أفاء الله عليه، مما لم يوجِف المسلمون عليه بخيل، ولا ركاب عَلَى نفسه، وأهله نفقة سنتهم، ويجعل الباقي فِي الكُرَاع والسلاح، عُدّة فِي سبيل الله عز وجل، وهذا النوع منْ الأموال هو السهم الذي وقع فيه بعده فيه منْ النزاع ما وقع إلى اليوم.
فأما الزكوات، والغنائم، وقسمة المواريث، فإنها مُعيَّنَةٌ لأهلها، لا يشركهم غيرهم فيها، فلم يُشكل عَلَى ولاة الأمر بعده منْ أمرها ما أشكل عليهم منْ الفيء، ولم يقع فيها منْ النزاع ما وقع فيه، ولولا إشكال أمره عليهم، لما طَلَبت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثها منْ تركته، وظنت أنه يورث عنه ما كان ملكاً له كسائر المالكين، وخفي عليها رضي الله تعالى عنها حقيقة الملك الذي ليس مما يورث عنه، بل هو صدقةٌ بعده، ولما علِم ذلك خليفته الراشد البارّ الصّدّيق، ومن بعده منْ الخلفاء الراشدين، لم يجعلوا ما خلفه منْ الفيء ميراثًا يُقسم بين ورثته، بل دفعوه إلى عليّ والعبّاس، يعملان فيه عملَ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى تنازعا
فيه، وترافعا إلى أبى بكر الصديق وعمر رضي الله تعالى عنهم، ولم يقسِم أحدٌ منهما ذلك ميراثا، ولا مكّنا منه عبّاسًا وعليّا، وقد قَالَ الله تعالى:{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} إلى قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 7 - 10]، فأخبر سبحانه أن ما أفاء الله عَلَى رسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم بجملته لمن ذُكر فِي هذه الآيات، ولم يخصّ منه خمسه بالمذكورين، بل عمّم، وأطلق، واستوعب، ويُصرف عَلَى المصارف الخاصّة، وهم أهل الخمس، ثم عَلَى المصارف العامة، وهم المهاجرون والأنصار، وأتباعهم إلى يوم الدين، فالذي عمِل به هو، وخلفاؤه الراشدون هو المراد منْ هذه الآيات، ولذلك قَالَ عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه فيما رواه أحمد رحمه الله تعالى وغيره عنه:"ما أحد أحقّ بهذا المال منْ أحد، وما أنا أحقّ به منْ أحد، والله ما منْ المسلمين أحدٌ إلا وله فِي هذا المال نصيبٌ، إلا عبد مملوك، ولكنّا عَلَى منازلنا منْ كتاب الله، وقسمنا منْ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فالرجل وبلاؤه فِي الإِسلام، والرجل وقِدَمه فِي الإِسلام، والرجل وغَنَاؤه فِي الإِسلام، والرجل وحاجته، ووالله لئِّن بقِيتُ لهم ليأتينّ الراعي بجبل صنعاء حظّه منْ هذا المال، وهو يرعى مكانه"
(1)
.
فهؤلاء المسمّون فِي آية الفيء هم المسمّون فِي آية الخمس؛ لأنهم المستحقّون لجملة الفيء، وأهل الخمس لهم استحقاقان: استحقاقٌ خاص منْ الخمس، واستحقاق عام منْ جملة الفيء، فإنهم داخلون فِي النصيبين. وكما أن قسمته منْ جملة الفيء بين منْ جعل له ليس قسمةَ الأملاك التي يشترك فيما المالكون، كقسمة المواريث، والوصايا، والأملاك المطلقة، بل بحسب الحاجة، والنفع، والغناء فِي الإِسلام، والبلاء فيه، فكذلك قسمة الخمس فِي أهله، فإن مخرجهما واحد فِي كتاب الله، والتنصيص عَلَى الأصناف الخمسة يُفيد تحقيق إدخالهم، وأنهم لا يخرجون منْ الفيء بحال، وأن الخمس لا يعدوهم إلى غيرهم، كأصناف الزكاة لا تعدوهم إلى غيرهم، كما أن الفيء العام فِي آية الحشر للمذكورين فيها ، لا يتعداهم إلى غيرهم، ولهذا أفتى أئمة الإِسلام، كمالك، وأحمد، وغيرهما أن الرافضة لا حق لهم فِي الفيء؛ لأنهم ليسوا منْ المهاجرين، ولا منْ الأنصار، ولا منْ الذين جاؤوا منْ بعدهم يقولون: ربّنا اغفر لنا، ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، وهذا مذهب أهل المدينة، واختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية، وعليه يدلّ القرآن، وفِعلُ رسول الله صلَّى الله تعالى عليه وسلم، وخلفائه الراشدين.
(1)
رواه أحمد فِي "المسند" -292 - وفي سنده محمد بن ميسّر، وهو ضعيف. لكن أخرجه ابن جرير فِي تفسيره بسند صحيح، مختصرًا، وقد تقدّم.
وقد اختلف الناس فِي آية الزكاة، وآية الخمس، فقال الشافعيّ: تجب قسمة الزكاة والخمس عَلَى الأصناف كلها، ويُعطي منْ كلّ صنف منْ يُطلق عليه اسم الجمع. وَقَالَ مالك، وأهل المدينة: بل يُعطي فِي الأصناف المذكورة فيهما، ولا يعدوهم إلى غيرهم، ولا تجب قسمة الزكاة، ولا الفيء فِي جميعهم. وَقَالَ أحمد، وأبو حنيفة بقول مالك رحمهم الله تعالى فِي آية الزكاة، وبقول الشافعيّ رحمه الله تعالى فِي آية الخمس.
ومن تأمّل النصوص، وعَمَلَ رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم، وخلفائه، وجده يدلّ عَلَى قول أهل المدينة، فإن الله سبحانه وتعالى، جعل أهل الخمس هم أهل الفيء، وعيّنهم اهتمامًا بشأنهم، وتقديما لهم، ولما كانت الغنائم خاصّةً بأهلها، لا يشركهم فيها سواهم، نصّ عَلَى خمسها لأهل الخمس، ولما كان الفيء لا يختص بأحد، دون أحد، جعل جملته لهم، وللمهاجرين والأنصار، وتابعيهم، فسوّى بين الخمس، وبين الفيء فِي المصرف، وكان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يصرِف سهم الله، وسهمه فِي مصالح الإِسلام، وأربعة أخماس الخمس فِي أهلها، مقدّمًا الأهمّ، فالأهمّ، والأحوج، فالأحوج، فيُزوّج منه عزابهم، ويَقضي منه ديونهم، ويُعين ذا الحاجة منهم، وُيعطي عزبهم حظًا، ومتزوّجهم حظّين، ولم يكن هو، ولا أحدٌ منْ خلفائه يجمعون اليتامى، والمساكين، وأبناء السبيل، وذوي القربى، ويقسمون أربعة أخماس الفيء بينهم عَلَى السوية، ولا عَلَى التفضيل، كما لم يكونوا يفعلون ذلك فِي الزكاة، فهذا هديه، وسيرته صلّى الله تعالى عليه وسلم، وهو فصل الخطاب، ومحض الصواب. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله تعالى
(1)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي حققه ابن القيّم رحمه الله تعالى تحقيقٌ حسنٌ جدُّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): قَالَ أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله تعالى: لم يختلف العلماء أن قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية ليس عَلَى عمومه، وأنه يدخله التخصيص، فمما خصّصوه بإجماع أن قالوا: سلب المقتول لقاتله، إذا نادى به الإِمام، وكذلك الأسارى، الخيرة فيهم إلى الإِمام بلا خلاف. ومما خُصّ منه أيضًا الأرض، والمعنى: ما غنِمتم منْ ذهب وفضّة، وسائر الأمتعة، والسبي. وأما الأرض فغير داخلة فِي عموم هذه الآية؛ لما روى أبو داود عن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه أنه
(1)
"زاد المعاد فِي هدي خير العباد" 5/ 83 - 87.
قَالَ: لولا آخر الناس ما فتحت قريةً إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم خيبر.
ومما يُصحّح هَذَا المذهب ما رواه مسلم فِي "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، قَالَ:"منعت العراق قفيزها، ودرهمها، ومَنَعت الشام مُدّها، ودينارها" الحديث. قَالَ الطحاويّ: "منعت" بمعنى ستمنع، فدلّ ذلك عَلَى أنها لا تكون للغانمين؛ لأن ما ملكه الغانمون لا يكون فيه قفيزٌ، ولا درهم، ولو كانت الأرض تُقسم ما بقي لمن جاء بعد الغانمين شيء، والله تعالى يقول:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] بالعطف عَلَى قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8]. قَالَ: وإنما يُقسم ما يُنقل منْ موضع إلى موضع. وَقَالَ الشافعيّ: كل ما حصل منْ الغنائم منْ أهل الحرب منْ شيء، قل، أو كثر منْ دار، أو أرض، أو متاع، أو غير ذلك، قُسم، إلا الرجال البالغين، فإن الإِمام فيهم مخيّرٌ أن يمُنّ، أو يقتُل، أو يسبي، وسبيل ما أُخذ منهم، وسُبي سبيل الغنيمة، واحتجّ بعموم الآية، قَالَ: والأرض مغنومة، لا مَحالَة، فوجب أن تُقسم كسائر الغنائم، وَقَدْ قسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما افتتح عَنْوةً منْ خيبر. قالوا: ولو جاز أن يُدّعى الخصوص فِي الأرض جاز أن يُدّعى فِي غير الأرض، فيبطل حكم الآية. وأما آية الحشر، فلا حجة فيها؛ لأن ذلك إنما هو فِي الفيء، لا فِي الغنيمة، وقوله:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] استئناف كلام بالدعاء لمن سبقهم بالإيمان، لا لغير ذلك. قالوا: وليس يخلو فعل عمر فِي توقيفه الأرض منْ أحد وجهين: إما أن تكون غنيمة استطاب أنفس أهلها، وطابت بذلك، فوقفها، وكذلك روى جرير أن عمر استطاب أنفس أهلها. وكذلك صنع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فِي سبي هَوَازن لَمّا أتوه استطاب أنفس أصحابه عما كَانَ فِي أيديهم. وإما أن يكون ما وقفه عمر فيئًا، فلم يحتج إلى مُراضاة أحد.
وذهب الكوفيّون إلى تخيير الإِمام فِي قسمها، أو إقرارها، وتوظيفب الخراج عليها، وتصير ملكاً لهم كأرض الصلح. قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ: وكأنّ هَذَا جَمْعٌ بين الدليلين، ووسطٌ بين المذهبين، وهو الذي فهمه عمر رضي الله تعالى عنه قطعاً، ولذلك قَالَ:"لولا آخر الناس"، فلم يُخبر بنسخ فعل النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، ولا بتخصيصه بهم، غير أن الكوفيين زادوا عَلَى ما فعل عمر، فإنه إنما وقفها عَلَى مصالح المسلمين، ولم يملكها لأهل الصلح، وهم قالوا: للإمام أن يملّكها لأهل الصلح. انتهى
(1)
.
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 8/ 4 - 5. "تفسير سورة الأنفال".
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأرجح هو القول بأن الرأي الإمام فِي قسم الأراضي، أو توقيفها، كما فعل عمر رضي الله تعالى عنه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي كيفية قسم الخمس:
اختلفوا فِي ذلك عَلَى ستّة أقوال:
[الأول]: ذهبت طائفة إلى أنه يقسم الخمس عَلَى ستّة، فيُجعل سدسه للكعبة، وهو الذي لله سبحانه. والثاني: لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم. والثالث: لذوي القربى. والرابع: لليتامى. والخامس: للمساكين. والسادس: لابن السبيل. وَقَالَ بعض أصحاب هذا القول: يردّ السهم الذي لله عَلَى ذوي الحاجة.
[القول الثاني]: قَالَ أبو العالية، والربيع: تقسم الغنيمة عَلَى خمسة، فيُعزل منها سهم واحد، وتقسم الأربعة عَلَى الناس، ثم يضرب الإِمام بيده عَلَى السهم الذي عزله، فما قبض عليه منْ شيء جعله للكعبة، ثم يقسم بقية السهم الذي عزله عَلَى خمسة: سهم للنبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، وسهم لذوي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل.
[القول الثالث]: قَالَ المنهال بن عمرو: سألت عبد الله بن محمد بن عليّ، وعليّ بن الحسين، عن الخمس؟ فقالا: هو لنا، قلت لعليّ: إن الله تعالى يقول: {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] فقالا: أيتامنا، ومساكيننا.
[القول الرابع]: قَالَ الشافعيّ: يقسم عَلَى خمسة، وراى أن سهم الله ورسوله واحد، وأنه يُصرف فِي مصالح المسلمين، والأربعة الأخماس عَلَى الأربعة الأصناف المذكورين فِي الآية.
[الخامس]: قَالَ أبو حنيفة: يقسم عَلَى ثلاثة: اليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وارتفع عنده حكم قرابة رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم بموته، كما ارتفع حكم سهمه، قالوا: ويبدأ منْ الخمس بإصلاح القناطر، وبناء المساجد، وأرزاق القضاة والجند. وروي نحو هذا عن الشافعيّ أيضًا.
[السادس]: قَالَ مالكٌ: هو موكولٌ إلى نظر الإِمام واجتهاده، فيأخذ منه منْ غير تقدير، ويُعطي منه القرابة باجتهاده، ويصرف الباقي فِي مصالح المسلمين، وبه قَالَ الخلفاء الأربعة، وبه عملوا، وعليه يدلّ قوله صلى الله تعالى عليه وسلم:"ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم"، فإنه لم يقسمه أخماسًا، ولا أثلاثًا، وإنما ذكر فِي الآية منْ ذكر عَلَى وجه التنبيه عليهم؛ لأنهم منْ أهمّ منْ يُدفع إليه.
قَالَ الزجّاج محتجًا لمالك: قَالَ الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة: 215]، وللرجل جائز بالإجماع أن يُنفق فِي غير هذه الأصناف إذا رأى ذلك. وقد تقدّم عند النسائيّ، قول عطاء: خمس الله، وخمس رسوله واحد، كان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يَحمل منه، ويُعطي منه، ويضعه حيث شاء، ويصنع به ما شاء. ذكره القرطبيّ فِي "تفسيره"
(1)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: أرجح الأقوال عندي هو ما ذهب إليه الإِمام مالك رحمه الله تعالى؛ لأنه الذي كان هدي النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، وسيرته عليه، واقتدى به فِي ذلك الخلفاء الراشدون، كما تقدّم فِي كلام ابن القيم رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
38 - (كِتَابِ الْبَيْعَةِ)
وفي "الهنديّة": "كتاب البيعة منْ "المجتبى".
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: مناسبة هذا الكتاب لما قبله أن قسم الفيء، يحتاج إلى منْ يقوم به، وهو الإِمام، فيكون نصب إمام يكون مرجع أمور المسلمين، منْ جهاد، وصلح مع الكفّار، وغير ذلك إليه، واجبًا عليهم، وهذا لا يكون إلا بمبايعة منْ هو أهل لذلك، ممن يستحقّ أن يكون واليًا عَلَى المسلمين. والله تعالى أعلم.
و"البيعة" بفتح، فسكون-: فِي الأصل الصَّفقة عَلَى إيجاب البيع، وجمعها بَيْعَات بالسكون-، وتحُرك فِي لغة هُذيل، وهو عَلَى خلاف القياس؛ لأن القاعدة أن قياس فَعْلَة بفتح الفاء، وسكون العين- عَلَى فَعْلات، ساكن العين أيضًا، إن كان معتلّ العين، نحو:{فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ} [الشورى: 22]، و {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} [النور: 58]، هذا لغة عامة العرب، وتفتحها هُذيل إتباعًا للفاء
(2)
.
(1)
"الجامع لأحكام القرآن".
(2)
راجع "المصباح المنير" وهوامشه. فِي مادة "باع".
ثم تُطلق البيعة عَلَى المبايعة، والطاعة، وهو المراد هنا.
قَالَ فِي "الفتح": المبايعة: عبارة عن المعاهدة، سُمّيت بذلك تشبيها لها بالمعاوضة الماليّة، كما فِي قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} الآية [التوبة: 111] انتهى
(1)
.
وَقَالَ فِي "النهاية": ما معناه: المبايعة عَلَى الإِسلام: عبارة عن المعاقدة عليه، والمعاهدة، كأن كلّ واحد منهما باع ما عنده منْ صاحبه، وأعطاه خالصة نفسه، وطاعته، ودَخِيلةَ أمره. انتهى
(2)
.
وَقَالَ القاضي عياض رحمه الله تعالى: ما حاصله: اختُلف فِي اشتقاق البيعة، فقيل: أصله منْ البيع؛ لأن المتبايعين يمُدّ كلّ واحد منهما يده إلى صاحبه، ولما كان الأمراء عند التوثيق بمن يأخذون عليه العهد، يأخذون بيده، شُبّه بذلك، فسُمّيت مبايعة. وقيل: بل كانوا يضربون بأيدي بعضهم عَلَى بعض عند التبايع، ولهذا سمّيت صفقةً؛ لصفق الأيدي عندها، فسُمّيت بها. وقيل: بل سُمّيت مبايعة؛ لما فيها منْ المعاوضة، تشبيهًا بالبيع أيضاً؛ لما وعدهم الله منْ الجزاء، والثواب عَلَى الإِسلام، وطاعة الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم، قَالَ الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية [التوبة: 111] انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله تعالى
(3)
.
وَقَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: البيعة مأخوذة منْ البيع، وذلك أن المبايع للإمام يلتزم أن يقيه بنفسه وماله، فكأنه قد بذل نفسه، وماله لله تعالى، وقد وعده الله تعالى عَلَى ذلك بالجنّة، فكأنه قد حصلت له المعاوضة، فصدق عَلَى ذلك اسم البيع، والمبايعة، والشراء، كما قَالَ تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} إلى أن قَالَ: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة: 111]. وعلى نحو منْ هذا قَالَ النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم لصهيب: "ربِحَ البيع أبا يحيى"
(4)
. وكانت قريش تبعته لتردّه عن هجرته، فبذل لهم ماله فِي تخليص نفسه ابتغاء ثواب الله تعالى، فسمّاه النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم بيعًا، وهذا أحسن ما قيل فِي المبايعة.
ثم هي واجبة عَلَى كلّ مسلم؛ لقوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: "منْ مات وليس
(1)
"فتح" 1/ 92 "كتاب الإيمان" حديث: 18.
(2)
"النهاية" 1/ 174.
(3)
"إكمال المعلم" 6/ 247 - 248.
(4)
رواه الحاكم فِي "المستدرك" 3/ 398 وَقَالَ: صحيح عَلَى شرط مسلم، وأقرّه الذهبيّ.
فِي عنقه بيعة، مات ميتةً جاهليّة. رواه مسلم. غير أنه منْ كان منْ أهل الحلّ والعقد، والشهرة، فبيعته بالقول، والمباشرة باليد، إن كان حاضرًا، أو بالقول والإشهاد عليه، إن كان غائبًا، ويكفي منْ لا يؤبه له، ولا يُعرف أن يعتقد دحوله تحت طاعة الإِمام، ويسمع، ويُطيع له فِي السرّ والجهر، ولا يعتقد خلاف ذلك، فإن أضمره، فمات مات ميِتَةً جاهلية؛ لأنه لم يجعل فِي عنقه بيعة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى
(1)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: واجبة عَلَى كلّ مسلم الخ" هذا إذا كان للمسلمين إمام، أما إذا لم يكن لهم إمام، وكانوا فوضَى، فلا وجوب؛ لحديث حذيفة رضي الله تعالى عنه المتّفق عليه، واللفظ للبخاريّ، قَالَ: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يُدركني، فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنا كنا فِي جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير منْ شر؟، قَالَ: "نعم" قلت: وهل بعد ذلك الشر منْ خير؟ قَالَ: "نعم، وفيه دَخَنٌ"، قلت: وما دخنه؟ قَالَ: "قوم يَهدُون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر" قلت: فهل بعد ذلك الخير منْ شر؟ قَالَ: "نعم دُعاة إلى أبواب جهنم، منْ أجابهم إليها، قذفوه فيها"، قلت: يا رسول الله، صِفْهم لنا، فقال:"هم منْ جِلْدَتنا، ويتكلمون بألسنتنا"، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قَالَ: "تلزم جماعة المسلمين، وإمامهم" قلت: فإن لم يكن لهم جماعة، ولا إمام؟ قَالَ:"فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تَعَضّ بأصل شجرة، حتى يُدركك الموت، وأنت عَلَى ذلك".
فهذا الحديث صريح فِي أن وجوب لزوم الجماعة إنما يكون إذا وُجدت الجماعة، وكان لها إمام، وأما إذا لم يكن كذلك، فالواجب اعتزال الفرق كلها، فرارًا بدينه، كما أمره به النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم. والله تعالى أعلم بالصواب.
1 - (الْبَيْعَةِ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ)
4151 -
(أَخْبَرَنَا الإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ، مِنْ لَفْظِهِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ، وَالطَّاعَةِ، فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُومَ بِالْحَقِّ حَيْثُ كُنَّا لَا نَخَافُ لَوْمَةَ لَائِمٍ").
(1)
"المفهم" 4/ 44. "كتاب الإمارة".
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ، أبو رجاء البغلاني، ثقة ثبت [10] 1/ 1.
2 -
(الليث) بن سعد، أبو الحارث الفهميّ المصريّ، ثقة ثبت إمام [7] 31/ 35.
3 -
(يحيى بن سعيد) بن قيس الأنصاريّ، أبو سعيد المدنيّ القاضي، ثقة ثبت [5] 22/ 23.
4 -
(عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت) الأنصاريّ المدنيّ، ويقال له: عبد الله، ثقة [4] 53/ 3498.
5 -
(عبادة بن الصامت) بن قيس الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو الوليد المدنيّ الصحابيّ البدريّ المشهور، وهو أحد النقباء ليلة العقبة، مات بالرملة سنة (34)، وله (72) سنة، وقيل: عاش إلى خلافة معاوية رضي الله تعالى عنهما، تقدّم فِي 6/ 461 والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين منْ يحيى، والباقيان مصريّان. (ومنها): أن فيه رواية الواوي عن جدّه، وتابعي عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: القائل: "أخبرنا الإِمام أبو عبد الرحمن النسائيّ" هو الراوي عن المصنّف، والظاهر أنه ابن السنّيّ، لأنه المشهور برواية "المجتبى"، وقوله:"منْ لفظه" يعني أنهم سمعوه منْ لفظ النسائيّ، لا أنه قرأ عليه قارىء، وإنما بيّنه؛ لئلا يُظنّ أنه سمع قارئًا عَلَى الشيخ، حيث إن الغالب فِي استعمال المحدّثين لفظة "أخبرنا" إذا سمع الطالب قارئًا يقرأ عَلَى الشيخ، ولكن ليس هذا واجبًا عندهم، بل هو مستحسن، كما قَالَ السيوطيّ فِي "ألفية الحديث":
واسْتَحْسَنُوا لِمُفْرَدٍ "حَدَّثَنِي"
…
وَقَارِىءٍ بِنَفْسِهِ "أَخْبَرَنِي"
وَإِنْ يُحَدِّثْ جُمْلَةً "حَدَّثَنَا"
…
وَإِنْ سَمِعْتَ قَارِئًا "أَخْبَرَنَا"
[تنبيه آخر]: سقط منْ هذا السند بعد ذكر عبادة بن الوليد ذكر لفظة "عن أبيه" منْ جميع نسخ "المجتبى"، وكذا منْ نسخة "الكبرى"، لكن الذي ذكره الحافظ المزّيّ فِي "تحفة الأشراف" جـ 4/ 260 أنه ثابت فِي رواية أبي الحسن بن حيويه، ولعله لاختلاف النسخ. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: بَايَعْنَا) تقدّم معنى البيعة فِي شرح الترجمة (رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وكانت تلك المبايعة ليلة العقبة، كما قاله فِي "الفتح".
قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ: هذه البيعة تُسمّى بيعة الأمراء، وسُمّيت بذلك؛ لأن المقصود بها تأكيد السمع والطاعة عَلَى الأمراء. وقد كان عبادة رضي الله تعالى عنه بايع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم بيعة النساء، وسميت بذلك؛ لأنه لم يكن فيها ذكر حرب، ولا قتال. وقد بايع النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم أصحابه بيعة الرضوان، وسمّيت بذلك لقول الله تعالى:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] انتهى
(1)
.
(عَلَى السَّمْعِ، وَالطَّاعَةِ) متعلّق بـ"بايعنا"، و"عَلَى" بمعنى اللام، أو بتضمين "بايعنا" معنى العهد، أي عاهدناه عَلَى أن نسمع كلامه، ونطيع أمره، وكذا منْ يقوم بعده مقامه منْ الخلفاء (فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ) وفي رواية إسماعيل بن عُبيد عند أحمد:"وعلى النفقة فِي العسر واليسر"(وَالْمَنْشَطِ) بفتح الميم، والمعجمة، وسكون النون بينهما: أي فِي حالة نشاطنا (وَالْمَكْرَهِ) بضبط ما قبله: أي فِي الحالة التي نكون فيها عاجزين عن العمل بما نؤمر به. ونقل ابن التين عن الداوديّ أن المراد الأشياء التي يكرهونها. قَالَ ابن التين: والظاهر أنه أراد فِي وقت الكسل والمشقة فِي الخروج؛ ليطابق قوله: "فِي المنشط"، ويؤيّده ما وقع فِي رواية إسماعيل بن عُبيد بن رفاعة، عن عبادة، عند أحمد:
"فِي النشاط والكسل". قاله فِي "الفتح".
وَقَالَ السنديّ: الْمَنشَطُ، والْمَكْره: مَفْعلٌ بفتح الميم والعين، منْ النشاط، والكراهة، وهما مصدران، أي فِي حالة النشاط والكراهة، أي حالة انشراح صدورنا، وطيب قلوبنا، وما يُضادّ ذلك. أو اسما زمان، والمعنى واضح. أو اسما مكان: أي فيما فيه نشاطهم، وكراهتهم. كذا قيل، ولا يخفى أن ما ذكره منْ المعنى عَلَى تقدير كونهما اسمي مكان مجازيّ، وكذا قَالَ بعضهم: كونهما اسمي مكان بعيد. انتهى
(2)
.
زاد فِي الآتية: "وأَثَرَة علينا" بفتح الهمزة، والمثلّثلة: أي تفضيل غيرنا علينا فِي الفيء، أو فِي غيره. والمراد أن طواعيتهم لمن يتولّى عليهم لا تتوقّف عَلَى إيصالهم حقوقهم إليهم، بل عليهم الطاعة، ولو منعوهم حقّهم.
(1)
"المفهم" 4/ 44 - 45.
(2)
"شرح السندي" 7/ 138.
(وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الأَمْرَ) أي الملك والإمارة، أو كلّ الأمور (أَهْلَهُ) الضمير للأمر، أي إذا وُكل الأمر إلى منْ هو أهل له، فليس لنا أن نجرّه إلى غيره، سواء كان ذلك الغير أهلاً، أم غير أهل. زاد فِي رواية أحمد:"وإن رأيت أن لك"، أي وإن اعتقدتَ أن لك فِي الأمر حقًا، فلا تعمل بذلك الظنّ، بل اسمع، وأطع إلى أن يَصِل إليك بغير خروج عن الطاعة. وزاد فِي رواية حبان أبي النضر، عن جنادة عند ابن حبّان أحمد:"وإن أكلوا مالك، وضربوا ظهرك".
(وَأَنْ نَقُومَ بِالْحَقِّ) أي بإظهاره، وتبليغه للناس (حَيْثُ كُنَّا) أي فِي موضع وُجدنا (لَا نَخَافُ لَوْمَةَ لَائِمٍ) أي لا نترك قول الحق لأجل خوف ملامة اللائمين علينا.
وَقَالَ النوويّ: معناه: نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر فِي كلّ زمان ومكان، الكبار والصغار، لا نُداهن فيه أحدًا، ولا نخافه، ولا نلتفت إلى اللائمين. انتهى
(1)
.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه هذا متّفقٌ عليه، لكن منْ رواية الوليد ابن عبادة، عن عبادة رضي الله عنه، كما فِي الروايات الآتية، وأما منْ رواية عبادة بن الوليد، عن عبادة، فمن أفراد المصنّف، فَلْيُتَنَبّهْ. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -1/ 4151 و4152 و2/ 4153 و3/ 4154 و4/ 4155 و5/ 4156 - وفي "الكبرى" 1/ 7770 و7771 و2/ 7772 و3/ 7773 و 4/ 7774 و5/ 7775. وأخرجه (خ) فِي "الفتن" 7056 و"الأحكام" 7199. (م) فِي "الإمارة" 4745 و4746 و4747 و4748 (ق) فِي "الجهاد" 2866 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 22170 و22192 و22209 و22218 و22229 (الموطأ) فِي "الجهاد"977. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان مشروعيّة بيعة الإِمام عَلَى السمع والطاعة. (ومنها): وجوب سمع كلام الأمراء، وطاعة أوامرهم. (ومنها): أن وجوب الطاعة لا يختلف باختلاف الأحوال منْ العسر واليسر، والنشاط والكره، فيجب عَلَى المسلم طاعتهم فِي كلّ أحواله، قدر استطاعته. (ومنها): أنه لا يجوز منازعة وليّ الأمر فِي شأن الولاية، ولا فِي غيرها، إلا أن يكون معصية، إذ لا طاعة للمخلوق فِي
(1)
"شرح مسلم" 12/ 433.
معصية الخالق. (ومنها): وجوب قول الحقّ، منْ الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعدم المداهنة فيه للناس، ولا الالتفات إلى لوم لائمهم، بل يغيّر المنكر بكلّ ما يقدر عليه، منْ فعل، أو قول، ما لم يخشَ إثار فتنة، وتسبب منكر أشدّ منه.
قَالَ النوويّ: وأجمع العلماء عَلَى أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فرض كفاية، فإن خاف منْ ذلك عَلَى نفسه، أو ماله، أو عَلَى غيره، سقط الإنكار بيده، ولسانه، ووجبت كراهته بقلبه. هذا مذهبنا، ومذهب الجماهير. وحكى القاضي هنا عن بعضهم أنه ذهب إلى الإنكار مطلقًا فِي هذه الحالة، وغيرها. انتهى
(1)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قول الجماهير هو الحقّ؛ لحديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه، قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "منْ رأى منكم منكرا، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". رواه مسلم.
فقد رخّص الشارع فِي هذا النصّ فِي ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فعلاً، أو قولاً عند عدم الاستطاعة، فالقول بالوجوب مطلقًا مخالف لهذا النصّ.
لكن لو أخذ أحد بالعزيمة، فواجه منْ يخافه بذلك، لكان أفضل؛ لما سيأتي للمصنّف 37/ 4211 - بإسناد صحيح، عن طارق بن شهاب، أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وضع رجله فِي الْغَرْز: أيُّ الجهاد أفضل؟ قَالَ: "كلمة حق، عند سلطان جائر". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): زاد فِي رواية الشيخين: "إلا أن تروا كُفرًا بواحًا، عندكم منْ الله فيه بُرهان".
فقَوْله: "بَوَاحًا" -بِمُوَحَّدةٍ ومُهْمَلة- قَالَ الخطَّابِيّ: مَعْناه قوله: ظَاهِرًا بَادِياً، مِنْ قَوْلهمْ: بَاحَ بِالشَّيْءِ يبُوح بِهِ بَوْحًا، وَبَوَاحًا: إِذا أذَاعَهُ، وأظْهَرَهُ. وأنْكَرَ ثَابِتْ فِي "الدَّلائِل" بَوَاحًا وَقَالَ: إِنَّمَا يجُوز "بَوْحًا" بِسُكُونِ الْوَاو، و"بُؤَاحًا" بِضَمِّ أَوَّله، ثُمَّ هَمْزَة مَمْدُودَة. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَنْ رَوَاهُ بِالرَّاء ، فَهُوَ قَرِيب منْ هَذَا الْمَعْنَى، وَأَصْل الْبَرَاح: الأرض الفقراء الَّتِي لا أَنِيس فِيهَا، ولا بِنَاء. وقِيلَ: البَرَاح الْبَيَان، يُقَال: بَرَحَ الْخَفَاء: إِذَا ظَهَر. وَقَالَ النَّووِيّ: هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ مِنْ مُسْلِم بِالْواوِ، وفِي بَعْضهَا بِالرَّاءِ.
قَالَ الحافظ: وَوَقَع عِنْدَ الطَّبَرانِيّ، منْ رِواية أحْمَد بْن صَالِح، عَنْ ابن وَهْب، فِي هَذَا الْحَدِيث:"كُفْرًا صُرْاحًا"، بِصَادٍ مُهْمَلَة مَضْمُومَة، ثُمَّ رَاء. وَوَقَع فِي رِوايَة حِبَّان أبِي النَّضْر الْمَذْكُورَة:"إِلا أَنْ يَكُون مَعْصِية لِلَّهِ بَوَاحًا"، وعِنْد أحْمَد، مِنْ طرِيق عُمَيْر بن
(1)
"شرح مسلم" 12/ 433. "كتاب الإمارة".
هَانِىء، عَنْ جُنَادَةَ:"مَا لَمْ يأمُرُوك بِإِثْم بَوَاحًا". وفِي رِوَايَة إسْمَاعيل بْن عُبَيْد، عِنْدَ أَحْمَد، والطَّبرانِيِّ، والحَاكِم، مِنْ رِوَايَته
(1)
، عَنْ أبِيهِ، عَنْ عُبَادَة:"سَيَلِي أُمُورَكُمْ مِنْ بَعْدِي رِجَال، يُعرِّفُونَكُمْ ما تُنْكِرُون، ويُنْكِرُون عَلَيْكُمْ مَا تَعْرِفُونَ، فَلا طَاعَة لِمَنْ عَصَى الله". وعِنْدَ أَبِي بَكْر بْن أبِي شَيْبَة، مِنْ طرِيق أَزْهر بْن عَبْد الله، عَنْ عُبادة، رَفَعَهُ:"سيكُونُ عَلَيكُمْ أُمَراء، يأمُرُونَكُمْ بِمَا لا تَعْرِفُون، وَيَفْعَلُونَ مَا تُنْكِرُون، فَلَيْسَ لِأُولَئِكَ عَلَيْكُمْ طَاعَة".
وَقَوْله: "عِنْدكُمْ مِنْ الله فِيهِ بُرْهَان": أيْ نَصّ آية، أو خَبَر صَحِيح، لا يَحْتمِل التَّأوِيل. ومُقْتَضَاهُ أنَّهُ لا يجُوز الخُرُوج عَليْهِمْ، مَا دَامَ فِعلهم يَحْتَمِل التَّأوِيل.
قَالَ النَّووِيّ: المُراد بِالْكُفرِ هُنَّا الْمَعْصِية، وَمَعْنَى الْحَديث: لا تُنازِعُوا وُلاة الأُمُور فِي وِلايَتهمْ، ولا تَعْتَرِضُوا عَلَيْهِم، إِلَّا أنْ تَرَوْا مِنْهُم مُنْكرًا مُحَقَّقًا، تَعْلمُونهُ مِنْ قواعِد الإسْلام، فَإِذَا رأيتُم ذَلِكَ فَأنكِرُوا عَليْهِم، وقُولُوا بِالْحَقِّ، حَيْثُما كُنْتُمْ. انْتَهَى.
وَقَالَ غَيْره: الْمُرَاد بِالإثْمِ هُنَا الْمَعْصِيَة والْكُفْر، فَلا يُعتَرض عَلَى السُّلْطَان، إِلا إِذَا وَقَعَ فِي الكُفْر الظَّاهِر.
قَالَ الحافظ: والَّذِي يَظْهَر حَمْل رِواية الْكُفْر، عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ المُنَازَعة فِي الْوِلاية، فلا يُنازِعهُ بِمَا يَقْدَح فِي الوِلايَة، إِلا إِذَا ارْتكَبَ الْكُفْر، وَحَمْل رِواية الْمَعْصِية، عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ المُنازعة، فِيمَا عدا الْوِلاية، فَإِذَا لَمْ يُقدَح فِي الوِلاية، نَازَعَهُ فِي المعصِيَة، بِأنْ يُنكِر عَلَيْهِ بِرِفْقٍ، ويتوصَّل إِلى تثبيت الْحَقّ لهُ بِغَيْرِ عُنْف. وَمَحَلّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ قادِرًا. ذكره فِي "الفتح"
(2)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم الخروج عَلَى الأئمة لظلمهم:
قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى فِي "شرح مسلم": ما حاصله: أجمع المسلمون عَلَى أن الخُرُوج عَلَى الأئمة، وقِتالهِمْ حرام، وإن كانُوا فسقة، ظالِمِين، وقد تظاهرت الأحادِيث بِمعنى ما ذكرته، وأجمعَ أهْل السُّنَّة أنَّهُ لا ينْعزِل السُّلطان بالْفِسْقِ، وأما الوجه المذكُور فِي كُتُب الفِقه لِبعضِ أصحابنا أنَّهُ ينعزِل، وحُكِي عن المُعتزلة أيضًا، فغلط منْ قائِله، مُخالِف لِلإِجماعِ.
قَالَ العُلماء: وسبب عدم انعِزاله، وتحرِيم الخُرُوح عليهِ، ما يترتَّب عَلَى ذَلِكَ مِنْ الفِتن، وإِراقة الدِّماء، وفساد ذات الْبَيْن، فتِكُون المَفْسَدَة فِي عزله أكثر مِنها فِي بقائهِ.
قَالَ القاضِي عِيَاض: أجْمَعَ العُلَمَاء عَلَى أنَّ الإِمَامَة لا تَنْعَقِد لِكَافِرٍ، وعلى أَنَّهُ لَوْ طرأ
(1)
هكذا نسخة "الفتح" ولعل الصواب: "منْ رواية عبادة، عن أبيه إلخ" والله تعالى أعلم.
(2)
"فتح" 14/ 497 - 498 "كتاب الفتن" حديث: 7057.
عَلَيْهِ الكُفر انعزل، قَالَ: وكذا لو ترك إِقامة الصَّلوات، والدُّعاء إِليْها، قَالَ: وكَذلِك عِنْد جُمهُورهم البدعةُ، قَالَ: وَقَالَ بعض البَصْرِيين: تنعقِد لهُ، وتُسْتَدام لهُ؛ لأنَّه مُتأوِّل، قَالَ القَاضِي: فَلوْ طرأ عَلَيْهِ كُفْر، وَتغيِير لِلشَّرع، أو بدْعة، خَرَجَ عَنْ حُكْم الوِلاية، وسقطت طاعته، ووجب عَلَى الْمُسلِمِين القِيام عَلَيهِ، وخَلْعه، ونَصْب إِمَام عَادِل، إنْ أمكنهُم ذَلِكَ، فإِن لم يقع ذَلِكَ إِلا لِطائِفةٍ، وجب عليهِم القِيام بِخلعِ الكافِر، ولا يَجِب فِي المبتدع، إِلا إِذَا ظَنُّوا القُدْرة عَلَيْهِ، فإِن تَحقَّقُوا العجز، لم يَجِب القِيام، ولْيُهَاجِر المُسلِم عن أرْضه إِلى غيرها، وَيَفِرّ بِدِينِهِ، قَالَ: ولا تنعقِد لِفاسِقٍ ابتِداء، فلو طرأ عَلَى الخليفة فِسْق، قَالَ بَعْضهم: يجِب خلعه، إِلا أَنْ تترتَّب عَليهِ فِتنة وَحَرْب، وَقَالَ جماهِير أهْل السُّنَّة، مِن الفُقَهَاء، والمُحَدِّثِين، والمُتكلِّمِين: لا يَنْعزِل بِالْفِسْقِ، والظُّلم، وَتَعْطِيل الحُقُوق، ولا يُخْلع، ولا يَجُوز الخُرُوج عَليْهِ بذلِك، بَلْ يجِب وَعْظه، وَتخوِيفه؛ للأحادِيثِ الوارِدة فِي ذَلِكَ.
قَالَ القاضِي: وَقَدْ ادَّعى أبُو بَكْر بن مُجاهِد، فِي هَذَا الإجماع، وَقَدْ ردَّ عَلَيْهِ بعضهم هَذَا، بِقِيامِ الحسنُ، وابن الزبير، وأَهْل المدِينة عَلَى بنِي أُميّة، وبِقِيام جماعة عظمِيَّة منْ التَّابِعِين، والصَّدْر الأوَّل عَلَى الحَجَّاج، مع ابْن الأشْعَث، وتأول هَذَا القائِل قوله:"أَلَّا نُنَازع الأمْر أهْله" فِي أئِمَّة العدل.
وحُجَّة الجُمهُور أَنَّ قِيامهم عَلَى الْحَجَّاج، ليس بِمُجرَّدِ الفِسْق، بل لمَّا غَيَّر منْ الشَّرع، وظاهر الكُفر؛ لبيعه الأحرار، وتفضيله الخليفة عَلَى النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، وقوله المشهور المنكر فِي ذلك. قَالَ القَاضِي: وقِيل: إِنَّ هَذَا الخِلاف، كَانَ أوَّلا، ثُمَّ حصل الإجماع عَلَى مَنْع الخُرُوج عَليْهِمْ. والله أعْلَم. انتهى
(1)
.
وَقَالَ فِي "الفتح": ونقل ابن التِّين، عن الدَّاوُدِيِّ، قَالَ: الَّذِي عَلَيْهِ العُلماء فِي أُمَرَاء الْجَوْر، أَنَّهُ إنْ قَدَر عَلَى خلعه بِغيْرِ فِتْنة، ولا ظُلم وَجَبَ، وإِلا فالْواجِب الصَّبر. وعَنْ بعضهم: لا يَجُوز عَقْد الوِلاية لِفاسِقٍ ابتِداء، فإِنْ أحدثَ جورًا بَعْدَ أنْ كَانَ عَدْلا، فاختلفُوا فِي جواز الخُرُوج عَليْهِ، والصَّحِيح المَنْع، إِلَّا أنْ يَكفُر، فيجِب الخُرُوج عَلَيْهِ. انتهى
(2)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا القول الأخير المصحح عندي هو الحقّ، وحاصله أنه لا يجوز الخروج عَلَى الأئمة بأي نوع منْ أنواع الفسق، والظلم، إلا بصريح الكفر، وأما ما عداه، فإن امكن إزالته بغير خروج عليه، فذاك، وإلا فلا يجوز
(1)
"شرح مسلم" 12/ 432 - 433. "كتاب الإمارة". بزيادة منْ "إكمال المعلم" 6/ 247.
(2)
"فتح" 14/ 498 "كتاب الفتن".
الخروج عليه، وهذا هو الذي أوضحه النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم بقوله:"إلا أن تروا كفراً بواحًا، عندكم منْ الله فيه برهان". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4152 -
(أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَذَكَرَ مِثْلَهُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عيسى بن حمّاد": هو أبو موسى التُّجِيبيّ المصريّ، الملقّب زُغْبَةَ، ثقة [10] 135/ 211.
و"أبو عبادة": هو الوليد بن عبادة بن الصامت الأنصاريّ المدنيّ، وُلد فِي عهد النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، وهو ثقة، منْ كبار [2].
قَالَ ابن سعد: تُوُفّي فِي خلافة عبد الملك بن مروان، وكان ثقة، قليل الحديث. وذكره ابن حبان فِي "الثقات". وَقَالَ العجليّ: شاميّ تابعيّ ثقة. روى له الجماعة، سوي أبي داود، وله عند المصنّف هَذَا الحديث، وَقَدْ كرّره أربع مرّات.
وقوله: "وذكر مثله" الضمير لعيسى بن حماد. والحديث تقدم تمام الكلام فيه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
2 - (بَابُ الْبَيْعَةِ عَلَى أَنْ لَا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ)
4153 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَادَةُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عُبَادَةَ، قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُولَ، أَوْ نَقُومَ بِالْحَقِّ، حَيْثُمَا كُنَّا، لَا نَخَافُ لَوْمَةَ لَائِمٍ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، غير الحارث،
وهو ثقة حافظ. و"محمّد بن سلمة": هو المرادي الجَمَليّ، أبو الحارث المصريّ، الثقة المثبت. و"مالك": هو ابن أنس إمام دار الهجرة.
والحديث متّفق عليه، وَقَدْ سبق البحث عنه فِي الباب الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
3 - (بَابُ الْبَيْعَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْحَقِّ)
4154 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُ كُنَّا).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، وهو مروزيّ ثقة حافظ. و"عبدُ الله بن إدريس": هو الأوديّ الكوفيّ. و"ابن إسحاق": هو محمّد، إمام المغازي.
والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق القول فيه قبل باب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
4 - (الْبَيْعَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْعَدْلِ)
4155 -
(أَخْبَرَني
(1)
هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَادَةُ بْنُ الْوَلِيدِ، أَنَّ أَبَاهُ الْوَلِيدَ حَدَّثَهُ، عَنْ جَدِّهِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي عُسْرِنَا وَيُسْرِنَا،
(1)
وفي نسخة: "أخبرنا".
وَمَنْشَطِنَا وَمَكَارِهِنَا، وَعَلَى أَنْ لَا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْعَدْلِ أَيْنَ كُنَّا، لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح. و"هارون بن عبد الله": هو أبو موسى الحمّال البغداديّ. و"أبو أسامة": هو حماد بن أُسامة الكوفيّ. و"الوليد بن كثير": هو المخزوميّ، أبو محمّد المدنيّ، ثم الكوفيّ، صدوقٌ عارفٌ بالمغازيّ، ورمي برأي الخوارج [6] 44/ 52.
والحديث متفق عليه، وَقَدْ مرّ قريباً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
5 - (الْبَيْعَةِ عَلَى الأَثَرَةِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الأثرة": -بفتحتين"-: اسم من الاستئثار، فمعنى: "وأَثَرَة علينا" أي تفضيل غيرنا علينا.
[فإن قيل]: إن البيعة عَلَى الأَثَرَة، ليس فعلاً لهم، فكيف يبايعون عليه؟، وأيضاً ليس هو بأمر مطلوب فِي الدين، بحيث يُبايَع عليه، وأيضاً عمومه يرفعه منْ أصله؛ لأن كلّ مسلم إذا بايع عَلَى أن يفضل عليه غيره، فلا يوجد ذلك الغير الذي يفضّل، فما وجه هذه المبايعة؟.
[أُجيب]: بأن المراد بالبيعة عليه البيعة عَلَى الصبر إذا حصل لهم ذلك، فإذا أُوثر عليهم غيرهم فِي الفيء، أو العطايا، أو الولايات، أو فِي أيّ حقّ منْ حقوقهم صبروا عليه، ولم ينازعوا الولاة فيه.
ثم قيل: الضمير فِي "علينا" كناية عن جماعة الأنصار، أو عام لهم ولغيرهم، والأول أوجه، فإنه صلّى الله تعالى عليه وسلم أوصى إلى الأنصار:"ستكون بعدي أَثَرَةٌ، فاصبروا عليها" يعني أن الأمراء ستفضّل عليكم غيركم فِي العطايا، والولايات، والحقوق، وَقَدْ وقع ذلك فِي عهد الأمراء بعد الخلفاء الراشدين، فصبروا. أفاده السنديّ.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأوجه عمومه للأنصار ولغيرهم، فإنه وإن كَانَ الخطاب فِي هَذَا الحديث لهم، إلا أن المراد العموم، بدليل أنه صلّى الله تعالى
عليه وسلم بايع هذه المبايعة لغير الأنصار أيضًا، كما سيأتي فِي حديث أبي هريرة، وجرير، وغيرهم رضي الله تعالى عنهم، فتبصّر. والله تعالى أعلم بالصواب.
4156 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَيَّارٍ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُمَا سَمِعَا عُبَادَةَ بْنَ الْوَلِيدِ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، أَمَّا سَيَّارٌ، فَقَالَ:"عَنْ أَبِيهِ"، وَأَمَّا يَحْيَى، فَقَالَ: عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي عُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَمَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُومَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كَانَ، لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ.
قَالَ شُعْبَةُ: سَيَّارٌ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْحَرْفَ، "حَيْثُمَا كَانَ"، وَذَكَرَهُ يَحْيَى، قَالَ شُعْبَةُ: إِنْ كُنْتُ زِدْتُ فِيهِ شَيْئًا، فَهُوَ عَنْ سَيَّارٍ، أَوْ عَنْ يَحْيَى).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح. و"محمد ابن الوليد": هو الْبُسْريّ البصريّ، يلقّب حمدان. و"محمّد": هو ابن جعفر غندر. و"سيّار": هو ابن أبي سيّار وَرْدان، أبو الحكم الْعَنَزيّ الكوفيّ.
وقوله: " أما سيّار، فقال: عن أبيه" الخ، ولفظ "الكبرى":"أما سيّار، فقال: "عن أبيه القاضي
(1)
، عن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم الخ"، يعني أن سيّارًا قَالَ: "عن أبيه، عن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم"، فأرسله، وأما يحيى، فقال: "عن أبيه، عن جده، فوصله، وهو المحفوظ؛ فإن جمهور الرواة، رووه هكذا، كما سبق فِي الروايات السابقة.
وقوله: "سيّار لم يذكر هَذَا الحرف" يعني أن قوله: "حيثما كَانَ" إنما ذكره يحيى بن سعيد، وأما سيار، فلم يذكر إلا قوله:"وأن نقول بالحقّ".
والحديث متفقٌ عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4157 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "عَلَيْكَ بِالطَّاعَةِ، فِي مَنْشَطِكَ وَمَكْرَهِكَ، وَعُسْرِكَ وَيُسْرِكَ، وَأَثَرَةٍ عَلَيْكَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلّهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"يعقوب": هو ابن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاريّ المدنيّ، نزيل الإسكندرية، ثقة [8] 45/ 739.
و"أبو حازم": هو سلمة بن دينار التمّار الأعرج المدنيّ القاص الثقة العابد [5] 40/ 44.
(1)
هكذا وقع فِي نسخة "الكبرى" ولم يظهر فِي المراد، إذ لم أر منْ وصف أباه بكونه قاضيًا. فالله أعلم.
و"أبو صالح": هو ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ الثقة المثبت [3] 36/ 40. وحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه المصنّف هنا -5/ 4157 - وفي "الكبرى" 5/ 7776. وأخرجه (م) فِي "الإمارة" 1836 (أحمد) فِي "مسند المكثرين"8730. وشرحه، وسائر مسائله تقدمت فِي الكلام عَلَى حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
6 - (الْبَيْعَةِ عَلَى النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "النُّصْح" بضمّ، فسكون-: مصدرٌ، يقال: نَصَحتُ لزيد أَنْصَحُ نُصْحًا، ونَصِيحةً، هذه هي اللغة الفصيحة، وعليها قوله تعالى:{إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} [هود: 34]، وفي لغة يتعدّى بنفسه، فيقال: نصحته، وهو الإخلاص، والصدقُ والمَشُورَةُ، والعمل، والفاعل ناصحٌ، ونَصِيحٌ، والجمعُ نُصَحاءُ. قاله الفيّوميّ.
وَقَالَ المازَريّ رحمه الله تعالى: النصيحة مشتقّةٌ منْ نصحت العسل: إذا صفّيته منْ الشَّمَع، يقال: نصح الشيُ: إذا خلص، ونصح له القول: إذا أخلصه له، شبهوا تخليص القول منْ الغشّ بتخليص العسل منْ الخلط. أو مشتقّة منْ النَّصْح بفتح، فسكون-: وهي الخياطة بالمِنْصحة، وهي الإبرة، يقال: نصح الرجل ثوبه: إذا خاطه، فشبهوا فعل الناصح فيما يتحرّاه منْ صلاح المنصوح له بما يسدّه منْ خلل الثوب. والمعنى أنه يلُمّ شعث أخيه بالنصح، كما تلمّ المِنصَحة. ومنه التوبة النَّصُوح، كأن الذنب يمزّق الدين، والتوبة تَخِيطه. انتهى. كلام المازريّ بزيادة منْ كلام غيره.
وَقَالَ الخطّابيّ رحمه الله تعالى: النصيحة كلمة جامعة، معناها حيازة الحظّ للمنصوح له، قَالَ: ويقال: هي منْ وجيز الأسماء، ومختصر الكلام، وليس فِي كلام العرب كلمة مفردة تُستَوفَى بها العبارة عن معنى هذه الكلمة، كما قالوا فِي الفلاح: ليس فِي كلام العرب كلمة أجمع لخير الدنيا والآخرة منه. قَالَ: وقيل: النصيحة مأخوذة منْ نصح الرجل ثوبه إذا خاطه، فشبهوا فعل الناصح فيما يتحراه منْ صلاح المنصوح له بما
يسده منْ خلل الثوب. قَالَ: وقيل: إنها مأخوذة منْ نصحت العسل إذا صَفّيته منْ الشمع، شبهوا تخليص القول منْ الغش بتخليص العسل منْ الخلط. قَالَ: ومعنى الحديث: عمادُ الدين وقِوَامه النصحية، كقوله:"الحج عرفة": أي عماده ومعظمه عرفة. انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب.
4158 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ).
رجال هَذَا الإسناد: أربعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ) أبويحيى المكيّ، ثقة [10] 11/ 11.
2 -
(سفيان) بن عيينة الإِمام الحجة الثبت المكيّ [8] 1/ 1.
3 -
(زياد بن عِلاقة) -بكسر العين المهملة- كوفيّ ثقة رُمي بالنصب [3] 43/ 950.
4 -
(جرير) بن عبد الله بن جابر البجليّ الأحمسيّ الصحابيّ المشهور، مات رضي الله تعالى عنه سنة (51) أو بعدها، تقدّم فِي 43/ 51. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (189) منْ رباعيّات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو، وابن ماجه. (ومنها): أن فيه مكيين، شيخه، وسفيان، وكوفيين، زياد، وجرير، فإنه رضي الله عنه ممن نزل الكوفة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ جَرِيرٍ) بن عبد الله رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: بَايَعْتُ) أي عاهدت، وعاقدت (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ) تقدم معنى النصح، والنصحية أول الباب. وفي الرواية التالية:"عَلَى السمع والطاعة، وان انصح لكل مسلم"، وفي 16/ 4176 - منْ طريق أبي وائل، والشعبيّ كلاهما، عنه:"أتيت النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، فقلت له: أبايعك عَلَى السمع والطاعة فيما أحببت، وفيما كرهت، قَالَ النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم: "أو تستطيع ذلك يا جرير، أو تطيق ذلك، قَالَ: قل: فيما استطعت، فبايعني، والنصح لكلّ مسلم"، وفي 17/ 4179 - منْ طريق أبي وائل، عنه: "أتيت النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، وهو يبايع، فقلت: يا رسول الله، ابسُط يدك
(1)
راجع "شرح النوويّ عَلَى صحيح مسلم" 2/ 37.
حتى أبايعك، واشترط عليّ، فأنت أعلم، قَالَ: أبايعك عَلَى أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين". ورواه ابن حبّان منْ طريق أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن جدّه، وزاد فيه: "فكان جرير إذا اشترى شيئاً، أو باع يقول لصاحبه: أعلم أن ما أخذنا منك أحب إلينا مما أعطيناكه، فاختر". وروى الطبرانيّ فِي ترجمته:"أن غلامه اشترى له فرسًا بثلاثمائة، فلما رآه جاء إلى صاحبه، فقال: إن فرسك خير منْ ثلاثمائة، فلم يزل يزيده حتى أعطاه ثمانمائة".
قَالَ القرطبيّ: كانت مبايعة رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم لأصحابه مرّات متعددة فِي أوقات مختلفة بحسب ما كَانَ يحتاج إليه، منْ تجديد عهد، أو توكيد أمر، فلذلك اختلفت ألفاظها، كما دلّت عليه الأحاديث الآتية. انتهى
(1)
.
وَقَالَ القاضي عياض: اقتصر عَلَى الصلاة والزكاة؛ لشهرتهما، ولم يذكر الصوم وغيره لدخول ذلك فِي السمع والطاعة.
وقوله: "فيما استطعت" قَالَ القرطبيّ: رويناه بفتح التاء عَلَى مخاطبته إياه، وعلى هَذَا فيكون قوله:"فيما استطعت" منْ قول النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، مخاطبًا له به، فلا يحتاج إلى التلفّظ بهذا القول. ورويناه بضمّ التاء للمتكلّم، وعلى هَذَا فيكون النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم أمره أن ينطق بهذا اللفظ، فكأنه قَالَ له: قل: فيما استطعت، وعليه فيحتاج جرير إلى النطق بذلك امتثالاً للأمر، وعلى الوجهين، فمقصود هَذَا القول التنبيه عَلَى أن اللازم منْ الأمور المبايع عليها هو ما يُطاق، ويُستطاع، كما هو المشترط فِي أصل التكليف، كما قَالَ الله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، ويُشعر الأمر بقول ذلك اللفظ فِي حال المبايعة بالعفو عن الهفوة، والسقطة، وما وقع عن خطأ، أو تفريط. انتهى كلام القرطبيّ.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: يؤيّد رواية ضمّ التاء ما تقدّم منْ رواية أبي وائل، والشعبيّ، عن جرير بلفظ:"قل: فيما استطعتُ". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث جرير رضي الله تعالى عنه هَذَا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
(1)
"المفهم" 1/ 244. "كتاب الإيمان".
أخرجه هنا -6/ 4158 و4159 و16/ 4176 و17/ 4177 و4179 و24/ 4180/ 4191 - وفي "الكبرى" 6/ 7777 و7778 و19/ 7797 و20/ 7798 و7800 و28/ 7812. وأخرجه (خ) فِي "الإيمان" 57 و58 و"مواقيت الصلاة" 524 و"الزكاة" 1041 و"البيوع " 2157 و"الشروط" 2714 و2715 و"الأحكام" 7204 (م) فِي "الإيمان" 56 (ت) فِي "البر والصلة" 19225 (أحمد) فِي "مسند الكوفيين" 18671 و18680 و18700 و18734 و18753 (الدارمي) فِي "البيوع" 2540. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو مشروعية البيعة عَلَى النصح لكلّ مسلم. (ومنها): وجوب النصيحة لكلّ مسلم. (ومنها): تحريم الغشّ، والخديعة، بل يجب عَلَى الإنسان أن يُعامل الآخرين بما يحبّ أن يعاملوه به. (ومنها): بيان مكانة النصح فِي الإِسلام، حيث اعتنى به الشارع، فكان يبايع عليه، وأنه ملاك الأمر كلّه، حيث قَالَ صلّى الله تعالى عليه وسلم فيما سيأتي منْ حديث تميم الداريّ رضي الله تعالى عنه:"الدين النصيحة"، فجعله عين الدين كلّه. (ومنها): أن الوفاء بالمبايعة إنما يجب عَلَى الإنسان فيما استطاع، فلا يكلّف غير طاقته، كما نفاه الله تعالى فِي قوله:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} الآية [البقرة: 286]. (ومنها): ما كَانَ عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم منْ قوة الإيمان، وكمال الاتّباع، ويتمثّل ذلك فِي مدى التزام هَذَا الصحابيّ جرير بن عبد الله رضي الله تعالى عنه لهذا العهد العظيم، فقد أثّر فِي سلوكه، حيَاتَهُ كلّها، فلا يبايع أحداً، إلا واجتهد فِي بذل النصح له، كما أوضحته رواية ابن حبان، "فكان جرير إذا اشترى، أو باع يقول: أعلم أن ما أخذنا منك أحبّ إلينا مما أعطيناك، فاختر". جعلنا الله تعالى ممن يستمعون القول، فيتّبعون أحسنه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4159 -
(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، قَالَ جَرِيرٌ: بَايَعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَأَنْ أَنْصَحَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. وشيخه هو الدورقيّ، أبو يوسف البغداديّ، أحد مشايخ الأئمة الستّة بلا واسطة، ثقة حافظ [10] 21/ 22. و"يونس": هو ابن عُبيد بن دينار العبديّ البصريّ، ثقة ثبت فاضل ورعٌ [5] 88/ 109. و"عمرو بن سعيد": هو القرشيّ، أو الثقفيّ مولاهم،
أبو سعيد البصريّ، ثقة [5] 39/ 3279. "وأبو زرعة بن عمرو بن جرير": هو البجليّ الكوفيّ، حفيد جرير الصحابيّ رضي الله تعالى عنه، قيل: اسمه هَرِم، وقيل: عمرو، وقيل: عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: جرير، ثقة [3] 43/ 50.
والحديث متَّفقٌ عليه، وتقدّم تمام البحث فيه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب،
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
7 - (الْبَيْعَةِ عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ)
4160 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، سَمِعَ جَابِرًا، يَقُولُ: لَمْ نُبَايِعْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمَوْتِ، إِنَّمَا بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ).
رجال هَذَا الإسناد: أربعة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.
2 -
(سفيان) بن عيينة المذكور فِي الباب الماضي.
3 -
(أبو الزبير) محمّد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، صدوق، يدلّس [4] 31/ 35.
4 -
(جابر) بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما، غزا تسع عشرة غزوة، ومات بالمدينة بعد السبعين، وهو ابن أربع وتسعين سنة. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (190) منْ رباعيّات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمكيين، غير شيخه، فبغلانيّ، وجابر رضي الله عنه سكن مكة. (ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله تعالى عنه منْ المكثرين السبعة، روى (1540) حديثا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) محمّد بن مسلم رحمه الله تعالى، أنه (سَمِعَ جَابِرًا) رضي الله تعالى عنه (يَقُولُ: لَمْ نُبَايِعْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمَوْتِ) أي لأنه ليس فِي اختيار أحد، فالبيعة عليه غير مفيدة، لعدم دخولها تحت وسع المكلّف (إِنَّمَا بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ) أي لا نفرّ
عند ملاقاة العدوّ، وإن كَانَ يؤدّي إلى الموت، وإنما بايعوه عَلَى هَذَا؛ لكونه فِي مقدور المكلّفين، يستطيعون الوفاء به.
وهذه المبايعة كانت يوم الحديبية، كما صرّح به فِي رواية مسلم، منْ طريق الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر، قَالَ: كنا يوم الحديبية ألفا وأربع مائة، فبايعناه، وعمر آخذ بيده تحت الشجرة، وهي سَمُرة، وَقَالَ: بايعناه عَلَى أن لا نفر، ولم نبايعه عَلَى الموت.
قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "لم نبايعه عَلَى الموت" مخالفٌ لما قاله سلمة بن الأكوع أنهم بايعوه فِي ذلك اليوم عَلَى الموت، وكذلك قَالَ عبد الله بن زيد، وهذا خلافٌ لفظيّ، وأما المعنى فمتّفقٌ عليه؛ لأن منْ بايع عَلَى أن لا يفرّ حتى يفتح الله عليه، أو يُقتل، فقد بايع عَلَى الموت، فكأن جابرًا لم يسمع لفظ الموت، وأخذ غيره الموت منْ المعنى، فعبّر عنه، ويشهد لما ذكرته أنه قد رُوي عن ابن عمر فِي غير كتاب مسلم أن البيعة كانت عَلَى الصبر
(1)
وكان هَذَا الحكم خاصًا بأهل الحديبية، فإنه مخالفٌ لما فِي فِي كتاب الله تعالى، منْ إباحة الفرار عند مثلي العدد، كما نصّ عليه فِي سورة الأنفال، وعلى مقتضى بيع الحديبية لا فرار أصلاً، فهذا حكم خاصّ بهم والله تعالى أعلم - ولذلك قَالَ عبد الله بن زيد: لا أبايع عَلَى هَذَا أحداً بعد رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم
(2)
.
ثم إن الناس اختلفوا فِي العدد المذكور فِي آيتي الأنفال، فحمله جمهور العلماء عَلَى ظاهره منْ غير اعتبار للقوّة والضعف، والشجاعة والجبن. وحكى ابن حبيب، عن مالك، وعبد الملك أن المراد بذلك القوّة، والتكافؤ، دون تعيين العدد. وَقَالَ ابن حبيب: والقول الأول أكثر، فلا تفرّ المائة منْ المائتين، وإن كانوا أشدّ جلدًا، وأكثر سلاحًا. قَالَ القرطبيّ: وهو الظاهر منْ الآية. قَالَ عياضٌ: ولم يُختلف أنه متى جُهل منزلة بعضهم عَلَى بعض فِي مراعاة العدد لم يجز الفرار. انتهى كلام القرطبيّ
(3)
.
(1)
هو ما أخرجه البخاري فِي "صحيحه" -2958 - منْ طريق جويرية، عن نافع، قَالَ: قَالَ ابن عمر رضي الله عنهما: رجعنا منْ العام المقبل، فما اجتمع منا اثنان عَلَى الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة منْ الله، فسألت نافعا عَلَى أي شيء بايعهم؟ عَلَى الموت؟ قَالَ: لا، بل بايعهم عَلَى الصبر.
(2)
هو ما أخرجه الشيخان، منْ طريق عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد، رضي الله عنه، قَالَ: لما كَانَ زمن الْحَرّة، أتاه آت، فقال له: إن ابن حنظلة، يبايع الناس عَلَى الموت، فقال: لا أبايع عَلَى هَذَا أحدا، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(3)
"المفهم" 4/ 67 - 68.
وَقَالَ النوويّ فِي "شرح مسلم": قوله فِي رِوَاية جَابِر، ورِواية مَعْقِل بن يَسَار. "بَايَعناهُ يوم الْحُدَيْبِية عَلَى ألا نفِرَّ، وَلَمْ نبايِعهُ عَلَى الْمَوْت"، وفِي رِواية سَلَمَة:"أنَّهُم بايعُوهُ يَؤمئِذٍ عَلَى الْمَوْت"، وهُو معنى رِواية عند الله بن زيد بن عاصِم. وفِي رِواية مُجاشِع بْن مَسْعُود:"البيعة عَلَى الهِجرة، والبيعة عَلَى الإسْلام، والْجِهَاد"، وفِي حَدِيث ابْن عُمَر، وَعُبَادَةَ:"بايعنا عَلَى السَّمْع والطَّاعَة، وألا نُنَازع الأمْر أَهْله"، وفِي رِواية عن ابْن عُمَر فِي غير "صحِيح مُسلم":"الْبَيْعَة عَلَى الصَّبْر".
قَالَ العُلماء: هذِهِ الرِّواية تجمع المعانِي كُلّهَا، وتُبينُ مقصُود كُلّ الرِّوايات، فالبيعة "عَلَى ألَّا نَفِرّ" مَعْنَاهُ: الصَّبْر حَتَّى نظفر بِعدُوِّنَا، أو نُقْتَل، وهُو معنى البيعة عَلَى الموت، أي: نصبِر، وإِن آل بِنا ذَلِكَ إِلى الموت، لا أنَّ الْمَوت مقْصُود فِي نفسه، وكذا البيعة عَلَى الجِهاد، أيْ والصَّبْر فِيهِ. والله أعلم.
وكان فِي أوّل الإسلام يجِب عَلَى العشرة منْ المُسلِمِين، أن يصبِرُوا لِمِائةٍ منْ الكُفَّار، ولا يفِرُّوا مِنْهُم، وعلى المِائة الصَّبْر لِألْفِ كَافِر، ثُمَّ نُسِخ ذَلِكَ، وصار الواجِب مُصابرة المِثْلَيْنِ فَقَطْ، هَذَا مَذْهبنا، ومذهب ابن عَبَّاس، وَمَالِك، والجُمْهُور، أنَّ الآية منسُوخة، وَقَالَ أبُو حنِيفة، وطائفة: ليست بِمنسُوخةٍ، واختلفُوا فِي أنَّ المُعْتبر مُجرَّد الْعَدد، منْ غَير مُراعاة القُوَّة والضَّعْف، أم يُراعى؟ والجُمهُور عَلَى أَنَّهُ لا يُراعى لِظاهِرِ القُرآن.
وأمَّا حدِيث عُبَادَة: "بايعنا رسُول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى ألا تُشرِكُوا بِاللهِ شيئًا، ولا تسرِقُوا إِلى آخره"، فإنَّما كَانَ ذَلِكَ فِي أوَّل الأمْر، فِي ليلة العقبة، قبل الهِجرة مِن مَكَّة، وقبل فَرْض الجِهَاد. انتهى كلام النوويّ
(1)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن قول جابر رضي الله تعالى عنه: "لم نبايع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عَلَى الموت"، إنما هو حكاية للّفظ الذي صدر منه، حين المبايعة، فلا ينفي صدور لفظ الموت منْ غيره، كما فِي حديث سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه الآتي فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى، وأنه لا اختلاف فِي المعنى، إذ المقصود مصابرة العدوّ، ولو أدّى ذلك إلى الموت. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
(1)
"شرح مسلم" 13/ 5 - 7. "كتاب الإمارة".
حديث جابر رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -7/ 4160 - وفي "الكبرى" 7/ 2779. وأخرجه (م) فِي "الإمارة" 1856 (ت) فِي "السير" 1591 و1594 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 13700 و14409 و14660 و14835 (الدارمي) فِي "السير" 2454. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلتُ، وإليه أنيب".
…
8 - (الْبَيْعَةِ عَلَى الْمَوْتِ)
4161 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ: قُلْتُ لِسَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ: عَلَى أَىِّ شَيْءٍ بَايَعْتُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ؟ قَالَ: عَلَى الْمَوْتِ).
رجال هَذَا الإسناد: أربعة:
1 -
(قتيبة) المذكور فِي الباب الماضي.
2 -
(حاتم بن إسماعيل) أبو إسماعيل الحارثيّ مولاهم، المدنيّ، كوفيّ الأصل، صدوق يَهِم، صحيح الكتاب [8] 24/ 543.
3 -
(يزيد بن أبي عُبيد) الأسلميّ، مولى سلمة بن الأكوع، ثقة [4] 67/ 1961.
4 -
(سلمة بن الأكوع) هو سلمة بن عمرو بن الأكوع، نُسب لجدّه الأسلميّ، أبو مسلم، وأبو إياس الصحابيّ الشهير، شهد بيعة الرضوان، ومات رضي الله تعالى عنه سنة (64)، تقدّم فِي 15/ 765. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (191) منْ رباعيّات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ. والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: هَذَا الحديث بهذا الإسناد أخرجه الشيخان، فأخرجه البخاريّ فِي "كتاب الجهاد" "باب غزوة الحديبية" الحديث: 4169 - وأخرجه مسلم فِي "كتاب الإمارة"
الحديث 4799. والله تعالي أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ) مولى سلمة، أنه (قَالَ: قُلْتُ لِسَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ) رضي الله تعالى عنه (عَلَى أَيِّ شَيْءٍ بَايَعْتُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ؟ قَالَ: عَلَى الْمَوْتِ) أي بايعناه عَلَى الموت، والمراد أنهم بايعوه عَلَى الصبر، ولو أدى ذلك إلى الموت، وَقَدْ تقدّم فِي الباب الماضي وجه الجمع بينه وبين قول جابر رضي الله تعالى عنه:"لم نبايع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عَلَى الموت، إنما بايعناه عَلَى أن لا نفرّ". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -8/ 4161 - وفي "الكبرى" 8/ 7780. وأخرجه (خ) فِي "الجهاد والسير" 2960 و"المغازي" 4169 و"الأحكام" 7206 و7208 (م) فِي "الإمارة" 1860 و (ت) فِي "السير" 1592 (أحمد) فِي "أول مسند المدنيين" 16074 و16083 و16098 و277581. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
9 - (الْبَيْعَةِ عَلَى الْجِهَادِ)
4162 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أُمَيَّةَ، ابْنِ أَخِي يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ، قَالَ: جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَبِي، أُمَيَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَايِعْ أَبِي عَلَى الْهِجْرَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أُبَايِعُهُ عَلَى الْجِهَادِ، وَقَدِ انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ").
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(أحمد بن عمرو بن السرح) أبو الطاهر المصريّ، ثقة [10] 35/ 39.
2 -
(ابن وهب) هو عبد الله المصريّ الحافظ، ثقة عابد [9] 9/ 9.
3 -
(عمرو بن الحارث) بن يعقوب الأنصاريّ، أبو أيوب المصريّ، ثقة ثبت فقيه [7] 63/ 79.
4 -
(ابن شهاب) محمّد بن مسلم الزهريّ الإِمام الحجة الثبت [4] 1/ 1.
5 -
(عمرو بن عبد الرحمن بن أُميّة) التميميّ، مقبول [3].
روى عن أبيه، عن يعلي بن أمية، وعنه الزهريّ. ذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، ونسبه ثقفيًا. وَقَالَ الذهبيّ: لا يُعرف. تفرّد به المصنّف بحديث الباب، وَقَدْ أعاده فِي 15/ 4170 - "ذكر الاختلاف فِي انقطاع الهجرة".
6 -
(أبوه) عبد الرحمن بن أُميّة الثقفيّ، ويقال: ابن يعلي بن أُميّة، مقبول [3].
روى عن يعلي بن أُميّة، وعنه ابن عمرو. قَالَ أبو حاتم: لا يُعرف. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: روى عن أبيه يعلي بن أُمية. وَقَالَ البخاريّ فِي "تاريخه": عبد الرحمن بن أميّة، عن أخيه يعلى. انتهى. تفرّد به المصنّف بحديث الباب فقط، وأعاده فِي 15/ 4170 - "ذكر الاختلاف فِي انقطاع الهجرة".
7 -
(يعلي بن أمية) بن أبي عبيدة بن همّام التميميّ، حليف قريش، وهو يعلى بن مُنية بضمّ الميم، وسكون النون، بعدها تحتانية مفتوحةٌ- وهي أمّه، صحابيّ مشهور، مات رضي الله تعالى عنه سنة بضع وأربعين، وتقدّمت ترجمته فِي 7/ 406. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
عن عبد الرحمن بن أمية رحمه الله تعالى (أَنَّ) أخاه (يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ) رضي الله تعالى عنه (قَالَ: جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَبِي، أُمَيَّةَ) بدل منْ "أبي"(يَوْمَ الْفَتْحِ) أي يوم فتح مكة، وهو منصوب عَلَى الظرفيّة، متعلق بـ"جئت" (فقُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَايِعْ أَبِي عَلَى الْهِجْرَةِ) أي عَلَى أن يهاجر منْ دار قومه، وهي مكة إلى المدينة، وذلك لأنه كَانَ واجبًا فِي أول الإِسلام (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أُبَايِعُهُ عَلَى الْجِهَادِ) أي عَلَى أن يجاهد فِي سبيل الله تعالى، ثم بيّن ترك مبايعته له عَلَى الهجرة بقوله (وَقَدِ انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ) أي انقطع وجوبها. والمراد الهجرة منْ مكة إلى المدينة؛ لصيرورتها بعد الفتح دار إسلام، أو إلى المدينة منْ أيّ موضع كَانَ؛ لظهور عزّة الإِسلام فِي كلّ ناحية، وفي المدينة بخصوصها بحيث ما بقي لها حاجة إلى هجرة الناس إليها، فما بقيت هذه الهجرة فرضًا، وأما الهجرة منْ دار الحرب إلى دار الإِسلام ونحوها، فهي واجبة عَلَى الدوام. قاله
السنديّ
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث يعلي بن أمية رضي الله تعالى عنه هَذَا ضعيف؛ لجهالة عمرو بن عبد الرحمن، وأبيه، كما سبق فِي ترجمتهما. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4163 -
(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ، أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ، وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، تُبَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَّى فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْكُمْ شَيْئًا، فَعُوقِبَ بِهِ، فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ".
