المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

شرح سنن النسائي المسَمَّى ذخيرة العقبى في شرح المجتبى لجامعة الفقير إلى مولاه الغني - ذخيرة العقبى في شرح المجتبى - جـ ٣٣

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

شرح

سنن النسائي

المسَمَّى

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى

لجامعة الفقير إلى مولاه الغني القدير

محمد ابن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى الإتيوبي الوَلَّوِي

المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة

عفا الله عنه وعن والديه آمين

الجُزْءُ الثالث والثلاثون

ص: 1

جميع الحقوق محفوظة

الطبعة الأولى

1424 هـ - 2003 م

دَار آل بروم للنشر والتوزيع

المملكة العربية السعودية - مكة المكرمة - المكتب الرئيسي التنعيم

صَ بُ: 4145 - (تلفاكس 5211576 - جوال 055541026)

ص: 2

شرح

سنن النسائي

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 4

‌2 - (تَفْسِيرِ الْعَتِيرَةِ)

4230 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَمِيلٌ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ نُبَيْشَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: كُنَّا نَعْتِرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: "اذْبَحُوا لِلَّهِ عز وجل، فِي أَيِّ شَهْرٍ مَا كَانَ، وَبَرُّوا اللَّهَ عز وجل، وَأَطْعِمُوا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، غير جميل. و"ابنُ أبي عديّ": هو محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ. و"ابنُ عون": هو عبد الله بن عون بن أرطبان.

و"جَمِيل" غير منسوب، مقبول [6].

روى عن أبي الْمَلِيح، وعنه ابن عون. قَالَ ابن حبّان فِي "كتاب الثقات": لا أدري منْ هو؟، وابن منْ هو؟. تفرد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

و"أبو الْمَلِيح": هو ابن أُسامة بن عُمير، أو عامر بن حُنيف بن ناجية الْهُذَليّ، اسمه عامر، وقيل: زيد، وقيل: زياد، ثقة [3] 102/ 139 مات سنة (98) وقيل:(108) وقيل: بعد ذلك.

و"نُبيشة" -بمعجمة، مصغّرًا- ابن عبد الله بن عمرو بن عتّاب بن الحارث بن نُصير بن حُصين، وقيل: نسبه غير ذلك. الْهُذليّ، ويقال له: نُبيشة الخير، صحابيّ قليل الحديث.

روى عن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، وعنه أبو المليح الْهُذليّ، وأمّ عاصم جدّة أبي اليمان المعلّى بن راشد النّبّال. روى له الجماعة، سوى البخاريّ، له فِي مسلم حديثُ:"أيامُ التشريق أيامُ أكل وشُرب". وله عبد المصنّف رحمه الله تعالى هَذَا الحديث، وأعاده خمس مرّات فِي هَذَا الباب، وفي الباب التالي. والله تعالى أعلم.

وقوله: "فِي أيّ شهر ما كَانَ""ما" هذه زائدة للتأكيد. وقوله: "وبرُّوا الله عز وجل" بفتح الباء، وتشديد الراء: أي أطيعوه، وسيأتي تمام شرح هَذَا الحديث، والذي بعده فِي الحديث الثالث، وإنما أخّرته إليه؛ لكونه أتمّ منهما، فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4231 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ -وَهُوَ ابْنُ الْمُفَضَّلِ- عَنْ خَالِدٍ، وَرُبَّمَا قَالَ: عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، وَرُبَّمَا ذَكَرَ أَبَا قِلَابَةَ، عَنْ نُبَيْشَةَ، قَالَ: نَادَى رَجُلٌ، وَهُوَ بِمِنًى، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا نَعْتِرُ عَتِيرَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي رَجَبٍ، فَمَا تَأْمُرُنَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "اذْبَحُوا فِي أَيِّ شَهْرٍ مَا كَانَ، وَبَرُّوا اللَّهَ عز وجل، وَأَطْعِمُوا"، قَالَ: إِنَّا كُنَّا نُفْرِعُ فَرَعًا، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: "فِي كُلِّ سَائِمَةٍ فَرَعٌ، تَغْذُوهُ مَاشِيَتُكَ، حَتَّى إِذَا اسْتَحْمَلَ ذَبَحْتَهُ، وَتَصَدَّقْتَ بِلَحْمِهِ").

ص: 5

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمرو بن عليّ": هو الفلّاس. و"خالد": هو الحذّاء. وقوله: وربّما قَالَ: عن أبي المليح الخ" الضمير لخالد، أي ربّما قَالَ خالد فِي روايته: عن أبي المليح، عن نُبيشة، وربّما أدخل أبا قلابة واسطة بينهما، وذلك أنه أخذه عن أبي قلابة، عن أبي المليح، ثم لقي بعد ذلك أبا المليح، فحدثه، عن نبيشة، وسيأتي توضيح هَذَا فِي الباب التالي، حيث يقول: حدّثني أبو قلابة، عن أبي المليح، فلقيت أبا المليح، فسألته، فحدّثني عن نُبيشة الهذليّ الخ.

وقوله: حتّى إذا استحمل" بالحاء: أي قوي للحمل، وبالجيم: أي صار جملًا. وسيأتي تمام شرحه فِي الحديث التالي، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4232 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، وَأَحْسَبُنِي قَدْ سَمِعْتُهُ مِنَ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ نُبَيْشَةَ، رَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ، فَوْقَ ثَلَاثٍ، كَيْمَا تَسَعَكُمْ، فَقَدْ جَاءَ اللَّهُ عز وجل بِالْخَيْرِ، فَكُلُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَادَّخِرُوا، وَإِنَّ هَذِهِ الأَيَّامَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَذِكْرِ اللَّهِ عز وجل"، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّا كُنَّا نَعْتِرُ عَتِيرَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فِي رَجَبٍ، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: "اذْبَحُوا لِلَّهِ عز وجل، فِي أَيِّ شَهْرٍ مَا كَانَ، وَبَرُّوا اللَّهَ عز وجل، وَأَطْعِمُوا"، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا نُفَرِّعُ فَرَعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فِي كُلِّ سَائِمَةٍ مِنَ الْغَنَمِ فَرَعٌ، تَغْذُوهُ غَنَمُكَ، حَتَّى إِذَا اسْتَحْمَلَ ذَبَحْتَهُ، وَتَصَدَّقْتَ بِلَحْمِهِ عَلَى ابْنِ السَّبِيلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ خَيْرٌ").

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن) بن المِسْور بن مَخْرَمة: هو الزهريّ البصريّ، صدوق، منْ صغار [10].

2 -

(غندر) محمد بن جعفر البصريّ، ثقة، صحيح الكتاب [9] 21/ 22.

3 -

(خالد) بن يهران الحذاء البصريّ، ثقة يرسل [5] 7/ 634. وهو المذكور فِي السند الماضي.

4 -

(أبو قلابة) عبد الله بن زيد بن عمرو الجرميّ البصريّ، ثقة فاضل، كثير الإرسال [3] 103/ 322.

و"أبو المليح"، و"نُبيشة" تقدمت ترجمتهما قبل حديث. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه ثلاثة منْ التابعين يروي

ص: 6

بعضهم عن بعض: خالد عن أبي قلابة، عن أبي المليح، ورواية الآخرين منْ رواية الأقران، وهما ممن اشتهر بالكنية. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ خَالِدٍ) الحذاء (عَنْ أَبِي قِلَابَةَ) عبد الله بن زيد (عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ) عامر ابن أُسامة (وَأَحْسَبُنِي قَدْ سَمِعْتُهُ مِنَ أَبِى الْمَلِيحِ) هَذَا منْ كلام خالد، يعني أنه يظن أنه قد سمع هَذَا الحديث منْ أبي الْمَلِيح نفسه، وَقَدْ جزم فِي الباب التالي منْ رواية ابن عليّة عنه أنه سمع منه بعدما سمعه منْ أبي قلابة عنه، ولفظه:"حدّثني أبو قلابة، عن أبي المليح، فلقيت أبا المليح، فسألته، فحدّثني عن نُبيشة الهُذليّ الخ"(عَنْ نُبَيْشَةَ) بضم النون، مصغّرًا، هو نُبيشة الخير رضي الله تعالى عنه (رَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ) بجرّ "رجل" بدلاً عن "نبيشة"، ويجوز قطعه إلى الرفع، خبرًا لمحذوف: أي هو رجل الخ.

و"هُذيل" بضم الهاء، وفتح الذال المعجمة، مصغّرًا أبو قبيلة، وهو هُذيل بن مُدركة ابن إلياس بن مضر بن نِزَار بن معدّ بن عَدْنان (عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ:"إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الأَضَاحِي) أي عن ادّخار لحومها، و"الأضاحي" بفتح الهمزة، وتشديد الياء: جمع أُضحية بضمّ الهمزة، وكسرها. وأحاديث النهي عن أدخار لحومها كثيرة:

(فمنها): حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: "أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم نهى أن تؤكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث. متَّفقٌ عليه. (ومنها): حديث عليّ رضي الله تعالى عنه، قَالَ: "إن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قد نهانا أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث". متَّفقٌ عليه. (ومنها): حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، ثم قَالَ: كلوا، وتزوّدوا، وادّخروا". متّفق عليه. (ومنها): حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: قالت: دَفّت دافّة منْ أهل البادية، حَضرَةَ الأضحى، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كلوا، وادخروا ثلاثا"، فلما كَانَ بعد ذلك، قالوا: يا رسول الله، إن النَّاس كانوا ينتفعون منْ أضاحيهما، يَجْمِلُون منها الوَدَك، ويتخذون منها الأسْقِية، قَالَ:"وما ذاك؟ " قَالَ: الذي نهيت منْ إمساك لحوم الأضاحي، قَالَ:"إنما نهيت للدافة التي دفّت، كلوا، وادخروا، وتصدقوا". متّفق عليه. وستأتي بقية الأحاديث فِي "كتاب الضحايا"، إن شاء الله تعالى.

(فَوْقَ ثَلَاثٍ) أي فوق ثلاث ليال (كَيْمَا تَسَعَكُمْ) أي لأجل أن تشمل اللحوم الفقراء الذين لا يجدونها (فَقَدْ جَاءَ اللَّهُ عز وجل بِالْخَيْر) أي بالتوسيع عَلَى النَّاس، بحيث تيسّر لهم أن يضحّي كل واحد لنفسه (فَكُلُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَادَّخِرُوا) أي كلوا بعضه، وتصدّقوا ببعضه، وادّخروا بعضه (وَإِنَّ هَذِهِ الأَيَّامَ) أي أيام التشريق (أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ) أي فلا يُشرع

ص: 7

فيها الصوم، إلا لمن لم يصم الثلاثة الأيام فِي التمتّع؛ لصحة استثناء ذلك فِي حديث عائشة وابن عمر رضي الله تعالى عنهم (وَذِكْرِ اللَّهِ عز وجل") أي لأمر الله تعالى بذلك فِي قوله تعالى:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} الآية (فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّا كُنَّا نَعْتِرُ) تقدم أنه منْ باب ضرب (عَتِيرَةً فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فِى رَجَبٍ، فَمَا تَأْمُرُنَا؟) أي بأي شيء تأمرنا، هل نفعله، أو نتركه؟ (قَالَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (اذْبَحُوا لِلَّهِ عز وجل فِى أَىِّ شَهْرٍ مَا كَانَ) "ما" زائدة للتأكيد: أي اذبحوا إن شئتم، واجعلوا الذبح لله عز وجل، فِي أيّ وقت كَانَ، فِي رَجَب أو غيره، وفيه أن الأمر للندب، لا للوجوب (وَبَرُّوا اللَّهَ عز وجل وفي نسخة:"وبرّوا لله" باللام، وهو بفتح الباء الموحّدة، أي أطيعوه، يقال: بَرّ الرجلُ يبَرُّ بِرّا، وزان علم يعلم علمًا، فهو بَرٌّ بالفتح، وبارّ أيضًا: أي صادق، أو تقيّ، وهو خلاف الفاجر، وجمع الأول أبرار، وجمع الثاني بَرَرَةٌ، مثلُ كافر وكفَرة. وبررتُ والدي أبَرّه بِرًّا، وبُرُورًا: أحسنت الطاعة إليه، ورَفَقتُ به، وتحرّيت محابه، وتوَقّيتُ مكارهه. أفاده الفيّوميّ (وَأَطْعِمُوا) أي الفقراء، والمساكين مما تذبحونه (فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا نُفَرِّعُ) تقدّم أنه بضم أوّله منْ الإفراع، أو منْ التفريع (فَرَعًا) بفتحتين (فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فِى كُلِّ سَائِمَةٍ) السائمة: هي كلّ إبل تُرسَلُ تَرْعَى، ولا تُعلَف، جمعها سوائم، يقال: سامت الراعية، والماشية، والغنم تسُوم سَوْمًا: رَعَت حيث شاءت، فهي سائمة، وَأَسَمْتُها، وسوّمتُها: أخرجتها إلى الرَّعْي، قَالَ الله تعالى:{فِيهِ تُسِيمُونَ} . أفاده فِي "اللسان"(مِنَ الْغَنَمِ فَرَعٌ) وَقَدْ ذكر فِي رواية أبي داود عن أبي قلابة تفسير السائمة، ولفظه: قَالَ خالد -أي الحذّاء- قلت لأبُي قِلابَة: كم السائمة؟، قَالَ: مِائة. وأخرج أبو داود أيضًا بإسناد صَحِيح عَن عَائِشة رضي الله عنها قَالَتْ: أمرنا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم منْ كلّ خمسين شاةً شاةٌ. وأخرجه البيهقيّ بلفظ: "أَمَرَنَا رسُول الله صلى الله عليه وسلم بِالْفَرَعَةِ، منْ كُلّ خَمْسِينَ وَاحِدَة".

(تَغْذُوهُ) أي تعلفه (غَنَمُكَ) فاعل "تغذوه"، وذكر السنديّ ما معناه: أنه يحتمل أن يكون "تغذوه" للخطاب، و"غنَمَك" منصوب بتقدير "مثل غنمك، أو مع غنمك.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الاحتمال فيه تكلّف، لا داعي إليه. فتنبّه. والله تعالى أعلم.

(حَتَّى إِذَا اسْتَحْمَلَ) بِالْحَاءِ المُهملة: أي قَوِيَ عَلَى الْحَمْل، وَصَار بِحيثُ يُحْمَل عَلَيْهِ. قالهُ الخَطَّابِيُّ. وبِالجيمِ: أيْ صَار جَملا. قَالهُ السُّيُوطِيُّ.

وفي رواية لأبي داود: "حَتَّى إذا استحمل للحجيج". وذكر السيوطيّ، والسنديّ أنه فِي بعض النسخ بلفظ "استجمل" بالجيم: أي صار جملًا، والمراد أن يكون كبيرًا (ذَبَحْتَهُ، وَتَصَدَّقْتَ بِلَحْمِهِ عَلَى ابْنِ السَّبِيلِ) أي المسافر (فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ خَيْرٌ) أي تأخيره حَتَّى يكبر، ثم

ص: 8

ذبحه، والتصدّق بلحمه عَلَى المحتاجين، أفضل منْ ذبحه صغيرًا، لا يُنتفع بلحمه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث نُبَيشة الْهُذَليّ رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -2/ 4230 و4231 و4232 و4233 و4234 و4235 - وفي "الكبرى" 2/ 4554 و4555 و4556 و4557 و4558. وأخرجه (د) فِي "الضحايا" 2830 (ق) فِي "الذبائح" 3167 (أحمد) فِي "أولى مسند البصريين" 20198 و20202 (الدارمي) فِي "الأضاحي" 1958. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان تفسير العتيرة بأنها الشاة التي تُذبح فِي شهر رَجَب. (ومنها): جواز ادّخار لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام، وسيأتي تمام البحث فيه فِي محلّه، إن شاء الله تعالى. (ومنها): بيان أن أيام التشريق أيام أكل، وشرب، وذكر لله عز وجل، فلا تصام كالعيد، وَقَدْ تقدم فِي "كتاب الحجّ" أن الأرجح جواز صومها لمن فاتته الأيام الثلاثة فِي صوم التمتّع؛ لورود النصّ بذلك. (ومنها): مشروعيّة العتيرة، والفرع بشرط أن يكون الذبح لله، وعدم تخصيص رَجَب، ولا غيره. (ومنها): أن الأولى لمن يعتر، أو يُفرعُ أن لا يذبح الصغير، بل ينتظر حَتَّى يكبر، فيطيب لحمه، فيذبحه، ويتصدّق به. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

‌3 - (تَفْسِيرِ الْفَرَعِ)

4233 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو الأَشْعَثِ، أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -وَهُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ- قَالَ: أَنْبَأَنَا خَالِدٌ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ نُبَيْشَةَ، قَالَ: نَادَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنَّا كُنَّا نَعْتِرُ عَتِيرَةً -يَعْنِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ- فِي رَجَبٍ، فَمَا تَأْمُرُنَا، قَالَ: "اذْبَحُوهَا فِي أَيِّ شَهْرٍ كَانَ، وَبَرُّوا اللَّهَ

(1)

عز وجل وَأَطْعِمُوا"، قَالَ: إِنَّا كُنَّا نُفْرِعُ فَرَعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ: "فِي كُلِّ سَائِمَةٍ فَرَعٌ، حَتَّى إِذَا اسْتَحْمَلَ

(2)

ذَبَحْتَهُ، وَتَصَدَّقْتَ بِلَحْمِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ خُيْرٌ").

(1)

وفي نسخة: "وبرُّوا لله".

(2)

وفي نسخة: "استجمل" بالجيم بدل الحاء المهملة: أي صار جَمَلاً.

ص: 9

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

و"أحمد بن الْمِقْدام، أبو الأشعث": هو العجليّ البصريّ، صدوقٌ [10]. و"خالد": هو الحذَّاءُ المذكور فِي السند الماضي.

والحديث صحيحٌ، وَقَدْ تقدّم البحث عنه مستوفًى فِي الحديث الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4234 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، فَلَقِيتُ أَبَا الْمَلِيحِ، فَسَأَلْتُهُ، فَحَدَّثَنِي عَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا نَعْتِرُ عَتِيرَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: "اذْبَحُوا لِلَّهِ عز وجل، فِي أَيِّ شَهْرٍ مَا كَانَ، وَبَرُّوا اللَّهَ

(1)

عز وجل، وَأَطْعِمُوا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

وشيخ المصنّف هو الدَّوْرقيّ، أحد مشايخ الأئمة الستّة الذين رووا عنهم بلا واسطة، كما سبق غير مرّة.

والحديث صحيح، وَقَدْ سبق القول فيه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4235 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ وَكِيعِ بْنِ عُدُسٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي رَزِينٍ، لَقِيطِ بْنِ عَامِرٍ الْعُقَيْلِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا نَذْبَحُ ذَبَائِحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فِي رَجَبٍ، فَنَأْكُلُ، وَنُطْعِمُ مَنْ جَاءَنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا بَأْسَ بِهِ"، قَالَ وَكِيعُ بْنُ عُدُسٍ: فَلَا أَدَعُهُ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمرو بن عليّ": هو الفلّاس. و"عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. و"أبو عوانة": هو الوضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ. و"يعلى بن عطاء": هو العامريّ، ويقال: الليثيّ الطائفيّ، ثقة [4] 40/ 584.

و"وكيع بن عُدُس" -بمهملات، وضمّ أوله وثانيه، وَقَدْ يُفتح ثانيه، ويقال: حُدُس - بالحاء بدل العين- أبو مُصعب الْعَقِيليّ -بضمّ العين- كما ضبطه الخزرجيّ فِي "خلاصته"، وضبطه فِي "التقريب" بفتح العين، والظاهر أنه غلط، الطائفيّ، مقبول [4].

روى عن عمّه أبي رزين الْعُقيليّ. وعنه يعلي بن عطاء. ذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ ابن قُتيبة فِي "اختلاف الحديث": غير معروف. وَقَالَ ابن القطّان:

(1)

وفي نسخة: "وبَرُّوا لله".

ص: 10

مجهول الحال. روى له الأربعة، وله عبد المصنّف هَذَا الحديث فقط.

و"أبو رَزين، لقيط بن عامر الْعُقيليّ": هو لقيط بن عامر بن صَبِرة بن عبد الله بن المنتفق، كما قَالَ ابن معين، وأحمد، والبخاريّ، وابن حبّان، وابن السكن، وابن عبد البرّ، وعبد الغنيّ بن سعيد، وقيل: إنه غيره، صحابيّ وَقَدْ عَلَى النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، تقدّمت ترجمته فِي 71/ 87.

وقوله: "ونُطعم" بضمّ أوله، منْ الإطعام: أي نُطعم غيرنا، منْ الأصدقاء، والمحتاجين.

وحديث أبي رَزين العُقيليّ رضي الله تعالى عنه هَذَا فِي إسناده وكيع بن عُدُس، وهو مجهول العين لم يرو عنه غير يعلي بن عطاء، لكنه صحيح بالشواهد السابقة.

وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، لم يُخرجه منْ أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (أحمد) فِي "أول مسند المدنيين"(الدارمي) فِي "الأضاحي"1965. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلتُ، وإليه أنيب".

‌4 - (جُلُودِ الْمَيْتَةِ)

4236 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، مَرَّ عَلَى شَاةٍ مَيِّتَةٍ، مُلْقَاةٍ، فَقَالَ: "لِمَنْ هَذِهِ؟ "، فَقَالُوا: لِمَيْمُونَةَ، فَقَالَ: "مَا عَلَيْهَا لَوِ انْتَفَعَتْ بِإِهَابِهَا"، قَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ، فَقَالَ: "إِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ عز وجل أَكْلَهَا").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ البغلاني، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(سفيان) بن عيينة المكيّ الإمام الحجة الثبت [8] 1/ 1.

3 -

(الزهريّ) محمد بن مسلم الإمام الحجة المثبت الحافظ المدنيّ [4] 1/ 1.

4 -

(عبيد الله بن عبد الله) بن عتبة بن مسعود المدنيّ الفقيه الثقة المثبت [3] 45/ 56.

5 -

(ابن عباس) عبد الله الحبر البحر رضي الله تعالى عنهما 27/ 31.

6 -

(ميمونة) بنت الحارث الهلالية أم المؤمنين خالة ابن عباس رضي الله تعالى عنهم تقدمت ترجمتها فِي 146/ 236. والله تعالى أعلم.

ص: 11

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله. (ومنها): أن فيه، رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وصحابي، عن صحابيّة، وفيه عبيد الله أحد الفقهاء السبعة، المشهورين بالمدينة المجموعين فِي قول بعضهم:

إِذَا قِيلَ مَنْ فِي الْعِلْمِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ

مَقَالَتُهُمْ لَيْسَتْ عَنِ الْحَقّ خَارِجَهْ

فَقُلْ هُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ عُرْوَةُ قَاسِمٌ

سَعِيدٌ أبُو بَكْرِ سُلَيْمَانُ خَارِجَهْ

وفيه ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما حبر الأمة وبحرها، وهو أحد المكثرين السبعة، روى (1696) منْ الأحاديث، والمكثرون هم المجموعون فِي قولي:

الْمُكْثرُونَ فِي رِوايَةِ الْخَبَرْ

مِنَ الصَّحَابةِ الأكارَم الْغُرَرْ

أبُو هُرَيْرَةَ يِلِيهِ ابن عُمَرْ

فَأَنَسٌ فَزَوْجَةُ الْهَادِي الأَبَر

ثمّ ابْنُ عبَّاسِ يَلِيهِ جَابِرُ

وَبَعْرَهُ الْخُدْرِيُّ فَهْوَ آخِرُ

وهو أحد العبادلة الأربعة، المجموعين فِي قول السّيوطيّ فِي "ألفية الحديث":

والْبَحْرُ وابْنَا عُمَرِ وَعَمْرِو

وَابْنُ الزُّبَيْرِ فِي اشْتِهَار يَجْرِي

دُونَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَهُمْ عَبَادِلَهْ

وَغَلَّطُوا مَنْ غَيْرَ هَذَا مَالَ لَهْ

وَقَدْ تقدّم كل هَذَا، وإنما أعدته تذكيرًا؛ لطول العهد به. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما (عَنْ مَيْمُونَةَ) رضي الله تعالى عنها، هكذا عبد المصنّف، وكذا عبد مسلم، فِي هذه الرواية، والرواية الآتية بعد حديثين منْ طريق عمرو بن دينار، عن عطاء أن ابن عبّاس أخذه عن ميمونة، بل صرّح فِي رواية عطاء بأن ميمونة رضي الله تعالى عنها أخبرته، لكن بقيّة الروايات الآتية بعدها أنه منْ مسند ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، وهو الذي أخرجه البخاريّ، قَالَ فِي "الفتح" عبد شرح قوله:"مرّ بشاة": ما نصّه: كذا للأكثر عن الزهريّ، وزاد بعض الرواة عن الزهريّ "عن ابن عبّاس، عن ميمونة"، أخرجه مسلم، وغيره، منْ رواية ابن عيينة، والراجح عبد الحفّاظ فِي حديث الزهريّ ليس فيه ميمونة، نعم أخرجه مسلم، والنسائيّ منْ طريق ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس: أن ميمونة أخبرته. انتهى

(1)

.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: يحتمل أن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما شهد

(1)

"فتح" 11/ 93. "كتاب الذبائح والصيد". رقم 5532.

ص: 12

القضيّة بنفسه، لكن أخبرته بتفاصيلها خالته ميمونة رضي الله تعالى عنها، حيث إن تلك الشاة كانت لمولاتها، فكان يُحدّث تارة بهذا، وتارة بهذا، ولا مانع منْ ذلك، بل مثل هَذَا كثير فِي أحاديث الحفّاظ، والله تعالى أعلم.

(أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى شَاةٍ مَيِّتَةٍ) بتخفيف الياء، ويجوز تشديدها، قَالَ الفيّوميّ: الْمَيْتَةُ منْ الحيوان ما مات حَتْفَ أَنْفِهِ، والجمع مَيْتَات، وأصلها مَيِّتَةٌ بالتشديد، قيل: والتُزم التشديد فِي ميّتة الأناسيّ؛ لأنه الأصل، والتُزِم التخفيف فِي غير الأنَاسيّ؛ فرقًا بينهما، ولأن استعمال هذه أكثر منْ الأدميّات، فكانت أولى بالتخفيف. انتهى (مُلْقَاةٍ) بضم الميم اسم مفعول أُلقِي: أي مرمية (فَقَالَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (لِمَنْ هَذِهِ؟ " فَقَالُوا) قَالَ الحافظ: لم أقف عَلَى تعيين القائل (لِمَيْمُونَةَ) أي لمولاتها؛ وإنما أضافوها إليها؛ لكونها تخدمها، وتلزمها. وفي الرواية الآتية منْ طريق حفص بن الوليد، عن الزهريّ: "أبصر رسول صلّى الله تعالى عليه وسلم شاةً ميتةً لمولاة لميمونة، وكانت منْ الصدقة

" (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَا عَلَيْهَا) أي ليس عليها بأس (لَوِ انْتَفَعَتْ بِإِهَابِهَا) بكسر الهمزة، قَالَ أبو داود فِي "سننه": قَالَ النضر بن شُميل: إنما يُسمّى إهابًا ما لم يُدبغ، فإذا دُبغ لا يُقال له: إهابٌ، إنما يُسمّى شنّا، وقِرْبَة. انتهى. وَقَالَ فِي "الصحاح": والإهاب: الجلد ما لم يُدبغ. انتهى. وَقَالَ فِي "النهاية": هو الجلد. وقيل: إنما يقال للجلد إهابٌ قبل الدبغ، فأما بعده فلا. انتهى. وَقَالَ فِي "القاموس": الإهاب، ككتاب: الجلد، أو ما لم يُدبغ، جمعه آهِبةٌ، وأُهُبٌ، وأَهَبٌ. انتهى. وَقَالَ الفيّوميّ: الإهاب: الجلدُ قبل أن يُدبغ، وبعضهم يقول: الإهاب الجلد، وهذا الإطلاق محمولٌ عَلَى ما قَيَّدهُ الأكثرُ، فإن قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: "أيُّما إهاب دُبغ" يدلّ عليه، والجمعُ أُهُبٌ بضمّتين عَلَى القياس، مثلُ كتاب وكُتُب، وبفتحتين عَلَى غير قياس، قَالَ: بعضهم: وليس فِي كلام العرب فِعَالٌ يُجمع عَلَى فعلِ -بفتحتين- إلاّ إهابٌ، وأَهَبٌ، وعِمَاد وعَمَدٌ، ورُبّما استُعير الإهابُ لجلد الإنسان. انتهى (قَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ) أي فهي محرَّمة، ظنًّا منهم أن التحريم يشمل جلدها كلحمها (فَقَالَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم ردًّا عَلَى ظنهم (إِنَّمَا حَرَّمَ) بتشديد الراء، منْ التحريم (اللَّهُ عز وجل أَكْلَهَا) قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: خرج عَلَى الغالب مما تُراد اللحوم له، وإلا فقد حرم حملُها فِي الصلاة، وبيعها، واستعمالها، وغير ذلك مما يحرم منْ النجاسات. انتهى

(1)

. وَقَالَ السنديّ: ظاهره أن ما عدا المأكول منْ أجزاء الميتة غير محرّم الانتفاع به، كالشعر، والسنّ، والقرن، ونحوها، قالوا: لا حياة فيها، فلا ينجس بموت الحيوان. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"المفهم" 1/ 610 "كتاب الطهارة".

ص: 13

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ميمونة رضي الله تعالى عنها هَذَا متّفقٌ عليه منْ مسند ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، وأخرجه مسلم منْ حديث ابن عبّاس عن ميمونة رضي الله تعالى عنهم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -4/ 4236 و4237 و4238 و4239 و4240 - وفي "الكبرى" 4/ 4560 و4561 و4562 و4563 و4564 و4565. وأخرجه (خ) منْ مسند ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما فِي "الزكاة" 1492 و"البيوع" 322 و"الذبائح" 5531 و5532 (م) فِي "الحيض" 542 و543 (د) فِي "اللباس" 4120 و4126 (ق) فِي "اللباس" 2610 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 26255 و26312. وأخرجه منْ مسند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فِي "مسند بني هاشم" 2004 و2365 و3009 و3039 و3442 و3451 و3511 (الموطأ) فِي "الصيد" 1078 (الدارمي) فِي "الأضاحي"1988. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم جلود الميتة، وهو جواز الانتفاع بها، لكن بشرط أن تدبغ، كما قيّدته بقية الأحاديث الآتية، إن شاء الله تعالى. (ومنها): ما قاله ابن أبي جمرة رحمه الله تعالى: فيه مراجعة الإمام فيما لا يفهم السامع معنى ما أمره، كأنهم قالوا: كيف تأمرنا بالانتفاع بها، وَقَدْ حُرّمت علينا؟ فبين لهم وجه التحريم. (ومنها): أنه يؤخذ منه جواز تخصيص الكتاب بالسنّة؛ لأن لفظ القرآن: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} ، وهو شاملٌ لجميع أجزائها فِي كلّ حال، فخَصّت السنة ذلك بالأكل. (ومنها): أن فيه حسن مراجعتهم، وبلاغتهم فِي الخطاب؛ لأنهم جمعوا معاني كثيرة فِي كلمة واحدة، وهي قولهم:"إنها ميتة". (ومنها): أنه استَدلّ به الزهريّ عَلَى جواز الانتفاع بجلد الميتة مطلقًا، سوء دُبغ، أو لم يُدبغ، لكن يردّ عليه أنه صحّ التقييد منْ طرق أخرى بالدباغ، وهي حجة الجمهور. (ومنها): أنه استُدلّ به عَلَى جواز دفع الزكاة لموالي أزواج النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، وَقَدْ ترجم له الإمام البخاريّ فِي "صحيحه" بقوله:"باب الصدقة عَلَى موالي أزواج النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم"، ثم أورد حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هَذَا، وَقَدْ تقدّم تمام البحث فِي هَذَا فِي "كتاب الزكاة". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم الانتفاع بجلود الميتة:

قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: اختلف العُلماء فِي دِباغ جُلُود الميتة، وطهارتها بِالدِّباغِ، عَلَى سبعة مذاهِب:

ص: 14

(أحدها): مذهب الشَّافِعِيّ أنَّهُ يطهُر بالدِّباغ، جميع جُلُود الْمَيتة، إِلَّا الكلب والخِنزِير، والمُتولِّد مِن أحدهما وغَيْره، وَيَطهُر بِالدِّباغ ظاهِر الْجِلْد وباطِنه، وَيَجُوز استِعماله فِي الأشياء المائِعة واليابسة، ولا فَرْق بين مأكُول اللَّحْم وغيره. ورُوِي هَذَا الْمَذْهب عن علِيّ بن أبِي طالِب، وعبد الله بن مسعُود رضي الله عنهما.

(والْمَذْهَب الثَّانِي): لا يَطْهُر شَيْء منْ الجُلُود بِالدِّباغ، ورُوِي هَذَا عن عُمر بن الخطَّاب، وابنه عبْد الله، وعائِشة رضي الله عنهم، وهُوَ أشْهَر الرِّوايتينِ عن أحْمَد، وإِحْدى الرِّوايتينِ عن مالِك.

(والمذهب الثَّالِث): يطهُر بِالدِّباَغِ جِلد مَأْكُول اللَّحْم، ولا يطهُر غيره، وهُو مذهب الأوزاعِيِّ، وابن المُبَارَك، وأبِي ثَوْر، وإسحاق بن رَاهْوَيَهِ.

(والْمَذْهَب الرَّابع): يطهُر جُلُود جمِيع الْمَيْتات، إِلَّا الْخِنْزِير، وهُوَ مَذْهَب أبِي حَنيفة. (والْمَذْهَب الْخَامِس): يطهُر الجمِيع، إِلَّا أَنَّهُ يَطْهُر ظاهِره، دُون باطِنه، ويُسْتَعْمَل فِي الْيَابسات، دُون المائِعات، ويُصلَّى عَلَيْهِ، لا فِيهِ، وهذا مَذْهَب مالِك الْمَشْهُور فِي حِكاية أصْحَابه عَنهُ.

(والْمَذْهَب السَّادِس): يَطْهُر الْجَمِيع، والْكَلْب، وَالْخِنْزْير، ظَاهِرًا وبَاطِنًا، وهُو مَذْهب دَاوُد، وأهْل الظَّاهِر، وحُكِيَ عَن أبِي يُوسُف.

(والْمَذْهَب السَّابع): أَنَّهُ يُنتفع بِجُلُودِ الْمَيْتة، وإِنْ لَمْ تُدْبَغ، وَيَجُوز اسْتِعْمَالها فِي المائِعات واليابِسات، وهُو مَذْهَب الزُّهرِيّ، وهُو وجْه شَاذّ لِبعْضِ أصْحَابنا، لا تَفْرِيع عَلَيْهِ، ولا الْتِفَات إِليهِ.

واحْتَجَّتْ كُلّ طائِفة منْ أصحاب هذهِ المذاهِب، بِأَحَادِيث وغيرها، وأجَابَ بعْضهمْ عن دلِيل بَعْض، وَقَدْ أوْضَحْت دَلائِلهمْ فِي أوْراق منْ "شَرْحِ المُهذَّب"، والغَرَض هُنَا بيان الأحْكَام والِاسْتِنباط منْ الْحَدِيث، وفِي حَدِيث ابْن وَعْلة، عَنْ ابْن عَبَّاس، دَلالَة لِمذْهَب الأكْثرِين، أنَّهُ يطهُر ظَاهِرَه وَبَاطِنه، فيجُوز اسْتِعمالَه فِي المَائِعَات، فَإِنَّ جُلُود ما ذَكَّاهُ المَجُوس نَجِسَة، وَقَدْ نُصَّ عَلَى طَهَارتهَا بِالدِّبَاغِ، واستِعمالها فِي الْمَاء والوَدَك، وَقَدْ يَحْتَجّ الزُّهريّ بِقوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"أَلا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابهَا"، وَلَمْ يَذكُر دِبَاغَهَا، وَيُجَاب عَنْهُ بِأنَّهُ مُطْلق، وَجَاءَتْ الرِّوَايات البَاقِية بِبيانِ الدِّباغ، وأنَّ دِباغه طهُوره. والله أعْلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى فِي "شرح مسلم"

(1)

.

وَقَالَ فِي "الفتح": واسْتَدَلَّ بِهِ الزُّهريُّ عَلَى جَوازِ الِانْتِفَاع بِجِلْدِ المَيْتة مُطْلقًا، سَوَاء

(1)

"شرح مسلم" 4/ 54.

ص: 15

أدُبغَ، أمْ لَمْ يُدْبَغ، لَكِنْ صَحَّ التَّقْييد مِنْ طُرُق أُخْرَى بِالدِّباَغِ، وهِي حُجَّة الْجُمْهُور.

واسْتَثْنى الشَّافِعِيّ منْ الْمَيْتات، الْكَلْب وَالْخِنْزْير، وما تولَّد مِنهُما؛ لِنَجَاسةِ عَيْنهَا عِنْده، ولم يستثنِ أبُو يُوسُف وداوُد شيئًا، أخذًا بِعُمُومِ الخبر، وهِي رِواية عن مالِك. وَقَدْ أخرج مُسْلِم منْ حدِيث ابْن عبَّاس، رقعه:"إِذَا دُبغَ الإهَاب، فَقَدْ طَهُر"، ولفظ الشَّافِعِيّ، والتِّرمِذِيّ وغيرهما، منْ هَذَا الوجه:"أيَّمَا إِهَاب دُبغَ فَقَدْ طَهُر"

(1)

. وأخرج مُسْلِم إِسْنَادهَا، ولم يَسُقْ لفظها، فَأخْرَجَهُ أبُو نُعَيْم، فِي "الْمُسْتَخْرَج"، منْ هَذَا الوجه، بِاللَّفظِ المذْكُور، وفِي لَفْظ مُسْلِم منْ هَذَا الوجه، عن ابْن عَبَّاس:"سألنا رسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن ذَلِكَ؟، فَقَالَ: "دِبَاغه طَهُوره"، وفِي رِواية لِلبزَّارِ منْ وَجْه آخَر، قَالَ: "دِبَاغ الأدِيم طَهُوره".

وَجَزَمَ الرَّافِعِيّ، وبعض أهْل الأُصُول، أنَّ هَذَا اللَّفْظ ورد فِي شَاة مَيْمُونَة.

قَالَ الحافظ: وَلَكِنْ لَمْ أقِف عَلَى ذَلِكَ صَرِيحًا، مع قُوَّة الاحْتِمَال فِيهِ؛ لِكَوْنِ الْجَمِيع منْ رِواية ابْن عبَّاس.

وَقَدْ تَمَسَّك بَعْضهمْ بِخُصُوصِ هَذَا السَّبَب، فقصر الجَوَاز عَلَى المَأكُول؛ لِوُرُودِ الخَبَر فِي الشَّاة، ويتقوَّى ذَلِكَ منْ حيثُ النَّظر، بِأنَّ الدِّباغ لا يزِيد فِي التَّطْهِير عَلَى الذَّكَاة، وغَيْر المَأكُول لو ذُكِّيَ لَمْ يَطْهُر بِالذَّكاةِ عِند الأكْثَر، فَكَذلِك الدِّباَغ.

وأجاب منْ عَمَّمَ بِالتَّمَسُّكِ بِعُمُومِ اللَّفْظ، فهُو أَوْلَى مِن خُصُوص السَّبَب، وَبِعُمُومِ الإذْن بِالْمَنْفَعةِ، ولِأنَّ الْحَيَوان طَاهِر، يُنْتَفَع بِهِ قبل الْمَوْت، فَكَانَ الدِّبَاغ بَعْد الْمَوْت قائِمًا لهُ مَقَام الْحَيَاة. والله أعْلم.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بالعموم هو الأرجح عندي؛ لظهور دليله. والله تعالى أعلم.

وَذَهَبَ قَوْم إِلَى أنَّهُ لا يُنتفع منْ الميتة بِشَيْءٍ، سواء دُبغَ الْجِلْد، أمْ لَمْ يُدبغ، وتمسَّكُوا بِحدِيثِ عبد الله بْن عُكَيْم، قَالَ: أتَانَا كِتاب رسُول الله صلى الله عليه وسلم قَبْل مَوته: "أَنْ لا تَنْتفِعُوا منْ الْمَيْتة بِإِهَابٍ، ولا عَصَب"

(2)

. أخْرَجَهُ الشَّافِعِيّ، وأحْمَد، والأرْبَعَة، وَصَحَّحَهُ ابْن حِبَّان، وَحَسَّنَهُ التِّرمِذِيّ، وفِي رِواية لِلشَّافِعِيِّ، ولِأحْمَد، ولِأبِي دَاوُد:"قَبْل موْته بِشَهْر"، قَالَ التِّرمِذِيّ: كَانَ أحْمَد يَذْهب إِلَيْهِ، ويقُول: هَذَا آخِر الْأَمْر، ثُمَّ تركهُ لَمَّا اضْطَرَبُوا فِي إِسْنَاده، وكَذَا قَالَ الخَلال نَحْوه. وَرَدَّ ابنُ حِبَّان عَلَى منْ ادَّعَى فِيهِ الاضْطِرَاب، وَقَالَ: سَمِعَ ابنُ عُكَيْم الكِتَاب يُقْرَأ، وسَمِعَهُ منْ مَشَايخَ منْ جُهَيْنة، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَلا اضْطِرَاب.

(1)

هو الآتي للمصنّف رحمه الله تعالى فِي هَذَا الباب برقم 4242.

(2)

هو الآتي للمصنّف رحمه الله تعالى فِي الباب التالي برقم 4250 إن شاء الله تعالى.

ص: 16

وأعَلَّهُ بعْضهمْ بِالانْقِطَاع، وهُو مَرْدُود، وبعْضهمْ بِكَوْنِهِ كِتابًا، وَلَيْسَ بِعِلَّةٍ قَادِحَة، وَبَعْضهمْ بِأنَّ ابن أبِي لَيْلَى، راوِيه عن ابْن عُكَيْم، لَمْ يَسْمَعهُ مِنْهُ؛ لِما وَقَع عِنْد أبِي دَاوُد عنهُ، أنَّهُ "انْطَلق وَنَاس مَعَهُ إِلى عَبْد الله بْن عُكَيْم، قَالَ: فَدَخَلُوا، وَقَعَدت عَلَى البَاب، فَخَرَجُوا إِلَيَّ، فَأخْبَرُونِي".

فهذا يقتضِي أنَّ فِي السَّند منْ لم يُسَمَّ، ولكِنْ صَحَّ تَصْرِيح عبد الرَّحمن بن أبِي لَيْلَى بِسَمَاعِهِ مِن ابْن عُكَيْم، فلا أثر لِهذِهِ العِلَّة أيضًا.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي ذكره الحافظ منْ أن الذي قعد عَلَى الباب هو ابن أبي ليلى، غير صحيح، فإن القصّة للحكم بن عتيبة، لا لابن أبي ليلى، كما هو فِي "سنن أبي داود"، فالصواب أن القصّة للحكم، لا لابن أبي ليلى. فتنبّه. والله تعالى أعلم.

قَالَ: وَأقْوى ما تَمَسَّك بِهِ منْ لم يأْخُذ بِظَاهِرِهِ، مُعارَضَة الأحَادِيث الصَّحِيحة لهُ، وأنَّها عن سَماَع، وهَذا عن كِتَابَة، وأنَّها أصَحّ مخَارِج، وأقْوى مِنْ ذَلِكَ الْجَمْعُ بين الْحَدِيثَيْنِ، بِحَمْلِ الإهَاب عَلَى الْجِلْد، قَبْل الدِّباغ، وأنَّهُ بَعْد الدِّباغ لا يُسَمَّى إِهَابًا، إِنَّمَا يُسَمَّى قِرْبَة، وَغَيْر ذَلِكَ، وَقَدْ نُقِل ذَلِكَ عَنْ أئِمَّة اللُّغَة، كَالنَّضْرِ بْن شُمَيْلٍ، وَهَذِهِ طَرِيقة ابْن شَاهِين، وِابْن عَبْد البرّ، والبيهقِيّ.

وَأَبْعَدَ منْ جمع بينهما بِحملِ النَّهْي عَلَى جِلد الْكَلْب وَالْخِنْزْير؛ لِكَوْنهِما لا يُدْبَغَانِ، وكَذا منْ حَمَلَ النَّهْي عَلَى باطِن الْجِلْد، والإذْن عَلَى ظَاهِره. وَحَكى المَاوَرْدِيّ عَنْ بَعْضهمْ أنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا مَاتَ، كَانَ لِعَبْدِ الله بْن عُكَيْم سَنَة. وهُوَ كَلام بَاطِل، فإِنَّهُ كَانَ رجُلاً. انتهى ما فِي "الفتح"

(1)

.

وَقَدْ ذكر العلامة الشوكانيّ رحمه الله تعالى ما احتجّ به أصحاب المذاهب المتقدّمة، بما لها، وما عليها، ودونك خلاصته:

قَالَ: احتجّ الشافعيّ عَلَى استثناء الخنزير بقوله تعالى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} ، وجعل الضمير عائدًا إلى المضاف إليه، وقاس الكلب عليه بجامع النجاسة، قَالَ: لأنه لا جلد له.

وتُعُقّب بأنه لا يتمّ هَذَا الاحتجاج إلا بعد تسليم أن الضمير يعود إلى المضاف إليه دون المضاف، وهو محلّ نزاع، ولا أقلّ منْ الاحتمال، إن لم يكن رجوعه إلى المضاف راجحًا، والمحتمل لا يكون حجةً عَلَى الخصم. وأيضًا لا يمتنع أن يقال:

(1)

"فتح" 11/ 93 - 94.

ص: 17

رجسيّة الخنزير عَلَى تسليم شمولها لجميعه، لحمًا، وشعرًا، وجلدًا، وعظمًا مخصّصةٌ بأحاديث الدباغ.

قَالَ: واستدلّ منْ قَالَ: لا يطهر شيء منْ الجلود بالدباغ، وهو أشهر الروايتين عن أحمد، وإحدى الروايتين عن مالك، كما سبق بحديث عبد الله بن عُكيم الآتي بلفظ:"لا تنتفعوا منْ الميتة بإهاب، ولا عصب"، وكان ذلك قبل موته صلّى الله تعالى عليه وسلم بشهر، فكان ناسخًا لسائر الأحاديث.

وأُجيب بأنه قد أُعلّ بالاضطراب، والإرسال، فلا ينتهض لنسخ الأحاديث الصحيحة. وأيضًا التاريخ بشهر، أو شهرين، مُعَلّ؛ لأنه منْ رواية خالد الحذّاء، وَقَدْ خالفه شعبة، وهو أحفظ منه، وشيخهما واحد، ومع إعلال التاريخ يكون معارضًا بالأحاديث "الصحيحة" وهي أرجح منه بكلّ حال، فإنه قد روي فِي ذلك -يعني تطهير الدباغ للأديم- خمسة عشر حديثًا: عن ابن عبّاس حديثان، وعن أم سلمة ثلاثة، وعن أنس حديثان، وعن سلمة بن المحبّق، وعائشة، والمغيرة، وأبي أُمامة، وابن مسعود، وشيبان، وثابت، وجابر، وأثران عن سودة، وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم. عَلَى أنه لا حاجة إلى الترجيح بهذا؛ لأن حديث ابن عُكيم عامّ، وأحاديث التطهير خاصّة، فيُبنى العامّ عَلَى الخاصّ، أما عَلَى مذهب منْ يبني العامّ عَلَى الخاصّ مطلقًا، كما هو قول المحقّقين منْ أئمّة الأصول، فظاهر. وأما عَلَى مذهب منْ يجعل العامّ المتأخّر ناسخًا، فمع كونه مذهبًا مرجوحًا، لا نُسلّم تأخّر العامّ هنا؛ لما ثبت فِي "أصول الأحكام، والتجريد" منْ كتب أهل البيت أن عليّا رضي الله تعالى عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: "لا تنتفع منْ الميتة بإهاب، ولا عصب"، فلما كَانَ منْ الغد خرجت، فإذا نحَن بسخلة مطروحة عَلَى الطريق، فَقَالَ:"ما كَانَ عَلَى أهل هذه لو انتفعوا بإهابها"، فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أين قولك بالأمس؟، فَقَالَ:"يُنتفع منها بالشيء".

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا ذكر الشوكاني الحديث، ولم يذكر درجته، ولا أورده بسنده، حَتَّى يُنظر فيه، فليُحقق. والله تعالى أعلم.

قَالَ: ولو سلّمنا تأخّر حديث ابن عُكيم لكان ما أسلفنا عن النضر بن شُميل، منْ تفسير الإهاب بالجلد الذي لم يُدبغ، وما صَرَّح به صاحب "الصحاح"، ورواه صاحب "القاموس" موجبًا لعدم التعارض؛ إذ لا نزاع فِي نجاسة إهاب الميتة قبل دباغه.

فالحقّ أن الدباغ مطهّر، ولم يُعارض أحاديثه معارضٌ منْ غير فرق بين ما يؤكل لحمه، وما لا يؤكل، وهو مذهب الجمهور. قَالَ الحازميّ: وممن قَالَ بذلك -يعني

ص: 18

جواز الانتفاع بجلود الميتة- ابن مسعود، وسعيد بن المسيّب، والحسن بن أبي الحسن، والشعبيّ، وسالم -يعني ابن عبد الله، وإبراهيم النخعيّ، وقتادة، والضحّاك، وسعيد بن جبير، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، ومالكٌ، والليث، والأوزاعيّ، والثوريّ، وأبو حنيفة، وأصحابه، وابن المبارك، والشافعيّ، وأصحابه، وإسحاق الحنظليّ، وهو مذهب الظاهريّة.

قَالَ: واحتجّ القائلون بأنه يطهر بالدباغ جلد مأكول اللحم، دون غيره، بما فِي الأحاديث منْ جعل الدباغ فِي الأهب كالذكاة، قالوا: والذكاة المشبّه بها لا يحلّ بها غير المأكول، فكذلك المشبّه لا يُطَهّرُ جلد غير المأكول. وهذا إن سُلّم لا ينفي ما استُفيد منْ الأحاديث العامّة للمأكول وغيره، وَقَدْ تقرّر فِي الأصول أن العامّ لا يُقصر عَلَى سببه، فلا يصحّ تمسّكهم بكود السبب شاة ميمونة رضي الله تعالى عنها.

قَالَ: وأما القول بأن الدباغ يطهّر ظاهره، دون باطنه، فلا يُنتفع به فِي المائعات، فتفصيلٌ لا دليل عليه.

قَالَ: واحتجّ القائلون بأنه يطهر الجميع، والكلب، والخنزير، ظاهرًا وباطنًا، وهو مذهب داود، وأهل الظاهر، وحكي عن أبي يوسف، وهو الراجح بأن الأحاديث الواردة فِي الإهاب لم يُفَرَّق فيها بين الكلب والخنزير، وما عداهما.

قَالَ: واحتجّ منْ قَالَ يُنتفع بجلد الميتة وإن لم تُدبغ، وهو قول الزهريّ بحديث الشاة باعتبار الرواية التي لم يُذكر فيها الدباغ، وردّ عليه بالأحاديث الواردة يكون الدباغ مطهّرًا، ولعله لم تبلغه تلك الأحاديث. وردّ عليه بعضهم بمخالفته الإجماع. انتهى كلام الشوكانيّ ملخّصًا بتصرّف

(1)

.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن المذهب الصحيح فِي هذه المسألة قول منْ قَالَ بجواز الانتفاع بجلد الميتة بعد الدبغ مطلقًا، مأكول اللحم، أو غير مأكوله؛ للأحاديث الصحيحة التي وردت مطلقة، ولم يوجد نصّ صحيح، ولا إجماع، إلا ما سيأتي منْ النهي عن الانتفاع بجلود السباع، فإنه لا يدخل فِي هَذَا، وسيأتي الكلام عليه فِي بابه، إن شاء الله تعالى، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتحيّر بالاعتساف. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4237 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ،

(1)

"نيل الأوطار" 1/ 84 - 85.

ص: 19

وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ، كَانَ أَعْطَاهَا مَوْلَاةً لِمَيْمُونَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"هَلاَّ انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا؟ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا مَيْتَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه الحارث، وهو ثقة حافظ.

و"محمد بن سلمة": هو الْجمليّ المُراديّ، أبو الحارث المصريّ. و"ابن القاسم": هو عبد الرحمن العُتَقيّ الفقيه المصريّ. و"مالك": هو إمام دار الهجرة.

وقوله: "كَانَ أعطاها الخ" الضمير الفاعل للنبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم.

وقوله: "إنما حرم أكلها" قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: رويناه عَلَى وجهين: حَرُم -بفتح الحاء، وضمّ الراء- وحُرم -بضمّ الحاء، وكسر الراء المشدّدة. انتهى

(1)

.

والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق شرحه، وبيان مسائله فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4238 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي عَنِ ابْنِ أَبِي حَبِيبٍ -يَعْنِي يَزِيدَ- عَنْ حَفْصِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَدَّثَهُ، قَالَ: أَبْصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَاةً مَيِّتَةً، لِمَوْلَاةٍ لِمَيْمُونَةَ، وَكَانَتْ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ: "لَوْ نَزَعُوا جِلْدَهَا، فَانْتَفَعُوا بِهِ"، قَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ، قَالَ: "إِنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير:

1 -

(حفص بن الوليد) بن سيف بن عبد الله بن الحارث الحضرميّ، أبي بكر، أمير مصر، منْ قبل هشام بن عبد الملك، صدوقٌ [6].

روى عن الزهريّ، وهلال بن عبد الرحمن القرشيّ. وعنه يزيد بن أبي حبيب، وعصرو بن الحارث، والليث، وابن لهيعة، وغيرهم. ذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ ابن يونس: كَانَ أشرف حضرميّ بمصر فِي أيّامه، ولّاه هشام بَحْرَ مصر سنة (19)، ثم ولّاه جند مصر سنة (23)، فاستمرّ إلى سنة (128)، فقتل فيها، وخبر مقتله يطول. وَقَالَ أبو عصر الكنديّ: قُتل فِي شوّال. وَقَالَ ابن أبي حاتم، عن أبيه: حديثه عن ابن شهاب مُرسل. تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط، قَالَ ابن يونس: لم يسند

(1)

"شرح مسلم" 4/ 55.

ص: 20

غيره. وَقَالَ فِي "تهذيب التهذيب": أخرج له النسائيّ مقرونًا. انتهى.

[تنبيه]: قوله: "أخرج له النسائيّ مقرونا"، فيه نظر؛ لأنه لم يقرنه بغيره، بل أخرج له بانفراده، فكان الأولى التعبير بقوله: أخرج له متابعةً؛ إذ هو متابعٌ لمالك، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

وقوله: "لو نزعوا الخ " جواب "لو" محذوف: أي لكان خيرًا لهم، أو هي للتمنّي، فلا تحتاج إلى جواب.

والحديث صحيحٌ، وَقَدْ سبق البحث عنه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4239 -

(أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ الْقَطَّانُ الرَّقِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ مُنْذُ

(1)

حِينٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَخْبَرَتْنِي مَيْمُونَةُ، أَنَّ شَاةً مَاتَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَلاَّ دَفَعْتُمْ إِهَابَهَا، فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ؟ ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح غير شيخه، فقد تفرّد به هو وأبو داود، وهو صدوق [11] 7/ 753. و"حجّاج": هو ابن محمد الأعور المِصّيصيّ. و"عطاء": هو ابن أبي رباح.

وقوله: "منذ حين" وفي نسخة: "مُذْ حين". وقوله: "ألّا دبغتم إهابها" هكذا فِي الهنديّة، وفي "الكبرى":"ألا أخذتم إهابها"، ووقع فِي النسخة المطبوعة "ألا دفعتم إهابها"، قَالَ السنديّ: هكذا فِي نسختنا منْ الدفع بالفاء، والعين المهملة: أي أخذتموه، وبعّدتموه منْ اللحم بالنزع عنه، والأقرب "دبغتم" بالباء، والغين المعجمة. انتهى.

والحديث أخرجه مسلم، وَقَدْ تقدّم تمام البحث عنه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4240 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، بِشَاةٍ لِمَيْمُونَةَ مَيِّتَةٍ، فَقَالَ: "أَلاَّ أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا، فَدَبَغْتُمْ، فَانْتَفَعْتُمْ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، محمد بن منصور الْخُزَاعيّ الجوّاز المكيّ، فإنه منْ أفراده، وهو ثقة. و"سفيان": هو ابن عيينة. و"عمرو": هو ابن دينار. و"عطاء": هو ابن أبي رباح.

(1)

وفي نسخة: "مُذْ".

ص: 21

والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم البحث عنه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4241 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، عَلَى شَاةٍ مَيِّتَةٍ، فَقَالَ: "أَلاَّ انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به هو، وأبو داود، وهو مصّيصيّ ثقة [10]. و"جرير": هو ابن عبد الحميد. و"مُغيرة" -بضم الميم، وتكسر-: هو ابن مِقسم. و"الشعبيّ": هو عامر بن شراحيل.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ مرّ البحث عنه مستوفًى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4242 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رِزْمَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ سَوْدَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: مَاتَتْ شَاةٌ لَنَا، فَدَبَغْنَا مَسْكَهَا، فَمَازِلْنَا نَنْبِذُ فِيهَا حَتَّى صَارَتْ شَنًّا").

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن عبد العزيز بن أبي رِزمة) -بكسر الراء، وسكون الزاي- أبو عمرو المروزيّ ثقة [10] 47/ 602.

2 -

(الفضل بن موسى) السينانيّ المروزيّ ثقة ثبت ربما أغرب، منْ كبار [9] 83/ 100.

3 -

(إسماعيل بن أبي خالد) البجليّ الأحمسيّ الكوفيّ ثقة ثبت [4] 13/ 471

4 -

(الشعبي) عامر بن شَرَاحيل الهمداني الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه فاضل [3] 66/ 82.

5 -

(عكرمة) مولى ابن عباس، ثقة ثبت [3] 2/ 325.

6 -

(ابن عباس) البحر الحبر رضي الله تعالى عنهما 27/ 31.

7 -

(سودة) بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ودّ بن نصر بن مالك بن حِسْل ابن عامر بن لُؤيّ العامريّة القرشيّة، أم المؤمنين، هي أول امرأة تزوّجها رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم بعد موت خديجة، قبل عائشة، وهو بمكة، ودخل بها قبل الهجرة، وكانت قبله عبد السكران بن عمرو، أسلمت بمكة قديمًا، وهاجرت هي وزوجها إلى الحبشة الهجرة الثانية، ومات زوجها هناك. روت عن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم. وعنها ابن عبّاس، ويحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة. أخرج الترمذيّ بسند حسن، عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، قَالَ:

ص: 22

خشِيت سودةُ أن يطلقها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: لا تطلقني، وأمسكني، واجعل يومي لعائشة، ففعل، فنزلت:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} . وأحرجه ابن سعد منْ حديث عائشة رضي الله تعالى عنها منْ طرق، فِي بعضها: أنه بعث إليها بطلاقها، وفي بعضها أنه قَالَ لها:"اعتدّي"، والطريقان مرسلان، وفيهما أنها قعدت له عَلَى طريقه، فناشدته أن يُراجعها، وجعلت يومها وليلتها لعائشة، ففعل. ومن طريق معمر، قَالَ: بلغني أنها كلّمته، فقالت: ما بي عَلَى الأزواج منْ حرص، ولكنّي أُحبّ أن يبعثني الله يوم القيامة زوجًا لك. وَقَالَ هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: ما منْ امرأة أحبّ إليّ أن أكون فِي مسْلاخها منْ سودة بنت زمعة، إلا أن بها حِدّةً، تُسرع منها الْفَيْئَةَ. وَقَالَ ابن سعد حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، قَالَ: قالت سودة لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: صلّيتُ خلفك الليلة، فركعتَ بي حَتَّى أمسكتُ بأنفي مخافةَ أن يقطر الدم، فضحك، وكانت تُضحكة بالشيء أحيانًا. وهذا مرسل، رجاله رجال الصحيح. وأخرج ابن سعد بسند صحيح، عن محمد بن سيرين أن عمر بعث إلى سودة بغِرَارة منْ دراهم، فقالت: ما هذه؟ قالوا: دراهم، قالت: فِي غِرَارة مثل التمر، ففرّقتها. وروى ابن المبارك فِي "الزهد" منْ مرسل أبي الأسود، يتيم عروة: أن سودة قالت: يا رسول الله، إذا متنا صلّى لنا عثمان بن مظعون، حتّى تأتينا أنت، فَقَالَ لها:"يا بنت زمعة لو تعلمين علم الموت، لعلِمتِ أنه أشدّ مما تظنّين".

وَقَالَ ابن أبي خيثمة: تُوفيت فِي آخر خلافة عمر بن الخطّاب. ورجّح الواقديّ أنها ماتت سنة (54)، وَقَالَ ابن حبّان: ماتت سنة (65)

(1)

.

روى لها البخاريّ، والمصنّف حديث الباب فقط، وأخرج لها أبو داود حديثًا واحدًا فِي أُسارى بدر. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه ثلاثة منْ التابعين يروي بعضهم عن بعض: إسماعيل، والشعبي، وعكرمة، وفيه رواية صحابي، عن صحابية. والله تعالى أعلم.

(1)

"تهذب التهذيب" 4/ 677، وراجع "الإصابة" 12/ 323 - 324.

ص: 23

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما (عَنْ سَوْدَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) رضي الله تعالى عنها، أنها (قَالَتَ: مَاتَتْ شَاةٌ لَنَا، فَدَبَغْنَا) -بفتح الباء الموحّدة- يقال: دبغتُ الجلد دبغًا، منْ بأبي قتل، ونَفَع، ومن باب ضرب لغةٌ حكاها الكسائي. والدِّباغة بالكسر: اسم للصَّنْعة، وَقَدْ يُجعل مصدرًا، والدِّبْغ بالكسر، والدِّباَغ أيضًا: ما يُدبَغُ به، واندبغ الجلد فِي المطاوعة، والفاعل دبّاغ، والمَدْبَغَةُ بالفتح: موضع الدَّبْغ، وضمّ الباء لغةٌ. قاله الفيّوميّ (مَسْكَهَا) بالنصب مفعول "دبغنا"، والمَسْكُ " -بفتح الميم، وبالمهملة-: الجلد، وجمعه مُسُوكٌ، مثلُ فَلْس وفُلُوس (فَمَازِلْنَا نَنْبِذُ فِيهَا) بكسر الباء الموحّدة، منْ باب ضرب: أي نُلقي فيها التمرات، ونحوها، حَتَّى تكون نبيذًا، وإنما أنّث ضمير "فيها" عَلَى تأويل المسك بالقربة (حَتَّى صَارَتْ شَنًّا") -بفتح المعجمة، وتشديد النون: أي عَتيقًا باليًا، والشَّنَّةُ: القِرْبة العَتِيقة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث سودة رضي الله تعالى عنها هَذَا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -4/ 4242 - وفي "الكبرى" 4/ 4566. وأخرجه (خ) فِي "الأيمان والنذور" 6686 (أحمد) فِي "مسند القبائل" 26872. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: أخرج النسائيّ منْ طريق مغيرة بن مقسم، عن الشعبيّ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم حديثا فِي دباغ جلد الشاة الميتة غير هَذَا -يعني الحديث الذي قبل هَذَا- قَالَ: وأشار المزّيّ فِي "الأطراف" إلى أن ذلك علّة لرواية إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبيّ التي فِي الباب. قَالَ الحافظ: وليس كذلك، بل هما حديثان متغايران فِي السياق، وإنْ كَانَ كلّ منهما منْ رواية الشعبيّ، عن ابن عباس، ورواية مغيرة هذه توافق لفظ رواية عطاء،

عن ابن عبّاس، عن ميمونة، وهي عند مسلم، وأخرجها البخاريّ منْ رواية عُبيد الله بن عبد الله، عن ابن عبّاس، بغير ذكر ميمونة، ولا ذكر الدباغ فيه. انتهى. كلام الحافظ رحمه الله تعالى

(1)

.

(1)

"فتح" 13/ 426 "كتاب الأيمان والنذور".

ص: 24

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "فِي دباغ جلد الميتة الخ" فيه نظر؛ لأن حديث مغيرة المذكور ليس فيه ذكر الدباغ، بل ذكر الانتفاع بها فقط، ولفظه:"مرّ النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم عَلَى شاة ميتة، فَقَالَ: "ألا انتفعتم بإهابها". فتنبّه. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم جلود الميتة، وهو جواز الانتفاع به بعد دبغها. (ومنها): أن فيه الرّدَّ عَلَى منْ زعم أن الزهد لا يتمّ إلا بالخروج عن جميع ما يُتَمَلّك؛ لأن موت الشاة يتضمّن سبق ملكها، واقتنائها. (ومنها): أن فيه جواز تنمية المال؛ لأنهم أخذوا جلد الميتة، فدبغوه، فانتفعوا به، بعد أن كَانَ مطروحًا. وفيه جواز تناول ما يَهضِم الطعام؛ لِما دلّ عليه الانتباذ، وفيه إضافة الفعل إلى المالك، وإن باشره غيره، كالخادم. ذكر هذه الفوائد فِي "الفتح"، نقلًا عن ابن أبي جمرة رحمه الله تعالى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4243 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ وَعْلَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبه) بن سعيد البغلاني الثقة الثبت [10] 1/ 1.

2 -

(علي بن حُجر) السعدي المروزي، ثقة حافظ، منْ صغار [9] 13/ 13.

3 -

(سفيان) بن عُيينة الإمام الحجة الثبت [8] 1/ 1.

4 -

(زيد بن أسلم) العَدوي المدنيّ، ثقة فاضل [3] 64/ 80.

5 -

(ابن وَعْلة) -بفتح الواو، وسكون العين المهملة-: هو عبد الرحمن بن وَعْلة، ويقال: ابن السميفع بن وَعْلة المصريّ السَّبَئيّ، صدوقٌ [4].

قَالَ ابن معين، والعجليّ، والنسائيّ: ثقة. وَقَالَ أبو حاتم: شيخ. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ ابن يونس: عبد الرحمن بن أُسميفع بن وعلة السئيّ، كَانَ شريفًا بمصر فِي أيامه، وله وفادة عَلَى معاوية، وصار إلى إفريقية، وبها مسجده، ومواليه. وَقَالَ فِي حرف الألف: أُسميفع بن وعلة بن يعفر بن سلامة بن شُرَحْبيل بن علقمة السبئيّ، آخر ملوك سبأ، عليه قام الإسلام، هاجر فِي خلافة عمر، وشهِد الفتح بمصر،

(1)

راجع "الفتح" 13/ 426.

ص: 25

وترك عدّة منْ الولد، منهم عبد الله، وعبد الرحمن، وذكر غيرهم. وذكره يعقوب بن سفيان فِي ثقات التابعين منْ أهل مصر. وذكره أحمد، فضعّفه فِي حديث الدباغ. روى له الجماعة، سوى البخاريّ، وله فِي هَذَا الكتاب حديثان، هَذَا، وأعاده بعده، و4666 حديث: "إن الذي حرم شربها، حرم بيعها

" الحديث.

6 -

(ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما المذكور قبله. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. ومنها: أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا إِهَابٍ) وَقَدْ تقدّم أنه اخْتلف أهل اللُّغة فِي الإهَاب فقِيل هُو الجِلد مُطلقًا، وقِيل: هُو الجِلد قبل الدِّباغ، فأمَّا بَعْده، فلا يُسمَّى إِهابًا، وهو الراجح، وجمعه: أَهَبٌ -بِفتحِ الهمزة والهاء، وبِضمِّها لُغَتَانِ (دُبغَ) بالبناء للمجهول (فَقَدْ طَهُرَ) بِفتح الهاء، وضمّها، منْ بابي قتَل، وقرُب لُغتانِ، والْفَتْح أفْصَح. وهذا بعمومه يشمل جلد مأكول اللحم، وغيره، وبه أخذ كثير منْ أهل العلم، وهو الراجح، كما تقدّم تحقيقه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -4/ 4242 و4243 - وفي "الكبرى" 4/ 4567 و4568. وأخرجه (م) فِي "الحيض" 547 و548 و549 (د) فِي "اللباس" 4123 (ت) فِي "اللباس" 1728 (ق) فِي "اللباس" 3609 (أحمد) فِي "مسند بني هاشم" 1898 و2118 و2431 و2518 و2534 و2873 و3188 (الموطأ) فِي "الصيد" 1079 (الدارمي) فِي "الأضاحي" 1985 و1986. وبقيّة المسائل تقدّمت قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4244 -

(أَخْبَرَنِي الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ بَكْرٍ -وَهُوَ ابْنُ مُضَرَ- قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الْخَيْرِ، عَنِ ابْنِ وَعْلَةَ، أَنَّهُ

ص: 26

سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: إِنَّا نَغْزُو هَذَا الْمَغْرِبَ، وَإِنَّهُمْ أَهْلُ وَثَنٍ، وَلَهُمْ قِرَبٌ، يَكُونُ فِيهَا اللَّبَنُ وَالْمَاءُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:"الدِّبَاغُ طَهُورٌ". قَالَ ابْنُ وَعْلَةَ: عَنْ رَأْيِكَ، أَوْ شَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: بَلْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(الربيع بن سليمان بن داود) الجِيزي، أبو محمد المصريّ الأعرج، ثقة [11] 122/ 173.

2 -

(إسحاق بن بكر بن مضر) أبو يعقوب المصريّ، صدوق فقيه [10] 122/ 173.

3 -

(أبوه) بكر بن مضر بن محمد بن حكيم المصريّ، ثقة ثبت [8] 122/ 173.

4 -

(جعفر ربيعة) بن شرحبيل الكندي، أبو شرحبيل المصريّ، ثقة [5] 122/ 173.

5 -

(أبو الخير) مرثد بن عبد الله اليزني المصريّ، ثقة فقيه [3] 38/ 582. والباقيان تقدّما قبله. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه فقد تفرد به هو وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالمصريين. (ومنها): أن فيه ثلاثة منْ التابعين يروي بعضهم عن بعض: جعفر، عن أبي الخير، عن ابن وَعْلَة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ) بن شُرحبيل بن حَسَنة الكنديّ، أبي شُرحبيل المصريّ (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الْخَيْرِ) مرثد بن عبد الله اليَزَنيّ المصريّ (عَن) عبد الرحمن (ابْنِ وَعْلَةَ) -بفتح الواو، وسكون المهملة- السبئيّ (أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما (فَقَالَ: إِنَّا نَغْزُو هَذَا الْمَغْرِبَ) أي: القطر المعروف (وَإِنَّهُمْ أَهْلُ وَثَنٍ) -بفتح الواو، والمثلّثة-: الصنمْ، سواء كَانَ منْ خشب، أو حجر، أو غيره، والجمع وُثُنٌ -بضمّتين، مثلُ أسَدٍ وأُسُدٍ-، وأوثانٌ، ويُنسب إليه منْ يتديّن بعبادته عَلَى لفظه، فيقال: رجلٌ وثنيّ، وقومٌ وثنيّون، وامرأة وثنيّة، ونساء وثنيّات. قاله الفيّوميّ.

وَقَالَ فِي باب الصاد: الصنم: يقال: هو الوثن المتّخذ منْ الحجارة، أو الخشب، ويُروى عن ابن عباس. ويقال: الصنم: المتّخذ منْ الجواهر المعدنيّة التي تذُوب، والوثن هو المتّخذ منْ حجر، أو خشب. وَقَالَ ابن فارس: الصنم ما يُتّخذ منْ خشب، أو نحاس، أو فضّة، والجمع أصنام. انتهى.

ص: 27

(وَلَهُمْ قِرَبٌ) -بكسر القاف، وفتح الراء-: جمع قربة -بكسر، فسكون- مثل سِدْرَة وسِدَر، قَالَ فِي "القاموس": القِربة بالكسر: الْوَطْبُ منْ اللبن

(1)

، وَقَدْ تكون للماء، أو هي المَخروزة منْ جانب واحد. قَالَ: والوَطبُ: سقاء اللبن، وهو جلد الجَذَع، فما فوقه، جمعه أوطبٌ، ووطاب، واوطاب. انتهى (يَكُونُ فِيهَا اللَّبَنُ وَالْمَاءُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما (الدِّبَاغُ طَهُورٌ) مبتدأ وخبر، و"الدباغ" -بكسر الدال المهملة، و"الطَّهُورٌ" -بفتح الطاء المهملة- المطهّر، يعني دَبغ القرب مطهّر لها.

وفي رواية لمسلم منْ طريق يزيد بن أبي حبيب، أن أبا الخير حدثه، قَالَ: رأيت عَلَى ابن وَعْلة السَّبَئيّ فَرْوا، فمَسِسْتُه، فَقَالَ: ما لك تمسه، قد سألت عبد الله بن عباس، قلت: إنا نكون بالمغرب، ومعنا البربر والمجوس، نُؤتَى بالكبش، قد ذبحوه، ونحن لا نأكل ذبائحهم، ويأتونا بالسِّقاء، يجعلون فيه الْوَدَك؟ فَقَالَ ابن عباس: قد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟، فَقَالَ:"دباغه طهوره".

(قَالَ ابْنُ وَعْلَةَ: عَنْ رَأْيِكَ، أَوْ شَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟) أي أتفتي بهذا عن مجرّد أجتهادك؟ أم بما سمعته عنه صلّى الله تعالى عليه وسلم؟، وفيه أن المستفتي له أن يسأل المفتي عن مأخذه، استرشادًا، حَتَّى يكون عَلَى بصيرة منْ أمر دينه، لا تعنّتًا، وعلى العالم أن يبيّن له ذلك، إن كَانَ جليا، كدليل ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما هَذَا، وأما إذا كَانَ صعبًا، يقصر فهمه عنه، فليس عليه أن يذكره له، صونًا لنفسه عن التعب فيما لا يُفيد، ويعتذر إليه بقصور فهمه عنه، قَالَ فِي "الكوكب الساطع":

وَجَازَ عَن مَأْخَذِهِ إنْ يَسْألِ

مُسْتَرْشِدًا وَلْيُبْدِ إنْ كَانَ جَلِي

(قَالَ) ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما (بَلْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية لمسلم: "فقلت: أرأيٌ تراه؟ فَقَالَ ابن عباس: سمعت رسول الله-صلى الله عليه وسلم، يقول: "دباغه طهوره".

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث ابن عباس رضي الله عنهما هَذَا صحيح، وَقَدْ تقدم تخريجه فِي الحديث الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4245 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ جَوْنِ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ دَعَا بِمَاءٍ، مِنْ عِنْدِ امْرَأَةٍ، قَالَتْ: مَا عِنْدِي إِلاَّ فِي قِرْبَةٍ لِي، مَيْتَةٍ، قَالَ: "أَلَيْسَ قَدْ دَبَغْتِهَا؟ " قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ دِبَاغَهَا ذَكَاتُهَا").

(1)

هكذا فِي "القاموس" بـ"منْ"، ولعله "للبن" باللام، فليُحرّر.

ص: 28

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عبيد الله بن سعيد) أبو قُدامة السرخسيّ، ثقة مأمون سنّي [10] 15/ 15.

2 -

(معاذ بن هشام) الدستوائيّ البصريّ، صدوق، ربما وَهَم [9] 30/ 34.

3 -

(أبوه) هشام بن أبي عبد الله/ سَنْبَر، أبو بكر البصريّ الدستوائي، ثقة ثبت، منْ كبار [7] 30/ 34.

4 -

(قتادة) بن دعامة السدوسيّ البصريّ ثقة ثبت، يدلس [4] 30/ 34.

5 -

(الحسن) بن أبي الحسن/ يسار البصريّ ثقة ثبت فاضل، يدلس [3] 32/ 36.

6 -

(جَوْن -بفتح الجيم، وسكون الواو- ابن قتادة) بن الأعور بن ساعدة بن عوف بن كعب بن عبد شمس بن سعد التميميّ، ثم السعديّ البصريّ، يقال: إن له صحبة، ولم تثبت، مقبول [2].

روى عن الزبير بن العوّام، وشهد معه الْجَمَل، وعن سلمة بن الْمُحَبّق. وعنه الحسن البصريّ، وقرّة بن خالد، وقيل: إن قتادة روى عنه. واختُلف عَلَى هُشيم فِي حديثه عن منصور بن زاذان، عن الحسن، عن جون بن قتادة، عن سلمة بن المحبّق، وهو الصحيح. وَقَالَ أبو طالب عن أحمد: لا يُعرف. وَقَالَ ابن البراء، عن ابن المدينيّ: جونٌ معروفٌ، لم يرو عنه غير الحسن. وذكره فِي موضع آخر فِي المجهولين منْ شيوخ الحسن البصريّ. وذكر ابن سعد قتادة والده فِي الصحابة. وذكره ابن حبّان فِي ثقات التابعين، وأخرج حديثه عن سلمة، وكذا الحاكم. واغترّ ابن حزم بظاهر الإسناد، فأخرج الحديث منْ طريق الطبريّ، عن محمد بن حاتم، عن هُشيم، وَقَالَ فِي روايته: عن جون، كنا مع النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم فِي بعض أسفاره، وَقَالَ: إنه صحيح. وتعقّبه أبو بكر بن مُفَوَّز بأن محمد بن حاتم أخطأ فيه، وإنما هو جون، عن سلمة، وجونٌ مجهول.

وتعقب الحافظ فِي "تهذيب التهذيب" ابنَ مفوّز فِي نسبته الخطإ لمحمد بن حاتم بأن أصحاب هُشيم وافقده، وشذّ عنهم زكريًا بن يحيى زَحْمُويه، فرواه عن هشيم بذكر سلمة فيه، والمحفوظ منْ حديث هشيم لا ذكر لسلمة فِي سنده. قَالَ البغويّ فِي "معجم الصحابة": هكذا حدث به هُشيم، لم يُجاوز به جون بن قتادة، وليست لجون صحبة. وَقَالَ ابن منده: وهِم فيه هُشيم، وليست لجَوْن صحبة، ولا رواية. وتعقّبه أبو نُعيم برواية زَحْمويه. والصواب مع ابن منده. قاله الحافظ المزّيّ فِي "الأطراف". تفرّد به المصنّف، وأبو داود بهذا الحديث فقط.

7 -

(سَلَمَةُ) بفتحات (ابْنُ الْمُحبِّقِ) -بضم الميم، وفتح الحاء المهملة، وكسر

ص: 29

الموحّدة المشددة- وقيل: هو ابن ربيعة بن صخر الْهُذَلي، قَالَ المنذريّ فِي "مختصر السنن": وسلمة ابْن المُحَبِّق لهُ صُحْبَة، وَهُوَ هُذَلِيّ، سَكَن الْبَصْرَة، كُنْيته أبُو سِنان، وَاسْم المُحبق صَخْر، وهُو بِضمِّ المِيم، وَفَتْح الْحَاء المُهْمَلة، وبعدها باء مُوحَّدة، وقاف، وأصْحَاب الْحَدِيث يفْتحُون الْبَاء، ويقُول بعض أهْل اللُّغَة: هِي مَكْسُورة، وإنَّما سَمَّاهُ أبُوهُ المُحَبَّق، تفاؤُلًا بِشَجَاعتِهِ، أنَّهُ يُضْرِط أعْدَاءهُ. انتهى. وَقَدْ تَقَدّمت ترجمته فِي 7/ 3364. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات، غير جون. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فسرخسيّ. (ومنها): أن فيه ثلاثة منْ تابعيّ البصرة، يروي بعضهم عن بعض: قتادة، والحسن، وجَوْنٌ. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ جَوْنِ بْنِ قَتَادَةَ) -بِفتحِ الجِيم، وسُكُون الواو، وبعدها نُون- (عَنْ سَلَمَةَ) بفتحات (ابْنِ الْمُحَبِّقِ) بصيغة اسم الفاعل، وقيل: بصيغة اسم المفعول -الصحابيّ رضي الله تعالى عنه (أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ دَعَا بِمَاءٍ) أي طلبه (مِنْ عِنْدِ امْرَأَةٍ، قَالَتْ) تلك المرأة التي طلب منها الماء، ولفظ "الكبرى":"فقالت"(مَا عِنْدِي إِلاَّ فِي قِرْبَةٍ لِي، مَيْتَةٍ) صفة لـ"قربة" عَلَى حذف مضاف: أي جلد ميتة، والمعنى أن تلك القربة منْ جلد شاة ميتة (قَالَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم، ولفظ "الكبرى":"فَقَالَ"(أَلَيْسَ قَدْ دَبَغْتِهَا؟ "، قَالَتْ) المرأة (بَلَى) قد دبغتها (قَالَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (فَإِنَّ دِبَاغَهَا ذَكَاتُهَا) -بفتح الذال المعجمة-: أي ذبحها، يعني أنّ دباغ جلد الميتة طهارة لها، جعل الدباغ بمنزلة ذبح الحيوان فِي تحليله، وتطهيره.

قَالَ الخَطَّابِيّ فِي "المَعَالِم": هَذَا يدُلّ عَلَى بُطْلان قوْل منْ زَعَمَ، أنَّ إِهاب الميتة، إِذَا مَسَّهُ الماء، بعد الدِّباغ يتجُس، ويُبيِّن أنَّهُ طَاهِر كطهارةِ المُذكَّى، وأنَّهُ إِذَا بُسِطَ، وصُلِّيَ عَلَيْهِ، أو خُرِز مِنْهُ خُفٌّ، فصُلِّي فِيهِ جَازَ. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث سلمة بن المحبّق رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح.

ص: 30

[فإن قلت]: فيه جَوْنُ بن قتادة، وَقَدْ قَالَ عنه أحمد: لا يعرف، فكيف يصحّ؟.

[قلت]: جون روى عنه الحسن، وقتادة، فارتفعت جهالة عينه، وَقَدْ قَالَ ابن المدينيّ فِي رواية: إنه معروفٌ، ووثقه ابن حبّان، فأقلّ أحواله أن يكون حسن الحديث، ثم إن حديثه هَذَا له شواهد، قد ذكرت فِي هَذَا الباب وغيره، فيكون صحيحًا بها. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -4/ 4245 - وفي "الكبرى" 4/ 4569. وأخرجه (د) فِي "اللباس" 4125. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4246 -

(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورِ، بْنِ جَعْفَرٍ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ جُلُودِ الْمَيْتَةِ؟ فَقَالَ: "دِبَاغُهَا طَهُورُهَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح. و"الحسين ابن محمد بن جعفر النيسابوري": هو أبو عليّ السلميّ، ثقة فقيه [10] 25/ 1664.

و"الحسين بن محمد" بن بَهْرَام التميميّ، أبو أحمد، أو أبو عليّ المُؤدّب المَرُّوذيّ -بتشديد الراء، وبذال معجمة- نزيل بغداد، ثقة [9].

قَالَ ابن سعد: ثقة، مات فِي آخر خلافة المأمون. وَقَالَ النسائيّ: ليس به بأس. وَقَالَ معاوية بن صالح: قَالَ لي أحمد: اكتُبوا عنه. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ ابن نُمير: صدوق. وَقَالَ العجليّ: بصريّ ثقة. وَقَالَ محمد بن مسعود: ثقة. وَقَالَ ابن قانع: مات سنة (215)، وهو ثقة. وَقَالَ حَنبل بن إسحاق: مات سنة (213). وَقَالَ مطيّن: سنة (214). روى له الجماعة، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الحديث فقط.

و"شريك": هو ابن عبد الله النخعيّ القاضي الكوفيّ، صدوق يخطىء كثيرًا، وتغير منذ ولي القضاء، وكان عادلا فاضلًا شديدًا عَلَى أهل البدع [8] 25/ 29. و"عمارة بن عُمير": هو التيميّ الكوفيّ، ثقة ثبتٌ [4] 49/ 608. و"الأسود": هو ابن يزيد بن قيس النخعيّ الكوفيّ المخضرم الثقة الفقيه الكوفيّ. وشرح الحديث واضح.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هَذَا صحيح.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده شريكٌ، وَقَدْ تكلّموا فيه، كما مرّ آنفًا؟.

[قلت]: لم يتفرّد به شريك، بل تابعه عليه إسرائل، عن الأعمش، كما سيأتي بعد حديثين، إن شاء الله تعالى.

ص: 31

وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -4/ 4246 و4247 و4248 و4249 و6/ 4254 - وفي "الكبرى" 4/ 5470 و4571 و4572 و4573 و7/ 4578. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4247 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ جُلُودِ الْمَيْتَةِ؟ فَقَالَ: "دِبَاغُهَا ذَكَاتُهَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح.

و"عبيد الله بن سعد": هو الزهريّ، أبو الفضل البغداديّ، قاضي أصبهان، ثقة [11] 17/ 480. و"عم عبيد الله": هو يعقوب بن إبراهيم الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة فاضل [9] 196/ 314. و"إبراهيم": هو ابن يزيد النخعيّ.

والحديث صحيح، كما سبق الكلام فيه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. 4248 - (أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَزَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "ذَكَاةُ الْمَيْتَةِ دِبَاغُهَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، "أيوب بن محمد الوزان" أبي محمد الرّقّيّ، وهو ثقة. و"حجاج بن محمد": هو الأعور المصّيصيّ الثقة الثبت.

والحديث صحيح، وَقَدْ مضى القول فيه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4249 -

(أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ذَكَاةُ الْمَيْتَةِ دِبَاغُهَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، "إبراهيم بن يعقوب": وهو الْجُوزجانيّ الحافظ الثبت.

و"مالك بن إسماعيل": هو ابن درهم، ويقال: ابن زياد بن درهم، أبو غسان النَّهْديّ مولاهم، الكوفيّ الحافظ، ابن بنت حماد بن أبي سُليمان، ثقة مُتقنٌ، صحيح الكتاب، عابد، منْ صغار [9].

ص: 32

قَالَ محمد بن عليّ بن داود البغداديّ: سمعت ابن معين يقول لأحمد: إن سرّك أن تكتب عن رجُل ليس فِي قلبي منه شيء، فاكتب عن أبي غسّان. وَقَالَ أبو حاتم، عن ابن معين: ليس بالكوفة أتقن منْ أبي غسّان. وعن ابن معين، قَالَ: هو أجود كتابًا منْ أبي نعيم. وَقَالَ يعقوب بن شيبة: ثقة صحيح الكتاب، وكان منْ العابدين. وَقَالَ مرّة: كَانَ ثقة متثبّتًا. وَقَالَ ابن نُميرة أبو غسّان أحبّ إليّ منْ محمد بن الصَّلْت، أبو غسّان محدّث منْ أئمّة المحدثين. وَقَالَ أبو حاتم: كَانَ أبو غسّان يملي علينا منْ أصله، وكان لا يملي حديثًا حتّى يقرأه، وكان ينحو، ولم أر بالكوفة أتقن منه، لا أبو نُعيم، ولا غيره، وهو أتقن منْ إسحاق بن منصور السَّلُوليّ، وهو متقن ثقةٌ، وكان له فضل، وصلاح، وعبادة، وصحّة حديث واستقامة، وكانت عليه سجّادتان، كنت إذا نظرت إليه كأنه خرج منْ قبره. وَقَالَ أبو داود: كَانَ صحيح الكتاب، جيّد الأخذ. وَقَالَ النسائيّ: ثقة. وَقَالَ ابن سعد: كَانَ أبو غسّان صدوقًا، شديد التشيّع. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ ابن شاهين فِي "الثقات": قَالَ عثمان بن أبي شيبة: أبو غسّان صدوقٌ، ثبتٌ، متقنٌ، إمام منْ الأئمّة، ولولا كلمته لما كَانَ يفوقه بالكوفة أحد. وَقَالَ معاوية بن صالح، عن ابن معين: ثقة. وَقَالَ العجليّ: ثقة، وكان متعبّدًا، وكان صحيح الكتاب. وَقَالَ الذهبيّ فِي "الميزان" ذكره ابن عديّ، واعترف بصدقه وعدالته، لكن ساق قول السعديّ: كَانَ حسَنيّا -يعني الحسن بن صالح- عَلَى عبادته، وسوء مذهبه، هَذَا كلام السعديّ، وهو إبراهيم بن يعقوب الجُوزجانيّ، وعَنَى بذلك أن الحسن بن صالح بن حيّ مع عبادته، كَانَ يتشيّع، فتبعه مالكٌ هَذَا فِي الأمرين. قَالَ ابن سعد: مات سنة (219) فِي غرّة ربيع الأول. وفيها أرّخه غير واحد. روى له الجماعة، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الحديث فقط.

و"إسرائيل": هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعيّ الهمدانيّ الكوفيّ الثقة.

والحديث صحيح، كما سبق البحث عنه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلتُ، وإليه أنيب".

***

ص: 33

‌5 - (مَا يُدْبَغُ بِهِ جُلُودُ الْمَيْتَةِ)

4250 -

(أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ فَرْقَدٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَالِكِ بْنِ حُذَافَةَ حَدَّثَهُ، عَنِ الْعَالِيَةِ بِنْتِ سُبَيْعٍ، أَنَّ مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَتْهَا، أَنَّهُ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ، يَجُرُّونَ شَاةً لَهُمْ، مِثْلَ الْحِصَانِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا"، قَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يُطَهِّرُهَا الْمَاءُ وَالْقَرَظُ").

رجال هَذَا الإسناد: ثمانية:

1 -

(سليمان بن داود) المهريّ، أبو الربيع المصريّ ثقة [11] 63/ 79.

2 -

(ابن وهب) عبد الله الفقيه الحافظ الثبت المصريّ [9] 9/ 9.

3 -

(عمرو بن الحارث) أبو أيوب الفقيه الثبت المصريّ [7] 63/ 79.

4 -

(الليث بن سعد) الإمام الفقيه الحجة الثبت المصريّ [7] 31/ 35.

5 -

(كثير بن فَرْقد) المدنيّ، نزيل مصر، ثقة [7] 30/ 1589.

6 -

(عبد الله بن مالك بن حُذافة) حجازيّ، سكن مصر، مقبول [4].

روى عن أمه العالية، وعنه كثير بن فرقد، تفرّد به المصنّف، وأبو داود بهذا الحديث فقط.

7 -

(العالية بنت سُبيع) روت عن ميمونة رضي الله تعالى عنها، وعنها ابنها عبد الله ابن مالك. قَالَ العجليّ: مدنيّةٌ، تابعيّة، ثقة. تفرد بها المصنّف، وأبو داود بهذا الحديث فقط.

8 -

(ميمونة) أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها 146/ 236. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات، غير عبد الله بن مالك، فمقبول. (ومنها): أنه مسلسل بالمصريين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ كَثِيرِ بْنِ فَرْقَدٍ) بفتح الفاء، وسكون الراء، وفتح القاف (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَالِكِ بْنِ حُذَافَةَ) بضم الحاء المهملة، وتخفيف الذال المعجمة (حَدَّثَهُ، عن) أمه (الْعَالِيَةِ بِنْتِ

ص: 34

سُبَيْعِ) بضم السين المهملة، مصغّرًا (أَنَّ مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَتْهَا) وفي رواية أبي داود:"عن العالية بنت سبيع، أنها قالت: كَانَ لي غنم بأُحُدٍ، فوقع فيها الموت، فدخلت عَلَى ميمونة، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك لها، فقالت لي ميمونة: لو أخذت جلودها، فانتفعت بها، فقالت: أَوَ يحِلّ ذلك؟، قالت: نعم، مَرَّ عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال منْ قريش، يجرون شاة لهم فَقَالَ لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أخذتم إهابها قالوا إنها ميتة فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يطهرها الماء والقرظ".

(أَنَّهُ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ، يَجُرُّونَ شَاةً لَهُمْ، مِثْلَ الْحِمار) يجرّونها مِثل جَرّ الحمار إذا مات؛ لإبعاده عن النَّاس؛ لئلا يتضرّروا بجيفته، أو التشبيه فِي كَوْنَها مَيْتَة مُنْتَفِخَة مثله.

وفي بعض النسخ: "مثل الحِصان": وهو بكسر الحاء، وتخفيف الصاد المهملتين: الفرسُ الذكر، أو المضنون بمائه. قاله فِي "القاموس": وَقَالَ الفيّوميّ: الحِصان بالكسر: الفرس العتيق، قيل: سُمّي بذلك؛ لأن ظهره كالحِصْن لراكبه. وقيل: لأنه ضُنَّ بمائه، فلم يُنْزَ إلا عَلَى كريمة، ثم كثُر ذلك حتّى سُمي كلُّ ذكر منْ الخيل حصانًا، وإن لم يكن عتيقًا، والجمع حُصُنٌ، مثلُ كتاب وكُتُب. انتهى.

(فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا) قيل: "لو" هنا للتمنّي بمعنى "ليت"،

فلا تحتاج إلى جواب. وقيل: هي شرطيّةٌ، حُذف جوابها: أي لكان حسنًا (قَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ) أىِ فهي محرّمة بنصّ الكتاب، حيث قَالَ الله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} الآية (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يُطَهِّرُهَا الْمَاءُ وَالْقَرَظُ") بفتحتين: قَالَ الفيّوميّ رحمه الله تعالى: هو حبّ معروفٌ، يخرُج فِي غُلُفِ، كالعَدَس، منْ شجر العضاه، وبعضهم يقول: القرظ وَرَقُ السَّلَم، يُدبغ به الأَدِيم، وهو تسامحٌ، فإن الورق لا يُدبغ به، وإنما يُدبغ بالحبّ. قَالَ: وبعضهم يقول: القرظ شجر، وهو تسامحٌ أيضًا، فإنهم يقولون: جَنَيتُ القرَظَ، والشجرُ لا يُجنَى، وإنما يُجنى ثمرُهُ. انتهى كلام الفيّوميّ.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: فِي هَذَا الذي أنكره، وَقَالَ: إنه تسامحٌ نظرٌ لا يخفى، فإن أهل اللغة، أثبتوا ذلك، فَقَالَ المجد فِي "القاموس": القرظ محرّكةً: ورق السلم، أو ثمر السَّنْط. انتهى. وَقَالَ ابن منظور فِي "اللسان": القرظ شجرٌ يُدبغ به. وقيل: ورق السلم، يُدبغ به الأدَمُ. قَالَ: وَقَالَ أبو حَنيفة: القرظ: أجود ما تُدبغ به الأُهُب فِي أرض العرب، وهي تُدبغ بورقه، وثمره. وَقَالَ مرّةً: القرظ شجرٌ

عظام، لها سُوقٌ غِلاظٌ، أمثال الْجَوْز، وورقه أصفر منْ ورق التفّاح، وله حبّ يوضع فِي الموازين، وهو ينبت فِي القِيعان. انتهى كلام ابن منظور.

ص: 35

فأفاد ما ذُكر أنه يُطلق عَلَى الشجر، وعلى الورق، وأنه يدبغ بورقه، وثمره، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

وَقَالَ الخَطَّابِيُّ رحمه الله تعالى: الْقَرَظ: شجرٌ يُدبغ بِهِ الأُهُب، وهُو لِما فِيهِ منْ العُفُوصة، والقبض، يُنشِّفُ البلَّة، ويُذهِب الرَّخَاوة، ويُجفِّف الجِلْد، وَيُصْلِحهُ، ويُطيِّبهُ، فكُلّ شَيْء عَمِلَ عَمَل القَرَظ، كَانَ حُكْمه فِي التَّطْهِير حُكْمه، وذِكرُ المَاء مَعَ الْقَرَظ قَدْ يَحْتمِل أَنْ يكون إِنَّمَا أراد بِذَلِكَ، أنَّ الْقَرَظ يَخْتَلِط بِهِ، حِين يُسْتَعْمَل فِي الجِلد. وَيَحْتَمَل أن يكُون إِنَّمَا أراد أنَّ الْجِلْد، إِذَا خَرَجَ منْ الدِّبَاغ، غُسِل بِالْمَاءِ، حَتَّى يزُول عنهُ ما خالطهُ منْ وَضَرِ الدَّبْغ وَدَرَنه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ميمونة رضي الله تعالى عنها هَذَا صحيح.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناد عبد الله بن مالك بن حُذافة، لم يرو عنه غير كثير بن فرقد، فهو مجهول عين، وكذا أمه لم يرو عنها غير ابنها؟.

[قلت]: إنما صح لأن له شاهدًا صحيحًا منْ حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أخرجه الدارقطنيّ، والبيهقيّ، منْ طريق عمرو بن الربيع بن طارق: ثنا يحيى بن أيوب، عن عُقيل، عن الزهريّ، عن عبيد الله، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، مرفوعًا بلفظ:"أوليس فِي الماء والقرظ ما يُطهّره". وهذا إسناد صحيح عَلَى شرط الشيخين

(1)

.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه: أخرجه هنا -5/ 4250 - وفي "الكبرى" 5/ 4574. وأخرجه (د) فِي "اللباس" 4126. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان ما يُدبغ به جُلود الميتة، وهو القرظ والماء. (ومنها): أنه يدلّ عَلَى وجوب استعمال الماء فِي أثناء الدباغ، قيل: وهو أحد قولي الشافعيّ. قاله السنديّ. (ومنها): ما قاله الخطّابيّ رحمه الله تعالى: أنه فِيهِ حُجَّةً لِمن ذهب إِلى أنَّ غَيْر الْمَاء، لا يُزِيل النَّجَاسَة، ولا يُطهِّرها فِي حَال مِن

(1)

راجع "السلسلة الصحيحة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى 5/ 194 - 195 رقم الحديث 2163.

ص: 36

الأَحْوَال انْتَهَى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وفي كلامه هَذَا نظر، فقد تقدّم فِي "كتاب الطهارة" أن الأرجح أن غير الماء يطهّر أيضًا إذا أمر به الشارع، كطهارة النعل بالمسح، فقد أخرج أبو داود بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه، مرفوعًا:"إذا جاء أحدكم إلى المسجد، فلينظر، فإن رأى فِي نعليه قذرًا، أو أذى، فليمسحه، وليصل فيهما". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي الأشياء التي يُدبغ الإهاب بها:

قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: يجُوز الدِّبَاغ بِكُلِّ شَيْء، يُنشِّف فَضَلَات الْجِلْد ويُطيِّبهُ، ويمنع منْ وُرُود الْفَسَاد عَلَيْهِ، وذلِك كالشَّتِّ، وَالشَّبّ، والْقَرْظ، وقُشُور الرُّمَّان، وما أشْبَه ذَلِكَ، منْ الأدْوِية الطَّاهِرة، ولا يَحْصُل بِالتَّشْمِيسِ عِنْدنَا، وَقَالَ أصْحَاب أبِي حَنِيفَة: يَحْصُل، ولا يَحْصُل عِنْدنَا بِالتُّراب، والرَّمَاد، والمِلْح عَلَى الأصَحّ فِي الْجَمِيع. وهَلْ يحصُل بِالأدْوِيةِ النَّجِسَة، كَذَرْقِ الْحَمَام، والشَّبّ المُتنجِّس؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أصحهما عِند الأصْحَاب حُصُوله، وَيَجِب غَسْله بَعْد الْفَرَاغ منْ الدِّبَاغ بِلا خِلاف، ولوْ كَانَ دَبْغه بِطَاهِرِ، فَهَلْ يَحْتَاج إِلى غَسْله بَعْد الْفَرَاغ؟ فِيهِ وجْهَانِ. وَهَلْ يُحْتاج إِلى اسْتِعْمَال المَاء فِي أوَّل الدِّبَاغ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ أصْحَابنَا: ولا يَفْتَقِر الدِّباَغ إِلى فِعْل فَاعِل. فَلَوْ أطَارت الرِّيح جِلْد مَيْتَة، فَوَقَع فِي مَدْبَغه طَهُرَ. والله أعْلم.

وإِذا طهُر بالدِّباغِ جَازَ الانْتِفَاع بِهِ بِلا خِلاف. وهَلْ يَجُوز بَيْعه؟ فِيهِ قَوْلانِ لِلشَّافِعِيِّ: أصَحّهمَا يَجُوز. وَهَلْ يَجُوز أَكْله؟ فِيهِ ثَلاثَة أَوْجُه، أوْ أَقْوَال: أصَحّهَا لا يَجُوز بِحَالٍ، والثَّانِي يَجُوز، والثَّالِث يَجُوز أَكْل جِلْد مَأْكُول اللَّحْم، ولا يَجُوز غَيْره.

وَإِذَا طَهُر الجِلْد بِالدِّبَاغ، فَهَلْ يَطْهُر الشَّعْر الَّذِي عَلَيْهِ تبعًا لِلجِلْدِ، إِذَا قُلْنَا بِالمُخْتَارِ فِي مَذْهَبنَا: إِنَّ شَعْر الْمَيْتَة نَجَس، فِيهِ قوْلانِ لِلشَّافِعِيّ: أصَحّهمَا، وأشْهَرهمَا لا يَطْهُر؛ لِأنَّ الدِّباَغ لا يُوْثِّر فِيهِ، بِخِلافِ الْجِلْد.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن الشعر تابع للجلد؛ لأن الشارع لم يستثنه، فلو كَانَ غير داخل فِي حكم الطهارة لما سكت عنه؛ لشدّة الحاجة إليه. والله تعالى أعلم.

قَالَ: قَالَ أصْحَابنا: لا يَجُوز اسْتِعْمال جِلْد الْمَيْتَة، قَبْل الدِّبَاغ فِي الأشْيَاء الرَّطْبَة. وَيَجُوز فِي الْيَابِسات مَعَ كَرَاهَته. والله أعْلم. انتهى كلام النوويّ

(1)

.

(1)

"شرح مسلم" 4/ 55.

ص: 37

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4251 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ -يَعْنِي ابْنَ الْمُفَضَّلِ- قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ، قَالَ: قُرِىء عَلَيْنَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَا غُلَامٌ شَابٌّ: "أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ، وَلَا عَصَبٍ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث عبد الله بن عُكيم رحمه الله تعالى عنه هَذَا لا مناسبة بينه وبين هَذَا الباب، فكان الأولى للمصنّف أن يُفرده بترجمة مستقلّة، كما فعل فِي "الكبرى"، حيث ترجم له بقوله:"النهي عن أن يُتنفع منْ الميتتة بشيء"، ومما يؤيّد ذلك مقابلته بالترجمة التالية، حيث قَالَ:"الرخصة فِي الاستمتاع بجلود الميتة إذا دُبغت"، فليُتأمّل. والله تعالى أعلم.

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الْجَحْدريّ البصريّ، ثقة [10] 42/ 47.

2 -

(بشر بن المفضّل) بن لاحق، أبو إسماعيل البصريّ، ثقة ثبت عابد [6] 6/ 82.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت [7] 27/ 24.

4 -

(الحكم) بن عُتيبة الكندي، أبو محمد الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه، ربما دلس [5] 86/ 104.

5 -

(ابن أبي ليلي) هو عبد الرحمن الأنصاريّ المدنيّ، ثم الكوفيّ، ثقة [2] 86/ 104.

6 -

(عبد الله بن عُكيم) -بضم العين المهملة، مصغّرًا- الجُهَنيّ، أبي معبد الكوفيّ المخضرم، ثقة [2].

قَالَ الخطيب: سكن الكوفة، وقدِم المدائن فِي حياة حُذيفة رضي الله تعالى عنه، وكان ثقة. وَقَالَ ابن عيينة، عن هلال الوزّان: حدّثنا شيخنا القديم عبد الله بن عُكيم، وكان قد أدرك الجاهليّة. وَقَالَ موسى الجُهنيّ، عن ابنة عبد الله بن عُكيم: كَانَ أبي يُحبّ عثمان، وكان عبد الرحمن بن أبي ليلى يُحبّ عليًّا، وكانا متواخيين، فما سمعتهما إلا أن أبي قَالَ مرّةً لعبد الرحمن: لو أن صاحبك صبر أتاه النَّاس. وَقَالَ البخاريّ: أدرك زمن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، ولا يُعرَف له سماع صحيح، وكذا قَالَ أبو نُعيم. وَقَالَ ابن حبّان فِي "الصحابة": أدرك زمنه صلّى الله تعالى عليه وسلم، ولم يسمع منه شيئًا. وكذا قَالَ أبو زرعة. وَقَالَ ابن منده، وأبو نُعيم: أدركه، ولم يره. وَقَالَ البغويّ: يُشكّ فِي سماعه. وَقَالَ أبو حاتم أيضًا: ليس له سماع منْ النبيّ

ص: 38

صلّى الله تعالى عليه وسلم، منْ شاء أدخله فِي المسند عَلَى المجاز. وَقَالَ ابن سعد: كَانَ إمام مسجد جُهينة، وَقَالَ حكاية عن غيره: إنه مات فِي ولاية الحجّاج.

روى له الجماعة، سوى البخاريّ، له فِي مسلم حديث واحد:"لا تشربوا فِي آنية الذهب"، وله عبد المصنّف فِي هَذَا الكتاب حديثان فقط، حديث الباب، كرره ثلاث مرّات، وفي "كتاب الزينة" 87/ 5303 - حديث استسقى حذيفة رضي الله تعالى عنه، فأتاه دِهْقَان بماء فِي إناء فضّة

الحديث. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير ابن عُكَيم. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين إلى شعبة. وبثقات الكوفيين بعده. (ومنها): أن فيه ثلاثةً منْ التابعين، يروي بعضهم عن بعض: الحكم، وابن أبي ليلى، وعبد الله بن عُكيم. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ) بضمّ المهملة الجهنيّ، أنه (قَالَ: قُرِىءَ) بالبناء للمفعول (عَلَيْنَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَا غُلَامٌ) بضم الغين المعجمة: فِي الأصل الابن الصغير، ويطلق عَلَى الرجل مجازًا باسم ما كَانَ عليه، كما يقال للصغير: شيخٌ، مجازًا باسم ما يئول إليه. وجاء فِي الشعر غُلامةٌ بالهاء للجارية، قَالَ أوس بن غَلْفَاء الْهُجيميّ، يصف فرسًا [منْ الوافر]:

وَمُرْ كِضَةٌ صَرِيحِيٌّ أَبُوهَا

يُهَانُ لَهَا الْغُلامَةُ وَالْغُلامُ

قَالَ الأزهريّ: سمعت العرب تقول للمولود حين يولد ذكرًا: غلامٌ، وسمعتهم يقولون للكهل: غُلام، وهو فاش فِي كلامهم. أفاده الفيّوميّ.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: المراد هنا الكبير، بدليل وصفه بقوله (شَابٌّ) اسم فاعل منْ شبّ الصبيّ يَشِبّ، منْ باب ضرب شَبَابًا، وشبيبة، وهو شابّ، وذلك سنٌّ قبل الكُهُولة، جمعه شُبّانٌ، مثلُ فارس وفُرْسان (أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ) قيل: هَذَا ناسخٌ للأخبار السابقة؛ لأنه كَانَ قبل موته صلّى الله تعالى عليه وسلم بشهر، فصار متأخّرًا، والجمهور عَلَى خلافه؛ لأنه لا يُقاوم تلك الأحاديث صحّةً، واشتهارًا، وَقَدْ جمع بعض المحقّقين بينه وبين الأحاديث السابقة بأن الإهاب اسم لغير المدبوغ، فلا معارضة بينه وبين الأحاديث السابقة. وَقَدْ تقدّم تمام البحث فِي هَذَا عبد شرح حديث ميمونة رضي الله تعالى عنها، فراجعه تستفد (بِإِهَابٍ) بكسر الهمزة، قد تقدّم ضبطه، ومعناه، فلا

ص: 39

تغفُل (وَلَا عَصَبٍ) بفتحتين: هي أطناب

(1)

المفاصل، والجمع أعصابٌ. مثلُ سبب وأسباب. قَالَ بعضهم: عصب الجسد الأصغر منْ الأطناب. قاله الفيّوميّ. وَقَالَ ابن منظور فِي "اللسان": العصَبُ عصَبُ الإنسان والدّابّة، والأعصاب: أطناب المفاصل التي تُلائم بينها، وتشُدّها، وليس بالعَقَب، يكون ذلك للإنسان، وغيره، كالإبل، والبقر، والغنم، والنَّعَم، والظباء، والشاء، الواحدة عَصَبةٌ. قَالَ: والعَقَب: العصَب الذي تُعمل منه الأوتار، الواحدة عَقَبةٌ، قَالَ: والفرق بين العقَب والعصَب يَضرب إلى الصُّفْرة، والعقَب يضرب إلى البياض. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة: الأولى). فِي درجته:

حديث عبد الله بن عُكيم رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح عَلَى الصحيح كما يأتي تحقيقه فِي المسألة الثالثة، إن شاء الله تعالى.

(المسألة: الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -5/ 4251 و4252 و4253 - وفي "الكبرى" 6/ 4575 و4576 و4577. وأخرجه (د) فِي "اللباس" 4127 و4128 (ت) فِي "اللباس" 1729 (ق) فِي "اللباس" 3613 (أحمد) فِي "أول مسند الكوفيين" 18303 و18308. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي صحّة حديث عبد الله بن عُكيم هَذَا: قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى فِي "التلخيص الحبير": حديث "لا تنتفعوا منْ الميتة بإهاب، ولا عصب" أخرجه الشافعيّ فِي "حرملة"، وأحمد، والبخاريّ فِي "تاريخه"، والأربعة، والدارقطنيّ، والبيهقيّ، وابن حبّان عن عبد الله بن عُكيم:"أتانا كتاب رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قبل موته: ألا تنتفعوا منْ الميتة بإهاب، ولا عصَب"، وفي رواية الشافعيّ، وأحمد، وأبي داود:"قبل موته بشهر"، وفي رواية لأحمد "بشهر، أو شهرين"، قَالَ الترمذيّ حسنٌ، وكان أحمد يذهب إليه، ويقول هَذَا آخر الأمر، ثم تركه لَمّا اضطربوا فِي إسناده، حيث روى بعضهم، فَقَالَ: عن ابن عُكيم، عن أشياخ منْ جهينة، وَقَالَ الخلّال: لَمّا رأى أبو عبد الله تزلزل الرواة فيه توقّف فيه.

(1)

"الأطناب" جمع طُنُب بضمتين، وسكون الثاني: الحبل الذي تُشدّ به الخيمة، ونحوها. اهـ المصباح.

ص: 40

وَقَالَ ابن حبّان بعد أن أخرجها: هذه اللفظة أوهمت عالمًا منْ النَّاس أن هَذَا الخبر ليس بمتّصل، وليس كذلك، بل عبد الله بن عُكيم شهِد كتاب رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم حيث قُرىء عليهم فِي جهينة، وسمع مشايخ جهينة يقولون ذلك. وَقَالَ البيهقيّ، والخطّابيّ: هَذَا الخبر مرسل. وَقَالَ ابن أبي حاتم فِي "العلل" عن أبيه: ليست لعبد الله بن عُكيم صحبة، وإنما روايته كتابة. وأغرب الماورديّ، فزعم أنه نُقل عن عليّ بن المدينيّ أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم مات، ولعبد الله بن عُكيم سنة. وَقَالَ صاحب "الإمام": تضعيف منْ ضعّفه ليس منْ قبل الرجال، فإنهم كلّهم ثقات، وإنما ينبغي أن يُحمل الضعف عَلَى الاضطراب، كما نُقل عن أحمد، ومن الاضطراب فيه ما رواه ابن عديّ، والطبرانيّ، منْ حديث شبيب بن سعيد، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عنه، ولفظه:"جاءنا كتاب رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم، ونحن بأرض جهينة، إني كنت رخّصت لكم فِي إهاب الميتة، وعصبها، فلا تنتفعوا بإهاب، ولا عصَب"، إسناده ثقات، وتابعه فَضالة بن المفضّل عبد الطبرانيّ فِي "الأوسط". ورواه أبو داود منْ حديث خالد، عن الحكم، عن عبد الرحمن أنه انطلق هو وأناس معه إلى عبد الله بن عُكيم، فدخلوا، وقعدتُ عَلَى الباب، فخرجوا إليّ، وأخبروني أن عبد الله بن عُكيم أخبرهم، فهذا يدلّ عَلَى أن عبد الرحمن ما سمعه منْ ابن عُكيم، لكن إن وُجد التصريح بسماع عبد الرحمن منه، حُمل عَلَى أنه سمعه منه بعد ذلك.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "عن الحكم، عن عبد الرحمن" غلط غريبٌ منْ مثل الحافظ رحمه الله تعالى، فإن عبد الرحمن ليس له ذكر عبد أبي داود فِي هذه الرواية، فقوله:"أنه انطلق هو وأناس الخ" يرجع إلى الحكم، فالحكم هو الذي قعد عَلَى الباب، ثم حدثه النَّاس الذين دخلوا عَلَى ابن عُكيم، وقوله:"فهذا يدلّ عَلَى أن عبد الرحمن ما سمعه الخ" غلط مبني عَلَى الغلط الأول، وَقَدْ نبّه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى عَلَى هَذَا الغلط فِي "إروائه"، فراجعه

(1)

.

قَالَ: وفي الباب عن ابن عمر، رواه ابن شاهين فِي "الناسخ والمنسوخ"، وفيه عديّ ابن الفضل، وهو ضعيف. وعن جابر، رواه ابن وهب فِي "مسنده" عن زمعة بن صالح، عن أبي الزبير، عن جابر، وزمعة ضعيف. ورواه أبو بكر الشافعيّ فِي "فوائده" منْ طريق أخرى، قَالَ الشيخ الموفّق: إسناده حسن.

(1)

راجع "إرواء الغليل" 1/ 76 - 79.

ص: 41

وَقَدْ تكلّم الحازميّ فِي "الناسخ والمنسوخ": فَقَالَ: فِي إسناد حديث ابن عُكيم اختلافٌ، رواه الحكم مرّة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ابن عُكيم، ورواه عنه القاسم بن مُخيمِرة، عن خالد، عن الحكم، وَقَالَ: إنه لم يسمعه منْ ابن عُكيم، ولكن منْ أناس دخلوا عليه، ثم خرجوا، وأخبروه، ولولا هذه العلل لكان أولى الحديثين أن يؤخذ به حديث ابن عُكيم، ثم قَالَ: وطريق الإنصاف فيه أن يُقال: إن حديث ابن عكيم ظاهر الدلالة فِي النسخ، لو صحّ، ولكنّه كثير الاضطراب، لا يُقاوم حديث ميمونة فِي الصّحّة، ثم قَالَ: فالمصير إلى حديث ابن عبّاس أولى؛ لوجوه منْ الترجيح، ويُحمل حديث ابن عُكيم عَلَى منع الانتفاع به قبل الدباغ، وحينئذ يُسمّى إهابًا، وبعث الدباغ يُسمّى جلدًا، ولا يُسمّى إهابًا، هَذَا معروفٌ عبد أهل اللغة، وليكون جمعًا بين الحكمين، وهذا هو الطريق فِي نفي التضادّ. انتهى.

ومُحصّل ما أجاب به الشافعيّ، وغيرهم عنه التعليلُ بالإرسال، وهو أن عبد الله بن عُكيم لم يسمعه منْ النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، والانقطاع بأن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمعه منْ عبد الله بن عُكيم، والاضطراب فِي سنده، فإنه تارةً قَالَ: عن كتاب النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، وتارةً عن مشيخة منْ جهينة، وتارة عمن قرأ الكتاب، والاضطراب فِي المتن، فرواه الأكثر منْ غير تقييد، ومنهم منْ رواه بقيد شهر، أو شهرين، أو أربعين يومًا، أو ثلاثة أيّام، والترجيح بالمعارضة بأن الأحاديث الدّالّة عَلَى الدباغ أصحّ، والقول بموجبه بأن الإهاب اسم الجلد قبل الدباغ، وأما بعد الدباغ، فيُسمّى شنّا، وقِرْبةً، حمله عَلَى ذلك ابن عبد البرّ، والبيهقيّ، وهو منقول عن النضر بن شُمَيل، والجوهريّ قد جزم به. وَقَالَ ابن شاهين: لَمّا احتمل الأمرين، وجاء قوله:"أيما إهاب دُبغ، فقد طهُر"، فحملناه عَلَى الأول، جمعًا بين الحديثين، والجمع بينهما بالتخصيص بأن المنهيّ عنه جلد الكلب والخنزير، فإنهما لا يُدبغان، وقيل: محمول عَلَى باطن الجلد فِي النهي، وعلى ظاهره فِي الإباحة. والله أعدم. انتهى ما فِي "التلخيص" بزيادة منْ "نيل الأوطار"

(1)

.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: خلاصة القول فِي هَذَا الحديث أنه حديث ثابتٌ، كما حسّنه الترمذي، والحازميّ، وصححه ابن حبّان، وَقَدْ أُجيب عن العلل التي ذكروها، بما تقدّم، فالأولى سلوك طريق الجمع، فتحمل الأحاديث الدالة عَلَى جواز الانتفاع بجلود الميتة عَلَى ما بعد الدبغ، ويُحمل حديث ابن عُكيم الدّالّ عَلَى النهي عَلَى ما قبل

(1)

"التلخيص الحبير" 1/ 47 - 48 "نيل الأوطار" 1/ 87 - 89.

ص: 42

الدبغ، وهو الموافق لما ثبت عبد أهل التحقيق منْ اللغويين، منْ أن الإهاب إنما يطلق عَلَى ما قبل الدبغ، فإذا دُبغ يقال له: الجلد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4252 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ، قَالَ: كَتَبَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنْ لَا تَسْتَمْتِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ، وَلَا عَصَبٍ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن قُدامة": هو ابن أعين الهاشميّ مولاهم المصّيصيّ الثقة [10]. و"جرير": هو ابن عبد الحميد. و"منصور": هو ابن المعتمر.

والحديث صحيح، تقدم البحث عنه مستوفًى فِي الحديث الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4253 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ هِلَالٍ الْوَزَّانِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ، قَالَ: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى جُهَيْنَةَ: "أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ، وَلَا عَصَبٍ".

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَصَحُّ مَا فِي هَذَا الْبَابِ، فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ، إِذَا دُبِغَتْ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عليّ بن حُجر": هو السَّعْديّ المروزيّ. و"شريك": هو ابن عبد الله النخعيّ. و"هلال الوزّان": هو ابن أبي حميد، أو ابن حُميد، أو ابن مِقْلاص، أو ابن عبد الله الجهنيّ مولاهم، أبو الجهم، وقيل: غير ذلك فِي اسم أبيه، وفي كنيته، الصيرفيّ الوزّان الكوفيّ، ثقة [6] 77/ 1332.

والحديث صحيح، كما سبق بيانه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وقوله: (قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أي النسائيّ رحمه الله تعالى (أَصَحُّ) مبتدأ، مضاف إلى قوله (مَا فِي هَذَا الْبَابِ، فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ) الجارّ والمجرور بدلٌ منْ الجارّ والمجرور الأوّل الواقع صلة لـ"ما": أي أصحّ الأحاديث التي وردت فِي جلود الميتة (إِذَا دُبِغَتْ)"إذا" ظرف مجرّد عن معنى الشرط بمعنى وقت، متعلّقٌ بما تعلّق به الجارّ والمجرور قبله: أي وقت دبغها (حَدِيثُ الزُّهرِيَّ) بالرفع خبر "أصحّ"(عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بن عُتبة بن مسعود (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ) رضي الله تعالى عنهم.

وأراد المصنّف رحمه الله تعالى بهذا ترجيح العمل بحديث ميمونة رضي الله تعالى عنها المتقدّم الذي فيه إباحة الانتفاع بجلود الميتة إذا دُبغت؛ لكونه أصحّ منْ حديث ابن

ص: 43

عُكيم، حيث تُكلّم فيه بالعلل المتقدّمة، وإن أجيب عنها كما تقدّم، غير أن حديثها خالٍ عن ذلك، فيقدّم عليه.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: فِي ذكر المصنّف رحمه الله تعالى رواية عبيد الله، عن ابن عبّاس، نظر؛ لأنها ليس فيها للدباغ ذكر، اللَّهمّ إلا أن يكون نظرًا لذكرها فِي بقية الطرق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلتُ، وإليه أنيب".

‌6 - (الرُّخْصَةِ فِي الاِسْتِمْتَاعِ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَتْ)

4254 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ ح وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن ثَوْبَان، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، "أَمَرَ أَنْ يُسْتَمْتَعَ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ، إِذَا دُبِغَتْ").

رجال هَذَا الإسناد: تسعة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) الحنظليّ المروزي المعروف بابن راهويه، ثقة ثبت [10] 2/ 2.

2 -

(الحارث بن مسكين) أبو عمرو المصريّ القاضي، ثقة فقيه [10] 9/ 9.

3 -

(بشر بن عمر) بن الحكم بن عُقبة الزهراني -بفتح الزاي- الأزديّ، أبو محمد البصريّ، ثقة [9].

قَالَ أبو حاتم: صدوق. وَقَالَ العجليّ: بصريّ ثقة. وَقَالَ الحاكم: ثقة مأمون.

وَقَالَ ابن سعد: توفّي بالبصرة سنة (207) فِي شعبان، وكان ثقة. وكذا أرّخه القرّاب، وقبله ابن زَبْر. وَقَالَ ابن حبّان فِي "الثقات": مات ليلة الأحد فِي آخر سنة ستّ، أو أول سنة سبع، قَالَ: وقيل: سنة تسع. روى له الجماعة، وله عبد المصنّف فِي هَذَا الكتاب حديث الباب فقط.

4 -

(ابن القاسم) هو عبد الرحمن الْعُتقي الفقيه المصريّ، صاحب مالك، ثقة، منْ

ص: 44

كبار [10] 19/ 20.

5 -

(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة الثقة الثبت الفقيه [7] 7/ 7.

6 -

(يزيد بن عبد الله بن قُسيط) -بقاف، ومهمدتين، مصغّرًا- الليثيّ، أبو عبد الله المدنيّ الأعرج، ثقة [4] 50/ 960.

7 -

(محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان) العامريّ المدنيّ، ثقة [3] 47/ 2258.

8 -

(أمه) هي أم محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، هي مقبولة [3].

روت عن عائشة، وعنها ابنها محمد بن عبد الرحمن، ذكرها ابن حبّان فِي "الثقات"، روى لها المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه حديث الباب فقط.

9 -

(عائشة) رضي الله تعالى عنها 5/ 5. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم موثّقون. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين منْ مالك. (ومنها): أن فيه ثلاثة منْ التابعين يروي بعضهم عن بعض: يزيد، ومحمد بن عبد الرحمن، وأمه، وفيه رواية الراوي عن أمه، وفيه عائشة رضي الله تعالى عنها منْ المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُمِّهِ) هكذا فِي بعض نسخ "المجتبى"، وهو الذي فِي رواية أبي داود فِي "كتاب اللباس" برقم 4124 وابن ماجه فِي "اللباس" أيضًا برقم 3612 - وهو الذي فِي "تحفة الأشراف" -12/ 444 - ووقع فِي النسخة "الهندية" منْ "المجتبى"، "عن أبيه" بدل "عن أمه"، وهو الذي فِي "الكبرى"، بل أشار فِي هامش "الهنديّة" أنه وقع فِي بعض النسخ "عن عبد الرحمن بن ثوبان"، بدل عن أبيه.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن "عن أبيه" تصحيفٌ، والصواب "عن أمّه"؛ لأنه الذي اتفقت عليه الروايات، فقد روى الحديث مالك فِي "الموطّإ" رقم 308 وأحمد فِي "مسنده" 6/ 104 والدارميّ فِي "سننه" رقم 1993 وأبو داود فِي "سننه" رقم 4124، وابن ماجه فِي "سننه" 3612 - فكلهم بلفظ "عن أمه"، وجزم الحافظ المزّي فِي "تحفة الأشراف" -12/ 444 - بأمه، ونصّ ترجمته:"أم محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن عائشة" ورمز لأبي داود، والنسائيّ، وابن ماجه، فجعل رواية المصنّف أيضًا بلفظ "عن أمه"، ولم يذكر خلاف ذلك، فدلّ أن "عن أبيه" تصحيف، والصواب "عن أمه"، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

ص: 45

[تنبيه]: مما يؤيّد ذلك أني لم أجد ترجمة عبد الرحمن بن ثوبان، والد محمد هَذَا، فلو كانت له رواية لترجموه، ولاسيّما إذا كَانَ ممن له رواية فِي الأصول الستّة. والله تعالى أعلم.

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله تعالى عنها (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ) أي أذن، ورخّص (أَنْ يُسْتَمْتَعَ) بالبناء للمفعول: أي يُنتفع (بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ، إِذَا دُبِغَتْ") هَذَا الْحَدِيث يَدُلّ عَلَى أنَّ جُلُود الْمَيْتَة كُلّهَا طَاهِرَة بَعْد الدِّبَاغ يحِلّ الاسْتِمْتاع بِهَا، وهذا هو المذهب الصحيح، وَقَدْ تقدّم تمام البحث فيه قريبًا، فلا تغفل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهدا الحديث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هَذَا صحيحٌ

(1)

.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه أم محمد بن عبد الرحمن مجهولة؟.

[قلت]: تقدم الحديث منْ رواية الأسود، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، فلم تنفرد هي بروايته عنها، فالحديث صحيح. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -6/ 4254 - وفي "الكبرى" 7/ 4578. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلتُ، وإليه أنيب"

‌7 - (النَّهْىِ عَنْ الاِنْتِفَاعِ بِجُلُودِ السِّبَاعِ)

4255 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ يَحْيَى، عَنِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ

(1)

ضعفه الشيخ الألباني، ولعله لجهالة أم محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، وفيه نظرٌ، فإنها لم تنفرد به، بل تقدم الحديث منْ رواية الأسود، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، فهو صحيح، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

ص: 46

أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ أَبِيهِ:"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(عبيد الله بن سعيد) أبو قُدامة السرخسيّ، ثقة مأمون سنيّ [10] 15/ 15.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطّان البصريّ الإمام الحجة الثبت [9] 4/ 4.

3 -

(ابن أبي عَرُوبة) هو سعيد البصريّ، ثقة ثبت، يدلس، واختلط بآخره [6] 34/ 38.

4 -

(قتادة) بن دعامة السدوسي البصريّ، ثقة ثبت يدلس [4] 30/ 34.

5 -

(أبو الْمَليح) بن أسامة بن عمير، أو عامر بن حُنيف بن ناجية الْهُذَليّ البصريّ، ثقة [3] 102/ 139.

6 -

(أبوه) أسامة بن عُمير بن عامر بن الأُقيش الهذلي البصريّ، صحابي تفرد ولده بالرواية عنه، وتقدمت ترجمته فِي 104/ 139. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير والد أبي المليح، فإنه منْ رجال الأربعة. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فإنه سرخسيّ، وفيه رواية تابعيّ، تابعيّ، والابن عن أبيه، وفيه والد أبي المديح تفرّد بالرواية عنه ابنه. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ) بفتح الميم، وكسر اللام عامر بن أُسامة، وقيل: غيره (عَن أَبِيهِ) أسامة بن عُمير رضي الله تعالى عنه (أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن جُلُودِ السِّبَاعِ) أي عن استعمال جلود السباع. قيل: المراد به قبل الدبغ، وقيل: مطلقًا، إن قيل بعدم طهارة الشعر بالدبغ، كما هو مذهب الشافعيّ، وإن قيل: بطهارته فالنهي لكونها منْ دأب الجبابِرة، وعمل المترفّهين.

(نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ) زاد فِي رواية التِّرمِذِيّ: "أنْ تُفْتَرَش". وقدْ اسْتُدِلَّ بهِ عَلَى أنَّ جُلُود السِّبَاع، لا يَجُوز الانْتِفَاع بِهَا. وَقَدْ اخْتُلِف فِي حِكْمَة النَّهْي، فَقَالَ الْبَيْهقِيُّ: يَحْتَمِل أَنَّ النَّهْي وَقَعَ لِما يَبْقَى عَلَيْهَا منْ الشَّعْر؛ لِأَنَّ الدِّبَاغ لا يؤَثِّر فِيهِ. وَقَالَ غَيْره: يَحْتَمِل أَنَّ النَّهْي عَمَّا لَمْ يُدْبَغ مِنْهَا؛ لِأجْلِ النَّجَاسَة، أوْ أنَّ النَّهْي لِأجْلِ أنَّهَا مَراكِب أَهْل السَّرَف، وَالْخُيَلاء.

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ رحمه الله تعالى: مَا مُحَصَّلَهُ: الاستدلال بأحاديث النهي عن جلود

ص: 47

السباع عَلَى أن الدباغ لا يُطهّر جلود السباع، بناء عَلَى أنها مخصِّصة للأحاديث القاضية بأن الدباع مطهّر عَلَى العموم، غير ظاهر؛ لأن غاية ما فيها مجرّد النهي عن الركوب عليها، وافتراشها، ولا ملازمة بين ذلك، وبين النجاسة، كما لا ملازمة بين النهى عن الذهب والحرير، ونجاستهما، فلا معارضة، بل يُحكم بالطهارة بالدباغ، مع منع الركوب عليها، ونحوه، مع أنه يمكن أن يقال: إن أحاديث هَذَا الباب أعم منْ الأحاديث التي تقدّمت فِي إباحة المدبوغ منْ جلد الميتة، منْ وجه؛ لشمولها لِمَا كَانَ مدبوغًا، منْ جلود السباع، وما كَانَ غير مدبوغ. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله تعالى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث والد أبي الْمليح رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -7/ 4255 - وفي "الكبرى" 8/ 4579. وأخرجه (د) فِي "اللباس" 4132 (ت) فِي "اللباس" 1770 و1771 (أحمد) فِي "أول مسند البصريين" 30183 و20189 (الدارمي) فِي "الأضاحي" 1983. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قَالَ الإمام الترمذيّ رحمه الله تعالى بعد أن أخرج الحديث: ما نصّه: ولا نعلم أحدا، قَالَ: عن أبي المليح، عن أبيه، غيرَ سعيد بن أبي عروبة.

ثم ساق الحديث منْ طريق شعبة، عن يزيد الرِّشْك، عن أبي المليح، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أنه نهى عن جلود السباع"، مرسلًا، ثم قَالَ: وهذا أصح. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أن الترمذي إنما رجّح رواية شعبة؛ لكونه أحفظ منْ سعيد، لكن الحديث يشهد له حديث المقدام بن معدي كرب رضي الله تعالى عنه الآتي بعده، فلا يضره ترجيح الإرسال. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم الانتفاع بجلود السباع:

قَالَ الإمام ابن قُدامة رحمه الله تعالى: فأما جلود السباع، فَقَالَ القاضي: لا يجوز الانتفاع بها قبل الدبغ وبعده، وبذلك قَالَ الأوزاعيّ، ويزيد بن هارون، وابن المبارك، وإسحاق، وأبو ثور. ورُوي عن عمر، وعلي رضي الله تعالى عنهما كراهية الصلاة فِي

(1)

"نيل الأوطار" 1/ 82.

ص: 48

جلود الثعالب، وكرهه سعيد بن جُبير، والحكم، ومكحول، وإسحاق، وكره الانتفاع بجلود السنانير عطاءٌ، وطاوس، ومجاهد، وعَبِيدة السلْماني.

ورخّص فِي جلود السباع جابر، ورُوي عن ابن سيرين، وعروة أنهم رخّصوا فِي الركوب عَلَى جلود النمور، ورخّص فيها الزهريّ. وأباح الحسن، والشعبيّ، وأصحاب الرأي الصلاة فِي جلود الثعالب؛ لأن الثعالب تُفدى فِي الإحرام، فكانت مباحة، ولما ثبت منْ الدليل عَلَى طهارة جُلود الميتة بالدباغ. انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله تعالى

(1)

.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي ترجيح هو قول منْ قَالَ بإباحة استعمال جلود السباع المدبوغة؛ وأن النهي عن الانتفاع بها مقيّد بما إذا لم تُدبغ؛ جمعا بين أحاديث الباب، والأحاديث الماضية التي أباحت الانتفاع بجلود الميتة المدبوغة مطلقًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4256 -

(أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، عَنْ بَحِيرٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ، وَمَيَاثِرِ النُّمُورِ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(عمرو بن عثمان) أبو حفص الحمصيّ، صدوق [10] 21/ 535.

2 -

(بقيّة) بن الوليد الكَلاعيّ الحمصيّ، صدوق، كثير التدليس عن الضعفاء [8] 45/ 55.

3 -

(بَحِير) بن سعد السَّحُوليّ، أبو خالد الحمصيّ، ثقة ثبت [6] 1/ 688.

4 -

(خالد بن معدان) أبو عبد الله الكلاعيّ الحمصيّ، ثقة عابد [3] 1/ 688.

5 -

(الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ) بن عمرو الكِنْديّ، الصحابيّ المشهور، نزل الشام، ومات رضي الله تعالى عنه (87) عَلَى الصحيح، وله (91) سنة تقدّمت ترجمته فِي -26/ 2164. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، وبقية وإن كَانَ مدلسًا تدليس التسوية فقد أخرج له مسلم فِي المتابعات، وعلق له البخاريّ. (ومنها): أنه مسلسل بالحمصيين. والله تعالى أعلم.

(1)

"المغني" 1/ 92 - 93.

ص: 49

شرح الحديث

(عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ) بن عمرو الكِنْديّ رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ) أي عن استعمالهما للرجال، وإطلاقه يشمل استعمال الحرير بالفرش، وَقَدْ جاء عنه النهي صريحًا فِي "صحيح البخاريّ"، وسيأتي الكلام فِي استعمال الذهب والحرير فِي موضعه منْ "كتاب الزينة"، إن شاء الله تعالى.

(وَمَيَاثِرِ النُّمُورِ)"المياثر": جمع مِيثرة، بكسر الميم، وسكون التحتانيّة، وفتح المثلّثة، بعدها راء، ثم هاء، ولا همز فيها، وأصلها منْ الوثارة، أو الوِثرة بكسر الواو، وسكون المثلّثة، والوثير: هو الفراش الوطيء، وامرأة وثيرةٌ: كثيرة اللحم.

قَالَ فِي "القاموس": الْمِيثرةُ: الثوب الذي تُجلَّل به الثياب، فيعلوها، وهَنَةٌ كهيئة الْمِرْفقة، تُتّخَذ للسّرْج كالصُّفَّة، جمعه مواثرُ، ومياثرُ، وجلود السباع، ومراكب تُتّخذ منْ الحرير والديباج. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: المناسب لما هنا جلود السباع، فالمعنى: وجلود النمور، أي نهى أن تُفرش جلودها عَلَى السُّرُج، والرِّحَال للجلوس عليها.

والنمور، وفي رواية:"النمار" جمع نَمِر بفتح النون، وكسر الميم، ويجوز التخفيف بكسر النون، وسكون المين: وهو سبُعٌ أجرأ، وأخبث منْ الأسد، وهو منقّط الجلد بنقط سود وبِيض، وفيه شبه منْ الأسد، إلا أنه أصغر منه، ورائحة فمه طيّبة، بخلاف الأسد، وبينه وبين الأسد عداوة، وهو بَعيد الوثبة، فربّما وثب أربعين ذراعًا.

وإنما نهي عن استعمال جلده لما فيه منْ الزينة والخيلاء، ولأنه زيّ العجم، ولأنها لا تُذكّى غالبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث المقدام بن معدي كرِب رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده بقيّة، وهو معروف بالتدليس عن الضعفاء، وَقَدْ عنعنه؟.

[أجيب]: بأنه صرّح بالتحديث عبد أحمد، 4/ 132 فقد أخرجه منْ طريق حيوة بن شُريح، ثنا بقية، ثنا بَحِير بن سعد به، وأيضًا يشهد له حديث أبي المليح، عن أبيه: أن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم "نهى عن جلود السباع"، وهو الحديث الذي قبله.

ص: 50

والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -7/ 4256 و4257 - وفي "الكبرى" 8/ 5480 و4581. وأخرجه (د) فِي "اللباس" 4131. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4257 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، عَنْ بَحِيرٍ، عَنْ خَالِدٍ، قَالَ: وَفَدَ الْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِيكَرِبَ، عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ لَهُ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ لُبُوسِ جُلُودِ السِّبَاعِ، وَالرُّكُوبِ عَلَيْهَا، قَالَ نَعَمْ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الحديث تقدّم سنده، وتخريجه فِي الذي قبله.

و"معاوية": هو ابن أبي سفيان بن حرب الصحابيّ المشهور رضي الله تعالى عنهما.

وقوله: "أنشُدك بالله" بضم الشين المعجمة: أي أسألك با الله تعالى، يقال: نشدتك الله، وبالله أنشدُك، منْ باب نصر: ذكّرتك به، واستطعفتك، أو سألتك به، مُقسِمًا علمِك. أفاده الفيّوميّ.

وقوله: "عن لُبُوس جلود السباع" هكذا نسخ "المجتبى""لبوس" بواو بعد الباء، والذي فِي "الكبرى" عن لُبس" بغير واو، وهو الذي فِي "سنن أبي داود"، وهو الموافق لما فِي كتب اللغة، فإنه بضم اللام، وسكون الباء الموحّدة مصدر لبِس بكسر الباء منْ باب تعب، ولم أجد فِي "القاموس"، ولا فِي "المصباح" "لبوسا" لا مصدرًا، ولا جمعًا، فليُحرّر. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قصّة وفادة المقدام بن معدي كرب عَلَى معاوية رضي الله تعالى عنهما، اختصرها المصنّف، وَقَدْ ساقها أبو داود فِي "سننه" مطوّلةً بسند المصنّف، فَقَالَ:

4131 -

حدثنا عمرو بن عثمان بن سعيد الحمصي، حدثنا بقية، عن بحير، عن خالد، قَالَ: وَفَدَ المقدام بن معدي كرب، وعمرو بن الأسود، ورجل منْ بني أسد، منْ أهل قِنّسرين إلى معاوية بن أبي سفيان، فَقَالَ معاوية للمقدام: أعلمت أن الحسن بن علي توفي، فرجَّعَ المقدام، فَقَالَ له رجل: أتَرَاها مصيبة؟، قَالَ له: ولِمَ لا أراها مصيبة، وَقَدْ وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي حجره، فَقَالَ:"هَذَا مني، وحسين منْ علي"، فَقَالَ الأسدي: جَمْرَة أطفأها الله عز وجل، قَالَ: فَقَالَ المقدام: أما أنا فلا أبرَحُ اليوم، حَتَّى أُغِيظَك، وأسمعك ما تكره، ثم قَالَ: يا معاوية، إن أنا صدقت فصدقني، وإن أنا كذبت فكذبني، قَالَ: أفعل، قَالَ: فأنشدك بالله، هل تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الذهب؟، قَالَ: نعم، قَالَ: فأنشدك بالله، هل تعدم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نهى عن

ص: 51

لبس الحرير؟، قَالَ: نعم، قَالَ: فأنشدك بالله، هل تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نهى عن لبس جلود السباع، والركوب عليها؟، قَالَ: نعم، قَالَ: فوالله فقد رأيت هَذَا كله فِي بيتك، يا معاوية، فَقَالَ: معاوية، قد علمتُ أني لن أنجو منك، يا مقدام، قَالَ خالد: فأمر له معاوية بما لم يأمر لصاحبيه، وفَرَضَ لابنه فِي المائتين، ففرّقها المقدام فِي أصحابه، قَالَ: ولم يُعطِ الأسديُّ أحدا شيئًا، مما أَخَذَ، فبلغ ذلك معاوية، فَقَالَ: أما المقدام فرجل كريم، بَسَطَ يده، وأما الأسدي فرجل حسن الإمساك لِشَيئِهِ. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلتُ، وإليه أنيب".

‌8 - (النَّهْىِ عَنْ الاِنْتِفَاعِ بِشُحُومِ الْمَيْتَةِ)

4258 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَامَ الْفَتْحِ، وَهُوَ بِمَكَّةَ، يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ عز وجل وَرَسُولَهُ، حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالأَصْنَامِ"، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ، فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدَّهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ، فَقَالَ: "لَا هُوَ حَرَامٌ"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عِنْدَ ذَلِكَ: "قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللَّهَ عز وجل لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الشُّحُومَ، جَمَّلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(الليث) بن سعد الإمام الحجة الثبت المصريّ [7] 31/ 35.

3 -

(يزيد بن أبي حبيب) سُويد، أبو رجاء المصريّ، ثقة فقيه يرسل [5] 134/ 207.

4 -

(عطاء بن أبي رباح) المكيّ الثقة ثبت الفقيه [3] 112/ 154.

5 -

(جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَمي رضي الله تعالى عنهما 31/ 35. والله تعالى أعلم.

ص: 52

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات المصريين، إلا عطاء فمكي، وجابرًا فمدني. (ومنها): أن فيه رواية تابعيين عن تابعيّ، وفيه جابر منْ المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ) ذكِر الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى بعد أن ساق الحديث عن قتيبة بسند المصنّف، ما يبين أن يزِيد بْن أبِي حبيب، لم يسمعهُ منْ عطاء، وإِنَّما كتب بِهِ إِليهِ، ونصّه: وَقَالَ أبو عاصم: حدّثنا عبد الحميد، حدّثنا يزيد، كتب إليّ عطاء، سمعت جابرًا رضي الله تعالى عنه، عن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم. انتهى.

قَالَ فِي "الفتح": ولِيزيد فِيهِ إِسْنَاد آخر، ذكره أبُو حَاتِم، فِي "الْعِلَل" منْ طرِيق حَاتِم ابْن إِسْمَاعِيل، عن عبد الحمِيد بن جَعْفر، عن يزِيد بْن أبِي حبيب، عن عَمْرو بْن الْوَلِيد ابْن عَبَدةَ

(1)

، عن عبد الله بْن عمرو بْن الْعَاصِ. قَالَ ابْن أبِي حَاتِم: سَأَلتْ أبِي عَنهُ؟ فَقَالَ: قَدْ رَوَاهُ مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عن يزِيد، عن عطاء، ويزِيد لم يَسْمَع مِن عَطَاء، ولا أعْلمِ أحدًا منْ المِصْرِيِّين، رواهُ عن يَزِيد، مُتابِعًا لِعبدِ الْحَمِيد بن جَعْفَر، فَإِنْ كَانَ حَفِظَهُ، فهُو صَحِيح؛ لِأنَّ مَحَلّه الصِّدق.

قَالَ الحافظ: قد اختُلِف فِيهِ عَلَى عَبْد الْحَمِيد، وَرِوَاية أبِي عَاصِم عَنْهُ المُوَافَقَة لِرِوَايةِ غيره عن يزِيد أرْجَح، فتكُون رِوَاية حَاتِم بْن إِسْمَاعِيل شَاذَّة. انتهى.

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) رضي الله تعالى عنهما وفِي رِواية أحمد، عن حَجَّاج بن مُحَمَّد، عن اللَّيث بسندِهِ:"سمِعت جابِر بْن عبد الله بمكة"(أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ، وَهُوَ بِمَكَّةَ) فيه بيان تاريخ ذلك، وكان ذلك فِي رمضان، سنة ثمان منْ الهجرة، ويحتمل أن يكون التحريم وقع قبل ذلك، ثم أعاده صلّى الله تعالى عليه وسلم ليسمعه منْ لم يكن سمعه. قاله فِي "الفتح"

(2)

(يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ عز وجل وَرَسُولَهُ، حَرَّمَ) هكذا وقع هنا، وفي "الصحيحين" بإسناد الفعل إلى ضمير الواحد، وكان الأصل "حرّما"، فَقَالَ القُرْطُبِيّ: إِنَّه صلى الله عليه وسلم تأدَّب، فلمْ يَجْمع بينه وبين اسْم الله فِي ضَمِير الاثْنَينِ؛ لِأنَّه مِنْ نوْع ما رَدَّ بِهِ عَلَى الْخَطيب الَّذِي قَالَ:"وَمَنْ يَعْصِهِمَا".

قَالَ الحافظ: كذا قَالَ، ولَمْ تَتَّفِق الرُّواة فِي هَذَا الْحَدِيث عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ فِي بَعْض طُرُقه

(1)

بفتحات.

(2)

"فتح" 5/ 177. "كتاب البيوع" رقم الحديث 2236.

ص: 53

فِي الصَّحِيح: "إِنَّ الله حَرَّمَ"، ليس فِيهِ:"ورسُوله"، وفِي رواية لابْنِ مَرْدوْيهِ، مِنْ وَجْه آخر، عن اللَّيْث:"إِنَّ الله وَرَسُوله حَرَّمَا"، وَقَدْ صحَّ حدِيث أنس رضي الله تعالى عنه فِي النَّهْي عَن أكل الحُمُر الأهلِيَّة:"إِنَّ الله ورسُوله يَنْهَيَانِكُم"، ووقع فِي رِواية النَّسائِيِّ فِي هَذَا الحدِيث:"يَنْهَاكُمْ"، والتَّحقِيق جواز الإفْراد فِي مِثْل هَذَا، وَوَجْهه الإشَارة إِلى أنَّ أمر النَّبِيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم نَاشِىءٌ عن أمر الله، وهُوَ نَحو قوْله:{وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} ، والْمُخْتار فِي هَذَا أنَّ الجُملة الأُولَى حُذِفَتْ؛ لِدلالةِ الثَّانِية عليها، والتَّقدِير عِند سِيبَوَيْهِ: والله أحَقّ أَنْ يُرْضُوهُ، وَرَسُوله أَحَقّ أن يُرْضُوهُ، وهُو كَقَوْلِ الشَّاعِر:

نَحْنُ بِمَا عِنْدنَا وَأنْتَ بِمَا

عِنْدك رَاضٍ والرَّأي مُخْتلِف

وقِيل: أَحَقّ أَنْ يُرْضُوهُ خَبَر عَن الاسْمَيْنِ؟ لِأنَّ الرَّسُول تَابع لِأمْرِ الله.

(بَيْعَ الْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالأَصْنَامِ) جمع صنم، قَالَ الجوهريّ: هو الوثن، وَقَالَ غيره: الوثن ما له جُثّةٌ، والصنم ما كَانَ مُصوّرًا، فبينهما عموم وخصوص وجهيّ، فإن كَانَ مصوّرًا فهو وثن وصنم.

(فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ) قَالَ الحافظ: لم أقف تسمية القائل، وفي رواية عبد الحميد:"فَقَالَ رجل"(أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ) جمع شَحْم، كفلس وفُلُوس (فَإِنَّهُ يُطْلَى) بالبناء للمفعول: أي يُلَطّخ (بِهَا السُّفُنُ وَيُدَّهَنُ بِهَا الْجُلُودُ)، بناء الفعل للمفعول، يقال: دَهَنْتُ الشعرَ وغيرَهُ، منْ باب قتل: إذا طليته. يعني: أن تلك الشحوم تُطْلَى بها الجلود (وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ) ببناء الفعل للفاعل: أي يُنوِّرُون بها مصابيحهم، فهل يجوز لنا بها الانتفاع بالبيع وغيره (فَقَالَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (لا هُوَ حَرَامٌ) الظاهر أن الضمير للانتفاع، أي الانتفاع بشحوم الميتة حرام، وهذا قاله أكثر العلماء، قَالَ فِي "الفتح": قوله: "هو حرام"، أي البيع حرام، هكذا فسّره بعض العلماء، كالشافعيّ، ومن اتّبعه، ومنهم منْ حمل قوْله:"هُوَ حَرَام" عَلَى الانتِفاع، فَقَالَ: يَحْرُم الانْتِفاع بِها، وهُوْ قَوْل أكثر العُلَمَاء، فلا يُنتفع منْ الميتة أصلاً عِنْدهمْ، إِلَّا مَا خُصَّ بِالدَّلِيلِ، وهُو الجِلْد المَدْبُوغ.

قَالَ الجامع: هَذَا هو الراجح عندي، قَالَ: واخْتَلفُوا فِيما يَتَنَجَّس مِنْ الأشيَاء الطَّاهِرة، فالجُمْهُور عَلَى الجَوَاز، وَقَالَ أحمد، وَابْن المَاجِشُونِ: لا يُنتفع بِشَيْءٍ منْ ذَلِكَ، واسْتَدَلَّ الخَطَّابِيُّ عَلَى جواز الانتِفاع بِإِجْمَاعِهِم عَلَى أنَّ منْ ماتت لهُ دَابَّة، ساَغَ لهُ إِطْعامها لِكِلابِ الصَّيْد، فَكَذلِكَ يَسُوغ دَهْن السَّفِينة بِشَحْمِ الْمَيْتة، ولا فَرْق.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بتحريم الانتفاع بشحوم الميتة مطلقًا هو الصواب؛ لظاهر هَذَا الحديث، ولقوله صلى الله عليه وسلم فِي حريث الفأرة الآتي قريبًا:"وإن كَانَ مائعًا فلا تقربوه". والله تعالى أعلم.

(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: "قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ) أي طردهم، وأبعدهم منْ رحمته

ص: 54

(إِنَّ اللَّهَ عز وجل لَمَّا حَرَّمَ) بفتح الحاء المهملة، وتشديد الراء، منْ التحريبم (عَلَيْهِمُ الشُّحُومَ جَمَّلُوهُ) بفتح الجيم، والميم مخفّفة، قَالَ فِي "اللسان": جَمَلَه يجْمُلُه جملاً -أي منْ باب نصر- وأجمله: أذابه، واستخرج دهنا، وجَمَلَ أفصحُ منْ أجمل، ثم استشهد بهذا الحديث (ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ) قَالَ فِي "الفتح": سِيَاقه مُشْعِر بِقُوَّةِ ما أوَّلَهُ الأكثرُ أنَّ المُراد بقولِهِ: "هُوَ حَرَام" الْبَيْع، لا الانْتِفاع.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "سياقه مشعر إلخ" فيه نظر، بل الظاهر أن الحمل عَلَى الانتفاع هو الأقوى، كما يرجحه حديث ميمونة رضي الله عنها الآتي حيث يقول:"وإن كَانَ مائعًا فلا تقربوه"، والله تعالى أعلم.

وَرَوَى أَحْمَد، والطَّبرانِيُّ منْ حَدِيث ابْن عُمَر، مَرْفُوعاً:"الْوَيْل لِبنِي إِسْرَائِيل، إِنَّهُ لَمَّا حُرِّمَتْ عَليهِم الشُّحُوم باعُوها، فَأكَلُوا ثَمَنَها، وَكَذلِك ثَمَن الْخَمْر عَلَيْكُم حَرَام". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -8/ 4258 وفي "البيوع" 93/ 4671 - وفي "الكبرى" 9/ 4582 وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 2236 و"التفسير" 4633 (م) فِي "المساقاة" 2960 (د) فِي "البيوع" 3486 (ت) فِي "البيوع" 1297 (ق) فِي "التجارات" 2167 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين"14086. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو النهي عن الانتفاع بشحوم المييتة. (ومنها): تحريم بيع هذه الأشياء المذكورة فِي هَذَا الحديث، وسيأتي تمام البحث فِي ذلك فِي "كتاب البيوع"، إن شاء الله تعالى. (ومنها): تحريم استعمال شحوم الميتة فِي أيّ نوع منْ أنواع الاستعمال. (ومنها): أن فيه إبطال كلّ حيلة، يُتوصّل بها إلى تحليل محرّم، وأنه لا يتغيّر حكمه بتغيّر هيئته، وتبدّل اسمه، فإن اليهود أذابوا الشحوم، حَتَّى صارت وَدَكًا، وزال عنها اسم الشحم، ومع ذلك لُعِنوا. (ومنها): أن منْ احتال فِي استعمال الأشياء المحرّمة، كَانَ ملعونًا؛ لكونه سلك مسلك اليهود الذين لعنهم الله تعالى؛ لانثهاكهم ما حرّم الله تعالى بالاحتيال. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقِي إلا بالله، عليه توكلتُ، وإليه أنيب".

***

ص: 55

‌9 - (النَّهْيُ عَنْ الاِنْتِفَاعِ بِمَا حَرَّمَ اللَّهُ عز وجل

4259 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أُبْلِغَ عُمَرُ أَنَّ سَمُرَةَ بَاعَ خَمْرًا، قَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ سَمُرَةَ، أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَجَمَّلُوهَا". قَالَ سُفْيَانُ: يَعْنِي أَذَابُوهَا).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه المذكور قبل بابين.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الحجة الثبت [8] 1/ 1.

3 -

(عمرو) بن دينار الجمحي، أبو محمد المكيّ، ثقة ثبت [4] 112/ 154.

4 -

(طاوس) بن كيسان الحميريّ مولاهم، أبو عبد الرحمن اليمنيّ، ثقة ثبت فقيه فاضل [3] 27/ 31.

5 -

(ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما 27/ 31.

6 -

(عمر) بن الخطاب رضي الله تعالى عنه 60/ 75. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وصحابي، عن صحابي، وفيه ابن عباس منْ المكثرين السبعة، والعباددة الأربعة، وفيه عمر رضي الله تعالى عنه أحد الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله تعالى عنهم. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: أُبْلِغَ) بالبناء للمفعول، منْ الإبلاع، وفي نسخة منْ "الكبرى":"بلغ " ثلاثيًّا، مبنيًّا للفاعل (عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه (أَنَّ سَمُرَةَ) بن جُندب بن هلال الفزاريّ، حَلِيف الأنصار، صحابيّ مشهور، مات رضي الله تعالى عنه بالبصرة سنة (58) (بَاعَ خَمْرًا) وفي رواية البخاريّ:"بلغَ عمر أن فلانًا باع خمرًا".

ص: 56

قَالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ، والقُرطُبِيُّ، وَغَيْرُهُمَا: اخْتُلِفَ فِي كيفِيَّةِ بَيْعِ سَمُرَة لِلخَمْرِ، عَلَى ثَلاثَةِ أقْوَالٍ:

[أَحَدُهَا]: أَنَّهُ أخَذَهَا منْ أهْلِ الْكِتاب عَن قِيمةِ الجِزْيةِ، فبَاعَها مِنْهُمْ، مُعْتقِدًا جَوازَ ذَلِكَ. وهذا حَكاهُ ابنُ الجوزِيِّ، عن ابْن نَاصِر، وَرَجَّحهُ، وَقَالَ: كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أنْ يُولِّيهُم بَيْعَهَا، فَلا يَدْخُلُ فِي مَحْظُورٍ، وإِنْ أَخَذَ أثْمَانَها مِنْهُمْ بَعْد ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ لَمْ يتَعَاطَ مُحَرَّمًا، وَيَكُونُ شَبِيهًا بِقِصَّةِ بَرِيرَةَ، حَيْثُ قَالَ:"هُوَ عَليْهَا صَدَقَةٌ، وَلنَا هَدِيَّةٌ".

[والثَّانِي]: يَجُوزُ أنْ يَكُون باَعَ الْعَصِيرَ، مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، والعَصِيرُ يُسَمَّى خَمْرًا، كَمَّا قد يُسَمَّى الْعِنَبُ بِهِ؛ لأنَّهُ يَئُولُ إِلَيْهِ، قالهُ الخَطَّابِيُّ، قَالَ: ولا يُظَنُّ بِسَمُرة أنَّهُ بَاعَ عَيْنَ الخَمْرِ، بَعْد أنْ شَاع تَحْريمُها، وإنَّمَا بَاعَ الْعَصِيرُ.

[والثَّالِثُ]: أَنْ يَكُون خَلَّلَ الْخَمْر، وبَاعَهَا، وكَانَ عُمَرُ يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ لا يُحِلُّهَا، كَمَا هُوَ قَوْلُ أَكْثرِ العُلَمَاءِ، واعْتَقَدَ سَمُرَةُ الْجَوَازَ، كَمَا تَأوَّلَهُ غَيْرُهُ أنَّهُ يَحِلُّ التَّخْلِيلُ، ولا ينْحَصرُ الحِلُّ فِي تَخْلِيلِها بِنَفْسِها. قَالَ القُرطُبِيِّ تبعًا لابنِ الجوزِيِّ: والأشبهُ الأوَّلُ.

قَالَ الحافظ: ولا يَتعيَّنُ عَلَى الوَجْهِ الأوَّلِ أخْذهَا عَن الجِزْيَةِ، بَلْ يَحْتمِلُ أنْ تَكُونَ حَصَلتْ لَهُ عن غَنِيمَةٍ، أَوْ غَيرِهَا. وَقَدْ أبْدَى الإسْماعِيلِيُّ فِي "الْمَدْخَلِ" فِيهِ احْتِمَالًا آخَرَ، وهُوَ أنَّ سَمُرَةَ عَلِمَ تَحرِيم الْخَمْرِ، ولَمْ يَعْلَم تَحرِيم بَيْعِهَا، وَلِذلِكَ اقْتَصَر عُمَرُ عَلَى ذَمِّهِ، دُونَ عُقُوبَتِهِ، وَهَذَا هُوَ الظَّنُّ بِهِ.

قَالَ الحافظ: وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ منْ الأخْبارِ، أنَّ سَمُرَة كَانَ والِيًا لِعُمَرَ عَلَى شَيْءٍ مِن أعْمَالِهِ، إِلَّا أنَّ ابْنَ الجَوزِيِّ أطْلَقَ، أَنَّهُ كَانَ والِيًا عَلَى البَصْرةِ، لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، وَهُوَ وَهَمٌ، فإِنَّما وَلِيَ سَمُرَة عَلَى البَصْرةِ لِزِيَادٍ، وابنِهِ عُبَيْدِ الله بْنِ زِياد، بَعْدَ عُمَر بِدَهْرٍ، وُلاةُ الْبَصْرةِ لِعُمَرَ قَدْ ضُبِطُوا، وَليْسَ مِنْهُمْ سَمُرَةُ. ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ بَعْضُ أُمَرائِهَا اسْتَعْمَلَ سَمُرَة، عَلَى قَبْضِ الْجِزْيَةِ. انتهى

(1)

.

(قَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ سَمُرَةَ، أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ) قَالَ الهرويّ: معنى قاتلهم: قتلهم، قَالَ: وفاعل أصلها أن يقع الفعل بين اثنين، وربّما جاء منْ واحد، كسافرتُ، وطارقت النعل. وَقَالَ غيره. معنى قاتلهم: عاداهم. وَقَالَ الداوديّ: منْ صار عدوّا لله وجب قتده. وَقَالَ البيضاويّ: قاتل: أي عادى، أو قتل، وأُخرج فِي صورة المبالغة، أو عبّر عنه بما هو مُسبّب عنهم، فإنهم بما اخترعوا منْ الحيلة انتصبوا لمحاربة الله، ومن حاربه حُرِب، ومن قاتله قُتِل. قاله فِي "الفتح"

(2)

.

(1)

"فتح" 5/ 164 - 165. "كتاب البيوع" رقم الحديث 2223.

(2)

"فتح" 5/ 166 "كتاب البيوع"2223.

ص: 57

(حُرِّمَتْ) بتشديد الراء، مبنيًّا للمفعول (عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ) أي أكلها، وإلا فلو حُرّم عليهم بيعها لم يكن لهم حِيلةٌ فيما صنعوه منْ إذابتها (فَجَمَلُوهَا) بفتح الجيم والميم المخفّفة (قَالَ سُفْيَانُ) ابن عُيينة رحمه الله تعالى، مفسرًا لمعنى "جَمَلوها" (ييَعْنِي أَذَابُوهَا) يقال: جمله: إذا أذابه، والْجَمِيلُ الشحْمُ الْمُذاب.

قَالَ فِي "الفتح": ووجهُ تشبِيهِ عُمر رضي الله تعالى عنه بيع المُسلِمِين الخمر بِبيعِ اليهُودِ الْمُذاب منْ الشَّحْمِ الاشْتِراكُ فِي النَّهْي عن تناوُلِ كُلٍّ مِنْهُما، لكِن لَيْسَ كُلُّ ما حُرِّم تَنَاوُلُهُ حُرِّمَ بَيْعُهُ، كَالحُمُرِ الأهْليَّةِ، وَسِبَاع الطَّيرِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ اشْتِراكهُما فِي كونِ كُلٍّ مِنْهُما صار بِالنَّهْي عَن تَنَاوُلِهِ نَجَسًا، هكذا حكاهُ ابنُ بَطَّالٍ عن الطَّبرِيِّ، وَأَقَرَّهُ، ولَيْس بِواضِحٍ، بل كُلُّ ما حُرِّم تناوُلُهُ حُرِّمَ بَيْعُهُ، وتناوُلُ الْحُمُرِ والسِّبَاع، وغيرِهِما مِمَّا حُرِّم أكلُهُ، إِنَّما يتأتَّى بَعْد ذَبحِهِ، وهُو بِالذَّبْح يصِيرُ ميتَةً؛ لِأنَّهُ لا ذَكَاةَ لهُ، وإِذَا صَار مَيْتةً صار نجسًا، ولمْ يجُز بيعُهُ، فالإيرَادُ فِي الأصْلِ غَيرُ وارِدٍ، هَذَا قَولُ الْجُمْهُورِ، وَإِنْ خَالَفَ فِي بعضِهِ بَعْضُ النَّاسِ.

وأمَّا قولُ بَعْضِهِم: الابْنُ إِذَا وَرِثَ جَارِية أبِيهِ، حَرُمَ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا، وَجَازَ لَهُ بيعُها، وأكْلُ ثَمنِها، فأجَاب عِيَاضٌ عنهُ، بِأنَّهُ تَمْوِيهٌ؛ لِأنَّهُ لم يحرُم عَلَيْهِ الانتِفاعُ بِها مُطلقًا، وَإِنَّمَا حرُم عَلَيْهِ الاسْتِمتَاعُ بِها؛ لِأمْرٍ خارِجِيٍّ، والانتِفاعُ بِها لِغيرِهِ فِي الاستِمتاعِ وغيرِهِ حلالٌ، إِذَا ملكها، بِخِلافِ الشُّحُومِ، فَإِنَّ الْمَقْصُود مِنْها، وهُو الأَكْلُ كَانَ مُحرَّمًا عَلَى اليَهُودِ، فِي كُلِّ حَالٍ، وعلى كُلِّ شَخْصٍ فَاقْتَرقَا. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعاد، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عمر رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -9/ 4259 - وفي "الكبرى" 10/ 4583. وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 2223 و"أحاديث الأنبياء" 3460 (م) فِي "المساقاة" 2961 (ق) فِي "الأشربة" 3383 (أحمد) فِي "مسند العشرة" 171 (الدارمي) فِي "الأشربة" 2104. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوالده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان النهي عن الانتفاع بما حرّم الله عز وجل. (ومنها): أن فيه مشروعيّة لَعْنُ الْعَاصِي الْمُعِينِ، وَلَكِنْ يَحْتمِلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْل عُمر رضي الله تعالى عنه: "قاتل الله سَمُرَة"، لم يُرِد بِهِ ظاهِرهُ، بَلْ هِيَ كَلِمَةٌ

ص: 58

تقُولُها العربُ، عِند إِرادةِ الزَّجْرِ، فقالها فِي حقِّهِ؛ تغلِيظًا عَلَيْهِ. (ومنها): أن فِيهِ إِقَالَةَ ذوِي الهيئاتِ زَلَّاتهِم؛ لأنَّ عُمر رضي الله تعالى عنه، اكْتَفَى بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ عن مَزِيدِ عُقُوبةِ، ونَحْوِهَا. (ومنها): إِبْطَالُ الحِيَلِ، والوَسَائِلِ إِلى المُحرَّمِ. (ومنها): أن فِيهِ تَحرِيم بيعِ الْخَمْرِ، وَقَدْ نقَل ابْنُ المُنْذِرِ وغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ الإجْمَاع، وشَذَّ مِنْ قَالَ: يَجُوزُ بيعُها، وَيَجُوزُ بيعُ العُنقُودِ المُسْتَحِيلِ باطِنُهُ خمرًا، واخْتُلِف فِي عِلَّةِ ذَلِكَ، فقِيل لِنجَاسَتِهَا، وقِيل: لِأنَّهُ ليْس فِيها منفعةٌ مُبَاحةٌ مقصُودةٌ، وقِيل: لِلمُبَالَغَةِ فِي التَّنْفِيرِ عنها. (ومنها): أن الشَّيْء إِذَا حُرِّمَ عينُهُ، حُرِّم ثمنُهُ. (ومنها): أنه دلِيلٌ عَلَى أنَّ بيعِ الُمسْلِمِ الْخَمْر منْ الذِّمِّيِّ، لا يَجُوزُ، وكذا تَوْكِيلُ الْمُسْلِم الذِّمِّيَّ فِي بيع الْخَمْرِ، وأمَّا تحرِيمُ بَيْعِها عَلَى أهْلِ الذِّمَّةِ، فمبنِيٌّ عَلَى الْخِلافِ فِي خِطَاب الْكَافِرِ بِالفُرُوعِ. (ومنها): أن فِيهِ اسْتِعْمَال القِيَاسِ فِي الأشْبَاهِ والنَّظَائِرِ. (ومنها): أنه استُدِلَّ بِهِ عَلَى تَحرِيمِ بيعِ جُثَّةِ الْكَافِرِ، إِذَا قَتَلْنَاهُ، وأرَادَ الكَافِرُ شِرَاءَهُ، وعَلَى مَنْعِ بَيْعِ كُلِّ مُحَرَّم نَجَسِ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ منفعةٌ، كَالسِّرقِين، وأجَازَ ذَلِكَ الكُوفِيُّون، وذهب بعضُ المالِكِيَّةِ إِلى جَوازِ ذَلِكَ لِلمُشْتَرِي، دُونَ البائعِ؛ لاحْتِياجِ المُشْتَرِي دُوْنهُ. وسيأتي البحث فيما يتعلّق ببيع الأشياء المحرّمة فِي "كتاب البيوع"، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلتُ، وإليه أنيب".

‌10 - (بَابُ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الفأرة: تُهمزُ، ولا تُهمز، وتقع عَلَى الذكر والأنثي، والجمع فأرٌ، مثلُ تَمْرَة وتمر، وفئِر المكانُ يَفْأرُ، فهو فَئِرٌ، مهموزٌ، منْ باب تَعِب: إذا كثُر فيه الفأر، ومكانٌ مَفْأرٌ عَلَى مفعل كذلك، وفَأْرة المسك مهموز، ويجوز تخفيفها، نصّ عليه ابن فارس. وَقَالَ الفارابيّ فِي باب المهموز: وهي الفأرة، وفأرة المسك. وَقَالَ الجوهريّ: غير مهموز، منْ فار يفور، والأولى أثبت. قاله فِي "المصباح".

و"السَّمْنُ" -فتح، فسكون-: ما يُعمل منْ لبن البقر والغنم، والجمع سُمْنان -بضمّ، فسكون- مثلُ ظهر وظُهْران، وبَطْن وبُطْنان. قاله فِي "المصباح" أيضًا. والله تعالى أعلم بالصواب.

4260 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ، أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ، فَمَاتَتْ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟

ص: 59

فَقَالَ: "أَلْقُوهَا، وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوهُ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد المذكور قبل باب.

2 -

(سفيان) بن عيينة المذكور فِي الباب الماضي.

3 -

(الزهريّ) محمد بن مسلم القوشي المدنيّ الإمام الحجة الثبت [4] 1/ 1.

4 -

(عبيد الله بن عبد الله) بن عتبة بن مسعود المدنيّ الثقة الثبت الفقيه [3] 45/ 56.

5 -

(ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما المذكور فِي الباب الماضي.

6 -

(ميمونة) أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها المذكورة قبل أربعة أبواب. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. ومنها: أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين منْ الزهريّ، وشيخه بغلانيّ، وسفيان مكيّ. (ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّة، وتابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أحد الفقهاء السبعة، عبيد الله، وأحد المكثرين السبعة والعبادلة الأربعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ مَيْمُونَةَ) رضي الله تعالى عنها، اختُلف عَلَى الزهريّ فِي إثبات ميمونة فِي الإسناد، وعدمه، والراجح إثباتها فيه، وَقَدْ حقق الكلام فِي هَذَا الحافظ فِي "الفتح"، فراجعه

(1)

(أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِى سَمْنٍ) تقدّم ضبطه قريبًا (فَمَاتَتْ) فيه دليلٌ عَلَى أن تأثيرها فِي المائع عبد موتها فيه، فلو خرجت حية، لم يضرّه (فَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟) قَالَ فِي "الفتح": هُوَ كَذلِك فِي أكْثَر الرِّوايات بِإِبْهَامِ السَّائِل، ووقع فِي رواية الأوْزاعِيِّ، عند أحْمَد تَعْيِين منْ سَألَ، ولفْظه: "عَنْ ميمُونة، إِنَّهَا اسْتَفْتَتْ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن فَأرَة

" الْحَدِيث، وَمِثلُهُ فِي رِواية يَحْيَى الْقَطَّان، عن مالِك عِند الدَّارقُطنِيّ، بِلفظِ: "عَن ابْن عَبَّاس، أَنَّ مَيْمُونة اسْتَفْتَتْ". انتهى.

(فَقَالَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (أَلْقُوهَا، وَمَا حَوْلَهَا) قَالَ فِي "الفتح": هكذا أوْردهُ أكثر أصحاب ابْن عُيينةَ عَنهُ، ووقع فِي "مُسْند إِسْحَاق بن رَاهْويَهِ"، وَمِنْ طرِيقه أَخْرجَهُ ابن حِبَّان، بِلَفْظِ: "إِنْ كَانَ جَامِدًا فألْقُوها ومَا حَوْلَهَا، وَكُلُوهُ، وَإِنْ كَانَ ذَائِبًا فلا

(1)

"فتح" 1/ 457 - 458 رقم الحديث 235.

ص: 60

تَقْرَبُوهُ"، وهذِهِ الزِّيَادَة فِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة غَرِيبَة، وإنّما هي مشهورة فِي رواية معمر، عن الزهريّ. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رواية معمر هي الرواية الثالثة الآتية للمصنف، إن شاء الله تعالى.

قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: لم يَرِد فِي طّرِيق صحِيحة تَحدِيد ما يُلْقَى، لكِن أَخْرجَ ابْن أبِي شيبة منْ مُرْسَل عطاء بن يسار، أَنَّهُ يكُون قَدْر الْكَفّ، وسنده جَيِّد، لَوْلا إِرْسَاله. وَقَدْ وقَع عِند الدَّارقُطنِيّ منْ رِواية يحيى القَطَّان، عَنْ مالِك فِي هَذَا الْحَدِيث:"فَأمَر أنْ يُقَوَّر ما حَوْلهَا، فيُرْمَى بِهِ"، وهذا أظهر فِي كَوْنه جَامِدًا منْ قَوْله:"وَمَا حَوْلَها"، فيَقْوَى مَا تَمَسَّك بِهِ ابْن العربيّ فِي كلامه الآتي، وَأَمَّا ما أخْرَجهُ الطَّبرانِيّ عن أبِي الدَّردَاء مرْفُوعًا، مِن التَّقْيِيد فِي الْمأخُوذ مِنْهُ ثَلاث غُرُفَات بالكَفَّينِ، فَسَنَده ضَعِيف، وَلَوْ ثَبتَ لَكَان ظَاهِرًا فِي الْمَائِع. انتهى كلام الحافظ (وَكُلُوهُ) أي الباقي بعد الإلقاء، والأمر فيه للإباحة، أي إن أكله حلال لكم.

[تنبيه]: زاد البخاريّ فِي آخر هذه الرواية: ما نصّه: قيل لسفيان: فإن معمرًا يحدّث عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قَالَ: ما سمعت الزهريّ يقول، إلا عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولقد سمعته منه مرارا.

قَالَ فِي "الفتح": قوْله "قِيل لِسُفْيَان" القَائِل لِسُفْيان ذَلِكَ، هُو علِيُّ بن المدِينِيّ، شيخ البُخَارِيّ، كَذلِك ذَكرهُ فِي "عِلَله". وقوْله:"فإِنَّ معْمرًا يُحدِّث بِهِ إِلَخْ" طَرِيق مَعْمَر هذِهِ وَصَلَها أبُو دَاوُدَ، عن الحَسَنُ بن عَلِيّ الْحُلْوانِيّ، وأحْمَد بْن صَالِح، كِلاهُمَا عَن عَبْد الرَّزَّاق، عن مَعْمَر بِإِسْنادِهِ المَذْكُور إِلى أبِي هُرَيْرة، ونَقَل التِّزمِذِيّ عن البُخَارِيّ، أنَّ هذِهِ الطَّرِيق خَطَأ، والمَحْفُوظ رِواية الزُّهرِيِّ منْ طَرِيق ميمُونَة، وَجَزَم الذُّهلِيُّ بِأنَّ الطَّرِيقينِ صَحِيحَانِ، وَقَدْ قَالَ أبُو دَاوُد فِي رِوَايَته عن الحَسَنُ بن عَلِيّ:"قَالَ الْحَسَنُ: ورُبَّما حَدَّثَ بِهِ معمر، عن الزُّهرِيِّ، عن عُبيد الله بن عبد الله، عن ابْن عبَّاس، عَن مَيْمُونة". وأخْرَجَهُ أبُو دَاوُد أيضًا، عن أحْمَد بْن صالِح، عن عبد الرَّزَّاق، عَن عَبْد الرَّحْمَن بن بُوذَوَيْهِ، عن مَعْمَر كَذلِك، مِنْ طَرِيق مَيْمُونة، وكَذا أخْرَجهُ النَّسَائِيُّ

(1)

، عن خُشَيْش بْن أصْرَم، عن عبد الرَّزَّاق، وذكر الإسْمَاعِيلِيّ أَنَّ اللَّيْث، رواهُ عن الزُّهرِيّ، عن سَعِيد بن الْمُسيِّب، قَالَ:"بَلَغَنا: "أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، سُئِل عَن فَأرة وَقَعَتْ فِي سَمْن جَامِد

" الْحَدِيث.

(1)

هي الرواية التالية لهذه الرواية.

ص: 61

قَالَ الحافظ: وهَذَا يَدُلّ عَلَى أنَّ لِرِوايةِ الزُّهْرِيِّ عن سَعِيد أصْلاً، وَكَوْن سُفْيان بن عُيَيْنة لَمْ يحفظهُ عن الزُّهرِيّ، إِلَّا منْ طرِيق مَيْمُونة، لا يَقْتضِي أن لا يكُون لَهُ عِنْده إِسْنَاد آخَر.

وَقَدْ جَاء عَن الزُّهرِيّ فِيهِ إِسْناد ثَالِث، أخْرَجَهُ الدَّارقُطنِيُّ، منْ طرِيق عبد الْجَبَّار بْن عُمر، عن الزُّهرِيّ، عن سَالِم، عن ابْن عُمر بِهِ، وعبد الجَبَّار مُخْتَلَف فِيهِ.

قَالَ البَيْهقِىّ: وَجَاء مِن رِواية ابْن جُرَيْج، عن الزُّهرِيّ كَذلِك، لكِنْ السَّنَد إِلَى ابْن جُرَيْجٍ ضَعِيف، والمَحْفُوط أَنَّهُ منْ قوْل ابْن عُمَر. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ميمونة رضي الله تعالى عنها هَذَا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -10/ 4260 و4261 و4262 - وفي "الكبرى" 11/ 4584 و4585 و4586. وأخرجه (خ) فِي "الوضوء" 235 و236 و"الذبائح والصيد" 5538 و5539 و5540 (د) فِي "الأطعمة" 3841 و3842 (ت) فِي "الأطعمة" 1798 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 26256 و26263 و26307 (الموطأ) فِي "الجامع" 1815 (الدارمى) فِي "الطهارة" 738 و"الأطعمة" 2083. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم السمن ونحوه، إذا وقعت فيه الفأرة، أن يُلقى ما حولها، وينتفع بالباقي.

(ومنها): أنه استُدِلَّ بهِذا الْحَدِيث لإِحْدَى الرِّوايَتَيْنِ عن أَحْمَد رحمه الله تعالى، أَنَّ الْمَائِع إِذَا حَلَّت فِيهِ النَّجَاسَة، لا ينجس إِلَّا بِالتَّغَيُّر، وهُو اخْتِيار الْبُخَارِيّ، وقوْل ابن نَافِع مِن المالِكِيَّة، وحُكِيَ عَن مَالِك، وَقَدْ أخْرج أحْمَد، عن إِسماعِيل ابن عُليَّة، عَن عُمَارة بن أبِي حَفْصَة، عَن عِكْرِمة:"أَنَّ ابْن عبَّاس، سُئِل عَن فَأرَة مَاتَتْ فِي سَمْن؟ قَالَ: تُؤْخَذ الْفَارة وَمَا حَوْلها، فقُلت: إِنَّ أَثَرهَا كَانَ فِي السَّمْن كُلّه، قَالَ: إِنَّمَا كَانَ وَهِيَ حَيَّة، وإِنَّمَا مَاتَتْ حَيْثُ وُجِدَتْ"، وَرِجَاله رِجَال الصَّحِيح، وَأَخْرجَهُ أَحْمَد مِنْ وَجْه آخر، وَقَالَ فِيهِ عن جَرّ، فِيهِ زَيْت، وَقَعَ فِيهِ جُرَذٌ

"، وفِيهِ: "أَلَيْسَ جَالَ فِي الْجَرّ كُلّه؟، قَالَ: إِنَّمَا جَالَ وفِيهِ الرُّوح، ثُمَّ استقرَّ حَيْثُ مَاتَ".

وَفَرَّقَ الجُمْهُور بين المَائِع والجَامِد، عَمَلًا بِالتَّفْصِيلِ الْمُقدُّم ذِكْره، وَقَدْ تَمَسَّك ابْن

ص: 62

العَربيّ بقوْلِهِ: "وَمَا حَوْلَهَا" عَلَى أَنَّهُ كَانَ جامِدًا، قَالَ: لِأنَّهُ لو كَانَ مائِعًا لم يكُن لهُ حوْلٌ؛ لِأنَّه لو نُقِلَ منْ أيّ جانِب مَهْما نُقِلَ، لَخَلَفهُ غيره فِي الْحَال، فيَصِير مِمَّا حَوْلهَا، فيُحْتاجِ إِلى إِلْقَائِهِ كُلّه، كَذَا قَالَ.

وأمَّا ذِكْر السَّمْن وَالْفَأْرَة، فَلَا عَمَل بِمَفْهُومِهِمَا، وَجَمَدَ ابْن حَزْم عَلَى عَادَته، فَخَصَّ التَّفْرِقَة بِالفَأرةِ، فَلَو وقَعَ غَيْر جِنْس الفَأر منْ الدَّوابّ، فِي مَائِع لمْ يَنْجَس، إِلَّا بِالتَّغيُّرِ. وَضَابِط المَائِع عِنْد الْجُمْهُور أَنْ يَتَرَادّ بِسُرْعةٍ، إِذَا أُخِذ مِنْهُ شَيْء.

(ومنها): أنَّه استُدِلَّ بِقوْلِهِ: "فَمَاتَتَ" عَلَى أنَّ تأثِيرها فِي المَائِع إِنَّمَا يكُون بِمَوْتهِا فِيهِ، فلَوْ وقَعَتْ فِيهِ، وخَرَجَتْ بِلا مَوْت لَمْ يَضُرّهُ، ولم يقع فِي رواية مالِك التَّقْيِيد بِالمَوْتِ، فيلزم مَنْ لا يَقُول بِحَمْلِ المُطْلَق عَلَى الْمُقيَّد، أنْ يقُول بِالتَّأثِيرِ، ولوْ خَرَجَتْ وَهِي فِي الْحَيَاة، وَقَدْ الْتَزَمَهُ ابْن حَزْم، فَخَالَفَ الْجُمْهُور أيْضًا.

(ومنها): أنه اسْتُدِل بِقوْلِهِ فِي الرِّواية المُفَصَّلة: "وَإِنْ كَانَ مَائِعًا، فلا تَقْربُوهُ"، عَلَى أنَّهُ لا يَجُوز الانْتِفَاع بِهِ فِي شَيْء، فَيَحْتَاجُ منْ أجَازَ الانْتِفاع بِهِ فِي غَيْر الأكْل، كَالشَّافِعِيَّةِ، وأجاز بَيْعه كالْحَنفِيَّةِ، إِلى الجَواب -أي عن حدِيث الباب- فَإِنَّهُم احْتَجُّوا بِهِ فِي التَّفْرِقة بين الجَامِد والمَائِع، وَقَدْ احْتجَّ بَعْضهمْ بِمَا وقَعَ فِي رِواية عبد الجَبَّار بن عُمَر، عِند البَيْهقِيِّ، فِي حدِيث ابْن عُمر:"إِنْ كَانَ السَّمْن مائِعًا، انْتَفعُوا بِهِ، وَلا تأكُلُوهُ"، وَعِنْده فِي رِواية ابْن جُرَيْجٍ مِثْله، وَقَدْ تَقَدَّم أَنَّ الصَّحِيح وَقْفه. وَعِنْده منْ طَرِيق الثَّوْرِيّ، عن أيُّوب، عَن نافِع، عن ابْن عُمر، فِي فَأْرة وَقَعَتْ فِي زَيْت، قَالَ:"اسْتصْبِحُوا بِهِ، وادْهُنُوا بِهِ أُدُمكُمْ"، وهذا السَّنَد عَلَى شَرْط الشَّيْخَيْنِ، إِلَّا أنَّهُ موْقُوف.

(ومنها): أنه اسْتُدِلَّ بهِ عَلَى أنَّ الفَأْرَة طَاهِرَة الْعَيْن، وَأَغْرَبَ ابْن الْعَرَبِيّ فَحَكَى عَن الشَّافِعِيّ، وأبِي حَنِيفة أنَّها نَجِسَة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4261 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ، وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ جَامِدٍ، فَقَالَ: "خُذُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، فَأَلْقُوهُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن يحيى": هو الذهليّ. و"عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. و"مالك": هو ابن أنس الإمام الجليل.

والحديث صحيح، وَقَدْ تقدّم شرحه، وبيان مسائله فِي الحديث الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 63

4262 -

(أَخْبَرَنَا خُشَيْشُ بْنُ أَصْرَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بُؤْذُويَةَ، أَنَّ مَعْمَرًا ذَكَرَهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْفَأْرَةِ، تَقَعُ فِي السَّمْنِ، فَقَالَ: "إِنْ كَانَ جَامِدًا، فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا، فَلَا تَقْرَبُوهُ").

"خُشيش بن أصرم" -بضمّ الخاء المعجمة، مصغّرًا-: هو أبو عاصم النسائيّ، ثقة ثبت [11] 44/ 590. و"عبد الرزّاق": هو ابن همّام الصنعانيّ.

و"عبد الرحمن بن بُوذويه" -بضمّ الموحّدة، وسكون الواو، بعدها معجمة- ويقال: ابن عُمَر بن بُوذويه الصنعانيّ، صدوق

(1)

[7].

روى عن طاوس، ووهب بن منبّه، وعثمان بن الأسود، ومعمر بن راشد، وهو منْ أقرانه، وغيرهم. وعنه عبد الرزاق، وإبراهيم بن خالد، وسعد بن الصلت، وغيرهم. قَالَ الأثرم: ذكره أحمد بن حنبل، فأثنى عليه خيرًا. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". روى له المصنّف، وأبو داود هَذَا الحديث فقط.

و"معمر": هو ابن راشد الصنعانيّ.

والحديث صحيح، وَقَدْ سبق البحث عنه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4263 -

(أَخْبَرَنَا سَلَمَةُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمِ بْنِ عُثْمَانَ الْفَوْزِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَدِّي

(2)

الْخَطَّابُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حِمْيَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ عَجْلَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَرَّ بِعَنْزٍ مَيِّتَةٍ، فَقَالَ:"مَا كَانَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الشَّاةِ، لَوِ انْتَفَعُوا بِإِهَابِهَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "سلمة بن أحمد بن سُليم بن عثمان الْفَوزيّ -بفتح الفاء، وبالزاي- الحمصيّ، صدوق [11].

روى عن جدّه لأمه الخطاب بن عثمان الفوزيّ، وعنه النسائيّ، وَقَالَ: لا بأس به، وأبو القاسم الطبرانيّ. تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

و"الخطّاب": هو ابن عثمان الطائيّ الْفَوْزيّ، أبو عمر الحمصيّ، ثقة عابد [10] 4/ 3636.

(1)

هكذا قلت: صدوق، والذي فِي "التقريب" أنه مقبول، والظاهر أنه صدوق؛ لأنه روى عنه جماعة، وأثنى عليه الإمام أحمد، ووثّقه ابن حبّان، ولم يطعن فيه أحد، فمثل هَذَا اقلّ أحواله أن يكون صدوقًا، لأن حديثه صحيح، والمقبول لا يصحّ حديثه إلا بالمتابعة، فتأمّل. والله تعالى أعلم.

(2)

هو جدّه لأمه.

ص: 64

و"محمد بن حِمير": هو السَّلِيحيّ الحمصيّ، صدوقٌ [9] 21/ 535.

و"ثابت بن عَجْلان" الأنصاريّ السلميّ، أبو عبد الله الحمصيّ، وقيل: إنه منْ أرمينية، وَقَالَ ابن أبي حاتم: حمصيّ وقع إلى باب الأبواب، صدوق [5].

قَالَ عبد الله بن أحمد: سألت أبي عنه؟، فَقَالَ: كَانَ يكون بالباب والأبواب، قلت: ثقة؟ فسكت، كأنه مَرَّضَ فِي أمره. وَقَالَ ابن معين: ثقة. وَقَالَ دُحَيم، والنسائيّ: ليس به بأس. وَقَالَ أبو حاتم: لا بأس به، صالح الحديث. وَقَالَ عيسى بن المنذر، عن بقيّة: قَالَ لي ابن المبارك: اجمع لي حديث محمد بن زياد، وثابت بن عجلان، وتتبعه. وَقَالَ العقيليّ فِي "الضعفاء": لا يُتابع فِي حديثه. وساق له ابن عديّ ثلاثة أحاديث غريبة. وَقَالَ أحمد: أنا متوقّفٌ فيه. وَقَالَ ابن حبّان فِي "الثقات": قيل: إنه سمع أنسًا، وليس ذلك بصحيح عندي. وَقَالَ عبد الحقّ فِي "الأحكام": لا يُحتجّ به. وردّ ذلك عليه ابن القطان، وَقَالَ فِي قول العُقيليّ:"لا يُتابع": إن هَذَا لا يضرّ إلا منْ لا يُعرف بالثقة، وأما منْ وُثّق، فالفراده لا يضرّه. قَالَ الحافظ: وصدق، فإن مثل هَذَا لا يضرّه إلا مخالفته الثقات لا غير، فيكون حديثه حينئذ شاذًّا. انتهى. روى له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، وله عبد المصنّف هَذَا الحديث فقط.

وقوله: "بعَنزٍ" -بفتح العين المهملة، وسكون النون-: هي الأنثى منْ المعز، إذا أتى عليها حولٌ. قَالَ الجوهريّ: والعنْزُ: الأنثى منْ الظِّبَاء، والأَوعال، وهي الماعزة. قاله الفيّوميّ.

وقوله: "ما عَلَى أهل هذه الشاة" يحتمل أن تكون "ما" استفهاميّة، استفهامًا إنكاريًّا: أي أيُّ شيء كَانَ عليهم؟، ويحتمل أن تكون نافية، واسم "كَانَ" مقدّرٌ: أي عليهم شيء منْ الإثم. و"لو" للتمنّى، فلا تحتاج إلى جواب، أو هي للشرط، وجوابها محذوف: أي لم يكن عليهم شيء.

والحديث صحيح، وَقَدْ سبق شرحه، وبيان مسائله فِي 4/ 4236 - فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلتُ، وإليه أنيب".

***

ص: 65

‌11 - (الذُّبَابِ يَقَعُ فِى الإِنَاءِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الذُّباب جمعه فِي الكثرة ذِبّان، مثلُ غُرَاب وغِرْبَان، وفي القلّة أَذِبّة، الواحدة ذُبابة. قاله فِي "المصباح".

وَقَالَ فِي "الفتح": الذُّبَاب -بضَمِّ الْمُعْجَمَة، وَمُوَحَّدَتَيْنِ، وَتَخْفِيف- قَالَ أبُو هِلال الْعَسْكَرِيّ: الذُّبَاب واحِد، والجمع ذِبَّان، كِغِربان، والعَامَّة تقُول: ذُباب لِلْجَمْع، ولِلواحِدِ ذُبَابة بوزنِ قُرَادَة، وهُو خَطَأ، وكَذَا قَالَ أبُو حَاتِم السِّجِسْتانِيّ: إِنَّهُ خطأ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ: الذُّبَاب وَاحِدَه ذُبَابَة، ولا تَقُلْ ذِبَّانَة. وَنَقَل فِي "الْمُحْكَم" عَن أبِي عُبَيْدة، عَنْ خَلَف الأحْمَر، تَجْوِيز مَا زَعَمَ العَسْكَرِي أنَّهُ خَطَأ. وحَكَى سِيبَويْهِ فِي الْجَمْع ذُبٌّ قَالَ فِي "الفتح": وَقَرأته بِخَطِّ البُحْتُرِيِّ مَضْبُوطًا بِضَمِّ أوَّلَه والتَّشْدِيد.

قِيل: سُمِّي ذُبَابًا لِكَثْرَةِ حَرَكَته، واضْطِرابه، وَقَدْ أخْرَج أبُو يَعْلَى، عَن ابْن عُمر، مَرْفُوعًا:"عُمْرُ الذُّباب أرْبعُون لَيْلة، والذُّباب كُلّه فِي النَّار، إِلَّا النَّحْل"، وَسَنَده لا بَأْس بهِ. وأخْرجهُ ابن عَدِيّ دُون أوَّله، مِن وَجْه آخَر ضَعِيف. قَالَ الْجَاحِظ: كَوْنه فِي النَّار، لَيْسَ تَعذِيبًا لهُ، بَلْ لِيُعذَّب أهْل النَّار بِهِ. قَالَ الجوْهرِيّ: يُقال: إِنَّه لَيْس شَيْء منْ الطُّيُور، يَلَغُ إِلَّا الذُّبَاب. وَقَالَ أفْلاطُون: الذُّبَاب أَحْرَص الأشْيَاء، حَتَّى إِنَّه يُلْقِي نَفْسه فِي كُلّ شَيْء، ولوْ كَانَ فِيهِ هَلاكه. وَيَتولَّد منْ العُفُونة. ولا جَفْن لِلذُّبَابةِ، لِصِغَرِ حَدَقَتها، والْجَفْن يَصْقُل الْحَدَقَة، فَالذُّبَابة تَصْقُل بِيَدَيْهَا، فَلا تَزال تَمْسَحُ عَيْنيْهَا. ومِن عَجِيب أمْره أنَّ رَجِيعه، يَقَع عَلَى الثَّوْب الأسْود أبْيَض، وبالْعَكْس. وأكْثَر مَا يَظْهَر فِي أمَاكِن العُفُونَة، وَمَبْدَأ خَلْقه مِنْها، ثُمَّ مِنْ التَّوالُد. وَهُوَ مِنْ أَكْثر الطُّيُور سِفادًا، رُبَّمَا بَقِيَ عَامَّة اليَوم عَلَى الأُنْثَى. ويُحْكَى أَنَّ بَعْض الْخُلَفَاء، سَأَلَ الشَّافِعِيّ: لِأيِّ عِلَّة خُلِقَ الذُّبَاب؟ فَقَالَ: مَذَلَّةَ لِلمُلُوكِ. وكَانَتْ أَلَحَّتْ عَلَيْهِ ذُبَابَة، فَقَالَ الشَّافِعِيّ: سَألنِي وَلَمْ يكُن عِنْدِي جَوَاب، فَاسْتَنْبطْته منْ الهَيئة الْحَاصِلة. وَقَالَ أبُو مُحمَّد الْمَالِقِيّ: ذُباب النَّاس، يتولَّد مِن الزِّبْل. وإِن أُخِذ الذُّبَاب الْكَبِير، فقُطِعَتْ رَأْسها، وَحُكَّ بِجَسَدِها الشَّعْرَة الَّتِي فِي الجَفْن حكًّا شَدِيدًا أبْرَأتهُ، وكَذَا داء الثَّعْلب. وَإِنْ مُسِحَ لَسْعَةُ الزُّنْبُور بِالذُّبَاب، سَكَنَ الْوَجَع. انتهى ما فِي "الفتح"

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب.

4264 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ،

(1)

"فتح" 11/ 418 - 419 "كتاب الطبّ" رقم الحديث 5782.

ص: 66

قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ، فَلْيَمْقُلْهُ")

(1)

.

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلّاس البصريّ، ثقة حافظ [10] 4/ 4.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطّان البصريّ الإمام الحجة الثبت [9] 4/ 4.

3 -

(ابن أبي ذئب) محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب المدنيّ الثقة الفقيه الفاضل [7] 41/ 685.

4 -

(سعيد بن خالد) بن عبس الله بن قارظ الكنانيّ المدنيّ، حليف بني زُهْرة، صدوق [3] 74/ 2569.

5 -

(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ الثقة الفقيه [3] 1/ 1.

6 -

(أبو سعيد الخدريّ) سعد بن مالك بن سنان رضي الله تعالى عنهما 169/ 262. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير "سعيد بن خالد"، فقد تفرّد به المصنّف، وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير عمرو، ويحيى، فبصريّان. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ سعيد، عن أبي سلمة، وهو منْ رواية الأقران، وفيه أبو سعيد الخدريّ، أحد المكثرين السبعة، روى (1170) منْ الأحاديث، وفيه أبو سلمة أحد الفقهاء السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله تعالى عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ) بضمّ الذال المعجمة، وتحفيف الموحّدتين (فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ) ووقع فِي رواية ابن ماجه، وصَحَّحهُا ابْن حِبَّان:"إِذَا وَقَع فِي الطَّعَام"، وفي رواية البخاريّ فِي "بَدْء الْخَلْق" منْ حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، بلفظِ:"شَرَاب"، والتَّعْبِير بِالإناءِ أشْمَل، وكذا وقع فِي حدِيث أنس عِند البَزَّار (فَلْيَمْقُلْهُ) أي فليغمسه، يقال: مَقَلتُهُ مَقْلًا، منْ باب قَتَلَ: غمسته فِي الماء، أو غيره. قاله الفيّوميّ.

وفي رواية ابن ماجه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "فِي أحد جناحي الذباب سمٌّ، وفي

(1)

يوجد هنا فِي النسخة الهنديّة: ما نصّه: آخر كتاب العقيقة، والفرع، والعتيرة.

ص: 67

الآخر شفاءٌ، فإذا وقع فِي الطعام، فامقُلُوه فيه، فإنه يُقدَّم السمَّ، ويؤخر الشفاء".

وفي حديث أبي هريرة عبد البخاريّ: "فَلْيَغْمِسْهُ كُلّه"، وهو أمْر إِرْشَاد لِمُقابلةِ الدَّاء بِالدَّواءِ، وفِي قَوْله:"كُلّه" رَفْع تَوهُّم الْمَجَاز فِي الاكْتِفَاء بِغَمْسِ بَعْضه.

وزاد فِي حديثه أيضًا: "ثم ليطرحه، فإن فِي إحدى جناحيه داءً، وفي الآخر شفاءً".

قَالَ فِي "الفتح": وفِي رِواية سُلَيْمَان بْن بِلال: "ثُمَّ لْيَنْزِعهُ"، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة عبد الله بن المُثَنَّى، عن عَمّه ثُمامة، أَنَّهُ حَدَّثهُ، قَالَ:"كُنَّا عِنْد أنَس، فَوَقَعَ ذُبَاب فِي إِنَاء، فَقَالَ أَنَس بِإِصْبعِهِ، فَغَمَسهُ فِي ذَلِكَ الإنَاء ثَلاثًا، ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ الله، وَقَالَ: إِنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُمْ أن يَفْعَلُوا ذَلِكَ". أخرجهُ البَزَّار، ورِجَاله ثِقَات، وَرَوَاهُ حَمَّاد بن سَلَمَة، عن ثُمَامَة، فَقَالَ:"عَن أبِي هُرَيْرَة"، وَرَجَّحَهاَ أبُو حَاتِم، وَأَمَّا الدَّارقُطنِيُّ، فَقَالَ: الطَّرِيقانِ مُحْتَمِلانِ.

وقوْله: "فإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ": وفِي رِواية أبِي داوُد: "فإِنَّ فِي أَحَد"، والْجَنَاج يُذكَّر ويُؤَنَّث، وَقِيلَ: أُنِّثَ بِاعْتِبارِ الْيَد، وَجَزَم الصَّغَانِيّ بِأَنَّهُ لا يُؤَنَّث، وَصَوَّبَ رِواية "أَحَد" وحقِيقته لِلطَّائِرِ، وَيُقَال لِغَيْرِهِ عَلَى سَبيل الْمَجَاز كَمَا فِي قَوْله:{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} ، ووَقَع فِي رِواية أبِي داوُد، وصَحَّحهُ ابن حِبَّان، منْ طرِيق سَعِيد المقْبُرِيِّ، عن أبِي هُريرة:"وأَنَّهُ يتَّقِي بِجَناحِهِ الَّذِي فِيهِ الدَّاء"، قَالَ الحافظ: وَلَمْ يقَع لِي فِي شَيْء مِن الطُّرُق تَعْيِين الجَنَاح الَّذِي فِيهِ الشِّفاء منْ غَيْره، لَكِنْ ذَكر بَعْض الْعُلَمَاء، أَنَّهُ تَأَمَّلهُ، فوجدهُ يتَّقِي بِجناحِهِ الأيْسَر، فعُرِف أنَّ الأيْمَن هُو الَّذِي فِيهِ الشِّفاء، والْمُنَاسَبة فِي ذَلِكَ ظَاهِرَة.

وفي حَدِيث أبِي سعِيد المذكور عبد ابن ماجه: "فإنَّه يُقدِّم السُّمّ، ويُوْخِّر الشِّفَاء". قَالَ الحافظ: ويُسْتَفاد مِن هذِهِ الرِّواية، تفسِير الدَّاء الْواقِع فِي حَدِيث البَاب، وَأَنَّ الْمُرَاد بِهِ السُّمّ، فيُسْتَغْنى عن التَّخْرِيج الَّذِي تَكلَّفهُ بَعْض الشُّرَّاح، فَقَالَ: إِنَّ فِي اللَّفْظ مجازًا، وهُوَ كَوْن الدَّاء فِي أحَد الْجَنَاحَيْنِ، فهُو إمَّا منْ مجاز الْحَذْف، والتَّقْدِيرُ: فإِنَّ فِي جَناحَيهِ سَبَب دَاء، وإِمَّا مُبالغةٌ بِأنْ يُجْعَل كُلّ الدَّاء فِي أَحَد جَنَاحَيْهِ؛ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لَهُ. وقَالَ آخر: يَحْتَمِلُ أن يكُون الدَّاء ما يَعْرِضُ فِي نَفْس المَرْء مِن التَّكبُّر عن أَكْله، حَتَّى رُبَّمَا كَانَ سَببًا لِتَرْكِ ذَلِكَ الطَّعَام وإتْلافه، والدَّواءُ مَا يَحْصُل منْ قَمْع النَّفْس، وَحَمْلهَا عَلَى التَّوَاضُع. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

ص: 68

حديث أبى سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح، وَقَدْ أخرجه البخاريّ، منْ حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -11/ 4264 - وفي "الكبرى" 12/ 4588. وأخرجه (خ) منْ حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه فِي "بدء الخلق" 3320 و"الطبّ" 5782 (د) فِي "الأطعمة" 3844 (ق) فِي "الطبّ" 3505 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 7101 و7312 و7518 و8280 و8443 و8803 و8918 و9428 (الدارمي) فِي "الأطعمة" 2038. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم الذباب إذا وقع فِي الإناء، وهو أنه لا يتنجّس، حيث أمر صلّى الله تعالى عليه وسلم بغمسه فيه. (ومنها): طهارة الذباب فِي حال حياته، ومماته. (ومنها): استحباب غمس كلّه فيما وقع فيه، ثم نزعه، وإخراجه، والانتفاع بما وقع فيه. (ومنها): أن فِي أحد جناحي الذباب دواءً، وفي الآخر شفاءً، وأنه يتّقي بجناحه الذي فيه الدواء؛ ولذلك أمر الشارع بغمسه كلّه، حَتَّى تحصل معالجة ذلك الداء بالداء الذي الذي فيه. (ومنها): أنه استُدِلَّ بِقَوْلِهِ: "ثُمَّ لِيَنْزِعهُ" عَلَى أنَّها تَنْجُس بِالموْتِ، كما هُو أصَحّ القوْلينِ لِلشَّافِعِي، والْقَوْل الآخَر، كقوْلِ أبِي حَنيفة، أنها لا تَنْجُس.

(ومنها): استُدِلَّ بِه عَلَى أن المَاء الْقَلِيل لا يَنْجُس بِوُقُوع ما لا نَفْس لهُ سَائِلة فِيهِ، وَوَجْه الاسْتِدْلال -كَمَا رواهُ البيهقِيُّ، عن الشَّافِعِيّ- أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم، لا يأمُر بِغَمْسِ ما يُنَجِّس الْمَاء، إِذَا مَات فِيهِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ إِفْسَاد. وَقَالَ بَعْض منْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ: لا يَلْزَم منْ غَمْس الذُّباب موْته، فَقَدْ يغمِسهُ بِرِفْقٍ، فلا يمُوت، والحَيّ لا يُنجِّس ما يَقَع فِيهِ، كَمَا صَرَّحَ البَغَوِيُّ بِاسْتِبَاطِهِ مِنْ هَذَا الْحَدِيث. وَقَالَ أبُو الطَّيِّب الطَّبرِيُّ: لم يَقْصِد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِهَذا الْحَدِيث بَيَان النَّجَاسة والطَّهَارة، وإِنَّمَا قَصَد بَيَان التَّدَاوِي مِن ضَرَر الذُّبَاب، وَكَذا لمْ يَقْصِد بِالنَّهْى عن الصَّلاة فِي مَعَاطِن الإبِل، والإذْن فِي مَرَاح الغَنَم، طَهَارَة، وَلا نَجَاسَة، وإِنَّمَا أَشَار إِلَى أَنَّ الخُشُوع لا يُوجَد مَعَ الإبِل، دُون الغَنَم.

قَالَ الحافظ: وهُوَ كَلام صَحِيح، إِلَّا أنَّهُ لا يَمْنَع أن يُسْتَنْبَط مِنْهُ حُكْم آخَر، فَإِنَّ الْأَمْر بِغَمْسِهِ، يتَنَاول صُورًا، مِنْها أن يَغْمِسهُ مُحْترِزًا عن موْته، كَمَا هُو الْمُدَّعى هُنَا، وَأَنْ لا يَحْترِز بَلْ يَغْمِسهُ، سَوَاء مَاتَ، أَوْ لَمْ يمُتْ، وَيتَنَاوَل مَا لَوْ كَانَ الطَّعَام حارًّا، فإِنَّ الْغالِب أنَّهُ فِي هذِهِ الصُّورة يمُوت، بِخِلَافِ الطَّعَام البَارِد، فلمَّا لَمْ يَقَع التَّقْيِيدُ، حُمِلَ عَلَى

ص: 69

العُمُوم، لَكِنْ فِيهِ نَظَر؛ لِأنَّهُ مُطْلَقٌ يَصْدُق بِصُورةٍ، فَإِذا قام الدَّلِيل عَلَى صُورَة مُعَيَّنَة، حُمِلَ عَليْهَا.

وَاسْتَشْكَلَ ابْن دَقِيق الْعِيد، إِلْحَاق غير الذُّبَاب بِهِ فِي الْحُكم الْمَذْكُور، بِطَرِيقٍ آخَر، فَقَالَ: وَرَدَ النَّصّ فِي الذُّباب، فعدَّوْهُ إِلى كُلّ مَا لا نَفْس لهُ سَائِلة، وفِيهِ نَظَر؛ لِجَوازِ أَنْ تكُون العِلَّة فِي الذُّباب قَاصِرة، وهِي عُمُوم البَلْوى، وهذِهِ مُسْتَنْبطة، أو التَّعْلِيل بِـ "إنَّ فِي أَحَد جناحيهِ داء، وفِي الآخَر شِفَاء"، وهذِهِ مَنْصُوصة، وهَذَانِ المَعْنيَانِ لا يُوجَدانِ فِي غيره، فَيَبعُد كوْن العِلَّة مُجَرَّد كوْنه لَا دَم لهُ سَائِل، بل الَّذِي يظهر أنَّهُ جُزْء عِلَّة، لا عِلَّة كَامِلة. انْتَهَى.

وَقَدْ رجَّحَ جَمَاعَة منْ المُتَأخِّرِين أنَّ مَا يَعُمّ وُقُوعه فِي الْمَاء، كَالذُّبَابِ، والْبَعُوض لا يُنجِّس الْمَاء، وَمَا لا يَعُمّ كالْعَقَارِب يُنْجِّس، وهُو قَوِيّ.

(ومنها): ما قاله الخَطَّابيُّ رحمه الله تعالى: تَكَلَّمَ عَلَى هَذَا الْحَدِيث منْ لا خَلاق لهُ، فَقَالَ: كَيْف يَجْتَمِع الشِّفَاء والدَّاء فِي جَنَاحَي الذُّبَاب؟ وكَيْف يَعْلَم ذَلِكَ منْ نَفْسه، حَتَّى يُقدِّم جَنَاح الشِّفاء، وما ألْجَأهُ إِلى ذَلِكَ؟ قَالَ: وهَذا سُؤَال جَاهِلٍ، أو مُتَجَاهِلٍ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِن الْحَيَوان، قَدْ جَمَع الصِّفَات المُتَضادَّة. وَقَدْ ألَّف الله بينها، وقَهَرهَا عَلَى الاجْتِماع، وَجَعل مِنْهَا قُوَى الْحَيوانِ، وإِنَّ الَّذِي ألْهَمَ النَّحْلة اتِّخَاذ الْبَيْت الْعَجِيب الصَّنْعَة؛ لِلتَّعْسِيلِ فِيهِ، وألْهَم النَّملة أَنْ تدَّخِر قُوتَها أَوَان حَاجَتهَا، وَأَنْ تَكْسِر الْحَبَّة نِصْفَيْنِ، لِئلَّا تَسْتَنبِت، لَقَادِرٌ عَلَى إِلْهَام الذُّبَابة أنْ تُقدِّم جَنَاحًا، وتُؤَخِّر آخَر.

وَقَالَ ابن الْجَوْزِيّ: ما نُقِلَ عَنْ هَذَا الْقَائِل، ليْسَ بِعَجِيب، فإِنَّ النَّحْلة تُعَسِّل منْ أعْلاهَا، وتُلْقِي السُّمّ منْ أسْفلَها، والْحَيَّةُ الْقَاتِلُ سُمُّها تُدْخَل لُحُومُها فِي التِّرْيَاق الَّذِي يُعَالَج بِهِ السُّمّ، والذُّبَابةُ تُسْحَقُ مع الإِثْمِد لِجَلاءِ البَصَر.

وَذَكَر بَعْض حُذَّاق الأطِبَّاء، أنَّ فِي الذُّبَاب قُوَّةً سُمِّيَّةً يدُلّ عَلَيْهَا الْوَرَمُ، والْحَكَّة الْعَارِضَة عَن لَسْعه، وَهِيَ بِمَنْزِلةِ السِّلاح لهُ، فَإِذَا سَقَط الذُّباب فِيمَا يُؤْذِيه، تلَقَّاهُ بِسِلاحِهِ، فَأمَر الشَّارعُ أن يُقابِل تِلك السُّمِّيِّة، بِمَا أوْدعهُ الله تعالى فِي الجَنَاح الآخَر مِن الشِّفاء، فتَتَقَابل المَادَّتَانِ، فيزُول الضَّرَر بِإِذْنِ الله تعالى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ومن الملاحدة الذين طعنوا فِي هَذَا الحديث، بل تعدّاه إلى الطعن فِي أبي هريرة رضي الله تعالى عنه راويه محمود أبو ريّة فِي كتاب سمّاه "أضواء عَلَى السنّة المحمّدية"، وهو أحقّ بأن يُسمّى "ظلمات عَلَى السنّة" وَقَدْ قام بردّ ضلالاته العلّامة الفهّامة الدّرّاكة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلّميّ فِي كتابه "الأنوار الكاشفة"، فَقَالَ فيه: وقع إليّ كتاب جمعه أبو ريّة، فطالعته، وتدبّرته، فوجدته جمعًا،

ص: 70

وترتيبًا، وتكميلًا للمطاعن فِي السنة النبويّة، والجواب عن الطعن فِي هَذَا الحديث، نلخّصها فِي الفقرات الآتية:

1 -

الحديث الذي معنا منْ الأحاديث التي انتقاها، واختارها الإمام البخاريّ لصحّتها، ووضعها فِي "صحيحه"، وحسبك بهذا الإمام الجليل، وبكتابه الذي أجمعت الأمة عَلَى قبوله، فتلقته بالقبول والرضا، والاعتماد والعمل بما فيه.

2 -

حديث الذباب لم ينفرد بروايته أبو هريرة، وإنما رواه أبو سعيد الخدريّ، وأنس ابن مالك، كما جاء ذلك فِي "مسند الإمام أحمد".

3 -

منْ هو الذي يتطاول؟ حَتَّى ينال منْ طرف صحابيّ منْ أصحاب رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم حَتَّى يصل إلى أحفظهم لأحاديث رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم، وأكثرهم لها نقلًا، الذي دعا له النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم بالحفظ، وعدم النسيان، والذي فرّغ نفسه لحفظ الحديث، فلا زراعة تشغله، ولا تجارة تُلهه، وإنما ليله ونهاره يتابع ما يلفظ به النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم منْ الحكمة، ثم يَسهَر ليله ليحفظها، ويُثبتها فِي قلبه.

4 -

قَالَ الشيخ المعلّميّ رحمه الله تعالى: علماء الطبّ يعترفون بأنهم لم يُحيطوا بكل شيء علمًا، ولايزالون يكتشفون الشيء بعد الشيء، فبأيّ إيمان ينفي أبو ريّة، وأضرابه أن يكون الله تعالى أطلع رسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم عَلَى أمر لم يصِل إليه علم الطبيعة بعدُ، هَذَا، وخالق الطبيعة، ومدبّرها هو واضع الشريعة.

5 -

أثبت الأطبّاء الحديثون أن فِي أحد جناحي الذباب داءً، وفي الآخر شفاء، وبهذا -والله- وضح الحقّ، ومن أصدق منْ الله حديثًا

(1)

انتهى كلام المعلمي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلتُ، وإليه أنيب".

‌41 - (كِتَابُ الصَّيْدِ، وَالذَّبَائِحِ)

قَالَ فِي "المصباح المنير": صاد الرجلُ الطيرَ يَصِيده صَيْدًا، فالطير مَصِيدٌ، والرجل

(1)

راجع "توضيح الأحكام منْ بلوغ المرام" للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام 1/ 117 - 118.

ص: 71

صائدٌ، وصَيّادٌ. قَالَ ابن الأعرابيّ: يقال: يَصَاد، وباتَ يَباَتُ، وعافَ يَعَافُ، وخالَ الغيثَ يَخَالُهُ، لغةٌ فِي يَفْعِلُ بالكسر فِي الكلّ. وسُمّي ما يُصاد صَيْدًا، إمّا فَعْلٌ بمعنى مفعول، وإما تسميةٌ بالمصدر، والجمع صُيُود، واصطاده مثلُ صاده، والمَصِيدة وزانُ كَرِيمة، والْمِصْيَدَة بكسر الميم، وسكون الصاد، والْمِصيدُ بحذف الهاء أيضًا آلة الصيد، والجمع مصايد بغير همز. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ومن إطلاق الصيد عَلَى الْمصِيد قول الشاعر [منْ بحر الكامل]:

صَيْدُ المُلُوكِ أرانِبٌ وَثَعَالِبُ

وَإِذَا رَكِبْتُ فَصَيْدِيَ الأَبْطَالُ

وفي "حاشية" ابن عابدين عَلَى "الدرّ المختار": الصيد مصدر صاده: إذا أخذه، فهو صائد، وذاك مَصِيدٌ، ويُسمّى المصِيد صيدًا، فيجمع عَلَى صُيُود، وهو كلّ ممتنع، متوحّشٍ طبعًا، لا يُمكن أخذه إلا بحيلة. اهـ مغرب. فخرج بـ"الممتنع" مثل الدجاج والبَطّ، إذ المراد منه أن يكون له قوائم، أو جناحان، يملك عليهما، ويقدر عَلَى الفرار منْ جهتهما. وبـ"المتوحّش" مثل الْحَمَام، إذ معناه أن لا يألف النَّاس ليلًا، ونهارًا. وبـ"طبعًا" ما يتوحّش منْ الأهليّات، فإنها لا تحلّ بالاصطياد، وتحِلّ بذكاة الضرورة، ودخل متوحّشٌ يألف، كالظبي، لا يمكن أخذه إلا بحيلة، أي فإنه وإن كَانَ مما يألف بعد الأخذ، إلا أنه صيد قبله، يحلّ بالاصطياد، ودخل فيه ما لا يُؤكل اسحمه. انتهى كلام ابن عابدين رحمه الله تعالى ببعض اختصار

(1)

.

وَقَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: الأصل فِي جواز الصيد عَلَى الجملة الكتاب، والسنّة، وإجماع الأمّة، فأما الكتاب فقوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} الآية [المائدة: 4]، أي وصيد ما علّمتم، وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} الآية [المائدة: 94]، وقوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96]. وأما السنّة فالأحاديث الآتية الصحيحة، وأما الإجماع فإنه قد أجمع أهل العلم عَلَى إباحة الاصطياد، والأكل منْ الصيد.

والصيد ذكاة فِي المتوحّش طبعًا، غير المقدور عليه، المأكول نوعه، والنظر فيه فِي الصائد، والْمَصِيد، والالة التي يُصاد بها، ولكلّ منها شروطٌ يأتي بيانها أثناء النظر فِي الأحاديث الآتية، إن شاء الله تعالى. انتهى كلام القرطبيّ ببعض تصرّف

(2)

.

(1)

"ردّ المحتار حاشية درّ المختار" 6/ 490.

(2)

"المفهم" 5/ 254.

ص: 72

وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: الأحاديث المذكورة فِي هَذَا الكتاب فِي الاصطياد كلّها فيها إباحة الاصطياد، وَقَدْ أجمع المسلمون عليه، وتظاهرت عليه دلائل الكتاب، والسنّة، والإجماع. قَالَ القاضي عياض: هو مباح لمن اصطاد للاكتساب، والحاجة، والانتفاع به بالأكل، وثمنه. قَالَ: واختلفوا فيمن اصطاد للهو، ولكن قصد تذكيته، والانتفاع به، فكرهه مالكٌ، وأجازه الليث، وابن عبد الحكم. قَالَ: فإن فعله بغير نيّة التذكية، فهو حرام؛ لأنه فساد فِي الأرض، وإتلاف نفس عَبَثًا. انتهى

(1)

.

وأما "الذبح" -بفتح، فسكون- فهو قطع الحلقوم منْ باطنٍ عبد النَّصِيل، وهو موضع الذبح منْ الحلق، والذّبْحُ مصدر ذبحتُ الشاةَ، يقال ذَبَحَه يَذبَحُهُ ذَبْحًا، فهو مذبوحٌ، وذَبِيحٌ، منْ قوم ذَبْحَى، وذَبَاحَى، وكذلك التيس، والكبش منْ كِبَاش ذَبْحَى، وذَبَحَى. والذبيحةُ: الشاة المذبوحة، وشاةٌ ذَبِيحة، وذَبيحٌ، منْ نِعَاج ذَبْحَى، وذَبَاحَى، وذَبَائح، وكذلك الناقة، قَالَ الأزهريّ: الذَّبِيحة: اسم لما يُذبَح منْ الحيوان، وأُنّث لأنه ذُهب به مذهب الأسماء، لا مذهب النعت، فإن قلت: شاة ذبيح، أو كبش ذبيح، أو نعجة ذبيحٌ لم تدخلِ فيه الهاء؛ لأن فعيلًا إذا كَانَ نعتًا فِي معنى مفعول يُذكّر، يقال: امرأةٌ قتيلٌ، وكَفٌّ خَضِيبٌ. وَقَالَ: أيضًا: الذبيح: المذبوح، والأنثى ذبيحة، وإنَّمّا جاءت بالهاء لغلبة الاسم عليها. والذِّبح -بكسر، فسكون-: اسم ما أُعدّ للذبح، وهو بمنزلة الذبيح، والمذبوح، كالطِّحْن بمعنى المطحون، والْقِطْف بمعنى المقطوف، قَالَ الله تعالى:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} [الصافات: 107]، أي بكبش يُذبح، وهو الكبش الذي فُدي به إسماعيل بن إبراهيم صلى الله عليهما، وعلى نبيّنا وسلم.

والذَّبْحُ أيضًا الشّقّ، وكلُّ ما شُق، فقد ذُبح، قَالَ منظور بن مرثد الأسديّ [منْ مشطور الرجز]:

يَا حَبَّذَا جَارِيَةٌ منْ عَكِّ

تُعَقَّدُ الْمِرْطَ عَلَى مِدَكِّ

شِبْهِ كَثِيبِ الرَّمْلِ غِيْرِ رَكِّ

كَأَنَّ بَيْنَ فَكِّهَا والْفَكِّ

فَأْرَةُ مِسْكٍ ذُبِحَتْ فِي سُكِّ

أي فُتقت. ذكر هَذَا كلّه فِي "لسان العرب"

(2)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"شرح مسلم" 13/ 75.

(2)

"لسان العرب" 2/ 436 - 438.

ص: 73

‌1 - (الأَمْرِ بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الصَّيْدِ)

4265 -

(أَخْبَرَنَا الإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ، بِمِصْرَ قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّيْدِ؟ فَقَالَ: "إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ، فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَدْرَكْتَهُ لَمْ يَقْتُلْ، فَاذْبَحْ، وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قَتَلَ، وَلَمْ يَأْكُلْ فَكُلْ، فَقَدْ أَمْسَكَهُ عَلَيْكَ، فَإِنْ وَجَدْتَهُ قَدْ أَكَلَ مِنْهُ، فَلَا تَطْعَمْ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ خَالَطَ كَلْبُكَ كِلَابًا، فَقَتَلْنَ، فَلَمْ يَأْكُلْنَ، فَلَا تَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَيُّهَا قَتَلَ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(سُويد بن نصر) أبو الفضل المروزيّ، المعروف بالشاه، راوية ابن المبارك، ثقة [10] 45/ 55.

2 -

(وعبد الله بن المبارك) الإمام أبو عبد الرحمن المروزيّ الحافظ الفقيه الحجة المشهور [8] 32/ 36.

3 -

(عاصم) بن سُليمان الأحول، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقة [4] 148/ 239.

4 -

(الشعبيّ) عامر بن شَرَاحيل الهمْدانيّ الكوفيّ الإمام الجليل الفقيه المشهور [3] 66/ 82.

5 -

(عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ) بن عبد الله بن سعد بن الْحَشْرَج الطائيّ، أبي طَرِيف، الصحابيّ الشهير، وأبوه حاتم هو المشهور بالجود، وكان هو أيضًا جوادًا، وكان إسلامه سنة الفتح.

وثبت هو وقومه عَلَى الإسلام فِي الرّدّة، وشهد الفتوح بالعراق، ثم كَانَ مع عليّ رضي الله تعالى عنه فِي حروبه، ومات رضي الله تعالى عنه بالكوفة سنة (68)، وهو ابن مائة وعشرين سنة، وقيل: وثمانين سنة. تقدّم فِي 29/ 2169. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. ومنها: أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو، والترمذيّ. (ومنها): أن شيخه وشيخ شيخه مروزيان، وعاصمًا بصريّ، والباقيان كوفيان. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

ص: 74

[تنبيه]: قوله. "أخبرنا الإمام أبو عبد الرحمن الخ": هَذَا ملحق منْ بعض الرواة عن المصنّف رحمه الله تعالى، والظاهر أنه الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق بن السنّي (ت 364 هـ) رحمه الله تعالى، لأنه الذي اشتهر برواية "السنن الصغرى" عنه. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَن عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ) رضي الله تعالى عنه، وسيأتي فِي -7/ 4272 - منْ طريق سعيد ابن مسروق، عن الشعبيّ، عن عديّ بن حاتم، وكان لنا جارًا، ودخِيلًا، ورَبيطًا بالنهرين

" الحديث. وفي 22/ 4308 - منْ طريق عبد الله بن أبي السفر، عن الشعبيّ، قَالَ: سمعت عديّ بن حاتم

" الحديث.

(أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّيْدِ؟) أي عن حكم الصيد، وسيأتي نصّ سؤاله قريبًا أنه قَالَ: قلت: يا رسول الله، أُرْسِلُ كلابي المعلّمة، فيُمسكن عليّ، أفآكل؟ "، وله صيغ أخرى فِي السؤال ستأتي، إن شاء الله تعالى (فَقَالَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (إِذَا أَرْسَلْتَ) أي أردت إرسال (كَلْبكَ) أي المعلّم، لما فِي الرواية الآتية: "إذا أرسلت كلبك المعلّم

". والمُراد بِالمُعلَّم هو الَّذي إِذَا أغْراهُ صاحِبِهُ عَلَى الصَّيْد طَلبه، وإذَا زَجَرَه انْزَجَرَ، وإذا أخذ الصَّيْد حَبَسهُ عَلَى صاحِبِه، وهذا الثَّالِث مُخْتلف فِي اشْتِراطه، وسيأتي تمام البحث فيه فِي المسألة السابعة، إن شاء الله تعالى.

(فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَإِنْ أَدْرَكْتَهُ) أي الكلب، أو الصيد (لَمْ يَقْتُلْ) بالبناء للفاعل: أي إن أدركت الكلب لم يقتل الصيد، أو أدركت الصيد لم يقتله الكلبُ، والجملة فِي

محل نصب عَلَى الحال (فَاذْبَحْ) أي الصيد، أي إن أردت أحله، فاذبحه وجوبًا (وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ) أي لا تكتف بالتسمية السابقة عبد إرسال الكلب (وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قَتَلَ) بالبناء للفاعل، والضمير للكلب، ويحتمل أن يكون بالبناء للمفعول، والضمير للصيد (وَلَمْ يَأْكُلْ) أي لم يأكل الكلب منْ ذلك الصيد الذي قتله (فَكُلْ، فَقَدْ أَمْسَكَهُ) الفاء للتعليل، لأنه أمسكه (عَلَيْكَ) أي لأجلك، فـ"عَلَى" بمعنى اللام (فَإِنْ وَجَدْتَهُ قَدْ أَكَلَ مِنْهُ، فَلَا تَطْعَمْ) بفتح العين المهملة، منْ باب تَعِب طَعْمًا -بفتح، فسكون-: أي لا تأكل (مِنْهُ شَيْئًا) وبهذا أخذ الجمهور، خلافًا لمالك، وسيأتي تحقيق الخلاف، إن شاء الله تعالى (فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ) هذه الجملة تعليل للنهي عن الأكل، أي إنما أمسك الصيد لأجل نفسه، لا لك، وشرط الحلّ أن يُمسك عليك. قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: معناه: أن الله تعالى قَالَ: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} الآية [المائدة: 4]، فإنما أباحه بشرط أن نعلم أنه أمسك علينا، وإذا أكل منه لم نعلم أنه أمسك لنا، أم لنفسه،

ص: 75

فلم يوجد شرط إباحته، والأصل تحريمه انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: لم نعلم أنه أمسك لنا، أم لنفسه الخ، فيه نظر، فإنه صلّى الله تعالى عليه وسلم نصّ عَلَى أنه أمسك لنفسه، فكيف يقال:"لم نعلم أنه أمسك الخ"؟، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

(وَإِنْ خَالَطَ كَلْبُكَ كِلَابًا فَقَتَلْنَ فَلَمْ يَأْكُلْنَ فَلَا تَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّكَ) الفاء للتعليل أيضًا (لَا تَدْرِي أَيُّهَا قَتَلَ) أي أي تلك الكلاب قتل ذلك الصيد، فيحتمل أنه قتله كلب آخر غير كلبك، فحينئد لا يحلّ؛ لعدم التسمية عند إرساله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عديّ بن حاتم رضي الله تعالى عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -1/ 4265 و2/ 4266 و3/ 4267 و4/ 4268 و5/ 4269 و6/ 4270 و7/ 4271 و4272 و4273 و4274 و4275 و8/ 4276 و4277 و18/ 4300 و4301 و19/ 4302 و4303 و4306 و21/ 4307 و22/ 4308 و23/ 4309 و4310 - وفي "الكبرى" 1/ 4774 و2/ 4775 و3/ 4776 و4/ 4777 و5/ 4778 و6/ 4779 و7/ 4780 و8/ 4785 و4786 و20/ 4810 و4811 و21/ 4812 و4813 و4814 و22/ 4816 و23/ 4817 و24/ 4818 و25/ 4819 و4820.

وأخرجه (خ) فِي "الوضوء" 175 و"البيوع" 2054 و"الذبائح والصيد" 5475 و5476 و5477 و5483 و5485 و5486 و5487 و"التوحيد" 7397 (م) فِي "الصيد والذبائح" 3560 و3561 و3562 و3563 و3564 و3565 و3566 (د) فِي "الضحايا" 2824 و2847 و2848 و2849 و2850 و2851 و2852 و2853 و2854 و (ت) فِي "الصيد" 1465 و1469 و1470 و1471 و (ق) فِي "الذبائح" 3177 و"الصيد" 3208 و3212 و3213 و3214 و3215 (أحمد) فِي "أول مسند الكوفيين" 17781 و17794 و17798 و17793 و18901 و9002. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان وجوب التسمية عند إرسال الكلب إلى الصيد؛ لأمره صلّى الله تعالى عليه وسلم بذلك. (ومنها): جواز

ص: 76

الاصطياد، وأنه منْ الأمور المباحة، وليس منْ اللَّهو واللعب. (ومنها): جواز اقتناء الكلب للصيد. (ومنها): جواز ما قتله الكلب منْ الصيد، إن لم يُدرك حيًّا. (ومنها): وجوب ذبح الصيد الذي أمسكه الكلب، إذا وجد حيّا، فلو مات بعد أن تمكّن صاحبه منْ ذبحه، وتركه لم يحلّ. (ومنها): وجوب التسمية عند ذبحه، فلا تجزىء التسمية السابقة عبد الإرسال، وسيأتي مزيد بسط لذلك قريبًا، إن شاء الله تعالى. (ومنها): اشتراط كون الكلب معلّمًا، فلو سمّى عَلَى كلب غير معلّم، فقتل الصيد لم يحلّ.

(ومنها): إِباحة الاصطِياد بِالكِلاب المُعلَّمة، واسْتثْنى أحْمَد، وإِسْحَاق الْكَلْب الأسْوَد، وقالا: لا يحِلّ الصَّيد بِهِ؛ لِأنَّه شَيْطَان، ونقل عن الْحَسَنِ، وإِبْرَاهِيم، وَقَتادة نَحْو ذَلِكَ.

(ومنها): أن فيه فضل العلم، وأن للعالم منْ الفضيلة ما ليس للجاهل؛ لأن الكلب إذا عُلّم يكون له فضيلة، عَلَى سائر الكلاب، فالإنسان إذا كَانَ له علم أولى أن يكون له فضل عَلَى سائر النَّاس، لاسيّما إذا عمِل بما علِم، وهذا كما رُوي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قَالَ: لكلّ شيء قيمةٌ، وقيمة المرء ما يُحسنه. ذكره القرطبيّ فِي "تفسيره"

(1)

.