خَالَفَهُ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لا مناسبة بين حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه وبين الترجمة؛ لأنه لا ذكر للجهاد فيه؛ بل فيه أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم بايعهم عَلَى بيعة النساء، ومعلوم أنه لا جهاد عَلَى النساء، فالأولى ما صنعه المصنّف رحمه الله تعالى فِي "الكبرى" حيث ترجم لهذا الحديث بقوله:"البيعة عَلَى ترك عصيان الإِمام". ويمكن أن الترجمة المذكورة كانت فِي "المجتبى" أيضًا، إلا أنها سقطت منْ النسّاخ سهوًا، والله تعالى أعلم.
ورجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(عبيد الله بن سعد) الزهريّ، أبو الفضل البغداديّ، قاضى أصبهان، ثقة [11] 17/ 480.
2 -
(عمّه) يعقوب بن إبراهيم بن سعد الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة فاضلٌ، منْ صغار [9] 196/ 314.
3 -
(أبوه) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة حجة [8] 196/ 314.
4 -
(صالح) بن كيسان الغفاريّ، أبو محمّد المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [4] 196/ 314.
(1)
"شرح السنديّ" 7/ 143.
5 -
(ابن شهاب) الزهريّ المذكور فِي السند الماضي.
6 -
(أبو إدريس الْخولانيّ) عائذ الله بن عبد الله، وُلد فِي حياة النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم يوم حُنين، وسمع منْ كبار الصحابة، وكان عالم الشام بعد أبي الدرداء، مات سنة (80)، وأبوه عبد الله بن عمرو الخولانيّ، صحابيّ [2] 72/ 80.
7 -
(عبادة بن الصامت) الأنصاريّ رضي الله تعالى عنه، تقدّم قريبًا. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سباعيّات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه ثلاثة منْ التابعين يروي بعضهم عن بعض: صالح، عن ابن شهاب، عن أبي إدريس. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمّد بن مسلم الزهريّ، أنه (قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ) بفتح الخاء المعجمة، وسكون الواو: نسبة إلى خولان، قبيلة نزلت الشام
(1)
(أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ) رضي الله تعالى عنه. زاد فِي رواية للبخاريّ: "وكان شهد بدرًا، وهو أحد النقباء ليلة العقبة"(قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ، وَحَوْلَهُ) منصوب عَلَى الظرفية متعلّق بمحذوف خبر لقوله (عِصَابَةٌ) بكسر العين المهملة: الجماعة منْ العشرة إلى الأربعين، ولا واحد لها منْ لفظها، وجمعها عصائب، وعُصُب (مِنْ أَصْحَابِهِ تُبَايِعُونِي) ومعنى المبايعة: المعاهدة، سُمّيت بذلك تشبيهًا لها بالمعاوضة الماليّة، وتقدم هَذَا بأتمّ منْ هَذَا (عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ) قَالَ محمّد بن إسماعيل التيميّ وغيره: خصّ القتل بالأولاد؛ لأنه قتلٌ، وقطيعة رحم، فالعناية بالنهي عنه آكد، ولأنه كَانَ شائعًا فيهم، وهو وأد البنات، وقتل البنين، خشية الإملاق، أو خصّهم بالذكر؛ لأنهم بصدد أن لا يدفعوا عن أنفسهم (وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ) أي بكذب عَلَى أحد، فالبهتان هو الكذب الذي يُبهِت سامعه (تَفْتَرُونَهُ) أي تختلقونه (بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ) وخصّ الأيدي والأرجل بافتراء؛ لأن معظم الأفعال تقع بهما، إذ كانت هي العوامل، والحوامل للمباشرة والسعي، وكذا يسمّون الصنائع الأيادي، وَقَدْ يُعاقب الرجل بجناية قوليّة، فيقال: هَذَا بما كسبت يداك. ويحتمل أن يكون المراد: لا تبهتوا الناس كفاحًا، وبعضكم يُشاهد بعضًا، كما يقال: قلت بين يدي فلان. قاله
(1)
"لب اللباب" 1/ 302.
وفيه نظر؛ لذكر الأرجل. وأجاب الكرمانيّ بأن المراد الأيدي، وذكر الأرجل تأكيدًا. ومُحَصّله أن ذكر الأرجل إن لم يكن مقتضيًا، فليس بمانع.
ويحتمل أن يكون المراد بما بين الأيدي والأرجل القلب؛ لأنه هو الذي يترجم اللسان عنه، فلذلك نسب إليه الافتراء، كأن المعنى: لا ترموا أحداً بكذب، تُزوّرونه فِي أنفسكم، ثم تبهتون صاحبه بألسنتكم. وَقَالَ أبو محمّد بن أبي جمرة: يحتمل أن يكون قوله: "بين أيديكم" أي فِي الحال، وقوله:"وأرجلكم" أي فِي المستقبل؛ لِأنَّ السَّعْي منْ أفعال الأرْجُل، وَقَالَ غيره: أصْل هَذَا كَانَ فِي بيعة النِّساء، وكَنَّى بِذَلِك كما قَالَ الهَروِيّ فِي "الغرِيبين" -عَنْ نِسْبة الْمَرْأة الْوَلَد، الَّذِي تزنِي بهِ، أو تلتقِطهُ إِلى زوجها، ثُمَّ لما استعمل هَذَا اللَّفْظ فِي بيعة الرِّجال، احْتِيجَ إِلى حمله عَلَى غَيْر ما ورد فِيهِ أوَّلا. والله أعلم.
وَقَالَ الشيخ عز الدين ابن عبد السلام رحمه الله تعالى: هَذَا الحديث إشارة إلى ما فِي قوله تعالى: {وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} [الممتحنة: 12]، وهذا مشكلٌ؛ لأن الذي ذكره المفسّرون فِي الآية لا يجيء هنا؛ لأنهم قالوا: كانت المرأة يكون لها الزوج ذو المال، وليس له ولدٌ، فتخاف عَلَى ماله بعد موته، فتلتقط ولدًا، وتقول: ولدته، فقوله:{بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} [الممتحنة: 12] إشارة إلى الولادة، ووصفه بذلك باعتبار زعمهنّ فِي قولهنّ، كَانَ هَذَا معنى الآية، لا يكون ذلك فِي حق الرجال. قَالَ: والجواب أن هَذَا منْ باب نسبة الفعل إذا صدر منْ الواحد إلى الجماعة، كقوله تعالى:{وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر: 12]، فإن الرجال لا يلبسون الحلية. انتهى
(1)
.
(وَلَا تَعْصُونِي فِى مَعْرُوفٍ) المعرُوف ما عُرِف منْ الشَّارع حُسْنه نَهْيًا، وأمْرًا.
[فإن قيل]: إن أمره صلّى الله تعالى عليه وسلم كلّه معروف، ولا يُتصوّر منه خلاف ذلك، فما معنى قوله:"فِي معروف"؟.
[قيل]: المراد منه التنبيه عَلَى علّة وجوب الطاعة، وعلى أنه لا طاعة للمخلوق فِي غير المعروف، وعلى أنه ينبغي اشتراط الطاعة فِي المعروف فِي البيعة، لا مطلقًا. أفاده السنديّ رحمه الله تعالى
(2)
.
وَقَالَ النَّووِيّ: يحْتمِل أن يكُون المعنى: ولا تَعْصُونِي، ولا أَحَد أُولى الأمر عليكُم، فِي المعرُوف، فيكُون التَّقيِيد بِالْمَعرُوفِ، مُتعلِّقًا بِشَيْءٍ بعده. وَقَالَ غيره: نَبَّهَ بِذلِك عَلَى
(1)
راجع "زهربى" 7/ 142 - 143.
(2)
"شرح السنديّ" 7/ 142.
أنَّ طاعة المخلُوق، إِنَّما تَجب فِيما كَانَ غَيْر معصِية لله، فهِي جدِيرة بالتَّوقِّي فِي معصِية الله (فَمَنْ وَفَّى) زاد فِي رواية البخاريّ":"منكم": أي منْ ثبت عَلَى العهد. وَوَفَى بِالتَّخْفِيفِ، وفِي رِواية بِالتَّشْدِيدِ، وَهُمَا بِمعْنَى (فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) أطلق هَذَا عَلَى سبِيل التَّفْخِيم؛ لِأنَّه لَمَّا أن ذكر المُبايعة المُقتضِية لِوُجُودِ العِوضَيْنِ، أثبت ذِكْر الأجْر فِي موضع أحَدهمَا. وَقَدْ أفْصَحَ فِي رِواية الصُّنَابِحِيّ، عن عُبَادَةَ، فِي هَذَا الحديث، فِي "الصَّحِيحَيْنِ" بِتَعْيِينِ العِوَض، فقال:"الْجَنَّة"، وَعَبَّر هُنا بلَفْظِ "عَلَى" لِلْمُبالَغَةِ فِي تحقق وُقُوعه، كالْواجِباتِ، ويتعيَّن حمله عَلَى غَيْر ظَاهِره؛ لِلأدِلةِ الْقَائِمة عَلَى أنّهُ لا يَجِب عَلَى الله شَيْء.
[فإِن قِيل]: لِمَ اقتصر عَلَى المنهِيات، ولم يذكُر المأمُورات؟.
[فالجواب]: أنّهُ لم يُهمِلها، بل ذكرها عَلَى طرِيق الإجمال فِي قوله:"ولا تَعْصُوا"، إِذ الْعِصْيان مُخَالَفَة الأمْر.
والْحِكْمَة فِي التَّنصِيص عَلَى كثِير منْ الْمَنْهِيات، دُون المَأْمُورات، أن الكف أيسر منْ إِنشاء الفِعل؛ لِأنَّ اجْتِناب المَفَاسِد مُقدَّم عَلَى اجْتِلاب الْمَصَالِح، والتَّخَلِّي عن الرَّذائِل قبل التَّحَلِّي بالفَضَائِلِ. قوله:(وَمَنْ أَصَابَ مِنْكُمْ شَيْئًا) أي مما سوى الشرك، إذ لا كفّارة للشرك، سوى التوبة عنه، فهو عام مخصوص (فعُوقِبَ به) أي بسبب ما أصابه منْ المخالفة (فهُو) أيْ العِقاب (له كَفَّارة) زاد فِي رواية معمر، عن ابن شهاب الآتية 17/ 4180 - "فهو طهُوره".
قَالَ النووِي: عُمُوم هَذَا الحدِيث مَخْصُوص بِقولِهِ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]، فالمُرتد إِذَا قُتِل عَلَى ارتِداده، لا يكُون القتل لهُ كَفَّارة.
قَالَ الحافظ: وهذا بِناء عَلَى أنَّ قوله: "مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا" يتناول جِميع ما ذُكِرَ، وَهُوَ ظَاهِر، وَقَدْ قِيل: يَحتَمِلُ أن يكُون المُراد ما ذُكِر بعد الشرك؛ بِقرِينةِ أنَّ المُخاطب بِذلِك المسلِمُون، فَلا يَدْخُل حتى يحتاج إِلى إِخراجه، وُيؤيدهُ رِواية مُسلِم منْ طرِيق أبِي الأشْعَث، عن عُبادة، فِي هَذَا الْحَديث:"وَمَنْ أتى مِنْكُم حَدًّا"، إِذ القتل عَلَى الشِّرْك، لا يُسَمَّى حَدًّا. لكِنْ يَعكُر عَلَى هَذَا الْقَائِل، أنَّ الفاء فِي قوله:"فَمَنّ" لِترتِيبِ ما بعدها عَلَى ما قبلها، وخِطاب المُسلِمِين بِذلِك، لا يَمْنع التَّحْذِير منْ الإشْرَاك، وما ذُكِر فِي الحدّ عُرْفِيّ حَادِث، فالصَّوَاب ما قَالَ النَّووِيّ.
وَقَالَ الطِّيبِيّ: الحق أنَّ المُراد بِالشِّركِ الشِّرْك الأصْغَر، وهُو الرِّياء، ويدُلّ عَلَيْهِ تنكِير "شيئًا" أي شِركًا أيًّا مَا كَانَ.
وَتُعُقِّبَ بِأنَّ عُرْف الشَّارع، إِذَا أطلق الشِّرْك، إِنَّما يرِيد بِهِ ما يُقابِل التَّوحِيد، وَقَدْ
تكرّر هَذَا اللفظ فِي الكِتاب، والأَحَادِيث، حَيْثُ لا يُراد بِهِ إِلَّا ذَلِكَ.
ويُجاب بِأنَّ طلب الْجَمْع، يقتضِي ارتِكاب المجاز، فما قالهُ مُحتمِلٌ، وإن كَانَ ضعِيفًا. ولكِن يعكُر عَلَيْهِ أيْضًا، أَنَّهُ عقِب الإصَابة بِالعُقُوبةِ فِي الدُّنْيَا، والرياء لا عُقُوبة فِيهِ، فوضح أنَّ المُراد الشِّرْك، وأنَّهُ مَخْصُوص.
وَقَالَ القاضِي عِياض: ذهب أكثر العُلَمَاء، أن الحُدُود كَفَّارات، واستدلُّوا بهِذا الحدِيث، ومِنْهُمْ منْ وَقَفَ؛ لِحدِيثِ أبِي هُرَيْرَة: أنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"لا أدْرِي، الْحُدُود كَفَّارة لِأهْلِها، أمْ لا؟ "، لكِن حدِيث عُبادة أصحّ إِسنادًا.
ويُمكِن يعني عَلَى طرِيق الجمع بينهما -أن يكُون حدِيث أبي هُريرة، ورد أولاً قبل أن يُعلِمهُ الله، ثم أعلمهُ بعد ذَلِكَ.
قَالَ الحافظ: حدِيث أبِي هُريرة، أخْرَجهُ الْحَاكِم، فِي "المُسْتَدْرك"، و"البزَّار" مِن رِواية معمر، عن ابن أبِي ذِئب، عن سعِيد المقبُرِيّ، عن أبِي هُريرة، وهُو صحِيح، عَلَى شرط الشيخينِ. وَقَدْ أخْرَجهُ أحمد، عن عَبْد الرَّزَّاق، عن معمر. وذكر الدَّارقُطنِيّ، أنَّ عَبْد الرَّزَّاق، تفرَّد بِوصْلِهِ، وأنَّ هِشام بن يُوسُف، رواهُ عن معمر، فأرسلهُ.
قَالَ الحافظ: وَقَدْ وصلهُ آدم بن أبِي إِياس، عن ابن أبِي ذِئب، وأخْرَجهُ الْحَاكِم أيضًا، فقوِيت رِواية معمر، وإِذا كَانَ صحِيحًا، فالجمع -الذِي جمع بِهِ القاضي- حسن، لكِنَّ القاضِي، ومن تبعهُ، جَازِمُون بِأن حدِيث عُبادة هَذَا، كَانَ بِمكة، ليلة العقبة، لما
بايع الأنصارُ رسُول الله صلى الله عليه وسلم، البيعة الأُولى بِمِنى، وأبُو هُريرة، إِنَّما أسلم بعْد ذَلِكَ بِسبعِ سِنِين، عام خَيبر، فكيف يكُون حدِيثه مُتقدِّمًا؟ وقالُوا فِي الجواب عنهُ: يُمكِن أن يكُون أبُو هُريرة، ما سمِعهُ مِن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وإِنَّما سمِعهُ منْ صحابِيّ آخر، كَانَ سمِعهُ منْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قدِيمًا، ولَمْ يسمع منْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، بعد ذَلِكَ أنَّ الحُدُود كَفَّارة، كما سمِعهُ عُبادة.
وفِي هَذَا كما قَالَ الحافظ -تعسُّف، ويُبطِلهُ أنَّ أبا هُريرة صَرَّح بسماعِهِ، وأنَّ الحُدُود لم تكُنْ نزلت إِذْ ذاك، والْحَقّ عِندِي أنَّ حدِيث أبِي هُريرة صحِيح، وهُو ما تقدَّم عَلَى حدِيث عُبادة، والمُبايعة الْمَذْكُورة فِي حدِيث عُبَادَة، عَلَى الصِّفة المذكُورة، لم تقع ليلة العقبة، وإنما كَانَ ليلة العقبة، ما ذكر ابن إسحاق وغيره، منْ أهل الْمَغَازِي، أنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ لِمن حضر مِن الأنْصار:"أُبايعكُم عَلَى أن تَمنعُونِي، مِمّا تمنعُون مِنْهُ نِساءكُم وأبناءكُم"، فبايعُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وعلى أن يرحل إِليهِم هُو وأصحابه.
وَقَدْ تقدّم فِي هَذَا الباب منْ حدِيث عُبَادَة أيْضًا قَالَ: بايعنا رسُول الله صلى الله عليه وسلم، عَلَى السَّمْع والطَّاعة، فِي العُسْر واليُسْر، والمَنْشَط والمَكْرَه
…
" الحديث. وَأَصْرَح منْ
ذَلِكَ فِي هَذَا المُراد، ما أخرجهُ أحمد، والطبرانِيّ منْ وجه آخر، عن عُبادةَ، أَنَّهُ جَرَتْ لهُ قِصَّة مع أبِي هُريرة، عِنْد مُعاوِية بِالشَّامِ، "فقال: يا أبا هُريرة، إِنَّك لم تكُنْ معنا، إِذْ بايعنا رسُول الله صلى الله عليه وسلم، عَلَى السَّمع والطَّاعة، فِي النَّشاط والكسل، وعلى الأمر بِالمعرُوفِ، والنَّهي عن المُنْكر، وعلى أن نقُول بالحقِّ، ولا نخاف فِي الله لومة لائِم، وعلى أن ننصُر رسُول الله صلى الله عليه وسلم، إِذَا قدِم علينا يثرب، فنمنعهُ مِمَّا نمنع مِنْهُ أنفُسنا، وأزواجنا، وأبناءنا، ولنا الجَنَّة، فهذِهِ بيعة رسُول الله صلى الله عليه وسلم التِي بايعناهُ عليها. فذكر بقِية الحديث. وعِند الطَّبرانِيّ لهُ طرِيق أُخْرى، وألفاظ قريبة منْ هذِهِ. وَقَدْ وَضَحَ أنَّ هَذَا هُو الذِي وقع فِي البيعة الأولى، ثُمَّ صدرت مُبايعات أُخْرى، مِنها: هذِهِ البيعة فِي حدِيث الباب، فِي الزَّجر عن الفَواحِش المذكُورة. والَّذِي يُقوِّي أنَّها وقعت بعد فتح مَكَّة، بعد أنْ نزلت الآية الَّتِي فِي المُمْتحِنة، وهِي قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [الممتحنة: 12] ونُزُولُ هذِهِ الآية مُتأخِّر، بعد قِصة الحُديبِية بِلا خِلاف، والدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ، ما عِنْد البُخَارِيّ فِي "كِتَاب الحُدُود" منْ طرِيق سُفيان بن عُيينة، عن الزُّهرِيّ، فِي حدِيث عُبادة هَذَا، أنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، لَمَّا بايعهُنم قرأ الآية كُلها، وعِنده فِي "تفْسِير المُمْتَحِنَة" منْ هَذَا الوجه، قَالَ:"قرأ آية النِّسَاء"، ولِمُسْلِم منْ طرِيق معمر، عن الزُّهريّ، قَالَ:"فتلا علينا آية النساء، قَالَ: أن لا تُشْرِكنَ باللهِ شيئًا"، ولِلمصنّف فِي الرواية التالية: أَنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"ألا تُبايِعُونَنِي عَلَى ما بايع عَلَيْهِ النِّساءُ، أن لا تُشرِكُوا باللهِ شيئاً" الحديث. ولِلطَّبرانِيّ منْ وجه آخر، عَنْ الزُّهرِيّ بهذا السَّنَد:"بايعنا رسُول الله صلى الله عليه وسلم، عَلَى مَا بَايع عَلَيْهِ النِّسَاء يوم فتح مَكَّة". ولِمسلِم منْ طرِيق أبِي الأشْعَث، عن عُبَادَة فِي هَذَا الْحَديث:"أَخَذَ علينا رسُول الله صلى الله عليه وسلم، كما أخذ عَلَى النِّسَاء".
قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: فهذِهِ أدِلَّة ظاهِرة فِي أنَّ هذِهِ البيعة، إِنما صدرت بعد نُزُول الآية، بل بعد صُدُور البيعة، بل بعد فتح مكة، وذلِك بعد إِسلام أبِي هُريرة بِمُدةٍ. وُيؤيِّد هَذَا ما رواهُ ابن أبِي خيثمة، فِي "تارِيخه" عن أبِيهِ، عن مُحمَّد بن عبد الرَّحْمن الطُّفاوِيّ، عن أيُّوب، عن عمرو بن شُعيب، عَنْ أبِيهِ، عن جده، قَالَ: قَالَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "أُبَايِعكم عَلَى أن لا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيئًا"، فذكر نحو حدِيث عُبادة، ورِجاله ثِقات. وَقَدْ قَالَ إسحاق بن راهويهِ: إِذَا صَحَّ الإسْنَاد إِلى عمرو بن شُعَيْب، فهُو كأيُّوب، عن نافِع، عن ابْن عُمر. اهـ.
وَإذَا كَانَ عند الله بن عمرو، أَحَد مَنْ حضر هذِهِ الْبَيْعة، وَلَيْسَ هُوَ منْ الأنْصَار، ولا مِمن حضر بيعتهم، وإنَّما كَانَ إِسلامه قُرب إِسلام أبِي هُريرة، وضَحَ تغايُر الْبَيْعَتَينِ:
بيعة الأنصار، ليلة العقبة، وهِي قبل الهِجرة إِلى المدِينة، وبيعة أُخرى، وقعت بعد فتح مكّة، وشهِدها عبد الله بن عمرو، وكان إِسلامه بعد الهِجرة بِمُدةٍ طوِيلة. ومِثل ذَلِكَ ما رواهُ الطبرانِي، منْ حدِيث جرِير، قَالَ:"بايعنا رسُول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى مِثل ما بايع عَلَيْهِ النِّساء"، فذكر الحديث، وكان إسلام جرير، مُتأخِّرًا عن إسلام أبي هريرة عَلَى الصَّواب، واِنما حصل الالتِباس منْ جِهة أن عُبادة بن الصامِت، حضر البيعتينِ معًا، وكانت بيعة العقبة منْ أجَلّ ما يُتمدَّح بِهِ، فَكَان يذكُرها إِذَا حدَّث تنوِيها بِسابِقِيَّتِهِ، فلمّا ذكر هذِهِ البيعة الَّتِي صدرت، عَلَى مِثل بيعة النِّسَاء، عقِب ذَلِكَ توهَّم منْ لم يقِف عَلَى حقِيقة الْحال، أن البيعة الأُولى وقعت عَلَى ذَلِكَ.
ونظِيره ما أخرجهُ أحمد، منْ طرِيق مُحمّد بن إسحاق، عن عُبادة بن الولِيد بن عُبادة ابن الصَّامِت، عن أبِيهِ، عن جده -وكان أحد النُّقَباء- قَالَ:"بايعنا رسُول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الْحَرْب"، وكان عُبادة منْ الاثني عشر، الذين بايعُوا فِي العقبة الأولى:"عَلَى بيعة النِّسَاء، وعلى السَّمْع والطَّاعة، فِي عُسرنا ويُسرنا" الحدِيث، فإِنه ظاهِر فِي اتحاد البيعتينِ، ولكِنَّ الحديث فِي "الصَّحِيحينِ"، ليس فِيهِ هذِهِ الزِّيادة، وهُو منْ طرِيق مالِك، عن يحيي بن سعِيد الأنصارِيّ، عن عُبادة بن الوليد. والصَّوَاب أنَّ بيعة الحرب بعد بيعة العقبة؛ لِأن الحرب إِنَّما شُرع بعد الهِجرة.
ويُمكِن تأوِيل رِواية ابْن إسْحاق، وردّها إِلى ما تقدَّم، وَقَدْ اشْتَمَلتْ رِوايته عَلَى ثَلاث بيعات: بيعة العقبة، وَقَدْ صرَّح أنَّها كانت قبل أن تُفرض الحرب، فِي رِواية الصُّنابِحِيّ، عن عُبادة، عِند أحمد. والثَّانية: بيعة الحرب وأنَّها كانت عَلَى عدم الفِرار. والثَّالِثة: بيعة النِّساء، أي الِّتِي وقعت عَلَى نظِير بيعة النِّساء. والراجِح أنَّ التَّصرِيح بِذلِك وهْمٌ منْ بعض الرُّواة، والله أعلم.
قَالَ الحافظ: ويعكُر عَلَى ذَلِكَ التَّصرِيح فِي رِواية ابن إسحاق، منْ طرِيق الصَّنابِحِيّ، عن عُبادة، أن بيعة ليلة العقبة، كانت عَلَى مِثل بيعة النِّساء، واتَّفق وُقُوع ذَلِكَ قبل أن تنزِل الآية، وإنَّما أُضِيفت إِلى النِّساء؛ لِضبطِها بِالقُرآنِ.
ونظِيره ما وقع فِي "الصحِيحين" أيْضًا منْ طرِيق الصُّنابِحِيّ، عن عُبادة، قَالَ:"إنّي منْ النُّقباء الذين بايعُوا رسُول الله صلى الله عليه وسلم"، وَقَالَ:"بايعناهُ عَلَى أن لا نُشرِك باللهِ شيئاً" الحديث. فظاهِر هَذَا اتحاد البيعتينِ؛ ولكِن المُراد ما قرَّرته أنَّ قوله: "إِنِّي منْ النقباء الذين بايعُوا" -أي ليلة العقبة- عَلَى الإيواء والنَّصْر، وما يتعلَّق بِذلِك. ثُمَّ قَالَ: بايعناهُ إِلَخْ أي: فِي وقت آخر، ويُشِير إِلى هَذَا الإتيانُ بِالواوِ الْعَاطِفة فِي قوله:"وَقَالَ: بايعناهُ".
قَالَ: وَعَليْك بِردِّ ما أتى منْ الرِّوايات، مُوهِمًا بِأنَّ هذِهِ البيعة، كانت ليلة العقبة، إِلى
هَذَا التَّأوِيل الَّذِي نهجت إِليهِ، فيرتفِع بِذلِك الإشكال، ولا يبقى بين حدِيثي أبي هريرة، وعُبادة تعارُض، ولا وجه بعد ذَلِكَ لِلتوقفِ فِي كون الحُدُود كَفَّارة.
[واعلم]: أنَّ عُبادة بن الصَّامِت، لم يتفرِد بِرِوايةِ هَذَا الْمَعْنَى، بَلْ روى ذَلِكَ عليّ بن أبِي طالِب رضي الله تعالى عنه، وهُو فِي التِّرمِذِيّ، وصحَّحهُ الحاكِم، وفِيهِ:"منْ أصاب ذنبا، فعُوقِب بِهِ فِي الدُّنيا، فالله اكرم منْ أن يُثنِّي العُقُوبة عَلَى عبده فِي الآخِرة"، وهُو عِند الطَّبرانِيّ بِإِسْنادٍ حسن، منْ حدِيث أبي تمِيمة الْهُجيمِيّ. ولِأحمد منْ حدِيث خُزيمة بن ثابِت، بِإِسنادٍ حسن، ولفظه:"منْ أصاب ذنبًا، أُقِيم عَلَيْهِ ذَلِكَ الذَّنْب، فهُو كَفَّارة لهُ". ولِلطَّبرانِيّ عن ابن عمرو مرفُوعًا: "ما عُوقِب رجُل عَلَى ذنب، إِلا جعلهُ الله كَفَّارة لِما أصاب، منْ ذَلِكَ الذَّنْب".
قَالَ الحافظ: وإِنما أطلت فِي هَذَا الموضِع؛ لِأننِي لم أر منْ أزال اللبس فِيهِ عَلَى الوجه المرضِي، والله الهادِي. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جداً، أجاد فيه، وأفاد، فجزاه الله تعالى عليه أحسن الجزاء.
وقوله أيضًا (فعُوقِبَ بِهِ) قَالَ ابن التين: يُرِيد بِهِ القطع فِي السَّرِقة، والجلد، أو الرَّجْم فِي الزِّنا. قَالَ: وأمَّا قتل الولد، فليس لهُ عُقُوبة معلُومة، إِلا أن يُرِيد قتل النَّفس، فكنَّى عنهُ. قَالَ الحافظ. وفِي رِواية الصُّنابِحِيّ، عن عُبادة، فِي هَذَا الحدِيث:"ولا تقتُلُوا النَّفْس الَّتِي حرّم الله إِلا بالحقِّ"، ولكِن قوله فِي حدِيث الْبَاب:"فعُوقِب بهِ"، أَعَمّ منْ أن تكُون العُقُوبة حدًّا، أو تعزِيرًا. قاله فِي "الفتح".
وَقَالَ القرطبيّ: قوله: "كفّارة له": هَذَا حجة واضحة لجمهور العلماء عَلَى أن الحدود كفارات، فمن قتل، فاقتُصّ منه لم يبق عليه طلبة فِي الآخر؛ لأن الكفّارات ماحيةٌ للذنوب، ومُصيِّرةٌ لصاحبها كأن ذنبه لم يكن، وَقَدْ ظهر ذلك فِي كفارة اليمين والظهار، وغير ذلك، فإن بقي مع الكفارة شيء منْ آثار الذنب لم يصدُق عليها ذلك الاسم. وَقَدْ سمعنا منْ بعض علماء مشايخنا أن الكفّارة إنما تكفّر حق الله تعالى، ويبقى عَلَى القاتل حقّ المقتول، يطلبه به يوم القيامة، وتطّرد هذه الطريقة فِي سائر حقوق الآدميين. قَالَ القرطبيّ: وهذا ليس بصحيح؛ لأنه تخصيص لعموم ذلك الحديث بغير دليل، وما ذكره منْ اختلاف الحقوق صحيحٌ، غير أنه لما أباح الله دم القاتل بسبب جريمته، وقُتل، فقد فُعل به مثلُ ما فعل، منْ إيلام نفسه، واستباحة دمه، فلم يبق عليه شيء، وهذا معنى القصاص. انتهى كلام القرطبيّ
(1)
.
(1)
"المفهم" 5/ 141 - 142. "كتاب الحدود".
وَقَالَ فِي "الفتح": قَالَ ابن التين: وحُكِي عن القاضِي إسماعيل وغيره، أنَّ قتل القاتِل إِنَّما هُو رادِع لِغيرِهِ، وأمَّا فِي الآخِرة، فالطلب لِلمقتُولِ قائِم؛ لِأنَّهُ لم يصل إِليهِ حق.
قَالَ الحافظ: بل وصل إِليهِ حق، أي حق، فإنَّ المقتُول ظُلمًا، تُكفَّر عنهُ ذُنُوبه بِالقتلِ، كما ورد فِي الخبر الذِي صححهُ ابن حِبَّان وغيره:"إِنَّ السَّيف مَحَّاء لِلخطايا"، وعنْ ابن مسعُود رضي الله تعالى عنه، قَالَ:"إِذَا جاء القتل محا كُلّ شيء"، رواهُ الطَّبرانِيّ، ولهُ عن الحسنُ بن عليّ نحوه، ولِلبزَّارِ عن عائِشة رضي الله تعالى عنها مرفُوعًا:"لا يمُر القتل بِذنْب، إِلَّا مَحَاهُ"، فلولا القتل ما كُفِّرت ذُنُوبه، وأيّ حَقّ يصل إِليهِ أعظم منْ هَذَا؟، ولوْ كَانَ حد القتل إِنَّمَا شُرع لِلرَّدعِ فقط، لم يُشْرع العفو عن الْقَاتِل. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبين بهذا أن الأرجح ما قاله الجمهور، منْ أن القصاص مكفّر لجريمة القتل. والله تعالى أعلم
وَقَالَ فِي "الفتح" أيضاً: وهل تَدْخُل فِي الْعُقُوبة المذكُورةِ المصائِب الدُّنيوِيَّة، منْ الآلام والأسْقَام، وغيرها؟ فِيهِ نظر. ويدُلّ لِلمَنْع قوله:"ومن أصاب منْ ذَلِكَ شيئاً، ثُمَّ سترهُ الله"، فإِنَّ هذِهِ المصائِب لا تنُافِي السَّتْر، ولكِنْ بيّنت الأحادِيث الكثِيرة، أَنَّ المصائِب تُكفِّر الذنُوب، فيحتمِلُ أن يُراد أنَّها تكفر ما لا حَدّ فِيهِ. والله أعلم.
(وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ) زاد فِي رِواية سفيان، عن الزهريّ الآتية: 38/ 4212 - : "عَلَيْهِ"(فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ) زاد فِي رواية سفيان المذكورة: "عز وجل".
قَالَ المازريّ: فِيهِ رَدّ عَلَى الخَوارج الذين يُكفِّرُون بِالذُّنُوب، ورد عَلَى المُعتزِلة الَّذين يُوجِبُون تغذِيب الفاسِق، إِذَا مات بِلا توبة؛ لِأنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أخْبر بِأنهُ تَحت المشِيئة، ولم يقُل: لابُدّ أن يُعذِّبهُ. وَقَالَ الطّيبِيّ: فِيهِ إِشارة إِلى الْكَفّ عن الشهادة بِالنَّارِ عَلَى أحد، أو بِالجنَّةِ لِأحدِ، إِلّا منْ ورد النَّصّ فِيهِ بِعينِهِ. قَالَ الحافظ: أما الشِّق الأوّل فواضِح، وأمَّا الثَّانِي فالإشارة إِليهِ إِنَّما تُستفاد منْ الحمل عَلَى غير ظاهِر الحدِيث، وهُو مُتعيَّن (إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَذّبهُ) يشمل منْ تاب منْ ذَلِكَ، ومن لم يتُب، وَقَالَ بِذلِك طائِفة، وذهب الجُمهُور إِلى أن منْ تاب لا يبقى عَلَيْهِ مُؤاخذة، ومع ذَلِكَ فلا يأمن مكر الله؛ لِأنَّهُ لا اطلاع لهُ، هل قُبِلت توبته أو لا. وقِيل: يُفرَّق بين ما يجِب فِيهِ الحد، وما لا يجِب. واختُلِف فِيمن أتى ما يُوجِب الحَدّ، فقِيل: يجُوز أن يتُوب سِرًّا، ويكفِيه ذَلِكَ. وقِيل: بَلْ الأفضل أن يأتِي الإِمام، ويعترِفِ بِهِ، ويسألهُ أنْ يُقِيم عَلَيْهِ الحدّ، كما وقع لِماعِزٍ، والْغَامِدِيَّةِ. وَفَصَل بعض العُلماء بين أن يكُون مُعلِنًا بِالفُجُورِ، فيُستحبّ أَنْ
يُعلِن بِتوبتِهِ، وإِلَّا فلا.
(تتبِيه): زاد فِي رِواية الصُّنابحِيّ، عن عُبادة، فِي هَذَا الحديث:"ولا ينتهِب"، وهُو مِمّا يُتمسَّك بِهِ فِي أن البيعة مُتأخِّرة؛ لِأن الجِهاد عِتد بيعة العقبة، لم يكُن فُرِض، والْمُراد بالانتِهاب ما يقع بعد الْقِتال فِي الغنائِم. وزاد فِي رِوايته أيْضاً: "ولا يَعْصِي، بالجنَّةِ
(1)
، إن فعلنا ذَلِكَ، فإِنْ غشِينا منْ ذَلِكَ شيئاً ما، كَانَ قضاء ذَلِكَ إِلى الله"، أخرجهُ البخاريّ فِي "باب وُفُود الأنْصَار" عن قُتيبة، عن الليث، ووقع عِنده: "ولا يقضِي" بِقافٍ، وضاد مُعجمة، قَالَ الحافظ: وهُو تَصْحِيف، وَقَدْ تكلف بعض النَّاس فِي تخرِيجه، وَقَالَ: إِنَّهُ نَهَاكُم عن وِلاية القضاء، وُيبطِلهُ أنَّ عُبادة رضي الله عنه ولى قضاء فِلسطِين، فِي زمن عُمر رضي الله عنه. وقِيل: إِنَّ قوله: "بالجنة" مُتعلِّق بِـ"يقضِي"، أي لا يقضِي بِالجنَّةِ لِأحدٍ مُعيَّن. لكِن يبقى قوله: "إن فعلنا ذَلِكَ" بِلا جواب، ويكفِي فِي ثُبُوت دعوى التَّصْحِيف فِيهِ، رِواية مُسلِم عن قُتَيْبة، بِالعينِ والصَّاد المُهملتينِ، وكذا الإسْمَاعِيليّ عن الحسنُ بنِ سُفْيان، ولِأبِي نُعَيْم منْ طرِيق مُوسى بن هارُون، كِلاهُما عن قُتيبة، وكذا هُو عِنْد البخاريّ أيضاً، فِي هَذَا الحديث فِي "الدِّيَات" عن عبد الله بن يُوسُف، عن اللَّيْث، فِي مُعظم الرِّوايات، لكِن عند الكُشْمِيهنِيّ بِالْقَافِ والضَّاد أيضاً، وهُو تَصْحِيف، كما بَيَّنَّاهُ.
وقؤله: "بالجنة" إِنما هُو مُتعلِّق بِقولِهِ فِي أوَّله: "بايعنا". والله أعلم. قاله فِي "الفتح"
(2)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -9/ 4163 و4164 و17/ 4180 و"كتاب الإيمان" 14/ 5004 - وفي "الكبرى" 12/ 7784 و7785 و20/ 7801 و"كتاب الإيمان" 14/ 11733. وأخرجه (خ) فِي "الإيمان" 18.
أخرجه هنا -1/ 4151 و4152 و2/ 4153 و3/ 4154 و4/ 4155 و5/ 4156
(1)
ولفظ مسلم: "فالجنة، إن فعلنا ذلك".
(2)
"فتح" 1/ 92 - 98. "كتاب الإيمان" حديث: 19.
و9/ 4163 و4164 و17/ 4180 و4212 و"كتاب الإيمان" 14/ 5005 - وفي "الكبرى" 1/ 7770 و7771 و2/ 7772 و3/ 7773 و4/ 7774 و5/ 7775 و12/ 7784 و"كتاب الإيمان" 14/ 11733. وأخرجه (خ) فِي "الإيمان" 18 و"مناقب الأنصار" 3892 و"المغازي" 3999 و"التفسير" 4894 و"الحدود" 6784 و6801 و"الأحكام" 7213 و"التوحيد" 7468. (م) فِي "الحدود" 4436 و4437 و4438 و 4439 (ت) فِي "الحدود"1439. (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 22170 و22192 و22209 و22218 و22229 (الموطأ) فِي "الجهاد" 977. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): مشروعية المبايعة عَلَى الأمور المذكورة فِي الحديث. (ومنها): أن إِقامة الحدّ كفَّارة لِلذَّنبِ، ولو لم يتُب المحدُود، وهُو قول الجُمهُور. وقِيل: لابُد منْ التوبة، وبِذلِك جزم بعض التابِعِين، وهُو قول لِلمُعتزِلةِ، ووافقهُم ابن حزم، ومن المفسرِين البغوِيّ، وطائِفة يسِيرة، واستدلُوا بِاسْتِثَناءِ منْ تاب فِي قوله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34].
والجواب فِي ذَلِكَ أَنَّهُ فِي عُقُوبة الدنيا، ولِذلِك قُيدت بالقُدرةِ عَلَيْهِ. قاله فِي "الفتح"
(1)
.
(ومنها): أن هذه البيعة تُسمّى بيعة النساء، كما يأتي فِي الحديث التالي؛ لأنه ليس فيها ذكر الجهاد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله. (خَالَفَهُ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ) يعني أنه خالف أحمدُ بنُ سعيد عبيد الله بن سعد فِي روايته لهذا الحديث عن عمّه، متّصلاً، فرواه منقطعًا، حيث أسقط أبا إدريس الخولانيّ بين ابن شهاب، وبين عبادة رضي الله تعالى عنه، ونصّه فِي "الكبرى": خالفه أحمد بن سعيد، رواه عن يعقوب، عن أبيه، عن أبي صالح، عن الحارث بن فُضيل، عن الزهريّ، عن عبادة، مرسلاً". انتهى.
وقوله: "عن أبي صالح" غلط، والصواب "عن صالح"، وهو صالح بن كيسان. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر رواية أحمد بن سعيد بقوله:
(1)
"فتح" 1/ 97 "كتاب الإيمان" حديث: 18.
4164 -
(أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ فُضَيْلٍ، أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ حَدَّثَهُ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَلَا تُبَايِعُونِي عَلَى مَا بَايَعَ عَلَيْهِ النِّسَاءُ، أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ، تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ"، قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَمَنْ أَصَابَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا، فَنَالَتْهُ عُقُوبَةٌ فَهُوَ كَفَّارَةٌ، وَمَنْ لَمْ تَنَلْهُ عُقُوبَةٌ، فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أحمد بن سعيد": هو الرباطيّ الأشقر، أبو عبد الله المروزيّ، ثقة حافظٌ [11] 90/ 1030.
و"الحارث بن فُضيل" الأنصاريّ الخطميّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقة [6] 16/ 16.
والحديث فيه انقطاع؛ لأن الزهريّ لم يسمع منْ عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه، لكنه صحيح بما قبله، وتقدّم شرحه، ومسائله فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
10 - (الْبَيْعَةِ عَلَى الْهِجْرَةِ)
4165 -
(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ، وَلَقَدْ تَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ، قَالَ: "ارْجِعْ إِلَيْهِمَا، فَأَضْحِكْهُمَا، كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(يحيى بن حبيب بن عربي) البصريّ، ثقة [10] 60/ 75.
2 -
(حمّاد بن زيد) أبو إسماعيل البصريّ، ثقة ثبت فقيه، منْ كبار [8] 3/ 3.
3 -
(عطاء بن السائب) الثقفيّ الكوفيّ، صدوقٌ، اختلط [5] 152/ 243.
4 -
(أبوه) السائب بن مالك، أو ابن يزيد الكوفيّ، ثقة [2] 62/ 1305.
5 -
(عبد الله بن عمرو) بن العاص بن وائل بن هاشم بن سُعَيد بن سَعْد بن سَهْم السهميّ، أبو محمد الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما، مات فِي ذي الحجة ليالي الحَرّة عَلَى الأصحّ بالطائف عَلَى الراجح، تقدّم فِي 89/ 111. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعي عن تابعى. (ومنها): أن صحابيّه منْ العبادلة الأربعة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ، وَلَقَدْ تَرَكْتُ أَبَوَيَّ) أصله أبوين لي، فحذفت النون، واللام للإضافة، ثمّ أُدغمت الياء فِي الياء، وفُتحت ياء المتكلّم (يَبْكِيَانِ) أي عَلَى فراقه لهما (قَالَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (ارْجِعْ إِلَيْهِمَا) الظاهر أن ذلك بعد أن انقطعت فريضة الهجرة (فَأَضْحِكْهُمَا) بقطع الهمزة، منْ الإضحاك، أي أضحكهما بدوام صحبتك لهما (كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا) بفراقك إياهما. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح.
[فإن قلت]: كيف يصح، وفيه عطاء بن السائب، وهو مختلط؟.
[قلت]: إنما صحّ لأنه من طريق من روى عن عطاء قبل اختلاطه، وهو حماد بن زيد، وأيضاً إذا روى عطاء عن أبيه، فهو صحيح، كما ذكره الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى فِي "شرح علل الترمذيّ" ص 311
(1)
. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -10/ 4165 - وفي "الكبرى" 11/ 7786. وأخرجه (د) فِي "الجهاد" 2528 (ق) فِي "الجهاد" 2782. والله تعالى أعلم.
(1)
راجع "شرح علل الترمذيّ" ص 311 تحقيق صبحي السامرّائيّ.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو مشروعيّة البيعة عَلَى الهجرة، ووجه الاستدلال بالحديث أنه صلى الله تعالى عليه وسلم إنما ترك مبايعة الرجل عَلَى الهجرة؛ لأجل أبويه، فلولاهما لبايعه. (ومنها): وجوب برّ الوالدين، والسعي فِي تحصيل رضاهما. (ومنها): تحريم عقوق الوالدين، وإدخال الحزن عليهما. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
11 - (شَأْنُ الْهِجْرةِ)
4166 -
(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: "وَيْحَكَ، إِنَّ شَأْنَ الْهِجْرَةِ شَدِيدٌ، فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَهَلْ تُؤَدِّي صَدَقَتَهَا؟ "، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ، فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(الحسين بن حُريث) الخُزاعيّ، أبو عمّار المروزيّ، ثقة [10] 44/ 52.
2 -
(الوليد بن مسلم) القرشيّ مولاهم، أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقة كثير التدليس والتسوية [8] 5/ 454.
3 -
(الأوزاعيّ) عبد الرحمن بن عمرو، أبو عمرو الدمشقيّ، ثقة فقيه إمام [7] 45/ 56.
4 -
(الزهريّ) محمّد بن مسلم المذكور قريباً.
5 -
(عطاء بن يزيد) الليثي الْجُنْدعيّ المدنيّ، نزيل الشام، ثقة [3] 20/ 21.
6 -
(أبو سعيد) سعد بن مالك بن سنان الأنصاريّ الخدريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما 169/ 262. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم
رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين منْ الزهريّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه منْ المكثرين السبعة، روى (1170) حديثاً. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) رضي الله تعالى عنه (أنَّ أعْرابِيًّا) قَالَ الحافظ: ما عرفت اسمه (سأل رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الهِجْرةِ) أي ترك الوطن، والانتقال منْ بلده إلى المدينة، تأييدًا، وتقويةً للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمسلمين، وإعانةً لهم عَلَى قتال الكفرة، وكانت فرضًا فِي أول الأمر، ثم صارت مندوبة، فلعلّ السؤال كَانَ فِي آخر الأمر، أو لعله صلّى الله تعالى عليه وسلم خاف عليه؛ لِما كَانَ عليه الأعراب منْ الضعف، حتى إن أحدهم ليقول إذا حصل له مرض فِي المدينة: أقلني بيعتك، ونحو ذلك، ولذلك قَالَ:"إن شأن الهجرة لشديد"
(1)
.
وَقَالَ فِي "الفتح": والهجرة المسئول عنها مفارقة دار الكفر إذ ذاك، والتزام أحكام المهاجرين مع النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، وكأن ذلك وقع بعد فتح مكة؛ لأنها كانت إذ ذاك فرض عين، ثم نُسخ ذلك بقوله صلّى الله تعالى عليه وسلم:"لا هجرة بعد الفتح". انتهى
(2)
.
(فَقَالَ) صلى الله تعالى عليه وسلم (وَيْحَكَ) قَالَ فِي "النهاية": وَيْحَ كلمة ترحّم، وتوجّعٍ، تقال لمن وقع فِي هلكة، لا يستحقّها، وَقَدْ يقال بمعنى المدح والتعجّب، وهي منصوبة عَلَى المصدر، وَقَدْ تُرفع، وتضاف، ولا تُضاف، يقال: ويحَ زيد، وويحًا له، وويحٌ له. انتهى
(3)
(إِنَّ شَأن الهِجْرةِ)"الشأن" بفتح الشين المعجمة، وسكون الهمزة: الخطب، والأمر (شَدِيدٌ) قَالَ القرطبيّ: سؤال الأعرابيّ عن الهجرة إنما هو عن وجوبها عليه، فأجابه النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم بقوله:"إن شأنها لشديد" أي إن أمرها صعبٌ، وشروطها عظيمة، ثم أخبره بعد ذلك بما يدلّ عَلَى أنها ليست بواجبة عليه. ويحتمل أن يكون ذلك خاصًّا بذلك الأعرابيّ، لما علِم منْ حاله، وضعفه عن المقام بالمدينة، فأشفق عليه، ورحمه:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]. انتهى.
(1)
"شرح السنديّ" 7/ 143.
(2)
"فتح" 7/ 675 "كتاب مناقب الأنصار" حديث: 3925.
(3)
"النهاية" 5/ 235.
وَقَالَ النوويّ: قَالَ العلماء: والمراد بالهجرة التي سأل عنها هَذَا الأعرابيّ، ملازمة المدينة مع النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، وترك أهله، ووطنه، فخاف عليه النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أن لا يقوى لها، ولايقوم بحقوقها، وأن ينكُص عَلَى عقبيه، فقال له: إن شأن الهجرة التي سألت عنها لشديد، ولكن اعمل بالخير فِي وطنك، وحيث ما كنت، فهو ينفعك، ولا ينقصك الله منه شيئًا. والله أعلم. انتهى
(1)
.
(فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَهَلْ تُؤَدِّى صَدَقَتَهَا؟) أي زكاتها (قَالَ: نَعَمْ) زاد فِي رواية: "هل تحلُبها يوم وِرْدها" يعني أنهم كانوا إذا اجتمعوا عند ورود المياه، حَلَبُوا مواشيهم، فسقوا المحتاجين، والفقراء المجتمعين عَلَى المياه (قَالَ: "فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ) أي فأت بالخيرات كلّها، وإن كنت وراء القرى، وسكنت أقصى الأرض، فلا يضرّك بُعدك عن المسلمين. قَالَ النوويّ: قَالَ العلماء: والمراد بالبحار هنا القرى، والعرب تسمّي القرى البحار، والقريةُ البحيرة. انتهى
(2)
. وَقَالَ فِي "الفتح": هَذَا مبالغة فِي إعلامه بأن عمله لا يضيع فِي أي موضع كَانَ (فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل لَنْ يَتِرَكَ) بفتح التحتانية، وكسر المثناة، ثم راء، وكاف: أي لن ينقُصك، يقال: وتره يتره، منْ باب وعد: إذا نقصه، فهو منْ التِّرَة، كالعِدَة، والكاف مفعول به. وَقَالَ السنديّ: ويحتمل أنه منْ الترك، فالكاف منْ الكلمة، أي لا يترك شيئًا منْ عملك، مهملاً، بل يُجازيك عَلَى جميع أعمالك، فِي أيّ محلّ فعلت. والله تعالى أعلم. انتهى
(3)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الاحتمال الذي ذكره السنديّ رحمه الله تعالى، إن صحّت الرواية به، فذاك، وإلا فالضبط الأول متعيّنٌ. والله تعالى أعلم.
(منْ عَمَلِكَ شيئًا) أي منْ ثواب عملك شيئاً، حيث كنت. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي سعد الخدريّ رضي الله تعالى عنه هَذَا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -11/ 4166 - وفي "الكبرى" 14/ 7787. وأخرجه (خ) فِي "الزكاة"
(1)
"شرح مسلم" 13/ 12 - 13. "كتاب الإمارة".
(2)
"شرح مسلم" 13/ 13. "كتاب الإمارة".
(3)
"شرح السنديّ" 7/ 144.
1452 و"المناقب" 3923 و"الأدب" 6165 (م) فِي "الإمارة" 1865 (د) فِي "الجهاد" 2477 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 10721 و11225. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان شدّة شأن الهجرة، وأنها لا تصلح لكلّ أحد، فربما يقع الشخص فِي صعوبة أمر، فيندم عَلَى هجرته، كما سيأتي بعد عشرة أبواب أن أعرابيًّا بايع النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، ثم وُعِك -أي حُمَّ- فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أقلني بيعتي" الحديث. (ومنها): التنويه بشأن الهجرة، وأنها منْ أفضل الأعمال، ولذا كانت واجبة فِي أول الإِسلام، وسيأتي بعد بابين حديث: "عليك بالهجرة، فإنه لا مثل لها". (ومنها): فضل أداء زكاة الإبل، ومعادة إخراج حق الله تعالى منها لفضل الهجرة، فإن فِي الحديث إشارةً إلى أن استقراره بوطنه، إذا أدّى زكاة إبله يقوم مقام ثواب هجرته، وإقامته بالمدينة. قاله فِي "الفتح"
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
12 - (هِجْرَةِ الْبَادِي)
أي المقيم بالبادية.
4167 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَبُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "أَنْ تَهْجُرَ مَا كَرِهَ رَبُّكَ عز وجل"، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْهِجْرَةُ هِجْرَتَانِ: هِجْرَةُ الْحَاضِرِ، وَهِجْرَةُ الْبَادِي، فَأَمَّا الْبَادِي، فَيُجِيبُ إِذَا دُعِيَ، وَيُطِيعُ إِذَا أُمِرَ، وَأَمَّا الْحَاضِرُ، فَهُوَ أَعْظَمُهُمَا بَلِيَّةً، وَأَعْظَمُهُمَا أَجْرًا").
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(أحمد بن عبد الله بن الحكم) أبو الحسين البصريّ، المعروف بابن الكرديّ، ثقة [10] 39/ 583.
(1)
"فتح" 4/ 73 "كتاب الزكاة" حديث: 1453.
2 -
(محمّد بن جعفر) المعروف بغندر البصريّ، ثقة، صحيح الكتاب [9] 21/ 22.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الإِمام الحجة الثبت [7] 27/ 24.
4 -
(عمرو بن مُرّة) بن عبد الله الجملي المرادي، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة عابد رمي بالإرجاء [5] 171/ 265.
5 -
(عبد الله بن الحارث) الزبيديّ بضم الزاي -النجرانيّ بنون وجيم- الكوفيّ المعروف بالمكتّب، ثقة [3].
قَالَ الدُّوريّ، عن ابن معين: ثبت. وَقَالَ النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". روى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، والباقون، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الحديث فقط.
6 -
(أبو كثير) زُهير بن الأقمر، وقيل: عبد الله بن مالك، وقيل: جمهان، أو الحارث بن جمهان الزُّبيديّ بالتصغير- الكوفيّ، ثقة
(1)
[3].
وقيل: إن زهير بن الأقمر غير عبد الله بن مالك، فالله أعلم.
قَالَ العجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقة. وَقَالَ النسائيّ: زهير بن الأقمر ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". روى له البخاريّ فِي "خلق أفعال العباد"، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب حديث الباب فقط.
7 -
(عبد الله بن عمرو) بن العاص رضي الله تعالى عنهما المذكور قبل باب. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال ثقات. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، والباقون كوفيون، والصحابيّ دخل الكوفة. (ومنها): أن فيه ثلاثةً منْ التابعين يروي بعضهم عن بعض: عمرو بن مرّة، عن عبد الله الحارث، عن أبي كثير. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟) أي أكثر ثوابًا (قَالَ: "أَنْ تَهْجُر) بضم الجيم، منْ باب نصر: أي تترك (مَا كَرِهَ) بكسر الراء، منْ باب تَعِبَ (رَبُّكَ عز وجل ومعنى الحديث أن أفضل
(1)
هَذَا هو الحقّ، فقد وثقه النسائيّ، والعجليّ، وابن حبّان، فقول الحافظ فِي "ت": مقبول، غير مقبول، فتنبه.
الهجرة أن تترك ما كرهه الله تعالى، منْ الأقوال، والأفعال، والأحوال، وفيه أن ترك المعاصي خير منْ ترك الوطن، فإن المقصود الأصليّ منْ ترك الوطن هو ترك المعاصي، فإذا تركه الإنسان، وهو فِي وطنه، فهو أفضل ممن هجر منْ وطنه؛ لأنه
يقتدي به أهله، وعشيرته، فيكون سببًا لهداية كثير منْ الناس (وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْهِجْرَةُ هِجْرَتَانِ: هِجْرةُ الْحَاضِرِ) أي المقيم بالبلاد والقرى (وَهِجْرَةُ الْبَادِي) أي المقيم بالبادية (فَأَمَّا الْبَادِي فَيُجِيبُ) بضم أوله، منْ الإجابة (إِذَا دُعِيَ، ويُطِيعُ إِذَا أُمِرَ) والمراد أنه لا حاجة له إلى ترك وطنه، بل المطلوب منه أن يحضر عند الجهاد، إذا استنفره الإِمام، ويُطيع أميره، فإن ذلك يكفيه (وَأَمَّا الْحَاضِرُ، فَهُوَ أَعْظَمُهُمَا بَلِيَّةً) وذلك والله أعلم- لأنه يتحمّل كثيرًا منْ المسئولية، حيث يخرج فِي أول منْ يخرج إلى الغزو، وينزل عليه ضيوف الإِسلام، ويقوم بمساعدة الفقراء، والمساكين (وَأَعْظَمُهُمَا أَجْرًا) لأن عظم الأجر تابع لعظم النصب. والله تعالى أعلم بالصواب.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -12/ 4167 - وفي "الكبرى" 15/ 7788 و"كتاب السير" 82 "هجرة الحاضر"8702. وأخرجه الحاكم فِي "مستدركه" 1/ 11. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
* * *
13 - (تَفْسِيرِ الْهِجْرَةِ)
4168 -
(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُبَشِّرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، كَانُوا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ؛ لأَنَّهُمْ هَجَرُوا الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ مِنَ الأَنْصَارِ مُهَاجِرُونَ، لأَنَّ الْمَدِينَةَ كَانَتْ دَارَ شِرْكٍ، فَجَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ).
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(الحسين منصور) أبو عليّ النيسابوريّ، ثقة فقيه [10] 25/ 1664.
2 -
(مبشّر بن عبد الله) بن رزِين بفتح الراء، وكسر الزاي- ابن محمّد بن بُرْد السلميّ، أبو بكر النيسابوريّ، ثقة، منْ كبار [9].
وثقه عليّ بن الحسين الذهلي، ومسلمة بن قاسم، وابن حبّان، وَقَالَ: مات سنة (8) أو (189)، وكذا أرّخه البخاريّ. تفرّد به المصنّف، وله عنده فِي هَذَا الكتاب ثلاثة أحاديث: هَذَا الحديث، وفي "كتاب آداب القضاء" 21/ 5411 - حديث عباد بن شراحيل فِي استعدائه النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، و32/ 5423 حديث أبي بكرة فِي قضاء القاضي، وهو غضبان.
3 -
(سفيان بن حسين) الواسطيّ، ثقة فِي غير الزهريّ باتفاقهم [7] 41/ 1716.
4 -
(يعلي بن مسلم) المكيّ، بصري الأصل، ثقة [6] 2/ 4005.
[تنبيه]: وقع فِي "الكبرى" منْ "السير""معلّى بن مسلم" بدل "يعلي بن مسلم"، وهو تصحيف، والصواب "يعلى"، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
5 -
(جابر بن زيد) أبو الشعثاء الأزديّ البصريّ، ثقة فقيه [3] 146/ 236.
6 -
(ابن عباس) عبد الله البحر رضي الله تعالى عنهما 27/ 31. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أن فيه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما منْ العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ) الأزديّ، أنه (قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما (إِنَّ رسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما، زاد فِي "الكبرى" فِي "السير":"وأصحاب النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم"(كَانُوا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ؛ لأَنَّهُمْ هَجَرُوا الْمُشْرِكِينَ) أي تركُوا مساكنتهم، ومعاملتهم (وَكَانَ مِنَ الأَنْصَارِ مُهَاجِرُونَ؛ لأَنَّ الْمَدِينَةَ كَانَتْ دَارَ شِرْكٍ، فَجَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ) فيه أن ترك الوطن فِي الجملة، والعود إليه بإذنه صلّى الله تعالى عليه وسلم لا يضرّ بالهجرة. والله تعالى أعلم بالصواب.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح الإسناد، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -13/ 4168 - وفي "الكبرى" 16/ 7789 وفي "السير" 81/ 8700. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه
المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
14 - (الْحَثِّ عَلَى الْهِجْرَةِ)
4169 -
(أَخْبَرَنِي هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بَكَّارِ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ -وَهُوَ ابْنُ عِيسَى بْنِ سُمَيْعٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ، أَنَّ أَبَا فَاطِمَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدِّثْنِي بِعَمَلٍ، أَسْتَقِيمُ عَلَيْهِ، وَأَعْمَلُهُ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكَ بِالْهِجْرَةِ، فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهَا").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(هارون بن محمّد بن بكّار بن بلال) العامليّ الدمشقيّ، صدوق [11] 128/ 1091.
2 -
(محمّد بن عيسى بن سُميع) بالتصغير-: هو الأمويّ مولاهم، الدمشقيّ، صدوقٌ يُخطىء، ويُدلّس، ورمي بالقدر [9] 24/ 1663.
3 -
(زيد بن واقد) القرشيّ الدمشقيّ، ثقة [6] 29/ 920.
4 -
(كثير بن مُرّة) الحضرميّ الحمصيّ، ثقة [2] 1/ 688.
5 -
(أبو فاطمة) الليثيّ، ويقال: الأزديّ الدوسيّ، له صحبة، قيل: اسمه أُنيس، وقيل: عبد الله بن أُنيس، شهد فتح مصر، وسكن الشام. رَوَى عن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، وعنه كثير بن قليب الصدفيّ، وكثير بن مرّة، وأبو عبد الرحمن الحبلي، ومسلمة بن عبد الله الجهنيّ، مرسلاً. ذكره ابن سُميع، وأبو زرعة الدمشقيّ فيمن نزل الشام منْ الصحابة. وَقَالَ المفضّل الغَلابيّ: أبو فاطمة الأزديّ قبره بالشام إلى جنب قبر فضالة بن عُبيد. وجعله أبو أحمد الحاكم اثنين، فقال: أبو فاطمة الليثيّ مصريٌّ، ثم قَالَ: أبو فاطمة الأزديّ شاميّ، وتبعه ابن عبد البرّ وغيره. روى له المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب حديث الباب فقط. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم
ثقات. (ومنها): أنه مسلسل بالشاميين. (ومنها): أن صحابيّه منْ المقلّين منْ الرواية ، فليس إلا هَذَا الحديث عند المصنّف، وأبي داود، وابن ماجه. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ: أَنَّ أَبَا فَاطِمَةَ) رضي الله تعالى عنه (حَدَّثَهُ) أي حدّث كثير بن مرّة (أنّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدِّثْنِي بِعَمَلٍ، أَسْتَقِيمُ عَلَيْهِ) أي أثبُت عليه (وَأَعْمَلُهُ) أي أداوم عليه، ولو بقاء، إذ الهجرة لا تكرّر (قَالَ لهُ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكَ بِالْهِجْرَةِ فَإِنَّهُ) الضمير للشأن، أي فإن الأمر والشأن (لا مِثْلَ لَهَا) أي فِي ذلك الوقت، أو فِي حقّ ذلك الرجل. قاله السنديّ.
[تنبيه]: هَذَا الحديث هنا، وفي "الكبرى" فِي هَذَا الموضع مختصرٌ، وَقَدْ ساقه فِي "السير" منْ "الكبرى"، مطوّلاً، بهذا السند، ولفظه:
عن كثير بن مرّة، أن أبا فاطمة حدّثهم أنه قَالَ له رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم:"عليك بالهجرة، فإنه لا مثل لها"، قَالَ: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حدّثني بعمل أستقيم عليه، وأعمله، قَالَ: عليك بالصبر، فإنه لا مثل له، قَالَ: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّثني بعلم
(1)
أستقيم عليه، وأعمله، قَالَ:"عليك بالسجود، فإنك لا تسجد لله سجدةً إلا رفعك الله بها درجة، وحطّ عنك بها خطيئة". انتهى
(2)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أبي فاطمة رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح، ومحمد بن عيسى، وإن كَانَ مدلّسًا، غير أنه صرّح بالتحديث هنا، وهو بهذا السياق منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -14/ 4169 - وفي "الكبرى" 17/ 7790 وفي "السير" 80/ 8698. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
(1)
هكذا وقع فِي نسخة "الكبرى" بلفظ: "بعلم"، وهو غلطٌ، والصواب "بعمل"، كما هو عند ابن ماجه برقم 1422، وعند الطبرانى فِي "المعجم الكبير" 22/ 322 - رقم 809 و810.
(2)
راجع "الكبرى" 5/ 213 رقم 8698.
15 - (ذِكْرِ الاِخْتِلَافِ فِي انْقِطَاعِ الْهِجْرَةِ)
4170 -
(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أُمَيَّةَ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّ يَعْلَى قَالَ: جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِأَبِي يَوْمَ الْفَتْحِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَايِعْ أَبِي عَلَى الْهِجْرَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أُبَايِعُهُ عَلَى الْجِهَادِ، وَقَدِ انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الحديث ضعيفٌ، وَقَدْ تقدّم قبل خمسة أبواب، وتقدّم تمام البحث فيه هناك، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4171 -
(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْجَنَّةَ، لَا يَدْخُلُهَا إِلاَّ مُهَاجِرٌ، قَالَ: "لَا هِجْرَةَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، فَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(محمّد بن داود) أبو جعفر المصّيصيّ، ثقة فاضل [11] 112/ 2879.
2 -
(معلّى بن أسد) الْعَمّيّ، أبو الهيثم البصريّ، أخو بهز، ثقة ثبت، منْ كبار [10] 134/ 1097.
3 -
(وُهيب بن خالد) أبو بكر الباهليّ البصريّ، ثقة ثبت، تغيّر بآخره قليلاً [7] 21/ 427.
4 -
(عبد الله بن طاوس) بن كيسان، أبو محمّد اليمانيّ، ثقة فاضل عابد [6] 11/ 514.
5 -
(أبوه) طاوس بن كيسان الحميريّ مولاهم اليمانيّ، ثقة فقيه فاضل [3] 27/ 31.
6 -
(صفوان بن أمية) بن خلف بن وهب بن قُدامة بن جُمَح القرشيّ الجُمحيّ المكيّ، صحابيّ، منْ المؤلفة قلوبهم، مات رضي الله تعالى عنه بالشام أيام قتل عثمان رضي الله تعالى عنه، وقيل: سنة (1) أو (42) فِي أوائل خلافة معاوية رضي الله تعالى عنه. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به هو وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْجَنَّةَ، لَا يَدْخُلُهَا إِلاَّ مُهَاجِرٌ) يعني أن الناس يتحدّثون بأن الجنة مقصورة عَلَى منْ هاجر منْ وطنه إلى دار الإِسلام.
وقوله: ("لَا هِجْرَةَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، فَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا") سيأتي شرحه فِي الحديث التالي، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث صفوان بن أُميّة رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -15/ 4171 - وفي "الكبرى" 18/ 7792 وفي "السير" 83/ 8704. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4172 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ: "لَا هِجْرَةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، فَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا").
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(إسحاق بن منصور) بن بهرام الكوسج، أبو يعقوب المروزي، ثقة ثبت [11] 72/ 88.
2 -
(يحيى بن سعيد) القطّان البصريّ الإِمام الحجة الثبت [9] 4/ 4.
3 -
(سفيان) بن سعيد الثوريّ الكوفيّ الإِمام الحجة الثبت [7] 33/ 37.
4 -
(منصور) بن المعتمر السلميّ، أبو عتاب الكوفيّ، ثقة ثبت [6] 2/ 2.
5 -
(مجاهد) بن جبر المخزوميّ، أبو الحجاج المكيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 27/ 31.
6 -
(طاوس) بن كيسان المذكور فِي السند الماضي.
7 -
(ابن عباس) عبد الله البحر رضي الله تعالى عنهما 27/ 31. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ ابْنِ عَبَّاسِ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَوْمَ الْفَتْحِ) أي فتح مكة (لَا هِجرة) قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: أي لا وجوب هجرة بعد فتح مكّة، وإنما سقط فرضها إذ ذاك؛ لقوّة المسلمين، وظهورهم عَلَى عدوّهم، ولعدم فتنة أهل مكة لمن كَانَ بها منْ المسلمين، بخلاف ما كَانَ قبل الفتح، فإن الهجرة كانت واجبةً؛ لأمور: سلامة دين المهاجرين منْ الفتنة، ونُصرة النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، وتعلّم الدين، وإظهاره. قَالَ: ولم يُختلف فِي وجوبها عَلَى منْ كَانَ بغيرها، فقيل: كانت واجبةً عَلَى كل منْ أسلم؛ تمسّكًا بمطلق الأمر بالهجرة، وذمّ منْ لم يهاجر، وببيعة النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم عَلَى الهجرة، كما جاء فِي حديث مجاشع
(1)
وقيل: بل كانت مندوبًا إليها فِي حقّ غير أهل مكة. حكاه أبو عبيد. ويُستدلّ لهذا القول بقول النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم للأعرابيّ الذي استشاره فِي الهجرة: "إن شأنها لشديد"، ولم يأمره بها، بل أذن له فِي ملازمة مكانه، وبدليل أنه لم يأمر الوفود عليه قبل الفتح بالهجرة. وقيل: إنما كانت واجبة عَلَى منْ لم يُسلم جميع أهل بلده؛ لئلا يبقى تحت أحكام الشرك، ويخاف الفتنة عَلَى دينه.
قَالَ: ولا يُختلف فِي أنه لا يحلّ لمسلم المقام فِي بلاد الكفر مع التمكّن منْ الخروج منها؛ لجريان أحكام الكفر عليه، ولخوف الفتنة عَلَى نفسه، وهذا حكم ثابتٌ مؤبّدٌ إلى يوم القيامة، وعلى هَذَا، فلا يجوز لمسلم دخول بلاد الكفر لتجارة، أو غيرها، مما لا يكون ضروريًا فِي الدين كالرسل، وكافتكاك المسلم، وَقَدْ أبطل مالك رحمه الله تعالى شهادة منْ دخل بلاد الهند للتجارة. انتهى كلام القرطبيّ
(2)
.
وَقَالَ فِي "الفتح": "لا هجرة بعد الفتح": أي بعد فتح مكة، أو المراد ما هو أعمّ منْ ذلك، إشارة إلى أن حكم غير مكة فِي ذلك حكمها، فلا تجب الهجرة منْ بلد قد فتحه
(1)
هو ما أخرجه الشيخان منْ طريق أبي عثمان النهدي، عن مجاشع بن مسعود، قَالَ: جاء مجاشع باخيه مجالد بن مسعود، إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: هَذَا مجالد يبايعك عَلَى الهجرة، فقال:"لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن أبايعه عَلَى الإِسلام"، لفظ البخاريّ، ولفظ مسلم:"إن الهجرة قد مضت لأهلها، ولكن عَلَى الإِسلام، والجهاد، والخير".
(2)
"المفهم" 4/ 69 - 70. "كتاب الإمارة".
المسلمون، أما قبل فتح البلد، فمن به منْ المسلمين أحد ثلاثة:
[الأول]: قادر عَلَى الهجرة منها ، لا يمكنه إظهار دينه، ولا أداء واجباته، فالهجرة منه واجبة.
[الثاني]: قادرٌ لكنه يمكنه إظهار دينه، وأداء واجباته، فمستحبّةٌ؛ لتكثير المسلمين بها، ومعونتهم، وجهاد الكفّار، والأمن منْ غدرهم، والراحة منْ رؤية المنكر بينهم.
[الثالث]: عاجزٌ يُعذر منْ أسر، أو مرض، أو غيرهما، فتجوز له الإقامة، فإن حمل عَلَى نفسه، وتكلّف الخروج منها أُجر. انتهى
(1)
.
وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: قَالَ أصحابنا وغيرهم منْ العلماء: الهجرة منْ دار الحرب إلى دار الإِسلام باقية إلى يوم القيامة، وتأوّلوا هَذَا الحديث تأويلين:
[أحدهما]: لا هجرة بعد الفتح منْ مكة؛ لأنها صارت دار إسلام، فلا تتصوّر منها الهجرة.
[والثاني]: وهو الأصحّ: أن معناه أن الهجرة الفاضلة المهمة المطلوبة التي يمتاز بها أهلها امتيازًا ظاهراً، انقطعت بفتح مكة، ومضت لأهلها الذين هاجروا قبل فتح مكة؛ لأن الإِسلام قوي، وعزّ بعد فتح مكة عزّا ظاهراً، بخلاف ما قبله. انتهى كلام النوويّ
(2)
.
(وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ) أي لكن لكم طريقٌ إلى تحصيل الفضائل التي فِي معنى الهجرة، وذلك بالجهاد، ونيّة الخير فِي كلّ شيء.
وَقَالَ الطيبيّ: كلمة "لكن" تقتضي مخالفة ما بعدها لما قبلها، أي المفارقة عن الأوطان المسمّاة بالهجرة المطلقة، انقطعت، لكن المفارقة بسبب الجهاد باقية مدى الدهر، وكذا المفارقة بسبب نيّة خالصةٍ لله تعالى، كطلب العلم، والفرار بدينه، ونحو ذلك. انتهى.
وَقَالَ النوويّ: معناه: أن تحصيل الخير بسبب الهجرة قد انقطع بفتح مكة، ولكن حصّلوه بالجهاد، والنيّة الصالحة. انتهى.
وَقَالَ القرطبيّ: قوله: "ولكن جهاد ونية" أي ولكن يبقى جهاد، ونية، أو جهاد ونية باقيان، أي نيّةٌ فِي الجهاد، أو فِي فعل الخيرات. انتهى
(3)
.
(فَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ) بالبناء للمفعول: أي طلب منكم الإِمام الخروج إلى الجهاد (فَانْفِرُوا)
(1)
"فتح" 6/ 307 - 308. "كتاب الجهاد والسير".
(2)
"شرح مسلم" 13/ 10 - 11.
(3)
"المفهم" 4/ 70.
أي فأخرجوا وجوبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -15/ 4172 - وفي "الكبرى" 18/ 7793 وفي "السير" 83/ 8703. وأخرجه (خ) فِي "جزاء الصيد" 1834 و"الجهاد والسير" 2783 و2825 و3077 و3189 (م) فِي "الحج"445 و"الإمارة" 4806 و4807 (د) فِي "الجهاد" 2480 (ت) فِي "السير" 1590. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): بيان انقطاع الهجرة، ويُجمع بينه، وبين حديث:"لا تنقطع الهجرة" الآتي بأن المنقطعة هي التي كانت فرضًا فِي أول الإِسلام قبل فتح مكة، فلما فتحت، وصارت دار إسلام، انقطعت الهجرة، وأما الهجرة الباقية، فهي الهجرة منْ دار الحرب إلى دار الإِسلام، فِي أي عصر كَانَ، فإنها باقية إلى يوم القيامة. (ومنها): الحثّ عَلَى نية الخير مطلقاً، وأنه يثاب عَلَى النيّة. (ومنها): أن الإِمام إذا استنفر إلى الجهاد تعيّن عَلَى كلّ منْ استنفره، قَالَ القرطبيّ: وهو أمرٌ مجمع عليه. (ومنها): أنه استُدلّ به عَلَى أن الجهاد ليس فرض عين، بل هو فرض كفاية، إذا فعله منْ تحصل بهم الكفاية سقط الحرج عن الباقين، وإن تركوه كلّهم أثموا كلّهم.