(ومنها): جواز أكْلِ ما أَمْسكهُ الكلب، بِالشُّرُوطِ المُتقدِّمَة، ولوْ لم يُذْبح؛ لِقوْلِهِ:"إِنَّ أخْذ الْكَلْب ذكاةٌ"، فلوْ قتَلَ الصَّيْد بِظُفْرِهِ، أو نَابهُ حَلَّ، وكَذَا بِثِقَلِهِ عَلَى أحَدِ القوْلَينِ لِلشَّافِعِيِّ، وهُو الرَّاجِح عِنْدهمْ، وكذا لَوْ لَمْ يقتُلهُ الْكَلْب، لَكِنْ تَرَكَهُ، وبهِ رَمَقَ، ولَمْ يَبْقَ زَمَن يُمْكِن صَاحِبِهِ فِيهِ لحاقُهُ، وذبْحُهُ، فمَات حَلَّ؛ لِعُمُوِمِ قوْله:"فَإِنَّ أخذ الْكَلْب ذكاة"، وهذا فِي المُعلَّم، فلو وجدهُ حيًّا حياة مُسْتقِرَّة، وأدرك ذكاته، لم يحِلّ إِلَّا بِالتَّذكِيةِ، فلو لم يذبحهُ مع الإمْكان حَرُمَ، سواء كَانَ عدم الذَّبح اخْتِيارًا، أو اضْطِرارًا، كَعَدَم حُضُور آلة الذَّبْح. فَإِنْ كَانَ الكَلب غير مُعلَّم، اشترط إِدراك تذكِيته، فَلوْ أدْركهُ مَيتًا لم يحِلّ. (ومنها): أن شرط حل ما قتله الكلب أن لا يشاركه فِي القتل كلبٌ آخر، فلو شاركه لم يحلّ؛ لاختلاط المبيح والمحرّم، فغُلّب المحرّم. قِال فِي "الفتح": ومَحَلّه ما إِذَا اسْتَرْسل بِنفسِهِ، أو أرسلهُ منْ ليس منْ أهل الذَّكاة، فإِن تَحقَّق أنَّهُ أرْسَلهُ منْ هُو مِن أهْل الذَّكاة حَلَّ، ثُمَّ يُنْظَر، فإِنْ أرْسَلاهُما معًا، فَهُوَ لَهُمَا، وإِلَّا فلِلأوَّلِ، وَيُؤْخَذ ذَلِكَ مِن التَّعْلِيل فِي قَوْله:"فإِنَّما سَمَّيت عَلَى كَلْبك، ولَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيره"، فإِنَّهُ يَفْهَم مِنْهُ أَنَّ الْمُرسِل، لَوْ سَمَّى عَلَى الْكَلْب لَحَلَّ.، وَوقَع فِي رِواية بَيَان، عن الشَّعْبِيّ؟ "وَإِنْ

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 6/ 74. تفسير سورة المائدة.

ص: 77

خَالَطَها كِلاب منْ غَيْرها، فلا تَأْكُل"، فيُؤخذ مِنْهُ أنَّهُ لو وجَدهُ حيًّا، وفِيهِ حَياة مُسْتَقِرَّة، فذكَّاهُ حَلَّ؛ لأنَّ الاعتِماد فِي الإباحَة عَلَى التَّذْكِية، لا عَلَى إِمْسَاك الكَلْب. قاله فِي "الفتح"

(1)

. (ومنها): أن شرط الحلّ أيضًا أن لا يأكل الكلب منْ الصيد الذي قتله، وإلا فلا يحلّ؛ لأنه صاده لنفسه، لا لصاحبه. وسيأتي مزيد بسط فِي ذلك قريبًا، إن شاء الله تعالى.

(ومنها): إِبَاحَة الاصْطِيَاد لِلانْتِفَاع بِالصَّيدِ، لِلأكْلِ والْبَيْع، وكذا اللَّهْو، بِشَرْطِ قَصْد التَّذكِية، والانْتِفاع، وكَرِههُ مالِك، وَخَالفهُ الْجُمْهُور. قَالَ اللَّيْث: لا أعْلَمْ حقًّا أشبه بِباطِلٍ مِنْهُ، فلو لم يقْصِد الانْتِفَاع بهِ حَرُم؛ لِأنَّهُ منْ الفَسَاد فِي الأرْض، بإِتْلافِ نَفْسٍ عبثاً، قَالَ الحافظ: ويَنْقَدِحُ أن يُقال: يُبَاح، فإِن لازمهُ وأكثر مِنْهُ كُرِه؛ لِأنَّهُ قد يَشْغَلهُ عن بعض الوَاجِبَات، وكَثِير منْ المَنْدُوبات. وأخْرَج التِّزمِذِيّ منْ حدِيث ابنِ عبَّاس، رَفَعَهُ:"مَنْ سَكَن البَادِية جَفَا، وَمَن اتَّبَعَ الصَّيْد غَفَلَ"، ولهُ شَاهِدِ عن أبِي هُرَيْرَة، عِند التِّرْمِذيّ أيضاً، وَآخَر عِنْد الدَّارقُطنِيُّ، فِي "الأفْرَاد" منْ حَدِيث الْبَرَاءَ بْن عَازِب، وَقَالَ: تَفرَّد بِهِ شَرِيك. (ومنها): جَوَاز اقتِناء الْكَلْب المُعَلَّم لِلصَّيدِ. وَسَيأتِي البَحْث فِيهِ فِي شرح حَدِيث: "منْ اقْتَنَى كَلْبًا"، إن شاء الله تعالى.

(ومنها): أنه استُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَاز بَيْع كَلْب الصَّيْد؛ لِلإضَافَةِ فِي قوْله: "كَلْبك"، وأَجَابَ مَنْ مَنَعَ بِأنَّها إِضَافَة اخْتِصَاص، وسيأتي تمام البحث فيه فِي محلّه، إن شاء الله تعالى.

(ومنها): أنه استُدِلَّ بِهِ عَلَى طَهَارة سُوْر كَلْب الصَّيْد، دُونِ غَيْره منْ الكِلاب؛ لِلإِذْنِ فِي الأَكْل منْ الموْضِع الَّذِي أكل مِنْهُ، ولَمْ يَذْكُر الْغَسْل، ولوْ كَانَ واجِبًا لبيَّنهُ؛ لِأنَّهُ وقت الْحَاجة إِلى البَيَان. وَقَالَ بعْض العُلَمَاء: يُعْفَى عَن مَعَضّ الْكَلْب، ولوْ كَانَ نَجسًا؛ لِهذا الْحَدِيث. وأجَابَ منْ قَالَ بِنَجَاستِهِ، بِأن وُجُوب الغَسْل كَانَ قد اشْتَهَر عِندهمْ، وعُلِمَ، فَاسْتَغْنى عن ذِكْره. وفِيهِ نظَرٌ، وَقَدْ يتَقَوَّى الْقوْل بالعَفْوِ؛ لِأنَّهُ بِشِدَّةِ الجَرْي يجِفُّ رِيقه، فيُؤْمَنُ مَعَهُ ما يُخْشَى مِنْ إِصَابة لُعَابه موْضِع الْعَضّ. قاله فِي "الفتح".

(ومنها): أنه استُدِلَّ بِقَوْلِهِ: "كُلّ مَا أمْسَكَ عَلَيْك" بِأنَّهُ لو أرْسَلَ كَلْبه عَلَى صَيْد، فاصْطَادَ غَيْره حَلَّ؛ لِلْعُمُومِ الَّذِي فِي قَوْله:"مَا أَمْسَكَ"، وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُور، وَقَالَ مَالِك: لا يَحِلُّ، وَهُوَ رِوَايَة البُويْطِيّ، عن الشَّافِعِيّ.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: القول الأول أرجح؛ لظهور دليله. والله تعالى أعلم

(1)

"فتح" 11/ 22 - 23.

ص: 78

بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي اشتراط إرسال الكلب:

قَالَ العلامة ابن قُدامة رحمه الله تعالى: ما حاصله: يُشتَرط أن يُرسل الجارحة عَلَى الصيد، فإن استرسلت بنفسها، فقتلت لم يُبَح، وبهذا قَالَ ربيعة، ومالكٌ، والشافعيّ، وأحمد، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. وَقَالَ عطاءٌ، والأوزاعيّ: يؤكل صيده إذا أخرجه للصيد. وَقَالَ إسحاق: إذا سمّى عند إنفلاته أُبيح صيده. وروَى بإسناده عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سُئل عن الكلاب، تَنَفَلِتُ منْ مرابضها، فتصيد الصيد؟ قَالَ: اذكر اسم الله، وكل. قَالَ إسحاق: فهذا الذي أختار إن لم يتعمّد هو إرساله منْ غير ذكر اسم الله عليه. قَالَ الخلّال: هَذَا عَلَى معنى قول أبي عبد الله.

وأحتجّ الأولون بقول النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك، وسمّيتَ، فكل"، ولأن إرسال الجارحة جُعل بمنزلة الذبح، ولهذا اعتُبرت التسمية معه. وإن استرسل بنفسه، فسمّى صاحبه، وزجره، فزاد فِي عدوه أُبيح صيده؛ وهذا قول أحمد، وأبي حنيفة؛ لأن زجره أثّر فِي عدوه، فصار كما لو أرسله، وذلك لأن فعل الإنسان متى انضاف إلى فعل غيره، فالاعتبار بفعل الإنسان، بدليل ما لو صال الكلب عَلَى إنسان، فأغراه إنسان، فالضمان عَلَى منْ أغراه. وَقَالَ الشافعيّ: لا يُباح، وعن مالك كالمذهبين. وإن أرسله بغير تسمية، ثم سمّى وزجره، فزاد عدوه، فظاهر كلام أحمد أنه يُباح؛ لأنه انزجر بتسميته وزجره، فأشبه التي قبلها. وَقَالَ القاضي: لا يُباح صيده؛ لأن الحكم يُعلّق بالإرسال الأول، بخلاف ما إذا استرسل بنفسه، فإنه لا يتعلّق به حظر، ولا إباحة. انتهى كلام ابن قُدامة بتصرّف

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(المسألة الخامسة): فِي أقوال أهل العلم فِي اشتراط كون الكلب وغيره معلمًا:

قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: تعليم الكلب وغيره مما يُصاد به هو تأديبه عَلَى الصيد، بحيث يأتمر إذا أُمر، وينزجر إذا زُجر، ولا يُختلف فِي هذين الشرطين فِي الكلاب، وما فِي معناها منْ سباع الوحوش، واختُلف فيما يُصاد به منْ الطير، فالمشهور أن ذلك مشترط فيها. وذكر ابن حبيب أنه لا يُشترط أن تنزجر إذا زُجرت، فإنه لا يتأتّى ذلك فيها غالبًا، فيكفي أنه إذا أمرت أطاعت. قَالَ: والوجود يشهد للجمهور، بل الذي لا ينزجر نادرٌ فيها، وَقَدْ شرَط الشافعيّ، وجمهور منْ العلماء فِي

(1)

"المغني" 13/ 261 - 262.

ص: 79

التعليم أن يُمسك عَلَى صاحبه، ولا يأكل منه شيئًا، ولم يشترطه مالكٌ فِي المشهور عنه. انتهى

(1)

.

وَقَالَ فِي "الفتح": ما حاصله: اخْتُلِف متى يُعلمُ تعَلُّم الكلاب، فَقَالَ البَغَوِيُّ فِي "التَّهْذِيب": أَقَلّه ثلاث مرَّات، وَعَن أبِي حَنيفَة، وأَحْمَد يَكْفِي مَرَّتينِ، وَقَالَ الرَّافِعِيّ: لم يُقدِّرهُ المُعْظم لاضْطِراب العُرف، واخْتِلاف طِبَاع الجَوَارح، فَصَارَ الْمَرجِع إِلى الْعُرْف. ووَقَع فِي رِوَايَة مُجَالِد عَن الشَّعْبِيّ، عَن عَدِيّ فِي هَذَا الْحَدِيث، عِنْد أبِي دَاوُدَ، والتِّزمِذِيّ، أمَّا التِّرْمِذِيّ، فَلَفْظه:"سَألْت رسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن صَيْد الْبَازِي، فَقَالَ: مَا أَمْسَكَ عَلَيْك فَكُلْ"، وَأَمَّا أَبُو دَاوُدَ، فَلَفْظه:"مَا عَلَّمْتَ مِنْ كَلْب، أَوْ بَازٍ، ثُمَّ أَرْسَلْته، وَذَكَرْت اسْم الله، فكُلْ مَا أَمْسَكَ عَلَيْك"، قُلْت: وَإنْ قَتَلَ؟، قَالَ:"إِذَا قَتَل، وْلَمْ يَأكُل مِنْهُ". قَالَ التِّرمِذِيّ: والْعَمَل عَلَى هَذَا عِنْد أهْل الْعِلْم، لا يَرَوْن بِصَيْدِ البَاز، والصُّقُور بَأْسًا. انتهى.

وَقَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى: ما حاصله: لا خلاف فِي أعتبار كون الجارح معلّمًا؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} الآية [المائدة: 4]، ولحديث عديّ بن حاتم، وأبي ثعلبة الخشنيّ رضي الله تعالى عنهما: "إذا أرسلت كلبك المعلّم

" الحديث. قَالَ: ويُعتبر فِي تعليمه ثلاثة شروط، إذا أرسله استرسل، وإذا زجره انزجر، وإذا أمسك لم يأكل، ويتكرّر هَذَا منه مرّةً أخرى، حَتَّى يصير معلّمًا فِي حكم العرف، وأقلّ ذلك ثلاث. قاله القاضي. وهو قول أبي يوسف، ومحمد، ولم يُقدّر أصحاب الشافعيّ عدد المرّات؛ لأن التقدير بالتوقيف، ولا توقيف فِي هَذَا، بل قدره بما يصير به فِي العرف معلّمًا. وحُكي عن أبي حنيفة أنه إذا تكرّر مرّتين، صار معلّمًا؛ لأن التكرار يحصل بمرّتين. وَقَالَ الشريف أبو جعفر، وأبو الخطّاب: يحصل ذلك بمرّة، ولا يُعتبر التكرار؛ لأنه تعلّم صنعة، فلا يُعتبر فيه التكرار، كسائر الصنائع.

وحجة القول الأول أن تركه للأكل يحتمل أن يكون لشِبَع، ويحتمل أنه تعلّم، فلا يتميّز ذلك إلا بالتكرار، وما اعتُبر فيه التكرار اعتُبر ثلاثًا، كالمسح فِي الاستجمار، وعدد الأقراء، والغسلات فِي الوضوء، ونحوها، ويفارق الصنائع، فإنها لا يتمكّن منْ فعلها إلا منْ تعلّمها، فإذا فعلها عُلم أنه قد تعلّمها، وعرفها، وتركُ الأكلِ ممكن الوجود منْ المتعلّم وغيره، ويوجد منْ الصنفين جميعًا، فلا يتميّز به أحدهما منْ الآخر

(1)

"المفهم" 5/ 205.

ص: 80

حَتَّى يتكرّر. انتهى كلام ابن قُدامة بتصرّف

(1)

.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: القول الأول عندي أقرب؛ دوضوح حجته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي إلحاق غير الكلب به فِي جواز الصيد:

قَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى أيضًا: وكلّ ما يقبل التعليم، ويُمكن الاصطياد به منْ سباع البهائم، كالفهد، أو جوارح الطير، فحكمه حكم الكلب فِي إباحة صيده. قَالَ ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما فِي قوله تعالى:{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} الآية: هي الكلاب المعلّمة، وكلّ طير تعلّم الصيد، والفُهود، والصقور، وأشباهها. وبمعنى هَذَا قَالَ طاوس، ويحيى بن أبي كثير، والحسن، ومالك، والثوريّ، وأبو حنيفة، ومحمد ابن الحسن، والشافعيّ، وأبو ثور. وحكي عن ابن عُمر، ومجاهد أنه لا يجوز الصيد إلا بالكذب؛ يقول الله تعالى:{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] يعني كَلَّبتم منْ الكلاب.

واحتجّ الأولون بما روى عن عديّ بن حاتم رضي الله تعالى عنه، قَالَ: سألت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عن صيد البازي؟ فَقَالَ: "إذا أمسك عليك، فكل"

(2)

، ولأنه جارحٌ يُصاد به عادةً، ويقبل التعليمَ، فأشبه الكلب، فأما الآية فإن الجوارح الكواسب، {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60]: أي كسبتم، وفلان جارحة أهله: أي كاسبهم {مُكَلِّبِينَ} منْ التكليب، وهو الإغراء. انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله تعالى

(3)

.

وَقَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: ألحق الجمهور بالكلب كلّ حيوان معلّم، يتأتّى به الاصطياد، تمسّكًا بالمعنى، وبما رواه الترمذيّ عن عديّ بن حاتم رضي الله تعالى عنه أنه قَالَ: سألت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عن صيد البازي؟ فَقَالَ: "إذا أمسك عليك، فكل"، عَلَى أن فِي إسناده مجالدًا، ولايُعرف إلا منْ حديثه، وهو ضعيف، والمعتمد النظر إلى المعنى، وذلك أن كلّ ما يتأتّى منْ الكلب يتأتّى منْ الفهد مثلًا، فلا فارق إلا فيما لا مدخل له فِي التأثير، وهذا هو القياس فِي معنى الأصل، كقياس السيف عَلَى المدينة التي ذبح النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم بها، وقياس الأمة عَلَى العبد فِي سراية العتق.

(1)

"المغني" 13/ 262.

(2)

سيأتي قريبًا أنه حديث ضعيف؛ لتفرّد مجال ابن سعيد به، وهو ضعيف.

(3)

"المغني" 13/ 265 - 266.

ص: 81

وَقَدْ خالف فِي ذلك قومٌ، وقصروا الإباحة عَلَى الكلاب خاصّةً، ومنهم منْ يستثني الكلب الأسود، وهو الحسن، والنخعيّ، وقتادة؛ لأنه شيطانٌ، كما قَالَ النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، متمسّكين بقوله تعالى:{مُكَلِّبِينَ} ، وبأنه ما وقع فِي "الصحيحين" إلا ذكر الكلاب. وهذا لا حجّة لهم فيه؛ لأن ذكر الكلاب فِي هذه المواضع إنما كَانَ لأنها الأغلب والأكثر، وأيضًا فإن ذكرها خصوصًا لا يدلّ عَلَى أن غيرها لا يُصاد بها؛ لأن الكلب لقبٌ، ولا مفهوم للّقب عبد جماهير المحقّقين منْ الأصوليين، ولم يصر إليه إلا الدّقّاق، وليس هو فيه عَلَى توفيق، ولا وفاق، ولو صحّ زعمه ذلك لكفر منْ قَالَ: عيسى رسول الله، فإنه كَانَ يلزم منه بحسب زعمه، أن محمدًا وغيره منْ الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- ليس رسولًا. انتهى كلام القرطبيّ

(1)

.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي ما ذهب إليه الجمهور منْ جواز الاصطياد بكل حيوان يقبل التعليم هو الأرجح؛ لظهور مُدركه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي اشتراط التسمية عَلَى الكلاب، والذبيحة: قَالَ الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى فِي "تفسيره" 2/ 170 - عند تفسير قوله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} الآية [الأنعام: 121]-: ما حاصله:

قد اختلف الأئمة رحمهم الله فِي هذه المسألة عَلَى ثلاثة أقوال: فمنهم منْ قَالَ: لا تحل هذه الذبيحة بهذه الصفة، وسواء متروك التسمية عمدا، أو سهوا، وهو مروي عن ابن عمر، ونافع مولاه، وعامر الشعبي، ومحمد بن سيرين، وهو رواية عن الإمام مالك، ورواية عن أحمد بن حنبل، نصرها طائفة منْ أصحابه المتقدمين والمتأخرين، وهو اختيار أبي ثور، وداود الظاهري، واختار ذلك أبو الفتوح، محمد بن محمد بن علي الطائي، منْ متأخري الشافعية، فِي كتابه "الأربعين"، واحتجوا لمذهبهم هَذَا بهذه الآية، وبقوله فِي آية الصيد:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} ، ثم قد أكد فِي هذه الآية بقوله:{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} ، والضمير قيل: عائد عَلَى الأكل، وقيل: عائد عَلَى الذبح لغير الله، وبالأحاديث الواردة فِي الأمر بالتسمية عبد الذبيحة والصيد، كحديثي عدي بن حاتم، وأبي ثعلبة رضي الله تعالى عنهما:"إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه، فكل ما أمسك عليك"، وهما فِي "الصحيحين"، وحديث رافع بن خديج رضي الله عنه:"ما أنهر الدم، وذُكر اسم الله عليه فكلوه"، وهو فِي "الصحيحين" أيضا،

(1)

"المفهم" 5/ 205 - 206.

ص: 82

وحديث ابن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قَالَ للجن:"لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه"، رواه مسلم، وحديث جندب بن سفيان البجلي رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منْ ذبح قبل أن يصلي، فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يكن ذبح حَتَّى صلينا، فليذبح باسم الله"، أخرجاه، وعن عائشة رضي الله عنها: أن ناسا قالوا: يا رسول الله، إن قوما يأتوننا باللحم، لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟، قَالَ:"سموا عليه أنتم، وكلوا"، قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر، رواه البخاريّ. ووجه الدلالة أنهم فَهِموا أن التسمية لابد منها، وخشُوا أن لا تكون وُجدت منْ أولىك؛ لحداثة إسلامهم، فأمرهم بالاحتياط بالتسمية عند الأكل، لتكون كالعوض عن المتروكة عبد الذبح، إن لم تكن وجدت، وأمرهم باجراء أحكام المسلمين عَلَى السداد. والله أعلم.

(المذهب الثاني فِي المسألة): أنه لا يشترط التسمية، بل هي مستحبة، فإن تركها عمدا أو نسيانا لا يضر، وهذا مذهب الإمام الشافعيّ رحمه الله، وجميع أصحابه، ورواية عن الإمام أحمد، نقلها عنه خبل، وهو رواية عن الإمام مالك، ونص عَلَى ذلك أشهب بن عبد العزيز، منْ أصحابه، وحُكي عن ابن عباس، وأبي هريرة، وعطاء بن أبي رباح. والله أعلم. وحمل الشافعيّ الآية الكريمة:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]، عَلَى ما ذُبح لغير الله، كقوله تعالى:{أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145]، وَقَالَ ابن جريج، عن عطاء:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} قَالَ: ينهى عن ذبائح، كانت تذبحها قريش للأوثان، وينهى عن ذبائح المجوس، وهذا المسلك الذي طرقه الإمام الشافعيّ قويّ، وَقَدْ حاول بعض المتأخرين أن يقويه، بأن جعل الواو فِي قوله:{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} حالية: أي لا تأكلوا ما لم يذكر اسم الله عليه، فِي حال كونه فسقا، ولايكون فسقا، حَتَّى يكون قد أُهِلّ به لغير الله، ثم ادّعى أن هَذَا متعين، ولا يجوز أن تكون الواو عاطفة؛ لأنه يلزم منه عطف جملة اسمية خبرية، عَلَى جملة فعلية طلبية، وهذا ينتقض عليه بقوله:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} ، فإنها عاطفة، لا مَحَالة، فإن كانت الواو التي ادّعى أنها حالية صحيحة، عَلَى ما قَالَ، امتنع عطف هذه عليها، فإن عُطفت عَلَى الطلبية، ورَدَ عليه ما أورد عَلَى غيره، وإن لم تكن الواو حالية، بطل ما قَالَ منْ أصله. والله أعلم.

وَقَالَ ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن المغيرة، أنبأنا جرير، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس فِي الآية:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} قَالَ: هي الميتة. ثم رواه عن أبي زرعة، عن يحيى بن أبي كثير، عن ابن لَهِيَعة، عن عطاء -وهو ابن السائب- به.

ص: 83

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: فِي الأول عطاء بن السائب، وهو مختلط، وجرير ممن روى عنه بعد اختلاطه، وفي الثاني ابن لَهيعة، وهو ضعيف للاختلاط. والله تعالى أعلم.

قَالَ: وَقَدْ استُدل لهذا المذهب بما رواه أبو داود فِي "المراسيل" منْ حديث ثور بن زيد، عن الصلت السدوسي، مولى سُويد بن منجوف، أحد التابعين، الذين ذكرهم أبو حاتم بن حبّان، فِي كتاب "الثقات"، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله، أو لم يَذكُر، إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله"، وهذا مرسل، يُعضَد بما رواه الدارقطني، عن ابن عباس، أنه قَالَ:"إذا ذبح المسلم، ولم يذكر اسم الله فليأكل، فإن المسلم فيه اسم منْ أسماء الله".

واحتج البيهقي أيضًا بحديث عائشة، رضي الله عنها المتقدم: أن ناسا قالوا: يا رسول الله، إن قوما حديثي عهد بجاهلية، يأتوننا بلحم، لا ندري أذُكر اسم الله عليه، أم لا؛ فَقَالَ:"سموا أنتم، وكلوا"، رواه البخاريّ، قالوا: فلو كَانَ وجود التسمة شرطا، لم يُرخِّص لهم إلا مع تحققها، والله أعلم.

(المذهب الثالث فِي المسألة): إن تَرَكَ البسملةَ، عَلَى الذبيحة نسيانا لم يضر، وإن تركها عمدا لم تحل، هَذَا هو المشهور منْ مذهب الإمام مالك، وأحمد بن حنبل، وبه يقول أبو حنيفة، وأصحابه، وإسحاق بن راهويه، وهو محكي عن علي، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وطاوس، والحسن البصريّ، وأبي مالك، وعبد الرحمن ابن أبي ليلى، وجعفر بن محمد، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، ونقل الإمام أبو الحسن المرغياني، فِي كتابه "الهداية" الإجماع قبل الشافعيّ، عَلَى تحريم متروك التسمية عمدا، فلهذا قَالَ أبو يوسف، والمشايخ: لو حكم حاكم بجواز بيعه، لم ينفذ؛ لمخالفة الإجماع. وهذا الذي قاله غريب جدًّا، وَقَدْ تقدم نقل الخلاف، عمن قبل الشافعيّ، والله أعلم.

وَقَالَ الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله: منْ حرّم ذبيحة الناسي، فقد خرج منْ قول جميع الحجة، وخالف الخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي ذلك، يعني ما رواه الحافظ أبو بكر البيهقي، أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عباس الأصم، حدثنا أبو أمية الطرسوسي، حدثنا محمد بن يزيد، حدثنا مَعقِل بن عبيد الله، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"المسلم يكفيه اسمه، إن نسي أن يسمي حين يذبح، فليذكر اسم الله، وليأكله"، وهذا الحديث رفعه خطأ، أخطأ فيه مَعْقِل بن عبيد الله الجزري، فإنه وإن كَانَ منْ رجال مسلم، إلا أن سعيد بن منصور،

ص: 84

وعبد الله بن الزبير الحميدي، روياه عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن أبي الشعثاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، منْ قوله، فزادا فِي إسناده أبا الشعثاء، ووقفاه، وهذا أصح، نَصّ عليه البيهقي، وغيره منْ الحفاظ.

ثم نقل ابن جرير، وغيره، عن الشعبي، ومحمد بن سيرين، أنهما كرها متروك التسمية نسيانا، والسلف يطلقون الكراهة عَلَى التحريم كثيرا. والله أعلم، إلا أن منْ قاعدة ابن جرير، أنه لا يعتبر قول الواحد، ولا الاثنين مخالفا لقول الجمهور، فيَعُدّه إجماعا، فليُعلَم هَذَا. والله الموفق.

قَالَ ابن جرير: حدثنا ابن وكيع، حدثنا أبو أسامة، عن جَهِير بن يزيد

(1)

، قَالَ: سئل الحسن، سأله رجل أُتيت بطير كَرًى

(2)

، فمنه ما قد ذُبح، فذُكر اسم الله عليه، ومنه ما نُسي أن يذكر اسم الله عليه، واختلط الطير؟ فَقَالَ الحسن: كُلْه كُلَّه. قَالَ: وسألت محمد بن سيرين، فَقَالَ: قَالَ الله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} .

واحتُجّ لهذا المذهب، بالحديث المروي منْ طرُق، عبد ابن ماجه، عن ابن عباس، وأبي هريرة، وأبي ذَرّ، وعقبة بن عامر، وعبد الله بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استُكرهوا عليه"، وفيه نظر. والله أعلم.

وَقَدْ روى الحافظ أبو أحمد بن عديّ، منْ حديث مروان بن سالم القَرْقَساني -بفتح القافين- عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قَالَ: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يا رسول الله، أرأيت الرجل منا يذبح، وينسى أن يسمي؟ فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اسم الله عَلَى كل مسلم"، ولكن هَذَا إسناده ضعيف، فإن مروان بن سالم القَرْقَساني، أبا عبد الله الشاميّ ضعيف، تكلم فيه غير واحد منْ الأئمة. والله أعلم.

قَالَ ابن كثير: وَقَدْ أفردت هذه المسألة عَلَى حدة، وذكرت مذهب الأئمة، ومآخذهم وأدلتهم، ووجه الدلالات، والمناقضات، والله أعلم. انتهى "تفسير ابن كثير" 2/ 174 - 176.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه القائلون باشتراط التسمية مطلقًا، عمدًا، أو سهوًا هو الأرجح؛ لظاهر الآية:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} الآية، ولصّحة الأمر بذلك فِي حديث عديّ رضي الله تعالى عنه، المذكور فِي

(1)

"جهير" مصغّرًا، وقيل: بوزن عَظِيم، وثّقه ابن معين، وابن حبّان، وغيرهما. اهـ منْ تعليق أحمد شاكر عَلَى "تفسير بن جرير" 12/ 84.

(2)

قوله: "كَرَى" بفتحتين جمع كَرَوَان، طائر بين الدجاجة والحمامة، حسن الصوت يؤكل لحمه. انتهى منْ هامش تفسير ابن جرير جـ 12/ 84.

ص: 85

الباب، حيث قَالَ النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم له:"إذا أرسلت كلبك، فاذكر اسم الله عليه"، ومثله فِي حديث أبي ثعلبة الخشنيّ رضي الله تعالى عنه الآتي، فقد جعلِها الشارع شَرطاً فِي حدِيث عَدِيٍّ، وأوقف الإذْن فِي الأكْل عليها، فِي حَديث أبي ثَعْلَبة، والمُعلَّق بِالوصْفِ يَنْتَفِي عِند انْتِفَائِهِ، عِنْد منْ يقول بِالْمَفْهُوم، والشَّرْط أقْوى منْ الوصف، ويتأكد الْقَوْل بِالوُجُوب أيضاً بِأنَّ الأصْل تَحرِيم الْمَيْتة، وما أُذِنَ فِيهِ مِنْها تُراعَى صِفَته، فالمُسمَّى عَلَيْهَا وَافَقَ الْوَصْف، وَغَيْر المُسَمَّى بَاقٍ عَلَى أصْلِ التَّحْرِيم أَفَاده فِي "الفتح"

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة)؛ فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم أكل الصيد الذي أكل منه الكلب:

ذهب الجمهور إلى تحرِيم أكلِ الصَّيْد الَّذِي أَكَلَ الْكَلْب مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ الكلب مُعلَّمًا؛ لقوله فِي هَذَا الحديث:"فإن وجدته قد أكل منه، فلا تطعم منه شيئًا"، وَقَدْ علَّل بِالخَوْفِ منْ أنَّهُ:"إِنَّمَا أمْسَك عَلَى نَفْسه"، قَالَ فِي "الفتح": وهُو الرَّاجِح مِن قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ، وَقَالَ فِي الْقَدِيم -وهُوَ قَوْل مَالِك، ونقل عن بَعْضِ الصَّحَابة-: يَحِلّ، واحتجُّوا بِما ورد فِي حدِيث عمرو بن شُعَيْب، عن أبيهِ، عن جَدِّهِ:"أنَّ أعْرابِيًّا، يُقال له: أبُو ثَعْلبة، قَالَ: يا رسُول الله، إِنَّ لي كِلابًا مُكَلَّبَة، فأفْتِنِي فِي صَيْدهَا، قَالَ: كُلْ مِمَّا أمْسَكْنَ عَليْك، قَالَ: وإنْ أَكَل مِنْهُ؟ قَالَ: وإنْ أَكَل مِنْهُ". أخرجهُ أبُو داوُد. قَالَ الحافظ: ولا بَأْس بِسندِهِ. وسَلَكَ النَّاس فِي الجَمْع بين الْحَدِيثَيْنِ طُرُقاً:

[مِنْها]: -لِلقَائِلِينَ بِالتَّحْرِيمِ- حَمْلُ حدِيث أبِي ثَعْلَبَة، عَلَى مَا إِذَا قَتَلهُ، وخَلَّاهُ، ثُمَّ عَادَ، فَأَكَلَ مِنْهُ.

[وَمِنْهَا]: التَّرْجِيح، فرِواية عَدِيٍّ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"، مُتَّفق عَلَى صِحَّتهَا، وَرِوَاية أبِي ثَعْلَبة المَذْكُورة فِي غَيْر "الصَّحِيحَيْنِ"، مُخْتَلَف فِيِ تَضْعِيفهَا، وأيْضًا فَرِوَايَة عَدِيٍّ صَرِيحَة، مَقْرُونة بِالتَّعْلِيلِ المُنَاسِب لِلتَّحْرِيم، وَهُوَ خَوْف الإمْسَاك عَلَى نَفْسه، مُتأيِّدَة بِأنَّ الأصْل فِيِ المَيْتَة التَّحْرِيم، فإِذا شَكَكْنا فِي السَّبَب المُبيح، رَجَعْنا إِلى الأصْل، وَظَاهِرِ القُرآن أيضًا، وهُو قَوْله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} ، فَإِنَّ مُقْتَضَاهَا، أَنَّ الَّذِي يُمْسِكهُ مِن غَيْر إِرْسَال لا يُبَاح، وَيتَقوَّى أيضًا بِالشَّاهِدِ منْ حدِيث ابْنِ عبّاس رضي الله تعالى عنهما، عِنْد أحْمَد:"إِذَا أرسَلْت الكَلْب، فأكَلِ الصَّيد، فَلا تَأكُل، فَإِنَّمَا أمْسَكَ عَلَى نَفْسه، وَإِذَا أرْسَلْته فَقَتَل، ولَمْ يَأْكُل فَكُلْ، فإِنَّمَا أمْسَك عَلَى صَاحِبِهِ". وأخْرَجَهُ الْبَزَّار مِنْ وَجْه آخَر، عن ابنِ عبَّاس، وابْنُ أبِي شَيْبَة، مِنْ حَدِيث أبِي رَافِعٍ بِمَعْناهُ، وَلَوْ

(1)

راجع "الفتح" 11/ 22.

ص: 86

كَانَ مُجرَّد الإمْسَاك كَافِيًا، لِما احْتِيج إِلى زِيَادَة:{عَلَيْكُمْ} .

[ومِنها]: -لِلقائِلينَ بِالإباحةِ- حَمْلُ حدِيث عدِيٍّ عَلَى كراهة التَّتْزِيه، وَحَدِيث أبِي ثعْلَبَة عَلَى بَيَان الجَوَاز. قَالَ بَعْضهمْ: ومُناسبة ذَلِكَ أَنَّ عدِيًّا، كَانَ مُوسِرًا، فَاخْتِيرَ لَهُ الْحَمْل عَلَى الأَوْلَى، بِخِلافِ أبِي ثَعْلَبة، فإِنَّهُ كَانَ بِعَكْسِهِ. قَالَ الحَافظ: ولا يَخْفَى ضَعْف هَذَا التَّمَسُّك، مع التَّصْرِيح بِالتَّعليلِ فِي الْحَدِيث، بِخَوْفِ الإِمْسَاك عَلَى نَفْسه.

وَقَالَ ابْن التِّين: قَالَ بَعْض أصْحَابنا: هُو عامٌ، فيُحْمَل عَلَى الَّذِي أدركهُ ميِّتًا، مِن شِدَّة العدو، أو منْ الصَّدْمة، فأكَلَ مِنْهُ؛ لِأنَّهُ صَار عَلَى صِفَة، لا يتَعَلَّق بِها الإرْسَال، ولا الإِمْسَاك عَلَى صَاحِبِهِ، قَالَ: ويَحْتَمِل أنْ يكُون مَعْنَى قوْله: "فَإِنْ أكَلَ فَلا تَأكُل": أيْ لا يُوجد مِنْهُ غَيْر مُجرَّد الأكْل، دُون إِرْسَال الصَّائِد لهُ، وتكُونُ هذِهِ الجُمْلة مَقْطُوعَة عَمَّا قَبْلَها. قَالَ الحافظ: ولا يَخْفَى تَعَسُّف هَذَا، وَبُعْده.

وَقَالَ ابْن القَصَّار: مُجَرَّد إِرْسَالنَا الْكَلْب إِمسَاكٌ عَلَيْنَا؛ لأنَّ الْكَلْب لا نِيَّة لهُ، ولا يَصِحّ مِنْهُ ميزها

(1)

، وإِنَّما يتَصَيَّد بِالتَّعْليم، فَإِذَا كَانَ الاعْتِبار بِأنْ يُمْسِك عَلَيْنَا، أَوْ عَلَى نَفْسه، واختلف الْحُكم فِي ذَلِكَ، وَجَبَ أنْ يتَمَيَّز ذَلِكَ بنِيَّةِ منْ لهُ نِيَّة، وهُو مُرسِله، فَإِذَا أرسلهُ فقد أمْسَك عَلَيْهِ، وإِذا لَمْ يُرْسِلهُ لم يُمْسِك عَلَيْهِ. كذا قَالَ، ولا يَخْفَى بُعده أيْضًا، ومُصَادَمَته لِسِيَاقِ الْحَدِيث.

وَقَدْ قَالَ الجُمهُور: إِنَّ معْنى قوْله: {أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} : صِدْنَ لكُمْ، وَقَدْ جَعَل الشَّارع أكْله مِنْهُ عَلامة عَلَى أنَّهُ أمْسَك لِنفْسِهِ، لا لصَاحِبِهِ، فلا يُعْدَل عن ذَلِكَ، وَقَدْ وَقَع فِي رِواية لابْنِ أبِي شَيْبَة:"إنْ شَرِبَ منْ دَمِهِ، فَلا تَأكُل، فَإِنَّهُ لَمْ يُعَلَّمْ مَا عَلَّمَتْهُ"، وفِي هَذَا إِشَارَة إِلى أنَّهُ إِذَا شَرع فِي أَكْله، دلَّ عَلَى أَنَّهُ ليْسَ بمُعلَّم التَّعْلِيم المُشْتَرَطَ.

وسلك بعض الْمَالِكِيَّة التَّرْجِيح، فقالى: هذِهِ اللَّفظة ذكَرهَا الشَّعْبِيّ، ولمْ يَذْكُرها هَمَّام، وعَارضَها حَدِيث أبِي ثَعْلبة. وهذا -قَالَ الحافظ- تَرْجِيح مَرْدُود، لِمَا تَقَدَّم.

وَتَمَسَّك بَعْضهم بِالإِجْمَاع عَلَى جَوَاز أكْله، إِذَا أخَذهُ الْكَلْب بِفِيهِ، وَهَمَّ بِأكْلِهِ، فأُدْرِك قَبْلَ أَنْ يَأكُل، قَالَ: فَلَوْ كَانَ أكْله مِنْهُ دالاً عَلَى أنّهُ أمْسَكَ عَلَى نَفْسه، لَكَانَ تَنَاوُله بِفِيهِ، وشُرُوعه فِي أكْله كَذلِك، وَلَكِنْ يُشْتَرط أنْ يَقِف الصَّائِد، حَتَّى يَنْظُر هَلْ يَأكُل، أوْ لا. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن ما ذهب إليه الجمهور، منْ عدم جواز أكل ما أكل منه الكلب هو الأرجح؛ ترجيحًا لحديث عديّ رضي الله تعالى عنه

(1)

هكذا نسخة "الفتح"، ولعل الصواب:"تمييزها"، والله تعالى أعلم.

ص: 87

المتّفق عليه، الموافق لظاهر قوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} ، وأما حديث أبي ثعلبة رضي الله تعالى عنه، وإن قلنا بأنه صالح للاحتجاج، فإنه دون حديث عديّ المتّفق عليه، فلا يقوى لمعارضته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلتُ، وإليه أنيب".

‌2 - (النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ)

4266 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ؟ فَقَالَ: "مَا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ، فَكُلْ، وَمَا أَصَبْتَ بِعَرْضِهِ، فَهُوَ وَقِيذٌ"، وَسَأَلْتُهُ عَنِ الْكَلْبِ؟ فَقَالَ: "إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ فَأَخَذَ، وَلَمْ يَأْكُلْ فَكُلْ، فَإِنَّ أَخْذَهُ ذَكَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ مَعَ كَلْبِكَ كَلْبٌ آخَرُ، فَخَشِيتَ أَنْ يَكُونَ أَخَذَ مَعَهُ، فَقَتَلَ، فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ إِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا السند هو المذكور فِي الباب الماضي، غير زكريا ابن أبي زائدة الهمداني الوادعي، أبو يحيى الكوفيّ، ثقة، يدلس [6] 93/ 115.

و"عبد الله": هو ابن المبارك.

وقوله: "عن صيد المِعْراض": -بِكَسْرِ الْمِيم، وسُكُون الْمُهْمَلَة، وآخِره مُعجمة- قَالَ الخلِيل، وتَبِعَهُ جَماعَة: سَهْم لا رِيش لَهُ، ولا نصْل. وَقَالَ ابْن دُريدِ، وتبِعهُ ابْن سِيدَه: سَهْم طَوِيل، لهُ أرْبَع قُذَذٍ رِقَاقٍ، فَإِذَا رَمى بِهِ اعْتَرَضَ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: المِعْرَاض: نَصْلٌ عَرِيضٌ، لهُ ثِقَلٌ وَرَزَانَة. وقِيل: عُود، رقِيق الطَّرَفَيْنِ، غَلِيظ الْوَسَط، وهُوَ المُسَمَّى بِالْحُذَافَةِ، وقِيل: خَشَبَة ثَقِيلة، آخِرُها عَصَا مُحَدَّد رأْسهَا، وَقَدْ لا يُحدَّد، وَقَوَّى هَذَا الأخِير النَّوَوِيّ، تبعًا لِعِيَاضٍ. وَقَالَ القُرطُبِيّ: إِنَّهُ الْمَشْهُور. وَقَالَ ابْن التِّين: المِعْرَاض عَصًا فِي طرَفَهَا حَدِيدَة، يَرْمِي الصَّائِد بهِا الصَّيْد، فَمَا أصَابَ بِحَدِّهِ، فَهُوَ ذَكِيّ، فيُؤكَل، ومَا أصَاب بِغَيْرِ حَدّه، فَهُو وَقِيذ.

وقوله: "ما أصاب بحدّه" أي بأن نفذ فِي اللحم، وقطع شيئًا منْ الجلد.

ص: 88

وقوله: "وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ" هو بفتح العين: أيْ بِغَيْرِ طَرَفه المُحَدَّد، وهُوَ حُجَّة لِلْجُمْهُورِ فِي التَّفْصِيل الآتي، وَعَن الأوْزَاعِيِّ وَغَيْره، مِنْ فُقَهَاء الشَّام: حِلُّ ذَلِكَ، وَسَيأتِي تحقيق الخلاف فِي ذلك قريبًا، إن شاء الله تعالى.

وقَوْله: "فهُو وَقِيذ": أي فهو حرام؛ لعدّ الله تعالى الموقوذة منْ المحرّمات. و"الوقيذ": -بِالْقَافِ، وآخِره ذال مُعْجَمة، وَزْن عَظِيم، فعِيل بِمعنى مفْعُول، وهُوَ مَا قُتِل بِعصًا، أو حَجَر، أوْ مَا لا حَدّ لهُ، والموْقُوذَة: هي الَّتِي تُضْرب بِالخَشَبةِ حتَّى تَمُوت. ووَقَع فِي رِواية هَمَّام بن الْحَارِث عن عَدِيّ الآتِية بعد بَابين: "قُلت: أَرْمِي بِالمِعْراض، فيَخْزِق؟، قَالَ: "إن خَزَقَ فكُلّ"، وَهُوَ -بِفتح المُعْجَمَة والزَّاي، بَعْدهَا قاف-: أي نفذ، يُقال: سهم خازِق: أي نافِذ، ويُقال: بِالسِّينِ الْمُهْمَلَة، بدل الزَّاي، وقِيل: الْخَزْقُ -بِالزَّايِ، وَقِيلَ تُبْدَلُ سِينًا-: الخدش، ولا يَثْبُت فِيهِ، فإِنْ قِيلَ: بِالرَّاءِ فهُوَ أنْ يَثْقُبهُ.

وَحَاصِله أنَّ السَّهْم، وما فِي معناهُ، إِذَا أصَابَ الصَّيد بِحدِّهِ حَلَّ، وكانت تِلك ذكاته، وإِذَا أصَابهُ بِعَرْضِهِ لمْ يحِلّ؛ لِأنَّهُ فِي مَعْنى الخَشَبة الثَّقِيلة، والحَجَر، وَنَحْو ذَلِكَ مِن المُثَقَّل. قاله فِي "الفتح".

وقوله: "فلا تأكل، فإنك إنما سمّيت الخ" فيه دلالة ظاهرة، عَلَى أن متروك التسمية منْ الصيد حرام. ثم قوله:"فإنك إنما سمّيت الخ" تعليل للتحريم، ومنه يؤخذ أنه إذا أرسل الكلب الآخر بتسمية، جاز الأكل. والله تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وسبق تمام شرحه، وبيان مسائله، وموضع الاستدلال للترجمة واضحة، وَقَدْ سبق بيان اختلاف العلماء فِي حكم التسمية عبد إرسال الكلب، ونحوه، وترجيح الراجح منها فِي المسألة السابعة فِي الباب الماضي، فأرجع إليه تزدد علمًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌3 - (صَيْدِ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ)

4267 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الصَّمَدِ، عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ

ص: 89

حَاتِمٍ، أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أُرْسِلُ الْكَلْبَ الْمُعَلَّمَ، فَيَأْخُذُ؟ فَقَالَ:"إِذَا أَرْسَلْتَ الْكَلْبَ الْمُعَلَّمَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَأَخَذَ فَكُلْ". قُلْتُ: وَإِنْ قَتَلَ؟ قَالَ: "وَإِنْ قَتَلَ"، قُلْتُ: أَرْمِى بِالْمِعْرَاضِ؟ قَالَ: "إِذَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، وَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ، فَلَا تَأْكُلْ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "إسماعيل بن مسعود": هو الجَحْدريّ البصريّ الثقة. و"أبو عبد الصمد، عبد العزيز ابن عبد الصمد": هو العمّيّ البصريّ، ثقة حافظ، منْ كبار [9] 17/ 1551. و"منصور": هو ابن المعتمر. و"إبراهيم": هو ابن يزيد النخعيّ. و"همّام بن الحارث": النخعيّ الكوفيّ، ثقة عابد [2] 96/ 118.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق تمام البحث فيه مستوفًى فِي الباب الأول، وموضع استدلال المصنّف رحمه الله تعالى به عَلَى الترجمة قوله:"إذا أرسلت الكلب المعلَّم"، حيث قيّده بكونه معلّمًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌4 - (صَيْدِ الْكَلْبِ الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ)

4268 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكُوفِيُّ الْمُحَارِبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَبِيعَةَ بْنَ يَزِيدَ، يَقُولُ: أَنْبَأَنَا أَبُو إِدْرِيسَ، عَائِذُ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ، يَقُولُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا بِأَرْضِ صَيْدٍ، أَصِيدُ بِقَوْسِي، وَأَصِيدُ بِكَلْبِي الْمُعَلَّمِ، وَبِكَلْبِي الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ، فَقَالَ: "مَا أَصَبْتَ بِقَوْسِكَ، فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَكُلْ، وَمَا أَصَبْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ، فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، وَكُلْ، وَمَا أَصَبْتَ بِكَلْبِكَ الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ، فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكُوفِيُّ الْمُحَارِبِيُّ) أبو جعفر، أو أبو يعلى النحّاس الكوفيّ، صدوقٌ [10] 144/ 226.

2 -

(عبد الله بن المبارك) المذكور قبل باب.

3 -

(حيوة بن شُرَيح) التُّجيبيّ، أبو زرعة المصريّ، ثقة ثبتٌ فقيه زاهد [7] 17/ 478.

ص: 90

4 -

(ربيعة بن يزيد) أبو شُعيب الإياديّ القصير الدمشقيّ، ثقة عابد [4] 109/ 148.

5 -

(أبو إدريس، عائذ الله) بن عبد الله الخولانيّ، وُلد فِي عهد النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم يوم حُنين، وسمع منْ أكابر الصحابة، ومات سنة (80)، وكان عالم الشام بعد أبي الدرداء -72/ 80.

6 -

(أبو ثعلبة الخُشَنيّ) رضي الله تعالى عنه، اختُلف فِي اسمه، واسم أبيه اختلافاً كثيراً. روى عن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، وعن معاذ بن جبل، وأبي عبيدة بن الجرّاح. وعنه أبو إدريس الخولانيّ، وأبو أميّة الشعبانيّ، وسعيد بن المسيّب، وعطاء ابن يزيد الليثيّ، وآخرون. قَالَ عبيد الله بن سعد الزهريّ: قَالَ أحمد: بلغني عن أبي مُسهر، قَالَ: سمعت سعيد بن عبد العزيز يقول: أبو ثعلبة اسمه جُرْثُومة. وَقَالَ النسائيّ: حدّثنا عمرو بن منصور، أخبرنا أبو مُسهر، قَالَ: سمعت سعيد بن عبد العزيز قَالَ: اسم أبي ثعلبة جُرثوم، وقيل: جرهم. وَقَالَ حنبل عن أحمد: بلغني عن سعيد بن عبد العزيز قَالَ: اسمه جرثوم، وكذا قَالَ صالح بن أحمد، عن أبيه. وَقَالَ أبو زرعة الدمشقيّ، عن أبي مُسهر: اسمه جرثوم. وعن سليمان بن عبد الرحمن، قَالَ: سألت بعض ولد أبي ثعلبة عن اسمه؟ فَقَالَ: لاشر بن جُرثوم. وَقَالَ يعقوب بن سفيان: قلت لهشام بن عمّار: ما اسم أبي ثعلبة؟ قَالَ: يقولون: جرثوم بن عمرو، وكذا قَالَ نوح بن حبيب، عن هشام. وَقَالَ عبد الله بن أحمد، عن أبيه، وصالح بن أحمد، عن أبيه، وحنبل بن أحمد: اسمه جرهم بن ناشم، وكذا قَالَ مسلم، وكذا قَالَ البغويّ عن ابن زنجويه، وهارون بن عبد الله، وكذا قَالَ ابن سعد عن أصحابه. وَقَالَ دُحيم: اسمه جرثوم. وَقَالَ خليفة بن خيّاط: اسمه الأشقّ بن جرهم، ويقال: جرثومة بن ناشج، ويقال. جرهم. وَقَالَ ابن الْبَرْقيّ: اسمه جرثومة بن الأشتر بن جرثوم، ممن بايع تحت الشجرة، قَالَ: وَقَالَ بعضهم: اسمه الأشق بن جرهم. وقيل: غير ذلك فِي اسمه، واسم أبيه. وَقَالَ ابن عيسى: بلغني أنه كَانَ أقدم إسلامًا منْ أبي هريرة، ولم يُقاتل مع عليّ، ولا مع معاوية، ومات فِي أول إمرة معاوية. وَقَالَ القاضي أبو عليّ: نزل دريا. وَقَالَ خالد بن محمد الكنديّ، عن أبي الزاهريّة: سمعت أبا ثعلبة يقول: إني لأرجو أن لا يخنُقني الله تعالى، كما أراكم تُخنقون عند الموت، قَالَ: فبينما هو يصلّي فِي جوف الليل قُبض، وهو ساجد، فرأت ابنته فِي النوم أن أباها قد مات، فاستيقظت فَزِعةَ، فنادت: أين أبي؟ قالوا: فِي مصلّاه، فنادته، فلم يُجبها، فأتته، فوجدته ساجدًا، فحرّكته، فسقط ميتًا. وَقَالَ أبو عُبيد، وابن سعد، وخليفة، وهارون الحمّال، وأبو حسّان الزياديّ: مات سنة (75). روى له الجماعة، وله عند المصنّف ثمانية

ص: 91

أحاديث: هَذَا الحديث، وحديث رقم 4305 و4327 و4328 و4343 و4345 و4441 و5210. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به هو، وأبو داود، والترمذيّ. (ومنها): أنه مسلسل بالدمشقيين، غير شيخه فكوفي، وابن المبارك فمروزي، وحيوة فمصري. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن أبي إدريس الخَوْلَانيّ رحمه الله تعالى أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ) الصحابيّ المشهور بكنيته، واختلف فِي اسمه واسم أبيه اختلافًا كثيرًا، كما مرّ آنفًا (الْخُشَنِيَّ) -بضمّ الخاء، وفتح الشين المعجمتين، ثم نون-: نسبة إلى بني خُشين، بطن منْ النمر بن وبرة بن تغلب -بفتح المثنّاة، وسكون المعجمة، وكسر اللام، بعدها موحّدة- ابن حلوان بن عمران بن الحاف بن قُضاعة

(1)

(يَقُولُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله) وفي رواية البخاريّ: "يا نبيّ الله (إِنَّا) بكسر الهمزة هي "إنّ"، واسمها، وخبرها قوله (بِأَرْضِ صَيْدٍ) قد اختصر المصنّف رحمه الله تعالى هَذَا الحديث منْ أوله، وَقَدْ ساقه البخاَريّ بتمامه، ولفظه: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إنا بأرض قوم، أهل الكتاب، نأكل فِي آنيتهم، وأرض صيد أصيد بقوسي، وأصيد بكلبي المعلم، والذي ليس معلماً، فأخبرني ما الذي يحل لنا، منْ ذلك؟ فَقَالَ:"أما ما ذكرت أنك بأرض قوم أهل الكتاب، تأكل فِي آنيتهم، فإن وجدتم غير آنيتهم، فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا، فاغسلوها، ثم كلوا فيها، وأما ما ذكرت أنك بأرض صيد، فما صِدتَ بقوسك، فاذكر اسم الله، ثم كل، وما صِدت بكلبك المعلم، فاذكر اسم الله، ثم كل، وما صدت بكلبك الذي ليس معلماً، فأدركت ذكاته فكل".

(أَصِيدُ بِقَوْسِي) قَالَ المجد: "القوس" معروفة، وَقَدْ تذكّر، وتصغيرها قويسة، وقُويسٌ، والجمع قِسِيّ، وقُسيّ، وأقواسٌ، وقِيَاسٌ. اهـ وَقَالَ فِي "الفتح": وهي مركّبة، وغير مركّبة، ويُطلق لفظ القوس أيضاً عَلَى الثمر الذي يبقى فِي أسفل النخلة، وليس مرادًا هنا (وَأَصِيدُ بِكَلْبِي الْمُعَلَّمِ، وَبِكَلْبِى الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ) زاد فِي رواية البخاريّ: "فما يصلح لي؟ "(فَقَالَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (مَا أَصَبْتَ بِقَوْسِكَ،

(1)

"فتح" 11/ 28، و"اللباب" 1/ 446 - 447. و"الأنساب" 2/ 370 - 372.

ص: 92

فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ) أي عند الرمي، لا عند الأكل، كما هو المتبادر، وتمسّك بهذا منْ أوجب التسمية عَلَى الصيد، وعلى الذبيحة، وَقَدْ تقدّم البحث عنه مستوفًى فِي مسائل الباب الأول وقوله:(وَكُلْ) وقع مفسّراً فِي رواية أبي داود منْ حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن أعرابيا، يقال له: أبو ثعلبة، قَالَ: يا رسول الله، إن لي كلابا مكلبة، فأفتني فِي صيدها؟، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن كَانَ لك كلاب مكلبة، فكل مما أمسكن عليك"، قَالَ: ذَكِيّا أو غير ذكي؟، قَالَ:"نعم"، قَالَ: فإن أكل منه؟ قَالَ: "وإن أكل منه"، فَقَالَ: يا رسول الله، أفتني فِي قوسي، قَالَ:"كل ما ردّت عليك قوسك"، قَالَ: ذَكيّا أو غير ذكي"

(1)

، قَالَ: وإن تغيب عني، قَالَ:"وإن تغيب عنك، ما لم يَصِلَّ، أو تجد فيه أثرا غير سهمك"، قَالَ: أفتني فِي آنية المجوس، إن اضطررنا إليها، قَالَ:"اغسلها، وكل فيها". وسيأتي للمصنّف بنحوه برقم -16/ 4298.

وقوله: ما لم يَصِلّ" بصاد مهملة، مكسورة، ولام ثقيلة: أي يُنتِنَ.

(وَمَا أَصَبْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ، فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، وَكُلْ، وَمَا أَصَبْتَ بِكَلْبِكَ الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ، فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ) أي أدَركته حيّا، فذكّيته (فَكُلْ) فيه أنه لا يحلّ ما أُدرك منْ الصيد حيًّا، إلا بذبحه، قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: هَذَا مجمع عليه أنه لا يحلّ إلا بذكاته انتهى

(2)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي ثعلبة الخُشَنيّ رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -4/ 4268 - وفي "الكبرى" 4/ 4777. وأخرجه (خ) فِي "الذبائح والصيد" 5478 و5496 (م) فِي "الصيد والذبائح" 3567 و3568 و3569 (د) فِي "الصيد" 2852 و2855 و2856 (ت) فِي "الصيد" 1464 و"الأطعمة" 1797 (ق) فِي "الصيد" 3207 (أحمد) فِي "مسند الشاميين" 17277 و17284 و17293. والله تعالى أعلم.

(1)

هكذا لفظ أبي داود فِي "سننه"، ولفظ المنذريّ فِي "مختصر السنن":"قَالَ: كل ما ردّت عليك قوسك، ذكيّا، أو غير ذكيّ". ولفظ أحمد فِي "مسنده": "كل ما أمسكت عليك قوسك"، قَالَ: ذَكيٌّ أو غير ذكي؟، قَالَ:"ذَكيّ أو غير ذكي".

(2)

"شرح مسلم" 13/ 82.

ص: 93

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، بيان حكم صيد الكلب الذي ليس بمعلّم، وهو التحريم، إلا إذا وُجد حيًّا، فذُكّي، فيجوز. (ومنها): جواز الصيد بالقوس. (ومنها): وجوب التسمية عَلَى الكلب، والقوس عند الإرسال والرمي. (ومنها): أن ما أدرك منْ الصيد حيًّا وجبت ذكاته، سواء كَانَ بالكلب، أم بالقوس، وإلا كَانَ ميتةً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌5 - (إِذَا قَتَلَ الْكَلْبُ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: جواب "إذا" محذوف لفهمه منْ الحديث: أي جاز أكله، وموضع الاستدلال منْ الحديث قوله:"فكل، وإن قتلن"، فقد أمر النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم بأكل ما قتله الكلب، وهذا مما لا خلاف فيه. والله تعالى أعلم بالصواب.

4269 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زُنْبُورٍ، أَبُو صَالِحٍ الْمَكِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُرْسِلُ كِلَابِي الْمُعَلَّمَةَ، فَيُمْسِكْنَ عَلَيَّ، فَآكُلُ؟ قَالَ: "إِذَا أَرْسَلْتَ كِلَابَكَ الْمُعَلَّمَةَ، فَأَمْسَكْنَ عَلَيْكَ، فَكُلْ"، قُلْتُ: وَإِنْ قَتَلْنَ؟ قَالَ: "وَإِنْ قَتَلْنَ"، قَالَ: "مَا لَمْ يَشْرَكْهُنَّ كَلْبٌ مِنْ سِوَاهُنَّ"، قُلْتُ: أَرْمِي بِالْمِعْرَاضِ فَيَخْزِقُ؟ قَالَ: "إِنْ خَزَقَ فَكُلْ، وَإِنْ أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن زنبور، أبو صالح المكيّ": اسم زنبور جعفر، صدوق، له أوهام [10] 73/ 90 منْ أفراد المصنّف. و"فُضيل بن عياض": هو أبو عليّ التيميّ الزاهد المشهور، أصله منْ خُراسان، سكن مكة، ثقة عابد إمام [8] 21/ 388. والباقون تقدّموا قبل باب.

وقوله: "ما لم يشركهنّ" -بفتح الراء، مضارع شَرِكه فِي الأمر، منْ باب تعِب شَرِكًا، وشَرِكَةً، وزان كَلِم وكَلِمَة.

وقوله: "منْ سواهنّ" أي منْ غيرهنّ، يعني الكلاب التي لم تُعلَّم، أو لم يُسمّ عند إرسالها.

ص: 94

وقوله: "بالمعراض" -بكسر، فسكون-: قَالَ أبو عُبيد: المعراض: سهم لا ريش فيه، ولا نَصْل. وَقَالَ غيره: المعراض خشبة ثقيلة، أو عصَا غليظةٌ فِي طرفها حديدةٌ، وَقَدْ تكون بغير حديدة، غير أنها مُحَدَّدٌ طرَفها، قَالَ القرطبيّ: وهذا التفسير أولى منْ تفسرِ أبي عبيد، وأشهر. انتهى

(1)

.

وقوله: "فيخزِق" بخاء، وزاي معجمتين: أي يخرق الصيد، وينفذ فيه، قَالَ الفيّوميّ: خزَقه خَزْقًا، منْ باب ضرب: طعنه، وخَزَقَ السهمُ القرطاسَ: نفذ منه، فهو خازقٌ، وجمعه خوازق.

وقوله: "وإن أصاب بعرضه": العرض خلاف الطول.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم تمام شرحه، وبيان مسائله فِي الباب الأول، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌6 - (إِذَا وَجَدَ مَعَ كَلْبِهِ كَلْبًا لَمْ يُسَمِّ عَلَيْهِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: جواب "إذا" أيضًا محذوف، لفهمه منْ الحديث، تقديره حرُم أكل الصيد. وموضع الاستدلال منْ الحديث واضح. وفي نسخة:"أكلبًا لم يسمّ عليها". والله تعالى أعلم بالصواب.

4270 -

(أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي شُعَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّيْدِ؟ فَقَالَ: "إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ، فَخَالَطَتْهُ أَكْلُبٌ، لَمْ تُسَمِّ عَلَيْهَا، فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَيَّهَا قَتَلَهُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمرو بن يحيى بن الحارث": هو المصّيصيّ الثقة [12] 67/ 2329 منْ أفراد المصنّف. و"أحمد بن أبي شُعيب": هو أحمد بن عبد الله بن أبي شُعيب/ مسلم الحرّانيّ، أبو الحسن، مولى قريش، ثقة [10] 29/ 2499.

(1)

"المفهم" 5/ 209.

ص: 95

و"موسى بن أعين": هو الجزريّ، مولى قريش، أبو سعيد، ثقة عابد [8] 11/ 415. و"معمر": هو ابن راشد. و"عاصم بن سليمان": هو الأحول، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقة [4] 148/ 239.

والحديث متّفق عليه، وَقَدْ سبق تمام البحث فيه فِي الباب الأول. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

‌7 - (إِذَا وَجَدَ مَعَ كَلْبِهِ كَلْبًا غَيْرَهُ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: جواب "إذا" أيضاً محذوف؛ لفهمه منْ الحديث، تقديره: حرُم أكله. قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: فِي الحديث تصريح بأنه لا يحلّ الصيد إذا شارك كلبه كلب آخر، والمراد كلبٌ آخر استرسل بنفسه، أو أرسله منْ ليس هو منْ أهل الذكاة، أو شككنا فِي ذلك، فلا يحلّ أكله فِي كلّ هذه الصور، فإن تحقّقنا أنه إنما شاركه كلبٌ أرسله منْ هو منْ أهل الذكاة عَلَى ذلك الصيد حلّ. انتهى

(1)

.

وَقَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى -عند قوله: "ما لم يشرَكها كلبٌ ليس معها"، وفي رواية:"فإن خالطها كلابٌ منْ غيرها، فلا تأكل"، وفي أخرى:"وإن وجدت مع كلبك كلبًا غيره، وَقَدْ قتل، فلا تأكل الحديث"، هذه كلها روايات مسلم، ونحوها روايات النسائيّ هنا- قَالَ: هذه الروايات، وإن اختلفت ألفاظها، فمعناها واحد، وهذا الاختلاف يدلّ عَلَى أنهم كانوا ينقلون بالمعنى، وتفيد هذه الروايات أن سبب إباحة الصيد الذي هو عَقْرُ الجارح له، لابُدّ أن يكون متحقّقًا، غير مشكوك فيه، ومع الشك لا يجوز الأكل، وهذا الكلب المخالط محمولٌ عَلَى أنه غير مرسل منْ صائد آخر، وأنه إنما انبعث فِي طلب الصيد بطبعه ونفسه، ولا يُختَلفُ فِي هَذَا، فأما لو أرسله صائدٌ آخر عَلَى ذلك الصيد، فاشتركا الكلبان فيه، فإنه للصائدين، يكونان شريكين، فلو أنفذ أحد الكلبين مقاتله، ثم جاء الآخر، فهو للذي أنفذ مقاتله. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى

(2)

. والله تعالى أعلم بالصواب.

4271 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا -وَهُوَ ابْنُ

(1)

"شرح مسلم" 13/ 76.

(2)

"المفهم" 5/ 208 - 209.

ص: 96

أَبِي زَائِدَةَ- قَالَ: حَدَّثَنَا عَامِرٌ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْكَلْبِ؟ فَقَالَ: "إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ، فَسَمَّيْتَ، فَكُلْ، وَإِنْ وَجَدْتَ كَلْبًا آخَرَ مَعَ كَلْبِكَ، فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمرو بن عليّ": هو الفلّاس. و"يحيى": هو ابن سعيد القطّان. و"زكريّا بن أبي زائدة خالد، أو هُبيرة": هو الهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقة [6] 93/ 115. و"عامر": هو الشعبيّ.

والحديث متّفقٌ عليه، وشرحه، وبيان مسائله تقدّمت قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4272 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ -وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الشَّعْبِيُّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَكَانَ لَنَا جَارًا، وَدَخِيلاً، وَرَبِيطًا بِالنَّهْرَيْنِ، أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: أُرْسِلُ كَلْبِي، فَأَجِدُ مَعَ كَلْبِي كَلْبًا، قَدْ أَخَذَ، لَا أَدْرِي أَيَّهُمَا أَخَذَ، قَالَ: "لَا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أحمد بن عبد الله بن الحكم": هو المعروف بابن الكُرْديّ، أبو الحسين البصريّ، ثقة [10] 39/ 583.

و"محمد بن جعفر": هو غُندر. و"سعيد بن مسروق": هو والد سفيان الثوريّ، ثقة [6] 153/ 1121.

وقوله: "وكان لنا جارًا الخ" الظاهر أنه منْ كلام الشعبيّ: يعني أنّ عديّ بن حاتم رضي الله تعالى عنه كَانَ جارهم، وصديقًا لهم.

وقوله: "ودَخِيلًا الخ" -بفتح الدال المهملة، وكسر الخاء المعجمة-: قَالَ الفيّوميّ: فلانٌ دخيلٌ بين القوم: أي ليس منْ نسبهم، بل هو نَزِيلٌ بينهم، ومنه قيل: هَذَا الْفَرَع دَخِيلٌ فِي الباب، ومعناه: أنه ذُكر استطرادًا، ومُناسبةً، ولا يَشتمِل عليه عقد الباب. انتهى.

وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: قَالَ أهل اللغة: الدَّخيل، والدَّخّال: الذي يُداخل الإنسان، ويُخالطه فِي أموره. والربيط هنا بمعنى المرابط، وهو الملازم، والرباط الملازمة. قالوا: والمراد هنا ربط نفسه عَلَى العبادة، وعن الدنيا. انتهى

(1)

.

وقوله: "بالنهرين": لم أجد منْ بيّن معنى النهرين هنا، مع أن هَذَا الكلام موجود فِي "صحيح مسلم" أيضاً، لكن لم يتعرض الشّرّاح لبيان المراد منه، والذي يظهر لي أنه أراد

(1)

"شرح مسلم" 13/ 80.

ص: 97

بهما نهري الفُرات ودِجْلَة، ومما يؤيّد هَذَا أن الفيّوميّ رحمه الله تعالى قَالَ فِي "المصباح المنير": الفراتُ نهرٌ عظيمٌ، مشهورٌ، يخرُج منْ حدود الروم، ثمّ يمُرّ بأطراف الشام، ثم بالكوفة، ثمّ بالْحِلّة، ثم يلتقي مع دِجْلَة فِي البَطَائح، ويَصيران نهرًا واحداً، ثمّ يصُبّ عند عَبّادان فِي بحر فارس. انتهى. والله تعالى أعلم.

والحديث متَّفقٌ عليه، كما سبق تمام البحث فيه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4273 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ ذَلِكَ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد": هو ابن جعفر المذكور فِي السند السابق. و"الحَكَم": هو ابن عُتيبة.

وقوله: "قَالَ: حدّثنا عن الشعبيّ الخ" ضمير "قَالَ" يعود إلى شعبة: أي قَالَ شعبة: حدثنا الحكم عن الشعبيّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4274 -

(أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْغَيْلَانِيُّ، الْبَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَهْزٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي السَّفَرِ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قُلْتُ: أُرْسِلُ كَلْبِي، قَالَ: "إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ، فَسَمَّيْتَ فَكُلْ، وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ، فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ، فَوَجَدْتَ مَعَهُ غَيْرَهُ، فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ إِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى: "سليمان بن عُبيد الله بن عمرو": هو المازنيّ، صدوق [11] 36/ 729. و"بهز": هو ابن أسد العمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقة ثبت [9] 24/ 28. و"عبد الله بن أبي السفَر" -بفتح الفاء-: هو الثوريّ الكوفيّ، ثقة [6] 45/ 1919.

والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم تمام البحث فيه فِي الباب الأول. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4275 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَعَنِ الْحَكَمِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قُلْتُ: أُرْسِلُ كَلْبِي، فَأَجِدُ مَعَ كَلْبِي كَلْبًا آخَرَ، لَا أَدْرِي أَيَّهُمَا أَخَذَ؟ قَالَ: "لَا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو داود": هو سليمان بن داود الطيالسيّ. والحديث متّفق عليه، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 98

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌8 - (الْكَلْبُ يَأْكُلُ مِنَ الصَّيْدِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الكلب" مبتدأ، وجملة "يأكل منْ الصيد" فِي محلّ رفع صفته، والخبر محذوف، تقديره: لا يحلّ صيده. وهذا هو الذي عليه الجمهور، وخالف فِي ذلك طائفة، فقالت بجواز أكل ما أكل منه الكلب، منهم ابن عمر، وسعد ابن مالك، وسلمان، وبه قَالَ مالك، محتجّين بحديث أبي ثعلبة رضي الله تعالى عنه، حيث إن فيه قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم:"فكل، وإن أكل منه"، وَقَدْ تقدّم الجواب عنه، وأن الصحيح هو الذي ذهب إليه الجمهور. والله تعالى أعلم بالصواب.

4276 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -وَهُوَ ابْنُ هَارُونَ- أَنْبَأَنَا زَكَرِيَّا، وَعَاصِمٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ؟، فَقَالَ: "مَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَهُوَ وَقِيذٌ"، قَالَ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ كَلْبِ الصَّيْدِ، فَقَالَ: "إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ"، قُلْتُ: وَإِنْ قَتَلَ، قَالَ: "وَإِنْ قَتَلَ، فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ، وَإِنْ وَجَدْتَ مَعَهُ كَلْبًا غَيْرَ كَلْبِكَ، وَقَدْ قَتَلَهُ، فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ إِنَّمَا ذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عز وجل عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تَذْكُرْ عَلَى غَيْرِهِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أحمد بن سليمان": هو الرُّهاويّ الثقة الحافظ [11] 38/ 42 منْ أفراد المصنّف. و"زكريّا": هو ابن أبي زائدة. و"عاصم": هو ابن سليمان الأحول.

وقوله: "عن الْمِعْرَاض" قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: "الْمِعْرَاض" -بِكَسْرِ الميم، وَبِالْعَيْنِ المُهْمَلة-: هِيَ خَشَبَة ثَقِيلَة، أَو عَصًا فِي طَرَفهَا حَدِيدَة، وَقَد تَكُون بِغَيرِ حَدِيدَة. هَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي تَفْسِيره. وَقَالَ الهَرَوِيُّ: هُوَ سَهْم لَا رِيش فِيهِ، وَلَا نَصْل. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: هُوَ سَهْم طَوِيل، لَهُ أَرْبَع قُذَذ رِقَاق، فَإِذَا رَمَى بِهِ اعْتَرَضَ. وَقَالَ الْخَلِيل كَقَوْلِ الهَرَوِيّ، وَنَحْوه عَن الأَصْمَعِيّ. وَقِيلَ: هُوَ عُود رَقِيق الطَّرَفَينِ، غَلِيظ الوَسَط، إِذَا رُمِيَ بِهِ ذَهَبَ مُسْتَوِيًا.

قَالَ: و"الوَقْذ، وَالمَوقُوذ": هُوَ الَّذِي يُقْتَل بِغَيرِ مُحَدَّد، مِنْ عَصًا، أَوْ حَجَر، وَغَيْرهمَا. وَمَذْهَب الشَّافِعِيّ، وَمَالك، وَأَبِي حَنِيفَة، وَأَحْمَد، وَالْجَمَاهِير: أَنَّهُ إِذَا اصْطَادَ بالمِعرَاضِ، فَقَتَلَ الصَّيْد بِحَدِّهِ حَلَّ، وَإِنْ قَتَلَهُ بِعَرْضِهِ، لَمْ يَحِلّ؛ لِهَذَا الحَدِيث. وَقَالَ مَكَحُول، والأَوزَاعيُّ، وَغَيرهمَا، منْ فُقَهَاء الشَّام: يَحِلّ مُطْلَقًا، وَكَذَا قَالَ هَؤُلَاءِ

ص: 99

وابن أَبِي لَيلَى: إنهُ يَحِلّ مَا قَتَلَهُ بِالْبُندُقَةِ، وَحُكِيَ أَيْضًا عَن سَعِيد بن الْمُسَيِّب. وَقَالَ الْجَمَاهِير: لَا يَحِلّ صيد البُندُقَة مُطلَقًا؛ لِحَدِيثِ الْمِعْرَاض؛ لِأَنَّه كُلّه رَضٌّ وَوَقْذ، وَهُوَ مَعْنَى الرِّوَايَة الأُخْرَى:"فَإِنَّهُ وَقِيذ": أيْ مَقتُول بِغَيرِ مُحَدَّد، وَالمَوقُوذَة الْمَقتُولَة بالعَصَا، وَنَحْوهَا، وَأَصْله منْ الكَسْر، وَالرَّضّ. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى

(1)

.

والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق تمام شرحه، وبيان مسائله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4277 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي شُعَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ، أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّيْدِ؟ قَالَ: "إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ، فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَقَتَلَ، وَلَمْ يَأْكُلْ فَكُلْ، وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ، فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُمْسِكْ عَلَيْكَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الإسناد تقدّم قبل باب. والحديث متفقٌ عليه، ومضى شرحه، وبيان مسائله فِي الباب الأول. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌9 - (الأَمْرِ بِقَتْلِ الْكِلَابِ)

4278 -

(أَخْبَرَنَا كَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ السَّبَّاقِ، قَالَ أَخْبَرَتْنِي مَيْمُونَةُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عليه السلام: "لَكِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا، فِيهِ كَلْبٌ، وَلَا صُورَةٌ"، فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَأْمُرُ بِقَتْلِ الْكَلْبِ الصَّغِيرِ).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(كثير بن عبيد) بن نمير الْمَذْحِجِيّ، أبو الحسن الحمصيّ الحذّاء المقرىء، ثقة [10] 5/ 486.

(1)

"شرح مسلم" 13/ 77.

ص: 100

2 -

(محمد بن حرب) الْخَولاني الحمصي الأبرش -بالمعجمة- ثقة [9] 122/ 172.

3 -

(الزُّبيديّ) محمد بن الوليد الحمصيّ الحافظ الثقة الثبت، منْ كبار [7] 45/ 56.

4 -

(الزهريّ) محمد بن مسلم الإِمام الحجة المثبت [4] 1/ 1.

5 -

(ابن السبّاق) -بفتح المهملة، وتشديد الموحّدة- هو عُبيد بن السبّاق الثقفيّ، أبو سعيد المدنيّ، ثقة [3].

روى عن زيد بن ثابت، وسهل بن حُنيف، وأسامة بن زيد، وابن عباس، وميمونة، وجويرية، زوجي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وزينب زوج عبد الله بن مسعود. وروى عنه ابنه سعيد، وأبو أمامة بن سهل بن حُنيف، والزهري، ويزيد بن جثعْدُبَة، ومسلم بن مَعْبَد.

ذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ العجليّ: مدني تابعيّ ثقة. وذكره مسلم فِي الطبقة الأولى منْ تابعيّ أهل المدينة. وَقَالَ خليفة: يُكنى أبا سعيد. أخرج له الجماعة، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الحديث، وأعاده برقم (4285).

وقوله: "ليأمر بقتل الكلب الصغير" إنما خصّه بالذكر، وغيّا به الأمر؛ حيث إنه لا يظهر ضرره لي حال صغره، فربّما يُظنّ أن يسامح فِي تركه، لكنه لم يسامح فيه، فظهر بذلك كون الأمر مؤكّدًا. والله تعالى أعلم.

والحديث أخرجه مسلم، وسيأتي شرحه، وبيان مسائله بعد باب، حيث يسوقه المصنّف رحمه الله تعالى هناك مطوّلًا، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4279 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، غَيْرَ مَا اسْتَثْنَى مِنْهَا").

رجال هَذَا الإسناد: أربعة:

1 -

(قتيبة بن سعيد) الثقفيّ البغلاني، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة الثقة الثبت الفقيه [7] 7/ 7.

3 -

(نافع) مولى ابن عمر، أبو عبد الله المدنيّ الثقة الثبت الفقيه [3] 12/ 12.

4 -

(ابن عمر) عبد الله رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو أعلى ما له منْ الأسانيد، وهو (198) منْ رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ، (ومنها): أنه أصحّ الأسانيد عَلَى الإطلاق، كما نُقل عن الإِمام البخاريّ رحمه الله تعالى. (ومنها): أن فيه ابن عمر

ص: 101

رضي الله تعالى عنهما أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى (2630) حديثا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَن ابن عُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ) ثم جاء النسخ، كما سيأتي صريحًا (غَيْرَ مَا اسْتَثْنَى مِنْهَا") بنصب "غير" على الاستثناء، أي إلا الكلاب التي استثناها، وهي: كلب الصيد، والماشية، كما فِي حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، ويزاد عليهما كلب الزرع، كما فِي حديث عبد الله بن المغفّل، وحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنهما.

قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما روي مطلقًا، منْ غير استثناء، كما فِي رواية مالك، عن نافع، عن ابن عمر:"أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم أمر بقتل الكلاب".

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا بالنسبة لرواية مالك فِي البخاريّ ومسلم، وأما روايته عند المصنّف، فهي مقيّدة بالاستثناء، فتنبّه.

قَالَ: وروي مقيّداً بالاستثناء المتّصل، كرواية عمرو بن دينار، عن ابن عمر: "أن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، إلا كلب صيد، أو كلب غنم، أو ماشية، فيجب عَلَى هَذَا ردّ مطلق إحدى الروايتين عَلَى مقيّدهما، فإن القضيّة واحدةٌ، والراوي لهما واحد، وما كَانَ كذلك وجب فيه ذلك بالإجماع، وهذا واضح فِي حديث ابن عمر، وعليه فكلب الصبي، والماشية لم يتناولهما قطّ عموم الأمر بقتل الكلاب؛ لاقتران استثنائهما منْ ذلك العموم.

وإلى الأخذ بهذا الحديث ذهب مالك، وأصحابه، وكثير منْ العلماء، فقالوا بقتل الكلاب، إلا ما استُثني منها، ولم يروا الأمر بقتل ما عدا المستثنى منسوخًا، بل مُحكمًا. وأما حديث عبد الله بن مغفّل رضي الله تعالى عنه، فمقتضاه غير هَذَا، وذلك أنه قَالَ فيه: أمر رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم بقتل الكلاب، ثم قَالَ:"ما بالهم، وبال الكلاب؟ "، ثم رخّص فِي كلب الصيد، وكلب الغنم والزرع، ومقتضى هَذَا أنه أمرهم بقتل جميع الكلاب، منْ غير استثناء شيء منها، فبادروا، وقَتلوا كلَّ ما وجدوا منها، ثم بعد ذلك رخص فيما ذُكر، فيكون هَذَا الترخيص منْ باب النسخ؛ لأن العموم قد استقرّ، وبَرَد، وعُمل به، فرفع الحكم عن شيء مما تناوله نسخٌ، لا تخصيص. وَقَدْ ذهب إلى هَذَا فِي هَذَا الحديث بعض العلماء. ونحوٌ منْ حديث عبد الله ابن المغفّل حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهم، قَالَ: قد أمرنا رسول الله

ص: 102

صلّى الله تعِالى عليه وسلم بقتل الكلاب، حَتَّى إن المرأة تقدَم منْ البادية بكلبها، فنقتله، ثم نهَى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عن قتلها، فَقَالَ:"عليكم بالأسود البهيم، ذي النقطتين، فإنه شيطان". فمقتضاه أن الأمر كَانَ بقتل الكلاب عامًّا لجميعها، وأنه نُسخ عن جميعها إلا الأسود. وإلى هَذَا ذهب بعض العلماء.

ولَمّا اضطربت هذه الأحاديث المرويّة، وجب عرضها عَلَى القواعد الأصوليّة، فنقول: إن حديث ابن عمر ليس فيه أكثر منْ تخصيص عموم باستثناء مقترن به، وهو أكثر فِي تصرّفات الشرع منْ نسخ العموم بكلّيّته، وأيضاً فإن هذه الكلاب المستثنيات الحاجة إليها شديدةٌ، والمنفعة بها عامّة وكِيدة، فكيف يأمر بقتلها؟ هَذَا بعيد منْ مقاصد الشرع، فحديث ابن عمر أولى. والله تعالى أعلم.

قَالَ: والحاصل منْ هذه الأحاديث أن قتل الكلاب، غير المستثنيات مأمورٌ به إذا أضرّت بالمسلمين، فإن كثُر ضررها، وغلب، كَانَ الأمر عَلَى الوجوب، وإن قلّ، وندر، فأيُّ كلب أضرّ، وجب قتله، وما عداه جائزٌ قتله؛ لأنه سبُعٌ لا منفعة فيه، وأقلّ درجاته توقّع الترويع، وأنه ينقص منْ أجر مقتنيه كلّ يوم قيراطان. فأما المروّع منهنّ، غير المؤذي، فقتله مندوبٌ إليه. وأما الكلب الأسود، ذو النقطتين، فلابُدّ منْ قتله؛ للحديث المتقدّم، وقلّما يُنتفَع بمثل تلك الصفة؛ لأنه إن كَانَ شيطانًا عَلَى الحقيقة، فهو ضرر محضٌ، لا نفع فيه، وإن كَانَ عَلَى التشبيه به، فإنه شُبّه به للمفسدة الحاصلة منه، فكيف يكون فيه منفعة؟ ولو قدّرنا فيه أنه ضارٍ، أو للماشية لقُتل؛ لنصّ النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم عَلَى قتله. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى

(1)

وسيأتي تمام البحث فِي هَذَا فِي المسألة الثالثة، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -4279 و480 و481 - وفي "الكبرى" 9/ 4788 و10/ 4789 و4790.

وأخرجه (خ) فِي "بدء الخلق" 3323 مختصرًا، لم يذكر الاستثناء. (م) فِي "المساقاة" 2034 و2936 و2937 (ت) فِي "الأحكام" 1488 (ق) فِي "الصيد" 3202 و3303

(1)

"المفهم" 4/ 448 - 450.

ص: 103

(أحمد) فِي "مسند المكثرين" 4730 و5741 و5889 و6136 و6279 و6299 (الموطأ) فِي "الجامع" 1809 (الدارمي) فِي "الصيد"2007. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهلِ العلم فِي قتل الكلاب:

قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: أَجْمَعَ العُلَمَاء عَلَى قَتْل الكَلْب، وَالكَلْب العَقُور، وَاخْتَلَفُوا فِي قَتْل مَا لَا ضَرَر فِيهِ، فَقَال إِمَام الحَرَمَينِ منْ أَصْحَابنَا: أَمَرَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، أَوَّلاً بِقَتْلِهَا كُلّهَا، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ، وَنَهَى عَن قَتْلهَا، إِلَّا الأَسوَد الْبَهِيم، ثمَّ استَقَرَّ الشَّرْع عَلَى النَّهْي عَن قَتْل جَمِيع الكِلَاب، الَّتِي لَا ضَرَر فِيهَا، سَوَاء الأَسوَد وَغَيْره، وَيُسْتَدَلّ لِمَا ذَكَرَهُ بِحَدِيثِ ابن المُغَفَّل.

وَقَال القَاضِي عِيَاض: ذَهَبَ كثِير منْ الْعُلَمَاء إِلَى الأَخْذ بِالْحَدِيثِ فِي قَتْل الْكِلَاب، إلَّا مَا اسْتُثْنيَ منْ كَلْب الصَّيد وَغَيْره. قَالَ: وَهَذَا مَذْهَب مَالِك وَأصْحَابه. قَالَ: وَاخْتَلَفَ القَائِلُونَ بهَذَا، هَل كَلْب الصَّيْد وَنَحْوه، مَنْسُوخ منْ العُمُوم الأَوَّل فِي الْحُكْم بِقَتْلِ الْكِلَاب، وَأَنَّ الْقَتْل كَانَ عَامًّا فِي الْجَمِيع، أَمْ كَانَ مَخْصُوصًا بِمَا سِوَى ذَلِكَ؟ قَال: وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى جَوَاز اتِّخاذ جمِيعهَا، وَنَسْخ الأَمْر بقَتلِهَا، وَالنَّهْيِ عَنْ اقْتِنَائِهَا إِلَّا الأَسْوَد البَهِيم.

قَال الْقَاضِي: وَعِنْدِي أنَّ النَّهْي أوَّلاً كَانَ نهَيًا عَامًّا، عَن اقْتِنَاء جمَيعهَا، وَأَمَرَ بِقَتلِ جَميعهَا، ثُمَّ نَهَى عَن قَتلْهَا مَا سِوَى الأسْوَد، وَمَنَعَ الاقْتِنَاء فِي جَمِيعهَا، إِلَّا كَلْب صَيْد، أَو زَرْع، أَوْ مَاشِيَة.

وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ القَاضَي، هُوَ ظَاهِر الأَحَادِيث، وَيَكُون حَدِيث ابن الْمُغَفَّل مَخْصُوصًا بِمَا سِوَى الأَسْوَد؛ لِأَنَّه عَامّ، فَيَخُصّ مِنْهُ الأَسْوَد بالْحَدِيثِ الآخَر.

وَأمَّا اقتِنَاء الكِلَاب، فَمَذْهَبنَا أَنَّهُ يَحرُم اقْتِنَاء الْكَلْب بِغَيْرِ حَاجَة، وَيَجُوز اقْتِنَاؤُهُ لِلصَّيْدِ، وَلِلزَّرعِ، وَلِلْمَاشِيَةِ. وَهَلْ يَجُوز لِحِفْظِ الدُّور، وَالدُّرُوب وَنَحْوهَا؟ فِيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدهمَا: لا يَجُوز، لِظَوَاهِر الأحَادِيث، فَإِنَّهَا مُصَرِّحَة بِالنَّهي إِلَّا لِزَرْع، أَوْ صَيْد، أَوْ مَاشِيَة، وَأَصَحّهَا يَجُوز قِيَاسًا عَلَى الثَّلَاثَة، عَمَلاً بالعِلَّةِ المَفهُوَمَة، منْ الأَحَادِيث، وَهِيَ الحَاجَة. وَهَلْ يَجُوز اقْتِنَاء الجَرْو، وَتَرْبِيَته لِلصَّيْد، أَوْ الزَّرْع، أَو المَاشِيَة؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَصَحّهمَا جَوَازه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى

(1)

.

وَقَالَ الحافظ أبو عمر ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى اختلفت الآثار فِي قتل الكلاب، واختلف العلماء فِي ذلك أيضًا، فذهب جماعة منْ أهل العلم إلى الأمر بقتل الكلاب

(1)

"شرح مسلم" 10/ 479 - 480.

ص: 104

كلّها، إلا ما ورد الحديث بإباحة اتّخاذه منها للصيد، والماشية، وللزرع أيضاً، وقالوا: واجبٌ قتل الكلاب كلها، إلا ما كَانَ مخصوصًا بالحديث، امتثالًا لأمره صلّى الله تعالى عليه وسلم، واحتجّوا بحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما المذكور فِي الباب. قَالَ: ورُوي عن عبد الله بن جعفر أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه أمر بقتل الكلاب، قَالَ عبد الله. وكانت أمّي تحته، وكان جرو لي تحت السرير، فقلت له: يا أبي وكلبي أيضاً؟ فَقَالَ: لا تقتلوا كلب ابني، ثم أشار بأصبعه: أن خذوه منْ تحت السرير، فأُخذ، وأنا لا أدري، فقُتل. وروى حمّاد بن زيد، عن أيّوب، عن نافع، أن ابن عمر دخل أرضًا له، فرأى كلبًا، فهَمَّ أن يقع بقيّم أرضه، فَقَالَ: إنه والله كلب عابر دخل الآن، قَالَ: فأخذ المسحاة، وَقَالَ: حرّشوه عليّ، قَالَ: فشحطه -أي قتله- فِي أعجل شيء.

فهذا أبو بكر الصدّيق، وابن عمر رضي الله تعالى عنهم قد عملا بقتل الكلاب بعد رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم، وجاء نحوه عن عمر، وعثمان رضي الله تعالى عنهما، فصار ذلك سنّةً معمولًا بها عند الخلفاء، لم يَنسخها عند منْ عمل بها شيء. وإلى هَذَا ذهب مالك بن أنس.

قَالَ أبو عمر: ظاهر حديث ابن عمر، وحديث جابر يدلّ عَلَى قتل جميع الكلاب، ولكن الحديث، فِي ذلك ليس عَلَى عمومه؛ لما قد بان فِي حديث ابن شهاب، عن مالك، عن سالم، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قَالَ: فكانت الكلاب تُقتل إلا كلب صيد، أو ماشية. ومثله حديث عبد الله بن مُغفّل أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، ورخّص فِي كلب الزرع، والصيد.

وَقَالَ آخرون: أمره صلّى الله تعالى عليه وسلم بقتل الكلاب منسوخٌ بإباحته اتّخاذ ما كَانَ منها للماشية، والصيد، والزرع، واحتجّ هؤلاء بحديث عبد الله بن المغفّل رضي الله تعالى عنه، قَالَ: أمر رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم بقتل الكلاب، ثم قَالَ: مالي وللكلاب؟ ثم رخّص فِي كلب الصيد. قالوا: ففي هَذَا الخبر أن كلب الصيد قد كَانَ أَمَر بقتله، ثم أباح الانتفاع به، فارتفع القتل عنه، قالوا: ومعلوم أن كلّ ما يُنتفع به جائزٌ اتّخاذه، ولا يجوز قتله، إلا ما يُؤكلُ، فيُذكَّى، ولا يُقتلُ. واحتجّوا أيضًا بحديث جابر رضي الله تعالى عنه: أمرنا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم بقتل الكلاب، قَالَ: فكنّا نقتلها حَتَّى قَالَ: إنها أمة منْ الأمم، ثم نهى عن قتلها، وَقَالَ: عليكم بالأسود

" الحديث.

قَالَ أبو عمر: حديث جابر لا حجّة فيه لمن أمر بقتل الكلاب، بل الحجة فيه لمن لم ير قتلها. قالوا: فهذا يدلّ عَلَى أن الإباحة فِي اتخّاذها وحبّه أن لا يُفنيها، كَانَ بعد الأمر

ص: 105

بقتلها. قالوا: وَقَدْ رخّص فِي كلب الصيد، ولم يخصّ أسود بهيمًا منْ غيره. وَقَدْ قالوا: إن الأسود البهيم منْ الكلاب أكثرها أذّى، وأبعدها منْ تعليم ما ينفع، ولذلك رُوي أن الكلب الأسود شيطان. أي بعيد منْ المنافع، قريبٌ منْ المضرّة والأذى، وهذه أمورٌ لا تُدرك بنظر، ولا يوصل إليها بقياس، وإنما يُنتهى فيها إلى ما جاء عنه صلى الله تعالى عليه وسلم.

قَالَ أبو عمر: قد اضطربت ألفاظ الأحاديث فِي هَذَا المعنى، فمنها ما يدلّ عَلَى النسخ، ومنها ما يدلّ عَلَى الأمر بالقتل فيما عدا المستثنى.

قَالَ: وذهب آخرون إلى أنه لا يجوز قتل شيء منْ الكلاب، إلا الكلب العقور، وقالوا: الأمر بقتل الكلاب منسوخ بنهيه صلّى الله تعالى عليه وسلم أن يُتّخذ شيء فيه الروح غَرَضًا، وبقوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: خمس منْ الدوابّ يُقتلن فِي الحلّ والحرم، فذكر منهن الكلب العقور، فخصّ العقور، دون غيره؛ لأن كلّ ما يَعقر المؤمن، ويؤذيه، ويقدر عليه، فواجب قتله، وَقَدْ قيل: العقور هاهنا الأسد، وما أشبهه منْ عقارة سباع الوحش. واحتجوا أيضاً بما أخرجه الشيخان منْ قصّة الرجل الذي سقى كلبًا يلهث منْ العطش، فشكر الله له ذلك، فغفر له، وبما أخرجاه أيضاً منْ قصّة المرأة البغيّة، نزعت موقها، فسقت كلبًا فِي يوم حارّ، يُطيف بركيّة، قد ادلع لسانه منْ العطش، فغفر لها. قَالَ أبو عمر: والذي أختاره أن لا يُقتل شيء منْ الكلاب، إذا لم تضرّ بأحد، ولم تعقر أحدًا لنهيه صلّى الله تعالى عليه وسلم أن يُتخذ شيء فيه الروح غرضًا، وما ذكرنا له منْ حجة منْ اخترنا قوله.

قَالَ: ومن الحجة أيضًا لما ذهبنا إليه فِي أن الأمر بقتل الكلاب منسوخٌ، ترك قتلها فِي كلّ الأمصار، عَلَى اختلاف الأعصار بعد مالك رحمه الله تعالى، وفيهم العلماء، والفضلاء إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى. انتهى المقصود منْ كلام ابن عبد البرّ

(1)

.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الراجح عندي هو ما رجّحه القَاضي عياض رحمه الله تعالى -منْ أنّ النَّهي أوَّلاً كَانَ نهَيًا عَامًّا، عَن اقتِنَاء جَميعها، وَأَمَرَ بِقَتْلِ جمَيعهَا، ثُمَّ نَهَى عَن قَتْلهَا مَا سِوَى الأسْوَد، وَمَنَعَ الاقْتِنَاء فِي جَمِيعهَا، إِلَّا كَلْب صَيْد، أَوْ زَرْع، أَو مَاشِيَة. وَهَذَا هُوَ ظَاهِر الأَحَادِيث، وَيَكُون حدِيث ابن المغفَّل رضي الله تعالى عنه مَخصُوصًا بِمَا سِوَى الأَسوَد؛ لِأَنه عَامّ، فَيَخُصّ مِنْهُ الأَسوَد بِالحَدِيثِ الآخَر.

والحاصل أن الأمر بقتل الكلاب منسوخٌ، وأن اقتناءها لا يجوز، إلا ما استثناه

(1)

"التمهيد" 14/ 225 - 233.

ص: 106

الشارع الحكيم، وهو ما تدعو إليه الحاجة، منْ الصيد، والماشية، والزرع، وهل يُلحق حفظ الدور ونحوها مما تشتدّ الحاجة إليه؟، الظاهر نعم، كما صححه النوويّ رحمه الله تعالى فِي كلامه السابق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4280 -

(أَخْبَرَنَا وَهْبُ بْنُ بَيَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، رَافِعًا صَوْتَهُ، يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، فَكَانَتِ الْكِلَابُ تُقْتَلُ، إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ترجم المصنّف رحمه الله تعالى فِي "الكبرى" لهذا الحديث بقوله: "باب ما استُثني منها".

ورجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، وهو أبو عبد الله الواسطيّ، نزيل مصر، ثقة عابد [10]، فقد تفرّد به هو، وأبو داود. و"ابن وهب": هو عبد الله المصريّ الحافظ. و"يونس": هو ابن يزيد الأيليّ.

وقوله: "إلا كلب صيد، أو ماشية": أي كلبًا يصطاد به الإنسان، أو كلبًا يحرُس به داوبّه؛ لئلا يأكلها الذئب، أو نحوه.

قَالَ فِي "المنتقى شرح الموطّأ": قَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارِ: يُرِيدُ كُلَّ كَلْبٍ، اتُّخِذَ لِغَيْرِ صَيْدٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ، قَالَ مَالِكٌ: تُقْتَلُ الْكِلَابُ، مَا يُؤذِي مِنْهَا، وَمَا يَكُونُ فِي مَوْضِع، لَا يَنْبَغي أن يَكُونَ فِيهَا، كَالفُسْطَاطِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَع الْإحْسَانَ إلَيْهَا، حَالَ حَيَاتِهَا، وَأَنْ يُحسِنَ قَتْلَتَهَا، وَلَا تُتَّخَذُ غَرَضًا، وَلَا تُقْتَلُ جُوعًا، وَلَا عَطَشًا. انتهى.

والحديث أخرجه مسلم، وأخرجه البخاريّ بدون ذكر الاستثناء، وَقَدْ سبق بيانه فِي الحديث الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4281 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ، أَوْ كَلْبَ مَاشِيَةٍ").

قَالَ الجامع عفا اللهَ تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح.

و"حمّاد": هو ابن زيد. و"عمرو": هو ابن دينار. والسند منْ رباعيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (199) منْ رباعيات الكتاب.

والحديث سبق بيانه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

***

ص: 107

‌10 - (صِفَةِ الْكِلَابِ الَّتِي أُمِرَ بِقَتْلِهَا)

4282 -

(أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْلَا أَنَّ الْكِلَابَ أُمَّةٌ مِنَ الأُمَمِ، لأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا، فَاقْتُلُوا مِنْهَا الأَسْوَدَ الْبَهِيمَ، وَأَيُّمَا قَوْمٍ اتَّخَذُوا كَلْبًا، لَيْسَ بِكَلْبِ حَرْثٍ، أَوْ صَيْدٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ، فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(عمران بن موسى) أبو عمرو البصريّ القزّاز الليثيّ، صدوق [10] 6/ 6.

2 -

(يزيد بن زريع) أبو معاوية البصريّ، ثقة ثبت [8] 5/ 5.

3 -

(يونس) بن عبيد بن دينار العبدي، أبو عبيد البصريّ، ثقة ثبت فاضل ورع [5] 88/ 109.

4 -

(الحسن) بن أبي الحسن يسار الأنصاريّ مولاهم البصريّ، ثقة فقيه فاضل مشهور، يرسل، ويدلّس [3] 32/ 36.

5 -

(عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ) -بفتح الغين المعجمة، وتشديد الفاء المفتوحة- بن عُبيد بن نَهْم -بفتح، فسكون- أبو عبد الرحمن المزنيّ، صحابي، بايع تحت الشجرة، ثم نزل البصرة، مات رضي الله تعالى عنه سنة (57) وقيل: بعد ذلك، تقدّمت ترجمته فِي 32/ 36. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو، والترمذي، وابن ماجه. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْلَا أَنَّ الْكِلَابَ أُمَّةٌ مِنَ الأُمَمِ) أي أمّةٌ خُلقت لمنافع، أو أمّةٌ تُسبّح. وقَالَ الطِّيبِيُّ: إِشَارَة إِلَى قَوْلَه تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} الآية [الأنعام: 38]: أيْ أَمْثَالُكُمْ فِي كَوْنَهَا دَالَّة عَلَى الصَّانِع، وَمُسَبِّحَة لَهُ.

(لأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا) قَالَ الخَطَّابِيُّ رحمه الله تعالى: مَعنَى هَذَا الكَلَام أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَرِهَ إِفْنَاء أُمَّة

ص: 108

مِنْ الأُمَم، وَإعْدَام جِيل منْ الْخَلْق؛ لِأَنَّه مَا منْ خَلق الله تَعَالَى، إِلَّا وَفِيهِ نَوع منْ الحِكمَة، وَضَرب مِنْ المَصْلَحَة، يَقُول: إِذَا كَانَ الأمر عَلَى هَذَا، وَلَا سَبِيل إِلَى قَتْلهنَّ، فَاقْتُلُوا شِرَارهنَّ، وَهِيَ السُّود البُهُم، وَأَبقُوا مَا سِوَاهَا، لِتَنتَفِعُوا بهِنَّ فِي الْحِرَاسَة. وَعَن إِسْحَاق ابن رَاهُويَه، وَأَحْمَد بن حَنْبَل، أنَّهمَا قَالَا: لَا يَحِلّ صَيد اِلكَلْب الأسْوَد. انْتَهَى.

(فَاقْتُلُوا مِنْهَا الأَسْوَدَ الْبَهِيمَ) أي خَالِص السَّوَاد (وَأَيُّمَا قَوْمٍ اتَّخَذُوا كَلْبًا، لَيْسَ بِكَلْبِ حَرْثٍ) أي لحفظ الزرع (أَوْ صَيْدٍ) أي ليُصطاد به (أَوْ مَاشِيَةٍ)"أَو" لِلتَّنْوِيعِ، لَا لِلتَّرْدِيدِ: أي لحفظ ماشيبة منْ أن يتعرّض لها سارقٌ، أو حيوان يأكلها (فَإنَّهُ يَنْقُصُ) -بفتح أوَّله، وضمّ القاف، مبنيًّا للفاعل، ويحتمل أن يكون مبنيًّا للمفعول؛ لأنه يتعدّى، ويلزم، قَالَ الفيّوميّ: نقَص ينقُص نقصًا، منْ باب قتل، ونُقصانًا، وانتقص: إذا ذهب منه شيء بعد تمامه، ونقصته يتعدّى، ولا يتعدّى، هذه هي اللغة الفصحى، وبها جاء القرآن فِي قوله تعالى:{نَنقُصُهَا منْ أَطرَافِهَا} الآية [الرعد: 41]. وقوله: {غَير مَنقُوصٍ} [هود: 109]، وفي لغة ضعيفة يتعدّى بالهمزة والتضعيف، ولم يأت فِي كلام فصيح، ويتعدّى أيضاً بنفسه إلى مفعولين، فيقال: نقصت زيداً حقَّهُ، وانتقصته مثله. انتهى (مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ) منصوب عَلَى الظرفيّة، متعلّق بـ"ينقُص"(قِيْرَاطٌ) بالرفع عَلَى أنه فاعل لـ"يقُص"، أو نائب فاعل له، عَلَى الاحتمالين السابقين.

وفي حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما الآتي: "نقص منْ أجره كلّ يوم قيراطان". والتَّوْفيق بَيْن اختلاف الروايتين فِي نقص القيراط، والقيراطين سيأتي قريباً، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان،

وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبد الله بن مغفّل رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -10/ 4282 و14/ 4290 - وفي "الكبرى" 11/ 4791 و15/ 4799. وأخرجه (د) فِي "الصيد" 2845 (ت) فِي "الأحكام" 1486 (ق) فِي "الصيد" 3205 (أحمد) فِي "أول مسند المدنيين" 16346 و20024 و20039 (الدارمي) فِي "الصيد" 2008. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان صفة الكلاب التي أمر

ص: 109

النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم بقتلها، وهي الأسود البهيم، وما عدا الكلاب التي يصيد بها، أو يحفظ بها مواشيه، وكذا زرعه. (ومنها): أن فيه أن الكلاب أمم، كسائر الأمم التي تسبّح الله تعالى، فلا ينبغي قتلها، إلا ما أذن به الشارع الحكيم. (ومنها): الأمر بقتل الكلب الأسود، وَقَدْ عُلّل فِي الحديث بأنه شيطان، يعني أنه ضرر محضٌ، فينبغي إبادته؛ إبعادًا لضرره عن المسلمين. (ومنها): جواز اتخاذ الكلب للحرث، والصيد، والماشية. (ومنها): أن منْ اتّخذ كلبًا، لم يأذن به الشارع، مما سبق آنفًا، فقد جنى عَلَى نفسه، حيث يذهب عليه كلّ يوم قيراط منْ عمله الصالح، فما أعظمه منْ خسارة، ولا حول ولا قوّة إلا بالله.

(ومنها): أن الأَصَحَّ عَن الشَّافِعِيَّة إِبَاحَة اتِّخَاذ الْكِلَاب؛ لِحِفْظِ الدَّرْب، إلْحَاقًا لِلْمَنْصُوصِ بِمَا فِي مَعْنَاهُ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْن عَبْد البرّ.

(ومنها): أنهم اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَأْذُون فِي اتِّخاذه، مَا لَمْ يَحْصُل الاتِّفَاق عَلَى قَتْله، وَهُوَ الْكَلْب الْعَقُور، وَأما غَيْر الْعَقُور، فَقَدْ اخْتُلِفَ هَلْ يَجُوز قَتله مُطْلَقًا، أَم لَا؟.

(ومنها): أنَّه استُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَاز تَرْبِيَة الْجَرْو الصَّغِير؛ لِأَجْلِ المَنْفَعَة الَّتِي يَئُولُ أَمْره إِلَيْهَا إِذَا كَبِرَ، وَيَكُون الْقَصْد لِذَلِكَ قَائِمًا مَقَام وُجُود الْمَنْفَعَة بهِ، كَمَا يَجُوز بَيْع مَا لَمْ يُنْتَفَع بِهِ فِي الْحَال؛ لِكَوْنِهِ يَنْتَفع بِهِ فِي المَآل.

(ومنها): أنه اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى طَهَارَة الْكَلْب الْجَائِز اتِّخَاذه؛ لِأَنَّ فِي مُلَابَسَته مَعَ الاحْتِرَاز عَنهُ، مَشَقَّة شَدِيدَة، فَالإذْن فِي اتِّخَاذه، إِذْن فِي مُكَمِّلَات مَقْصُوده، كَمَا أن الْمَنْع مِنْ لَوَازِمه، مُنَاسِب للمَنْع مِنْهُ، قَالَ الحافظ: وَهُوَ اسْتِدْلَال قَوِيّ، لَا يُعَارضهُ إِلَّا عُمُوم الْخَبَر الوَارِد فِي الأَمْر مِنْ غَسْل مَا وَلَغَ فيهِ الْكَلْب، مِنْ غَير تَفْصِيل، وَتَخْصِيص الْعُمُوم غَيْر مُستَنْكَر، إِذَا سَوَّغَهُ الدَّلِيل.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بطهارة الكلب هو الحقّ، ولا يلزم منه التعارض مع الأمر بغسل ولوغه؛ لأن ذلك لدليل خاصّ به، فتأمل. والله تعالى أعلم.

(ومنها): أن فِيه الْحَثَّ عَلَى تَكْثِير الأَعْمَال الصَّالِحَة، وَالتَّحْذِيرَ مِنْ الْعَمَل بمَا يَنْقُصهَا، وَالتَّنْبِيه عَلَى أَسبَاب الزِّيَادَة فِيهَا، وَالنَّقْص مِنْهَا، لِتُجْتَنَب، أَوْ تُرْتَكَب.

(ومنها): أن فيه بَيَانَ لُطْف الله تَعَالَى بخَلْقِهِ، فِي إِبَاحَة مَا لَهُم بِهِ نَفْع. (ومنها): أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم بيّن لأمته كلّ ما يحتاجون إليه، منْ أُمُور مَعَاشهم، وَمَعَادهم. (ومنها): أن فيه تَرجِيحَ الْمَصلَحَة الرَّاجِحَة عَلَى المَفْسَدَة؛ لِوُقُوع اسْتِثنَاء مَا يُنتَفَع بِهِ، مِمَّا حَرُمَ اتِّخَاذه.

(منها): ما قَالَ الحافظ ابن عَبْد الْبَرّ رحمه الله تعالى: فِي هَذَا الْحَدِيث إِبَاحَة اتِّخَاذ

ص: 110

الكِلَاب لِلصَّيْدِ وَالمَاشِيَة، وَكَذَلِكَ الزَّرْع؛ لِأَنَّهَا زِيَادة حَافِظ، وَكَرَاهَة اتِّخاذهَا لِغَيرِ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ يَدخُل فِي مَعنَى الصَّيد وَغَيره، مِمَّا ذُكِرَ اتِّخَاذهَا لِجَلْبِ المَنَافِع، وَدَفْع المَضَارّ قِيَاسًا، فَتَمَحَضَّ كَرَاهَة اتِّخَاذهَا لِغَيرِ حَاجَة؛ لِمَا فِيهِ منْ تَروِيعَ النَّاس، وَامْتِنَاع دُخُول المَلَائِكَة لِلْبَيْتِ الَّذي هُمْ فِيهِ. قَالَ: وَفِي قَوْله: "نَقَصَ مِنْ عَمَله" -أَي منْ أجْر عَمَله- مَا يُشِير إِلَى أَن اتِّخاذهَا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ اتِّخاذه مُحَرَّمًا، امْتَنَع اتِّخاذه عَلَى كُلِّ حَال سَوَاء نَقَصَ الأَجْر، أَوْ لَمْ يَنقُص، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اتِّخَاذها مَكْرُوه، لَا حَرَام. قَالَ: وَوَجْه الحَدِيث عِنْدِي أَنَّ المَعَانِي المُتَعَبَّد بهَا فِي الْكِلَاب، مِنْ غَسْل الإنَاء سَبْعًا، لَا يَكَاد يَقُوم بِها المُكَلَّف، وَلَا يَتَحَفَّظ مِنهَا، فَرُبَّمَا دَخَلَ عَلَيهِ بِاتِّخاذِهَا مَا يَنْقُص أَجْره منْ ذَلِكَ.

وَيُرْوَى أَن الْمَنْصُور، سَأَلَ عَمرو بن عُبَيد، عَن سَبَب هَذَا الْحَديث، فَلَم يَعْرِفهُ، فَقَالَ المَنْصُور: لِأنَّهُ يَنبَح الضَّيْف، وَيُرَوِّع السَّائِل انتهى.

وتعقّبه الحافظ: فَقَالَ: مَا ادَّعَاهُ مِنْ عَدَم التَّحْرِيم، وَاستَنَدَ لَهُ بِمَا ذَكَرَهُ لَيْسَ بِلَازِم، بَلْ يَحْتَمِل أن تَكُون العُقُوبَة، تَقَع بِعَدَم التَّوْفِيق لِلعَمَلِ بِمِقْدَارِ قِيرَاط، مِمَّا كَانَ يَعمَلهُ منْ الْخَيْر، لوْ لَمْ يَتَّخِذ الكَلْب. وَيَحْتَمِل أنْ يَكُون الاتِّخَاذ حَرَامًا، وَالْمُرَاد بِالنَّقْصِ أنَّ الإثْم الحَاصِل بِاتِّخاذِهِ، يُوازِي قَدْر قِيرَاط، أَو قِيرَاطَيْنِ منْ أَجْر، فَيَنْقُص مِنْ ثَوَاب عَمَل المُتَّخِذ، قَدْر مَا يَتَرَتب عَلَيْهِ مِنْ الإثْم بِاتِّخاذِهِ، وَهُوَ قِيرَاط، أَو قِيرَاطَانِ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فيما قاله العلماء فِي سبب نقصان الأجر باقتناء الكلب:

قِيلَ: إن سَبَب النُّقْصَان امتِنَاع المَلَائِكَة منْ دُخُول بَيته، أَو مَا يَلحَق المَارِّينَ منْ الأَذَى، أَو لِأَنَّ بَعضهَا شَيَاطِين، أو عُقُوبَة لِمُخَالَفَةِ النَّهْي، أَو لِوُلُوغِهَا فِي الأَوَاني عِنْد غَفْلَة صَاحِبهَا، فَرُبَّمَا يَتَنَجَّس الطَّاهِر مِنهَا، فَإِذَا اسْتُعمِلَ فِي الْعِبَادَة، لَمْ يَقَعْ مَوْقِع الطَّاهِر. وَقَالَ ابن التِّين: المُرَاد أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَّخِذهُ، لَكَانَ عَمَله كَامِلاً، فَإِذَا اقتَنَاهُ نَقَص مِنْ ذَلِكَ الْعَمَل، وَلَا يَجُوز أن يَنْقُص مِنْ عَمَل مَضَى، وَإنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ عَمَله فِي الكَمَال عَمَل مَنْ لَمْ يَتَّخِذهُ. انتهى.