قَالَ النوويّ: قَالَ أصحابنا: الجهاد اليوم فرض كفاية، إلا أن ينزل الكفّار ببلد المسلمين، فيتعيّن عليهم الجهاد، فإن لم يكن فِي أهل ذلك البلد كفايةٌ، وجب عَلَى منْ يليهم تتميم الكفاية، وأما فِي زمن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم فالأصحّ عند أصحابنا أنه كَانَ أيضاً فرض كفاية. والثاني: أنه كَانَ فرض عين، واحتجّ القائلون بأنه كَانَ فرض كفاية بأنه كَانَ تغزو السرايا، وفيها بعضهم، دون بعض. انتهى
(1)
.
(ومنها): ما قاله القرطبيّ: إنه يدلّ عَلَى استمرار حكم الجهاد إلى يوم القيامة، وأنه لم يُنسخ، لكنه يجب عَلَى الكفاية، وإنما يتعيّن إذا دهم العدوّ بلدًا منْ بلاد المسلمين، فيتعين عَلَى كلّ منْ تمكن منْ نصرتهم. انتهى
(2)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه
(1)
"شرح مسلم" 13/ 11 - 12. "كتاب الإمارة".
(2)
"المفهم" 4/ 70."كتاب الإمارة".
المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4173 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ هَانِىءٍ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ دِجَاجَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، يَقُولُ: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمرو بن عليّ": هو الفلّاس. و"عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. و"يحيى بن هانىء": هو أبو داود المراديّ الكوفيّ، ثقة [5] 33/ 821.
و"نُعيم بن دجاجة" الأسديّ الكوفيّ، مقبولٌ [2].
روى عن عمر، وعليّ، وأبي مسعود، وروى عنه المنهال بن عمرو الأسديّ، ويحيى بن هانىء المراديّ، وأبو حصين الأسديّ. ذكره مسلم، وابن سعد فِي الطبقة الأولى منْ الكوفيين. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". تفرد به المصنّف بهذا الحديث فقط.
وقول عمر رضي الله تعالى عنه: لا هجرة بعد وفاة رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم الظاهر أنه بمعنى قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح"، إذ وفاته صلّى الله تعالى عليه وسلم قريبٌ منْ زمن الفتح. والله تعالى أعلم.
والحديث صحيح، ونعيم بن دجاجة قد روى عنه جماعة، ووثقه ابن حبّان. وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -15/ 4173 - وفي "الكبرى" 18/ 7794 وفي "السير" 83/ 8706. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4174 -
(أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ مُسَاوِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَلَاءِ بْنِ زَبْرٍ، عَنْ بُسْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَاقِدٍ السَّعْدِيِّ، قَالَ: وَفَدْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي وَفْدٍ كُلُّنَا يَطْلُبُ حَاجَةً، وَكُنْتُ آخِرَهُمْ دُخُولاً عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي تَرَكْتُ مَنْ خَلْفِي، وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْهِجْرَةَ قَدِ انْقَطَعَتْ، قَالَ: "لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ، مَا قُوتِلَ الْكُفَّارُ").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(عيسى بن مُساور) أبو موسى الجوهريّ البغداديّ، صدوق، منْ صغار [10] 71/ 237.
2 -
(الوليد) بن مسلم الدمشقيّ المذكور قريباً.
3 -
(عبد الله بن العلاء بن زَبْر) -بفتح الزاي، وسكون الموحّدة- الدمشقيّ الرَّبعيّ، ثقة [7] 9/ 1379.
4 -
(بُسر بن عبيد الله) الحضرميّ الشاميّ، ثقة حافظ [4] 11/ 760.
[تنبيه]: وقع فِي "الكبرى" فِي "السير" بشر بن عبيد الله" بالشين المعجمة، بدل "بسر" بالسين المهملة، وهو تصحيف، ومن الغريب أن المحقّق أثبت فِي الهامش لفظ "بسر" ، ولم يشر إلى الخطأ، وهذه غفلة، فليُتنبّه لها. والله تعالى أعلم.
5 -
(أبو إدريس) عائذ الله بن عبد الله الخولانيّ، وُلد فِي حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وسمع منْ كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ومات سنة (80) ثقة فقيه، قَالَ سعيد ابن عبد العزيز: كَانَ عالم الشام بعد أبي الدرداء رضي الله عنه[2] 72/ 80.
6 -
(عَبْدِ اللهِ بْنِ وَقْدَان السّعديّ) بن عبد شمس بن عبد ودّ بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لُؤيّ القرشيّ العامري، أبو محمّد. وقيل: اسمه عمرو، وقيل: قُدَامة. وَقَالَ بعضهم: ابن الساعديّ. سكن عبد الله الأردنّ، منْ أرض الشام.
و"السَّعْدِيَّ" -بفتح السين، وسكون العين المهملتين-: نسبة إلى بني سعد؛ قيل له ذلك؛ لأنه كَانَ مسترضعًا فِي بني سعد. روى عن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، وعن عمر بن الخطاب حديث الْعُمَالة، وعن محمّد بن حبيب المصريّ، إن كَانَ محفوظًا. وروى عنه حُويطب بن عبد العزّى، والسائب بن يزيد، وعبد الله بن مُحيريز، ومالك بن يُخامر، وأبو إدريس، وبُسر بن سعيد، وحسّان بن الضَّمْريّ. قَالَ الواقديّ: توفي سنة (57)، وَقَالَ ابن حبّان: مات فِي خلافة عمر، قَالَ ابن عساكر: لا أراه محفوظًا. روى له الجماعة، سوى الترمذيّ، وابن ماجه، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب حديث الباب فقط.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالشاميين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَقْدَانَ السَّعْدِيِّ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: وَفَدْتُ) بفتح الفاء، يقال: وفد إليه، وعليه يفِد وَفْدًا، منْ باب وعد، ووُفُودًا، ووِفَادةً، وإفادةً: إذا قدِمَ، وورد (إِلَى رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فِي وَفْدٍ) بفتح، فسكون جمع وافد، كصاحب وصحب (كُلُّنَا يَطْلُبُ حَاجَةً، وَكُنْتُ آخِرَهُمْ دُخُولاً) منصوب عَلَى التمييز (عَلَى رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي تَرَكْتُ مَنْ) بفتح الميم موصولة، مفعول "تركت" (خَلْفِي،
وَهُمْ يَزْعُمُونَ) جملة حالية (أَنَّ الْهِجْرَةَ قَدِ انْقَطَعَتْ. قَالَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ، مَا قُوتِلَ الْكُفَّارُ) ببناء الفعل للمفعول: أي مدّة مقاتلتهم، والمعنى: أن الهجرة باقية إلى يوم القيامة؛ لأن مقاتلة الكفّار مستمرّة إلى ذلك الوقت، فكلّ منْ لم يتمكن منْ إقامة دينه فِي وطنه لسيطرة الكفّار عليه، وجب عليه أن يهاجر إلى دار الإِسلام، إن تمكّن منْ الهجرة.
ووجه الجمع بينه، وبين الحديث الذي قبله:"لا هجرة بعد الفتح" هو ما قاله الخطّابيّ رحمه الله تعالى: كانت الهجرة فِي أول الإِسلام مندوبًا إليها، غير مفروضة، وذلك قوله تعالى:{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100]، نزل حين اشتدّ أذى المشركين عَلَى المسلمين، عند انتقال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم إلى المدينة، وأُمروا بالانتقال إلى حضرته؛ ليكونوا معه، فيتعاونوا، ويتظاهروا إن حزبهم أمرٌ، وليتعلّموا منه أمر دينهم، ويتفقّهوا فيه، وكان عُظمُ الخوف فِي ذلك الزمان منْ قُريش، وهم أهل مكة، فلما فُتحت مكة، ونَخَعَت بالطاعة، زال ذلك المعنى، وارتفع وجوب الهجرة، وعاد الأمر فيها إلى الندب، والاستحباب، فهما هجرتان، فالمنقطعة منهما هي الفرض، والباقية هي الندب. فهذا وجه الجمع بين الحديث. انتهى
(1)
.
وَقَالَ فِي "شرح السنة": يحتمل الجمع بأن يكون معنى قوله: "لا هجرة بعد الفتح" أي منْ مكة إلى المدينة، وقوله:"لا تنقطع" أي منْ دار الكفر فِي حق منْ أسلم إلى دار الإِسلام. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله فِي "شرح السنّة" هو الذي يؤيّده حديث عبد الله وقدان السعديّ رضي الله تعالى عنه المذكور هنا، حيث قيّد النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم بقاء الهجرة ببقاء قتال الكفار، فدلّ عَلَى أن المراد بالهجرة الهجرة المطلقة، فِي أي وقت، حيث لا يتمكن المسلم منْ إقامة دينه، فيجب عليه أن يهاجر، وإلا فيُستحبّ له عَلَى حسب الدواعي لذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
وحديث عبد الله بن وقدان السعديّ رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح، ونقل فِي "الإصابة" عن أبي زرعة الدمشقيّ، أنه قَالَ: هَذَا الحديث عن عبد الله بن السعديّ حديث صحيح متقن، رواه الأثبات. انتهى
(2)
.
(1)
"معالم السنن" 3/ 352. (كتاب الجهاد).
(2)
"الإصابة" 6/ 104.
وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -15/ 4174 و4175 - وفي "الكبرى" 18/ 7795 و7796 وفي "السير" 83/ 8707 و8708، 8709. وأخرجه (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 21819. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4175 -
(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ زَبْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي بُسْرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الضَّمْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّعْدِيِّ، قَالَ: وَفَدْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَخَلَ أَصْحَابِي، فَقَضَى حَاجَتَهُمْ، وَكُنْتُ آخِرَهُمْ دُخُولاً، فَقَالَ: حَاجَتُكَ؟، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ؟، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْكُفَّارُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمود بن خالد": هو السلميّ، أبو عليّ الدمشقيّ، ثقة، منْ صغار [10] 45/ 595. و"مروان بن محمد": هو الطاطّرِيّ، أبو محمد الدمشقيّ، ثقة [9] 128/ 1091.
و"حسّان بن عبد الله بن الضمريّ" الشاميّ، ثقة [2].
قَالَ العجليّ: شاميّ ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ النسائيّ: ليس بالمشهور. تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.
وقوله: "حاجتك" يحتمل النصب عَلَى أنه مفعول لفعل مقدّر، أي اسأل حاجتك. ويحتمل الرفع، عَلَى أنه مبتدأ محذوف الخبر: أي ما حاجتك؟.
والحديث صحيح، وَقَدْ سبق شرحه، وتخريجه فِي الذي قبله.
[تنبيه]: الظاهر أن أبا إدريس سمع هَذَا الحديث أولاً عن حسّان بن عبد الله، ثم سمعه منْ عبد الله بن وقدان، أو سمعه منه، ثم ثبّته حسّان. والله تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: أخرج هَذَا الحديث المصنّف فِي "السير" منْ: "الكبرى" منْ حديث محمّد بن حبيب المصريّ، ولفظه:
أخبرني شعيب بن شعيب بن إسحاق، وأحمد بن يوسف، قالا: حدثنا أبو المغيرة، قَالَ: حدثني الوليد بن سليمان، قَالَ: حدثني بُسر بن عبيد الله، عن عبد الله بن محيريز، عن عبد الله بن السعديّ، عن محمّد بن حبيب المصريّ، قَالَ: أتينا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فِي نفر، كلّنا ذو حاجة، فتقدّموا بين يديه، فقضى الله لهم عَلَى لسان نبيّه ما شاء، ثم أتيته، فقال لي رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم:"ما حاجتك؟ " قلت: سمعت رجالاً منْ أصحابنا يقولون: قد انقطعت الهجرة، قَالَ:"لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفّار". واللفظ لأحمد.
قَالَ أبو عبد الرحمن: محمّد بن حبيب هَذَا لا أعرفه. انتهى
(1)
.
وقوله: "المصريّ" هكذا بالميم، وَقَالَ فِي "الإصابة": محمّد بن حبيب النّصريّ بالنون، ويقال: المصريّ بكسر الميم، وهو الأشهر، ووقع عند أبي عمر بضمّ الميم، وفتح الضاد المعجمة، وَقَدْ قَالَ ابن منده: لا يُعرف فِي الشاميين، ولا فِي المصريين ذِكرُهُ فِي الصحابة. ثم قَالَ: وأخرج البغويّ وغيره منْ طريق الوليد بن سليمان، عن بُسر بن عبيد الله، فذكر الحديث المذكور، ثم قَالَ: وَقَالَ البغويّ: رواه غير واحد عن ابن مُحيريز، عن عبد الله بن السعديّ. انتهى
(2)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
16 - (الْبَيْعَةِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ)
4176 -
(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، وَالشَّعْبِيِّ، قَالَا: قَالَ جَرِيرٌ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ لَهُ: أُبَايِعُكَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِيمَا أَحْبَبْتُ، وَفِيمَا كَرِهْتُ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَوَ تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، يَا جَرِيرُ؟ أَوَ تُطِيقُ ذَلِكَ؟، قَالَ: "قُلْ: فِيمَا اسْتَطَعْتُ"، فَبَايَعَنِي، "وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي 6/ 4158 و4159 ومضى شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد.
و"محمّد بن قُدامة": هو المصّيصيّ. و"جرير": هو ابن عبد الحميد. و"مغيرة": هو ابن مِقسَم الضبيّ. و"أبو وائل": هو شقيق بن سلمة. و"الشعبيّ": هو عامر بن شَرَاحيل. و"جرير": هو ابن عبد الله البجليّ الصحابيّ الجليل رضي الله تعالى عنه.
وقوله: "أو تستطيع ذلك؟ " بفتح الواو، والهمزة للاستفهام، أي أتلتزم، وتستطيع ما ذكرته، منْ السمع والطاعة فِي كل محبوب ومكروه؟.
وقوله: "أو تطيق ذلك؟ " بسكون الواو؛ لأن "أو" للشكّ منْ الراوي.
(1)
"السنن الكبرى" 5/ 217. "كتاب السير" رقم 8710.
(2)
"الإصابة" 9/ 109 - 110.
وقوله: "فبايعني، والنصح لكلّ مسلم" متعلّق الفعل محذوفٌ، و"النصح" بالجرّ عطف عَلَى ذلك المحذوف، أي بايعني عَلَى ما ذُكر، والنصحِ لكل مسلم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
17 - (الْبَيْعَةِ عَلَى فِرَاقِ الْمُشْرِكِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: مفارقة المشركين، تكون بالهجرة منْ بين أظهرهم، إذا لم يستطع المسلم أن يقيم شعائر دينه فيهم، وتمكن منْ الهجرة، وإذا لم يستطع الهجرة، فيلزمه أن يفارقهم فِي عاداتهم وتقاليدهم الخاصّة بهم؛ لأن موافقتهم فِي ذلك تشبه بهم، وَقَدْ قَالَ صلّى الله تعالى عليه وسلم فيما أخرجه أبو داود بإسناد صحيح، منْ حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، مرفوعًا:"منْ تشبّه بقوم، فهو منهم". والله تعالى أعلم بالصواب.
4177 -
(أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، وَعَلَى فِرَاقِ الْمُشْرِكِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "بشر بن خالد": هو العسكريّ، أبو محمّد الفرائضيّ، نزيل البصرة. و"غندر": هو محمّد بن جعفر. و"سليمان": هو ابن مِهْران الأعمش.
والحديث صحيح، وَقَدْ سبق القول فيه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4178 -
(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي نُخَيْلَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ نَحْوَهُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمّد بن يحيى بن محمّد": الحرّانيّ الكلبيّ الملقّب بلؤلؤ، ثقة صاحب حديث [11] 4/ 403 منْ أفراد المصنّف. و"الحسن بن الربيع": هو أبو عليّ البُورانيّ الكوفيّ. و"أبو الأحوص": هو سلّام بن سُليم الحنفيّ الكوفيّ.
و"أبو نُخَيلة" بالمعجمة، ويقال بالمهملة البجليّ، له صحبة عَلَى ما قاله الأكثرون.
روى عن جرير بن عبد الله البجليّ. وعنه أبو وائل، فقال: عن أبي نُخيلة، رجلٍ منْ أصحاب النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم. وذكره عبد الغنيّ بن سعيد بالحاء المهملة، وذكره غيره بالمعجمة. وَقَالَ أبو حاتم: ليست له صحبة، وأثبتها أبو أحمد الحاكم، وابن عبد البرّ، وابن منده، وأبو نعيم، وغيرهم. قاله فِي "تهذيب التهذيب" 4/ 597.
وَقَالَ فِي "الإصابة": أبو نُحيلة بمهملة، مصغّرًا، كذا عند الدارقطنيّ وغيره. قَالَ الحافظ: ورأيته فِي نسخة معتمدة منْ الكنى لأبي أحمد بفتح أوله، والمعجمة، وذكره عبد الغنيّ بالتصغير، والحاء المهملة، وبالمهملة جزم إبراهيم الحربيّ، وزاد: هو رجلٌ صالح منْ بجِيلةَ، حكاه الدارقطنيّ، عن يحيى بن معين، وعن عليّ بن المدينيّ أن سفيان بن عيينة، قَالَ: إن أبا نخيلة له صحبة، قَالَ: وهو بالخاء المعجمة البجليّ. ذكره الطبرانيّ وغيره. وَقَالَ ابن المدينيّ، والبخاريّ، وأبو أحمد الحاكم: له صحبة. روى حديثه الثوريّ، عن منصور، عن أبي وائل، عن أبي نخيلة، رجلٍ منْ أصحاب النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم أنه رُمي بسهم، فقيل له: انتزعه، فقال: اللَّهمّ انقص منْ الوجع، ولا تنقص منْ الأجر. وقيل: ادع الله، فقال: اللَّهم اجعلني منْ المقرّبين، واجعل أُمّي منْ الحور العين. وعند ابن منده فِي أوله: خرج غازيًا، فرُمي بحجر، فقال: اللَّهمّ انقص منْ الوجع، والباقي سواء. ونقل أبو عمر عن علي بن المدينيّ أنه قَالَ: قيل فيه: أبو نخيلة يعني بالمعجمة، والمعروف بالمهملة، قَالَ: وله رواية عن جرير البجليّ. انتهى
(1)
. روى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، والمصنّف، وله عنده فِي هَذَا الكتاب هَذَا الحديث فقط.
وقوله: "فذكر نحوه" الضمير لأبي الأحوص، أي ذكر أبو الأحوص، عن الأعمش نحو رواية شعبة، عن سليمان الأعمش.
والحديث صحيح، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4179 -
(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي نُخَيْلَةَ الْبَجَلِيِّ، قَالَ: قَالَ جَرِيرٌ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يُبَايِعُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْسُطْ يَدَكَ حَتَّى أُبَايِعَكَ، وَاشْتَرِطْ عَلَيَّ، فَأَنْتَ أَعْلَمُ، قَالَ: "أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتُنَاصِحَ الْمُسْلِمِينَ، وَتُفَارِقَ الْمُشْرِكِينَ").
"منصور": هو ابن المعتمر. والباقون تقدّموا قريباً. والحديث صحيح. والله تعالى
(1)
"الإصابة" 12/ 52 - 53.
أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4180 -
(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَهْطٍ، فَقَالَ: "أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ، تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَعُوقِبَ فِيهِ، فَهُوَ طَهُورُهُ، وَمَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَذَاكَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي 9/ 4163 - وتقدم شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد.
و"يعقوب بن إبراهيم": هو الدَّورقيّ. و"معمر": هو ابن راشد.
وموضع الدلالة عَلَى الترجمة قوله: "عَلَى أن لا تشركوا" لأن صحبة المشرك قد تؤدّي إلى الشرك، والبيعة عَلَى ترك الشرك تتضمّن البيعة عَلَى ترك ما يؤدّي إليه، فصارت متضمّنة للبيعة عَلَى ترك صحبة المشرك. هكذا قَالَ السنديّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
18 - (بَيْعَةُ النِّسَاءِ)
4181 -
(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: لَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أُبَايِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ امْرَأَةً، أَسْعَدَتْنِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَذْهَبُ، فَأُسْعِدُهَا، ثُمَّ أَجِيئُكَ، فَأُبَايِعُكَ، قَالَ: "اذْهَبِي، فَأَسْعِدِيهَا"، قَالَتْ: فَذَهَبْتُ، فَسَاعَدْتُهَا، ثُمَّ جِئْتُ، فَبَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(محمّد بن منصور) بن ثابت الخزاعيّ الجوّاز المكيّ، وهو ثقة [10] 20/ 21.
2 -
(سفيان) بن عيينة المكيّ الإِمام الحجة الثبت [8] 1/ 1.
3 -
(أيوب) بن أبي تميمة كيسان السختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت فقيه عابد [5] 48/ 42.
4 -
(محمّد) بن سيرين الأنصاريّ مولاهم أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت عابد [3] 46/ 57.
5 -
(أم عطيّة) نُسيبة بالتصغير، ويقال بفتح أولها- بنت كعب، ويقال: بنت الحارث الأنصاريّة الصحابيّة المشهورة، سكنت البصرة رضي الله تعالى عنها، تقدّمت فِي 7/ 367. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، وسفيان، فمكيّان. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ) رضي الله تعالى عنها، أنها (قالت: لَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أُبَايِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية التالية: أخذ علينا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم البيعة أن لا ننوح"، زاد فِي رواية البخاريّ: "أخذ علينا النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم عند البيعة أن لا ننوح ، فما وفت منّا امرأة غير خمس نسوة. أم سُليم، وأمّ العلاء، وابنة أبي سَبْرة: امرأة معاذ، وامرأتين، أو ابنة أبي سَبْرة، وامرأة معاذ، وامرأة أخرى".
قَالَ القاضي عياض رحمه الله تعالى: معناه لم يف ممن بايع مع أم عطيّة فِي الوقت الذي بايعت فيه منْ النسوة إلا خمس، لا أنه لم يترك النياحة منْ المسلمات غير خمس. انتهى
(1)
.
(قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ امْرَأَةً أَسْعَدَتْنِي) الإسعاد هو قيام المرأة مع الأخرى فِي النياحة تُراسلها، وهو خاصّ بهذا المعنى، ولا يُستعمل إلا فِي البكاء، والمساعدة عليه، ويقال: إن أصل المساعدة وضع الرجل يده عَلَى ساعد الرجل صاحبه عند التعاون عَلَى ذلك. قاله فِي "الفتح"
(2)
.
ومعنى ذلك: أنه كَانَ نساء الجاهلية يُسعد بعضهنّ بعضًا عَلَى النياحة، فحينما بايعهنّ النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم علي ترك النياحة، قالت أمّ عطيّة: إنها ساعدتها امرأة
(1)
"شرح النوويّ عَلَى صحيح مسلم" 6/ 238.
(2)
"فتح" 9/ 630 "تفسير سورة الممتحنة".
فِي النياحة، فلابدّ لها منْ مساعدتها عَلَى ذلك، قضاءً لحقّها، ثم لا تعود، فرخّص لها النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم فِي ذلك قبل المبايعة، ففعلت، ثم بايعت، وهذا الترخيص خاصّ بها رضي الله تعالى عنها عَلَى الراجح، كما يأتي قريبًا، إن شاء الله تعالى. (فِي الْجَاهِلِيَّةِ) أي فِي الايام التي كانت قبل الإِسلام (فَأَذْهَبُ، فَأُسْعِدُهَا) وفي رواية البخاريّ: فأريد أن أجزيها": أي أكافئها (ثُمَّ أَجِيئُكَ، فَأُبَايِعُكَ، قَالَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (اذْهبِي، فأسْعِدِيهَا) أي كافئيها (قَالَتْ) أم عطية رضي الله تعالى عنها (فَذَهَبْتُ، فَسَاعَدْتُهَا) أي كافأتها عَلَى ما سبق لها، وفي نسخة: "فأسعدتها" (ثُمَّ جِئْتُ، فَبَايَعْتُ رسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) هَذَا فيه تصريح بإذنه صلّى الله تعالى عليه وسلم لها بالإسعاد، فيُحمل عَلَى أنه منْ خصوصيّات أم عطيّة رضي الله تعالى عنها، كما أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم استثنى بعض النساء كما سيأتي قريباً، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أم عطية رضي الله تعالى عنها هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -18/ 4181 و4182 - وفي "الكبرى" 21/ 7802 و7803. وأخرجه (خ) فِي "الجنائز" 1306 (م) فِي "الجنائز" 936 (د) فِي "الجنائز" 3127 (أحمد) فِي "أول مسند البصريين" 20267. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان مشروعيّة مبايعة النساء. (ومنها): تحريم النوح، وعظيم قبحه، والاهتمام بإنكاره، والزجر عنه؛ لأنه مُهَيْجٌ للحزن، ورافع للصبر، وفيه مخالفة التسليم للقضاء، والإذعان لأمر الله تعالى. (ومنها): تخصيص النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم لأم عطيّة رضي الله تعالى عنها بالمساعدة بالنياحة، وكذا ثبت الترخيص لغيرها أيضاً، كما سيأتي فِي المسألة التالية، إن شاء الله تعالى. (ومنها): أن للشارع أن يخصّ بعض المكلّفين بترخيص بعض الأحكام فِي حقّه، كما ثبت أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم رخّص لأبي بُردة بن نيار رضي الله تعالى عنه أن يُضحّي بجذعة، وَقَالَ:"لن تجزي عن أحد بعدك"، وكذا ثبت الترخيص لعقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه، كما سيأتي تحقيقه فِي "كتاب الضحايا"،
إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي اختلاف العلماء فِي تأويل هَذَا الحديث:
قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: هَذَا الحديث محمولٌ علي أن الترخيص لأمّ عطيّة فِي آل فلان خاصّة، ولا تحلّ النياحة لها، ولا لغيرها فِي غير آل فلان، كما هو ظاهر الحديث، وللشارع أن يخُصّ منْ العموم منْ شاء بما شاء، فهذا صواب الحكم فِي هَذَا الحديث.
قَالَ الحافظ: كذا قَالَ، وفيه نظرٌ إلا أن ادّعى إن الذين ساعدتهم لم يكونوا أسلموا، وفيه بُعدٌ، وإلا فليدّع مشاركتهم لها فِي الخصوصية.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: كونهم مشاركين لها فِي الخصوصية ظاهر، لا شكّ فيه، فإنه صلّى الله تعالى عليه وسلم لما أذن لها أن تساعدهم، لا يمكن ذلك إلا بجواز ذلك لهم معها. والله تعالى أعلم.
ثم قَالَ النوويّ: واستشكل القاضي عياض، وغيره هَذَا الحديث، وقالوا فيه أقوالاً عجيبة، وَمَقْصُودِي التَّحْذِير منْ الاغْتِرار بها، فإِن بعض المالِكِيَّة قَالَ: النِّياحة ليْسَتْ بِحرامٍ، لِهذا الحديث، وإنَّمَا المُحرَّم ما كَانَ مَعَهُ شَيْء، منْ أفعال الجاهِليَّة، منْ شق جيب، وَخمْش خَدّ، ونحو ذَلِكَ، قَالَ: والصّواب ما ذكرناهُ أولاً، وأنَّ النياحة حَرَام مُطلقًا، وهُو مذهب العُلَمَاء كَافَّة. انتهى.
قَالَ الحافظ: وَقَدْ نُقل عن غير هَذَا المالِكِيّ أيضًا أنَّ النِّياحَة ليْسَت بِحرامٍ، وهُو شَاذ مردُود. وَقَدْ ابْداهُ القُرْطُبِيّ احْتِمالا، وردهُ بالأحادِيثِ الْوَارِدَة فِي الوعِيد عَلَى النِّياحة، وهُو دَالّ عَلَى شِدَّة التَّحْرِيم، لَكِنْ لا يمتنِع أن يكُون النَّهْي أولاً ورد بِكَرَاهةِ التَّنْزيه، ثُمَّ لمَّا تَمَّتْ مُبايعة النِّسَاء، وقع التَّحرِيم، فيكُون الإذن لِمن ذُكِر وقع فِي الحالة الأولَى؛ لِبيانِ الجواز، ثُمَّ وَقَع التَّحريم، فورد حِينئِذٍ الوعِيد الشَّدِيد.
وَقَدْ لخص القُرطُبِي بقِية الأقاوِيل الَّتِي أشَار إِليها النَّووِيّ:
[مِنْهَا]: دعوى أنَّ ذَلِكَ قبل تحرِيم النياحة، قَالَ: وهُو فَاسِد لِمَسَاقِ حدِيث أم عطِية هَذَا، ولولا أنَّ أُم عطِية فهِمت التَّحْرِيم لما اسْتَثْنَتْ.
قَالَ الحافظ: ويُؤيِّدهُ أيضًا أن أُم عطِيَّة صَرَّحَتْ بأنَّها منْ العِصيان فِي المعرُوف، وهذا وصْف المُحَرَّم.
[وَمِنْهَا]: أنَّ قوله: "إِلا آل فُلان" لَيْسَ فِيهِ نَصّ عَلَى أنها تُسَاعِدهُم بِالنِّيَاحَةِ، فيُمْكِن أنَّها تُساعِدهُم بِاللِّقَاءِ، والبُكاء الَّذِي لا نِياحة معهُ. قَالَ: وَهَذَا أشْبَه مِمَّا قبله.
قَالَ الحافظ: بل يرُدّ عَلَيْهِ وُرُود التصرِيح بِالنياحةِ، كما سأذكُرُهُ، ويرُد عَلَيْهِ أيضًا أنَّ اللِّقاء، والبُكاء المُجرَّد لم يدخُل فِي النَّهْي، فلو وقع الاقتِصار عَلَيْهِ، لم يحتجْ إِلى تأخِير المُبايعة حتَّى تفعلهُ.
[ومِنها]: أنه يحتمِل أن يكُون أعاد "إِلَّا آل فُلان" عَلَى سبيل الإنْكار، كما قَالَ لِمن استأذن عَلَيْهِ، فقال لهُ:"منْ ذا؟ "، فقال: أنا. فقال: "أنا أنا". فأعاد عَلَيْهِ كلامه مُنْكِرًا عَلَيْهِ.
وتُعقّب بأنه يرِدُ عَلَيْهِ ما ورد عَلَى الأوَّل.
[ومِنها]: أنَّ ذَلِكَ خَاصّ بِأُمِّ عطِية، قَالَ: وَهُوَ فَاسِد، فإِنَّها لا تختص بِتَحْليلِ شَيْء منْ المُحرَّمَات. انتهى
(1)
.
قَالَ الحافظ: ويقدح فِي دعوى تَخْصِيصها أيضًا ثُبُوت ذَلِكَ لِغيرِها، ويُعْرَف مِنْهُ أيْضَا الْخَدْشِ فِي الأجْوِبة المَاضِيَة. فقد أخرج ابن مردويهِ، منْ حدِيث ابن عبَّاس، قَالَ:"لَمَّا أَخَذَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى النِّساء، فبايعهُنَّ أن {أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} الآية [الممتحنة: 12]، قالت خولة بِنت حكِيم: يا رسُول الله كَانَ أبِي وأخِي، ماتا فِي الجاهِلية، واِن فُلانة أسعدتنِي، وَقَدْ مات أخُوها" الحديث. وأخرج التِّرمِذِيّ منْ طرِيق شهر بن حوشب، عن أُم سلمة الأنْصارِيّة، وهِي أسماء بِنت يزِيد، قالت:"قُلت: يا رسُول الله، إِنَّ بنِي فُلان أسْعدُونِي عَلَى عَمِّي، ولابُدَّ منْ قضائِهِنَّ، فأبَى، قالت: فراجعته مِرارًا، فأذِن لي، ثُمَّ لَمْ أنُحْ بعد". وأخْرَجَ أحمد، والطَّبَريّ منْ طرِيق مُصعب ابن نُوح، قَالَ:"أَدْركت عجُوزًا لنا، كانت فِيمن بايع رسُول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فأخذ علينا: "ولا ينُحْنَ"، فقالت عجُوز: يا نبِيّ الله، إِنَّ ناساً كانُوا أسعدُونا عَلَى مصائب أصابتنا، وإِنَّهمْ قد أصابتهُم مُصِيبة، فَأنَا أُرِيد أن أُسعِدهُم، قَالَ: "فاذهبِي، فكافِئِيهِم"، قالت: فانطلقت فكافأتهم، ثُمَّ إِنَّها أتت فبايَعَتْهُ.
قَالَ الحافظ: وظهر منْ هَذَا كُلّه أنَّ أقرب الأجْوِبة، أنها كانت مُباحة، ثُمَّ كُرِهت كراهة تتزِيه، ثُمَّ تَحريم. والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى
(2)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي رجحه الحافظ أخيرًا حسن، ولكنّ ما تقدّم عن النوويّ رحمه الله تعالى أحسن منه، وخلاصته أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم رخص لهؤلاء النساء: أم عطيّة، وغيرها، منْ اللاتي طلبن منه استثناء المساعدات مكافأة لما مضى، فخصّهنّ بذلك، فهذا جواب لا غبار عليه. وَقَدْ مرّ آنفًا أنه صلّى الله
(1)
راجع "المفهم" 2/ 590 - 591. "كتاب الجنائز".
(2)
"فتح" 9/ 630 - 631. "تفسير سورة الممتحنة".
تعالى عليه وسلم رخّص لأبي بردة فِي التضحيّة بجذعة، وكذا لعقبة بن عامر، إن كَانَ محفوظًا، كما سيأتي تحقيقه فِي "كتاب الضحايا"، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4182 -
(أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حَمَّادٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَيْعَةَ عَلَى أَنْ لَا نَنُوحَ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الحسن بن أحمد" بن حبيب الكرماني، أبو عليّ، نزيل طرسوس، لا بأس به، إلا فِي حديث مسدّد، قاله النسائيّ [12].
قَالَ ابن المنادي فِي "الوفيات": سمع الناس منه "مسند مسدّد"، وغير ذلك، ثقة، صالحٌ، مذكور بالخير. وَقَالَ النسائيّ فِي "أسماء شيوخه": لا بأس به إلا فِي حديث مسدّد. وَقَالَ مسلمة: لا بأس به، يُخطىء فِي حديث مسدّد. قَالَ ابن عساكر: مات بطرسوس سنة (291) وكذا أرّخه القرّاب، وأرّخه ابن المنادي فِي رجب. تفرّد به المصنّف بحديثين: هَذَا الحديث، وحديث آخر فِي "كتاب آداب القضاء" 23/ 5414 - حديث أبي أُمامة بن سهل بن حنيف "أن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم أُتي بامرأة زنت" الحديث.
[تنبيه]: وقع فِي نسخ "المجتبى"، و"الكبرى":"الحسن بن محمّد"، وهو غلط، والصواب "الحسن بن أحمد"، كما ترجمناه، راجع "تحفة الأشراف" 12/ 504 - وَقَدْ أشار فِي هامش الهنديّة إلى أنه موجود فِي بعض النسخ علي الصواب، فتنبه. والله تعالى أعلم.
و"أبو الربيع": هو سليمان بن داود العتكيّ الزهرانيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقة [10] 19/ 2147. و"حمّاد": هو ابن زيد.
والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق القول فيه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4183 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ أُمَيْمَةَ بِنْتِ رُقَيْقَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي نِسْوَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ نُبَايِعُهُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا نَسْرِقَ، وَلَا نَزْنِيَ، وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ، نَفْتَرِيهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا، وَلَا نَعْصِيَكَ فِي مَعْرُوفٍ، قَالَ:"فِيمَا اسْتَطَعْتُنَّ، وَأَطَقْتُنَّ"، قَالَتْ: قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرْحَمُ بِنَا، هَلُمَّ نُبَايِعْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ، إِنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ، كَقَوْلِي لاِمْرَأَةٍ
وَاحِدَةٍ" أَوْ "مِثْلِ قَوْلِي لاِمْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(محمّد بن بشار) العبدي، أبو بكر بُندار البصريّ، ثقة حافظ [10] 24/ 27.
(2)
- (عبد الرحمن) بن مهديّ العنبريّ موهم، أبو سعيد البصريّ، ثقة ثبت إمام [9] 42/ 49.
3 -
(سفيان) بن سعيد الثوريّ الكوفيّ، ثقة ثبت حجة [7] 37/ 33.
4 -
(محمّد بن المنكدر) بن عبد الله بن الهُدير التيميّ المدنيّ، ثقة فاضل [3] 103/ 138.
5 -
(أميمة بنت رُقيقة) -بالتصغير فيهما- واسم أبيها عبد الله بجاد التيميّ، صحابية، لها حديثان، هَذَا، وحديثها فِي "كتاب الطهارة" 28/ 32 - "كَانَ للنبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم قدحٌ منْ عيدان يبول فيه، ويضعه تحت السرير"، وتقدّمت ترجمتها هناك، وهي غير أُميمة بنت رُقيقة الثقفيّة، تلك تابعيّة. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير الصحابية، فقد أخرج لها الأربعة .. (ومنها): أن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أُمَيْمَةَ بِنْتِ رُقَيْقَةَ) رضي الله تعالى عنها (أَنَّهَا قَالَتْ: أَتَيْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم، فِى نِسْوَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ نُبَايِعُهُ) أي نعاهده (فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا نَسْرِقَ، وَلَا نَزْنِي، وَلَا نَأْتِي بِبُهْتَانٍ، نَفْتَرِيهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا، وَلَا نَعْصِيَكَ فِي مَعْرُوفٍ، قَالَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (فِيمَا اسْتَطَعْتُنَّ، وَأَطَقْتُنَّ) أي بايعوني علي ما قلتنّ فِي القدر المستطاع لكنّ، لئلا تقعن فِي الحرج (قَالَتْ: قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرْحَمُ بِنَا) أي منْ أنفسنا؛ حيث أطلقن البيعة، فقيّده هو بالاستطاعة؛ رفقًا بنا؛ لئلا نقع فِي الحرج (هَلُمَّ) أي أَقبِل إلينا. قَالَ الفيّوميّ رحمه الله تعالى:"هَلُمّ" كلمة بمعنى الدعاء إلى الشيء، كما يقال: تعال، قَالَ الخليل: أصله لُمّ، منْ الضمّ والجمع، ومنه لَمَّ اللهُ شَعَثَهُ، وكأنّ المنادي أراد لُمَّ نفسك إلينا، و"ها" للتنبيه، وحُذفت الألف تخفيفًا؛ لكثرة الاستعمال، وجُعلا اسمًا واحداً. وقيل: أصلها: "هل أُمّ": أي قُصِد، فنُقلت حركة الهمزة إلى اللام، وسقطت، ثم جُعلا كلمة واحدة للدعاء، وأهل الحجاز يُنادون
بها بلفظ واحد للمذكر والمؤنّث، والمفرد والجمع، وعليه قوله تعالى:{وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: 18]، وفي لغة نجدٍ تلحقها الضمائر، وتطابِق، فيقال: هلُمّي، وهلُمّا، وهلُمّوا، وهلْمُمْنَ؛ لأنهم يجعلونها فعلاً، فيُلحقونها الضمائر، كما يُلحقونها قم، وقوما، وقوموا، وقمن. وَقَالَ أبو زيد: استعمالها بلفظ واحد للجميع منْ لغة عُقيل، وعليه فيسٌ بَعْدُ، وإلحاقُ الضمائر منْ لغة تميم، وعليه أكثر العرب، وتُستعمل لازمةً، نحوُ:{هَلُمَّ إِلَيْنَا} : أي أقبِل، ومتعدّيةً، نحو:{هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} [الأنعام: 150]: أي أحصروهم. انتهى كلام الفيّومي.
(نُبَايِعْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) بجزم الفعل بالطلب قبله، كما قَالَ ابن مالك فِي "خلاصته":
وَبَعْدَ غَيْرِ النَّفْيِ جَزْماً اعْتَمِدْ
…
إنْ تَسْقُطِ الْفَا والْجَزَاءُ قد قُصِدْ
ومرادهنّ بذلك أن يبايع كلّ واحدة منّا، مصافحةً باليد، عَلَى الانفراد، فإن البيعة باليد لا يتصوّر فيها بالاجتماع، ولذلك أجابهنّ صلّى الله تعالى عليه وسلم بنفي الأمرين، فقال:"إني لا أُصافح النساء"، أي باليد، "إنما قولي لمائة امرأة الخ"، فلا حاجة إلى الانفراد فِي البيعة القولية.
(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ) المصافحة: الإفضاء باليد إلى اليد، يقال: صافحته مصافحة: إذا أفضيت بيدك إلى يده. قاله الفيّوميّ (إِنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ، كَقَوْلِي لاِمْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ") يعني أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم إذا أمر امرأة واحدة، فهو كأمره لمائة امراة، والمراد بالمائة الكثرة، فليس العدد مرادًا، والحاصل أن أمره صلّى الله تعالى عليه وسلم لشخص بأمر يعمّ جميع الأمة، وهذا فيما إذا لم يكن دليلٌ عَلَى الخصوصيّة لذلك الشخص، كما سبق أمره صلّى الله تعالى عليه وسلم لأبي بردة بأن يضحّي بالجذعة، قَالَ:"ولن تجزي عن أحد بعدك"(أو) للشكّ منْ الراوي (مِثْلِ قَوْلِي لاِمْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أُميمة بنت رُقيقة رضي الله تعالى عنها هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -18/ 4183 و24/ 4192 - وفي "الكبرى" 22/ 7804. وأخرجه (ت) فِي "السير" 1597 (ق) فِي "الجهاد" 2874 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 26466 (الموطأ) فِي "الجامع" 1842. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان مشروعيّة بيعة النساء.
(ومنها): أن مبايعة النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم لأمته تختلف، فليست مبايعته للنساء كمبايعة الرجال، فإنه كَانَ يبايعهنّ عَلَى ما فِي الآية الكريمة فِي "سورة الممتحنة"، وكان يبايع الرجال أحيانًا بما يشمل البيعة عَلَى الجهاد، وغيرها مما يختصّ به الرجال، وأحيانًا يبايعهم عَلَى مبايعة النساء، كما سبق فِي حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه.
(ومنها): ما كَانَ عليه النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، منْ كمال الرحمة، وشدّة الرأفة، فقد قالت أُميمة رضي الله تعالى عنها:"الله، ورسوله أرحم بنا منْ أنفسنا"، ورحمته صلّى الله تعالى عليه وسلم منْ رحمة الله تعالى، حيث جبله عليها، فهو كما وصفه الله عز وجل، بقوله:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]، وقولِهِ عز وجل:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107].
(ومنها): أن حكمه صلّى الله تعالى عليه وسلم لامرأة واحدة يعم جميع نساء أمته، وكذا حكم الرجال، ما لم يقترن بما يختص ذلك الشخص، عَلَى ما أسلفناه.
(ومنها): أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم كَانَ لا يصافح بيده النساء، ولو فِي محلّ الحاجة، كما فِي البيعة، وإنما يبايعهنّ بالقول فقط، كما بيّنه فِي هَذَا الحديث، وأخْرَجَهُ البخاريّ وَغَيرُهُ، منْ حديث عائشة رضي الله تعالى عنها:"واللهِ ما مست يدُهُ يد امرأةٍ قط، فِي المُبايعةِ، ما يُبايعُهُنَّ إِلا بِقولِهِ: "قد بايعتُك عَلَى ذَلِكَ".
قَالَ الحافِظُ رحمه الله تعالى: قولُهُ: "قد بايعتُك كلامًا"، أي يقُولُ ذَلِكَ كلامًا فقطْ، لا مُصافحة بِاليدِ، كما جرت العادةُ بمُصافحةِ الرِّجالِ عِند المُبايعةِ، وكأنَّ عائِشة رضي الله تعالى عنها أشارت بِقولِها:"واللهِ ما مَسَّتْ إِلخ"، إِلى الرَّدِّ عَلَى ما جاء عن أم عطِيَّة، فعِند ابنِ خُزيمة، وابنِ حبَّان، والبزَّارِ، والطَّبرِيّ، وابنِ مردويهِ، مِن طرِيقِ إسماعيل بنِ عندِ الرحمن، عن جدتِهِ أُم عطِيّة، فِي قِصَّةِ المُبايعةِ، قالت:"فمدَّ يدهُ منْ خارجِ البيتِ، ومددنا أيدِينا منْ داخِلِ البيتِ، ثُمَّ قَالَ اللَّهُمّ اشْهَدْ"، وكذا الحدِيثُ الَّذِي بَعْدَهُ، حيثُ قالت فِيهِ: قبضت مِنَّا امرأةٌ يدها، فإِنَّهُ يُشعِرُ بأنَّهُنَّ كُنَّ يُبايِعنهُ بِأيدِيهِنَّ.
وُيمكِنُ الجوابُ عن الأوَّلِ بِأنَّ مدّ الأيْدِي، منْ وراءِ الحِجاب، إِشارةٌ إِلى وُقُوع المُبايعةِ، وإن لم تقع مُصافحة، وَعَنْ الثَّانِي بِأنّ المُراد بِقبضِ اليدِ التَّأخُّرُ عن القبُولِ، أو كانت المُبايعةُ تَقَعُ بِحائِل، فقد روى أبُو داوُد فِي "المراسِيلِ" عن الشَّعبِيِّ: أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم-
حِين بايع النِّساء، أُتِي بِبُرد قطرِيِّ، فوضعهُ فِي يدِهِ، وَقَالَ:"لا أُصافِحُ النِّساء". وعِند عبدِ الرَّزَّاقِ منْ طرِيقِ إِبراهِيم النَّخَعِيِّ، مُرسَلاً نحوُهُ، وعِنْدَ سعِيدِ بنِ مَنْصُور منْ طرِيقِ قيسِ بنِ أبِي حازِمِ كذلِك. وأخرج ابنُ إسحاق فِي "المغازِي" منْ رِوايةِ يُونُس بنِ بُكَيْرٍ، عنه، عن أبانُ بنُ صالِح، أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يغمِسُ يدهُ فِي إِناءٍ، وتغمِسُ المرأةُ يدها فِيهِ، ويحتمِلُ التَّعَدُّد. وَقَدْ أخْرج الطَّبرانِيُّ، أَنَّهُ بايعهُنَّ بِواسِطةِ عُمر، وَقَدْ جَاء فِي أخبارٍ أُخرى: أنَّهُنَّ كُنَّ يأخُذن بِيدِهِ عِند المُبايعةِ، منْ فوقِ ثوبٍ. أخرجهُ يحيى بنُ سَلامِ فِي تَفْسِيرِهِ، عن الشَّعبِيّ، وفِي "المغازِي" لابنِ إِسحاق، عن أبانِ بن صالِح، أَنَّهُ كَانَ يغمِسُ يدهُ فِي إِناءٍ، فيغمِسن أيدِيُهنَّ فِيهِ. انْتهى ما فِي "الفَتحِ". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: قَالَ العلّامة المباركفوري رحمه الله تعالى فِي "تحفة الأحوذي": (اعلم): أنَّ السُّنَّة أن تكُون بيعةُ الرِّجالِ بِالمُصَافَحَةِ، والسُّنَّةُ فِي المُصافحةِ أن تكُون بِاليدِ اليُمنى، فقد روى مُسْلِمٌ فِي "صحِيحِهِ" عن عمرِو بنِ الْعَاصِ، قَالَ: أتَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فقُلت: اُبسُط يمِينك، فلأُبايِعْك، فبسط يمِينهُ الحديث. قَالَ القَارِي فِي شَرْح هَذَا الحديث: أيْ افتح يمِينك، ومُدَّهَا لِأضَعَ يمِينِي عَلَيْهَا، كما هُو العادةُ فِي البَيْعَةِ. انتهى. وفِي هَذَا الباب رِوايات أُخرى، صحِيحةٌ، صرِيحةٌ، وكذلِك السُّنَّةُ أن تكُون المصافحةُ باليد اليمني، عِند اللِّقاءِ أيضًا. وأمَّا المصافحة بِاليدين عِند اللِّقاء، أو عِند البيعةِ لم تثبُت بِحدِيثٍ، مرفُوعٍ صحِيحٍ صرِيحٍ. قَالَ: وَقَدْ حققنا هذِهِ المسألة فِي رِسالتِنا المُسمَّاةِ بـ"المقالةِ الحُسْنَى، فِي سُنِّيَّةِ المُصَافَحَةِ باليَد اليُمْنَى". انتهى كلام المباركفوريّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
19 - (بَيْعةُ مَنْ بِهِ عَاهَةٌ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "العاهة": الآفة، وهي فِي تقدير فَعَلة بفتح العين - والجمع عاهات، يقال: عِيه الزرع، منْ باب تَعِبَ: إذا أصابته العاهة، فهو مَعِيهٌ، ومَعُوهٌ، فِي لغة منْ باب الواو، يقال: أعوه القوم، وأعاهَ القومُ: إذا أصابت العاهةُ ما شيتهم. قاله الفيّوميّ. والله تعالى أعلم بالصواب.
4184 -
(أَخْبَرَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ آلِ الشَّرِيدِ، يُقَالُ لَهُ: عَمْرٌو، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ، رَجُلٌ مَجْذُومٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ارْجِعْ، فَقَدْ بَايَعْتُكَ).
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(زياد بن أيوب) البغداديّ المعروف بدلّويه، ثقة حافظ [10] 101/ 132.
2 -
(هُشيم) بن بشير السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقة ثبت كثير التدليس والإرسال [7] 88/ 109.
3 -
(يعلي بن عطاء) العامريّ، أو الليثيّ الطائفيّ، ثقة [4] 40/ 584.
4 -
(عمرو) بن الشرِيد بفتح المعجمة -ابن سُويد الثقفيّ، أبو الوليد الطائفيّ، ثقة [3].
قَالَ العجليّ: حجازي تابعيّ ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". روى له الجماعة، سوى الترمذيّ، فروى له فِي "الشمائل". وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب ستة أحاديث: هَذَا، وفي "كتاب الضحايا" -42/ 4448 - حديث:"منْ قتل عصفورًا" الحديث. وفي "كتاب البيوع" 100/ 4691 و4692 - حديث: "ليّ الواجد يُحلّ عرضه وعقوبته". و109/ 4704 و4705 - حديث: "الجار أحقّ بسقبه".
5 -
(أبوه) الشريد -بوزن الطويل- ابن سُويد" مصغّرًا الثقفيّ، صحابيّ، شهِد بيعة الرضوان، قيل: كَانَ اسمه مالكًا، تقدم رضي الله تعالى عنه فِي 8/ 3680. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن، عن أبيه. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ رَجُلٍ مِنْ آلِ الشَّرِيدِ، يُقَالُ لَهُ: عَمْرٌو) هو عمرو بن الشَّرِيد الثقفيّ الطائفيّ (عَنْ أَبِيهِ) الشريد بن سُويد رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ، رَجُلٌ مَجْذُومٌ) أي أصابه مرض الجُذام، قَالَ المجد: و"الْجُذَام" كَغُرَاب: عِلّةٌ تَحدُث منْ انتشار السوداء فِي البدن كلّه، فيفسُد مِزاجُ الأعضاء، وهيآتُها، وربما انتهى إلى تأكّل الأعضاء، وسقوطها عن تقرّح، جُذِم كعُنِيَ، فهو مَجذومٌ، ومَجَذَّمٌ، وأجذم، ووهِمَ
الجوهريّ فِي منعه. انتهى. وَقَالَ الفيّوميّ: الجذْمُ القطع، وهو مصدرٌ، منْ باب ضَرَب، ومنه يقال: جُذِم الإنسان بالبناء للمفعول: إذا أصابه الجُذام؛ لأنه يقطعُ اللحم، ويُسقطه، وهو مجذوم، قالوا: ولا يقال فيه منْ هَذَا المعنى: اجذم وِزانُ أحمر. انتهى.
قَالَ الجامع: قد عرفت أن المجد خطأ الجوهريّ فِي هَذَا، وأثبت جواز أجذم. فتنبّه. والله تعالى أعلم.
(فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ارْجِعْ، فَقَدْ بَايَعْتُكَ) ولم يأخذ بيده عند المبايعة، تخفيفًا عن المجذوم والناس؛ لئلا يشقّ عليه الاقتحام معهم، فيتأذّي هو فِي نفسه، ويتأذّى به الناس. وَقَدْ روى الترمذيّ عن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم أنه أكل مع مجذوم، فقال:"باسم الله، توكّلاً علي الله"، وَقَدْ جاء عنه صلّى الله تعالى عليه وسلم أنه قَالَ:"فِرّ منْ المجذوم كما تفرّ منْ الأسد". رواه البخاريّ. وهذا الخطاب إنما هو لمن يجد فِي نفسه نفرة طبيعيّة، لا يقدر عَلَى الانتزاع منها، فأمره بالفرار؛ لئلا يتشوّش عليه، ويغلبه وهمه، وليس ذلك خوفاً لعدوى، فقد قَالَ صلّى الله تعالى عليه وسلم:"لا يُعدي شيءٌ شيئاً"، وَقَالَ:"لا عدوى"، وَقَالَ للأعرابيّ:"فمن أعدى الأول؟ ". قاله القرطبيّ
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث الشَّرِيد بن سُوَيد رضي الله تعالى عنه أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -19/ 4184 - وفي "الكبرى" 23/ 7805. وأخرجه (م) فِي "السلام" 2231 (ق) فِي "الطبّ" 3544 (أحمد) فِي "أول مسند الكوفيين" 18974 و18980. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان مشروعيّة بيعة المجذوم، وأنها تكون بالقول، دون المصافحة باليد. (ومنها): إباحة مباعدة أهل الأسقام الفادحة، المستكرهة، إذا لم يؤدّ ذلك إلى إضاعتهم، وإهمالهم. (ومنها): ما قاله بعض أهل العلم: فِي هَذَا الحديث، وما فِي معناه دليل عَلَى أنه يثبت للمراة الخيار فِي فسخ النكاح
(1)
"المفهم" 4/ 75 - 76.
إذا وجدت زوجها مجذومًا، أو حدث به جُذامٌ. قَالَ النوويّ: واختلف أصحابنا، وأصحاب مالك في أن أمته هل لها منع نفسها منْ استمتاعه إذا أرادها؟. قَالَ القاضي: قالوا: وُيمنع منْ المسجد، والاختلاط بالناس. قَالَ: وكذلك اختلفوا فِي أنهم إذا كثُرُوا، هل يؤمرون أن يتخذوا لأنفسهم موضعاً منفردًا، خارجًا عن الناس، ولا يُمنعون منْ التصرّف فِي منافعهم، وعليه أكثر الناس، أم لا يلزمهم التنحّي. قَالَ: ولم يختلفوا فِي القليل منهم فِي أنهم لا يُمنعون. قَالَ: ولا يُمنعون منْ صلاة الجمعة مع الناس، ويُمنعون منْ غيرها. قَالَ: ولو استضرّ أهل قرية فيهم جَذْمَى بمخالطتهم فِي الماء، فإن قدروا عَلَى استنباط ماء بلا ضرر أُمرُوا به، وإلا استنبطه لهم الآخرون، أو أقاموا منْ يستقي لهم، وإلا فيُمنعون. انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي اختلاف الآثار الوارة فِي المجذوم، واختلاف أهل العلم فِي الجمع بينها:
قَالَ عِياض رحمه الله تعالى: اختلفت الآثار فِي المجذُوم، فجاء عن جابِر "أنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أكل مع مجذُوم، وَقَالَ: "ثِقةٌ بِاللهِ، وتوكُّلاً عَلَيْهِ"، قَالَ: فذهب عُمر، وجماعة منْ السلف إِلى الأكل معهُ، ورأوا أن الأمر بِاجتِنابهِ مَنْسُوخ. ومِمَّن قَالَ بذلِك عِيسى بن دِينار منْ المالِكِية، قَالَ: والصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الأكثر، ويتعيَّن المصِير إِليهِ، أنْ لا نَسْخ، بَلْ يجِب الْجَمْع بين الْحَدِيثَيْنِ، وَحَمْل الأمر بِاجْتِنابِهِ، والفِرار مِنْهُ عَلَى الاسْتِحْبَاب والِاحتِياط، والأَكْل مَعَهُ عَلَى بَيَان الْجَوَاز انتهى.
هكذا اقتصر القاضِي ومن تبِعهُ عَلَى حِكاية هذينِ القولينِ، وحكى غيره قولاً ثالِثًا، وهُو التَّرجِيح، وَقَدْ سلكهُ فَرِيقانِ:
(أحدهما): سلك ترجِيح الأخبار الدَّالَّة عَلَى نفي العدوى، وتزييف الأخبار الدَّالَّة عَلَى عكس ذَلِكَ، مِثل حدِيث "فرّ منْ المجذوم فرارك منْ الأسد"، فأعلوهُ بِالشُّذُوذِ، وبِأنَّ عائِشة رضي الله تعالى عنها، أنكرت ذَلِكَ، فأخرج الطَّبرِيّ عنها:"أن امرأة سألتها عنه، فقالت: ما قَالَ ذَلِكَ، ولكِنَّهُ قَالَ: "لا عدوى"، وَقَالَ: "فمن أعدى الأول؟ "، قالت: وكان لِي مَوْلى، بِهِ هَذَا الدَّاء، فكان يَأْكُل فِي صِحَافِي، وَيَشْرب فِي أقْدَاحِي، وينام عَلَى فِراشِي"، وبِأَنَّ أبا هُريرة رضي الله تعالى عنه، تَردَّد فِي هَذَا الحُكم، فيُؤْخَذ الحُكم منْ رِواية غَيْره، وبِأن الأخبار الوارِدة منْ رِواية غيره، فِي نفي العدوى كثِيرة
(1)
"شرح مسلم للنوويّ" 14/ 447. "كتاب الطبّ".
شهِيرة، بِخِلافِ الأخبار المُرخِّصة فِي ذَلِكَ، ومِثل حدِيث "لا تُدِيمُوا النَّظر إِلى الْمَجْذُومِين"، وَقَدْ أخرجهُ ابن ماجة، وسنده ضعِيف، ومِثل حدِيث عبد الله بن أبِي أوْفَى، رفعهُ:"كَلِّمْ المَجْذُوم، وَبَيْنَك وبينه قَيْد رُمحينِ"، أخرجهُ أبُو نُعَيْم فِي "الطِّبّ"، بِسندٍ واهٍ، ومِثل ما أخرجهُ الطَّبَرِيّ، منْ طرِيق معمر، عن الزُّهرِيّ:"أنَّ عُمَر قَالَ لِمُعَيْقِيب: اجلِس مِني قيد رمح"، ومن طرِيق خارِجة بن زيد، كَانَ عُمر يقُول نحوه، وهُما أثرانِ مُنقطِعانِ. وأمَّا حدِيث الشَّرِيد الَّذِي أخرجهُ مُسلِم، فْليْسَ صرِيحًا فِي أنَّ ذَلِكَ بِسبب الْجُذَام.
والجواب عِن ذَلِكَ أن طرِيق الترجِيح، لا يُصار إِليها إِلَّا مع تَعَذُّر الْجَمْع، وهُو مُمكِن، فهُو أولى.
(الفرِيق الثَّانِي): سلكُوا فِي الترجِيح عكس هَذَا الْمَسْلَك، فردُّوا حدِيث "لا عَدْوَى" بِأَنَّ أبا هُريرة رَجَعَ عنهُ، إمَّا لِشَكِّهِ فِيهِ، وإمَّا لِثُبُوتِ عكسه عِنده، قالُوا: والأخبار الدَّالَّة عَلَى الاجتِناب أكثر مخارج، وأكثر طُرُقًا، فالمصِير إِليها أولى، قالُوا: وأمَّا حَدِيث جابِر: "أنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، أخذ بِيدِ مجذُوم، فوضعها فِي القَصْعة، وَقَالَ: كُلْ ثِقةٌ بِاللهِ، وتوكُّلاً عَلَيْهِ"، ففِيهِ نظر، وَقَدْ أخرجهُ التِّرمِذِيّ، وبين الاختِلاف فِيهِ عَلَى راوِيه، وَرَجَّحَ وقفه عَلَى عُمر، وعلى تقدِير ثُبُوته، فليس فِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم، أكل معهُ، وإِنَّما فِيهِ أَنَّهُ وَضَعَ يده فِي القَصْعة، قالهُ الْكَلابَاذِيّ فِي "مَعَانِي الأخْبَار".
والجواب أنَّ طرِيق الجمع أَوْلى كَمَا تَقَدَّم، وأيضا فَحدِيث "لا عَدْوَى" ثبت منْ غَيْر طرِيق أبي هريرة، فَصَحَّ عن عائِشة، وابن عُمر، وسعْد بن أبِي وقَّاص، وجابِر، وغيرهم، فلا مَعْنى لِدعوى كونه مَعْلُولاً، والله أعلم.
وفِي طرِيق الجمع مَسَالِك أُخْرى: (أحدها): نَفْي العَدْوى جملة، وحمل الأمْر بِالفِرارِ منْ المجذُوم، عَلَى رِعاية خاطِر الْمَجْذُوم؛ لِأنَّهُ إِذَا رأى الصَّحِيح البدن السَّليم منْ الآفة تعْظُم مُصِيبته، وتزداد حسرته، ونحوه حدِيث:"لا تُدِيمُوا النَّظَر إِلى المَجْذُومِين"، فإنَّهُ مَحْمُول عَلَى هَذَا الْمَعْنى.
(ثانِيها): حَمْل الخِطاب بالنَّفْى والإثبات، عَلَى حَالتينِ مُخْتَلِفتينِ، فحيثُ جَاء "لا عَدْوَى" كَانَ المُخاطب بِذلك منْ قوِي يقِينه، وَصَحَّ توكُّله، بِحيثُ يستطِيع أن يدفع عن نفسه اعْتِقَاد الْعَدوى، كما يستطِيع أن يدفع التَّطيُّر الَّذِي يقع فِي نفس كُلّ أحد، لكِن القوِيّ اليقِين لا يتأثَّر بِهِ، وهذا مِثل ما تَدْفَع قوة الطَّبِيعة العِلَّة، فتُبطِلها، وعلى هَذَا يُحمل حدِيث جَابِر، فِي أكل الْمَجْذُوم منْ القَصْعة، وسائِر ما ورد منْ جِنسه، وَحَيْثُ جاء "فِرَّ منْ الْمَجْذُوم"، كَانَ المُخاطب بِذلِك مَنْ ضعُف يقِينه، ولم يتمكَّن منْ تَمَام
التَّوكُّل، فلا يكُون لهُ قوَّة عَلَى دفع اعْتِقاد الْعَدْوى، فأُرِيد بِذلِك سدُّ بَاب اعتِقاد الْعَدْوى عنهُ، بِأن لا يُباشِر ما يكُون سببًا لإثباتها.
وقرِيب مِن هَذَا كراهِيته صلى الله عليه وسلم الكيّ، مع إِذنه فِيهِ، وَقَدْ فَعَل هُو صلى الله عليه وسلم كُلاً منْ الأمْرَيْنِ؛ لِيتَأسَّى بهِ كُلّ منْ الطَّائِفتينِ.
(ثَالِث المَسَالِك): قَالَ القاضي أبُو بَكْر الباقِلَّانِيّ: إِثبات الْعَدْوي فِي الجُذام ونَحْوه، مخصُوص منْ عُمُوم نفي العدوي، قَالَ: فيكُون معنِي قوله: "لا عَدْوَى": أي إِلا منْ الجُذام، والْبَرَص، والجرب مثلاً، قَالَ: فكأنَّهُ قَالَ: لا يُعْدِي شَيْء شيئًا، إِلَّا ما تقدَّم تَبْيِينِي لهُ أنَّ فِيهِ العَدْوي. وَقَدْ حَكَى ذَلِكَ ابن بطَّال.
(رابعها): أنّ الأمر بِالفِرارِ منْ المجذُوم، ليس منْ باب العدوي فِي شيْء، بل هُو لأمْرٍ طبِيعِيّ، وهُو انتِقال الدَّاء منْ جسد لِجسدٍ، بِواسِطةِ المُلامَسَة، والمُخَالطَة، وشمِّ الرَّائِحة، ولِذَلِك يقع فِي كثِير منْ الأمْراض فِي العَادَة، انتِقال الدَّاء منْ المرِيض إِلى الصَّحِيح، بكثرةِ المُخَالطة، وهذِهِ طرِيقة ابن قتيبة، فقال: المجذوم تشتدّ رائِحته، حَتَّى يُسقِم منْ أطال مُجالَسَته، ومُحادثته، ومُضَاجَعته، وكذا يقع كثِيرًا بالمرأةِ منْ الرَّجُل وعكسه، وينزع الولد إِليهِ، ولِهذا يأمُر الأطِباء بِتركِ مُخالطة المجذوم، لا عَلَى طرِيق العدوي، بل عَلَى طرِيق التَّأثُّر بِالرَّائِحةِ؛ لأنَّها تُسْقِم منْ واظب اشْتِمَامهَا، قَالَ: ومن ذَلِكَ قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يُورِد مُمْرض علىِ مُصِحّ"؛ لأنَّ الجرب الرَّطْب، قد يكُون بِالْبعِيرِ، فاِذا خالط الإبِل، أو حَكَّكَهَا، وأوى إِلى مبارِكها، وَصْل إِليْهَا بالماءِ الَّذِي يسِيل مِنْهُ، وكذا بِالنَّظرِ نحو ما بِهِ. قَالَ: وأمَّا قوله: "لا عدوى"، فَلهُ مَعْنًى آخر، وهُو أنْ يقع المَرَضْ بمكانٍ، كالطَّاعُونِ، فيفِرّ مِنْهُ مخافة أن يُصِيبهُ، لأنَّ فيهِ نوعًا منْ الفِرار، منْ قَدَر الله.
(المَسْلَك الخَامِس): أن المراد بِنفيِ العدوي، أنَّ شيئًا لا يُعدِي بطبعِهِ، نفيًا لِما كانت الجاهِليَّة تعتقِدهُ، أنَّ الأمراض، تُعدِي بِطبعِها منْ غير إِضافة إِلى الله، فأبطل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، اعتِقادهم ذَلِكَ، وأكل مع المجذوم؛ لِيُبيِّن لهُم أنَّ الله هُو الّذِي يُمرِض، وَيَشْفِي، وَنَهَاهُم عن الدُّنُو مِنه؛ لِيُبين لهُمْ أن هَذَا منْ الأسباب الَّتِي أجرى الله العادة بِأنَّها تُفْضِي إِلى مُسَبَّبَاتهَا، ففِي نهيه إِثبات الأسباب، وفِي فِعله إِشاِرة إِلى أنَّها لا تستقِل، بَلْ الله هُو الَّذِي إنْ شاء سلبها قُواها، فلا تُؤثِّر شيئًا، وإن شاء أبقاها، فأثَّرْت، وَيَحْتَمِل أيْضًا أنْ يَكُون أَكْله صلى الله عليه وسلم مع الْمَجْذوم؛ أَنَّهُ كَانَ بِهِ أمر يَسيرٌ، لا يُعدِي مِثْله فِي العادة، إذْ لَيْسَ الْجَذْمَى كُلّهم سواء، ولا تَحصُل العدوَي منْ جميعهم، بَلْ لا يحصُل مِنْهُ فِي العادة عَدْوى أصْلا، كالذِي أصَابَهُ شَيْء منْ ذَلِكَ، وَوَقَف فَلَمْ يعُد بقِيَّة جِسمه، فلا يُعْدِي. وَعَلى الاحْتِمَال الأوَّل جَرَى أَكْثَر الشَّافِعِيَّة، قَالَ الْبَيْهقِيُّ بَعْد أن أوْرَدَ قَوْل الشَّافِعِيّ: ما
نَصُّهُ: الجُذام، والبرص، يزعُم أهل العِلم بالطِّبِّ والتَّجارِب، أنَّهُ يُعدِي الزَّوج كثِيرًا، وهُو داء مانِع لِلْجِمَاعِ، لا يكاد نَفْس أحد تطِيب بِمُجامعةِ منْ هُو بِهِ، ولا نفس امرأة أن يُجامِعها منْ هُو بِهِ، وأمَّا الولد، فبيَّن أَنَّهُ إِذَا كَانَ منْ ولده الجذام، أو أبرص أنَّهُ قَلَّمَا يسلم، وإن سلِم أدرك نَسْله. قَالَ البيهقِيُّ: وأمَّا ما ثبت عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لا عدوى"، فهُو عَلَى الوجه الَّذِي كانُوا يعتقِدُونهُ فِي الجاهِلِية، منْ إِضافة الفِعل إِلى غير الله تعالى. وَقَدْ يجعل الله بِمشِيئتِهِ، مُخالطة الصحِيح منْ بِهِ شَيْء منْ هذِهِ العُيُوب، سببًا لِحُدُوثِ ذَلِكَ، ولِهذا قَالَ صلى الله عليه وسلم:"فِرَّ مِنْ المَجْذُوم فِرارك منْ الأسَد"، وَقَالَ:"لا يُورِد مُمْرِض عَلَى مُصِحّ"، وَقَالَ فِي الطاعُون:"منْ سمِع بِهِ بِأرْضٍ، فلا يَقْدَم عَلَيْهِ"، وكُلّ ذَلِكَ بِتقدِيرِ الله تعالى، وتبِعهُ عَلَى ذَلِكَ ابن الصَّلاح فِي الجمع بين الحدِيثينِ، ومن بعده، وطائِفة مِمَّن قبله.
(الْمَسْلَك السَّادِس): العمل بِنفي الْعَدْوَى أصلاً، ورأْسًا، وحمل الأمر بالمُجَانبةِ عَلَى حَسْم المادة، وَسَدّ الذَّريعة؛ لِئَلَّا يَحْدُث لِلمُخَالِطِ شيء منْ ذَلِكَ، فيظُنّ أَنَّهُ بِسببِ المُخالطة، فيُثبِت الْعَدْوَى الَّتِي نفاها الشَّارع، وإلى هَذَا القول ذهب أبُو عُبيد، وتبِعهُ جماعة، فقال أبُو عُبيد: ليْس فِي قوله: "لا يُورِد مُمرِض عَلَى مُصِحّ" إِثبات الْعَدْوَى، بل لأنَّ الصِّحاِح لو مرِضَتْ بتقدِيرِ الله تعالى، رُبَّما وقع فِي نفس صاحِبها، أنَّ ذَلِكَ منْ الْعَدْوَى، فيُفتَتَن، ويتشكَّك فِي ذَلِكَ، فأمر بِاجْتِنابهِ. قَالَ: وكان بعض النَّاس يذهب إِلى أنَّ الأمر بِالاجتِناب، إنَّمَا هُو لِلمخافةِ عَلَى الصَّحِيح منْ ذوات العاهة، قَالَ: وهذا شَرّ ما حُمِل عَلَيْهِ الْحدِيث؛ لأنَّ فِيهِ إِثبات الْعَدْوَى، الَّتِي نفاها الشَّارع، ولكِنَّ وجه الحديث عِنْدِي ما ذَكَرْته.
وأطنب ابن خُزيمة فِي هَذَا، فِي "كِتاب التَّوكُّل"، فإنَّهُ أورد حدِيث "لا عَدْوَى"، عن عِدَّة منْ الصحابة، وَحَدِيث "لا يُورِد مُمرِض عَلَى مُصِحّ"، منْ حدِيث أبي هريرة، وترجم لِلأولِ "التَّوكل عَلَى الله فِي نَفْي العَدْوَى"، ولِلثَّانِي "ذِكْر خبر غلِط فِي مَعْنَاهُ بعض العُلماء، وأثْبَتَ الْعَدْوَى الَّتِي نفاها النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم"، ثُمَّ ترجم:"الدَّليل عَلَى أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، لم يُرِد إِثبات الْعَدْوَى بِهذا القول"، فساق حدِيث أبي هريرة:"لا عدوى"، فقال أعْرابِيّ: فما بال الإبِل يُخالِطها الأجْرَب فتجرب؟، قَالَ:"فمن أعدى الأوَّل"، ثُمَّ ذكر طُرُقه عن أبي هريرة، ثُمَّ أخرجهُ منْ حدِيث ابن مَسْعُود، ثُمَّ ترجم "ذِكر خَبَر، رُوِي فِي الأمر بِالفِرارِ منْ الْمَجْذُوم، قَدْ يخطِر لِبعضِ النَّاس، أن فِيهِ إِثبات الْعَدْوَى، وليس كذلِك"، وساق حدِيث "فِرَّ منْ الْمَجْذُوم، فِرارك منْ الأسد"، منْ حدِيث أبي هريرة، ومن حدِيث عائِشة، وحدِيث عمرو بن الشَّرِيد، عن أبِيهِ، فِي أمر الْمَجْذُوم بِالرجُوعِ،
وحدِيث ابن عبَّاس "لا تُدِيمُوا النَّظر إِلى المَجْذُومِين"، ثم قَالَ: إِنَّما أمرهُم صلى الله عليه وسلم بِالفِرار منْ الْمَجْذُوم، كما نهاهُم أن يُورِد المُمْرِض عَلَى المُصِحّ، شفقة عليْهِمْ، وخشية أن يُصِيب بعض منْ يُخالِطهُ الْمَجْذُوم الْجُذامُ، والصَّحِيح منْ الماشِية الْجَرَب، فيسبق إِلى بعض المسلمِين، أنَّ ذَلِكَ منْ الْعَدْوَى، فيُثبِت الْعَدْوَى الَّتِي نفاها صلى الله عليه وسلم، فأمَرَهُم بِتجنُّبِ ذَلِكَ شفقة مِتهُ، وَرَحْمَةً؛ ليسلموا منْ التَّصْدِيق بِإِثباتِ الْعَدْوَى، وبين لهُم أنّهُ لا يُعْدِي شيء شيئًا. قَالَ: وُيؤيِّد هَذَا أكله صلى الله عليه وسلم، مع الْمَجْذُوم ثِقةٌ بِاللهِ، وتوكُّلاً عَلَيْهِ، وساق حدِيث جابِر فِي ذَلِكَ، ثم قَالَ: وأمَّا نهيه عن إِدامة النظر إِلى الْمَجْذُوم، فيحْتمِل أن يكُون لأنَّ المجذُوم يَغْتَم، ويكره إِدْمان الصَّحِيح نظره إِليهِ؛ لِأنَّهُ قَلَّ منْ يكُون بِهِ داء، إِلا وهُو يكره أن يُطَّلع عَلَيْهِ. انتهى.
قَالَ الحافظ: وهذا الَّذِي ذكرهُ احتِمالاً، سبقهُ إِليهِ مالِك، فإِنَّهُ سُئِل عن هَذَا الحديث، فقال: ما سمِعت فِيهِ بِكراهِيةٍ، وما أدرِي ما جاء منْ ذَلِكَ، إِلا مخافة أن يقع فِي نَفْس المُؤمِن شَيْء.