وتعقّبه الحافظ: فَقَالَ: وَمَا ادَّعَاهُ منْ عَدَم الْجَوَاز مُنَازَع فِيهِ، فَقَدْ حَكَى الرُّوَيانِيُّ فِي "الْبَحْر" اخْتِلَافًا فِي الأجْر، هَلْ يَنْقُص مِنْ العَمَل الْمَاضِي، أَو المُسْتَقْبَل، وَفِي مُحَصَّل نُقْصَان القِيرَاطَينِ، فَقِيل: مِنْ عَمَل النَّهَار قِيرَاط، وَمِنْ عَمَل اللَّيْل آخَر. وَقِيلَ: منْ الْفَرْض قِيرَاط، وَمِنْ النَّفْل آخَر، وَفِي سَبَب النُّقْصَان، يَعْنِي كَمَا تَقَدَّمَ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 111

(المسألة الخامسة): فِي اختلاف العلماء فِي الجمع بين روايتي قيراط، وقيراطين: اخْتَلَفُوا فِي اخْتِلَاف الرِّوَايَتَينِ، فِي الْقِيراطَيْن والْقِيراط، فَقِيلَ: الحُكْم الزَّائِد؛ لِكَونِهِ حَفِظَ مَا لَمْ يَحفَظهُ الآخَر، أَو أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَخبَرَ أوَّلًا بِنَقصِ قِيرَاط وَاحِد، فَسَمِعَهُ الرَّاوِي الأَوَّل، ثُمَّ أَخبَرَ ثَانِيًا بِنَقصِ قِيرَاطَينِ، فِي التأكِيد فِي التنفِير منْ ذَلِكَ، فَسَمِعَهُ اِلرَّاوِي الثَّانِي. وَقِيلَ: يَنْزِل عَلَى حَالَيْنِ: فَنُقْصَان الْقِيراطَيْن باعْتِبَارِ كَثرَة الأضْرَار بِاتِّخاذِهَا، وَنَقْص الْقِيرَاط بِاعْتِبَارِ قِلَّته. وَقِيلَ: يَخْتَصّ نَقْص الْقِيراطَيْن بِمَنْ اتَّخَذَهَا بِالمَدِينَةِ الشَّرِيفَة خَاصَّة، والْقِيرَاط بِمَا عَدَاهَا. وَقِيلَ: يَلْتَحِق بالْمَدِينَةِ فِي ذَلِكَ سَائِر الْمُدُن وَالْقُرَى، وَيَخْتَصّ الْقِيرَاط بأهْل البَوَادِي، وَهُوَ يَلْتَفِت إِلىَ مَعْنَى كَثْرَة التَّأَذِّي وَقِلَّته. وَكَذَا مَنْ قَالَ: يَحتَمِل أَنْ يَكُون فِي نَوعَينِ منْ الْكِلَاب: فَفِيمَا لَابسه آدَمِيّ قِيرَاطَانِ، وَفِيمَا دُونه قِيرَاط. وَجَوَّزَ ابن عَبْد البَرّ أنْ يَكون الْقِيرَاط الَّذِي يَنْقُص أَجْر إِحْسَانه إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَة ذَوَات الأَكْبَاد الرَّطبَة، أَو الحَرَّى، وَلَا يَخْفَى بُعْده. والله تعالى أعلم بالصواب.

[تنبيه]: اخْتُلِفَ فِي الْقِيْرَاطَين المَذْكُورَينِ هُنَا، هَلْ هُمَا كَالْقِيرَاطَينِ المَذْكُورَينِ فِي الصَّلَاة عَلَى الجِنَازَة، وَاتِّبَاعهَا؟: فَقِيلَ: بِالتَّسْوِيَةِ. وَقِيلَ: اللَّذَان فِي الجِنَازَة منْ بَاب الفَضْل، وَاللَّذَانِ هُنَا مِنْ بَاب الْعُقُوبَة، وَبَاب الْفَضْل أَوْسَع مِنْ غَيرْه.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول الثاني هو الأشبه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌11 - (امْتِنَاعِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ دُخُولِ بَيْتٍ فِيهِ كَلْبٌ)

4283 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا

(1)

شُعْبَةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُجَيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"الْمَلَائِكَةُ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ، وَلَا كَلْبٌ، وَلَا جُنُبٌ").

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 112

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الحديث تقدّم للمصنف فِي "الطهارة" -168/ 261 - "باب الجنب إذا لم يتوضّأ". ومضى شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

و"محمد": هو ابن جعفر، غندر. و"يحيى بن سعيد": هو القطّان. و"علي بن مُدرك": هو النخعيّ الكوفيّ، ثقة [4] 82/ 2415. و"أبو زرعة": هو هَرِم بن عمرو ابن جرير بن عبد الله البجليّ، الكوفيّ، ثقة [3] 34/ 50. و"عبد الله بن نُجيّ" -بضم النون، مصغّراً-: الحضرميّ الكوفيّ، صدوقٌ [3] 167/ 261. و"نُجيّ": هو الحضرميّ الكوفيّ، مقبول [3] 168/ 261.

والمراد منْ الجنب الجنب الذي لا يتوضّأ، كما بينه المصنّف فِي ترجمته المذكورة آنفًا، حيث قَالَ:"باب فِي الجنب إذا لم يتوضّأ"، أو المراد المتهاون الذي يكون أكثر أوقاته جنبًا؛ لقلّة مبالاته، وخفّة دينه، هَذَا كلّه عَلَى تقدير صحة الحديث بزيادة "ولا جنبٌ"، والحديث لا يصحّ بزيادتها، لتفرد نُجيّ بها، وهو لا يُقبل إذا تفرّد. والله تعالى أعلم.

والحاصل أن الحديث بزيادة "ولا جنب" غير صحيح. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: إنما قيّدته بهذه الزيادة؛ لأن الحديث بدونها متّفقٌ عليه، كما سيأتي بيانه فِي حديث أبي طلحة رضي الله تعالى عنه التالي لهذا الحديث، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4284 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا، فِيهِ كَلْبٌ، وَلَا صُورَةٌ").

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد المذكور قبل باب.

2 -

(إسحاق بن منصور) بن بَهْرام الْكَوْسج، أبو يعقوب التميميّ المروزي، ثقة ثبت [11] 72/ 88.

3 -

(سفيان) بن عيينة الإِمام الحجة الثبت المكيّ [8] 1/ 1.

4 -

(الزهريّ) محمد بن مسلم المذكور قبل باب.

5 -

(عبيد الله بن عبد الله) بن عُتْبة بن مسعود المدنيّ الثقة الثبت الفقيه [3] 45/ 56.

6 -

(ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما 27/ 31.

7 -

(أَبو طَلْحَةَ) زيد بن سهل بن الأسود بن حَرَام الأنصاريّ النّجّاريّ، مشهور

ص: 113

بكنيته، منْ كبار الصحابة، شهد بدرًا، وما بعدها، وهو زوج أم سليم، والدة أنس رضي الله تعالى عنهم، مات سنة (34)، وقيل: عاش بعد النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم أربعين سنة، تقدّمت ترجمته فِي 122/ 177. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين منْ الزهريّ. (ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، وتابعيّ، عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما منْ العبادلة الأربعة، ومن المكثرين السبعة، وفيه عبيد الله بن عبد الله منْ الفقهاء السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي طَلْحَةَ) زيد بن سهل رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ) ظاهره العموم. وقيل: يُستثنى منْ ذلك الحفظة، فإنهم لا يفارقون الشخص فِي كلّ حالة، وبذلك جزم ابن وضّاح، والخطّابيّ، وآخرون، لكن قَالَ القرطبيّ: كذا قَالَ بعض علمائنا، والظاهر العموم، والمخصّص -يعني الدالّ عَلَى كون الحفظة لا يمتنعون منْ الدخول- ليس نصّا. قَالَ الحافظ: ويؤيّده أنه ليس منْ الجائز أن يُطلعهم الله تعالى عَلَى عمل العبد، ويُسمعهم قوله، وهم بباب الدار التي هو فيها مثلاً، ويقابل القول بالتعميم القولُ بتخصيص الملائكة بملائكة الوحي، وهو قول منْ ادّعى أن ذلك كَانَ منْ خصائص النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، كما سيأتي قريبًا، وهو قولٌ شاذّ (بَيْتًا، فِيهِ كَلْبٌ) المراد بالبيت المكان الذي يستقرّ فيه الشخص، سواء كَانَ بناء، أو خيمةً، أم غير ذلك، والظاهر العموم فِي كلّ كلب؛ لأنه نكرة فِي سياق النفي. وذهب الخطّابيّ، وطائفة إِلَى اسْتِثْنَاء الْكِلَاب الَّتِي أُذِنَ فِي اتِّخاذهَا، وَهِيَ كِلَاب الصَّيْد، وَالمَاشِيَة، وَالزَّرْع، وَجَنَحَ القُرطُبِيّ إِلَى تَرجِيح العُمُوم، وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيّ، وَاستَدَلَّ لِذَلِكَ بِقِصَّةِ الْجَرْو الَّتِي ستَأْتِي فِي الحديث التالي، قَالَ: فَامْتَنَع جِبْرِيل عليه السلام مِنْ دُخُول البَيْت، الَّذِي كَانَ فِيهِ، مَعَ ظُهُور الْعُذْر فِيهِ، قَالَ: فَلَوْ كَانَ الْعُذْر لا يَمْنَعهُمْ مِنْ الدُّخُول، لَمْ يَمْتَنع جِبرِيل عليه السلام منْ الدُّخُول. انتهى.

قَالَ: الحافظ: وَيَحْتَمِل أَن يُقَال: لا يَلْزَم منْ التَّسْوِيَة، بَين مَا عُلِمَ بِهِ، أَوْ لَمْ يُعلَم فِيمَا لَمْ يُؤْمَر بِاتِّخاذِهِ، أنْ يَكُون الحُكْم كَذَلِكَ، فِيمَا أُذِنَ فِي اتِّخَاذه. انتهى.

ص: 114

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الاحتمال الذي أبداه الحافظ هو الذي يظهر لي، وحاصله أن الكلاب التي أذن فِي اقتنائها لا تدخل فِي حكم منع دخول الملائكة، ويؤيد ذلك أن منْ اقتناها لا يدخل فِي نقص القيراط، أو القيراطين، حيث استثناه الشارع منْ ذلك، فكذا هنا فيما يظهر. والله تعالى أعلم.

(وَلَا صُورَةٌ) بِالإفْرَادِ، وَكَذَا هو فِي مُعظَم الرِّوَايَات، كما قاله الحافظ، وفي رواية البخاريّ:"وَلَا تَصَاوِير" بالجمع. وَفَائِدَة إِعَادَة حَرْف النَّفْي، الاحْتِرَاز منْ تَوَهُّم الْقَصْر فِي عَدَم الدُّخُول، عَلَى اجْتِمَاع الصِّنْفَيْنِ، فَلَا يَمْتَنِع الدُّخُول مَعَ وُجُود أَحَدهمَا، فَلَمَّا أُعِيدَ حَرْف النَّفْي، صَارَ التَّقْدِير: وَلَا تَدخُل بَيْتًا فِيهِ صُورَة.

قَالَ أبو العبَّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: إنما لم تدخل الملائكة البيت الذي فيه الصورة؛ لأن متّخذها قد تشبّه بالكفّار؛ لأنهم يتّخذون الصور فِي بيوتهم، ويُعظّمونها، فكَرِهَت الملائكة ذلك، فلم تدخل بيته؛ هَجْرًا له؛ لذلك. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي طلحة رضي الله تعالى عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -11/ 4284 وفي "كتاب الزينة" -111/ 5349 و5350 و5351 و5352 - وفي "الكبرى" 12/ 4792 و"كتاب الزينة" -108/ 9763 و9764 و9765 و9766 و9767 و9768 و9770. وأخرجه (خ) فِي "بدء الخلق" 3226 و3322 و"المغازي" 4002 و"اللباس" 5949 و5958 (م) فِي "اللباس" 3929 و3930 و3931 و3932 و3933 (د) فِي "اللباس" 4153 و4155 (ت) فِي "الأدب" 1804 (ق) فِي "اللباس" 3649 (أحمد) فِي "أول مسند المدنيين" 15910 و 15918 و 15934 (الموطأ) فِي "الجامع" 1802. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي الْمَعْنَى الَّذِي فِي الْكَلْب، حَتَّى مَنَعَ الْمَلَائِكَة منْ دُخُول الْبَيْت، الَّذِي هُوَ فِيهِ:

فَقِيلَ: لِكَوْنَها نَجِسَة العَيْن، وَيَتَأَيَّد ذَلِكَ بمَا وَرَدَ فِي بَعْض طُرُق الْحَديث، عَن عَائِشَة عِند مُسْلِم:"فَأمَرَ بِنَضْحِ مَوضِع الْكَلْب".

وتعقب القرطبيّ هَذَا، فَقَالَ: هَذَا ليس بواضح، وإنما هو تقدير احتمال، يعارضه

ص: 115

احتمالات أُخر: [أحدها]: أنها منْ الشياطين، كما جاء فِي بعض الأحاديث. [وثانيها]: استخباث روائحها، واستقذارها. [وثالثها]: النجاسة التي تتعلّق بها، فإنها تأكلها، وتتلطّخ بها، فتكون نجسةً بما يتعلق بها، لا لأعيانها، والمخالف يقول: هي نجسة الأعيان، وعلى ما قلناه يصحّ أن يقال: إنه صلّى الله تعالى عليه وسلم شكّ فِي طهارة موضعه؛ لإمكان أن يكون أصابه منْ النجاسة اللازمة لها غالبًا شيء، فنضحه؛ لأن النضح طهارة للمشكوك فيه، فلو تحقّق إصابة النجاسة الموضعَ لغسله، كما فعل ببول الأعرابيّ، ولو كَانَ الكلب نجسًا لعينه، لا لِمَا يتعلّق به، لما احتاج إلى غسله، كما لا يحتاج إلى غسل الموضع، أو الثوب الذي يكون عليه عظم ميتة، أو نجاسة، لا رطوبة فيها، وعلى هَذَا، فهذا الاحتمال أولى أن يُعتبر، فإن لم يكن أولى، فالاحتمالات متعارضة، والدَّسْتُ

(1)

قائمٌ، ولا نصّ حاكم. انتهى كلام القرطبيّ

(2)

.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح عندي أن امتناع الملائكة منْ الدخول فِي البيت الذي فيه الكلب، أمر غير معقول المعنى لنا، كما أسلفته فِي "كتاب الطهارة" برقم 168/ 261. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي الْمُرَاد بِالمَلَائِكَةِ:

قِيلَ: هُوَ عَلَى العُمُوم، وَأَيَّدَهُ النَّوَويّ بِقِصَّةِ جِبْرِيل الآتِي ذِكْرهَا، وقِيلَ: يُسْتَثنَى الْحَفَظَة، وَأَجَابَ الأوَّل بِجَوَازِ أنْ لَا يَدْخُلُوا، مَعَ اسْتِمْرَار الكِتابَة، بِأَن يَكُونُوا عَلَى بَاب الْبَيْت. وَقِيلَ: المُرَاد مَنْ نَزَلَ مِنْهُم بِالرَّحْمَةِ. وَقِيلَ: مَن نَزَلَ بِالْوَحْي خَاصَّة، كَجِبْرِيل، وَهَذَا نُقِلَ عَن ابن وَضَّاح، وَالدَّاوُدِيّ وَغَيْرهمَا، وَيَلْزَم مِنْهُ اخْتِصَاص النَّهْي، بِعَهْدِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّ الْوَحْي انْقَطَعَ بَعْده، وَبِانْقِطَاعِهِ انْقَطَعَ نُزُولهمْ. وَقِيلَ: التَّخْصِيص فِي الصِّفَة، أَيْ لَا يَدْخُلهُ المَلَائِكَة دُخُولهمْ بَيْت مَن لَا كَلْب فِيهِ. قاله فِي "الفتح".

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول بالعموم هو الأظهر؛ عملًا بعموم النصوص، منْ غير مخصّص لها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): فِي الصور التي تمنع دخول الملائكة:

قَالَ الْخَطَّابِيُّ رحمه الله تعالى: الصُّورَة الَّتِي لا تَدْخُل الْمَلائِكَة الْبَيت الَّذِي هِيَ فِيهِ، مَا يَحْرُم اقْتِنَاؤُهُ، وَهُوَ مَا يَكُون منْ الصُّوَر الَّتِي فِيهَا الرُّوح، مِمَّا لَمْ يُقطَع رَأْسه، أَوْ لَمْ

(1)

هكذا فِي "المفهم" ولم أهتد إلى معناها المناسب هنا، إلا أن تكون مصحَّفة منْ كلمة أخرى. والله تعالى أعلم.

(2)

"المفهم" 5/ 422.

ص: 116

يُمْتَهَن. ويؤيّده حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الذي أخرجه أصحاب "السنن"، وصححه الترمذيّ، وابن حبّان، وهو أتمّ سياقًا منه، ولفظه:"أتاني جبريل، فَقَالَ: أتيتك البارحة، فلم يمنعنىِ أن أكون دخلت، إلا أنه كَانَ عَلَى الباب تماثيل، وكان فِي البيت قِرَامُ سِتْرٍ، فيه تماثيلُ، وكان فِي البيت كلبٌ، فمُرّ برأس التمثال الذي عَلَى باب البيت، يُقطَع، فيصير كهيئة الشجرة، ومُر بالستر، فليُقطع، فليُجعل منه وسادتان، منبوذتان، توطآن، ومُرْ بالكلب، فليُخرج، ففعل رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم"، وفي رواية النسائيّ الآتية فِي "الزينة": 114/ 5367 - "فإما أن تُقطع رؤوسها، أو تجعل بساطًا يوطأ"، ففي هَذَا الحديث ترجيح لما قاله الخطّابيّ.

وحاصله أن الصور التي تمتنع الملائكة منْ دخول المكان الذي هي فيه، هي ما إذا كانت باقية عَلَى هيئتها، مرتفعة، غير ممتهنة، فأما لو كانت ممتهنة، لكنها غيِّرت منْ هيئتها، إما بقطعها منْ نصفها، أو بقطع رأسها، فلا امتناع.

وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: ظاهر حديث زيد بن خالد، عن أبي طلحة

(1)

رضي الله تعالى عنهما أن الملائكة لا تمتنع منْ دخول البيت الذي فيه صورة، إن كَانَ رقمًا فِي الثوب، وظاهر حديث عائشة رضي الله تعالى عنها

(2)

المنع، وُيجمع بينهما بأن يُحمَل حديث عائشة عَلَى الكراهة، وحديث أبي طلحة عَلَى مطلق الجواز، وهو لا ينافي الكراهة. قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: وهو جمعٌ حسنٌ، لكن الجمع الذي دلّ عليه حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أولى منه. والله تعالى أعلم. انتهى

(3)

.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: يعني أن الأولى حمل حديث أبي طلحة رضي الله

(1)

حديث أبي طلحة سيأتي للمصنّف رحمه الله تعالى فِي "كتاب الزينة" رقم 111/ 5352 - منْ طريق بسر بن سعيد، عن زيد بن خالد، عن أبي طلحة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"لا تدخل الملائكة بيتا، فيه صورة"، قَالَ بسر: ثم اشتكى زيد، فعدناه، فإذا عَلَى بابه ستر فيه صورة، قلت لعبيد الله الخولاني: ألم يخبرنا زيد عن الصورة يوم الأول؟، قَالَ: قَالَ عبيد الله: ألم تسمعه يقول: "إلا رقما فِي ثوب"؟.

(2)

هو ما أخرجه مسلم فِي "صحيحه" عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، أنها قالت: واعد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام، فِي ساعة يأتيه فيها، فجاءت تلك الساعة، ولم يأته، وفي يده عصا فالقاها منْ يده، وَقَالَ:"ما يخلف الله وعده، ولا رسله"، ثم التفت، فإذا جرو كلب تحت سريره، فَقَالَ:"يا عائشة متى دخل هَذَا الكلب هاهنا؟ "، فقالت: والله ما دريت، فأمر به، فأخرج، فجاء جبريل، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"واعدتني فجلست لك، فلم تأت؟ "، فَقَالَ: منعني الكلب الذي كَانَ فِي بيتك، إنا لا ندخل بيتا فيه كلب، ولا صورة".

(3)

"فتح" 11/ 593.

ص: 117

تعالى عنه عَلَى ما إذا كانت الصورة مغيّرة، أو ممتهنةً، وحمل حديث عائشة رضي الله تعالى عنه عَلَى ما إذا بقيت بهيئتها، وهذا أولى، كما قَالَ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): أَغْرَبَ ابن حِبَّان، فَادَّعَى أنَّ هَذَا الْحُكْم خَاصّ بالنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وَهُوَ نَظِير الْحَديث الآخَر: "لَا تَصْحَب الْمَلَائِكَة رُفْقَة، فِيهَا جَرَس"، قَالَ: فَإنَّه مَحمُول عَلَى رُفْقَة، فِيهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، إِذْ مُحَال أَنْ يَخْرُج الْحَاجّ، وَالمُعتَمِر لِقَصْدِ بَيت الله عز وجل، عَلَى رَوَاحِل، لا تَصْحَبهَا المَلَائِكَة، وَهُمْ وَفْد الله. انْتَهَى.

قَالَ الحافظ: وَهُوَ تَأوِيل بَعِيد جِدًّا، لَمْ أَرَهُ لِغَيرِهِ، وَيُزيل شُبْهَته، أَنَّ كَونهم وَفْد الله، لا يَمْنَع أَنْ يُؤَاخَذُوا، بِمَا يَرتَكِبُونَهُ منْ خَطِيئَة، فَيَجُوز أنْ يُحْرَمُوا بَرَكَة المَلَائِكَة، بَعد مُخَالَطَتهم لَهُمْ، إِذَا ارتَكَبُوا النَّهْي، وَاسْتَصْحَبُوا الْجَرَس، وَكَذَا الْقَوْل فِيمَنْ يَقْتَنِي الصُّورَة، وَالْكَلْب. وَالله أَعلَم. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما تعقب به الحافظ قول ابن حبّان المذكور تعقّب حسنٌ جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): اسْتُشكِلَ كَوْنُ المَلَائِكَة، لَا تَدخُل المَكَان الَّذِي فِيهِ التَّصَاوِير، معَ قَوله سبحانه وتعالى، عِنْد ذِكر سُلَيمَان عليه السلام:{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} الآية [سبأ: 13]، وَقَدْ قَالَ مُجَاهِد: كَانَت صُوَرًا منْ نُحَاس، أَخرَجَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَال قَتَادَة: كَانَتْ مِنْ خَشَب، وَمِنْ زُجَاج، أَخرَجَهُ عَبد الرَّزَّاق.

[وَالْجَوَاب]: أنَّ ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا فِي تِلْكَ الشَّرِيعَة، وَكَانُوا يَعْمَلُونَ أَشْكَال الأَنْبيَاء، وَالصَّالحِينَ مِنْهُمْ، عَلَى هَيْئَتهمْ فِي العِبَادَة؛ لِيَتَعَبَّدُوا كَعِبَادَتِهم، وَقَدْ قَالَ أَبُو العَالِيَةَ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي شَرِيعَتهمْ حَرَامًا، ثمَّ جَاءَ شَرْعُنَا بِالنَّهي عَنْهُ.

قَالَ الحافظ: وَيَحْتَمِل أَنْ يُقَال: إِنَّ التَّمَاثِيل كَانَتْ عَلَى صُورَة النُّقُوش لِغَيْرِ ذَوَات الأَرْوَاح، وَإذَا كَانَ اللَّفْظ مُحْتَمَلا، لَمْ يَتَعَيَّن الْحَمْل عَلَى الْمَعْنَى المُشْكِل. وَقَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَينِ" حَدِيث عَائِشَة رضي الله تعالى عنها، فِي قِصة الْكَنِيسَة الَّتِي كَانَت بأَرْضِ الحَبَشَة، وَمَا فِيهَا منْ التَّصَاوِير، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"كَانُوا إِذَا مَاتَ فِيهِمْ الرَّجُل الصَّالِحَ، بَنوْا عَلَى قَبْره مَسْجدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّورَة، أُولَئِكِ شِرَار الْخَلْق عِنْد الله"، فَإِنَّ ذَلِكَ يُشْعِر، بأَنَّهُ لو كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي ذَلِكَ الشَّرْع، مَا أَطلَقَ عَلَيهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ شَرّ الْخَلْق، فَدَلَّ عَلَى أنَّ فِعْل صُوَر الْحَيَوَان فِعْل مُحْدَث، أَحْدَثَهُ عُبَّاد الصُّوَر. وَالله أَعلَم. قاله فِي "الفتح"

(1)

.

(1)

"فتح" 11/ 580 - 581. "كتاب اللباس". رقم الحديث 5949.

ص: 118

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الاحتمال الثاني هو الحقّ؛ لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها المذكور، فتُحمَلُ التماثيل التي فِي قصّة سليمان عليه السلام عَلَى غير صوَر ذوات الأرواح، فتأمّل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4285 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ خَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ السَّبَّاقِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَخْبَرَتْنِي مَيْمُونَةُ، زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَصْبَحَ يَوْمًا وَاجِمًا، فَقَالَتْ لَهُ مَيْمُونَةُ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدِ اسْتَنْكَرْتُ هَيْئَتَكَ، مُنْذُ الْيَوْمَ؟، فَقَالَ: "إِنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام، كَانَ وَعَدَنِي أَنْ يَلْقَانِي اللَّيْلَةَ، فَلَمْ يَلْقَنِي، أَمَا وَاللَّهِ، مَا أَخْلَفَنِي"، قَالَ: فَظَلَّ يَوْمَهُ كَذَلِكَ، ثُمَّ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ جَرْوُ كَلْبٍ، تَحْتَ نَضَدٍ لَنَا، فَأَمَرَ بِهِ، فَأُخْرِجَ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ مَاءً، فَنَضَحَ بِهِ مَكَانَهُ، فَلَمَّا أَمْسَى، لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ كُنْتَ وَعَدْتَنِي، أَنْ تَلْقَانِي الْبَارِحَةَ"، قَالَ: أَجَلْ، وَلَكِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ، وَلَا صُورَةٌ، قَالَ: فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ).

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن خالد بن خَلِيّ) -بوزن عليّ-: هو الْكلاعيّ، أبو الحسين الحمصيّ، صدوقٌ [11] 7/ 1466 منْ أفراد المصنّف.

2 -

(بشر بن شعيب) أبو القاسم الحمصيّ، ثقة، منْ كبار [10] 7/ 1466.

3 -

(أبوه) شعيب بن أبي حمزة/ دينار، أبو بشر الحمصيّ، ثقة عابد، قَالَ ابن معين: منْ أثبت النَّاس فِي الزهريّ [7] 69/ 85.

والباقون تقدّموا قبل باب. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه. (ومنها): أنه مسلسل بالحمصيين إلى الزهريّ، ومنه مدنيون. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وصحابي، عن صحابية. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: أَخْبَرَتْنِي مَيْمُونَةُ) بنت الحارث، أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها (زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بالرفع بدل منْ "ميمونة"، أو عطف بيان له (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَصْبَحَ يَوْمًا وَاجِمًا) هو بالجيم، قَالَ أهل اللغة: هو الساكت

ص: 119

الذي يظهر عليه الهمّ، والكآبة. وقيل: هو الحزِين، يقال: وَجَمَ منْ الأمر يَجِم، كوعد يَعِدُ وُجُومًا: أمسك عنه، وهو كاره

(1)

.

(فَقَالَتْ لَهُ مَيْمُونَةُ) رضي الله تعالى عنها (أَيْ) حرف نداء، واختُلف فيها، هل هي للأوسط، أم للقريب، أم للبعيد، كما قاله فِي "الكوكب الساطع":

"أَيْ" لِنِدَا الأَوْسَطِ فِي الشَّهِيرِ

لَا القُرْبِ وَالْبُعْدِ وَللِتَّفْسِيرِ

(رَسُولَ اللهِ) بالنصب عَلَى النداء (لَقَدِ اسْتَنْكَرْتُ هَيْئَتَكَ) أي أنكرت صفتك التي كنت أعرفك بها، منْ الانبساط، والانشراح (مُنْذُ الْيَوَمِ؟) بالجرّ، فـ"منذ" حرف جرّ بمعنى "فِي"، و"أل" فِي "اليوم" للحضور، أي فِي هَذَا اليوم، و"منذ"، ومثلها "مذ" إذا كَانَ مجرورهما حاضرًا كانتا بمعنى "فِي"، نحو ما رأيته منذ، أو مذ يومِنا، وإذا كَانَ ماضياً كانتا بمعنى "منْ"، نحو ما رأيته منذُ، أو مذ يوم الجمعة، وإلى هَذَا أشار ابن مالك رحمه الله تعالى فِي "الخلاصة" بقوله:

وَإِنْ يَجُرَّا فِي الْمُضِيِّ فَكَـ"مِنْ"

هُمَا وَفِي الْحُضُورِ مَعنَى "فِي" اسْتَبِنْ

(فَقَالَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (إِنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام، كَانَ وَعَدَنِي أَنْ يَلْقَانِي اللَّيْلَةَ) منصوب عَلَى الظرفية (فَلَمْ يَلْقَنِي، أَمَا) أداة استفتاح، وتنبيه، بمعنى "ألا"(وَاللَّهِ، مَا أَخْلَفَنِي) يقال: أخلف فلان وعده: إذا قَالَ، ولم يفعل، والمعنى: أنه ما أخلفني قبل هَذَا قط، أو ليس هَذَا منه إخلاف وعد، بل لابدّ أن وعده كَانَ مقيّدًا بأمر، قد فُقد ذلك الأمر، وإلا فلا يُتصوّر منه إخلاف فِي الوعد. أفاده السنديّ (قَالَ) هكذا وقع فِي جميع النسخ، وفي "الكبرى"، وكذلك فِي "صحيح مسلم"، والظاهر أن الضمير لميمونة رضي الله تعالى عنها، وإنما ذكّره بتأويلها بالراوي، ويحتمل أن يكون الضمير لابن عبّاس، أي قَالَ ابن عباس راويا عن ميمونة. والله تعالى أعلم (فَظَلَّ يَوْمَهُ كَذَلِكَ، ثُمَّ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ جَرْوُ كَلْبٍ) بكسر الجيم، ولد الكلب، والسباع، والفتح، والضمّ لغة، قَالَ ابن السّكّيت: والكسر أفصح، وَقَالَ فِي "البارع": الجرو الصغير منْ كلّ شيء، والجروة أيضاً الصغيرة منْ القِثّاء، شُبّهت بصغار أولاد الكلاب؛ للينها، ونعومتها، والجمع جِرَاءٌ، مثلُ كِتاب، وأجرٍ، مثلُ أفلسٍ. قاله الفيّوميّ (تَحْتَ نَضَدٍ لَنَا) بفتحتين: السرير الذي يُنضّد عليه الثياب: أي يُجعل بعضها فوق بعض. وَقَالَ الفيّوميّ: نضدته نَضْدًا، منْ باب ضرب: جعلت بعضه عَلَى بعض، والنضد -بفتحين-: المنضود، والنضيدُ فعيلٌ بمعنى مفعول، وسُمّي السرير نَضَدًا؛ لأن النضَدَ غالبًا يُجعل عليه.

(1)

راجع "شرح مسلم" للنوويّ 14/ 309، و"المصباح المنير".

ص: 120

انتهى. وفي رواية مسلم: "تحت فُسطاط لنا": قَالَ النوويّ: الفسطاط فيه ستّ لغات: فسطاط، وفستاطٌ، بالتاء، وفسّاطٌ، بتشديد السين، وضمّ الفاء فيهنّ، وتُكسر، وهو نحو الخباء. قَالَ القاضي: والمراد به هنا بعض حجال البيت، بدليل قولها فِي الحديث الآخر:"تحت سرير عائشة"، وأصل الفسطاط: عمود الأخبية التي يُقام عليها. والله أعلم. انتهى

(1)

.

(فَأَمَرَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (بِهِ) أي بإخراج ذلك الجرو (فَأُخْرِجَ) بالبناء للمفعول (ثُمَّ أَخَذَ) بالبناء للفاعل: أي أخذ النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم (بِيَدِهِ مَاءً فَنَضَحَ بِهِ مَكَانَهُ) أي رشّه إزالة لرائحته الكريهة، أو نحوها، عند منْ يقول بعدم نجاسة عين الكَلب، وهو الأصحّ، أو المراد بالنضح غسله، عند منْ يقول بنجاسة عينه (فَلَمَّا أَمْسَى) أي دخل فِي وقت المساء (لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ كُنْتَ وَعَدْتَنِي، أَنْ تَلْقَانِي الْبَارِحَةَ) قَالَ المجد: هي أقرب ليلة مضت (قَالَ: أَجَلْ) بفتحتين، كنعم وزنًا ومعنًى (وَلَكِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ، وَلَا صُورَةٌ) أي وكان الوعد مقيّدًا بعدم المانع، فما أخلفت الوعد (قَالَ: فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ) زاد فِي رواية مسلم:"حَتَّى إنه يأمر بقتل كلب الحائط الصغير، ويترك كلب الحائط الكبير".

قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "فأصبح رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم الخ": كذا رواه جميع الرواة: "فأصبح"، "فأمر" مرتّبًا بفاء التسبيب، فيدلّ ذلك عَلَى أنَّ أمره بقتل الكلاب فِي ذلك اليوم، كَانَ لأجل امتناع جبريل منْ دخول بيته. ويحتمل أن يكون ذلك لمعنىً آخر غير ما ذكرناه، وهو أن ذلك إنما كَانَ لينقطعوا عما كانوا أَلِفُوه منْ الأُنس بالكلاب، والاعتناء بها، واتّخاذها فِي البيوت، والمبالغة فِي إكرامها، وإذا كَانَ كذلك كثُرت، وكثُر ضررها بالناس منْ الترويع، والجرح، وكثُر تنجيسها للديار، والأزِقّة، فامتنع جبريل منْ الدخول لأجل ذلك، ثم أخبر به النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، وأمر بقتل الكلاب، فانزجر النَّاس عن اتّخاذها، وعمّا كانوا اعتادوه منها. والله تعالى أعلم. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الثاني بعيد، فالأظهر أن المنع إنما هو بسبب امتناع جبريل عليه السلام منْ الدخول؛ كما هو ظاهر سياق الحديث. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"شرح مسلم" 14/ 309.

ص: 121

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ميمونة رضي الله تعالى عنها هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -11/ 4285 وتقدّم فِي 9/ 4278 - وفي "الكبرى" 9/ 4787 و11/ 4794. وأخرجه (م) فِي "اللباس" 3928 (د) فِي "اللباس" 4157 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 26260. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان امتناع الملائكة منْ دخول البيت الذي فيه الكلب. (ومنها): أنه يستحبّ للإنسان إذا رأى صاحبه واجمًا أن يسأله عن سببه؛ ليساعده فيما يمكنه مساعدته، أو يتحزّن معه، أو يُذكّره بطريق يزول به ذلك العارض. (ومنها): أن فيه التنبيهَ عَلَى الوثوق بوعد الله تعالى، ورُسُله عليهم الصلاة والسلام، لكن قد يكون للشيء شرط، فيتوقّف عَلَى حصوله، أو يتخيّل توقيته بوقت، ويكون غير موقّت به، ونحو ذلك. (ومنها): أنه ينبغي للإنسان إذا تكدّر عليه وقته، أو تنكّدت وظيفته، ونحو ذلك أن يفكّر فِي سببه، كما فعل النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم هنا، حَتَّى استخرج الكلب، وهو منْ نحو قول الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]. (ومنها): أن الكلاب يجوز قتلها؛ لأنها منْ السباع، لكن لَمّا كَانَ فِي بعضها منفعة، وكانت منْ النوع المتأنّس سُومح فيما لا يضرّ منها.

(ومنها): أن قوله: "يأمر بقتل كلب الحائط الصغير الخ" فيه دليلٌ عَلَى جواز اتخاذ ما يُنتفع به منْ الكلاب فِي حفظ الحوائط، وغيرها، ألا ترى أن الحائط الكبير لَمّا كَانَ يحتاج إلى حفظ جوانبه ترك له كلبه، فلم يقتله، بخلاف الحائط الصغير منها، فإنه أمر بقتل كلبه؛ لأنه لا يَحتاج الحائط الصغير إلى كلب، فإنه ينحفظ منْ غير كل؛ لقرب جوانبه. قاله القرطبيّ

(1)

.

(ومنها): أنه احتجّ جماعة بقولها: "فنضح مكانه" فِي نجاسة عين الكلب، قالوا: والمراد بالنضح الغسل، وتأوله منْ لا يقول بذلك، كالمالكيّة عَلَى أنه غسله لخوف حصول بوله، أو روثه، أو لإزالة الرائحة الكريهة، وهذا هو الراجح، وَقَدْ تقدّم البحث

(1)

"المفهم" 5/ 423.

ص: 122

فِي ذلك مستوفىً فِي "أبواب الطهارة". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌12 - (الرُّخْصَةِ فِي إِمْسَاكِ الْكَلْبِ لِلْمَاشِيَةِ)

4286 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرِ بْنِ سُوَيْدٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ -وَهُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ- عَنْ حَنْظَلَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ سَالِمًا، يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا، نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ، إِلاَّ ضَارِيًا، أَوْ صَاحِبَ مَاشِيَةٍ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(سويد بن نصر) الشاه، أبو الفضل المروزي ثقة [10] 45/ 55.

2 -

(عبد الله بن المبارك) المروزي الإِمام الحجة الثبت [8] 32/ 36.

3 -

(حنظلة) بن أبي سفيان الجُمَحيّ المكيّ، ثقة حجّةٌ [6] 12/ 12.

4 -

(سالم) بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي الْعَدْوَى المدنيّ، أحد الفقهاء ثقة ثبت فاضل عابد [23/ 490].

5 -

(ابن عمر) رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو، والترمذيّ. (ومنها): أن فيه أحد الفقهاء السبعة، وهو سالم، وفيه رواية الراوي عن أبيه، وفيه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَن ابْنِ عُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا) أي اتخذ، يقال: اقتنى الشيء: إذا اتّخذه للادّخار. ذكره فِي "الفتح". وَقَالَ القرطبيّ: اقتنى، واتّخذ، واكتسب كلّها بمعنى واحد. وَقَالَ الفيّوميّ: قنوت الشيءَ

ص: 123

أَقْنُوه قَنْوًا، منْ باب قتل، وقِنْوةً بالكسر: جمعتُهُ، واقتنيته: اتخذته لنفسي قِنْيةً، لا للتجارة، هكذا قيّدوه. وَقَالَ ابن السّكّيت: قَنَوتُ الغنمَ أقنوها، وقنيتها أَقنِيها: اتخذتها للقِنْية، وهو مالُ قِنْية، وقِنْوة، وقِنْيان بالكسر، والياء، وقُنْوانٍ، بالضمّ، والواو. وأقناه: أعطاه، وأرضاه. انتهى (نَقَصَ) يحتمل أن يكون مبنيًّا للفاعل، و"قيراطان" فاعله، وأن يكون مبنيًّا للمفعول، و"قيراطان" نائب فاعله، بناء عَلَى أنه جاء لازمًا، ومتعدّيًا، وتقدّم البحث عن هَذَا مستوفىً قريبًا (مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ) قَالَ النوويّ: القيراط هنا مقدار معلوم عند الله تعالى، والمراد نقص جزء منْ أجزاء عمله.

وَقَالَ القرطبيّ: اختُلف فِي معنى قوله: "نقص منْ عمله كلّ يوم قيراطان"، وأقرب ما قيل فِي ذلك قولان:[أحدهما]: أن جميع ما عمله منْ عمل ينقُص لمن اتّخذ ما نُهي عنه منْ الكلاب بإزاء كل يوم يُمسكه فيه جزءان منْ أجزاء ذلك العمل. وقيل: منْ عمل ذلك اليوم

الذي يمسكه فيه، وذلك لترويع الكلب للمسلمين، وتشويشه عليهم بنُباحه، ومنع الملائكة منْ دخول البيت، ولنجاسته عَلَى ما يراه الشافعيّ. [الثاني]: أن يُحبط منْ عمله كلّه عملان، أو منْ عمل يوم إمساكه عَلَى ما تقدّم، عقوبةً له عَلَى ما اقتحم منْ النهي.

قَالَ: والقيراط: مَثَلٌ لمقدار اللهُ أعلم به، وان كَانَ قد جرى العرف فِي بلاد يُعرف فيها القيراط، فإنه جزء منْ أربعة وعشرين جزءًا، ولم يكن هَذَا اللفظ غالبًا عند العرب، ولذلك قَالَ صلّى الله تعالى عليه وسلم:"تُفتح عليكم أرض يُذكر فيها القيراط، فإذا فتحتموها، فاستوصوا بها خيرًا"، رواه مسلم. يعني بذلك مصر. انتهى

(1)

.

وَقَدْ تقدّم فِي حديث عبد الله بن مغفّل رضي الله تعالى عنه أنه "ينقص منْ أجره قيراط"، وكذا فِي حديث سفيان بن أبي زهير رضي الله تعالى عنه الآتي بعد هَذَا، وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الآتي بعد باب، وتقدّم وجه الجمع بين هذين الاختلافين فِي شرح حديث ابن مغفّل رضي الله تعالى عنه 10/ 4282 - فلا تغفل (إِلاَّ ضَارِيًا) قيل: هو صفة للكلب: أي إلا كلبًا معَوّداً بالصيد، يقال: ضَرِيَ الكلبُ يَضْرَى

(2)

، كَشَرِيَ يَشْرَى ضَرىً، وضَرَاوَةً، وأضراه صاحبه: أي عوّده ذلك، وأغراه به، ويُجمع عَلَى ضوار. وَقَدْ ضَرِي بالصيد: إذا لَهِجَ به. قاله ابن الأثير

(3)

. ومنه قول عمر رضي الله تعالى عنه: إن للّحم ضراوةً كضراوة الخمر، قَالَ: جماعة: معناه: أن له عادةً يَنزع إليها، كعادة الخمر. وَقَالَ الأزهريّ: معناه: أن لأهله عادةً فِي أكله، كعادة

(1)

"المفهم" 4/ 451 - 452. "كتاب البيوع".

(2)

منْ باب تَعِبَ.

(3)

"النهاية" 3/ 86.

ص: 124

شارب الخمر فِي ملازمته، وكما أن منْ اعتاد الخمر لا يكاد يصبر عنها كذا منْ اعتاد اللحم. وقيل: صفة للرجل الصائد، صاحب الكلاب المعتاد للصيد، فسمّاه ضاريًا، استعارةً. أفاده النوويّ

(1)

.

قَالَ الحافظ السيوطيّ رحمه الله تعالى: فعلى الأول يكون الاسثناء منْ قوله: "كلبًا"، وعلى الثاني منْ قوله:"منْ اقتنى"، ويؤيده أنه عطف عليه هنا قوله:"أو صاحب ماشية"، ويؤيّد الأول أن فِي رواية لمسلم:"إلا كلبًا ضاريًا". انتهى

(2)

.

(أَوْ صَاحِبَ مَاشِيَةٍ") قَالَ الفيّوميّ: الماشية: المال منْ الإبل، والغنم. قاله ابن السِّكّيت، وجماعة. وبعضهم يجعل البقر منْ الماشية. انتهى.

قَالَ القرطبيّ: وكلب الماشية المباح اتخاذه عند مالك هو الذي يُسرَح معها، لا الذي يحفظها فِي الدار منْ السُّرَّاق. وكلب الزرع هو الذي يَحفظه منْ الوحوش بالليل والنهار، لا منْ السُّرَّاق. وَقَدْ أجاز غير مالك اتّخاذها لسُرَّاق الماشية والزرع. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله غير مالك رحمه الله تعالى منْ جواز اتّخاذها للسُّرّاق وغيره هو الراجح عندي؛ لإطلاق النّصوص، فإنه لم يخصّ نوعًا منْ الحفظ، بل أباح لحفظ هذه الأشياء مطلقًا، فتقييدها بنوع منْ الحفظ يحتاج إلى دليل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -12/ 4286 و13/ 4288 و4289 و14/ 4293 - وفي "الكبرى" 13/ 4795 و14/ 4797 و4798 و15/ 4802. وأخرجه (خ) فِي "الذبائح والصيد" 5480 و5481 و5482 (م) فِي "المساقاة" 2940 و2941 و2943 و2944 و2945 و2946 (ت) فِي "الأحكام" 1487 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 4465 و4535 و4798 و4925 و5053 و5149 و5231 و5741 و5889 و6306 (الموطأ) فِي "الجامع" 1808 (الدارمي) فِي "الصيد" 4004. وبقيّة مسائل الحديث تقدّمت قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

"شرح مسلم" 10/ 481 - 482.

(2)

"زهر الربى" 7/ 187.

ص: 125

4287 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرِ بْنِ إِيَاسِ بْنِ مُقَاتِلِ بْنِ مُشَمْرِجِ بْنِ خَالِدٍ السَّعْدِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ -وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ- عَنْ يَزِيدَ -وَهُوَ ابْنُ خُصَيْفَةَ- قَالَ: أَخْبَرَنِي السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ، أَنَّهُ وَفَدَ عَلَيْهِمْ سُفْيَانُ بْنُ أَبِي زُهَيْرٍ، الشَّنَائِيُّ، وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا، لَا يُغْنِي عَنْهُ زَرْعًا، وَلَا ضَرْعًا، نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ"، قُلْتُ: يَا سُفْيَانُ، أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ، وَرَبِّ هَذَا الْمَسْجِدِ).

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرِ بْنِ إِيَاسِ بْنِ مُقَاتِلِ بْنِ مُشَمْرِجِ بْنِ خَالِدٍ السَّعْدِيُّ) المروزيّ، نزيل بغداد، ثم مرو، ثقة حافظ، منْ صغار [9] 13/ 13.

2 -

(إسماعيل بن جعفر) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق القارىء المدنيّ، ثقة ثبت [8] 16/ 17.

3 -

(يزيد بن خُصَيفة) -بخاء معجمة، فصاد مهمدة، مصغّرًا- هو يزيد بن عبد الله ابن خُصيفة بن عبد الله بن يزيد الكنديّ المدنيّ، نُسب لجدّه، ثقة [5] 750/ 960.

4 -

(السائب بن يزيد) بن سعيد بن ثُمامة الكنديّ، وقيل: غير ذلك فِي نسبه، ويُعرف بابن أخت النمِر، صحابي صغير، وله أحاديث قليلة، وحُجّ به فِي حجة الوداع، وهو ابن سبع سنين، وولّاه عمر رضي الله تعالى عنه، ومات سنة (91)، وقيل: قبل ذلك، وهو آخر منْ مات بالمدينة منْ الصحابة رضي الله تعالى عنهم، تقدمت ترجمته فِي 15/ 1392.

5 -

(سفيان بن أبي زُهير) الأزديّ، منْ أَزْدَ شَنُوءَة، واسم أبي زُهير الْقَرِد، وشَنُوءة: هو عبد الله بن كعب بن عبد الله بن مالك بن يعرب بن الغوث، وإنما سُمُّوا شَنُوءةَ لشنئآن، كَانَ بينهم. وَقَالَ بعصْهم فِي نسبه: النَّمَريْ، وبعضهم النُّمَيريّ، له صحبة يعدّ فِي أهل المدينة. روى عن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم. وعنه السائب بن يزيد، وعبد الله، وعروة ابنا الزبير. روى له البخاريّ، ومسلم، وابن ماجه، له عندهم حديثان: أحدهما فِي اقتناء الكلب، والآخر فِي فضل المدينة، وروى له المصنّف فِي هَذَا الكتاب هَذَا الحديث فقط. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات المدنيين، إلا شيخه، فمروزيّ، وفيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، فالسائب بن يزيد صحابيّ صغير مشهور. والله تعالى أعلم.

ص: 126

شرح الحديث

(عَنْ يَزِيدَ، وَهُوَ) ابن عبد الله (بْنُ خُصَيْفَةَ) أنه (قَالَ: أَخْبَرَنِي السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ أَنَّهُ) الضمير للشأن: أي الحال والشأن (وَفَدَ) بفتح الفاء، يقال: وفَد إليه، وعليه، يفد وَفدًا، منْ باب وعد، ووُفُودًا، ووِفَادةً، وإِفَادةً: إذا قَدِمَ، وورَدَ (عَلَيْهِمْ سُفْيَانُ بْنُ أَبِي زُهَيْرٍ الشَّنَائيُّ) بفتح الشين المعجمة، بعدها نون: نسبة إلى شنوءة -بفتح المعجمة، وضم النون، بعدها واو ساكنة، ثم همزة مفتوحة، وهي قبيلة مشهورة، ويقال فيه: الشَّنُوئيّ بضمّ النون عَلَى الأصل (وَقَالَ) أي سفيان (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا) أي اتخذه (لَا يُغْنِي عَنهُ زَرْعًا، وَلَا ضَرْعًا) المراد هنا الماشية، كما فِي سائر الروايات، ومعناه: اقتنى كلبًا لغير زرع، وماشية. قاله النوويّ (نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ) تقدّم تفسيره مستوفى، فلا تغفل. قَالَ السائب (قُلْتُ: يَا سُفْيَانُ، أَنْتَ) بتقدير همزة الاستفهام، وفي نسخة "أأنت" بإثبات الهمزتين (سَمِعْتَ هَذا مِنْ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم؟) فيه التثبّت فِي الحديث (قَالَ) أي سفيان (نَعَمْ) ولفظ الشيخين:"إِي" وهي بكسر الهمزة، وسكون الياء التحتانيّة بمعنى "نعم"(وَرَبِّ هَذَا الْمَسْجدِ) وفيه استعمال القسم للتوكيد، وإن كَانَ السامع مصدّقًا. قاله فِي "الفتح"

(1)

.

والظاهر أن المراد بالمسجد هو المسجد النبويّ؛ لأن سفيان والسائب كلاهما مدنيّان، ويحتمل أن يكون مسجدًا آخر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث سفيان بن أبي زُهير الشنائيّ رضي الله تعالى عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -12/ 4287 - وفي "الكبرى" 13/ 4796. وأخرجه (خ) فِي "المزارعة" 2323 و"بدء الخلق" 3325 (م) فِي "المساقاة" 2951 (ق) فِي "الصيد" 3206 (أحمد) فِي "مسند الأنصار" 21406 و21411 (الموطأ) فِي "الجامع" 1807 (الدارمي) فِي "الصيد" 2005. وبقيّة المسائل تقدّمت قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

"فتح" 5/ 272 "كتاب الحرث والمزارعة".

ص: 127

‌13 - (بَابُ الرُّخْصَةِ فِي إِمْسَاكِ الْكَلْبِ لِلصَّيْدِ)

4288 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَمْسَكَ كَلْبًا، إِلاَّ كَلْبًا ضَارِيًا، أَوْ كَلْبَ مَاشِيَةٍ، نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. وهو منْ رباعيّات المصنّف، وهو (200) منْ رباعيات الكتاب.

وقوله: "إلا كلبًا ضاريًا" هكذا فِي بعض النسخ، ووقع فِي النسخة الهنديّة:"إلا كلب ضاري"، وكذا فِي بعض روايات مسلم، قَالَ النوويّ فِي "شرحه": قَوْله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا، إِلَّا كَلْب مَاشِيَة، أَوْ ضَارِي": هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ: "ضَارِي" بِالْيَاءِ، وَفِي بَعْضهَا:"ضَارِيًا" بِالألِفِ، بَعْد الْيَاء، مَنْصُوبًا، وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة:"مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا، إِلَّا كَلْب ضَارِيَة"، وَذَكَرَ القَاضِي أَنَّ الأوَّل رُوِيَ "ضَارِي"، بِالْيَاءِ، "وَضَارٍ" بِحَذْفِهَا، "وَضَارِيًا"، فأَمَّا "ضَارِيًا"، فَهُوَ ظَاهِر الإِعْرَاب، وَأَمَّا "ضَارِي"، "وَضَارٍ"، فَهُمَا مَجْرُورَانِ عَلَى الْعَطْف عَلَى "مَاشِيَة"، وَيَكُون مِنْ إِضَافَة الْمَوْصُوف إِلَى صِفَته، كَمَاءِ البَارِد، وَمَسْجِد الْجَامِع، وَمِنْهُ قَوله تَعَالَى:{بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [القصص: 44]، {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} [يوسف: 109]، وَسَبَقَ بَيَان هَذَا مَرَّات، وَيكُون ثُبُوت اليَاء فِي "ضَارِي" عَلَى اللُّغَة القَلِيلَة، فِي إِثْبَاتَها فِي المَنْقُوص، منْ غَيْر أَلِف وَلَام، وَالمَشْهُور حَذْفهَا. وَقِيلَ: إِنَّ لَفظَة "ضَارٍ" هُنَا صِفَة لِلرَّجُل الصَّائِد، صَاحِب الكِلَاب، الْمُعْتَاد لِلصَّيدِ، فَسَمَّاهُ ضَاريًا؛ اسْتِعَارَة، كَمَا فِي الرِّوايَة الأُخْرَى:"إِلَّا كَلْب مَاشِيَة، أَو كَلْب صَائِد". وَأَمَّا روَايَة "إِلَّا كَلْب ضَارِيَة"، فَقَالُوا: تَقْدِيره إِلَّا كَلْب ذِي كِلَاب ضَارِيَة. وَالضَّارِي هُوَ المُعَلَّم الصَّيْد، المُعْتَاد لَهُ إلى ما تقدَّم منْ معنى ضري

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وتقدَّم شرحه، وبيان مسائله فِي الباب الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4289 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا، إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ، نَقَصَ مِنْ

(1)

"شرح مسلم" 10/ 481 - 482.

ص: 128

أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلّهم رجال الصحيح، وتقدَّموا غير مرّة.

و"عبد الجبّار بن العلاء": هو العطّار البصريّ، أبو بكر نزيل مكة، لا بأس به، منْ صغار [10] 132/ 199. و"سفيان": هو ابن عيينة.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق البحث فيه مستوفًى فِي الحديث الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌14 - (بَابُ الرُّخْصَةِ فِي إِمْسَاكِ الْكَلْبِ لِلْحَرْثِ)

4290 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا، إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ، أَوْ زَرْعٍ، نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح.

و"يحيى": هو القطان. و"ابن أبي عديّ": هو محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ. "ومحمد بن جعفر": هو غندر. و"عوف": هو ابن أبي جميلة الأعرابيّ البصريّ. و"الحسن": هو البصريّ.

والحديث صحيح، وَقَدْ تقدّم شرحه، وبيان مسائله قبل ثلاثة أبواب، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4291 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا، إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ، أَوْ زَرْعٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ، نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.

و"إسحاق": هو ابن راهويه. و"عبد الرزاق": هو ابن همّام الصنعانيّ. و"معمر": هو

ص: 129

ابن راشد. وشرح الحديث يُعلم مما مضى.

وزيادة "أو زرع" سيأتي الكلام عليها بعد حديث، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -14/ 4291 و4292 وفي "الكبرى" 15/ 4800 و4801. وأخرجه (خ) فِي "الحرث والمزارعة" 2322 و"بدء الخلق" 3324 (م) فِي "المساقاة" 2947 و248 و2949 و2950 (د) فِي "الصيد" 2844 (ت) فِي "الأحكام" 1488 و1490 (ق) فِي "الصيد" 3204 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 4465 و9209. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4292 -

(أَخْبَرَنَا وَهْبُ بْنُ بَيَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ صَيْدٍ، وَلَا مَاشِيَةٍ، وَلَا أَرْضٍ، فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ قِيرَاطَانِ كُلَّ يَوْمٍ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، وهو واسطيّ، نزيل مصر، ثقة. والسند مسلسل بثقات المصريين، إلى ابن شهاب، ومنه مدنيّون. والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق تمام البحث فيه فِي الحديث الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4293 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -يَعْنِي ابْنَ جَعْفَرٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَرْمَلَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا، إِلاَّ كَلْبَ مَاشِيَةٍ، أَوْ كَلْبَ صَيْدٍ، نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ". قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: "أَوْ كَلْبَ حَرْثٍ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلّهم رجال الصحيح، وتقدّموا.

و"محمد بن أبي حَرْمَلة": هو القرشيّ المدنيّ، مولى ابن حُويطب، ثقة [6] 36/ 578.

وقوله: قَالَ عبد الله: وَقَالَ أبو هريرة: "أو كلبّ حَرْث"، وهكذا هو فِي رواية

ص: 130

مسلم، وعبد الله هو ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، يعني أنه قَالَ: إن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يزيد فِي هَذَا الحديث: "أو كلب حرث"، والمراد به الكلب الذي يحرُس الزرع، فهو بمعنى قوله فِي الرواية السابقة:"أو زرع".

وهذه الرواية تدلّ عَلَى أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقبل زيادة أبي هريرة رضي الله تعالى عنه المذكورة، وفي رواية مسلم منْ طريق عمرو بن دينار، عن ابن عمر: أن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، إلا كلب صيد، أو كلب غنم، فقيل لابن عمر: إن أبا هريرة يقول: "أو كلب زرع"، فَقَالَ ابن عمر: إن لأبي هريرة زرعًا، فقيل: أراد ابن عمر بهذا الكلام الإنكار عَلَى أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وهذا القول غير صحيح، بل الصواب أنه أراد بذلك تثبيته، وقبول زيادته.

قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى فِي شرح هَذَا الكلام: ما نصّه: قَالَ العلماء: ليس هَذَا توهينًا لرواية أبي هريرة، ولا شكًا فيها، بل معناه أنه لَمّا كَانَ صاحب زرع، وحرث، اعتنى بذلك، وحَفِظَه، وأتقنه، والعادة أن المبتلى بشيء يُتقنه ما لا يتقنه غيره، ويتعرّف منْ أحكامه ما لا يعرفه غيره. وَقَدْ ذكر مسلم هذه الزيادة، وهي اتخاذه للزرع منْ رواية ابن المغفّل

(1)

، ومن رواية سُفيان بن أبي زُهير

(2)

، عن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، وذكرها أيضًا مسلم منْ رواية أبي الحكم، واسمه عبد الرحمن بن أبي نُعْم البجليّ، عن ابن عمر، فيحتمل أن ابن عمر لَمّا سمعها منْ أبي هريرة، وتحقّقها عن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، رواها عنه بعد ذلك، وزادها فِي حديثه الذي كَانَ يرويه بدونها.

ويحتمل أنه تذكّر فِي وقت أنه سمعها منْ النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، فرواها، ونسيها فِي وقت، فتركها.

والحاصل أن أبا هريرة ليس منفردًا بهذه الزيادة، بل وافقه جماعة منْ الصحابة فِي روايتها، عن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، ولو انفرد بها لكانت مقبولة، مرضيّةً، مكرّمةً. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله النوويّ رحمه الله تعالى فِي تثبيت ابن عمر لزيادة أبي هريرة رضي الله تعالى عنهم تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا.

والحاصل أن منْ قَالَ: إن مراد ابن عمر بقوله: "إن لأبي هريرة زرعًا" الإنكار عليه فِي هذه الزيادة، فقد أخطأ الطريق، وحاد عن الصواب، فالحقّ أن مراده تثبيته،

(1)

هي الرواية السابقة للمصنّف قبل حديثين.

(2)

هي الرواية السابقة عند المصنّف قبل باب.

ص: 131

وتصويبه فِي زيادته، بدليل ما ثبت عن ابن عمر أنه كَانَ يزيدها أيضًا، كما رواه مسلم منْ طريق قتادة، عن أبي الحكم، قَالَ: سمعت ابن عمر، يحدّث عن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، قَالَ:"منْ اتّخذ كلبًا إلا كلب زرع، أو غنم، أو صيد، ينقص منْ أجره كلَّ يوم قيراط".

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ مضى تمام البحث فيه قبل باب، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌15 - (النَّهْىِ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ)

4294 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا مَسْعُودٍ، عُقْبَةَ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ، أبو رجاء البغلاني، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(الليث) بن سعد بن عبد الرحمن الإِمام المصريّ الحجة الثبت [7] 31/ 35.

3 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهريّ المدنيّ الإِمام الحجة الثبت الفقيه [4] 1/ 1.

4 -

(أبو بكر بن الحارث بن هشام) المخزوميّ المدنيّ، قيل: اسمه محمد، وقيل: المغيرة، وأبو بكر اسمه، وكنيته أبو عبد الرحمن، ثقة فقيه، عابدٌ [3] 51/ 963.

5 -

(أبو مسعود، عقبة) بن عمرو بن ثعلبة الأنصاريّ البدريّ، صحابيّ جليل، مات قبل الأربعين، وقيل: بعدها، تقدّمت ترجمته فِي 6/ 494. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات المدنيين، منْ ابن شهاب، والليث مصريّ، وقتيبة بغلانيّ، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه منْ هو مشهور بكنيته، وهو أبو بكر،

ص: 132

وهو أحد الفقهاء السبعة عَلَى بعض الأقوال. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ) الخزوميّ المدنيّ (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا مَسْعُودٍ) البدريّ رضي الله تعالى عنه (عُقْبَةَ) بالنصبَ بدل منْ "أبا مسعود"، ويحتمل الرفع عَلَى أنه خبر لمبتدإ محذوف: أي هو عقبةُ (قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ) ظَاهِر النَّهْي تَحرِيم بَيْعه، وَهُوَ عَام فِي كُلّ كَلْب، مُعَلَّمًا كَانَ، أَو غَيره، مِمَّا يَجُوزَ اقْتِنَاؤُهُ، أَوْ لَا يَجُوز، وَمِنْ لَازِم ذَلِكَ أَنْ لَا قِيمَة عَلَى مُتْلِفه، وعليه الجمهور، وسيأتي تحقيق الخلاف فِي المسائل، إن شاء الله تعالى.

(وَمَهْرِ الْبَغِيِّ) هُوَ مَا تَأخُذهُ الزَّانِيَة عَلَى الزِّنَا، سَمَّاهُ مَهْرَا مَجَازًا، و"الْبَغِيّ" -بِفَتْحِ المُوَحَّدَة، وَكَسْر المُعْجَمَة، وَتَشْدِيد التَّحتَانِيَّة- وَهُوَ فَعِيلَ، بِمَعْنَى فَاعِلَة، أصله بَغُويٌ، عَلَى وزن صبور، فلذلك استوى فيه التذكير والتأنيث، وَجَمْعُ الْبَغِيّ بَغَايَا، وَالْبِغَاء بِكَسْرِ أَوَّلهْ الزِّنَا، وَالفُجُور، وَأَصْل الْبِغَاء: الطَّلَب، غَيْر أَنَّهُ أكْثَر مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْفَسَاد، وَاستُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَمَة، إِذَا أُكْرِهَتْ عَلَى الزِّنَا، فَلَا مَهْر لَهَا، وَفِي وَجْه لِلشَّافِعِيَّةِ يَجِب لِلسَّيِّدِ. قاله فِي "الفتح"

(1)

.

(وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ) -بضم الحاء المهملة، وسكون اللام-: مَصدَر حَلَوْته حُلْوَانًا: إِذَا أَعْطَيْته، وَأَصْله مِنْ الحَلَاوَة، شُبِّهَ بالشَّيْءِ الْحُلْو، مِنْ حَيْثُ إِنهُ يَأخُذهُ سَهْلا، بِلا كُلفَة، وَلا مَشَقَّة، يُقَال: حَلَوْته: إِذَا أَطْعَمْته الْحُلْو، وَالحُلْوَان أَيْضًا الرِّشْوَة، وَالحُلْوَان أَيْضًا أَخْذ الرَّجُل مَهْر ابْنَته لِنَفْسِهِ.

وَحُلوان الكاهن حَرَام بِالْإجْمَاعِ؛ لِمَا فِيهِ منْ أَخْذ الْعِوَض عَلَى أَمْر بَاطِل، وَفِي مَعْنَاهُ: التَّنْجِيم، وَالضَّرْب بِالحَصَى، وَغَيْر ذَلِكَ، مِمّا يَتَعَاناهُ العَرَّافُونَ، مِن اسْتِطْلَاع الْغَيْب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي مسعود رضي الله تعالى عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -15/ 4294 و"البيوع" 91/ 4668 - وفي "الكبرى" 16/ 4803 و"البيوع" 92/ 6262. وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 2237 و"الإجارة" 2282

(1)

"فتح" 5/ 180 "كتاب البيوع" رقم الحديث 2237.

ص: 133

و"الطلاق" 5346 و"الطبّ" 5761 (م) فِي "البيوع" 2930 (د) فِي "البيوع" 3428 و3481 (ت) فِي "النكاح" 1133 و"البيوع" 1276 (ق) فِي "التجارات" 2159 (أحمد) فِي "مسند الشاميين" 16622 و16626 و16639 (الموطأ) فِي "البيوع" 1363 (الدارمي) فِي "البيوع"2568. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو النهي عن ثمن الكلب. (ومنها): تحريم أجرة الزانية. (ومنها): تحريم ما يأخذه الكاهن عَلَى كهانته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم بيع الكلب:

قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: وَأَمَّا النَّهْي عَن ثَمَن الْكَلْب، وَكَوْنه منْ شَرّ الْكَسْب، وَكَوْنه خَبِيثًا، فَيَدُلّ عَلَى تَحِرِيم بَيْعه، وَأَنَّهُ لَا يَصِحّ بَيعه، وَلَا يَحِلّ ثَمَنه، وَلَا قِيمَة عَلَى مُتْلِفه، سَوَاء كَانَ مُعَلَّمًا، أَمْ لَا، وَسَوَاء كَانَ مِمَّا يَجُوز اقْتِنَاؤُهُ أَمْ لَا، وَبِهَذَا قَالَ جَمَاهِير العُلَمَاء، مِنْهُمْ: أَبُو هُرَيْرَة، وَالحَسَن الْبَصْرِي، وَرَبِيعَة، وَالأَوْزَاعِيّ، وَالْحَكَم، وَحَمَّاد، وَالشَّافِعِيّ، وَأَحْمَد، وَدَاوُد، وابْن الْمُنْذِر، وَغَيْرهمْ.

وَقَال أَبُو حَنِيفَة: يَصِحّ بَيْع الكِلَاب الَّتِي فِيهَا مَنفَعَة، وَتَجِب الْقِيمَة عَلَى مُتْلِفهَا. وَحَكَى ابْن الْمُنذِر عَن جَابِر، وَعَطَاء، وَالنَّخَعِيّ: جَوَاز بَيْع كَلْب الصَّيْد، دُون غَيْره. وَعَن مَالِك رِوَايَات:[إِحْدَاهَا]: لَا يَجُوز بَيْعه، وَلَكِنْ تَجِب الْقِيمَة عَلَى مُتْلِفه. [وَالثَّانِيَة]: يَصِحّ بَيْعه، وَتَجِب الْقِيمَة. [الثَّالِثَة]: لَا يَصِحّ، وَلَا تَجِب الْقِيمَة عَلَى مُتْلِفه.

دَلِيل الْجُمْهُور هَذِه الأَحَادِيث. وَأَمَّا الأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي النَّهْي عَن ثَمَن الْكَلْب، إِلَّا كَلْب صَيْد، وَفِي رِوَايَة:"إِلَّا كَلْبًا ضَارِيًا"، وَأَنَّ عُثْمَان غَرَّمَ إِنْسَانًا ثَمَن كَلْب، قَتَلَهُ عِشْرِينَ بَعِيرًا، وَعَنْ ابْن عَمْرو بْن العَاصِ: التَّغْرِيم فِي إِتْلَافه، فَكُلّهَا ضَعِيفَة باتِّفَاقِ أَئمَّة الْحَدِيث. انتهى كلام النوويّ

(1)

.

وَقَالَ فِي "الفتح": ما حاصله: ذهب الجمهور إلى تَحْرِيم بَيْع الكلب، وَهُوَ عَامّ فِي كُلّ كَلْب، مُعَلَّمًا كَانَ، أَوْ غَيْره، مِمَّا يَجُوز اقتِنَاؤُهُ، أَو لَا يَجُوز، وَمِنْ لَازم ذَلِكَ أنْ لَا قِيمَة عَلَى مُتْلِفه.

وَقَالَ مَالِك: لَا يَجُوزْ بَيْعه، وَتَجِب الْقِيمَة عَلَى مُتْلِفه، وَعَنهُ كَالْجُمْهُور، وَعَنْهُ كَقَولِ أَبِي حَنِيفَة: يَجُوز، وَتجِب الْقِيمَة. وَقَالَ عَطَاء، وَالنَّخَعِيِّ: يَجُوز بَيْع كَلْب الصَّيْد، دُون

(1)

"شرح مسلم" 10/ 477.

ص: 134

غَيْره. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ منْ حَدِيث ابْن عَبَّاس رضي الله تعالى عنهما، مَرْفُوعًا:"نَهَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، عَن ثَمَن الْكَلْب"، وَقَالَ:"إنْ جَاءَ يَطْلُب ثَمَن الْكَلْب، فَامْلَأْ كَفّه تُرَابًا". وِإسْنَاده صَحِيح. وَرَوَى أَيْضًا بِإِسْنَادٍ حَسَن، عَن أَبِي هُرَيرَة رضي الله تعالى عنه، مَرْفُوعًا:"لا يَحِلّ ثَمَن الْكَلْب، وَلَا حُلوَان الْكَاهِن، وَلَا مَهْر الْبَغِيّ".

وَالْعِلَّة فِي تَحْرِيم بَيعه عنْد الشَّافِعِيّ، نَجَاسَته مُطْلَقًا، وَهِيَ قَائِمَة فِي المُعَلَّم وَغَيْره، وَعِلَّة الْمَنْع عِنْد مَنْ لَا يَرَى نَجَاسَته، النَّهْيُ عَن اتِّخاذه، وَالأَمْر بِقَتْلِهِ، وَلِذَلِكَ خُصَّ مِنْهُ مَا أُذِنَ فِي اتِّخاذه. وَيَدُلّ عَلَيهِ حَدِيث جَابِر رضي الله تعالى عنه، الآتي فِي الباب التالي، قَالَ:"نَهى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، عَن ثَمَن السنّور، والْكَلْب، إِلَّا كَلْب صَيْد"، لكن سيأتي أن المصنّف ضعفه. وَقَد وَقَعَ فِي حَدِيث ابن عُمَر رضي الله تعالى عنهما، عِنْد ابْن أَبِي حَاتِم، بِلَفْظِ:"نَهَى عَنْ ثَمَن الْكَلْب، وَإنْ كَانَ ضَارِيًا"، يَعْني مِمَّا يَصِيدُ، وَسَنَده ضَعِيف، قَالَ أَبُو حَاتِم: هُوَ مُنْكَر، وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد:"نَهَى عَنْ ثَمَن الْكَلْب، وَقَالَ: طُعمَة جَاهِلِيَّة"، وَنَحْوه لِلطَّبَرَانِىِّ، مِنْ حَدِيث مَيْمُونَة بِنْت سَعْد

(1)

.

وَقَالَ القُرْطُبِيّ: مَشْهُور مَذْهَب مَالِك جَوَاز اتِّخاذ الْكَلْب، وَكَرَاهِيَة بَيْعه، وَلَا يُفْسَخ إنْ وَقَعَ، وَكَأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُن عِنْده نَجَسًا، وَأُذِنَ فِي اتِّخاذه لِمَنَافِعِهِ الْجَائِزَة، كَانَ حُكْمه حُكْم جَمِيع الْمَبِيعَات، لَكِنْ الشَّرْعُ نَهَى عَنْ بَيْعه تَنْزيهًا؛ لِأَنَّه لَيْسَ مِنْ مَكَارِم الأَخْلَاق، قَالَ: وأمَّا تَسْوِيَته فِي النَّهْي بَيْنه وَبَيْن مَهْر الْبَغِيّ، وَحُلوَان الكَاهِن، فَمَحْمُول عَلَى الْكَلْب الَّذِي لَمْ يُؤْذَن فِي اتِّخاذه، وَعَلَى تَقْدِير العُمُوم فِي كُلّ كَلْب، فَالنَّهْي فِي هَذِهِ الثَّلَاثَة فِي القَدْر المُشْتَرَك، منْ الكَرَاهَة أَعَمّ منْ التَّنْزِيه وَالتَّحْرِيم، إِذْ كلُّ وَاحِد مِنْهُمَا مَنْهِيٌّ عَنهُ، ثُمَّ تُؤْخَذ خُصُوصِيَّة كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا مِنْ دَلِيل آخَر، فَإِنَّا عَرَفْنَا تَحرِيم مَهْر الْبَغِيّ، وحُلْوان الْكَاهن مِنْ الإجْمَاع، لَا مِنْ مُجَرَّد النَّهْي، وَلَا يَلْزَم مِنْ الاشْتِرَاك فِي الْعَطْف، الاشْتِرَاك فِي جَمِيع الوُجُوه، إِذْ قَدْ يُعْطَف الأَمْر عَلَى النَّهْي، وَالإيْجَاب عَلَى النَّفْي. انتهى كلام القرطبيّ باختصار

(2)

.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا التفصيل الذي قاله القرطبيّ محلّ نظر، بل الذي يترجَّحُ عندي هو الذي عليه الجمهور، منْ تحريم بيع الكلب مطلقًا؛ لعموم النصّ، وعدم صحّة الاستثناء الذي فِي حديث جابر رضي الله تعالى عنه الآتي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): فِي حكم حلوان الكاهن، وبيان معناه:

(1)

"فتح" 5/ 179 - 180. "كتاب البيوع".

(2)

"المفهم" 4/ 443 - 444. "كتاب البيوع".

ص: 135

قَالَ النوويّ: قَالَ الْبَغَوِيُّ منْ أَصْحَابنَا، وَالْقَاضِي عِيَاض: أجْمَعَ المُسْلمُون عَلَى تَحْرِيم حُلْوَانِ الكَاهِن؛ لِأَنَّهُ عِوَض عَن مُحَرَّم؛ وَلِأَنَّه أَكَلَ الْمَال بِالبَاطِلِ، وَكَذَلِكَ أجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيم أُجرَة الْمُغَنِّيَة للْغِنَاء، وَالنَّائِحَة لِلنَّوْحِ. وأمَّا الَّذِي جَاءَ فِي غَيْر "صَحِيح مُسْلِم" منْ النَّهْي عَن كَسْب الإمَاء، فَالمُرَاد بِهِ كَسْبهنَّ بِالزِّنَا، وَشِبهِهِ، لَا بِالْغَزْلِ، وَالْخِيَاطَة، وَنَحْوهمَا.

وَقَالَ الخَطَّابِيّ: قَالَ ابْن الأَعْرَابِيّ: وَيُقَال حُلْوَانِ الْكَاهِن الشنع، والصِّهْميم

(1)

. قَالَ الخَطَّابِيّ: وَحُلْوان العَرَّاف أَيْضًا حَرَام. قَالَ: وَالفَرْق بَيْن الكَاهِن وَالعَرَّاف، أَنَّ الْكَاهِن إِنَّما يَتَعَاطَى الأَخْبَار عَن الْكَائِنَات فِي مُسْتَقبَل الزَّمَان، وَيدَّعي مَعْرِفَة الأَسْرَار، والعَرَّاف هُوَ الَّذِي يَدَّعِي مَعْرِفَة الشَّيْء الْمَسْروق، وَمَكَان الضَّالَّة، وَنَحْوهمَا منْ الأُمُور. هَكَذَا ذَكَرَهُ الخَطَّابِيّ فِي "مَعَالِم السُّنَن" فِي "كِتَاب البُيُوع"، ثُمَّ ذَكَرَهُ فِي آخِر الكِتَاب أَبْسَط منْ هَذَا فَقَالَ: إِنَّ الكَاهِن، هُوَ الَّذِي يَدَّعِي مُطَالَعَة عِلْم الْغَيْب، وَيُخْبِر النَّاس عَن الْكَوَائِن. قَالَ: وَكَانَ فِي العَرَب كَهَنَة، يَدَّعونَ أَنَّهمْ يَعرِفُونَ كَثِيرًا منْ الأُمُور، فَمِنْهُمْ: مَنْ يَزعُم أَنَّ لَهُ رُفَقَاء منْ الجِنّ، وَتَابِعَة تُلْقِي إِلَيْهِ الأَخْبَار، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ يَسْتَدِرْك الأُمُور بِفَهْمٍ أُعْطِيَهُ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يُسَمَّى عَرَّافًا، وَهُوَ الَّذِي يَزْعُم أَنَّهُ يَعْرِف الأُمُور بِمُقَدِّمَاتِ أسبَاَب، يُستَدَلّ بِها عَلَى مَوَاقِعهَا، كَالشَّيءِ يُسْرَق، فَيَعرف الْمَظْنُون بِهِ السَّرِقَةُ، وتُتَّهَم الْمَرأَةُ بِالرِّيبَةِ، فَيُعرَف مَن صَاحبُهَا، وَنَحْو ذَلِكَ منْ الأمُور. ومِنْهُم مَنْ كَانَ يُسَمِّي المُنَجِّمْ كَاهِنًا، قَالَ: وَحَدِيث النَّهْي عَن إِتْيَان الكُهَّان، يَشْتَمِل عَلَى النَّهْي عَن هَؤُلَاءِ كُلّهم، وَعَلَى النَّهْي عَن تَصْدِيقهمْ، وَالرُّجُوع إِلَى قَوْلهمْ، ومنْهُمْ مَنْ كَانَ يَدْعُو الطَّبِيب كَاهِنًا، وَرُبَّمَا سَمَّوهُ عَرَّافًا، فَهَذَا غَيْر دَاخِل فِي النَّهْي. هَذَا آخِر كَلَام الخَطَّابِيّ.

قَالَ الإمَام أَبُو الْحَسَنُ المَاوَرْدِيّ، منْ أَصْحَابنَا، فِي آخِر كِتَابه "الأَحْكَام السُّلطَانِيَّة": وَيَمْنَع الْمُحْتَسِب مَنْ يَكْتَسِب بِالْكِهَانَةِ، وَاللَّهْو، وَيُؤَدِّب عَلَيْهِ الآخِذَ وَالْمُعْطِي. وَالله أَعْلَم. انتهى كلام النوويّ

(2)

.

وَقَالَ فِي "الفتح": وَالْكَهَانَة -بِفَتْح الْكَاف، وَيَجُوز كَسْرهَا-: ادِّعَاء عِلْم الْغَيْب، كَالإخْبَارِ بِمَا سَيَقَعُ فِي الأَرْض، مَعَ الاسْتِنَاد إِلَى سَبَب، وَالأصْل فِيهَا اسْتِرَاق السَّمْع منْ كَلَام الْمَلائِكة، فَيُلْقِيه فِي أُذُن الكَاهِن. وَالْكَاهِنُ لَفْظ يُطْلَق عَلَى العَرَّاف، وَاَلَّذِي يَضْرِب بِالْحَصَى، والمُنَجِّم، وَيُطْلَق عَلَى مَنْ يَقُوم بأَمْرٍ آخَر، وَيَسْعَى فِي قَضَاء حَوَائِجه. وَقَالَ فِي "الْمُحْكَم": الكَاهِن الْقَاضِي بِالْغَيْبِ. وَقَالَ فِي "الْجَامِع": الْعَرَب

(1)

ذكر فِي "القاموس" الصِّهميم كقِندِيل، وذكر له معاني كثيرة، ومنها: حُلْوان الكاهن.

(2)

"شرح مسلم" 10/ 476 - 477.

ص: 136

تُسَمِّي كُلّ مَنْ آذَنَ بِشَيْءٍ قَبْل وُقُوعه كَاهِنًا. وَقَالَ الخَطَّابِيُّ: الكَهَنَة قَوْم، لَهُمْ أَذْهَان حَادَّة، وَنُفُوس شِرِّيرَة، وَطِبَاع نَارِيَّة، فَأَلِفَتْهُمْ الشَّيَاطِين؛ لِمَا بَيْنهمْ منْ التَّنَاسُب فِي هَذِهِ الأُمُور، وَسَاعَدَتهُمْ بِكُلِّ مَا تَصِل قُدْرَتهمْ إِلَيْهِ. وَكَانَتْ الْكَهَانَة فِي الجَاهِلِيَّة فَاشِيَة، خُصُوصًا فِي الْعرب؛ لانْقِطَاعِ النُّبُوَّة فِيهِمْ. وَهِيَ عَلَى أَصْنَاف:

[منْها]: مَا يَتَلَقَّوْنَهُ منْ الْجِنّ، فَإِن الجِنَّ كَانُوا يَصْعَدُونَ إِلَى جِهَة السَّمَاء، فَيَرْكَب بَعْضهمْ بَعْضًا، إِلَى أَنْ يَدْنُوَ الأَعْلَى، بِحَيثُ يَسْمَع الْكَلَام، فَيُلقِيه إِلَى الَّذِي يَلِيه، إِلَى أَنْ يَتَلَقَّاهُ مَنْ يُلْقِيه فِي أُذُن الْكَاهِن، فَيَزِيد فِيهِ، فَلَمَّا جَاءَ الإسْلَام، وَنَزَلَ الْقُرْآن، حُرِسَتْ السَّمَاء مِنْ الشَّيَاطِين، وَأُرْسِلَت عَلَيهِمْ الشُّهُب، فَبَقِيَ مِن اسْتِرَاقهمْ مَا يَتَخَطَّفهُ الْأَعلَى، فَيُلْقِيه إِلَى الْأَسْفَل، قَبْل أَنْ يُصِيبهُ الشِّهَاب، وإِلَى ذَلِكَ الْإشَارَة بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10]، وَكَانَتْ إِصَابَة الْكُهَّان قَبل الإسْلَام، كَثِيرَة جِدًّا، كَمَا جَاءَ فِي أَخْبَار شِقّ، وَسَطِيح، وَنَحْوهمَا، وَأمَّا فِي الْإسْلَام فَقَدْ نَدَرَ ذَلِكَ جِدًّا، حَتَّى كَادَ يَضْمَحِلّ، وَلِلَّهِ الْحَمْد.

[ثَانِيهَا]: مَا يُخْبِر الْجِنِّيُّ بِهِ مَن يُوَالِيه، بِمَا غَابَ عَن غَيْره، مِمَّا لَا يَطَّلِع عَلَيْهِ الْإنْسَان غَالِبًا، أَوْ يَطَّلِع عَلَيْهِ مَنْ قَرُبَ مِنْهُ، لَا مَنْ بَعُدَ. [ثَالِثهَا]: مَا يَسْتنِد إِلَى ظَنّ، وَتَخْمِين، وَحَدْس، وَهَذَا قَدْ يَجْعَل الله فِيهِ لِبَعْضِ النَّاس قُوَّة، مَعَ كَثْرَة الْكَذِب فِيهِ. [رَابِعهَا]: مَا يَسْتنِد إِلَى التَّجرِبَة وَالعَادَة، فَيَسْتَدِلُّ، عَلَى الْحَادِث بِمَا وَقَعَ قَبْل ذَلِكَ، وَمِنْ هَذَا القِسْم الأَخِير مَا يُضَاهِي السِّحْر، وَقَدْ يَعْتَضِد بَعْضهمْ فِي ذَلِكَ بالزَّجْرِ، وَالطَّرْق، وَالنُّجُوم، وَكُلّ ذَلِكَ مَذْمُوم شَرْعًا. وَوَرَدَ فِي ذَمّ الْكَهَانَة، مَا أَخْرَجَهُ أَصْحَاب "السُّنَن"، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِم، مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة، رَفَعَهُ:"مَنْ أَتَى كَاهِنًا، أَوْ عَرَّافًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُول، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّد"، وَلَهُ شَاهِد منْ حَدِيث جابِر، وَعِمْرَان ابْن حُصَيْنٍ، أَخْرَجَهُمَا الْبَزَّار، بِسَنَدَيْنِ جَيِّدَيْنِ، وَلَفْظهمَا:"مَنْ أَتَى كَاهِنًا"، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ حَدِيث امْرَأَة مِنْ أَزْوَاج النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَمِن الرُّوَاة مَنْ سَمَّاهَا حَفْصَة- بِلَفظِ:"مَنْ أَتَى عَرَّافاً"، وَأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى، منْ حَدِيث ابن مَسْعُود، بِسَنَدِ جَيِّد، لَكِنْ لَمْ يُصَرِّح بِرَفْعِهِ، وَمِثْله لَا يُقَال بِالرَّأْي، وَلَفْظه:"مَنْ أَتَى عَرَّافًا، أَوْ سَاحِرًا، أَو كَاهِنًا"، وَاتَّفَقَتْ أَلْفَاظهمْ عَلَى الوَعِيد، بِلَفْظِ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة، إِلَّا حَدِيث مُسْلِم، فَقَالَ فِيهِ:"لَمْ يُقبَل لَهُمَا صَلَاة أَرْبَعِينَ يَومًا". وَوَقَعَ عند الطَّبَرَانِيِّ منْ حَدِيث أَنَس، بِسَنَدٍ لَيِّن، مَرْفُوعًا: بِلَفْظِ: "مَنْ أَتَى كَاهِنًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُول، فَقَد بَرِىء مِمَّا أُنزلَ عَلَى مُحَمَّد، وَمَن أَتَاهُ غَير مُصَدِّق لَهُ، لَمْ تُقْبَل صَلَاته أَرْبَعِينَ يَوْمًا"، وَالأَحَادِيث، الأُوَل مَعَ صِحَّتهَا، وَكَثرَتَها أَوْلَى منْ هَذَا، وَالْوَعِيد جَاءَ تَارَة بِعَدَمِ قَبُول الصَّلَاة، وَتَارَة بِالتَّكْفِيرِ، فَيُحْمَل عَلَى حَالَيْنِ منْ

ص: 137

الآتِي، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ القُرْطُبِيّ.

والْعَرَّاف -بِفَتحِ المُهْمَلة، وَتَشْدِيد الرَّاء-: مَن يَسْتَخْرِج الوُقُوف عَلَى الْمَغِيبَات، بِضَرْبٍ منْ فِعْل، أَوْ قَوْل. انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4295 -

(أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْرُوفُ بْنُ سُوَيْدٍ الْجُذَامِيُّ، أَنَّ عُلَيَّ بْنَ رَبَاحٍ اللَّخْمِيَّ، حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَحِلُّ ثَمَنُ الْكَلْبِ، وَلَا حُلْوَانُ الْكَاهِنِ، وَلَا مَهْرُ الْبَغِيِّ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، غير:

1 -

(معروف بن سُويد الْجُذَاميّ) أبي سلمة البصريّ، مقبول [7].

روى عن عليّ بن رباح، ويزيد بن صُبح، وأبي عُشّانة المعافريّ، وأبي قَبِيل. وعنه ابن لهيعة، ورِشدين بن سعد، وابن وهب، وغيرهم. ذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ ابن يونس: تُوفي قبل الخمسين ومائة بيسير. تفرّد به المصنّف، وأبو داود، له عندهما هَذَا الحديث فقط.

و"عليّ بن رَباح اللَّخْميّ": هو أبو عبد الله المصريّ، ثقة، منْ صغار [3] 31/ 560 والمشهور فِي اسمه عُليّ بالتصغير، وكان يغضب منه. وشرح الحديث واضح. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه صحيح بشواهده، فإن أحاديث الباب تشهد له.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -15/ 4295 - وفي "الكبرى" 16/ 4804. وأخرجه (د) فِي "البيوع" 3484 (ق) فِي "التجارات" 2160. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4296 -

(أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "شَرُّ الْكَسْبِ مَهْرُ الْبَغِيِّ، وَثَمَنُ الْكَلْبِ، وَكَسْبُ الْحَجَّامِ").

(1)

"فتح" 11/ 378 - 379. "كتاب الطبّ" رقم الحديث 5762.

ص: 138

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، غير "شعيب بن يوسف" أبي عمرو النسائيّ، فإنه منْ أفراد المصنّف، وهو ثقة [10] 42/ 49.

و"يحيى": هو ابن سعيد القطّان. و"محمد بن يوسف": هو الكنديّ المدنيّ الأعرج، ثقة ثبتٌ [5] 123/ 183. و"السائب بن يزيد": هو المذكور قبل بابين.

وقوله: "شرّ الكسب مهر البغيّ": وفي حَدِيث أَبِي هُرَيْرة رضي الله تعالى عنه عند البخاريّ: "نَهى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، عَن كَسْب الإِمَاء"، زَادَ أَبُو دَاوُدَ، مِنْ حَدِيث رَافِع بن خَدِيج:"نَهَى عَن كَسْب الْأَمَة، حَتى يُعْلَم منْ أَيْنَ هُوَ؟ "، فَعُرِفَ بِذَلِكَ النَّهْيُ، وَالمُرَاد بِهِ كَسْبهَا بالزِّنا، لَا بِالعَمَلِ الْمُبَاح. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا، مِنْ حَدِيث رِفَاعَة بْن رَافِع، مَرْفُوعًا:"نَهَى عَن كَسْب الأَمَة، إِلَّا مَا عَمِلَت بِيَدِهَا"، وَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ، نَحْو الْغَزْل، وَالنَّفْش -وَهُوَ بِالْفَاءِ- أَي نَتْف الصُّوف. وَقِيلَ: المُرَاد بِكَسْب الأَمَة جَمِيع كَسْبهَا، وَهُوَ منْ بَاب سَدّ الذَّرَائِع؛ لِأَنَّهَا لَا تُؤْمَن، إِذَا أُلْزِمَت بِالْكَسْبَ، أنْ تَكْسِب بِفَرْجِهَا، فَالْمَعْنَى أَنْ لَا يُجْعَل عَلَيْهَا خَرَاجٌ مَعْلُوم، تُؤَدِّيه كُلّ يَوْم. قاله فِي "الفتح".

وقوله: "وكسب الحجّام": وفي حديث أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه عند البخاريّ: "نهى عن ثَمَن الدَّم"، وَاخْتُلِفَ فِي المُرَاد بِهِ، فَقِيلَ: أُجْرَة الْحِجَامَة، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى ظَاهِره، وَالمُرَاد تَحرِيم بَيْع الدَّم، كَمَا حُرِّمَ بَيع المَيْتَة وَالْخِنْزِير، وَهُوَ حَرَام إِجْماعًا، أَعْنِي بَيْع الدَّم، وَأَخْذ ثَمَنه.

وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي أجرة الحجّام، فَذَهَبَ الجُمهور إِلَى أَنَّهُ حَلَال، وَاحْتَجُّوا بِحديث "احتجم النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، وأعطى الحجام أجره"، متّفقٌ عليه، فقد قَالَ ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما:"احتجم النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، وأعطى الحجام أجره، ولو علم كراهيةً لم يُعطه". رواه البخاريّ. وَقَالُوا: هُوَ كَسْب، فِيهِ دَنَاءَة، وَلَيْسَ بِمُحَرَّم، فَحمَلُوا الزَّجْر عَنهُ عَلَى التَّنزِيه.

وَمِنْهُمْ مَنْ ادَّعَى النَّسْخ، وَأَنَّهُ كَانَ حَرَامًا، ثُمَّ أُبِيحَ، وَجَنَحَ إِلَى ذَلِكَ الطَّحَاوِيُّ، وَالنَّسْخ لَا يَثْبُت بِالِاحْتِمَالِ.

وَذَهَبَ أَحْمَد، وَجَمَاعَة إِلَى الْفَرْق بَين الحُرّ وَالْعَبْد، فَكَرِهُوا لِلْحُرِّ؛ الاحْتِرَاف بِالْحِجَامَةِ، وَيحْرُم عَلَيهِ الإِنْفَاق عَلَى نَفْسه مِنْهَا، وَيجُوز لَهُ الإنْفَاق عَلَى الرَّقِيق، وَالدَّوابّ مِنْهَا، وَأبَاحُوهَا لِلْعَبدِ مُطْلَقًا، وَعُمْدَتهمْ حَدِيث مُحَيِّصَةَ، أَنَّهُ "سَأَلَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَن كَسْب الْحَجَّام؟ فَنَهَاهُ، فَذَكَر لَهُ الحَاجَة، فَقَالَ: اعْلِفْهُ نَوَاضِحك"، أَخْرَجَهُ مَالِك، وَأَحْمَد، وَأَصْحَاب "السُّنَن"، وَرِجَاله ثِقَات.

وَذَكَرَ ابْن الْجَوْزِيّ، أَن أَجْر الْحَجَّام إِنَّمَا كُرِهَ؛ لِأَنَّه مِنْ الأَشْيَاء الَّتِي تَجِب لِلْمُسْلِمِ

ص: 139

عَلَى الْمُسْلم إِعَانَة لَهُ، عند الاحْتِيَاج لَهُ، فَمَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَأْخُذ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا.

وَجَمَعَ ابْن الْعَرَبِيّ بين قَوْله صلى الله عليه وسلم: "كَسْب الحَجَّام خَبِيث"، وَبَيْن إِعْطَائِهِ الْحَجَّام أُجْرَته، بِأنَّ مَحَلّ الجَوَاز، مَا إِذَا كَانَت الأُجْرَة عَلَى عَمَل مَعْلُوم، ويُحْمَل الزَّجْر عَلَى مَا إِذَا كَانَ عَلَى عَمَل مَجْهُول. ذكره فِي "الفتح"

(1)

.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الجمهور منْ حمل النهي عَلَى التنزيه هو الأرجح؛ لما تقدّم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وتمام شرح الحديث يُعلم مما سبق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث رافع بن خَدِيج رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -15/ 4296 - وفي "الكبرى" 16/ 4805. وأخرجه (م) فِي "البيوع" 2931 و2932 (د) فِي "البيوع" 3421 (ت) فِي "البيوع" 1275 (أحمد) فِي "مسند المكيين" 15385 و15400 و"مسند الشاميين" 16808 و16817 (الدارمي) فِي "البيوع" 2621. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌16 - (الرُّخْصَةِ فِي ثَمَنِ الْكَلْبِ)

4297 -

(أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ الْمِقْسَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"نَهَى عَنْ ثَمَنِ السِّنَّوْرِ، وَالْكَلْبِ، إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ".

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَحَدِيثُ حَجَّاجٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، لَيْسَ هُوَ بِصَحِيحٍ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "إبراهيم بن الحسن المِقْسميّ": هو أبو إسحَاق

(1)

"فتح" 5/ 221 - 222. "كتاب الإجارة" رقم 2278.

ص: 140

المصّيصيّ، ثقة [11] 51/ 64. و"حجاج بن محمد": هو المصّيصيّ الأعور. و"أبو الزبير": هو محمد بن مسلم بن تدرس.

وقوله: "عن ثمن السّنّور" -بكسر السين المهملة، وتشديد النون، وسكون الواو، آخره راء-: الهِرّ، والأنثى سِنَّوْرة. قَالَ ابن الأنباريّ: وهما قليل فِي كلام العرب، والأكثر أن يقال: هِرٌّ، وضَيْوَنٌ، والجمع سَنَانير. ذكره الفيّوميّ.

وقوله (قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أي النسائيّ رحمه الله تعالى (وَحَدِيثُ حَجَّاجٍ) بن محمد الأعور (عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، لَيْسَ هُوَ بِصَحِيحٍ) وفي الرواية الآتية فِي "البيوع": قَالَ أبو عبد الرحمن: هَذَا منكر. انتهى.

وإنما ضعّفه المصنّف رحمه الله تعالى؛ لتفرّد حماد بن سلمة بذكر الاستثناء، فقد أخرج الحديث مسلم رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" منْ طريق الحسن بن أعين، عن معقل بن عُبيد الله، عن أبي الزبير، بدون ذكر الاستثناء، ولفظه: قَالَ: سألت جابرًا عن ثمن الكلب والسنّور؟ قَالَ: زجر النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك. انتهى، فقد خالف حمادًا معقلُ بن عبيد الله، وأخرج الحديث أبو داود، والترمذيّ منْ طريق الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر رضي الله تعالى عنه، بدون ذكرِ الاستثناء، ولفظه:"أن النبيّ، وفي رواية أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم نَهَى عن ثمن الكلب، والسنّور"، فتبين بهذ أن المحفوظ منْ حديث جابر رضي الله تعالى عنه عدم ذكر الاستثناء.

[فإن قلت]: لم ينفرد حماد بن سلمة، فقد أخرجه أحمد فِي "مسنده" منْ طريق الحسن بن أبي جعفر، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قَالَ:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن ثمن الكلب، إلا الكلب المعلم".

[قلت]: هذه المتابعة لا تنفع شيئاً؛ لأن الحسن بن أبي جعفر ضعّفه الأئمة، فقد ضعّفه أحمد، وفي رواية تركه، وَقَالَ ابن المدينيّ: يَهِمُ فِي الحديث، وَقَالَ البخاريّ: منكر الحديث، وَقَالَ أبو داود: ضعيف، وَقَالَ أبو زرعة الرازيّ: ليس بالقويّ فِي الحديث. وَقَالَ فِي "التقريب": ضعيف الحديث، مع عبادته وفضله.

والحاصل أن حديث جابر رضي الله تعالى عنه هَذَا بذكر استثناء كلب الصيد ضعيف

(1)

؛ لما ذكرنا، وبدونها صحيح، كما أخرجه مسلم فِي "صحيحه"، و"أبو داود فِي "سننه"، والترمذيّ فِي "جامعه". والله تعالى أعلم.

(1)

وَقَدْ صححه الشيخ الألباني فِي "صحيح النسائيّ"، ولم يذكر مستنده، والله تعالى أعلم.

ص: 141

[تنبيه]: قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى فِي "شرح مسلم": وأَمَّا النَّهْي عَن ثَمَن السِّنَّوْر، فَهُوَ مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ لَا يَنفَع، أَوْ عَلَى أَنَّهُ نَهي تَنزِيه، حَتَّى يَعتَاد النَّاس هِبَته، وِإعَارَته، وَالسَّمَاحَة بِهِ، كَمَا هُوَ الغَالِب. فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَنْفَع، وَبَاعَهُ صَحَّ البَيْع، وَكَانَ ثَمَنه حَلَالاً. هَذَا مَذهَبنَا، وَمَذهَب العُلَمَاء كَافَّة، إِلَّا مَا حَكَى ابْن المُنذِر عَن أَبِي هُرَيْرة، وَطَاوُسِ، وَمُجَاهِد، وَجَابِر بن زَيد، أَنَّهُ لَا يَجُوز بَيعه، وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ. وَأَجَابَ الْجُمْهور عَنْهُ، بِأنَّه مَحْمُول عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَهَذَا هُوَ الْجَوَاب المُعتَمَد.

وأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الخَطَّابِيّ، وَأَبُو عُمَر بْن عَبْد البَرّ، منْ أنَّ الْحَديث فِي النَّهْي عَنهُ ضعِيف، فَلَيْسَ كَمَا قَالَا، بَلْ الْحَديث صَحِيح، رَوَاهُ مُسْلِم وَغَيره. وَقَول ابن عبد البرّّ: إِنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ عَن أَبِي الزُّبَير غَيْر حَمَّاد بن سَلَمَة غَلَط مِنْهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مُسْلِمًا قَد رَوَاهُ فِي "صَحِيحه" كَمَا تَرَى منْ رِوَايَة مَعقِل بن عُبَيْد الله، عَنْ أَبِي الزُّبَير، فَهَذَانِ ثِقَتَانِ رَوَيَاهُ عَن أَبِي الزُّبَير، وَهُوَ ثِقَةٌ أَيْضًا. وَالله أَعْلَم. انتهى

(1)

.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: بل رواه أيضًا عن جابر أبو سفيان/ طلحة بن نافع عند أبي داود، والترمذيّ، كما تقدّم.

وعندي أن ما ذهب إليه أبو هريرة، وطاوس، ومجاهد، وجابر بن زيد منْ عدم جواز بيعه أرجح، لصحة حديث جابر المذكور. والله تعالى أعلم.

وهَذَا الحديث بذكر الاستثناء منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى أخرجه هنا -16/ 4297 وفي "البيوع" 91/ 4668 - وفي "الكبرى" 17/ 4806 و93/ 6264. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4298 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَوَاءٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي كِلَابًا مُكَلَّبَةً فَأَفْتِنِي فِيهَا؟. قَالَ: "مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ كِلَابُكَ فَكُلْ"، قُلْتُ: وَإِنْ قَتَلْنَ؟ قَالَ: "وَإِنْ قَتَلْنَ"، قَالَ: أَفْتِنِي فِي قَوْسِي؟ قَالَ: "مَا رَدَّ عَلَيْكَ سَهْمُكَ فَكُلْ"، قَالَ: وَإِنْ تَغَيَّبَ عَلَيَّ؟ قَالَ: "وَإِنْ تَغَيَّبَ عَلَيْكَ، مَا لَمْ تَجِدْ فِيهِ أَثَرَ سَهْمٍ، غَيْرَ سَهْمِكَ، أَوْ تَجِدْهُ قَدْ صَلَّ" -يَعْنِي قَدْ أَنْتَنَ- قَالَ ابْنُ سَوَاءٍ: وَسَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي مَالِكٍ، عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الأَخْنَسِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: كَانَ الأَولى للمصنّف رحمه الله تعالى أن يترجم

(1)

"شرح مسلم" 10/ 477 - 478.

ص: 142

هنا، كما فعل فِي "الكبرى"، حيث ترجم فيها بقوله:"باب رمي الصيد"، وذلك لأن هَذَا الحديث لا يطابق الترجمة السابقة، فتأمّل، والله تعالى أعلم.

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(عمرو بن علي) الفلّاس الصيرفي البصريّ، ثقة ثبت [10] 4/ 4.

2 -

(ابن سواء) هو محمد بن سواء -بتخفيف الواو، والمدّ- السدوسيّ الْعَنبريّ، أبو الخطاب البصريّ المكفوف، صدوقٌ، رُمي بالقدر [9] 78/ 1993.

3 -

(سعيد) بن أبي عروبة مهران، أبو النضر البصريّ، ثقة ثبت، يدلس، واختلط بآخره [6] 34/ 38.

4 -

(أبو مالك) عبيد الله بن الأخنس النخعيّ الْخَزّاز -بمعجمات- الكوفيّ، صدوق، قَالَ ابن حبّان: كَانَ يُخطىء كثيرًا [7] 32/ 1686.

5 -

(عمرو بن شعيب) المدنيّ، أو الطائفي، صدوق [5] 105/ 140.

6 -

(أبوه) شعيب بن محمد الطائفي، صدوق [3] 105/ 145.

7 -

(جده) عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما 89/ 111. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم موثّقون. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى سعيد، وعبيد الله كوفيّ، والباقون طائفيون. (ومنها): أن فيه رواية الراوي عن أبيه عن جده، وتابعي عن تابعيّ. (ومنها): أنه اختُلف فِي الاحتجاج بعمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده، والأصح صحة الاحتجاج به، وَقَدْ تقدم غير مرّة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ) شعيب بن محمد (عَن جَدِّهِ) الأصحّ أن الضمير لشعيب، أي عن جدّ شعيب، وهو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ رَجُلاً) هَذَا الرجل هو أبو ثعلبة الْخَشَنيّ رضي الله تعالى عنه، فقد جاء مبيّنًا فِي رواية أحمد فِي "مسنده" منْ طريق عبد الوارث بن سعيد، وأبي داود منْ طريق يزيد بن زُريع، كلاهما عن حبيب المعلّم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن أعرابيا، يقال له: أبو ثعلبة، قَالَ: يا رسول الله، إن لي كلابا مُكَلَّبةً، فأفتني فِي صيدها؟ فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن كَانَ لك كلاب مكلبة، فكل مما أمسكن عليك"، قَالَ ذَكِيًا أو غير

ص: 143

ذَكِيّ؟، قَالَ:"نعم"، قَالَ: فإن أكل منه؟ قَالَ: "وإن أَكَلَ منه؟ "، فَقَالَ: يا رسول الله، أفتني فِي قوسي؟، قَالَ:"كُلْ ما ردت عليك قوسك"، قَالَ: ذَكِيًا، أو غير ذكي؟ قَالَ: وإن تغيب عني؟ قَالَ: "وإن تغيب عنك، ما لم يَصِلَّ، أو تجد فيه أثراً غير سهمك"، قَالَ: أفتني فِي آنية المجوس إن اضطررنا إليها؟ قَالَ: "اغسلها، وكُلْ فيها". وَقَدْ تقدّمت قصّة أبي ثعلبة عند المصنّف فِي -4/ 4268 - منْ رواية أبي إدريس الخولانيّ، عنه (أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي كِلَابًا مُكَلَّبَةً) -بتشديد اللام-: اسم مفعول منْ كلّبته تكليبًا: إذا علّمته الصيد. قاله الفيّوميّ. وَقَالَ ابن الأثير: الْمُكَلَّبةُ: هي المسلَّطة عَلَى الصيد المعَوَّدة بالاصطياد، والتي قد ضَرِيت به. انتهى

(1)

(فَأَفْتِنِي فِيهَا؟) بفتح الهمزة، منْ الإفتاء رباعيًّا: يقال: أفتى العالم: إذا بيّن الحكم. قاله الفيّومي. والمعنى هنا: بيّن لي حكمها (قَالَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ كِلَابُكَ فَكُلْ) الأمر فيه للإباحة (قُلْتُ: وَإِنْ قَتَلْنَ؟) جواب "إن" دلّ عليه ما قبله: أي يؤكل؟ " (قالَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (وَإِنْ قَتَلْنَ) أي يؤكل (قَالَ) ذلك الرجل (أَفْتِنِي فِي قَوْسِي؟) أي أفتني فِي حكم ما اصطدته بقوسي (قالَ: "مَا رَدَّ عَلَيْكَ سَهْمُكَ فَكُلْ"، قالَ: وَإِن تَغيَّبَ عَلَيَّ؟ قالَ: "وَإِنْ تَغَيَّبَ عَلَيْكَ مَا لَمْ تَجِدْ فِيهِ أَثَرَ سَهْمٍ غَيْرَ سَهْمِكَ) بجرّ "غير" صفة لـ"سهم"(أَوْ تَجِدْهُ قَدْ صَلَّ) -بتشديد اللام- يقال: صلّ اللحم، صُلُولاً، باب قعد: إذا أنتن، كأصلّ بالهمز، لغتان. وقوله (يَعْنِي قَدْ أَنْتَنَ) تفسير منْ بعض الرواة، ولم يتبيّن لي منْ هو؟ (قَالَ) محمد (ابْنُ سَوَاءٍ: وَسَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي مَالِكٍ، عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الأَخْنَسِ) بالجرّ بدل منْ أبي مالك (عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) والمعنى: أن محمد بن سواء سمع هَذَا الحديث منْ أبي مالك مباشرة، كما سمعه بواسطة سعيد بن أبي عروبة، عنه، والظاهر أنه سمعه أوّلاً عن سعيد، عنه، ثم لقيه، فسمعه منه، ويحتمل أن يكون سمعه منْ أبي مالك أولاً، ثم ثبّته سعيد بعد ذلك، وهذا كثير فِي روايات الثقات، ولا يضرّ ذلك بصحة الحديث. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح، ولم ينفرد به عبيد الله ابن الأخنس، عن عمرو، بل تابعه حبيبٌ المعلّم، عن عمرو، كما تقدّم فِي رواية

(1)

"النهاية" 4/ 195.

ص: 144

أحمد، وأبي داود. والله تعالى أعلم،

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -16/ 4298 و"البيوع" 4670 - وفي "الكبرى" وأخرجه (د) فِي "الصيد" 2857 (أحمد) فِي "مسند المكثرين"6686. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): جواز الصيد بالكلاب المعلّمة. (ومنها): جواز أكل الصيد الذي قتله الكلب، ولا يشترط إدراكه، وذبحه. (ومنها): جواز الاصطياد بالقوس، ونحوها، مما هو محددٌ، يقتل بحدّه. (ومنها): جواز أكل الصيد الذي غاب عن صاحبه بعد أن أصابه بسهمه، إذا لم يجد فيه أثر سهم غير سهمه، وسيأتي اختلاف العلماء فِي مسألة الصيد الذي يغيب عن صاحبه، بعد بابين، إن شاء الله تعالى. (ومنها): أن ظاهر هَذَا الحديث يدلّ عَلَى عدم أكل الصيد الذي غاب، إذا وجده بعد أن أنتن، وفيه اختلافٌ بين العلماء، سيأتي تحقيقه بعد ثلاثة أبواب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌17 - (الإِنْسِيَّةُ تَسْتَوْحِشُ)

أي هَذَا ذكر الحديث الدّالّ عَلَى حكم البهائم الإنسيّة تستوحش: أي تصير وحشيّةً، أي التي لا تألَفُ البيوت بعد أن كانت آلفة لها.

قَالَ ابن الأثير رحمه الله تعالى: وفي الحديث: "نَهَى عن الحمر الإنسية يوم خيبر" يعني التي تألف البيوت، والمشهور فيها كسر الهمزة، منسوبة إلى الإنس، وهم بنو آدم، الواحد إنسيّ، وفي كتاب أبي موسى ما يدلّ عَلَى أن الهمزة مضمومة، فإنه قَالَ: هي التي تألَف البيوت، والأُنسُ، وهو ضدّ الوحشة، والمشهور فِي ضدّ الوحشة الأُنسُ بالضمّ، وَقَدْ جاء فيه الكسر قليلاً. قَالَ: ورواه بعضهم بفتح الهمزة والنون، وليس بشيء. قَالَ ابن الأثير: إن أراد أن الفتح غير معروف فِي الرواية، فيجوز، وإن أراد أنه ليس بمعروف فِي اللغة فلا، فإنه مصدر أَنِست به آنَسُ أَنَسًا، وأَنَسَةً. انتهى كلام ابن الأثير

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب.

(1)

"النهاية" 1/ 74 - 75.

ص: 145

4299 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي ذِي الْحُلَيْفَةِ، مِنْ تِهَامَةَ، فَأَصَابُوا إِبِلاً وَغَنَمًا، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي أُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ، فَعَجَّلَ أَوَّلُهُمْ، فَذَبَحُوا، وَنَصَبُوا الْقُدُورَ، فَدُفِعَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ بِالْقُدُورِ، فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ قَسَّمَ بَيْنَهُمْ، فَعَدَلَ عَشْرًا مِنَ الشَّاءِ بِبَعِيرٍ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ نَدَّ بَعِيرٌ، وَلَيْسَ فِي الْقَوْمِ إِلاَّ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ، فَطَلَبُوهُ، فَأَعْيَاهُمْ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ، فَحَبَسَهُ اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ، كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا، فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(أحمد بن سليمان) أبو الحسين الروهاويّ الثقة الحافظ [11] 38/ 42.

2 -

(حسين بن عليّ) الجعفيّ الكوفيّ الثقة العابد المقرىء [9] 74/ 91.

3 -

(زائدة) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصلت الكوفيّ، ثقة ثبت [74/ 91.

4 -

(سعيد بن مسروق) بن حبيب الثوريّ، والد سفيان، ثقة [6] 153/ 1121.

5 -

(عباية بن رفاعة) الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو رفاعة المدنيّ، ثقة [3] 9/ 3116.

6 -

(رافع بن خَدِيج) الحارثيّ الأوسيّ الأنصاريّ، صحابيّ جليلٌ، أولُ مشاهده أُحدٌ، ثم الخندق، مات سنة (3) أو (74) وقيل: قبل ذلك 112/ 155. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيحين غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين إلى سعيد بن مسروق، غير شيخه، فرُهاويّ، ورفاعة، ورافع مدنيان. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ) هُوَ الثَّوريّ الكوفيّ وَالِد سُفيَان، قَالَ فِي "الفتح": وَمَدَارُ هَذَا الْحَديث فِي "الصَّحِيحَينِ" عَلَيْهِ (عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ) -بِفَتح عين عَباية، وَتَخفِيف المُوَحَّدَةِ، وَبَعْدها أَلِف تَحْتَانِيَّة (عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ) وفي رواية البخَاريّ:"عن جدّه رافع ابن خَدِيج"، قَالَ فِي "الفتح": كَذَا قَالَ أَكْثَر أَصْحَاب سَعِيد بْن مَسْرُوق عَنْهُ

(1)

، وَقَالَ

(1)

فقد رواه عن سعيد بإسقاط "عن أبيه" سبعة منْ الحفاظ، وهم: ولد سفيان الثوريّ عند البخاريّ، وولده الآخر عمر بن سعيد عند مسلم وغيره، وأبو عوانة عند البخاريّ، وشعبة بن الحجاج =

ص: 146

أَبُو الأحْوَص: "عَن سَعِيد، عَن عَبَايَة، عَن أَبيهِ، عَن جَدّه" وَلَيْسَ لِرِفَاعَة بن رَافِع ذِكْر فِي كُتُب الأقْدَمِينَ، مِمَّن صَنَّفَ فِي الرِّجَال

(1)

، وإنَّمَا ذَكَرُوا وَلَده عَبَايَة بْن رِفَاعَة، نَعَمْ ذَكَرَهُ ابن حِبَّان فِي ثِقَات التَّابِعِينَ، وَقَالَ: إِنَّه يُكْنَى أَبَا خَدِيج، وَتَابَعَ أَبَا الأحْوَص عَلَى زِيَادَته فِي الإسْنَاد حَسَّان بنُ إِبرَاهِيم الْكَرْمانيُّ، عَن سَعِيد بن مَسْرُوق، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ منْ طَرِيقه، وَهَكَذَا رَوَاهُ لَيْث بْن أَبِي سُلَيْم، عَن أَبِي سُلَيْم، عَن عَبَايَة، عَن أَبِيهِ، عَن جَدِّه. قَالَهُ الدَّارَقُطنِيّ فِي "الْعِلَل"، قَالَ: وَكَذَا قَالَ مُبَارَكُ بْنُ سَعِيد الثَّوْرِيّ، عَنْ أَبِيهِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الطَّبَرَانِيّ أَخْرَجَه مِنْ طَرِيق مُبَارَك، فَلَم يَقُلْ فِي الإسْنَاد:"عَنْ أَبِيهِ"، فَلَعَلَّهُ اخْتُلِفَ عَلَى المُبَارَك فِيهِ، فَإِنَّ الدَّارَقُطنِيّ لَا يَتَكَلَّم فِي هَذَا الْفَنّ جِزَافًا، وَرِوَايَة لَيْث بْن أَبِي سُلَيْمٍ عْند الطَّبَرَانِيّ، وَقَد أَغْفَلَ الدَّارَقُطنِيُّ ذِكر طَرِيق حَسَّان بن إِبْرَاهِيم، قَالَ الجَيَّانِيّ: رَوَى البُخاريُّ حَدِيث رَافِع مِنْ طَرِيق أَبِي الأحْوَص، فَقَالَ:"عَنْ سَعِيد بْن مَسْرُوق، عَن عَبَايَة بْن رَافِع، عَن أَبيهِ، عَن جَدّه"، هَكَذَا عند أَكْثَر الرُّوَاة، وَسَقَطَ قَوْله:"عَن أَبِيهِ" فِي رِوَايَة أَبِي عَليّ بْن السَّكَن، عند الفَرَبْرِيّ وَحْده، وَأَظُنُّهُ منْ إِصْلَاح ابْن السَّكَن، فَإِنَّ ابن أَبِي شَيْبَة، أخْرَجَهُ عَن أَبِي الأحْوَص، بإثْبَاتِ قَوْله:"عَن أَبِيهِ"، ثمَّ قَالَ أَبُو بَكْر: لَمْ يَقُلْ أحَد فِي هَذَا السَّنَد "عَن أبِيهِ" غَيْرُ أَبِي الأحْوَص. انتهى. وَقَدْ تقَدَّم آنفًا منْ تَابَعَ أَبَا الأحْوَص عَلَى ذَلِكَ، فلا تغفل.

ثمَّ نَقَلَ الجَيَّانيّ، عَن عَبْد الغَنِيّ بْن سَعِيد، حَافِظ مِصْر، أَنَّهُ قَالَ: خَرَّجَ البُخَاريُّ هَذَا الْحَديث، عَنْ مُسَدَّد، عَن أَبِي الأحْوَص عَلَى الصَّوَاب، يَعْني بِإسْقَاطِ "عَن أَبيهِ"، قَالَ: وَهُوَ أَصْلٌ يَعْمَل بِهِ مَنْ بَعْد البُخَاريّ، إِذَا وَقَعِ فِي الْحَدِيث خَطَأٌ، لَا يُعَوَّل عَلَيْهِ، قَالَ: وَإِنَّمَا يَحْسُن هَذَا فِي النَّقْص، دُون الزِّيَادَة، فيُحْذَف الخَطَأ. قَالَ الجَيَّانيُّ: وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ عَبْد الغَنِيّ عَلَى مَا وَقَعَ فِي رِوَايَة ابن السَّكَن، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ مِن عَمَلِ البُخَاريّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِمَا بَيَّنَّا أنَّ الأَكْثَر رَوَوْهُ عَن البُخَاريّ بإِثبَاتِ قَوله:"عَنْ أَبيهِ". انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهرَ لي أن رواية أبي الَأحوص بزيادة "عن أبيه" غير محفوظة؛ لمخالفته الحفاظ الذين رووه عن سعيد بن مسروق، بدونها، فقد رواه عن سعيد سبعة منْ الحفاظ، وهم: ولده سفيان الثوريّ عند البخاريّ 2507

= عند البخاريّ، ومسلم، وغيرهما، وعمر بن عُبيد الطنافسي عند البخاريّ، وإسماعيل بن مسلم العبدي عد مسلم، وزائدة بن قدامة عند مسلم وغيره. انظر ما كتبه بشار عواد، وشعيب الأرنؤط عَلَى "التقريب" ج 1/ ص 402 - 403.

(1)

انتقد بعضهم عَلَى الحافظ هَذَا الكلام، فَقَالَ: ما ملخصه: بل ترجمه ابن سعد فِي "الطبقات" 5/ 257 وخليفة بن خياط فِي "طبقاته" 250 وابن أبي حاتم فِي "الجرح والتعديل". انتهى.

ص: 147

و5506 و5509 ومسلم 1968 (20) و (21) وغيرهما، وولده الآخر عمر بن سعيد عند مسلم 1968 (22) وغيره، وأبو عوانة عند البخاريّ 2488 و3075 و5498، وشعبة بن الحجاج عند البخاريّ 5503، ومسلم 1968، وغيرهما، وعمر بن عُبيد الطنافسي عند البخاريّ 5544، وإسماعيل بن مسلم العبدي عند مسلم 1668، وزائدة ابن قدامة عند مسلم 1968 (22) وغيره. انظر ما كتبه بشار عواد، وشعيب الأرنؤط عَلَى "التقريب" ج 1/ ص 402 - 403.

والحاصل أن الرواية المحفوظة هي رواية هؤلاء الجماعة عن سعيد بن مسروق، عن عباية بن رفاعة، عن رافع بن خديج، كما هي رواية المصنّف هنا. والله تعالى أعلم.

(قَالَ) رافع رضي الله تعالى عنه (بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذِي الْحُلَيْفَةِ) هو مكان غير ميقات أهل المدينة؛ لأن الميقات فِي طريق الذاهب منْ المدينة، ومن الشام إلى مكة، وهذه بالقرب منْ ذات عرق، بين الطائف ومكة، وكذا جزم به أبو بكر الحازميّ، وياقوت. ووقع للقابسيّ أنها الميقات المشهور، وَكَذَا ذَكَرَ النَّوَوِيّ، قَالُوا: وَكَانَ ذَلِكَ عند رُجُوعهمْ منْ الطَّائِف، سَنَة ثَمَانٍ. قاله فِي "الفتح".

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا عزاه فِي "الفتح" إلى النوويّ، والذي ذكره فِي شرحه عَلَى مسلم هو الأول، ونصه: قَالَ العلماء: ذو الحليفة هذه مكان منْ تهامة بين حاذة

(1)

وذات عرق، وليست بذي الحليفة التي هي ميقات أهل المدينة. هكذا ذكره الحازميّ، فِي كتابه "المؤتلف، فِي أسماء الأماكن"، لكنه قَالَ:"الحليفة" منْ غير لفظ "ذي"، والذي فِي "صحيح البخاريّ ومسلم""بذي الحليفة"، فكأنه يقال: بالوجهين. انتهى

(2)

.

(مِنْ تِهَامَةَ) اسم لِكُلِّ مَا نَزَلَ منْ بلاد الحِجَاز، سُمِّيَت بذَلِك؛ منْ التَّهَم -بِفَتح المُثَنَّاة وَالهَاء- وَهُوَ شِدَّة الحَرّ، وَرُكُود الرِّيح. وَقِيلَ: تَغَيُّر الهَوَاء. قاله فِي "الفتح". وَقَالَ الفيّوميّ: تَهِمَ البنُ، واللحمُ تَهمًا، منْ باب تَعِبَ: تغيّر، وأنتن، وتَهِمَ الحرُّ: اشتدَّ مع رُكُود الريح، ويقال: إنّ تهامة مُشتقّةٌ منْ الأوَّل؛ لأنها انخفضت عن نجد، فتغيّرت ريحها، ويُقال: منْ المعنى الثاني؛ لشدّة حرّها، وهي أرضٌ أوَّلُها ذات عِرْقٍ منْ قِبَل نجد إلى مكة، وما وراءها بمرحلتين، أو أكثر، ثمّ تتّصل بالغَوْر، وتأخذ إلى البحر، ويقال: إن تهامة تتصل بأرض اليمن، وإنّ مكة منْ تهامة اليمن، والنسبة إليها تَهَاميّ، وتَهام أيضًا -بالفتح- وهو منْ تغييرات النسب. قَالَ الأزهريّ: رجلٌ تَهَامٍ، وامرأةٌ تَهَامِيَةٌ، مثلُ رَبَاعٍ ورَبَاعِيَةٍ. انتهى كلام الفيّوميّ.

(1)

هكذا نسخة النوويّ، ولم أجد له معنى، فليُحرّر.

(2)

"شرح مسلم" 13/ 128.

ص: 148

(فَأَصَابُوا إِبِلاً وَغَنَمًا) ولفظ البخاريّ: "فأصاب الناسَ جوع، فأصبنا إبلًا وغنمًا". قَالَ فِي "الفتح": كأن الصحابيّ قَالَ هَذَا ممهّدًا لعذرهم فِي ذبحهم الإبل، والغنم التي أصابوا. وفي رواية:"وتقدّم سَرَعان النَّاس، فأصابوا منْ المغانم"، وفي رواية:"فأصبنا نَهْب إبل وغنم"(وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فِي أُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ) جمع أخرى، وفي رواية:"فِي آخر النَّاس"، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم، يَفعَل ذَلِكَ؛ صَوْنًا للْعَسْكَر، وَحِفْظًا؛ لِأَنَّه لو تَقَدَّمَهُم لَخَشِيَ أَن يَنقَطِع الضَّعِيف مِنْهُمْ دُونه، وَكَانَ حِرْصِهمْ عَلَى مُرَافَقَته شَدِيدًا، فَيَلْزَم مِنْ سَيْره فِي مَقَام السَّاقَة، صَوْن الضُّعَفَاء؛ لِوُجُودِ مَن يَتَأَخَّر مَعَهُ قَصْدًا منْ الأَقْوِيَاء.

(فَعَجَّلَ أَوَّلُهُم، فَذَبَحُوا، وَنَصَبُوا القُدُورَ) يعني مِن الجُوع الَّذِي كَانَ بهِمْ، فَاستَعجَلُوا، فَذَبَحُوا الَّذِي غَنِمُوهُ، وَوَضَعُوهُ فِي القُدُور، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة:"فَانْطَلَقَ نَاس، منْ سَرَعَان النَّاس، فَذَبَحُوا، وَنَصَبُوا قُدُورهمْ، قَبل أن يُقْسَم". وَفِي رِوَايَة: "فَأَغْلَوْا القُدُور": أَي أَوْقَدُوا النَّار تَحْتهَا، حَتَّى غَلَتْ (فَدُفِعَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم)"دُفِعَ" -بِضمِّ أَوَّله، عَلَى الْبِنَاء لِلْمَجهُولِ: وَالْمَعْنَى أَنَّهُ وَصَلَ إِلَيْهِمْ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة زَائِدَة، عَن سَعِيد بْن مَسْروق:"فَانتَهَى إِلَيْهِمْ"، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِىُّ.

(فَأَمَرَ بالقُدُورِ، فَأُكْفِئَتْ) -بِضَم الهَمْزَة، وَسُكُون الكَاف- أَي قُلِبَتْ، وَأُفْرغَ مَا فِيهَا. قَالَ المجد: كفأه، كمنعه: صرفه، وكبّه، وقَلَبه، كأكفأه، واكتفأه. انتهى.

قَالَ فِي "الفتح": وَقَدْ اختُلِفَ فِي هَذَا الْمَكَان فِي شَيْئَيْنِ:

[أَحَدهما]: سَبَب الإرَاقَة، [وَالثَّانِي]: هل أُتْلِفَ اللَّحْم أَمْ لَا؟، فَأَمَّا الأَوَّل فَقَالَ عِيَاض: كَانُوا انْتَهَوْا إِلَى دَار الإسْلام، وَالْمَحَلِّ الَّذِي لَا يَجُوز فِيهِ الأَكْل منْ مَال الْغَنِيمَة المُشْتَرَكَة، إِلَّا بَعْد الْقِسْمَة، وَأَنَّ مَحَلّ جَوَاز ذَلِكَ قَبْل الْقِسْمة، إِنَّما هُوَ مَا دَامُوا فِي دَار الْحَرْب، قَالَ: وَيَحْتَمِل أَن سَبَب ذَلِكَ كَوْنهمْ انْتَهَبُوهَا، وَلَمْ يَأخُذُوهَا بِاعْتِدَالٍ، وَعَلَى قَدْر الحَاجَة. قَالَ: وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيث آخَر مَا يَدُلّ لِذَلِكَ، يُشِير إِلَى مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، مِنْ طَرِيق عَاصِم بن كُلَيْب، عَن أَبيهِ، وَلَهُ صُحْبَة، عَن رَجُل منْ الأَنْصَار، قَالَ:"أَصَابَ النَّاس مَجَاعَة شَدِيدَة، وَجَهْد، فَأصَابُوا غَنَمًا، فَانْتَهَبُوهَا، فَإِن قُدُورنَا لَتَغْلِي بِهَا، إِذْ جَاءَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى فَرَسه، فَأَكْفَأ قُدُورنَا بِقَوْسِهِ، ثُمَّ جَعَلَ يُرَمِّل اللَّحْم بالتُّرَاب، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ النُّهْبَة لَيْسَتْ بِأَحَلّ منْ المَيْتَة". انتهى. وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ عَامَلَهُمَ منْ أَجْل اسْتِعْجَالهمْ بِنَقِيضِ قَصْدهمْ، كَمَا عُومِلَ القَاتِل بِمَنْعِ الْمِيرَاث.

وأَمَّا الثَّانِي، فَقَالَ النَّوَوِيّ: المَأْمُور بِهِ منْ إِرَاقَة القُدُور، إِنَّمَا هُوَ إِتْلَاف المَرَق، عُقُوبَة لَهُمْ، وأَمَّا اللَّحْم فَلَم يُتْلِفُوهُ، بَلْ يُحْمَل عَلَى أَنَّهُ جُمِعَ، وَرُدَّ إِلَى المَغْنَم، وَلا يُظَنّ أَنَّه أَمَرَ بِإِتْلَافه، مَعَ أَنَّه صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ إِضَاعَة المَال، وَهَذَا منْ مَال الغَانِمِينَ، وَأَيْضًا

ص: 149

فَالجِنَايَة بطَبْخِهِ، لَمْ تَقَع منْ جمَيع مُسْتَحِقِّي الْغَنِيمَة، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَطبُخ، وَمِنْهُمْ المُسْتَحِقُّون لِلْخُمُسِ.

[فَإِن قِيلَ]: لَمْ يُنقَل أَنَّهُم حَمَلُوا اللَّحْم إِلَى المَغْنَم، [قُلْنَا]: وَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُمْ أَحْرَقُوهُ، أَو أَتْلَفُوهُ فَيَجِب تأويله عَلَى وَفْق القَوَاعِد. انتهى.

قَالَ الحافظ: وَيَرِدُ عَلَيهِ حَدِيث أَبِي دَاوُدَ، فَإِنهُ جَيِّد الإِسْنَاد، وَتَرْكُ تَسْمِيَة الصَّحَابِيّ لا يَضرّ، وَرِجَال الإسْنَاد عَلَى شَرْط مُسْلِم، وَلا يُقَال: لا يَلْزَم منْ تَتْرِيب اللَّحْم إِتْلَافه؛ لإمْكَانِ تَدَارُكه بالغَسْل؛ لأَنَّ السِّيَاق يُشْعِر بِأَنَّهُ أُرِيدَ المُبَالَغَة فِي الزَّجْر عَن ذَلِكَ الْفِعْل، فَلَوْ كَانَ بِصَدَدِ أنْ يُنتَفعَ بِهِ بَعْد ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَبِير زَجْر؛ لأَنَّ الَّذِي يَخُصّ الْوَاحِد مِنْهُمِ نَزْر يَسِير، فَكَانَ إِفْسَادهَا عَلَيْهِم، مَعَ تَعَلُّق قُلُوبهم بِهَا، وَحَاجَتهم إِلَيْهَا، وَشَهْوَتهم لَهَا أبلَغَ فِي الزَّجْر.

وَأَبْعَدَ المُهَلَّب، فَقَالَ: إِنَّمَا عَاقَبَهُم؛ لأَنَّهُم اسْتَعْجَلُوا، وَتَرَكُوهُ فِي آخِر الْقَوْم، متعَرِّضًا لِمَنْ يَقْصِدهُ، منْ عَدُوّ، وَنَحْوه.

وَتُعُقِّبَ بأنَّهُ صلى الله عليه وسلم، كَانَ مُخْتَارًا لِذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ تقَرِيره، وَلا مَعْنَى لِلحَمْلِ عَلَى الظَّنّ، معَ وُرُود النَّصّ بِالسَّبَب. وَقَالَ الإسْمَاعيليّ: أمْره صلى الله عليه وسلم بِإِكْفَاءِ القُدُور، يَجُوز أنْ يَكُون منْ أجْل أَنَّ ذَبْح مَنْ لا يَمْلِك الشَّيْء كُلَّه، لا يَكُون مُذَكِّيًا، وَيَجُوز أَنْ يَكُون منْ أجْل أنَّهمْ تَعَجَّلُوا إِلَى الاخْتِصاص بِالشَّيْءِ، دُون بَقِيَّة مَن يَسْتَحِقّهُ، منْ قَبْل أن يُقْسَم، وَيُخْرَج مِنْهُ الْخُمُس، فَعَاقَبَهُم بِالْمَنْع، منْ تَنَاوُل مَا سَبَقُوا إِلَيْهِ؛ زَجْرًا لَهُمْ، عَن مُعَاوَدَة مِثْله، ثُمَّ رَجَّحَ الثانِي، وَزَيَّفَ الأوَّل، بِأنَّهُ لو كَانَ كَذَلِكَ، لَمْ يَحِلّ أَكْل البَعِير النَّادّ الَّذِي رَمَاهُ أحَدهمْ بِسَهْمٍ، إِذْ لَمْ يَأذَن لَهُمْ الكُلُّ فِي رَمْيه، مَعَ أَنَّ رَمْيه ذَكَاة لَهُ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي نَفْس حَدِيث البَاب. انتهى مُلَخَّصًا.

وَقَد جَنَحَ البُخَاريُّ إِلَى المَعْنَى الأَوَّل، وَتَرْجَمَ عَلَيهِ بقوله:"باب إذا أصاب قومٌ غنيمةٌ، فذبح بعضهم غنمًا، أو إبلًا، بغير أمر أصحابها، لم تؤكَلْ؛ لحديث رافع، عن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم"، وَقَالَ طاوسٌ، وعكرمة فِي ذبيحة السارق: اطرحوه. انتهى.

وَيُمْكِن الْجَوَاب عَمَّا ألْزَمَهُ بِهِ الإسْماعيليّ، منْ قِصَّة البَعِير بِأنْ يَكُون الرَّامِي رَمَى بحَضرَةِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وَالْجَمَاعَةِ، فَأَقَرُّوهُ، فَدَلَّ سُكُوتهم عَلَى رِضَاهُم، بِخِلافِ مَا ذَبَحَهُ أولَئِكَ، قَبل أن يَأْتِي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وَمَنْ مَعَهُ، فَافتَرَقَا، وَاَلله أَعْلَم. انتهى

(1)

.

(1)

"فتح" 11/ 53 - 54. "كتاب الذبائح والصيد" رقم الحديث 5498.

ص: 150

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي رجّحه الإِمام البخاريّ رحمه الله تعالى، وترجم له، منْ أنه إذا ذبح منْ لا يملك الذبيحة، بغير إذن صاحبها لا تحلّ، هو الذي يترجّح عندي؛ لحديث رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه المذكور هنا. والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ قَسَّمَ بَيْنَهُمْ، فَعَدَلَ عَشْرًا مِنَ الشَّاءِ بِبَعِيرٍ) قَالَ القرطبيّ: يعني أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم قسم ما بقي منْ الغنيمة عَلَى الغانمين، فجعل عشرة منْ الغنم بإزاء جَزور، ولم يَحتج إلى القرعة؛ لرضا كلّ منهم بما صار إليه منْ ذلك، ولم يكن بينهم تشاحّ فِي شيء منْ ذلك. قَالَ: وكأن هذه الغنيمة لم يكن فيها إلا الإبل، والغنم، ولو كَانَ فيها غيرهما، لقُوّم جميع الغنيمة، ولَقُسم عَلَى القِيَم. انتهى

(1)

.

وَقَالَ فِي "الفتح": هَذَا مَحْمُول عَلَى أَنَّ هَذَا كَانَ قِيمَة الْغَنَم إِذْ ذَاكَ، فَلَعَلَّ الإِبِل كَانَتْ قَلِيلَة، أَوْ نَفِيسَة، وَالغَنَم كَانَتْ كَثِيرَة، أَوْ هَزيلَة، بِحَيثُ كَانتْ قِيمَة الْبَعِير عَشْر شِيَاه، وَلا يُخَالِف ذَلِكَ القَاعِدَة فِي الأَضَاحِيّ، مِنْ أَنَّ البَعِير يُجْزِىء عَن سَبْع شِيَاه؛ لأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْغَالِب فِي قِيمَة الشَّاة وَالبَعِير، المُعتَدِلَيْنِ، وأَمَّا هَذِهِ القِسْمة، فَكَانَتْ وَاقِعَة عَيْن، فَيَحْتَمِل أن يَكُون التَّعْدِيل لِمَا ذُكِرَ، منْ نَفَاسَة الإِبِل، دُون الغَنَم، وَحَدِيث جَابر رضي الله تعالى عنه، عند مُسْلِم، صرِيح فِي الحُكْم، حَيْثُ قَالَ فِيهِ:"أَمَرَنَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، أن نَشْترك فِي الإبِل وَالْبَقَر، كُلُّ سَبْعَة مِنَّا فِي بَدَنَة".

وَالْبَدَنَة تُطْلَق عَلَى النَّاقَة، وَالبَقرَة، وأَمَّا حَدِيث ابن عَبَّاس:"كُنَّا مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَر، فَحَضرَ الأَضْحَى، فَاشْتَرَكْنَا فِي البَقَرَة سبعَةً، وَفِي البَدَنَة عَشَرَة"

(2)

، فَحَسَّنَهُ التِّرْمذيّ، وَصَحَّحَهُ ابن حِبَّان، وَعَضَّدَهُ بِحَدِيثِ رَافِع بن خَدِيج هَذَا.

قَالَ الحافظ: وَالَّذِي يَتَحَرَّر فِي هَذَا أنَّ الأَصْل أنَّ الْبَعِير بِسَبْعَةٍ، مَا لَمْ يَعْرِض عَارِض، مِنْ نَفَاسَة وَنَحْوهَا، فَيَتَغَيَّر الحُكْم بِحَسَب ذَلِكَ، وَبِهَذَا تَجْتَمِع الأَخبَار الوَارِدَة فِي ذَلِكَ.

ثُمَّ الَّذِي يَظهَر منْ القِسْمةِ المَذكُورَة، أَنَّهَا وَقَعَتْ فِيمَا عَدَا مَا طُبِخَ، وَأُرِيقَ منْ الإبِل وَالغَنَم، الَّتِي كَانُوا غَنِمُوهَا، وَيَحتَمِل -إنْ كَانَتْ الوَاقِعَة تَعَدَّدَتْ- أن تَكُون القِصَّة الَّتِي ذَكَرَهَا ابن عَبَّاسُ أَتْلَفَ فِيهَا اللَّحْم؛ لِكَوْنِهِ كَانَ قُطِعَ لِلطَّبْخ، والقِصَّة الَّتِي فِي حَدِيث رَافِع طُبِخَتْ الشِّيَاه صِحَاحًا مَثَلًا، فَلَمَّا أُرِيقَ مَرَقهَا، ضُمَّتْ إِلَى الْمَغْنَم لِتُقْسَم، ثُمَّ يَطْبُخهَا مَنْ وَقَعَتْ فِي سَهْمه، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ النُّكتَةُ فِي انْحِطَاط قِيمَة الشِّيَاه عَن الْعَادَة.

(1)

"المفهم" 5/ 375.

(2)

سيأتي للمصنف بنحوه برقم 4395. إن شاء الله تعالى.

ص: 151

وَالله أعلَم. انتهى كلام الحافظ

(1)

.

(فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ نَدَّ بَعِيرٌ) بفتح النون، وتشديد الدال المهملة: أي هرب منْ تلك الإبل المقسومة بعيرٌ نافرًا (وَلَيْسَ فِي الْقَوْمِ إِلاَّ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ) فِيهِ تَمهِيد لِعُذْرِهِم فِي كَوْن الْبَعِير الَّذِي نَدَّ أَتْعَبَهُم، وَلَمْ يَقدِرُوا عَلَى تَحْصِيله، فَكَأنَّهُ يَقُول: لَوْ كَانَ فِيهِم خُيُول كَثِيرَة؛ لأَمكَنَهُمْ أَنْ يُحِيطُوا بِهِ، فَيَأخُذُوهُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَة عند البخاريّ":"وَلَمْ يَكُن مَعَهُم خَيل": أَي كَثِيرَة، أَو شَدِيدَة الْجَرْي، فَيَكون النَّفْي لِصِفَةٍ فِي الْخَيْل، لا لِأَصْلِ الْخَيْل، جمَعًا بَين الرِّوَايَتَينِ.

(فَطَلَبُوهُ، فَأَعْيَاهُمْ) أَي أَتْعَبَهُم، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى تحَصِيلِهِ (فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ) وفي رواية البخاريّ:"فأهوى إليه رجل بسهم": أي قصد نحوه، ورماه. قَالَ الحافظ: ولم أقف عَلَى اسم هَذَا الرامي (فَحَبَسَهُ اللهُ) أي أصابه السهم، فوقف (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ لِهَذِهِ البَهَائِمِ) وفِي رِوَايَة: "إِنَّ لِهَذِه الإبِل": قَالَ بَعْض شُرَّاح "الْمَصَابِيح": هَذِهِ اللام تُفِيد مَعْنَى "مِنْ"؛ لأَن الْبعْضِيَّة، تُسْتَفَاد منْ اسم "إِنَّ" لِكَونِهِ نَكِرَة (أَوَابِدَ كَأوَابدِ الْوَحْشِ) جَمْع آبِدَة -بِالْمَدِّ، وَكَسْر المُوَحَّدَة-: أَيْ غَرِيبَة، يُقَال: جَاءَ فُلَان بِآبِدَةٍ: أَي بِكَلِمَةٍ، أَو فَعْلَة مُنَفِّرَة، ويُقَال: أَبَدَتْ -بِفَتْح المُوَحَّدَة- تَأبُدُ -بِضَمِّهَا- وَيَجُوز الكَسْر، أُبُودًا، وَيُقَال: تَأَبَّدَتْ: أَيْ تَوَحَّشَتْ، وَالمُرَاد أنَّ لَهَا تَوَحُّشًا. قاله فِي "الفتح". وَقَالَ الفيّوميّ: أبَدَ الشيءُ، منْ بابي ضرب، وقتَل يأبِدُ، ويأبُدُ أُبودًا: نفر، وتوحّش، فهو آبدٌ، عَلَى فاعل، وأبدَت الوحوش: نفرت منْ الإنس، فهي أوابد، ومن هنا وُصِف الفرس الخفيفُ الذي يُدرك الوحش، ولا يكاد يفوته بأنه قَيْدُ الأَوابد؛ لأنه يمنعها المضيَّ، والخلاصَ منْ الطالب، كما يمنعها القيد. وقيل للألفاظ التي يَدِقُّ معناها: أوابدُ؛ لبعد وضوحه؛ لأنه المقصود. انتهى كلام الفيّوميّ.

(فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا، فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا") وفي رواية البخاريّ: "فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ مِنْهَا، فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا"، وَفِي رِوَايَة لَه:"فَمَا فَعَلَ مِنْهَا هَذَا، فَافعَلُوا مِثْل هَذَا"، وفي رواية الطبرانيّ:"فَاصْنَعُوا بِهِ ذَلِكَ، وَكُلُوهُ". وَفِيهِ جَوَاز أَكْل مَا رُمِيَ بِالسَّهْمِ، فَجُرِحَ فِي أَيّ مَوضِع كانَ منْ جَسَده، بِشَرْطِ أن يَكُون وَحْشِيًّا، أَو مُتَوَحِّشًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

(1)

"فتح" 11/ 54.

ص: 152

حديث رافع بن خَدِيج رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -17/ 4299 وفي "الضحايا" 15/ 4393 و20/ 4405 و21/ 4406 و26/ 4411 و4412 - وفي "الكبرى" 19/ 4809 وفي "الضحايا" 21/ 4492 و22/ 4493 و27/ 4498 و4999. وأخرجه (خ) فِي "الشركة" 2488 و2507 و"الجهاد" 3075 و"الذبائح" 5498 و5503 و5509 و5543 و5544 (م) فِي "الأضاحي" 3638 (د) فِي "الضحايا" 2821 (ت) فِي "الأحكام" 1491 و1492 (ق) فِي "الأضاحي" 3137 و"الذبائح" 3183 (أحمد) فِي "مسند المكيين" 15379 و15386 و"مسند الشاميين" 16810 و16832 (الدارمي) فِي "الأضاحي" 1977. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو أن البهائم الإنسيّة، إذا توحّشت، ونفرت، تُعْطَى حُكْم المُتَوَحِّش الأصليّ، فيجوز عَقْر النَّادّ منها لِمَن عَجَزَ عَن ذَبحِهِا، كَالصَّيْدِ البَرِّيّ، وَيَكُون جمَيع أَجْزَائِها مَذْبَحًا، فَإِذَا أُصِيبَت فَمَاتَت مِنْ الإصَابَة حَلَّت، أمَّا المَقْدُور عَلَيْهِ، فَلا يُبَاح إِلَّا بِالذَّبْحِ، أَو النَّحْر إِجْمَاعًا، وبهذا قَالَ الجمهور، وخالف مالك، وبعض طائفة، وسيأتي تحقيق ذلك فِي المسألة التالية، إن شاء الله تعالى. (ومنها): تَحرِيم التَّصَرُّف فِي الأَمْوَال المُشْتَرَكَة، منْ غَيْر إِذْن، وَلَوْ قلّت، وَلَوْ وَقَعَ الاحْتِيَاج إِلَيْهَا. (ومنها): أن فيه انْقِيَادَ الصَّحَابَة لِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى فِي تَرْك مَا بهِمْ إِلَيهِ الحَاجَة الشَّدِيدَة. (ومنها): أَن للإِمَام عُقُوبَةَ الرَّعِيَّة بِمَا فِيهِ إِتْلَاف مَنْفَعَة، وَنَحْوهَا إِذَا غَلَبَتِ المَصْلَحَة الشَّرْعِيَّة. (ومنها): أَنَّ قِسْمَة الْغَنِيمَة يَجُوز فِيهَا التَّعْدِيل وَالتَّقْوِيم، وَلا يُشْتَرَط قِسْمَة كُلّ شَيْء مِنْهَا عَلَى حِدَة. (ومنها): أن ما توحّش منْ المستأنس يُعطى حكم المتوحّش، وبالعكس. (ومنها): جَوَازُ الذَّبْح بِمَا يُحَصِّل المَقْصُود، سَوَاء كَانَ حَدِيدًا، أَمْ لا. (ومنها): جواز عقر الحيوان النادر لمن عجز عن ذبحه، كالصيد البرّيّ، والمتوحّش منْ الإنسيّ، ويكون جميع أجزائه مذبحًا، فإذا أُصيب، فمات منْ الإصابة حلّ، أما المقدور عليه، فلا يُباح إلا بالذبح، أو النحر إجماعًا. (ومنها): أن فِيهِ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ تَحْرِيم المَيْتَة لِبَقَاءِ دَمهَا فِيهَا

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم الحيوان الإنسيّ، إذا توحّش:

(1)

راجع "الفتح" 11/ 57 "كتاب الذبائح والصيد".

ص: 153

قَالَ الإِمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه": "باب ما ندّ منْ البهائم، فهو بمنزلة الوحش"، وأجازه ابن مسعود، وَقَالَ ابن عباس: ما أعجزك منْ البهائم، مما فِي يديك، فهو كالصيد، وفي بعير تردّى فِي بئر، منْ حيث قدرتَ عليه، فذكّه. ورأى ذلك عليّ، وابن عمر، وعائشة -رضي الله تعالى عنهم-. انتهى.

وَقَدْ نقله ابن المنذر وغيره عن الجمهور، وخالفهم فِي ذلك مالكٌ، والليث. ونقل أيضاً عن سعيد بن المسيب، وربيعة، فقالوا: لا يحلّ أكل الإنسيّ إذا توحّش، إلا بتذكيته فِي حلقه، أو لبّته، وحجة الجمهور حديث رافع رضي الله تعالى عنه المذكور فِي الباب. أفاده فِي "الفتح"

(1)

.

وَقَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى: إذا تردّى فِي بئر، فلم يقدر عَلَى تذكيته، فجرحه فِي أيّ موضع قدر عليه، فقتله، أُكل، إلا أن تكون رأسه فِي الماء، فلا يؤكل؛ لأن الماء يُعين عَلَى قتله. هَذَا قول أكثر الفقهاء، روي ذلك عن عليّ، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عبّاس، وعائشة رضي الله تعالى عنهم، وبه قَالَ مسروقٌ، والأسود، والحسن، وعطاءٌ، وطاوسٌ، وإسحاق، والشعبيّ، والحكم، وحمّاد، والثوريّ، وأبو حنيفة، والشافعيّ، وأبو ثور. وَقَالَ مالك: لا يجوز أكله إلا أن يُذكّى، وهو قول ربيعة، والليث. قَالَ أحمد: لعلّ مالكًا لم يسمع حديث رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه. واحتُجّ لمالك بأن الحيوان الإنسيّ إذا توحّش لم يثبُت له حكم الوحشي، بدليل أنه لا يجب عَلَى المحرم الجزاء بقتله، ولا يصير الحمار الأهليّ مباحًا إذا توحّش. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله تعالى

(2)

.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه الجمهور منْ جواز أكل الحيوان المتوحّش بجرحه، هو الأرجح عندي؛ لحديث رافع بن خَدِيج رضي الله تعالى عنه المذكور؛ وأما احتجاج مالك، ومن قَالَ بقوله بما ذُكر، فغير مقبول؛ لأنه فِي مقابلة النصّ، ونعتذر عنهم بما تقدّم عن أحمد رحمه الله تعالى منْ أنهم لم يبلغهم النصّ، فقاسوا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

"فتح" 11/ 67 - 69 "كتاب الذبائح" رقم 5509.

(2)

"المغني" 13/ 291 - 292.

ص: 154

‌18 - (فِي الَّذِي يَرْمِى الصَّيْدَ فَيَقَعُ فِي الْمَاءِ)

4300 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَاصِمٌ الأَحْوَلُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الصَّيْدِ؟ فَقَالَ: "إِذَا رَمَيْتَ سَهْمَكَ، فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عز وجل، فَإِنْ وَجَدْتَهُ قَدْ قُتِلَ فَكُلْ، إِلاَّ أَنْ تَجِدَهُ قَدْ وَقَعَ فِي مَاءٍ، وَلَا تَدْرِي الْمَاءُ قَتَلَهُ، أَوْ سَهْمُكَ؟ ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح.

و"أحمد بن منيع": هو أبو جعفر الأصمّ البغويّ، نزيل بغداد، ثقة حافظ [10] 80/ 1011 والباقون تقدّموا مع شرح الحديث، وبيان مسائله فِي -1/ 4265. و"عاصم الأحول": هو ابن سليمان. و"الشعبي": هو عامر بن شَرَاحيل.

وقوله: "ولا تدري، الماء قتله، أو سهمك" يفيد أن الأصل فِي الصيد الحرمة، فإذا حصل الشكّ يكون حرامًا، كما هو الأصل. قاله السنديّ.

وهذا الحديث متّفق عليه، وَقَدْ استوفيت شرحه، وبيان مسائله بالرقم المذكور آنفًا، ويبقى البحث هنا فيما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، فأقول:

(مسألة): قَالَ الإِمام ابن قُدامة رحمه الله تعالى: ما حاصله: إذا رماه، فوقع فِي ماء يقتله، أو تردّى منْ جبل يقتله، لم يؤكل، ولا فرق فِي ذلك بين كون الجراحة مثخنة، أو غير مثخنة، هَذَا هو المشهور عن أحمد، وظاهر قول ابن مسعود، وعطاء، وربيعة، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وَقَالَ أكثر الحنابلة المتأخّرون: إن كانت الجراحة مثخنةً، مثلُ أن ذبحه، أو أبان حِشْوته لم يضرّ وقوعه فِي الماء، ولا تردّيه، وهو قول الشافعيّ، ومالك، والليث، وقتادة، وأبي ثور؛ لأن هَذَا صار فِي حكم الميت بالذبح، فلا يؤثّر فيه ما أصابه. ووجه الأول قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم:"وإن وقع فِي الماء فلا تأكل"، ولأنه يحتمل أن الماء أعان عَلَى خروج روحه، فصار بمنزلة ما لو كانت الجراحة غير مثخنة، ولا خلاف فِي تحريمه إذا كَانَ الجراحة غير مُثخنة. ولو وقع الحيوان فِي الماء عَلَى وجه لا يقتله، مثل أن يكون رأسه خارجًا منْ الماء، أو يكون منْ طير الماء الذي لا يقتله الماء، أو كَانَ التردّي لا يقتل مثل ذلك الحيوان، فلا خلاف فِي إباحته؛ لأن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم قَالَ: "فإن وجدته غريقًا فِي الماء فلا

ص: 155

تأكله"، ولأن الوقوع فِي الماء، والتردّي إنما حرّم خشية أن يكون قاتلا، أو مُعينًا عَلَى القتل، وهذا منتف فيما ذكرنها. انتهى كلام ابن قُدامة بتصرّف

(1)

.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: تلخّص مما ذُكر أن الأرجح هو ما ذهب إليه الأولون منْ أن الوقوع فِي الماء يحرّم الصيد مطلقاً، سواء كانت جراحته مثخنة، أو لا؛ لإطلاق حديث عديّ بن حاتم رضي الله تعالى عنه المذكور فِي الباب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4301 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي شُعَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّيْدِ؟ فَقَالَ: "إِذَا أَرْسَلْتَ سَهْمَكَ وَكَلْبَكَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ، فَقَتَلَ سَهْمُكَ فَكُلْ"، قَالَ: فَإِنْ بَاتَ عَنِّي لَيْلَةً يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، قَالَ: "إِنْ وَجَدْتَ سَهْمَكَ، وَلَمْ تَجِدْ فِيهِ أَثَرَ شَيْءٍ غَيْرَهُ، فَكُلْ، وَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، غير "عمرو بن يحيى بن الحارث" الحِمْصِيّ، فإنه منْ أفراد المصنّف، وهو ثقة [12] 67/ 2329.

و"أحمد بن أبي شُعيب": هو أحمد بن عبد الله بن أبي شُعيب مسلم الحرّانيّ، نُسب لجدّه، ثقة [10] 29/ 2499. و"موسى بن أعين": هو الجزريّ، مولى قريش، أبو سعيد، ثقة عابدٌ [8] 11/ 415. و"معمر": هو ابن راشد.

وقوله: "فإن بات عنّي ليلة الخ " يعني أنه غاب الصيد عنه بعدما أصابه بسهمه، فبات غائبًا عنه ليلة. وقوله:"غيره" يحتمل أن يكون بالجرّ صفة لـ"شيء"، ويحتمل أن يكون النصب عَلَى أنه صفة لـ"أثر".

وفي الرواية الآتية فِي الباب التالي: "فيغيب عنه الليلة، والليلتين".

وقَوْله: "وَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَاء، فَلَا تَأْكُل"، يُؤْخَذ سَبَب مَنْع أَكْله مِنْ الحديث الَّذِي قَبْله؛ لأنَّهُ حِينَئِذٍ يَقَع التَّرَدُّد، هَلْ قَتَلَهُ السَّهْم، أَو الْغَرَق فِي الْمَاء؟ فَلَوْ تحقَّقَ أَنَّ السَّهْم أَصَابَهُ، فَمَاتَ، فَلَمْ يَقَع فِي الْمَاء، إِلَّا بَعْد أَنْ قَتَلَهُ السَّهْم، فَهَذَا يَحِلّ أَكْله، قَال النَّوَوِيّ فِي "شَرْح مُسْلِم": إِذَا وُجِدَ الصَّيدُ فِي الْمَاء غَرِيقًا، حَرُمَ بِالاتِّفَاقِ. انتهى. وَقَد صَرَّحَ الرَّافِعِيّ بأنَّ مَحِلّه، مَا لَمْ يَنْتَهِ الصَّيْد بِتِلْكَ الْجِرَاحَة، إِلَى حَرَكَة الْمَذْبُوح، فَإِنْ انْتَهَى إِلَيْهَا، بِقَطْعِ الحُلْقُوم مَثَلًا، فَقَدْ تَمَّتْ ذكَاته، وَيُؤَيِّدهُ قَوْله فِي الحديث الذي قبله: "فَإِنَّك

(1)

"المغني" 13/ 278.

ص: 156

لا تَدْرِي، الْمَاء قَتَلَهُ، أَو سَهْمك؟ "، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ، أَنَّ سَهْمه هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ، أَنَّهُ يَحِلّ.

قَوْله (الْيَومَيْنِ وَالثَّلَاثَة) فِيهِ زِيَادَة عَلَى رِوَايَة عَاصِم بن سُلَيْمَان "بَعْد يَوم أَو يَوْمَينِ" وَوَقَعَ فِي رِوَايَة سَعِيد بْن جُبَير "فَيَغِيب عَنهُ اللَّيلَة وَاللَّيلَتَينِ" وَوَقَعَ عند مُسْلِم فِي حَدِيث أَبِي ثَعْلَبَة بِسَنَدٍ فِيهِ مُعَاوِيَة بن صَالِح "إِذَا رَمَيت سَهْمك فَغَابَ عَنك فَأَدْرَكته فَكُلْ مَا لَمْ يُنْتِن" وَفِي لَفْظ فِي الَّذِي يُدْرِك الصَّيْد بَعْد ثَلَاث "كُلْهُ مَا لَمْ يُنتِن" وَنَحْوه عِنْد أَبِي.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق البحث فيه مستوفًى فِي الحديث الذي قبله، ودلالته عَلَى ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى واضحة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌19 - (فِي الَّذِي يَرْمِى الصَّيْدَ، فَيَغِيبُ عَنْهُ)

4302 -

(أَخْبَرَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا أَهْلُ الصَّيْدِ، وَإِنَّ أَحَدَنَا يَرْمِي الصَّيْدَ، فَيَغِيبُ عَنْهُ اللَّيْلَةَ وَاللَّيْلَتَيْنِ، فَيَبْتَغِي الأَثَرَ، فَيَجِدُهُ مَيِّتًا، وَسَهْمُهُ فِيهِ، قَالَ: "إِذَا وَجَدْتَ السَّهْمَ فِيهِ، وَلَمْ تَجِدْ فِيهِ أَثَرَ سَبُعٍ، وَعَلِمْتَ أَنَّ سَهْمَكَ قَتَلَهُ فَكُلْ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

و"زياد بن أيوب": هو المعروف بدلّويه الحافظ الثبت الطوسي، نزيل بغداد، لقّبه أحمد شعبة الصغير. و"هُشيم": هو ابن بشير. و"أبو بِشر": هو جعفر بن أبي وحشيّة/ إياس، البصريّ الواسطيّ، أثبت النَّاس فِي سعيد بن جُبير.

وقوله: "إنا أهل الصيد" أي نحن قوم نعيش بصيد الحيوانات. وقوله: "فيبتغي الأثر" يعني أنه يتّبع أثر ذلك الصيد حَتَّى يجده.

وقوله: "فَيَغِيبُ عَنْهُ اللَّيْلَةَ وَاللَّيْلَتَيْنِ الخ". وفي رواية البخاريّ: "وإن رميت الصيد، فوجدته بعد يوم، أو يومين"، وفي رواية عَلَّقَهَا: "عن عبد الأعلى، عن عامر، عن

ص: 157

عديّ، أنه قَالَ للنبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم: يرمي الصيد، فيفتقر أثره اليومين، والثلاثة". ومعنى "يفتقر" أي يتبع فقاره، حَتَّى يتمكن منه. ووَقَعَ فِي حَدِيث أبِي ثَعْلَبَة الخُشنيّ الآتي فِي الباب التالي، فِي الَّذِي يُدْرِك الصَّيد بَعْد ثَلَاث: "كُلْهُ مَا لَمْ يُنتِن"، وَنَحوه عِنْد أَبِي دَاوُدَ، منْ طَرِيق عَمْرو بْن شُعَيْب، عَن أَبِيهِ، عَن جَدّه، كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيه عَلَيْهِ.

وقوله: "إِذَا وَجَدْتَ السَّهْمَ فِيهِ، وَلَمْ تَجِدْ فِيهِ أَثَرَ سَبُع، وَعَلِمتَ أنَّ سَهْمَكَ قَتَلَهُ فَكُلْ". وفي رواية البخاريّ: "وَإِنْ رَمَيْت الصَّيْد، فَوَجَدْته بَعْد يَومْ، أَوْ يَوْمَينِ، لَيْسَ بهِ إِلَّا أَثَر سَهْمك فَكُلْ".

قَالَ فِي "الفتح": وَمَفْهُومه أَنَّهُ إنْ وَجَدَ فِيهِ أَثَرَ غَيرِ سَهْمه، لا يَأْكُل، وَهُوَ نَظِير مَا تَقَدَّمَ فِي الكَلْب منْ التَّفْصِيل، فِيمَا إِذَا خَالَطَ الكَلْبَ الَّذِي أَرْسَلَهُ الصَّائِدُ كَلْبٌ آخَرُ، لَكِنْ التَّفْصِيل فِي مَسْأَلَة الكَلْب، فِيمَا إِذَا شَارَكَ الكَلْب فِي قَتله كَلْبٌ آخَرُ، وَهُنَا الأثَر الَّذِي يُوجَد فِيهِ منْ غَير سَهْم الرَّامِي، أَعَمّ منْ أن يَكُون أَثَر سَهْم رَامٍ آخَر، أَو غَيْر ذَلِكَ منْ الأَسْبَاب القَاتِلَة، فَلَا يَحِلّ أَكْله مَعَ التَّرَدُّد.

وقَالَ الرَّافِعِيّ: يُؤْخَذ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ جَرَحَهُ، ثُمَّ غَابَ، ثُمَّ جَاءَ فَوَجَدَهُ مَيِّتًا، أنَّهُ لا يَحِلّ، وَهُوَ ظَاهِر نَصّ الشَّافِعِيّ، فِي "المُخْتَصَر". وقَال النَّوَوِيّ: الحِلّ أصَحّ دَلِيلاً. وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ فِي "الْمَعْرِفَة" عَن الشَّافِعِيّ، أنَّهُ قَالَ فِي قَول ابن عَبَّاس:"كُلْ مَا أَصْمَيتَ، وَدَعْ مَا أَنْمَيْت". ومَعْنَى "مَا أَصْمَيْتَ": مَا قَتَلَهُ الْكَلْب، وَأَنْتَ تَرَاهُ، وَمَا "أَنْمَيْت": وَمَا غَابَ عَنك مَقْتَله. قَالَ: وَهَذَا لا يَجُوز عِنْدِي غَيْره، إِلَّا أَنْ يَكُون جَاءَ عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فِيهِ شَيْء، فَيَسْقُط كُلُّ شَيْء، خَالَفَ أَمْر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وَلا يَقُوم مَعَهُ رَأي، وَلا قِيَاس. قَالَ البَيْهَقِيُّ: وَقَدْ ثَبَتَ الْخَبَر -يَعْنِي حَدِيث الْبَاب- فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُون هُوَ قَوْلَ الشَّافِعِيّ. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق شرحه، وبيان مسائله فِي 1/ 4265 - وأتكلّم هنا فيما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، فأقول:

(مسألة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم الصيد إذا غاب بعد رميه:

قَالَ الإِمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: ما حاصله: إذا رماه، فغاب عن عينه، فوجده ميتًا، وسهمه فيه، ولا أثر به غيره، أو أرسل كلبه عَلَى صيد، فغاب عن عينه، ثم وجده ميتًا، ومعه كلبه، حلّ أكله. هَذَا هو المشهور عند أحمد، وهو قول الحسن،

(1)

"فتح" 11/ 34.

ص: 158

وقتادة، وعن أحمد: إن غاب نهارًا، فلا بأس، وإن غاب ليلًا لم يأكله، وعن مالك كالروايتين، وعن أحمد ما يدلّ عَلَى أنه إن غاب مدّةً طويلة لم يُبَح، وإن كانت يسيرة أُبيح؛ لأنه قيل: إن غاب يومًا، قَالَ: يومٌ كثيرٌ، ووجه ذلك قول ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: إذا رميت، فأقعصتَ فكُلْ، وإن رميت، فوجدت سهمك منْ يومك، أو ليلتك، فكل، وإن بات عنك ليلةً، فلا تأكل، فإنك لا تدري ما حدث فيه بعد ذلك. وكره عطاء، والثوريّ أكل ما غاب. وعن أحمد مثلُ ذلك. وللشافعيّ فيه قولان؛ لأن ابن عبّاس قَالَ:"كل ما أصميت، وما أنميت فلا تأكل"، قَالَ الحكم: الإصمات: الإقعاص -يعني أن يموت فِي الحال، والإنماء أن يَغيب عنك- يعني لا يموت فِي الحال، قَالَ الشاعر [منْ المديد]:

فَهْوَ لَا تَنْمِي رَمِيَّتُهُ

مَا لَهُ لَا عُدَّ مِن نَفَرِهْ

وَقَالَ أبو حنيفة: يُباح إن لم يكن ترك طلبه، وإن تشاغل عنه، ثم وجده لم يُبَح.

وحجة الأول حديث عديّ بن حاتم رضي الله تعالى عنه، عن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، أنه قَالَ:"إذا رميت الصيد، فوجدته بعد يوم، أو يومين، ليس به إلا أثر سهمك، فكل، وإن وجدته غريقًا فِي الماء، فلا تأكل". متّفقٌ عليه. وحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه المذكور قبل بابين، وفيه:"وإن تغيّب عنك، ما لم تجد فيه أثرًا، غير سهمك، أو تجده قد صَلَّ" أي أنتن، وحديث أبي ثعلبة رضي الله تعالى عنه الآتي فِي الباب التالي، وفيه:"إذا رميت الصيد، فأدركته بعد ثلاث، وسهمك فيه، فكله ما لم يُنتن".

قَالَ: ولأن جرحه بسهمه سبب إباحته، وَقَدْ وُجد يقينًا، والمعارض له مشكوك فيه، فلا نزول عن اليقين بالشكّ، ولأنه وجده، وسهمه فيه، ولم يجد به أثرًا آخر، فأشبه ما لو لم يترك طلبه عند أبي حنيفة، أو كما لو غاب نهارًا، أو مدّة يسيرة، أو كما لو لم يغب.

إذا ثبت هَذَا، فيُشترط فِي حلّه شرطان:[أحدهما]: أن يجد سهمه فيه، أو أثرًا، ويعلم أنه أثر سهمه؛ لأنه إذا لم يكن كذلك، فهو شاكّ فِي وجود المبيح، فلا يثبت بالشكّ. [والثاني]: أن لا يجد أثرًا غير أثر سهمه، مما يَحتمِلُ أنه قتله؛ لقوله صلّى الله تعالى عليه وسلم:"ما لم تجد فيه أثرًا غير سهمك"، وفي لفظ:"وإن وجدت فيه أثرًا غير سهمك، فلا تأكله، فإنك لا تدري أقتلته أنت، أو غيرك"، وفي لفظ:"إذا وجدت فيه سهمك، ولم يأكل منه سبع، فكل"، وكلّها فِي روايات النسائيّ. وفي حديث عديّ رضي الله تعالى عنه: أن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، قَالَ: "فإن رميت الصيد،

ص: 159

فوجدته بعد يوم، أو يومين، ليس به إلا أثر سهمك فكل، وإن وقع فِي الماء، فلا تأكل". رواه البخاريّ، وَقَالَ صلّى الله تعالى عليه وسلم: "وإن وجدته غريقًا فِي الماء، فلا تأكل". ولأنه إذا وَجَدَ به أثرًا يصلح أن يكون قد قتله، فقد تحقّق المعارض، فلم يُبَح، كما لو وَجَدَ معه كلبًا سواه. فأما إذا كَانَ الأثر مما لا يقتل مثله، مثلُ أكل حيوان ضعيف، كالسّنّور، والثعلب، منْ حيوان قويّ، فهو مباحٌ؛ لأنه يُعلم أن هَذَا لم يقتله، فأشبه ما لو تهشّم منْ وقعته. انتهى كلام ابن قدامة بتصرّف

(1)

.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبين ما سبق أن الأرجح هو المذهب الأول، وهو أنه إذا رمى الصيد بسهمه، أو أرسل كلبه عليه، فغاب ذلك الصيد بعد ذلك، ثم وجده ميتاً، جاز أكله، بالشرطين المذكورين، وهما: أن يجد فيه سهمه، أو أثره، وَقَدْ تحقق أنه أثر سهمه. وأن لا يجد به أثرًا غير أثر سهمه، مما يَحتمِل أن يقتله، فإذا توفّر فيه هذان الشرطان، جاز أكله؛ للأحاديث الصحيحة المذكورة فِي هَذَا الباب، والتي أشرنا إليها آنفًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4303 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِذَا رَأَيْتَ سَهْمَكَ فِيهِ، وَلَمْ تَرَ فِيهِ أَثَرًا غَيْرَهُ، وَعَلِمْتَ أَنَّهُ قَتَلَهُ فَكُلْ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "إسماعيل بن مسعود": هو الْجَحْدَريّ، أبو مسعود البصريّ، ثقة [10] 42/ 47 منْ أفراد المصنّف. والباقون كلهم رجال الصحيح، و"خالد": هو ابن الحارث الْهُجَيميّ.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق تمام البحث فيه غير مرّة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4304 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرْمِي الصَّيْدَ، فَأَطْلُبُ أَثَرَهُ بَعْدَ لَيْلَةٍ؟، قَالَ: "إِذَا وَجَدْتَ فِيهِ سَهْمَكَ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ سَبُعٌ فَكُلْ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عبد الملك بن ميسرة": هو الهلاليّ، أبو زيد الزّرّاد الكوفيّ، ثقة [4] 100/ 130. والباقون تقدّموا فِي السند الماضي.

والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق البحث فيه غير مرّة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"المغني" 13/ 275 - 278.

ص: 160

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌20 - (الصَّيْدِ إِذَا أَنْتَنَ)

4305 -

(أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ الْخَلاَّلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْنٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُعَاوِيَةُ -وَهُوَ ابْنُ صَالِحٍ- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فِي الَّذِي يُدْرِكُ صَيْدَهُ، بَعْدَ ثَلَاثٍ: "فَلْيَأْكُلْهُ إِلاَّ أَنْ يُنْتِنَ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(أحمد بن خالد الخلّال) -بالمعجمة- أبو جعفر البغداديّ العسكريّ الفقيه، ثقة [10].

قَالَ أبو حاتم: كَانَ خيرًا فاضلاً عدلاً ثقة، صدوقًا، رِضىً. وَقَالَ ابن خِرَاش: كَانَ امرءًا صالخا. قَالَ العجليّ: ثقة. وَقَالَ الدارقطنيّ: ثقة نبيلٌ، قديم الوفاة. وَقَالَ النسائيّ: لا بأس به، وَقَالَ مرّةً: عسكريّ ثقة. وَقَالَ أبو داود: ثقة لم أسمع منه. وَقَالَ داود بن عليّ الأصبهانيّ فِي "أسماء أصحاب الشافعيّ": كَانَ منْ أهل الحديث، والأمن، والأمانة، والورع. وَقَالَ الحاكم: كَانَ منْ جِلّة الفقهاء. وذكره ابن حبَّان فِي "الثقات". قَالَ ابن قانع: مات سنة (247) وَقَالَ غيره: مات سنة (46). تفرّد به المصنّف، والترمذيّ، له عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب أربعة أحاديث: هَذَا الحديث، وفي "كتاب الأشربة" -16/ 5571 - حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه: "نهى أن يَخلِط بسرًا بتمر

" الحديث، و-38/ 5650 - حديث جابر رضي الله تعالى عنه: "كَانَ رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يُنبذ له فِي سقاء

" الحديث، و53/ 5725 - حديث ابن المسيب، وسأله أعرابيّ عن شراب يُطبخ عَلَى النصف؟ فَقَالَ: "لا حَتَّى يذهب ثلثاه، ويبقى الثلث".

2 -

(معن) بن عيسى، أبو يحيى القزّاز المدنيّ، ثقة ثبت، منْ كبار [10] 50/ 65.

3 -

(معاوية بن صالح) الحضرميّ الحمصيّ، قاضي الأندلس، صدوقٌ، له أوهام [7] 50/ 62.

4 -

(عبد الرحمن بن جُبير بن نُفير) الحضرميّ الحمصيّ، ثقة [4] 45/ 952.

ص: 161

5 -

(جُبير بن نُفير) -مصغر الاسمين- الحضرميّ الحمصيّ، ثقة جليلٌ، مخضرمٌ [2] 50/ 62.

6 -

(أبو ثعلبة) الْخُشني الصحابيّ المشهور بكنيته، وَقَدْ اختُلف فِي اسمه عَلَى أقوال: قيل: جرثوم، أو جرثومة، أو جرهم، أو لاشر، وقيل: غير ذلك، وكذلك اختُلف فِي اسم أبيه أيضًا، وَقَدْ تقدم بيان ذلك فِي 4/ 4268 مات رضي الله تعالى عنه سنة (75) وقيل: قبل ذلك فِي أول خلافة معاوية رضي الله تعالى عنه بعد الأربعين. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها). أن رجاله كلهم رجال الصحيحين غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالحمصيين منْ معاوية، شيخه بغدادي، ومعن مدني. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعي عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ) الْخُشَني رضي الله تعالى عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الَّذِي يُدْرِكُ) بضمّ أوله، منْ الإدراك (صَيْدَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ) أي بعد ثلاث ليال (فَلْيَأْكُلْهُ، إِلاَّ أَنْ يُنْتِنَ) بفتح أوله، وتثليث ثالثه، أو بضمّ أوله، وكسر ثاله، يقال: نَتُن الشيءُ بالضمّ نُتُونةً، ونَتانةً، فهو نَتِينٌ، مثلُ قرُبَ، ونَتَنَ نَتْنًا، منْ باب ضَرَبَ، ونَتِنَ يَنتَنُ، فهو نَتِنٌ، منْ باب تَعِبَ، وأنتن إنتانًا، فهو مُنتِنٌ، وَقَدْ تُكسر الميم للإتباع، فيقال: مِنْتِنٌ، وضمُّ التاءِ إتباعًا للميم قليلٌ. قاله الفيّوميّ. وَقَالَ المجد:"النتنُ": ضدّ الفَوْحِ، نَتُنَ، ككرُم، وضربَ، نتانةً، وأنتن، فهو مُنتنٌ، ومِنْتِنٌ، بكسرتين، وبضمّتين، وكقِنْدِيل. انتهى.

وهذا الحديث صريح فِي كون الصيد حلالاً، وإن غاب أكثر منْ ثلاثة أيّام، إذا لم ينتن، حيث جَعَلَ الغَايَة أتى يُنْتِن الصَّيد، فَلَوْ وَجَدَهُ مَثَلاً بَعد ثَلاث، وَلَمْ يُنْتِن حَلَّ، وَإِن وَجَدَهُ بدونَهَا وَقد أَنْتَنَ فَلا، هَذَا ظَاهِر الْحَدِيث. وَأَجَابَ النَّوَوِي بأَنَّ النَّهْي عَن أَكْله إِذَا أَنْتَنَ لِلتَّنْزِيهِ، إلا إن خيف منه الضرر، فيحرم. وهذا مذهب الشافعيّة، وأما المالكية، فحملوا النهي عَلَى التحريم مطلقًا، قَالَ فِي "الفتح": وهو الظاهر

(1)

.

واستدلّ منْ حمل النهي عَلَى التنزيه بقصّة الحوت الذي أكل منه الجيش مع أبي عبيدة رضي الله تعالى عنه نصف شهر، كما سيأتي الحديث فِي ذلك بعد أربعة عشر

(1)

"فتح" 11/ 44.

ص: 162

بابًا، إن شاء الله تعالى.

ووجهه أنهم أكلوا منْ لحم الحوت نصف شهر، وأكل منه النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم بعد ذلك، واللحم لا يبقى غالباً بلا نتن فِي تلك المدة، لاسيما فِي الحجاز، مع شدّة الحرّ.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لكن يحتمل -كما قَالَ فِي "الفتح"- أن يكونوا ملّحوه، وقدّدوه، فلم يدخله نتن، وبهذا لا يتمّ الاستدلال به عَلَى صرف النهي عن التحريم إلى التنزيه.

والحاصل أن حمل النهي منْ أكل الصيد، إذا أنتن عَلَى التحريم، هو الظاهر؛ لظاهر النصّ، وأما حمله عَلَى التنزيه، فيحتاج إلى دليل صريح. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي ثعلبة رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -20/ 4305 - وفي "الكبرى" 22/ 4815. وأخرجه (م) فِي "الصيد" 3568 و3569 (د) فِي "الصيد" 2861 (أحمد) فِي "مسند الشاميين" 17284. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): أنه اسْتُدِلَّ بِالحديث عَلَى أَنَّ الرَّامِي لَوْ أَخَّرَ الصَّيد، عَقِب الرَّمْي إلَى أنْ يَجِدهُ حَلّ بِالشُّرُوطِ المُتَقَدِّمة، وَلا يَحْتَاج إِلَى اسْتِفْصَال، عَن سَبَب غَيْبَته عَنهُ، أكَانَ مَعَ الطَّلَب، أَوْ عَدَمه.

قَالَ الحافظ: لَكِنْ يُسْتدلّ لِلطَّلَب بِمَا وَقَعَ فِي الرواية السابقة التي علّقها البخاريّ، حَيْثُ قَالَ:"فَيَقْتَفِي أَثَره"، فَدَلَّ عَلَى أنَّ الْجَوَاب خَرَجَ عَلَى حَسَب السُّؤَال، فَاخْتَصَرَ بَعْض الرُّوَاة السُّؤَال، فَلَا يُتَمَسَّكُ فِيهِ بِتَرْكِ الاسْتِفْصَال.

واخْتَلَفَ المشترطون للطَّلَب فِي صفته: فَعَن أَبِي حَنِيفَة: إِنْ أَخَّرَ سَاعَة، فَلَمْ يَطْلُب، لم يَحِلّ، وإنْ اتَّبَعَهُ عَقِب الرَّمْي، فَوَجَدَهْ مَيِّتًا حَلَّ. وَعَن الشَّافِعِيَّة، لابُدّ أَنْ يَتْبَعهُ. وَفِي اشْتِرَاط الْعَدْو وَجْهَانِ: أَظْهَرهُمَا يَكْفِي المَشْي عَلَى عَادَته، حَتَّى لو أَسْرَعَ وَجَدَهُ حَيًّا حَلَّ، وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: لَابُدّ منْ الإسْرَاع قَليلاً؛ لِيَتَحَقَّق صُورَة الطَّلَب. وَعِند الحَنَفِيَّة نَحْو هَذَا الاخْتِلَاف. قاله فِي "الفتح"

(1)

.

(1)

"فتح" 11/ 34 - 35 "كتاب الذبائح".

ص: 163

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول بعدم اشتراط الطلب هو الأرجح؛ لظاهر الحديث.

وأما جوابه صلّى الله تعالى عليه وسلم بقوله: "يأكل" حينما سأله عديّ بن حاتم رضي الله تعالى عنه بقوله: "يرمي الصيد، فيقتفي أثره الخ "فإنه خرج عَلَى حسب السؤال؛ لأنه سأله سؤالاً مقيّدًا بالاقتفاء، فأجابه النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم بحلّ الأكل، فلا مفهوم له؛ لأن شرط العمل بمفهوم المخالفة أن لا يخرج الجواب مخرج السؤال؛ كما هنا، فلا يُقيد به الإطلاق الواقع فِي حديث أبي ثعلبة رضي الله تعالى عنه الذي سأل سؤالاً مطلقا، فأجابه جوابًا مطلقًا، بلا استفصال، فلو كَانَ الطلب شرطًا فِي حله، لبيّن له. والحاصل أن عدم اشتراط الطلب للحلّ هو الظاهر، فتأمّل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4306 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سِمَاكٍ قَالَ سَمِعْتُ مُرِّيَّ بْنَ قَطَرِيٍّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُرْسِلُ كَلْبِي فَيَأْخُذُ الصَّيْدَ وَلَا أَجِدُ مَا أُذَكِّيهِ بِهِ فَأُذَكِّيهِ بِالْمَرْوَةِ وَالْعَصَا. قَالَ: "أَهْرِقِ الدَّمَ بِمَا شِئْتَ وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عز وجل").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الحديث لا مناسبة له للترجمة، وسيأتي فِي "كتاب "الضحايا" -19/ 4403 - فِي باب "إباحة الذبح بالعود" سندًا ومتنًا، وهو الموضع المناسب لذكره، فليُتأمّل.

ورجال إسناده رجال الصحيح، غير مرّيّ.

و"خالد": هو ابن الحارث المذكور فِي الباب الماضي. و"سماك": هو ابن حرب. و"مُرّي -بضم الميم، وتشديد الراء، والتحتانية، بلفظ النسب- ابن قَطَريّ" -بفتحتين، وكسر الراء مخفّفة- الكوفيّ، مقبول [3].

روى عن عديّ بن حاتم. وعنه سماك بن حرب. ذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ الذهبيّ: لا يُعرَف، تفرّد عنه سماك. روى له الأربعة، له فِي هَذَا الكتاب هَذَا الحديث فقط، أعاده مرتين.

وقوله "بالمروة" بفتح الميم، وسكون الراء، حجر أبيض، بَرّاقٌ، يُجعل منه كالسكّين. وقيل: هي التي يُقدح منها النار. أفاده فِي "النهاية".

وقوله: "والعصا" وفي رواية: "وشِقّة العصا" بكسر الشين المعجمة: أي ما يُشقّ منها، ويكون محدّدًا.

"وأهرق الدم" بفتح الهمزة فعل أمر، منْ أهرق الماء يهُرقه إهراقًا، والأصل أراقه يُريقه إراقةً.

ص: 164

قَالَ الفيّوميّ: راق الماءُ والدم، وغيره رَيقًا، منْ باب باع: انصبّ، ويتعدّى بالهمزة، فيقال: أراقه صاحبه، والفاعل مُريقٌ، والمفعول مُراقٌ، وتبدل الهمزة هاءً، فيقال: هراقه، والأصل هَرَيْقه، وزان دحرجه، ولهذا تُفتح الهاء منْ المضارع، فيقال: يُهريقه، كما تُفتح الدال منْ يُدحرجه، وتُفتح منْ الفاعل، والمفعول أيضاً، فيقال: مُهَريقٌ، ومُهَراقٌ، قَالَ امرؤ القيس:

وَإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ مُهَرَاقَةٌ

والأمر هَرِقْ ماءكَ، والأصل هَرْيِقْ، وِزانُ دَحْرِجْ. وَقَدْ يُجمع بين الهاء والهمزة، فيقال: أَهْرَاقه يُهرِيقه، ساكن الهاء، تشبيهًا له بأسطاع يُسطيع، كأن الهمزة زيدت عِوَضًا عن حركة الياء فِي الأصل، ولهذا لا يَصِير الفعل بهذه الزيادة خُماسيّا. انتهى.

والحديث أخرجه المصنّف هنا -20/ 4306 و"الضحايا" 19/ 4403 - وفي "الكبرى" 22/ 4816 وفي "الضحايا" 20/ 4491. وأخرجه (د) فِي "الأضاحي" 2824 (ق) فِي "الذبائح" 3177. وَقَدْ سبق القول فيه غير مرّة. وهو صحيح، وسيأتي له شاهد منْ حديث محمد بن صفوان، وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهما فِي "الضحايا" 18/ 4301 و4402 - . والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌21 - (صَيْدِ الْمِعْرَاضِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "المِعراض" -بكسر الميم، كالمفتاح: سَهْمٌ لا ريش له. قاله الفيّوميّ. وَقَالَ ابن الأثير: سهم بلا ريش، ولا نَصْلٍ، وإنما يُصيب بعَرْضه، دون حدّه. انتهى.

وَقَالَ فِي "الفتح": "الْمِعرَاض" -بِكَسْرِ الْمِيم، وَسُكُون الْمُهْمَلَة، وَآخِره مُعْجَمَة-: قَالَ الْخَلِيل، وَتَبِعَهُ جَمَاعَة: سَهْم لَا رِيش لَهُ، وَلا نَصْل. وَقَالَ ابن دُرَيْدٍ، وَتَبعَهُ ابن سِيدَهْ: سهْم طَوِيل، لَهُ أَرْبَع قُذَذ رِقَاق، فَإِذَا رُمِيَ بِهِ اعْتَرَضَ. وَقَالَ الخَطَّابِيّ: المِعْرَاض نصْل عَرِيض، لَهُ ثِقَل وَرَزَانَة. وَقِيلَ: عُود رَقِيق الطَّرَفَيْنِ، غَلِيظ الْوَسَط، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالحُذَافَةِ. وَقِيلَ: خَشَبَة ثَقِيلَة، آخِرهَا عَصَا، مُحَدَّد رَأْسهَا، وَقَدْ لَا يُحَدَّد، وَقَوَّى هَذَا الأَخِيرَ النَّوَويّ، تَبَعًا لِعِيَاضٍ، وَقَالَ القُرْطُبِيّ: إِنَّهُ الْمَشْهُور. وَقَالَ ابْن التِّين:

ص: 165

المِعْراض: عَصًا فِي طَرَفهَا حَدِيدَة، يرمي الصَّائِد بَهِا الصَّيْد، فَمَا أَصَابَ بِحَدِّهِ، فَهُوَ ذَكِيّ فَيُؤْكَل، وَمَا أَصَابَ بغَيرِ حَدّه فَهُوَ وَقِيذ. انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب.

4307 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُرْسِلُ الْكِلَابَ الْمُعَلَّمَةَ، فَتُمْسِكُ

(2)

عَلَيَّ، فَآكُلُ مِنْهُ؟ قَالَ:"إِذَا أَرْسَلْتَ الْكِلَابَ -يَعْنِي الْمُعَلَّمَةَ- وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ، فَأَمْسَكْنَ عَلَيْكَ فَكُلْ"، قُلْتُ: وَإِنْ قَتَلْنَ؟ قَالَ: "وَإِنْ قَتَلْنَ، مَا لَمْ يَشْرَكْهَا كَلْبٌ لَيْسَ مِنْهَا"، قُلْتُ: وَإِنِّى أَرْمِي

(3)

الصَّيْدَ بِالْمِعْرَاضِ، فَأُصِيبُ، فَآكُلُ؟ قَالَ:"إِذَا رَمَيْتَ بِالْمِعْرَاضِ، وَسَمَّيْتَ فَخَزَقَ فَكُلْ، وَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ، فَلَا تَأْكُلْ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن قُدامة": هو الهاشميّ مولاهم المِصّيصيّ، ثقة [10]. و"جرير": هو ابن عبد الحميد. و"منصور": هو ابن المعتمر. و"إبراهيم": هو ابن يزيد النخعيّ. و"همّامٌ": هو الحارث النخعيّ الكوفيّ الثقة العابد، وكلهم منْ رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو وأبو داود.

وقوله: "فآكل منه" هو عَلَى تقدير أداة الاستفهام، أي أفآكل منه؟.

وقوله: "فخزق" هُوَ بِفَتْح المُعْجَمَة وَالزَّاي، بَعْدهَا قَاف: أَيْ نَفَذَ، يُقَال: سَهْم خَازِق: أَيْ نَافِذ، وَيُقَال: بِالسِّينِ الْمُهْمَلة، بَدَل الزَّاي. وَقِيلَ: الخَزْق -بِالزَّايِ. وَقِيلَ: تُبْدَل سِينًا: الْخَدْش، وَلَا يَثبُت فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ بِالرَّاءِ، فَهُوَ أَنْ يَثْقُبهُ. وَحَاصِله أنَّ السَّهْم، وَمَا فِي مَعْنَاهُ، إِذَا أَصَابَ الصَّيد بحَدِّهِ حَلَّ، وَكَانَتْ تِلْكَ ذَكَاته، وَإِذَا أَصَابَهُ بِعَرْضِهِ لَمْ يَحِلّ؛ لأَنَّهُ فِي مَعْنَى الخَشَبَة الثَّقِيَلةَ، وَالْحَجَر، وَنَحْو ذَلِكَ منْ المُثَقَّل.

وقوله: "إذا أصاب بعَرْضه، فلا تأكل": -بِفَتحِ الْعَيْن: أَي بِغَيْرِ طَرَفه الْمُحَدَّد.

والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ استوفيت شرحه، وبيان مسائله فِي: / 4265، وبقي الكلام عَلَى ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، فأتكلّم فيه هنا، فأقول:

[مسألة]: فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم صيد الْمِعْرَاض:

ذهب الجمهور إلى هَذَا التفصيل الذي ذكر فِي حديث الباب، منْ أن المعراض إذا أصاب بحدّه حلّ الصيد، وإذا أصاب بعرضه لم يحلّ، وهو قول عليّ، وسلمان، وعمّار، وابن عبّاس رضي الله تعالى عنهم، وبه قَالَ النخعيّ، والحكم، ومالكٌ، والثوريّ، والشافعيّ، وأبو حنيفة، وإسحاق، وأبو ثور.

(1)

"فتح" 11/ 21.

(2)

وفي نسخة: "فيُمسكن".

(3)

وفي نسخة: "نرمي" والأول أوضح.

ص: 166

وذهب الأوزاعيّ، وأهل الشام إلى أنه يُباح ما قتله بحدّه، وعَرْضه. وَقَالَ ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: ما رُمي منْ الصيد بجُلَاهِق

(1)

، أو مِعْرَاض، فهو منْ الموقوذة. وبه قَالَ الحسن.

واحتجّ الجمهور بحديث عديّ رضي الله تعالى عنه المذكور فِي الباب، فهو نصّ صريح فِي المسألة، قَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى: وحكم سائر آلات الصيد حكم المعراض فِي أنها إذا قتلت بعرضها، ولم تجرح لم يُبَح الصيد، كالسهم يُصيب الطائر بعرضه، فيقتله، والرمح، والحربة، والسيف يُضرَب به صفحًا، فيقتل، فكلّ ذلك حرام، وهكذا إن أصاب بحدّه، فلم يجرح، وقتل بثقله لم يُبَح؛ لقوله صلّى الله تعالى عليه وسلم:"ما خرق فكل"، ولأنه إذا لم يجرحه، فإنما يقتل بثقله، فأشبه ما أصاب بعرضه. انتهى

(2)

.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الجمهور منْ القول بالتفصيل فِي هذه المسألة، كما نصّ عليه حديث عديّ رضي الله تعالى عنه هو الحقّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌22 - (مَا أَصَابَ بِعَرْضٍ مِنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا فِي النسخة "الهنديّة" أي هَذَا باب ذكر الحديث الدّالّ عَلَى حكم ما أصابه الصائد منْ الصيد بعرض المعراض. وفي بعض النسخ: "ما أصاب بعرض منْ صيد العراض"، وفي أخرى:"ما أصاب بعد فرض صيد المعراض"، والظاهر أنهما مصحّفان، والصواب الأول. والله تعالى أعلم بالصواب.

4308 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمِعْرَاضِ؟ فَقَالَ: "إِذَا أَصَابَ بِحَدِّهِ، فَكُلْ، وَإِذَا أَصَابَ

(1)

"الْجُلَاهِقُ كعُلَابِطِ: البُنْدُق الذي يُرْمَى به. انتهى "القاموس".

(2)

"المغني" 13/ 282 - 283.

ص: 167

بِعَرْضِهِ، فَقُتِلَ، فَإِنَّهُ وَقِيذٌ، فَلَا تَأْكُلْ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وشيخه الفلّاس أحد مشايخ الأئمة الستة الذين رووا عنهم بلا واسطة، و"محمد بن جعفر": هو غندر.

[تنبيه]: وقع فِي جميع نسخ "المجتبى" التي بين أيدينا، وفي "الكبرى" هنا:"محمد ابن يعقوب" بدل محمد بن جعفر، وهو غلط فاحشٌ، والصواب ما هنا: محمد بن جعفر غندر، كما نصّ عليه الحافظ أبو الحجّاج المزّيّ رحمه الله تعالى فِي "تحفة الأشراف" 7/ 279، ولا يوجد فيمن روى عن شعبة منْ اسمه محمد بن يعقوب، كما يظهر منْ مراجعة "تهذيب الكمال" 212/ ص 486 - 489. فتنبّه. والله تعالى أعلم.

وقوله: "فإنه وقيذ". الوَقِيذ -بِالْقَافِ، وَآخِره ذَال مُعْجَمَة- وِزان عَظِيم: فَعِيلَ بِمَعْنَى مَفْعُول، وَهُوَ مَا قُتِلَ بِعَصًا، أَو حَجَر، أَوْ مَا لا حَدّ لَهُ، وَالمَوْقُوذَة تَقَدَّمَ تَفْسِيرهَا، وَأنَّها الَّتِي تُضْرَب بِالْخَشَبَةِ حَتَّى تَمُوت.

والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ مضى القول فيه غير مرّة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌23 - (مَا أَصَابَ بِحَدٍّ مِنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وقع فِي بعض النسخ، وهو الذي فِي "الكبرى":"ما أصاب بحدّ منْ صيد المعراض"، والظاهر أن الأول هو الصواب، والله تعالى أعلم بالصواب.

4309 -

(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الذَّارِعُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مِحْصَنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ

(1)

صلى الله عليه وسلم، عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ، فَقَالَ:"إِذَا أَصَابَ بِحَدِّهِ، فَكُلْ، وَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ، فَلَا تَأْكُلْ").

(1)

وفي بعض النسخ: "النبيّ".

ص: 168

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، غير "الحسين بن محمد الذّرّاع"، وهو السعديّ، أبو عليّ البصريّ، صدوقٌ [10] 97/ 1355، فقد تفرد به هو والترمذي.

[تنبيه]: قوله: "الذّرّاع" بالذال المعجمة، والراء بعدها ألف، هكذا فِي نسخ "المجتبى"، والذي فِي "التهذيبين"، و"الكاشف":"الذارع" بتقديم الألف عَلَى الراء، وأما ما وقع فِي بعض نسخ "المجتبى" بالزاي، بدل الذال، فهو تصحيف، فتنبّه.

و"أبو مِحْصَن" -بكسر الميم، وسكون الحاء، وفتح الصاد المهململتين-: هو حُصين بن نُمير -بالتصغير فيهما- الضرير الكوفيّ، لا بأس به، ورمي بالنصب [8] 47/ 1731. و"حُصَين": هو ابن عبد الرحمن السلميّ، أبو الهُذيل الكوفيّ، ثقة تغير فِي الآخر [5] 47/ 846.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق البحث فيه غير مرّة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعمِ الوكيل.

4310 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، وَغَيْرُهُ، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ؟ فَقَالَ: "مَا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ، فَكُلْ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ، فَهُوَ وَقِيذٌ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلّهم تقدموا غير مرّة. و"زكريا": هو ابن أبي زائدة.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه غير مرّة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌24 - (اتِّبَاعِ الصَّيْدِ)

4311 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي مُوسَى ح وَأَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا، وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفُلَ، وَمَنِ اتَّبَعَ السُّلْطَانَ افْتُتِنَ". وَاللَّفْظُ لاِبْنِ الْمُثَنَّى).

ص: 169

رجال هَذَا الإسناد. سبعة:

1 -

(إِسْحَاق بنُ إِبرَاهِيمَ) ابن راهويه الإِمام الحجة الثبت [10] 2/ 2.

2 -

(محمد بن المثنى) أبو موسى الْعَنَزي البصريّ، ثقة حافظ [10] 64/ 80.

3 -

(عبد الرحمن) بن مهدي الإِمام الحجة الثبت البصريّ [8] 42/ 49.

4 -

(سفيان) بن سعيد الثوريّ الإِمام الحجة الثبت [7] 33/ 37.

5 -

(أبي موسى) قَالَ فِي "التَّقْرِيب": أَبُو مُوسَى، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، مَجْهُولٌ [6]، وَوَهِمَ مَن قَالَ: إِنَّه إِسرَائِيلُ بْنُ مُوسى. انْتَهَى.

وَقَالَ فِي "تَهْذِيبِ التَّهْذِيب": أَبُو مُوسَى، شَيْخٌ يَمَانِيٌّ، رَوَى عَن وَهْبِ بن مُنَبِّهٍ، عَن ابن عَبَّاس، حَدِيثَ:"مَنْ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ"، وَعَنهُ سُفيَانُ الثَّوْرِيُّ، مَجْهُول، قَالَهُ ابْنُ القَطَّانِ. وذَكَرَ المزِّيُّ فِي تَرْجمَةِ أَبِي مُوسَى، إِسْرَائِيلَ بْنِ مُوسَى، الْبَصْرِيِّ، أَنَّهُ رَوَى عَن ابْنِ مُنَبِّهِ، وَعَنْهُ الثَّورِيُّ، وَلَمْ يَلْحَق البَصْرِيُّ، وَهْبَ بن مُنبِّهٍ، وإنَّمَا هَذَا آخَرُ، وَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ابْن حِبَّانَ فِي "الثِّقَاتِ"، وَابْنُ الْجَارُودِ فِي "الْكُنَى"، وَجَمَاعَةٌ. انْتَهَى

(1)

. روى له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، له عندهم هَذَا الحديث فقط.

6 -

(وهب بن منبّه) أبو عبد الله الأَبْناويّ اليمانيّ، ثقة [3] 65/ 2557.

7 -

(ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما و27/ 31. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير أبي موسى. (ومنها): أن فيه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما منْ العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما (عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَال: "مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا) أيْ غلُظ طبعه؛ لقلّة مخالطة العلماء، فصَارَ فِيهِ جَفَاءُ الأَعْرَاب، فلا يتحمّل الأذى منْ النَّاس، فيتغير خُلُقه بأدنى سبب؛ حيث فَقَدَ مَنْ يُرَوِّضهُ، وَيُؤَدِّبهُ، قَالَ الله تَعَالَى:{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} الآية [التوبة: 97]. وَقَالَ الْقَاضِي: جَفَا الرَّجُلُ إِذَا غَلُظَ قَلْبُهُ، وَقَسَا، وَلَمْ يَرِقَّ لِبرٍّ، وَصِلَةِ رَحِمٍ، وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى سُكَّانِ الْبَوَادِي؛ لِبُعْدِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقِلَّةِ اخْتِلَاطِهِمْ

(1)

راجع "تهذيب التهذيب" 4/ 596.

ص: 170

بِالنَّاسِ، فَصَارَت طِبَاعُهُمْ، كَطِبَاع الْوُحُوشِ، وَأَصْلُ التَّرْكِيب لِلنُّبُوِّ عَن الشَّيْءِ. ذكره المباركفوريّ رحمه الله تعالى.

(وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ) أَي لَازَمَ اتِّبَاعَ الصَّيْدِ، وَالِاشْتِغَالَ بِهِ، وَرَكِبَ عَلَى تَتَبُّع الصَّيْدِ، كَالحَمَام وَنَحْوِهِ؛ لَهْوًا، وَطَرَبًا (غَفَلَ) بفتح الفاء، منْ باب نصر، هو المشهور فِي كتب اللغة، وضبطه السيوطيّ فِي "شرحه" بضم الفاء، ولم أره لغيره، وفي "المصباح": الغفلة غيبةُ الشيء عن بال الإنسان، وعدمُ تذكّره له، وَقَدْ استُعملَ فيمن تركه إهمالًا، وإعراضًا، كما قوله تعالى:{وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1] يقال منه: غَفَلتُ عن الشيء غُفُولاً، منْ باب قعد، وله ثلاثة مصادر: غُفُولٌ، وهو أعمّها، وغَفْلَةٌ، وزانُ تَمْرَة، وغَفَلٌ، وزانُ سبب، قَالَ الشاعر [منْ الكامل]:

إِذْ نَحْنُ فِي غَفَلٍ وَأَكْثَرُ هَمِّنَا

صَرْفُ النَّوَى وَفِرَاقُنَا الْجِيرَانَا

انتهت عبارة "المصباح"

(1)

.

وَقَالَ المرتضى فِي "شرح القاموس" عند قوله: "غَفَل غُفُولاً": ما نصه: قَالَ شيخنا: صريحه أنه ككتب، وحكَى بعضهم فيه غَفِلَ، كفرِحَ، ثم رأيت فِي بعض المصنّفَات:[منْ الطويل]:

غَفَلْتُ بِفَتْحِ الْفَاءِ ثُمَّ بِكَسْرِهَا

وَضَمٌّ وَفَتْحُ الفَاءِ جَا لِمُضَارعِ

وَلَكِنَّهُ بِالضَّمِّ جَاءَ مُصَحَّحَا

وَفِي قِلَّة بِالْفَتْحِ ضَبْطًا لِسَامِعِ

ثم قَالَ: وهذا الذي أشار إلى قلّته لا أعرِفه، ولم أقف عليه فِي شيء منْ المصنّفات اللغويّة، عَلَى كثرة الاستقراء، فانظر صحّة ذلك. انتهى

(2)

.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الحاصل أن ما تقدّم للسيوطيّ منْ ضبط غفل ماضياً بضمّ الفاء لم يذكره أهل اللغة، فلعله سرى له ضم المضارع إلى الماضي. فليُتنبّه.

والمعنى هنا: أَنه استولى عليه حبّ الصيد، حَتَّى يصير غافلاً، عَنِ الطَّاعَةِ، وَالعِبَادَةِ، وَلُزُوم الجَمَاعَةِ، وَالْجُمْعَةِ، وَبَعِيدًا عَن الرِّقَّةِ، وَالرَّحْمَةِ، لشغل قلبه به، واستيلائه عليه، فصار شبيهًا بِالسَّبْعِ، وَالْبَهِيمَةِ. والله تعالى أعلم.

(وَمَنِ اتَّبَعَ السُّلْطَانَ) أَيْ منْ غَيْرِ ضَرُورَة، وَحَاجَةٍ لِمَجِيئِهِ (افْتُتِنَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ: أَيْ وَقَعَ فِي الْفِتْنَةِ، فَإِنَّهُ إنْ وَافَقَهُ فِيمَا يَأْتِيهِ، وَيَذَرُهُ، فَقَدْ خَاطَرَ عَلَى دِينِهِ، وَإِنْ خَالَفَهُ فَقَدْ خَاطَرَ عَلَى دُنْيَاهُ.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 449 - 450.

(2)

"تاج العروس منْ جواهر القاموس" 8/ 46 - 47.

ص: 171

وفي رواية أبي داود منْ حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: "ومن لزم السلطان افتُتِن، وما ازداد عبد منْ السلطان دُنُوًّا، إلا ازداد منْ الله بُعْدًا".

وَقَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي مَنْ التَزَمَ الْبَادِيَةَ، وَلَمْ يَحْضُرْ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ، وَلا الْجَمَاعَةَ، وَلا مَجَالِسَ الْعُلَمَاءِ، فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، وَمَنْ اعْتَادَ الاصْطِيَادَ لِلَّهْوِ، وَالطَّرَبِ، يَكُونُ غَافِلاً؛ لِأَنَّ اللَّهْوَ، وَالطَّرَبَ، يُحْدِثُ منْ القَلْبِ الْمَيْتَ، وَأَمَّا مَنْ اصْطادَ لِلْقُوتِ، فَجَازَ لَهُ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَصْطَادُونَ، وَمَنْ دَخَلَ عَلَى السُّلْطَانِ وَدَاهَنَهُ، وَقَعَ فِي الْفِتْنَةِ، وأَمَّا مَنْ لَمْ يُدَاهِنْ، وَنَصَحَهُ، وَأَمَرَهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَاهُ عَن المُنْكَرِ، فَكَانَ دُخُولُهُ عَلَيْهِ أَفْضَلَ الْجِهَادِ. انْتَهَى.

وقوله: (وَاللَّفْظُ لاِبْنِ الْمُثَنَّى) يعني أن لفظ الحديث المذكور هنا لمحمد بن المثنّى شيخه الثاني، وأما إسحاق، فرواه بالمعنى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث.

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما حسنٌ.

[فإن قلت]: كيف يُحسّن، وفيه أبو موسى، وهو مجهول؟.

[قلت]: إنما حسن لما يأتي له قريبًا منْ الشواهد، إن شاء الله تعالى.

[تنبيه]: قَالَ الإِمام الترمذي رحمه الله تعالى بعد إخراج هَذَا الحديث: ما نصّه: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ منْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ. قَالَ المُنْذِرِيُّ -بَعْدَ نَقْلِ كَلَام التَّرْمِذِيِّ هَذَا-: ما نصّه: وَفِي إِسنَادِهِ أَبُو مُوسَى، عَن وَهْبِ بْنِ مُنبِّه، وَلا نَعْرِفُهُ. قَالَ الحَافِظُ أَحْمَدُ الكَرَابِيسِيُّ: حَدِيثُهُ لَيْسَ بِالقَائِمِ. هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ. وَقَدْ رُوِيَ منْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا. وَرُوِيَ أَيْضًا منْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِب، وَتَفَرَّدَ بِهِ شَرِيكُ بنُ عَبْد اللهِ، فِيمَا قَالَ الدَّارَقُطنِيُّ، وَشَرِيكٌ فِيهِ مَقَالٌ. انْتَهَى كَلَامُ المُنْذِرِيّ رحمه الله تعالى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه الأحاديث، وإن كَانَ مفراداتها لا تخلو عن مقال، لكن مجموعها يتقوّى، فلا تنزل عن درجة الحسن، فتأمّل. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: صحح الشيخ الألباني هَذَا الحديث، ولعله ظنًا منه أن أبا موسى هو إسرائيل ابن موسى البصريّ، نزيل الهند، وهو ثقة، فقد كتب فِي هامش "تحفة الأشراف" -5/ 265 - ما يصرّح بأنه هو، فإن كَانَ هو، فالحديث صحيح؛ كما قَالَ الشيخ الألباني؛ لأنه ثقة معروف، لكن تصريح الحفاظ: أبي أحمد الكرابيسيّ، والمنذريّ، وابن

ص: 172

حجر بأنه غيره يعكر عليه.

ويحتمل أنه إنما صححه؛ لشواهده، فقد أخرجه أبو داود منْ حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، منْ طريق عدي بن ثابت، عن شيخ منْ الأنصار، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه، لكنه قَالَ:"ومن لزم السلطان افتُتِن"، زاد:"وما ازداد عبد منْ السلطان دُنُوًّا، إلا ازداد منْ الله بعدا"، وفيه هَذَا الشيخ المجهول. وَرُوِيَ أَيْضًا منْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بنِ عَازِبٍ، وَتَفَرَّدَ بِهِ شَرِيكُ بنُ عَبْد اللهِ، فِيمَا قَالَ الدَّارَقُطنِيّ، وَشَرِيكٌ فِيهِ مَقَالٌ.

لكن الذي يظهر لي تحسينه، لا تصحيحه، فتأمّل. والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -24/ 4311 - وفي "الكبرى" 26/ 4821. وأخرجه (د) فِي "الصيد" 2859. (ت) فِي "الفتن"2256. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ذمُّ سكنى البادية؛ لأنه يؤدّي إلى البعد عن أهل العلم، والتخلّق بالأخلاق الفاضلة، والتخلّف عن الجماعة، والجمعة، ومحافل الخيرات. (ومنها): ذمّ اتّباع الصيد؛ لأنه يؤدّي إلى الغفلة عن الطاعة، وهو محمول عَلَى منْ يُكثر ذلك، بحيث يكون مُغرمًا به، يذهل عن أداء الواجبات، والتفريط فِي القيام بالمهمّات، وإلا فقد أذن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم؛ لعديّ بن حاتم، وأبي ثعلبة الخشنيّ، وغيرهما منْ الصحابة رضي الله تعالى عنهم. (ومنها): ذمّ اتّباع أبواب السلاطين؛ لما يؤدّي إليه منْ الفتن، إما فِي بدنه، إن أنكر عليهم فيما يفعلون منْ المنكرات، والمخالفات، أو فِي دينه، وهو أشدّ، إن وافقهم، أو سكت عن الإنكار عليهم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌25 - (الأَرْنَبُ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الأرنب" بفتح الهمزة، وسكون الراء، وفتح النون: فَعْلَلٌ عند أكثر النحويين، وزعم الليث أن الألف زائدة، وهو حَيَوان يُشبه العَنَاقَ، قصير اليدين، طويل الرجلين، عكس الزرافة، يطأ الأرض عَلَى مؤخّر قوائمه، وهو اسم

ص: 173

جنس للذكر، والأنثى، أو الأرنب للأنثى، والْخُزَز، كصُرَد للذكر. قاله المرتضى فِي "شرح القاموس"

(1)

.

وَقَالَ فِي "الفتح": "الأَرْنب": دُوَيْبَّة مَعْرُوفَة، تُشبِه الْعَنَاق، لَكِنْ فِي رِجْلَيهَا طُول، بِخِلافِ يَدَيْهَا، وَالأَرْنَب اسْم جنْس لِلذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَيُقَال لِلذَّكَرِ أَيْضًا: الْخُزَز، وِزان عُمَر -بِمُعْجَمَات- وَلِلأُنْثَى عِكْرِشَة، وَلِلصَّغِيرِ خِرْنِق -بِكَسْرِ الْمُعْجَمَة، وَسُكُون الرَّاء، وَفَتْح النُّون، بَعْدهَا قَاف- هَذَا هُوَ المَشْهُور. وَقَالَ الجَاحِظ: لا يُقَال: أَرْنَب، إِلَّا لِلْأُنْثَى، وَيُقَال: إِنَّ الأَرْنَب شَدِيدَة الْجُبْن، كَثِيرَة الشَّبَق، وَأنَّها تَكُون سَنَة ذَكَرًا، وَسَنَة أُنْثَى، وَأَنَّهَا تَحِيض. وَيُقَال: إِنَّهَا تَنَام، مَفْتُوحَة الْعَيْن. انتهى

(2)

. والله تعالى أعلم بالصواب.

4312 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ الْبَحْرَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَبَّانُ -وَهُوَ ابْنُ هِلَالٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِىٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بِأَرْنَبٍ قَدْ شَوَاهَا، فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَمْسَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَأْكُلْ، وَأَمَرَ الْقَوْمَ أَنْ يَأْكُلُوا، وَأَمْسَكَ الأَعْرَابِيُّ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَأْكُلَ؟ "، قَالَ: إِنِّي أَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، قَالَ: "إِنْ كُنْتَ صَائِمًا، فَصُمِ الْغُرَّ").

قَال الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث تقدّم فِي "كتاب الصيام" -84/ 2421 - وهو ضعيف؛ لأن عبد الملك بن عمير، وإن كَانَ ثقة، لكنه تغيّر حفظه، وربّما دلّس، وَقَدْ خولف فيه، كما تقدّم بيان هَذَا كلّه بالرقم المذكور.

و"محمد بن معمر": هو القيسيّ البصريّ، صدوقٌ، أحد مشايخ الستة، بلا واسطة. و"حبَّان" بفتح الحاء المهملة. و"أبو عوانة": هو الوضّاح بن عبد الله اليشكريّ. و"عبد الملك بن عُمير": هو الفرسيّ الكوفيّ. و"موسى بن طلحة" بن عُبيد الله: هو التيميّ المدنيّ، نزيل الكوفة الثقة الجليل.

وقوله: "فصم الغرّ" بضمّ الغين المعجمة: جمع أغرّ: أي أيام الليالي البيض التي يضيء فيها القمر منْ أول الليل إلى آخره. وتمام الشرح تقدّم فِي "كتاب الصيام" بالرقم المذكور، وأتكلّم هنا عَلَى ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، فأقول:

(مسألة): فِي اختلاف أهل العلم فِي أكل الأرنب:

قَالَ الإِمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: والأرنب مباحة، أكَلَها سعدُ بن أبي وقّاص، ورخص فيها أبو سعيد، وعطاء، وابن المسيّب، والليث، ومالك، والشافعيّ،

(1)

راجع "تاج العروس منْ جواهر القاموس" 1/ 279.

(2)

"فتح" 11/ 97 "كتاب الذبائح" رقم الْحَدِيث 5535.

ص: 174

وأبو ثور، وابن المنذر، ولا نعلم قائلاً بتحريمها، إلا شيئاً رُوي عن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه

(1)

.

وَقَالَ فِي "الفتح": ما حاصله: ذهب الْعُلَمَاء كَافَّة إلى جَوَاز أَكْل الأَرْنَب، إِلَّا مَا جَاءَ فِي كَرَاهَتهَا عَن عَبْد الله بْن عُمَر، مِنْ الصَّحَابَة، وَعَن عِكْرِمَة مِنْ التَّابِعِينَ، وَعَن مُحَمَّد ابْن أَبِي لَيلَى منْ الْفُقَهَاء، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ خُزَيْمَةَ بْن جَزْء:"قُلْت: يَا رَسُول الله، مَا تَقُول فِي الأَرْنَب؟ قَالَ: "لا آكُلهُ، وَلا أُحَرِّمهُ"، قلت: فَإِنِّي آكُل مَا لا تحُرِّمهُ، وَلِمَ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: نُبِّئْت أنَّها تَدْمَى". وَسَنَده ضَعِيف، وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلالَة عَلَى الكَرَاهَة، كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيره فِي باب "باب الضبّ" بَعْد هَذَا، وَلَهُ شَاهِد، عَن عَبْد الله بْن عَمْرو، بلَفْظِ:"جِيءَ بهَا إِلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَأَكُلهَا، وَلَمْ يَنْهَ عَنهَا، زَعَمَ أَنَّهَا تَحِيض"، أَخْرَجَهُ أبُو دَاوُدَ، وَلَهُ شَاهِد عَن عُمَر، عِنْد إِسْحَاق بن رَاهْوَيْهِ، فِي "مُسْنَده".

وَحَكَى الرَّافِعِيّ عَن أَبِي حَنِيفَة، أَنَّهُ حَرَّمَهَا، وَغَلَّطَهُ النَّوَوِيّ فِي النَّقْل عَنْ أَبِي حَنِيفَة. انتهى

(2)

.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه كافّة أهل العلم منْ جواز أكل الأرنب هو الحقّ؛ لصحّة الأحاديث بذلك، كحديث أنس رضي الله تعالى عنه الآتي بعد حديث، وهو متَّفقٌ عليه، وحديث أبي ذرّ رضي الله تعالى عنه الآتي بعد هَذَا، وحديث ابن صفوان الآتي آخر الباب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4313 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ الْحَوْتَكِيَّةِ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ رضى الله عنه: مَنْ حَاضِرُنَا يَوْمَ الْقَاحَةِ؟، قَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ: أَنَا، أُتِىَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَرْنَبٍ، فَقَالَ الرَّجُلُ الَّذِي جَاءَ بِهَا: إِنِّي رَأَيْتُهَا تَدْمَى، فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، لَمْ يَأْكُلْ، ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ: "كُلُوا"، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: "وَمَا صَوْمُكَ؟ "، قَالَ: مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، قَالَ: "فَأَيْنَ أَنْتَ عَنِ الْبِيضِ الْغُرِّ؟ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن منصور": هو الجوّاز المكيّ. و"سفيان": هو ابن عيينة. و"حكيم بن جُبير": هو الأسديّ الكوفيّ، ضعيف، رمي بالتشيّع [5] 84/ 2426 و"محمد بن عبد الرحمن": هو ابن أبي ليلى الكوفيّ القاضي، صدوقٌ، سيّء الحفظ جدًّا [7] 19/ 2149. و"عمرو عثمان": هو التيميّ مولاهم الكوفيّ، ثقة [6] 10/ 468.

(1)

فيه نظر، فإنه سيأتي فِي عبارة "الفتح" قد خالف غيره، فتنبه.

(2)

"فتح" 11/ 98 "كتاب الذبائح" رقم الحديث 5535.

ص: 175

و"ابن الْحَوْتَكِيّة": هو يزيد التميميّ الكوفيّ، مقبول [2] 84/ 2425.

[تنبيه]: وقع فِي النسخ المطبوعة منْ "المجتبى" هنا "عن أبي الحوتكيّة"، وهو تصحيف، والصواب "عن ابن الحوتكّية"، فتنبّه. والله تعالى أعلم. و"عمر": هو ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه. و"أبو ذرّ": هو جندب بن جنادة الغفاريّ رضي الله تعالى عنه.

وقوله: "منْ حاضرنا يوم القاحة" -هو بالقاف، والحاء المهملة- وصحّف منْ ضبطه بالفاء: موضع بين مكة والمدينة، عَلَى ثلاث مراحل منها. والمعنى: أي شخص كَانَ معنا فِي اليوم الذي نزل فيه رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم هَذَا المكان، ونحن معه، وسبب قول عمر رضي الله تعالى عنه هَذَا أنه سئل عن حكم أكل الأرنب، فأراد أن يبيّن ما قاله رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فِي شأنها، فأراد أن يستثبت الخبر منْ غيره، فأجابه أبو ذرّ رضي الله تعالى عنه بأنه كَانَ حاضرًا، ثم ذكر القصّة.

وقوله: "رأيتها تدمى" مضارع دَمِيَ، كرضي: أي تحيض؛ لأنها منْ الحيوانات التي تحيض، قيل: هي ثلاث: الأرنب، والضبع، والْخُفّاش

(1)

.

وقوله: "فكان النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم الخ": قَالَ السنديّ: الظاهر أنها -أي كَانَ- ماضي "يكون"، وجعلها بعضهم منْ أخوات "إنّ" -أي كأنّ بالهمز وتشديد النون- و: إنهم زعموا أنه لا فائدة فِي "كَانَ" هاهنا، وعلى هَذَا ينبغي أن يجعل للظنّ، لا للتشبيه، إذ لا يظهر له وجهٌ، فليُتأمّل. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أنه لا حاجة إلى هَذَا التكلّف، وإخراج الكلام عن ظاهره، بل الصواب أنها "كَانَ"، والمعنى عليه صحيح.

والمراد أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم لم يبدأ فِي الأكل، ولكنه كَانَ عازما عَلَى الأكل، فقد جاء فِي رواية:"أنه مدّ يده إليها"، فلما سمعه يقول: رأيتها تَدمَى، استمرّ عَلَى عدم أكله، وكفّ يده عنها، وَقَالَ لأصحابه:"كلوا"، وبين لهم عدم حاجته إليها، فَقَالَ:"لو اشتهيتها لأكلتها".

يوضّح هَذَا المعنى كلّه ما تقدّم للمصنّف فِي "كتاب الصيام" -2428 - منْ طريق القاسم بن معن، عن طلحة بن يحيى، عن موسى بن طلحة: أن رجلاً أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم بأرنب، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم، مَدّ يده إليها، فَقَالَ الذي جاء بها: إني رأيت بها دماً، فَكَفَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، وأمر القوم أن يأكلوا

" الحديث.

(1)

راجع "حاشية ابن عابدين عَلَى الدرّ المختار" فِي الفقه الحنفيّ 1/ 295.

ص: 176

وفي رواية -2429 - : قَالَ: أُتي النبيّ صلى الله عليه وسلم بأرنب، قد شواها رجلٌ، فلما قدّمها إليه قَالَ: يا رسول الله، إني قد رأيت بها دَمًا، فتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يأكلها، وَقَالَ لمن عنده:"كلوا، فإني لو اشتهيتها أكلتها"

" الحديث. وهو مرسلٌ صحيح الإسناد.

فهذا يوضّح ما قدّمته منْ صحة المعنى عَلَى لفظة "كَانَ"، فتأمّل. والله تعالى أعلم.

وقوله: "فَقَالَ رجل: إني صائم" هو الأعرابيّ الذي جاء بالأرنب إلى النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، كما بُيّن فِي الروايات الأخرى.

والحديث صحيح، تقدّم شرحه، وتخريجه فِي "كتاب الصيام". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4314 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ هِشَامٍ -وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ- قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا، يَقُولُ: "أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا، بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَأَخَذْتُهَا، فَجِئْتُ بِهَا إِلَى أَبِي طَلْحَةَ، فَذَبَحَهَا، فَبَعَثَنِى بِفَخِذَيْهَا وَوَرِكَيْهَا، إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَبِلَهُ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الجحدري البصريّ، ثقة [10] 42/ 47.

2 -

(خالد) بن الحارث الهجيمي البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإِمام الحجة الثبت البصريّ [7] 24/ 27.

4 -

(هشام بن زيد) أنس بن مالك الأنصاريّ البصريّ ثقة [5].

رَوَى عن جده، وعنه ابن عون، وشعبة، وعروة بن ثابت، وحماد بن سلمة. قَالَ إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة. وَقَالَ أبو حاتم: صالح الحديث. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". روى له الجماعة، وله فِي هَذَا الكتاب ثلاثة أحاديث، هَذَا، و (4441) حديث:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُصبَر البهائم"، و (4781) حديث:"فدعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتله بين حجرين".

5 -

(أنس) بن مالك رضي الله تعالى عنه 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه رواية الراوي عن جدّه، هشام، عن أنس، وفيه أنس رضي الله تعالى عنه منْ المكثرين البعثة، روى (2286) حديثاً، وهو آخر منْ مات بالبصرة منْ الصحابة رضي الله تعالى عنهم، مات سنة (93) وقيل: غير ذلك. والله تعالى أعلم.

ص: 177

شرح الحديث

(عَنْ هِشَامٍ -وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ) بن أنس بن مالك، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا) رضي الله تعالى عنه (يَقُولُ: "أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا) -بِفَاءٍ مَفْتُوحَة، وَجِيم سَاكِنَة: أَي أَثَرْنَا، وَفِي رِوَايَة مُسْلِم:"اسْتَنْفَجْنَا": وَهُوَ اسْتِفْعَال مِنْهُ، يُقَال: نَفَجَ الأَرْنَبُ إِذَا ثَارَ وَعَدَا، وَانْتَفَجَ كَذَلِكَ، وَأَنْفَجْتُهُ إِذَا أَثَرْتَهُ منْ مَوْضِعه، وَيُقَال: إِنَّ الانْتِفَاج الاقْشِعْرَار، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى: جَعَلْنَاهَا بطَلَبِنَا لَهَا تَنْتَفِج، وَالانْتِفَاج أَيْضًا: ارْتِفَاع الشَّعْر، وَانْتِفَاشه. وَوَقَعَ فِي "شَرْح مُسْلم" لِلْمَازَرِيّ:"بَعَجْنَا" -بِمُوَحَّدَة، وَعَيْن مَفْتُوحَة- وَفَسَّرَهُ بِالشَّقِّ، مِنْ بَعَجَ بَطْنه: إِذَا شَقَّهُ. وَتَعَقَّبَهُ عِيَاض بِأَنَّهُ تَصْحِيف، وَبِأَنَّهُ لا يَصِحّ مَعْنَاهُ مِنْ سِيَاق الْخَبَر؛ لأَنَّ فِيهِ أَنَّهمْ سَعَوْا فِي طَلَبِهَا بَعد ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ شَقُّوا بَطْنهَا، كَيف كَانُوا يَحْتَاجُونَ إِلَى السَّعْي خَلْفهَا. قاله فِي "الفتح".

(بِمَرِّ الظَّهْرَانِ)"مَرّ" -بِفَتحِ الْمِيم، وَتَشْدِيد الرَّاء- و"الظَّهْرَانِ" -بِفَتْح الْمُعْجَمَة- بِلَفْظِ تَثْنِيَة الظَّهْر: اسْم مَوْضِع عَلَى مَرْحَلَة منْ مَكَّة. وَقَدْ يُسَمَّى بِإِحْدَى الْكَلِمَتَينِ، تَخْفِيفًا، وَهُوَ الْمَكَان الَّذِي تُسَمِّيه عَوَامّ الْمِصْريِّينَ بَطْنَ مَرْوٍ، وَالصَّوَاب مَرّ، بتَشْدِيدِ الرَّاء. قاله فِي "الفتح"

(1)

.

وَقَالَ فِي موضع آخر: وَمَرّ الظَّهْرَانِ وَادٍ مَعْرُوف، عَلَى خَمْسَة أَمْيَال منْ مَكَّة، إِلَى جِهَة الْمَدِينَة. وَقَدْ ذَكَرَ الْوَاقِدِيّ، أَنَّهُ منْ مَكَّة عَلَى خَمْسَة أَمْيَال. وَزَعَمَ ابْن وَضَّاح أَنَّ بَيْنهمَا أَحَدًا وَعِشْرِينَ مِيلا. وَقِيلَ: سِتَّة عَشَر، وَبِهِ جَزَمَ الْبَكْرِيّ. قَالَ النَّوَوِيّ: وَالأَوَّل غَلَط، وَإِنْكَار للْمَحْسُوسِ. و"مَرّ": قَرْيَة ذَات نَخْل، وَزَرْع، وَمِيَاهُ، و"الظَّهْرَانِ": اسْم الْوَادِي، وَتَقُول الْعَامَّة: بَطْن مَرْوٍ.

وَقَوْل البَكْرِيّ هُوَ المُعْتَمَدُ، وَالله أَعْلَم. انتهى

(2)

.

زاد فِي رواية البخاريّ: "فَسَعَى القَوْم فَلَغِبُوا" -وهو بِمُعْجَمَةٍ، وَمُوَحَّدَة-: أَيْ تَعِبُوا وَزْنه وَمَعْنَاهُ، وَوَقَعَ بِلَفْظِ:"تَعِبُوا" فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ.

(فَأَخَذْتَها) زَادَ فِي رواية البخاريّ فِي "الْهِبَة": "فَأَدْرَكْتهَا، فَأَخَذْتهَا"، وَلِمُسْلِمٍ: "فَسَعَيْت، حَتَّى أَدْرَكْتهَا، وَلِأَبِي دَاوُدَ، مِنْ طَرِيق حَمَّاد بْن سَلَمَة، عَنْ هِشَام بْن زَيْد:

"وَكُنْت غُلَامًا، حَزَوَّرًا" وهُوَ -بِفَتحِ الْمُهْمَلة، وَالزَّاي، وَالْوَاو المُشَدَّدَة، بَعْدهَا رَاء، وَيَجُوز سُكُون الزَّاي، وَتَخْفِيف الْوَاو-: وَهُوَ المُرَاهِق.

(1)

"فتح" 11/ 97. "كتاب الذبائح".

(2)

"فتح" 5/ 516 "كتاب الهبة" رقم الحديث 2573.

ص: 178

(فَجِئْتُ بِهَا إِلَى أَبِي طَلْحَةَ) الأنصاريّ، وَهُوَ زَوْج أُمّه (فَذَبَحَهَا) زَادَ فِي رِوَايَة الطَّيَالِسِيّ:"بِمَرْوَة"، وَزَادَ فِي رِوَايَة حَمَّاد الْمَذْكُورَةِ:"فَشَوَيْتهَا".

(فَبَعَثَنِى بِفَخِذَيْهَا وَوَرِكَيْهَا) تثنية وَرِك، بفتح الواو، وكسر الراء، ويجوز التخفيف بكسر الواو، وسكون الراء، وهو فوق الفخذين، كالكتفين فوق العضدين، قاله الفيّوميّ. وفي رواية البخاريّ:"فَبَعَثَ بِوَرِكَيْهَا"، أَوْ قَالَ:"بِفَخِذَيْهَا"، بالشَكُّ مِنْ الرَّاوِي. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّاد "بِعَجُزِهَا".

ووقع فِي رواية البخاريّ فِي "الهبة": "قَالَ: فَخذِيَها لَا شَكَّ فِيهِ". قَالَ فِي "الفتح": يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ يَشُكّ فِي الْوَرِكَيْن خَاصَّة، وَأَنَّ الشَّكّ فِي قَوْله:"فَخِذَيَها"، أَوْ "وَرِكَيْهَا"، لَيْسَ عَلَى السَّوَاء، أَوْ كَانَ يَشُكُّ فِي الْفَخِذَينِ، ثُمَّ اسْتَيقَنَ، وَكَذَلِكَ شَكَّ فِي الأكْل، ثُمَّ اسْتَيْقَنَ الْقَبُول، فَجَزَمَ بِهِ آخِرًا. انتهى.

(إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) متعلّق بـ"بعث"(فَقَبِلَهُ) أي المبعوث به. وفي رواية البخاريّ: "فقبلها": أي الهديّة. وزاد فِي رواية البخاريّ فِي "الْهِبَة" مِنْ هَذَا الْوَجْه: "قُلْت: وَأَكَلَ مِنْهُ؟ قَالَ: وَأَكَلَ مِنْهُ"، ثُمَّ قَالَ:"فَقَبِلَهُ"، وَلِلتِّرْمِذِيّ مِنْ طَرِيق أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيّ فِيهِ:"فَأَكَلَهُ"، قُلْت: أَكَلَهُ؟، قَالَ:"قَبِلَه".

قَالَ الحافظ: وَهَذَا التَّرْدِيد لَهِشَام بْن زَيْد، وَقفَ جَدّه أَنَسًا عَلَى قَوْله:"أَكَلَهُ"، فَكَأنَّهُ تَوَقَّفَ فِي الْجَزْم بهِ، وَجَزَمَ بِالْقَبُولِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الدَّارَقُطنِيُّ، مِنْ حَدِيث عَائِشَة:"أُهْدِيَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَرْنَبٌ، وَأَنَا نَائِمَة، فَخَبأَ لِي مِنْهَا الْعَجُز، فَلَمَّا قُمْت أَطْعَمَنِي"، وَهَذَا لَوْ صَحَّ لأَشْعَرَ بِأَنَّهُ أَكَلَ مِنْهَا، لَكِنْ سَنَده ضَعِيف. وَوَقَعَ فِي "الْهِدَايَة" لِلْحَنَفِيَّةِ أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ مِنْ الأَرْنَب، حِين أُهْدِيَ إِلَيْهِ، مَشْوِيًّا، وَأَمَرَ أصْحَابه بِالأَكْلِ مِنْهُ، وَكَأَنَّهُ تَلَقَّاهُ مِنْ حَدِيثَيْنِ: فَأَوَّله مِنْ حَدِيث أنس هَذَا، وَقَدْ ظَهَرَ مَا فِيهِ، وَالآخَر منْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة الذي أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أولّ الباب، مِنْ طَرِيق مُوسَى بْن طَلْحَة، عَنه:"قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيّ إِلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِأَرْنَب، قَدْ شَوَاهَا، فَوَضَعَهَا بَيْن يَدَيْهِ، فَأَمْسَكَ رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم، فلم يَأكل، وَأَمَرَ القوم أنْ يَأكُلُوا"، وَرِجَاله ثِقَات، إِلَّا أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى مُوسَى بْن طَلْحَة، اخْتِلَافًا كَثِيرًا، ولذا ضعّف بسببه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أنس رضي الله تعالى عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

ص: 179

أخرجه هنا -25/ 4314 - وفي "الكبرى" 27/ 4824. وأخرجه (خ) فِي "الهبة" 2572 و"الذبائح والصيد" 5489 و5535 (م) فِي "الصيد والذبائح" 3611 (د) فِي "الأطعمة" 3791 (ت) فِي "الأطعمة" 1789 (ق) فِي "الصيد" 3243 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 11772 و12336 و13018 و13692 (الدارمي) فِي "الصيد" 2013. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم أَكْل الأَرْنَب وَهُوَ الحلّ، وهو قَوْل العُلَمَاء، كما سبق بيانه فِي شرح الحديث الأول فِي الباب. (ومنها): جَوَاز اسْتِثَارَة الصَّيْد، وَالعَدْوُ فِي طَلَبه، وَأَمَّا حَدِيث ابن عَبَّاس رضي الله تعالى عنهما المتقدِّم فِي الباب الماضي، رَفَعَهُ:"مَنْ اتَّبَعَ الصَّيْد غَفَلَ"، فَهُوَ مَحْمُول عَلَى مَنْ وَاظَبَ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى يَشْغَلهُ عَن غَيْره، مِنْ الْمَصَالِح الدِّينِيَّة وَغيْرهَا. (ومنها): أنَّ منْ أخذ الصَّيْد يَمْلِكهُ بِأَخْذِهِ، وَلا يُشَارِكهُ مَنْ أَثَارَهُ مَعَهُ. (ومنها): مشروعية هَديَّة الصَّيْد، وقَبُولهَا منْ الصَّائِد. (ومنها): جواز إِهْدَاء الشَّيْء الْيَسِير للْكَبِير القَدْر، إِذَا عُلِمَ منْ حَاله الرِّضَا بذَلِكَ. (ومنها): أنَّ لوَليّ الصَّبيّ، أن يَتَصَرَّفَ فِيمَا يَمْلِكهُ الصَّبيّ بِالْمَصْلَحَةِ. (ومنها): أن فيه اسْتثْبَاتَ الطَّالِب شَيْخَهُ عَمَّا يَقَع فِي حَدِيثه، مِمَّا يَحْتَمِل أَنَّهُ يَضْبِطهُ، كَمَا وَقَعَ لَهِشَام بْن زَيد، مَعَ أَنَس رضي الله عنه، كما سبق قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4315 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصٌ، عَنْ عَاصِمٍ، وَدَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ صَفْوَانَ، قَالَ: أَصَبْتُ أَرْنَبَيْنِ، فَلَمْ أَجِدْ مَا أُذَكِّيهِمَا بِهِ، فَذَكَّيْتُهُمَا بِمَرْوَةٍ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ؟ فَأَمَرَنِي بِأَكْلِهِمَا).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(حفص) بن غياث بن طلق معاوية النخعيّ القاضي، أبو عمر الكوفيّ، ثقة فقيه تغير حفظه قللًا فِي الآخر [8] 86/ 105.