وَقَالَ الطَّبرِيُّ: الصَّوّاب عِندنا القول بِما صح بِهِ الخبر، وأن لا عَدْوَى، وأنَّهُ لا يُصِيب نفسًا، إِلا ما كُتِب عليها، وأمَّا دُنُو عليل منْ صحِيح، فغير مُوجِب انتِقال العِلَّة لِلصَّحِيح، إِلا أَنَّهُ لا ينبغِي لِذِي صِحَّة الدُّنُو منْ صاحِب العاهة، الَّتي يكرهها النَّاس، لا لِتحرِيم ذَلِكَ، بل لِخشيةِ أن يظُنّ الصَّحِيح، أَنَّهُ لو نزل بهِ ذَلِكَ الدَّاء، أَنَّهُ مِن جِهة دُنُوهُ منْ العليل، فيقع فِيما أبطلهُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم منْ الْعَدْوَى. قَالَ: وليس فِي أمره بِالْفِرَارِ منْ الْمَجْذُوم مُعارضة لِأكلِهِ معهُ؛ لأنَّهُ كَانَ يأمُر بِالأمرِ عَلَى سبِيل الإرشاد أحْيانًا، وعلى سبِيل الإباحة أُخْرى، وإنْ كَانَ أكثرُ الأوامِر عَلَى الإلزام، إِنَّما كَانَ يفعل ما نَهى عنهُ أحيانًا؛ لِبيانِ أنَّ ذَلِكَ ليْس حرامًا.
وَقَدْ سلك الطَّحَاوِيُّ فِي "معانِي الآثار" مسلك ابن خُزيمة فِيما ذكرهُ، فأورد حدِيث "لا يُورد مُمرِض عَلَى مُصِحّ"، ثم قَالَ: معناهُ أنَّ المُصِحّ قد يُصِيبهُ ذَلِكَ المَرَض، فيقُول الَّذِي أوردهُ، لو أنِّي ما أوردته عَلَيْهِ لم يُصِبهُ، منْ هَذَا المَرَض شَيْء، والواقِع أَنَّهُ لو لم يُورِدهُ لأصابهُ؛ لِكونِ الله تعالى قَدَّرَهُ، فنُهِي عَنْ إِيراده؛ لِهذِهِ العِلة الَّتِي لا يُؤمن غالِبًا منْ وُقُوعها فِي قلب المرء، ثم ساق الأحادِيث فِي ذَلِكَ، فأطْنَبَ، وجمع بَيْنَها بِنَحْوِ ما جَمعَ بهِ ابن خُزَيمة.
ولِذلِك قَالَ القُرطُبِيّ فِي "المُفْهِم": إنَّما نَهَى رسُول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ إِيراد الْمُمْرِض عَلَى المُصِحّ، مخافة الوُقُوع فِيما وقع فِيهِ أهْل الجَاهِليَّة، منْ اعتِقاد الْعَدْوَى، أوْ مَخَافَة تَشْوِيش النُّفُوس، وتأثير الأوهام، وهُوَ نحو قوله:"فِرَّ منْ الْمَجْذُوم فِرَارك منْ الأَسَد"،
وَإِنْ كُنَّا نعتقِد أن الْجُذَام لا يُعْدِي، لكِنَّا نجِد فِي أنفُسنا نُفرة، وكراهِية لِمُخالطتِهِ، حَتَّى لو أكره إِنسان نفسه عَلَى القُرب مِنْهُ، وعلى مُجالسته لتأذَّت نفسه بِذلِك، فحِينئِذٍ فالأولى لِلمُؤمِنِ أن لا يَتَعرَّض إِلى ما يحتاج فِيهِ إِلى مُجَاهَدَة، فيجتنِب طُرُق الأوهام، وَيُباعِد أسباب الآلآم، مع أَنَّهُ يعتقِد أنّهُ لا يُنجِّي حَذَر منْ قَدْر، والله أعلم.
قَالَ الشَّيْخ أبُو مُحَمَّد بن أبِي جَمْرَة: الأمر بِالفِرِارِ منْ الأسَد، ليس لِلوُجُوب، بل لِلشَّفَقَةِ؛ لِأنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ ينهى أُمَّته، عَنْ كُلّ ما فِيهِ ضَرَر، بِأيِّ وجه كَانَ، ويدُلّهُمْ عَلَى كُل ما فِيهِ خير. وَقَدْ ذكر بعض أهل الطِّبِّ، أنَّ الرَّوائِح تُحدِث فِي الأبدانِ خَلَلاً، فكان هَذَا وجه الأمْر بِالمُجَانبةِ، وَقَدْ أكل هُو مع الْمَجْذُوم، فلو كَانَ الأمر بمُجَانبتِهِ عَلَى الوُجُوب لِما فعلهُ. قَالَ: ويُمكِن الجمع بين فِعله وقوله، بِأنَّ القول هُو المَشْرُوع منْ أجل ضَعْف المُخاطبِين، وفِعله حقِيقة الإيمان، فمن فعل الأول أصاب السُّنَّة، وهِي أثر الحِكْمَة، ومن فعل الثَّانِي كَانَ أقوى يقِينًا؛ لِأن الأشياء كُلّها، لا تأثير لها، إِلّا بِمُقْتضى إِرادة الله تعالى وتَقْدِيره، كما قَالَ تعالى:{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]، فمن كَانَ قوِيّ الْيقِين، فَلَهُ أن يُتابِعهُ صلى الله عليه وسلم فِي فِعلِهِ، ولا يضُرّهُ شَيْء، ومن وجد فِي نَفْسه ضَعْفًا، فليتبع أمرهُ فِي الفِرار؛ لِئلا يَدْخُل بِفِعْلِهِ فِي إِلقاء نفسه إِلى التَّهْلُكة.
فالحَاصِل أنَّ الأُمُور الَّتِي يُتوقَّع مِنها الضرر، وَقَدْ أباحت الحِكْمَة الرَّبَّانِيَّة الْحَذَر مِنها، فلا يَنْبَغِي لِلضُّعَفاءِ أن يقربُوها، وأمَّا أصحاب الصِّدْق واليقِين، فَهُمْ فِي ذَلِكَ بِالْخِيَارِ. قَالَ: وفِي الْحَديث أنَّ الحُكْم لِلأكْثَرِ؛ لِأنَّ الغالِب مِن النَّاس هُو الضَّعْف، فجاء الأمْر بِالْفِرَارِ بِحَسَب ذَلِكَ. انتهى
(1)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأرجحُ منْ هذه الأقوال هو الذي حققه أصحاب المسلك السادس، وهو الذي تقدم عن أبي عبيد، وابن خزيمة، والطبري، والطحاوي، والقرطبي، ولخصه الشيخ ابن أبي جمرة فِي كلامه الأخير. وخلاصته أن حديث "لا عدوى" عَلَى ظاهره، وأن الأمر بالفرار منْ الْمَجْذُوم محمول عَلَى الاستحباب؛ خشية أن يتفق له المرض، فيقع فِي سوء الظنّ بأنه إنما حدث له بمخالطته للمريض، وأما منْ كَانَ قويّ اليقين، وأنه لا يُصيبه إلا ما كتبه الله تعالى عليه، وأنه لا عدوى، فلا بأس بمخالطته، للمرضى، منْ المجذومين، وغيرهم، فبهذا تجتمع الآثار المختلفة فِي هَذَا الباب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
(1)
"فتح" 11/ 308 - 312. "كتاب الطبّ". حديث: 5707.
20 - (بَيْعَةِ الْغُلَامِ)
4185 -
(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلاَّمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنِ الْهِرْمَاسِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: مَدَدْتُ يَدِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا غُلَامٌ، لِيُبَايِعَنِي، فَلَمْ يُبَايِعْنِي).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عبد الرحمن بن محمّد بن سلّام" بتشديد اللام-: هو أبو القاسم البغداديّ، ثم الطَّرسُوسيّ، لا بأس به [11] 172/ 1141. و"عمر بن يونس": هو الحنفي، أبو حفص اليماميّ الجُرَشيّ، ثقة [9] 12/ 1625. و"عكرمة بن عَمّار": هو العجليّ، أبو عمّار اليماميّ، بصريّ الأصل، صدوقٌ، يَغلَط [5]. 57/ 1299.
و"الْهِرْمَاس بن زياد" بن مالك بن عبد العزّي بن عامر بن ثعلبة بن غَنْم بن مالك بن أعصر، الباهليّ، أبو حُدير بمهملتين، مصغّرًا- البصريّ، صحابيّ، سكن اليمامة، وهو آخر منْ مات بها منْ الصحابة بعد المائة.
روى عن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، وعنه ابنه القعقاع، وحنبل بن عبد الله، وعكرمة بن عمّار. وَقَالَ أبو زكريا بن منده: هو آخر منْ مات منْ الصحابة باليمامة. وَقَالَ العسكريّ: هو وأبوه منْ ساكني اليمامة. وَقَالَ عكرمة بن عمّار: لقيته سنة (102).
روى له المصنّف حديث الباب فقط، وأبو داود فرد حديث.
[تنبيه]: هَذَا السند منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (192) منْ رباعيات الكتاب. والله تعالى أعلم.
وقوله: "فلم يبايعني" أي لما فيه منْ العهد، والإلزام، والصغير ليس أهلاً لذلك، بل لا يلزمه شيء إن ألزمه نفسه، فأيّ فائدة فِي البيعة معه؟. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث الْهِرْمَاس بن زياد رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح، وهو منْ أفراد المصنّف، أخرجه هنا -20/ 4185 - وفي "الكبرى" 24/ 7806. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
***
21 - (بَيْعَةِ الْمَمَالِيكِ)
بفتح الميمِ: جمع مملوك، وهو العبد.
4186 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: جَاءَ عَبْدٌ، فَبَايَعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْهِجْرَةِ، وَلَا يَشْعُرُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ عَبْدٌ، فَجَاءَ سَيِّدُهُ يُرِيدُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "بِعْنِيهِ، فَاشْتَرَاهُ بِعَبْدَيْنِ أَسْوَدَيْنِ، ثُمَّ لَمْ يُبَايِعْ أَحَدًا، حَتَّى يَسْأَلَهُ، أَعَبْدٌ هُوَ؟ ").
رجال هَذَا الإسناد: أربعة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.
2 -
(الليث) بن سعد الإِمام المصريّ الفقيه الحجة [7] 31/ 35.
3 -
(أبو الزبير) محمّد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، صدوق يدلّس [4] 31/ 35.
4 -
(جابر) بن عبد الله بن عمرو بن حرام الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما 31/ 35.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (193) منْ رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه مصريين، وقتيبة دخل مصر، ومكيين، وجابر ممن سكن مكة. (ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله تعالى عنه منْ المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: جَاءَ عَبْدٌ، فَبَايَعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْهِجْرَةِ) أي عَلَى أن يهاجر منْ بلده إلى المدينة (وَلا يَشْعُرُ) بضم العين المهملة، منْ باب نصر، أي لا يعلم (النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ عَبْدٌ) إذ لو علم لم يبايعه إلا بإذن سيّده (فَجَاءَ سَيِّدُهُ يُرِيدُهُ) أي يريد أخذ ذلك العبد (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "بِعْنِيهِ) إنما طلب صلّى الله تعالى عليه وسلم بيعه له؛ كراهة أن يرُدّ العبد خائبًا عما قصده منْ الهجرة، وملازمة الصحبة، فاشتراه ليتم له ما أراد (فَاشْتَرَاهُ بِعَبْدَيْنِ أَسْوَدَيْنِ) قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: هَذَا إنما فعله النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم عَلَى مقتضى مكارم أخلاقه، ورغبةً فِي تحصيل ثواب العتق، وكراهية أن يفسخ له عقد الهجرة، فحصل له العتق، وثبت له الولاء، فهذا
المُعتقُ مولى للنبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، غير أنه لا يُعرف اسمه. انتهى
(1)
.
وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: هَذَا محمول علي أن سيّده كَانَ مسلمًا، ولهذا باعه بعبدين أسودين، والظاهر أنهما كانا مسلمين؛ إذ لا يجوز بيع العبد المسلم لكافر. ويحتمل أنه كَانَ كافرًا، أو أنهما كانا كافرين، ولابدّ منْ ثبوت ملكه للعبد الذي بايع عَلَى الهجرة، إما ببينة، وإما بتصديق العبد قبل إقراره بالحرّيّة. انتهى
(2)
.
وَقَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: لم يرِد فِي شيء منْ طرقه أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم طالب سيّده بإقامة بينة، فيحتمل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم علِم صحّة ملكه له حين عرف سيّده. ويحتمل أن يكون اكتفى بدعواه، وتصديق العبد له، فإن العبد بالغٌ عاقلٌ، يُقبل إقراره عَلَى نفسه، ولم يكن للسيّد منْ يُنازعه، ولا يُستحلّف السيد، كما إذا ادّعى اللقطة، وعرف عفاصها، ووِكاءها، أخذها، ولم يُستحلَف؛ لعدم المنازع ليها. انتهى
(3)
.
(ثُمَّ لَمْ يُبَايِعْ) النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم (أَحَدًا، حَتَّى يَسْأَلَهُ، أَعَبْدٌ هُوَ؟ ") يعني أنه لَمّا وقعت له هذه الواقعة أخذ بالحزم، والحذر، فكان يسأل منْ يرتاب فيها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث جابر رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -21/ 21/ 4186 وفي "البيوع" 66/ 4623 - وفي "الكبرى" 25/ 7807 و"البيوع" 66/ 6213. وأخرجه (م) فِي "المساقاة" 1602 (د) فِي "البيوع" 3358 (ت) فِي "البيوع" 1239 و"السير" 1596 (ق) فِي "الجهاد" 2869 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 14358. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم بيعة المماليك، وهو لا يجوز إلا أن يأذن له سيده. (ومنها): ما كَانَ عليه النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم
(1)
"المفهم" 4/ 511. "كتاب البيوع".
(2)
"شرح مسلم" 11/ 40 "كتاب البيوع". حديث: 4089.
(3)
"المفهم" 4/ 511 "كتاب البيوع".
منْ مكارم الأخلاق، والإحسان العام، فإنه كره أن يرُد العبد خائبًا عما قصده، منْ الهجرة، ومصاحبته صلّى الله تعالى عليه وسلم، فاشتراه ليُتمّ له غرضه. (ومنها): جواز بيع عبد بعبدين، سواء كانت القيمة متّفقةً، أو مختلفةً، وهذا مجمع عليه، إذا بيع نقدًا، وكذا حكم سائر الحيوانات، فإن باع عبدًا بعبدين، أو بعيرًا ببعيرين إلى أجل، فمذهب الجمهور جوازه. وَقَالَ أبو حنيفة، والكوفيون: لا يجوز، وفيه مذاهب لغيرهم، سيأتي تحقيقها، مع أدلّتها فِي محلّها، منْ "كتاب البيوع"، إن شاء الله تعالى.
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى: فيه دليلٌ عَلَى أن الأصل فِي الناس الحرّيّة، ولذلك لم يسأله النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم إذ حمله عَلَى ذلك الأصل، حيث لم يَظهر له ما يُخرجه عن ذلك، ولو لم يكن الأمر كذلك لتعيّن أن يسأله. وهذا أصل مالك فِي الباب، فكلُّ منْ ادّعى ملك أحد منْ بني آدم كَانَ مدفوعًا إلى بيان ذلك، لكن إذا ناكره المدّعى رقّه، وادّعَى الحرية، وسواء كَانَ ذلك المدّعى رقّه ممن كثُر ملك نوعه، أو لم يكن، فإن كَانَ فِي حوز المدّعِي لرقّه كَانَ القول قوله، إذا كَانَ حَوْز رقّ، فإن لم يكن، فالقول قول المدّعَى عليه مع يمينه. انتهى
(1)
. (ومنها): أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم منْ الغيب إلا ما أعلمه الله تعالى، حيث إنه بايع هَذَا العبد، ولم يعلم بحاله. (ومنها): الأخذ بالأحوط؛ لأنه صلّى الله تعالى عليه وسلم كَانَ بعد ذلك لا يبايع أحدًا حتى يسأل أهو عبدٌ؟. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
22 - (اسْتِقَالَةِ الْبَيْعَةِ)
4187 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الإِسْلَامِ، فَأَصَابَ الأَعْرَابِيَّ وَعَكٌ بِالْمَدِينَةِ، فَجَاءَ الأَعْرَابِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، ثُمَّ جَاءَهُ، فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، فَخَرَجَ الأَعْرَابِيُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ، تَنْفِي خَبَثَهَا، وَتَنْصَعُ طَيِّبَهَا").
(1)
"المفهم" 4/ 510 - 511.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.
و"مالك": هو ابن أنس إمام دار الهجرة. و"محمّد بن المنكدر" المدنيّ الثقة [3] تقدم قريباً. والسند منْ رباعيّات المصنّف، كسابقيه، وهو (194) منْ رباعيّات الكتاب. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بن عمرو بن حَرَام رضي الله تعالى عنهما. ووقع عند البخاريّ فِي "الأحكام" تصريح محمّد بن المنكدر بالسماع منْ جابر، ولفظه:"سمعت جابرًا"(أَنَّ أَعْرَابِيًّا) قَالَ الحافظ: لم أقف عَلَى اسمه، إلا أن الزمخشريّ ذكر فِي "ربيع الأبرار" أنه قيس بن أبي حازم، وهو مشكلٌ؛ لأنه تابعيّ كبير مشهورٌ، صرّحوا بأنه هاجر، فوجد النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم قد مات، فإن كَانَ محفوظًا، فلعلّه آخر، وافق اسمه، واسم أبيه، وفي الذيل لأبي موسى فِي الصحابة: قيس بن أبي حازم المنقريّ، فيحتمل أن يكون هو هَذَا. انتهى
(1)
.
(بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الإِسْلَامِ فَأَصَابَ الأَعْرَابِيَّ وَعَكٌ) بفتح الواو، وسكون المهملة، وَقَدْ تُفتح، بعدها كاف: الْحُمّى، وقيل: ألمها، وقيل: إرعادها. وَقَالَ الأصمعيّ: أصله شدّة الحرّ، فأُطلق عَلَى حرّ الحمّى، وشدّتها (بِالْمَدِينَةِ، فَجَاءَ الأَعْرَابِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقِلْنِي بَيْعَتِي) بفتح الهمزة، منْ الإقالة، أي ارفع عنّي البيعة التي بايعتنيها، يقال: أقال الله عَثْرته: إذا رفعه منْ سقوطه، ومنه الإقالة فِي البيع؛ لأنها رفع العقد، وقاله قَيْلاً، منْ باب باع لغةٌ. قاله الفيّوميّ. وهذا منْ الأعرابيّ سوء ظنّ، حيث توهّم أن ما أصابه منْ الوعك إنما هو بسبب ما فَعَل منْ البيعة، فتوهّم أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم لو أقاله لَذَهب ما لحِقه منْ الوعك.
ثم إنّ ظاهره أنه سأل الإقالة منْ الإِسلام، وبه جزم القاضي عياض. وَقَالَ غيره: إنما استقاله منْ الهجرة، وإلا لكان قتله عَلَى الرّدّة.
(فَأَبَى) قَالَ ابن التين: إنما امتنع النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم منْ إقالته؛ لأنه لا يُعين عَلَى معصية؛ لأن البيعة فِي أول الأمر كانت عَلَى أن لا يخرُج منْ المدينة إلا بإذنه، فخروجه عصيان، قَالَ: وكانت الهجرة إلى المدينة فرضًا قبل فتح مكة عَلَى كلّ منْ أسلم، ومن لم يهاجر لم يكن بينه وبين المؤمنين موالاةٌ؛ لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]، فلمّا فُتحت مكة، قَالَ
(1)
"فتح" 4/ 584 "كتاب فضائل المدينة" حديث: 1883.
صلّى الله تعالى عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح"، ففي هَذَا إشعارٌ بأن مبايعة الأعرابيّ المذكور كانت قبل الفتح.
(ثُمَّ جَاءَهُ، فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، فَخَرَجَ الأَعْرَابِيُّ) أي منْ المدينة قصدًا لإقالة أثر البيعة (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ) بكسر الكاف: زِقّ الْحَدّاد الذي يَنفُخ به، ويكون أيضاً منْ جِلْد غليظ، وله حافاتٌ، وجمعه كِيَرَةٌ، مثلُ عِنَبَة، وأَكيارٌ. وَقَالَ ابن السّكّيت: سمعتُ أبا عمرو يقول: الْكُورُ بالواو: المبنيّ منْ الطين، والكِير بالياء: الزِّقّ، والجمع أكيارٌ، مثلُ حِمْلٍ وأحمالٍ. قاله الفيّوميّ.
وَقَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: هَذَا تشبيه واقعٌ؛ لأن الكبير لشدّة نفخه ينفي عن النار السُّخَام
(1)
، والدخان، والرماد، حتى لا يبقى إلا خالص الجمر والنار. هَذَا إن أراد بالكير المِنفَخ الذي تُنفخ به النار، وإن أراد به الموضع المشتمل عَلَى النار، وهو المعروف عند أهل اللغة، فيكون معناه: أن ذلك الموضع لشدة حرارته ينزع خَبَثَ الحديد، والذهب، والفضّة، ويُخرج خلاصة ذلك، والمدينة كذلك؛ لما فيها منْ شدّة العيش، وضيق الحال تخلّص النفس منْ شهواتها، وشرَهها، ومَيلها إلى اللذّات، والمستحسنات، فتتزكّى النفس عن أدرانها، وتبقى خلاصتها، فيظهر سرّ جوهرها، وتعُمّ بركاتها. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "لما فيها منْ شدّة العيش الخ" فيه نظر؛ إذ لو كَانَ لذلك لكان كلّ بلد فيه شدّة عيش، وخشونة حال أن يكون كذلك، فلا يكون للمدينة فضلٌ أصلاً، بل الحق أن ذلك لخصوصيّة المدينة، وما جعل الله تعالى فيها منْ السرّ العظيم، حيث كانت مُهاجَرَ رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم، ومهبط وحيه، فتنفي الأشرار، وتبقي الأخيار. والله تعالى أعلم.
(تَنْفِي) بفتح أوله: أي تُخرج (خَبَثَهَا) بمعجمة، وموحّدة، مفتوحتين (وَتَنْصَعُ) بفتح أوله، وسكون النون، وبالمهملتين، منْ النُّصُوع، وهو الخلوص، والمعنى أنها إذا نفت الخبت تميّز الطيب، واستقرّ فيها (طِيبَهَا) قَالَ فِي "الفتح": ضبطه الأكثر بالنصب عَلَى المفعوليّة، وفي رواية الكشميهني بالتحتانيّة أوله، ورفع "طيبها" عَلَى الفاعليّة، و"طَيّبها" للجميع بالتشديد. وضبطه القزّاز بكسر أوله، والتخفيف، ثم استشكله، فقال: لم أر للنصوع فِي الطيب ذكراً، وإنما الكلام يتضوّع بالضاد المعجمة، وزيادة الواو الثقيلة، قَالَ: ويروى "وتنضخ" بمعجمتين. وأغرب الزمخشريّ فِي "الفائق"، فضبطه بموحّدة،
(1)
"السُّخام" كالغُراب: الفحم، وسواد القدر. اهـ ق.
وضاد معجمة، وعين، وَقَالَ: هو منْ أبضعه بضاعة: إذا دفعها إليه، يعني المدينة تُعطي طيبها لمن سكنها. وتعقّبه الصغانيّ بأنه خالف جميع الرواة فِي ذلك. وَقَالَ ابن الأثير: المشهور بالنون، والصاد المهملة. انتهى
(1)
.
وَقَالَ القرطبيّ: قوله: "وينصع طيبها" أي يصفو، ويخلُص، يقال. طيبٌ ناصعٌ: إذا خلصت رائحته، وصَفَت مما ينقصها. وروينا "طيبها" هنا يعني "صحيح مسلم" بفتح الطاء، وتشديد الياء، وكسرها. وَقَدْ رويناه فِي "الموطّإ" هكذا، وبكسر الطاء، وتسكين الياء، وهو أليق بقوله: وينصع؛ لأنه يقال: نصع الطيب: إذا قويت رائحته. انتهى
(2)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي رأيته فِي كتب اللغة التي بين يديّ أن "نصع" لازم، ففي نصب "طيبها" به نظر لا يخفى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -22/ 4187 - وفي "الكبرى" 26/ 7808. وأخرجه (خ) فِي "الحجّ 1883 و"الأحكام" 7209 (م) فِي "الحجّ" 1383 (ت) فِي "المناقب" 3920 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 13882 و13888 و14520 و14795 (الموطأ) فِي "الجامع" 1639. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو حكم استقالة البيعة، وهو التحريم، فلا يجوز لمن بايع عَلَى الإِسلام أن يترك الإِسلام، ولا لمن بايع عَلَى الهجرة إلى النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم أن يترك الهجرة. (ومنها): بيان فضل المدينة، وهو أن الله سبحانه وتعالى جعلها كالكير تنفي أشرار الناس، وتخلّص أخيارها.
(ومنها): ما قاله ابن المنيّر رحمه الله تعالى: ظاهر الحديث ذمّ منْ خرج منْ المدينة، وهو مشكلٌ، فقد خرج منها جمع كثير، منْ الصحابة، وسكنوا غيرها منْ البلاد، وكذا منْ بعدهم منْ الفضلاء.
(1)
"فتح" 4/ 585. "كتاب فضائل المدينة".
(2)
"المفهم" 4/ 498 - 499.
والجواب أن المذموم منْ خرج عنها كراهةً لها، ورغبة عنها، كما فعل الأعرابيّ المذكور، وأما المشار إليهم، فإنما خرجوا لمقاصد صحيحة، كنشر العلم، وفتح بلاد الشرك، والمرابطة فِي الثغُور، وجهاد الأعداء، وهم مع ذلك عَلَى اعتقاد فضل المدينة، وفضل سكناها. انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
23 - (الْمُرْتَدِّ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ)
أي الذي يصير أعرابيًا، ساكنا بالبادية بعد أن يهاجر.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر منْ هذه الترجمة أن المصنّف رحمه الله تعالى يرى تحريم الرجوع إلى البادية بعد الهجرة؛ لأنه سيأتي له فِي "كتاب الزينة" 25/ 5104 - بإسناد صحيح، منْ طريق الحارث بن عبد الله، عن عبد الله بن مسعود، قَالَ:"آكل الربا، وموكله، وكاتبه، إذا علموا ذلك، والواشمة، والموشومة للحسن، ولاوي الصدقة، والمرتد أعرابيا بعد الهجرة، ملعونون عَلَى لسان محمد صلى الله عليه وسلم، يوم القيامة". فترجمته هنا بلفظ الحديث يدلّ عَلَى عدم الجواز، وأيضاً تعنيف الحجّاج لسلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه فِي حديث الباب، إلى أن أعلمه بأنه صلّى الله تعالى عليه وسلم أذن له فِي ذلك، يرشد إلى ذلك، وعلى هَذَا، فيُستثنى منْ أذن له النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم.
ويحتمل أيضاً أن يكون هَذَا مقيّدًا بما إذا لم يكن هناك ضرر، وإلا فلا تحريم؛ لحديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه، مرفوعًا:"يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمًا يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفرّ بدينه منْ الفتن". أخرجه البخاريّ، وأبو داود، والمصنّف، وسيأتي فِي "كتاب الإيمان" 30/ 5038 - وابن ماجه.
ولهذا ترجم الإِمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "كتاب الفتن" منْ "صحيحه" بقوله: "بَاب التَّعَرُّب فِي الْفِتْنَة". ثم أورد فيه حديث سلمة بن الأكوع المذكور فِي الباب، وحديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه هَذَا.
(1)
راجع "الفتح" 15/ 112 "كتاب الأحكام" حديث: 7210.
قَالَ فِي "الفتح": "التعرّب": بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلة، وَالرَّاء الثَّقِيلة: أيْ السُّكْنَى مَعَ الأَعْرَاب، بِفتحِ الألِف، وهُو أن ينتقِل المُهاجِر منْ البلد الَّتِي هاجر مِنها، فيسكُن البدو، فيرجِع بعد هِجرته أعرابِيًا، وكان إِذ ذاك مُحرَّمًا، إِلا إن أذِنَ لهُ الشَّارع فِي ذَلِكَ.
وقيَّدهُ بِالفِتنةِ، إِشارة إِلى ما ورد منْ الإذْنِ فِي ذَلِكَ، عِند حُلُول الفِتن. وقِيل: بِمنعِهِ فِي زمن الفِتنة؛ لِما يترتب عَلَيْهِ منْ خِذلان أهْل الحَقّ، ولكِن نظر السَّلف اخْتَلف فِي ذَلِكَ: فمِنهُم منْ آثر السَّلامة، واعتزل الْفِتن، كَسَعْدٍ، ومُحمَّد بن مَسْلمة، وابن عُمر، فِي طائفة. ومِنهُم منْ باشَرَ القِتَال، وهُم الْجُمْهُور.
قَالَ: وَوَقَع فِي رِواية كرِيمة "التَّعَزُّب" بِالزَّايِ، وَبَيْنَهُمَا عُمُومِ وخُصُوص، وَقَالَ صاحِب "المَطَالِع": وجدته بِخَطِّي فِي البُخارِيّ بالزَّاي، وأخْشَى أن يكُون وَهمًا، فإِنْ صَحَّ فمعناهُ: الْبُعْد، والاعْتِزال. انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب.
4188 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ الأَكْوَعِ، ارْتَدَدْتَ عَلَى عَقِبَيْكَ، وَذَكَرَ كَلِمَةً، مَعْنَاهَا: وَبَدَوْتَ، قَالَ: لَا، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لِي فِي الْبُدُوِّ).
رجال هَذَا الإسناد: أربعة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد القفي، ثقة ثبت [10] 1/ 1.
2 -
(حاتم بن إسماعيل) الحارثيّ، أبو إسماعيل المدنيّ، صدوقٌ يهم، صحيح الكتاب [8] 24/ 543.
3 -
(يزيد بن أبي عُبيد) الأسلميّ، مولى سلمة بن الأكوع المدنيّ، ثقة [4] 67/ 1961.
4 -
(سلمة بن الأكوع) هو سلمة بن عمرو بن الأكوع، نُسب لجدّه الصحابيّ المشهور رضي الله تعالى عنه 15/ 765. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى، كأحاديث الأبواب الثلاثة الماضية، وهو (195). (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، والظاهر أنه دخلها. (ومنها): أن هَذَا الإسناد مما وافق فيه المصنّف الشيخين، فقد أخرجا هَذَا الحديث فِي "صحيحيهما" بنفس هَذَا الإسناد. والله تعالى أعلم.
(1)
"فتح" 14/ 539 "كتاب الفتن" حديث: 7087.
شرح الحديث
(عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ) رضي الله تعالى عنه (أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْحَجَّاجِ) هو ابن يوسف الثقفيّ الأمير المشهور، وكان ذلك لَمّا ولي الحجّاج إمرأة الحجاز بعد قتل ابن الزبير، فسار منْ مكة إلى المدينة، وذلك فِي سنة أربع وسبعين. قاله فِي "الفتح"(فَقَالَ) أي الحجّاج (يَا ابْنَ الأَكْوَعِ، ارْتَدَدْتَ عَلَى عَقِبَيْكَ) كأنه أشار إلى ما جاء منْ الحديث فِي ذلك، كما تقدّم عند عدِّ الكبائر، فإن منْ جملة ما ذُكر فِي ذلك:"منْ رجع بعد هجرته أعرابيًّا"، وسيأتي للمصنّف فِي "كتاب الزينة" 25/ 5104 - منْ حديث ابن مسعود، رفعه:"لعن الله آكل الربا، وموكله" الحديث، وفيه:"والمرتد أعرابيًّا بعد الهجرة ". قَالَ ابن الأثير فِي "النهاية": كَانَ منْ رجع بعد هجرته إلى موضعه منْ غير عذر يعدّونه كالمرتدّ. وَقَالَ غيره: كَانَ ذلك منْ جفاء الحجّاج، حيث يُخاطب هَذَا الصحابيّ الجليل بهذا الخطاب القبيح منْ قبل أن يستكشف عن عذره، ويقال: إنه أراد قتله، فبين الجهة التي يُريد أن يجعله مستحقًا للقتل بها. وَقَدْ أخرج الطبراني منْ حديث جابر بن سمُرة رضي الله تعالى عنهما، رفعه:"لعن الله منْ بدا بعد هجرته، إلا فِي الفتنة، فإن البدو خير منْ المقام فِي الفتنة"(وَذَكَرَ كَلِمَةً، مَعْنَاهَا: وَبَدَوْتَ) أي سكنت البادية. ولفظ البخاريّ: "ارتددت عَلَى عقبيك، تعرّبت"(قَالَ) سلمة رضي الله تعالى عنه (لَا) أي لم أسكن البادية رجوعًا عن هجرتي (وَلَكِنَّ) بتشديد النون، وتخفيفها (رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بنصب "رسول" عَلَى أنه اسم "لكنّ"، ورفعه عَلَى الابتداء (أَذِنَ) بكسر الذال المعجمة، منْ باب علم (لِي فِي الْبَدْو) بفتح، فسكون: أي الخروج إلى البادية، فلا ينافي الخروجُ إليها الهجرة. وفي رواية حمّاد بن سلمة، عن يزيد بن أبي عُبيد، عن سلمة أنه استأذن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فِي البداوة، فأذن له. أخْرَجَهُ الإسْمَاعِيليّ. وفِي لفظ لهُ:"اسْتأذَنْت النَّبيّ صلى الله عليه وسلم".
[تنبيه]: ذكر فِي "الفتح" أنه وقع لِسلمة فِي ذَلِكَ قِصَّة أُخرى، مع غير الحَجَّاج، فقد أخرج أحمد، منْ طرِيق سعِيد بن إِياس بن سلمة، أنَّ أباهُ حدثهُ، قَالَ:"قدِم سَلَمَة المدِينة، فلقِيهُ بُريدةُ بن الحُصَيب، فقال: ارتددت عن هِجْرتكِ، فقال: معاذ الله، إِنِّي فِي إِذْن منْ رسُول الله صلى الله عليه وسلم، سَمِعْته يَقُول: "ابدُوا، يا أسلم" -أي القبيلة المشهُورة الَّتِي مِنْها سَلَمة، وأبُو بَرْزة، وبُريدة المذكُور- قالُوا: إِنَّا نخاف أن يقدح ذَلِكَ فِي هِجْرتنَا، قَالَ: أنتُم مُهاجِرُون حيثُ كُنْتم". ولهُ شاهِد مِنْ رِواية عمرو بن عبد الرَّحمن بن جَرهَد، قَالَ: "سَمِعت رجُلًا، يقُول لِجابِرٍ: منْ بقِي منْ أصْحَاب رسُول الله صلى الله عليه وسلم؟، قَالَ: أنَس ابن مالِك، وَسَلَمة بن الأكْوَع، فقال رجُل: أمَّا سلمة، فقد ارتدَّ عن هِجرته، فَقال: لا
تقُل ذَلِكَ، فإِنِّي سمِعت رسُول الله صلى الله عليه وسلم يقُول لِأسْلَمَ:"ابدُوا" قالُوا: إِنَّا نخاف أن نرتدّ بعد هِجرتنا، قَالَ: أنتم مُهاجِرُون حيثُ كُنتُم". وسند كُلّ مِنهُما حسن. قاله فِي "الفتح"
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -23/ 4188 - وفي "الكبرى" 27/ 7809. وأخرجه (خ) فِي "الفتن" 7087 (م) فِي "الإمارة" 1862 (أحمد) فِي "أول مسند المدنيين" 16073. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم المرتدّ أعرابيّا بعد الهجرة، وهو عدم الجواز إلا بإذن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم.
قَالَ القاضي عِياض رحمه الله تعالى: أجمعت الأمة عَلَى تحرِيم ترك المُهاجِر هِجرته، ورُجُوعه إِلى وطنه، وعلى أنَّ أرتِداد المُهاجِر أعْرابِيًا منْ الكبائِر، قَالَ: لِهذا أشار الحجَّاج إِلى أنْ أعلمهُ سلمة أنَّ خُرُوجه إِلى البادِية، إِنَّما هُو بإِذْنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: ولعلهُ رجع إِلى غَير وطنه، أو لِأنَّ الغرض فِي مُلازمة المُهاجِر، أرضه الَّتِي هاجر إِليها، وفرْض ذَلِكَ عَلَيْهِ إِنَّما كَانَ فِي زمن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم؛ لِنُصرتِهِ، أو لِيكُون معهُ، أو لأنَّ ذَلِكَ إِنَّما كَانَ قبل فتح مكة، فَلمَّا كَانَ الفتح، وأظْهَر الله الإسلام عَلَى الدِّين كُلّه، وأذَلَّ الكُفْر، وأعَزَّ المسلِمِين، سقط فرض الهِجرة، فقال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:"لا هِجرة بعد الفتح"، وَقَالَ:"مضت الْهِجْرة لِأهلِها"، أيْ الَّذين هَاجرُوا منْ دِيارهم، وأموالهم، قبل فتح مكة؛ لِمُواساةِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، ومُؤَازَرته، ونُصْرة دِينه، وضبط شَرِيعَته.
قَالَ الْقَاضي: ولم يَخْتلِف العُلَمَاء فِي وُجُوب الهِجرة عَلَى أهل مَكَّة، قبل الْفَتْح، واخْتُلِف فِي غيرهم، فقِيل: لَمْ تكُن واجِبة عَلَى غيرهم، بَلْ كانت ندبًا، ذَكَرهُ أبُو عُبيد فِي "كتاب الأمْوَال"؛ لِأنَّهُ صلى الله عليه وسلم لم يَأْمُر الوُفُود عَلَيْهِ، قبل الفتح بِالهِجرةِ، وقِيل: إِنَّمَا
(1)
"فتح" 14/ 538 - 539. "كتاب الفتن".
كانت واجِبة عَلَى منْ لم يُسلِم كُلّ أهل بلده؛ لِئلا يَبْقى فِي طوع أحكام الكُفَّار. انتهى
(1)
.
(ومنها): ما كَانَ عليه سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه منْ الصبر، والتحمّل عَلَى ما لقيه منْ الحجّاج منْ الجراءة، والازدراء به. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): زاد فِي رواية البخاريّ بالسند المذكور: قوله: "وعن يزيد بن أبي عبيد، قَالَ: لما قُتل عثمان بن عفان خرج سلمة بن الأكوع، إلى الرَّبذة، وتزوج هناك امرأة، وولدت له أولادا، فلم يزل بها، حتى قبل أن يموت بليال، فنزل المدينة".
و"الرَّبَذَةُ" -بِفَتْحِ الرَّاء، والمُوحَّدة، بعْدها مُعْجَمَة-: موضع بِالبَادِيةِ، بين مَكَّة والمَدِينَة.
قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: ويُسْتفاد منْ هذِهِ الرِّواية، مُدّة سُكْنَى سَلَمة البَادِية، وهِي نحو الأربعِين سنة؛ لِأنَّ قتل عُثمان كَانَ فِي ذِي الحِجَّة، سنة خمس وثلاثِين، وموت سلمة سنة أربع وسبعِين، عَلَى الصَّحِيح.
قَالَ: وهذا يُشْعِر بِأنَّ سلمة لم يمُت بِالبادِيةِ، كما جزم بِهِ يحيى بن عبد الوَهَّاب بن مَنْدَهْ، فِي الجُزْء الَّذِي جمعهُ، فِي آخِر منْ مات منْ الصَّحابة، بل مات بِالْمدِينةِ، كَمَا تقتضِيه رِواية يزِيد بن أبِي عُبيد هَذِهِ، وبِذلِك جزم أبُو عبد الله بن مَنْدَهْ، فِي "معرِفة الصَّحابة".
وفِي الحديث أيضًا، ردّ عَلَى منْ أرَّخَ وفاة سلمة، سنة أربع وسِتِّين، فإِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي آخِر خِلافة يزِيد بن مُعاوِية، ولم يكُنْ الحجَّاج يؤمئِذٍ أميرًا، ولا ذا أَمْر، ولا نَهي، وكذا فِيهِ رَدّ عَلَى الْهَيثم بن عَدِيّ، حيثُ زَعَم أَنَّهُ مات فِي آخِر خِلافة مُعاوِية، وهُو أشَدّ غلطًا منْ الأول، إِن أراد مُعاوية بن أبِي سُفيان، وإن أراد مُعاوِية بن يزِيد بن مُعاوِية، فهُو عين القول الَّذِي قَبْلهُ. وَقَدْ مَشَى الكرمانِيُّ عَلَى ظاهِره، فقال: مَاتَ سَنَة سِتِّين، وهِي السَّنة الَّتِي مات فِيها مُعاوِية بن أبِي سُفيان. كذا جزم بِهِ، والصَّواب خِلافه. وَقَدْ اعترض الذَّهبِيّ عَلَى منْ زعم أَنَّهُ عاش ثمانِين سنة، ومات سنة أربع وسبعِين؛ لِأنَّهُ يلزم مِنْهُ أن يكُون لهُ فِي الحُدَيبِية اثنتا عشرة سنةً، وهُو باطِل؛ لِأنَّهُ ثبت أَنَّهُ قاتل يؤمئِذٍ، وبايع.
قَالَ الحافظ: وهُوَ اعْتِراض مُتَّجِه، لكِنْ ينبغِي أن يَنْصرِف إِلى سَنَة وفاته، لا إِلَى
(1)
"شرح مسلم للنوويّ" 13/ 10. "كتاب الإمارة".
مبلغ عُمره، فلا يلزم مِنْهُ رُجْحان قول مَنْ قَالَ: مات سنة أربع وسِتِّين، فاِنَّ حدِيث جابِر يدُلّ عَلَى أَنَّهُ تأخر عنها؛ لِقولِهِ: لم يبق منْ الصَّحابة إِلا أنس، وسَلَمة، وذلِك لائِق بِسَنَةِ أربع وسبعِين، فقد عاش جابِر بن عند الله بعد ذَلِكَ، إِلى سنة سبع وسبعِين، عَلَى الصَّحِيح. وقِيل: مات فِي الَّتِي بعدها، وقِيل قبل ذَلِكَ. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
24 - (الْبَيْعَةِ فِيمَا يَسْتَطِيعُ الإِنْسَانُ)
4189 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ ح وَأَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كُنَّا نُبَايِعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، ثُمَّ يَقُولُ:"فِيمَا اسْتَطَعْتَ".
وَقَالَ عَلِيٌّ: "فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرة. و"سفيان": هو ابن عيينة. و"إسماعيل": هو ابن جعفر بن أبي كثير المدنيّ.
[تنبيه]: هَذَا السند منْ رباعيّات المصنّف، كأسانيد الأبواب الأربعة الماضية، وهو (196) منْ رباعيّات الكتاب. وشرح الحديث، وفوائده تقدّمت فِي شرح حديث جرير رضي الله تعالى عنه قبل أبواب.
وقوله: "وَقَالَ عليّ": يعني أن علي بن حجر ذكره فِي روايته بلفظ: "فيما استطعتم"، بدل ذكر قتيبة بلفظ:"فيما استطعت". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
(1)
"فتح" جـ 1/ 539 - 540. "كتاب الفتن" حديث: 7087.
أخرجه هنا -24/ 4189 و4190 - وفي "الكبرى" 28/ 7810 و7811. وأخرجه (خ) فِي "الأحكام" 7202 (م) فِي "الإمارة" 1867 (د) فِي "الخراج" 2940 (ت) فِي "السير" 1593 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 4551 و5260 و5506 و5737 و6207 (الموطأ) فِي "الجامع" 1841. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4190 -
(أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كُنَّا حِينَ نُبَايِعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، يَقُولُ لَنَا: "فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلّهم منْ رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"الحسن بن محمد": هو الزعفرانيّ البغداديّ. و"حجّاجٌ": هو ابن محمّد الأعور المصّيصيّ. والسند أنزل منْ سابقه بدرجتين.
والحديث متَّفقٌ عليه، كما تقدّم الكلام عليه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4192 -
(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيَّارٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: بَايَعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَلَقَّنَنِي: "فِيمَا اسْتَطَعْتَ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "يعقوب بن إبراهيم": هو الدَّوْرَقي البغداديّ الحافظ، أحد مشايخ الستّة. و"هُشيم": هو ابن بشير. و"سيّار": هو ابن أبي سيّار ورد. و"الشعبيّ": هو عامر بن شَرَاحيل.
وقوله: "والنصح لكلّ مسلم": قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: الظاهر أنه بالنصب عطف عَلَى "فيما استطعت": أي فلقّنني هذين اللفظين. ويحتمل الجرّ عَلَى العطف عَلَى الموصول، وفيه بُعْدٌ، فإن النصح مما وقع عليه البيعة، كالسمع، والطاعة، وليس المراد السمع، والطاعة فِي المستطاع، وفي النصح، فليُتأمل. انتهى
(1)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الوجه الذي ذكره للجر غير صحيح، بل الصواب أنه فِي حالة الجرّ عطف عَلَى السمع، والطاعة، والمعنى: بايعت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عَلَى السمع، والطاعة، والنصح لكلّ مسلم، ثم إنه صلّى الله تعالى عليه وسلم رفقًا به لقّنه أن يقيّد التزامه للسمع والطاعة باستطاعته؛ لئلا يقع فِي الحرج،
(1)
"شرح السنديّ" 7/ 152 - 153.
هَذَا وجه العطف فِي حالة الجرّ، وأما عطفه عَلَى الموصول، فمما لا شكّ فِي بطلانه، فتبصّر.
والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم تمام شرحه، وبيان مسائله فِي 6/ 4158 - . والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4193 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ أُمَيْمَةَ بِنْتِ رُقَيْقَةَ، قَالَتْ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نِسْوَةٍ، فَقَالَ لَنَا: "فِيمَا اسْتَطَعْتُنَّ، وَأَطَقْتُنَّ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، و"سفيان": هو ابن عيينة.
[تنبيه]: هَذَا السند منْ رباعيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (197) منْ رباعيات الكتاب، والحديث صحيح، وتقدّم بأتمّ منْ هَذَا فِي 18/ 4183 - وتقدّم شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
25 - (ذِكْرِ مَا عَلَى مَنْ بَايَعَ الإِمَامَ، وَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ)
4194 -
(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ، قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، وَالنَّاسُ عَلَيْهِ مُجْتَمِعُونَ، قَالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: بَيْنَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، إِذْ نَزَلْنَا مَنْزِلاً، فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُ خِبَاءَهُ، وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ، وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشْرَتِهِ، إِذْ نَادَى مُنَادِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"الصَّلَاةَ جَامِعَةً"، فَاجْتَمَعْنَا، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَخَطَبَنَا، فَقَالَ: "إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي، إِلاَّ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ، أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى مَا يَعْلَمُهُ خَيْرًا لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ مَا يَعْلَمُهُ شَرًّا لَهُمْ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ، جُعِلَتْ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَإِنَّ آخِرَهَا سَيُصِيبُهُمْ بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ يُنْكِرُونَهَا، تَجِيءُ فِتَنٌ، فَيُدَقِّقُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ، فَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ، ثُمَّ تَجِيءُ، فَيَقُولُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ
يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتُدْرِكْهُ مَوْتَتُهُ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ، مَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ، وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا، فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُنَازِعُهُ، فَاضْرِبُوا رَقَبَةَ الآخَرِ"، فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَقُلْتُ: سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ).
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(هنّاد بن السريّ) بن مصعب التميميّ، أبو السريّ الكوفيّ، ثقة [10] 23/ 25.
2 -
(أبو معاوية) محمّد بن خازم الضرير البصريّ، ثقة، أثبت الناس فِي الأعمش، وَقَدْ يهم فِي حديث غيره، منْ كبار [9] 26/ 30.
3 -
(الأعمش) سليمان بن مِهران الكوفيّ، ثقة ثبت ورعٌ، لكنه يدلّس [5] 17/ 18.
4 -
(زيد بن وهب) الجهنيّ، أبو سليمان الكوفيّ، مخضرم ثقة جليل [2] 26/ 30.
5 -
(عبد الرحمن بن عبد ربّ الكعبة) العائذيّ بمهملة، وتحتانية- وقيل: الصائديّ -بالصاد المهملة- كوفيّ ثقة [3].
روى عن ابن مسعود، وعبد الله بن عمرو. وعنه زيد بن وهب، والشعبيّ، وعون ابن أبي شدّاد العُقيليّ. قَالَ العجليّ: تابعيّ ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". روى له الجماعة، سوى البخاريّ، والترمذيّ، وله عندهم حديث الباب فقط.
6 -
(عبد الله بن عمرو) بن العاص رضي الله تعالى عنهما 89/ 111. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين. (ومنها): أن فيه ثلاثةٌ منْ التابعين، يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن زيد، عن عبد الرحمن. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ) العائذيّ، أنه (قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) ابن العاص، وفي رواية مسلم: دخلت المسجد، فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس فِي ظلّ الكعبة" (وَهُوَ جَالِسٌ فِى ظِلِّ الْكَعْبَةِ) جملة فِي محل نصب عَلَى الحال، وكذا قوله (وَالنَّاسُ عَلَيْهِ مُجْتَمِعُونَ) فهما حالان متدخلان، أو مترادفان (قَالَ) عبد الرحمن (فَسَمِعْتُهُ) أي عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما (يقُولُ: بَيْنَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى سَفَرٍ إِذْ نَزَلْنَا مَنْزِلاً فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُ خِبَاءَهُ) وفي رواية مسلم: "فمنا منْ يُصلح خباءه" (وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ) أي يرمي بالسهام تدرّبًا، ومدامةً، والمناضلة:
المراماة بالسهام. قاله القرطبيّ (وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِى جَشْرَتِهِ) هكذا وقع فِي النسخ المطبوعة، بإضافة "جشرة" إلى ضمير الغالب، وَقَالَ السنديّ فِي "شرحه": أي فِي إخراج الدوابّ إلى المرعى. ووقع فِي النسخة الهنديّة: "جشرة" بغير إضافة، ولفظ مسلم:"فِي جشره" بإضافة "جشر" إلى ضمير الغائب. قَالَ النوويّ فِي "شرحه": هو بفتح الجيم والشين: وهي الدّوابّ التي ترعى، وتبيت مكانها. انتهى.
وَقَالَ فِي "اللسان": وجشرُوا الخيلَ، وجَشَّرُوها: أرسلوها فِي الجشر، والْجَشْرُ: أن يخرجوا بخيلهم، فيرعوها أمام بيوتهم، وأصبحوا جَشْرًا أي بالسكون -وجشرًا أي بفتحتين-: إذا كانوا يبيتون مكانهم، لا يرجعون إلى أهليهم. وَقَالَ أيضًا وجَشَرنا دوابّنا: أخرجناها إلى المرعى نَجشُرُها جشرًا بالإسكان. قَالَ: وفي حديث عثمان رضي الله تعالى عنه، أنه قَالَ:"لا يغُرّنّكم جَشَرُكم منْ صلاتكم، فإنما يقصُر الصلاة منْ كَانَ شاخصًا، أو يحضره عدوّ. قَالَ أبو عبيد: الجشر القوم يخرجون بدوابّهم إلى المرعى، ويبيتون مكانهم، ولا يأوون إلى البيوت، وربّما رأوه سفرًا، فقصروا الصلاة، فنهاهم عن ذلك؛ لأن المقام فِي المرعَى، وإن طال فليس بسفر. انتهى المقصود منْ "اللسان" باختصار، وتصرّف.
وَقَالَ فِي "القاموس": "الْجَشْرُ" أي بالسكون-: إخراج الدوابّ للرعي، كالتجشير. قَالَ: وبالتحريك: المال الذي يرعى فِي مكانه، لا يرجع إلى أهله بالليل، والقوم يبيتون مع الإبل. انتهى باختصار.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: أفاد ما ذُكر أن الجشر إذا كَانَ مصدرًا بمعنى إخراج الدوابّ للرعي يُضبط بسكون الشين، وأما الجشر بالتحريك، فهي الإبل التي ترعى فِي مكانها، والمعنيان مناسبان هنا ، ولعل التاء فِي "الجشرة" فِي رواية المصنّف للمرّة. والله تعالى أعلم.
(إِذْ نَادَى مُنَادِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "الصَّلَاةَ جَامِعَةً") قَالَ النوويّ: هو بنصب "الصلاة" عَلَى الإغراء، و"جامعةً" عَلَى الحال.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه الجملة تحتمل أربعة أوجه: رفع الجزءين عَلَى الابتداء والخبر، ونصبهما عَلَى ما قاله النوويّ، ورفع الأول، ونصب الثاني، عَلَى أن الأول مبتدأ، حُذِف خبره، أي الصلاة محضورةٌ، والثاني منصوب عَلَى الحال، ونصب الأول علي الإغراء، ورفع الثاني علي تقدير مبتدإ، أي هي جامعةٌ. والله تعالى أعلم.
وَقَالَ القرطبيّ: "الصلاة جامعة" خبر بمعنى الأمر، كأنه قَالَ: اجتمعوا للصلاة، وكأنه كَانَ وقت صلاة، فلما جاؤوا صلّوا معه، وسكت الراوي عن ذلك، وإلا فمن
المحال أن ينادي منادي الصادق بالصلاة، ولا صلاة. انتهى
(1)
.
(فَاجْتَمَعْنَا فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَخَطَبَنَا، فَقَالَ: "إِنَّهُ) الضمير للشأن، وهو الضمير الذي تفسّره الجملة بعده، وهي هنا قوله (لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي، إِلاَّ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ) أي واجبًا عليه؛ لأن ذلك منْ طريق النصيحة، والاجتهاد فِي التبليغ، والبيان (أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى مَا يَعْلَمُهُ خَيْرًا لَهُمْ) قَالَ السنديّ: منْ العلم: أي عَلَى شيء يعلم النبيّ ذلك الشيء خيرًا لهم انتهى (وَيُنْذِرَهُمْ مَا يَعْلَمُهُ شَرًّا لَهُمْ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ، جُعِلَتْ عَافِيَتُهَا) أي خلاصها عما يضرّ فِي الدين (فِي أَوَّلِهَا، وَإِنَّ آخِرَهَا سَيُصِيبُهُمْ بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ يُنْكِرُونَهَا) قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: يعني بأول الأمة زمانه، وزمان الخلفاء الثلاثة إلى قتل عثمان، فهذه الأزمنة كانت أزمنة اتّفاق هذه الأمة، واستقامة أمرها، وعافية دينها، فلمّا قُتل عثمان رضي الله تعالى عنه ماجت الفتن، كموج البحر، وتتابعت كقطع الليل المظلم، ثم لم تزل، ولا تزال متواليةً إلى يوم القيامة. وعلى هَذَا فأول آخر هذه الأمة المعنيّ فِي هَذَا الحديث مقتل عثمان رضي الله تعالى عنه، وهو آخرٌ بالنسبة إلى ما قبله، منْ زمان الاستقامة والعافية. وَقَدْ دلّ عَلَى هَذَا قوله:"وأمورٌ تنكرونها"، والخطاب لأصحابه، فدلّ عَلَى أن منهم منْ يُدرك أوّل ما سمّاه آخرًا، وكذلك كَانَ. انتهى كلام القرطبيّ
(2)
.
(تَجِيءُ) وفي رواية مسلم: "وتجيء" بالواو (فِتَنٌ، فَيُدَقِّقُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ) هكذا فِي معظم النسخ: "فيدقق" بالدال المهملة، فقافين، الأولى مشددة مكسورة: أي يجعل بعضها بعضًا دقيقًا: أي خفيفًا. والظاهر أن اللام فِي "لبعض" زائدة. وفي بعض النسخ: "فيَدْفِقُ" بالفاء بدل القاف الأولى: أي يدفع، ويصبّ، قَالَ القرطبيّ: يعني أنها كموج البحر الذي يَدْفِق بعضه بعضًا.
وَقَالَ السنديّ: وفي بعض النسخ براء مهملة، موضع الدال: أي يُصَيِّرُ بعضها بعضًا رقيقًا خفيّا، والحاصل أن المتأخّرة منْ الفتن أعظم منْ المتقدّمة، فتصير المتقدّمة عندها دقيقةً رفيقةً. انتهى.
وفي رواية مسلم: "فيرقّق بعضها بعضًا". قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: هذه اللفظة رُويت عَلَى أوجه:
[أحدها]: وهو الذي نقله القاضي عن جمهور الرواة، يُرقّق بضمّ الياء، وفتح الراء، وبقافين أن يَصِير بعضها رقيقًا: أي خفيفًا؛ لعظم ما بعده، فالثاني يجعل الأول رقيقًا. وقيل: معناه: يشبه بعضها بعضًا. وقيل: يدور بعضها فِي بعض، ويذهب، ويجيء.
(1)
"المفهم" 4/ 50 - 51.
(2)
"المفهم" 4/ 51. "كتاب الإمارة".
وقيل: معناه: يسوق بعضها إلى بعض بتحسينها، وتسويلها. [والوجه الثاني]: فيَرْفُقُ بفتح الياء، وإسكان الراء، وبعدها فاء مضمومة. [والثالث]: فيَدْفِقُ بالدال المهملة الساكنة، وبالفاء المسكورة: أي يدفع، ويصبّ، والدفق. الصبّ. انتهى كلام النوويّ
(1)
.
(فَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِي) يحتمل أن يكون بضم الميم، وكسر اللام، بصيغة اسم الفاعل، وأن يكون بفتح الميم، واللامِ، ظرفًا: أي هذه الفتنة محلّ هلاكي، أو زمانه (ثُمَّ تَنْكَشِفُ) أي تزول تلك الفتنة (ثُمَّ تَجِيءُ) أي فتنة أخرى (فَيَقُولُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ) ببناء الفعل للمفعول: أي يُنحّى عنها، ويُؤخّر منها (وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ) ببناء الفعل للمفعول أيضًا (فَلْتُدْرِكْهُ مَوْتَتُهُ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ، مَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ) أي ليؤد إليهم، ويفعل بهم ما يُحبّ أن يُفعَل به. وَقَالَ القرطبيّ: أي يجيء إلى الناس بحقوقهم منْ النصح، والنيّة الحسنة بمثل الذي يُحب أن يُجاء إليه به، وهذا مثلُ قوله صلى الله تعالى عليه وسلم:"لا يؤمن أحدكم حتى يُحبّ لأخيه ما يُحبّ لنفسه". متَّفقٌ عليه. والناس هنا: الأئمة، والأمراء، فيجب عليه لهم منْ السمع، والطاعة، والنصرة، والنصيحة، مثل ما لو كَانَ هو الأمير لكان يُحبّ أن يُجاء له به. انتهى
(2)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "والناس هنا الأئمة الخ" فيه نظرٌ لا يخفى، بل الأولى كونه عَلَى عمومه، فالمراد بالناس جميع المسلمين، ومما يردّ عليه دعوى الخصوص هَذَا الحديث الذي مثّل هو به، فإنه صريح فِي العموم، فتبصّر. والله تعالى أعلم.
(وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا، فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ) أي ضرب يده عَلَى يده عند المبايعة، وأصل الصفقة: الضرب بالكفّ عَلَى الكفّ، أو بأصبعين عَلَى الكفّ، وهو التصفيق (وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ) أي خالص عهده، أو محبّته بقلبه (فَلْيُطِعْهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُنَازِعُهُ، فَاضْرِبُوا رَقَبَةَ الآخَرِ) قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: معناه: ادفعوا الثاني، فإنه خارج عَلَى الإِمام، فإن لم يندفع إلا بحرب، وقتال، فقاتِلُوه، فإن دعت المقاتلة إلى قتله جاز قتله، ولا ضمان فيه؛ لأنه ظالم مُعتدٍ فِي قتاله.
قَالَ عبد الرحمن بن عبد ربّ الكعبة (فَدَنَوْتُ مِنْهُ) أي قرُبتُ منْ عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما (فَقُلْتُ) زاد فِي رواية مسلم: "له" (سَمِعْتَ رسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم،
(1)
"شرح النوويّ" 12/ 436. "كتاب الإمارة".
(2)
"المفهم" 4/ 52. "كتاب الإمارة".
يَقُولُ هَذَا؟) وفي رواية مسلم: "أنشدك الله آنت سمعت هَذَا منْ رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم؟ "(قَالَ) عبد الله (نَعَمْ) وفي رواية مسلم: "فأهوى إلى أُذنيه، وقلبه بيديه، وَقَالَ: سمعته أُذناي، ووعاه قلبي". وقوله (وَذَكَرَ الْحَدِيثَ) أشار به إلى أن الحديث مختصرٌ، وَقَدْ ساقه الإِمام مسلم رحمه الله تعالى بتمامه، فِي "صحيحه"، ولفظه:"فقلت له: هَذَا ابنُ عمّك معاوية، يأمرُنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، ونقتُل أنفسنا، واللهُ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)} [النِّساء: 29] قَالَ: فسكت ساعة، ثم قَالَ: أطعه فِي طاعة الله، واعصه فِي معصية الله".
قَالَ القرطبيّ: رحمه الله تعالى: واستحلاف عبد الرحمن زيادةٌ فِي الاستيثاق، لا أنه كذّبه، ولا اتّهمه. وما ذكره عبد الرحمن عن معاوية رضي الله تعالى عنه إغياء فِي الكلام عَلَى حسب ظنّه، وتأويله، وإلا فمعاوية رضي الله تعالى عنه لم يُعرف منْ حاله، ولا منْ سيرته شيء مما قَالَ له، وإنما هَذَا كما قالت طائفة منْ الأعراب: إن ناساً منْ المصدّقين يظلموننا، فسَمَّوا أخذ الصدقة ظلمًا؛ حسب ما وقع لهم. انتهى
(1)
.
وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: المقصودِ بهذا الكلام أن هَذَا القائل لما سمع كلام عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، وذكر الحديث فِي تحريم منازعة الخليفة الأول، وأن الثاني يُقتل، فاعتقد هَذَا القائل هَذَا الوصف فِي معاوية؛ لمنازعته عليًّا رضي الله تعالى عنهما، وكانت قد سبقت بيعة عليّ، فرأى هَذَا أن نفقة معاوية علي أجناده، وأتباعه فِي حرب علي، ومنازعته، ومقاتلته إياه، منْ أكل المال بالباطل، ومن قتل النفس؛ لأنه قتال بغير حقّ، فلا يستحق أحد مالاً فِي مقاتلته. انتهى
(2)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما هَذَا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -25/ 4194 - وفي "الكبرى" 29/ 7814. وأخرجه (م) فِي "الإمارة" 1844 (د) فِي "الفتن والملاحم" 4248 (ق) فِي "الفتن" 3956 (أحمد) فِي "مسند
(1)
"المفهم" 4/ 53.
(2)
"شرح مسلم" 12/ 437. "كتاب الإمارة".
المكثرين" 6465 و6754 و6776. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان ما يجب عَلَى منْ بايع الإِمام، وأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، وذلك أن يوفّي بما التزمه منْ الطاعة ما استطاع، دمان جاء منْ ينازعه فِي خلافته، فليقاتله معه. (ومنها): بيان ما أوجب الله تعالى عَلَى أنبيائه تجاه أممهم، وهو إخلاص النصيحة لهم، فيدلّونهم، عَلَى ما هو خير لهم فِي معاشهم، ومعادهم، وينذرونهم عما هو شرّ لهم فِي دينهم، ودنياهم. (ومنها): ما كَانَ عليه النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم منْ الأسوة بمن قبله منْ الأنبياء، فِي بيان الخير والشر لأمته، فلم يبق شيء منهما إلا بيّنه لها، ومن ذلك ما ذكره فِي هَذَا الحديث، مما سيحدث بعده منْ الفتن المتتابعة، والبلايا المتناسقة، بحيث تدع الحليم حيران، والعاقل سكران. (ومنها): أن سبب النجاة منْ النار، ودخول الجنّة التمسّك بالإيمان بالله، وباليوم الآخر إلى أن يأتيه الأجل. (ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله تعالى، عند قوله:"وليأت إلى الناس الخ": ما نصّه: هَذَا منْ جوامع كلمه صلّى الله تعالى عليه وسلم، وبديع حِكَمه، وهذه قاعدةٌ مهمةٌ، فينبغي الاعتناء بها، وأن الإنسان يلزمه أن لا يفعل مع الناس، إلا ما يُحبّ أن يفعلوه معه.
(ومنها): ما قاله القرطبيّ: إن قوله: "ومن بايع إمامًا، فأعطاه صفقة يده، وثمرة فؤاده" يدل عَلَى أن البيعة لا يُكتفى فيها بمجرد عقد اللسان فقط، بل لابدّ منْ الضرب باليد، كما قَالَ تعالى:{نَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، ولكن ذلك للرجال فقط، ولابد منْ التزام البيعة بالقلب، وترك الغشّ، والخديعة، فإنها منْ أعظم العبادات، فلابد فيها منْ النيّة والنصيحة. انتهى
(1)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "بل لابدّ منْ الضرب باليد"، فيه نظرٌ، لا يخفى، فإن الحديث لا يدلّ عَلَى هَذَا، بل غاية ما فيه إيجاب الطاعة لمن بايع عَلَى هذه الصفة، وهذا لا ينفي جواز البيعة باللسان فقط، دون الضرب باليد، فتبصّر. والله تعالى أعلم.
(ومنها): أن فِي قول عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: "أطعه فِي طاعة الله الخ" دليلٌ عَلَى وجوب طاعة المتولّين للإمامة بالقهر، منْ غير إجماع، ولا عهد. قاله النوويّ.
(1)
"المفهم" 4/ 52 - 53.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الاستدلال المذكور محلّ بحث، فليُتأمّل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
26 - (الْحَضِّ عَلَى طَاعَةِ الإِمَامِ)
4195 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَدَّتِي تَقُولُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: "وَلَوِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَاسْمَعُوا لَهُ، وَأَطِيعُوا").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(محمّد بن عبد الأعلى) الصنعانيّ، ثم البصريّ، ثقة [10] 5/ 5.
2 -
(خالد) بن الحارث الهُجيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الإِمام الحافظ الحجة [7] 27/ 24،
4 -
(يحيى بن حصين) الأحمسيّ، ثقة [4] 22/ 3060.
5 -
(جدته) أمّ الحصين بنت إسحاق، الأحمسيّة، صحابيّة، شهدت حجة الوداع، وروت خطبتها عن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، وغير ذلك، وروى عنها ابن ابنها يحيى بن الحصين، والعيزار بن حُريث، تقدّمت فِي 22/ 3060. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه رواية الراوي عن جدّته. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ يَحْيَى بْنِ حُصَيْنٍ) الأحمسيّ، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ جَدَّتِي) رضي الله تعالى عنها (تَقُولُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ) وفي رواية لمسلم: "أنها سمعت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم بمنى، أو بعرفات"(وَلَوِ اسْتُعْمِلَ) بالبناء للمفعول
(عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ) زاد فِي رواية لمسلم: "مجدّع": أي مقطوع الأطراف، يقال: جدعت الأنف جدعًا، منْ باب نفع: قطعته، وكذا الأذنُ، واليدُ، والشفة. قاله الفيومي. (يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ) فيه إشارةٌ إلى أنه لا طاعة له فيما يُخالف حكم الله تعالى (فَاسْمَعُوا لَهُ، وَأَطِيعُوا") وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: المراد أخسّ العبيد: أي اسمعوا، وأطيعوا للأمير، وإن كَانَ دنيء النسب، حتى لو كَانَ عبدًا أسود، مقطوع الأطراف، فطاعته واجبة. وتتصوّر إمارة العبد إذا ولّاه بعض الأئمة، أو إذا تغلّب عَلَى البلاد بشوكته، وأتباعه، ولا يجوز ابتداءً عقد الولاية له، مع الاختيار، بل شرطها الحرّيّة. انتهى
(1)
.
وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: هَذَا مبالغة فِي وصف العبد بالضّعةِ والخسّة، وذلك أن العبد إنما تنقطع أطرافه منْ كثرة العمل، والمشي حافيًا. وهذا منه صلّى الله تعالى عليه وسلم عَلَى جهة الإغياء عَلَى عادة العرب فِي تمكينهم المعاني، وتأكيدها، كما قَالَ النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم:"منْ بني لله مسجدًا ، ولو مثلَ مَفْحص قطاة، بني الله تعالى له بيتًا فِي الجنة"
(2)
. ومفحص القطاة لا يصلح لمسجد، وإنما هو تمثيلٌ للتصغير عَلَى جهة الإغياء، فكأنه قَالَ: أصغر ما يكون منْ المساجد، وعلى هَذَا التأويل لا يكون حجةٌ لمن استدل عَلَى جواز تأمير العبد فيما دون الإمامة الكبرى، وهم بعض أهل الظاهر فيما أحسب، فإنه قد اتّفق عَلَى أن الإِمام الأعظم لابدّ أن يكون حرّا، عَلَى ما نصّ أصحاب مالك أن القاضي لابدّ أن يكون حرًا. قَالَ: وأمير الجيش والحرب فِي معناه، فإنها مناصب دينيّةٌ، يتعلق بها تنفيذ أحكام شرعيّة، فلا يصلح لها العبد؛ لأنه ناقص بالرقّ، محجور عليه، لا يستقلّ بنفسه، ومسلوب أهليّة الشهادة والتنفيذ، فلا يصلح للقضاء، ولا للإمارة، وأظنّ أن جمهور علماء المسلمين عَلَى ذلك. انتهى كلام القرطبيّ
(3)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: فيما قاله القرطبيّ منْ نفيه تولية العبد عَلَى الإطلاق، نظر لا يخفى، فإن التعليل الذي علّل به عدم الجواز غير لازم، فلو أذن له سيّده، أو كَانَ السيد هو الإِمام الأعظم، فولّاه زالت الموانع، لما عزاه إلى بعض أهل الظاهر إن صح عنهم هو الظاهر، فليُتأمل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"شرح مسلم" 12/ 428 - 429.
(2)
راه ابن حبّان فِي "صحيحه"(1611) والبيهقي فِي "سننه" 2/ 437.
(3)
"المفهم" 4/ 37 - 38.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أم الحصين رضي الله تعالى عنها هَذَا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أحرجه معه:
أخرجه هنا -26/ 4195 - وفي "الكبرى" 30/ 7815. وأخرجه (م) فِي" الإمارة" 1298 (ت) فِي "الجهاد" 1706 (ق) فِي "الجهاد" 2861 (أحمد) فِي "أول مسند المدنيين" 2861 و"مسند القبائل" 26715 و26723. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان الحضّ عَلَى طاعة الإِمام. (ومنها): أن الإِمام لا يشترط أن يكون حرا، فقد يتولّى العبد بإذن مولاه، فتجب طاعته. (ومنها): أن شرط وجوب طاعة الأمير أن يقول بكتاب الله تعالى، وأما إذا أمر بهواه، مخالفًا للكتاب والسنة، فلا طاعة له. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
27 - (التَّرْغِيبِ فِي طَاعَةِ الإِمَامِ)
4196 -
(أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَنَّ زِيَادَ بْنَ سَعْدٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي").
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(يوسف بن سعيد) بن مسلم المصّيصيّ، ثقة حافظ [11] 131/ 198.
2 -
(حجاج) بن محمّد الأعور المصيصيّ، ثقة ثبت، تغير فِي آخره [9] 28/ 32.
3 -
(ابن جريج) هو عبد الملك بن عبد العزيز الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقة فاضل يدلس ويرسل [6] 28/ 32.
4 -
(زياد بن سعد) بن عبد الرحمن الخراسانيّ، بزيل مكة، ثم اليمن، ثقة ثبت، منْ أثبت الناس فِي الزهريّ [6] 51/ 64.
5 -
(ابن شهاب) محمّد بن مسلم الزهريّ الإِمام الحجة الثبت [4] 1/ 1.
6 -
(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقة فقيه [3] 1/ 1.
7 -
(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين منْ ابن شهاب. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سلمة منْ الفقهاء السبعة عَلَى بعض الأقوال، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ منْ روى الحديث فِي دهره. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
عن أبي سلمة رحمه الله تعالى (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) قَالَ فِي "الفتح": هذه الجملة منتزعة منْ قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} الآية [النِّساء: 80]. أي لأني لا آمر إلا بما أمر الله تعالى به، فمن فعل ما آمره به، فإنما أطاع منْ أمرني أن آمره.
ويَحتمل أن يكون المعنى لأن الله تعالى أمر بطاعتي، فمن أطاعني، فقد أطاع أمر الله له بطاعتي، وفي المعصية كذلك. والطاعة هي الإتيان بالمأمور به، والانتهاء عن المنهي عنه، والعصيان بخلافه. انتهى
(1)
.
(وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي) قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: ووجهه أن أمير رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم إنما هو منفّذ أمره، ولا يتصرّف إلا بأمره، فمن أطاعه فقد أطاع أمر رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم، وعلى هَذَا فكلّ منْ اطاع أمير رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم، فقد أطاع الرسول، ومن أطاع الرسول، فقد أطاع الله، فيُنتج أن منْ أطاع أمير رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم، فقد أطاع الله، وهو حقّ، صحيحٌ، وليس هَذَا الأمر خاصًا بمن باشره رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم بتولية الإمارة، بل هو عام فِي كلّ أمير للمسلمين عدلٍ، ويلزم منه نقيض ذلك فِي المخالفة والمعصية. انتهى كلام القرطبيّ
(2)
.
(1)
"فتح" 15/ 4 - 5. "كتاب الأحكام" حديث: 7137.
(2)
"المفهم" 4/ 36. "كتاب الإمارة".
وَقَالَ فِي "الفتح": وقع فِي رواية همّام، والأعرج، وغيرهما عند مسلم:"ومن أطاع الأمير". ويمكن ردّ اللفظين لمعنى واحد، فإن كلّ منْ يأمر بحقّ، وكان عادلاً، فهو أمير الشارع؛ لأنه تولّى بأمره، وبشريعته. ويؤيّده توحيد الجواب فِي الأمرين، وهو قوله:"فقد أطاعني": أي عمِل بما شرعته، وكأن الحكمة فِي تخصيص اميره بالذكر أنه المراد وقت الخطاب، ولأنه سبب ورود الحديث، وأما الحكم فالعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
ووقع فِي رواية همّام أيضاً: "ومن يُطع الأمير، فقد أطاعني" بصيغة المضارعة، وكذا:"ومن يعص الأمير، فقد عصاني"، وهو أدخل فِي إرادة تعميم منْ خوطب، ومن جاء منْ بعد ذلك.
وذكر الإِمام الشافعيّ رحمه الله تعالى فِي "الأم" فِي بيان سبب نزول الآية الكريمة: كانت قُريشٌ، ومن يليها منْ العرب لا يعرفون الإمارة، فكانوا يمتنعون عَلَى الأمراء، فقال هَذَا القول يحثّهم عَلَى طاعة منْ يُؤمّرهم عليهم، والانقياد لهم إذا بَعَثهم فِي السرايا، وإذا ولّاهم البلاد، فلا يخرجون عليهم؛ لئلا تفترق الكلمة.