[تنبيه]: وقع فِي معظم نسخ "المجتبى"، وكذا فِي "الكبرى":"حدثنا جعفر" بدل "حدّثنا حفص"، وهو غلطٌ فاحش، والصواب "حدّثنا حفص"، وهو ابن غياث، كما ذكرته آنفًا، وَقَدْ أورده عَلَى الصواب الحافظ المزّيّ فِي "تحفة الأشراف" 8/ 357 وَقَدْ نبّه فِي "الهامش" عَلَى هَذَا الغلط، فتنبه. والله تعالى أعلم.

3 -

(عاصم) بن سليمان الأحول، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقة [4] 148/ 239.

ص: 180

4 -

(داود) بن أبي هند القشيري مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقة متقن، كَانَ يَهِم بآخره [5] 21/ 538.

5 -

(الشعبي) عامر بن شَرَاحيل الهمداني، أبو عمرو الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه فاضل [3] 66/ 82.

6 -

(ابن صفوان) محمد بن صفوان الأنصاريّ، كنيته أبو مرحب. وقيل: صفوان بن محمد، أو محمد بن صفوان بالشكّ. روى الشعبيّ عنه، قَالَ: أتيت النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم بأرنبين

" الحديث، ويقال: إنه محمد بن صيفيّ الذي روى عنه الشعبيّ أيضًا، ولم يرو عنهما غيره، والأشبه أنهما اثنان. والذي يدلّ عَلَى أنهما اثنان الحديث الذي رواه الشعبيّ، عن ابن صيفيّ، غير الحديث الذي رواه عن هَذَا. قَالَ البخاريّ: حديثه فِي الكوفيين. وَقَالَ الطبرانيّ: محمد بن صفوان هو الصواب. وَقَالَ ابن عبد البرّ: صفوان بن محمد أكثر. وَقَالَ ابن أبي خيثمة: لا أدري منْ أي الأنصار هو؟. وَقَالَ العسكريّ: هو منْ بني مالك بن الأوس. وَقَالَ ابن سعد: قَالَ محمد بن عمر: لا يُعرف أبو مرحب، وفرّق بينه وبين محمد صفوان. روى له المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، وله عندهم هَذَا الحديث فقط، أعاده المصنّف فِي "الضحايا" برقم -18/ 441. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير ابن صفوان، فتفرد به هو، وأبو داود، وابن ماجه. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فبغلاني. (ومنها): أن فيه رواية تابعيين عن تابعيّ. (ومنها): أن صحابيه منْ المقلّين منْ الرواية، فليس له فِي الأصول إلا هَذَا الحديث عند أصحاب "السنن " إلا الترمذيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَن) محمد (ابْن صَفْوَانَ) الأنصاريّ رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: أَصَبْتُ أَرْنَبَيْنِ، فَلَمْ أَجِدْ مَا أُذَكِّيهِمَا) أي لم أجد شيئاً أذبحهما به (فَذَكَّيْتُهُمَا بِمَرْوَةٍ) -بفتح الميم، وسكون الراء-: هو حجر أبيض، يُجعل منه كالسكّين (فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ؟) أي عن حكم أكله (فَأَمَرَنِي بِأَكْلِهِمَا) فيه دلالة عَلَى حلّ أكل الأرنب، وهو ما أراده المصنّف رحمه الله تعالى بإيراده هنا، وَقَدْ تقدّم أنه قول جمهور العلماء، وهو الحقّ، وفيه أيضًا جواز الذبح بالمروة، وسيأتي إن شاء الله تعالى أن المصنّف رحمه

ص: 181

الله تعالى يترجم له فِي "كتاب الضحايا" بقوله: "باب إباحة الذبح بالمروة". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث محمد بن صفوان رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -25/ 4315 وفي "الضحايا" 18/ 4401 - وفي "الكبرى" 27/ 4825 وفي "الضحايا" 19/ 4489. وأخرجه (د) فِي "الضحايا" 2822. (ق) فِي "الذبائح" 3175 و"الصيد" 3244 (أحمد) فِي "مسند المكيين" 15443 (الدارمي) فِي "الصيد"2014. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌26 - (الضَّبُّ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الضّبّ" بفتح الضاد المعجمة، وتشديد الموحدة: دُوَيْبَّة تُشْبِه الْجِرْذَوْن، لَكِنَّهُ أَكْبَر منْ الْجِرْذَون، وَيُكنى أَبَا حِسْل -بِمُهْمَلَتَينِ مَكْسُورَة، ثُمَّ سَاكِنَة- وَيُقَال لِلأُنْثَى: ضَبَّة، وَبِهِ سُمِّيَت الْقَبِيلَة، وَبِالْخَيفِ منْ مِنًى جَبَل، يُقَال لَهُ: ضَبّ، وَالضَّبّ دَاء فِي خُفّ الْبَعِير، وَيُقَال: إِنَّ لأَصْلِ ذَكَر الضَّبّ فَرْعَينِ، وَلِهَذَا يُقَال لَهُ: ذكَرَانِ. وَذَكَرَ ابْن خَالَوَيْهِ: أَنَّ الضَّبّ يَعِيش سَبْعمِائَةِ سَنَة، وَأَنَّهُ لا يَشْرَب الْمَاء، وَيَبُول فِي كُلّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا قَطْرَة، وَلا يَسْقُط لَهُ سِنّ، وَيُقَال: بَلْ أَسْنَانه قِطْعَة وَاحِدَةْ. وَحَكَى غَيْره أنَّ أَكْلِ لَحْمه، يُذْهِب الْعَطَش، وَمِن الأَمْثَال:"لا أَفعَل كَذا، حَتَّى يَرِد الضَّبّ"، يَقُولهُ مَنْ أرَادَ أن لا يَفْعَل الشَّيْء؛ لأَنَّ الضَّبّ لا يَرِد، بَلْ يَكْتَفِي بِالنَّسِيمِ، وَبَرْد الْهَوَاء، وَلا يَخْرُج مِنْ جُحْره فِي الشِّتَاء. ذَكَرَه فِي "الفتح"

(1)

.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله ابن خالويه منْ أنه يعيش سبعمائة سنة، وأنه لا يشرب الماء إلى آخره، محلّ نظر، إذ يحتاج إلى مستند صحيح. والله تعالى أعلم بالصواب.

4316 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ

(1)

"فتح" 11/ 99. "كتاب الذبائح" رقم 5537.

ص: 182

رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، سُئِلَ عَنِ الضَّبِّ؟ فَقَالَ:"لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ").

رجال هَذَا الإسناد: أربعة:

1 -

(قتيبة) المذكور فِي الباب الماضي.

2 -

(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة الحجة الثبت الفقيه [7] 7/ 7.

3 -

(عبد الله بن دينار) الْعَدْوَى مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقة [4] 167/ 260.

4 -

(ابن عمر) عبد الله رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى وهي أعلى الأسانيد له، وهو (201) منْ رباعيات الكتاب .. ومنها: أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، وقتيبة، وإن كَانَ بغلانيًّا، إلا أن الظاهر أنه دخل المدينة. (ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما منْ المكثرين السبعة، والعبادلة الأربعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما (أَن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ) جملة فِي محلّ نصب عَلَى الحال (سُئِلَ عَنِ الضَّبِّ؟) ببناء الفعل للمفعول، وفي الرواية التالية: أن رجلاً قَالَ: يا رسول الله، ما ترى فِي الضبّ"

وفي رواية البخاريّ: "الضبّ لست آكله، ولا أحرّمه"، دون ذكر السؤال. وَهَذَا السَّائِل يَحْتَمِل أن يَكُون خُزَيْمَةَ بن جَزْء، فَقَدْ أَخْرَجَ ابن مَاجَهْ مِنْ حَدِيثه:"قُلْت: يَا رَسُول الله، مَا تَقُول فِي الضّبّ؟ فَقَالَ: "لا آكُلهُ، وَلا أُحَرِّمهُ"، قَالَ: قُلْت: فَإِنِّي آكُل مَا لَمْ تُحرِّم"، لكن فِي سَنَده عبد الكريم بن أبي المخارق، وهو متّفقٌ عَلَى ضعفه.

(فَقَالَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (لَا آكُلُهُ) لكراهته طبعًا، لا دينًا (وَلَا أُحَرِّمُهُ) وهذا صريحٌ فِي أنه حلالٌ، لكنه مستقذر طبعًا، لا يوافق بعض الطبائع. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

ص: 183

أخرجه هنا -26/ 4316 و4317 - وفي "الكبرى" 28/ 4826 و4827. وأخرجه (خ) فِي "الذبائح" 5536 و"أخبار الآحاد" 7267 (م) فِي "الصيد والذبائح" 3598 و3600 و3601 (ت) فِي "الأطعمة" 1790 (ق) فِي "الصيد" 3242 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 4548 و4559 و5038 و5233 و5258 و5417 و5505 و5540 و6178 "الموطّأ" فِي "الجامع" 1806 (الدارمي) فِي "الصيد" 2015. وفوائد الحديث، وبيان مذاهب العلماء ستأتي فِي شرح حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما الآتي فِي هَذَا الباب، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4317 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تَرَى فِي الضَّبِّ؟ قَالَ: "لَسْتُ بِآكِلِهِ، وَلَا مُحَرِّمِهِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الحديث متَّفقٌ عليه، وسبق شرحه، وتخريجه فِي الحديث الذي قبله. والسند منْ رباعيات المصنّف رحمه الله، وهو (202) منْ رباعيات الكتاب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4318 -

(أَخْبَرَنَا كَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أُتِيَ بِضَبٍّ مَشْوِيٍّ، فَقُرِّبَ إِلَيْهِ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ بِيَدِهِ، لِيَأْكُلَ مِنْهُ، قَالَ لَهُ مَنْ حَضَرَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ لَحْمُ ضَبٍّ، فَرَفَعَ يَدَهُ عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحَرَامٌ الضَّبُّ؟ قَالَ: "لَا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي، فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ"، فَأَهْوَى خَالِدٌ إِلَى الضَّبِّ، فَأَكَلَ مِنْهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ).

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(كثير بن عُبيد) بن نمير، أبو الحسن المذحِجِيّ الحذّاء الحمصي، وهو ثقة [10] 5/ 486.

2 -

(محمد بن حرب) الأبرش الخولانيّ الحمصيّ، ثقة [9] 122/ 172.

3 -

(الزُّبيديّ) محمد بن الوليد، أبو الهذيل الحمصيّ الحافظ، ثقة ثبت [7] 45/ 56.

4 -

(الزهريّ) محمد بن مسلم المدنيّ الإِمام الحجة الثبت [4] 1/ 1.

5 -

(أبو أُمامة بن سهل) هو أسعد بن سهل بن حُنيف، له رؤية، دون سماع، ثقة [2] 8/ 509.

6 -

(عبد الله بن عباس) رضي الله تعالى عنهما 27/ 31.

7 -

(خالد بن الوليد) بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزوم القرشي،

ص: 184

أبو سليمان، أسلم بعد الحديبية، وشهد مؤتة، ويومئذ سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيف الله، وشهد الفتح، وحنينا، واختلف فِي شهوده خيبر.

روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه ابن عباس، وهو ابن خالته، وجابر بن عبد الله، والمقدام ابن معد يكرب، وقيس بن أبي حازم، والأشتر النخعي، وعلقمة بن قيس، وجبير بن نفير، وأبو العالية، وأبو وائل، وغيرهم، استعمله أبو بكر عَلَى قتال أهل الردة ومسيلمة، ثم وجهه إلى العراق، ثم إلى الشام، وهو أحد أمراء الأجناد الذين وَلُوا فتح دمشق، قَالَ محمد بن سعد، وابن نمير، وغير واحد: مات بحمص سنة (21) وَقَالَ دحيم وغيره: مات بالمدينة، وقيل مات سنة (22) وَقَالَ الذهبيّ فِي "سير أعلام النبلاء": الصحيح موته بحمص.

ويُروَى أنه لما حضرته الوفاة بكى، وَقَالَ: لقيت كذا وكذا زحفا، وما فِي جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو طعنة برمح، وها أنا أموت عَلَى فراشي، فلا نامت أعين الجبناء. وَقَالَ الزبير بن بكار: كَانَ ميمون النقيبة، ولما هاجر لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوليه الخيل، ويكون فِي مقدمته. وَقَالَ محمد بن سعد. كَانَ يشبه عمر فِي خلقته وصفته، ولما نزل الْحِيرة قيل له: احذر السم لا تسقيكه الأعاجم، فَقَالَ: ائتوني به، فأخذه بيده، وَقَالَ: بسم الله، وشربه، فلم يضره شيئاً. أخرج له البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والمصنف، وابن ماجه، وله فِي هَذَا الكتاب حديثان، حديث الباب كرّره مرّتين، وحديث تحريم لحوم الخيل، والبغال، والحمير برقم (4333) و (4334). والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. ومنها: أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو، وأبو داود، وابن ماجه. (ومنها): أنه مسلسل بالحمصيين إلى الزبيديّ، وبالمدنيين بعده. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وصحابيّ، عن صحابيّ، عَلَى خلاف فِي كون الحديث منْ مسند خالد، أو منْ مسند ابن عباس رضي الله تعالى عنهم، كما سيأتي بيانه. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَن أَبي أُمَامَةَ) أسعد (بْنِ سَهْلٍ) بن حُنيف الأنصاريّ، له رؤية، ولأبيه صحبة. وعند البخاريّ فِي "الأطعمة" منْ طريق يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قَالَ:"أخبرني أبو أُمامة"، فصرّح بالإخبار (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ) رضي الله

ص: 185

تعالى عنهم.

قَوْله (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ) فِي رِوَايَة يُونُس المَذْكُورَة "أَنَّ ابْن عَبَّاس أَخبَرَهُ، أَنَّ خَالِد بن الْوَلِيد، الَّذِي يُقَال لَهُ: سَيْف الله أَخْبَرَهُ"، وَهَذَا الْحَدِيث مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ، عَلَى الزُّهْرِيّ، هَلْ هوَ منْ مُسْنَد ابن عَبَّاس، أَو مِنْ مُسنَد خَالِد، وَكَذَا اختُلِفَ فِيهِ علَى مَالِك، فَقَالَ الأَكثَر:"عَن ابْن عَبَّاس، عَن خَالِد"، وَقَالَ يَحْيَى بْن بُكَير فِي "الْمُوَطَّإ"، وَطَائِفَة، عَن مَالِك، بِسَنَدِهِ:"عَن ابن عَبَّاس وَخَالِد، أنَّهمَا دَخَلا"، وَقَالَ يَحْيَى بن يَحْيَى التَّمِيمِيّ، عَن مَالِك، بِلَفْظِ:"عَنْ ابْن عَبَّاس، قَالَ: دَخَلْت أَنَا وَخَالد، عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم"، أَخْرَجَهُ مسْلِم عَنهُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ منْ طَرِيق عَبْد الرَّزَّاق، عَن مَعْمَر، عَن الزُّهْريّ، بِلَفْظِ:"عَنْ ابْن عَبَّاس، قَالَ: أُتِيَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ فِي بَيْت مَيْمُونَة، بِضَبَّينِ مَشْوِيَّيْن"، وَقَالَ هِشَام بْن يُوسُف، عَن مَعْمَر، كَالْجُمْهور، كَمَا عند البخاريّ، فِي أَوَائِل "الأَطْعِمَة".

قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: وَالْجَمْع بَيْن هَذِهِ الرِّوَايَات، أنَّ ابْن عَبَّاس، كَانَ حَاضِرًا لِلقِصَّةِ، فِي بَيْت خَالَته مَيْمُونَة، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَات، وَكَأَنَّهُ اسْتَثْبَتَ خَالِد بن الْوَلِيد، فِي شَيْء مِنْهُ؛ لِكَونِهِ الَّذِي كَانَ بَاشَرَ السُّؤَال، عَن حُكْم الضَّبّ، وَبَاشَرَ أَكْله أَيْضًا، فَكَانَ ابْن عَبَّاس، رُبَّمَا رَوَاهُ عَنهُ، وَيُؤَيِّد ذَلِكَ، أَنَّ مُحَمَّد بن الْمُنْكَدِر، حَدَّثَ بِهِ عَن أَبِي أُمَامَةَ بْن سَهْل، عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: "أُتِيَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ فِي بَيْت مَيْمُونَة، وَعِنْده خَالِد بن الوَلِيد، بِلَحْم ضَبّ

" الْحَدِيث، أَخرَجَهُ مُسلِم، وَكَذَا رَوَاهُ سَعِيد بن جُبَيْر، عَنْ ابْن عَبَّاس، فلَمْ يَذْكُر فيهِ خَالدًا، وهو عند البخاريّ فِي "الأَطْعِمَة". انتهى

(1)

.

(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِضَبٍّ مَشْوِيٍّ) اسم مفعول، منْ شوى اللحم يَشويه شَيّا. وفي رواية للبخاريّ، وغيره:"فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنوذ" -بمُهْمَلَةٍ سَاكِنَة، وَنُون مَضْمُومَة، وَآخِره ذَال مُعْجَمَة-: أَيْ مَشْوِيّ بِالحِجَارَةِ الْمُحْمَاة. فالْمَحْنُوذ أَخَصّ منْ المشويّ، وَالْحَنِيذ بِمَعْنَاهُ، زَادَ يُونُس فِي رِوَايَته:"قَدِمَتْ بِهِ أُخْتهَا حُفَيدَة" -وَهِيَ بِمُهْمَلَةٍ، وَفَاء مُصَغَّرًا. وَفِي رِوَايَة سَعِيد بْن جَبْر الآتية بعد حديثين: أهدت أم حُفيدة إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم"، وفي رواية للبخاريّ: "أنَّ أُمّ حُفَيدَة بِنْت الحَارِث بن حَزْن، خَالَة ابْن عَبَّاس، أَهْدَت لِلنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، سَمْنًا، وَأَقِطًا، وَأَضُبًّا". وَفِي رِوَايَة عَوْف، عَن أَبِي بِشْر، عَن سَعِيد بْن جُبَير، عَن الطَّحَاوِيّ: "جَاءَتْ أمّ حُفَيْدَة، بِضَبٍّ، وَقُنْفُذ"،

(1)

"فتح" 11/ 100.

ص: 186

وَذِكْر الْقُنْفُذ فِيهِ غَرِيب. وَقَدْ قِيلَ فِي اسْمهَا: هُزَيْلَة -بِالتَّصْغِيرِ- وَهِيَ رِوَايَة "الْمُوَطَّإ" منْ مُرْسَل عَطَاء بْن يَسَار، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا، فَلَعَلَّ لَهَا اسْمَينِ، أَوْ اسْم وَلَقَب. وَحَكَى بَعْضُ شُرَّاح "العُمْدَة" فِي اسْمهَا "حُمَيْدَة" -بِمِيمٍ- وَفِي كُنْيَتهَا "أُمّ حُمَيْدٍ" بِمِيمٍ، بِغَيْرِ هَاء، وَفِي رِوَايَة بِهَاءٍ، وَبِفَاءٍ، وَلَكِنْ بِرَاءٍ، بَدَل الدَّال، وَبِعَيْنٍ مُهْمَلَة، بَدَل الْحَاء، بِغَيْرِ هَاء، وَكُلّهَا تَصْحِيفَات. قاله فِي "الفتح"

(1)

.

(فَقُرِّبَ إِلَيْهِ) بتشديد الراء، مبنيًّا للمفعول (فَأهْوَى إِلَيْهِ بيَدِهِ) أي مدّ يده، وأمالها إليه (لِيَأكُلَ مِنْهُ) زَادَ يُونُس فِي روايته:"وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، قَلَّمَا يُقَدِّم يَده لِطَعَام، حَتَّى يُسَمَّى لَهُ". وَأَخْرَجَ إِسْحَاق بْن رَاهْوَيهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ، فِي "الشُّعَب"، منْ طَرِيق يَزِيد بْن الْحَوْتَكِيَّة، عَن عُمَر رضي الله عنه: "أَنَّ أَعْرَابيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، بأَرْنَب يُهدِيها إِلَيْهِ، وَكَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، لا يَأْكُل منْ الْهَدِيَّة، حَتَّى يَأَمُر صَاحِبهَا، فَيَأكُلَ مِنْهَا، منْ أَجْل الشَّاة الَّتِي أُهْدِيَتْ إِلَيْهِ بِخَيْبَر

"، الْحَدِيث، وَسَنَده حَسَن. قاله فِي "الفتح".

(قَالَ لَهُ مَنْ حَضَرَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ لَحْمُ ضَبٍّ) وفي رواية البخاريّ: "فَقَالَ بَعْض النِّسْوَة: أَخْبِرُوا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، بِمَا يُرِيد أَنْ يَأْكُل، فَقَالُوا: هُوَ ضَبّ"، وفِي رِوَايَة:"فَقَالَتْ امْرَأَة، منْ النِّسْوَة الْحُضُور: أَخْبِرْنَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِمَا قَدَّمْتُنَّ لَهُ، هُوَ الضَّبّ، يَا رَسُول الله"، وَكَأَنَّ الْمَرْأَة أَرَادَتْ أَنَّ غَيرْهَا يُخْبِرهُ، فَلَمَّا لَمْ يُخْبِرُوا، بَادَرَت هِيَ، فَأَخْبَرَتْ. وفي رواية للبخاريّ، فِي "بَاب إِجَازَة خَبَر الْوَاحِد"، مِنْ طَرِيق الشَّعْبِيّ، عَن ابْن عُمَر رضي الله تعالى عنهما، قَالَ:"كَانَ نَاس منْ أَصْحَاب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فِيهِم سَعْد -يعني ابْن أَبِي وَقَّاص- فَذَهَبُوا يَأكُلُونَ منْ لَحْم، فَنَادَتْهُمْ امْرَأَة، منْ بَعض أَزوَاج النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم"، وَلِمُسْلِم منْ طَرِيق يَزِيد بْن الأَصَمّ:"عَن ابن عَبَّاس رضي الله تعالى عنهما، أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ عِنْد مَيْمُونَة، وَعِنْدهَا الْفَضْل ابْن عَبَّاس، وَخَالِد بْن الوَليد، وَامْرَأَة أُخْرَى، إِذْ قُرِّبَ إِلَيْهِمْ خِوَانٌ، عَلَيْهِ لَحْم، فَلَمَّا أَرَادَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنْ يَأكُل، قَالَتْ لَهُ مَيْمُونة: إِنَّهُ لَحْم ضَبّ، فَكَفّ يَده". وَعُرِفَ بهَذِه الرِّوَايَة، اسْم الَّتِي أُبْهِمَتْ فِي الرِّوَايَة الأُخْرَى. وَعِنْد الطَّبَرَانِيّ، فِي "الأَوْسَط" مِنْ وَجْه آخَر، صَحِيحٍ:"فَقَالَتْ مَيْمُونَة: أَخْبِرُوا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا هُوَ؟ ".

(فَرَفَعَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (يَدَهُ عَنهُ) أي عن الضبّ، ويؤخذ مِنْهُ، أَنَّهُ أَكَلَ، مِمَّا كَان قُدِّمَ لَهُ منْ غَيْر الضَّبّ، كَمَا سيأتي صَرِيحًا، فِي رِوَايَة سَعِيد بْن جُبَيْر، عَن ابْن عَبَّاس:"فأكل منْ السمن، والأقط، وترك الضباب تقّذّرًا لهنّ"، وفي رواية للبخاريّ فِي

(1)

"فتح" 11/ 100 - 101.

ص: 187

"الأَطْعِمَة": قَالَ: فَأَكَلَ الأقِط، وَشَرِبَ اللَّبَن".

(فَقَالَ لَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحَرَامٌ الضَّبُّ؟) وفي الرواية التالية: "أحرامٌ هو؟ "(قالَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (لا) أي ليس الضبّ حرامًا، وليس تركي له؛ لحرمته (وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي) وفِي رِوَايَة يَزِيد بن الأصَمّ عند البخاريّ:"هَذَا لَحْم، لَمْ آكُلهُ قَط".

قَالَ ابْن الْعَرَبِي: اعْتَرَضَ بَعْض النَّاس، عَلَى هَذِهِ اللَّفْظَة:"لَمْ يَكُنْ بِأرضِ قَوْمِي"، بِأَنَّ الضَّبَاب كَثِيرَة بِأَرْضِ الحِجَاز، قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: فَإِنْ كَانَ أَرَادَ تَكْذِيب الْخَبَر، فَقَدْ كَذَبَ هُوَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِأرْضِ الحِجَاز مِنْهَا شَيْء، أَو ذُكِرَت لَهُ بِغَيْرِ اسْمهَا، أَوْ حَدَثَت بَعْد ذَلِكَ، وَكَذَا أَنكَرَ ابْن عَبْد الْبَرّ، وَمَنْ تَبِعَهُ أَنْ يَكُون بِبِلَادِ الْحِجَاز شَيْء منْ الضِّبَاب.

قَالَ الحافظ: وَلا يُحْتَاج إِلَى شَيْء مِنْ هَذَا، بَلْ المُرَاد بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"بِأَرْضِ قَوْمِي"، قُرَيْش فَقَطْ، فَيَخْتَصّ النَّفْي بِمَكَّة وَمَا حَوْلهَا، وَلا يَمْنَع ذَلِكَ أنْ تَكُون مَوْجُودَة بِسَائِرِ بلاد الحِجَاز، وَقَد وَقَعَ فِي رِوَايَة يَزِيد بْن الأَصَمْ، عِنْد مُسْلِم: "دَعَانَا عَرُوس بِالْمَدِينَةِ، فَقَرَّبَ إِلَيْنَا ثَلَاثَة عَشَر ضَبًّا، فَآكِل، وَتَارِك

" الحديث، فَبِهَذَا يُدَلّ عَلَى كَثْرَة وِجْدَانَها بتِلْكَ الدِّيَار.

(فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ) -بِفتح الهمزة، وبعَيْن مُهْمَلَة، وَفَاء خَفِيفَة- أَي أَكَرَهُ أكله، يُقَال: عاف الطعام والشراب يَعَافهُ، منْ باب تعِبَ، عِيَافَة بالكسر: إذا كرهه. وَوَقَعَ فِي رِوَايَة سَعِيد بْن جُبَير الآتية: "وَتَرَكَ الضِّبَاب تقَذُّرًا لَهُنَّ، فَلَوْ كُنّ حَرَامًا، لَمَا أُكِلن عَلَى مَائِدَة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَلَمَا أَمَرَ بِأكْلِهِنَّ"، كَذَا أَطلَقَ الأَمْر، وَكَأَنَّهُ تَلقَّاهُ منْ الإذْن المُسْتَفَاد منْ التَّقْرِير، فَإنَّهُ لَمْ يَقَع فِي شَيْء منْ طُرُق حَدِيث ابْن عَبَّاس، بِصِيغَةِ الأَمْر، إِلَّا فِي رِوَايَة يَزِيد بْن الأصَمّ، عِنْد مُسْلم، فَإنَّ فِيهَا:"فَقَالَ لَهُمْ: كُلُوا، فَأَكَلَ الْفَضْل، وخَالِد، وَالْمَرْأَة"، وَكَذَا فِي رِوَايَة الشَّعْبِيّ، عَنْ ابْن عُمَر:"فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: كُلُوا، وَأَطْعِمُوا، فَإِنَّهُ حَلَال -أَو قَالَ: لَا بَأسَ بِهِ- وَلَكِنَّهُ لَيْسَ طَعَامِي"، وَفِي هَذَا كُله بَيَانُ سَبَب تَرْك النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهُ بِسَبَب أَنَّهُ مَا اعتَادَهُ، وَقَدْ وَرَدَ لِذَلِكَ سَبَب آخَر، أَخْرَجَهُ مَالِك، مِنْ مُرْسَل سُلَيْمَان بْن يَسَاَر، فَذَكَرَ مَعْنَى حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَفِي آخِره:"فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: كُلا -يَعْني لِخَالِدٍ، وَابْن عَبَّاس- فَإِنَّنِي يَحْضُرنِي منْ الله حَاضِرَة". قَالَ الْمَازِرِيّ: يَعْنِي المَلَائِكَة، وَكَأنَّ لِلَّحْمِ الضَّبّ رِيحًا، فَتَرَكَ أَكْله؛ لأَجْلِ رِيحه، كَمَا تَرَكَ أَكْل الثُّوم، مَعَ كَوْنه حَلالاً. قَالَ الحافظ: وَهَذَا إِنْ صَحَّ، يُمْكِن ضَمُّهُ إِلَى الأَوَّل، وَيَكُون لِتَرْكِهِ الأكل منْ الضَّبّ سَبَبَانِ. انتهى.

(فَأَهْوَى خَالِدٌ) أي مال، ومدّ يده (إِلَى الضَّبِّ، فَأكَلَ مِنْهُ) وفي الرواية التالية: "قَالَ

ص: 188

خَالِد: فَاجْتَرَرْته إليّ، وأكلته"، وهو بِجِيمٍ، وَرَائَيْنِ، هَذَا هُوَ المَعْرُوف فِي كُتُب الْحَدِيث، وَضبَطَهُ بَعض شُرَّاح "المُهَذَّب" بِزَاي، قَبل الرَّاء، وَقَد غَلَّطَهُ النَّوويّ (وَرَسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ) زاد فِي رواية يونس عند البخارَيّ: "إليّ".

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: [إن قيل]: إذا كَانَ النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم ترك أكله؛ لكونه ليس بأرض قومه، فلم أكله خالد، وهو منْ قوم النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم؟.

[قلت]: لعل خالدًا تعوّد أكله تقليدًا لأهل نجد، فإن هذه المرأة التي أهدت الضَّبّ للنبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم منْ نجد، كانت خالته، فلعله ذهب إليها ليزورها، فرأى النَّاس هناك يأكلونه، فأكله، فاستطابه، بخلافه صلّى الله تعالى عليه وسلم. ولم أر منْ تعرّض لهذا البحث. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -26/ 4318 و4319 - وفي "الكبرى" 28/ 4828 و4829. وأخرجه (خ) فِي "الذبائح والصيد" 5537 (م) فِي "الصيد والذبائح" 3603 (د) فِي "الأطعمة" 2794 (ق) فِي "الصيد" 3241 (أحمد) فِي "مسند الشاميين" 16371 و"باقي مسند الأنصار" 26274 (الموطأ) فِي "الجامع" 1805 (الدارمي) فِي "الصيد" 2017. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم أكل الضَّبّ، وهو الجَوَاز. وَحَكَى عِيَاض عَن قَوْم تَحرِيمه، وَعَن الْحَنَفِيَّة كَرَاهَته، وَأنْكَرَ ذَلِكَ النَّوَوِيّ، وَقَالَ: لا أَظُنُّهُ يَصِحّ عَنْ أَحَد، فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ مَحْجُوج بِالنُّصُوصِ، وَبِإجْمَاع مَنْ قَبْله. قَالَ الحافظ: قَدْ نَقَلَهُ ابْن المُنْذِر عَنْ عَلِيّ، فَأَيُّ إِجْمَاع يَكُون مَعَ مُخَالَفَتَه؟، وَنَقَلَ التِّرْمِذِيّ كَرَاهَته عن بَعْض أَهْل الْعِلْم، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ فِي "مَعَانِي الآثَار": كَرِهَ قَوْم أَكْل الضَّبّ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَة، وَأَبُو يُوسُف، وَمُحَمَّد بْن الحَسَنُ، قَالَ: وَاحْتَجَّ مُحَمَّد بِحَدِيثِ عَائِشَة: "أنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، أُهْدِىَ لَهُ ضَبّ، فَلَمْ يَأْكُلهُ، فَقَامَ عَلَيْهِمْ سَائِل، فَأَرَادَت عَائِشَة أنْ تُعْطِيه، فَقَالَ لَهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "أَتُعْطِينَهُ مَا لا تَأْكُلينَ؟ "، قَالَ الطَّحَاوِيُّ: مَا

ص: 189

فِي هَذَا دَلِيل عَلَى الْكَرَاهَة؛ لاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونِ عَافَتْهُ، فَأَرَادَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، أَنْ لا يَكُون مَا يُتَقَرَّب بِهِ إِلَى الله، إِلَّا منْ خَيْر الطَّعَام، كَمَا نَهَى أن يُتَصَدَّق بِالتَّمْرِ الرَّدِيء انتهى. وَقَدْ جَاءَ عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ نَهَى عَن الضَّبّ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، بِسَنَدٍ حَسَن، فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَة إِسْمَاعِيل بْن عَيَّاش، عَن ضَمْضَم بن زُرْعَة، عَن شُرَيْح بْن عُتبَة، عَن أَبِي رَاشِد الْحُبْرَانِيّ

(1)

، عَن عَبْد الرَّحْمَن بْن شِبْل، وَحَدِيث ابْن عَيَّاش، عَن الشَّامِيِّينَ قَوِيّ، وَهَؤُلاءِ شَامِيُّونَ، ثِقَات، وَلا يُغْتَرّ بِقَوْلِ الْخَطَّابِيّ: لَيْسَ إِسْنَاده بِذَاكَ، وَقَوْل ابْن حَزْم: فِيهِ ضُعَفَاء، وَمَجْهُولُونَ، وَقَوْل الْبَيْهَقِيِّ: تَفَرَّدَ بِهِ إِسْمَاعِيل بْن عَيَّاش، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَقَوْل ابْن الْجَوْزِيّ: لا يَصِحّ، فَفِي كُلّ ذَلِكَ تَسَاهُل لا يَخْفَى، فَإِنَّ رِوَايَة إِسْمَاعِيل عَن الشَّامِيِّينَ قَوِيَّة، عِنْد الْبُخَارِيّ، وَقَدْ صَحَّحَ التِّرْمِذِي بَعْضهَا.

(ومنها): أن فيه الْإعْلَامَ بِمَا شَكَّ فِيهِ لإِيضَاح حُكْمه. (ومنها): أَنَّ مُطْلَق النَّفْرَة عن الشيء، وَعَدَم الاسْتِطَابَة لا يَسْتَلْزِم التَّحْرِيم. (ومنها): أَنَّ الْمَنْقُول عَنهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ لا يَعِيب الطَّعَام، إِنَّمَا هُوَ فِيمَا صَنَعَهُ الآدَمِيّ لِئَلا يَنْكَسِر خَاطِره، وَيُنْسَبَ إِلَى التَّقْصِير فِيهِ، وَأَمَّا الَّذِي خُلِقَ كَذَلِكَ، فَلَيْسَ نُفُور الطَّبْع مِنْهُ مُمْتَنِعًا. (ومنها): أَنَّ وُقُوع مِثْل ذَلِكَ لَيْسَ بِمَعِيبٍ، مِمَّنْ يَقَع مِنْهُ، خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُتَنَطِّعَة. (ومنها): أَنَّ الطِّبَاع تَخْتَلِف فِي النُّفُور، عَن بعْض الْمَأْكُولات. (ومنها): ما قيل: أنه يُسْتَنْبَط مِنْهُ أَنَّ اللَّحْم إِذَا أَنْتَنَ لَمْ يَحْرُم؛ لأَنَّ بَعْض الطِّبَاع لا تَعَافهُ.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: فيه نظر، لا يخفى؛ لأن قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم فِي حديث أبي ثعلبة الخشنيّ رضي الله تعالى عنه المتقدّم:"فليأكله إلا أن يُنتن" صريح فِي المنع عن أكل اللحم، إذا أنتن، فيقدّم عَلَى هَذَا المفهوم، فتأمّل. والله تعالى أعلم.

(ومنها): أن فِيهِ دُخُولَ أَقَارِب الزَّوْجَة بَيْتهَا، إِذَا كَانَ بِإِذْنِ الزَّوْج، أَوْ رِضَاهُ.

[تنبيه]: قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: ذَهَلَ ابْن عَبْد الْبَرّ هُنَا، ذُهُولاً فَاحِشًا، فَقَالَ: كَانَ دُخُول خَالِد بْن الوليد، بَيْت النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْقِصَّة، قَبل نُزُول الْحِجَاب، وَغَفَلَ عَمَّا ذَكَرَهُ هُوَ، أَنَّ إِسْلام خَالِد، كَانَ بَيْن عُمْرَة القَضِيَّة وَالفَتْح، وَكَانَ الْحِجَاب قَبْل ذَلِكَ اتِّفَاقًا، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيث الْبَاب:"قَالَ خَالِد: أَحَرَام هُوَ، يَا رَسُول الله؟ "، فَلَوْ كَانَتْ الْقِصَّة قَبْل الْحِجَاب، لَكَانَتْ قَبْل إِسْلام خَالِد، وَلَوْ كَانَتْ قَبْل إِسْلامه لَمْ يَسْأَل عَن حَلال، وَلا حَرَام، وَلا خَاطَبَ بِقَوْلِهِ: يَا رَسُول الله. انتهى

(2)

.

(1)

بضم الحاء المهملة، وسكون الباء الموحدة.

(2)

"فتح" 11/ 104. "كتاب الذبائح".

ص: 190

(ومنها): أن فِيهِ جَوَازَ الأَكْل منْ بَيْت الْقَرِيب، وَالصِّهْر، وَالصَّدِيق، وَكَأَنَّ خَالِدًا، وَمَنْ وَافَقَهُ فِي الأَكْل، أَرَادُوا جَبْر قَلْب المرأة التي أَهْدَتْهُ، أَو لِتَحَقُّقِ حُكْم الْحِلّ، أَوْ لامْتِثَالِ قَوْله صلى الله عليه وسلم:"كُلُوا"، وَفَهِمَ مَن لَمْ يَأْكُل، أنَّ الأَمْر فِيهِ لِلإِبَاحَةِ.

(ومنها): أن فِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُؤَاكِل أَصْحَابه، وَيَأْكُل اللَّحْم حَيْثُ تَيَسَّرَ. (ومنها): أن فيه أَنَّهُ صلّى الله تعالى عليه وسلم، كَانَ لا يَعْلَم منْ الْمُغَيَّبَات، إِلَّا مَا أعلمَهُ الله تَعَالَى. (ومنها): أنّ فِيهِ وُفُورَ عَقْل مَيْمُونَة، أُمّ المُؤْمِنِينَ، رضي الله تعالى عنها، وَعَظِيم نَصِيحَتِهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأَنَّهَا فَهِمَتْ مَظِنَّة نُفُوره عَن أَكْله، بمَا اسْتَقْرَّت مِنْ حاله صلّى الله تعالى عليه وسلم، فَخَشِيَتْ أنْ يَكُون ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَيَتَأَذَّى بِأَكْلِهِ؛ لاسْتِقْذَارِهِ لَهُ، فَصَدَقَتْ فِرَاسَتُهَا. (ومنها): أنَّهُ يُؤْخَذ مِنْهُ أَن مَن خُشِيَ أنْ يَتَقَذَّر شَيْئًا، لا يَنْبَغِي أَنْ يُدَلَّسَ لَهُ؛ لِئَلا يَتَضَرَّر بهِ، وَقَدْ شُوهِدَ ذَلِكَ مِنْ بَعض النَّاس. ذكر هَذَا كلّه فِي "الفتح"

(1)

. والله تعالى أَعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4319 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، وَهِيَ خَالَتُهُ، فَقُدِّمَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَحْمُ ضَبٍّ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَا يَأْكُلُ شَيْئًا، حَتَّى يَعْلَمَ مَا هُوَ؟ فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ: أَلَا تُخْبِرْنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَا يَأْكُلُ، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ لَحْمُ ضَبٍّ، فَتَرَكَهُ، قَالَ خَالِدٌ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَرَامٌ هُوَ؟ قَالَ: "لَا، وَلَكِنَّهُ طَعَامٌ، لَيْسَ فِي أَرْضِ قَوْمِي، فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ"، قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ إِلَيَّ، فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ، وَحَدَّثَهُ ابْنُ الأَصَمِّ، عَنْ مَيْمُونَةَ، وَكَانَ فِي حَجْرِهَا).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، أبي داود سليمان بن سيف الطائيّ الحرّانيّ، فإنه منْ أفراده، وهو ثقة حافظ.

و"يعقوب بن إبراهيم": هو الزهريّ المدنيّ، نزيل بغداد. و"أبوه": هو إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، نزيل بغداد. و"صالح": هو ابن كيسان الغفاريّ المدنيّ، والباقون تقدّموا فِي الذي قبله.

وقوله: "وهي خالته"، وفي رواية يونس عند البخاريّ:"وهي خالته، وخالة ابن عبّاس".

(1)

"فتح" 11/ 102 - 104. "كتاب الذبائح" رقم الْحَدِيث 5537.

ص: 191

وَاسْم أُمّ خَالِد: لُبَابَة الصُّغْرَى، وَاسْم أُمّ ابْن عَبَّاس لُبَابَة الْكُبْرى، وَكَانَتْ تُكَنَّى أُمّ الْفَضْل، بِابْنِهَا الْفَضْل بْن عَبَّاس، وَهُمَا أُخْتَا مَيْمُونَة، وَالثَّلَاث بَنَات الْحَارِث بْن حَزْن -بِفَتحِ الْمُهْمَلة، وَسُكُون الزَّاي- الْهِلَالِيّ. قاله فِي "الفتح".

وقوله: "وكان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم لا يأكل شيئًا الخ". قَالَ ابن التين: إنما كَانَ يسأل؛ لأن العرب كانت لا تَعاف شيئاً منْ المآكل، لقلّتها عندهم، وكان هو صلّى الله تعالى عليه وسلم قد يَعاف بعضَ الشيء، فلذلك كَانَ يسأل. قَالَ الحافظ: ويحتمل أن يكون سبب السؤال أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم ما كَانَ يُكثر الكون فِي البادية، فلم يكن له خبرة بكثير منْ الحيوانات. أو لأن الشرع ورد بتحريم بعض الحيوانات، وإباحة بعضها، وكانوا لا يُحرّمون منها شيئاً، وربّما أتوا به مشويًّا، أو مطبوخًا، فلا يتميز عن غيره إلا بالسؤال عنه. انتهى

(1)

.

وقوله: "فَقَالَ بعض النسوة: ألا تخُبرن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ما يأكل، فأخبرته الخ" تقدّم أنها ميمونة رضي الله تعالى عنها، ففي رواية مسلم:"فلما أراد النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم أن يأكل، قالت له ميمونة: إنه لحم ضبّ، فكفّ يده".

وقوله: "فاجتررته إليّ" بالجيم: أي جذبته إليّ، وتقدّم أن بعضهم ضبطه بزاي بدل الراء، وهو غلط.

وقوله: "وحدّثه ابن الأصمّ، الخ" الضمير لابن شهاب، يعني أن ابن الأصمّ حدث ابنَ شهاب بهذا الْحَدِيث، راويًا عن ميمونة رضي الله تعالى عنها، فيكون هَذَا عاليًا منْ السند الماضي بدرجة.

و"ابن الأصمّ": هو يزيد بن الأصمّ، واسمه عمرو بن عُبيد بن معاوية البَكّائيّ، أبو عوف الكوفيّ، نَزيل الرَّقة، ابن أخت ميمونة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، يقال: له رؤيةٌ، ولا يثبت، وهو ثقة [3] 50/ 850 مات سنة (103).

وقوله: "وكان فِي حجرها" -بفتح الحاء المهملة، وتكسر، وسكون الجيم-: أي فِي كَنَفها، ورعايتها، قَالَ الفيّوميّ: حجر الإنسان -بالفتح، وَقَدْ يُكسر: حِضْنُه، وهو ما دون إبطه إلى الْكَشْحِ، وهو فِي حجره: أي كنفه، وجمايته، والجمع حُجُور. انتهى.

والحديث متَّفقٌ عليه، وتقدّم شرحه، وبيان مسائله فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

"فتح" 10/ 670 - 671. "كتاب الأطعمة" رقم 5391.

ص: 192

4320 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "أَهْدَتْ خَالَتِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَقِطًا، وَسَمْنًا، وَأَضُبًّا، فَأَكَلَ مِنَ الأَقِطِ، وَالسَّمْنِ، وَتَرَكَ الأَضُبَّ؛ تَقَذُّرًا، وَأُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الجَحْدَرِيُّ البصريّ، ثقة [10] 42/ 47.

2 -

(خالد) بن الحارث الْهُجَيميّ البصريّ، ثقة ثبت [8] 47/ 42.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإِمام الحجة الثبت [7] 24/ 27.

4 -

(أبو بشر) جعفر بن أبي وحشية إياس الواسطي، بصري الأصل، ثقة، أثبت النَّاس فِي سعيد بن جبير [5] 13/ 520.

5 -

(سعيد بن جُبير) الأسديّ مولاهم، الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 28/ 436.

6 -

(ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما 27/ 31. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، إلا سعيدًا، فكوفي. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَن ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما، (قالَ:"أَهْدَتْ خَالَتِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) خالته: هي أم حُفَيد الآتية فِي الْحَدِيث التالي، وهي -بضمّ الحاء المهملة، وفتح الفاء، مصغراً، واسمها هُزَيلة -بزاي، مصغّراً- بنت الحارث الهلاليّة، أخت ميمونة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهما، وهي خالة ابن عباس، وخالد بن الوليد، واسم أم كل منهما لُبابة - بضمّ اللام، وتخفيف الموحّدة، وبعد الألف أخرى (أَقِطًا) -بفتح الهمزة، وكسر القاف، وَقَدْ تسكّن، بعدها طاء مهملة- وهو جبن اللبن المستخرج زبده. قاله فِي "الفتح"

(1)

.

وَقَالَ الفيّوميّ: قَالَ الأزهريّ: "الأقط": يُتّخذ منْ اللبن الْمَخِيض، يُطبخُ، ثم يُتركُ، حَتَّى يَمْصُلَ

(2)

، وهو بفتح الهمزة، وكسر القاف، وَقَدْ تسكّن القاف للتخفيف، مع فتح

(1)

"فتح" 10/ 682 "كتاب الأطعمة".

(2)

يقال: مَصَلَ اللبنُ منْ باب نصر: صار فِي وعاء خُوصٍ أو خِرَقٍ ليقطر ماؤه. أفاده فِي "القاموس".

ص: 193

الهمزة، وكسرها، مثل تخفيف كَبِدٍ. نقله الصغانيّ، عن الفراء. انتهى (وَسَمْنًا) -بفتح السين المهملة، وسكون الميم-: هو ما يُعمل منْ لبن البقر، والغنم، والجمع سُمنان، مثلُ ظهر وظُهْران، وبَطن وبُطنان. قاله الفيّوميّ (وَأَضُبًّا) -بفتح الهمزة، وضم الضاد المعجمة- جمع ضبّ، ككَفّ وأَكُفّ (فَأكلَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (مِنْ الأقِطِ، وَالسَّمْن، وَتَرَكَ الأضُبَّ؛ تَقَذُّرًا) -بالقاف، والمعجمة- تقول: قذِرتُ الشيءَ، وتقذّرته: إذا كرهته. يعني أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم ترك أكل الأضبّ كراهةً لها طبعًا، لا دينًا؛ لأنه بيّن سبب تركه، بأنها لم تكن فِي أرض قومه، فدلّ عَلَى أنه ما تركها تديّنًا، بل لنفرة طبعه منها (وَأُكِلَ) بالبناء للمفعول (عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) المائدة: هي الشيء الذي يوضع عَلَى الأرض؛ صيانةً للطعام، كالمنديل، والطَّبَق وغير ذلك، واختُلف فِي اشتقاقها، فَقَالَ الزّجّاج: هي عندي منْ ماد يَمِيد: إذا تحرّك. وَقَالَ غيره: منْ ماد يَميد: إذا أعطى. قَالَ أبو عبيد: وهي فاعلة بمعنى مفعولة، منْ العطاء، قَالَ الشاعر:

وَكُنْتَ لِلْمُنْتَجِعِينَ مَائِدَا

ولا تعارض بين هَذَا الْحَدِيث، وحديث أنس رضي الله تعالى عنه:"أن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم ما أكل عَلَى الخوان"؛ لأن الخوان أخصّ منْ المائدة، ونفي الأخصّ، لا يستلزم نفي الأعمّ، قَالَ الحافظ: وهذا أولى منْ جواب بعض الشرّاح بأن أنسًا إنما نفى علمه، قَالَ: ولا يعارض قولَ منْ عَلِمَ. انتهى.

(وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) ووجه استدلال ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما بالحديث منْ جهة تقريره صلّى الله تعالى عليه وسلم، وهو استدلالٌ صحيح. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -26/ 4320 و4321 - وفي "الكبرى" 28/ 4830 و4831. وأخرجه (خ) فِي "الهبة" 2575 (م) فِي "الصيد" 3604 (د) فِي "الأطعمة" 3793 (أحمد) فِي "مسند بني هاشم" 2299 و2350 و2565 و2954 و3153 و3236. وفوائد

ص: 194

الْحَدِيث تقدّمت قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4321 -

(أَخْبَرَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَكْلِ الضِّبَابِ؟ فَقَالَ: أَهْدَتْ أُمُّ حُفَيْدٍ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، سَمْنًا، وَأَقِطًا، وَأَضُبًّا، فَأَكَلَ مِنَ السَّمْنِ، وَالأَقِطِ، وَتَرَكَ الضِّبَابَ، تَقَذُّرًا لَهُنَّ، فَلَوْ كَانَ حَرَامًا، مَا أُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا أَمَرَ بِأَكْلِهِنَّ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "زياد بن أيّوب": هو المعروف بدلّويه. و"هُشيم": هو ابن بَشير الواسطى، والباقون تقدّموا فِي السند الماضي.

وقوله: "عن أكل الضباب" -بكسر الضاد المعجمة-: جمع ضبّ. وقوله: "أمّ حُفيد": بالضمّ مصغّرًا، اسمها هُزَيلة بنت الحارث.

وقوله: "ولا أمر بأكلهنّ": أي رخص فيه.

والحديث متَّفقٌ عليه، كما بُيّن فِي الْحَدِيث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4322 -

(أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ مَنْصُورٍ الْبَلْخِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، سَلاَّمُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ يَزِيدَ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي سَفَرٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً، فَأَصَابَ النَّاسُ ضِبَابًا، فَأَخَذْتُ ضَبًّا، فَشَوَيْتُهُ، ثُمَّ أَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخَذَ عُودًا، يَعُدُّ بِهِ أَصَابِعَهُ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ أُمَّةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مُسِخَتْ دَوَابَّ فِي الأَرْضِ، وَإِنِّى لَا أَدْرِي، أَىُّ الدَّوَابِّ هِيَ؟ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَكَلُوا مِنْهَا، قَالَ: فَمَا أَمَرَ بِأَكْلِهَا، وَلَا نَهَى).

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(سليمان بن منصور الْبَلْخيّ) الْبَزّاز الدُّهنيّ الْجَرْمِيّ، لقبه زَرْغَنْدَه، لا بأس به [10] 60/ 75 منْ أفراد المصنّف.

2 -

(أبو الأحوص/ سلّام بن سُليم) الحنفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة، متقنٌ، صاحب حديث [7] 79/ 96.

3 -

(حُصين) بن عبد الرحمن، أبو الْهُذيل الكوفيّ، ثقة تغير حفظه فِي الآخر [5] 47/ 846.

4 -

(زيد بن وهب) الجُهَنِيّ، أبو سليمان الكوفيّ مخضرم ثقة جليل [2] 26/ 30.

5 -

(ثابت بن يزيد) بن وديعة، ويقال: ثابت بن وديعة بن عمرو بن قيس الخزرجيّ الأنصاريّ، أبو سعيد المدنيّ، له ولأبيه صحبة. روى عن النبيّ صلّى الله تعالى عليه

ص: 195

وسلم. وعنه البراء بن عازب، وزيد بن وهب، وعامر بن سعد البجليّ. وذكر الترمذيّ فِي "تاريخ الصحابة" أنه ثابت بن يزيد، وأن وديعة أمه. وَقَالَ العسكريّ: شهد خيبر، ثم شهد صِفّين مع علي رضي الله تعالى عنهما. وَقَالَ البغويّ، وابن حبّان: سكن الكوفة. وَقَالَ ابن السكن، وابن عبد البرّ: حديثه فِي الضبّ يختلفون فيه اختلافاً كثيرًا. وَقَدْ صححه الدارقطنيّ، وأخرجه أبو ذرّ الهَرَويّ فِي "المستدرك عَلَى الصحيحين". روى له المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه هَذَا الْحَدِيث فقط. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، إلا شيخه، فإنه منْ أفراده، والصحابي، فقد تفرد به هو وأبو داود، وابن ماجه. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فبلخيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. (ومنها) أن صحابيه منْ المقلّين منْ الرواية، فليس له إلا هَذَا الْحَدِيث. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ ثَابِتِ بْنِ يَزِيدَ الأنْصَارِيِّ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً، فَأَصَابَ النَّاسُ ضِبَابًا) بِكَسرِ الضَّاد الْمُعْجَمَة، جَمْع ضَبّ (فَأَخَذْتُ ضَبًّا فَشَوَيْتُهُ ثُمَّ أَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (عُودًا) أي خشبًا (يَعُدُّ) بضم العين الَمهملة، منْ عدّ، منْ باب نصر (بهِ) أي بذلك العود (أَصَابعَهُ) أَيْ أَصَابع الضَّبّ، وفي الرواية التالية:"فجعل ينظر إليه، وُيقلّبه"(ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ أُمَّةً منْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مُسِخَت) بِصِيغَةِ المَجْهُول، والْمَسْخ: قَلْب الْحَقِيقَة منْ شَيْء إِلَى شَيْء آخَر (دَوَابَّ) هكذا فِي النسخ المطبوعة منْ "المجتبى"، و"الكبرى" بمنع الصرف، وهو الصواب؛ لأنه منْ صيغ منتهى المجموع، ووقع فِي النسخة "الهنديّة":"دوابًا" مصروفًا، وكذا فِي "سنن أبي داود"، وهو مخالف للقواعد. قَالَ النوويّ فِي "شرح مسلم": وأما دوابّ، فكذا وقع فِي بعض النسخ، ووقع فِي أكثرها:"دوابًا" بالألف، والأول هو الجاري عَلَى المعروف المشهور فِي العربيّة. انتهى.

(فِي الأَرْضِ، وَإِنِّي لَا أَدْرِي) أي لا أعلم (أَيُّ الدَّوَابِّ هِيَ؟) مبتدأ وخبر (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَكَلُوا مِنْهَا، قالَ: فَمَا أَمَرَ بأَكْلِها، وَلَا نَهَى) أَي عَن أَكْلها.

قَالَ فِي "مِرْقَاة الصُّعُود": قَالَ الشَّيْخ عِزّ الدِّين بن عَبْد السَّلام: كَيْف يُجْمَع بَيْن هَذَا، وَبَيْن مَا وَرَدَ أَن المَمْسُوخ لا يَعِيش أكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَة أَيَّام، وَلَا يُعْقِب؟.

ص: 196

[وَالْجَواب]: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُخْبَر بِأَشيَاء مُجْمَلَة، ثُمَّ يَتبَيَّن لَهُ كَمَا قَالَ فِي الدَّجَّال:"إنْ يَخْرُج وَأَنَّا فِيكُم، فأنَا حَجِيجُهُ"، ثُمَّ أُعْلِمَ بَعد ذَلِكَ أنَّهُ لا يَخْرُج إِلَّا فِي آخِر الزَّمَان، قَبْلَ نُزُول عِيسَى عليه السلام، فَأخْبَرَ أصْحَابَهُ بِذَلِكَ عَلَى وَجْهه، فَكَذَلِكَ هَذَا عَلِمَ صلى الله عليه وسلم بِالْمَسْخِ، وَلَمْ يَعْلَم أَنَّ الْمَمْسُوخَ لا يَعِيش، وَلا يُعْقَبُ لَهُ، فَكَانَ فِي الظَّنِّ وَالْحِسَاب، عَلَى حَسَب الْقَرَائن الظَّاهِرَة. انْتَهَى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ثابت بن يزيد الأنصاريّ رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -4322 و4323 و4324 - وفي "الكبرى" 28/ 4832 و4833 و4834. وأخرجه (د) فِي "الأطعمة" 3795. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيما قاله العلماء فِي الجمع بين حديث ثابت بن يزيد هَذَا، والأحاديث الماضية:

قَالَ فِي "الفتح": أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، مِنْ حَدِيث عَبْد الرَّحْمَن بْن حَسَنَة: "نَزَلْنَا أَرْضًا كَثِيرَة الضَّبَاب

" الْحَدِيث، وَفِيهِ أَنَّهمْ "طَبَخُوا مِنْهَا، فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أُمَّة مِنْ بَنِي إسْرَائِيل، مُسِخَتْ دَوَابّ فِي الأَرْض، فَأَخْشَى أَنْ تَكُون هَذِهِ، فَأَكْفِئُوهَا". أَخْرَجَهُ أَحْمَد، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان، وَالطَّحَاوِيّ، وَسَنَده عَلَى شَرْط الشَّيْخَيْنِ، إِلَّا الضَّحَّاك، فَلَم يُخَرِّجَا لَهُ. وَلِلطَّحَاوِيّ مِنْ وَجْه آخَر، عَن زَيْد بْن وَهْب، وَوَافَقَهُ الْحَارِث بْن مَالِك، وَيَزِيد يْن أَبِي زِيَاد، وَوَكِيع فِي آخِره: "فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاس قَدْ اشْتَوَوْهَا، وأَكَلُوهَا، فَلَم يَأْكُلْ، وَلَمْ يَنْهَ عَنهُ". وَقد دلّت الأحَادِيث، المَاضِيَة، عَلَى الْحِلّ تَصْريحًا وَتَلْوِيحًا، نَصًّا وَتَقْرِيرًا.

فَالْجَمْع بَيْنهَا وَبَيْن هَذَا أن يُحَمَلُ النَّهْى فِيهِ عَلَى أَوَّل الْحَال، عِنْد تَجْوِيز أنْ يَكُون مِمَّا مُسِخَ، وَحِينَئِذٍ أَمَرَ بِإِكْفَاءِ القُدُور، ثُمَّ تَوقَّفَ، فَلَم يأْمُر بِهِ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ، ويُحمَلَ الإذن فِيهِ عَلَى ثَانِي الْحَال، لَمَّا عَلِمَ أَنَّ المَمْسُوخ، لَا نَسْل لَهُ، ثُمَّ بَعْد ذَلِكَ، كَانَ يَسْتَقْذِرهُ، فَلا يَأْكُلهُ، وَلا يُحَرِّمهُ، وَأُكِلَ عَلَى مَائِدَته، فَدَلَّ عَلَى الإِبَاحَة، وَتَكُون الْكَرَاهَة لِلتَّنْزيهِ فِي حَقّ مَنْ يَتَقَذَّرهُ، وَتُحمَلَ أَحَادِيث الإبَاحَة، عَلَى مَنْ لا يَتَقَذَّرهُ، وَلا يَلْزَم منْ ذَلِك، أَنَّهُ يُكْرَه مُطْلَقًا.

وَقَد أَفْهَمَ كَلَام ابْن العَرَبِيّ، أَنَّهُ لا يَحِلّ فِي حَقِّ مَن يَتَقَذَّرهُ؛ لِمَا يُتَوَقَّع فِي أَكْله منْ

ص: 197

الضَّرَر، وَهَذَا لا يَخْتَصّ بهَذَا.

وَوَقَعَ فِي حَدِيث يَزِيد بْن الأصَمّ: "أَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاس بِقِصَّةِ الضَّبّ، فَأَكْثَرَ القَوْمُ حَوْلَهُ، حَتَّى قَالَ بَعْضهمْ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "لا آكُلهُ، وَلا أَنْهَى عَنهُ، وَلَا أُحَرِّمهُ"، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاس: بِئْسَ مَا قُلْتُمْ، مَا بُعِثَ نَبِيُّ الله، إِلَّا مُحَرِّمًا، أَو مُحَلِّلاً". أَخْرَجَهُ مُسْلم.

قَالَ ابن العَرَبي: ظَنَّ ابْنُ عَبَّاس أنّ الَّذِي أَخبَرَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "لا آكُلهُ"، أَرَادَ لا أُحِلّهُ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ؛ لأنَّ خُرُوجه مِنْ قِسْم الْحَلال وَالْحَرَام مُحَال.

وَتَعَقَّبهُ الحافظ العراقيّ فِي "شَرْح التِّرْمِذيّ" بِأنَّ الشَّيْء، إِذَا لَمْ يَتَّضِح إِلْحَاقه بِالْحَلالِ، أَوْ الْحَرَام يَكُون منْ الشُّبُهَات، فَيَكُون مِنْ حُكْم الشَّيْء قَبْل وُرُود الشَّرْع، وَالأَصَحّ -كَمَا قَالَ النَّوَوِيّ-: أَنَّهُ لا يُحْكَم عَلَيْهَا بِحِلٍّ، وَلَا حُرْمَة.

قَالَ الحافظ: وَفِي كوْن مَسْأَلَة الْكِتَاب، منْ هَذَا النَّوْع نَظَر؛ لأنَّ هَذَا إِنَّمَا هُوَ إِذَا تَعَارَضَ الْحُكْم عَلَى الْمُجْتَهد، أمَّا الشَّارع إذا سُئِلَ عَن وَاقِعَة، فَلابُدَّ أنْ يَذكُر فِيهَا الْحُكْم الشَّرْعيّ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ ابن العَرَبِيّ، وَجَعَلَ مَحَطّ كَلام ابن عَبَّاس عَلَيهِ.

ثُمَّ وَجَدْتُ فِي الْحَدِيث زِيَادَة لَفْظَة، سَقَطَتْ مِنْ رِوَايَة مُسْلِم، وَبَها يَتَّجِه إِنْكَار ابْن عَبَّاس، وَيُسْتَغنَى عَن تَأْوِيل ابْن الْعَرَبِيّ "لا آكُلهُ" بِلا أُحِلّهُ، وَذَلِكَ أَن أَبَا بَكر بْن أَبِي شَيْبَة، وَهُوَ شَيْخ مُسْلِم فِيهِ، أَخْرَجَهُ فِي "مُسْنَده" بِالسَّنَدِ الَّذِي سَاقَهُ بِهِ عنْد مُسْلِم، فَقَالَ فِي رِوَايَته:"لا آكُلهُ، وَلا أَنْهَى عَنهُ، وَلا أُحِلّهُ، وَلا أُحَرِّمهُ"، وَلَعَلّ مُسْلمًا حَذَفَهَا عَمْدًا؛ لِشُذُوذِهَا؛ لأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَع فِي شَيْء مِنْ الطُّرُق، لا فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَلا غَيْره، وَأَشْهَر مَنْ رَوَى عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:"لا آكُلهُ، وَلا أُحَرِّمهُ"، ابْنُ عُمَر، كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثه:"لا أُحِلّهُ"، بَلْ جَاءَ التَّصْرِيح عَنْهُ بِأنَّه حَلال، فَلَمْ تَثبُت هَذِهِ اللَّفْظَة، وَهِيَ قَوْله:"لا أُحِلّهُ"، لأَنَّهَا وإنْ كَانَت منْ رِوَايَة يَزِيد بْن الأصَمّ، وَهُوَ ثِقَةٌ، لَكِنَّهُ أَخْبَرَ بِهَا عَن قَوْم، كَانُوا عِنْد ابن عَبَّاس، فَكَانَتْ رِوَايَة عَن مَجْهُول، وَلَمْ يَقُلْ يَزِيد بْن الأَصَمّ: إِنَّهُمْ صَحَابَة، حَتَّى يُغْتَفَر عَدَم تَسْمِيَتهمْ.

وَاستَدَلَّ بَعض مَنْ مَنَعَ أَكْله، بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيد، عِنْد مُسْلِم: أنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"ذُكِرَ لِي أَنَّ أُمَّة، مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل مُسِخَتْ"، وَقَدْ ذَكَرْته وَشَوَاهِده قَبْل، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَيْسَ فِي الْحَدِيث الْجَزْمُ بأنَّ الضَّبّ مِمَّا مُسِخَ، وإنَّما خَشِيَ أَنْ يَكُون مِنْهُمْ، فَتَوَقَّفَ عَنهُ، وإنَّمَا قَالَ ذَلِكَ قَبْل أنْ يُعْلِم الله تَعَالَى نَبيّه صلّى الله تعالى عليه وسلم، أَنَّ الْمَمْسُوخ لا يَنْسِلُ

(1)

، وَبِهَذَا أَجَابَ الطَّحَاوِيُّ، ثُمّ أَخْرَجَ منْ طَرِيق الْمَعْرُور بْن سُوَيْد،

(1)

نسل منْ باب ضرب: كثُر نسله، ويتعدّى إلى مفعول، فيقال: نسلت الولدَ نسلاً: أي ولدته، وأنسلته بالألف لغة. اهـ مصباح.

ص: 198

عَنْ عَبْد الله بن مَسْعُود رضي الله تعالى عنه، قَالَ:"سُئلَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن الْقِرَدَة، وَالْخَنَازِير، أَهِيَ مِمَّا مُسِخَ؟ قَالَ: "إِنَّ الله لَمْ يُهْلِك قَوْمًا" -أَو "يَمْسَخ قَوْمًا- فَيَجْعَل لَهُمْ نَسْلاً، وَلَا عَاقِبَة".

وَأَصْل هَذَا الْحَدِيث فِي مُسْلِم، وَكَأنّهُ لَمْ يَسْتَحْضِرهُ، منْ "صَحِيح مُسْلِم"، وَيُتَعَجَّبُ مِنْ ابْن العَرَبِيّ، حَيْثُ قَالَ: قَوْله: "إِنَّ الْمَمْسُوخ لا يَنْسِلُ" دَعْوَى، فَإِنَّهُ أمْر لا يُعْرَف بالْعَقْل، وَإِنَّمَا طَرِيقه النَّقْل، وَلَيْسَ فِيهِ أَمْر يُعَوَّل عَلَيْهِ. كَذَا قَالَ. ثُمَّ قَالَ الطحَاويُّ -بَعْد أن أَخْرَجَهُ منْ طُرُق، ثُمَّ أَخْرَجَ حَدِيث ابْن عُمَر-: فَثَبَتَ بهَذِهِ الآثَار، أَنَّهُ لا بَأْس بأَكْلِ الضَّبّ، وَبِهِ أَقُول.

قَالَ: وَقَد احْتَجَّ مُحَمَّد بْن الحَسَنُ لِأَصْحَابِهِ، بِحَدِيثِ عَائِشَة، فَسَاقَهُ الطَّحَاوِيُّ منْ طَرِيق حَمَّاد بن سَلَمَة، عَن حَمَّاد بن أَبِي سُلَيْمَان، عَن إِبرَاهِيم، عَن الأَسْوَد، عَن عَائِشَة:"أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَأْكُلهُ، فَقَامَ عَلَيْهِمْ سَائِل، فَأَرَادَتْ عَائِشَة أنْ تُعْطِيه، فَقَالَ لَهَا: أَتُعطِيهِ مَا لا تَأكُلِينَ؟ "، قَالَ مُحَمَّد: دَلَّ ذَلِكَ عَلَى كَرَاهَته لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ.

وَتَعَقبَهُ الطَّحَاوِيُّ بِاحْتِمَالِ أنْ يَكُون ذَلِكَ، مِنْ جِنْس مَا قَال الله تَعَالَى:{وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} الآية [البقرة: 267]، ثُمَّ سَاقَ الأَحَادِيث الدَّالَّة عَلَى كَرَاهَة التَّصَدُّق بِحَشَفِ التَّمْر، وَبِحَدِيثِ البَرَاء: "كَانُوا يُحِبُّونَ الصَّدَقَة بِأَرْدَاءِ تَمْرهم، فَنَزَلَت:{أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} الآيَة [البقرة: 267]. قَالَ: فَلِهَذَا الْمَعْنَى كَرِهَ لِعَائِشَة الصَّدَقَة بِالضَّبِّ، لا لِكَوْنِهِ حَرَامًا. انتهى. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَهِمَ عَن مُحَمَّد، أَنَّ الْكَرَاهَة فِيهِ لِلتَّحْرِيم، وَالمَعْرُوف عَن أَكثَر الحَنَفِيَّة فِيهِ كَرَاهَة التَّنْزيَه.

وَجَنَحَ بَعْضهمْ إِلَى التَّحْرِيم، وَقَالَ: اخْتَلَفَت الأَحَادِيث، وَتَعَذَّرَتْ مَعْرِفَة الْمُتَقَدِّم، فرَجَّحْنا جَانِب التَّحْرِيم؛ تَقْلِيلا لِلنَّسْخِ انتهى. وَدَعْوَاهُ التَّعَذُّر مَمْنُوعَة؛ لِمَا تَقَدَّمَ. وَالله أَعْلَم. وَيَتَعَجَّب منْ ابن العَرَبِيّ، حَيْثُ قَالَ: قَوْلهم: "إنَّ الْمَمْسُوخ لا يَنْسَلُ"، دَعْوَى، فَإِنَّهُ أَمْر لا يُعْرَف بِالعَقْلِ، وَإِنَّمَا طَرِيقه النَّقْل، وَلَيْسَ فِيهِ أمْر يُعَوَّل عَلَيْهِ، كَذَا قَالَ، وَكَأنَّهُ لَمْ يَسْتَحْضِرهُ منْ "صَحِيح مُسْلِم"، ثُمَّ قَالَ: وَعَلَى تَقْدِير ثُبُوت كَوْن الضَّبّ مَمْسُوخًا، فَذَلِكَ لا يَقْتَضي تَحْرِيم أَكْله، لأَنَّ كَوْنه آدَميًّا، قَدْ زَالَ حُكْمه، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَر أَصْلاً، وإنَّمَا كَرِهَ صلى الله عليه وسلم الأَكْل مِنْهُ؛ لِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ منْ سَخَط الله، كَمَا كَرِهَ الشُّرْب مِنْ مِيَاه ثَمُود. انتهى.

قَالَ الحافظ: وَمَسْأَلَة جَوَاز أَكْل الآدَمِيّ، إِذَا مُسِخَ حَيَوَانًا مَأْكُولاً، لَمْ أَرَهَا فِي كُتُب فُقَهَائِنَا. -يعني الشافعية-. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى ببعض تصرّف

(1)

. والله

(1)

"فتح" 103 - 104. "كتاب الذبائح" رقم 5537.

ص: 199

تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4323 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ، يُحَدِّثُ عَنْ ثَابِتِ بْنِ وَدِيعَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِضَبٍّ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَيُقَلِّبُهُ، وَقَالَ: "إِنَّ أُمَّةً مُسِخَتْ، لَا يُدْرَى مَا فَعَلَتْ، وَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلَّ هَذَا مِنْهَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده، وَقَدْ وثّقه هو، وابن حبَّان. والحديث صحيح، وَقَدْ سبق تمام البحث فيه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4324 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ وَدِيعَةَ، أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِضَبٍّ، فَقَالَ: "إِنَّ أُمَّةً مُسِخَتْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ")

(1)

.

قَالَ الجَامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، وعمرو بن عليّ: هو الفلّاس.

و"عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. و"الحكم": هو ابن عُتيبة. والحديث صحيح، وَقَدْ سبق تمام البحث فيه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌27 - (الضَّبُعُ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الضَّبُعُ" بضمّ الباء الموحّدة، فِي لغة قيس، وبسكونها فِي لغة تميم، وهي أنثى، وتختصّ بالأنثى. وقيل: تقع عَلَى الذكر والأنثى، وربّما قيل فِي الأنثى ضَبْعةُ بالهاء، كما قيل سبُع وسبعةٌ بالسكون، مع الهاء للتخفيف، والذكر ضِبْعان، والجمع ضَبَاعين، مثلُ سِرْحان وسَرَاحين، ويُجمع الضبع بضمّ الباء عَلَى ضِبَاع، وبسكونها عَلَى أضبُع. قاله الفيّوميّ.

وَقَالَ الدميريّ: الضبع معروفة، ولا تقل: ضبعة؛ لأن الذكر ضبعان، ومن عجيب

(1)

وفي "الكبرى": "فالله أعلم" الفاء.

ص: 200

أمرها أنها كالأرنب تكون سنة ذكراً، وسنة أُنثى، فتلقّح فِي حال الذكورة، وتلد فِي حال الأنوثة، وهي مُولَعة بنبش القبور؛ لكثرة شهوتها للحوم بني آدم، ومتى رأت إنسانًا نائمًا، حفَرَت تحت رأسه، وأخذت بحلقه، فتقتله، وتشرب دمه. انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب.

4325 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَمَّارٍ، قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الضَّبُعِ، فَأَمَرَنِي بِأَكْلِهَا، فَقُلْتُ: أَصَيْدٌ هِيَ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قُلْتُ: أَسَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "نَعَمْ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن منصور) الجوّاز المكيّ، ثقة [10] 20/ 21.

2 -

(سفيان) بن عيينة المكيّ الإِمام الحجة الثبت [8] 1/ 1.

3 -

(ابن جريج) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم المكيّ، ثقة فقيه فاضل، يدلس [6] 28/ 32.

4 -

(عبد الله بن عُبيد بن عُمير) الليثيّ المكيّ، ثقة [3] 89/ 2837.

5 -

(ابن أبي عمّار) عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمّار المكيّ، حليف بني جُمَح، الملقب بالقَسّ -بفتح القاف، وتشديد السين المهملة- ثقة عابدٌ [3] 1/ 1433.

6 -

(جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَمي الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما 31/ 35. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده، وهو ثقة. (ومنها): أنه مسلسل بثقات المكيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله تعالى عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثا. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَن) عبد الرحمن بن عبد الله (بْن أَبِي عَمَّارٍ) أنه (قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) رضي الله تعالى عنهما (عَنِ الضَّبُعِ) أَي حكم أهلها. وفي رواية: قَالَ: قلت لجابر:

(1)

راجع "المرعاة شرح المشكاة"(9/ 417)"كتاب المناسك".

ص: 201

الضبع أصيد هي؟ قَالَ: نعم، قلت: آكلها؟ قَالَ: نعم، قلت آكلها؟ قَالَ: نعم، قلت: أقاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قَالَ: نعم.

(فَأَمَرَنِي بِأَكْلِهَا) أي لعدم كونها منْ الخبائث، كما قَالَ الإِمام الشافعيّ رحمه الله تعالى، وكونها ليست منْ السباع العادية التي تعدو بأنيابها (فَقُلْتُ: أَصَيْدٌ هِيَ؟ قَالَ: "نَعَمْ" قُلْتُ: أَسَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) الظاهر أنه يعود إلى الاثنين: حلّ أكلها، وكونها صيدًا، كما سيأتي تحقيقه قريبًا، إن شاء الله تعالى (قَالَ) جابر رضي الله تعالى عنه (نَعَمْ) سمعت ذلك منه صلّى الله تعالى عليه وسلم.

ولفظ أبي داود: عن جابر، سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عن الضبع؟، فَقَالَ:"هي صيد، ويُجعَل فيه كبش، إذا صاده المحرم". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -27/ 4325 وتقدّم فِي "الحج" 89/ 2836 - وفي "الكبرى" 29/ 4835 وتقدّم فِي "الحج" 88/ 3819. وأخرجه (د) فِي "الأطعمة" 3801 (ت) فِي "الحج" 851 و"الأطعمة" 1791 (ق) فِي "المناسك" 3085 و"الصيد" 3236 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 13751 و14016 و14040 (الدارمي) فِي "المناسك" 1941. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم الضبع، وهو حلّ أكلها. (ومنها): أن الضبع صيد، فيلزم الجزاء بقتل المحرم له، وَقَدْ تقدّم ما يتعلق بذلك فِي "كتاب مناسك الحجّ". (ومنها): ما كَانَ عليه السلف منْ التأكّد فِي السؤال، عن الأدلّة، فقد قَالَ ابن عمّار لجابر رضي الله تعالى عنه:"أسمعته منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي أكل الضبع؟:

ذهبت طائفة إلى حلّ أكلها، روي ذلك عن سعد، وابن عمر، وأبي هريرة، وعروة ابن الزبير، وعكرمة، وإسحاق، وَقَالَ عروة: ما زالت العرب تأكل الضبع، ولا ترى بأكلها بأسا.

ص: 202

وَقَالَ أبو حنيفة، والثوري، ومالك: هو حرام، وروي نحو ذلك عن سعيد بن المسيب؛ لأنها منْ السباع، وَقَدْ نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم، عن أكل كلّ ذي ناب منْ السباع، وهي منْ السباع، فتدخل فِي عموم النهي، وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه سئل عن الضبع؟ فَقَالَ:"ومن يأكل الضبع".

واحتجّ الأولون بحديث جابر رضي الله تعالى عنه المذكور فِي الباب. واعترضه ابن عبد البر فَقَالَ: إن هَذَا لا يعارض حديث النهي عن كل ذي ناب منْ السباع؛ لأنه أقوى منه. وتعُقّب -كما قَالَ ابن قُدَامة- بأن هَذَا تخصيص، لا معارض، ولا يعتبر فِي التخصيص كون المخصص فِي رتبة المخصَّص، بدليل تخصيص عموم الكتاب، بأخبار الآحاد.

فأما الخبر الذي ذكروه: "ومن يأكل الضبع"، فحديث، يرويه عبد الكريم بن أبي المخارق، ينفرد به، وهو متروك الْحَدِيث.

قَالَ ابن قُدامة: ولأن الضبع قد قيل: إنها ليس لها ناب، وسمعت منْ يذكر أن جميع أسنانها عظم واحد، كصَفِيحَةِ نعل الفرس، فعلى هَذَا لا تدخل فِي عموم النهي. أفاده فِي "المغني" 13/ 341 - 342.

وَقَالَ العلّامة الشوكانيّ رحمه الله تعالى فِي "نيل الأوطار" -8/ 291 فِي شرح حديث جابر المذكور: ما نصه: فِي الْحَدِيث دليل عَلَى جواز أكل الضبع، وإليه ذهب الشافعيّ، وأحمد، قَالَ الشافعيّ: ما زال النَّاس يأكلونها، ويبيعونها بين الصفا والمروة، منْ غير نكير، ولأن العرب تستطيبه، وتمدحه.

وذهب الجمهور إلى التحريم، واستدلوا بما تقدم، فِي تحريم كل ذي ناب منْ السباع.

ويجاب بأن حديث الباب خاص، فيُقدّم عَلَى حديث كل ذي ناب. واستدلوا أيضاً بما أخرجه الترمذي، منْ حديث خزيمة بن جزء، قَالَ: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الضبع؟ فَقَالَ: "أو يأكل الضبع أحد؟ "، وفي رواية:"ومن يأكل الضبع؟ ". ويجاب بأن هَذَا الْحَدِيث ضعيف؛ لأن فِي إسناده عبد الكريم أبو أمية، وهو متَّفقٌ عَلَى ضعفه، والراوي عنه إسماعيل بن مسلم، وهو ضعيف. قَالَ ابن رسلان: وَقَدْ قيل: إن الضبع ليس لها ناب، وسمعت منْ يذكر أن جميع أسنانها عظم واحد، كصفيحة نعل الفرس، فعلى هَذَا لا تدخل فِي عموم النهي. انتهى ما ذكره الشوكانيّ.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وبهذا تعلم أن مذهب القائلين بإباحة أكل الضبع أقوى دليلاً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 203

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌28 - (بَابُ تَحْرِيمِ أَكْلِ السِّبَاعِ)

4326 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ، عَنْ عَبِيدَةَ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، فَأَكْلُهُ حَرَامٌ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(إسحاق بن منصور) بن بَهْرام الكوسج، أبو يعقوب التميمي المروزي، ثقة ثبت [11] 72/ 88.

2 -

(عبد الرحمن بن مهديّ) العنبري مولاهم أبو سعيد البصريّ، ثقة ثبت إمام حجة [9] 42/ 49.

3 -

(مالك) بن أنس الإِمام الحجة الثبت الفقيه المدنيّ [7] 7/ 7.

4 -

(إسماعيل بن أبي حَكيم) القرشيّ مولاهم المدنيّ، ثقة [6].

قَالَ ابن معين، والنسائيّ، والبَرْقيّ، وابنُ وضّاح: ثقة. وعن ابن معين أيضاً: صالح. وَقَالَ أبو حاتم: يُكتب حديثه، وكان عاملاً لعمر بن عبد العزيز. ونقل ابن شاهين فِي "الثقات" عن أحمد بن صالح، قَالَ: إسماعيل بن أبي حكيم، عن عَبيدة بن سُفيان، هَذَا منْ أثبت أسانيد أهل المدينة. وَقَالَ ابن عبد البرّ فِي "التمهيد": كَانَ فاضلاً، ثقةً، وهو حجة فيما روى عنه جماعة أهل العلم. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: هو أخو إسحاق. وَقَالَ ابن سعد: توفّي سنة (130) وكان قليل الْحَدِيث. روى له مسلم، والمصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، وله عند المصنّف، وابن ماجه هَذَا الْحَدِيث فقط، وله عند أبي داود حديثان.

5 -

(عَبيدة بن سُفيان) -بفتح العين المهملة، وكسر الموحّدة-: هو الْحَضرميّ المدنيّ، ثقة [3] 2/ 1369.

6 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم

ص: 204

رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فمروزي، وعبد الرحمن، فبصري. (ومنها): أنه منْ أثبت أسانيد المدنيين، كما مرّ آنفًا عن أحمد بن صالح، وإليه، وإلى أثبت أسانيد المكيين أشار السيوطي رحمه الله تعالى فِي "ألفية الْحَدِيث"، حيث قَالَ:

لِمَكَّةٍ سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو وَذَا

عَن جَابِر وَلِلْمَدِينَةِ خُذَا

ابْنَ أَبِي حَكِيمَ عَن عَبِيدَةِ

الْحَضْرَمِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ

(ومنها): أن فيه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أحد المكثرين السبعة، روى (5374) حديثاً. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنْه (عَنْ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "كُلُّ ذِي نَابَ) الناب واحد الأنياب، وهي مما يلي الرَّبَاعيات منْ الإنسان. وَقَالَ الفيّوميّ: الناب منْ الأسنان مذكّرٌ، ما دام له هَذَا الاسم، والجمع أنياب، وهو الذي يلي الرباعيات. قَالَ ابن سينا: ولا يجتمع فِي حيَوَان نابٌ، وقرْنٌ معًا. انتهى. وفِي "شَرْحِ السُّنَّةِ": أَرَادَ بِكُلِّ ذِي نَابٍ: مَا يَعْدُو بِنَابِهِ، عَلَى النَّاسِ وَأَمْوَالِهِمْ، كَالذِّئْبِ، وَالأَسَدِ، وَالكَلْبِ، وَنَحْوِهَا.

(مِنْ السِّبَاعِ) أَيْ سِبَاعِ الْبَهَائِم، والسِّبَاعُ -بالكسر-: جمع سَبُعٍ، بضمّ الباء، قَالَ الفيّوميّ: السبُع بضمّ الباء معروفٌ، وإسكان الباء لغة، حكاها الأخفش، وغيره، وهي الفاشية عند العامّة، ولهذا قَالَ الصغانيّ: السبع، والسبع لغتان، وقُرىء بالإسكان فِي قوله تعالى:{وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} ، وهو مرويّ عن الحسن البصريّ، وطلحة بن سليمان، وأبي حيوة، ورواه بعضهم عن عبد الله بن كثير أحدِ السبعة، ويُجمع فِي لغة الضمّ عَلَى سباع، مثلُ رجل ورجال، لا جمع له غير ذلك عَلَى هذه اللغة، قَالَ الصغانيّ: وجمعُهُ عَلَى لغة السكون فِي أدنى العدد أَسْبُعٌ، مثلُ فَلْس وأفلُسٍ، وهذا كما خُفّف ضَبُعٌ، وجُمع عَلَى أضبُعٍ، قَالَ: ويقع السبع عَلَى كلّ ما له نابٌ، يَعدُو به، ويَفترِس، كالذئب، والفهد، والنمر، وأما الثعلب، فليس بسبع، وإن كَانَ له نابٌ؛ لأنه لا يعدُو به، ولا يفترس، وكذلك الضبع. قاله الأزهريّ. انتهى (فَأَكْلُهُ حَرَامٌ") وفي حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما عند مسلم زيادة:"كلّ ذي مِخْلَب، منْ الطير"، ولفظه:"نهى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عن كلّ ذي نابٍ منْ السباع، وعن كلّ ذي مِخلب منْ الطير"، وسيأتي للمصنّف برقم 33/ 4350 - . وهذا نصّ صريحٌ فِي تحريم

ص: 205

أكل كلّ ذي ناب، وإلى هَذَا ذهب الجمهور منْ السلف، وغيرهم، وسيأتي تحقيق الخلاف فِي ذلك قريبًا، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -28/ 4326 - وفي "الكبرى" 30/ 4836. وأخرجه (م) فِي "الصيد" 3573 و"الأطعمة" 1479 (ق) فِي "الصيد" 3233 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 7183 و8571 و9141 (الموطأ) فِي "الصيد" 10761. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم أكل ذي الناب منْ السباع، وذي المخلب منْ الطيور:

فأما ذو الناب منْ السباع، فذهب أكثر أهل العلم إلى تحريم كلّ ذي ناب قويّ منْ السباع، يعْدُو، ويَكسِر، إلا الضبع، منهم: مالك، والشافعيّ، وأبو ثور، وأصحاب الْحَدِيث، وأبو حنيفة، وأصحابه. وَقَالَ الشعبيّ، وسعيد بن جُبير، وبعض أصحاب مالك: هو مباح؛ لعموم قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية [الأنعام: 145]، وقوله تعالى:{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} الآية [البقرة: 173].

واحتجّ الأولون بحديث أبي هريرة، وأبي ثعلبة رضي الله تعالى عنهما المذكورين فِي الباب. قَالَ الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى: هَذَا حديث ثابتٌ، صحيح، مُجمع عَلَى صحّته، وهذا نصّ صريح يخُصّ عموم الآيات، فيدخل فِي هَذَا الأسد، والنمر، والفهد، والذئب، والكلب، والخنزير. وَقَدْ رُوي عن الشعبيّ أنه سئل عن رجل يتداوى بلحم الكلب؟ فَقَالَ: لا شفاه الله. وهذا يدلّ عَلَى أنه رأى تحريمه. انتهى.

وأما ذو المخلب منْ الطيور، وهي التي تعلِّق بمخالبها الشيء، وتصيده بها، فذهب أكثر أهل العلم أيضاً إلى تحريمه، وبه قَالَ الشّافعيّ، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. وَقَالَ مالك، والليث، والأوزاعيّ، ويحيى بن سعيد: لا يحرم شيء منْ الطير، قَالَ مالك: لم أر أحدًا منْ أهل العلم يَكره سباع الطير. واحتجّوا بعموم الآيات المبيحة، وقول أبي الدرداء، وابن عبّاس رضي الله تعالى عنهم: ما سكت الله، فهو مما عفا عنه.

ص: 206

واحتجّ الأولون بحديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما المذكور: نهى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عن كلّ ذي ناب منْ السباع، وكلّ ذي مِخلب منْ الطير. رواه مسلم. فهذا يخصّ عموم الآيات، ويُقدّم عَلَى ما ذكروه، فيدخل فِي هَذَا كلّ ماله مِخلبٌ يعدو به، كالعقاب، والبازي، والصقر، والشاهين، والباشق، والحدأة، والبومة، ونحوها

(1)

.

وَقَالَ فِي "الفتح": قَالَ التِّرْمِذِيّ: الْعَمَل عَلَى هَذَا عنْد أَكثَر أَهْل الْعِلْم، وَعَن بَعْضهمْ: لا يَحْرُم، وَحَكَى ابْن وَهْب، وَابْن عَبْد الْحَكَم، عَن مَالِك كَالْجُمْهور، وَقَالَ ابْن العَرَبِيّ: المَشْهُور عَنْهُ الْكَرَاهَة. وَقَال ابْن عَبْد البرّ: اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ابن عَبَّاس، وَعَائشة، وَجَابِر، وعَن ابْن عُمَر منْ وَجْه ضَعِيف، وَهُوَ قَوْل الشَّعْبِيّ، وَسَعِيْد بن جُبَيْر، وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ:{قُلْ لَا أَجِدُ} الآية. وَالْجَوَاب أنها مَكِّيَّة، وَحَدِيث التَّحْرِيم بَعْد الْهِجْرة. ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوه مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ نَصَّ الآيَة عَدَم تَحْرِيم غَيْر مَا ذُكِرَ إِذ ذَاكَ، فَلَيْسَ فِيهَا نَفْي مَا سَيَأْتِي، وَعَنْ بَعْضهمْ أَنَّ آيَة الأنْعَام خَاصَّة، ببَهِيمَةِ الأَنْعَام؛ لأَنَّهُ تَقَدَّمَ قَبْلهَا حِكَايَة عَن الْجَاهِلِيَّة، أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّمُونَ أَشْيَاء، منْ الأزْوَاج الثَّمَانِيَة بِآرَائِهِم، فَنَزَلَتْ الآيَة:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية: أَيْ منْ المَذْكُورَات، إِلَّا الْمَيْتَة مِنْهَا، وَالدَّم الْمَسْفُوح، وَلا يَرِد كَوْن لَحْم الْخِنْزِير ذُكِرَ مَعَهَا؛ لأَنَّهَا قُرِنَتْ بِهِ عِلَّة تَحْرِيمه، وَهُوَ كَوْنه رِجْسًا. وَنَقَلَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَنْ الشَّافِعِيّ، أَنَّهُ يَقُول بِخُصُوصِ السَّبَب، إِذَا وَرَدَ فِي مِثْل هَذِهِ الْقِصَّة؛ لأَنَّهُ لَمْ يَجْعَل الآيَة حَاصِرَة لِمَا يَحْرُم منْ المَأكُولَات، مَعَ وُرُود صِيغَة العُمُوم فِيهَا، وَذَلِكَ أَنَّها وَرَدَتْ فِي الكُفَّار، الَّذينَ يُحِلُّونَ المَيتَة، وَالدَّم، وَلَحْم الْخِنْزِير، وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ، وَيُحَرِّمُونَ كَثِيرًا مِمَّا أَبَاحَهُ الشَّرْع، فَكَأنَّ الغَرَض منْ الآيَة إِبَانَة حَالهمْ، وَأَنَّهمْ يُضَادُّونَ الْحَقّ، فَكَأنَّهُ قِيْلَ: لا حَرَام إِلَّا مَا حَلَّلْتُمُوهُ، مُبَالَغَة فِي الرَّدّ عَلَيْهِمْ. وَحَكَى القُرْطُبِيّ عَن قَوْم: أَنَّ آيَة الأَنْعَام الْمَذْكُورَة، نَزَلَتْ فِي حَجَّة الوَدَاع، فَتَكُون نَاسِخَة، وَرُدَّ بِأَنَّها مَكِّيَّة، كَمَا صَرَّحَ بِه كَثِير منْ الْعُلَمَاء، وَيُؤَيِّدهُ مَا تَقَدَّم قَبْلهَا مِنْ الآيَات، منْ الرَّدّ عَلَى مُشرِكِي العَرَب، فِي تَحرِيمهم مَا حَرَّمُوهُ منْ الأَنْعَام، وَتَخْصِيصهمْ بَعْض ذَلِكَ بِآلِهَتِهِمْ، إِلَى غَيْر ذَلِكَ، مِمَّا سَبَقَ للرَّدّ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ كُلّه قَبْل الْهِجْرة إِلَى الْمَدِينَة.

وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالتَّحْرِيم، فِي الْمُرَاد بِمَا لَهُ نَاب: فَقِيلَ: إِنَّهُ مَا يَتَقَوَّى بهِ، وَيَصُول عَلَى غَيْره، وَيصْطَادَ، وَيَعْدُو بِطَبْعِهِ غَالِبًا، كَالأَسَدِ، وَالْفَهْد، وَالصَّقْر،

(1)

راجع "المغني" لابن قدامة رحمه الله تعالى 13/ 319 - 323.

ص: 207

وَالْعُقَاب، وَأَمَّا مَا لا يَعْدُو، كَالضَّبْعِ، وَالثَّعْلَب، فَلا، وإلَى هَذَا ذَهَب الشَّافِعِيّ، وَاللَّيْث، وَمَنْ تَبِعَهُمَا، وَقَدْ وَرَدَ فِي حِلّ الضَّبْع أَحَادِيث، لا بَأْس بِهَا، وَأمَّا الثَّعْلَب، فَوَرَدَ فِي تَحْرِيمه حَدِيث خُزَيْمَةَ بْن جَزْء، عِنْد التِّرْمِذِيّ، وَابْن مَاجَهْ، وَلَكِنْ سَنَده ضَعِيف. انتهى ما فِي "الفتح"

(1)

.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيَّن بما ذُكر أن الصواب هو ما ذهب إليه الجمهور، منْ تحريم كلّ ذي ناب، منْ السباع، وكلّ ذي مِخلب منْ الطيور؛ لصحة الأحاديث بذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4327 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ، مِنَ السِّبَاعِ").

قالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"سفيان": هو ابن عيينة. و"أبو إدريس": هو عائذ الله بن عبد الله. و"أبو ثعلبة الخُشَنيّ": تقدم الاختلاف فِي اسمه، واسم أبيه عَلَى عدّة أقوال، فقيل: جُرثوم، أو جرثومة، أو جرهم، أو لاشر، وقيل: غير ذلك. وشرح الْحَدِيث، وبيان مذاهب العلماء، تقدّما فِي الْحَدِيث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي ثعلبة الْخُشنيّ رضي الله تعالى عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -28/ 4327 و4328 و31/ 4343 و4345 و"الضحايا" 41/ 4440 - وفي "الكبرى" 30/ 4837 و4838 و34/ 4853 و4854. وأخرجه (خ) فِي "الذبائح" 5527 و"الطبّ" 5781 (م) فِي "الصيد" 3567 و3570 (د) فِي "الأطعمة" 3802 (ت) فِي "الأطعمة" 1477 و"السير" 1560 (ق) فِي "الصيد" 3232 (أحمد) فِي "مسند الشاميين" 17277 و17284 (الموطأ) فِي "الصيد" 1075 (الدارمي) "الأضاحي" 1980 و1981. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

"فتح" 11/ 92 "كتاب الذبائح" رقم 5531.

ص: 208

4328 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، عَنْ بَحِيرٍ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَحِلُّ النُّهْبَى، وَلَا يَحِلُّ مِنَ السِّبَاعِ، كُلُّ ذِي نَابٍ، وَلَا تَحِلُّ الْمُجْثَّمَةُ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن عثمان) أبو حفص الحمصيّ، صدوق [10] 21/ 535.

2 -

(بقيّة) بن الوليد الحمصيّ، صدوق، كثير التدليس عن الضعفاء [8] 45/ 55.

3 -

(بَحِير) بن سعد السَّحُولي، أبو خالد الحمصيّ، ثقة ثبت [6] 1/ 688.

4 -

(خالد) بن معدان الكَلَاعيّ، أبو عبد الله الحمصيّ، ثقة عابد، يرسل كثيرًا 1/ 688.

5 -

(جبير بن نُفير) الحضرميّ الحمصيّ، ثقة جليل مخضرم [2] 50/ 62.

6 -

(أبو ثعلبة) الْخُشَني المذكور فِي السند الماضي. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، وبقية علق له البخاريّ، وأخرج له مسلم متابعة. (ومنها): أنه مسلسل بالحمصيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ) الْخُشَنيّ رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَحِلُّ) بفتح أوله، منْ حلّ: ضدّ حَرُمَ (النُّهْبَى) -بضم النون، وسكون الهاء، مقصورًا-: هو المال المنهوب، والمراد به المأخوذ منْ المسلم، أو الذمّيّ، أو المستأمِن قهرًا، لا المأخوذ منْ أهل الحرب قهرًا، فإنه حلال (وَلَا يَحِلُّ مِنَ السِّبَاعِ، كُلُّ ذِي نَابٍ) تقدّم شرحه فِي الْحَدِيث الذي قبله (وَلَا تَحِلُّ الْمُجْثَّمَةُ) -بضمّ الميم، وفتح المثلّثة المشدّدة-: أي المحبوسة. قَالَ ابن الأثير: الْمُجَثَّمَةُ: هي كلُّ حيوان يُنصَب، ويُرمى ليُقتَل، إلا أنها تكثُر فِي الطير، والأرانب، وأشباه ذلك، مما يَجْثِم فِي الأرض: أي يلزمها، ويَلتَصق بها، وجَثَمَ الطائر جُثُومًا، وهو بمنزلة البُرُوك للإبل. انتهى

(1)

.

وَقَالَ المجد: جَثَم الإنسان، والطائر، والنَّعَام، والْخِشْفُ، والْيَرْبُوع، يَجْثِمُ، ويَجْثُمُ جَثْمًا، وجُثُومًا -أي منْ بابي ضرب، وقَعَد- فهو جاثمٌ، وجَثُومٌ: لزم مكانه، فلم

(1)

"النهاية" 1/ 239.

ص: 209

يَبْرَح. انتهى.

وَقَالَ ابن منظور: الْمُجَثَّمَة: المحبوسة، وَقَالَ أبو عُبيد: المجثّمة التي نُهي عنها: هي المصبورة، وهي كلّ حيوان يُنصبُ، ويُرمى، ويُقتَل، قَالَ: ولكن المجثّمة لا تكون إلا منْ الطير، والأرانب، وأشباهها، مما يَجْثِم بالأرض، أي يلزمها؛ لأن الطير تجثِم بالأرض، إذا لزمتها، ولَبَدّت عليها، فإن حبسها إنسانٌ قيل: قد جُثِّمت، فهي مُجثّمَةٌ، إذا فُعل ذلك بها، وهي المحبوسة، فإذا فعلت هي منْ غير فعل أحد قيل: جَثَمت تَجثم، وتَجثُمُ جُثُومًا، فهي جاثمة. وَقَالَ شَمِر: المجثّمة: هي الشاة التي تُرمى بالحجارة حَتَّى تموت، ثم تؤكل، قَالَ: والشاة لا تجثم، إنما الجثوم للطائر، ولكنه استُعير. انتهى.

وسيأتي فِي "الضحايا" -41/ 4441 - حديث أنس رضي الله تعالى عنه، قَالَ:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُصبَرَ البهائمُ". متَّفقٌ عليه. وهو بِضَمِّ أوَّله: أَي تُحبَس لِتُرْمَى حَتَّى تَمُوت، قَالَ فِي "الفتح": وَفِي روَايَة الإسْمَاعِيلِيّ، منْ هَذَا الْوَجْه، بلَفْظِ:"سَمِعْت أَنَس ابْن مَالِك يَقُول: نَهَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، عَن صَبْر الرُّوح". وَأَصْل الصَّبْر الحَبْس، وأَخْرَجَ العُقَيْلِي فِي "الضُّعَفَاء"، مِنْ طَرِيق الْحَسَنُ، عَن سَمُرَة، قَالَ:"نَهَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، أَنْ تُصْبَر الْبَهِيمَة، وَأَنْ يُؤْكَل لَحْمهَا إِذَا صُبِرَتْ"، قَالَ الْعُقَيلِيّ: جَاءَ فِي النَّهي عَن صَبْر الْبَهِيمَة أَحَادِيث جِيَاد، وَأَمَّا النَّهْي عَنْ أَكْلهَا، فَلا يُعْرَف إِلَّا فِي هَذَا. قَالَ الحافظ: إنْ ثَبَتَ فَهُوَ مَحْمُول عَلَى أنَّهَا مَاتَتْ بِذَلِكَ، بِغَيْرِ تَذْكِيَة، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَقْتُول بِالْبُنْدُقَةِ. انتهى.

والحديث صحيح، تفرّد به المصنّف رحمه الله تعالى بهذا السياق، أخرجه هنا -28/ 4328 - و"الضحايا" 41/ 4440 - وفي "الكبرى" 4838 و"الضحايا" 42/ 4527. وأخرجه أحمد فِي 4/ 194.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه بقيّة، وَقَدْ عنعنه، وهو معروف بالتدليس عن الضعفاء؟.

[قلت]: إنما صحّ لشواهده، فإنه روي عن جمع منْ الصحابة، منهم: أبو الدرداء، وابن عبّاس، وجابر، والعرباض بن سارية، وأبو هريرة، وسمُرة رضي الله تعالى عنهم.

فأما حديث أبي الدرداء، فأخرجه الترمذيّ منْ طريق أبي أيوب الإفريقيّ، عن صفوان بن سُليم، عن ابن المسيّب، عنه، بلفظ:"نهى عن أكل المجثّمة، وهي التي تُصبر بالنبل". قَالَ الترمذيّ: حديث غريب، وفيه الإفريقيّ المذكور، قَالَ عنه الحافظ: صدوقٌ يُخطىء، وحسّنه الشيخ الألبانيّ بشواهده.

وأما حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فأخرجه أحمد، وأبو داود،

ص: 210

والترمذيّ، والنسائيّ، وغيرهم، واللفظ لأحمد:"نهى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عن لبن الجلالة، وعن أكل المجثّمة، وعن الشرب منْ فِي السقاء". وهو عَلَى شرط البخاريّ، وصححه الترمذيّ، والحاكم.

وأما حديث جابر رضي الله تعالى عنه، فأخرجه أحمد 3/ 323 مطوّلًا بسند عَلَى شرط مسلم، وفيه:"وحَرَّم المجثّمة".

وأما حديث العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه، فمثل حديث جابر، أخرجه أحمد 4/ 127، ورجاله ثقات، غير أم حبيبة بنت العرباض، وهي مقبولة.

وأمّا حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، فمثل حديث جابر أيضا، وأخرجه أحمد 2/ 366، بإسناد حسن.

وأما حديث سمرة رضي الله تعالى عنه، فأخرجه العقيليّ فِي "الضعفاء"، منْ طريق الحسن، عنه، بلفظ:"نهى النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم أن تُصبر البهيمة، وأن يؤكل لحمها إذا صُبِرت".

قَالَ العقيليّ: جاء فِي النهي عن صبر البهيمة أحاديث جياد، وأما النهي عن أكلها، فلا يُعرف إلا فِي هَذَا. انتهى. وتعقّبه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى، وأجاد فِي ذلك، فَقَالَ: كذا قَالَ، ويردّه حديث الترجمة -يعني حديث أبي الدرداء المتقدِّم: نهى عن أكل المجثمة"- وحديث ابن عباس -يعني المتقدِّم أيضاً: "نهى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عن لبن الجلّالة، وعن أكل المجثمة

". ولقد أجاد الشيخ الألباني رحمه الله تعالى فِي تخريج هذه الأحاديث فِي "السلسلة الصحيحة"ج 5/ ص 508 - 511 رقم الْحَدِيث 2391، فراجعها تستفد.

والحاصل أن حديث أبي ثعلبة الخُشَنيّ رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌29 - (الإِذْنِ فِي أَكْلِ لُحُومِ الْخَيْلِ)

4329 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَمْرٍو -وَهُوَ ابْنُ دِينَارٍ- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: "نَهَى، وَذَكَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَوْمَ خَيْبَرَ، عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ، وَأَذِنَ فِي الْخَيْلِ").

ص: 211

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد البغلاني، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(أحمد بن عبدة) الضبّيّ البصريّ، ثقة رُمي بالنصب [10] 3/ 3.

3 -

(حماد) بن زيد بن درهم، أبو إسماعيل البصريّ، ثقة ثبت [8] 3/ 3.

4 -

(عمرو بن دينار) الأثرم الجُمَحيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقة ثبت [4] 112/ 154.

5 -

(محمد بن علي) بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو جعفر المعروف بالباقر المدنيّ، ثقة فاضل [4] 123/ 182.

6 -

(جابر) بن عبد الله رضي الله تعالى عنه المذكور قبل باب. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله تعالى عنه منْ المكثرين السبعة، كما تقدّم بيانه قبل باب. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: كَذَا أَدْخَلَ حَمَّاد بْن زَيد بَيْن عَمْرو بْن دِينَار، وَبَيْن جَابِر فِي هَذَا الْحَدِيث، مُحَمَّدَ بْنَ عَليّ، وَلَمَّا أَخْرَجَهُ النَّسَائيّ قَالَ: لا أَعْلَم أَحَدًا وَافَقَ حَمَّادًا عَلَى ذَلِكَ

(1)

، وَأَخْرَجَهُ منْ طَرِيق حُسَيْن بْن وَاقِد، وَأَخْرَجَهُ هُوَ، وَالتَّرْمِذِيّ مِنْ رِوَايَة سُفيَان بن عُيَيْنَةَ، كِلَاهُمَا عَن عَمْرو بْن دِينَار، عَن جَابِر، لَيْسَ فِيهِ مُحَمَّد بن عَلِيّ، وَمَالَ التِّرْمِذِيّ أَيْضًا إِلَى تَرْجِيح رِوَايَة ابن عُيَينَةَ، وَقالَ: سَمِعْت مُحَمَّدًا، يَقُول ابْن عُيَينَةَ أَحْفَظ منْ حَمَّاد.

قَالَ الحافظ: لَكِنْ اقْتَصَرَ البُخَاريّ وَمُسْلِم، عَلَى تَخرِيج طَرِيق حَمَّاد بن زَيْد، وَقَدْ وَافَقَهُ ابْن جُرَيْج، عَن عَمْرو، عَلَى إِدْخَال الوَاسِطَة بَيْن عَمْرو وَجَابِر، لَكِنَّهُ لَمْ يُسَمِّهِ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، مِنْ طَرِيق ابن جُرَيْج، وَلَهُ طَرِيق أُخْرَى عَن جَابِر، أخْرَجَهَا مُسْلِم، منْ طَرِيق ابن جُرَيْج، وَأَبُو دَاوُدَ منْ طَرِيق حَمَّاد، وَالنَّسَائِيّ منْ طَرِيق حُسَيْن بْن وَاقِد، كُلَّهمْ عَن أَبِي الزُّبَيْر، عَنْهُ. وَأَخرَجَهُ النَّسَائِيّ، صَحِيحًا عَن عَطَاء، عَن جَابِر أَيْضًا، وَأَغْرَبَ الْبَيهَقِيُّ، فَجَزَمَ بِأَنَّ عَمْرو بْن دِينَار، لَمْ يَسْمَعهُ مِنْ جَابِر، وَاسْتَغْرَبَ بَعْض الْفُقَهَاء دَعْوَى التِّرْمِذِيّ، أنَّ رِوَايَة ابن عُيَيْنَةَ أَصَحّ، مَعَ إِشَارَة البَيهَقِيِّ إِلَى أَنَّهَا مُنْقَطِعَة، وَهُوَ ذُهُول، فَإِنَّ كَلام التِّرْمِذِيّ مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ صَحَّ عِنده اتِّصَاله، وَلا يَلْزَم منْ دَعْوَى البَيْهَقِيِّ انْقِطَاعه،

(1)

لم أر هَذَا الكلام للمصنّف، فليُنظر.

ص: 212

كَوْن التِّرْمذيّ يَقُول بِذَلِكَ، وَالْحَقّ أَنَّهُ إن وُجِدَت رِوَايَة فِيهَا تَصْرِيح عَمْرو بالسَّمَاعِ، مِنْ جَابِر، فَتَكُون رِوَايَة حَمّاد، منْ الْمَزِيد فِي مُتصِل الأَسَانِيدِ، وإلا فَرِوَايَة حَمَّاد بْن زَيْد، هِيَ الْمُتَّصِلَة، وَعَلَى تَقْدِير وُجُود التَّعَارُض مِنْ كُلّ جهَة، فَلِلْحَدِيثِ طُرُق أُخْرَى عَن جَابِر، غَيْر هَذِهِ، فَهُوَ صَحِيح عَلَى كُلّ حَال. انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ جَابِرٍ) بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ نَهَى، وَذَكَرَ رَسُولَ اللَّهِ) ولفظ "الكبرَى": "وذكر النبيّ"(صلى الله عليه وسلم) يعني أن جابرا رضي الله تعالى عنه قَالَ "نهى يوم خيبر الخ"، وأسند النهي إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم، والظاهر أن الرواي نسي لفظ جابر فِي ذكره فاعل "نهى"، كيف هو؟، هل هو نهى رسول الله، أو نهى النبيّ، أو نحو ذلك، ولكنه تأكد أنه رفع الْحَدِيث إلى النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، فبيّن ذلك. والله تعالى أعلم. وَقَدْ أخرج البخاريّ الْحَدِيث عن سليمان بن حرب، عن حمّاد بن زيد، بسند المصنّف، بلفظ:"نهى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، ورخّص فِي الخيل"(يَوْمَ خَيْبَرَ) أي يوم وقعة خيبر (عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ) أي عن أكلها، والمراد الحمر الأهليّة، كما هو مقيّد فِي رواية البخاريّ المذكورة:"نهى النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية"(وَأَذِنَ) بكسر الذال المعجمة، منْ باب علم، ولفظ البخاريّ:"رخّص"، وفي حديث ابن عبّاس عند الدارقطني:"أمر"(فِي الْخَيْلِ) أي فِي أكل لحمها، وفي الرواية التالية منْ طريق ابن أبي نَجِيح، عن عطاء:"أطعمنا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم لحوم الخيل، ونهانا عن لحوم الحمر". ومن طريق عبد الكريم، عن عطاء:"كنّا نأكل لحوم الخيل عَلَى عهد رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم". وبهذا قَالَ الجمهور، وهو الحقّ، وخالف أبو حنيفة، فَقَالَ بكراهة أكلها، وسيأتي تحقيق الخلاف فِي ذلك قريبًا. إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث جابر رضي الله تعالى عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -29/ 4329 و4330 و4331 و4332 و32/ 4345 - وفي "الكبرى"

(1)

راجع "الفتح" 11/ 82. "كتاب الذبائح" رقم 5520.

ص: 213

31/ 4839 و4840 و4841 و4842 و35/ 4855. وأخرجه (خ) فِي "المغازي" 4219 و"الذبائح" 5520 و5524 (م) فِي "الصيد" 3595 و3596 (د) فِي "الأطعمة" 3788 و3789 و3808 (ت) فِي "الأطعمة" 1793 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 14041 و14426 و14474 و14486 و14715 (الدارمي) فِي "الأضاحي" 1993. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم أكل لحوم الخيل:

قَالَ الإِمام ابن قُدامة رحمه الله تعالى: وتُباح لحوم الخيل كلّها، عِرابها، وبَرَاذينها، نصّ عليه أحمد، وبه قَالَ ابن سيرين، وروي ذلك عن ابن الزبير، والحسن، وعطاء، والأسود بن يزيد، وبه قَالَ حمّاد بن زيد، والليث، وابن المبارك، والشافعيّ، وأبو ثور. قَالَ سعيد بن جُبير: ما أكلت شيئاً أطيب منْ معرفة

(1)

بِرْذون. وحرّمها أبو حنيفة، وكرهها مالك، والأوزاعيّ، وأبو عبيد؛ لقول الله تعالى:{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ} الآية [النحل: 8]. ولحديث خالد بن الوليد الآتي فِي الباب التالي. واحتجّ الجمهور بحديث جابر رضي الله تعالى عنه المذكور فِي الباب، وحديث أسماء رضي الله تعالى عنها الآتي فِي -23/ 4408 - :"نحرنا فرسًا عَلَى عهد رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم، فأكلناه، ونحن بالمدينة". متّفقٌ عليهما. ولأنه حيَوانٌ طاهر مستطابٌ، ليس بذي ناب، ولا مِخْلب، فيحلّ، كبهيمة الأنعام؛ ولأنه داخل فِي عموم الآيات والأخبار المبيحة. وأما الآية، فإنما يتعلّقون بدليل خطابها، وهم لا يقولون به. وحديث خالد ليس له إسناد جيّد، قاله أحمد، قَالَ: وفيه رجلان لا يُعرفان، يرويه ثورٌ، عن رجل ليس بمعروف، وَقَالَ: لا نَدَعُ أحاديثنا لمثل هَذَا المنكر. انتهى كلام ابن قدامة بنوع منْ التصرّف

(2)

.