ووقع عند أحمد، وأبى يعلى، والطبرانيّ منْ حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: قَالَ: كَانَ رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فِي نفر منْ أصحابه، فقال:"ألستم تعلمون أن منْ أطاعني، فقد أطاع الله، وأن منْ طاعة الله طاعتي؟ "، قالوا: بلى نشهد، قَالَ:"فإن منْ طاعتي أن تطيعوا أُمراءكم"، وفي لفظ:"أئمّتكم".
(وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي) تقدّم إيضاحه آنفًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -27/ 4196 - وفي "الكبرى" 31/ 7816. وأخرجه (خ) فِي "الأحكام" 7137 (م) فِي "الإمارة" 4726 و4727. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان الترغيب فِي طاعة الإِمام.
(ومنها): أن وجوب طاعة الإِمام مقيد بما إذا أمر بغير المعصية، وإلا فلا طاعة له؛ لأنه لا طاعة لمخلوق فِي معصية الخالق. (ومنها): أن طاعة الأمراء طاعه لله تعالى، وطاعة
لرسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم؛ لأنهم ينفّذون أحكام الله عز وجل. (ومنها): أن الحكمة فِي الأمر بطاعة الأمراء: هي المحافظة عَلَى اتفاق الكلمة؛ لما فِي الافتراق منْ الفساد، {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
28 - (قَولُهُ تَعَالَى: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النِّساء: 59])
4197
- (أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ، بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَرِيَّةٍ).
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(الحسن بن محمّد) الزعفرانيّ، أبو عليّ البغداديّ، صاحب الشافعيّ، ثقة [10] 21/ 427.
2 -
(يعلي بن مسلم) بن هُرمُز المكيّ، البصريّ الأصل، ثقة [6] 2/ 4005.
3 -
(سعيد بن جبير) الأسديّ مولاهم الكوفيّ، ثقة فقيه عابد [3] 28/ 436.
4 -
(ابن عباس) عبد الله البحر رضي الله تعالى عنهما 27/ 31، والباقيان تقدّما فِي الباب الماضي. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما منْ العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النِّساء: 59] قَالَ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ، بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَرِيَّةٍ) قَالَ فِي "الفتح": كذا ذكره مختصرًا، والمعنى نزلت فِي قصّة عبد الله بن حُذافة، والمقصود منها فِي قصّته قوله:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الآية، وَقَدْ غفل الداوُدِي، عن هَذَا المُراد، فقال: هَذَا وهم عَلَى ابن عباس، فإِنَّ عند الله بن حُذافة، خرج عَلَى جيش، فغضب، فأوقد نارًا، وَقَالَ: اقتحِمُوها، فامْتنع بعض، وَهَمّ بعض أن يُفعل. قَالَ: فإِن كانت الآية نزلت قبلُ، فكيف يُخَصّ عند الله بن حُذافة بِالطَّاعةِ دُون غيره، وإِن كانت نزلت بعدُ فإِنَّما قِيل لهُم:"إِنَّما الطَّاعة فِي المعرُوف"، وما قِيل لهُم: لِم لم تُطِيعُوا؟ انتهى.
قَالَ الحافظ: وبِالحملِ الَّذِي قدمته يظهر المراد، وينتفي الإشْكال الَّذِي أبداه؛ لِأنَّهم تنازعُوا فِي امتِثال ما أمرهُم بِهِ، وسببه أنَّ الَّذين همُّوا أن يُطِيعُوهُ، وقفُوا عِند امتِثال الأمر بِالطَّاعةِ، والَّذِين امتنعُوا عارضهُ عِندهم الفِرار منْ النَّار، فناسب أن ينزِل فِي ذَلِكَ، ما يُرشِدهُم إِلى ما يَفْعلُونهُ عِند التنازُع، وهُو الرَّدّ إِلى الله وإلى رسُوله، أيّ إن تنازعتُم فِي جواز الشَّيْء، وعدم جوازه، فارْجِعُوا إِلى الكِتَاب والسُّنَّة
(1)
. وسيأتي تمام البحث فِي قصّة عبد الله بن حُذافة رضي الله تعالى عنه بعد خمسة أبواب 34/ 4206 إن شاء الله تعالى.
[تنبيه]: روى الطَّبَرِيّ فِي "تفسيرهِ": أنَّ هذِهِ الآية نزلت فِي قِصَّة جرت لِعَمَّارِ بن ياسِر، مع خالِد بن الولِيد، وكان خالِد أمِيرًا، فأجار عمَّارٌ رجُلاً، بِغيْرِ أمره، فتَخَاصَما، فنزلت. فيحتمل أن تكون الآية نزلت فِي القضيّتين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -28/ 4197 - وفي "الكبرى" 32/ 7817. وأخرجه (خ) فِي "التفسير" 4584 (م) فِي "الإمارة" 3416 (د) فِي "الجهاد" 2624 (ت) فِي "الجهاد" 1672. والله تعالى أعلم.
(1)
"فتح" 9/ 128 - 129. "تفسير سورة النِّساء".
(المسألة الثالثة): اختُلِف فِي المراد بِأُولي الأمر فِي الآية الكريمة، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قَالَ: هُم الأمراء، أخرجهُ الطَّبرِيّ بِإِسنادِ صحِيح، وأخرج عن ميمُون بن مِهران وغيره نَحْوه، وعن جابِر بن عبد الله، قَالَ: هُم أهل الْعِلْم، والْخَيْر. وعن مُجاهِد، وعطاء، والْحَسَن، وأبِي العالِية: هُم الْعُلَمَاء. ومن وجه آخر أصَحّ مِنْهُ عن مُجاهِد، قَالَ: هُمْ الصَّحَابة، وهذا أخَصّ. وعن عِكرِمة، قَالَ: أبُو بكر وعُمر، وهذا أخَصّ منْ الَّذِي قَبْله. ورجح الشافِعِي الأول، واحتج لهُ بِأن قُريشًا، كانُوا لا يعرِفُون الإمارة، ولا ينقادُون إِلى أمِير، فأُمِرُوا بِالطَّاعةِ لِمن ولِي الأمر، ولِذلِك قَالَ صلى الله عليه وسلم:"منْ أطاع أمِيرِي، فقد أطاعنِي" مُتفق عَلَيْهِ. واختار الطَّبريُّ حملها عَلَى العُمُوم، وإن نزلت فِي سبب خَاص، واللهُ أعلمُ. ذكره فِي "الفتح"
(1)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي رجحه ابن جرير رحمه الله تعالى منْ الحمل عَلَى العموم هو الأرجح عنديّ؛ لأن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
29 - (التَّشْدِيدِ فِي عِصْيَانِ الإِمَامِ)
4198 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَحِيرٌ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ أَبِي بَحْرِيَّةَ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "الْغَزْوُ غَزْوَانِ، فَأَمَّا مَنِ ابْتَغَى وَجْهَ اللَّهِ، وَأَطَاعَ الإِمَامَ، وَأَنْفَقَ الْكَرِيمَةَ، وَاجْتَنَبَ الْفَسَادَ، فَإِنَّ نَوْمَهُ وَنُبْهَتَهُ، أَجْرٌ كُلُّهُ، وَأَمَّا مَنْ غَزَا رِيَاءً وَسُمْعَةً، وَعَصَى الإِمَامَ، وَأَفْسَدَ فِي الأَرْضِ، فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِالْكَفَافِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "بحِير" بفتح الموحّدة، وكسر الحاء المهملة-: هو ابن سَعْد السَّحُوليّ الحمصي. و"أبو بحريّة": هو عبد الله بن قيس السَّكُونيّ الحمصيّ المخضرم المشهور.
والحديث حسنٌ، وَقَدْ تقدّم فِي "كتاب الجهاد" 46/ 3189 - وتقدّم شرحه، وبيان
(1)
"فتح" 9/ 128 - 129. "تفسير سورة النِّساء". حديث: 4584.
مسائله هناك، فراجعه تستفد، واستدلال المصنّف رحمه الله تعالى به علي الترجمة واضح. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
30 - (ذِكْرِ مَا يَجِبُ لِلإِمَامِ وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ)
4199 -
(أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الزِّنَادِ، مِمَّا حَدَّثَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجُ، مِمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ، يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ، وَيُتَّقَى بِهِ، فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَعَدَلَ، فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا، وَإِنْ أَمَرَ بِغَيْرِهِ، فَإِنَّ عَلَيْهِ وِزْرًا").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ) بن راشد الكلاعيّ الحمصيّ ثقة [11] 17/ 1541.
2 -
(عليّ بن عيّاش) الألهانيّ الحمصيّ، الثقة الثبت [9] 123/ 182.
3 -
(شُعيب) بن أبي حمزة الحمصيّ الثقة الثبت [7] 69/ 85.
4 -
(أبو الزناد) عبد الله بن ذكران المدنيّ الثقة الفقيه [5] 7/ 7.
5 -
(عبد الرحمن الأعرج) بن هُرْمز المدنيّ الثقة الثبت الفقيه [3] 7/ 7.
6 -
(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالحمصيين، والثاني بالمدنيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
عن شعيب بن أبي حمزة، أنه (قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكران (مِمَّا حَدَّثَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن هُرمُز (الأَعْرَجُ) أي منْ جملة الأحاديث التي حدّثه بها عبد الرحمن
الأعرج، والجارّ والمجرور متعلّق بحال مقدر، أي حال كون الحديث كائنًا مما الخ (مِمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ) أي مما ذكر الأعرج أنه سمع أبا هريرة رضي الله تعالى عنه، وإعرابه كسابقه (يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "إِنَّمَا الإِمَامُ) المراد به كلّ قائم بأمور الناس (جُنَّةٌ) أي كالسترة؛ لأنه يمنع العدوّ منْ أذى المسلمين، ويمنع الناس بعضهم منْ بعض، ويحمي بيضة الإِسلام، ويتّقيه الناس، ويخافون سطوته
(1)
.
وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: الْمِجَنّ، والْجُنّة، والجانّ، والجنّة، والجِنّةُ كله راجع إلى معنى الستر، والتوقّي. يعني أنه يُتّقَى بنظره، ورأيه فِي الامور العظام، والوقائع الخطيرة، ولا يتقدّم عَلَى رأيه، ولا ينفرد دونه بأمر مهم حتى يكون هو الذي يَشرَع فِي ذلك. انتهى
(2)
.
(يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ) ببناء الفعل للمفعول: أي يُقاتل معه الكفّار، والبغاة، والخوارج، وسائر أهل الفساد، والظلم مطلقًا.
وَقَالَ القرطبيّ: معنى: "منْ ورائه" أي أمامه، ووراءُ منْ الأضداد، يقال بمعنى خلفُ، وبمعنى أمام، وعلى هَذَا حمل أكثر المفسّرين قوله تعالى:{وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} الآية [الكهف: 79] أي أمامهم، وأنشدوا قول الشاعر [منْ الطويل]:
أَتَرْجُو بَنُو مَرْوَانَ سَمْعِي وَطَاعَتِي
…
وَقَوْمِي تَمِيمٌ والْفَلاةُ وَرَائِيَا
وأصله أن كلّ ما توارى عنك، أي غاب، فهو وراء. وهذا خبرٌ منه صلّى الله تعالى عليه وسلم عن المشروعيّة، فكأنه قَالَ: الذي يجب، أو يتعيّن أن يُقاتل أمام الإِمام، ولا يُترك يُباشر القتال بنفسه؛ لما فيه منْ تعرّضه للهلاك، فيَهلِك كلُّ منْ معه، ويكفي دليلاً فِي هَذَا المعنى تغبيةُ
(3)
رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم أصحابُه يوم بدر وغيره، فإنه صلّى الله تعالى عليه وسلم كَانَ فِي العرِيش فِي القلب، والمقاتلة أمامه.
قَالَ: وَقَدْ تضمّن هَذَا اللفظ عَلَى إيجازه أمرين: كون الإِمام يُقتدى برأيه، ويُقاتل بين يديه، فهما خبران عن أمرين متغايرين، وهذا أحسن ما قيل فِي هَذَا الحديث، عَلَى أن ظاهره أنه يكون امام الناس فِي القتال وغيره، وليس الأمر كذلك، بل كما بيَّنَّاه. والله تعالى أعلم. انتهى ببعض تصرّف
(4)
.
(1)
"شرح مسلم" 13/ 433 - 434. "كتاب الإمارة".
(2)
"المفهم" 4/ 26.
(3)
هكذا النسخة بالغين المعجمة، والظاهر أنه منْ غبي بمعنى خفي، فيكون منْ إضافة المصدر إلى مفعوله، ورفع الفاعل، وهو "أصحابه".
(4)
"المفهم" 4/ 26.
وَقَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: قيل: المراد أنه يقاتل قُدّامه، فـ"وراءه" هاهنا بمعنى "أمام"، ولا يُترك يباشر القتال بنفسه؛ لما فيه منْ تعرّضه للهلاك، وفيه هلاك الكلّ. قَالَ: وهذا لا يناسب التشبيه بالجُنّة، مع كونه خلاف ظاهر اللفظ فِي نفسه، فالوجه أن المراد أنه يُقاتل عَلَى وفق رأيه، وأمره، ولا يُختلَف عليه فِي القتال. والله تعالى أعلم.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله السنديّ فِي معنى "منْ ورائه" حسنٌ جدًا. والله تعالى أعلم.
(وَيُتَّقَى بِهِ) أي يُعتصم برأيه، أو يَلتجىء إليه منْ يَحتاج إلى ذلك. وَقَالَ النوويّ: التاء مبدلة منْ الواو؛ لأن أصلها منْ الوقاية. انتهى (فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَعَدَلَ فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا) أي أجرًا عظيمًا، فالتنوين للتعظيم، وَقَالَ القرطبيّ: سكت عن الصفة للعلم بها، وَقَدْ دلّ عَلَى ذلك قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم:"إن المقسطين عَلَى منابر منْ نور" الحديث، رواه مسلم، وقوله صلّى الله تعالى عليه وسلم فِي السبعة الذين يُظلّهم الله فِي ظلّه:"وإمام عادلٌ". متفقٌ عليه (وَإِنْ أَمَرَ بِغَيْرِهِ، فَإِنَّ عَلَيْهِ وِزْرًا) أي أمر بجور، كَانَ عليه الحظّ الأكبر منْ إثم الجور. وفي رواية مسلم:"كَانَ عليه منه" بـ"منْ"، قَالَ القرطبيّ: و"منْ" هنا للتبعيض، أي لا يختصّ هو بالإثم، بل المنفّذ لذلك الجور يكون عليه أيضًا حظّه منْ الإثم، والراضي به، فالكلّ يشتركون فِي إثم الجور، غير أن الإِمام أعظمهم حظًا منه؛ لأنه ممضيه، وحاملٌ عليه. انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -30/ 4199 - وفي "الكبرى" 34/ 7819. وأخرجه (خ) فِي "الجهاد" 2957 و"الأحكام" 7137 (م) فِي "الإمارة" 3428 (د) فِي "الجهاد" 2757 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 10398. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان ما يجب للإمام، وما يجب
(1)
"المفهم" 4/ 26 - 27. "كتاب الإمارة".
عليه، فقد بيّن صلّى الله تعالى عليه وسلم أنه يجب أن يجعل جُنّةً يُستتر به منْ الشرِّ والفساد، وتنظيم أمور العباد، وأنه يجب أن يقاتل دونه، فلا يُترك عُرضة للهلاك، وأنه إن عدل فده الأجر العظيم، وإلا فعليه الوزر العظيم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
31 - (النَّصِيحَةِ لِلإِمَامِ)
4200 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: سَأَلْتُ سُهَيْلَ بْنَ أَبِي صَالِحٍ، قُلْتُ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِيكَ، قَالَ: أَنَا سَمِعْتُهُ مِنَ الَّذِي حَدَّثَ أَبِي، حَدَّثَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، يُقَالُ لَهُ: عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الدِّينُ النَّصِيحَةُ"، قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(محمّد بن منصور) الجوّاز المكيّ، ثقة [10] 21/ 22.
2 -
(سفيان) بن عُيينة المكيّ الإِمام الحجة الثبت [8] 1/ 1.
3 -
(سُهيل بن أبي صالح) ذكوان المدنيّ، صدوق تغير بآخره [6] 32/ 820.
4 -
(عطاء بن يزيد) الليثي الجندعيّ المدنيّ، نزيل الشام، ثقة [4] 20/ 21.
5 -
(تميم الداريّ) هو تميم بن أوس بن حارثة، وقيل: خارجة بن سُود، وقيل: سواد بن جَذِيمة بن وداع، ويقال: ذراع بن عديّ بن الدار بن هانىء بن حبيب بن نُمارة ابن لَخْم، أبو رُقيّة الداريّ، مشهور فِي الصحابة، كَانَ نصرانيًا، وقدم المدينة، فأسلم، وذكر للنبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم قصّة الجسّاسة، والدجال، فحدّث النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم عنه بذلك عَلَى المنبر، وعُدّ ذلك منْ مناقبه، ومن رواية الأكابر عن الأصاغر. قَالَ ابن السكن: أسلم سنة تسع هو، وأخوه نُعيم، ولهما صحبة. وَقَالَ ابن إسحاق: قدم المدينة، وغزا مع النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم. وَقَالَ أبو نُعيم: كَانَ واهب أهل عصره، وعابد فلسطين. قَالَ يعقوب بن سفيان: لم يكن له ذَكَرٌ، وإنما كانت له ابنة، تُسمّى رُقيّة. وَقَالَ ابن سُميع: مات بالشام، ولا عقب له. وَقَالَ قتادة:
كَانَ منْ علماء أهل الكتابين. وَقَالَ ابن سيرين: كَانَ يختم فِي ركعة، قام بآية حتى أصبح، وهي {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} الآية [الجاثية: 21]. رواه البغويّ فِي "الجعديّات" بإسناد صحيح إلى مسروق، قَالَ: قَالَ لي رجل منْ أهل مكة: هَذَا مقام أخيك تميم، فذكره. وهو أول منْ أسرج السراج فِي المسجد. رواه الطبرانيّ منْ حديث أبي هريرة، وأول منْ قصّ، وذلك فِي عهد عمر، رواه إسحاق بن راهويه، وابن أبي شيبة. وانتقل إلى الشام بعد قتل عثمان رضي الله تعالى عنه، وسكن فلسطين، وكان النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم أقطعه بها قرية عينون، روي ذلك منْ طرق كثيرة. قيل: وُجد عَلَى قبره أنه مات سنة (40). قَالَ ابن حبّان: مات بالشام، وقبره بيت جِبرين منْ بلاد فلسطين
(1)
. علّق له البخاريّ، وروى له الباقون، وله عند المصنّف حديث الباب فقط
(2)
. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين منْ سهيل. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
عن سفيان بن عيينة، أنه (قَالَ: سَأَلْتُ سُهَيْلَ بْنَ أَبِى صَالِحٍ) اسم أبيه ذكران (قُلْتُ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو) بن دينار، أبو محمّد الأثرم الْجُمَحيّ مولاهم المكيّ، ثقة ثبت [4] 112/ 154 (عَنِ الْقَعْقَاعِ) بن حكيم الكنانيّ المدنيّ، ثقة [4] 36/ 40 (عَنْ أَبِيكَ) أبي صالح/ ذكرن السمّان الزّيّات، كَانَ يجلب الزيت إلى الكوفة، ثقة ثبت [3] 36/ 40.
زاد فِي رواية مسلم: "ورجوت أن يُسقط عنّي رجلاً". والمعنى: أن سفيان أراد أن يحدّثه عن أبيه، فيعلو بدرجة، حيث إنه روى الحديث عن عمرو بن دينار، عن القعقاع ابن حكيم، عن أبي صالح، فبينه وبين أبي صالح واسطتان، فأراد أن يكون بينه وبينه واسطة واحدة، وهو سهيل. (قَالَ) سُهيل (أَنَا سَمِعْتُهُ مِنَ الَّذِى حَدَّثَ أَبِي) يعني أنه سمع هَذَا الحديث مع أبيه،
(1)
"الإصابة" 2/ 304 - 305. "تهذيب الكمال" 4/ 326 - 328. "تهذيب التهذيب" 1/ 259.
(2)
ذكر النوويّ رضي الله تعالى عنه فِي "شرح مسلم" 2/ 37 - أنه ليس لتميم الداريّ رضي الله تعالى عنه فِي "صحيح البخاريّ" عن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم شيء، ولا له فِي مسلم عنه غير هَذَا الحديث.
فصار مشاركًا لأبيه فِي السماع عن عطاء بن يزيد، فحصل لسفيان أن أسقط عنه ثلاثة: عمرًا، والقعقاع، وأبا صالح، فصار عاليًا بدرجتين، حيث وصل إلى عطاء بواسطة واحدة، بدلاً منْ ثلاث وسائط (حَدَّثَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، يُقَالُ لَهُ: عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ) الليثي (عَنْ تَمِيمٍ) ابن أوس رضي الله تعالى عنه (الدَّارِيِّ) نسبة إلى أحد أجداده، وهو دار بن هانىء، كما تقدّم فِي نسبه
(1)
(قَالَ) تميم رضي الله تعالى عنه (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الدِّينُ النَّصِيحَةُ") تقدّم معنى النصيحة، واشتقاقها، وما قَالَ العلماء فيها فِي 6/ 4158 - فراجعه تستفد.
والْمَعْنَى أن عِمَادَ الدِّين، وقِوَامَهُ النَّصِيحةُ، كقولِهِ:"الْحَجُّ عَرَفَة": أيْ عِماده، ومُعْظَمه عَرَفَة. انتهى
(2)
.
(قالُوا) أي الصحابة الحاضرون عند النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم حينما تكلّم بهذا الحديث (لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟) أي النصيحة التي ذكرت أنها الدين كلّه لأي شخص تكون؟ (قَالَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (لِلَّهِ) معنى النصِيحة لِلَّهِ تعالى، مُنْصَرِفٌ إِلى الإيمان بِهِ، ونفيِ الشرِيكِ عنهُ، وتركِ الإلحاد فِي صفاته، ووصفِهِ بِصِفاتِ الكمال والجلال كُلّهَا، وتنزِيهه سبحانه وتعالى منْ جمِيع النَّقائِص، والقِيام بِطاعتِهِ، واجتِناب معصِيته، والحُبّ فِيهِ، والبُغْض فِيهِ، ومُوالاة منْ أطَاعَهُ، ومُعَادَاة منْ عصاهُ، وجِهَاد مَنْ كفر بِهِ، والِاعتِراف بِنِعمتِهِ، وشُكْره عَلَيْهَا، والإخْلاص فِي جَمِيع الأُمُور، والدُّعَاءُ إِلى جميع الأوصاف المَذْكُورة، والحَثّ عليها، والتَّلطُف فِي جمع النَّاس، أو منْ أمكن مِنهُم عليها. قَالَ الخَطَّابِيّ رحمه الله: وَحَقِيقةُ هذِهِ الإضَافَة، رَاجِعَة إِلى العبد فِي نُصْحه نفسه، فالله تعالى غنِيٌّ، عن نُصْحِ النَّاصِح. انتهى.
(وَلِكِتَابِهِ) معنى النصِيحة لِكِتابِهِ سبحانه وتعالى، فهو الإيمان بِأنَّهُ كلام الله تعالى، وتنزِيله، غير مخلوق، ولا يُشْبِههُ شَيْءٌ منْ كلام الخلق، ولا يقدِر عَلَى مِثله أحد منْ الخلق، ثُمَّ تَعْظِيمه، وتِلاوته حَقّ تِلاوته، وتَحْسِينُها، والخُشُوع عِندها، وإِقامة حُرُوفه فِي التِّلاوة، والذَّب عنهُ لِتأْوِيلِ المُحَرِّفِين، وتعرُّض الطَّاعِنِين، والتَّصْدِيق بِما فِيهِ، والوُقُوف مع أحكامه، وتَفَهُّم عُلُومه وأمْثَاله، والِاعتِبار بِمواعِظِهِ، والتَّفكُر فِي عَجَائِبه، والعَمَل بِمُحْكَمِهِ، والتَّسْليم لِمُتَشَابهِهِ، والبَحْث عن عُمُومه وخُصُوصه، ونَاسِخه وَمَنْسُوخه، وَنَشْر عُلُومه، والدُّعَاء إِليهِ، وإلى ما ذَكَرْنا منْ نَصِيحَته.
(1)
أفاده فِي "اللباب" 1/ 484 - 485.
(2)
راجع "شرح مسلم للنوويّ" 2/ 37. "كتاب الإيمان".
(وَلِرَسُولِهِ) معنى النصِيحة لِرسُولِه صلى الله عليه وسلم، فهو تصدِيقه عَلَى الرِّسالة، والإيمانُ بِجمِيعِ ما جاء بِهِ، وطاعتُه فِي أمرِهِ ونَهْيه، ونُصرتُهِ حيًّا وميتًّا، ومُعاداةُ منْ عاداهُ، ومُوالاةُ منْ والاهُ، وإِعظامُ حَقّه، وتَوْقِيرُه، وبثُّ دعوته، ونشرُ شَرِيعته، ونفيُ التُّهمة عنها، وتَعظيم سنته، وإِحياءُها بعد موته بروايتها، وتصحيحها، والبحث عنها، واسْتِثَارةِ عُلُومهَا، والتَّفَقُّهِ فِي مَعَانِيهَا، والدُّعاء إِلَيْهَا، والتَّلَطُّف فِي تَعلُّمها وتعليمها، وإِعْظَامِهَا، وإِجْلالها، والتَّأدُّبُ عِتد قِراءتها، والإمْسَاكُ عن الْكَلام فِيها بِغَيْرِ عِلْمِ، وِإجلالُ أهلها لِانْتِسَابهِم إِلَيْهَا، والتَّخَلُّقُ بِأخْلاقِهِ، والتَّأدُّبُ بِآدابِهِ، ومَحَبَّةُ أهْل بَيته وأصْحَابه، ومُجَانَيَةُ منْ ابْتَدَع فِي سُنَّته، أو تَعَرَّض لِأحَدٍ منْ أصْحَابه، وَنَحْو ذَلِكَ.
(وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ) معنى النَّصِيحة لِأئمَّةِ المسلِمِين، فهو مُعاونَتُهمْ عَلَى الحَقّ، وطاعتُهُم فِيهِ، وأمرُهُم بِهِ، وَتَنْبِيههم وتذكِيرهم بِرِفقٍ ولُطفٍ، وإعلامُهم بِما غَفَلُوا عنهُ، ولم يبلُغهُم منْ حُقُوق الْمُسلِمِين، وترك الخُرُوج عليْهِمْ، وتأليفُ قُلُوب النَّاس لِطَاعَتِهِم. قَالَ الخَطَّابِيُّ رحمه الله: وَمِنْ النَّصِيحة لهُم الصَّلاة خلفهم، والجِهَاد مَعَهُم، وأداء الصَّدَقَات إِليْهِم، وتَرْك الخُرُوج بِالسَّيْفِ عَلَيْهِم، إِذَا ظَهَر مِنْهُم حَيْفٌ، أوْ سُوءُ عِشْرَة، وأن لا يُغرُّوا بِالثَّنَاءِ الكاذِب عليْهِمِ، وأَنْ يُدْعَى لهُم بِالصَّلاح.
قَالَ النوويّ: وهذا كُلَّهُ عَلَى أن المراد بِأئِمَّةِ المُسْلِمِين الخُلَفَاءُ، وغيرهم، مِمَّن يقُوم بِأُمُورِ المُسْلِمِين، مِن أصحاب الوِلاياتِ. وَهَذا هُو المَشْهُور. وَحَكَاهُ أيْضًا الخطَّابِيُّ. ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يُتأوَّل ذَلِكَ عَلَى الأئِمَّة الَّذين هُمْ عُلَمَاء الدِّين، وأنَّ منْ نصِيحتهم قبُول ما رووه، وتقليدهم فِي الأحْكَام، وإِحْسَان الظَّنَّ بهِم. انتهى.
(وَعَامَّتِهِمْ") معنى نصِيحة عافة المسلِمِين -وهُم منْ عَدَا وُلاة الأمْر- فهو إِرشادُهُم لِمصالِحِهِم، فِي آخِرتهم ودُنْيَاهُم، وكفُّ الأَذَى عنْهُم، فيُعلِّمهُم ما يَجْهلُونة منْ دِينهم، ويُعِينهُمْ عَلَيْهِ بِالقولِ والفِعل، وسِتر عَوْراتهمْ، وَسَدّ خَلَّاتهم، ودفع المَضَارّ عنهُم، وجلب المنافِع لهُم، وأمرُهم بِالمعرُوفِ، ونهيهم عن المُنكر، بِرِفقٍ وإِخلاصٍ، والشَّفقةُ عليهِم، وتوْقِيرُ كبِيرهم، وَرَحْمَة صغِيرهم، وتَخَوُّلهم بِالموعِظةِ الحسنة، وترك غِشِّهِم وَحَسَدِهِم، وان يُحبَّ لهُم ما يُحبُّ لِنفسِهِ منْ الخَيْر، وَيَكْره لهُمْ ما يَكْره لِنَفْسِهِ مِن الْمَكرُوه، والذَّبّ عن أموالهم وأعْراضهمْ، وغيرِ ذَلِكَ منْ أحْوالهمْ، بِالقَوْلِ والفِعْل، وَحثّهم عَلَى التَّخلُّق بِجمِيع ما ذَكَرْناهُ منْ أنْواع النَّصِيحَة، وَتَنْشِيطُ هَمِّهِم إِلى الطَّاعات. وَقَدْ كَانَ فِي السَّلَف رضي الله عنهم منْ تَبْلُغ بِه النَّصيحة إِلى الإضْرار بِدُنْيَاهُ. قاله النوويّ
(1)
.
(1)
"شرح مسلم" 2/ 39 "كتاب الإيمان".
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث تميم الداري رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -31/ 4200 و4201 - وفي "الكبرى" 35/ 7820 و7821. وأخرجه (م) فِي "الإيمان" 82 (د) فِي "الأدب" 4944 (أحمد) فِي "مسند الشاميين" 16493. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو وجوب النصيحة للإمام، وَقَدْ تقدم آنفًا معنى النصيحة للأئمة. (ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله تعالى: هَذَا حدِيث عظِيم الشَّأن، وعليهِ مدار الإسلام، وأما ما قالهُ جماعات، منْ العُلماء: إنهُ أحد أرباع الإسلام، أي أحد الأحادِيث الأربعة، الَّتِي تَجمع أمُور الإسلام، فليس كما قالُوهُ، بل المدارُ عَلَى هَذَا وحدهُ.
(ومنها): ما قاله ابنُ بطال رحمه الله فِي هَذَا الحديث: أنَّ النَّصِيحة تُسَمَّى دِينًا، وإسلامًا، وأنَّ الدِّين يقع عَلَى العمل كما يقع عَلَى القَوْل. قَالَ: والنَّصِيحة فرضٌ يُجْزِي فِيهِ منْ قام بِهِ، ويسقُط عن الباقِين. قَالَ: والنصِيحة لازِمة عَلَى قَدْر الطَّاقة، إِذَا عَلِمَ النَّاصِحُ أنَّهُ يُقبل نُصحه، ويُطاع أمرُهُ، وأمِن عَلَى نَفْسه المكرُوه، فإِن خَشِي عَلَى نفسه أذًى، فهُو فِي سَعَةٍ. والله أعْلم. انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4201 -
(حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الدِّينُ النَّصِيحَةُ"، قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.
و"يعقوب بن إبراهيم": هو الدَّوْرقيّ. و"عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. و"سفيان": هو الثوريّ.
(1)
"شرح مسلم" للنوويّ 2/ 37 - 39. "كتاب الإيمان".
وشرح الحديث، وبيان مسائله، تقدما فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4202 -
(أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ"، قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا، غير مرّة. "والربيع بن سليمان": هو المراديّ المؤذّن المصريّ. و"ابن عجلان": هو محمّد مولى أبي فاطمة المدنيّ.
وقوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: "إن الدين النصيحة"، وكرّره ثلاثاً، تأكيدًا، وتنويهًا بعلوّ شأن النصيحة.
وحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح، أخرجه المصنّف هنا -31/ 4202 و423 - وفي "الكبرى" 35/ 7822 و7823. وأخرجه (ت) فِي "البرّ والصلة" 1916. وشرحه، وفوائده تعلم مما سبق فِي حديث تميم الداريّ رضي الله تعالى عنه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4203 -
(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْكَبِيرِ بْنِ شُعَيْبِ بْنِ الْحَبْحَابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَهْضَمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، وَعَنْ سُمَيٍّ، وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ"، قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا، غير:
1 -
(عبد القدّوس) بن محمّد بن عبد الكبير بن شُعيب بن الْحَبْحاب، أبو بكر الحبحابيّ المِعوليّ العطّار البصريّ، صدوق [11].
قَالَ أبو حاتم: صدوقٌ. وَقَالَ النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ مسلمة: لا بأس به. روى عنه الجماعة، سوى مسلم، وأبي داود، روى عنه البخاريّ أربعة أحاديث، وروى عنه المصنّف فِي هَذَا الكتاب هَذَا الحديث فقط.
و"محمّد بن جهضم": هو الثقفيّ، أبو جعفر البصريّ، خراسانيّ الأصل، صدوقٌ [10] 60/ 1770. و"إسماعيل بن جعفر": هو ابن أبي كثير الأنصاريّ المدنيّ، ثقة ثبت [8] 16/ 17. و"سُميّ": هو مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المدنيّ، ثقة [6] 22/ 540. و"عبيد الله بن مِقسم": هو المدنيّ، ثقة مشهور [4] 66/ 1922.
والحديث صحيح، وَقَدْ سبق البحث فيه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
32 - (بِطَانَةِ الإِمَامِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "بِطانة" الرجل -بكسر الباء الموحدة، وتخفيف الطاء المهملة-: صاحب سرّه، وداخلةُ أمره الذي يُشاوره فِي أحواله. قاله فِي "اللسان".
وَقَالَ الإِمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه": البطانة الدُّخَلاءُ. انتهى. قَالَ فِي " الفتح": هَذَا قول أبي عُبيدة، قَالَ فِي قوله تعالى:{لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} الآية [آل عمران: 118]: البطانة الدُّخلاء، والخبال الشرّ. انتهى. والدُّخَلاءُ بضمّ، ثم فتح: جمع دَخِيل: وهو الذي يدخل عَلَى الرئيس فِي مكان خلوته، ويُفضي إليه بسرّه، ويصدقه فيما يُخبره به، مما يخفى عليه منْ أمر رعيّته، ويَعمل بمقتضاه. انتهى
(1)
.
وَقَالَ الزجّاج: البطانة الدُّخَلاء الذين يُنبسط إليهم، ويُستبطنون، يقال: فلانٌ بطانة لفلان: أي مداخلٌ له مؤانسٌ، والمعنى أن المؤمنين نهُوا أن يتّخذوا المنافقين خاصّتهم، وأن يُفضوا إليهم أسرارهم. ذكره فِي "اللسان". والله تعالى أعلم بالصواب.
4204 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَمَّرُ بْنُ يَعْمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلاَّمٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ وَالٍ، إِلاَّ وَلَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ
(1)
"فتح" 15/ 98 - 99. "كتاب الأحكام". حديث: 7198.
بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَبِطَانَةٌ لَا تَأْلُوهُ خَبَالاً، فَمَنْ وُقِيَ شَرَّهَا، فَقَدْ وُقِيَ، وَهُوَ مِنَ الَّتِي تَغْلِبُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(محمّد بن يحيى بن عبد الله) بن خالد الذُّهْليّ النيسابوريّ، ثقة حافظ جليل [11] 196/ 314.
2 -
(مُعَمّر -بتشديد الميم الثانية، بوزن محمّد- ابن يعمر) -بِفَتْحِ أوَّله، وَسُكُون المُهملة- الليثيّ، أبو عامر الدمشقيّ، مقبول، منْ كبار [10].
روى عن معاوية بن صالح. وعنه العبّاس بن الوليد بن صبح الخلال، ومحمد بن خلف الداريّ، وأحمد بن يوسف السلميّ، ومحمد بن يحيى الذهليّ. ذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: يغرب. وَقَالَ ابن القطّان: مجهول الحال. تفرد به المصنّف بهذا الحديث فقط.
3 -
(معاوية بن سلّام) -بتشديد اللام- ابن أبي سلّام، أبو سلّام الدمشقيّ، وكان يسكن حمص، ثقة [7] 13/ 1479.
4 -
(الزهريّ) محمّد بن مسلم الإِمام المدنيّ الحافظ الحجة الثبت [4] 1/ 1.
5 -
(أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقة فقيه [3] 1/ 1.
6 -
(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير مُعَمَّر، فإنه منْ أفراده، كما سبق آنفًا. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين منْ الزهريّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه منْ المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ) زائدة (وَالٍ) وفي حديث أبي سعيد الآتي بعد هَذَا: "ما بعث الله منْ نبيّ، ولا استخلف منْ خليفة" (إِلاَّ وَلَهُ بِطَانَتَانِ) البطانة بكسر الموحدة: اسم جنس، يشمل الواحد، والجماعة، والمراد منْ يَطَّلِعُ عَلَى باطن حال الكبير، منْ أتباعه (بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ) هَذَا تفسير لما يأتي فِي حديث أبي سعيد الخدريّ رضىِ الله تعالى عنه بعد هَذَا بلفظ: "بطانة تأمره بالخير"(وَبِطَانَةٌ لَا تَأْلُوهُ) أي تقصّر فيه، منْ باب عدا،
وسَمَا، يقال: ألا فِي الأمر: إذا قصّر فيه، ثم استُعمل معدّى إلى مفعولين فِي قولهم: لا آلوك نصحًا، ولا آلوك جُهدًا عَلَى تضمين معنى المنع والنقص
(1)
(خَبَالاً) بفتح الخاء المعجمة، وهو الفساد، وأصله ما يلحق الحيوان منْ مرض، وفُتور، فيورثه فسادًا، واضطرابًا، يقال: خبَله، منْ باب ضرب، وخبّله، بالتشديد، فهو خابل، ومُخبّل، وذاك مخبولٌ، ومُخبّل. قاله السمين الحلبيّ. وهو منصوب عَلَى التمييز: أي لا تُقصّر له منْ جهة الفساد فِي أمره، يعني أنها لا تقصّر فِي إفساد أمره لعمل مصلحتهم، وقيل: كلّ منْ الضمير، و"خبالاً" منصوب بنزع الخافض، الأول باللام، والثاني بـ"فِي": أي لا يأن له فِي الخبال، وذلك لأن هذه المادّة لازمة، فلا يتعدّى الفعل إليها إلا بواسطة تضمينه المنع. انتهى
(2)
. والجملة صفة لـ"بطانة"، قَالَ فِي "الفتح": هو اقتباس منْ قوله تعالى: {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران: 118].
ونقل ابن التين عن أشهب أنه ينبغي للحاكم أن يتّخذ منْ يستكشف له أحوال الناس فِي السرّ، وليكن ثقةً مأمونا، فطِنًا، عاقلاً؛ لأن المصيبة إنما تدخل عَلَى الحاكم المأمون منْ قبوله قول منْ لا يوثق به، إذا كَانَ هو حسن الظنّ به، فيجب عليه أن يتثبّت فِي مثل ذلك. انتهى.
(فَمَنْ وُقِيَ) بالبناء للمفعول. وقوله (شَرَّهَا) منصوب عَلَى المفعوليّة: أي حُفِظَ شرّ هذه البطانة التي لا تألوه خبالاً (فَقَدْ وُقِيَ) بالبناء للمفعول أيضاً: أي حُفظ منْ كلّ بلاء (وَهُوَ) أي ذلك الوالي الذي له بطانتان موصوفتان بالوصين المذكورين (مِن) الطائفة (الَّتِي تَغْلِبُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا) يعني أنه منْ جنس الطائفة التي تغلب عليه، فإن غلبت عليه بطانة الخير، فهو منْ أهل الخير، وإن غلبت عليه بطانة الشرّ، فهو منْ أهل الشرّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح، أخرجه المصنّف رحمه الله تعالى هنا -32/ 4204 - وفي "الكبرى" 36/ 7824 وفي "السير" 107/ 8756. وأخرجه (خ) تعليقًا فِي "كتاب الأحكام" 7198. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4205 -
(أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ أَخْبَرَنِي
(1)
راجع "حاشية الجمل عَلَى الجلالين" 1/ 307.
(2)
راجع "حاشية الجمل عَلَى الجلالين" 1/ 307.
يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ، وَلَا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ، إِلاَّ كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ، وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ عز وجل").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(يونس بن عبد الأعلى) بن ميسرة الصدفيّ، أبو موسى المصريّ، ثقة، منْ صغار [10] 1/ 449.
1 -
(ابن وهب) عبد الله القرشيّ مولاهم، أبو محمّد المصريّ، ثقة ثبت عابد [9] 9/ 9.
3 -
(يونس) بن يزيد الأيليّ، أبو يزيد، ثقة [7] 9/ 9.
4 -
(أبو سعيد) سعد بن مالك بن سنان الأنصاريّ الخدريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما 169/ 262. والباقيان تقدما فِي السند الماضي. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالمصريين، والثاني بالمدنيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه أبا سعيد الخدريّ رضي الله عنه منْ المكثرين السبعة، روى (1170) حديثَا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) الخدريّ رضي الله تعالى عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "مَا بَعَثَ اللهُ مِنْ) زائدة (نَبِيٍّ، وَلَا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ) وفِي رِواية صفوان بن سُلَيْم: "مَا بعث الله منْ نبِيّ، ولا بعدهُ منْ خَليفَة"، والمُراد بِبعثِ الْخَليفة استِخلافه، فهذه الرواية تبين المراد منه. وفي حديث أبى هريرة الماضي:"مَا مِنْ وَالٍ" وهِي أَعَمّ.
(إِلاَّ كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ) وفِي رِواية البخاريّ: "بِطانة تأمُرهُ بِالْمَعْرُوفِ، وتحضّه عليه"، وفي رواية:"تأمره بالمعروف، وَتَنْهاهُ عن الْمُنْكر"، وهِي تُفَسِّر الْمَراد بِالخيرِ (وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ، وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ) بالحاءِ المُهملة، وَضَاد مُعْجَمَة ثقِيلة، أيْ تُرغِّبهُ فِيهِ"، وتُؤكِّدُهُ عَلَيْهِ.
قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: وَقَدْ اسْتَشْكِل هَذَا التَّقسِيمُ، بِالنِّسبةِ لِلنَّبِيّ؛ لِأنَّهُ وإن جاز عقلاً، أن يكُون فِيمن يُداخِلهُ منْ يكُون منْ أهْل الشَّرِّ؛ لكِنهُ لا يُتصوَّر مِنْهُ أن يُصْغِي إِليهِ، ولا يعمل بِقَوْلِه؛ لوُجُودِ العِصْمة.
وأُجِيب بأنَّ فِي بقِيَّة الحديث الإشَارة إِلى سَلامة النَّبِيّ منْ ذَلِكَ، بقولِهِ:"فالمَعْصُوم منْ عصم الله تعالي"، فلا يلزم منْ وُجُود منْ يُشِير عَلَى النَّبِيّ بِالشَّرِّ، أنْ يَقبل مِنْهُ. وقِيل: المراد بـ"البِطَانتين" فِي حقّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم المَلَك، والشَّيْطَان، وإلَيْهِ الإشَارة بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"وَلَكِنَّ الله أعَانَنِي عَلَيْهِ، فأسْلَمَ". انتهى
(1)
.
(وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ عز وجل") وفِي رِواية بعضهم "منْ عَصَمَهُ الله" بِزِيادةِ الضَّمِير، وهُو مُقدَّر فِي الرواية الأخْرَى. والمُراد بهِ إِثْبَات الأمُور كُلّها لِلّهِ تعالى، فهُو الَّذِي يعصِم منْ شَاءَ مِنهُم، فالمعصُوم منْ عصمهُ الله، لا مَنْ عصمتهُ نَفْسه، إِذْ لا يُوجَد منْ تَعْصِمهُ نَفْسه حَقِيقَة، إِلَّا إنْ كَانَ الله عَصَمَهُ.
وفِيهِ إِشارة إِلى أنَّ ثَمَّ قِسْمًا ثَالِثًا، وهُو أنَّ منْ يلِي أمُور النَّاس، قد يقبل منْ بِطانة الخير، دُون بِطانة الشَّرِّ دائِمًا، وهذا اللائِق بِالنَّبِيّ، ومِن ثمَّ عبَّر فِي آخِر الحَديث بِلفظةِ "الْعِصْمَة". وَقَدْ يقبل منْ بِطانة الشَّرِّ، دُون بِطانةِ الخير، وهذا قَدْ يُوجد، ولا سِيَّمَا مِمَّنْ يكُون كافِرًا، وَقَدْ يَقْبَل منْ هؤُلاءِ تَارَة، ومن هؤُلاءِ تَارَة، فإِن كَانَ عَلَى حَد سَوَاء، فلَمْ يَتَعرَّض لهُ فِي الحديث؛ لِوُضُوحِ الحال فِيهِ، وإن كَانَ الأغْلب عَلَيْهِ القبُول منْ أحَدهمَا، فهُو مُلحق بِهِ، إن خيرًا فَخَير، وإِن شرًّا فَشَرّ.
وفِي معنى حدِيث الباب، حدِيث عائِشة رضي الله تعالى عنها، مَرْفُوعًا:"مَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ عَمَلاً، فأراد الله بِهِ خَيرًا، جعل لهُ وزِيرًا صَالِحًا، إنْ نَسِيَ ذَكَّرهُ، وَإنْ ذَكَرَ أَعَانَهُ"
(2)
.
قَالَ ابْن التِّين رحمه الله تعالى: يَحْتمِل أن يكُون المراد بـ"البِطَانَتَيْنِ" الْوَزيرَيْنِ، وَيَحْتمِل أن يكُون الملك والشَّيْطان. وَقَالَ الْكَرْمانِيُّ رحمه الله تعالى: يَحْتَمِل أنْ يَكُون المُراد بـ "البِطَانَتَيْنِ" النَّفْس الأمَّارة بِالسُّوءِ، والنَّفْس اللَّوَّامة المُحَرِّضة عَلَى الْخَيْر؛ إِذْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا قُوَّة مَلَكِيَّة، وقُوَّة حَيَوانِيَّة. انتهى.
قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: والْحَمْل عَلَى الْجَمِيع أَوْلَى، إِلَّا أَنَّهُ جَائِز، أَنْ لا يكُون لِبعْضِهِمْ إِلَّا البعض. وَقَالَ المُحِبّ الطَّبرِيُّ رحمه الله تعالى: الْبِطَانَة: الأوْلِيَاء والأصْفِياء، وَهُوَ مَصْدرٌ وُضِعَ مَوْضِع الِاسْم، يَصْدُق عَلَى الْوَاحِد، والِاثْنَيْنِ، والْجَمْع، مُذَكَّرًا، وَمُؤَنَّثًا. انتهى
(3)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"فتح" 15/ 99 - 100. "كتاب الأحكام". حديث 7198.
(2)
حديث صحيح يأتي للمصنف فِي الباب التالي.
(3)
المصدر السابق.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه البخاريّ.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -32/ 4205 - وفي "الكبرى" 36/ 7825. وأخرجه (خ) فِي "القدر" 6611 و"الأحكام" 7198 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 10949 و11424. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي الاختلاف الواقع فِي سند هَذَا الحديث:
(اعلم): أنه اختُلف فِي هَذَا الحديث، فقد روي منْ حديث أبي سعيد الخدريّ، ومن حديث أبي هريرة، ومن حديث أبي أيوب رضي الله تعالى عنهم، وكلها أخرجها المصنّف رحمه الله تعالى، وَقَدْ أشار الإِمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" إلى هذه الاختلافات، بعد أن أخرجه منْ حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، وهاك نصّه:
حدثنا أصبغ، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدريّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"ما بعث الله منْ نبي، ولا استخلف منْ خليفة، إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف، وتَحُضُّه عليه، وبطانة تأمره بالشر، وتحضه عليه، فالمعصوم منْ عصم الله تعالى".
وَقَالَ سليمان، عن يحيى: أخبرني ابن شهاب بهذا، وعن ابن أبي عتيق، وموسى، عن ابن شهاب مثله. وَقَالَ شعيب، عن الزهريّ، حدثني أبو سلمة، عن أبي سعيد قوله.
وَقَالَ الأوزاعي، ومعاوية بن سلام: حدثني الزهريّ، حدثني أبو سلمة، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ ابن أبي حسين، وسعيد بن زياد، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد قوله.
وَقَالَ عبيد الله بن أبي جعفر: حدثني صفوان، عن أبي سلمة، عن أبي أيوب، قَالَ سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى.
فقال فِي "الفتح": قوله: "وَقَالَ شُعَيْب": هُو ابن أبِي حمزة، عن الزُّهريّ إِلَخْ. وقوله:"قوله" يعني أَنَّهُ لم يرفعهُ، بَلْ جعلهُ منْ كلام أبِي سعِيد، وهُو بِالنَّصْب عَلَى نَزْع الخَافِض، أي منْ قوله. ورِواية شُعيب هذِهِ الموقُوفة، وصَلهَا الذُّهلِيُّ، فِي جمعه حدِيث الزُّهريّ، وَقَالَ الإسْماعِيليّ: لم تقع بِيَدِي. قَالَ الحافظ: وَقَدْ رَوَيْناها فِي فَوائِد عَلِيّ بن مُحَمَّد الجِكَّانِيّ -بِكسرِ الجِيم، وَتَشْدِيد الْكَاف، ثُمَّ نُون، عن أبِي اليَمَان، مَرْفُوعَة.
وقَوْله: "وَقَالَ الأوْزاعِيُّ، ومُعاوِية بن سَلَّام: حدَّثني الزُّهرِيّ، حَدَّثني أبُو سَلَمَة، عن أبي هريرة": يُرِيد أنَّهُما خالفا منْ تقدَّم، فَجَعلاهُ، عن أبي هريرة، بَدَل أبي سعِيد، وخالفا شُعيبًا أيضًا فِي وقفه، فَرَفَعاهُ، فأمَّا رِواية الأوْزَاعِيِّ، فوَصلَهَا أحمد، وابن حِبَّان، والحاكِم، والإسْمَاعيليّ، منْ رِواية الوليد بن مُسلم، عنهُ، وأخرجهُ الإسْماعيليّ أيضًا، مِن رِواية عبد الحمِيد بن حبِيب، عَنْ الأوزاعِيِّ، فقال: عن الزُّهْريّ، وَيَحْيَى بن أبِي كثِير، عن أبِي سَلَمَة، عن أبي هُريرة. قَالَ الحافظ: فَعَلى هَذَا، فلعلَّ الولِيد حَمَل رِواية الزُّهريّ، عَلَى رِوَاية يَحْيى، فكأنَّهُ عِنْد يَحْيى، عن أبِي سلمة، عَنْ أبي هُريْرة، وعِند الزُّهرِيِّ، عن يحيى، عن أبِي سَعِيد، فلعلَّ الأوْزاعيِّ حدَّث بِهِ مَجْمُوعًا، فظنَّ الرَّاوِي عنهُ، أَنَّهُ عِنْدهُ عَنْ كُل مِنْهُما بِالطَّرِيقينِ، فَلمَّا أفرد أحد الطَّرِيقينِ، انْقَلبَتْ عَلَيْهِ، لكِنَّ رِواية معمر الَّتِي بعدها، قد تدفع هَذَا الِاحْتِمَال، وُيقرِّب أَنَّهُ عِند الزُّهرِيّ، عن أبِي سَلَمَة عنْهُما جَميعًا.
وَقَدْ قِيل عن الأوزاعيِّ، عن الزُّهريّ، عن حُميدِ بن عبد الرَّحْمن، بدل أبِي سَلَمة، أخرجهُ إسْحَاق فِي "مُسْنَده" منْ طرِيق الفَضْل بن يُونُس، عن الأوْزاعِيِّ، والفَضْل صَدُوق، وَقَالَ ابن حِبَّان -لَمَّا ذكرهُ فِي "الثِّقات"-: رُبَّما أخْطَأ، فكان هَذَا مِنْ ذَاك.
وأمَّا رِواية مُعَاوية بنِ سَلَّام -وهُو بتَشْدِيدِ اللَّام- فوصلها النَّسائِيُّ، والإسْماعيليّ، منْ رِواية معمر، حَدَّثنا مُعَاوِية بن سَلَّام، حَدَّثَنا الزُّهرِيّ، حَدَّثني أبُو سَلَمَة، أنَّ أَبَا هُرَيْرة، قَالَ فَذَكَرهُ.
قَوْله: "وَقَالَ ابْن أبِي حُسَيْن، وَسَعِيد بْن زِياد، عن أبِي سَلَمة، عن أبِي سَعِيد، قَوْله": أيْ وقَفَاهُ أيْضًا. وابْن أبِي حُسَيْن: هُو عبد الله بن عبد الرَّحمن بن أبِي حُسَين، النَّوْفلِيُّ المَكِّيّ، وسعِيد بن زِياد: هُو الأنصارِيّ المدنِيّ منْ صِغار التَّابِعِين، رَوَى عنْ جابِر، وحدِيثه عنهُ، عِند أبِي داوُد، والنَّسائِيِّ، وما لهُ راوٍ، إِلا سعِيد بن أبِي هِلال، وَقَدْ قَالَ فِيهِ أبُو حاتِم الرَّازِيُّ: مَجْهُول، وما لهُ فِي البُخاريّ ذِكر، إِلَّا فِي هَذَا الموضِع.
قوله: "وَقَالَ عُبَيْد الله بن أبِي جَعْفر: حدَّثني صَفْوان، عن أبِي سَلَمَة، عن أبِي أيُّوب": أمَّا عُبيد الله فَهُو الْمِصْرِيّ، واسم أبِي جعفر: يَسَار بِتَحْتَانِية، ومُهملة خفِيفة- وعُبيد الله تابِعِيّ صَغِير، وَقَدْ وصل هذِهِ الطَّرِيق النَّسائِيُّ
(1)
، والإسْماعيليّ، منْ طَريق اللَّيْث، عن عُبيدِ الله بْن أبِي جَعْفر: حَدَّثنا صَفْوان بن سُليم -هُوَ الْمَدَنِيّ- عن أبِي سَلَمَة، عن أبِي أيُّوب الأنْصَارِيّ، فَذكَرهُ.
قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: مُحَصَّل ما ذكرهُ البُخَاريّ، أنَّ الحديث مَرْفُوع، منْ رِواية ثَلاثَة
(1)
هو الحديث التالي.
أَنْفُس، منْ الصَّحَابة انْتَهَى.
قَالَ الحافظ: وَهَذا الَّذِي ذكرهُ، إِنَّمَا هُو بِحسب صُورة الْوَاقِعة، وأما عَلَى طرِيقة المُحدِّثِين، فهُو حدِيث وَاحِد، واختُلِف عَلَى التَّابِعِيّ، فِي صَحَابِيه، فَأمَّا صَفْوَان، فَجَزَم بِأنهُ عن أبِي أيُّوب، وأما الزُّهرِيّ، فاخْتُلِف عَلَيْهِ، هَلْ هُو أبُو سَعِيد، أوْ أبُو هُريرة. وأمَّا الِاخْتِلاف فِي وَقْفه ورفعه، فلا تَأثِير لهُ؛ لِأنَّ مِثله لا يُقال مِنْ قِبل الاجتِهاد، فالرِّواية المَوْقُوفة لفظًا، مَرْفُوعة حُكْمًا، وُيرجَّح كونه عن أبِي سعِيد، مُوَافَقَة ابن أبِي حُسَيْن، وسعِيد بْن زِياد لِمن قَالَ: عن الزُّهريّ، عن أبِي سلمة، عَنْ أبِي سعِيد، وإذا لم يبق إِلا الزُّهرِيّ، وصفوان، فالزُّهرِيّ أحفظ منْ صَفْوان بِدَرَجاتٍ، فمِن ثَمَّ يَظْهَر قُوَّة نظر البُخَاريّ، فِي إِشارته إِلى ترجِيح طرِيق أبِي سعِيد، فلِذلِك سَاقَهَا موصُولة، وأورد البقِيَّة بِصِيغِ التَّعْليق، إِشَارَة إِلى أنَّ الخِلاف المَذْكُور لا يَقْدَح فِي صِحَّة الحديث، إمَّا عَلَى الطَّرِيقة الَّتِي بيَّنتها منْ التَّرجِيح، وإمَّا عَلَى تجوِيز أن يكُون الحدِيث عِند أبِي سَلَمَة، عَلَى الأوجُه الثَّلاثة، ومع ذَلِكَ فطرِيق أبِي سعِيد أرْجَح. والله أعلم.
قَالَ: وَوَجَدْت فِي "الأدب المُفْرَد" لِلبُخَارِيّ ما يَتَرَجَّح بِهِ رِواية أبِي سلمة، عَنْ أبِي هُرَيْرة، فإنَّهُ أخْرجهُ منْ طرِيق عَبْد الملِك بن عُمير، عن أبِي سلمة، كذلِك فِي آخِر حدِيث طوِيل. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى
(1)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا التحقيق الذي ذكره الحافظ مفسّرًا ما أشار إليه الإِمام البخاريّ رحمهما الله تعالى فِي الاختلاف الواقع فِي إسناد هَذَا الحديث تحقيقٌ نفيسٌ جدًا، وخلاصة ما مال إليه الحافظ ترجيح رواية أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، كما هو ظاهر صنيع البخاريّ رحمه الله تعالى.
والحاصل أن الحديث صحيح بطرقه الثلاثة، وإنما الكلام فِي الترجيح، فظاهر صنيع البخاريّ ترجيح كونه منْ مسند أبي سعيد الخدريّ، ومال إليه الحافظ، لكن كونه منْ مسند أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أيضًا وجد مرجّحًا، كما ذكر الحافظ فِي آخر كلامه، فبقيت رواية صفوان عن أبي أيوب مرجوحة، فليُتأمل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو أن الإِمام له بطانتان: بطانة تأمره بالخير، وتحضّه عليه، وبطانة تأمره بالشرّ، وتحضّه عليه، فينبغي له أن يكون عَلَى
(1)
"فتح" 15/ 98 - 102 "كتاب الأحكام" حديث: 7201.
حَذَر فِي أموره، حتى لا يوافق بطانة السوء، فيقع فِي السوء، ويكون منْ حزبه.
(ومنها): أن الله تعالى هو المستحقّ ليعصم عباده منْ مكاره الدنيا والآخرة، فلا عاصم منْ أمره إلا هو، ولا معصوم إلا منْ عصمه، فالواجب عَلَى المؤمن أن يتوجّه بقلبه، وقالبه إليه سبحانه وتعالى، ويخضع، ويذلّ له بجملته حتى تشمله عنايته تعالى شمولاً كليًّا، كما قَالَ تعالى فِي الحديث القدسيّ الذي أخرجه البخاريّ رحمه الله تعالى فِي"صحيحه" منْ طريق شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن عطاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قَالَ: منْ عادى لي وليًا، فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بشيء، أحب إلى مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل، حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء، أنا فاعله، ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت، وأنا أكره مساءته" انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4206 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ صَفْوَانَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ" "مَا بُعِثَ مِنْ نَبِيٍّ، وَلَا كَانَ بَعْدَهُ مِنْ خَلِيفَةٍ، إِلاَّ وَلَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَبِطَانَةٌ لَا تَأْلُوهُ خَبَالاً، فَمَنْ وُقِيَ بِطَانَةَ السُّوءِ فَقَدْ وُقِيَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده، وهو مصريّ فقيه ثقة.
و"شُعيب": هو ابن الليث بن سعد المصريّ الثقة النبيل الفقيه، منْ كبار [10]. و"عبيد الله بن أبي جعفر" يسار: هو أبو بكر المصريّ الفقيه الثقة [5]. و"صفوان": هو ابن سُليم، أبو عبد الله الزهريّ مولاهم، أبو عبد الله المدنيّ، ثقة مفتٍ عابد، رُمي بالقدر [4] 47/ 59. و"أبو أيّوب": هو خالد بن زيد بن كُليب الأنصاريّ، منْ كبار الصحابة، شهد بدرًا، ونزل عليه النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم حين قدم المدينة، مات رضي الله تعالى عنه غازيًا بالروم سنة (50) وقيل: بعدها، تقدّمت ترجمته فِي 20/ 20.
والحديث صحيح، وَقَدْ تقدّم تمام البحث فيه فِي الحديث الذي قبله، وهو منْ أفراد
المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -32/ 4206 - وفي "الكبرى" 36/ 7826 وفي "السير" 107/ 8757. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
33 - (وَزِيرِ الإِمَامِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الوزير" بفتح الواو، منْ وزَرَ للسلطان، منْ باب وعد، فهو وزير، والجمع وُزراء، والوزارة بالكسر؛ لأنها وِلايةٌ، وحُكي الفتح، قَالَ ابن السّكّيت: والكلام بالكسر. واشتقاق الوزير منْ الوِزر بكسر، فسكون- وهو الثِّقَل، وسمي الوزير به لأنه يحِمل عن الملك
(1)
ثقل التدبير. ذكره الفيّوميّ.
وَقَالَ فِي "اللسان": الوزير حَبَأُ الملك الذي يَحمِل ثِقْله، ويُعينه برأيه، قَالَ: والوزير فِي اللغة اشتقاقه منْ الوَزَر -بفتحتين- وهو الجبل الذي يُعتصم به ليُنجَى منْ الهلاك، وكذلك وزرير الخليفة معناه: الذي يعتمد عَلَى رأيه فِي أموره، ويَلتجىء إليه. وقيل: إنما قيل لوزير السلطان وزيرٌ؛ لأنه يزِر عن السلطان أثقال ما أُسند إليه منْ تدبير المملكة، أي يحمِل ذلك. انتهى ببعض تصرّف. والله تعالى أعلم.
4207 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَمَّتِي، تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ عَمَلاً، فَأَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا، جَعَلَ لَهُ وَزِيرًا صَالِحًا، إِنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ، وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانَهُ").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(عمرو بن عثمان) بن سعيد القرشيّ مولاهم، أبو حفص الحمصيّ، صدوق [10] 21/ 535.
2 -
(بقية) الوليد بن صائد الكلاعيّ، أبو يُحْمد الحمصيّ، صدوق، كثير التدليس
(1)
قَالَ فِي "القاموس": الحَبَأ مُحَرَّكةً: جليسُ المَلِكَ وخاصَّته، جمعُهُ أحْبَاءٌ. انتهى.
عن الضعفاء [8] 45/ 55.
3 -
(ابن المبارك) عبد الله الحنظليّ، أبو عبد الرحمن المروزيّ الإِمام الحجة الحافظ الثبت [8] 32/ 36.
4 -
(ابن أبي حُسين) هو عمر بن سعيد بن أبي حُسين النوفليّ المكيّ، ثقة [6] 104/ 1365.
5 -
(القاسم بن محمّد) بن أبي بكر الصدّيق التيميّ، أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة الثقة المثبت، قَالَ أيوب: ما رأيت أفضل منه، منْ كبار [3] مات سنة (106) عَلَى الصحيح، وتقدّم فِي 120/ 166.
6 -
(عمته) هي: عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما، أم المؤمنين 5/ 5. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو وأبو داود، وابن ماجه، وبقية علّق له البخاريّ، وأخرج له مسلم متابعة. (ومنها): أن فيه رِوايَةَ الراوي عن عمّته، وفيه أحد الفقهاء السبعة، وهو القاسم، وفيه عائشة رضي الله تعالى عنها منْ المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ) أنه (قَالَ: سَمِعْتُ عَمَّتِي) عائشة بنت أبي بكر الصدّيق، أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها (تقُولُ: قَالَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ وَلِيَ) بكسر اللام، يقال: ولِيت الأمر أَليه وِلايةً بالكسر: إذا تولّيته (مِنْكُمْ عَمَلاً، فَأَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا، جَعَلَ لَهُ وَزِيرًا صَالِحًا) أي معينًا وملجأ ذا رشد (إِنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ) بتشديد الكاف، منْ التذكير، أي إن نسي الوالي أمراً يتعين عليه القيام به ذكره ذلك الوزير؛ لما يتّصف به منْ الصلاح (وَإِنْ ذَكَرَ) بتخفيف الكاف (أَعَانَهُ) أي ذكر الوالي أمرًا فيه صلاح رعيته، ورعايته أعانه ذلك الوزير بمقتضى ما اتّصف به منْ الصلاح أيضاً.
وأخرج الحديث أبو داود مطولاً، ولفظه:
2932 -
حدثنا موسى بن عامر المري، حدثنا الوليد، حدثنا زهير بن محمّد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد
الله بالأمير خيرا، جَعَلَ له وزير صدق، إن نسي ذكّره، وإن ذَكَرَ أعانه، وإذا أراد الله به غير ذلك، جعل له وزير سُوء، إن نسي لم يذكّره، وإن ذَكَر لم يُعِنه". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هَذَا صحيح.
[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده بقيّة بن الوليد، وهو مشهور بتدليس التسوية؟.
[قلت]: إنما صحّ؛ بمتابعة الوليد بن مسلم، عن زهير بن محمّد فِي رواية أبي داود المذكور، وأيضاً صرح بقيّة هنا بالتحديث عن شيخه.
[فإن قلت]: طريق أبي داود أيضاً فيها زهير بن محمّد، وهو متكلّم فيه، ولاسيّما فِي رواية الشاميين عنه، وهذا منها؟.
[قلت]: إنما صحّ الحديث بمجموع الطريقين؛ لأنهما، وإن طُعن فِي كلّ منهما بمفرده، إلا أن أحدهما يقوي الآخر، ونظائر هَذَا فِي الروايات كثيرة
(1)
. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -33/ 4207 - وفي "الكبرى" 37/ 7827 وفي "السير" 105/ 8752. وأخرجه أبو داود فِي "الخراج والإمارة، والفيء" 2932. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان مشروعيّة اتخاذ الإِمام الوزير؛ ليستعين به عَلَى مهمات الإمارة. (ومنها): أن بعض الأمراء يريد الله به خيرًا، فيجعل له وزير صدق، إن ذكر أعانه، وإن نسي ذكّره، وهذا فضلٌ منْ الله تعالى، {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)} [البقرة: 105]. (ومنها): أنه لا ينبغي للإمام أن يستبدّ برأيه، وينفرد بسياسة أمور رعيّته؛ لأن ذلك يضيّع حقوقًا كثيرة، بل عليه أن يستعين بالوزراء الذين يثق بدينهم، وأمانتهم، فإن الله سبحانه وتعالى أمر نبيّه صلّى الله تعالى عليه وسلم أن يشاور الصحابة رضي الله تعالى عنهم فِي أموره، فقال تعالى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} الآية [آل عمران: 159]، فإن كَانَ صلّى الله تعالى
(1)
راجع فِي هَذَا البحث "السلسلة الصحيحة" للشيخ الألباني رحمه الله تعالى 1/ 802 رقم 489.
عليه وسلم، وهو مؤيّدٌ بوحي السماء، أُمر بالمشاورة، فكيف بغيره، ممن يغلبه هواه، وتستولي عليه نفسه الأمّارة بالسوء، وَقَدْ قَالَ تعالى:{إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} الآية [يوسف: 53]، فيجب عَلَى الإِمام أخذ الحذر، والاحتياط فِي أمور رعيته، فلا يوجّه إليهم أمرًا، أو نهيًا، إلا بمشورة أهل العلم والخير. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
34 - (جَزَاءِ مَنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَأَطَاعَ)
4208 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ زُبَيْدٍ الإِيَامِيِّ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ جَيْشًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلاً، فَأَوْقَدَ نَارًا، فَقَالَ: ادْخُلُوهَا، فَأَرَادَ نَاسٌ أَنْ يَدْخُلُوهَا، وَقَالَ الآخَرُونَ: إِنَّمَا فَرَرْنَا مِنْهَا، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِلَّذِينَ أَرَادُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا: "لَوْ دَخَلْتُمُوهَا، لَمْ تَزَالُوا فِيهَا، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"، وَقَالَ لِلآخَرِينَ: "خَيْرًا". وَقَالَ أَبُو مُوسَى فِي حَدِيثِهِ: "قَوْلاً حَسَنًا"، وَقَالَ: "لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ").
رجال هَذَا الإسناد: ثمانية:
1 -
(محمّد بن المثنّى) العنزيّ، أبو موسى البصريّ المعروف بالزمِنِ، ثقة ثبت [10] 64/ 80.
2 -
(محمّد بن بشار) العبديّ بُندار، أبو بكر البصريّ، ثقة حافظ [10] 24/ 27.
3 -
(محمّد) بن جعفر الهذليّ، أبو عبد الله البصريّ المعروف بغندر، ثقة صحيح الكتاب [9] 21/ 22.
4 -
(شعبة) بن الحجاج الإِمام الحجة الشهير [7] 27/ 24.
5 -
(زُبيد) بن الحارث الإياميّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقة ثبت عابد [6] 37/ 1420.
[تنبيه]: قوله: "الإيامي" -بكسر الهمزة، وتخفيف الياء، ويقال فيه: الياميّ بحذف الهمزة: نسبة إلى إيام بطن منْ همدان. أفاده فِي "اللباب" 1/ 96.
6 -
(سعد بن عُبيدة) السلميّ، أبو حمزة الكوفيّ، ثقة [3] 77/ 1008.
7 -
(أبو عبد الرحمن) عبد الله بن حبيب السُّلَميّ الكوفيّ القارىء المشهور، مشهورٌ بكنيته، ولأبيه صحبة، ثقة ثبت [2] 112/ 152.
8 -
(عليّ) بن أبي طالب الهاشميّ، أبو الحسن الخليفة الراشد رضي الله تعالى عنه 74/ 91 والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، وبعده مسلسل بالكوفيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. (ومنها): أن صحابيّه ابن عم المصطفى صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته، واحد الخلفاء الراشدين، والعشرة المبشّرين رضي الله تعالى عنهم، له مناقب جمّة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عَلِيّ) رضي الله تعالى عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ جَيْشًا، وَأَمَّرَ) بتشديد الميم، منْ التأمير (عَلَيْهِمْ رَجُلاً) قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: هَذَا الذي فعله هَذَا الأمير قيل: أراد امتحانهم، وقيل: كَانَ مازحًا، قيل: إن هَذَا الرجل عبد الله بن حُذافة السهميّ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنه قَالَ فِي الرواية الأخرى:"إنه رجل منْ الأنصار"، فدلّ عَلَى أنه غيره. انتهى
(1)
.
وَقَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "رجلاً منْ الأنصار" ظاهرٌ فِي أنه ليس عبد الله بن حذافة، فإنه مهاجريّ، وذلك أنصاريّ، فافترقا. وقضية عبد الله بن حُذافة هي التي ذكر منها ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما طرفًا، كما تقدّم، فلا معنى لقول منْ قَالَ: إن هَذَا الذي حكى عنه عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه هو عبد الله بن حُذافة، وكذلك لا معنى لقول منْ قَالَ: إن ذلك الأمير إنما أمرهم بدخول النار ليختبر طاعتهم له، وَقَدْ قَالَ فِي هذه الرواية: إنهم أغضبوه، وَقَالَ: وسكن غضبه
(1)
"شرح مسلم" 13/ 430. "كتاب الإمارة".
عليهم، فأراد عقوبتهم بذلك. وهذه نصوصٌ فِي أنه إنما حمله عَلَى ذلك غضبه عليهم. انتهى كلام القرطبيّ
(1)
.
واستظهر الحافظ رحمه الله تعالى فِي "الفتح" تعدد القصة، وَقَالَ: ما حاصله: أن التعدّد هو الذي يظهر لي؛ لاختلاف سياقهما، واسم أميرهما، والسبب فِي أمره بدخولهم النار. قَالَ: ويحتمل الجمع بينهما بضرب منْ التأويل، ويُبعده وصف عبد الله ابن حُذافة السهميّ القرشيّ المهاجريّ بكونه أنصاريًّا. قَالَ: ويَحتمل الحمل عَلَى المعنى الأعمّ، أي أنه نصر رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فِي الجملة. وإلى التعدّد جنح ابن القيم. وأما ابن الجوزيّ، فقال: قوله: "منْ الأنصار" وَهَمٌ منْ بعض الرواة، وإنما هو سهميّ. قَالَ الحافظ: ويؤيّده حديث ابن عباس عند أحمد فِي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} الآية [النِّساء: 59]، نزلت فِي عبد الله بن حُذافة بن قيس بن عديّ، بعثه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فِي سريّة. انتهى
(2)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد اتَّضح بما ذُكر كلّه أن الأرجح تعدد الواقعة، وأن الرجل المبهم فِي حديث عليّ رضي الله تعالى عنه المذكور فِي الباب ليس هو عبد الله ابن حُذافة، وإنما هو رجلٌ آخر منْ الأنصار رضي الله تعالى عنهم. والله تعالى أعلم.
(فَأَوْقَدَ نَارًا، فَقَالَ: ادْخُلُوهَا) وفي رواية البخاريّ: "بعث النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم سرية، فاستعمل رجلاً منْ الأنصار، وأمرهم أن يُطيعوه، فغضب عليهم، فقال: أليس أمركم النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم أن تُطيعوني؟ قالوا: بلى، قَالَ: فاجمعوا لي حطبًا، فجمعوا له، فقال: أو قدوا لي نارًا، فأوقدوها، فقال: "ادخلوها" الحديث.
وفي رواية مسلم: "فأغضبوه فِي شيء"، وفي رواية للبخاري:"فقال: "عزمت عليكم لَمّا جمعتم حطبًا، وأوقدتم نارًا، ثم دخلتم".
وهذا يخالف حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه
(3)
، فإن فيه: "فأوقد القوم نارًا؛ ليصنعوا شيئاً صنيعًا لهم، أو يصطلون، فقال لهم: ألست عليكم السمع
(1)
"المفهم" 4/ 39 - 40.
(2)
"فتح" 8/ 383. "كتاب المغازي" رقم الحديث: 4340.
(3)
حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه هو ما أخرجه أحمد، وغيره، وصححه ابن خُزيمة، وابن حبّان، والحاكم منْ طريق عمر بن الحكم بن ثوبان، أن أبا سعيد الخدريّ، قَالَ: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علقمة بن مُجَزّز -بجيم وزايين-، عَلَى بعث أنا فيهم، حتى انتهينا إلى رأس غزاتنا، أو كنا ببعض الطريق، أذِنَ لطائفة منْ الجيش، وأمّر عليهم عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي، وكان منْ أصحاب بدر، وكانت فيه دعابة -يعني مزاحا- وكنت ممن رجع معه، فنزلنا ببعض =
والطاعة؟ قالوا: بلى، قَالَ: أعزم عليكم بحقّي، وطاعتي لَمّا توثبتم فِي هذه النار".