وَقَالَ فِي "الفتح": قَالَ الطَّحَاويُّ: وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَة إِلَى كَرَاهَة أَكْلِ الخَيل، وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ، وَغَيْرهمَا، وَاحْتَجوا بِالأخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَة فِي حِلِّهَا، وَلَو كَانَ ذَلِكَ مَأْخُوذًا منْ طَرِيق النَّظَر، لَمَا كَانَ بَيْن الْخَيْل وَالْحُمُر الأَهْلِيَّة فَرْق، وَلَكِن الآثَارُ إِذَا صَحَّتْ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، أَوْلَى أنْ يُقَال بِهَا، مِمَّا يُوجِبهُ النَّظَر، وَلاسِيَّمَا وَقَد أَخْبَرَ جَابِر، أنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَبَاحَ لَهُمْ لُحُوم الْخَيْل، فِي الْوَقْت الَّذِي مَنَعَهُمْ فِيهِ منْ لُحُوم الحُمُر، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَاف حُكْمهمَا.

قَالَ الحافظ وَقَدْ نَقَلَ الحِلّ بَعْضُ التَّابِعِين عن الصَّحَابَة، منْ غَيْر اسْتِثْنَاء أَحَدٍ،

(1)

"المعرفة": موضع العرف منْ الخيل.

(2)

"المغني" 13/ 324 - 325.

ص: 214

فَأَخْرَجَ ابْن أَبِي شَيْبَة، بِإسْنَادٍ صَحِيح، عَلَى شَرْط الشَّيْخَينِ، عَن عَطَاء، قَالَ:"لَمْ يَزَلْ سَلَفك يَأكُلُونَهُ، قَالَ ابْن جُرَيجٍ: قُلْت لَهُ: أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم؟، فَقَالَ: نَعَم". وأَمَّا مَا نُقِلَ فِي ذَلِكَ عَن ابن عَبَّاس منْ كَرَاهَتهَا، فَأَخْرَجَهُ ابْن أَبِي شَيْبَة، وَعَبْد الرَّزَّاق، بسَنَدَيْنِ ضَعِيفَيْن، وَيَدُلّ عَلَى ضَعْف ذَلِكَ عَنْهُ، مَا روي عنه صَحِيحًا عَنهُ، أَنَّهُ اسْتَدَلَّ لإِبَاحَةِ الْحُمُر اَلأَهْلِيَّة بِقَؤلِهِ تَعَالَى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} ، فَإِنَّ هَذَا إنْ صَلُحَ، مُسْتَمْسَكًا لِحِلِّ الحُمُر، صَلُحَ لِلْخَيل، وَلَا فَرْق، وَروي عنه أَيْضًا أَنَّهُ تَوَقفَ فِي سَبَب الْمَنْع، فِي أَكلِ الْحُمُر، هَلْ كَانَ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، أَوْ بِسَبَبِ كَوْنَها كَانَتْ حَمُولَة النَّاس؟، وَهَذَا يَأْتِي مِثْله منْ الْخَيْل أَيْضًا، فَيَبْعُد أنْ يَثْبُت عَنْهُ القَوْل بِتَحْرِيم الْخَيْل، وَالقَوْل بِالتَّوَقُّفِ فِي الحُمُر الأهْلِيَّة، بَلْ أَخرَجَ الدَّارَقُطنِيّ بسَنَد قَوِيّ، عَن ابْنِ عَبَّاس مَرْفُوعًا، مِثْل حَدِيث جَابِر، وَلَفْظه:"نَهى رَسُول صلى الله عليه وسلم، عَنَ لُحُوم الْحُمُر الأَهْليَّة، وَأَمَرَ بِلُحُومِ الْخَيْل"، وَصَحَّ الْقَوْل بِالْكَرَاهَةِ، عَن الْحَكَم بن عُيَيْنَةَ، وَمَالِك وَبَعْض الْحَنَفِيَّة، وَعَنْ بَعْض الْمَالِكيَّة، وَالحَنَفِيَّة التَّحْرِيم. وَقَالَ الْفَاكِهِيّ: الْمَشْهُور عِنْد الْمَالكيَّة الْكَرَاهَة، وَالصَّحِيح عِنْد الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُم التَّحْرِيم. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة فِي "الْجَامِع الصَّغِير": أَكْرَه لَحْم الْخَيْل، فَحَمَلَهُ أَبُو بَكْر الرَّازِيّ عَلَى التَّنْزِيه، وَقَالَ: لَمْ يُطلِق أبُو حَنِيفَة فِيهِ التَّحْرِيم، وَلَيْس هُوَ عِنْده كَالْحِمَارِ الأَهْلِيّ، وَصَحَّحَ عَنْهُ أَصْحَاب "الْمُحِيط"، و"الْهِدَايَة"، و"الذَّخِيرَة" التَّحْرِيم، وَهُوَ قَوْل أَكْثَرِهِمْ، وَعَنْ بَعْضهم يَأثَم آكِله، وَلا يُسَمَّى حَرَامًا. وَرَوَى ابْن الْقَاسِم، وَابْن وَهْب، عَن مَالِك، الْمَنْع، وَأَنَّهُ احْتَجَّ بِالآيَةِ الآتِي ذَكْرَهَا، وَأَخْرَجَ مُحَمَّد بْن الْحَسَنِ فِي "الآثَار" عَن أَبِي حَنِيفة، بسَنَدٍ لَهُ، عَن ابْن عَبَّاس، نَحْو ذَلِكَ. وَقَالَ القُرْطُبِيّ فِي "شَرْح مُسْلِم": مَذهَب مَالِك الكَرَاهَة، وَاسْتَدَل لَهُ ابْن بَطَّال بِالآيَةِ. وَقَالَ ابْن الْمُنَيِّر: الشَّبَهُ الْخِلْقِيّ بَيْنهَا، وَبَيْن الْبِغَال وَالْحَمِير، مِمَّا يُؤَكِّد القَوْل بِالْمَنْعِ، فَمِنْ ذَلِكَ هَيْئَتهَا، وَزُهُومَة لَحْمهَا، وَغِلَظُهُ، وَصِفَة أَرْوَاثهَا، وَأَنَّهَا لا تَجْتَرّ، قَالَ: وإذَا تَأَكَّدَ الشَّبَهُ الخِلْقِيّ، الْتَحَقَ بِنَفْيِ الفَارِق، وَبَعُدَ الشَّبَهُ بِالأنْعَامِ المُتَّفَق عَلَى أَكْلهَا. انتهى.

وَقَدْ تَقَدَّمَ منْ كَلَام الطَّحَاوِيّ، مَا يُؤْخَذ مِنْهُ الْجَوَاب عَن هَذَا. وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد ابْن أَبِي جَمْرَة: الدَّلِيلَ فِي الْجَوَاز مُطْلَقًا وَاضِح، لَكِنْ سَبَب كَرَاهَة مَالِك لِأَكْلِهَا؛ لِكَوْنهَا تُسْتَعْمَل غَالِبًا فِي الْجِهَاد، فَلَوْ انْتَفَت الْكَرَاهَة؛ لَكَثُرَ اسْتِعْمَاله، وَلَوْ كَثُرَ لأدَّى إِلَى قَتْلهَا، فَيُفْضِي إِلَى فَنَائِهَا، فَيَئُول إِلَى النَّقص منْ إِرْهَاب الْعَدُوّ، الَّذِي وَقَعَ الأَمْر بهِ فِي قَوْله تَعَالَى:{وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60].

فَعَلَى هَذَا فَالكَرَاهَة؛ لِسَبَبٍ خَارجٍ، وَلَيْسَ البَحْث فِيهِ، فَإِنَّ الْحَيَوَان المُتَّفَق عَلَى

ص: 215

إِبَاحَته، لو حَدَثَ أَمْر، يَقْتَضِي أنْ لَوْ ذُبِحَ لأَفْضَى إِلَى ارْتِكَاب مَحْذُور لامْتَنَع، وَلا يَلْزَم منْ ذَلِكَ الْقَوْل بِتَحْرِيمِهِ، وَكَذَا قَوْله: إِن وُقُوع أَكْلهَا فِي الزَّمَن النَّبَوِيّ، كَانَ نادِرًا، فَإِذَا قِيلَ بِالكَرَاهَةِ، قَلَّ اسْتِعْمَاله، فَيُوَافِق مَا وَقَعَ قَبْلُ. انْتَهَى.

وَهَذَا لا يَنْهَض دَلِيلا لِلْكَرَاهَةِ، بَلْ غَايَته أنْ يَكُون خِلاف الأَوْلَى، وَلا يَلْزَم منْ كَوْن أَصْل الْحَيَوَان حَلَّ أَكْله، فَنَاؤُهُ بِالأَكْلِ. وَأَمَّا قَوْل بَعْض الْمَانِعِينَ: لَوْ كَانَتْ حَلَالاً لَجَازَت الأُضْحِيَّة بهَا، فَمُنْتَقَض بِحَيَوَانِ الْبَرّ، فَإِنَّهُ مَأْكُول، وَلَمْ تُشْرَع الأُضْحِيَّة بِهِ، وَلَعَلَّ السَّبَب فِي كَوْن الْخَيْل لا تُشرَع الأُضْحِيَّة بِهَا، اسْتِبْقَاؤُهَا؛ لأَنَّه لَوْ شُرعَ فِيهَا جَمِيع مَا جَازَ فِي غَيْرهَا، لَفَاتَتِ المَنْفَعَة بِهَا فِي أَهَمّ الأَشْيَاء مِنْهَا، وَهُوَ الجِهَاد. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيّ، وَأَبُو بَكر الرَّازِيّ، وَأَبُو مُحَمَّد بن حَزْم، منْ طَرِيق عِكْرمَة بن عَمَّار، عَن يَحْيىَ بْن أَبِي كَثِير، عَن أَبِي سَلَمَة، عَن جَابِر، قَالَ:"نَهَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، عَن لُحُوم الْحُمُر، وَالْخَيْل، وَالْبِغَال"، قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَأَهْل الْحَدِيث يُضَعِّفُونَ عِكْرِمَة بْن عَمَّار.

قَالَ الحافظ: لاسِيَّمَا فِي يَحْيَى بن أَبِي كَثِير، فَإِنَّ عِكْرِمَة، وِإنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِي تَوْثِيقه، فَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِم، لَكِنْ إنَّمَا أَخْرَجَ لَهُ مِنْ غَيْر رِوَايَته عَن يَحْيَى بْن أَبِي كَثِير، وَقَد قَالَ يَحْيَى بْن سَعِيد القَطَّانُ: أَحَادِيثه عَن يَحْيَى بن أَبِي كَثِير ضَعِيفَة. وَقَالَ البُخاريُّ: حَدِيثه عَن يَحْيَى مُضْطَرِب. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْس بِهِ بَأْس، إِلَّا فِي يَحْيَى. وَقَالَ أَحْمد: حَدِيثه عَن غَيْر إِيَاس بْن سَلَمَة مُضْطَرِب، وَهَذَا أَشَدّ مِمَّا قَبْله، وَدَخَلَ فِي عُمُومه يَحْيَى ابْن أَبِي كَثِير أَيْضًا، وَعَلَى تَقْدِير صِحَّة هَذِهِ الطَّرِيق، فَقَدْ اخْتُلِفَ عَن عِكْرِمَة فِيْهَا، فَإِنَّ الْحَدِيث عند أَحْمَد، وَالتَّرْمِذِيّ، مِنْ طَرِيقه، لَيْسَ فِيهِ لِلْخَيْلِ ذِكْر، وَعَلَى تَقْدِير أَنْ يَكُون الَّذِي زَادَهُ حَفِظَهُ، فَالرِّوَايَات المُتَنَوِّعَة عَن جَابِر، المُفَصِّلَة بَين لُحُوم الْخَيْل، وَالْحُمُر فِي الْحُكْم أَظْهَر اتِّصَالاً، وَأَتْقَن رِجَالا، وَأَكْثَر عَدَدًا.

وَأَعَلَّ بَعْض الْحَنَفِيَّة حَدِيث جَابِر، بِمَا نَقَلَهُ عَن ابْن إِسْحَاق، أَنَّهُ لَمْ يَشْهَد خَيْبَر، وَلَيْسَ بِعِلَّةٍ؛ لأَنَّ غَايَته أنْ يَكُونُ مُرْسَل صَحَابِيّ.

وَمِنْ حُجَجِ مَنْ مَنَعِ أَكْل الْخَيْل: حَدِيثُ خَالِد بْنِ الوَليد الْمُخَرَّج فِي "السُّنَن": "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، نَهَى يَوْم خَيْبَر، عَنْ لُحُوم الْخَيْل".

وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ شَاذّ مُنْكَر؛ لأَنَّ فِي سِيَاقه أَنَّهُ شَهِدَ خَيْبَر، وَهُوَ خَطَأ، فَإِنَّهُ لَمْ يُسْلِم إِلَّا بَعْدهَا عَلَى الصَّحِيح، وَالَّذِي جَزَمَ بِهِ الأَكْثَر أَنَّ إِسْلَامه، كَانَ سَنَة الْفَتْح، وَالعُمْدَة فِي ذَلِكَ عَلَى مَا قَال مُصْعَب الزُّبَيرِيّ، وَهُوَ أعْلَم النَّاس بِقُرَيش، قَالَ: "كَتَبَ الْوَلِيد بْن الْوَلِيد، إِلَى خَالِد حِين فَرَّ منْ مَكَّة، فِي عُمْرَة الْقَضِيَّة، حَتَّى لا يَرَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّة، فَذَكَرَ الْقِصَّة فِي سَبب إِسْلام خَالِد، وَكَانَتْ عُمْرَة الْقَضيَّة، بَعْد خَيْبَر جَزْمًا.

ص: 216

وَأُعِلَّ أَيْضًا بِأنَّ فِي السَّنَد رَاوِيًا مَجْهُولاً، لَكِنْ قَدْ أَخرَجَ الطَّبرِيُّ، طَرِيق يَحْيَى بْن أَبِي كَثِير، عَن رَجُل منْ أَهْل حِمْص، قَالَ: كُنَّا مَعَ خَالِد، فَذَكَرَ أَنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ لُحُوم الْحُمُر الأَهْليَّة، وَخَيْلهَا، وَبِغَالهَا، وَأُعِلَّ بِتَدْلِيسِ يَحْيَى، وإبْهَام الرَّجُل، وَادَّعَى أَبُو دَاوُدَ، أَنَّ حَدِيث خَالِد بن الْوَلِيد مَنْسُوخ، وَلَمْ يُبَيِّن نَاسِخه، وَكَذَا قَالَ النَّسَائِيُّ: الأَحَادِيث فِي الإِبَاحَة أَصَحّ، وَهَذَا إِنْ صَحَّ كَانَ مَنْسُوخًا، وَكَأنَّهُ لَمَّا تَعَارَضَ عِنْده الْخَبَرَانِ، وَرَأَى فِي حَدِيث خَالِد "نَهَى"، وَفِي حَدِيث جَابِر "أَذِنَ"، حَمَلَ الإذْن عَلَى نَسْخ التَّحْرِيم، وَفِيهِ نَظَر؛ لِأَنَّهُ لا يَلْزَم منْ كَوْن النَّهْي سَابقًا عَلَى الإذْن، أنْ يَكُون إِسْلام خَالَد سَابِقًا عَلَى فَتْح خَيْبَر، وَالأَكْثَر عَلَى خِلَافه، وَالنَّسْخَ لا يَثْبُت بالاحْتِمَال. وَقَدْ قَرَّرَ الْحَازِمِيّ النَّسْخ، بَعْد أنْ ذَكَرَ حَدِيث خَالِد، وَقَالَ: هُوَ شَامِيّ الْمَخْرَج، جَاءَ منْ غَيْر وَجْه، بِمَا وَرَدَ فِي حَدِيث جَابِر مِنْ "رَخَّصَ"، و"أَذِنَ"؛ لأَنَّه منْ ذَلِكَ يَظْهَر أَنَّ الْمَنْع كَانَ سَابِقًا، وَالإذْن مُتَأخِّرًا، فَيَتَعَيَّن المَصِير إِلَيْهِ، قَالَ: وَلَوْ لَمْ تَرِد هَذِهِ اللَّفْظَة، لَكَانَتْ دَعْوَى النَّسْخ مَرْدُودَة؛ لِعَدَم مَعْرِفَة التَّارِيخ. انتهى.

قَالَ الحافظ: وَلَيْسَ فِي لَفْظ "رَخَّصَ"، و"أَذِنَ" مَا يَتَعَيَّن مَعَهُ الْمَصِير إِلَى النَّسْخ، بَلْ الَّذِي يَظْهَر أَنَّ الْحُكْم فِي الْخَيْل، وَالْبِغَال، وَالْحَمِير، كَانَ عَلَى الْبَرَاءَة الأَصْليَّة، فَلَمَّا نَهَاهُمْ الشَّارع يَوْم خَيْبَر عَنْ الْحُمُر، وَالْبِغَال، خُشِيَ أَنْ يَظُنُّوا أَنَّ الْخَيْل كَذَلِكَ؛ لِشَبَهِهَا بِهَا، فَأَذِنَ فِي أَكْلَهَا، دُون الحَمِير وَالْبِغَال، وَالرَّاجِح أَنَّ الأَشْيَاء قَبْل بَيَان حُكْمهَا فِي الشَّرْع، لا تُوصَف لا بِحِلٍّ، وَلا حُرْمَة، فَلا يَثْبُت النَّسْخ فِي هَذَا.

وَنَقَلَ الْحَازِمِيّ أَيْضًا، تَقْرِير النَّسْخ بِطَرِيقٍ أُخْرَى، فَقَالَ: إِنَّ النَّهْي عَنْ أَكْلِ الْخَيْل وَالْحَمِير، كَانَ عَامًّا منْ أجْل أَخْذهمْ لَهَا، قَبْل الْقِسْمَة وَالتَّخْمِيس، وَلِذَلِكَ أَمَرَ بِإِكْفَاءِ الْقُدُور، ثُمَّ بَيَّنَ بِنِدَائهِ بأَنَّ لُحُوم الْحُمُر رِجْس، أَنَّ تَحْرِيمهَا لِذَاتهِا، وَأَنَّ النَّهْي عَنْ الْخَيْل إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ تَرْك الْقِسْمَة خَاصَّة.

وَيَعْكُرَ عَلَيْه أَنَّ الأَمْر بِإِكْفَاءِ الْقُدُور، إِنَّمَا كَانَ بِطَبْخِهِم فِيهَا الْحُمُر، كَمَا هُوَ مُصَرَّح بهِ فِي الصَّحِيح، لا الْخَيْل، فَلا يَتِمّ مُرَاده.

وَالْحَقّ أنَّ حَدِيث خَالِد، وَلَوْ سَلِمَ أَنَّهُ ثَابِت، لا يَنْهَض مُعَارِضًا، لِحَدِيثِ جَابِر الدَّالّ عَلَى الْجَوَاز، وَقَد وَافَقَهُ حَدِيث أَسْمَاء.

وَقَدْ ضَعَّفَ حَدِيث خَالِد أَحْمَد، وَالبُخَارِيّ، وَمُوسَى بْن هَارُون، وَالدَّارَقُطنِيّ، وَالْخَطَّابِيّ، وَابْن عبد البرّ، وَعَبد الْحَقّ، وَآخَرُونَ. وَجَمَعَ بَعْضهمْ بَيْن حَدِيث جَابِر، وَخَالِد بِأَنَّ حَدِيث جَابِر دَالّ عَلَى الْجَوَاز فِي الْجُمْلَة، وَحَدِيث خَالِد دَالّ عَلَى الْمَنْع فِي حَالَة دُونِ حَالَة؛ لأَنَّ الْخَيْل فِي خَيْبَر، كَانَتْ عَزِيزَة، وَكَانُوا مُحْتاجِينَ إِلَيْهَا لِلْجِهَادِ، فلا

ص: 217

يُعَارِض النَّهْي المَذْكُور، وَلا يَلْزَم وَصْف أَكْلِ الْخَيْل بِالكَرَاهَةِ الْمُطلَقَة، فَضلًا عَن التَّحْرِيم.

وَقَدْ وَقَعَ عِنْد الدَّارَقُطنِيِّ، فِي حَدِيث أَسْمَاء:"كَانَتْ لَنَا فَرَس، عَلَى عَهْد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَأَرَادَتْ أنْ تَمُوت، فَذَبَحْنَاهَا، فَأَكَلْنَاهَا".

وَأَجَابَ عَن حَدِيث أَسْمَاء بأَنَّهَا وَاقِعَة عَيْن، فَلَعَلَّ تِلْكَ الفَرَس، كَانَتْ كَبِرَت بحَيْثُ صَارَتْ، لا يُنْتَفَع بهِا فِي الْجِهَاد، فَيَكُونُ النَّهْي عَن الْخَيْل، لِمَعْنًى خَارج، لا لِذَاتِهَا، وَهُوَ جَمْع جَيِّد. وَزَعَمَ بَعْضهمْ أنَّ حَدِيث جَابِر، فِي الْبَاب دَالّ عَلَى التَّحْرِيم؛ لِقَولِهِ:"رَخَّصَ"؛ لأَنَّ الرُّخْصَة اسْتِبَاحَة الْمَحظور مَعَ قِيَام المَانِع، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ رَخَّصَ لَهُمْ فِيهَا، بِسَبَب المَخْمَصَة الَّتِي أَصَابَتْهُمْ بِخَيْبَر، فَلا يَدُلّ ذَلِكَ عَلَى الحِلّ الْمُطْلَق.

وَأُجِيبَ بأنَّ أَكْثَر الرِّوَايَات، جَاءَ بِلَفْظِ الإذْن، وَبَعْضهَا بالأَمْر، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِقَولِهِ:"رَخَّصَ" أَذِنَ، لا خُصُوص الرُّخصَة بِاصْطِلَاح مَنَ تَأَخَّرَ، عَنْ عَهْد الصَّحَابَة.

وَنُوقِضَ أَيْضًا بِأَنَّ الإذْن فِي أَكْلِ الْخَيْل، لَوْ كَانَ رُخْصَة؛ لأجْلِ المَخْمَصَة، لَكَانَتْ الْحُمُر الأَهْلِيَّة أَوْلَى بذَلِكَ؛ لِكَثرَتِها، وَعِزَّة الْخَيْل حِينَئِذٍ، وَلأَنَّ الْخَيْل يُنْتَفَع بِهَا فِيمَا يُنتَفَع بِالْحَمِيرِ، مِنْ الحَمْل وَغَيْره، وَالْحَمِير لا يُنْتَفَع بِها فِيمَا يُنتَفَع بِالْخَيْلِ، منْ الْقِتَال عَلَيْهَا، وَالوَاقِع أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بإِرَاقَةِ الْقُدُور، الَّتِي طُبِخَتْ فِيهَا الْحُمُر، مَعَ مَا كَانَ بِهمْ منْ الْحَاجَة، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أنَّ الإذْن فِي أَكْلِ الْخَيْل، إِنَّمَا كَانَ للإِبَاحَةِ العَامَّة، لا لِخُصُوصِ الضَّرُورَة.

وأَمَّا مَا نُقِلَ عَن ابْنِ عَبَّاس، وَمَالِك، وَغَيْرهمَا، منْ الاحْتِجَاج للْمَنْع، بِقَولِهِ تَعَالَى:{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} الآية [النحل: 8]، فَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَا أَكْثَرُ القَائِلِينَ بالتَّحْرِيم، وَقَرَّرُوا ذَلِكَ بِأَوْجُهِ:[أَحَدهَا]: أنَّ اللام لِلتَّعْلِيلِ، فَدَلَّ عَلَى أنَّها لَمْ تُخْلَق لغَيْرَ ذَلِكَ، لأَنَّ الْعِلَّة المَنْصُوصَة، تُفِيد الْحَصْر، فَإِبَاحَة أَكْلهَا تَقْتَضِي خِلَاف ظَاهِرِ الآيَة. [ثَانِيهَا]: عَطْف الْبِغَال، وَالْحَمِير، فَدَلَّ عَلَى اشْتِرَاكهَا مَعَهَا فِي حُكْم التَّحْرِيم، فَيَحْتَاجُ مَنْ أَفْرَدَ حُكْمهَا عَن حُكْم مَا عُطِفَتْ عَلَيْهِ إِلَى دَلِيل. [ثَالِثهَا]: أَنَّ الآية سِيقَتْ مَسَاق الامْتِنَان، فَلَوْ كَانَت يُنْتَفَع بِها فِي الأَكْل، لَكَانَ الامْتِنَان بهِ أَعْظَم؛ لأَنَّهُ يَتَعَلَّق بِهِ بَقَاء الْبنْيَة، بِغَيْرِ وَاسِطَة، وَالْحَكِيم لا يَمْتَنّ بِأَدْنَى النِّعَم، وَيَترُكَ أَعْلاهَا، وَلاسِيَّمَا وَقَدْ وَقَعَ الامْتِنَان بِالأَكْلِ فِي المَذْكُورَات قَبْلهَا. [رَابِعِهَا]: لَوْ أُبِيحَ أَكْلهَا، لَفَاتَتِ الْمَنْفَعَة بِهَا، فِيْمَا وَقَعَ بِهِ الامْتِنَان، مِنْ الرُّكُوب، وَالزِّينَة. هَذَا مُلَخَّص مَا تَمَسَّكُوا بِهِ منْ هَذِهِ الآيَة.

وَالْجَوَاب عَلَى سَبِيل الإجْمَال، أَنَّ آيَة النَّحْل مَكِّيَّة اتِّفَاقًا، وَالإذْن فِي أَكْلِ الْخَيْل،

ص: 218

كَانَ بَعْد الهِجْرَة منْ مَكَّة، بِأَكْثَر مِنْ سِتّ سِنِينَ، فَلَوْ فَهِمَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم منْ الآيَة المَنْع، لَمَا أَذِنَ فِي الأَكْل. وَأَيْضًا فَآيَة النَّحْل لَيْسَتْ نَصًّا فِي مَنْع الأَكْل، وَالْحَدِيث صَرِيح فِي جَوَازه. وَأَيْضًا عَلَى سَبِيل التَّنَزُّل، فَإِنَّمَا يَدلّ مَا ذُكِرَ عَلَى تَرْك الأَكْل، وَالتَّرْك أَعَمّ مِنْ أَنْ يَكُون لِلتَّحْرِيم، أَوْ لِلتَّنزِيهِ، أَوْ خِلَاف الأَوْلَى، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ وَاحِد مِنْهَا، بَقِيَ التَّمَسُّك بِالأَدِلَّةِ الْمُصَرَّحَة بالْجَوَازِ.

وَعَلَى سَبِيل التَّفْصِيل: أَمَّا أوَّلاً، فَلَوْ سَلَّمْنا أنَّ اللام لِلتَّعْلِيلِ، لَمْ نُسَلِّم إِفَادَة الْحَصْر فِي الرُّكُوب، وَالزِّينَة، فَإِنَّهُ يُنْتَفَع بِالْخَيْلِ فِي غَيْرهمَا، وَفِي غَيْر الأَكْل اتِّفَاقًا، وَإِنَّمَا ذُكِرَ الرُّكُوب وَالزِّينَة؛ لِكَوْنِهمَا أَغْلَب مَا تُطْلَب لَهُ الْخَيْل، وَنَظِيره حَدِيث الْبَقَرَة المَذْكُور فِي "الصَّحِيحَيْنِ" حِين خَاطَبَتْ رَاكِبهَا، فَقَالَتْ:"إِنَّا لَمْ نُخْلَق لِهَذَا، إِنَّمَا خُلِقنَا لِلْحَرْثِ"، فَإِنَّهُ مَعَ كَوْنه أَصَرْح فِي الْحَصْر، لَمْ يُقصَد بِهِ الأَغْلَب

(1)

، وَإلا فَهِيَ تُؤْكَل، وَيُنْتَفَع بِهَا فِي أَشْيَاء، غَيْر الحَرْث اتِّفَاقًا. وَأَيْضًا فَلَوْ سَلِمَ الاسْتِدْلال، لَلَزِمَ مَنْعُ حَمْل الأثْقَال عَلَى الْخَيْل، وَالْبِغَال، وَالْحَمِير، وَلا قَائِل بهِ.

وَأمَّا ثَانِيًا: فَدَلَالَة الْعَطْف إِنَّمَا هِيَ دَلَالَة اقْتِرَان، وَهِيَ ضَعِيفَة.

وَأمَّا ثَالِثًا: فَالامْتِنَان، إِنَّمَا قُصِدَ بِهِ غَالِبًا، مَا كَانَ يَقَع بِهِ انْتِفَاعهمْ بِالْخَيْلِ، فَخُوطِبُوا بِمَا أَلِفُوا، وَعَرَفُوا، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ أَكْل الْخَيْل؛ لِعِزَّتِها فِي بِلَادِهِمْ، بخِلَافِ الأَنْعَام، فَإِنَّ أَكثَر انْتِفَاعهمْ بِهَا كَانَ لِحَمْل الأَثْقَال، وَلِلأَكْلِ، فَاقْتُصِرَ فِي كَلّ منْ الصِّنْفَيْنِ، عَلَى الامْتِنَان بِأَغْلَب مَا يُنتَفَع بِهِ، فَلَوْ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ الْحَصْر، فِي هَذَا الشِّقّ، لَلَزِمَ مِثْله فِي الشِّقّ الآخَر.

وَأمَّا رَابِعًا، فَلَوْ لَزِمَ منْ الإذْن فِي أَكْلهَا، أنْ تَفْنَى لَلَزِمَ مِثْله فِي الْبَقَر وَغَيْرهَا، مِمَّا أُبِيحَ أَكْله، وَوَقَعَ الامْتِنَان بِمَنْفَعَةٍ لَهُ أُخْرَى. وَالله أَعْلَم. انتهى ما فِي "الفتح"

(2)

.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا البحث الذي طوّل به الحافظ نفسه، بحث نفيسٌ مهمّ جدًّا.

والحاصل أن ما ذهب إليه الجمهور، منْ حلّ أكل لحوم الخيل هو الحقّ؛ لوضوح أدلّته، وصراحتها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4330 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: "أَطْعَمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لُحُومَ الْخَيْلِ، وَنَهَانَا عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ").

(1)

هكذا نسخة "الفتح"، والظاهر أن الصواب:"إلا الأغلب" بزيدة أداة الاستثناء، فليُتأمّل.

(2)

"فتح" 11/ 82 - 86. "كتاب الذبائح" رقم الْحَدِيث 5520.

ص: 219

"سفيان": هو ابن عيينة، والباقون تقدّموا فِي الذي قبله.

وقوله: "أطعمنا": أي أباح، وأذن فِي أكلها لنا.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه فيما قبله، والسند منْ رباعيات المصنّف، وهو (203) منْ رباعيات الكتاب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4331 -

(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنِ الْحُسَيْنِ -وَهُوَ ابْنُ وَاقِدٍ- عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرٍ، وَعَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: "أَطْعَمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَوْمَ خَيْبَرَ، لُحُومَ الْخَيْلِ، وَنَهَانَا عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ").

قَالَ الجامع عَفا اللهَ تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"الحسين بن حُريث": هو أبو عمّار المروزيّ. و"الفضل بن موسى": هو السِّينَانيّ المروزيّ. و"ابن أبي نَجيح": هو عبد الله بن يسار المكيّ. و"عطاء": هو ابن أبي رباح المكيّ.

وقوله: "وعمرو بن دينار" بالجرّ عطفًا عَلَى أبي الزبير، فالحسين بن واقد يروي عن كلّ، منْ أبي الزبير، وعمرو بن دينار، كلاهما عن جابر رضي الله تعالى عنه.

وقوله: "وعن ابن أبي نَجِيح" عطف عَلَى أبي الزبير أيضًا، فالحسين أيضاً يروي هَذَا الْحَدِيث عن ابن أبي نَجيح، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر رضي الله تعالى عنه.

والحاصل أن الحسين بن حُريث يروي هَذَا الْحَدِيث عن ثلاثة منْ الشيوخ، اثنان منهما يرويانه عن جابر، مباشرةً، وهما أبو الزبير، وعمرو بن دينار، وواحد يرويه عن جابر بواسطة عطاء، وهو ابن أبي نجيح. وكان الأولى للمصنّف أن يجمع بين الأولين بسياق واحد، فيقول: عن أبي الزبير، وعمر بن دينار، كلاهما عن جابر، فليُتأمّل. والله تعالى أعلم.

والحديث صحيح، وَقَدْ سبق تمام البحث فيه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4332 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ -وَهُوَ ابْنُ عَمْرٍو- قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: "كُنَّا نَأْكُلُ لُحُومَ الْخَيْلِ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

و"عُبيد الله بن عمرو": هو أبو وهب الجزريّ الرقّيّ. و"عبد الكريم": هو ابن

ص: 220

مالك، أبو سعيد الجزريّ الثقة الثبت المتفق عَلَى جلالته. و"عطاء": هو ابن أبي رباح.

والحديث صحيح، كما سبق بيانه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌30 - (تَحْرِيمِ أَكْلِ لُحُومِ الْخَيْلِ)

4333 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "لَا يَحِلُّ أَكْلُ لُحُومِ الْخَيْلِ، وَالْبِغَالِ، وَالْحَمِيرِ").

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه الثقة الثبت الحجة [10] 2/ 2.

2 -

(بقية بن الوليد) الحمصيّ، صدوق، كثير التدليس عن الضعفاء، وكان يدلّس أيضاً تدليس التسوية، وهو أن يفعل التدليس عَلَى شيخه، فمن فوقه [8] 45/ 55.

3 -

(ثور بن يزيد) الحمصيّ، ثقة ثبت، رمي بالقدر [7] 7/ 514.

4 -

(صالح بن يحيى بن المقدام بن معدي كرِب) الكنديّ الشاميّ، ليّن [6].

قَالَ البخاريّ: فيه نظر. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: يُخطىء. وَقَالَ موسى بن هارون الحمّال: لا يُعرف صالحٌ، وأبوه إلا بجدّه. وَقَالَ ابن حزم: هو وأبوه مجهولان، وفي حديثه فِي تحريم لحوم الخيل دليلٌ الضعف؛ لأن خالد بن الوليد لم يُسلم بلا خلاف إلا بعد خيبر، وَقَالَ هَذَا فِي هَذَا الْحَدِيث:"وذلك يوم خيبر". روى له المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب حديث الباب فقط.

5 -

(أبوه) يحيى بن المقدام بن معدي كرب الكنديّ الحمصيّ، مستور [4].

روى عن أبيه، وعنه ابنه صالح، ذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، روى له المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب حديث الباب فقط.

6 -

(جده) المقدام بن معدي كرب بن عمرو الكندي، صحابي مشهور، نزل الشام، ومات سنة (87) عَلَى الصحيح، وله (91) سنة، تقدمت ترجمته فِي 26/ 2164.

ص: 221

7 -

(خالد بن الوليد) رضي الله تعالى عنه تقدم قريبًا.

والحديث أخرجه المصنّف هنا -30/ 4333 و4332 - وفي "الكبرى" 32/ 4843 و33/ 4844. وأخرجه (ق) فِي "الذبائح" 3198

وهو حديث ضعيف، قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: اتّفق العلماء عَلَى أنه حديث ضعيف، ذكره النوويّ. وذكر بعضهم أنه منسوخ. وَقَالَ بعضهم: لو ثبت لا يُعارض حديث جابر. أي لكونه أصحّ. وفي "الكبرى": ما نصّه: قَالَ أبو عبد الرحمن: الذي قبل هَذَا الْحَدِيث أصحّ، ويُشبه أن يكون هَذَا إن كَانَ صحيحًا أن يكون منسوخًا؛ لأن قوله:"أذِنَ فِي أكل لحوم الخيل" دليل عَلَى ذلك. يريد أن الإذن عن منع سابق، وهذا غير لازم، لكن قد يتبادر إلى الأوهام، وفيه تأييد للنسخ. والله تعالى أعلم. انتهى كلام السنديّ.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي نقده السنديّ منْ كلام المصنّف فِي "الكبرى" لم أره فيها، ولعله لاختلاف النسخ. والله تعالى أعلم. وأما الكلام فِي ضعف هَذَا الْحَدِيث، فقد تقدّم فِي الباب الماضي بما يكفي، ويشفي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4334 -

(أَخْبَرَنَا كَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْخَيْلِ، وَالْبِغَالِ، وَالْحَمِيرِ، وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالَى عنه: "كثير بن عُبيد": هو الْمَذحِجيّ، أبو الحسن الحمصيّ الْحذّاء المقرىء الثقة.

والحديث ضعيفٌ، كما سبق بيانه فِي الْحَدِيث الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4335 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كُنَّا نَأْكُلُ لُحُومَ الْخَيْلِ، قُلْتُ: الْبِغَالَ؟ قَالَ: لَا).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

و"عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. و"سفيان": هو الثوريّ. و"عبد الكريم": هو الجزريّ المذكور فِي الباب الماضي. و"عطاء": هو ابن أبي رباح المذكور فيه أيضًا.

والحديث صحيح، وَقَدْ سبق القول فيه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 222

‌31 - (تَحْرِيمِ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ)

4336 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِمَا، قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ لاِبْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "نَهَى عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، يَوْمَ خَيْبَرَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن منصور": هو الْجَوَّاز المكيّ. و"سفيان": هو ابن عيينة. و"الحسن بن محمد": هو أبو محمد المدنيّ، ثقة فقيه، رُمي بالإرجاء [3]، 71/ 3366. و"عبد الله ابن محمد": هو أبو هاشم المدنيّ، ثقة [4] 71/ 3366. و"أبوهما": هو محمد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحنفيّة، أبو القاسم المدنيّ، ثقة عالم [2] 112/ 157.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي "كتاب النكاح" -71/ 3366 - وَقَدْ استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، ولله الحمد والمنّة.

وبقي الكلام فيما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، فأتكلّم فيه هنا، فأقول:

(مسألة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم أكل الحمر الأهليّة:

قَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى: أكثر أهل العلم يرون تحريم الحمر الأهليّة، قَالَ أحمد: خمسة عشر منْ أصحاب النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم كرهوها. قَالَ ابن عبد البرّ: لا خلاف بين علماء المسلمين اليوم فِي تحريمها. وحُكي عن ابن عباس، وعائشة رضي الله تعالى عنهما، أنهما كانا يقولان بظاهر قوله سبحانه:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} الآية [الأنعام: 145]، وتلا هذه ابن عباس، وَقَالَ: ما خلا هَذَا، فهو حلالٌ. وسُئلت عائشة رضي الله تعالى عنها عن الفأرة؟ فقالت: ما هي بحرام، وتلت هذه الآية. ولم يرَ أبو وائل بأكل الحمر بأسًا. وَقَدْ رُوي عن غالب بن أبجر، قَالَ: أصابتنا سنة، فلم يكن فِي مالي شيء، أطعم أهلي، إلا شيء منْ حمر، وَقَدْ كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّم لحوم الحمر الأهلية، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، أصابتنا السنة، ولم يكن فِي مالي ما أطعم أهلي، إلا سِمَان الحمر، وإنك حَرّمت لحوم الحمر الأهلية، فَقَالَ:"أطعم أهلك منْ سمين حمرك، فإنما حرمتها منْ أجل جَوَّال القرية".

ص: 223

واحتجّ الأولون بحديث جابر رضي الله تعالى عنه المذكور فِي الباب، وهو متَّفقٌ عليه. قَالَ ابن عبد البرّ: ورَوَى عن النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم تحريم الحمُر الأهليّة عليّ، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وجابر، والبراء، وعبد الله بن أبي أوفى، وأنس، وزاهر الأسلميّ بأسانيد صحاح حسان، وحديث غالب بن أبجر لا يُعرَّج عَلَى مثله، مع ما عارضه، ويحتمل أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم رخصّ لهم فِي مَجاعتهم، وبيّن علّة تحريمها المطلق؛ لكونها تأكل العذرات، قَالَ عبد الله بن أبي أوفى: حرّمها رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم البتّة منْ أجل أنها تأكل العذرة. متّفقٌ عليه. انتهى كلام ابن قُدامة

(1)

.

وأخرج البخاريّ فِي "صحيحه" منْ طريق سفيان بن عيينة، قَالَ عمرو: قلت لجابر ابن زيد: يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نهى عن الحمر الأهلية، فَقَالَ: قد كَانَ يقول ذاك الحكمِ بن عمرو الغفاري، عندنا بالبصرة، ولكن أبى ذلك البحرُ ابنُ عباس، وقرأ:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} .

قَالَ فِي "الفتح": قَوْله: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} فِي رِوَايَة ابْن مَرْدَوَيْهِ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِم، منْ طَرِيق مُحَمَّد بْن شَرِيك، عَن عَمْرو بْن دِينَار، عَن أَبِي الشَّعْثَاء، عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ:"كَانَ أَهْل الْجَاهِليَّة، يَأكُلُونَ أَشْيَاء، وَيتْرُكُونَ أَشْيَاء؛ تَقَذُّرًا"، فَبَعَثَ لِلَّهِ نَبِيّه، وَأَنْزَلَ كِتَابه، وَأَحَلَّ حَلَاله، وَحَرَّمَ حَرَامه، فَمَا أَحَلَّ فِيهِ فَهُوَ حَلَال، وَمَا حَرَّمَ فِيهِ، فَهُوَ حَرَام، وَمَا سَكَتَ عَنهُ فَهُوَ عَفْو، وَتَلَا هَذِهِ:{قُلْ لَا أَجِدُ} إِلَى آخِرهَا".

وَالاسْتِدْلَال بهَذَا لِلْحِلِّ، إِنَّمَا يَتِمّ فِيمَا لَمْ يَأْتِ فِيهِ نَصّ، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بتَحْرِيمِهِ، وَقَدْ تَوَارَدَت الأَخْبَار بِذَلِكَ، وَالتَّنْصِيص عَلَى التَّحْرِيم، مُقَدَّم عَلَى عُمُوم التَّحْلِيل، وَعَلَى الْقِيَاس، وَقَدْ روي عَن ابْن عَبَّاس، أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِي النَّهْي عَن الْحُمُر: هَلْ كَانَ لِمَعْنًى خَاصّ، أَوْ لِلتَّأْييدِ؟ فَعَن الشَّعْبِي، عَنهُ، أَنَّهُ قَالَ: لا أَدْرِي، أنَهَى عَنْهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، منْ أجْل أَنَّهُ كَانَ حَمُولَة النَّاس، فَكَرِهَ أَنْ تَذهَب حُمُولَتهم، أَوْ حَرَّمَهَا الْبَتَّة يَوْم خَيْبَر؟، وَهَذَا التَّرَدُّد أَصَحّ مِنْ الْخَبَر الَّذِي جَاءَ عَنْهُ بِالجَزْم بِالعِلَّةِ الْمَذْكُورَة، وَكَذَا فِيمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْن مَاجَهْ، مِنْ طَرِيق شَقِيق بْن سَلَمَة، عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ:"إِنَّمَا حَرَّمَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْحُمُر الأَهْليَّة، مَخَافَة قِلَّة الظَّهْر"، وَسَنَده ضَعِيف، وِفِي حَدِيث ابْن أَبِي أَوْفَى: فَتَحَدَّثنَا أَنَّهُ إِنَّمَا نَهى عَنهَا؛ لأَنَّهَا لَمْ تُخمَّس، وَقَالَ بَعْضهمْ: نَهَى عَنْهَا لأنَّهَا كَانَتْ

(1)

"المغنى" 13/ 317 - 319.

ص: 224

تَأْكُل الْعَذِرَة.

وَقَدْ أَزَالَ -كما قَالَ الحافظ- هَذِهِ الاحْتِمَالات منْ كَوْنَها لَمْ تُخَمَّس، أَوْ كَانَت جَلَّالَة، أَوْ كَانَت انْتُهِبَت، حَدِيثُ أَنَسِ الآتي بعد خمسة أحاديث -4442 - حَيْثُ جَاءَ فِيهِ:"فَإِنَّهَا رِجْس"، وَكَذَا الأَمْر بِغَسْلِ الإنَاء فِي حَدِيث سَلَمَة عند البخاريّ فِي "المغازي".

قَالَ الْقُرْطُبِيّ: قَوْله: "فَإِنَّهَا رِجْس"، ظَاهِر فِي عَوْد الضَّمِير عَلَى الْحُمُر؛ لأَنَّهَا الْمُتَحَدَّث عَنهَا، الْمَأْمُور بِإِكْفَائِهَا منْ القُدُور، وَغَسْلِهَا، وَهَذَا حُكْم المُتَنَجِّس، فَيُسْتفَاد مِنْهُ تَحْرِيم أَكْلهَا، وَهُوَ دَالّ عَلَى تَحرِيمهَا لِعَينِهَا؛ لا لِمَعْنًى خَارِج.

وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: الأَمْر بِإِكْفَاءِ الْقَدْر، ظَاهِر أنَّهُ سَبَب تَحْرِيم لَحْم الْحُمُر. وَقَدْ وَرَدَتْ عِلَل أُخْرَى، إنْ صَحَّ رَفْع شَيْء مِنْهَا وَجَبَ الْمَصِير إِلَيْهِ، لَكِنْ لا مَانِع أَنْ يُعَلَّل الْحُكْم بِأَكْثَر مِنْ عِلَّة. وَحَدِيث أبِي ثَعْلَبَة صَرِيح فِي التَّحْرِيم، فَلا مَعْدِلَ عَنهُ.

وأَمَّا التَّعْليل بخَشْيَةِ قِلَّة الظَّهْر، فَأَجَابَ عَنهُ الطَّحَاوِيُّ، بِالمُعَارَضَةِ بِالْخَيْل، فَإِنَّ فِي حَدِيث جَابِر النَّهْي عَن الْحُمُر، وَالإذْن فِي الْخَيْل، مَقْرُونًا، فَلَوْ كَانَت الْعِلَّة لأَجْلِ الْحَمُولَة، لَكَانَتْ الْخَيْل أَوْلَى بالْمَنْع؛ لِقِلَّتِها عِنْدهمْ، وَعِزَّتَها، وَشِدَّة حَاجَتهم إِلَيْهَا.

وَالْجَوَاب عَن آيَة الأَنْعَام، أَنَّها مَكِّيَّة، وَخَبَر التَّحْرِيم مُتَأَخِّر جِدًّا، فَهُوَ مُقَدَّم، وأيْضاً فَنَصّ الآيَة خَبَر، عَن الْحُكْم الْمَوْجُود عِنْد نُزُولهَا، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ نَزَلَ فِي تَحْرِيم المَأْكُول، إِلَّا مَا ذُكِرَ فِيْهَا، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَمْنَع أنْ يَنْزِل بَعْد ذَلِكَ غَير مَا فيهَا، وَقَدْ نَزَلَ بَعْدهَا فِي الْمَدِينَة أَحْكَام بِتَحْريم أَشْيَاء، غَيْر مَا ذُكِرَ فِيهَا، كَالْخَمْرِ فِي آيَة الْمَائِدَة، وَفِيهَا أَيْضًا تَحْرِيم مَا أُهِلَّ لِغَيرِ الله بِهِ، وَالمُنْخَنِقَة إِلَى آخِره، وَكَتَحْرِيم السِّبَاع، وَالْحَشَرَات.

قَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ بِتَحْرِيم الْحُمُر الأهْليَّة أَكْثَر العُلَمَاء، مِنْ الَصَّحَابَة، فَمَنْ بَعْدَهمْ، وَلَمْ نَجِد عَن أَحَد مِنْ الصَّحَاَبَة، فِي ذَلِكَ خِلَافًا لَهُم، إِلَّا عَن ابن عَبَّاس. وَعِنْدَ الْمَالِكيَّة ثَلاث رِوَايَات: ثَالِثهَا الْكَرَاهَة.

وَأمَّا الْحَدِيث الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَن غَالِب بن أبجر، قَالَ: "أَصَابَتْنَا سَنَة، فَلَمْ يَكُن فِي مَالِي مَا أُطْعِم أَهْلِي

" الْحَدِيث، فإِسْنَاده ضَعِيف، وَالْمَتنْ شَاذ، مُخَالِف للأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة، فَالاعْتِمَاد عَلَيْهَا.

وأَمَّا الْحَدِيث الَّذِي، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيّ، عَن أُمّ نَصْر المُحَارِبِيَّة:"أنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، عَن الْحُمُر الأَهْليَّة؟، فَقَالَ: أَلَيْسَ تَرْعَى الْكَلَأ؟، وَتَأكُل الشَّجَر؟ "، قَالَ: نَعَم، قَالَ:"فَأَصِبْ منْ لُحُومهَا"، وَأَخْرَجَهُ ابْن أَبِي شَيبَة، منْ طَريق رَجُل منْ بَنِي مُرّة، قَالَ:"سَأَلْت"، فَذَكَرَ نَحْوه، فَفِي السَّنَدَيْنِ مَقَال، وَلَوْ ثَبَتَا احْتَمَلَ أنْ يَكُون قَبْل التَّحْرِيم.

قَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَوْ تَوَاتَرَ الْحَدِيث عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، بِتَحْرِيمِ الْحُمُر الأَهْليَّة، لَكَانَ

ص: 225

النَّظَر يَقْتَضِي حِلّهَا؛ لأَنَّ كُلّ مَا حُرِّمَ منْ الأَهْلِيّ، أُجْمِعَ عَلَى تَحْرِيمه، إِذَا كَانَ وَحْشِيًّا، كَالْخِنْزِيرِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى حِلّ الْحِمَار الْوَحْشِيّ، فَكَانَ النَّظَر يَقْتَضي حِلّ الْحِمَار الأَهْلِيّ.

وتعقّبه الحافظ بأن مَا ادَّعَاهُ منْ الإجْمَاع مَرْدُود، فَإِنَّ كَثِيرًا منْ الْحَيَوَان الأَهْليّ مُخْتَلَف فِي نَظِيره، منْ الحَيَوَان الْوَحْشِيّ، كَالْهِرِّ. انتهى

(1)

.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن ما ذهب إليه جمهور العلماء منْ تحْريم الحمُر الأهليّة هو الحقّ؛ لكثرة الأحاديث الصحيحة الصريحة فيه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4337 -

(أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، وَمَالِكٌ، وَأُسَامَةُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ الْحَسَنِ، وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنَيْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِمَا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رضى الله عنه، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ، يَوْمَ خَيْبَرَ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "سليمان بن داود": هو الْمَهْريّ، أبو الربيع المصريّ. و"يونس": هو ابن يزيد الأيليّ. و"مالك": هو ابن أنس الإِمام المدنيّ. و"أُسامة": هو ابن زيد الليثيّ المدنيّ.

وقوله: "الإنسيّة" -بِكَسْرِ الْهَمْزَة، وَسُكُون النُّون، مَنْسُوبَة إِلَى الإنْس، وُيقَال فِيهِ: أَنَسِيَّة -بِفَتْحَتَيْنِ- وَزَعَمَ ابْن الأثِير، أَنَّ فِي كَلَام أَبِي مُوسَى الْمَدِينِيّ، مَا يَقْتَضِي أَنَّهَا بِالضَّمِّ، ثُمَّ السُّكُون؛ لِقَوْلِهِ: الأُنْسِيَّة: هِيَ الَّتِي تَأْلَف البُيُوت، وَالأُنْس ضِدّ الوَحْشَة. قَالَ فِي "الفتح": وَلا حُجَّة فِي ذَلِكَ؛ لأَنَّ أَبَا مُوسَى، إِنَّمَا قَالَهُ بِفَتْحَتَيْنِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْجَوْهَرِيّ، أنَّ الأَنَس بِفَتْحَتَيْنِ، ضِدّ الوَحْشَة، وَلَمْ يَقَع فِي شَيْء منْ رِوَايَات الْحَدِيث بِضَمٍّ، ثُمَّ سُكُون، مَعَ احْتِمَال جَوَازه، نَعَم زَيَّفَ أَبُو مُوسَى الرِّوَايَة بِكَسْرِ أَوَّله، ثُمَّ السُّكُون، فَقَالَ ابْن الأَثِير: إن أَرَادَ منْ جِهَة الرِّوَايَة فَعَسَى، وَإلا فَهُوَ ثَابت فِي اللُّغَة، وَنِسْبَتهَا إِلَى الإنْس. وَقَدْ وَقَعَ فِي الرواية الماضية:"الأهْليَّة"، بَدَل الإنْسِيَّة، وَيُؤْخَذ مِنْ التَقْيِيد بِهَا، جَوَاز أَكْل الْحُمُر الوَحْشِيَّة، وسيعقد له المصنّف رحمه الله تعالى الباب التالي، إن شاء الله تعالى.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق تمام البحث فيه فِي الْحَدِيث الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

"فتح" 11/ 89 - 91.

ص: 226

4338 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ ح وَأَنْبَأَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَك حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "نَهَى عَنِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، يَوْمَ خَيْبَرَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

و"محمد بن بشر": هو العبديّ الكوفيّ. و"يحيى": هو القطّان. و"عبيد الله": هو ابن عمر العمريّ المدنيّ. وشرح الْحَدِيث يُعلم مما سبق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -31/ 4338 و4339 - وفي "الكبرى" 34/ 4848 و4849. وأخرجه (خ) فِي "المغازي" 4215 (م) فِي "الصيد" 3583 و3584 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 4706 و5752 و6255 و6274. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4339 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم

مِثْلَهُ، وَلَمْ يَقُلْ: خَيْبَرَ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"محمد ابن عُبيد": هو الطنافسيّ الكوفيّ. والحديث متّفق عليه، كما سبق بيانه قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4345 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَوْمَ خَيْبَرَ، عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ، نَضِيجًا وَنِيئًا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

و"معمر": هو ابن راشد. و"عاصم": هو ابن سليمان الأحول.

وقوله: "نضيجا" بفتح النون: أي مطبوخًا. وقوله: "ونِيئًا" بكسر النون، وسكون التحتانيّة، وبهمزة، وَقَدْ تُبدل الهمزة ياءً، وتُدغم، فيقال: نِيّا، بياء مشدّدة: أي غير مطبوخ.

ص: 227

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث البراء رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -31/ 4340 - وفي "الكبرى" 34/ 4850. وأخرجه (م) فِي "الصيد" 3589 و3590 (ق) فِي "الذبائح" 3194 (أحمد) فِي "أوّل مسند الكوفيين" 18637 و18666. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4341 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِىءُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: أَصَبْنَا يَوْمَ خَيْبَرَ حُمُرًا، خَارِجًا مِنَ الْقَرْيَةِ، فَطَبَخْنَاهَا، فَنَادَى مُنَادِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ حَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ، فَأَكْفِئُوا الْقُدُورَ، بِمَا فِيهَا، فَأَكْفَأْنَاهَا").

رجال هَذَا الإسناد: أربعة:

1 -

(محمد بن عبد الله) أبو يحيى المكيّ ثقة [10] 11/ 11.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإِمام الحجة الثبت المكيّ [8] 1/ 1.

3 -

(أبو إسحاق الشيبانيّ) سليمان بن أبي سليمان فيروز الكوفيّ، ثقة [5] 172/ 267.

4 -

(عبد الله بن أبي أوفى) علقمة بن خالد بن الحارث الأسلميّ الصحابيّ المشهور، شهد الحديبية، وعُمّر بعد النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم دهرًا، ومات سنة (87) وهو آخر منْ مات بالكوفة منْ الصحابة رضي الله تعالى عنهم 3/ 402. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (204) منْ رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به هو، وابن ماجه. (ومنها): أن شيخه وسفيان مكيان، والباقيان كوفيان. (ومنها): أن صحابيه آخر منْ مات منْ الصحابة بالكوفة، كما مرّ آنفًا. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى) رضي الله تعالى عنه، واسم أبيه خالد بن علقمة، أنه (قَالَ: أَصَبْنَا يَوْمَ خَيْبَرَ) أي يوم وقعة خيبر (حُمُرًا) جمع حمار (خَارِجًا مِنَ الْقَرْيَةِ) هكذا

ص: 228

نسخ "المجتبى": "خارجا" بلفظ التذكير، ولفظ "الكبرى":"خارجة" بالتأنيث، وهو الموافق للقاعدة؛ لأن "حمُر" جمع فحقّه تأنيث صفته، فتأمل (فَطَبَخْنَاهَا) معطوف عَلَى محذوف، أي فذبحناها، وطبخناها (فَنَادَى مُنَادِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) سيأتي قريبًا أن المنادي هو عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه، وفي "صحيح مسلم" منْ حديث أنس رضي الله تعالى عنه أن الذي نادى هو أبو طلحة رضي الله تعالى عنه، وفيه أيضًا أنه بلالٌ رضي الله تعالى عنه، ولعلّ عبد الرحمن نادى أوّلًا بالنهي مطلقًا، ثم نادى أبو طلحة، وبلال بزيادة عَلَى ذلك، وهو قوله:"فإنها رجس". قاله فِي "الفتح"

(1)

(إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَدْ حَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ، فَأَكْفِئُوا الْقُدُورَ) بقطع الهمزة، وكسر فاء، أو بوصلها، وفتح فاء، لغتان، يقال: كفأت الإناء، وأكفأته، بهمزة فِي آخره: إذا قلبته، أي اقلِبوا القُدور، وأريقوا ما فيها. قَالَ السنديّ: والمناسب هنا قطع الهمزة، كقوله:"فأكفأْناها"(بِمَا فِيهَا) أي مع ما فِي القدور منْ اللحم، والمرق، فالباء بمعنى "مع"(فَأَكْفَأْنَاهَا) أي قلبنا القدور بما فيها، وفي نسخة:"فأكفيناها" بقلب الهمزة.

وفي حديث أنس رضي الله تعالى عنه عند البخاريّ: قَالَ النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم: "اهريقوها، واكسروها"، فَقَالَ رجل: يا رسول الله، أو نُهريقها، ونغسلها، قَالَ:"أو ذاك". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -31/ 4341 - وفي "الكبرى" 34/ 4851. وأخرجه (خ) فِي "فرض الخمس" 3155 و"المغازي" 4220 و44222 و4225 و4226 و"الذبائح" 5526 (م) "الصيد" 3585 و3586 (ق) فِي "الذبائح" 3192 (أحمد) "أول مسند الكوفيين" 17637 و18648 و18659 و18925. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان تحريم أكل لحوم الحمُر

(1)

"فتح" 11/ 89 "كتاب الذباح" رقم 5529.

ص: 229

الأهليّة. (ومنها): أنَّ الذَّكَاة لا تُطَهِّر مَا لا يَحِلّ أَكْله. (ومنها): أَنَّ كُلّ شَيْء تَنَجَّسَ بِمُلاقَاةِ النجَاسَة، يَكفِي غَسْله مَرَّة وَاحِدَة، لإطلَاقِ الأمْر بِالْغَسْلِ فِي حديث أنس المذكور، فَإِنهُ يَصْدُق بِالامْتِثَالِ بالمَرَّةِ، وَالأَصْل أن لا زِيَادَة عَلَيهَا. (ومنها): أنَّ الأَصْل فِي الأَشْيَاء الإبَاحَة؛ لِكَونِ الصَّحَابَة رضي الله تعالى عنهم، أَقْدَمُوا عَلَى ذَبْحهَا، وَطَبْخهَا كسَائِرِ الحَيَوَان، منْ قَبْل أنْ يُسْتَأمَرُوا النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم، مَعَ تَوَفُّر دَوَاعِيهم عَلَى السُّؤَال عَمَّا يُشْكِل. (ومنها): أنَّهُ يَنْبَغِي لأَمِيرِ الْجَيْش تَفَقُّد أحْوَال رَعِيَّته، وَمَن رَآهُ فَعَلَ مَا لا يَسُوغ فِي الشَّرْع، أَشَاعَ مَنْعه، إمَّا بِنَفْسِهِ، كَأَنْ يُخَاطِبهُم، وِإمَّا بِغَيْرِهِ، بِأَنْ يَأمُر مُنَادِيًا، فَيُنَادِي؛ لِئَلا يَغْتَرّ بِهِ مَنْ رَآهُ، فَيَظُنّهُ جَائِزًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4342 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: صَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ، فَخَرَجُوا

(1)

إِلَيْنَا، وَمَعَهُمُ الْمَسَاحِي، فَلَمَّا رَأَوْنَا، قَالُوا: مُحَمَّدٌ، وَالْخَمِيسُ، وَرَجَعُوا إِلَى الْحِصْنِ يَسْعَوْنَ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:"اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ، فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ"، فَأَصَبْنَا فِيهَا حُمُرًا، فَطَبَخْنَاهَا، فَنَادَى مُنَادِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عز وجل، وَرَسُولَهُ، يَنْهَاكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ، فَإِنَّهَا رِجْسٌ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم للمصنف رحمه الله تعالى فِي "الطهارة" 55/ 69 و"المواقيت" 26/ 547 و"النكاح" 64/ 3342 و3343 و79/ 338 و3381 و3382 - وَقَدْ استوفيت شرحه، وبيان مسائله فيما مضى، فما بقي إلا إعادة ما يُستشكل منْ الكلمات الغريبة، ونحوها.

فـ"أيوب": هو السختياني. و"محمد": هو ابن سيرين. و"أنس": هو ابن مالك رضي الله تعالى عنه.

وقوله: "صبّح" بالتشديد: أي أغار عليهم وقت الصباح. وقوله: "ومعهم المساحي" جمع مِسْحاة، وهي آلة منْ حديد، وميمه زائدة، منْ السحو، بمعنى الكشف والإزالة. وقوله:"والخميس": أي الجيش، وهو مرفوع بالعطف عَلَى "محمد"، ويجوز نصبه عَلَى أنه مفعول معه. وقوله:"يسعون": أي يُسرعون فِي المشي إلى الحصن. وقوله: "ينهاكم" هكذا الرواية هنا بإفراد الضمير، وهو صحيح، فيكون مرجع الضمير لفظ الجلالة، والجملة خبر "إنّ"، وأما "ورسوله " فمرفوع بالابتداء، حُذف خبره، أي

(1)

وفي نسخة: "وخرجوا" بالواو.

ص: 230

يبلّغكم ذلك، والجملة معترضة. أو جملة "يناهاكم" خبر عن "رسوله"، وذكر الله تعالى للتنبيه عَلَى أن نهيه صلى الله عليه وسلم نهي الله تعالى. وفي رواية:"ينهيانكم" بالتثنية، ولا إشكال فيه. وقوله:"فإنها رجس": أي إن لحوم الحمر نجس، وفي رواية مسلم:"فإنها رجس"، أو "نجس"، بالشكّ، وفي رواية البيهقيّ:"فإنها نجس"، بالجزم.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4343 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، أَنْبَأَنَا بَقِيَّةُ، عَنْ بَحِيرٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ، أَنَّهُمْ غَزَوْا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ، وَالنَّاسُ جِيَاعٌ، فَوَجَدُوا فِيهَا حُمُرًا مِنْ حُمُرِ الإِنْسِ، فَذَبَحَ النَّاسُ مِنْهَا، فَحُدِّثَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَأَذَّنَ فِي النَّاسِ: "أَلَا إِنَّ لُحُومَ الْحُمُرِ الإِنْسِ لَا تَحِلُّ لِمَنْ يَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد تقدّموا قبل بابين.

وقوله: "حُمُرًا" بضمّتين، جمع حمار. وقوله:"فحُدّث" بالبناء للمفعول. وقوله: "لمن شهد أنّي رسول الله" صلى الله عليه وسلم، يستدلّ به منْ قَالَ: إن الكفّار غير مخاطبين بفروع الشريعة، والصحيح أنهم مخاطبون؛ للأدلّة الكثيرة، وَقَدْ ذكرنا بعضها فِي غير هَذَا الموضع، وإنما خصّ هنا منْ شهد له بالرسالة؛ لأنه هو الذي ينتفع بالعمل بشرعه؛ لاستيفائه شروط القبول، وأعظمها الإيمان، وأما الكافر، فلا ينتفع لو عمل به؛ لإخلاله بشروط القبول؛ حيث لم يؤمن به.

والحديث، وإن كَانَ فِي سنده بقيّة، وهو معروف الحال، كما سبق قريبًا، إلا أنه صحيح بما تقدّمه، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -31/ 4344 - وفي "الكبرى" 34/ 4853. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4344 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ بَقِيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّبَيْدِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ").

قالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الزُّبيديّ": هو محمد بن الوليد الحمصيّ الثقة الثبت. و"أبو إدريس": هو عائذ الله بن عبد الله.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق تخريجه فِي قبل بابين -28/ 4327. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 231

‌32 - (بَابُ إِبَاحَةِ أَكْلِ لُحُومِ حُمُرِ الْوَحْشِ)

4345 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ -هُوَ ابْنُ فَضَالَةَ- عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: "أَكَلْنَا يَوْمَ خَيْبَرَ لُحُومَ الْخَيْلِ وَالْوَحْشِ، وَنَهَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحِمَارِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"الْمُفَضَّل بن فَضَالة": هو القِتْبانيّ، أبو معاوية المصريّ القاضي الثقة الفاضل العابد [8] 42/ 586.

وقوله: "والوحش": قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: كأنه أخذ منْ إطلاق الوحش جواز لحم الحمار الوحشي، لكن الإطلاق فِي الحكاية، غير معتبر، فليُتأمّل. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: استنباط المصنّف رحمه الله تعالى الجواز منْ إطلاق الوحش، هو الظاهر؛ لأنه هو المفهوم منْ إطلاق الصحابيّ، فإنه منْ أهل اللسان؛ ولا يعترض عَلَى هَذَا بما خرج عن هَذَا الأصل مما حُرّم منْ وحوش البهائم؛ لأنه لأدلّة أخرى، فتنبّه.

والحديث أخرجه مسلم، وتقدّم تخريجه قبل بابين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4346 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَكْرٌ -هُوَ ابْنُ مُضَرَ- عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَلَمَةَ الضَّمْرِيِّ، قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِبَعْضِ أَثَايَا الرَّوْحَاءِ، وَهُمْ حُرُمٌ، إِذَا حِمَارُ وَحْشٍ مَعْقُورٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "دَعُوهُ، فَيُوشِكُ صَاحِبُهُ أَنْ يَأْتِيَهُ"، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَهْزٍ، هُوَ الَّذِي عَقَرَ الْحِمَارَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَأْنَكُمْ، هَذَا الْحِمَارُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ، يُقَسِّمُهُ بَيْنَ النَّاسِ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، و"ابن الهاد": هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد المدنيّ. و"محمد بن إبراهيم": هو التيميّ المدنيّ. و"عيسى بن طلحة": هو التيميّ، أبو محمد المدنيّ. و"عمير بن سلمة الضمريّ، مدنيّ، له صحبة، منْ أفراد المصنّف.

وقوله: "ببعض أيا الروحاء": قَالَ المجد فِي "القاموس": "أُثاية" بالضمّ، ويُثلّث: موضع بين الحرمين، فيه مسجد نبويّ، أو بئرٌ، دون الْعَرْج، عليها مسجد للنبيّ صلى الله عليه وسلم.

ص: 232

انتهى. و"الرَّوْحاء": موضع بين الحرمين، عَلَى ثلاثين، أو أربعين ميلًا منْ المدينة. قاله فِي "القاموس".

وقوله: "معقور": أي مقتولٌ، وفعله منْ باب ضرب.

وقوله: "شأنكم" منصوب عَلَى الإغراء: أي خذوا شأنكم.

وقوله: "هَذَا الحمار" بالرفع: أي بين أيديْكم، فافعلوا به ما شئتم، أو "شأنُكم" بالرفع مبتدأ: أي أمركم المطلوب هَذَا الحمار، وهو لكم. قاله السنديّ رحمه الله تعالى.

والحديث صحيح، وَقَدْ تقدّم فِي "كتاب الحج " 78/ 2818 - ومضى شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4347 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ الرَّحِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: أَصَابَ حِمَارًا وَحْشِيًّا، فَأَتَى بِهِ أَصْحَابَهُ، وَهُمْ مُحْرِمُونَ، وَهُوَ حَلَالٌ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَوْ سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ، فَسَأَلْنَاهُ، فَقَالَ: "قَدْ أَحْسَنْتُمْ"، فَقَالَ لَنَا: "هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟ "، قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: "فَاهْدُوا لَنَا"، فَأَتَيْنَاهُ مِنْهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ، وَهُوَ مُحْرِمٌ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، محمد بن وهب بن عمر بن أبي كَرِيمة، أبي المعافى الْحَرّانيّ، فإنه منْ أفراده، وهو صدوق [10] 191/ 306.

و"محمد بن سَلَمة": هو الْحرّانيّ. و"أبو عبد الرحيم": هو خالد بن أبي يزيد الْحَرّانيّ. و"زيد بن أبي أُنسية": هو الجزريّ، الرُّهاويّ. و"أبو حازم": هو سلمة بن دينار المدنيّ التمّار الأعرج. و"ابن أبي قتادة": هو عبد الله.

والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي "كتاب الحجّ" 78/ 2816 - وتقدّم شرحه، وبيان مسائله، هناك.

واستدلال المصنّف رحمه الله تعالى: به هنا عَلَى الترجمة واضح، حيث نصّ عَلَى أنه صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أكلوا منْ لحم الحمار الوحشيّ، فدلّ عَلَى أنه حلالٌ، وهذا مُجمع عليه، قَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى: لا نعلم فيه خلافًا، إلا ما يُروى عن طلحة بن مُصرّف أنه إذا أَنِس، واعتلف، فهو بمنزلة الأهليّ. قَالَ أحمد رحمه الله تعالى: وما ظننت أنه رُوي فِي هَذَا شيء، وليس الأمر عندي كما قَالَ، وأهل

ص: 233

العلم عَلَى خلافه؛ لأن الظباء إذا تأنّست لم تَحرُم، والأهليّ إذا توحّش لم يحلّ، ولا يتغيّر منها شيء عن أصله، وما كَانَ عليه. قَالَ عطاء فِي حمار الوحش: إذا تناسل فِي البيوت، لا تزول عنه أسماء الوحش. انتهى

(1)

.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بهذا أن الصواب ما عليه الجمهور منْ حلّ الحمار الوحشيّ؛ لوضوح أدلّته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلتُ، وإليه أنيب".

‌33 - (باب إِبَاحَةِ أَكْلِ لُحُومِ الدَّجَاجِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الدجاج" هو اسم جنس مثلث الدال، ذكره المنذري فِي الحاشية وابن مالك وغيرهما، ولم يحك النوويّ الضم، والواحدة دجاجة مثلث أيضاً، وقيل: إنّ الضم فيه ضعيف، قَالَ الجوهري: دخلتها الهاء للوحدة مثل الحمامة، وأفاد إبراهيم الحربي فِي غريب الْحَدِيث أن الدجاج بالكسر اسم للذكران دون الإناث، والواحد منها ديك، وبالفتح الإناث دون الذكران، والواحدة دجاجة بالفتح أيضاً، قَالَ: وسمي لإسراعه فِي الإقبال والادبار منْ دج يدج إذا أسرع، قلت: ودجاجة اسم امرأة وهي بالفتح فقط، ويسمى بها الكبة منْ الغزل قاله فِي "الفتح"

(2)

. والله تعالى أعلم بالصواب.

4348 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ زَهْدَمٍ، أَنَّ أَبَا مُوسَى، أُتِيَ بِدَجَاجَةٍ، فَتَنَحَّى رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُهَا تَأْكُلُ شَيْئًا، قَذِرْتُهُ فَحَلَفْتُ أَنْ لَا آكُلَهُ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: ادْنُ فَكُلْ، فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن منصور) الجوّاز المكيّ، ثقة [10] 20/ 21.

(1)

"المغني" 13/ 324.

(2)

"الفتح" جـ 11 ص 77.

ص: 234

2 -

(سفيان) بن عيينة الإِمام الحجة المشهور [8] 1/ 1.

3 -

(أيوب) بن أبي تميمة كيسان السختيانيّ البصريّ الثقة الثبت الفقيه [5] 42/ 48.

4 -

(أبو قلابة) عبد الله بن زيد بن عمرو الجرميّ البصريّ، ثقة [3] 103/ 322.

5 -

(زَهْدَم) -بوزن جعفر- ابن مُضرّب -بصيغة اسم الفاعل المضعّف- الْجَرميّ -بفتح الجيم، وسكون الراء- أبو مسلم البصريّ، ثقة [3] 14/ 3806.

6 -

(أبو موسى) عبد الله بن قيس الأشعريّ الصحابيّ الجليل رضي الله تعالى عنه 3/ 3. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، وسفيان، فمكيان. (ومنها): أنّ فيه ثلاثة منْ التابعين، يروي بعضهم عن بعض: أيوب، وأبو قلابة، وزهدم ورواية الآخرين منْ رواية الأقران. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عن أبي قلابة) كذا رواه سفيان بن عيينة، عن أيوب، ووافقه سفيان الثوريّ، عن أيوب عند البخاريّ، قَالَ فِي "الفتح": وهكذا قَالَ عبد السلام بن حرب، عن أيوب، كما عند البخاريّ فِي "المغازي"، وَقَالَ عبد الوارث -كما عند البخاريّ فِي "الذبائح":"عن أيوب، عن القاسم"، بدل "أبي قلابة"، وكذا قَالَ ابن عُليّة، عن أيوب، كما فِي "الأيمان والنذور" عند البخاريّ، وَقَالَ حماد بن زيد:"عن أيوب، عن أبي قلابة، والقاسم، قَالَ: وأنا لحديث قاسم أحفظ"، أخرجه البخاريّ فِي "فرض الخمس"، وكذا قَالَ وهيب، عن أيوب، عنهما عند مسلم. انتهى

(1)

.

(عن زهدم) بن مضرّب تقدّم ضبطه قريبًا (أن أبا موسى) الأشعريّ رضي الله تعالى عنه (أتي) بالبناء للمفعول (بدجاجة) أي بلحمها، وفي الرواية التالية: "كنّا عند أبي موسى، فقُدّم طعامه، وقُدّم فِي طعامه لحم دجاج

" (فتنحى) أي اعتزل، وابتعد (رجل منْ القوم) وفي الرواية التالية: "وفي القوم رجل، منْ بني تيم الله، أحمر، كأنه مولى، فلم يَدْنُ

".

وفي رواية للبخاري: "كنا عند أبي موسى الأشعري، وكان بيننا وبين هَذَا الحي منْ جَرْم إخاء، فأُتي بلحم دجاج، وفي القوم رجل جالسٌ، أحمر، فلم يدن منْ

(1)

"فتح" 11/ 78.

ص: 235

طعامه

" الْحَدِيث.

وقوله: "كأنه منْ الموالي": أي العجم.

قَالَ فِي "الفتح": وهذا الرجل هو زهدم الراوي أبهم نفسه، فقد أخرج الترمذي منْ طريق قتادة، عن زهدم، قَالَ:"دخلت عَلَى أبي موسى، وهو يأكل دجاجا، فَقَالَ: ادْنُ، فَكُلْ، فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكله"، مختصرا، وَقَدْ أشكل هَذَا؛ لكونه وصف الرجل فِي رواية الباب، بأنه منْ بني تيم الله، وزهدم منْ بني جَرْم، فَقَالَ بعض النَّاس: الظاهر إنهما امتنعا معا، زهدم والرجل التيمي، وحَمَلَه عَلَى دعوى التعدد استبعادُ أن يكون الشخص الواحد يُنسَبُ إلى تيم الله، وإلى جَرْم، ولا بعد فِي ذلك، بل قد أخرج أحمد الْحَدِيث المذكور، عن عبد الله بن الوليد -هو العدني- عن سفيان -هو الثوري- فَقَالَ فِي روايته: "عن رجل، منْ بني تيم الله، يقال له: زهدم، قَالَ: كنا عند أبي موسى، فأتى بلحم دجاج

"، فعلى هَذَا فلَعَلَّ زهدم، كَانَ تارة يُنسب إلى بني جرم، وتارة إلى بني تيم الله، وجرم قبيلة فِي قضاعة، يُنسبون إلى جرم بن زَبَّان -بزاي، وموحدة ثقيلة- بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وتيم الله بطن منْ بني كلب، وهم قبيلة فِي قضاعة أيضاً، يُنسبون إلى تيم الله بن رُفَيدة -براء، وفاء، مصغرا- ابن ثور بن كلب بن وَبَرَة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، فحلوان عمّ جرم. قَالَ الرشاطي فِي "الأنساب": وكثيرا ما ينسبون الرجل إلى أعمامه. قَالَ الحافظ: وربما أبهم الرجل نفسه، كما تقدم فِي عدة مواضع، فلا بعد فِي أن يكون زهدم صاحب القصة، والأصل عدم التعدد. وَقَدْ أخرج البيهقي، منْ طريق الفريابي، عن الثوري، بسنده المذكور عند البخاريّ فِي هَذَا الباب، إلى زهدم، قَالَ: رأيت أبا موسى، يأكل الدجاج، فدعاني، فقلت: إني رأيته يأكل نتنا، قَالَ: ادنه، فكل

"، فذكر الْحَدِيث المرفوع، ومن طريق الصَّعْق بن حَزْن، عن مطر الوراق، عن زهدم، قَالَ: دخلت عَلَى أبي موسى، وهو يأكل لحم دجاج، فَقَالَ: ادن فكل، فقلت: إني حلفت، لا آكله

" الْحَدِيث، وَقَدْ أخرجه موسى، عن شيبان بن فروخ، عن الصعق، لكن لم يسق لفظه، وكذا أخرجه أبو عوانة فِي "صحيحه" منْ وجه آخر، عن زهدم نحوه، وَقَالَ فيه: فَقَالَ لي: ادن فكل، فقلت: إني لا أريده

" الْحَدِيث. فهذه عدة طرق، صَرَّحَ زهدم فيها بأنه صاحب القصة، فهو المعتمد، ولا يَعْكُر عليه، إلا ما وقع فِي "الصحيحين" مما ظاهره المغايرة بين زهدم، والممتنع منْ أكل الدجاج، ففي روايةٍ: عن زهدم، كنا عند أبي موسى فدخل رجل، منْ بني تيم الله، أحمر، شبيه بالموالي، فَقَالَ: هَلُمَّ، فتلكأ

" الْحَدِيث، فإن ظاهره أن الداخل دخل، وزهدم جالس، عند أبي موسى،

ص: 236

لكن يجوز أن يكون مراد زهدم بقوله: كنا قومه الذين دخلوا قبله، عَلَى أبي موسى، وهذا مجاز، قد استَعْمَلَ غيرُهُ مثله، كقول ثابت البناني: خطبنا عمران بن حصين، أي خطب أهلَ البصرة، ولم يدرك ثابت خطبة عمران المذكورة، فيحتمل أن يكون زهدم دخل، فجرى له ما ذُكر، وغاية ما فيه أنه أبهم نفسه، ولا عجب فيه. والله أعلم. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ) أبو موسى رضي الله تعالى عنه للرجل الذي تنحَّى (ما شأنك) أي ما حالك فِي ابتعادك عن أكل الدجاج؟ (قَالَ) الرجل (إني رأيتها تأكل شيئاً قذرته) وفي رواية البخاريّ: "فقذرته"، وهو بكسر الذال المعجمة، يقال: قذِرت الشيءَ، منْ باب تعِبَ، واستقذرته، وتقذّرته: إذا كرهته لوسَخه. وقذِرَ الشيءُ، فهو قَذِرٌ، منْ باب تعِبَ أيضاً: إذا لم يكن نظيفًا. قاله فِي "المصباح". وفي رواية أبي عوانة: "إني رأيتها تأكل قَذَرًا"، وكأنه ظن أنها أكثرت منْ ذلك، بحيث صارت جَلَّالة، فبَيَّن له أبو موسى، أنها ليست كذلك، أو أنه لا يلزم منْ كون تلك الدجاجة التي رآها كذلك، أن يكون كل الدجاج كذلك (فحلفت أن لا آكله، فَقَالَ أبو موسى) رضي الله تعالى عنه (ادن) كذا للأكثر، فعل أمر، منْ الدُّنُوّ، ووقع فِي "صحيح البخاريّ" عند المستملي، والسرخسي بلفظ:"إذاً" بكسر الهمزة، وبذال معجمة، مع التنوين، حرف نصب، وزاد فِي رواية البخاريّ:"أخبرك"، أو "أُحدّثك"، وهو مجزومٌ، عَلَى رواية "ادنُ" عَلَى أنه جواب الأمر، ومنصوب بـ"إذاً" عَلَى رواية المستملي، والسرخسيّ، وقوله: أو "أحدثك"، شك منْ الراوي. أفاده فِي "الفتح".

(كل فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكله) أي يأكل لحم الدجاج (وأمره) أي أمر أبو موسى الرجل (أن يكفر عن يمينه) حيث حلف أن لا يأكله، كما تقدّم آنفًا. والله تعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -33/ 4347 و4348 - وفي "الكبرى" 36/ 4858 و4859. وأخرجه (خ) فِي "فرض الخمس" 3133 و"المغازي" 4385 و"الذبائح" 5517 و5518

(1)

"فتح" 9/ 563، 564."كتاب الذبائح".

ص: 237

و"الأيمان والنذور" 6649 و6680 و"كفّارات الأيمان" 6721 و"التوحيد" 7555 (م) فِي "الأيمان" 4241 و4242 و4243 و4244 (د) فِي "الأيمان والنذور" 3276 (ت) فِي "النذور والأيمان"1545. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم أكل لحوم الدجاج، وهو الحلّ، فقد دلّ الْحَدِيث عَلَى جواز أكل الدجاج، إنسيّه، ووحشيه، وهو بالاتفاق، إلا عن بعض المتعمقين، عَلَى سبيل الورع، إلا أن بعضهم استثنى الجلّالة، وهي ما تأكل الأقذار، وظاهر صنيع أبي موسى رضي الله عنه أنه لم يبال بذلك، وسيأتي حكم الجلّالة، فِي "كتاب الضحايا" 43/ 4449 - إن شاء الله تعالى. (ومنها): دخول المرء عَلَى صديقه فِي حالة أكله. (ومنها): استدناء صاحب الطعام الداخلَ، وعرضه الطعام عليه، ولو كَانَ قليلاً؛ لأن اجتماع الجماعة عَلَى الطعام سبب للبركة فيه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيلِ.

4349 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ الْقَاسِمِ التَّمِيمِيِّ، عَنْ زَهْدَمٍ الْجَرْمِيِّ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى، فَقُدِّمَ طَعَامُهُ، وَقُدِّمَ فِي طَعَامِهِ لَحْمُ دَجَاجٍ، وَفِى الْقَوْمِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ أَحْمَرُ، كَأَنَّهُ مَوْلًى، فَلَمْ يَدْنُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: ادْنُ، فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَأْكُلُ مِنْهُ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

و"إسماعيل": هو ابن عليّة. و"أيوب": هو السختيانيّ.

و"القاسم" بن عاصم التميميّ، ويقال: الكُلَينيّ، بنون، بعد التحتانيّة، ويقال: الليثيّ البصريّ، مقبول [4].

روى عن رافع بن خديج، وزهدم بن مُضَرّب الجرمي، وسعيد بن المسيب، وعطاء الخراساني، وعنه أيوب السختياني، وحميد الطويل، وخالد الحذاء. ذكره بن حبّان فِي "الثقات". روى له البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، فِي "المراسيل"، والترمذي فِي "الشمائل"، والمصنّف، وله عنده فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.

وقوله: "وقُدّم" بالبناء للمفعول فِي الموضعين.

والحديث متّفق عليه، كما سبق بيانه فِي الْحَدِيث الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4350 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، عَنْ بِشْرٍ -هُوَ ابْنُ الْمُفَضَّلِ- قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ

ص: 238

-صلى الله عليه وسلم: "نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ، وَعَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث لا يُطابق هَذَا الباب، فكانَ الأولى للمصنّف رحمه الله تعالى، أن يترجم له ترجمة مفردة، كما فعل فِي "الكبرى"، حيث ترجم له بقوله:"باب ما يُنهَى عن أكله منْ الطير". فتأمّل، والله تعالى أعلم.

ورجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الجحدري البصريّ، ثقة [10] 42/ 47.

2 -

(بشر بن المفضَل) بن لاحق، أبو إسماعيل البصريّ، ثقة ثبت عابد [8] 66/ 82.

3 -

(سعيد) بن أبي عروبة مهران البصريّ، ثقة ثبت يدلس، واختلط بأخرة [6] 34/ 38.

4 -

(عليّ بن الحكم) البُنَانيّ -بضمّ الموحّدة، وبنونين، الأولى خفيفة- أبو الحكم البصريّ، ثقة، ضعفه الأزديّ بلا حجة [5].

قَالَ أبو طالب، عن أحمد: ليس به بأس. وَقَالَ أبو حاتم: لا بأس به، صالح الْحَدِيث. وَقَالَ أبو داود، والنسائي: ثقة. وَقَالَ ابن سعد: هو بُنَاني، منْ أنفسهم، وكان ثقة، وله أحاديث، تُوفي سنة إحدى وثلاثين ومائة، وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: مات سنة (30) أو (31). وَقَالَ البخاريّ، فِي "التاريخ": مات سنة (35). ووثقه العجليّ، وأبو بكر البزار، وابن نمير، وغيرهم. وَقَالَ الدارقطني: ثقة، يُجمَع حديثه، وَقَالَ أبو الفتح الأزدي: زائغ عن القصد، فيه لين. روى له البخاريّ

(1)

، والأربعة، وله فِي هَذَا الكتاب حديثان فقط، هَذَا و (4673) حديث:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل".

5 -

(ميمون بن مِهران) الْجزريّ، أبو أيوب الفقيه نشأ بالكوفة، ثم نزل الرقة، ثقة فقيهٌ، ولي الجزيرة لعمر بن عبد العزيز، وكان يرسل [4].

روى عن عمر، والزبير مرسلاً، وعن أبي هريرة، وعائشة، وابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، وصفية بنت شيبة، وأم الدرداء، وسعيد بن جبير، ونافع مولى ابن عمر، ومقسم مولى ابن عباس، ويزيد بن الأصم، وغيرهم.

وروى عنه ابنه عمرو، وحميد الطويل، وأيوب، وجعفر بن برقان، وجعفر بن أبي وحشية، وحبيب بن الشهيد، وعلي بن الحكم البناني، والحكم بن عتيبة، وآخرون.

ذكره أبو عروبة فِي الطبقة الأولى منْ التابعين. قَالَ عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: ميمون بن مهران ثقة، أوثق منْ عكرمة، وذكره بخير، وَقَالَ العجليّ: جزري

(1)

قَالَ فِي "الزهرة": روى عنه البخاريّ حديثين. انتهى.

ص: 239

تابعيّ ثقة، وكان يحمل عَلَى علي. وَقَالَ أبو زرعة، والنسائي: ثقة. وَقَالَ ابن سعد: كَانَ ثقة قليل الْحَدِيث. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ ابن خراش: جليل. وَقَالَ سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبد الله: قَالَ ميمون بن مهران: كنت أفضل عليا عَلَى عثمان، فَقَالَ لي عمر بن عبد العزيز: أيهما أحب إليك، رجل أسرع فِي المال، أو رجل أسرع فِي كذا -يعني فِي الدماء- قَالَ: فرجعت، وقلت: لا أعود. وَقَالَ جعفر بن برقان: حدثنا ميمون بن مهران قَالَ: أتيت المدينة، فسألت عن أفقه أهلها، فدُفعت إلى سعيد بن المسيب، فجعلت أسأله، فَقَالَ: إنك تسأل مسألة رجل كأنه قد تبحر ما هاهنا قبل اليوم. وَقَالَ جعفر بن برقان، وفرات بن سليمان: كَانَ عمر بن عبد العزيز إذا نظر إلى ميمون بن مهران قَالَ: إذا ذهب هَذَا، وضَرْبُهُ صار النَّاس منْ بعده رِجْراجة

(1)

. وَقَالَ سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى: كَانَ علماء النَّاس فِي زمان هشام هؤلاء الأربعة، فذكر فيهم ميمون. وَقَالَ أبو المليح الرقي: ما رأيت أحدا أفضل منْ ميمون بن مهران. وَقَالَ الميموني عن أبيه: سمعت عمي عمرو بن ميمون يقول: ما كَانَ أبي يكثر الصلاة ولا الصيام، لكنه كَانَ يكره أن يعصي الله تعالى، وبه إلى ميمون أنه كَانَ يقول: وددت أن أصبعي قطعت منْ هنا، وإني لم أَلِ، فقلت: ولا لعمر؟ قَالَ: لا لعمر ولا لغيره. وَقَالَ يعلي بن عبيد، عن هارون البربري: كَانَ عَلَى خراج الجزيرة وقضائها لعمر بن عبد العزيز. وَقَالَ أبو المليح الرقي: قَالَ رجل لميمون بن مهران: يا أبا أيوب ما يزال النَّاس بخير ما أبقاك الله تعالى لهم، فَقَالَ له ميمون: أقبل عَلَى شأنك، فما يزال النَّاس بخير ما اتقوا ربهم. وَقَالَ أبو المليح: سمعت عبد الكريم يقول: لا علم لنا بكم يا أهل الرقة، منْ رأيناه منْ جانب ميمون، علمنا أنه مستقيم، ومن رأيناه يكره ناحيته، علمنا أنه يأخذ ناحية أخرى. وَقَالَ جعفر بن محمد بن نوح عن إبراهيم بن محمد السَّمَّري: صلى ميمون بن مهران فِي سبعة عشر يوما سبعة عشر ألف ركعة، فلما كَانَ اليوم الثامن عشر، انقطع فِي جوفه شيء فمات. قَالَ خليفة: مات سنة ست عشرة ومائة بالجزيرة، وَقَالَ الميموني عن أبيه وغير واحد: مات سنة سبع عشرة، وَقَالَ علي ابن معبد الرقي عن عبيد الله بن عمرو: ولد سنة سبع عشرة. وَقَدْ روى ابن السبكي فِي "كتاب الصحابة" عن عمرو بن ميمون بن مهران، عن أبيه، عن جده، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديثين. روى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، ومسلم، والأربعة، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.

(1)

قَالَ فِي "اللسان": الرجرجة -أي بكسر الراءين بينهما جيم ساكنة، والرجراجة: رُذال النَّاس، ورِعاعهم الذين لا عقول لهم. انتهى بتصرف.

ص: 240

و"سعيد بن جبير"، وابن عباس" تقدما قريبًا. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

منها: أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين غير مهران، فجزري، وسعيد بن جُبَير، فكوفي. (ومنها): أن فيه ثلاثة منْ التابعين يروي بعضهم عن بعض: علي بن الحكم، وميمون، وسعيد. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عن ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر) أي يوم غزوة خيبر (عن كل) وفي بعض النسخ، وهو الذي فِي "الكبرى":"عن أكل كل"(ذي مخلب) -بكسر الميم، وسكون الخاء المعجمة، وفتح اللام-: هو للطائر، والسبع، كالظفر للإنسان؛ منْ خَلَبتُ النباتَ خَلْبًا، منْ باب نصر: إذا قطعته، وسمّي به؛ لأن الطائر يَخْلِب الجلدَ: أي يقطعه، ويُمَزّقه. والْمِخلَب أيضاً: مِنْجَلٌ، لا أسنان له. أفاده الفيّوميّ. (منْ الطير) كالنّسر، والبازي، ونحوهما (وعن كل) وفي بعض النسخ، وهو الذي فِي "الكبرى" أيضاً: و"عن أكل كل"(ذي ناب) هي السنّ التي خلف الرَّبَاعِية، وهي أُنثى (منْ السباع) قَالَ فِي "شرح السنة": أراد بكل ذي ناب: ما يَعْدُو بنابه عَلَى النَّاس، وأموالهم، كالذئب، والأسد، والكلب، ونحوها، وأراد بذي مخلب: ما يَقطَع ويَشُقّ بِمِخلَبه، كالنسر، والصقر، والبازي، ونحوها

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّقق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -33/ 4350 - وفي "الكبرى" 38/ 4861. وأخرجه (م) فِي "الصيد" 4970 (د) فِي "الأطعمة" 3803 (ق) فِي "الصيد" 3234. والله تعالى أعلم. وفوائد الْحَدِيث، وبيان المذاهب، تقدّمت قبل أربعة أبواب، فراجعها تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

راجع "عون المعبود" 10/ 198.

ص: 241

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلتُ، وإليه أنيب".

‌34 - (بَابُ إِبَاحَةِ أَكْلِ الْعَصَافِيرِ)

4351 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِىءُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ صُهَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَامِرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَا مِنْ إِنْسَانٍ قَتَلَ عُصْفُورًا، فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا، إِلاَّ سَأَلَهُ اللَّهُ عز وجل عَنْهَا". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا حَقُّهَا؟ قَالَ: "يَذْبَحُهَا فَيَأْكُلُهَا، وَلَا يَقْطَعُ رَأْسَهَا يَرْمِي بِهَا").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِىءُ) المكيّ، ثقة [10] 11/ 11.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإِمام الحجة الثبت [8] 1/ 1.

3 -

(عمرو) بن دينار الجمحيّ المكيّ، ثقة ثبت [4] 112/ 154.

4 -

(صُهيب، مولى ابن عامر) الحذّاء، أبو موسى المكيّ، مقبول [4].

روى عن عبد الله بن عمرو. وعنه عمرو بن دينار، ذكره ابن حبّان فِي "الثقات".

وَقَالَ ابن القطّان: لا يُعرف. تفرّد به المصنّف بحديث الباب فقط، وسيُعيده فِي "الضحايا" -42/ 4447. والله تعالى أعلم.

5 -

(عبد الله بن عمرو) بن العاص رضي الله تعالى عنهما 89/ 111. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عن عبد الله بن عمرو) بن العاص رضي الله تعالى عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: ما) نافية (منْ) زائدة (إنسان قتل عصفورا) -بضم العين المهملة- طائر معروف، جمعه عَصافير (فما فوقها بغير حقها) أي بغير سبب يقضي قتلها، كإرادة الأكل، ونحوه (إلا سأله الله عز وجل عنها) أي سؤال توبيخ، وتقريع عن قتلها بغير حاجة (قيل يا رسول الله وما حقها؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (يذبحها فيأكلها) هَذَا محلّ الشاهد للترجمة، حيث أباح أكلها، قَالَ ابن قُدامة فِي "المغني" 13/ 327: وتباح العصافير كلّها. انتهى (ولا يقطع رأسها يرمى بها) المراد قتلها بلا حاجة.

ص: 242

والحديث ضعيف؛ لتفرّد صُهيب مولى ابن عامر، وهو مجهول، كما مرّ آنفاً، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -34/ 4351 وفي "الضحايا" 42/ 4447 - وفي "الكبرى" 38/ 4861 وفي "الضحايا" 43/ 4534. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلتُ، وإليه أنيب".

‌35 - (بَابُ مَيْتَةِ الْبَحْرِ)

4352 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فِي مَاءِ الْبَحْرِ: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحَلَالُ مَيْتَتُهُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

و"إسحاق بن منصور": هو الكَوْسج. و"عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. و"مالك": هو ابن أنس الإِمام. و"صفوان بن سُليم": هو أبو عبد الله المدنيّ، ثقة مُفتٍ، عابدٌ، رُمي بالقدر [4] 47/ 59. و"سعيد بن سلمة" -بفتحتين-: هو المخزوميّ المدنيّ، وثّقه النسائيّ [6] 47/ 59. و"المغيرة بن أبي بُرْدة": هو الحجازيّ الكنانيّ، وثقه النسائيّ أيضاً [3] 47/ 59.

وقوله: "الطهور ماؤه": بفتح الطاء: أي الطاهر المطهّر، وإنما لم يقل فِي الجواب: نعم، مع حصول المقصود به؛ ليقرُن الحكم بعلّته، وهو الطهوريّة المتناهية فِي بابها، ودفعًا لتوهّم حمل لفظ "نعم" عَلَى الجواز عَلَى سبيل الرخصة للضرورة، ولما يُفهم منْ الجواب بـ"نعم" منْ أنه إنما يُتوضّأ به فقط؛ لأنه المسؤول عنه، وفي إجابته بقوله:"الطهور ماؤه" بيان أن الطهوريّة وصف لازم له، غير قاصر عَلَى حالة الضرورة، وغير خاصّ يحدث دون حدث، بل يرفع كلّ حدث، وُيزيل كلّ خبث.

وقوله: "الحلال ميتته": وفي الرواية المتقدّمة فِي "الطهارة": "الحلّ ميتته". و"الميتة" بفتح الميم: ما مات منْ الحيوان بلا ذكاة. وإنما ترك العاطف بين الجملتين؛ لما بينهما منْ المناسبة فِي الحكم، والعطف يُشعر بالمغايرة.

والحديث صحيح، وتقدّم فِي "الطهارة" -47/ 59 - وسبق شرحه هناك مُستوفىً،

ص: 243

وكذا بيان مسائله، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4353 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: بَعَثَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ ثَلَاثُمِائَةٍ، نَحْمِلُ زَادَنَا عَلَى رِقَابِنَا، فَفَنِيَ زَادُنَا، حَتَّى كَانَ يَكُونُ لِلرَّجُلِ مِنَّا كُلَّ يَوْمٍ تَمْرَةٌ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَأَيْنَ تَقَعُ التَّمْرَةُ مِنَ الرَّجُلِ؟ قَالَ: لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَقَدْنَاهَا، فَأَتَيْنَا الْبَحْرَ، فَإِذَا بِحُوتٍ قَذَفَهُ الْبَحْرُ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به هو، وأبو داود، وهو مصّيصيّ صدوقٌ [10] 93/ 115. و"عبدة": هو ابن سليمان الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ الثقة الثبت. و"هشام": هو ابن عُروة المدنيّ الثقة الفقيه. و"وهب بن كيسان": هو القرشيّ مولاهم، أبو نُعيم المدنيّ المعلّم، ثقة، منْ كبار [4] 32/ 1592.

وقوله "نحمل زادنا الخ"، وفي رواية البخاريّ:"فخرجنا، فكنا ببعض الطريق، فني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد الجيش، فجُمع، فكان مزودي تمر"

(1)

، فكان يقوتنا

(2)

كل يوم قليلًا قليلًا حَتَّى فني، فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة".

قَالَ فِي "الفتح": ظاهر هَذَا السياق أنهم كَانَ لهم زاد بطريق العموم، وأزواد بطريق الخصوص، فلما فني الذي بطريق العموم، اقتضى رأى أبي عبيدة، أن يجمع الذي بطريق الخصوص؛ لقصد المساواة بينهم فِي ذلك، ففعل، فكان جميعه مزودا واحدا.

ووقع فِي الرواية الآتية آخر الباب منْ طريق أبي الزبير: "وزوّدنا جرابًا منْ تمر"، وعند مسلم:"بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمّر علينا أبا عبيدة، نتلقّي عيرًا لقريش، وزوّدنا جرابا منْ تمر، لم يجد لنا غيره، وكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة".

وظاهره مخالف لرواية الباب، ويمكن الجمع بأن الزاد العام، كَانَ قدر جراب، فلما نَفِد، وجمع أبو عبيدة الزاد الخاص، اتفق أنه أيضًا كَانَ قدر جراب، ويكون كل منْ الراويين، ذكر ما لم يذكره الآخر، وأما تفرقة ذلك تمرة تمرة، فكان فِي ثاني الحال.

وأما قول عياض: يحتمل أنه لم يكن فِي أزوادهم تمر غير الجراب المذكور، فمردود؛ لأن قوله: فأمر أبو عُبيدة بجمع الأزواد الخ، صريح فِي أن الذي اجتمع منْ أزوادهم، كَانَ مزود تمر، ورواية أبي الزبير صريحة فِي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، زوّدهم جرابا منْ

(1)

قوله: "فكان مزود تمر": المزود بكسر الميم وسكون الزاى: ما يجعل فيه الزاد.

(2)

قوله: "فكان يقوتنا" بفتح أوله، والتخفيف منْ الثلاثي، وبضمه والتشديد، منْ التقويت.

ص: 244

تمر، فصح أن التمر كَانَ معهم، منْ غير الجراب.

وأما قول غيره: يحتمل أن يكون تفرقته عليهم تمرة تمره، كَانَ منْ الجراب النبوي، قصدا لبركته، وكان يفرق عليهم منْ الأزواد التي جمعت، أكثر منْ ذلك، فبعيد منْ ظاهر السياق، بل فِي رواية هشام بن عروة، عند ابن عبد البرّ:"فقَلّت أزوادنا، حَتَّى ما كَانَ يصيب الرجل منا، إلا تمرة. قاله فِي "الفتح" 13/ 409.

وقوله: "فقيل له: يا أبا عبد الله، وأين تقع التمرة منْ الرجل؟ ". القائل هو وهب بن كيسان، كما بيّن فِي رواية أخرى. و"أبو عبد الله" كنية جابر رضي الله تعالى عنه.

وقوله: "لقد وجدنا فقدها" أي مؤثّرًا علينا، وعند مسلم منْ رواية رواية أبي الزبير:"فقلت: كيف كنتم تصنعون بها؟، قَالَ: نَمُصُّها كما يَمُص الصبي الثدي، ثم نشرب عليها الماء، فتكفينا يومنا إلى الليل".

والحديث متّفقٌ وسيأتي تمام شرحه، وبيان مسائله فِي الْحَدِيث الذي يليه، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4354 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرٍو، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثَلَاثَمِائَةِ رَاكِبٍ، أَمِيرُنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، نَرْصُدُ عِيرَ قُرَيْشٍ، فَأَقَمْنَا بِالسَّاحِلِ، فَأَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ، حَتَّى أَكَلْنَا الْخَبَطَ، قَالَ: فَأَلْقَى الْبَحْرُ دَابَّةً، يُقَالُ لَهَا: الْعَنْبَرُ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ، وَادَّهَنَّا مِنْ وَدَكِهِ، فَثَابَتْ أَجْسَامُنَا، وَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ، فَنَظَرَ إِلَى أَطْوَلِ جَمَلٍ، وَأَطْوَلِ رَجُلٍ فِي الْجَيْشِ، فَمَرَّ تَحْتَهُ، ثُمَّ جَاعُوا، فَنَحَرَ رَجُلٌ ثَلَاثَ جَزَائِرَ، ثُمَّ جَاعُوا، فَنَحَرَ رَجُلٌ ثَلَاثَ جَزَائِرَ، ثُمَّ جَاعُوا، فَنَحَرَ رَجُلٌ ثَلَاثَ جَزَائِرَ، ثُمَّ نَهَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: فَسَأَلْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟ "، قَالَ: فَأَخْرَجْنَا مِنْ عَيْنَيْهِ كَذَا وَكَذَا قُلَّةً مِنْ وَدَكٍ، وَنَزَلَ فِي حِجَاجِ عَيْنِهِ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ، وَكَانَ مَعَ أَبِي عُبَيْدَةَ جِرَابٌ، فِيهِ تَمْرٌ، فَكَانَ يُعْطِينَا الْقَبْضَةَ، ثُمَّ صَارَ إِلَى التَّمْرَةِ، فَلَمَّا فَقَدْنَاهَا وَجَدْنَا فَقْدَهَا").

رجال هَذَا الإسناد: أربعة:

1 -

(محمد بن منصور) الجَوّاز المكيّ المذكور قبل باب.

2 -

(سفيان) بن عُيينة المذكور فِي الباب الماضي.

3 -

(عمرو) بن دينار المذكور فِي الباب الماضي.

4 -

(جابر) بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما المذكور قبل بابين. والله تعالى أعلم.

ص: 245

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمكيين، وجابر رضي الله تعالى عنه سكن مكة. (ومنها): أنه منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو أعلى ما وقع له منْ الأسانيد، وهو (205) منْ رباعيات الكتاب. (ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله تعالى عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1540) منْ الأحاديث. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عن عمرو) بن دينار، أنه (قَالَ: سمعت جابرا) هو ابن عبد الله رضي الله تعالى عنهما (يقول بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة راكب) وفي رواية أبي الزبير الآتية آخر الباب: "ونحن ثلاثمائة وبضعة عشر"، ولا تعارض بينهما؛ إذ يمكن الجمع بأن منْ قَالَ: ثلاثمائة" ألغى الكسر، أو أن الثلاثمائة هو الجيش، والزائد غيرهم منْ الخدم ونحوهم. والله تعالى أعلم.

(أميرنا أبو عبيدة بن الجراح) هو عامر بن عبد الله بن الجرّاح بن هلال بن أُهيب بن ضَبّة بن الحارث بن فِهر القرشيّ الْفِهْريّ، أحد العشرة المبشرين بالجنّة، أسلم قديمًا، وشَهِد بدرًا، ومات شهيدًا بطاعون عمواس، سنة (18 هـ)، وله (58) سنة، تقدّمت ترجمته فِي 43/ 2233.

قَالَ فِي "الفتح": وفي رواية أبي حمزة الْخَوْلاني، عن جابر بن أبي عاصم، عند البخاريّ فِي "الأطعمة":"تأمّر علينا قيس بن سعد بن عبادة، عَلَى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمحفوظ ما اتفقت عليه روايات "الصحيحين" أنه أبو عبيدة، وكأنّ أحَدَ رواته ظَنَّ منْ صَنيع قيس بن سعد، فِي تلك الغزوة، ما صنع منْ نحو الإبل التي اشتراها، أنه كَانَ أمير السرية، وليس كذلك.

(نرصد عير قريش) بضم الصاد، يقال: رصدته رَصْدًا، منْ باب قتل: قعدت له عَلَى الطريق، والفاعل راصد، وربّما جُمع عَلَى رصد، مثلُ خادم وخَدَمٍ. قاله فِي "المصباح".

و"العِيرُ" -بالكسر-: الإبل تحمل الْمِيرة، ثم غلب عَلَى كلّ قافلة.

وَقَدْ ذكر ابن سعد وغيره: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعثهم، إلى حي منْ جُهينة بالْقَبَلِيّة -بفتح القاف، والموحدة- مما يلي ساحل البحر، بينهم وبين المدينة، خمس ليال، وأنهم انصرفوا، ولم يَلْقوا كيدا، وأن ذلك كَانَ فِي رَجَب، سنة ثمان، قَالَ الحافظ: وهذا لا يغاير ظاهره ما فِي "الصحيح"؛ لأنه يمكن الجمع بين كونهم، يتلقون عيرا لقريش،

ص: 246

ويَقصِدون حَيّا منْ جهينة، ويُقَوّى هَذَا الجمع ما عند مسلم، منْ طريق عبيد الله بن مِقْسَم، عن جابر، قَالَ: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعثا إلى أرض جهينة

"، فذكر هذه القصة، لكن تَلَقِّي عير قريش، ما يُتصوَّر أن يكون فِي الوقت الذي ذكره بن اسعد، فِي رَجَب، سنة ثمان؛ لأنهم كانوا حينئذ فِي الْهُدْنة، بل مُقتضَى ما فِي "الصحيح" أن تكون هذه السرية، فِي سنة ست، أو قبلها، قبل هدنة الحديبية، نعم يحتمل أن يكون تلقيهم للعير، ليس لمحاربتهم، بل لحفظهم منْ جهينة، ولهذا لم يقع فِي شيء منْ طرق الخبر، أنهم قاتدوا أحدًا، بل فيه أنهم أقاموا نصف شهر، أو أكثر فِي مكان واحد. فالله أعلم. انتهى

(1)

.

(فأقمنا بالساحل) أي ساحل البحر، قَالَ الفيّوميّ: الساحل: شاطىء البحر، والجمع سواحل. اهـ. وَقَالَ القرطبيّ: ساحل البحر، وسِيفه -بالكسر- وشطّه: كلّ ذلك بمعنى واحد. انتهى (فأصابنا جوع شديد حَتَّى أكلنا الخبط) -بفتح المعجمة، والموحدة، بعدها مهملة، هو وَرَقُ السَّلَم. فِي رواية أبي الزبير الآتية بعد حديث:"حَتَّى إن كنا لنَخْبط الْخَبَطَ بقسيّنا، ونسفّه، ثم نشرب عليه منْ الماء"، وفي رواية البخاريّ:"وكنا نضرب بعِصيّنا الخبط، ثم نَبُلّه بالماء، فنأكله"، قَالَ فِي "الفتح": وهذا يدل عَلَى أنه كَانَ يابسا، بخلاف ما جزم به الداودي، أنه كَانَ أخضر رَطْبًا.

(قَالَ فألقى البحر دابة، يقال لها: العنبر) وفي رواية أبي الزبير الآتية: "فأجزنا الساحل، فإذا دابةٌ مثلُ الكثيب، يقال له العنبر"، وفي رواية البخاريّ:"فإذا حوت، مثل الظَّرِب"، قَالَ فِي "الفتح": أما الحوت، فهو اسم جنس لجميع السمك. وقيل: هو مخصوص بما عَظُم منها، والظِّرِب -بفتح المعجمة المشالة- ووقع فِي بعض النسخ بالمعجمة الساقطة، حكاها ابن التين، والأول أصوب، وبكسر الراء، بعدها موحدة-: الجبل الصغير. وَقَالَ القَزَّاز: هو بسكون الراء، إذا كَانَ منبسطا، ليس بالعالي.

قَالَ أهل اللغة: العنبر سمكة بحرية كبيرة، يُتّخذ منْ جلدها التُّرْسة، ويقال: إن العنبر المشموم رَجِيع هذه الدابة. وَقَالَ ابن سيناء: بل المشموم، يخرج منْ البحر، وإنما يؤخذ منْ أجواف السمك، الذي يبتلعه. ونقل الماوردي، عن الشافعيّ، قَالَ: سمعت منْ يقول: رأيت العنبر نابتا فِي البحر، مُلتويا مثل عنق الشاة، وفي البحر دابة تأكله، وهو سُمّ لها، فيقتلها، فيقذفها، فيخرج العنبر منْ بطنها. وَقَالَ الأزهري: العنبر سمكة، تكون بالبحر الأعظم، يبلغ طولها خمسين ذراعا، يقال لها: بالة، وليست

(1)

"فتح" 8/ 408. "كتاب المغازي" رقم 4362.

ص: 247

بعربية. قَالَ الفرزدق [منْ الطويل]:

فَبِتْنَا كَأَنَّ الْعَنْبَرَ الْوَرْدَ بَيْنَنَا

وَبَالَةُ بَحْرٍ فَاؤُهَا قَدْ تَخَرَّمَا

أي قد تشقق. ووقع فِي رواية ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عند البخاريّ:"فألقى لنا البحر، حوتا ميتا".

واستدل به عَلَى جواز أكل ميتة السمك وسيأتي البحث فيه فِي المسائل، إن شاء الله تعالى.

(فأكلنا منه نصف شهر) وفي الرواية الماضية: "فأكلنا منه ثمانية عشر يومًا"، وفي الرواية التالية:"فأكلنا منه أيامًا"، وفي رواية أبي الزبير، عند البخاريّ:"فأقمنا عليها شهرا". ويجمع بين هَذَا الاختلاف، بأن الذي قَالَ:"ثمان عشرة" ضبط ما لم يضبطه غيره، وأن منْ قَالَ:"نصف شهر" ألغى الكسر الزائد، وهو ثلاثة أيام، ومن قَالَ:"شهرا" جبر الكسر، أو ضم بقية المدة، التي كانت قبل وجدانهم الحوت إليها. ورجح النوويّ رواية أبي الزبير؛ لما فيها منْ الزيادة. وَقَالَ ابن التين: إحدى الروايتين وَهَمٌ. انتهى. ووقع فِي رواية الحاكم: "اثنى عشر يوما"، وهي شاذة، وأشد منها شذوذا، رواية:"فأقمنا قبلها ثلاثة".

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الجمع الأول هو الذي رجحه الحافظ، وهو الراجح عندي. والله تعالى أعلم.

(وادّهنّا منْ ودكه) -بفتح الواو، والمهملة-: أي شحمه. وفي رواية أبي الزبير عند مسلم: "فلقد رأيتنا، نغترف منْ وَقْب عينه بالقِلال الدهنَ، ونقطع منه الْفِدَر، كالثور"، والوَقْبُ -بفتح الواو، وسكون القاف، بعدها موحدة-: هي النُّقْرة التي تكون فيها الحدَقَة، والفِدَر -بكسر الفاء، وفتح الدال- جمع فَدْرة -بفتح، ثم سكون-: وهي القطعة منْ اللحم، ومن غيره. وفي رواية أبي حمزة الخولاني:"فحملنا ما شئنا، منْ قديد، ووَدَك، فِي الأسقية، والغرائر".

(فثابت أجسامنا) بالثاء المثلّثة: أي رجعت إلى القوة، وفيه إشارة إلى أنهم أصابهم هُزالٌ منْ الجوع السابق.

(وأخذ أبو عبيدة) رضي الله تعالى عنه أي أمر بالأخذ، ففي رواية البخاريّ:"ثم أمر أبو عبيدة"(ضِلَعًا منْ أضلاعه)"الضلع" -بكسر الضاد المعجمة، وفتح اللام، وَقَدْ تسكّن، واحدة الأضلاع. وفي رواية البخاريّ:"ثم أمر أبو عبيدة بضلعين منْ أضلاعه، فنُصبا". قَالَ فِي "الفتح": كذا فيه، واستُشكِل؛ لأن الضلع مؤنثة، ويجاب بأن تأنيثه غير حقيقي، فيجرز فيه التذكير، انتهى.

ص: 248

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: أحسن منه تأويل النوويّ، حيث قَالَ: ووجه التذكير أنه أراد به العضو. انتهى.

(فنظر إلى أطول جمل وأطول رجل في الجيش فمر تحته) وفي رواية البخاريّ: "ثم أمر براحلة، فرُحلت، ثم مرّت تحتهما، فلم تصبهما"، وفي حديث عبادة بن الصامت، عند ابن إسحاق:"ثم أمر بأجسم بعير معنا، فحُمل عليه أجسم رجل منا، فخرج منْ تحتهما، وما مست رأسه".