(فَأَرَادَ نَاسٌ أَنْ يَدْخُلُوهَا) وفي رواية البخاريّ: "فهمّوا، وجعل بعضهم يمسك بعضًا"، وفي رواية:"فلما همّوا بالدخول فيها، فقاموا ينظر بعضهم إلى بعض"، وفي رواية عند ابن جرير:"فقال لهم شابّ منهم: لا تعجلوا بدخولها"(وَقَالَ الآخَرُونَ: إِنَّمَا فَرَرْنَا مِنْهَا) أي منْ النار بالإيمان، فكيف ندخلها؟. وزاد فِي رواية البخاريّ:"فما زالوا حتى خَمَدت النار، فسكن غضبه"، وفي رواية:"فبينما هم كذلك إذ خمدت النار". و"خمد" بفتح الميم، وحكى المطرّزيّ كسرها
(1)
-: أي طفىء لهبها.
وقوله: "فسكن غضبه" هَذَا أيضًا يخالف حديث أبي سعيد الخدريّ، فإن فيه "أنه كانت به دُعَابة، وفيه أنهم تحجّزوا حتى ظنّ أنهم واثبون فيها، فقال: احبسوا أنفسكم، فإنما كنت أضحك معكم". وهذا كلّه يؤيّد تعدد الواقعة. والله تعالى أعلم.
(فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية: "فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم"(فَقَالَ لِلَّذِينَ أَرَادُوا أن يَدْخُلُوهَا: "لَوْ دَخَلْتُمُوهَا، لَمْ تَزَالُوا فِيهَا، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: هَذَا مما علمه صلّى الله تعالى عليه وسلم بالوحي، وهذا التقييد بيوم القيامة مبيّن للرواية المطلقة بأنهم لا يخرجون منها لو دخلوها.
وَقَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: يَعْنِي أَنَّ الدُّخُول فِيهَا مَعْصِيَة، وَالْعَاصِي يَسْتَحِقّ النَّار. وَيَحْتمِل أن يَكُون المُرَاد: لَوْ دَخَلُوهَا مُستَحِلِّينَ، لَمَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا. وَعَلَى هَذَا فَفِي العِبَارَة نَوْع منْ أَنْوَاع الْبَدِيع، وَهُوَ الِاسْتِخْدَامِ؛ لِأَنَّ الضَّمِير فِي قَوْله:"لَوْ دَخَلُوهَا" لِلنَّارِ الَّتِي أَوْقَدُوهَا، وَالضَّمِير فِي قَوْله:"مَا خرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا" لِنَارِ الآخِرَة؛ لِأَنَّهُمْ ارتَكَبُوا مَا نُهوا عَنْهُ منْ قَتْل أَنْفُسهمْ.
وَيُحْتَمَل -وَهُوَ الظَّاهِر- أَنَّ الضَّمِير لِلنَّارِ الَّتِي أُوقِدَت لَهُمْ، أَيْ ظَنُّوا أنَّهُمْ إِذَا دَخَلُوا، بِسَبَبِ طَاعَة أَمِيرهمْ، لَا تَضُرّهُمْ، فَاَخبَرَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، أنَّهُمْ لَوْ دَخَلُوا فِيهَا لَاحْتَرَقُوا فَمَاتُوا،
= الطريق، قَالَ: وأوقد القوم نارا ليصنعوا عليها صنيعا لهم، أو يصطلون، قَالَ: فقال لهم: أليس لي عليكم السمع والطاعة؟ قالوا: بلى، قَالَ: فما أنا بآمركم بشيء، إن صنعتموه، قالوا: بلى، قَالَ: أعزم عليكم بحقي وطاعتي، لَمَا تواثبتم فِي هذه النار، فقام ناس، فتحجزوا حتى إذا ظن أنهم واثبون، قَالَ: احبسوا أنفسكم، فإنما كنت أضحك معكم، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن قدموا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"منْ أمركم منهم بمعصية، فلا تطيعوه".
(1)
وفي "القاموس": خمدت النار، كنصر، وسَمِعَ خمدًا، وخُمُودًا: سكن لهَبُها، ولم يُطأ جمرها. اهـ.
فَلَمْ يَخْرُجُوا. انتهى
(1)
.
وَقَالَ فِي "الفتح" أيضاً فِي "كتاب الأحكام": قوله: "لو دخلوها ما خرجوا منها" قَالَ الدَّاوُدِيُّ: يُرِيد تِلْكَ النَّار؛ لِأَنَّهُمْ يَمُوتُون بتَحْرِيقِهَا، فَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا أَحْيَاء، قَالَ: وَلَيْسَ الْمُرَاد بِالنَّارِ نَار جَهَنَّم، وَلَا أَنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيث الشَّفَاعَة:"يَخرُج منْ النَّار مَن كَانَ فِي قَلْبه مِثْقَال حَبَّة منْ إِيمَان"، قَالَ: وَهَذَا منْ الْمَعَارِيض الَّتِي فِيهَا مَنْدُوحَة. يُرِيد أَنَّهُ سِيقَ مَسَاق الزَّجْر وَالتَّخْوِيف؛ ليَفْهَمَ السَّامِع أَنَّ مَن فَعَلَ ذَلِكَ خُلِّدَ فِي النَّار، وَلَيسَ ذَلِكَ مُرَادًا، وَاِنَّمَا أُرِيدَ بهِ الزَّجْر وَالتَّخْوِيف.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّه لَمْ يَقْصِد دُخُولهمْ النَّار حَقِيقةً، وَانَّمَا أَشَارَ لَهُمْ بذَلِكَ إِلَى أَنَّ طَاعَة الأمِير وَاجِبَة، وَمَن تَرَكَ الْوَاجب دَخَلَ النَّار، فَإِذَا شَقَّ عَلَيكُمْ دُخُولَ هَذِهِ النَّار، فَكَيف بِالنَّارِ الْكُبْرَى، وَكَأَنَّ قَصْده أَنَّهُ لَوْ رَأَى مِنْهُمْ الْجِدّ فِي وُلُوجهَا لَمَنَعَهُمْ. انتهى
(2)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: أحسن التأويلات عندي ما استظهره الحافظ فيما سبق، منْ أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم إنما أخبرهم بأنهم لو دخلوها ظانين بأن طاعة أميرهم يُنجيهم منها، وأنها لا تضرّهم، لما نفعهم ذلك، بل يحترقون، ويموتون، فلا يرجعون إلى الدنيا إلى يوم القيامة. والله تعالى أعلم.
(وَقَالَ لِلآخَرِينَ: "خَيْرًا") أي أثنى عَلَى الذين قالوا: إنما فررنا منها، حيث إنهم أصابوا الحقّ. (وَقَالَ أَبُو مُوسَى) هو محمد بن المثنّى شيخه الأول (فِي حَدِيثِهِ:"قَوْلًا حَسَنًا") أي بدل قول محمد بن بشّار: "خيرًا"(وَقَالَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ) وفي حديث أبي سعيد: "منْ أمركم منهم بمعصية، فلا تطيعوه". قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: "إنما" هذه للتحقيق والحصر، فكأنه قَالَ: لا تكون الطاعة إلا فِي المعروف، ويعني بالمعروف هنا ما ليس بمنكر، ولا معصية، فيدخل فيها الطاعة الواجبة، والمندوب إليها، والأمور الجائزة شرعًا، فلو أمر بجائز لصارت طاعته واجبةً، ولَمّا حلّت مخالفته، فلو أمر بما زجر الشرع عنه زجر تنزيه، لا تحريم، فهذا مشكلٌ، والأظهر جواز المخالفة؛ تمسّكًا بقوله:"إنما الطاعة فِي المعروف"، وهذا ليس بمعروف، إلا بأن يخاف عَلَى نفسه منه، فله أن يمتثل. والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ
(3)
.
(1)
"فتح" 8/ 384 "كتاب المغازي" حديث: 4340.
(2)
"فتح" 15/ 18. "كتاب الأحكام" رقم: 7146.
(3)
"المفهم" 4/ 41.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "فهذا مشكل" فيه نظرٌ لا يخفى؛ إذ هو منكرٌ شرعًا؛ لأن الشارع لا يزجر إلا عن منكر، فكيف يشكل هَذَا؟، فتبصّر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عليّ رضي الله تعالى عنه هَذَا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -34/ 4208 - وفي "الكبرى" 38/ 7828 وفى "السير" 93/ 8721.
وأخرجه (خ) فِي "المغازي" 4340 و"الأحكام" 7145 و"أخبار الآحاد" 7257 (م) فِي "الإمارة" 3424 و3425 (د) فِي "الجهاد" 2625 (أحمد) فِي "مسند العشرة" 623 و726 و1021. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جزاء منْ أطاع منْ أمره بمعصية، وهو أنه يستحقّ النار. (ومنها): أَنَّ حُكْم الأمير فِي حَال الْغَضَب، يَنْفُذ مِنْهُ مَا لا يُخالِف الشَّرْع. (ومنها): أَنَّ الْغَضَب يُغَطِّي عَلَى ذَوِي الْعُقُول عقولهم. (ومنها): أَنَّ الْإيمَان بِاللَّهِ يُنَجِّي منْ النَّار لِقَوْلِهِمْ: "إِنَّمَا فررْنا إِلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مِنْ النَّار". (ومنها): أن الْفِرَار إِلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فِرَار إِلى الله، وَالْفِرَار إِلى الله، يُطْلَق عَلَى الْإيمَان، قَالَ الله تعالى:{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)} [الذاريات: 50]. (ومنها): أَنَّ الْأَمْر المُطْلَق لا يعُمّ الأحْوال؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم، أمَرَهُمْ أنْ يُطِيعُوا الأمِير، فَحَمَلُوا ذَلِكَ علي عُمُوم الْأحْوالِ، حَتَّى فِي حَال الْغَضَب، وفِي حال الْأَمْر بِالْمَعْصِيةِ، فبَيَّنَ لهُمْ صلى الله عليه وسلم، أنَّ الْأَمْر بِطاعتِهِ، مَقْصُور عَلَى ما كَانَ مِنْهُ فِي غَيْر مَعْصِيَة.
(ومنها): أنه اسْتَنْبَطَ مِنْ هَذَا الحديث الشَّيْخ أبُو مُحَمَّد بْن أَبِي جْمَرَة، أَنَّ الْجَمْع مِنَ هذِهِ الأمة، لا يَجْتمِعُونَ عَلَى خطأ؛ لِانْقِسَام السَّرِيَّة قِسْمَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ هان عَلَيْهِ دُخُول النَّار، فَظَنَّهُ طَاعَة، ومِنْهُمْ منْ فهِم حَقِيقَة الْأَمْر، وَأَنَّهُ مقصُور عَلَى مَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ، فكان اخْتِلَافهمْ سبَبًا لِرَحْمَةِ الْجَمِيع. قَالَ: وفِيهِ أَنَّ منْ كَانَ صَادِق النِّيَّة، لا يقع إِلَّا فِي خَيْر، وَلَوْ قَصَدَ الشَّرّ، فَإِنَّ الله يَصْرِفهُ عَنْهُ، ولِهذا قَالَ بعْض أهْل الْمَعْرفَة: منْ صَدَقَ مَعَ اللَّهِ، وقَاهُ اللَّهُ، ومن تَوَكَّل عَلَى اللَّهِ، كفاهُ اللَّهُ. ذكره فِي "الفتح"
(1)
. والله تعالى
(1)
"فتح" 8/ 385 "كتاب المغازي" رقم 4342.
أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: هَذَا الحديث يرُدّ حكايةً، حُكيت عن بعض مشايخ الصوفيّة، وذلك أن مريدًا له قَالَ له يوماً: قد حَمِي التنّور، فما أصنع؟ فتغافل عنه، فأعاد عليه القول، فقال له: ادخل فيه، فدخل المزيد فِي التنّور، ثم إن الشيخ تذكّر، فقال: الحقوه، كَانَ قد عقد عَلَى نفسه أن لا يُخالفني، فلحقوه، فوجدوه فِي التنّور لم تضرّه النار. وهذه الحكاية أظنّها منْ الكذب الذي كُذب به عَلَى هذه الطائفة الفاضلة، فكم قد كَذَبَ عليها الزنادقة، وأعداء الدين
(1)
.
وبيان ما يُحقّق ذلك أن هَذَا الشيخ إما أن يكون قاصدًا لأمر ذلك المزيد بدخول التنّور، أو لا، فإن كَانَ قاصدًا كَانَ قصده ذلك معصيةً، ولا طاعة فيها بنصّ النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، ويكون امتثال المزيد لذلك معصيةً، وكيف تظهر الكرامات عَلَى العصاة فِي حال معصيتهم؟، فإن الكرامة تدلّ عَلَى حسن حال منْ ظهرت عَلَى يديه، وأنه مطيع لله تعالى فِي تلك الحالة مع جواز أمر آخر يكون فِي المستقبل.
وإن كَانَ ذلك الشيخ غير قاصد لذلك، ولا شاعر بما صدر عنه، فكيف يحلّ للمريد أن يُلقي نفسه فِي النار بأمر غلَط، لا حقيقة له، ثم هَذَا المريد عاص بذلك الفعل، ولا يظهر عَلَى العاصي كرامة فِي حال ملابسته للمعصية، ولو جاز ذلك لجاز للزناة، وشَرَبَة الخمر، والفَسَقَة أن يدّعوا الكرامات، وهم ملابسون لفسقهم، هَذَا ما لا يجوز إجماعًا، وإنما تُنسب الكرامات لأولياء الله، وهم أهل طاعته، لا أولياء الشيطان، وهم أهل الفسق والعصيان. والأولى فِي هذه الحكاية، وأشباهها مما لا يليق بأحوال الفضلاء، والعلماء الطعن علي الناقل، لا عَلَى المنقول عنه. والله تعالى أعلم.
[فإن قيل]: إن الشيخ لم يكن قاصدًا لإدخال المزيد نفسه النار، وإنما صدر ذلك منه عَلَى جهة التأديب والتغليظ؛ لكونه أكثر عليه منْ السؤال، فكأنه قطعه عما كَانَ أولى به فِي ذلك الحال، والمريد لصحّة اعتقاده فِي شيخه، وللوفاء بما جعل له عليه منْ الطاعة، وترك المخالفة، ولاعتقاده أنه لا يأمره إلا بما فيه مصلحةٌ دينيّةٌ، ثم إنه قد صحّ توكّل هَذَا المريد عَلَى الله تعالى، وصدقه فِي حاله، فحصل له منْ مجموع ذلك أن اللى تعالى ينجيه من النار، ويجعل له فِي ذلك مخرجًا.
(1)
فِي دعواه الكذب عليهم نظر لا يخفى، فإن هذه القصّة وأشباهها موجود فِي كتب هذه الطائفة، ومسّطر عندهم، كطبقات الشعراني، وغيره، وهم يتبجّحون به، ويذكرونه لمريديهم، ويحثّونهم عَلَى سلوك مثله، فكيف يقال: إن هَذَا مما كذب عليها الزنادقة، هيهات هيهات، فإن أردت أن تعلم حقيقة ما قلته، فراجع "الطبقات الكبرى" للشعراني جـ 2 ص 97، و122 و166 و167 ترى العجب العُجَاب اللَّهم أرنا الحقّ حقا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، آمين.
[فالجواب]: أن يقول منْ يُجوّز الإقدام عَلَى تلك الحالة بتلك القيود المذكورة، يلزمه أن يُجوّز ما هو مُحرّم إجماعًا. بيان ذلك أنه لو قَالَ له عَلَى تلك الحال بتلك القيود: اقتل فلانًا المسلم، أو ازن بفلانة، أو اشرب الخمر، لم يجُز الإقدام عَلَى شيء منْ ذلك بالإجماع، ولو كانت له تلك القيود كلّها، ولافرق بين صورة الحكاية المذكورة، وبين هذه الصور التي ذكرناها، إذ الكلّ محرّمٌ قطعًا، وإن جُوّز انخراق العادة فِي أن النار لا تحرق، والسيف لا يحُزّ الرقبة، والْمُدْية لا تقطع الحلق، لكنّ هذه التجويزات لا يُلتفت إليها، ولا تَهُدّ القواعد الشرعيّة لأجلها، فلو أقدم عَلَى شيء منْ تلك الأمور لأجل أمر هَذَا الشيخ، لكان عاصيًا، فكذلك إذا ألقى نفسه فِي النار، ولا فرق.
ثم نقول: إن التوكّل عَلَى الله لا يصحّ مع المخالفة والمعصية، وذلك أن التوكّل عَلَى الله تعالى هو الاعتماد عليه، والتفويض إليه فيما يجوز الإقدام عليه، أو فيما يُخاف وقوعه، أو يُرتجى حصوله، وَقَدْ يُفضي التوكّل بصاحبه إلى أن لا يخاف شيئًا إلا الله، ولا يرجو سواه؛ إذ لا فاعل عَلَى الحقيقة إلا هو، وهذه الحالة إنما تثمرها المعرفة بالله تعالى، وباحكامه، وملازمة الطاعة والتقوى، والتوفيق الخاصّ الإلهيّ، وعلى هَذَا فمن المحال حصول هذه الحالة مع المعصية والمخالفة، والصحيح ما قاله رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم:"لو دخلوها ما خرجوا منها"، وهذا هو الحقّ المبين، ولو كره أكثر الجاهلين.
ومن نوع هذه الحكاية حكاية أبي حمزة الذي وقع فِي البئر، ثم جاء قومٌ، وغطّوا البئر، وهو فِي قعره ساكت، لم يتكلّم، متوكّلًا عَلَى الله تعالى إلى أن غطّوا البئر، وانصرفوا. وللكلام فِي هَذَا موضع آخر. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى
(1)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي ذكره القرطبيّ رحمه الله تعالى كلام نفيسٌ جدًا، فإن مثل هذه الحكايات كثيرة فِي هذه الطائفة، ومن يُطالع "طبقات الأولياء" للشعرانيّ يرى العجب العجاب، فتنبّه أيها العاقل، ولا تغترّ بمثل هَذَا، وهذا هو الحقّ الأبلج، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} ، نسأل الله تعالى أن يهدينا الصراط المستقيم، اللَّهم أرنا الحقّ حقاً، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه. آمين آمين آمين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4208 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى جَعْفَرٍ، عَنْ نَافِعٍ
(1)
"المفهم" 4/ 41 - 43.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ، فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، إِلاَّ أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَلَا سَمْعَ، وَلَا طَاعَةَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"الليث": هو ابن سعد إمام أهل مصر. و"عُبيد الله بن أبي جعفر": هو أبو بكر الفقيه الثقة المصريّ، تقدّم قبل باب.
وقوله: "إلا أن يؤمر الخ" ذكر السنديّ أن فِي بعض النسخ بلفظ "أن لا يؤمر" -أي بفتح همزة "أن"-، قَالَ: أي حين لا يؤمر، أو كلمة "إن" شرطيّة، وفي كثير منْ النسخ إلا أن يؤمر بمعصية، وهو الظاهر. انتهى.
وشرح الحديث واضحٌ، وهو حديث صحيح، منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -34/ 4208 - وفي "الكبرى" 38/ 7829 وفي، "السير" 93/ 8720. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
35 - (ذِكْرِ الْوَعِيدِ لِمَنْ أَعَانَ أَمِيرًا عَلَى الظُّلْمِ)
4209 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَاصِمٍ الْعَدَوِيِّ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ تِسْعَةٌ، فَقَالَ: "إِنَّهُ سَتَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ، مَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَلَيْسَ مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْهُ، وَلَيْسَ بِوَارِدٍ عَلَيَّ الْحَوْضَ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَهُوَ مِنِّي، وَأَنَا مِنْهُ، وَهُوَ وَارِدٌ عَلَيَّ الْحَوْضَ").
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(عمرو بن عليّ) الفلّاس الصيرفيّ، أبو حفص البصريّ، ثقة ثبت [10] 4/ 4.
2 -
(يحيى) بن سعيد القطان، أبو سعيد البصريّ الإِمام الحجة الثبت [9] 4/ 4.
3 -
(سفيان) بن سعيد الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ الإِمام الحجة الثبت [7] 33/ 37.
4 -
(أبو حَصِين) -بفتح الحاء، والصاد المهملتين- عثمان بن عاصم الأسديّ الكوفيّ، ثقة ثبت سنّيّ، وربما دلّس [4] 102/ 152.
5 -
(الشعبيّ) عامر بن شَرَاحيل الهمدانيّ، أبو عمرو الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 66/ 82.
6 -
(عاصم العدويّ) الكوفيّ، ثقة [3].
روى عن كعب بن عُجْرة هَذَا الحديث فقط، وعنه الشعبيّ، وأبو إسحاق السبيعيّ، قَالَ النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". تفرّد به المصنّف، والترمذيّ بحديث الباب فقط.
7 -
(كعب بن عُجْرة) الأنصاريّ المدنيّ، أبو محمد الصحابيّ المشهور، مات رضي الله تعالى عنه بعد الخمسين، وله نيّفٌ وسبعون سنة، تقدّم فِي 86/ 104. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير عاصم العدويّ، كما مرّ آنفًا. (ومنها): أن شيخه ويحيى بصريان، والصحابي مدني، والباقون كوفيون. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ) بضم العين المهملة، وسكون الجيم- رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ تِسْعَةٌ) زاد فِي الرواية التالية:"خمسة، وأربعة، أحد العددين منْ العرب، والآخر منْ العجم"(فقال: "إِنَّهُ) الضمير للشأن، وهو الضمير الذي تفسّره الجملة بعده، وفي رواية أحمد:"إنها"، بضمير المؤنّثة، وتسمّى ضمير القصّة (سَتَكُونُ) بالتاء، وفي رواية الترمذيّ بالياء (بَعْدِي) أي بعد موتي (أُمَرَاءُ، مَنْ صَدَّقَهُمْ) بتشديد الدال المهملة، منْ التصديق (بِكَذِبِهمْ) الباء بمعنى "فِي" أي أنهم يكذبون فِي الكلام، فمن صدّقهم فِي كلامهم ذلك، وَقَالَ لهم: صدقتم، تقرّبًا بذلك إليهم (وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ) أي بالإفتاء ونحوه (فَلَيْسَ مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْهُ) أي بيني وبينهم براءة، ونقض عهد (وَلَيْسَ بِوارِدٍ عَلَيَّ) بتشديد الياء، هي ياء المتكلّم مجرورة بـ "عَلَى"(الْحَوْضَ) بفتح الحاء المهملة، وسكون الواو- قَالَ فِي "اللسان": هو مُجتَمَعُ الماء، معروف، والجمع أحواضٌ، وحِيَاضٌ، وحوضُ الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم الذي يَسقي منه أمته يوم القيامة، حكَى أبو زيد: سقاك الله بحوض الرسول،
ومنه. انتهى.
يعني أنه شارب يَوْمَ الْقِيَامَةِ منْ الحوض الذي منْ شرب منه شَرْبة لا يظمأ بعدها أبدًا (وَمَنْ لَمْ يُصّدِّقْهُمْ بكَذِبِهمْ، وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ) أي اتقاءً، وتورّعًا، وهذا لا يكون إلا للمتديّن، فلذلك قَالَ صلّى الله تعالى عليه وسلم:"فهو منّي، وأنا منه". ويحتمل أن يكون مجرّد الصبر عن صحبتهم فِي ذلك الزمان، مع الإيمان مفضيًا إلى هذه الرتبة العليّة، أو منْ صبر يوفّق لأعمالٍ تُفضيه إلى ذلك. والله تعالى أعلم. قاله السنديّ (فهُو مِنِّي) أي منْ أهل سنّتي ومحبتي (وَأَنَا مِنْهُ) أي منْ محبته، والشفاعة له (وَهُوَ وَارِدٌ عَلَيَّ الْحَوْضَ) أي شارب منه.
وأخرج أحمد بإسناد صحيح منْ طريق عبد الرحمن بن سابط، عن جابر بن عبد الله، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ لكعب بن عجرة:"أعاذك الله منْ إمارة السفهاء"، قَالَ: وما إمارة السفهاء؟ قَالَ: "أمراء يكونون بعدي، لا يقتدون بهديي، ولا يَستنّون بسنتي، فمن صدقهم بكذبهم، وأعانهم عَلَى ظلمهم، فأولئك ليسوا مني، ولست منهم، ولا يَرِدوا على حوضي، ومن لم يصدقهم بكذبهم، ولم يعنهم عَلَى ظلمهم، فأولئك مني، وأنا منهم، وسَيَرِدوا علي حوضي، يا كعب بن عجرة، الصوم جنة، والصدقة تطفىء الخطيئة، والصلاة قربان، أو قَالَ برهان، يا كعب بن عجرة، إنه لا يدخل الجنة لحم نبت منْ سُحْت، النار أولى به، يا كعب بن عجرة، الناس غاديان: فمبتاع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها".
وأخرج أحمد أيضًا بإسناد رجاله ثقات، عن حذيفة رضي الله تعالى عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"إنها ستكون أمراء يكذبون، ويظلمون، فمن صدّقهم بكذبهم، وأعانهم عَلَى ظلمهم، فليس منا، ولست منه، ولا يرد عليّ الحوض، ومن لم يصدقهم بكذبهم، ولم يعنهم عَلَى ظلمهم، فهو مني وأنا منه، وسيرد علي الحوض". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث كعب بن عُجْرة رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -35/ 4209 و36/ 4210 - وفي "الكبرى" 39/ 7830 و40/ 7831. وأخرجه (ت) فِي "الفتن" 2259. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان الوعيد لمن أعان أميرًا عَلَى ظلمه. (ومنها): أن هذه الإعانة منْ الكبائر؛ لأنها ترتّب عليه تبرّي النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم منْ فاعلها. (ومنها): فضل الابتعاد عن الأمراء، واتخاذ الحذر منهم؛ لأنه لا يسلم منْ اقترب منهم، إما فِي دينه، إن سكت عَلَى ما هم عليه منْ الفساد والظلم، أو دنياه، إن تكلم فِي ذلك، فالخلاص منهم لا يكون إلا بالبعد عنهم، ولذا كَانَ كثير منْ السلف شديد الحذر منْ غشيانهم، ومجالستهم، خوفًا عَلَى دينهم. (ومنها): إثبات الحوض لنبيّنا محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم، وأنه ترده عليه أمته، اللهم اجعلنا منْ الواردين عليه، بمنك، وكرمك، يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين، آمين آمين آمين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
36 - (مَنْ لَمْ يُعِنْ أَمِيرًا عَلَى الظُّلْمِ)
4210 -
(أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ -يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الْوَهَّابِ- قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَاصِمٍ الْعَدَوِيِّ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، قَالَ: خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ تِسْعَةٌ، خَمْسَةٌ وَأَرْبَعَةٌ، أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ مِنَ الْعَرَبِ، وَالآخَرُ مِنَ الْعَجَمِ، فَقَالَ: "اسْمَعُوا، هَلْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ سَتَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ، مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ، فَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَلَيْسَ مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْهُ، وَلَيْسَ يَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ، وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَهُوَ مِنِّي، وَأَنَا مِنْهُ، وَسَيَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "هارون بن إسحاق": هو الْهَمْدانيّ، أبو القاسم الكوفيّ، صدوقٌ، منْ صغار [10] 13/ 346.
و"محمد بن عبد الوهّاب" القنّاد بالقاف، والنون -أبو يحيى الكوفيّ، ويقال له: السُّكّريّ أيضًا، ثقة عابد [9].
قَالَ عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ثقة، لا بأس به، وَقَالَ أبو حاتم: ثقة. وَقَالَ الترمذيّ: حدثنا هارون بن إسحاق الهمدانيّ، حدثنا محمد بن عبد الوهّاب الكوفيّ، شيخٌ ثقة. وَقَالَ الحسن بن الربيع البجليّ: حدثنا محمد بن عبد الوهّاب الثقة المسلم.
وَقَالَ فضيل بن عبد الوهّاب: سمعت أبا أُسامة يحلف مجتهدًا أنه ما رأى أورع منْ محمّد بن عبد الوهّاب. وَقَالَ العجليّ: كَانَ منْ أفاضل أهل الكوفة، وكان عَسِرًا فِي الحديث. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ السرّاج: حدثنا هارون بن إسحاق، قَالَ: كَانَ منْ افضل الناس، مات سنة (212) وكذا أرّخه النسائيّ، وابن حبّان. وقيل: مات سنة (209)، روى له المصنّف، والترمذيّ، وابن ماجه، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الحديث فقط.
و"مسعر": هو ابن كِدّام الحافظ المشهور.
وقوله: "يرِد" بفتح أوله، وكسر ثانيه، مضارع ورد، منْ باب وعد، يقال: ورد البعير، وغيره الماء يرِده وُرُودًا: إذا بلغه، ووافاه منْ غير دخول، وَقَدْ يحصل الدخول فيه. قاله فِي "المصباح"، والمعنى الأخير هو المراد هنا، فمعناه يدخل الحوض، ويشرب منه.
والحديث صحيح، وَقَدْ سبق شرحه، ومسائله فِي الباب الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
37 - (فَضْلُ منْ تَكَلَّمَ بِالْحَقِّ عِنْدَ إِمَامٍ جَائِرٍ)
4211 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ، أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "كَلِمَةُ حَقٍّ، عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(إسحاق بن منصور) بن بَهْرَام الكوسج، أبو يعقوب المروزيّ، ثقة ثبت [11] 72/ 88.
2 -
(عبد الرحمن) بن مهديّ العنبريّ مولاهم البصريّ الإمام الحجة الثبت [9] 42/ 49.
3 -
(سفيان) الثوريّ المذكور قبل باب.
4 -
(علقمة بن مرثد) بفتح الميم، وسكون الراء، بعدها مثلّثة-: الحضرميّ، أبو الحارث الكوفيّ، ثقة [6] 103/ 2040.
5 -
(طارق بن شهاب) البجليّ الأحمسيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، رأى النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، ولم يسمع منه، مات سنة (2) أو (83) 204/ 324. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، إلا أنه مرسل؛ لأن طارقًا لم يسمع منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم. (ومنها). أنه مسلسل بالكوفيين منْ سفيان. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(ععَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ) البجليّ الأحمسيّ (أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ وَضَع رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ) -بفتح الغين المعجمة، وسكون الراء، آخره زاي-: هو ركاب كُورِ الجمل، إذا كَانَ منْ جلد، أو خشب، وقيل: هو الْكُورُ مطلقًا، مثلُ الركاب للسرج. قاله ابن الأثير
(1)
. والجملة فِي محلّ نصبٍ عَلَى الحال، أي والحال أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم وضع رجله عَلَى الركاب ليركب دابّته (أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟) مبتدأ وخبر، أي أنواع الجهاد أفضل ثوابًا عند الله تعالى (قَالَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (كَلِمَةُ حَقٍّ) خبر لمبتدإ محذوف: أي هو كلمة حقّ، وفي حديث أبي سعيد الخدريّ عند أبي داود، وغيره:"كلمة عدل"، والمعنى أن هَذَا منْ افضل الجهاد، لا أنه أفضله مطلقًا، بدليل رواية الترمذيّ:"إن منْ أعظم الجهاد كلمة عدل الخ". والمراد بالكلمة: ما أفاد أمرًا بمعروف، أو نهيًا عن منكر، منْ لفظ، أو ما فِي معناه، ككتابة، ونحوها (عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ) أَيْ ظَالِم، وِإنَّمَا صَارَ ذَلِكَ أَفْضَل الْجِهَاد؛ لِأَنَّ منْ جاهد الْعَدُوّ، كَانَ مُتَرَدِّدًا، بَيْن رَجَاء وَخَوْف، لا يدْرِي هَلْ يَغْلِب، أَوُ يُغْلَب، وَصَاحِب السُّلْطَان مَقْهُور فِي يده، فهُو إِذَا قَالَ الحَقّ، وَأَمَرَهُ بِالْمَعْرُوفِ، فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلتَّلَفِ، وَأَهْدَفَ نَفْسه لِلْهَلَاكِ، فصار ذَلِكَ أَفْضَل أَنْوَاع الْجِهَاد، مِنْ أَجْل غَلَبَة الْخَوْف. قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث طارق بن شهاب هَذَا حديث صحيح، وهو منْ
(1)
"النهاية" 3/ 359.
أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -37/ 4211 - وفي "الكبرى" 41/ 7834.
[فإن قلت]: كيف يصحّ هَذَا الحديث، وطارق، لم يسمع منْ النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، فهو فِي عداد التابعين منْ حيث الرواية، فيكون مرسلاً؟.
[قلت]: هو مرسلٌ، لكن له شواهد، منْ حديث أبي أمامة الباهليّ عند أحمد 5/ 251 و256 - ، وابن ماجه 4012 - بإسناد صحيح
(1)
منْ طريق أبي غالب، عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، قَالَ: عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجل، عند الجمرة الأولى، فقال: يا رسول الله، أيُّ الجهاد أفضل؟ فسكت عنه، فلما رَمَى الجمرة الثانية سأله، فسكت عنه، فلما رمى جمرة العقبة، وضع رجله فِي الغرز ليركب، قَالَ:"أين السائل؟ " قَالَ: أنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"كلمة حقّ، عند ذي سلطان جائر". ومن حديث أبي سعيد الخدريّ، عند أبي داود، والترمذيّ، وابن ماجه، وفيه عطيّة العوفيّ، وهو ضعيف، وأخرجه أحمد، والحاكم، وغيرهما منْ طريق عليّ بن زيد بن جدعان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، مرفوعًا، وعليّ بن زيد فيه ضعف، لكنه يصلح فِي المتابعة والشواهد
(2)
.
والحاصل أن حديث طارق بن شهاب صحيح لغيره. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
38 - (ثَوَابِ مَنْ وَفَّى بِمَا بَايَعَ عَلَيْهِ)
4212 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَجْلِسٍ، فَقَالَ: "بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الآيَةَ، فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ، فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَسَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَهُوَ إِلَى اللَّهِ عز وجل، إِنْ شَاءَ
(1)
وأبو غالب اسمه حَزوّر، وقيل: غيره، وثقه موسى بن هارون، والدارقطنيّ، وَقَالَ ابن معين، والذهبيّ: صالح الحديث، وَقَالَ ابن عديّ: أرجو أنه لا بأس به. وضعفه ابن سعد.
(2)
راجع "السلسلة الصحيحة" للشيخ الألباني رحمه الله تعالى 1/ 806 - 809 - رقم الحديث 491.
عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"سفيان": هو ابن عيينة. و"أبو إدريس": هو عائذ الله بن عبد الله.
ودلالة الحديث عَلَى الترجمة واضحة، وهو حديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي 9/ 4163 - وَقَدْ استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
39 - (مَا يُكْرَهُ مِنَ الْحِرْصِ عَلَى الإِمَارَةِ)
4213 -
(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإِمَارَةِ، وَإِنَّهَا سَتَكُونُ نَدَامَةً وَحَسْرَةً، فَنِعْمَتِ الْمُرْضِعَةُ، وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(محمد بن آدم بن سليمان) الجهنيّ الميصيصيّ، صدوقٌ [10] 93/ 115.
2 -
(ابن المبارك) عبد الله الحنظليّ المروزيّ الإمام الحجة الثبت [8] 32/ 36.
3 -
(ابن أبي ذئب) هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب القرشيّ العامريّ، أبو الحارث المدنيّ، ثقة فقيه فاضل [7] 41/ 685.
4 -
(سعيد) بن أبي سعيد كيسان المقبريّ، أبو سَعْد المدنيّ، ثقة تغيّر قبل موته بأربع سنين [3] 95/ 117.
5 -
(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به هو وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فمصِّيصِيٌّ، وابن المبارك، فمروزيّ. (ومنها): أن فيه أبا هريرة
رضي الله تعالى عنه أحفظ منْ روى الحديث فِي دهره. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنه (عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) قَالَ فِي "الفتح": هَكَذَا رَوَاهُ ابْن أبِي ذِئْب، مَرْفُوعًا، وَأَدْخَلَ عَنَد الْحَمِيد بْن جَعْفَر، بَيْنَ سَعِيد وأبِي هُرَيْرَة رَجُلًا، وَلَمْ يَرْفَعهُ، وَابْن أبِي ذِئْب أَتْقَن منْ عَبْد الْحَمِيد، وَأَعْرَف بِحَدِيثِ الْمَقْبُرِيِّ مِنْهُ، فَرِوَايتَه هِيَ الْمُعْتَمَدَة، وَعَقَّبَهُ الْبُخَارِيّ بِطرِيقِ عَبْد الْحَمِيد، إِشَارَة مِنْهُ إِلى إِمْكَان تَصْحِيح الْقَوْلَيْنِ، فَلَعَلَّهُ كَاَنَ عِنْد سَعِيد، عَنْ عُمَر بْن الْحَكَم، عَنْ أبِي هُرَيْرَة مَوْقُوفًا، عَلَى ما رواهُ عَنْهُ عَبْد الْحَمِيد، وَكَانَ عِنْده عن أبِي هُرَيْرَة، بِغَيْرِ وَاسِطَة، مَرْفُوعًا، إِذ وُجِدَتْ عِنْدَ كُلّ مِنْ الرَّاوِيَيْنِ، عن سَعِيد زِيَادَة، ورِواية الْوَقْف، لَا تُعارِض رِوَايَة الرَّفْع؛ لِأَنَّ الرَّاوِي قَدْ يَنْشَط، فيُسْنِد، وَقَدْ لَا يَنَشَط، فَيَقِف. انتهى
(1)
.
(قَالَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ) بكسر الراء، ويجوز فتحها، قَالَ فِي "الفتح": ووقع فِي رواية شبابة، عن ابن أبي ذئب:"ستعرضون" بالعين المهملة، وأشار إلى أنها خطأ. انتهى (عَلَى الْإمَارَةِ) دَخَل فِيهِ الإمَارَة الْعُظْمَى، وَهِيَ الْخِلَافَة، وَالصُّغْرَى، وَهِيَ الْوِلَايَة عَلَى بَعْض الْبِلَاد، وَهَذَا إِخْبَار مِنْهُ صلى الله عليه وسلم بِالشَّيْءِ، قَبْلَ وُقُوعه، فَوَقَع كَمَا أَخْبَرَ.
(وَإِنَّهَا سَتَكُونُ نَدَامَةً) زاد فِي رواية البخاريّ: "يَوْمَ الْقِيامَة": أَيْ لِمَنْ لَمْ يَعْمَل فِيهَا بِمَا يَنْبَغِي (وَحَسْرَةً) وَيُوَضِّح معنى ما ذُكر مَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّار، وَالطَّبَرَانِيُّ، بِسَنَدٍ صَحِيح، عَنَ عَوْف بْن مالِك، بِلَفْظِ:"أَوَّلهَا مَلَامَة، وَثَانِيهَا نَدَامَة، وَثَالِثهَا عَذَاب يَوْمَ الْقِيَامَة، إِلَّا مَنْ عَدَلَ". وَللطَّبَرَانِيِّ فِي "الأوْسَط"، مِنْ رِوَايَة شَرِيك، عَنْ عَبْد الله بن عِيسَى، عَنْ أبِي صَالِح، عَنْ أبِي هُرَيْرَة، قَالَ شَرِيك: لَا أَدْرِي، رَفَعَهُ، أَمْ لَا؟، قَالَ:"الْإمَارَة أَوَّلهَا نَدَامَة، وَأَوْسَطهَا غَرَامَة، وَآخِرهَا عَذَاب يَوْم الْقِيَامَة"، ولهُ شَاهِد مِنْ حَدِيث شَدَّاد بْن أوْس رَفَعَهُ، بِلفْظِ:"أَوَّلهَا مَلَامَة، وَثَانِيهَا نَدَامَة". أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيث زَيْد بن ثَابِت رَفَعَهُ:"نِعْمَ الشَّيْء الإمَارَة، لِمَنْ أخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَحِلِّهَا، وَبِئْسَ الشَّيْء الْإمَارَة، لِمَنْ أَخَذَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا، تَكُون عَلَيْهِ حَسْرَة، يَوْم الْقِيَامَة". وَهَذَا يُقَيِّد مَا أُطْلِقَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَيُقَيِّدهُ أيْضًا مَا أَخْرَجَ مُسْلِم، عَنْ أبِي ذَرّ رضي الله تعالى عنه، قَالَ:"قُلْت: يَا رَسُول الله، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: إِنَّك ضَعِيف، وَإِنَّها أَمَانَة، وَإِنَّهَا يَوْم الْقِيَامَة خِزْي وَنَدَامَة، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا".
(1)
"فتح" 15/ 20 - 21. "كتاب الأحكام" رقم 7149.
قَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا الحديث أَصْل عَظِيم فِي اجْتِنَاب الْوِلَايَات، وَلَا سِيَّمَا لِمَنْ كَانَ فِيهِ ضَعْف عن القيام بوظائف تلك الولاية، وَأما الخزي، والندامة فهُوَ فِي حَقّ مَنْ لم يكن أهلاً لها، أو كَانَ أهلًا، ولم يعدل فيها، فيُخزيه الله تعالى يوم القيامة، ويَفضحه، ويَندم عَلَى ما فرّط. وَأَمَّا مَنْ كَانَ أَهْلًا للولاية، وَعَدَلَ فِيهَا، فَله فضلٌ عَظِيم، تَظَاهَرَتْ بِهِ الأحاديث "الصحيحة" كحديث:"سبعة يُظلّهم الله" الحديث متّفقٌ عليه، وحديث:"إن المقسطين عَلَى منابر منْ نور" رواه مسلم، وغير ذلك، وإجماع المسلمين منعقد عليه، ومع هَذَا فلكثرة الخطر فيها حذّر صلّى الله تعالى عليه وسلم منها، وكذا حذّر العلماء، وامتنع منها خلائق منْ السلف، وصبروا عَلَى الأذى حين امتنعوا. انتهى
(1)
.
(فَنِعْمَتِ الْمُرْضِعَةُ، وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ") قَالَ فِي "النهاية": ضرب المرضعة مثلًا للإمارة، وما توصله إلى صاحبها منْ المنافع، وضرب الفاطمة مثلًا للموت الذي يَهدِمُ عليه لذّاته، ويقطع منافعها دونه. انتهى
(2)
.
وقَالَ الدَّاوُدِيّ رحمه الله تعالى: نِعْم الْمُرْضِعَة: أَيْ فِي الدُّنْيَا، وَبِئْسَتْ الْفَاطِمَة: أَيْ بَعْدَ الْمَوْت؛ لِأَنَّهُ يَصِير إِلَى الْمُحَاسَبَة عَلَى ذَلِكَ، فَهُوَ كَاَلَّذِي يُفْطَم قَبْلَ أَنْ يَسْتَغْنِي، فَيَكُون فِي ذَلِكَ هَلَاكه. وَقَالَ غَيْره: نِعْمَ الْمُرْضِعَة؛ لِمَا فِيها مَنْ حُصُول الْجَاه وَالْمَال، وَنَفَاذ الْكَلِمَة، وَتَحصِيل اللَّذَّات الْحِسِّيَّة والْوَهْمِيَّة، حَال حُصُولهَا، وَبِئْسَتْ الْفَاطِمْة عِنْدَ الانْفِصَال عَنْهَا، بِمَوْتٍ أَوْ غَيْره، وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا مَنْ التَّبِعَات فِي الآخِرَة.
[تَنْبِيهٌ]: وقع فِي رواية البخاريّ: "نعم المرضعة، وبئست الفاطمة" بدون تاء التأنيث، فِي "نعم"، وإثباتها فِي "بئس". فقال فِي "الفتح": أُلْحِقَتْ التَّاء فِي "بِئْسَ"، دُون نِعْمَ، والْحَكْم فِيهِمَا، إِذَا كَانَ فَاعِلهمَا مُؤَنَّثًا، جَوَاز الْإلْحَاق وَتَرْكه، فَوَقَعَ التَّفَنُّن فِي هَذَا الْحَدِيث بِحَسَبِ ذَلِكَ.
وَقَالَ الطَّيبِيُّ: إِنَّمَا لَمْ يُلْحِقهَا بِـ"نِعْمَ"؛ لِأنَّ الْمُرْضِعَة مُسْتَعَارة لِلْإِمَارَةِ، وَتَأْنِيثَها غير حَقِيقِيّ، فَتَرَكَ إلْحَاق التَّاء بِها، وَإِلْحَاقهَا "بِئْسَ" نَظَرًا إِلَى كَوْن الْإمَارَة حِينَئِذٍ دَاهِيةَ دَهْيَاء. قَاَل: وَإنَّمَا أُتِيَ بالتَّاءِ فِي "الْفَاطِمَة"، و"الْمُرْضِعَة" إِشَارَة إِلَى تَصْوِير تَيْنِك الْحَالَتَيْنِ الْمُتَجَدِّدَتَيْنِ فِي الْإرْضَاع وَالْفِطَام. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي ذكروه منْ عدم لحاق التاء بـ"نعم"، ولحاقها بـ"بئس" عَلَى رواية البخاريّ، وهو الذي فِي "الكبرى" للمصنّف، وأما عَلَى ما فِي نسخ "المجتبى"، فقد لحقت بكليهما، ولعل هَذَا الاختلاف منْ تصرّف الرواة.
(1)
"شرح مسلم" 12/ 414 - 415. "كتاب الإمارة".
(2)
"النهاية" 2/ 230.
[تنبيه]: القاعدة فِي "نعم"، و"بئس" إذا كَانَ فاعلها مؤنّثًا، وإن كَانَ حقيقيًا جواز إلحاق التاء بهما، وتركها، كنعم المرأة هند، وبئست المرأه سعد، وإنما جاز ذلك؛ لأن فاعلهما مقصود به استغراق الجنس، فعومل معاملة جمع التكسير فِي جواز إثبات التاء، وحذفها؛ لشبهه فِي أن المقصود به متعدّد. وإلى هَذَا أشار ابن مالك رحمه الله تعالى فِي "خلاصته"، حيث قَالَ:
والْحَذْف فِي "نِعْمَ الْفَتَاةُ" اسْتَحْسَنُوا
…
لأنَّ قَصْدَ الْجِنْسِ فِيهِ بَيِّنُ.
[تنبيه آخر]: قَالَ الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى بعد إخراج هَذَا الحديث، منْ طريق ابن أبي ذئب، مرفوعًا: ما نصّه: وَقَالَ محمد بن بشار: حدثنا عبد الله بن حُمْران، حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن سعيد المقبري، عن عمر بن الحكم، عن أبي هريرة، قَوْلَهُ.
قَالَ فِي "الفتح": قَوْله: "وَقَالَ مُحَمَّد بْن بَشَّار": هُوَ بِنْدَارٌ، وَوَقَعَ فِي "مُسْتَخْرَج أَبِي نُعيم" أَنَّ الْبُخَارِيّ قَالَ:"حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار". وَعَبْد الله بْن حِمْران: هُوَ بَصْرِيّ صَدُوق، وَقَدْ قَالَ ابْن حِبَّان فِي "الثِّقَات": يُخْطِىء، وَمَا لَهُ فِي "الصَّحِيح" إِلَّا هَذَا الْمَوْضِع. وَعَبْد الْحَمِيد بْن جَعْفَر: هُوَ الْمَدَنِيّ، لَمْ يُخَرِّج لَهُ الْبُخَارِيّ، إِلَّا تَعْليقًا. وعُمر بن الْحَكم: أَيْ ابْن ثَوْبَانَ، مَدَنِيّ ثِقَة، أَخْرَجَ لهُ الْبُخَارِيّ، فِي غَيْر هَذَا الْمَوْضِع، تَعْلِيقًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الصِّيَام. قَوْلُهُ:"عَنْ أَبِي هُرَيْرَة": أيْ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ. انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه البخاريّ.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -39/ 4213 - وفي "الكبرى" 43/ 7836. وأخرجه (خ) فِي "الأحكام" 7148 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 9499 و9806. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو كراهة الحرص عَلَى الإمارة.
(ومنها): أن الذي يناله المتولّي منْ النعماء، والسرّاء، دون ما يناله منْ البأساء والضرّاء،
(1)
"فتح" 15/ 21 - 22 "كتاب الأحكام".
إما بالعزل فِي الدنيا، فيصير خاملًا، وإما بالمؤخذة فِي الآخرة، وذلك أشدّ نسأل الله تعالى العفو والعافية- قَالَ القاضي البيضاويّ: فلا ينبغي لعاقل أن يفرح بلذّة، يعقبها حسرة. (ومنها): ما قاله المهلّب رحمه الله تعالى: الحرص عَلَى الولاية هو السبب فِي اقتتال الناس عليها، حتّى سُفكت الدماء، واستبيحت الأموال والفروج، وعظم الفساد فِي الأرض بذلك، ووجه الندم أنه قَدْ يُقْتل، أَوْ يُعْزَل، أَوُ يَمُوت، فَيَنْدَم عَلَى الدُّخُول فِيهَا؛ لِأنَّهُ يُطَالَب بِالتَّبِعَاتِ الَّتِي ارْتَكَبَهَا، وَقَدْ فَاَتَهُ مَا حَرَصَ عَلَيْهِ بِمُفَارَقَتِهِ، قَالَ: وَيَسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، كَأَنْ يَمُوت الْوالِي، ولا يُوجَد بَعَده منْ يَقُوم بِالْأَمْرِ غَيْره، وَإِذَا لَمْ يَدْخُل فِي ذَلِكَ، يَحْصُل الْفَسَاد بِضَيَاع الْأحْوَال.
قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: وَهَذَا لَا يُخَالِف مَا فُرِضَ فِي الْحَدِيث الَّذِي قَبْلَهُ يعني حديث أبي هريرة المذكور فِي هَذَا الباب- منْ الْحُصُول بِالطَّلَبِ، أَوْ بِغَيْرِ طَلَب، بَلْ فِي التَّعْبِير بِالْحَرْصِ، إِشَارَة إِلَى أنَّ مَنْ قَامَ بِالْأَمْر، عِنْد خَشْيَة الضَّيَاع، يَكُون كَمَنْ أُعْطِيَ بِغَيْرِ سُؤَال؛ لِفَقْدِ الْحِرْص غَالِبًا عَمَّنْ هَذَا شَأْنه، وَقَدْ يُغْتَفَر الْحِرْص فِي حَقّ مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ؛ لِكَوْنِهِ يَصِير وَاجبًا عَلَيْهِ، وتوْلِيَة، الْقَضَاء عَلَى الْإمَام فَرْض عَيْن، وَعَلَى الْقَاضِي فَرْض كِفَايَة، إِذَا كَانَ هُنَاكَ غَيْره. انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".
…
(1)
"فتح" 15/ 22. "كتاب الأحكام" رقم 7151.
39 - (كِتَابُ الْعَقِيقَةِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: كَانَ الأولى للمصنّف رحمه الله تعالى أن يذكر هَذَا الكتاب بعد "كتاب الضحايا"، كما فعل فِي "الكبرى"؛ للمناسبة الواضحة بينهما.
قَالَ الإِمام الحافظ أبو عمر ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى فِي "التمهيد": وأما العقيقة فِي اللغة، فزعم أبو عبيد، عن الأصمعيّ وغيره أن أصلها الشعر الذي يكون عَلَى رأس الصبيّ حين يولد، قَالَ: وإنما سمّيت الشاة التي تُذبح عنه عقيقةً؛ لأنه يُحلق عنه ذلك الشعر عند الذبح. قَالَ: ولهذا قيل فِي الحديث: "وأميطوا عنه الأذى" يعني بالأذى ذلك الشعر. قَالَ أبو عبيد: وهذا مما قلت لك: إنهم ربّما سمّوا الشيء باسم غيره، إذا كَانَ معه، أو منْ سببه، فسُمّيت الشاة عقيقةً لعقيقة الشعر، وكذلك كلُّ مولود منْ البهائم، فإن الشعر الذي يكون عليه حين يولد عقيقة، وعقّةٌ، قَالَ زُهير يذكر حمار وحش [منْ الوافر]:
أذَلِكَ أمْ شَتِيمُ الْوَجْهِ جَأْبُ
(1)
…
عَلَيْهِ مِنْ عَقِيقَتِهِ عَفَاءُ
يعني صغار الوبر. وَقَالَ ابن الرقاع فِي الْعِقّة، يصف حمارًا [منْ البسيط]:
تَحسَّرَتْ عِقَّةٌ عَنْهُ فَأَنْسَلَهَا
…
وَاجْتَابَ أُخْرَى جَدِيدًا بَعْدَمَا ابْتَقَلَا
مُوَلَّعٍ بِسَوَادٍ فِي أَسَافِلِهِ
…
مِنْهُ احْتَذَى وِبِلَوْنٍ مِثْلِهِ اكْتَحَلَا
فجعل العقيقة الشعر، لا الشاة، يقول: لمّا تربّع، وأكل بُقُول الربيع، أنسل الشعر المولود معه، وأنبت الآخر، فاجتابه: أي اكتساه. قَالَ أبو عُبيد: العِقّةُ والعقيقة فِي الناس، والحمُر، ولم يُسمع فِي غير ذلك.
قَالَ أبو عمر: وَقَدْ أنكر أحمد بن حنبل تصير أبي عُبيد هَذَا للعقيقة، وما ذكره عن الأصمعيّ، وغيره فِي ذلك، وَقَالَ: إنما العقيقة: الذبح نفسه. قَالَ: ولا وجه لما قَالَ أبو عبيد. واحتجّ بعض المتأخّرين لأحمد بأن قَالَ ما قَالَ أحمد منْ ذلك، فمعروفٌ فِي اللغة؛ لأنه يقال: عقّ: إذا قطع، ومنه يقال: عقّ والديه: إذا قطعهما. قَالَ أبو عمر: يشهد لقول أحمد قول الشاعر [منْ الطويل]:
بِلَادٌ بَهِا عَقَّ الشَّبَابُ تَمَائِمِي
…
وَأَوَّلُ أرْضٍ مَسَّ جِلْدِي تُرَابَهُا
(1)
الشتيم الكريه القبيح. و"الجأب": الغليظ. قاله فِي "اللسان".
يريد أنه لَمّا شبّ، قُطعت عنه تمائمه. ومثل هَذَا قول ابن ميادة، واسمه الرماح [منْ الطويل]:
بِلَادٌ بِهَا نِيطَتْ عَلَيَّ تَمَائِمِي
…
وَقُطِعْنَ عَنَّي حِينَ أدْرَكَنِي عَقْلِي
قَالَ: وقول أحمد فِي معنى العقيقة فِي اللغة أولى منْ قول أبي عُبيد، وأقرب، وأصوب. والله تعالى أعلم. انتهى كلام الحافظ أبي عمر رحمه الله تعالى
(1)
.
وَقَالَ الإِمام ابن قُدامة رحمه الله تعالى: العقيقة: الذبيحة التي تُذبح عن المودود. وقيل: هو الطعام الذي يُصنع، ويُدعى إليه منْ أجل المولود. قَالَ أبو عُبيد: الأصل فِي العقيقة الشعرُ الذي عَلَى المولود، وجمعها عَقائقُ، ومنها قول امرىء القيس [منْ المتقارب]:
أَيَا هِنْدُ لا تَنْكِحِي بُوهَةً
…
عَلَيْهِ عَقِيقتُهُ أحْسَبَا
(2)
ثم إن العرب سمّت الذبيحة عند حلق شعره عقيقة، عَلَى عادتهم فِي تسمية الشيء باسم سببه، أو ما جاوره، ثم اشتهر ذلك حتى صار منْ الأسماء العرفيّة، وصارت الحقيقة مغمورة فيه، فلا يُفهم منْ العقيقة عند الإطلاق إلا الذبيحة. وَقَالَ ابن عبد البرّ: أنكر أحمد هَذَا التفسير، وَقَالَ: إنما العقيقة الذبح نفسه. ووجهه أن أصل العقّ: القطعُ، ومنه عقّ والديه. إذا قطعهما، والذبح قطع الحلقوم، والمريء، والودجين. انتهى كلام ابن قدامة
(3)
.
وَقَالَ فِي "الفتح": "العقيقة" بِفَتْحِ الْعَيْن الْمُهْمَلَة، وَهُوَ اسْم لِمَا يُذْبَح عن الْمَوْلُود. وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقهَا، فَقَالَ أَبُو عُبَيْد، وَالْأَصْمَعِيّ: أَصْلهَا الشَّعْر الَّذِي يخْرُج عَلَى رَأْس الْمَوْلُود، وَتَبِعهُ الزَّمَخْشَرِيّ وَغَيْره، وسُمِّيَتْ الشَّاة الَّتِي تُذْبِح عَنْهُ، فِي تِلْكَ الْحَالَة عَقِيقَة؛ لِأَنَّهُ يُحْلَق عَنْهُ ذَلِك الشَّعْر عِنْد الذَّبْح. وَعَنَ أَحْمَد أنَّها مَأْخُوذَة مِن الْعَقِّ، وَهُوَ الشَّقّ وَالْقَطْع. وَرَجَّحَهُ ابْن عَبْد الْبَرّ، وَطَائِفَة. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْعَقِيقَة اسْم الشَّاة الْمَذْبُوحَة عَنْ الْوَلَد، سُمِّيتْ بِذَلِكَ؛ لِأنَّها تُعَقّ مَذَابِحهَا: أَيْ تُشَقّ، وَتَقْطَع. قَالَ: وَقِيلَ: هِيَ الشَّعْر الَّذِي يُحْلَق. وقَالَ ابْن فَارِس: الشَّاة الَّتِي تُذبَح، والشَّعْر كُلّ مِنْهُمَا يُسَمَّى عَقِيقَة، يُقَال: عَقَّ يَعُقّ: إِذَا حَلَقَ عَنْ ابْنه عَقِيقَته، وَذَبَحَ لِلْمَسَاكِينِ شَاة. وَقَالَ الْقَزَّاز: أَصْل الْعَقِّ: الشَّقّ، فَكَأَنَّها قِيل لَهَا عَقِيقَة: بِمَعْنَى مَعْقُوقَة، وَسُمِّيَ شَعْر الْمَوْلُود عَقِيقَة، بِاسْمِ ما يِعُقّ عَنْهُ. وَقِيلَ: بِاسْم الْمَكَان الَّذِي انْعَقَّ عَنْهُ فِيهِ، وَكُلّ مَوْلُود مِنْ الْبَهَائِم، فَشَعْره عَقِيقَة، فَإِذَا سَقَطَ وَبَر الْبَعِير، ذَهَب عَقّه. وَيُقَال: أَعْقَتِ الْحَامِلُ نَبَتَتْ
(1)
"التمهيد" 4/ 308 - 311.
(2)
البوهة: البومة، سمي به الأحمق. والأحسب: الذي فِي شعر رأسه شُقْرة، يصفه باللؤم والشّحّ، يقول: كأنه لم تُحلق عقيقته فِي صغره حتى شاخ. انتهى.
(3)
"المغني" 13/ 393.
عَقِيقَة وَلَدهَا فِي بَطْنهَا.
ومِمَّا وَرَد فِي تَسْمِيَة الشَّاة عَقِيقَة: مَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّار، مِنْ طَرِيق عَطَاء، عَنْ ابْن عَبَّاس، رَفَعَهُ:"لِلْغُلَامِ عَقِيقَتَانِ، وَلِلْجَارِيةِ عَقِيقَة"، وَقَالَ: لَا نَعْلَمهُ بِهذَا اللَّفْظ، إِلَّا بَهِذَا الْإِسْنَاد انتهى. وَوَقَعَ فِي عِدَّة أَحَادِيث:"عَنْ الْغُلَام شَاتَانِ، وَعَنْ الْجَارِيَة شَاة". انتهى
(1)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما ذُكر أن العقيقة تطلق عَلَى الشعر، وعلى الذبح، وعلى الشاة، وأظهر ما تُطلق عليه: هي الشاة المذبوحة عن المولود. والله تعالى أعلم بالصواب.
4214 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الْعَقِيقَةِ؟ فَقَالَ:"لَا يُحِبُّ اللَّهُ عز وجل الْعُقُوقَ"، وَكَأَنَّهُ كَرِهَ الاِسْمَ، قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا نَسْأَلُكَ، أَحَدُنَا يُولَدُ لَهُ، قَالَ:"مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْسُكَ عَنْ وَلَدِهِ، فَلْيَنْسُكْ عَنْهُ، عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ، مُكَافَأَتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ".
قَالَ دَاوُدُ: سَأَلْتُ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ، عَنِ الْمُكَافَأَتَانِ؟ قَالَ: الشَّاتَانِ الْمُشَبَّهَتَانِ، تُذْبَحَانِ جَمِيعًا).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: كَانَ الأولى للمصنّف رحمه الله تعالى أن يترجم هنا للباب الأول، كما فعل فِي "الكبرى" بقوله:"باب استحباب العقيقة". والله تعالى أعلم.
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(أحمد بن سليمان) أبو الحسين الرُّهاويّ، ثقة حافظ [11] 38/ 42 منْ أفراد المصنّف.
2 -
(أبو نُعيم) الفضل بن دُكين/ عمرو بن حمّاد الكوفيّ، ثقة ثبت [9] 11/ 516.
93 (داود بن قيس) الْفَرّاء الدّبّاغ، أبو سليمان القرشيّ مولاهم المدنيّ، ثقة فاضل [5] 96/ 120.
4 -
(عمرو بن شُعيب) بن محمد المدنيّ، أو الطائفيّ، صدوقٌ [5] 105/ 140.
5 -
(أبوه) شعيب بن محمد الطائفيّ، صدوق، ثبت سماعه منْ جدّه [3] 105/ 140.
(1)
"فتح" 11/ 3 "كتاب العقيقة" رقم 5467.
6 -
(جده) عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما 89/ 111. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
منها: أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى، وأن رواته عندهم موثّقون، وفيه رواية الراوي عن أبيه، عن جدّه، وتابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ) شعيب بن محمّد (عَنْ جِدِّهِ) عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْعَقِيقَةِ؟) أي عن حكمها، أوصفتها (فَقَالَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (لَا يُحِبُّ اللَّهُ عز وجل الْعُقُوقَ، وَكَأَنَّهُ كَرِهَ الاِسْمَ) يريد أنه ليس فيه توهينٌ لأمر العقيقة، ولا إسقاطٌ لمشروعيّتها، وإنما استبشع الاسم، وأحبّ أن يسمّيه بأحسن منه، كالنسيكة، والذبيحة، ولذلك قَالَ:"منْ أحبّ أن يَنسُك عن ولده": بضم السين: أي يذبح.
قَالَ التُّورِبِشتِيُّ: هَذَا الْكَلَام، وَهُوَ:"كَأَنَّهُ كَرِهَ الاسْم"، غَيْر سَدِيد، أُدْرِجَ فِي الْحَدِيث، مِنْ قَوْل بَعْض الرُّوَاة، وَلَا يُدْرَى مَنْ هُوَ؟، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ صَدَرَ عَنْ ظَنّ، يَحْتمِل الْخَطَأ وَالصَّوَاب، وَالظَّاهِر أَنَّهُ هَاهُنَا خَطَأ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَر الْعَقِيقَة، فِي عِدَّة أَحَادِيث، وَلَوْ كَانَ يَكْرَهُ الاسْم، لَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى غَيْره، وَمِنْ سُنَّته تَغْيِير الاسْم، إِذَا كَرِههُ، وَالْأَوجه أن يُقال: يَحْتمِلُ أَنَّ السَّائِل ظَنَّ أَنَّ اشْتَرَاك الْعَقِيقَة، مَعَ الْعُقُوق فِي الاشْتِقَاق، مِمَّا يُوهِنُ أَمْرهَا، فَأعْلَم النَّبِيّ صَلَّى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ الَّذِي كَرِهَهُ الله تَعَالَى منْ هَذَا الْبَاب، هُوَ الْعُقُوقُ، لا الْعَقِيقَة. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْعُقُوق هَاهُنَا، مُسْتَعَار لِلْوَالِدِ، بِتَرْكِ الْعَقِيقة، أَيْ لا يُحبّ أَنْ يَتْرُك الْوَالِدُ، حَقَّ الْوَلَدِ الَّذِي هُو الْعَقِيقَة، كَمَا لَا يُحِبُّ أَنَ يَتْرُكَ الْوَلَدُ، حَقَّ الْوَالِد الَّذِي، هُوَ حَقِيقَة الْعُقُوق.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُخَاطَب مَا يفهم هَذَا الْمَعْنَى منْ الْجَوَاب، وَلِذَلِكَ أَعَادَ السُّؤَال، فَقَالَ: إِنَّمَا نَسْأَلُك إِلَخْ، فَالْوَجْه أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ أطلق الاسْم أَوَّلًا، ثُمَّ كرِههُ، إمَّا بِالْتِفَاتٍ مِنْهُ صلَّى الله عَلَيْهِ تعالى وَسَلَّمَ إِلَى ذَلِكَ، أَوْ بِوَحْيٍ، أَوْ إِلْهَام مِنْهُ تعالى إِلَيْهِ. وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم. ذكره السنديّ
(1)
.
(قَالَ) السائل (لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا نَسْأَلُكَ أَحَدُنَا يُولَدُ لَهُ) أي فماذا عليه لهذا
(1)
"شرح السنديّ" 7/ 162 - 163.
الولد؟. ولفظ أحمد: "إنما نسألك عن أحدنا يولد له"(قَالَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْسُكَ) بضمّ السين، يقال: نسك لله ينسُك، منْ باب قتل: تطوّع بقربة، والنُّسُك -بضمّتين-: اسم منه، وفي التنزيل:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} ، والْمَنْسك -بفتح السين، وكسرها- يكون زمانًا، ومصدرًا، ويكون اسم المكان الذي تُذْبح فيه النسيكة، وهي الذبيحة وزنًا ومعنًى. وفي التنزيل:{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} الآية [الحج: 34] بالفتح والكسر، قرىء فِي السبعة. ومناسك الحجّ: عباداته، وقيل: مواضع العبادات. ومن فعل كذا، فعليه نُسُك: أي دمٌ يُريقه. وتنسّك: تزهّد؛ وتعبّد، فهو ناسكٌ، والجمع نُسّاكٌ، مثلُ عابد وعُبّاد. قاله الفيّوميّ (عَنْ وَلَدِهِ، فَلْيَنْسُكْ عَنْهُ) أي فليذبح عن ولده؛ شكرًا لما أولاه الله تعالى منْ نعمة الولد.
(عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ) مُبْتَدَأ وَخَبَر، وَالْجُمْلَة جَوَاب لِمَا يُقَال: مَاذَا يَنْسُكُ؟، أَوْ مَاذَا يُجْزِىءُ؟، وَيَحْسُن؟، وَنَحَوه (مُكَافِئَتَانِ) بِالهَمْزَةِ، أَيْ مُسَاوِيَتَانِ فِي السِّنّ، بِمَعْنَى أَنْ لا يَنْزِل سِنّهمَا، عَنْ سِنّ أدْنَى ما يجزىء فِي الْأُضْحِيَّة. وَقِيلَ: مُسَاوِيَتَانِ، أَوْ مُتَقَارِبَتَانِ، وَهُوَ بكَسرِ الْفَاء، مِنْ كَافأهُ: إِذَا سَاوَاهُ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: والمُحَدِّثُون يَفْتَحُونَ الْفَاءَ، وَأُرَاهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ شَاتَيْنِ، قَدْ سَوَّى بَيْنَهُما، وَأَمَّا بِالْكَسْرِ، فَمَعْنَاهُ مُسَاوِيانِ، فَيَحْتَاج إِلَى شَيْء آخر، يُسَاوِيَانِهِ، وَأَمَّا لَوْ قِيلَ: مُتَكَافِئَتَانِ، لَكَانَ الْكَسْر أَوْلَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا فَرْقَ بَيْن الْفَتْح وَالْكَسْر؛ لِأَنَّ كُلّ وَاحِدَة، إِذَا كَافَأَتْ أخْتهَا، فَقَدْ كُوفِئَتْ، فَهِيَ مُكَافِئَة، ومُكَافَأَة، أو يكُونُ مَعْنَاهُ: مُعَادِلَتَانِ لِما يجِبُ فِي الْأُضْحِيَّة، مِنْ الْأَسْنَان. وَيُحْتَمَل مَعَ الْفَتْح، أَنْ يُراد مَذْبُوحَتَانِ، مِنْ كَافَأَ الرَّجُل بَيْن بَعِيرَيْنِ: إِذَا نَحَرَ هَذَا، ثُمَّ هَذَا مَعًا، مِنْ غَيْر تَفْرِيق، كَأَنَّهُ يُرِيدُ شَاتَيْنِ تَذْبَحهُمَا مَعًا.
قَالَ السنديّ: مُرًاد الِزَّمَخْشرِيّ، إِنَّ كُلاًّ منْ الْفَتْح والْكَسْر، يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ اعْتِبَار شَيْء ثَالِث، يُسَاويَانِهِ، أَوْ يُسَاوِيهِمَا، وَإِنْ اكْتُفِى بِمُساواةِ كُلّ وَاحِدَة مِنْهُمَا صَاحِبَتهَا، صَحَّ الْفَتْح وَالْكَسْر. فَلْيُتأمَّلْ. وَالَلَّه تَعَالَى أعْلَم. انتهى.
(وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ) مبتدا وخبر أيضاً، فالجارّ والمجرور خبر مقدّم، و"شاة" مبتدأ موخّرٌ. يعني أنه يجزىء عن المولود الأنثى أن تُذبح شاةٌ واحدة.
وقوله (قَالَ دَاوُدُ) هو ابن قيس الراوي عن عمرو بن شُعيب (سَألتُ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ) العدويّ، مولى عمر بن الخطاب، أبا عبد الله، أو أبا أُسامة المدنيّ، ثقة عالم، وكان يُرسل [3] مات سنة (136) وتقدمت ترجمته فِي 64/ 80 (عَنْ الْمُكَافِأَتَانِ؟) أي عن معناهما (قَالَ) زيد (الشَّاتَانِ) خبر لمحذوف: أي هما الشاتان (الْمُشَبَّهَتَانِ) بصيغة اسم المفعول: أي متماثلتان (تُذْبَحَانِ) بالبناء للمفعول (جَمِيعًا) أَيْ لَا يُؤَخَّر ذَبْح إِحْدَاهُمَا عَنْ
الأُخْرَى. وَحَكَى أبُو دَاوُد، عن أحمد الْمُكَافِئَتَانِ الْمُتَقَارِبَتَانِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَيْ فِي السِّنّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: مَعْنَاهُ مُتَعَادِلَتَانِ لِمَا يَجْزِي فِي الزَّكَاة، وفِي الأضْحِيَّة. قَالَ الحافظ: وأوْلى مِن ذَلِكَ كُلّه ما وقع فِي رِواية سعِيد بن منْصُور، فِي حدِيث أُمّ كُرْز، منْ وجه آخر، عن عُبيد الله بن أبِي يزِيد بلَفْظِ:"شَاتَانِ مِثْلانِ". ووقع عِنْد الطَّبَرانِيّ فِي حدِيث آخر "قِيلَ: ما الْمُكافِئتانِ؟ قال الْمِثْلانِ" وَمَا أشار إِليهِ زَيْد بْن أسْلَمْ، مِنْ ذَبْح إِحْداهُما، عقِب الأُخْرى حَسَن، وَيَحتمِل الحَمْل عَلَى المعْنَيَيْنِ معًا. انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -1/ 4214 - وفي "الكبرى" 1/ 4538. وأخرجه (د) فِي "الأضاحي" 2842 و (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 6674 و (الحاكم) فِي "المستدرك" 4/ 238 (البيهقي) فِي "السنن الكبرى" 9/ 3006783. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان مشروعية العقيقة. (ومنها): التفرقة بين الغلام والجارية، فيعقّ عنه شاتان، وعنها شاة واحدة. (ومنها): كون الشاتين متماثلتين فِي السنّ. (ومنها): أنه اسْتُدَلَّ بِإِطلاقِ الشَّاة والشَّاتَيْنِ، عَلَى أنَّهُ لا يُشْتَرَط فِي الْعَقِيقَة مَا يُشْتَرَط فِي الْأُضْحِيَّة، وَفيهِ وَجْهانِ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَأَصَحّهمَا يُشْتَرَط، وهُو بِالْقِياسِ، لَا بِالْخَبرِ. قاله فِي "الفتح".
وَقَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى: حكم العقيقة حكم الأضحيّة فِي سنّها، وأنه يُمنع فيها منْ العيب ما يُمنع فيها، ويُستحبّ فيها منْ الصفة ما يُستحبّ فيها، وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها تقول: ائتوني به أعين، أقرن. وَقَالَ عطاء: الذكر أحبّ إليّ منْ الأنثى، والضأن أحبّ إليّ منْ المعز. فلا يُجزىء فيها أقلّ منْ الجذع منْ الضأن، والثنيّ منْ العز. ولا تجوز العوراء البيّن عورها، والعرجاء البيّن ظَلَعها، والمريضة البيّن مرضها، والعجفاء التي لا تُنقي، والعضباء التي ذهب أكثر منْ نصف أذنها وقرنها، قَالَ: ويستحبّ استشراف العين والأذن، كما ذكرنا فِي الأضحيّة سواءً؛ لأنها تُشبهها، فتقاس
(1)
"فتح" 11/ 10.
عليها. انتهى كلام ابن قدامة
(1)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن اشتراط عدم العيب فِي العقيقة، بحيث لا يُجزىء إلا ما أجزأ فِي الأضحية محلّ نظر؛ إذ الظاهر أن هَذَا منْ باب الاستحباب، لا منْ باب الوجوب؛ إذ النصّ أطلق الشاة، فما يقع عليه اسم الشاة، فهو مجزىء، إلا أن الأفضل اجتناب المعيبة، وَقَدْ حقّق هذه المسألة ابن حزم فِي "المحلّى"
(2)
، فراجعه. والله تعالى أعلم.
(ومنها): أن ذكر الشَّاة والْكَبْش يدلّ عَلَى أَنَّهُ يتعيَّن الْغنَم لِلْعقِيقةِ، وبِهِ تَرْجَمَ أبُو الشَّيْخ الأصْبِهانِي، ونقلهُ ابن المُنْذِر، عن حفصة بِنت عبد الرَّحْمَن بن أبِي بكر. وَقَالَ الْبنْدنِيجِيُّ منْ الشَّافِعِيَّة: لا نصَّ لِلشَّافِعِيّ فِي ذَلِكَ، وعِنْدِي أنَّهُ لا يُجزىءُ غيرها، والجمهور عَلَى إجزاء الإِبِل، والْبَقَر أيضًا، وفِيهِ حدِيث عِنْد الطَّبرانِيّ، وأبِي الشيخ، عن أنس رضي الله تعالى عنه، رفعهُ:"يعُقّ عَنْهُ منْ الإبِل، والْبَقَر، والْغَنَمْ". ونصّ أحْمَد عَلَى اشْتِراط كَامِلَة، وذَكَرَ الرَّافِعِي بحثًا أنَّها تتأدَّى بِالسَّبُع، كما فِي الأُضْحِيَّة. واللهُ أعلم. قاله فِي "الفتح"
(3)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول بكون العقيقة شاةً، كما ثبت ذلك فِي النصّوص الصحيحة، كالأحاديث التي ساقها المصنّف، وغيره، هو الأرجح؛ عملًا بالنصوص، وَقَدْ اخرج الطحاويّ والبيهقيّ، منْ طريق عبد الجبّار بن ورد المكيّ، سمعت ابن أبي مليكة يقول: نُفس لعبد الرحمن بن أبي بكر غلام، فقيل لعائشة: يا أم المؤمنين: عُقّي عنه جزورًا، فقالت: معاذ الله، ولكن ما قَالَ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:"شاتان مكافئتان". وإسناده حسن، وعبد الجبّار قَالَ عنه الذهبيّ: ثقة. وفي "التقريب": صدوقٌ يهم.
وأما الحديث الذي عزاه الحافظ إلى الطبرانيّ، وأبي الشيخ فِي إجزاء الإبل، والبقر، فهو حديث واه؛ لأن فِي سنده مسعدة بن اليسع، قَالَ الذهبيّ: كذبه أبو داود، وَقَالَ أحمد: حرّقنا حديثه منذ دهر، وَقَالَ أبو حاتم: هو منكر ذاهبٌ الحديث، لا يُشتغل به، يكذب عَلَى جعفر بن محمد
(4)
.
والحاصل أن إجزاء غير الشياه لم يرد به نصّ صحيح، فتفطّن. والله تعالى أعلم
(1)
"المغني" 13/ 399 - 3400.
(2)
"المحلّى" 7/ 523.
(3)
"فتح" 11/ 10 - 11.
(4)
راجع ما كتبه الشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى فِي "إرواه الغليل" 4/ 393 - 394.
بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم العقيقة:
قَالَ الإِمام الحافظ أبو عمر رحمه الله تعالى: ذهب أهل الظاهر إلى أن العقيقة واجبة فرضًا، منهم: داود بن عليّ، وغيره، واحتجّوا لوجوبها بأن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم أمر بها، وفعلها، وكان بُريدة الأسلميّ يوجبها، وشبّهها بالصلاة، فقال: الناس يُعرضون يوم القيامة عَلَى العقيقة، كما يُعرضون عَلَى الصلوات الخمس. وكان الحسن البصريّ يذهب إلى أنها واجبة عن الغلام يوم سابعه، فإن لم يُعقّ عنه، عَقّ عن نفسه. وَقَالَ الليث بن سعد: يُعقّ عن المولود فِي أيام سابعه فِي أيّها شاء، فإن لم تتهيّأ لهم العقيقة فِي سابعه، فلا بأس أن يُعقّ عنه بعد ذلك، وليس بواجب أن يُعقّ عنه بعد سبعة أيام، وكان الليث يذهب إلى أنها واجبة فِي السبعة الأيام.
وكان مالكٌ يقول: هي سنّةٌ واجبة يجب العمل بها، وهو قول الشافعيّ، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبي ثور، والطبريّ.
قَالَ مالكٌ: لا يُعقّ عن الكبير، ولا يُعقّ عن المولود إلا يوم سابعه ضحوةً، فإن جاوز يوم السابع لم يُعقّ عنه. وَقَدْ رُوي عنه أنه يُعقّ عنه فِي السابع الثاني. قَالَ: وُيعقّ عن اليتيم، ويعُقّ العبد المأذون له فِي التجارة عن ولده، إلا أن يمنعه سيّده. قَالَ مالك: ولا يُعدّ اليوم الذي وُلد فيه، إلا أن يولد قبل الفجر منْ ليلة ذلك اليوم. ورُوي عن عطاء: إن أخطاهم أمر العقيقة يوم السابع، أحببت أن يؤخّره إلى يوم السابع الآخر. وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنهما قالت: إن لم يُعقّ عنه يوم السابع، ففي أربع عشرة، فإن لم يكن ففي إحدى وعشرين، وبه قَالَ إسحاق بن راهويه، وهو مذهب ابن وهب، قَالَ ابن وهب: قَالَ مالك بن أنس: إن لم يُعقّ عنه فِي يوم السابع عُقّ عنه فِي السابع الثاني. وَقَالَ ابن وهب: ولا بأس أن يعقّ عنه فِي السابع الثالث. وَقَالَ مالك: إن مات قبل السابع لم يُعقّ عنه. ورُوي عن الحسن مثلُ ذلك. وَقَالَ الليث بن سعد فِي المرأة تلد ولدين فِي بطن واحد: إنه يُعقّ عن كلّ واحد منهما.
قَالَ أبو عمر: ما أعلم عن أحد منْ فقهاء الأمصار خلافا فِي ذلك، والله أعلم.
وَقَالَ الشافعيّ: لا يَعُقّ المأذون له المملوك عن ولده، ولا يُعقّ عن اليتيم، كما لا يُضحّى عنه. وَقَالَ الثوريّ: لست العقيقة بواجبة، وإن صُنعت فحسن. وَقَالَ محمد بن الحسن: هي تطوّعٌ، كَانَ المسلمون يفعلونها، فنسخها ذبح الأضحى، فمن شاء فعل، ومن شاء لم يفعل. وَقَالَ أبو الزناد: العقيقة منْ أمر المسلمين الذين كانوا يكرهون تركه.
قَالَ أبو عمر: الآثار كثيرة مرفوعة عن الصحابة، والتابعين، وعلماء المسلمين فِي
استحباب العمل بها، وتأكيد سنيّتها، ولا وجه لمن قَالَ: إن ذبح الأضحى نسخها. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى
(1)
.
وَقَالَ الإِمام ابن قُدامة رحمه الله تعالى: العقيقة سنّة فِي قول عامّة أهل العلم، منهم: ابن عبّاس، وابن عمر، وعائشة، وفقهاء التابعين، وأئمّة الأمصار، إلا أصحاب الرأي، قالوا: ليست سنّةً، وهي منْ أمر الجاهليّة. قَالَ: وَقَالَ الحسن، وداود: هي واجبةٌ. وروي عن بُريدة: أن الناس يُعرضون عليها، كما يُعرضون عَلَى الصلوات الخمس. قَالَ: وَقَالَ أبو الزناد: العقيقة منْ أمر الناس، كانوا يَكرهون تركه. وَقَالَ أحمد: العقيقة سنّةٌ عن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قد عقّ عن الحسن، والحسين، وفعله أصحابه، وَقَالَ النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم:"الغلام مرتَهنٌ بعقيقته". وهو إسناد جيّدٌ، يرويه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم. وجعلها أبو حنيفة منْ أمر الجاهليّة، وذلك لقلّة علمه، ومعرفته بالأخبار.
وأما بيان كونها غير واجبة، فدليله ما احتجّ به أصحاب الرأي منْ الخبر، وما رروه محمولٌ عَلَى تأكيد الاستحباب، جمعًا بين الأخبار، ولأنها ذبيحة لسرور حادث، فلم تكن واجبة، كالوليمة، والنقيعة.
قَالَ: والعقيقة أفضل منْ الصدقة بقيمتها، نصّ عليه أحمد، وَقَالَ: إذا لم يكن عنده ما يعُقّ، فاستقرض، رجوتُ أن يُخلف الله عليه؛ إحياء سنّته. قَالَ ابن المنذر: صدق أحمد، إحياء السنن، واتّباعها أفضل. وَقَدْ ورد فيها منْ التأكيد فِي الأخبار التي رويناها ما لم يرد فِي غيرها، ولأنها ذبيحةٌ أمر النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم بها، فكانت أولى، كالوليمة، والأضحيّة. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله تعالى
(2)
.
وَقَالَ فِي "الفتح": قَالَ الشَّافِعِيّ: أفرط فِيها رجُلانِ، قَالَ أحَدهمَا: هِيَ بِدعَة، والآخِر قَالَ: وَاجِبة. وأشَارَ بِقائِلِ الوُجُوب إِلى اللَّيْث بْن سَعْد، ولم يَعْرِف إِمام الحرمين الوُجُوب إِلَّا عن داوُد، فقال: لَعَلَّ الشَّافِعِي أراد غير داوُد، إِنَّمَا كَانَ بعده. وتُعُقب بِأنَّهُ ليْسَ لِلَعَلَّ هُنَا مَعْنَى، بل هُو أمر مُحقَّق، فإِنَّ الشَّافِعِي مَاتَ، ولِداوُد أرْبَع سِنين. وَقَدْ جَاءَ الوُجُوب أيضًا عن أبِي الزِّناد، وهِي رِواية عن أحمد.
والَّذِي نُقِل عَنْهُ أنَّها بدْعة أبُو حنِيفة، قَالَ ابْن المُنْذِر: أنكر أصحاب الرَّأي، أَنْ تَكُون سُنَّة، وَخَالفُوا فِي ذلِكَ الآثَار الثَّابِتة.
واسْتَدَلَّ بعْضهم بِمَا رَوَاهُ مالِك فِي "المُوطَّإ"، عن زيد بن أسْلَمَ، عن رجُل مِنْ بَنِي
(1)
"التمهيد" 4/ 311 - 313.
(2)
"المغني" 13/ 393 - 395.
ضَمْرَة، عن أبِيهِ، سَألَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عن العقِيقة؟، فقال:"لا أُحِبّ الْعُقُوق" كأنَّهُ كَرِهَ الِاسْم، وَقَالَ:"منْ وُلِد لهُ ولد، فأحبّ أن ينسك عنهُ فليفعل". وفِي رِواية سعِيد بن منصُور، عن سُفيان، عن زيد بن أسْلَمَ، عن رجُل منْ بني ضَمْرَة، عن عمه، سمِعت رسُول الله صلى الله عليه وسلم، يُسأل عن العقِيقة؛ وهُو عَلَى المِنبر، بِعرفة، فذكرهُ. ولهُ شاهِد منْ حدِيث عمرو بن شُعَيْب، عن أبِيهِ، عن جَدّه، أخرجهُ أبُو داوُد، -يعني حديث الباب- وَيَقوى أَحَدُ الحدِيثينِ بِالآخرِ. قَالَ أبُو عُمر: لا أعْلَمَهُ مرفوعًا، إِلّا عَنْ هَذَيْنِ.
قَالَ الحافظ: وَقَدْ أخرجهُ البزّار، وأبُو الشَّيْخ، فِي "الْعَقِيقَة" مِنْ حَدِيث أبِي سَعِيد، ولا حُجَّة فِيهِ لِنَفْي مَشْرُوعِيّتها، بَلْ آخِرُ الحدِيث يُثْبِتها، وإِنَّما غَايته أنْ يُؤخَذْ مِنْهُ أن الأولى، أن تُسمَّى نَسِيكَة، أو ذَبِيحَة، وأن لا تُسَمَّى عقِيقة. وَقَدْ نقلهُ ابن أبِي الدَّم، عن بعض الأصْحاب، قَالَ: كَمَا فِي تسمِية العِشَاء عَتَمَة. وادّعى مُحمّد بن الْحَسَنُ نَسْخَها بِحدِيثِ "نسخ الأضْحى كُلّ ذَبْح"، أَخْرجهُ الدَّارقُطنِيُّ، منْ حدِيث عَلِيّ، وَفِي سنده ضَعْف. وأمَّا نَفْي ابن عبد البرّ، وُرُوده فمُتعقَّب، وعلى تَقْدِير أن يثبُت، أنَّها كَانتْ وِاجِبة، ثُمَّ نُسِخ وُجُوبها، فَيَبقَى الاسْتِحْباب، كَمَا جَاء فِي صَوْم عَاشُوراء، فَلا حُجَّة فِيهِ أيضًا لِمَنْ نَفَى مَشْرُوعِيتها. انتهى ما فِي "الفتح"
(1)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن القول الراجح فِي هذه المسألة قول منْ قَالَ باستحباب العقيقة، وهو الذي عليه الجمهور، ودليل الاستحباب قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم فِي حديث الباب: "منْ أحبّ أن ينسك
…
" الحديث، فقد فوّضه إلى اختيار الشخص، وهذا صارف للأمر عن الوجوب إلى الاستحباب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4215 -
(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَقَّ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح.
و"الحسين بن حُريث": هو أبو عمّار الخُزَاعيّ مولاهم المروزيّ، ثقة [10] 44/ 52.
و"الفضل": هو ابن موسى السِّينانيّ، أبو عبد الله المروزيّ، ثقة ثبت، ربما أغرب، منْ كبار [9] 83/ 100. و"الحسين بن واقد": هو أبو عبد الله القاضي المروزي، ثقة له أوهام [7] 5/ 463. و"عبد الله بن بُريدة": هو الأسلميّ، أبو سهل المروزيّ، قاضيها، ثقة [3] 25/ 393. و"بُريدة بن الْحُصيب" الأسلميّ الصحابيّ الشهير رضي
(1)
"فتح" 11/ 4 - 5 "كتاب العقيقة" رقم الحديث: 5470.
الله تعالى عنه، أسلم قبل بدر، ومات سنة (63)، وتقدم فِي 101/ 133.
وحديث بُريدة بن الحصيب رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيحٌ، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -1/ 4215 - وفي "الكبرى" 1/ 4539. وأخرجه (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 22492 و22549. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
2 - (الْعَقِيقَةِ عَنِ الْغُلَامِ)
4216 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، وَحَبِيبٌ، وَيُونُسُ، وَقَتَادَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ الضَّبِّيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فِي الْغُلَامِ عَقِيقَةٌ، فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا، وَأَمِيطُوا عَنْهُ الأَذَى").
رجال هَذَا الإسناد: تسعة:
1 -
(محمد بن المثنى) أبو موسى الْعَنَزي البصريّ، ثقة ثبت [10] 64/ 80.
2 -
(عفّان) بن مسلم الصفّار البصريّ، ثقة ثبت، منْ كبار [10] 21/ 427.
3 -
(حماد بن سلمة) أبو سلمة البصريّ، ثقة عابد [8] 181/ 288.
4 -
(أيوب) بن أبي تميمة السختيانيّ المصريّ، ثقة ثبت فقيه [5] 42/ 48.
5 -
(حبيب) بن الشهيد الأزديّ، أبو محمد البصريّ ثقة ثبت [5].
قَالَ أحمد: كَانَ ثبتًا ثقةً، وهو عندهم يقوم مقام يونس، وابنِ عون، وكان قليل الحديث. وَقَالَ ابن معين، وأبو حاتم، وابن المدينيّ، والنسائيّ، والعجليّ، والدارقطنيّ: ثقة. وَقَالَ ابن سعد: كَانَ ثقة، إن شاء الله. وَقَالَ أبو أسامة: كَانَ منْ رُفعاء الناس، وإنما روى مائة حديث. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ الآجرّيّ: قيل لأبي داود: أيّما أحبّ إليك، هشام بن حسّان، أو حبيب بن الشهيد؛ فقال: حبيب. وحكى ابن شاهين فِي "الثقات" أن شعبة قَالَ لإبراهيم: لم يكن أبوك أقلّهم حديثا، ولكنه كَانَ شديد الاتّقاء. قَالَ إبراهيم بن حبيب بن الشهيد: مات فِي ذي الحجة سنة (145) عن (66) سنة. روى له الجماعة، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الحديث،
وحديث الحسن عن سمرة الآتي بعد بابين، إن شاء الله تعالى.
6 -
(يونس) بن عُبيد بن دينار العبدي البصريّ، ثقة ثبت فاضل ورع [5] 88/ 109.
7 -
(قتادة) بن دعامة السدوسي البصريّ، ثقة ثبت يدلس، رأس [4] 30/ 34.
8 -
(محمد بن سيرين) الأنصاريّ مولاهم البصريّ، ثقة ثبت فقيه [3] 46/ 57.
9 -
(سَلْمَانُ بْنُ عَامِرِ) بن أوس بن حجر بن عمرو بن الحارث الضَّبِّيِّ، صحابيّ سكن البصرة، وتقدّمت ترجمته رضي الله تعالى عنه فِي 83/ 2582. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
منها: أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين منْ أوله إلى آخره. (ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة. (ومنها): أن فيه رواية تابعيين عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ) رضي الله تعالى عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فِي الْغُلَامِ عَقِيقَةٌ) مبتدأ وخبر، وكلمة "فِي" بمعنى "مع"، كما صُرّح بها فِي رواية البخاريّ:"مع الغلام عقيقة"، ومعنى كون العقيقة مع الغلام أنه سبب لها.
قَالَ فِي "الفتح": تمسّك بمفهومه الحسن، وقتادة، فقالا: يُعَقّ عن الصبيّ، ولا يُعقّ عن الجارية، وخالفهم الجمهور، فقالوا: يُعقّ عن الجارية أيضًا، وحجّتهم الأحاديث المصرّحة بذكر الجارية، كما سيأتي. فلو وُلد اثنان فِي بطن استُحبّ عن كلّ واحد عقيقة. ذكره ابن عبد البرّ، عن الليث، وَقَالَ: لا أعلم عن أحد منْ العلماء خلافه. انتهى
(1)
(فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا) قَالَ فِي "الفتح": كذا أبهم ما يُهراق فِي هَذَا الحدِيث، وكذا فِي حدِيث سمُرة -يعني الآتي بعد بابين- وَقَدْ فُسِّر ذَلِكَ فِي عِدَّة أحادِيث مِنها: حدِيث عائِشة، أخرجهُ الترمِذِي، وصحَّحهُ منْ رِواية يُوسُف بن مَاهَك، "أنَّهُم دَخَلُوا عَلَى حفصة بنت عبد الرحمن -أي ابن أبِي بكر الصِّدِّيق- فسألُوها عن العقِيقة؟ فأخبرتهم أنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أمرهُم عن الغُلام شاتانِ، مُكافِئتانِ، وعن الجارِية شاة". وأخرجهُ أصحاب السُّنن الأربعة منْ حدِيث أُمْ كُرز -يعني الآتي بعد هَذَا- أنَّها سألت النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عن العقِيقة؟ فقال: "عن الغُلام شاتانِ، وعن الجارِية شاة واحِدة، ولا يضُرّكُم ذُكرانًا كُنَّ،
(1)
"فتح" 11/ 10.
أو إِناثًا". قَالَ التِّرمِذِيّ: صحِيح. وأخرجهُ أبُو داوُد، والنَّسَائيُّ منْ رِواية عمرو بن شُعيب، عن أبِيهِ، عن جده، رفعهُ أثناء حدِيث، قَالَ: "مَنْ أحَبَّ أن ينسُك عن ولده فليفعل، عن الغُلام شَاتَان مُكافِئتانِ، وعن الجارِية شاة". وروى البزَّار وأبُو الشَّيخ منْ حدِيث أبِي هُريرة رفعهُ:"أنَّ اليهُود تَعُقّ عن الغُلام كَبْشًا، ولا تعُقّ عن الجارِية، فعُقُّوا عن الغُلام كبشينِ، وعن الجارِية كبشًا". وعِند أحمد منْ حدِيث أسماء بِنْت يزِيد، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:"العقِيقة حقّ عَنْ الغُلام شَاتَانِ مُكافِئتانِ، وعن الجارِية شاة". وعن أبِي سعِيد نحو حدِيث عمرو بن شُعيب أخْرجهُ أبُو الشَّيْخِ.
(وَأَمِيطُوا) أي أزِيلُوا وزنًا ومَعْنًى (عَنْهُ الأَذَى) والمعنى: أزيلوا عنه الأذى بحلق رأسه. وقيل: هو نهي عما كانوا يفعلونه منْ تلطيخ رأس المولود بالدم. وقيل: الختان. وقع عِند أبِي داوُد، منْ طرِيق سعِيد بن أبِي عرُوبة، وابن عون، عن مُحمَّد بن سِيرِين، قَالَ:"إنْ لمْ يكُن الأذى حلق الرَّأس، فلا أدْرِي ما هُو؟ ". وأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ منْ طرِيق يزِيد بن إِبراهِيم، عن مُحَمَّد بن سِيرِين، قَالَ:"لَمْ أجِد منْ يُخْبِرنِي عن تفسِير الأذَى". انتهى. وَقَدْ جَزَم الأصْمعِيّ بِأنَّهُ حلق الرَّأس. وأخرجهُ أبُو داوُد بِسندٍ صحِيح عن الْحَسَنُ كَذلِكَ. وَوَقع فِي حدِيث عائِشة عِند الحاكِم: "وأَمَر أَنْ يُمَاط عن رُءُوسهمَا الأذَى"، ولكِنْ لا يتعيَّن ذَلِكَ فِي حَلق الرَّأْس، فقد وقع فِي حدِيث ابن عبّاس عِنْد الطَّبرانِيّ:"وَيُمَاط عنهُ الأذى، ويُحْلَق رأسِه"، فعطفهُ عَلَيْهِ، فالأولى حَمْل الأذَى عَلَى ما هُوَ أعَمّ، منْ حَلْق الرَّأس، وُيوْيِّد ذَلِكَ أنَّ فِي بعض طُرُق حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب:"وَيُمَاط عَنْهُ أقْذَاره". رواهُ أبُو الشَّيْخ. قاله فِي "الفتح"
(1)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الحاصل أن الأولى حمل الأذى عَلَى المعنى الأعمّ، فيدخل فيه حلق الرأس، والختان، وغير ذلك، مما هو أذى للمولود. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث سلمان بن عامر الضبّيّ رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه البخاريّ.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -2/ 4216 - وفي "الكبرى" 2/ 4540. وأخرجه (خ) فِي "العقيقة" 5471 (د) فِي "الضحايا" 2839 (ت) فِي "الأضاحي" 1515 (ق) فِي "الذبائح" 3164
(1)
"فتح" 11/ 11.
(أحمد) فِي "أول مسند المدنيين" 27542 و15797 و17415 و17429 (الدارمي) فِي "الأضاحي"1967. وفوائد الحديث تقدّمت فِي الباب الماضي. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): أنه اختُلف فِي طرق حديث سلمان بن عامر الضبيّ رضي الله تعالى عنه هَذَا، وفي رفعه، ووقفه، وَقَدْ أشار الإِمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" إلى ذلك، ودونك نصّه، مع شرح الحافظ رحمه الله تعالى له، قَالَ رحمه الله تعالى:[باب إماطة الأذى عن الصبيّ فِي العقيقة].
حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد، عن سلمان بن عامر، قَالَ:"مع الغلام عقيقة".
وَقَالَ حجاج: حدثنا حماد، أخبرنا أيوب، وقتادة، وهشام، وحبيب، عن ابن سيرين، عن سلمان، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ غير واحد: عن عاصم، وهشام، عن حفصة بنت سيرين، عن الرَّبَاب، عن سلمان بن عامر الضبيّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ورواه يزيد بن إبراهيم، عن ابن سيرين، عن سلمان، قولَهُ.
وَقَالَ أصبغ: أخبرني ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، حدثنا سلمان بن عامر الضبي، قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دمًا، وأميطوا عنه الأذى".
قَالَ فِي "الفتح": قوله: "عن محمد": هو ابن سيرين.
قوله: "عَنْ سَلْمَان بن عَامِر" هُوَ الضَّبِّيّ، وهُو صَحَابِيّ، سكن البصرة، ما لهُ فِي البُخارِيّ غير هَذَا الْحدِيث، وَقَدْ أخْرَجَهُ منْ عِدَّة طُرُق، موقُوفًا، ومرفُوعًا، موصُولًا منْ الطَّرِيق الأولَى، لكِنَّهُ لم يُصرِّح بِرفْعِهِ فِيها، ومُعلَّقًا منْ الطُّرُق الأخْرَى، صَرَّح فِي طَرِيق مِنْهَا بِوَقْفِهِ، وما عَدَاهَا مَرْفُوع.
قَالَ الإسماعِيلي: لم يُخرج البُخارِيّ فِي الباب حدِيثًا صحِيحًا، عَلَى شَرْطه، أمَّا حدِيث حَمَّاد بن زيد -يعني الَّذِي أوردهُ موصُولاً- فجاء بِهِ موقُوفًا، وليس فِيهِ ذِكْر إِمَاطَة الأَذَى، الَّذِي تَرْجم بِهِ، وأمَّا حدِيث جرِير بْن حازِم، فذكرهُ بِلا خَبَر، وأمَّا حَدِيث حَمَّاد ابن سَلَمة، فَليْسَ منْ شَرْطه فِي الِاحْتِجَاج.
قَالَ الحافظ: أمَّا حدِيث حَمَّاد بن زيد، فهُو المُعْتمد عَلَيْهِ عِند البُخارِيّ، لكِنَّهُ أوردهُ مُختصرًا، فَكأنَّهُ سَمِعَهُ كَذَلِكَ منْ شيخه، أبي النُّعْمَان، واكْتَفَى بِهِ كَعَادتِهِ، فِي الإِشَارة إِلَى ما ورد فِي بَعْض الْحَدِيث الَّذِي يُورِدهُ، وَقَدْ أَخْرجهُ أحْمَد، عن يُونُس بن مُحَمَّد، عن حَمَّاد بْن زَيْد، فَزَادَ فِي الْمَتْن:"فأهْرِيقُوا عَنْهُ دمًا، وَأَمِيطُوا عنهُ الأَذَى"، وَلَمْ يُصَرِّح
بِرفعِهِ. وأخرجهُ أيضًا، عن يُونُس بن مُحمَّد، عن حَمَّاد بن زيد، عن هِشام، عن مُحَمَّد ابن سِيرِين، فَصرَّح بِرفعِهِ. وأخْرَجهُ أيضًا، عن عبد الوهَّاب، عن ابن عون، وَسَعِيد، عن مُحَمَّد بن سِيرِين، عن سَلْمَان، مرفُوعًا. وأخْرَجهُ الإسْمَاعِيليّ، منْ طرِيق سُلَيْمَان ابن حَرْب، عن حَمَّاد بن زيد، عن أيُّوب، فقال فيهِ: رَفَعَهُ. وأمَّا حدِيث جَرِير بن حَازِم، وقوله: إنَّهُ ذكرهُ بِلا خبر -يعني لم يقُل فِي أوَّل الإِسناد: أنبأنا أصْبَغ، بل قَالَ: قَالَ أصبغ، لكِنَّ أصبغ منْ شُيُوخ البُخَارِيّ، قد أكثر عنهُ فِي "الصَّحِيح"، فَعَلى قَوْل الأكثر، هُو مَوْصُول، كما قَرَّرهُ ابن الصَّلاح فِي "عُلُوم الْحَدِيث"، وعلى قول ابن حزم، هُو مُنْقطِع، وهذا كلام الإسْمَاعِيليّ، يُشِير إِلى مُوافَقَته، وَقَدْ زَيَّفَ النَّاس كلام ابْن حزم فِي ذَلِكَ، وأمَّا كون
(1)
حَمَّاد بنِ سَلَمَة عَلَى شرطه فِي الاحتِجاج فَمُسَلَّم، لكِنْ لا يضُرهُ إِيراده لِلاسْتِشْهَادِ، كعادتِهِ.
قوله: (وَقَالَ حَجَّاج) هُو ابن مُنْهَال، وَحَمَّاد هُو ابن سَلَمَة، وَقَدْ وصلهُ الطّحاوِيُّ، وابن عبد البرّ، والبيهقِيّ، منْ طرِيق إِسماعِيل بن إِسْحَاق القَاضِي، عن حَجَّاج بن مِنْهَال:"حدثنا حَمَّاد بن سلمة بِهِ". وَقَدْ أخْرَجَهُ النَّسائِيُّ، منْ رِواية عَفَّانَ، والإِسماعِيلِيّ منْ طرِيق حِبّان بْن هِلال، وَعَبْدِ الأعْلَى بن حَمَّاد، وإِبراهِيم بنِ الحَجَّاج، كُلُّهمْ عن حَمَّاد بن سَلَمَة، فزادُوا مع الأربعة الَّذين ذكرهُم البُخارِيّ -وَهُم أيُّوب، وقتادة، وهِشام، وهُو ابْن حَسَان، وَحَبِيب، وهُو ابن الشَّهِيد- يُونُس، وهُو ابن عُبيد، ويحيى بْن عتِيق، لكِنْ ذكر بعضهم عن حَمَّاد، ما لم يذكُر الآخر، وَسَاقَ المَتْن كُلّه عَلَى لفظ حِبّان، وصرّح بِرفعِهِ، ولفظه:"فِي الغُلام عَقِيقة، فأهْرِقُوا عنهُ الدَّم، وأمِيطُوا عَنْهُ الأذَى". قَالَ الإسْمَاعِيليّ: وَقَدْ رواهُ الثورِيّ موصولاً، مُجردًا، ثُمَّ ساقهُ منْ طرِيق أبِي حُذيفة، عن سُفْيان، عن أيُّوب كذلِك، فاتفق هؤُلاءِ عَلَى أَنَّهُ مِن حدِيث سلمان بن عامِر، وخالفهُم وُهَيب، فقال: عن أيُّوب، عن مُحَمَّد، عن أُمّ عطِيَّة، قالت: سَمِعْت رسُول الله صلى الله عليه وسلم، يقُول:"مع الغُلام"، فَذَكر مِثله سواء، أخرجهُ أبُو نُعيم، فِي "مُسْتَخْرجه" منْ رِواية حَوثرة بن مُحَمَّد بن أبِي هِشام، عن وُهَيْب بهِ، ووُهيب مِنْ رِجال "الصَّحِيحَيْن"، وأبُو هِشام اسْمه الْمُغِيرة بْن سلمة، احْتَجَّ بِهِ مُسْلِم، وأَخْرَجَ لهُ البُخَارِيّ تَعْليقاً، وَوَثَّقهُ ابن الْمَدِينِيّ، والنَّسائِيُّ، وَغَيْرهما، وَحَوْثَرَة -بِحاءٍ مُهملة، ومُثلَّثة، وزن جوهرة- بصرِيّ، يُكنَّى أَبَا الأزهر، احْتَجَّ بهِ ابْن خُزَيْمَة فِي "صَحِيحه"، وأَخْرَجَ عنهُ منْ السِّتَّة ابن مَاجَهْ، وذكر أبُو عَلِيّ الجَيَّانيّ: أنَّ أبَا داوُد روى عنهُ، فِي "كِتَاب بَدْء الْوَحْي"
(1)
هكذا نسخة "الفتح"، والظاهر أن صواب العبارة:"وأما عدم كون حماد بن سلمة الخ". فليُحرّر.
خَارج "السُّنَن"، وذكره ابْن حِبَّان فِي "الثِّقات"، فالإِسناد قوِيّ، إِلا أنّهُ شَاذّ، والمَحْفُوظ عن مُحمَّد بن سِيرِينَ، عن سَلْمَان بن عَامِر، فَلعَلَّ بَعْض رُواته دخل عَلَيْهِ حدِيث فِي حَدِيث.
وقَوله: (وَقَالَ غير واحِد عَنْ عاصِم، وَهِشام، عَنْ حفصة بِنت سِيرِين، عن الرَّبَاب، عن سَلْمَان بن عَامِر الضَّبِّيّ، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم) منْ الَّذين أبهمهُم عن عَاصِم: سُفْيَان بن عُيينة، أخْرجهُ أحمد عنهُ بهِذا الإِسناد، فصرَّح بِرفعِهِ، وذكر المتن المذْكُور، وَحَدِيثينِ آخرينِ: أحَدهمَا فِي الفِطر عَلَى التَّمْر، والثَّانِي فِي الصَّدَقة عَلَى ذِي القَرَابة، وأخْرَجَهُ التِّرمِذِيّ، مِن طرِيق عبد الرَّزَّاق، والنَّسائِىِّ، عن عبد الله بن مُحَمَّد الزُّهرِيّ، كِلاهُما عن ابن عُيينة، بِقِصَّةِ العقِيقة، حَسْب، وَقَالَ النَّسائِيُّ فِي رِوايته: عن الرَّبَاب، عن عَمَّها، سَلْمَان بِهِ، والرَّبَاب -بِفتحِ الرَّاء، وبمُوحَّدتينِ، مُخفّفًا- مَا لَهَا فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الْحَدِيث. ومِمَّن رواهُ عن هِشَام بن حَسَّان، عبد الرّزّاق، أخْرَجَهُ أحمد عنهُ، عن هِشَام، بِالأحادِيثِ الثَّلاثة، وأخْرجهُ أبُو داوُد، والتِّرمِذِيّ، منْ طرِيق عبد الرَّزَّاق. ومِنهُم عبد الله بن نُمير، أخْرَجَهُ ابن مَاجَه، منْ طرِيقه، عن هِشَام بهِ، وأخْرَجهُ أحمد أيضًا، عن يحيى القطّان، ومُحَمَّد بن جعفر، كِلاهُما عَن هِشام، لكنْ لمْ يذكُر الرَّبَاب فِي إِسناده، وكذا أخرجهُ الدَّارِمِيٌّ، عن سعِيد بْن عامِر، والْحَارِثُ بنُ أبِي أُسَامَة، عن عبد الله بن بُكَيْر السَّهْمِيّ، كِلاهُما عَنْ هِشَام.
وقوله: (وَرَوَاهُ يَزِيد بن إِبْراهِيم، عن ابْن سِيرِينَ، عَنْ سَلْمَان، قَوْلَهُ) وَصَلهُ الطَّحاوِيُّ فِي "بيان المُشْكِل"، فقال:"حَدَّثنا مُحَمَّد بن خُزيمة، حَدَّثنا حَجَّاج بن مِنْهَال، حدّثنا يزِيد ابن إِبراهِيم، بِهِ موقُوفًا".
وقوله: (وَقَالَ أصْبَغ: أخْبَرنِي ابْن وَهْب إِلَخْ) وصَلهُ الطَّحاوِيُّ، عن يُونُس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب بِهِ، قَالَ الإسْمَاعيليّ: ذكر البُخارِيّ ابن وهب، بِلا خَبَر، وَقَدْ قَالَ أحمد بن حنبل: حدِيث جرِير بن حازِم، كَأنَّهُ عَلَى التَّوهُّم، أَوْ كَمَا قَالَ.
قَالَ الحافظ: لفظ الأثرم عن أحمد: حدَّث بِالوَهْم بِمِصْرَ، ولمْ يَكُنْ يَحْفَظ، وكذا ذكر السَّاجِيُّ انتهى. وهذا مِمَّا حَدَّث بِهِ جرِير بِمِصْرَ، لكِنْ قد وافقهُ غيره عَلَى رفعه، عن أيُّوب، نعم قوله: عن مُحَمَّد: "حدَّثنا سَلْمَان بْن عَامِر"، هُو الَّذِي تَفرَّدَ بِهِ.
وبِالجُملةِ فهذهِ الطُّرُق، يُقوي بعضها بعضًا، والحدِيث مرفُوع، لا يَضُرّهُ رِواية منْ وقفهُ. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي التفرقة بين الغلام والجارية فِي العقيقة:
قَالَ الحافظ أبو عمر رحمه الله تعالى: اختلفوا فِي عدد ما يُذبح عن المولود منْ الشياه فِي العقيقة عنه، فقال مالك: يذبح عن الغلام شاة واحدة، وعن الجارية شاة، الغلام والجارية فِي ذلك سواء، وبه قَالَ أبو جعفر محمد بن عليّ الباقر. والحجّة لمالك، ومن قَالَ بقوله فِي ذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عقّ عن الحسن والحسين كبشًا كبشًا.
وَقَالَ الشافعيّ، وأحمد، إسحاق، وأبو ثور: يُعقّ عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة، وهو قول ابن عباس، وعائشة، وعليه جماعة أهل الحديث، وحجّتهم فِي ذلك حديث أم كُرز رضي الله تعالى عنها -يعني الآتي بعد هَذَا-، وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما -يعني المذكور فِي الباب الماضي-. قَالَ: وانفرد الحسن وقتادة بقولهما: إنه لا يُعقّ عن الجارية بشيء، وإنما يُعقّ عن الغلام فقط بشاة، وأظنّهما ذهبا إلى ظاهر حديث سلمان:"مع الغلام عقيقته"، وإلى ظاهر حديث سمرة:"الغلام مرتَهنٌ بعقيقته". وكذلك انفرد الحسن، وقتادة أيضًا بأن الصبيّ يُمسّ رأسه بقطنة، قد غُمِست فِي دم العقيقة. انتهى كلام ابن عبد البرّ باختصار، وتصرّف
(1)
.
وَقَالَ فِي "الفتح": وهذِهِ الأحادِيث حُجَّة لِلجُمهُورِ، فِي التَّفْرِقَة بين الغُلامِ والْجَارِية، وعن مالِك هُمَا سَوَاء، فيعُقّ عَنْ كُلّ واحِد مِنْهُما شَاة، واحتُجَّ لهُ بِما جَاءَ:"أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم عَقَّ عنْ الحَسَنُ والحُسَيْن كبشًا كبشًا"، أخْرجهُ أبُو داوُد. ولا حُجَّة فِيهِ، فَقَدْ أخرجهُ أبُو الشَّيْخ مِن وَجْه آخر، عن عِكْرِمة، عن ابن عَبَّاس بِلفظِ:"كَبْشَيْنِ، كَبْشَينِ". وأخرج أيْضًا منْ طَرِيق عَمْرو بن شُعَيْب، عَنْ أبِيهِ، عَنْ جَدّه مِثله. وعلى تَقْدِير ثُبُوت رِواية أبِي دَاوُد، فَلَيْسَ فِي الحدِيث مَا يُرَدّ بِهِ الأحَادِيث المُتَوَارِدة فِي التَّنْصِيص عَلَى التَّثنِية لِلْغُلامِ، بَلْ غَايته أن يَدُلّ عَلَى جَوَاز الِاقْتِصَار، وهُوَ كَذَلِك، فإِنَّ العَدَد لَيْسَ شَرطًا، بل مُستَحَبّ. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح عندي هو ما ذهب إليه الجمهور، منْ التفرقة بين الغلام والجارية، فيُعقّ عنه بشاتين، وعنها بشاة واحدة؛ لصحّة الأحاديث بذلك، وما احتجّ به القائلون بعدم التفرقة منْ النصوص المطلقة، يُحْمَلُ عَلَى هذه النصوص المقيّدة؛ عملاً بكلتيهما. والله تعالى أعلم بالصواب.
[تنبيه]: ذكر الحليمِيّ: أنَّ الحِكمة فِي كون الأنْثَى عَلَى النِّصْف منْ الذَّكَر، أنَّ المقصُود اسْتِبقَاء النَّفْس، فأشْبَهَتْ الدِّيَة، وَقَوَّاهُ ابن الْقيِّمِ بِالْحَدِيثِ الْوَارِد، فِي أنَّ منْ
(1)
"التمهيد" 4/ 314 - 317.
أعتق ذكرًا، أعتق عُضو مِنْهُ، ومن أعتقَ جارِيتينِ كَذلِكَ، إِلى غير ذَلِكَ، مِمَّا وَرَدَ. ويحتمِلُ أن يكُون فِي ذَلِكَ الوقت ما تَيسَّر العَدَد. قاله فِي "الفتح". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4217 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَمُجَاهِدٍ، عَنْ أُمِّ كُرْزٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "فِي الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافَأَتَانِ، وَفِى الْجَارِيَةِ شَاةٌ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ترجم فِي "الكبرى" هنا بقوله: [باب كم يُعقّ عن الغلام؟].
وكان الأولى للمصنّف أن يترجم بمثله هنا، عَلَى نسق ما يأتي له فِي الجارية، فإنه ترجم أوّلاً بقوله:[العقيقة عن الجارية]، ثم ترجم بعده بقوله:[كم يُعقّ عن الجارية؟] فتأمّل، فالله تعالى أعلم.
و"أحمد بن سليمان" تقدم فِي الباب الماضي. و"عفّان": هو ابن مسلم المذكور فِي السند الماضي. و"حَمَّاد،: هو ابن سلمة، وليس ابن زيد؛ لأن الراوي عنه عفّان، وَقَدْ ذكر السيوطيّ رحمه الله تعالى فِي "ألفية الحديث" بعض ما يفرّق به بينهما، فَقَالَ:
وَتَارَةَ فِي اسْمِ فَقَطْ ثُمَّ السِّمَة
…
حَمَّادُ لابْنِ زَيْدِ وَابْنِ سَلَمَهْ
فَإِنَ أَتَى عَنِ ابْنِ حَرْبٍ مُهْمَلا
…
أَوْ عَارِمِ فَهوَ ابْنُ زَيْدٍ جُعِلا
أَوْ هُدْبَةٍ أوِ التَّبُوذَكِيِّ أَوْ
…
حَجَّاجٍ أَوْ عَفَّانَ فَالثَّانِي رَأَوْا
و"قيس بن سعد": هو الحبشيّ، أبو عبد الملك، أو أبو عبد الله المكيّ، ثقة [6] 115/ 1066.
و"عطاء": هو ابن أبي رباح، و"طاوس": هو "ابن كيسان"، و"مجاهد": هو ابن جبر.
و"أمّ كُرز" -بضمّ الكاف، وسكون الراء، بعدها زايٌ- الخُزَاعيّة، ثم الكعبيّة المكيّة، صحابيّة، لها أحاديث. روت عن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، وروى عنها عطاء، وطاوسٌ، ومجاهد، وسِباع بن ثابت، وعُروة بن الزبير، وغيرهم.
واختُلف فِي حديثها عَلَى عطاء، فقيل: عن قتادة، عنه، عن ابن عبّاس، عنها. وقيل: عن ابن جُريج، ومحمد بن إسحاق، وعمرو بن دينار، ثلاثتهم عن عطاء، عن قتيبة بن ميسرة بن أبي حبيب، عنها. وقيل: عن حجّاج بن أرطاة، عن عطاء، عن عُبيد ابن عُمير، عنها. وقيل: عن حجاج، عن عطاء، عن ميسرة بن أبي حبيب، عنها. وقيل: عن أبي الزبير، ومنصور بن زاذان، وقيس بن سعد، ومطر الورّاق، أربعتهم عن
عطاء، بلا واسطة، وزاد حماد بن سلمة، عن قيس، عن عطاء، طاوسًا، ومجاهدًا، ثلاثتهم عن أم كُرز، ولم يذكر الواسطة. وقيل: عن قيس بن سعد، عن عطاء، عن أم عثمان بن خُثيم، عن أم كرز. وقيل: عن يزيد بن أبي زياد، عن عطاء، عن سُبيعة بنت الحارث. وقيل: عن عبد الكريم ابن أبي الْمُخَارق، عن عطاء، عن جابر. وقيل: عن محمد بن أبي حُميد، عن عطاء، عن جابر.
وأقواها رواية ابن جريج، ومن تابعه، وصحَحها ابن حبّان، ورواية حَمَّاد بن سلمة، عبد النسائيّ رواها عُبيد الله بن أبي يزيد، عن سباع بن ثابت، عنها نحوه. وأخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
ووقع عبد إسحاق بن راهويه، عن عبد الرزّاق، عن ابن جُريج بسنده، فقال: عن أم بني كُرز الكعبيين، وكذا أخرجه ابن حبّان منْ طريقه. قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: ويمكن الجمع بأنها كانت تُكنى أم كُرز، وكان زوجها يسمّى كرزًا، والمراد ببني كرز بنو ولدها كرز، وكانوا يُنسبون إلى جدّتهم هذه، فالله أعلم.
ولها حديث آخر منْ رواية عبد الله بن أبي يزيد، عن سباع بن ثابت، عن أم كرز، قالت: أتيت النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، وهو بالحديبية، أسأله عن لحوم الهدي، فسمعته يقول:"أقِرُّوا الطير عَلَى مصافّها"، أخرجه النسائيّ بتمامه
(1)
، وأبو داود مختصرًا، وهذا الطحاويّ، وصححه ابن حبّان، وزاد بعضهم فِي السند: عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه. وأخرج ابن ماجه بهذا السند عنها حديث "ذهبت النبوّات، وبقيت المبشّرات"، وصححه ابن حبّان أيضًا. ذكره فِي "الإصابة"
(2)
.
وَقَدْ ذكر الحافظ أبو الحجاج المزّيّ رحمه الله تعالى فِي "تحفة الأشراف" 13/ 99 - 100 - اختلافًا أكثر مما ذُكر، فراجعه تستفد.
روى لها الأربعة، ولها عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب هَذَا الحديث فقط، كرّره أربع مرّات.
وقوله: "عن الغلام شاتان" أي تجزىء فِي عقيقة الغلام شاتان. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
(1)
هكذا عزاه فِي "الإصابة" إلى النسائيّ، ولعله فِي "الكبرى"، فليُبحث.
(2)
"الإصابة" 13/ 274 - 275.
حديث أم كُرز رضي الله تعالى عنها هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -2/ 4217 و3/ 4218 و4/ 4219 و4220 - وفي "الكبرى" 3/ 4541 و4/ 4542 و5/ 4543 و4544. وأخرجه (د) فِي "الضحايا" 2834 و2835 و2836 (ت) فِي "الأضاحي" 1516 (ق) فِي "الذبائح" 3162 (الدارمي) فِي "الأضاحي" 1966. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلتُ، وإليه أنيب".
…
3 - (الْعَقِيقَةِ عَنِ الْجَارِيَةِ)
4218 -
(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: قَالَ عَمْرٌو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ مَيْسَرَةَ، عَنْ أُمِّ كُرْزٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافَأَتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ").
"حبيبة بنت ميسرة" بن أبي خُثيم، أم حَبيب، الفهريّة، منْ موالي بني فهر مقبولة [4].
روت عن أم كرز. وعنها مولاها عطاء بن أبي رباح، وروى عن أم حبيب بنت ميسرة، عن أم كرز. ذكرها ابن حبّان فِي "الثقات". تفرّد بها المصنّف، وأبو داود، ولها عندهما هَذَا الحديث فقط.
وباقي رجال الإسناد رجال الصحيح. و"سفيان": هو ابن عيينة. و"عمرو": هو ابن دينار. و"عطاء": هو ابن أبي رباح. والحديث صحيح، وتقدّم تخريجه فِي الباب الماضي، ودلالته عَلَى الترجمة واضحة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلتُ، وإليه أنيب".
***
4 - (كَمْ يَعِقُّ عَنِ الْجَارِيَةِ)
4219 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ -وَهُوَ ابْنُ أَبِي يَزِيدَ- عَنْ سِبَاعِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أُمِّ كُرْزٍ، قَالَتْ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِالْحُدَيْبِيَةِ، أَسْأَلُهُ عَنْ لُحُومِ الْهَدْي، فَسَمِعْتُهُ، يَقُولُ: عَلَى الْغُلَامِ شَاتَانِ، وَعَلَى الْجَارِيَةِ شَاةٌ، لَا يَضُرُّكُمْ ذُكْرَانًا كُنَّ، أَمْ إِنَاثًا؟ ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "سفيان": هو ابن عينة. و"عُبيد الله بن أبي يزيد": هو المكيّ مولى آل قارظ بن شيبة، ثقة كثير الحديث [4] 70/ 2370.
و"سِباع" -بكسر أوله، ثم موحّدة- ابن ثابت" حليف بني زُهرة، قَالَ أدركت الجاهليّة، وعدّه البغويّ، وغيره فِي الصحابة، وابن حبّان فِي ثقات التابعين. وَقَالَ ابن سعد: كَانَ قليل الحديث. روى له الأربعة حديث الباب، وله عند ابن ماجه حديث آخر.
وقوله: "عن لحوم الهدي". الظاهر أنها سألته صلّى الله تعالى عليه وسلم أن يعطيها منْ لحوم الهدي، حَتَّى تأكله، أو نحو ذلك، كما تدلّ عليه رواية أحمد، ولفظه:"وذهبت أطلب منْ اللحم".
وقوله: "عَلَى الغلام" كلمة "عَلَى" بمعنى "فِي"، كما تقدّم فِي الروايات الماضة، ويحتمل أن يكون المراد عَلَى أبي الغلام، أو لَمّا كَانَ الغلام سببًا لوجوب العقيقة جُعل كأن العقيقة واجبة عليه، وعلى الوجهين يستقيم إلا عَلَى مذهب منْ يقول بوجوب العقيقة، بل بوجوب الشاتين فِي عقيقة الغلام، والجمهور عَلَى خلافه. قاله السنديّ.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لا يلزم منه الوجوب، فإن "عَلَى" تستعمل للمندوب إذا كَانَ موْكّدًا، كما لا يخفى ذلك عَلَى منْ تتبّع نصوص الشرع. فتنبّه. والله تعالى أعلم.
وقوله: "ذُكرانًا كُنّ الخ" أي شياه العقيقة، وفيه دليلٌ عَلَى أنه لا فرق فِي العقيقة بين ذكور الشياه وإناثها.
والحديث صحيح، وَقَدْ سبق تمام البحث فيه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4220 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ سِبَاعِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أُمِّ كُرْزٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم-
قَالَ: "عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ، لَا يَضُرُّكُمْ ذُكْرَانًا كُنَّ أَمْ إِنَاثًا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمرو بن عليّ": هو الفلّاس. و"يحيى": هو ابن سعيد القطّان. والحديث صحيح، وَقَدْ سبق القول فيه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4221 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ -هُوَ ابْنُ طَهْمَانَ- عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "عَقَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رضي الله عنهما بِكَبْشَيْنِ كَبْشَيْنِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.
و"الحجّاج بن الحجّاج": هو الباهليّ البصريّ الأحول، ثقة [6] 53/ 614.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -4/ 4221 - وفي "الكبرى" 5/ 4545.
وكان الأولى للمصنّف أن يورده قبل باب، تحت ترجمة [العقيقة عن الغلام]؛ لأنه لا مطابقة بينه وبين هذه الترجمة [كم يُعقّ عن الجارية]، فتأمل.
[فإن قلت]: أخرج هذ الحديث أبو داود فِي سننه بإسناد صحيح، منْ طريق أيوب، عن عكرمة، بلفظ:"عَقَّ عن الحسن والحسين، كبشًا كبشًا"، فكيف التوفيق بينهما؟.
[قلت]: ترجّح رواية الكبشين بأمرين: [أحدهما]: تضمّنها زيادة، وزيادة الثقة مقبولة، ولاسيّما إذ جاءت منْ طرق مختلفة المخارج، كما هو الشأن هنا، كما حقّقه، وطوّل البحث فيه الشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى فِي كتابه "إرواء الغليل" 4/ 379 - ، فراجعه تستفد.
[والثاني]: موافقتها للأحاديث الأخرى التي نصّ النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم فيها بشاتين، حيث يقول:"عن الغلام شاتان مكافئتان". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلتُ، وإليه أنيب".
***
5 - (مَتَى يَعِقُّ؟)
4222 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -وَهُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ- عَنْ سَعِيدٍ، أَنْبَأَنَا قَتَادَةُ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كُلُّ غُلَامٍ رَهِينٌ بِعَقِيقَتِهِ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ، وَيُسَمَّى").
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(عمرو بن علي) الفلاس البصريّ، ثقة ثبت [10] 4/ 4.
2 -
(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني البصريّ، ثقة [10] 5/ 5.
3 -
(يزيد بن زريع) العيشي، أبو معاوية البصريّ، ثقة ثبت [8] 5/ 5.
4 -
(سعيد) بن أبي عروبة مِهران اليشكري، أبو النضر البصريّ، ثقة حافظ، اثبت النَّاس فِي قتادة، لكنه يدلس، واختلط بآخره [6] 34/ 38.
5 -
(قتادة) بن دعامة تقدم قريبًا.
6 -
(الحسن) بن أبي الحسن/ يسار البصريّ الإِمام الحجة، يدلس [3] 32/ 36.
7 -
(سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ) بن هلال الفزاريّ، حليف الأنصار، صحابيّ مشهورٌ، له أحاديث، مات رضي الله تعالى عنه بالبصرة، سنة (58)، وتقدّمت ترجمته فِي 25/ 393. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
منها: أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ) رضي الله تعالى عنه (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "كُلُّ غُلَامٍ) أراد به مطلق المولود، ذكرًا كَانَ، أو أنثى (رَهِينٌ بِعَقِيقَتِهِ) "رَهِين": فَعِيل بمعنى مفعول: أي مرهون بها، وللناس فيه كلام، فعن أحمد: هَذَا فِي الشفاعة، يريد أنه إذا لم يُعقّ عنه، فمات طفلاً، لم يشفع فِي والديه. وفي "النهاية": أن العقيقة لازمة له، لابدّ منها، فشبّه المولود فِي لزومها له، وعدم انفكاكه منها بالرهن فِي يد المرتهن. وَقَالَ التوربشتيّ: أي إنه كالشيء المرهون، لا يتمّ الانتفاع به، دون فكّه، والنعمة إنما تتمّ
عَلَى المنعم عليه بقيامه بالشكر، ووظيفته، والشكر فِي هذه النعمة ماسنّه النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، وهو أن يُعقّ عن المولود، شكرًا لله تعالى، وطلبًا لسلامة المولود. ويحتمل أنه أراد بذلك أن سلامة المولود، ونشوه عَلَى النعت المحمود رهينة بالعقيقة. انتهى.
وَقَالَ فِي "الفتح": قَالَ الخَطَّابِيّ: اختلف النَّاس فِي هَذَا، وأجود ما قِيل فِيهِ، ما ذهب إِليهِ أحمد بن حنبل، قَالَ: هَذَا فِي الشَّفاعة، يُرِيد أَنَّهُ إِذَا لم يُعقّ عَنهُ، فَمَاتَ طِفلاً، لم يشفع فِي أبويهِ. وقِيل: معناهُ أنَّ العقِيقة لازِمة، لَا بُدَّ مِنها، فشبّه المولُود فِي لُزُومها، وعدم انفِكاكه مِنها، بِالرَّهن فِي يد المُرتهِن، وهذا يُقوِّي قول منْ قَالَ بِالوُجُوب. وقِيل: المعنى أَنَّهُ مرهُون بأذى شعره، ولِذلِك جاء:"فَأمِيطُوا عنهُ الأَذَى" انتهى. والَّذِي نُقِلَ عن أحمد، قالهُ عطاء الخُرَاسَانيّ، أسندهُ عنهُ البَيْهقِيُّ، وأخْرَجَ ابن حَزْم، عن بُريدة الأسْلمِيّ، قَالَ:"إِنَّ النَّاس يُعرضُون يوم القِيامة عَلَى العَقِيقة، كما يُعرضُون عَلَى الصَّلوات الْخَمْس"، وهذا لَوْ ثبت لكان قولاً آخر، يَتَمسَّك بهِ منْ قَالَ بِوُجُوبِ العقِيقة، قَالَ ابن حَزْم: وَمِثْله عن فاطِمة بِنْتِ الحُسَيْن. قاله فِي "الفتح"
(1)
.
(تُذْبَحُ) بالبناء للمفعول، وفيه دليلٌ عَلَى أنه لا يتعيّن الذابح، وفيه خلاف، سيأتي تحقيقه قريبًا، إن شاء الله تعالى (عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ) أي منْ يوم الولادة، وهل يُحسب يوم الولادة؟ قَالَ ابن عبد البرّ نصَّ مالِك عَلَى أنَّ أوَّل السَّبعة اليوم الَّذي يلِي يَوْم الوِلادة، إِلَّا إِن وُلِد قبل طُلوع الفجر، وكذا نقلهُ البُويطِيّ عن الشَّافِعِيَ، ونقل الرَّافِعِيُّ وجْهَيْنِ، ورجّح الحُسبان، واختلف ترجِيح النَّووِيّ. قاله فِي "الفتح"
(2)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن يوم الولادة محسوب فِي السبعة. والله تعالى أعلم.
(وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ، وَيُسَمَّى) ببناء الفعلين للمفعول. و"يُسمّى" بالسين المهملة، منْ التسمية، وسيأتي الاختلاف فِي هذه اللفظة، هل هي "يسمى" بالسين، أو "يُدَمّى" بالدال مفصّلًا فِي المسألة الخامسة، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
(1)
"فتح" 11/ 12 - 13.
(2)
"فتح" 11/ 14.
حديث سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -5/ 4222 و4223 - وفي "الكبرى" 6/ 4546 و4547. وأخرجه (د) فِي "الضحايا" 2837 و2838 (ت) فِي "الأضاحي" 1522 (ق) فِي "الذبائح" 3165 (أحمد) فِي "أول مسند البصريين" 19579 و27709 و19676 و19743 (الدارمي) فِي "الأضاحي" 1969. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان وقت العقيقة، وأنه اليوم السابع، وسيأتي اختلاف العلماء فيه فِي المسألة التالية، إن شاء الله تعالى. (ومنها): تأكّد مشروعيّة العقيقة، وأنها لازمة لكل مولود، كلزوم المرتهن الرهن فِي يده، لا ينفك عنه إلا بأداء الدين. (ومنها): استحباب حلق رأس المولود عبد ذبح العقيقة. (ومنها): استحباب تسميته عبد الذبح أيضًا. (ومنها): أنه تمسَّك بهِذا الحديث منْ قَالَ: إِنّ العقِيقة مُوقَّتة بِاليومِ السَّابع، وأنَّ منْ ذبح قبله، لم يقع المَوْقِع، وأنَّها تفُوت بعده، وهُو قول مالِك. وذهبت الشافعية إلى أن اعتبار الأسابيع للاختيار، لا للتعيين، وللحنابلة فِي ذلك روايتان، وسيأتي تحقيق الاختلاف فِي ذلك قريبًا، إن شاء الله تعالى.
(ومنها): أن قوله: "يُذْبَح" بِالضَّمِّ عَلَى البِناء لِلمجهُولِ، فيه دلالة عَلَى أنَّه لا يتعيَّن الذَّابح، وعِند الشَّافِعِيَّة يتعيَّنُ منْ تلزمهُ نفقة المولُود، وعن الحنابلة يتعينُ الأب، إِلَّا إنْ تعذَّر بِموتِ، أو امتِناع. قَالَ الرَّافِعِيّ: وكَأنَّ الحدِيث، أنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَقَّ عن الحسنِ والحُسين مُؤَوَّل. قَالَ النَّووِيّ: يحتمِل أن يكُونُ أبَوَاهُ حِينئِذٍ كَانا مُعْسِرينِ، أو تبرَّع بِإِذْنِ الأب، أو قوله:"عَقَّ": أيْ أمر، أو هُوَ مِنْ خصائِصه صلى الله عليه وسلم، كما ضَحَّى عَمَّن لم يُضَحِّ منْ أُمته، وَقَدْ عَدَّهُ بعْضهم منْ خصائِصه، ونَصَّ مالِك عَلَى أَنَّهُ يُعَقّ عن اليتِيم منْ مَالِهِ، وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيّة. قاله فِي "الفتح".
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن عدم تعيّن الذابح هو الأظهر؛ عملاً بظاهر قوله: "تُذبح عنه"، حيث لم يُعيّن أباه، ولا غيره، وأيضًا أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم عقّ عن الحسن، والحسين، ودعوى الخصوصية تحتاج إلى دليل. والله تعالى أعلم.
(ومنها): أن قوله: "تذْبَح، وَيُحْلَق رأسه، وَيُسَمَّى" بِالْوَاوِ يدلّ عَلَى أنَّهُ لا يُشْتَرَط التَّرتيب بني ذَلِكَ، قَالَ الحافظ: وَقَدْ وَقَعَ فِي رِواية لِأبِي الشَّيْخ، فِي حَدِيث سَمُرَة:"يُذْبح يَوْم سَابِعه، ثُمَّ يُحْلق"، وأخْرَجَ عبد الرَّزَّاق، عن ابن جُريج: يَبْدأ بِالذَّبحِ قَبْل
الحلق. وحكى عن عطاء عكسه، ونقلهُ الرُّويانِيّ عن نَصّ الشَّافِعِيّ. وَقَالَ الْبغوِي فِي "التَّهْذِيب": يُستحبّ الذَّبْح قبل الْحَلْق، وصَحَّحهُ النَّووِيّ فِي "شَرْح المُهذَّب". واللهُ أعلمُ. قاله فِي "الفتح".
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: إن صحّ ما فِي رواية أبي الشيخ، تعيّن الترتيب، وإلا فلا دليل عَلَى الترتيب، بل يفعل كيف تيسّر. والله تعالى أعلم.
(ومنها): أن قوله: "ويُحلق رأسه" يدلُّ عَلَى أنه يُحلق جَمِيعه، لا بعضه؛ لِثُبُوتِ النَّهْي عن الْقَزَع. وحكى المَاوَرْدِي كراهة حلق رأس الجارِية. وعن بعض الحنابلة: يُحلق.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بكراهة حلق رأس الجارية ضعيفٌ؛ لمخالفته عموم النصّ، فقوله صلّى الله تعالى عليه وسلم:"كلُّ مولود رَهِينٌ بعقيقته، تُذبح عنه يوم سابعه، ويُحلق رأسه، ويُسمّى" عام فِي كلّ مولود، ذكرًا كَانَ أو أنثى، دون استثناء شيء، فتبصّر. والله تعالى أعلم.
وفِي حدِيث عليّ رضي الله تعالى عنه، عِند التِّرمِذِيّ، والحاكِم فِي حدِيث العقِيقة، عن الحسنِ والحُسين:"يا فاطِمة احْلِقِي رأسه، وتَصَدَّقِي بِزِنَةِ شعره، قَالَ: فَوزَنَّاهُ، فكان دِرْهمًا، أو بَعْض دِرهم". وأخرج أحمدُ، منْ حدِيث أبِي رافِع:"لَمَّا ولدت فاطِمة حسنًا، قالَتْ: يا رسُول الله، ألا أعُقَّ عن ابنِي بِدَم؟، قَالَ: "لا، ولكِن احلِقِي رأسه، وتَصَدَّقِي بِوزنِ شَعْره فِضَّة، ففعلت، فلمَّا ولدت حُسَينًا، فعلت مِثل ذَلِكَ". قَالَ الحافظِ العراقيّ: فِي "شرح التِّرمِذِيّ": يُحمل عَلَى أنَّهُ صلى الله عليه وسلم، كَانَ عَقّ عنهُ، ثُمّ استأذنتهُ فاطِمة أن تعُقّ هِيَ عنهُ أيضًا، فمنعها. قَالَ الحافظ: ويحتمِل أن يكُون منعها؛ لضِيق ما عِندهم حِينئِذ، فأرشدها إِلى نوع منْ الصَّدقة أخَفّ، ثُمَّ تَيسَّر لهُ عن قُرب ما عَقَّ بِهِ عنهُ، وعلى هَذَا فقد يُقال: يختصّ ذَلِكَ بِمن لم يُعَقَّ عنهُ، لكِنْ أخرج سعِيد بنِ منصُور، منْ مُرسل أبِي جَعْفَر الباقِر صحِيحًا:"إِنَّ فاطِمة كَانَتْ إِذا ولدت ولدًا، حلقت شعره، وتصدَّقت بِزِنتِهِ ورِقًا".
ذكره فِي "الفتح"
(1)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث: "يا فاطمة احلقي رأسه، وتصدّقي الخ" ضعيف؛ لانقطاعه، كما بينه الترمذيّ، وله شاهد منْ حديث عبد الله بن محمد بن عقيل، وفيه ضعف، وَقَدْ حسنّه الشيخ الألبانيّ لأجل الشاهد؛ انظر "إرواءه" 4/ 402 - 406.
(1)
"فتح" 11/ 14.
والحاصل أن مثل هَذَا يصلح للعمل به فِي مثل هذه الفضائل، فينبغي أن يحلق رأس المولود، وُيتصدّق بوزنه درهمًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي وقت العقيقة:
قَالَ العلامة ابن قُدامة رحمه الله تعالى: قَالَ أصحابنا: السنّة أن تُذبح يوم السابع، فإن فات ففي أربعة عشر، فإن فات ففي أحد وعشرين، وُيروى هَذَا عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وبه قَالَ إسحاق. وعن مالك فِي الرجل يريد أن يَعُقّ عن ولده، فقال: ما علمت هَذَا منْ أمر النَّاس، وما يُعجبني. ولا نعلم خلافًا بين أهل العلم القائلين بمشروعيّتها فِي استحباب ذبحها يوم السابع. والأصل فيه حديث سمرة، عن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم -يعني حديث الباب- وأما كونه فِي أربع عشرة، ثم فِي أحد وعشرين، فالحجة فيه قول عائشة رضي الله تعالى عنها، وهذا تقدير، والظاهر أنها لا تقوله إلا توقيفًا. وإن ذبح قبل ذلك، أو بعده أجزأه؛ لأن المقصود يحصل، وإن تجاوز أحدًا وعشرين، احتمل أن يُستحبّ فِي كلّ سابع، فيجعله فِي ثمانية وعشرين، فإن لم يكن ففي خمسة وثلاثين، وعلى هَذَا، قياسًا عَلَى ما قبله. واحتمل أن يكون فِي كلّ وقت؛ لأن هَذَا قضاء فائت، فلم يتوقّف، كقضاء الأضحية وغيرها، وإن لم يعُقّ أصلاً، فبلغ الغلام، وكسب فلا عقيقة عليه؛ لأنها مشروعة فِي حقّ الوالد، فلا يفعلها غيره، كالأجنبيّ، وكصدقة الفطر. وسُئل أحمد عن هذه المسألة، فقال: ذلك عَلَى الوالد. يعني لا يعُقّ عن نفسه؛ لأن السنّة فِي حقّ غيره. وَقَالَ عطاء، والحسن: يعُقّ عن نفسه؛ لأنها مشروعة عنه، ولأنه مرتَهنٌ بها، فينبغي أن يُشَرَع له فَكَاك نفسه. انتهى كلام ابن قُدامة ببعض تغيير
(1)
.
وَقَالَ فِي "الفتح": ما حاصله: تمسَّك بِقوله: "تُذبح عنه يوم السابع" مَنْ قَالَ: إِنَّ العقِيقة مُوقَّتة بِاليوم السَّابع، وأنَّ منْ ذبح قبله لم يقع الموقِع، وأنَّها تفُوت بعده، وهُو قول مَالِك. وَقَالَ أيضًا: إِن منْ مات قبل السَّابع سقطت العقِيقة. وفِي رِواية ابنِ وهب، عن مَالِك: أن منْ لم يُعَقّ عنهُ فِي السابع الأول، عُقَّ عنهُ فِي السَّابع الثَّانِي، قَالَ ابن وَهْب: ولا بأس أن يُعقّ عنهُ فِي السَّابع الثَّالِث. ونقل التِّرمِذِيّ عن أهل العِلم: أَنَّهم يستحبُّون أن تُذبح العقِيقة يوم السَّابع، فإِن لم يتهيَّأ فَيَوْم الرَّابع عَشَر، فإِنْ لم يَتَهَيَّأ عَقَّ عنهُ يوم أَحَد وعِشْرِينَ. قَالَ الحافظ: وَلَمْ أرَ هَذَا صرِيحًا إِلَّا عن أبِي عبد الله الْبُوشَنْجِيّ، ونقلهُ صَالِح بْن أَحْمَد، عَنْ أبِيهِ. وورد فِيهِ حدِيث، أَخْرَجهُ الطَّبرانِيُّ منْ
(1)
"المغني" 13/ 396 - 397.
رِواية إِسماعِيلِ بن مُسلِم، عن عبد الله بن بُريدة، عن أبِيهِ، وإسماعِيل ضعِيف، وذكر الطَّبرانِيّ أنّهُ تفرَّد بِهِ.
وَعِنْد الحنابلة فِي اعتِبار الأسابِيع بعْد ذلك رِوايتانِ، وعِند الشَّافِعِيَّة أن ذِكر الأسَابِيع لِلاخْتِيارِ، لا لِلتَّعيِينِ، فنقل الرَّافِعِيّ، أَنَّهُ يدخُل وقْتَهَا بِالوِلادةِ، قَالَ: وذِكرُ السَّابع فِي الْخَبَر بِمَعْنَى أن لا تُؤَخَّر عنهُ اخْتِيارًا، ثُمّ قَالَ: والاخْتِيار أَنْ لا تُؤَخَّر عن الْبُلُوغ، فإِنْ أُخِّرت عن البُلُوغ سقطت، عَمَّنْ كَانَ يُرِيد أن يعُقّ عنهُ، لَكِنْ إِنْ أرَادَ أنْ يعُقّ عَنْ نفْسه فَعَلَ.
وأخرج ابنُ أبِي شيبة، عن مُحَمَّد بن سِيرِين، قَالَ: لو أعلمُ أنِّي لِم يُعقّ عنِّي، لعققتُ عن نفسِي. واختارهُ القَفَّال. ونقل عن نصَّ الشَّافِعِيّ فِي البُوَيطِيّ، أنَّهُ لاِ يُعقّ عن كبِير، وليْس هَذَا نصًّا فِي منع أن يعُقّ الشَّخْص عن نفسه، بل يَحْتَمِل أن يُرِيد أن لا يَعُقّ عن غيره إِذَا كبِر.
وكَأنَّهُ أشَار بِذلِك إِلى أنَّ الحدِيث الَّذِي ورد أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، عَقَّ عن نفسه بعد النُّبُوَّة، لا يثبُت، وهُو كذلِك، فقد أخرجهُ البزَّار منْ رِواية عبد الله بن مُحرّر -وهُو بِمُهملاتِ- عن قتادة، عن أنسٍ، قَالَ البزَّار: تفرَّد بِهِ عبد الله، وَهُوَ ضَعِيف. انتهى. وأَخْرَجهُ أبُو الشَّيْخ منْ وجْهَينِ آخَرينِ:
أحدُهُما منْ رواية إِسماعِيل بن مُسْلِم، عن قتادة، وإسماعِيل ضعِيف أيْضًا، وَقَدْ قَالَ عبد الرَّزَّاق: إنَّهم تركُوا حدِيث عبد الله بن مُحرَّر، منْ أجل هَذَا الحدِيث، فَلَعلَّ إِسْمَاعِيل سَرَقَهُ مِنْهُ.
ثَانِيهمَا منْ رِواية أبِي بكر الْمُسْتَمْلي، عن الهيثم بن جميل، وداوُد بن المُحبَّر، قالا: حدَّثنا عبد الله بن المثنى، عن ثُمَامَة، عن أنَسٍ، وداوُد ضَعِيف، لَكِنَّ الْهَيْثم ثِقَة، وعبد الله منْ رِجال الْبُخَارِي، فالحدِيث قوِيّ الإِسْناد، وَقَدْ أخرجهُ مُحَمَّد بن عبد الملِك بن أيْمَن، عن إِبراهِيم بن إِسْحاق السَّرَّاج، عن عمرو النَّاقِد، وأخرجهُ الطَّبرانِيُّ فِي "الأوسط"، عن أحمد بن مَسْعُود، كِلاهُما عن الهيثم بن جَميل، وَحْده بِهِ، فَلَوْلا مَا فِي عبد الله بن المُثَنَّى منْ المَقَال، لَكَانَ هَذَا الحدِيث صحِيحًا، لكِن قَدْ قَالَ ابنُ معِين: ليس بِشَيْءٍ، وَقَالَ النَّسائِيُّ: لَيْسَ بِقوِيٍّ، وَقَالَ أبُو داوُد: لا أُخْرِجُ حدِيثه، وَقَالَ السَّاجِيُّ: فِيهِ ضَعْف لم يَكُنْ منْ أَهْل الْحَدِيث، روى مَنَاكِير، وَقَالَ العُقَيْليّ: لا يُتَابَع عَلَى أَكْثَرِ حدِيثه، قَالَ ابن حَبَّان فِي "الثِّقات": رُبَّما أخْطَأ، وَوَثَّقهُ العِجلِيُّ، والتِّرْمِذِيّ، وَغَيرهما، فَهَذَا منْ الشُّيُوخ الَّذين إِذَا انْفَرد أَحَدُهُمْ بِالحَدِيثِ، لم يكُنْ حُجَّة، وَقَدْ مَشَى الْحَافِظ الضَّيَاء عَلَى ظَاهِرِ الإِسْنَاد، فَأَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيث، فِي "الأَحَادِيث الْمُخْتَارَة، مِمَّا
لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ". ويحتمِل أن يُقال: إنْ صَحَّ هَذَا الخبر، كَانَ منْ خَصَائِصه صلى الله عليه وسلم، كما قالُوا فِي تَضْحِيته عمَّن لم يُضَحِّ منْ أُمّته. وعِند عبد الرَّزَّاق، عن معمر، عَنْ قَتَادَة: "مَنْ لَمْ يَعُقّ عنهُ أَجْزَأته أُضْحِيَّته"، وعِند ابنِ أبِي شيبة، عن مُحَمَّد بن سِيرِين، والحسنِ: "يُجزِىء عن الغُلام الأضْحِيَّة منْ الْعَقِيقَة". انتهى
(1)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد اتضح بما ذُكر أن الارجح تقييد العقيقة باليوم السابع، كما هو نصّ الشارع، فلا تشرع قبله، وتفوت بفواته، فإن قضاها بعد ذلك كَانَ حسنًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): فِي اختلاف الحفاظ فِي قوله: "وَيُسَمَّى"، هل هو بالسين، أم بالدال المهملة؟:
قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: قد اختلف فِيها أصحاب قتادة، فقال أكثرُهُم:"يُسَمَّى" بالسِّينِ، وَقَالَ هَمَّام، عن قتادة:"يُدَمَّى" بالدَّالِ. قَالَ أبُو داوُد: خُولِفَ همَّام، وهُو وَهمٌ مِنْهُ، ولا يُؤْخذ بِهِ، قَالَ:"وَيُسَّمَى" أصَحُّ. ثُمَّ ذكرهُ منْ رِواية غير قتادة بِلفظِ: "وَيُسَمَّى"، واستُشكِل ما قالهُ أبُو داوُد بِما فِي بقِيَّة رِواية همَّام عِنده، أنهم سألُوا قتادة عن الدَّم، كيف يُصنعِ بِهِ؟، فقال: إِذَا ذُبِحت العقِيقة، أُخِذتْ مِنها صُوفَة، واسْتُقبلت بِهِ أوْدَاجُها، ثُمَّ تُوضع عَلَى يَافُوخ الصَّبيّ، حَتَّى يَسِيل عَلَى رَأْسه، مِثْل الْخَيط، ثُمَّ يَغْسِل رأسه بعدُ، ويُحْلقُ. فيبعُدُ مع هَذَا الضَّبْط، أن يُقال: إِنَّ همَّامًا وهِم عن قتادة، فِي قوله:"وَيُدَمَّى"، إِلا أن يُقال إِن أصل الحدِيث:"وَيُسَمَّى"، وأنَّ قتادة ذكر الدَّم حاكِيًا عمَّا كَانَ أهل الجَاهِلِيَّة يَصْنعُونهُ، ومِن ثَمَّ قَالَ ابنُ عبد البرّ: لا يُحْتمل هَمَّامٌ فِي هَذَا الَّذِي انفرد بِهِ، فإنْ كَانَ حفِظهُ، فهُو مَنْسُوخ. انتهى. وَقَدْ رجَّح ابن حزمِ رِواية هَمَّام، وَحَمَل بَعْض المُتَأَخِّرِين قوله:"وَيُسَمَّى" عَلَى التَّسمِية عِند الذَّبح، لِما أخرج ابن أبِي شيبة، منْ طرِيق هِشَام، عن قتادة، قَالَ: يُسَمَّى عَلَى العقِيقة، كما يُسَمَّى عَلَى الأضْحِيَّة:"بِسْمِ الله عَقِيقَة فُلان"، ومِن طريق سعِيد، عَنْ قتادة نَحْوه، وزاد:"اللَّهُمَّ مِنْك، وَلَك، عَقِيقَة فُلان، بِسْمِ الله والله أكبر، ثُمَّ ذَبَح". وروى عبد الرَّزَّاق، عن معمر، عن قتادة: يُسَمَّى يوم يُعَقّ عنهُ، ثُمَّ يُحْلق، وكان يقُول: يُطْلى رأسه بِالدَّمِ.
وَقَدْ وَرَدَ مَا يدُلّ عَلَى النَّسخ فِي عِدَّة أحادِيث، مِنها: ما أخرجهُ ابن حِبَّان، فِي "صَحِيحه" عن عَائِشَة، قالت:"كَانُوا فِي الجَاهِليَّة، إِذَا عَقُّوا عن الصَّبيّ، خَضَّبُوا قُطْنَة بِدَمِ الْعَقِيقَة، فَإِذَا حَلَقُوا رأس الصَّبِيّ، وَضَعُوها عَلَى رَأْسه، فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "اجْعَلُوا
(1)
"فتح" 13/ 11 - 14.
مكان الدَّم خلُوقًا"، زاد أبُو الشَّيْخ: "وَنَهَى أنْ يُمَسّ رَأْس الْمَوْلُود بِدَم".
وأَخْرَجَ ابن مَاجَه، منْ رِواية أيُّوب بن مُوسي، عن يزِيد بنِ عبد الله المُزنِيِّ، أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"يُعَقّ عن الغُلام، ولا يُمَسّ رأسه بِدَمِ"، وهذا مُرسل، فإِنَّ يزِيد لا صُحْبة لَهُ. وَقَدْ أَخْرجهُ البزَّار منْ هَذَا الْوَجْه، فَقَالَ:"عَنْ يزِيد بن عبد الله الْمُزَنِيِّ، عن أبِيهِ، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم"، وَمَعَ ذَلِكَ، فقالُوا إِنَّه مُرْسَل. ولِأبِي دَاوُدَ، والْحَاكِم، مِنْ حَدِيث عبد الله بن بُرَيْدة، عن أبيهِ، قَالَ:"كُنَّا فِي الجَاهِلِيَّة"، فذكر نَحْو حدِيث عَائِشَة، ولم يُصَرِّح بِرفعِهِ، قَالَ:"فَلمَّا جَاء الله بِالإِسلامِ، كُنَّا نَذْبَح شَاة، ونَحْلِق رأْسه، ونُلطِّخهُ بِزَعْفرانِ"، وهذا شَاهِدٌ لِحدِيثِ عائِشة، ولِهذا كَرِه الجُمهُور التَّدْمِية. ونَقَلَ ابن حزم اسْتِحْبَاب التَّدْمِية، عن ابنِ عُمر، وَعَطَاء، ولَمْ ينقُل ابن المُنْذِر اسْتِحْبَابَهَا، إِلَّا عن الْحَسَنِ، وقتادة، بل عِند ابْنِ أبِي شيبة، بِسندٍ صحِيح، عن الْحَسَنِ، أنَّهُ كَرِه التَّدْمِية. ذكره في "الفتح"
(1)
.
وَقَالَ الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى: ما حاصله: حجة منْ كره التدمية قول رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فِي حديث سلمان بن عامر الضبّيّ رضي الله تعالى عنه: "وأميطوا عنه الأذى"، قَالَ: فكيف يجوز أن يؤمر بإماطة الأذى عنه، وأن يُحمل عَلَى رأسه الأذى. قَالَ: وقوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: "أميطوا عنه الأذى ناسخ لما كَانَ عليه أهل الجاهليّة منْ تخضيب رأس الصبيّ بدم العقيقة. انتهى
(2)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن ما ذهب إليه الجمهور منْ كراهة تدمية رأس الصبيّ هو الأرجح؛ لأن الراجح أن رواية "ويُدمّى" منْ وَهَم همّام بن يحيى العوذيّ، وإنما المحفوظ:"وَيُسَمَّى"، كما هو رواية الجمهور، وعلى تقدير صحة روايته، فإنها منسوخة بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها المذكور آنفًا، وهو صحيح، وبحديث عبد الله بن بُريدة، عن أبيه، رضي الله تعالى عنه، قَالَ:"كنا فِي الجاهليّة إذا وُلد لأحدنا غلام ذبح شاةً، ولطخ رأسه بدمها، فلما جاء الله بالإِسلام، كنا نذبح شاةً، ونحلق رأسه، ونلطّخه بزعفران". رواه أبو داود، والطحاويّ، والحاكم، والبيهقيّ، وَقَالَ الحاكم: صحيح عَلَى شرط الشيخين، ووافقه الذهبيّ، وهو صحيح كما قَالَ، لكنه عَلَى شرط مسلم؛ لأن الحسين بن واقد لم يخرج له البخاريّ إلا تعليقًا. وعن يزيد ابن عبد المزنيّ، عن أبيه: أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قَالَ: "يُعقّ عن الغلام، ولا يُمسّ رأسه بدم". أخرجه الطبرانيّ، والطحاويّ، ورجاله ثقات، غير يزيد
(1)
"فتح" 11/ 12 - 13. رقم 5472.
(2)
"التمهيد" 4/ 318.
ابن عبد، فلم يرو عنه غير أيوب بن موسى، ولم يوثّقه غير ابن حبّان
(1)
.
وأيضًا أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم أمر بأن يُماط عنه الأذى، والدم منْ الأذى، فكيف يأمر بالتدمية.
والحاصل أنه لا يُشرع التدمية أصلاً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4223 -
(أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا قُرَيْشُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، قَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: سَلِ الْحَسَنَ، مِمَّنْ سَمِعَ حَدِيثَهُ فِي الْعَقِيقَةِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُهُ مِنْ سَمُرَةَ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا، غير:
1 -
(قُريش بن أنس) الأنصاريّ، ويقال: الأمويّ مولاهم، أبو أنس البصريّ، صدوق تغيّر بآخره، قدر ستّ سنين [9].
قَالَ ابن المدينيّ: كَانَ ثقة. وَقَالَ أبو حاتم: لا بأس به، إلا أنه تغيّر. وَقَالَ النسائيّ: ثقة. وَقَالَ أبو داود: سمعت إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد يقول: إنه تغيّر. وكذا ذكر البخاريّ عن إسحاق الشهيديّ، وزاد: إنه اختلط ست سنين فِي البيت، ومات سنة (209). وَقَالَ أبو داود، عن محمد بن عمر المُقَدَّميّ: مات فِي رمضان سنة (208) قبل سعيد بن عامر بثمانية أيام. قَالَ الحافظ: سماع المتأخّرين عنه بعد اختلاطه، مثل ابن أبي الْعَوّام، ويزيد بن سنان البصريّ، وبكّار القاضي، وأبي قلابة، والكديميّ. وَقَالَ ابن حبّان: اختلط، فظهر فِي حديثه مناكير، فلم يجز الاحتجاج بأفراده. وَقَالَ أبو حاتم الرازيّ يقال: إنه تغيّر عقله، وكان سنة (203) صحيح العقل، ومات سنة (208).
وَقَالَ الحافظ فِي "الفتح": قُريش بن أنس، بصرِيّ ثِقة، يُكنَّى أبا أَنَس، كَانَ قد تَغَيَّرَ سنة ثلاث ومِائتينِ، واسْتَمرَّ عَلَى ذَلِكَ سِتّ سِنِينَ، فَمَنْ سَمِعَ مِنْهُ قبل ذَلِكَ فَسَمَاعه صحِيح.
قَالَ: وَقَدْ توقَّف البرزنجِيّ فِي صِحَّة هَذَا الحدِيث، منْ أجْل اخْتِلاط قُرَيْش، وَزَعَمَ أنَّهُ تفرَّد بِهِ، وأنَّهُ وَهِمَ، وكَأنَّهُ تَبعَ فِي ذَلِكَ ما حَكَاهُ الأثْرَم، عن أحمد، أَنَّهُ ضَعَّفَ حدِيث قُرَيْش هَذَا، وَقَالَ: ما أَرَاهُ بِشَيْءٍ.
(1)
راجع "إرواء الغليل" 4/ 388 - 389.
لكِنْ وجَدْنا لهُ مُتابِعًا، أخْرَجَهُ أبُو الشَّيْخ، والبزَّار عن أبِي هُرَيْرة، وأيضًا فَسَماَع عليٍّ ابن المدِينِيّ، وأَقْرانه منْ قُرَيْش، كَانَ قَبْل اخْتِلاطه، فَلعَلَّ أَحْمَد إِنَّما ضَعَّفهُ؛ لِأنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ إِنَّما حَدَّث بِهِ بَعْد الاختِلاط. انتهى ما فِي "الفتح".
روى له الجماعة، سوى ابن ماجه. له عبد البخاريّ، والترمذيّ، والمصنّف حديث الباب، وَعَبْد مسلم، والمصنّف حديث عمران بن حصين: "عضّ رجل يد رجل
…
" الحديث، وسيأتي للمصنف فِي "كتاب القسامة" 18/ 4760 - إن شاء الله تعالى.
و"هارون بن عبد الله": هو أبو موسى الحمّال البغداديّ الحافظ [10]. و"حبيب بن الشهيد" تقدّم قبل بابين.
وقوله: "سل الحسن ممن سمع حديثه فِي العقيقة"، إنما أمر ابن سرين رحمه الله تعالى بسؤال الحسن عمن سمعه؛ تثبيتًا، وتأكيدًا؛ لأنه روى هَذَا الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، فقد أخرج البزَّار، وأبُو الشَّيخ فِي "كِتَاب العَقِيقَة" منْ رِواية إِسرائيل، عن عبد الله بن المُخْتَار، عن مُحَمَّد بن سِيرِين، عن أبِي هُريرة رضي الله تعالى عنه، مثل رواية الحسن، عن سمرة.
قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: ورِجاله ثِقات، فَكأنَّ ابن سِيرِين، لَمَّا كَانَ الحدِيث عِنده، عن أبِي هُريرة، وبلغهُ أنَّ الحسنُ يُحدِّث بهِ، احْتمل عِنده، أن يكُون يَرْوِيه، عَنْ أبِي هُريرة أيْضًا، وعن غيره، فَسَأَلَ، فأخْبَر الْحَسَن أنَّهُ سَمِعهُ منْ سَمُرة، فَقَوي الحْدِيث بِرِوايةِ هذينِ التَّابِعِيَّيْنِ الْجَليلينِ، عن الصَّحَابِيَّيْنِ. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: هَذَا الرواية صريحة فِي سماع الحسن البصريّ عن سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه، وَقَدْ اختُلف فيه، قَالَ فِي "تهذيب التهذيب": وأما رواية الحسن عن سمرة، ففي "صحيح البخاريّ"، سماعه منه لحديث العقيقة، وَقَدْ روى عنه نسخة كبيرة، غالبها فِي "السنن الأربعة"، وعنْد عليّ بن المديني أن كلّها سماع، وكذا حكى الترمذي عن البخاريّ. وَقَالَ يحيى القطّان، وآخرون: هي كتاب، وذلك لا يقتضي الانقطاع. وفي "مسند أحمد": حدثنا هُشيم، عن حميد الطويل، وَقَالَ: جاء رجلٌ إلى الحسن، فقال: إن عبدا له أَبَقَ، وأنه نذر إن يقدر عليه أن يقطع يده، فقال الحسن: حدثنا سمرة، قَالَ: قلّما خطبنا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم خُطبةً إلا أمر فيها بالصدقة، ونهى عن المثلة. وهذا يقتضي سماعه منه لغير حديث العقيقة. وَقَالَ أبو داود عقب حديث سليمان بن سمرة، عن أبيه فِي الصلاة: دلّت هذه الصحيفة عَلَى أن
(1)
"فتح" 11/ 12.
الحسن سمع منْ سمرة. قَالَ الحافظ: ولم يظهر لي وجه الدلالة بعدُ. انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلتُ، وإليه أنيب".
…
40 - (كِتَابُ الْفَرَعِ، والْعَتِيرةِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الْفَرَع، والْفَرَعةُ -بفتح الراء-: أولُ نِتَاج الإبل والغنم، وكان أهل الجاهلية يذبحون لآلهتهم يتبرّكون بذلك، فنُهي عنه المسلمون، وجمعُ الفرع فَرُعُ -أي بضمّتين- أنشد ثعلبٌ [منْ الرمل]:
كَغَرِيّ
(2)
أجْسَدَتْ رَأْسَهُ
…
فَرُعٌ بَيْنَ رِئَاسٍ وَحَامِ
رئاسٌ وحَامٌ: فحلان. وفي الحديث: "لا فرع، ولا عَتِيرة، تقول: أفرع القومُ: إذا ذبحوا أوّلَ ولد تُنتجُهُ الناقةُ
(3)
لآلهتهم، وأفرعوا: نُتِجُوا. والفرعُ والْفَرَعَةُ: ذَبْحٌ كَانَ يُذبح، إذا بلغت الإبل ما يتمنّاه صاحبها، وجمعها فِرَاعٌ. والفرَعُ: بعيرٌ كَانَ يُذبح فِي الجاهليّة، إذا كَانَ للإنسان مائة بعير، نَحَر منها بَعيرًا كلّ عام، فأطعم النَّاسَ، ولا يذوقه هو، ولا أهله. وقيل: إنه كَانَ إذا تمّت له إبله مائةً قدّم بَكْرًا، فنحره لصنمه، وهو الفرَعُ، قَالَ الشاعر [منْ البسيط]:
إِذْ لا يَزَالُ قَتِيلٌ تَحتَ رَايَتِنَا
…
كَمَا تَشَحَّطَ سَقْبُ النَّاسِكِ الْفَرَعُ
وقيل: الْفَرَعُ طعامٌ يُصنع لنتاج الإبل، كالْخَرْسِ لولادة المرأة. قاله فِي "اللسان"
(4)
. و"الْعَتِيرَةُ" -بفتح العين المهملة، وكسر التاء-: هي الشَّاة تُذْبح عن أهل بَيْت فِي رَجَب. وَقَالَ أبُو عُبيد: الْعتِيرَة: هِي الرَّجبِيَّة، ذَبِيحَة كانُوا يَذْبَحُونها فِي الْجَاهِليّة فِي رَجَب، يتقرَّبُون بها لِأصْنَامِهِم. وَقَالَ غيره: الْعتِيرَة نَذْر كَانُوا يُنذَرُونهُ، منْ بَلَغَ ماله
(1)
"تهذيب التهذيب" 1/ 390 - 391.
(2)
الغَرِيّ: صنمٌ، كَانَ طُلِي رأسه بدم. اهـ لسان.
(3)
قوله (تُنْتَجُهُ الناقة) بضَمِّ أوله وفتح ثَالِثه: يُقال: نُتِجَتْ النَّاقَة، بضَمِّ النُّون، وَكَسْر المُثَنَّاة: إِذَا ولَدتْ، ولا يُسْتَعْمَل هَذَا الْفِعْل إلا هكذا، وإن كَانَ مبنيًّا لِلْفَاعِل. أفاده فِي "الفتح".
(4)
"لسان العرب" باختصار. 8/ 248 - 249.
كذا، أن يذبح مِن كُلّ عشرة مِنها رأسًا فِي رجب. وذكر ابن سِيدَهْ: أنَّ العتِيرة أنَّ الرَّجُل كَانَ يقُول فِي الجاهِليَّة: إن بلغ إِبِلِي مِائة عَتَرَتُ مِنْهَا عَتِيرَة، زاد فِي "الصِّحَاح": فِي رَجَب. ونقل أبُو داوُد تَقْييدها بالعَشْرِ الأول منْ رَجَب، ونقل النَّووِيّ الاتِّفاق عَلَيْهِ. قَالَ الحافظ: وفِيهِ نظرٌ
(1)
.
وذكر ابن منظور فِي "اللسان": أن العرب فِي الجاهليّة كانت إذا طلب أحدهم أمرًا نذر، لئن ظفِر به ليذبحنّ منْ غنمه فِي رجب كذا وكذا، وهي العتائر أيضًا، فإذا ظفِر به، فربّما ضاقت نفسه عن ذلك، وضنّ بغنمه، وهي الرَّبِيض، فيأخذ عددها ظباء، فيذبحها فِي رجب مكان تلك الغنم، فكأن تلك عتائره. انتهى باختصار.
وَقَالَ النوويّ فِي "شرح مسلم": الْفَرَع: أوَّل النِّتَاج كَانَ يُنْتَج لهُمْ فيذبحُونهُ. قَالَ أهل اللُّغة وغيرهم: الْفَرَع بِفَاءٍ، ثُمّ راءٍ مفتُوحَتَيْنِ، ثُمَّ عين مُهْمَلة، وُيقال فِيهِ: الْفَرَعَة بِالهاءِ. والْعتِيرَة -بِعينِ مُهملة مَفْتُوحة، ثُمَّ تَاء مُثَنَّاة منْ فَوْق، قَالُوا: والْعَتِيرة: ذَبِيحَة كانُوا يَذْبحُونَهَا فِي العشر الأُول مِنْ رَجَب، وَيُسَمُونها الرَّجَبِيَّة أيضًا، واتَّفَق العُلَمَاء عَلَى تَفْسِير العَتِيرة بِهذا.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدم فِي كلام الحافظ أن دعواه الاتفاق فيه نظر.
قَالَ: وأمَّا الفرع، فَقَدْ فَسَّرهُ هُنا بِأنَّهُ أوَّل النِّتاح، كانُوا يذْبحُونهُ، قَالَ الشَّافِعِيّ، وأصْحابه، وآخَرُون: هُوَ أوَّل نِتاج الْبَهِيمة، كَانُوا يَذْبحُونهُ، ولا يَمْلِكُونهُ، رَجَاء الْبرَكَة فِي الأُمّ، وكَثْرة نسلها، وهكذا فسَّرهُ كثِيرُون منْ أهل اللُّغة وغيرهم. وَقَالَ كَثِيرُون مِنهُم: هُو أوَّل النِّتاج، كانُوا يذبحُونهُ لِآلِهتِهِم، وهِي طَوَاغِيتهمْ، وكذا جاء هَذَا التَّفسِير فِي "صحِيح الْبُخَارِي"، و"سُنَن أبِي داوُد". وقِيل: هُو أوَّل النِّتاج لِمنْ بَلَغَتْ إِبله مِائَة، يَذْبحُونهُ. وَقَالَ شَمِر: قَالَ أبُو مَالِك: كَانَ الرَّجُل، إِذَا بلغت إِبِله مِائة، قَدَّم بِكرًا، فنحرهُ لِصَنَمِهِ، ويُسمُّونهُ الْفَرَع. انتهى كلام النوويّ
(2)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4224 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا فَرَعَ، وَلَا عَتِيرَةَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ترجم المصنّف رحمه الله تعالى فِي "الكبرى" قبل هَذَا الحديث بقوله: "باب "لا فرع، ولا عتيرة".
(1)
"فتح" 11/ 17.
(2)
"شرح مسلم" 13/ 135 - 136.
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(إسحاق بن إبراهيم) ابن رهويه الإمام الحجة [10] 2/ 2.
2 -
(سفيان) بن عيينة الإمام الحجة الثبت [8] 1/ 1.
3 -
(الزهريّ) محمد بن مسلم المدنيّ الإمام الحجة الثبت [4] 1/ 1.
4 -
(سعيد) بن المسيب الإمام الفقيه الحجة الثبت، منْ كبار [3] 9/ 9.
5 -
(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعيين عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه سعيدًا أحد الفقهاء السبعة، وفيه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه منْ المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبِي هُريرة) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا فَرَعَ) بفتحين، وقع تفسير الفرَع، والعتيرة فِي رواية الشيخين، ولفظه: "والفرَع أوّل النتاج، كانوا يذبحونه لطواغيتهم، والعتيرة فِي رجب". قيل: ظاهِرهُ الرَّفع، لكن وقع فِي رواية أبِي داوُد، منْ طريق عبد الرَّزَّاق، عن معمر، عن الزُّهرِيّ، عن سعِيد بن الْمُسَيِّب، قَالَ: "الْفَرَع أوَّل النِّتَاج
…
" الْحَدِيث، جعلهُ موْقُوفًا عَلَى سعِيد بن الْمُسَيِّب. وَقَالَ الخَطَّابِيُّ: أحْسَب التَّفْسِير فِيهِ منْ قوْل الزُّهرِيّ. قَالَ الحافظ: قد أخرج أبُو قُرَّة فِي "السُّنَن" الْحَدِيث عن عبد المجِيد بْن أبِي دَاوُدَ
(1)
، عَنْ معمر، وصرَّح فِي رِوايته، أنَّ تفسِير الْفَرَع والْعَتِيرَة، منْ قوْل الزُّهرِيّ. واللهُ أعلم. انتهى.
وَقَالَ فِي "الْمُحْكَم": الْفَرَعُ أوَّل نِتاج الإبِل والغنم، كَانَ أهْل الجَاهِلِيَّة يذْبَحُونهُ لِأصْنَامِهِمْ، والْفَرَع ذبْحٌ كانُوا، إِذَا بلغَتْ الإِبِل ما تَمنَّاهُ صاحِبها ذَبحُوهُ، وكَذلِكَ إِذَا بلغت الإبِل مِائة، يَعْتِر مِنْهَا بعِيرًا كُلّ عَام، ولا يَأْكُل مِنْهُ هُو، ولا أهْل بَيْته. والْفَرَع أيضًا: طَعَام يُصنع لِنِتَاج الإبِل، كالْخَرَسِ
(2)
لِلْوِلادَةِ. انتهى
(3)
.
(وَلَا عَتِيرَةَ) -بِفتحِ المُهْمَلة، وَكَسْر المُثَنَّاة، بِوزنِ عَظِيمَة: هي شاة تُذبح فِي رجب. قَالَ القَزَّاز: سُمِّيَتْ عَتِيرة بِما يُفْعَل منْ الذَّبْح، وهُو الْعَتْرُ، فَهِيَ فَعَيْلة، بِمعنى مَفْعُولَة.
(1)
لعله ابن أبي روّاد، فليُحرّر.
(2)
"الْخُرْسُ" -بضم، فسكون- وزان قُفل: طعام يُصنع للولادة. اهـ المصباح.
(3)
"فتح" 11/ 15.
وتقدم فِي أول الباب أقوال أهل اللغة فيها.
وقوله: "لا فرَع، ولا عَتِيرة": هكذا جَاء بِلفْظِ النَّفْي، والمراد بِهِ النَّهْي، كما جاء بِصِيغةِ النَّهْي فِي رِواية المصنّف التالية:"نَهَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم". ووقع فِي رِواية لِأحْمَد: "لا فرع، ولا عَتِيرة فِي الإِسْلام". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -1/ 4224 و4225 - وفي "الكبرى" 1/ 4548 و4549. وأخرجه (خ) فِي "العقيقة" 5473 و5474 (م) فِي "الأضاحي" 3652 (د) فِي "الضحايا" 2831 (ت) فِي "الأضاحي" 1512 (ق) فِي "الذبائح" 3168 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 7095 و7215 و7693 و9983 (الدارمي) فِي "الأضاحي" 1964. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي الجمع بين "لا فرَعَ، ولا عَتِيرة"، وبين حديث:، "الفَرَع حقّ":
قَالَ النوويّ فِي "شرح مسلم": قَالَ الشَّافِعِيّ رحمه الله تعالى: الْفَرَع شَيْء كَانَ أهل الجاهِليَّة، يطلُبُون بِهِ البركة فِي أمْوَالهمْ، فكَانَ أحَدهمْ يذبح بِكر ناقته، أو شَاته، فَلا يَغْذُوهُ رجاء الْبَرَكة فِيما يأْتِي بعده، فَسَألُوا النَّبيّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ؟ فقال:"فرِّعُوا، إنْ شِئتُمْ، أيْ اذْبَحُوا إن شِئتُمْ"، وكانُوا يَسْألُونهُ عَمَّا كانُوا يَصْنعُونهُ فِي الجاهِليَّة، خوْفًا أنْ يُكْره فِي الإسلام، فأعْلَمهُمْ أَنَّهُ لا كَرَاهَة عَليهِمْ فِيهِ، وأمَرَهُمْ استِحبابًا أن يُغذُوهُ، ثُمَّ يُحْمَل عَلَيْهِ فِي سبِيل الله. قَالَ الشَّافِعِيّ: وَقَوْله صلى الله عليه وسلم: "الْفَرَع حَقّ": معناهُ: ليْس بِباطِلٍ، وهُو كَلام عربِيّ، خَرَجَ عَلَى جواب السَّائِل. قَالَ: وَقَوْله صلى الله عليه وسلم: "لا فَرَع، ولا عَتِيرَة"، أي لا فَرَع وَاجِب، ولا عَتِيرَة واجِبَة، قَالَ: والْحَدِيث الآخر يدُلّ عَلَى هَذَا المَعْنَى، فإِنَّه أبَاحَ لهُ الذَّبْح، واخْتَار لهُ أن يُعطِيه أرْمَلَة، أو يَحْمِل عَلَيْهِ فِي سبِيل الله، قَالَ: وقَوْله صلى الله عليه وسلم فِي الْعَتِيرَة: "اذبحُوا لِلَّهِ، فِي أيّ شَهْر كَانَ"، أي اذْبَحُوا إن شِئتُمْ، واجْعلُوا الذَّبح لِلَّهِ فِي أيِّ شَهْر كَانَ، لا أَنَّها فِي رَجَب، دُون غَيْره منْ الشُّهُور. والصَّحِيح عِند أصْحَابنَا، وَهُوَ نَصّ الشَّافِعِيّ: اسْتِحْبَاب الْفَرَع، والْعَتِيرَة، وأَجَابُوا عَنْ حَدِيث:"لا فَرَع، ولا عَتِيرَة" بِثلاثةِ أوْجُه:
[أَحَدهَا]: جَواب الشَّافِعِيّ السَّابِق، أن الْمُرَاد نفي الْوُجُوب. [والثَّانِي]: أن الْمُرَاد نَفْيُ ما كانُوا يذْبَحُون لِأصْنَامِهِمْ. [والثَّالِث]: أنَّهُما لَيْسَا كالأضْحِيَّةِ فِي الاسْتِحْباب، أو فِي ثوَاب إِراقة الدَّم، فأمَّا تفرِقة اللَّحم عَلَى المَسَاكِين، فبِرّ وَصَدَقة. وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيّ فِي "سُنَن حرملة" أَنَّها إن تيسَّرتْ كُلّ شَهْر، كَانَ حَسَنًا. قَالَ النوويّ: هَذَا تَلْخِيص حُكْمهَا فِي مَذْهَبنَا. وادَّعَى القَاضِي عِيَاض، أنَّ جمَاهِير العُلَمَاء عَلَى نَسْخ الْأَمْر بِالْفَرَعِ، والْعَتِيرَة. واللهُ أعْلم. انتهى كلام النوويّ
(1)
.
وَقَالَ فِي "الفتح": عند قَوْله: "كَانُوا يَذْبَحُونهُ لِطَوَاغِيتِهِمْ"، زاد أبُو دَاوُدَ عَنْ بعْضهمْ:"ثُمَّ يأْكُلُونهُ، ويُلْقَى جِلْده عَلَى الشَّجَر": ما حاصله: فِيهِ إِشَارة إِلى عِلَّة النَّهي، واسْتَنْبَطَ الشَّافِعِي مِنْهُ الجَوَاز، إِذَا كَانَ الذَّبْح لِلَّهِ، جمعًا بينه وبين حدِيث:"الْفَرَع حَقّ"، وهُو حدِيث أخرجهُ أبُو داوُد، والنَّسائِيُّ
(2)
، والْحَاكِم، منْ رِواية داوُد بن قَيْس، عن عمرو ابْن شُعَيب، عَنْ أبِيهِ، عنْ جَدّه، عبد الله بْن عَمْرو. كذا فِي رِواية الْحَاكِم:"سُئِل رسُول الله صلى الله عليه وسلم، عن الْفَرَع؟، قَالَ: "الْفَرَع حَقّ"،، وأَنْ تترُكهُ حَتَّى يكُون بِنْت مَخَاض، أو ابْن لبُون، فَتَحمِل عَلَيْهِ فِي سبِيل الله، أو تُعْطِيه أرْمَلَة، خَيْر منْ أنْ تَذْبحهُ، يَلْصَقُ لَحْمه بِوبرِهِ، وتُوَلِّهَ نَاقَتك"، ولِلْحاكِمِ منْ طرِيق عمَّار بن أبِي عمَّار، عن أبِي هُريرة منْ قوْله:"الْفَرَعَة حَقّ، ولا تَذْبحهَا، وهِي تَلْصَق فِي يَدك، ولكِن أمْكِنْها منْ اللَّبن، حتَّى إِذَا كانت منْ خِيار الْمَال، فَاذْبَحَهَا".
قَالَ الشَّافِعِيّ فِيما نقلهُ البيهقِيُّ، منْ طرِيق الْمُزَنِيِّ عنهُ: الْفَرَع شَيْء كَانَ أهل الجَاهِلِيَّة يَذْبحُونهُ، يطلُبُون بِهِ البَرَكَة فِي أمْوالهمْ، فَكَانَ أحَدهمْ يَذْبَح بِكْر نَاقَته، أوْ شَاته، رَجَاء البرَكَة فِيما يأتِي بَعْده، فَسَألُوا النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَنْ حُكْمَهَا، فأعْلَمْهُمْ أَنَّهُ لا كَراهَة عَلَيهِمْ فِيهِ، وأَمَرَهُمْ اسْتِحْبابًا أنْ يترُكُوهُ، حَتَّى يُحمل عَلَيْهِ فِي سبِيل الله.
وقوْله: "حَقّ": أيْ لَيْسَ بِباطِلٍ، وهُو كَلام خَرجَ عَلَى جَواب السَّائل، ولا مُخَالَفَة بَيْنه وَبَيْن حَدِيث الآخَر:"لا فَرَع، ولا عَتِيرَة"، فإِنَّ مَعْنَاهُ: لا فَرَع وَاجِب، ولا عَتِيرَة وَاجبَة. وَقَالَ غَيْره: مَعْنَى قَوْلَه: "لا فَرَع، ولا عَتِيرَة": أيْ لَيْسَا فِي تَأَكُّد الاسْتِحْبَاب كالأضْحِيَّةِ، والأوَّل أوْلى.
وَقَالَ النَّووِيّ: نَصَّ الشَّافِعِيّ فِي "سنن حَرْمَلَة" عَلَى أن الْفَرَع، والْعَتِيرَة مُسْتَحَبَّانِ، ويُؤيِّدهُ ما أخْرَجَهُ أبُو داوُد، والنَّسائِيُّ
(3)
، وابن ماجة، وصَحَّحَهُ الْحَاكِم، وَابْن الْمُنْذِر،
(1)
"شرح مسلم" 13/ 136 - 137.
(2)
يأتي برقم (4227).
(3)
يأتي برقم (4230).
عَنْ نُبَيْشَة -بِنُونٍ، ومُوحَّدة، ومُعْجَمه مُصَغَّر- قَالَ:"نَادَى رجُل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّا كُنَّا نَعْتِرُ عَتِيرَة فِي الْجاهِليَّة فِي رَجَب، فَمَا تأمُرنَا؟ قَالَ: اذْبحُوا للهِ فِي أيِّ شَهْر كَانَ، قَالَ: إِنَّا كُنَّا نُفْرعُ فِي الْجَاهِليَّة؟، قَالَ: "فِي كُلّ سَائِمَة فَرَع، تَغْذُوهُ مَاشِيتُك حَتَّى إِذَا اسْتَحْمَل ذَبَحْته، فتصدَّقْت بِلَحْمِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْر". وفِي رِواية أبِي دَاوُد، عن أبِي قِلابَة "السَّائِمَة مِائَة"، ففِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم، لم يُبْطِل الْفَرَع والعَتِيرَة مِن أصْلهمَا، وِانَّما أبْطلَ صِفَة مِنْ كُلّ مِنْهُمَا، فَمِنْ الْفَرَع كَوْنه يُذْبَح أوَّل ما يُولد، ومِن الْعَتِيرَة خُصُوص الذَّبْح فِي شَهْر رَجَب.
وأمَّا الْحَدِيث الَّذِي أخْرَجَه أصْحَاب السُّنَن
(1)
، منْ طرِيق أبي رَمَلَة، عن مِخْنَف بن مُحَمَّد بن سَلِيم، قَالَ:"كُنَّا وُقُوفًا مع النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَة، فَسَمِعته يقُول: يا أيَّها النَّاس عَلَى كُلّ أهْل بَيْت، فِي كُلّ عَام أُضْحيَّة وَعَتِيرَة، هَلْ تَدْرُون ما الْعَتِيرَة؟ هِي الَّتِي يُسمُّونَها الرَّجَبِيَّة". فَقَدْ ضَعَّفَهُ الخَطَّابِيّ، لَكِنْ حَسَّنهُ التِّرمِذِيّ.
وَجَاء منْ وَجْه آخر عن عبد الرَّزَّاق، عن مِخْنَف بن سُلَيْمٍ. وُيمكِن رَدّه إِلى مَا حُمِلَ عَلَيْهِ حَدِيث نُبَيْشَة.
وَرَوَى النَّسائِيُّ
(2)
، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِم، منْ حدِيث الْحَارِث بن عَمْرو، أنَّهُ لقِيَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي حجَّة الوَدَاع، فَقَالَ رجُل: يَا رسُول الله، الْعَتَائِر، والفَرَائِع؟ قَالَ:"مَنْ شَاءَ عَتَرَ، وَمَنْ شَاء لمْ يَعْتِر، ومن شَاءَ فَرَّعَ، وَمَنْ شَاءَ لَمْ يُفَرِّع". وَهَذا صرِيح فِي عَدم الوُجُوِب، لكِنْ لا يَنْفِي الاسْتِحْبَاب، ولا يُثبِتهُ، فيُؤْخَذْ الاسْتِحْبَاب منْ حَدِيث آخَر. وَقَدْ أَخْرَجَ أبُو دَاوُد، منْ حَدِيث أبِي العُشَرَاء، عن أبِيهِ:"أنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم سُئِل عن العَتِيرَة؟ فَحَسَّنهَا". وأخرج أبُو داوُد، والنَّسائِيُّ، وصَحَّحهُ ابْن حِبَّان، منْ طرِيق وكِيع بن عُدُس، عَنْ عَمّه، أبِي رَزِين العُقَيْليّ، قَالَ: قُلْت: يَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِنَّا كُنَّا نَذْبَح ذَبَائِحِ فِي رَجَب، فَنَأْكُل، وَنُطْعِم منْ جَاءَنَا، فَقَالَ:"لا بَأْسَ بِهِ". قَالَ وكِيع بن عدُس: فَلا أدْعُهُ.
وجزم أبُو عُبَيْد، بِأنَّ الْعَتِيرَة تُسْتَحَبّ، وفِي هَذَا تَعَقُّب عَلَى منْ قَالَ: إِنَّ ابْن سِيرِين تفَرَّد بِذلِك. وسيأتي للمصنّف بعد حديث عن ابْن عَوْن أَنَّهُ كَانَ يفعلهُ، وَمَالَ ابْن المُنْذر إِلى هَذَا، وَقَالَ: كَانت الْعَرَب تَفْعَلهُما، وَفَعَلهُما بعْض أهْل الإسْلاِم بِالإِذْنِ، ثُمَّ نَهى عنهُما، والنَّهْي لا يَكُون إِلَّا عَنْ شَيْء كَانَ يُفْعَل، وَمَا قَالَ أَحَد إِنَّهُ نَهَى عَنْهُمَا، ثُمَّ أذِنَ فِي فِعلهما، ثُمَّ نَقَلَ عَنْ العُلَمَاء تركهمَا، إِلَّا ابن سِيرِين، وَكَذَا ذَكَر عِيَاض أن الْجُمْهُور عَلَى النَّسْخ، وبِهِ جَزَم الْحَازِمِيّ، وما تقدَّم نَقْله عَنْ الشَّافِعِيّ يرُدّ عَلَيْهِمْ.
(1)
سيأتي للمصنّف بعد حديث برقم (4226).
(2)
سيأتي للمصنّف برقم (4228).
وَقَدْ أخْرَجَ أبُو داوُد، والْحَاكِم، والبيهقِيُّ -واللفظ لهُ- بِسَنَدٍ صحِيح، عن عائِشة:"أمرنا رسُول الله صلى الله عليه وسلم بِالْفَرَعةِ، فِي كُلّ خَمْسِينَ وَاحِدَة". انتهى ما فِي "الفتح" ببعض تصرّف
(1)
.
وَقَالَ العلاّمة الشوكانيّ رحمه الله تعالى: أحاديث الباب يدلّ بعضها عَلَى وجوب العَيرة والفرَع، وهو حديث مِخنَف، وحديث نُبيشة، وحديث عائشة، وحديث عمرو ابن شُعيب، وبعضها يدلّ عَلَى مجرد الجواز منْ غير وجوب، وهو حديث الحارث بن عمرو، وابي رَزين، فيكون هذان الحديثان كالقرينة الصارفة للأحاديث المقتضية للوجوب إلى الندب. وَقَدْ اختُلف فِي الجمع بين الأحاديث المذكورة، والأحاديث القاضية بالمنع منْ الْفَرَع والعَيِيرة، فقيل: إنه يُجمع بينها يحمل أحاديث الجواز عَلَى الندب، وحمل أحاديث المنع عَلَى عدم الوجوب، ذكر ذلك جماعة، منهم: الشافعيّ، والبيهقيّ، وغيرهما، فيكون المراد بقوله:"لا فرَع، ولا عَتِيرة" أي لا فرَع واجب، ولا عَتِيرة واجبةٌ، وهذا لابدّ منه، مع عدم العلم بالتاريخ؛ لأن المصير إلى الترجيح مع إمكان الجمع لا يجوز، كما تقرّر فِي موضعه. وَقَدْ ذهب جماعة منْ أهل العلم إلى أن أحاديث الجواز منسوخة بأحاديث المنع، وادّعى القاضي عياضٌ أن جماهير العلماء عَلَى ذلك، ولكنّه لا يجوز الجزم به إلا بعد ثبوت أنها متأخّرة، ولم يثبت.
وَقَالَ أيضًا عند شرح حديث "لا فرَع، ولا عتيرة": ما حاصله: وَقَدْ استدلّ بهذا منْ قَالَ: إن الْفَرَع والعتيرة منسوخان، وَقَدْ عرفت أن النسخ لا يتمّ إلا بعد معرفة تأخّر تاريخ ما قيل: إنه ناسخٌ، فأعدل الأقوال الجمع بين الأحاديث بما سلف، ولا يعكُر عَلَى ذلك رواية النهى؛ لأن معنى النهي الحقيقيّ، وإن كاد هو التحريم، لكن إذا وُجدت قرينة أخرجته عن ذلك. ويمكن أن يُجعل النهي موجّهًا إلى ما كانوا يذبحونه لأصنامهم، فيكون عَلَى حقيقته، ويكون غير متناول لما ذُبح منْ الْفَرَع، والعتيرة لغير ذلك، مما فيه وجه قربة. وَقَدْ قيل: إن المراد بالنفي المذكور نفي مساواتهما للأضحيّة فِي الثواب، أو تأكد الاستحباب. وَقَدْ استدلّ الشافعيّ بما روي عنه صلّى الله تعالى عليه وسلم أنه قَالَ:"اذبحوا لله فِي أيّ شهر كَانَ" عَلَى مشروعيّة الذبح فِي كلّ شهر إن أمكن، قَالَ فِي "سنن حرملة": إنها إن تيسّرت كلّ شهر كَانَ حسنًا". انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله تعالى ببعض تصرّف
(2)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله الشوكانيّ رحمه الله تعالى تحقيق نفيسٌ
(1)
راجع "الفتح" 11/ 16 - 17.
(2)
"نيل الأوطار" 5/ 149 - 150.
جدًّا.
وحاصله أن يُجمع بين حديث: "لا فرع، ولا عَتيرة" وأحاديث الأمر بالفرع والعتيرة، بأن الأمر للندب، والنفي محمول عَلَى نفي الوجوب، أو أن النفي محمول عَلَى الْفَرَع والعتيرة التي كانت عَلَى صفة الجاهليّة، منْ ذبحها تقرّبًا لآلهتهم، وأما أحاديث الجواز فمحول عَلَى ما كَانَ لله تعالى، وأما دعوى النسخ، أو الترجيح، فمما لا يُلتفت إليه؛ إذهما لا يُصار إليهما إلا عند تعذر الجمع بين النصوص، وأيضًا لابدّ فِي النسخ منْ علم تأخّر المدّعَى أنه ناسخٌ، ولا يوجد هنا.
والحاصل أن القول بمشروعيّة الْفَرَع والعتيرة هو الحقّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4225 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثْتُ أَبَا إِسْحَاقَ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَسُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أَحَدُهُمَا: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْفَرَعِ وَالْعَتِيرَةِ"، وَقَالَ الآخَرُ: "لَا فَرَعَ، وَلَا عَتِيرَةَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو داود": هو سليمان بن داود الطيالسيّ. و"معمر": هو ابن راشد. و"سفيان": هو ابن حُسين، أبو محمد، أو أبو الحسن الواسطيّ، ثقة فِي غير الزهريّ باتّفاقهم [7] 41/ 1716.
وقوله: "حدَّثْتُ أبا إسحاق" ببناء الفعل للفاعل، و"أبا إسحاق" بالنصب مفعوله.
والحديث متَّفقٌ عليه بلفظ: "لا فَرَعَ، ولا عَتِيرَةَ"، وأما بصيغة النهي، فضعيف، لجهالة منْ رواه بها، حيث قَالَ:"قَالَ أحدهما"، ولم يُبيّن منْ هو؟، فيحتمل أن يكون معمرًا، فيصحّ، وأن يكون سفيان بن حسين، فلا يصحّ؛ لاتّفاقهم عَلَى ضعفه فِي الزهريّ، والذي يميل إليه القلب أنها منْ رواية سفيان؛ لأن رواية معمر أخرجها الشيخان، وغيرهما بلفظ:"لا فرع، ولا عتيرة"، فالظاهر أن رواية المصنّف مثل روايتهم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4226 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ -وَهُوَ ابْنُ مُعَاذٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو رَمْلَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مِخْنَفُ بْنُ سُلَيْمٍ، قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ وُقُوفٌ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ، فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ، فِي كُلِّ عَامٍ أَضْحَاةً وَعَتِيرَةً"، قَالَ مُعَاذٌ: كَانَ ابْنُ عَوْنٍ يَعْتِرُ، أَبْصَرَتْهُ عَيْنِي فِي رَجَبٍ).
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(عمرو بن زُرارة) الكلابيّ، أبو محمد النيسابوريّ، ثقة ثبت [10] 7/ 368.
2 -
(معاذ بن معاذ) العنبريّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقة متقنٌ، منْ كبار [9] 34/ 38.
3 -
(ابن عون) عبد الله، أبو عون البصريّ، ثقة ثبتٌ فاضلٌ [5]
(1)
25/ 33.
4 -
(أبو رَمْلَة) عامر، روى عن مِخْنَف بن سُليم، وروى عنه عبد الله بن عون، لا يُعرف [3]. روى له الأربعة هَذَا الحديث الواحد فقط.
5 -
(مِخْنف -بكسر الميم، وسكون المعجمة- ابن سُليم) بن الحارث بن عوف بن ثعلبة ابن عامر بن ذُهْل بن مازن بن ذبيان بن ثعلبة بن الدُّئل بن سعد بن غامد الأزديّ الغامديّ، روى عن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم فِي الأضحيّة والعتيرة، وعن عليّ ابن أبي طالب، وأبي أيوب. وعنه ابنه حَبيب، وعون بن أبي جُحيفة، وعامر أبو رَمْلة، وأبو صادق الأزديّ. قَالَ ابن سعد: أسلم، وصحب النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، ونزل الكوفة، بعد ذلك. وَقَالَ أبو نُعيم الحافظ: استعمله علي بن أبي طالب عَلَى أصبهان، وسكن الكوفة. قَالَ الحافظ: وكان ممن خرج مع سليمان بن صُرَد فِي وقعة عين الوردة، وقُتل بها سنة (64)، وكانت معه راية الأزد يوم صفّين اهـ. روى له الأربعة حديث الباب فقط. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير أبي رملة، ومِخنَف، فمن رجال الأربعة، وأنهما قليلا الرواية، بل ليس لهما عندهم إلا هَذَا الحديث. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، فإن ابن عون تابعيّ، كما تقدم غير مرّة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
عن أبي رَمْلة أنه (قَالَ: أَنْبَأَنَا مِخْنَفُ بْنُ سُلَيْمٍ) الأذريّ رضي الله تعالى عنه (قَالَ: بَيْنَا) قَالَ ابن الأثير رحمه الله تعالى: أصل "بينا""بينَ"، فأُشبعت الفتحة، فصارت ألفًا، يقال:"بينا"، و"بينما"، وهما ظرفا زمان، بمعنى المفأجاة، ويُضافان إلى جملة، منْ فعل وفاعل، ومبتدأ وخبر، ويحتاجان إلى جواب، يتمّ به المعنى، والأفصح فِي جوابهما أن لا يكون فيه "إذ"، ولا "إذا"، وَقَدْ جاءا فِي الجواب كثيرًا، تقول: بينا زيد جالسٌ، دخل عليه عمرو، و"إذا دخل عليه عمرو، وإذا دخل عليه، ومنه قول الْحُرَقَة
(1)
جعله فِي "التقريب" منْ السادسة، والظاهر أنه منْ الخامسة، لأنه رأى أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، فهو تابعيّ، مثل الأعمش، فتأمّل.
بنت النعمان [منْ بحر الطويل]:
فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالأمْرُ أَمْرُنَا
…
إِذَا نَحْنُ فِيْهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ
(1)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لكن وقع فِي هَذَا الحديث جوابها مقرونًا بالفاء، وهو قوله:"فَقَالَ: يا أيها النَّاس الخ"، فليُنظر.
(نَحْنُ وُقُوفٌ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ، فَقَالَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم ("يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ) ظاهره الوجوب، لكنهم حملوه عَلَى الندب المؤكّد (فِي كُلِّ عَامٍ أَضْحَاةً) بالنصب عَلَى أنه اسم "إنّ"، مؤخرًا وخبرها قوله:"عَلَى أهل بيت" مقدمًا، و"الأضحاةُ" بفتح الهمزة، وجمعها أضحى، كأرطاة، وأرطى، يقال: ضَحّى تضحيةً: إذا ذبح الأُضحية وقت الضحى فِي اليوم العاشر منْ ذي الحجة، هَذَا أصله، ثم كثُر استعماله، حَتَّى قيل: ضَحَّى فِي أيّ وقت كَانَ منْ أيّام التشريق، ويتعدّى بالحرف، فيقال: ضَحّيتُ بشاة. أفاده الفيّوميّ (وَعَتِيرَةً") تقدّم ضبطها، ومعناها قريبًا (قَالَ مُعَاذٌ) هو ابن معاذ الراوي عن ابن عون (كَانَ) عبد الله (ابْنُ عَوْنٍ يَعْتِرُ) بفتح أوّله، وكسر ثانيه، يقال: عَتَر الشاة، والظَّبْية، ونحوهما يَعْتِرُها عَتْرًا، منْ باب ضرب: إذا ذبحها، وهي عتيرة. أفاده فِي "اللسان" (أَبْصَرَتْهُ عَيْنِي) بكسر النون مفرد مضاف إلى ياء المتكلم. وفي نسخة:"أبصرته بعيني"(فِي رَجَبِ) متعلّق بـ "يَعتِر"، ويحتمل أن يتعلّق بـ"أبصرته". يعني أنه رآه فِي شهر رَجَب يدبح عتيرةً، عملًا بهذا الحديث، وَقَدْ تقدّم أن محمد بن سيرين أيضًا كَانَ يذبح العتيرة فِي رَجَب، وتقدّم ترجيح مشروعيّتها، وأنه لا نسخ فيها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
مِخْنَف بن سُليم رضي الله تعالى عنه هَذَا حسنٌ.
[فإن قلت]: كيف يُحَسَّن، وفي إسناده أبو رملة مجهول عين؛ لأنه لم يرو عنه غير ابن عون؟.
[قلت]: إنما حسُن لشواهده، فقد يشهد له حديث عمرو بن شُعيب الآتي بعده، وحديث نُبيشة رضي الله تعالى عنه الآتي فِي الباب التالي، وغيرهما منْ أحاديث الباب
(2)
.
(1)
"النهاية" 1/ 176.
(2)
راجع ما كتبه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى فِي "إروائه" 4/ 410 - 413.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -1/ 4226 - وفي "الكبرى" 1/ 4550. وأخرجه (د) فِي "الضحايا" 2788 (ت) فِي "الأضاحي" 1518 (ق) فِي "الأضاحي" 3125 (أحمد) فِي "مسند الشاميين" 17432. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4227 -
(أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، أَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ شُعَيْبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِيهِ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْفَرَعَ؟ قَالَ: "حَقٌّ، فَإِنْ تَرَكْتَهُ حَتَّى يَكُونَ بَكْرًا، فَتَحْمِلَ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ تُعْطِيَهُ أَرْمَلَةً، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذْبَحَهُ، فَيَلْصَقَ لَحْمُهُ بِوَبَرِهِ، فَتُكْفِىءَ إِنَاءَكَ، وَتُوَلِّهَ نَاقَتَكَ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَالْعَتِيرَةُ؟، قَالَ:"الْعَتِيرَةُ حَقٌّ".
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ هُمْ: أَرْبَعَةُ إِخْوَةٍ، أَحَدُهُمْ أَبُو بَكْرٍ، وَبِشْرٌ، وَشَرِيكٌ، وَآخَرُ).
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(إبراهيم بن يعقوب) الْجُوزجانيّ الثقة الحافظ [11] 122/ 174.
2 -
(عُبيد الله بن عبد المجيد، أبو عليّ الحنفيّ) البصريّ، صدوقٌ [9] 151/ 1118.
[تنبيه]: وقع فِي بعض نسخ "المجتبى"، و"الكبرى" هنا، وكذا فِي قول المصنّف فِي آخر الحديث: ما لفظه: "أبو عليّ الخيفيّ" بالخاء المعجمة، بدل الحاء المهملة، وبالياء المثنّاة التحتانيّة، بدل النون، وهو تصحيف، فتنبّه.
3 -
(داود بن قيس) الفرّاء الدَبّاغ، أبو سليمان القرشيّ مولاهم المدنيّ، ثقة فاضل [5] 96/ 120.
4 -
(عمرو بن شُعيب) المدنيّ، ويقال: الطائفيّ، صدوق [5] 105/ 140.
5 -
(أبوه) شعيب بن محمد الطائفيّ، صدوق [3] 105/ 140.
6 -
(أبوه) محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص السهميّ الطائفيّ، مقبول [3].
روى عن أبيه، وروى عنه ابنه شُعيب، وحكيم بن الحارث الفهميّ. كذا قَالَ ابن يونس فِي "تاريخ مصر". وذكر الأزرقيّ فِي "تاريخ مكة" عن عبد المجيد بن أبي رَوّاد، عن ابن جُريج، والمثنّى بن الصّبَاح، عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، قَالَ: طاف محمد ابن عبد الله بن عمرو، مع أبيه عبد الله بن عمرو بن العاص، فذكر قصّة. وجاء عنه منْ الرواية شيء يسير عَلَى خلاف فيه. روى أبو داود، عن زُهير بن حرب، عن إسماعيل
ابن عليّة، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن أبيه، عن أبيه، حَتَّى ذكر عبد الله بن عمرو، رفعه، حديث:"لا يحلّ سلَفٌ وبيع". وَقَدْ رواه أحمد بن منيع وغيره، عن ابن عُليّة، عن أيوب، عن عمرو، عن أبيه، عن جدّه عَلَى الجادّة. وروى النسائيّ عن عثمان بن خُرَّزاذ، عن سهل بن بكّار، عن وُهيب، عن ابن طاوس، عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن أبيه، محمد بن عبد الله بن عمرو، قَالَ مرّة: عن أبيه، وَقَالَ مرّةً: عن جدّه، فِي النهي عن لحوم الحمُر الأهليّة، وعن الْجَلّالة. هكذا فِي رواية الأُسيوطيّ
(1)
، ووقع فِي رواية ابن حيويه: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، محمد بن عبد الله بن عمرو، كذا فيه، فكأنه سقط منه شيء. ورواه أبو داود فِي "السنن" عن سهل بن بكّار بإسناده، وَقَالَ: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه عَلَى الجادّة. وَقَالَ ابن ماجه فِي "سننه": حدّثنا محمد بن يحيى، حدّثنا عبد الرزّاق، سمعت المثنّى ابن الصبَاح، يُحدّث عن عمرو، عن أبيه، عن جدّه، قَالَ: طفت مع عبد الله بن عمرو، فلما فرغنا
…
الحديث، وفيه ذكر الملتزم، وجدّ عمرو والد والده، هو محمد ابن عبد الله بن عمرو، وهذا يكاد يكون منحصرًا فِي محمد، فإن جدّ عمرو الأعلى، هو عبد الله بن عمرو، وهو لا يقول: طُفتُ مع عبد الله، وجدّه الأعلى فوق ذلك عمرو بن العاص، وليست لشعيب عنه رواية، فيلزم أن يكون القائل: طفتُ مع عبد الله ابن عمرو هو محمدًا ولده، ولم يذكر البخاريّ، ولا ابن أبي حاتم، ولا ابن حبّان، ولا غيرهم فِي كتب الرجال إلا ما تقدّم منْ "تاريخ مصر"، و"تاريخ مكة". وَقَدْ ذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: يروي عن أبيه منْ حديث عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن محمد بن عبد الله، عن أبيه، ولا أعلم بهذا الإسناد إلا حديثًا واحدًا منْ حديث ابن الهاد، عن عمرو بن شعيب. انتهى. وَقَدْ أخرج ابن حبّان هَذَا الحديث في "صحيحه". وفي "فوائد ابن المقرىء" منْ رواية أبي أحمد الزُّبيريّ، عن الوليد بن جُميع: حدّثني شُعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن أبيه، عن جدّه، فذكر أثرًا. قَالَ الحافظ: وهذا يردّ قول الذهبيّ فِي "الميزان": لم يُروَ عنه حديثٌ صريحٌ، رواه عن أبيه، ورواه ولده شعيب عنه. قَالَ: وَقَالَ الذهبيّ فِي ترجمته أيضًا: غير معروف الحال، ولا ذُكر بتوثيق، ولا لين. انتهى "تهذيب التهذيب"
(2)
.
روى له الأربعة، وله عبد المصنّف هَذَا الحديث، وفي "كتاب الضحايا" 43/ 4449 - حديث: "نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهليّة
…
" الحديث، وفي "كتاب
(1)
وسيأتي فِي "المجتبى" برقم 43/ 4449 إن شاء الله تعالى.
(2)
"تهذيب التهذيب" 3/ 611.
البيوع" 72/ 4632 - حديث: "لا يحلّ سَلَفٌ وبيع
…
" الحديث.
7 -
(زيد بن أسلم) العدويّ مولاهم، أبو أسامة المدنيّ، ثقة عالم [3] 64/ 80. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
منها: أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله موثّقون. (ومنها): أن فيه رواية الراوي عن أبيه، عن أبيه، وكلهم تابعيّون. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَمْرَو بْنَ شُعَيْبِ، عَنْ أَبيهِ) شعيب بن محمد (عَنْ أَبِيهِ) محمد بن عبد الله بن عمرو ابن العاص (وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) بالجر عطفا عَلَى "أبيه"، فشعيب يرويه عن أبيه، وزيد بن أسلم كليهما، قالا (قَالُوا) أي الصحابة، أي بعضهم (يَا رَسُولَ اللَّهِ الْفَرَعَ؟) مبتدأ خبر محذوف: أي ما حكمه؟، أو التقدير: ما حكم الْفَرَع؟ (قَالَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (حَقٌّ) خبر لمحذوف: أي هو حقّ، قَالَ الشافعيّ رحمه الله تعالى: معناه ليس بباطل، وَقَدْ جاء عَلَى وفق كلام السائل، ولا يُعارض حديث:"لا فرع، ولا عتِيرة"، فإن معناه أنهما ليسا بواجبين، أو المعنى: لا فرع، ولا عتيرة عَلَى ما كَانَ عليه الجاهلية، منْ أنهم يفعلون ذلك تقرّبًا إلى آلهتهم، وَقَدْ تقدّم تمام البحث فِي هَذَا قريبًا، فلا تغفل (فَإِنْ تَرَكْتَهُ) أي الحيوان الذي تريد أن تفرعه (حَتَّى يَكُونَ بَكْرًا) بفتح الموحّدة، وسكون الكاف: هو الفَتِيّ منْ الإبل، بمنزلة الغلام منْ النَّاس، وجمعه أبكُر، كفلس وأفلس، والأنثى بَكْرة، وجمعها بِكَار بالكسر، مثلُ كَلْبة وكلاب، قَالَ فِي "النهاية": وَقَدْ يستعار للناس، ومنه حديث المتعة: "كأنها بَكْرَةٌ عَيْطاء: أي شابّة طويلة العنق فِي اعتدال. انتهى
(1)
(فَتَحْمِلَ) بالنصب عطفًا "تترك"(عَلَيْهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ تُعْطِيَهُ أَرْمَلَةً) أي فقيرةً لا زوج لها، قَالَ الفيّوميّ: وأرمل الرجلُ بالألف: إذا نَفِد زاده، وافتقر، فهو مُزمِلٌ، وجاء أرْمَلٌ، عَلَى غير قياس، والجمع أرامل، وأرملت المرأة، فهي مُرملةٌ للتي لا زوج لها؛ لافتقارها إلى منْ يُنفق عليها. قَالَ الأزهريّ: لا يقال لها: أرملةٌ إلا إذا كانت فقيرةً، فإن كانت موسرةً، فليست بأرملةٍ، والجمع أرامل، حَتَّى قيل: رجلٌ أرملٌ: إذا لم يكن له زوجٌ. قَالَ ابن الأنباريّ: وهو قليلٌ؛ لأنه لا يذهب زاده بفقد امرأته؛ لأنها لم تكن قيّمةً عليه. قَالَ ابن السِّكّيت: والأرامل المساكين، رجالًا كانوا،
(1)
"النهاية" 1/ 149.
أو نساءً. انتهى.
وفي رواية أبي داود: "وأنْ تَتْرُكُوهُ حَتَّى يَكُون بَكْرًا، أو ابْن مَخَاض، أو ابْن لَبُون"(خَيْرٌ) خبر لمبتدإ محذوف: أي فهو خير، والجملة جواب "إذا"(مِنْ أَنْ تَذْبَحَهُ) أي حين يولد، كما كَانَ عادتهم (فَيَلْصَقَ) بفتح أوّله، وثالثه، يقال: لَصِقَ الشيءُ بغيره، منْ باب تَعِبَ لَصَقًا، ولُصُوقًا: مثلُ لَزِق وزنا ومعنًى، ويتعدّى بالهمزة، فيقال: ألصقته (لَحْمُهُ بِوَبَرِهِ) بفتحتين: أي بصوفه؛ لكونه غير سمين (فَتُكْفِىءَ) بضم أوله مضارع أكفأ الشيءَ: إذا قلبه، وفي رواية:"فَتَكْفَأ" بفتح أوله، وثالثه، يقال: كفأ الشيء، كمنع ثلاثيّا: إذا قلبه أيضًا (إِنَاءَكَ) بالنصب مفعول "تُكفىء"(وَتُوَلِّهَ) بضم أوّله، وتشديد اللام، مضارع وَلَّهَ، أو بضمَ أوله، وتسكين ثانيه مضارع أَوْلَهَ، يقال: وَلَّهَهَا تَوْليهًا: إذا فرّق بينها وبين ولدها، فتولّهتْ، وولّها الحزنُ، وأولهها بالتشديد، والهمزة. قاله الفيَوميّ. والمعنى هنا: أي تَجعل (نَاقَتَكَ) والهةً بذبح ولدها. قاله فِي "النهاية"
(1)
(قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَالْعَتِيرَةُ؟) أي ما حكمها؟ (قَالَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (الْعَتِيرَةُ حَقٌّ) أي ليست بباطل.
وفي شرح النوويّ عَلَى "صحيح مسلم": قَالَ أبُو عُبَيْد فِي تفسِير هَذَا الْحَدِيث: قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "الْفَرَع حَق"، ولكِنَّهُمْ كانُوا يَذْبحُونهُ حِين يُولَد، ولا شِبَع فِيهِ، ولِهَذَا قَالَ:"يَذْبحهُ، فَيَلْزَق لَحْمه بِوبرِهِ"، وفِيهِ: أنَّ ذهاب ولدها يدْفع لبنها، ولِهذَا قَالَ:"خَيْر منْ أنْ تَكْفأ"، يعني إِذَا فَعَلْت ذَلِكَ، فكأنَّك كَفَأت إِنَاءَك، وأرَقْته، وأَشَار بِهِ إِلَى ذَهَاب اللَّبَنِ، وفِيهِ: أنه يَفْجَعُهَا
(2)
بِوَلدِهَا، ولِهَذَا قَالَ:"وتُولِّهِ نَاقَتك"، فَأشَارَ بِتَرْكِهِ حَتَّى يَكُون ابْن مَخَاض، وهُو ابْن سَنَة، ثُمَّ يَذْهَب، وَقَدْ طَابَ لَحْمه، واسْتَمْتَع بِلبنِ أُمّه، ولا يشُقّ عَليْها مُفارقَته، لِأنَّهُ اسْتَغْنى عَنْهَا. انتهى.
(قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ) النسائيّ رحمه الله تعالى (أبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ) الذي روى عن داود بن قيس فِي هَذَا السند، فقوله:"أبو عليّ" مبتدأ، و"الحنفيّ" صفته، وخبره جملة قوله (هُمْ: أَرْبَعَةُ إِخْوَةٍ) ولابدّ منْ التقدير، إذ لا يستقيم الإخبار إلا به، فالتقدير:"أبو عليّ الحَنفيّ، وإخوته: هم أربعة إخوة".
[تنبيه]: وقع فِي بعض النسخ، هنا و"الكبرى""الخيفي" بالخاء المعجمة، والياء التحتانيّة، وهو تصحيف، والصواب الحَنفيّ بالمهملة، والنون، كما نبّهت عليه فيما سبق.
(أَحَدُهُمْ أَبُو بَكْرٍ) عبد الكبير بن عبد المجيد بن عُبيد الله البصريّ، ثقة [9] 56/
(1)
"النهاية" 5/ 227.
(2)
من باب نفع.
2297.
وقوله (وَبِشْرٌ) لم أجد له ترجمته (وَشَرِيكٌ) بن عبد المجيد الحَنفيّ، كنيته أبو العلاء منْ أهل البصرة، أخو أبي بكر، وأبي عليّ، وعُمير بني عبد المجيد، يروي عن محمد بن عبد الرحمن بن المجبّر، روى عنه محمد بن معمر البحرانيّ، مات فيما بين سنة سبع ومائتين إلى سنة تسع ومائتين. قاله ابن حبّان.
(1)
(وَآخَرُ) هو عُمير، قَالَ ابن أبي حاتم: عمير بن عبد المجيد، أبو المغيرة، أخو أبي بكر الحَنفيّ، روى عن عبد الحميد بن جعفر، وروى عنه أبو خيثمة، وابن أبي كبشة، وبُندار، ومحمد بن معمر، سمعت أبي يقول ذلك، ثم ذكر عن أبي بكر بن أبي خيثمة، قَالَ: قيل ليحيى بن معين: عُمير بن عبد المجيد؟ فَقَالَ: صالح. ثم قَالَ: سألت أبي عن عمير بن عبد المجيد؟ فَقَالَ: ليس به بأس. انتهى
(2)
.
وَقَالَ ابن حبّان: أبو المغيرة، عمير بن عبد المجيد الحَنفيّ، منْ أهل البصرة، يروي عن شعبة، ورى عنه أهل العراق، وهو أخو أبي بكر، وأبي عليّ الحَنفيّين.
(3)
.
وهذا الذي قاله المصنّف رحمه الله تعالى، نُقل نحوه عن غيره أيضًا، فَقَالَ فِي "تهذيب التهذيب": قَالَ ابن حبّان فِي "الثقات": إخوة أربعة: أبو بكر، وأبو عليّ، وأبو المغيرة، واسمه عُميرٌ، وشريك. وَقَالَ الدارقطنيّ: هم أربعة إخوة، لا يُعتمد منهم إلا عَلَى أبي بكر، وأبي عليّ. وَقَالَ أبو زرعة: هم ثلاثة إخوة، وهم ثقات. وَقَالَ العقيليّ: عبد الكبير ثقة، وأخوه أبو عليّ ثقة. والأخ الثالث ضعيف -يعني عُميرًا-. انتهى
(4)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث محمد بن عبد الله بن عمرو، وزيد بن أسلم رحمهما الله تعالى هَذَا مرسل صحيح بشواهده، كحديث نُبيشة رضي الله تعالى عنه الآتي، وغيره. وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -1/ 4227 - وفي "الكبرى" 1/ 4551.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4228 -
(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ -يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ- عَنْ يَحْيَى -وَهُوَ ابْنُ زُرَارَةَ بْنِ كُرَيْمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ- قَالَ سَمِعْتُ أَبِي، يَذْكُرُ أَنَّهُ
(1)
"الثقات لابن حبّان" جـ 8/ ص 311 - 312. وله ترجمة فِي "التاريخ الكبير" للبخاريّ 4/ 241 رقم الترجمة 2660.
(2)
راجع "الجرح والتعديل" 6/ 377.
(3)
"الثقات لابن حبّان" 8/ 509 وله ترجمة فِي "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم 3/ 377/1.
(4)
"تهذيب التهذيب" 2/ 601.
سَمِعَ جَدَّهُ الْحَارِثَ بْنَ عَمْرٍو، يُحَدِّثُ أَنَّهُ لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْعَضْبَاءِ، فَأَتَيْتُهُ مِنْ أَحَدِ شِقَّيْهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، اسْتَغْفِرْ لِي، فَقَالَ:"غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ"، ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ، أَرْجُو أَنْ يَخُصَّنِي دُونَهُمْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَغْفِرْ لِي، فَقَالَ بِيَدِهِ:"غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ"، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْعَتَائِرُ، وَالْفَرَائِعُ؟ قَالَ:"مَنْ شَاءَ عَتَرَ، وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَعْتِرْ، وَمَنْ شَاءَ فَرَّعَ، وَمَنْ شَاءَ لَمْ يُفَرِّعْ، فِي الْغَنَمِ أُضْحِيَتُهَا" -وَقَبَضَ أَصَابِعَهُ، إِلاَّ وَاحِدَةً).
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(سُويد بن نصر): هو المروزيّ، الثقة، راوية ابن المبارك، ثقة [10] 45/ 55.
2 -
(عبد الله) بن المبارك الإمام الحجة الثبت [8] 32/ 36.
3 -
(يحيى بن زُرارة) بن عبد الكريم، -ولقبه كُريم بالتصغير- ابن الحارث بن عمرو الباهليّ، ثمّ السهْميّ، مقبول [7].
روى عن جدّه، وقيل: عن أبيه، عن جدّه فِي خطبة حجة الوداع والعتيرة. وعنه ابن المبارك، ومُعتمر بن سُليمان، وزيد بن الحباب، ونسبه إلى جدّه، وعفّان، وأبو الوليد الطيالسيّ، وأبو عاصم النبيل، وموسى بن إسماعيل. ذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ ابن القطّان: لا تُعرف حاله. روى له المصنّف حديث الباب فقط.
4 -
(أبوه) هو: زُرارة بن كُرَيم بن الحارث بن عمرو، ويقال: زُرارة بن عبد الكريم، السهميّ الباهليّ، له رؤية، روى عن جدّه الحارث بن عمرو، وله صحبة. وعنه ابنه يحيى، وعُتبة بن عبد الملك السهميّ، وسهل بن حُصين الباهليّ، ذكره ابن حبّان فِي ثقات التابعين، ووهم منْ زعم أن له صحبة. وَقَالَ أبو نعيم فِي "الصحابة ": رأى النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم فِي حجة الوداع. وذكره ابن منده، ولم يُخرج له شيئًا. وَقَالَ عبد الحقّ فِي "الأحكام": لا يُحتجّ بحديثه. قَالَ ابن القطّان: يعني أنه لا يُعرف. أنتهى. روى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، وأبو دواد، والمصنّف وله عنده حديث الباب فقط.
5 -
(جدّه) هو: الحارث بن عمرو بن الحارث السهميّ الباهليّ، أبو مَسْقَبة -بفتح الميم، وسكون السين المهملة، وفتح القاف، والموحدة- وصحفه بعضهم، فَقَالَ: أبو سفينة، صحابيّ، نزل البصرة. روى عن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم حديثًا فِي مواقيت الحجّ، والفرَع، والعتيرة، وغير ذلك. وعنه ابن ابنه زُرارة بن كُرَيم بن الحارث، وابنه عبد الله بن الحارث. وروى الطبرانيّ منْ طريق زُرارة، عن الحارث، قَالَ: وكان الحارث رجلًا جسيمًا، فمسح النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم وجهه، فما
زالت نَضْرة عَلَى وجه الحارث حَتَّى هلك. روى له البخاريّ، وأبو داود، والمصنّف، وله عنده حديث الباب فقط. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن يحيى بن زُرارة، أنه قَالَ: سمعت أبي) هو زُرارة بن كُريم (يذكر أنه سمع جدّه الْحَارِث بْنَ عَمْرو) بالنصب بدلًا منْ "جدّه"(يُحَدِّثُ أَنَّهُ لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْعَضْبَاءِ) جملة فِي محلّ نصب عَلَى الحال، و"العَضْباء": هي الناقة المشقوقة الأذن، قبل: لُقِّبت ناقة النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، بذلك؛ لنَجابتها، لا لأنها مشقوقة الأذن (فَأَتَيْتُهُ مِنْ أَحَدِ شِقَّيْهِ) بكسر الشين المعجمة: أي جانبيه (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي) متعلّق بمحذوف: أي أفديك بأبي وأمي، أو أنت مَفْديّ بأبي وأمي (اسْتَغْفِرْ لِي، فَقَالَ: "غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ) أي للحاضرين عنده جميعهم (ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ، أَرْجُو أَنْ يَخُصَّنِي دُونَهُمْ) أي يدعو لي خاصة، دون الحاضرين (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَغْفِرْ لِي، فَقَالَ بِيَدِهِ) أي أشار بيده إلى الجميع قائلًا (غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْعَتَائِرُ) جمع عتيرة، ككريمة وكَرائم، وهو مبتدأ (وَالْفَرَائِعُ) عطف عليه، والخبر محذوف: أي ما حكمهما؟ (قَالَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (مَنْ شَاءَ عَتَرَ) بفتح المهملة، والمثنّاء، مخفّفةً، منْ باب ضرب: أي ذبح عتيرته (وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَعْتِرْ) بكسر التاء (وَمَنْ شَاءَ فَرَّعَ) بتشديد الراء، منْ التفريع. أي ذبح الْفَرَع بفتحتين (وَمَنْ شَاءَ لَمْ يُفَرِّعْ) يُستدلّ به عَلَى عدم وجوب الْفَرَع والعتيرة، حيث خيّر النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم بين الفعل، والترك (فِي الْغَنَمِ أُضْحِيَتُهَا) بضمّ الهمزة، وكسرها، ويقال فيها: ضحيّةٌ، وأضحاة بوز أرطأة. يعني أن أصحاب الغنم عليهم أن يضحّوا منها، وفيه تأكيد شأن الأضحية، حيث فرّق صلى الله تعالى عليه وسلم بينها وبين الْفَرَع والعتيرة، فخيّر فيهما، بخلافها، فدلّ عَلَى أنها مؤكّدة، وهل هي واجبة، أم مستحَبّة أكيدة، فيه خلاف بين العلماء، سيأتي تحقيقه فِي محلّه، إن شاء الله تعالى (وقَبَضَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (أصَابِعَهُ، إِلَّا وَاحِدَةً) الظاهر أنه إشارة إلى أن الأضحية منْ الغنم شاة واحدة عن جميع أهل البيت. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث الحارث بن عمرو رضي الله تعالى عنه هَذَا ضعيف؛ لجهالة حال زُرارة، وأبيه، كما تقدّم عن ابن القطّان الفاسيّ رحمه الله تعالى، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -1/ 4228 و4229 - وفي
"الكبرى" 1/ 4552 و4553. وأخرجه (أحمد) فِي "مسند المكيين" 15542. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4229 -
(أَخْبَرَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زُرَارَةَ السَّهْمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّهِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو ح وَأَنْبَأَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ زُرَارَةَ السَّهْمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّهِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّهُ لَقِىَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأُمِّي، اسْتَغْفِرْ لِي، فَقَالَ:"غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ" وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْعَضْبَاءِ، ثُمَّ اسْتَدَرْتُ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ
…
وَسَاقَ الْحَدِيثَ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "هارون بن عبد الله": هو أبو موسى الْحَمّال البغداديّ الحافظ. و"عفّان": هو ابن مسلم الصفّار البصريّ الحافظ المثبت. و"هشام بن عبد الملك": هو أبو الوليد الطيالسيّ البصريّ الحافظ الثبت.
وقوله: "وساق الحديث": الظاهر أن الضمير لشيخه هارون بن عبد الله، ويحتمل أن يكون لعفّان، وهشام بن عبد الملك، بتقدير: ساق كلّ منهما الحديث كما ساقه عبد الله بن المبارك.
والحديث ضعيف، وَقَدْ سبق شرحه، وتخريجه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلتُ، وإليه أنيب".
…
قَالَ الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير، محمد ابن الشيخ عليّ بن آدم بن موسى الإتْيُوبيّ الولّويّ، نزيل مكة المكرّمة، عفا الله تعالى عنه وعن والديه ومشايخه آمين:
قد انتهيت منْ كتابة الجزء الثاني والثلاثين منْ شرح سنن الإمام الحافظ الحجة أبي عبد الرحمن النسائيّ رحمه الله تعالى، المسمّى "ذخيرة العُقْبَى فِي شرح المجتبى"، أو "غاية المنى فِي شرح المجتنى".
وذلك بحيّ الزهراء، مخطّط الأمير طلال، فِي مكة المكرمة زادها الله تعالى تشريفًا وتعظيمًا، وجعلني منْ خيار أهلها حيًّا وميتًا، وأعْظِمْ به تكريماً.
وآخر دعوانا {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} .
"اللهم صلّ عَلَى محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت عَلَى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك عَلَى محمد، وعلى آل محمد، كما باركت عَلَى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
"السلام عليك أيها النبيّ، ورحمة الله، وبركاته".
ويليه -إن شاء الله تعالى- الجزء الثالث والثلاثون مفتتحًا بالباب 2 - "تفسير العَتيرة" الحديث رقم 4230.
"سبحانك اللهمّ، وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".
***