قَالَ الحافظ: وهذا الرجل، لم أقف عَلَى اسمه، وأظنه قيس بن سعد بن عبادة، فإن له ذكرا فِي هذه الغزوة، كما ستراه بعدُ، وكان مشهورا بالطول، وقصته فِي ذلك مع معاوية، لَمّا أرسل إليه ملك الروم بالسراويل، معروفة، فذكرها المعافى الحريري فِي "الجليس"، وأبو الفرج الأصبهاني، وغيرهما، ومحصلها: أن أطول رجل منْ الروم، نَزَع له قيس بن سعد سراويله، فكان طول قامة الرومي، بحيث كَانَ طرفها عَلَى أنفه، وطرفها بالأرض، وعوتب قيس فِي نزع سراويله فِي المجلس، فأنشد [منْ الطويل]:

أَرَدتُّ لِكَيْمَا يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهَا

سَرَاوِيلُ قَيْسِ وَالْوُفُودُ شُهُودُ

وَأَنْ لا يَقُولُوا غَابَ قَيْسٌ وَهَذِهِ

سَرَاوِيلُ عَادِيٌّ نَمَتْهُ ثَمُودُ

ووقع فِي آخر "صحيح مسلم"، منْ طريق عبادة بن الوليد، أن عبادة بن الصامت، قَالَ: خرجت أنا وأبي، نطلب العلم، فذكر حديثا طويلًا، وفي آخره:"وشكا النَّاس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، فَقَالَ: "عسى الله أن يطعمكم"، فأتيا سِيف البحر، فزخر البحر زخرة، فألقى دابة، فأورينا عَلَى شِقّها النار، فاطّبخنا، واشتوينا، وأكلنا، وشبعنا، قَالَ جابر: فدخلت أنا وفلان وفلان، حَتَّى عدّ خمسة فِي حجاج عينها، وما يرانا أحد، حَتَّى خرجا، وأخذنا ضلعا منْ أضلاعها، فقوّسناه، ثم دعونا بأعظم رجل فِي الركب، وأعظم جمل فِي الركب، وأعظم كَفَل فِي الركب، فدخل تحته، ما يطأطأ رأسه". وظاهر سياقه أن ذلك وقع لهم فِي غزوة، مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكن يمكن حمل قوله:"فأتينا سيف البحر" عَلَى أنه معطوف عَلَى شيء محذوف، تقديره: فبعثنا النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي سفر، فأتينا

الخ، فيتحد مع القصة التي فِي حديث الباب. قاله فِي "الفتح".

(ثم جاعوا)"ثُمّ" هنا للترتيب الذكريّ؛ لأن نحو الرجل إنما كَانَ قبل أن يجدو العنبر، قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: القصّة هاهنا عَلَى غير ترتيبها، فكدمة "ثمّ" لتراخي الإخبار، وكذا الفاء فِي قوله:"فأخرجنا منْ عينيه الخ" لتعقيب الإخبار. والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

(1)

"شرح السنديّ" 7/ 237.

ص: 249

(فنحر رجل) هو قيس بن سعد بن عبادة رضي الله تعادى عنهما، وكان اشترى الْجُزُرَ منْ أعرابي جهني، كل جَزُور بوسق منْ تمر، يوفيه إياه بالمدينة (ثلاث جزائر) المراد به جمع جزور، قَالَ فِي "الفتح": وفيه نظر، فإن جزائر جمع جزيرة، والجزور إنما يجمع عَلَى جُزُر بضمتين، فلعله جمع الجمع. انتهى.

وَقَالَ الفيّوميّ: الْجَزُور منْ الإبل خاصّةً، يقع عَلَى الذكر والأنثى، والجمع جُزُر، مثلُ رَسُول ورُسُل، ويُجمع أيضًا عَلَى جُزُرَات، ثم عَلَى جزائر، ولفظ الجزُور أُنثى، يقال: رعت الجزور، وزاد الصغاني: وقيل: الجزور الناقة التي تُنْحَر. انتهى.

(ثم جاعوا فنحر رجل ثلاث جزائر ثم جاعوا فنحر رجل ثلاث جزائر ثم نهاه أبو عبيدة) وَقَالَ فِي "الفتح" 13/ 43 - : فلما رأى عمر ذلك، وكان فِي ذلك الجيش، سأل أبا عبيدة، أن ينهى قيسا عن النحر، فَعَزَم عليه أبو عبيدة، أن ينتهي عن ذلك، فأطاعه. ائتهى.

قَالَ فِي "الفتح": وَقَدْ اختلفوا فِي سبب نهى أبي عبيدة قيسا أن يستمر عَلَى إطعام الجيش، فقيل: لخشية أن تَفْنَى حمولتهم، وفيه نظر؛ لأن القصة أنه اشترى منْ غير العسكر. وقيل: لأنه كَانَ يستدين عَلَى ذمته، وليس له مال، فأراد الرفق به، وهذا أظهر. قاله فِي "الفتح". والله أعلم.

وفي رواية البخاريّ: "وكان عمرو -يعني ابن دينار- يقول: أخبرنا أبو صالح، أن قيس بن سعد قَالَ لأبيه: كنتُ فِي الجيش، فجاعوا، قَالَ: انحر، قَالَ: نحرتُ، ثم جاعوا، قَالَ: انحر، قَالَ: نحرتُ، قَالَ: ثم جاعوا، قَالَ: انحر، قَالَ: نحرت، ثم جاعوا، قَالَ: انحر، قَالَ: نُهِيتُ".

قَالَ فِي "الفتح": ما نصّه: وهذا صورته مرسل؛ لأن عمرو بن دينار لم يدرك زمان تحديث قيس لأبيه، لكنه فِي مسند الحميدي موصول، أخرجه أبو نعيم فِي "المستخرج" منْ طريقه، ولفظه: عن أبي صالح، عن قيس بن سعد بن عبادة، قَالَ: قلت لأبي: وكنت فِي ذلك الجيش، جيشِ الخبط، فأصاب النَّاس جوع، قَالَ لي: انحر، قلت: نحرت، فذكره، وفي آخره: قلت نهيتُ. وذكر الواقدي بإسناد له، أن قيس بن سعد، لَمّا رأى ما بالناس، قَالَ: منْ يشتري مني تمرا بالمدينة بجزور هنا، فَقَالَ له رجل منْ جهينة: منْ أنت؟، فانتسب له، فَقَالَ: عرفت نسبك، فابتاع منه خمس جزائر، بخمسة أوسق، وأشهد له نفرا منْ الصحابة، فامتغ عمر، لكون قيس لا مال له، فَقَالَ الأعرابيّ: ما كَانَ سعد لِيَجْنِيَ بابنه فِي أوسق تمر، فبلغ ذلك سعدا، فغضب، ووهب لقيس أربع حوائط، أقلها يُجَذّ خمسين وسقا. وزاد ابن خزيمة منْ طريق عمرو بن

ص: 250

الحارث، عن عمرو بن دينار، وَقَالَ فِي حديثه: لَمّا قدِموا ذكروا شأن قيس، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن الْجُود منْ شيمة أهل ذلك البيت"، وفي حديث الواقدي، أن أهل المدينة بلغهم الجهد الذي قد أصاب القوم، فَقَالَ سعد بن عبادة: إن يك قيس كما أعرف، فسينحر للقوم. انتهى.

(قَالَ سفيان) بن عُيينة، وهو موصولٌ بالإسناد السابق، وليس معلّقًا (قَالَ أبو الزبير) محمد بن مسلم (عن جابر) رضي الله تعالى عنه (فسألنا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "هل معكم منه شيء؟ ") زاد فِي رواية البخاريّ، منْ طريق ابن جريج، عن أبي الزبير:"فَأَتَاه بعضهم، فأكله". ووقع فِي رواية ابن السكن: "فأتاه بعضهم بعضو منه، فأكله"، قَالَ عياض: وهو الوجه. وفي رواية أحمد، منْ طريق ابن جريج التي أخرجها منه البخاريّ:"وكان معنا منه شيء، فأرسل به إليه بعض القوم، فأكل منه". ووقع فِي رواية أبي حمزة، عن جابر، عند ابن أبي عاصم، فِي "كتاب الأطعمة": فلما قدموا، ذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: لو نعلم أنا نُدركه، لم يروح، لأحببنا لو كَانَ عندنا منه"، وهذا لا يخالف رواية أبي الزبير؛ لأنه يحمل عَلَى أنه قَالَ ذلك؛ ازديادا منه بعد أن أحضروا له منه، ما ذكر، أو قَالَ ذلك قبل أن يُحضروا له منه، وكان الذي أحضروه معهم لم يروح، فأكل منه. ذكره فِي "الفتح"

(1)

.

(قَالَ) جابر رضي الله تعالى عنه (فأخرجنا منْ عينيه كذا وكذا قُلّة) بضم القاف، وتشديد اللام، قَالَ النوويّ: هي الجرّة الكبيرة التي يُقلّها الرجل بين يديه: أي يحملها. وَقَالَ الفيّوميّ: القلّة: إناء للعرب، كالجرّة، شِبْهُ الْحُبّ، والجمع قلالٌ، مثل بُرْمة وبِرَام، وربّما قيل: قُلَلٌ، مثلُ غُرْفة وغُرَف. انتهى (منْ ودك) بفتحين: دَسَمُ اللحم والشحم، وهو ما يَتَحَلَّب منْ ذلك. قاله الفيّوميّ (ونزل فِي حجاج عينه أربعة نفر) الْحِجَاج بكسر الحاء المهملة، وتُفتح: العظم المستدير حولَها، وهو مذكّرٌ، وجمعه أَحِجّة، وَقَالَ ابن الأنباريّ: الحِجَاج: العظم المشرف عَلَى غار العين. ذكره الفيّوميّ.

(وكان مع أبي عبيدة) رضي الله تعالى عنه (جراب) بكسر الجيم، قَالَ فِي "القاموس": الجِرَاب -أي بالكسر- ولا يُفتح، أو لُغيّة فيما حكاه النوويّ وعياض: الْمِزود، أو الوعاء، جمعه جُرُبٌ - بضمّتين، وجُرْبٌ بضم، فسكون، وأجربةٌ. انتهى (فيه تمر) هَذَا الجراب هو الذي زوّدهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما بيّنته الرواية الآتية بعد حديث: "وزوّدنا جرابًا منْ تمر

" (فكان يعطينا القبضة) وفي الرواية الآتية: "فأعطانا قبضةً قبضةً"، وهو بفتح القاف، وضمّها (ثم) لَمّا كاد ينفَدُ (صار إلى التمرة) أي إلى إعطائهم

(1)

"فتح" 8/ 407 - 412. "كتاب المغازي". رقم 4362.

ص: 251

التمرة (فلما فقدناها) أي بسبب نفادها (وجدنا فقدها) أي مؤثّرًا علينا.

وفي "صحيح البخاريّ" ج: 4 ص: 1585: "لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا قِبَلَ الساحل، وأمّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، وهم ثلاثمائة، فخرجنا، وكنا ببعض الطريق فَنِي الزادُ، فأمر أبو عبيدة بأزواد الجيش، فجُمع، فكان مِزودي تمر، فكان يَقُوتُنا كل يوم قليلا قليلا، حَتَّى فَنِي، فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة، فقلت: ما تغني عنكم تمرة؟ فَقَالَ: لقد وجدنا فقدها حين فنيت

".

قَالَ فِي "الفتح" ج: 8 ص: 79: "المزود" -بكسر الميم، وسكون الزاى-: ما يُجعل فيه الزاد. وقوله: "فكان يقوتنا" بفتح أوله، والتخفيف، منْ الثلاثي، وبضمه والتشديد، منْ التقويت. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -35/ 4353 و4354 و4355 و4356 - وفي "الكبرى" فِي "كتاب ما قذفه البحر" -1/ 4863 و4864 و4865 و4866. وأخرجه (خ) فِي "الشركة" 2483 و"الجهاد" 2983 و"المغازي" 4360 و4361 و"الذبائح" 5494 (م) فِي "الصيد" 4974 و4975 و4976 و4977 و4978 و4979 (ت) فِي "صفة القيامة" 2475 (ق) فِي "الزهد" 4159. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم ميتة البحر، وهو الحلّ، وذلك لتصريحه فِي الْحَدِيث يكون البحر ألقى حوتا ميتا، فأكلوا منه، ثم أكل النبيّ صلى الله عليه وسلم منه بعدهم، وبهذا تتم الدلالة، وإلا فمجرد أكل الصحابة منه، وهم فِي حالة المجاعة، قد يقال أنه للاضطرار، ولاسيما وفيه قول أبي عبيدة "ميتة"، ثم قَالَ:"لا تأكلوه، ثم قَالَ: جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله عز وجل، ونحن مضطرّون، كلوا باسم الله"، وحاصل قول أبي عبيدة: أنه بناه أوّلاً عَلَى عموم تحريم الميتة، ثم تذكر تخصيص المضطر بإباحة أكلها، إذا كَانَ غير باغ ولا عاد، وهم بهذه الصفة؛ لأنهم فِي سبيل الله، وفي طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ تبين منْ آخر الْحَدِيث، أن جهة كونها حلالا، ليست سبب الاضطرار، بل كونها منْ صيد البحر، ففي آخر الْحَدِيث أنهم لما

ص: 252

قدموا عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ذكروا له ذلك، فَقَالَ:"ذلك رزقٌ رزقكموه الله عز وجل، أمعكم منه شيء؟ "، فأتاه بعضهم بعضو، فأكله"، فتبين لهم أنه حلال مطلقا، وبالغ فِي البيان بأكله منها؛ لأنه لم يكن مضطرا. قاله فِي "الفتح" 13/ 43.

(ومنها): أن الجيوش لابدّ لها منْ أمير، يضبطها، وينقادون لأمره ونهيه، وأنه ينبغي أن يكون الأمير أفضلهم، أو منْ أفضلهم، وأنه يستحبّ للرفقة منْ النَّاس، وإن قلّوا أن يؤمّروا أحدهم عليهم، ويُطيعوه، وينقادو له، فقد أخرج البيهقيّ فِي "السنن الكبرى" منْ حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، مرفوعًا:"إذا كَانَ ثلاثةً فِي سفر، فليؤمّروا أحدهم"، وهو حديث صحيح. (ومنها): ما كَانَ عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم منْ الزهد فِي الدنيا، والتقلّل منها، والصبر عَلَى الجوع، وخشونة العيش، وإقدامهم عَلَى الغزو مع هَذَا الحال.

(ومنها): مشروعية المواساة بين الجيش، عند وقوع المجاعة. (ومنها): أن الاجتماع عَلَى الطعام، يستدعي البركة فيه. (ومنها): أنه يستحبّ للرفقة منْ المسافرين خلط أزوادهم؛ ليكون أبرك، وأحسن فِي العِشرة، وأن لا يختصّ بعضهم بأكل دون بعض، كما كَانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم يفعله فِي مواطن، وكما كَانَ الأشعريّون يفعلونه، وأثنى عليهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما هو فِي ثبت ذلك "الصحيح". (ومنها): أنه لا بأس بسؤال الإنسان منْ مال صاحبه ومتاعه؛ إدلالا عليه، وليس هو منْ السؤال المنهيّ عنه، إنما ذلك فِي حق الأجانب للتمول، ونحوه، وأما هذه فللمؤانسة، والملاطفة، والإدلال. (ومنها): أن فيه جوازَ الاجتهاد فِي الأحكام، فِي زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما يجوز بعده، وذلك لما فِي الرواية الآتية، منْ قول أبي عُبيدة رضي الله تعالى عنه بعد أَنْ نهاهم عن أكله، وَقَالَ: ميتة، لا تأكلوه، قَالَ: جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله عز وجل، ونحن مضطرّون، كلُوا باسم الله". (ومنها): أنه يستحب للمفتي أن يتعاطى بعض المباحات، التي يشك فيها المستفتي، إذا لم يكن فيه مشقة عَلَى المفتي، وكان فيه طُمأنينة للمستفتي. (ومنها): أن فيه إباحةَ ميتات البحر كلها، سواء فِي ذلك، ما مات بنفسه، أو باصطياد، وسيأتي تمام البحث فيه فِي المسألة التالية، إن شاء الله تعالى.

(ومنها): أنه يستفاد منْ قوله: "أكلنا منه نصف شهر"، جواز أكل اللحم، ولو أنتن؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قد أكل منه بعد ذلك، واللحم لا يبقى غالبا، بلا نتن فِي هذه المدة، لاسيما فِي الحجاز، مع شدة الحر، لكن يحتمل أن يكونوا ملَّحوه، وقَدَّدُوهُ، فلم يدخله نتن، وَقَدْ تقدم قريبا قول النوويّ أن النهي عن أكل اللحم، إذا أنتن للتنزيه، إلا إن خيف منه الضرر فيحرم، وهذا الجواب عَلَى مذهبه، ولكن المالكية حملوه عَلَى التحريم مطلقا، وهو الظاهر. ويأتي فِي الطافي نظير ما قاله فِي النتن، إذا خُشي منه الضرر. قاله

ص: 253

فِي "الفتح" 9/ 618.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي استظهره فِي "الفتح" منْ حمل النهي عَلَى التحريم، كما قَالَ المالكية، هو الحقّ عندي، كما تقدّم بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم صيد البحر

(1)

:

قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: قد أجمع المسلمون عَلَى إباحة السمك، قَالَ بعض أصحابنا: يحرم الضفدع؛ للحديث فِي النهى عن قتلها، قالوا: وفيما سوى ذلك ثلاثة أوجه: [أصحها]: يحلّ جميعه؛ لهذا الْحَدِيث. [والثانى]: لا يحل. [والثالث]: يحل ما له نظير مأكول فِي البر، دون ما لا يؤكل نظيره، فعلى هَذَا تؤكل خيل البحر، وغنمه، وظباؤه، دون كلبه، وخنزيره، وحماره، قَالَ: قَالَ أصحابنا: والحمار، وإن كَانَ فِي البر مأكول وغيره، ولكن الغالب غير المأكول، هَذَا تفصيل مذهبنا.

وممن قَالَ بإباحة جميع حيوانات البحر، إلا الضفدع: أبو بكر الصديق، وعمر، وعثمان، وابن عباس، رضي الله عنهم، وأباح مالك الضفدع، والجميع، وَقَالَ أبو حنيفة: لا يحل غير السمك، وأما السمك الطافىء، وهو الذي يموت فِي البحر، بلا سبب، فمذهبنا إباحته، وبه قَالَ جماهير العلماء، منْ الصحابة، فمن بعدهم، منهم: أبو بكر الصديق، وأبو أيوب، وعطاء، مكحول، والنخعي، ومالك، وأحمد، وأبو ثور، وداود، وغيرهم. وَقَالَ جابر بن عبد الله، وجابر بن زيد، وطاوس، وأبو حنيفة: لا يحل.

دليلنا قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} الآية [المائدة: 96]، قَالَ ابن عباس، والجمهور: صيده ما صدتموه، وطعامه ما قذفه، وبحديث جابر هَذَا، وبحديث:"هو الطهور ماؤه، الحل ميتته"، وهو حديث صحيح، وبأشياء مشهورة، غيرِ ما ذكرنا.

وأما الْحَدِيث المروي عن جابر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما ألقاه البحر، وجزر عنه، فكلوه، وما مات فيه، فطفا فلا تأكلوه"، فحديث ضعيفٌ باتفاف أئمة الْحَدِيث

(2)

، لا يجوز الاحتجاج به، لو لم يعارضه شيء، كيف وهو معارضٌ بما ذكرناه.

[فإن قيل]: لا حجة فِي حديث العنبر؛ لأنهم كانوا مضطرّين.

[قلنا]: الاحتجاج بأكل النبيّ صلى الله عليه وسلم منه فِي المدينة، منْ غير ضرورة. انتهى كلام

(1)

هذه المسألة تقدمت فِي: الطهارة" وإنما أعدتها هنا إيضاحًا لها حيث اختلف ترجيحي فِي الموضوعين كما سيأتي آخر المسألة.

(2)

سيأتي قريبًا فِي كلام الحافظ فِي "الفتح" بيان ضعفه، إن شاء الله تعالى.

ص: 254

النوويّ رحمه الله تعالى فِي شرح "صحيح مسلم" 13/ 86.

وَقَالَ فِي "الفتح" 13/ 43 - : ما حاصله: يستفاد منْ الْحَدِيث إباحة ميتة البحر، سواء مات بنفسه، أو مات بالاصطياد، وهو قول الجمهور، وعن الحنفية: يكره، وفرقوا بين ما لَفَظَه، فمات، وبين ما مات فيه، منْ غير آفة، وتمسّكوا بحديث أبي الزبير، عن جابر:"ما ألقاه البحر، أو جزر عنه، فكلوه، وما مات فيه فطفا، فلا تأكلوه"، أخرجه أبو داود، مرفوعًا، منْ رواية يحيى بن سليم الطائفي، عن أبي الزبير، عن جابر، ثم قَالَ: روى الثوري، وأيوب، وغيرهما عن أبي الزبير، هَذَا الْحَدِيث موقوفًا، وَقَدْ أسند منْ وجه ضعيف، عن ابن أبي ذئب، عن أبي الزبير، عن جابر، مرفوعًا، وَقَالَ الترمذي: سألت البخاريّ عنه؟، فَقَالَ: ليس بمحفوظ، ويُرْوَى عن جابر خلافه. انتهى، ويحيى بن سليم صدوق، وصفوه بسوء الحفظ، وَقَالَ النسائيّ: ليس بالقوي، وَقَالَ يعقوب بن سفيان: إذا حدث منْ كتابه، فحديثه حسن، وإذا حدث حفظا، يُعرَف وينكر. وَقَالَ أبو حازم: لم يكن بالحافظ، وَقَالَ ابن حبّان فِي "الثقات"، كَانَ يخطىء، وَقَدْ توبع عَلَى رفعه. وأخرجه الدارقطني، منْ رواية أبي أحمد الزبيري، عن الثوري، مرفوعًا، لكن قَالَ: خالفه وكيع وغيره، فوقفوه عن الثوري، وهو الصواب، وروي عن ابن أبي ذئب، وإسماعيل بن أمية، مرفوعًا، ولا يصح، والصحيح موقوف، وإذا لم يصح إلا موقوفًا، فقد عارضه قول أبي بكر وغيره، والقياس يقتضي حله؛ لأنه سمك لو مات فِي البر، لأكل بغير تذكية، ولو نضب عنه الماء، أو قتلته سمكة أخرى فمات، لأكل، فكذلك إذا مات، وهو فِي البحر.

وَقَالَ فِي "الفتح" أيضًا: ما حاصله: وفي الْحَدِيث جوازُ أكل حيوان البحر مطلقا؛ لأنه لم يكن عند الصحابة نص يخص العنبر، وَقَدْ أكلوا منه، كذا قَالَ بعضهم، ويخدُش فيه أنهم أوّلا إنما أقدموا عليه بطريق الاضطرار، ويجاب بأنهم أقدموا عليه مطلقا، منْ حيث كونه صيد البحر، ثم توقفوا منْ حيث كونه ميتة، فدل عَلَى إباحة الإقدام عَلَى أكل ما صيد منْ البحر، وبَيّن لهم الشارع آخرا أن ميتته أيضا حلال، ولم يفرق بين طاف ولا غيره.

واحتج بعض المالكية بأنهم أقاموا يأكلون منها أياما، فلو كانوا أكلوا منه عَلَى أنه ميتة، بطريق الاضطرار ما داوموا عليه؛ لأن المضطر، إذا أكل الميتة، يأكل منها بحسب الحاجة، ثم ينتقل لطلب المباح غيرها.

وجمع بعض العلماء بين مختلف الأخبار فِي ذلك، يحمل النهي عَلَى كراهة التنزيه، وما عدا ذلك عَلَى الجواز، ولا خلاف بين العلماء، فِي حل السمك عَلَى اختلاف

ص: 255

أنواعه، وإنما اختلف فيما كَانَ عَلَى صورة حيوان البر، كالآدمي، والكلب، والخنزير، والثعبان، فعند الحنفية، وهو قول الشافعية، يحرم ما عدا السمك، واحتجوا عليه بهذا الْحَدِيث، فإن الحوت المذكور، لا يسمى سمكا، وفيه نظر، فإن الخبر ورد فِي الحوت نصا.

وعن الشافعية الحل مطلقا، عَلَى الأصح المنصوص، وهو مذهب المالكية، إلا الخنزير فِي رواية، وحجتهم قوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} ، وحديث:"هو الطهور ماؤه، الحل ميتته"، أخرجه مالك، وأصحاب "السنن"، وصححه ابن خزيمة، وابن حبّان، وغيرهم. وعن الشافعية: ما يؤكل نظيره فِي البر حلال، وما لا فلا، واستثنوا عَلَى الأصح، ما يعيش فِي البحر والبر، وهو نوعان:

[النوع الأول]: ما ورد فِي منع أكله شيء يخصه، كالضفدع، وكذا استثناه أحمد؛ للنهي عن قتله، ورد ذلك منْ حديث عبد الرحمن بن عثمان التيمي، أخرجه أبو داود، والنسائي

(1)

، وصححه، والحاكم، وله شاهد منْ حديث ابن عمر، عند ابن أبي عاصم، وآخر عن عبد الله بن عمر، وأخرجه الطبراني، فِي "الأوسط"، وزاد:"فإن نقيقها تسبيح"، وذكر الأطباء أن الضفدع نوعان: بري، وبحري، فالبري يَقتُل آكله، والبحري يضره.

ومن المستثنى أيضًا: التمساح؛ لكونه يَعْدُو بنابه، وعند أحمد فيه رواية، ومثله القِرْش فِي البحر الملح، خلافا لما أفتي به المحب الطبري، والثعبان، والعقرب، والسرطان، والسلحفاة؛ للاستخباث، والضرر اللاحق، منْ السم، ودنيلس، قيل: إن أصله السرطان، فإن ثبت حرم.

[النوع الثاني]: ما لم يرد فيه مانع، فيحل، لكن بشرط التذكية، كالبط، وطير الماء. والله أعلم. انتهى ما فِي "الفتح" ج: 8 ص: 78.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن أرجح الأقوال هو القول بتعميم حل أكل حيوان البحر، إلا ما ورد نصّ صحيح بمنع أكله، وإلا ما ثبت عن ثقات الأطبّاء، أو التجربة ضرره، فيحرم، وَقَدْ كنت رجحت فِي "الطهارة" قول منْ خصّ الحلّ بالسمك، فقط؛ لحديث: "أُحلّت لنا ميتتان

"، فقد بيّن الميتة بأنهما السمك والجراد، ولكن الآن ترجّح عندي ما ذكرته؛ لقوة حديث قصة جيش أبي عبيدة رضي الله عنه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

يأتي للمصنف فِي الباب التالي.

ص: 256

(المسألة الخامسة): قَالَ فِي "الفتح" أيضًا 13/ 45 - : وقع فِي أواخر "صحيح مسلم" فِي الْحَدِيث الطويل، منْ طريق الوليد بن عبادة بن الصامت: أنهم دخلوا عَلَى جابر، فرأوه يصلي فِي ثوب

الْحَدِيث، وفيه قصة النخامة فِي المسجد، وفيه أنهم خرجوا فِي غزاة ببطن بُوَاط، وفيه قصة الحوض، وفيه قيام المأمومين خلف الإِمام، كل ذلك مُطوَّل، وفيه قَالَ: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قوت كل رجل منا تمرة، كل يوم، فكان يمصها، وكنا نختبط بقِسِيّنا، ونأكل، وسرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حَتَّى نزلنا واديًا أفيح، فذكر قصة الشجرتين اللتين التفّتا بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى تستر بهما عند قضاء الحاجة، وفيه قصة القبرين اللذين غَرَس فِي كل منهما غصنا، وفيه فأتينا العسكر، فَقَالَ: "يا جابر ناد الوضوء

"، فذكر القصة بطولها، فِي نبع الماء منْ بين أصابعه، وفيه: وشكا النَّاس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، فَقَالَ: "عسى الله أن يطعمكم"، فأتينا سِيف البحر، فزجر البحر زَجْرة، فألقى دابة، فأورينا عَلَى شِقِّها النار، فاطّبخنا، واشتوينا، وأكلنا، وشبعا، وذكر أنه دخل هو وجماعة فِي عينها، وذكر قصة الذي دخل تحت ضلعها، ما يُطأطيء رأسه، وهو أعظم رجل فِي الركب، عَلَى أعظم جمل، وظاهر سياق هذه القصة، يقتضي مغايرة القصة المذكورة فِي هَذَا الباب، وهي منْ رواية جابر أيضًا، حَتَّى قَالَ عبد الحق، فِي "الجمع بين الصحيحين": هذه واقعة أخرى غير تلك، فإن هذه كانت بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وما ذكره ليس بنص فِي ذلك؛ لاحتمال أن تكون الفاء فِي قول جابر، فأتينا سِيف البحر هي الفصيحة، وهي معقبة لمحذوف تقديره، فأرسلنا النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أبي عبيدة، فأتينا سيف البحر، فتتحد القصتان، قَالَ الحافظ: وهذا هو الراجح عندي، والأصل عدم التعدد، ومما ننبه عليه هنا أيضًا، أن الواقدي زعم أن قصة بعث أبي عبيدة، كانت فِي رَجَب سنة ثمان، وهو عندي خطأ؛ لأن فِي نفس الخبر الصحيح، أنهم خرجوا يترصدون عِير قريش، وقريش فِي سنة ثمان، كانوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي هدنة، قَالَ: وَقَدْ نبهت عَلَى ذلك فِي "المغازي"، وجوّزت أن يكون ذلك قبل الهدنة فِي سنة ست، أو قبلها، ثم ظهر لي الآن تقوية ذلك، بقول جابر، فِي رواية مسلم هذه: إنهم خرجوا فِي غَزاة بُواط، وغزاة بواط كانت فِي السنة الثانية منْ الهجرة، قبل وقعة بدر، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج فِي مائين منْ أصحابه، يعترض عيرا لقريش، فيها أمية بن خلف، فبلغ بواطا، وهي بضم الموحدة، جبال لجهينة، مما يلي الشام، بينها وبين المدينة أربعة بُرُد، فلم يلق أحدا، فرجع، فكأنه أفرد أبا عبيدة، فيمن معه يرصُدون العير المذكورة، ويؤيد تقدم أمرها، ما ذُكر فيها منْ القِلّة والجهد، والواقع إنهم فِي سنة ثمان، كَانَ حالهم اتسع، بفتح خيبر وغيرها، والجهد المذكور فِي القصة، يناسب ابتداء

ص: 257

الأمر، فيرجح ما ذكرته. والله أعلم. انتهى. كلام الحافظ رحمه الله تعالى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي فِي دعوى اتّحاد قصّتي جابر رضي الله تعالى عنه هاتين نظرٌ؛ بل الذي يظهر لي هو ما قاله عبد الحقّ رحمه الله تعالى منْ تغاير الواقعتين كما يدلّ عليه سياقهما، والجمع الذي ذكره الحافظ لا يخفى ما فيه منْ التكلّف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4355 -

(أَخْبَرَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: بَعَثَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي سَرِيَّةٍ، فَنَفِدَ زَادُنَا، فَمَرَرْنَا بِحُوتٍ قَدْ قَذَفَ بِهِ الْبَحْرُ، فَأَرَدْنَا أَنْ نَأْكُلَ مِنْهُ، فَنَهَانَا أَبُو عُبَيْدَةَ، ثُمَّ قَالَ: نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ، كُلُوا، فَأَكَلْنَا مِنْهُ أَيَّامًا، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرْنَاهُ، فَقَالَ: "إِنْ كَانَ بَقِيَ مَعَكُمْ شَيْءٌ، فَابْعَثُوا بِهِ إِلَيْنَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة، و"زياد بن أيوب": هو دلّويه. و"هُشيم": هو ابن بشِير. والسند منْ رباعيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (206) منْ راباعيات الكتاب.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق تمام البحث فيه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4356 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُقَدَّمٍ الْمُقَدَّمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَنَحْنُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ، وَزَوَّدَنَا جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ، فَأَعْطَانَا قَبْضَةً قَبْضَةً، فَلَمَّا أَنْ جُزْنَاهُ أَعْطَانَا تَمْرَةً تَمْرَةً، حَتَّى إِنْ كُنَّا لَنَمُصُّهَا كَمَا يَمُصُّ الصَّبِيُّ، وَنَشْرَبُ عَلَيْهَا الْمَاءَ، فَلَمَّا فَقَدْنَاهَا وَجَدْنَا فَقْدَهَا، حَتَّى إِنْ كُنَّا لَنَخْبِطُ الْخَبَطَ بِقِسِيِّنَا، وَنَسَفُّهُ، ثُمَّ نَشْرَبُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ، حَتَّى سُمِّينَا جَيْشَ الْخَبَطِ، ثُمَّ أَجَزْنَا السَّاحِلَ، فَإِذَا دَابَّةٌ مِثْلُ الْكَثِيبِ، يُقَالُ لَهُ: الْعَنْبَرُ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَيْتَةٌ لَا تَأْكُلُوهُ، ثُمَّ قَالَ: جَيْشُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل، وَنَحْنُ مُضْطَرُّونَ، كُلُوا بِاسْمِ اللَّهِ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ، وَجَعَلْنَا مِنْهُ وَشِيقَةً، وَلَقَدْ جَلَسَ فِي مَوْضِعِ عَيْنِهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً، قَالَ: فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ، فَرَحَلَ بِهِ أَجْسَمَ بَعِيرٍ مِنْ أَبَاعِرِ الْقَوْمِ، فَأَجَازَ تَحْتَهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَا حَبَسَكُمْ؟ "، قُلْنَا: كُنَّا نَتَّبِعُ عِيرَاتِ قُرَيْشٍ، وَذَكَرْنَا لَهُ مِنْ أَمْرِ الدَّابَّةِ، فَقَالَ: "ذَاكَ رِزْقٌ رَزَقَكُمُوهُ اللَّهُ عز وجل، أَمَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟ "، قَالَ: قُلْنَا: نَعَمْ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه محمد بن عمر بن عليّ، فإنه منْ رجال الأربعة، وهو بصريّ، صدوقٌ، منْ صغار

ص: 258

[10]

23/ 808. و"معاذ بن هشام": هو الدستوائيّ البصريّ، وَقَدْ سكن اليمن، صدوقٌ، ربّما وهِم [9] 30/ 34. و"أبوه": هو هشام بن أبي عبد الله/ سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت، رمي بالقدر، منْ كبار [8] 30/ 34.

وقوله: "فَقَالَ أبو عبيدة: لا تأكلوه، ثم قَالَ: جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم الخ.

معناه: أن أبا عبيدة رضي الله عنه، قَالَ أوّلا باجتهاده: إن هَذَا ميتة، والميتة حرام، فلا يحل لكم أكلها، ثم تغير اجتهاده، فَقَالَ: بل هو حلال لكم، وإن كَانَ ميتة؛ لأنكم فِي سبيل الله، وَقَدْ اضطررتم، وَقَدْ أباح الله تعالى الميتة، لمن كَانَ مضطرّا، غير باغ ولا عاد، فكلوا، فأكلوا منه، وأما طلب النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ لحمه، وأكله ذلك، فإنما أراد به المبالغة، فِي تطيب نفوسهم فِي حله، وأنه لا شك فِي إباحته، وأنه يرتضيه لنفسه، أو أنه قصد التبرك به؛ لكونه طعمة منْ الله تعالى، خارقة للعادة، أكرمهم الله بها.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق تمام البحث فيه فِي الْحَدِيث الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌36 - (بَابُ الضِّفْدِع)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الضّفْدِع" -بكسرتين: الذكر، و"الضّفدِعة" الأنثى، ومنهم منْ يفتح الدال، وأنكره الخليل، وجماعةٌ، وقالوا: الكلام فيها كسر الدال، والجمع الضفادع، وربّما قالوا: الضفادي عَلَى البدل، كما قالوا: الأراني فِي الأرانب عَلَى البدل. انتهى.

وَقَالَ فِي "القاموس": "الضِّفْدِع" كزِبْرِجٍ، وجعفَر، وجُنْدَبٍ، ودِرْهَمٍ، وهذا أقلّ، أو مر دود: دابّة نهريّةٌ، ولحمها مطبوخًا بزيت وملح، تِرْياقٌ للَّهوامّ، وبَرّيّةٌ، وشحمها عجيبٌ لقَلْع الأسنان، الواحدة بهاء، جمعه ضَفَادع، وضَفَادي. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.

4357 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ، أَنَّ طَبِيبًا ذَكَرَ ضِفْدَعًا فِي دَوَاءٍ، عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِهِ).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد البغلاني، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

ص: 259

2 -

(ابن أبي فُديك) هو محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فُديك المدنيّ، صدوقٌ، منْ صغار [8] 51/ 962.

3 -

(ابن أبي ذئب) هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب المدنيّ الثقة الفقيه الفاضل [7] 41/ 685.

4 -

(سعيد بن خالد) بن عبد الله بن قارظ: هو الكنانيّ المدنيّ، صدوقٌ [3] 74/ 2569.

5 -

(سعيد بن المسيب) بن حزن المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت منْ كبار [3] 9/ 9.

6 -

(عبد الرحمن بن عثمان) بن عُبيد الله التيميّ ابن أخي طلحة بن عبيد الله، صحابيّ، قُتل مع ابن الزبير رضي الله تعالى عنهم، تقدّمت ترجمته فِي -78/ 2817. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير سعيد بن خالد، فتفرد به هو، وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغلاني (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عن عبد الرحمن بن عثمان) بن عُبيد الله التيميّ رضي الله تعالى عنه (أن طبيبا ذكر ضفدعا فِي دواء) أي سأل عن حكم ضفدع يجعلها فِي داوء، أي مركّبة مع غيرها منْ الأدوية (عند رسول الله صلى الله عليه وسلم) ولفظ أبي داود: "أن طبيبًا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ضفدع، يجعلها فِي دواء

" (فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله) أي عن قتل الضفدع؛ لأن التداوي بها يتوقف عَلَى القتل، فإذا حرم القتل، حرم التداوي بها أيضًا، وذلك إما لأنه نجس، وإما لأنه مستقذر.

قَالَ الخطابي رحمه الله تعالى: فِي هَذَا دليل عَلَى أن الضفدع مُحَرَّم الأكل، وأنه غير داخل فيما أبيح منْ دواب الماء، وكل منهي عن قتله منْ الحيوان، فإنما هو لأحد أمرين: إما لحرمة فِي نفسه، كالآدمي، وإما لتحريم لحمه، كالصرد، والهدهد، ونحوهما، وإذا كَانَ الضفدع ليس بمحرم، كالآدمي، كَانَ النهي فيه منصرفا إلى الوجه الآخر، وَقَدْ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذبح الحيوان، إلا لمأكله. انتهى. ذكره فِي "عون المعبود" ج: 10 ص: 252. والله تعالى أعلم بالصواب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 260

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبد الرحمن بن عثمان رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -36/ 4357 - وفي "الكبرى" 2/ 4867. وأخرجه (د) فِي "الطبّ" 3871 و"الأدب" 5269. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): ظاهر صنيع المصنّف رحمه الله تعالى تحريم أكل الضفدع؛ استدلالًا بحديث الباب، ووجه ذلك كونه صلى الله عليه وسلم نهى عن قتلها؛ للتداوي بها، قَالَ العلّامة الشوكانيّ رحمه الله تعالى: فِي "نيل الأوطار" 8/ 297 عند قول صاحب "المنتقى": "باب ما استفيد تحريمه منْ الأمر بقتله، أو النهي عن قتله": ما نصّه: وتبويب المصنّف فِي هَذَا الباب، فيه إشارة إلى أن الأمر بالقتل، والنهي عنه، منْ أصول التحريم، قَالَ المهدي فِي "البحر": أصول التحريم، إما نص الكتاب، أو السنة، أو الأمر بقتله، كالخمسة -يعني قوله:"خمس فواسق يُقتلن الخ"- وما ضرّ منْ غيرها، فمقيس عليها، أو النهي عن قتله، كالهدهد، والخطاف، والنحلة، والنملة، والصُّرَد، أو استخباث العرب إياه، كالخنفساء، والضفدع، والعَظَاية، والوزغ، والحرباء، والجعلان، وكالذباب، والبعوض، والزنبور، والقمل، والكتان، والنامس، والبَقّ، والبرغوث؛ لقوله تعالى:{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]، وهي مستخبثة عندهم، والقرآن نزل بلغتهم، فكان استخباثهم طريق تحريم، فإن استخبثه البعض اعتبر الأكثر، والعبرة باستطابة أهل السَّعَة، لا ذوي الفاقة. انتهى.

والحاصل أن الآيات القرآنية، والأحاديث الصحيحة المذكورة، فِي أول الكتاب وغيرها، قد دلت عَلَى أن الأصل الحل، وأن التحريم لا يثبت، إلا إذا ثبت الناقل عن الأصل المعلوم، وهو أحد الأمور المذكورة، فلما لم يرد فيه ناقل صحيح، فالحكم بحله هو الحق، كائنا ما كَانَ، وكذلك إذا حصل التردد، فالمتوجه الحكم بالحل؛ لأن الناقل غير موجود، مع التردد، ومما يؤيد أصالة الحل بالأدلة الخاصة، استصحاب البراءة الأصلية. انتهى. كلام الشوكاني رحمه الله تعالى. فِي "نيل الأوطار": 8/ 298.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا التفصيل الذي ذكره الشوكانيّ رحمه الله تعالى تفصيلٌ حسنٌ جدًّا.

ومنه يُعلم أن الضفدع إن كَانَ مستخبثًا عند العرب، كما ذكره المهديّ آنفًا، أو ثبت ضرره منْ طريق الأطبّاء الثقات حرُم، وإلا بقي عَلَى أصل الحلّ، لكن حديث الباب

ص: 261

يرجّح تحريمه، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم نهاه عن قتله، مع أن السائل له حاجة إلى استعماله فِي الدواء، فدلّ عَلَى أنه لا يجوز الانتفاع به؛ إما لكونه مستخبثا، أو ذا ضرر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌37 - (الْجَرَادُ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قَالَ فِي "لسان العرب" جـ 3 ص 117 - 118:

"الجراد" معروفٌ، الواحدة جرادة، تقع عَلَى الذكر والأنثى، قَالَ الجوهريّ: وليس الجراد بذكر للجرادة، وإنما هو اسم للجنس، كالبقر والبقرة، والتمر والتمرة، والحمام والحمامة، وما أشبه ذلك، فحقّ مذكّره أن لا يكون مؤنّثه منْ لفظه؛ لئلا يلتبس الواحد المذكّر بالجمع. قَالَ أبو عبيد: قيل: هو سِرْوةٌ، ثم دَبَى، ثم غَوْغَاءُ، ثم خَيْفَانُ، ثم كُتْفان، ثم جَرَادٌ. وقيل: الجراد الذكر، والجرادة الأنثى، ومن كلامهم: رأيت جرادًا عَلَى جرادة، كقولهم: رأيت نَعامةً عَلَى نعامة. قَالَ الفارسيّ: وذلك موضوعٌ عَلَى ما يُحافظون عليه، ويتركون غيره بالغالب إليه، منْ إلزام المؤنّث العلامة المشعِرة بالتأنيث، وإن كَانَ أيضًا غير ذلك منْ كلامهم واسعًا كثيرًا، يعني المؤنّث الذي لا علامة فيه، كالعبن، والقدر، والعَنَاق، والمذكّر الذي فيه علامة التأنيث، كالحمامة، والحية. قَالَ أبو حنيفة: قَالَ الأصمعيّ: إذا اصفَرَّتِ الذكور، واسودّت الإناث، ذهبت عنه الأسماء، إلا الجراد، يعني أنه اسمٌ، لا يُفارقها. وذهب أبو عبيد فِي الجراد إلى أنه آخر أسمائه، كما تقدّم. وَقَالَ أعرابيّ: تركت جرادًا، كأنه نعامة جاثمة. انتهى.

وَقَالَ فِي "الفتح": "الجراد" -بفتح الجيم، وتخفيف الراء-: معروف، والواحدة جرادة، والذكر والأنثى سواء، كالحمامة، ويقال: إنه مشتق منْ الجرد؛ لأنه لا ينزل عَلَى شيء، إلا جرده، وخِلْقَهُ الجراد عجيبة، فيها عشرة منْ الحيوان، ذكر بعضها بن الشَّهْرَزُوري، فِي قوله [منْ الطويل]:

لَهَا فَخِذَا بَكْرٍ وَسَاقَا نَعَامَةٍ

وَقَادِمَتَا نَسْرٍ وَجُؤجُؤُ ضَيْغَمِ

حَبَّتْهَا أَفَاعِي الرَّمْلِ بَطْنًا وَأَنْعَمَتْ

عَلَيْهَا جِيَادُ الْخَيْلِ بِالرَّأْسِ وَالْفَمِ

ص: 262

قيل: وفاته عين الفيل، وعنق الثور، وقرن الأَيِّل، وذنب الحية، وهو صنفان: طَيّارٌ، ووَثّابٌ، ويبيض فِي الصخر، فيتركه حَتَّى يَيْبَسَ، وينتشر، فلا يمرّ بزرع، إلا اجتاحه: واختلف فِي أصله، فقيل: إنه نثرة حوت، فلذلك كَانَ أكله بغير ذكاة، وهذا ورد فِي حديث ضعيف، أخرجه ابن ماجه، عن أنس رضي الله تعالى عنه، رفعه:"إن الجراد نثرةُ حوت منْ البحر"، ومن حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه:"خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فِي حجّ، أو عمرة، فاستقبلنا رِجْلٌ، منْ جراد، فجعلنا نضرب بنعالنا، وأسواطنا، فَقَالَ: كلوه، فإنه منْ صيد البحر"، أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وسنده ضعيف، ولو صحّ لكان فيه حجة، لمن قَالَ: لا جزاء فيه، إذا قتله المحرم، وجمهور العلماء عَلَى خلافه. قَالَ ابن المنذر رحمه الله تعالى: لم يقل لا جزاء فيه غيرُ أبي سعيد الخدريّ، وعروة بن الزبير، واختلف عن كعب الأحبار، وإذا ثبت فيه الجزاء، دلّ عَلَى أنه بَرّيّ.

وَقَدْ أجمع العلماء عَلَى جواز أكله، بغير تذكية، إلا أن المشهور عند المالكية اشتراط تذكيته، واختلفوا فِي صفتها، فقيل: بقطع رأسه، وقيل: إن وقع فِي قِدْر، أو نار حَلّ، وَقَالَ ابن وهب: أخذُهُ ذكاته، ووافق مُطَرّف منهم الجمهور، فِي أنه لا يفتقر إلى ذكاته؛ لحديث ابن عمر:"أُحِلّت لنا ميتتان، ودمان: السمك، والجراد، والكبد، والطحال"، أخرجه أحمد، والدارقطني، مرفوعًا، وَقَالَ: إن الموقوف أصح، ورجح البيهقي أيضا الموقوف، إلا أنه قَالَ: إن له حكمَ الرفع. قاله فِي "الفتح" جـ 11 ص 46. والله تعالى أعلم بالصواب.

4358 -

(أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ سُفْيَانَ -وَهُوَ ابْنُ حَبِيبٍ- عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ، سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتٍ، فَكُنَّا نَأْكُلُ الْجَرَادَ).

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(حميد بن مسعدة) الساميّ الباهليّ البصريّ، صدوقٌ [10] 5/ 5.

2 -

(سفيان بن حبيب) البزّاز البصريّ، ثقة [9] 67/ 82.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت البصريّ [7] 24/ 27.

4 -

(أبو يعفور) -بفتح التحتانية، وسكون المهملة، وضمّ الفاء- اسمه: وَقْدَان -بفتح الواو، وسكون القاف- العبديّ الكوفيّ، مشهور بكنيته، وهو الأكبر، ويقال: اسمه واقد، ثقة [4] 91/ 132.

وَقَالَ فِي "الفتح": -5176 "أبو يعفور" -بفتح التحتانية، وسكون المهملة، وضم

ص: 263

الفاء- هو العبديّ، واسمه وقدان، وقيل: واقد، وَقَالَ: مسلم اسمه واقد، ولقبه وقدان، وهو الأكبر، وأبو يعفور الأصغر: اسمه عبد الرحمن بن عُبيد، وكلاهما ثقة، منْ أهل الكوفة، وليس للأكبر فِي البخاريّ، سوى هَذَا الْحَدِيث، وآخر تقدم فِي "الصلاة"، فِي أبواب الركوع، منْ صفة الصلاة، وَقَدْ ذكرت كلام النوويّ فيه، وجزمه بأنه الأصغر، وأن الصواب أنه الأكبر، وبذلك جزم الكلاباذي، وغيره، والنووي تبع فِي ذلك ابن العربي، وغيره، والذي يُرجّح كلام الكلاباذي، جزم الترمذي بعد تخريجه، بأن راوي حديث الجراد، هو الذي اسمه واقد، ويقال: وقدان، وهذا هو الأكبر، ويؤيده أيضا: أن ابن أبي حاتم، جزم فِي ترجمة الأصغر، بأنه لم يسمع منْ عبد الله بن أبي أوفى. انتهى.

5 -

(عبد الله بن أبي أوفى) علقمة بن خالد رضي الله تعالى عنه، تقدّم قبل خمسة أبواب -31/ 4341 - والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير سفيان بن حبيب، فإنه منْ رجال الأربعة، وهو ثقة. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى أبي يعفور، وهو والصحابيّ كوفيّان. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عن أبي يعفور) وقدان، ويقال: واقد أنه (سمع عبد الله بن أبي أوفى) علقمة بن خالد رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع عزوات) وفي الرواية التالية: "ستّ غزوات"، وفي رواية البخاريّ:"سبع غزوات، أو ستًا" بالشكّ، قَالَ فِي "الفتح": وهذا الشك فِي عدد الغزوات، منْ شعبة، وَقَدْ أخرجه مسلم، منْ رواية شعبة بالشك أيضا، والنسائي منْ روايته بلفظ الست، منْ غير شك، والترمذيّ، منْ طريق غندر، عن شعبة، فَقَالَ:"غزوات"، ولم يذكر عددا.

(فكنا نأكل الجراد) وفي رواية البخاريّ: "فكنّا نأكل معه الجراد"، فَقَالَ فِي "الفتح": يحتمل أن يريد بالمعية مجرد الغزو، دون ما تبعه منْ أكل الجراد. ويحتمل أن يريد مع أكله، ويدل عَلَى الثاني، أنه وقع فِي رواية أبي نعيم فِي "الطب":"ويأكل معنا".

قَالَ الحافظ: رحمه الله تعالى: وهذا إن صحّ، يرد عَلَى الصيمري، منْ الشافعية، فِي زعمه أنه صلى الله عليه وسلم، عافه كما عاف الضب. ثم وقفت عَلَى مستند الصيمري، وهو ما

ص: 264

أخرجه أبو داود، منْ حديث سلمان رضي الله تعالى عنه، سئل صلى الله عليه وسلم عن الجراد؟، فَقَالَ:"لا آكله، ولا أحرمه"، والصواب مرسل، ولابن عدي فِي ترجمة ثابت بن زهير، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنه صلى الله عليه وسلم، سئل عن الضب، فَقَالَ:"لا آكله، ولا أحرمه"، وسئل عن الجراد، فَقَالَ: مثل ذلك. وهذا ليس ثابتا؛ لأن ثابتا، قَالَ فيه النسائيّ: ليس بثقة.

ونقل النوويّ الإجماع عَلَى حل أكل الجراد، لكن فصّل ابن العربي فِي "شرح الترمذي" بين جراد الحجاز، وجراد الأندلس، فَقَالَ فِي جراد الأندلس: لا يؤكل؛ لأنه ضرر محض، وهذا إن ثبت أنه يضر أكله، بأن يكون فيه سمية تخصه، دون غيره منْ جراد البلاد، تعين استثناؤه. والله أعلم. انتهى "فتح": 9/ 622. والله تعالى أعلم بالصواب، وإاليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -37/ 4358 و4359 - وفي "الكبرى" 3/ 4868 و4869. وأخرجه (خ) فِي "الذبائح والصيد" 5495 (م) فِي "الصيد والذبائح" 5019 و5020 و5021 (د) فِي "الأطعمة" 3812 (ت) فِي "الأطعمة" 1821. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4359 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ سُفْيَانَ -وَهُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ- عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى عَنْ قَتْلِ الْجَرَادِ؟ فَقَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سِتَّ غَزَوَاتٍ، نَأْكُلُ الْجَرَادَ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلّهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

وقوله: "ست غزوات" كذا هو فِي رواية ابن عيينة، وَقَدْ تقدّم فِي رواية شعبة بالشكّ، ورواه الثوري، فجزم بسبع غزوات، فقد أخرجه الدارمي، عن محمد بن يوسف، الفريابي، عن سفيان الثوري، ولفظه:"غزونا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، نأكل الجراد"، وكذا أخرجه الترمذي، منْ وجه آخر، عن الثوري، وأفاد أن سفيان بن عيينة، روى هَذَا الْحَدِيث أيضا، عن أبي يعفور، لكن قَالَ:"ست غزوات". وكذا أخرجه أحمد بن حنبل، عن ابن عيينة، جازما بالست.

ص: 265

قَالَ الحافظ: ودلت رواية شعبة عَلَى أن شيخهم، كَانَ يشك، فيُحمَلُ عَلَى أنه جزم مرة بالسبع، ثم لما طرأ عليه الشك، صار يجزم بالست؛ لأنه المتيَقَّن، ويؤيد هَذَا الحمل أن سماع سفيان بن عيينة عنه متأخر، دون الثوري، ومن ذكر معه. انتهى.

والحديث متَّفقٌ عليه، كما سبق بيانه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌38 - (قَتْلُ النَّمْلِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قَالَ في "القاموس": "النَّمْل": معروف، واحدته نَمْلة، وَقَدْ تُضمّ الميم، جمعه نِمَالٌ، وأرضٌ نَمِلَةٌ، كزَنِخَةٍ: كثيرتها. انتهى.

وَقَالَ فِي "اللسان": النمل معروفٌ، واحدته نملة، ونَمُلَة -أي بضم الميم-، وَقَدْ قرىء به، فعلّله الفارسيّ بأن أصل نمْلَة نَمُلةٌ، ثم وقع التخفيف، وغَلَب. وقوله تعالى:{قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} جاء لفظ "ادخلوا" فِي النمل، وهي لا تعقل، كلفظ ما يَعقل؛ لأنه قَالَ:{قَالَتْ} ، والقول لا يكون إلا للحيّ الناطق، فأُجريت مُجراه، والجمع نِمال، قَالَ الأخطل:

دَبِيبُ نِمَالٍ فِي نَقًا يَتَهَيَّلُ

وأرضٌ نَمِلةٌ كثيرة النمل، وطعام منمولٌ: أصابه النمل. وذكر الأزهريّ حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النحلة، والنملة، والصُّرَد، والهدهد". وروى عن إبراهيم الحربيّ، قَالَ: إنما نهى عن قتلهنّ؛ لأنهنّ لا يؤذين النَّاس، وهي أقلّ الطيور، والدوات ضررًا عَلَى النَّاس، ليس مثل ما يتأذّى النَّاس به منْ الطيور، والغراب، وغيره، قيل له: فالنملة، إذا عضّت تُقتل؟ قَالَ: النملة لا تَعَضّ، إنما يَعضّ الذَرّ، قيل له: إذا عضّت الذرّ تُقتل؛ قَالَ: إذا آذتك، فاقتلها، قَالَ: والنملة هي التي لها قوائم، تكون فِي البراري، والْخَرَابات، وهذه التي يتأذّى النَّاس بها هي الذرّ، وهي الصغار. ثم قَالَ: والنمل ثلاثة أصناف: النمل، وفازِر، وعُقَيفان، قَالَ: والنمل يسكن البراري والخرابات، ولا يؤذي النَّاس، والذرّ يؤدي. وقيل: أراد بالنهي نوعًا خاصًا، وهو الكبار، ذوات الأرجل الطوال. وَقَالَ الحربيّ: النمل ما كَانَ له

ص: 266

قوائم، فأما الصغار، فهو الذرّ. وروي عن قتادة فِي قوله تعالى:{عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} قَالَ: النملة منْ الطير

(1)

.

وَقَالَ فِي "الفتح" 13/ 516 - : النملة واحدة النمل، وجمع الجمع نِمَال، والنملُ أعظم الحيوانات حِيلة فِي طلب الرزق، ومن عجيب أمره، أنه إذا وجد شيئًا، ولو قَلّ أنذر الباقين، ويحتكر فِي زمن الصيف للشتاء، وإذا خاف الْعَفْن عَلَى الْحَبّ، أخرجه إلى ظاهر الأرض، وإذا حفر مكانه، اتخذها تعاريج؛ لئلا يجري إليها ماء المطر، وليس فِي الحيوان ما يَحمِل أثقل منه غيره، والذَّرّ فِي النمل، كالزنبور فِي النحل. انتهى.

[تنبيه]: قَالَ العينيّ رحمه الله تعالى فِي "شرح البخاريّ" 12/ 353: ويحكى أن سليمان عليه السلام سأل نملة ما يكفيك منْ الأكل فِي سنة واحدة؟ قالت: حبّة منْ القَمْح، فأمر بها، فحُبست فِي قارورة، ووُضع معها حبّة قمح، فتركوها سنة، فطلبها، ففُتح فم القارورة، فإذا فيها النملة، ولم تأكل إلا نصفها، فَقَالَ لها: ما قلتِ: مأكولي حبّة قمح فِي سنة؟ فقالت: يا نبيّ الله، ولكن أنت ملك عظيم الشأن، مشتغل بالأمور الكثيرة، فخِفتُ أن تنساني ستين، فأكلت نصف القمحة، وادّخرت نصفها للسنة الأخرى، فتعجب سليمان عليه السلام منْ أمرها، وإدراكها، وليس هَذَا ببدع منها، فانظر ما أخبر الله تعالى عنها فِي "سورة النمل". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.

4360 -

(أَخْبَرَنَا وَهْبُ بْنُ بَيَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدٍ، وَأَبِى سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ نَمْلَةً قَرَصَتْ نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ، فَأُحْرِقَتْ فَأَوْحَى اللَّهُ عز وجل إِلَيْهِ، أَنْ قَدْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَهْلَكْتَ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ، تُسَبِّحُ").

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(وهب بن بيان) أبو عبد الله الواسطيّ، نزيل مصر، ثقة عابدٌ [10] 20/ 1399.

2 -

(ابن وهب) هو عبد الله المصريّ الثقة الحافظ العابد [9] 9/ 9.

3 -

(يونس) بن يزيد بن أبي النجاد، أبو يزيد الأيليّ، ثقة، منْ كبار [7] 9/ 9.

4 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهريّ المدنيّ الإِمام الحجة الثبت [4] 1/ 1.

5 -

(سعيد) بن المسيّب المذكور قبل باب.

6 -

(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ الفقيه، ثقة [3] 1/ 1.

7 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.

(1)

راجع "لسان العرب": جـ 11 ص 678 - 679.

ص: 267

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمصريين إلى يونس، وبعده بالمدنيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة أكثر منْ روى الْحَدِيث فِي دهره. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نملة قرصت) بالصاد المهملة، يقال: قَرَصه بلسانه قرصًا، منْ باب نصر: آذاه، وناله منْ جهته، وفي رواية الحسن التالية: "نزل نبيّ منْ الأنبياء تحت شجرة، فلدغته نملة

" (نبيا منْ الأنبياء) قيل: هو الْعُزَيرُ، وروى الحكيم الترمذي فِي "النوادر" أنه موسى عليه السلام، وبذلك جزم الكلاباذي، فِي "معاني الأخبار"، والقرطبي فِي "التفسير".

(فأمر بقرية النمل) أي بمساكنها، وبيوتها، قَالَ فِي "الفتح" 13/ 515: قرية النمل: موضع اجتماعهن، والعرب تُفرّق فِي الأوطان، فيقولون لمسكن الإنسان: وَطَن، ولمسكن الإبل عَطَن، وللأسد عَرِين، وغابة، وللظبي كُنَاس، وللضب وجَار، وللطائر عُشّ، وللزنبور كُور، ولليربوع نافق، وللنمل قرية. انتهى.

(فأحرقت) بالبناء للمفعول، وفي رواية الحسن:"فأمر ببيتهنّ، فحُرّق عَلَى ما فيها"، وفي رواية البخاريّ:"فأمر بجهازه، فاُخرج منْ تحتها، ثم أمر ببيتها، فأُحرق بالنار"(فأوحى الله عز وجل إليه أن قد قرصتك نملة)"أن" بفح الهمزة، وسكون النون هي المصدريّة، والكلام عَلَى تقدير لام الجرّ: أي لأن أقرصتك، وهو متعلّقٌ بقوله (أهلكت أمة منْ الأمم تسبح) قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: مقتضى هَذَا أنه تسبيح مقال، كما أخبر الله تعالى عن النمل أن لها منطقًا، وفهمه سليمان عليه السلام، معجزة له، وَقَدْ أخبر الله تعالى عن النمدة التي سمعها سليمان أنها قالت:{يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} الآية [النمل: 18 - 19] فهذا كلّه يدلّ دلالة واضحة أن للنمل نُطقًا، وقولًا، لكن لا يسمعه كلّ أحد، بل منْ شاء الله تعالى ممن خرق له العادة منْ نبيّ، أو وليّ، ولا يُنكر هَذَا، منْ حيث أنا لا نسمع ذلك، فإنه لا يلزم منْ عدم الإدراك عدم المدرك فِي نفسه، ثم إن الإنسان يجد فِي نفسه قولًا وكلامًا، ولا يُسمع منه، إلا إذا نطق بلسانه. وَقَدْ خرق الله العادة لنبينا صلى الله عليه وسلم، فأسمعه كلام النفس منْ قوم تحدّثوا مع أنفسهم، وأخبرهم بما فِي أنفسهم، كما نقل منه أئمتنا الكثير فِي كتب معجزات النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذلك وقع لكثير ممن

ص: 268

أكرمه الله تعالى منْ الأولياء، مثلُ ذلك فِي غير ما قضيّة، وإياه عني النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"لقد كَانَ فيما كَانَ قبلكم منْ الأمم ناسٌ محدّثون، فإن يكن فِي أمتي أحد فإنه عمر"، متّفق عليه. انتهى كلام القرطبيّ ببعض تصرف "المفهم" 5/ 543. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -38/ 4360 و4361 و4362 - وفي "الكبرى" 4/ 4870 و4871 و4872. وأخرجه (خ) فِي "الجهاد" 3519 و"بدء الخلق" 3319 (م) فِي "السلام" 148 (د) فِي "الأدب" 5266 (ق) فِي "الصيد" 3225. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم قتل النمل، وهو الجواز، إن آذته، كما يدل عليه قصة هَذَا النبيّ، وَقَدْ تقدّم غير مرّة أن الصحيح أن شرع منْ قبلنا إذا قصّه الشارع شرع لنا، إذا لم يَرِدْ فِي شرعنا ما ينافيه. (ومنها): أنه يستدل به عَلَى أن الحيوان، يسبح الله تعالى، حقيقةً، ويتأيد به قول منْ حمل قوله تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} الآية [الإسراء: 44]، عَلَى الحقيقة. وتُعُقّب بأن ذلك لا يمنع الحمل عَلَى المجاز، بأن يكون سببا للتسبيح. قاله فِي "الفتح".

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا التعقّب غير صحيح، بل الصواب الأول؛ فلها تسبيحٌ حقيقيّ، لا مجازيّ؛ لأنه لا داعي للعدول عن الحقيقة إلى المجاز؛ فإن النصوص الكثيرة دلّت عَلَى أن الحيون لها نطقٌ حقيقة، كما تقدّم فِي كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى قريبًا. فتأمل بعقلك السديد، ولا تكن أسير التقليد، فإنه ملجأ البليد، ومتمسّك العنيد. والله تعالى أعلم.

(ومنها): أن فيه إشارة إلى أن الأمة مطلوبة البقاء، ولو لم يكن فيها فائدة، إلا التسبيح، لكفى داعيًا إلى إبقائها. (ومنها): أن فيه دلالةً عَلَى جواز قتل كل مؤذ. (ومنها): أنه يجوز المجازاة ممن ظلم، سواء كَانَ ممن يعقل، أو لا يعقل. (ومنها): أن الجزاء لا يتعدّى الجاني، فلا ينبغي إبادة غيره مما كَانَ منْ جنسه. (ومنها): أن الأنبياء عليهم السلام ينالهم الأذى؛ ليعظم لهم به الأجر والمثوبة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 269

(المسألة الرابعة): قَالَ فِي "الفتح" 6/ 516 - : واستدل بهذا الْحَدِيث عَلَى جواز إحراق الحيوان المؤذي بالنار، منْ جهة أن شرع منْ قبلنا شرع لنا، إذا لم يأت فِي شرعنا ما يدفعه، ولاسيما إن ورد عَلَى لسان الشارع، ما يُشعر باستحسان ذلك، لكن ورد فِي شرعنا النهي عن التعذيب بالنار.

قَالَ النوويّ: هَذَا الْحَدِيث محمول عَلَى أنه كَانَ جائزا فِي شرع ذلك النبيّ، جوازُ قتل النمل، وجواز التعذيب بالنار، فإنه لم يقع عليه العتب فِي أصل القتل، ولا فِي الإحراق، بل فِي الزيادة عَلَى النملة الواحدة، وأما فِي شرعنا، فلا يجوز إحراق الحيوان بالنار، إلا فِي القصاص بشرطه، وكذا لا يجوز عندنا قتل النمل؛ لحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فِي "السنن" أن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"نهى عن قتل النملة، والنحلة". انتهى. وَقَدْ قَيَّد غيره، كالخطابي النهي عن قتله، منْ النمل بالسليماني. وَقَالَ البغوي: النمل الصغير، الذي يقال له: الذَّرّ، يجوز قتله، ونقله صاحب "الاستقصاء" عن الصيمري، وبه جزم الخطابي.

وفي قوله: إن القتل، والإحراق، كَانَ جائزا فِي شرع ذلك النبيّ نظر؛ لأنه لو كَانَ كذلك، لم يُعاتب أصلا ورأسا، إذا ثبت أن الأذى طبعه.

وَقَالَ عياض: فِي هَذَا الْحَدِيث، دلالة عَلَى جواز قتل كل مؤذ، ويقال: إن لهذه القصة سببا، وهو أن هَذَا النبيّ مَرّ عَلَى قرية، أهلكها الله تعالى، بذنوب أهلها، فوقف متعجبًا، فَقَالَ: يا رب، قد كَانَ فيهم صبيان، ودواب، ومن لم يقترف ذنبا، ثم نزل تحت شجرة، فجرت له هذه القصة، فنبهه الله جل وعلا عَلَى أن الجنس المؤذي يقتل، وإن لم يُؤذ، وتقتل أولاده، وان لم تبلغ الأذى. انتهى. وهذا هو الظاهر، وإن ثبتت هذه القصة، تَعَيّن المصير إليه.

والحاصل أنه لم يعاتب إنكارا لما فعل، بل جوابا له، وإيضاحا لحكمة شمول الهلاك لجميع أهل تلك القرية، فضرب له المثل بذلك، أي إذا اختلط منْ يستحق الإهلاك بغيره، وتعين إهلاك الجميع طريقا إلى إهلاك المستحق، جاز إهلاك الجميع، ولهذا نظائر، كتترس الكفار بالمسلمين، وغير ذلك. والله سبحانه أعلم.

وَقَالَ الكرماني: النمل غير مكلف، فكيف أشير فِي الْحَدِيث، إلى أنه لو أحرق نملة واحدة جاز، مع أن القصاص إنما يكون بالمثل لقوله تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} الآية [الشورى: 40]، ثم أجاب بتجويز أن التحريق، كَانَ جائزا عنده، ثم قَالَ: يرِدُ عَلَى قولنا: كَانَ جائزا، لو كَانَ كذلك لَمَا ذُمّ عليه.

وأجاب بأنه قد يُذَمّ الرفيعُ القدرِ عَلَى خلاف الأولى. انتهى.

ص: 270

والتعبير بالذّم فِي هَذَا لا يليق بمقام النبيّ، فينبغي أن يُعَبَّر بالعتاب.

وَقَالَ القرطبيّ: ظاهر هَذَا الْحَدِيث، أن هَذَا النبيّ إنما عاتبه الله، حيث انتقم لنفسه بإهلاك جمع، آذاه منه واحد، وكان الأولى به الصبر والصفح، وكأنه وقع له أن هَذَا النوع مؤذٍ لبني آدم، وحرمة بني آدم أعظم، منْ حرمة الحيوان، فلو انفرد هَذَا النظر، ولم ينضم إليه التشفي، لم يعاتب، قَالَ: والذي يؤيد هَذَا التمسك بأصل عصمة الأنبياء، وأنهم أعلم بالله، وبأحكامه منْ غيرهم، وأشدهم له خشية. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4361 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا النَّضْرُ -وَهُوَ ابْنُ شُمَيْلٍ- قَالَ: أَنْبَأَنَا أَشْعَثُ، عَنِ الْحَسَنِ: "نَزَلَ نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَلَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ، فَأَمَرَ بِبَيْتِهِنَّ، فَحُرِّقَ عَلَى مَا فِيهَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ، فَهَلاَّ نَمْلَةً وَاحِدَةً"، وَقَالَ الأَشْعَثُ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ، وَزَادَ: "فَإِنَّهُنَّ يُسَبِّحْنَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"أشعث": هو ابن عبد الملك الْحُمرانيّ البصريّ الثقة.

وقوله: "فلدغته " -بالدال المهملة، والغين المعجمة-: أي قَرَصته، وليس هو بالذال المعجمة، والعين المهملة، فإن ذاك معناه: الإحراق.

وقوله: "فأمر ببيتهنّ الخ، وفي نسخة: "فأحرق بيتهنّ"، وفي رواية البخاريّ: "فأمر بجَهازه" -بفتح الجيم، ويجوز كسرها، بعدها زاي-: أي متاعه.

وقوله: "فحُرّق" بتشديد الراء، مبنيّا للمفعول؟

وقوله: "فهَلّا نملةً واحدةً": يجوز فيه النصب، عَلَى تقدير عامل محذوف، تقديره: فَهَلّا حَرّقتَ نملةً واحدةً. ويجوز رفعه عَلَى أنه نائب فاعل لفعل محذوف، حُرِّقَت نملةٌ واحدةٌ، أي وهي التي آذتك، بخلاف غيرها، فلم يَصدُر منها جناية.

وقوله: "وَقَالَ الأشعث عن ابن سيرين الخ" عطف عَلَى السند السابق، فهو موصول، والمعنى: أن الأشعث روى هَذَا الْحَدِيث منْ شيخين، أحدهما الحسن البصريّ، وهو موقوفٌ عليه، والثاني: محمد بن سيرين، وهو مرفوع.

والحديث صحيح مقطوع منْ طريق الحسن، وصحيح مرفوع منْ طريق محمد بن سيرين، وذكر الحافظ المزيّ رحمه الله تعالى فِي "تحفة الأشراف" 10/ 328 - أنه رواه حبيب بن الشهيد، وسلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، موقوفًا. انتهى. أي وهو الموافق لرواية قتادة، عن الحسر، التي بعد هَذَا.

ص: 271

والحديث منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا، وَقَدْ سبق بيانه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4362 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ

(1)

).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "معاذ بن هشام": هو الدستوائيّ.

والحديث موقوف، وهو بهذا الإسناد ضعيف؛ للانقطاع، فإن الحسن لم يسمع منْ أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عند الأكثرين، لكن تقدّم ترجيح سماعه منه، فعليه يكون موقوفًا صحيحًا، وله حكم الرفع؛ لأنه لا يُقال منْ قبل الرأي، وليس أبو هريرة رضي الله تعالى عنه ممن يروي الإسرائيليّات، فتنبه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإاليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌42 - (كِتَابُ الضَّحَايَا)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: مناسبة "الضحايا" للصيد والذبائح واضحة، حيث إن كلا يُبحث فيه إراقة دماء الحيوان للأكل، وقدّم الصيد والذبائح؛ لعمومهما؛ وخصوص الضحايا بالقُرَبِ. والله تعالى أعلم.

و"الضحايا" -بفتح الضاد المعجمة-: جمع ضَحِيّة، كعطيّة وعطايا، ويقال فيها: الأُضحيّة، والضحيّة، وأضحاة، كأرْطاة. قَالَ الفيّوميّ:"الأضحية" فيها لغات: [الأولى]: ضمّ الهمزة فِي الأكثر، وهي فِي تقدير أُفْعُولة، [والثانية]: كسرُها إتباعًا لكسرة الحاء، والجمع أَضَاحيّ، [والثالثة]،: ضَحِيّةٌ، والجمع ضحايا، مثلُ عطية وعطايا، [والرابعة]: أضحاة، بفتح الهمزة، والجمع أضحى، مثلُ أرطاة وأرطى، ومنه عيد الأضحى، والأضحى مؤنّثة، وَقَدْ تُذكر، ذهابًا إلى اليوم، قاله الفرّاء. وضَحّى تضحيةٌ: إذا ذبح الأضحيّة وقت الضّحَى، هَذَا أصله، ثم كثُر حَتَّى قيل: ضَحّى فِي أيّ وقت كَانَ منْ أيّام التشريق، ويتعدّى بالحرف، فيقال: ضَحّيتُ بشاة. انتهى.

(1)

يوجد فِي هَذَا الموضع فِي النسخة الهنديّة: ما نصّه: "آخر كتاب الصيد والذبائح".

ص: 272

وَقَالَ أبو العبّاس القرطبيّ: قَالَ الأصمعيّ: فِي الأضحية أربع لغات: أُضحيّة -بضم الهمزة، وإضحيّة بكسرها، والجمع أضاحيّ بتشديد الياء، وتخفيفها، وضحيّةً، عَلَى وزن فَعِيلة، والجمع ضَحايا، وأضحاة، والجمع أضحى، كما يقال: أرطأة وأرطى، وبها سُمّي يوم الأضحى. وَقَالَ القاضي: وقيل: سمّيت بذلك؛ لأنها تُفعل فِي الضحى، وهو ارتفاع النهار، وفي "الأضحى" لغتان: التذكير لغة قيس، والتأنيث لغة تميم.

وفي "الصحاح": ضَحْوة النهار بعد طلوع الشمس، ثم بعده الضحى، وهو حين تُشرق الشمس، مقصورة، موؤنّثة، وتُذكّر، فمن أنّث ذهب إلى أنها جمع ضحوة، ومن ذكّر ذهب إلى أنه اسم عَلَى فُعَل، مثل نُغَر، وصُرَد، قَالَ: وهو ظرفٌ غير متمكّن، مثلُ سَحَر، تقول: لقيته ضُحًى، وضُحَى، إذا أردت به ضحى يومك لم تنوّنه. قَالَ القرطبيّ: قياسه ضحى عَلَى سحر قد أَخَذَ عليه فيه ابن بَرّيّ، وهي مؤاخذة صحيحة؛ لأن الظروف التي لا تنصرّف إذا عُيّنت هي:"سحر" -كما ذكر- و"غَدْوَة"، و"بُكْرَة"، لا غير، فـ"سحر" إذا أريد به يوم بعينه لم ينصرف للتعريف والعدل، وفي "غدوة"، و"بُكرة" للتعريف والتأنيث، فأما بكير، وعشاء، وعتمة، وضحوة، وعشيّة، وضحى، ونحوها، فإنها منصرفة عَلَى كلّ حال، فإن أريد بها وقتٌ بعينه، كانت نكرات اللفظ، معرفة بالمعنى، عَلَى غير وجه التعريف. وهكذا ذكره الحسن بن خَرُوف، وغيره. انتهى كلام القرطبيّ. "المفهم" 5/ 347 - 348. بزيادة منْ "شرح النوويّ عَلَى مسلم" 13/ 111.

وَقَالَ الإِمام ابن قُدامة رحمه الله تعالى فِي "المغني" 13/ 360 - : الأصل فِي مشروعية الأضحية: الكتاب، والسنة، والإجماع، فأما الكتاب، فقول الله سبحانه:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [سورة الكوثر: 2]، قَالَ بعض أهل التفسير: المراد به الأضحية، بعد صلاة العيد. وأما السنة، فما روى أنس رضي الله تعالى عنه، قَالَ:"ضحى النبيّ صلى الله عليه وسلم بكبشين، أملحين، أقرنين، ذبحهما بيده، وسمى، وكبر، ووضع رجله عَلَى صفاحهما"، متَّفقٌ عليه. والأملح: الذي فيه بياض وسواد، وبياضه أغلب. قَالَ الكسائي: وَقَالَ ابن الأعرابيّ: وهو النقي البياض، قَالَ الشاعر [منْ الرجز]:

حَتَّى اكْتَسَى الرَّأْسُ قِنَاعًا أشْيَبَا

(1)

أَمْلَحَ لا لَذًّا ولا مُحَبَّبَا

وأجمع المسلمون عَلَى مشروعية الأضحية. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب.

(1)

والذي فِي "اللسان": "أشهبا" بدل "أشيبا".

ص: 273

4363 -

(أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سَلْمٍ الْبَلْخِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ -وَهُوَ ابْنُ شُمَيْلٍ- قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ رَأَى هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ، فَأَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلَا يَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهِ، وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ حَتَّى يُضَحِّيَ").

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(سليمان بن سَلْم) الْهَدَاديّ بفتح الهاء، وتخفيف الدال، أبو داود المصاحفيّ البلخيّ، ثقة [11] 118/ 1075.

2 -

(النضر بن شُمَيل) المازني، أبو الحسن النحوي البصريّ، نزيل مرو، ثقة ثبت، منْ كبار [9] 41/ 45.

3 -

(شعبة) بن الحجاج المذكور قبل باب.

4 -

(مالك بن أنس) إمام دار الهجرة الحجة الثبت الفقيه [7] 7/ 7.

5 -

(ابن مسلم) هو عمرو بن مسلم بن عُمارة بن أُكيمة -بالتصغير- الليثي الْجُندعيّ المدنيّ، وقيل: اسمه عمر، صدوقٌ [6].

وفي "تهذيب التهذيب" ج: 8 ص: 91: روى عن سعيد بن المسيب، عن أم سلمة، حديث:"منْ أراد أن يضحي، فدخل العشر، فلا يأخذ منْ شعره، ولا منْ أظفاره"، وعنه مالك، وسعيد بن أبي هلال، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وعبس الرحمن بن سعد بن عمار المؤذن، وَقَدْ قيل: إن الزهريّ روى عنه، والمحفوظ أن الزهريّ، إنما روى عن جده.

قَالَ: ابن معين: ثقة، وفي رواية: لا بأس به. وأسند الخطيب فِي "الموضح" عن ابن معين: أنه قيل فيه، عمار، وعمر، ويختلفون فيه. قَالَ الحافظ: وادعى ابن حبّان فِي "الثقات": والصحيح أن الذي روى عنه الزهريّ، اسمه عمرو بن مسلم بن أكيمة، وأن الذي روى عنه مالك وغيره، أخوه عُمر بن مسلم، ولم يوافقه أحد، علمته عَلَى ذلك. انتهى.

وَقَالَ النوويّ فِي "شرح صحيح مسلم" 13/ 139: قوله: "عن عُمر بن مسلم الخ" كذا رواه مسلم "عُمر" بضم العين فِي كل هذه الطرق، إلا طريق حسن بن علي الْحُلوانيّ، ففيها عَمْرو -بفتح العين- وإلا طريق أحمد بن عبد الله بن الحكم، ففيها عمرو، أو عُمر، وَقَالَ العلماء: الوجهان منقولان فِي اسمه. انتهى. روى له مسلم، والأربعة، وليس له عند المصنّف إلا هَذَا الْحَدِيث. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: وقع فِي النسخ: "عن أبي مسلم" بدل "ابن مسلم"، وهو تصحيفٌ،

ص: 274

والصواب "عن ابن مسلم"، كما فِي "تحفة الأشراف" 13/ 6 فتنبه. والله تعالى أعلم.

6 -

(سعيد بن المسيب) المذكور فِي الباب الماضي.

7 -

(أم سلمة) هند بنت أبي أمية المخزومية، أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها 123/ 183. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، إلا شيخه، فتفرد به هو، وأبو داود، والترمذي. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين منْ مالك. (ومنها): أن فيه ابن المسيب أحد الفقهاء السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عن) أم المؤمنين (أم سلمة) هند بنت أبي أميّة رضي الله تعالى عنها (عن النبيّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ منْ رأى هلال ذي الحجة) وفي الرواية الآتية: "إذا دخلت العشر": أي عشر ذي الحجة (فأراد أن يضحي) قيل: فيه دلالة عَلَى عدم وجوب الأضحية، لكونه أسنده إلى إرادته، وسيأتي تحقيق القول فيه قريبًا، إن شاء الله تعالى. وفي رواية أبي داود:"منْ كَانَ له ذِبْحٌ يذبحه، فإذا أهلّ هلال ذي الحجة، فلا يأخذنّ منْ شعره، وأظفاره حَتَّى يضحّي". و"الذبح" بكسر الذال: المذبوح (فلا يأخذ منْ شعره) بفتح العين المهملة، وسكونها (ولا منْ أظفاره حَتَّى يضحي) أي إلى أن يذبح أضحيّته.

قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: قَالَ أصحابنا -يعني الشافعية-: والمراد بالنهي عن أخذ الظفر والشعر، الهي عن إزالة الظفر بقَلْم، أو كسر، أو غيره، والمنع منْ إزالة الشعر بحلق، أو تقصير، أو نتف، أو إحراق، أو أخذه بنورة، أو غير ذلك منْ شعور بدنه، وسواء شعر الإبط، والشارب، والعانة، والرأس، وغير ذلك، منْ شُعور بدنه. قَالَ إبراهيم المروزي وغيره، منْ أصحابنا: حكم أجزاء البدن كلها، حكم الشعر والظفر، ودليله ما ثبت فِي رواية لمسلم:"فلا يَمَسّنّ منْ شعره وبشره شيئا".

قالوا: والحكمة فِي النهي أن يبقى كامل الاجزاء؛ للعتق منْ النار. وقيل: للتشبه بالمحرم. قالوا: هَذَا الوجه الثاني غلط؛ لأنه لا يعتزل النِّساء، ولا يترك الطيب، واللباس، وغير ذلك، مما يتركه المحرم. انتهى كلام النوويّ فِي "شرح مسلم" 13/ 139. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

ص: 275

حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -1/ 4363 و4364 و4365 و4366 - وفي "الكبرى" 1/ 4451 و4452 و44533 و4454. وأخرجه (م) فِي "الأضاحي" 5089 و5590 و5091 و5092 و5093 و5094 و5095 (د) فِي "الضحايا" 2791 (ت) فِي "الأضاحي" 1523 (ق) فِي "الأضاحي" 3149 و3150. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): مشروعيّة الأضحية. (ومنها): أنها مستحبّة؛ لقوله: "وأراد أحدكم أن يُضحّي". (ومنها): أن منْ أراد أن يضحّي، لا يأخذه منْ شعره، ولا منْ بشره شيئًا، وهل هو للتحريم، أم للتنزيه يأتي التحقيق قريبًا، إن شاء الله تعالى.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فيمن دخل عليه عشر ذى الحجة وهو مريد التضحية هل يأخذ منْ شعره أو أظفاره، أم لا؟:

قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: فِي "شرح صحيح مسلم" 13/ 138: واختلف العلماء فيمن دخلت عليه عشر ذى الحجة، وأراد أن يضحى، فَقَالَ سعيد بن المسيب، وربيعة، وأحمد، وإسحاق، وداود، وبعض أصحاب الشافعى: أنه يحرم عليه أخذ شيء منْ شعره، وأظفاره حَتَّى يضحي، فِي وقت الأضحية.

وَقَالَ الشافعى، وأصحابه: هو مكروه، كراهةَ تنزيه، وليس بحرام.

وَقَالَ أبو حنيفة: لا يكره، وَقَالَ مالك فِي رواية: لا يكره، وفي رواية: يكره، وفي رواية يحرم فِي التطوع، دون الواجب.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بعدم الكراهة يردّه حديث الباب. فتنبّه.

قَالَ: واحتج منْ حرّم بهذه الأحاديث. واحتج الشافعيّ، والآخرون، بحديث عائشة، رضي الله عنها، قالت:"كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يُقَلِّده، ويبعث به، ولا يحرم عليه شىء، أحله الله، حَتَّى ينحر هديه". رواه البخاريّ، ومسلم. قَالَ الشافعيّ: البعث بالهدي أكثر منْ إرادة التضحية، فدلّ عَلَى أنه لا يحرم ذلك، وحمل أحاديث النهى عَلَى كراهة التنزيه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى.

وَقَالَ العلّامة ابن قُدامة رحمه الله تعالى -عند قول الْخِرَقيّ: ومن أراد أن يضحي، فدخل العشر، فلا يأخذ منْ شعره، ولا بشرته شيئًا-: ما نصّه: ظاهر هَذَا تحريم قص الشعر، وهو قول بعض أصحابنا، وحكاه ابن المنذر عن أحمد، وإسحاق، وسعيد بن المسيب، وَقَالَ القاضي، وجماعة منْ أصحابنا، هو مكروه، غير محرم، وبه قَالَ مالك،

ص: 276

والشافعي يقول عائشة رضي الله تعالى عنها: "كنت أفتِل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقلدها بيده، ثم يبعث بها، ولا يحرم عليه شيء، أحله الله له، حَتَّى ينحر الهدي"، متَّفقٌ عليه.

وَقَالَ أبو حنيفة: لا يكره ذلك؛ لأنه لا يحرم عليه الوطء، واللباس، فلا يكره له حلق الشعر، وتقليم الأظافر، كما لو لم يُرِد أن يضحي.

قَالَ: ولنا ما روت أم سلمة رضي الله تعالى عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قَالَ:"إذا دخل العشر، وأراد أحدكم أن يُضَحِّي، فلا يأخد منْ شعره، ولا منْ أظفاره شيئا، حَتَّى يضحي"، رواه مسلم. ومقتضى النهي التحريم، وهذا يرد القياس ويبطله، وحديثهم عامّ، وهذا خاص يجب تقديمه، بتنزيل العامّ عَلَى ما عدا ما تناوله الْحَدِيث الخاص، ولأنه يجب حمِل حديثهم عَلَى غير محل النزاع؛ لوجوه:[منها]: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، لم يكن ليفعل ما نَهَى عنه، وإن كَانَ مكروها، قَالَ الله تعالى؛ إخبارًا عن شعيب عليه السلام:{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} الآية [هود: 88]، ولأن أقل أحوال النهي أن يكون مكروها، ولم يكن النبيّ-صلى الله عليه وسلم ليفعله، فيتعين حمل ما فعله فِي حديث عائشة عَلَى غيره. ولأن عائشة تعلم ظاهرا، ما يباشرها به، منْ المباشرة، أو ما يفعله دائما، كاللباس، والطيب، فأما ما يفعله نادرًا، كقص الشعر، وقلم الأظافر، مما لا يفعله فِي الأيام إلا مرة، فالظاهر أنها لم ترده بخبرها، وإن احتمل إرادتها إياه، فهو احتمال بعيد، وما كَانَ هكذا، فاحتمال تخصيصه قريب، فيكفي فيه أدنى دليل، وخبرنا دليل، فكان أولى بالتخصيص. ولأن عائشة تخبر عن فعله، وأم سلمة عن قوله، والقول يُقَدَّم عَلَى الفعل؛ لاحتمال أن يكون فعله خاصا له. إذا ثبت هَذَا، فإنه يَترُك قطع الشعر، وتقليم الأظافر، فإن فعل استغفر الله تعالى، ولا فدية فيه إجماعا، سواء فعله عمدا، أو نسيانا. انتهى كلام ابن قُدمة رحمه الله تعالى فِي "المغني" 13/ 362 - 363.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي حقّقه ابن قُدامة رحمه الله تعالى تحقيقٌ حسنٌ جدًا.

والحاصل أن أرجح الأقوال هو القول بتحريم الأخذ منْ الشعر، والأظفار، إذا دخل عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحّي، حَتَّى يضحّي؛ لوضوح دليله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم الأضحيّة:

قَالَ الإِمام ابن قُدامة رحمه الله تعالى: أكثر أهل العلم، يرون الأضحية سنة مؤكدة، غير واجبة، رُوي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وبلال، وأبي مسعود البدري، رضي الله

ص: 277

عنهم، وبه قَالَ سُويد بن غَفَلة، وسعيد بن المسيب، وعلقمة، والأسود، وعطاء، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر.

وَقَالَ ربيعة، ومالك، والثوري، والأوزاعي، والليث، وأبو حنيفة: هي واجبة؛ لما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"منْ كَانَ له سعة، ولم يُضَحِّ فلا يَقْرَبَنّ مصلانا"، وعن مِحنَف بن سُليم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"يا أيها النَّاس، إن عَلَى كل أهل بيت، فِي كل عام أَضْحَاةً، وعتيرة".

واحتجّ الأولون بما رواه الدارقطني، بإسناده، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: قَالَ: "ثلاث، كُتبت عليّ، وهن لكم تطوع"، وفي رواية:"الوتر، والنحر، وركعتا الفجر"

(1)

. قَالَ: ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"منْ أراد أن يضحي، فدخل العشر، فلا يأخذ منْ شعره، ولا بشرته شيئًا"، رواه مسلم. عَلّقه عَلَى الإرادة، والواجب لا يُعلَّق عَلَى الإرادة، ولأنها ذبيحة لم يجب تفريق لحمها، فلم تكن واجبة، كالعقيقة، فأما حديثهم، فقد ضعفه أصحاب الْحَدِيث، ثم نحمله عَلَى تأكيد الاستحباب، كما قَالَ:"غسل الجمعة واجب عَلَى كل محتلم"، وَقَالَ:"منْ أكل منْ هاتين الشجرتين، فلا يَقرَبَنّ مصلانا". وَقَدْ روي عن أحمد، فِي اليتيم يُضَحِّي عنه وليه: إذا كَانَ موسرا، وهذا عَلَى سبيل التوسعة، فِي يوم العيد، لا عَلَى سبيل الإيجاب. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله تعالى.

وَقَالَ الإِمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه": "باب سنة الأضحية، وَقَالَ ابن عمر: هي سنّة، ومعروف".

فَقَالَ فِي "الفتح" 11/ 115 - : وكأنه ترجم بالسنة إشارةً إلى مخالفة منْ قَالَ بوجوبها، قَالَ ابن حزم: لا يصح عن أحد منْ الصحابة، أنها واجبة، وصح أنها غير واجبة عن الجمهور، ولا خلاف فِي كونها منْ شرائع الدين، وهي عند الشافعية، والجمهور سنة مؤكدة، عَلَى الكفاية، وفي وجه للشافعية، منْ فروض الكفاية، وعن أبي حنيفة: تجب عَلَى المقيم الموسر، وعن مالك مثله، فِي رواية، لكن لم يقيد بالمقيم، ونقل عن الأوزاعي، وربيعة، والليث مثله، وخالف أبو يوسف منْ الحنفية، وأشهب منْ المالكية، فوافقا الجمهور. وَقَالَ أحمد: يكره تركها مع القدرة، وعنه واجبة، وعن محمد بن الحسن: هي سنة غير مُرَخّص فِي تركها، قَالَ الطحاوي: وبه نأخذ، وليس فِي الآثار ما يدل عَلَى وجوبها. انتهى.

(1)

سيأتي قريبًا الكلام عَلَى هَذَا الْحَدِيث بأنه ضعيف منْ جمع طرقه.

ص: 278

وأقرب ما يُتَمَسَّك به للوجوب حديث أبي هريرة، رفعه:"منْ وجد سعة، فلم يُضَحِّ، فلا يَقْرَبَنَّ مصلانا"، أخرجه بن ماجه، وأحمد، ورجاله ثقات، لكن اختُلِف فِي رفعه، ووقفه، والموقوف أشبه بالصواب، قاله الطحاوي وغيره، ومع ذلك، فليس صريحا فِي الإيجاب.

وقول ابن عمر: "هي سنة، ومعروف" وصله حماد بن سلمة، فِي "مصنفه"، بسند جيد إلى ابن عمر، وللترمذي، مُحَسَّنًا، منْ طريق جَبَلة بن سُحَيم: أن رجلا سأل ابن عمر، عن الأضحية، أهي واجبة؟، فَقَالَ: ضَحَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، والمسلمون بعده. قَالَ الترمذي: العمل عَلَى هَذَا، عند أهل العلم، أن الأضحية ليست بواجبة، وكأنه فَهِمَ منْ كون ابن عمر، لم يقل فِي الجواب: نعم، أنه لا يقول بالوجوب، فإن الفعل المجرد، لا يدل عَلَى ذلك، وكأنه أشار بقوله:"والمسلمون" إلى أنها ليست منْ الخصائص، وكان ابن عمر حريصا، عَلَى اتباع أفعال النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلذلك لم يصرح بعدم الوجوب.

وَقَدْ احتج منْ قَالَ بالوجوب، بما ورد فِي حديث مِخْنَف بن سُلَيم، رفعه:"عَلَى أهل كل بيت أضحية"، أخرجه أحمد، والأربعة، بسند قوي، ولا حجة فيه؛ لأن الصيغة ليست صريحة فِي الوجوب المطلق، وَقَدْ ذكر معها العتيرة، وليست بواجبة عند منْ قَالَ بوجوب الأضحية.

واستدل منْ قَالَ بعدم الوجوب، بحديث ابن عباس:"كُتِب عليّ النحرُ، ولم يكتب عليكم"، وهو حديث ضعيف، أخرجه أحمد، وأبو يعلى، والطبراني، والدارقطني، وصححه الحاكم، فذَهِلَ، وَقَدْ استوعَبْتُ

(1)

طرقه، ورجاله فِي الخصائص، منْ تخريج أحاديث الرافعي. انتهى كلام الحافظ فِي "الفتح".

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عبارته فِي "تخريج أحاديث الرافعيّ" المسمّى "تلخيصّ الحبير" ج: 3/ 118: قوله: "فمنها صلاة الضحى": روي أنه صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"كُتب عليّ ركعتا الضحى، وهما لكم سنة"، رواه أحمد منْ طريق إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة، عن ابن عباس، بلفظ:"أُمرت بركعتي الضحى، ولم تؤمروا بها، وأمرت بالأضحى، ولم تكتب"، وإسناده ضعيف، منْ أجل جابر الجعفي، ورواه أبو يعلى منْ طريق شريك، بلفظ:"كتب عليّ النحر، ولم يكتب عليكم، وأُمرت بصلاة الضحى، ولم تؤمروا بها"، ورواه البزار بلفظ:"أُمرت بركعتي الفجر والوتر، وليس عليكم"، ومن طريق أبي جناب الكلبي، عن عكرمة عنه، بلفظ:"ثلاث هنّ عليّ فرائض، ولكم تطوع النحر والوتر، وركعتا الضحى"، ورواه الحاكم، وابن عدي، منْ هَذَا الوجه،

(1)

الكلام للحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى.

ص: 279

ولفظه: "الأضحى"، بدل "النحر"، و"ركعتا الفجر" بدل "الضحى"، وكذلك رواه الدارقطني، والبيهقي، ورواه ابن حبّان فِي "الضعفاء"، وابن شاهين فِي "ناسخه" منْ طريق وضاح بن يحيى، عن مندل، عن يحيى بن سعيد، عن عكرمة عنه، بلفظ:"ثلاث عليّ فريضة، وهن لكم تطوع: الوتر، وركعتا الفجر، وركعتا الضحى"، والوضاح ضعيف.

فتلخص ضعف الْحَدِيث منْ جميع طرقه، ويلزم منْ قَالَ به، أن يقول بوجوب ركعتي الفجر عليه، ولم يقولوا بذلك، وإن كَانَ قد نقل ذلك عن بعض السلف.

ووقع فِي كلام الآمدي، وابن الحاجب، وَقَدْ ورد ما يعارضه، فروى الدارقطني، وابن شاهين، فِي "ناسخه" منْ طريق عبد الله بن مُحَرَّر، عن قتادة، عن أنس، مرفوعا:"أُمرت بالوتر، والأضحى، ولم يعزم عليّ"، ولفظ ابن شاهين:"ولم يفرض عليّ"، وعبد الله بن مُحَرَّر متروك. انتهى كلام الحافظ فِي "التلخيص".

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبين بما سبق أن أرجح المذاهب هو ما عليه الجمهور، منْ استحباب الأضحية، استحبابًا أكيدًا، وأنها ليست بواجبة؛ لوضوح أدلّتها.

قَالَ أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى فِي كتابه "المحلّى" 7/ 355 - : الأضحيّة سنّة حسنةٌ، وليست فرضًا، ومن تركها غير راغب عنها، فلا حرج عليه فِي ذلك، ومن ضحّى عن امرأته، أو ولده، أو أمته، فحسنٌ، ومن لا فلا حرج فِي ذلك، ثم ذكر الأدلّة عَلَى هَذَا، وأقوال العلماء، وأدلّتهم، وناقشها عَلَى عادته، بما لا تراه فِي غير كتابه، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4364 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ شُعَيْبٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ، قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلَا يَقْلِمْ مِنْ أَظْفَارِهِ، وَلَا يَحْلِقْ شَيْئًا مِنْ شَعْرِهِ، فِي عَشْرِ الأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، وَقَدْ تقدموا غير مرّة،

و"محمد بن عبد الله بن عبد الحكم": هو المصريّ الفقيه الثقة [11] 120/ 166. و"شعيب": هو ابن الليث بن سعد المصريّ الثقة الثبت الفقيه، منْ كبار [10] 120/ 166. و"الليث": هو ابن سعد الإِمام الحجة الثبت المصريّ [7]. و"خالد بن يزيد": هو الجُمَحيّ السكسكيّ، أبو عبد الرحيم المصريّ الثقة الفقيه [6]. و"ابن أبي هلال":

ص: 280

هو سعيد الليثيّ مولاهم المصريّ، صدوق [6].

[تنبيه]: زاد المصنّف رحمه الله تعالى فِي "الكبرى" بعد هَذَا الْحَدِيث: ما نصه: قَالَ أبو عبد الرحمن: عمرو بن مسلم بن عمارة بن أُكيمة، وَقَدْ اختلف فِي اسمه، فقيل: عُمَر، وقيل: عَمْرو. [وهو عنه فِي]

(1)

انتهى.

وقوله: "فِي عشر الأُوَل منْ ذي الحجة" هكذا نسخ "المجتبى"، و"الكبرى" بالإضافة، وهو منْ إضافة المصوف إلى الصفة، وفي بعض نسخ "الكبرى":"فِي العشر الأُوَل"، وهو واضح.

والحديث أخرجه مسلم، كما سبق بيانه، فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4365 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(2)

شَرِيكٌ، عَنْ عُثْمَانَ الأَحْلَافِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ:"مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ، فَدَخَلَتْ أَيَّامُ الْعَشْرِ، فَلَا يَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهِ، وَلَا أَظْفَارِهِ"، فَذَكَرْتُهُ لِعِكْرِمَةَ، فَقَالَ: أَلَا يَعْتَزِلُ النِّسَاءَ وَالطِّيبَ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "شريك": هو ابن عبد الله النخعيّ. و"عثمان الأحلافيّ": هو عثمان بن حكيم بن عَبّاد بن حُنيف الأنصاريّ الأوسيّ، أبو سهل المدنيّ، ثم الكوفيّ الأحلافيّ، ثقة [5] 38/ 944.

[تنبيه]: قوله: "عثمان الأحلافيّ" هكدا فِي نسخ "المجتبى"، و"الكبرى"، و"الأحلافيّ" -بفتح الهمزة، وبالحاء المهملة، والفاء، وزان الأوزاعيّ: نسبة إلى الأحلاف بطن منْ كلب. قاله فِي "لبّ اللباب" 1/ 40.

[تنبيه آخر]: وقع فِي "تحفة الأشراف" 13/ 7 - عند ذكر هَذَا الْحَدِيث: ما نصّه: وعن عليّ ابن حجر، عن شريك، عن عثمان بن محمد الأحمسيّ، عن سعيد بن المسيب. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أن هَذَا غلط فِي موضعين: فِي كون أبيه، محمدًا، وفي نسبته إلى أحمس، والحجة فِي ذلك أن المصنّف نسب عثمان إلى الأحلاف، لا إلى أحمس، والذي ذكروه فِي كتب الرجال أن عثمان الأحلافيّ هو عثمان بن حكيم المذكور، وأيضًا أنه ليس فِي الكتب الستّة منْ اسمه عثمان بن محمد، ويُقال له: الأحمسيّ، وإنما هو الأخنسيّ، والأخنسيّ ليس له فِي السنن الأربع إلا حديث واحد فِي القضاء، وله عند الترمذيّ ثلاثة أحاديث.

والحاصل أن الذي فِي "تحفة الأشراف" غلط، فليُتنبّه. والله تعالى أعلم.

(1)

ما بين القوسين كلام ناقص، سقط منه شيء منْ تمامه، فليُحرّر.

(2)

وفي نسخة: "أخبرنا"، وفي أخرى:"حدثنا".

ص: 281

وقوله: "منْ أراد أن يضحّي" هكذا فِي نسخ "المجتبى"، ووقع فِي "الكبرى" بلفظ:"منْ أراد الحجّ" وهو غلط فاحش، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

وقوله: "فلا يقلم" منْ القلم، أو منْ التقليم، يقال: قَلَم الظفرَ، كضرب، وقَلَّمه بالتشديد: أي قطعه، والتشديد للمبالغة، والتخفيف هنا أولى؛ لأن المراد النهي عن أصل الفعل، لا عن المبالغة. فافهم.

وقوله: "فَقَالَ: ألا يعتزل النِّساء والطيب" هَذَا يدلّ عَلَى أن عكرمة رحمه الله تعالى لم يبلغه نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وظنّ أنه منْ قول سعيد، وأن مقصوده التشبيه بالمحرم، فاعترض بأن اللائق حينئذ ترك النِّساء والطيب أيضًا. والله تعالى أعلم.

والحديث مقطوع ضعيف؛ لتفرد شريك بن عبد الله النخعيّ به، وهو كثير الخطإ، وَقَدْ تغيّر حفظه آخرًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4366 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ، فَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ، وَلَا مِنْ بَشَرِهِ شَيْئًا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح. و"عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن": هو ابن المسور بن مخرمة الزهريّ البصريّ، صدوقٌ، منْ صغار [10] 42/ 48. و"سفيان": هو ابن عيينة. و"عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف": هو الزهريّ المدنيّ، ثقة [6] 4/ 1455.

والحديث أخرجه مسلم، كما سيق بيانه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌2 - (بَابُ مَنْ لَمْ يِجِدْ الأُضْحِيَّةَ)

4367 -

(أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، وَذَكَرَ آخَرِينَ، عَنْ عَيَّاشِ بْنِ عَبَّاسٍ الْقِتْبَانِيِّ، عَنْ عِيسَى بْنِ هِلَالٍ الصَّدَفِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ لِرَجُلٍ: "أُمِرْتُ

ص: 282

بِيَوْمِ الأَضْحَى عِيدًا، جَعَلَهُ اللَّهُ عز وجل لِهَذِهِ الأُمَّةِ"، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ أَجِدْ إِلاَّ مَنِيحَةً أُنْثَى، أَفَأُضَحِّى بِهَا، قَالَ: "لَا، وَلَكِنْ تَأْخُذُ مِنْ شَعْرِكَ، وَتُقَلِّمُ أَظْفَارَكَ، وَتَقُصُّ شَارِبَكَ، وَتَحْلِقُ عَانَتَكَ، فَذَلِكَ تَمَامُ أُضْحِيَتِكَ عِنْدَ اللَّهِ عز وجل").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(يونس بن عبد الأعلى) الصدفي، أبو موسى المصريّ، ثقة، منْ صغار [10] 1/ 449.

2 -

(ابن وهب) عبد الله المصريّ الثقة الحافظ العابد [9] 9/ 9.

[تنبيه]: قوله: وذكر آخرين يحتمل أن يكون بصيغة الجمع، وبصيغة التثنية، والضمير لابن وهب: أي ذكر ابن وهب شيوخًا آخرين مع سعيد بن أبي أيوب، ولم يتبين لي أحد منهم. والله تعالى أعلم.

3 -

(سعيد بن أبي أيوب) مِقْلاص الخزاعي مولاهم أبو يحيى المصريّ، ثقة ثبت [7] 27/ 1880.

4 -

(عياش بن عباس القتباني) المصريّ، ثقة [5

(1)

] 2/ 1471.

5 -

(عيسى بن هلال) الصَّدَفيّ المصريّ، وهو صدوقٌ [4].

روى عن عبد الله بن عمرو، وعنه عيّاش بن عبّاس القتبانيّ، وكعب بن علقمة، ويزيد بن أبي حبيب، ودرّاج أبو السمح، وعبد الملك بن عبد الله التُّجِيبيّ المصريون. ذكره ابن حبّان فِي "الثقات". روى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.

6 -

(عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) رضي الله تعالى عنهما 89/ 111. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير عيسى بن هلال، فأخرج له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، والباقون، إلا مسلمًا، وابن ماجه. (ومنها): أنه مسلسل بالمصريين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

(1)

جعله فِي "التقريب" منْ السادسة، وعندي أنه منْ الخامسة؛ لأنه رأى عبد الله بن الحارث بن جَزْء الصحابيّ رضي الله تعالى عنه، فيكون مثل الأعمش رأى أنس رضي الله تعالى عنه، فليُتنبّه. والله تعالى أعلم.

ص: 283

شرح الْحَدِيث

(عن عبد الله بن عمرو بن العاص) رضي الله تعالى عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لرجل أمرت) قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: ظاهر السوق أنه عَلَى بناء المفعول للخطاب، أو بناء الفاعل للمتكلّم: أي أمرتُك، أو أمرتُ النَّاس. ويحتمل أنه عَلَى بناء المفعول للمتكلّم، والمعنى: أُمرتُ بالتضحية.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الاحتمال الأخير هو الأظهر عندي. والله تعالى أعلم. وقوله (بيوم الأضحى) الباء بمعنى "فِي": أي فِي يوم الأضحى، حال كونه (عيدا) أو أمرت بيوم الأضحى أن أتّخذه عيدا.

وقوله (جعله الله عز وجل لهذه الأمة) جملة فِي محلّ نصب صفة لـ"عيدًا".

(فَقَالَ الرجل أرأيت) بتاء الخطاب: أي أخبرني (إن لم أجد إلا منيحة) بفتح الميم، وكسر النون: اسم منْ المنحة بكسر، فسكون، يقال: منحته مَنْحًا، منْ بابي نفع، وضرب: إذا أعطيته. وأصل المنيحة: هي الشاة، أو الناقة التي يُعطيها صاحبها غيره ليشرب لبنها، ثم يردّها عليه إذا انقطع لبنها، ثم كثُر استعماله حَتَّى أطلق عَلَى كلّ عطاء، يقال: منحته منحًا، والمراد هنا الشاة، كما يُشير إليه وصفه بقوله (أنثى) وهو صفة كاشفة لـ"منيحة". وقال ابن الأثير فِي "النهاية" منحة اللبن: أن يعطيه ناقةً، أو شاةً، ينتفع بلبنها، ويُعيدها، وكذلك إذا أعطاه لينتفع بوَبَرها، وصُوفها زمانًا، ثم يرُدّها. انتهى. وكلام ابن الأثير يدل عَلَى أن المنيحة، قد تكون ذكرا؛ إذ الانتفاع بالوبر والصوف لا يخصّ الأنثى، وعلى هَذَا فليست "أنثى" صفة كاشفة، بل هي مقيّدة، وإن كَانَ فيها علامة التأنيث، كما يقال: حمامة أنثى، وحمامة ذكر. والله تعالى أعلم.

(أفاضحي بها) أي أيلزمني التضحية بتلك المنيحة؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (لا) أي لا يلزمك ذلك. وإنما منعه؛ لأنه لم يكن عنده ما ينتفع به غيرها. ويحتمل أن المراد هنا بالمنيحة ما أُعطيها منْ غيره؛ ليشرب اللبن، فيكون منعه لأجل أنها ليست ملكًا له، بل هي عَلَى ملك المانح، وإنما سأل الرجل لزعمه أن المنحة لا تُردّ، ولذلك قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي حديث آخر:"المنحة مردودة"(ولكن تأخذ منْ شعرك) كأنه أرشده إلى أن يُشارك المسلمين فِي عيدهم، وسرورهم، وذلك بإزالة الوسخ، فذلك يقوم مقام الأضحية لمن فقدها (وتقلم أظافرك) بفتح أوله، وكسر اللام، مخفّفةً، منْ باب ضرب، أو ضمّ أوله، مع تشديد اللام، منْ التقليم، وهو الإنسب هنا، بخلاف ما تقدّم فِي الباب الماضي (وتقص) بضم القاف، منْ باب نصر: أي تقطع (شاربك) هو الشعر الذي يَسيل عَلَى الفم، قَالَ أبو حاتم: ولا يكاد يُثنّى، وَقَالَ أبو عُبيدة: قَالَ الكلابيّون: شاربان، باعتبار الطرفين،

ص: 284

والجمع شوارب. قاله الفيّوميّ (وتحلق) بفتح أوله، وكسر اللام، منْ باب منْ باب ضرب، ويقال: حلّق بالتشديد للمبالغة، والتكثير (عانتك) أي الشعر الذي فوق ذكرك، قَالَ الفيّوميّ: العانة: فِي تقدير فَعَلَة -بفتح العين، وفيها اختلافٌ، فَقَالَ الأزهريّ، وجماعةٌ: هي مَنبِت الشعر، فوق قُبُل المرأة، وذكر الرجل، والشعر النابتُ عليه يقال له: الإِسْبُ، والشِّعْرَةُ. وَقَالَ ابن فارس فِي موضع: هي الإِسْبُ. وَقَالَ الجوهريّ: هي شعر الرَّكَبِ. انتهى (فذلك تمام أضحيتك عند الله عز وجل أي فهذا العمل مما يَتِمّ به أضحيّتك، بمعنى أنه يُكتب لك به أجر أضحية تامة، لا بمعنى أن لك أضحيّة ناقصة إن لم تفعل ذلك، وإن فعلته تصير تامّة.

ولفظ أبي داود: "فتلك تمام أضحيتك الخ": أي تلك الأفعال المذكورة تمام أضحيتك بنيتك الخالصة، ولك بذلك مثل ثواب الأضحية. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما هَذَا حسنٌ. وَقَدْ أخرجه الحاكم فِي "المستدرك" 4/ 223 - 224 - وَقَالَ: هَذَا حديث صحيح الإسناد، ولم يُخرجاه، ووافقه الذهبيّ. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: ضعّف الشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى هَذَا الْحَدِيث؛ لأجل عيسى بن هلال، فَقَالَ فيما كتبه عَلَى "المشكاة" -1/ 466: وفي إسناده عيسى بن هلال الصدفيّ، وفيه عندي جهالة، فقد ذكره ابن أبي حاتم فِي "الجرح والتعديل"، ولم يذكر فيه جرحًا، ولا توثيقًا، وإنما وثقه ابن حبّان، وهو معروف بتساهله فِي التوثيق. انتهى كلامه.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي فيما قاله نظرٌ؛ لأن عيسى روى عنه جماعة، أربعة، أو خمسة، منْ مشاهير أهل مصر، كما أسلفناه، فارتفعت عنه جهالة العين، ولم يتكلّم فيه أحدٌ بجرح، فتوثيق ابن حبّان لمثل هَذَا لا يُعدّ تساهلاً، ولذا قَالَ عنه الحافظ فِي "التقريب": صدوقٌ، وأقلّ أحواله أن يكون حسن الْحَدِيث. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -2/ 4367 - وفي "الكبرى" 2/ 4455. وأخرجه (د) فِي "الضحايا" 2789. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

ص: 285

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم أن منْ لم يجد الأضحية، يسنّ له أن يتنطّف، ويتهيّأ ليوم العيد بأخذ شعره، وتقليم أظفاره، وقصّ شاربه، وحلق عانته، فإنه يقوم مقام منْ ضحّى. (ومنها): استحباب النظافة فِي يوم العيد؛ لأنه يوم اجتماع النَّاس. (ومنها): تأكد أمر الأضحيّة، بحيث إن منْ فقدها ينبغي له أن يشارك المسلمين بنظافة جسمه، وتحسين هيئتة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌3 - (ذَبْحُ الإِمَامِ أُضْحِيَّتَهُ بِالْمُصَلَّى)

4368 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ فَرْقَدٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَذْبَحُ، أَوْ يَنْحَرُ بِالْمُصَلَّى).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد تقدّم كثير منهم قبل باب. "وشعيب": هو ابن الليث بن سعد، شيخه. و"كثير بن فرقد": هو المدنيّ، نزيل مصر، ثقة [7].

ومن لطائف الإسناد أنه مسلسل بالمصريين إلى كثير، والباقيان مدنيان. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عن نافع) مولى ابن عمر المدنيّ الفقيه (أن عبد الله) بن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهما (أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يذبح) أي شاته، أو نحوها (أو) للتخيير، أي تارة يفعل هَذَا، وتارةً يفعل هَذَا (ينحر) أي بعيره (بالمصلى) بصيغة اسم المفعول، أي بالموضع الذي يصلّي فيه العيد.

قَالَ فِي "الفتح" 11/ 122 - 123: قَالَ ابن بطال: هو سنة للإمام خاصة، عند مالك، قَالَ مالك -فيما رواه بن وهب-: إنما يفعل ذلك؛ لئلا يذبح أحد قبله، زاد المهلب: وليذبحوا بعده عَلَى يقين، وليتعلموا منه صفة الذبح. وَقَالَ ابن التين: هو

ص: 286

مذهب مالك، أن الإِمام يُبْرِز أضحيته للمصلى، فيذبح هناك، وبالغ بعض أصحابه، وهو أبو مصعب، فَقَالَ: منْ لم يَفعَل ذلك لم يؤتم به. وَقَالَ ابن العربي: قَالَ أبو حنيفة، ومالك: لا يذبح حَتَّى يذبح الإِمام، إن كَانَ ممن يذبح، قَالَ: ولم أر له دليلًا. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا أخرجه البخاريّ، وتقدم فِي "كتاب العيد" 30/ 1589 - "ذبح الإِمام يوم العيد، وعدد ما يَذبح"، وتقدم هناك شرحه، وتخريجه، فلتراجعه، تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4369 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُثْمَانَ النُّفَيْلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَحَرَ يَوْمَ الأَضْحَى بِالْمَدِينَةِ، قَالَ: وَقَدْ كَانَ إِذَا لَمْ يَنْحَرْ يَذْبَحُ بِالْمُصَلَّى).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عليّ بن عثمان النُّفيلي" -بنون، وفاء، مصغّرًا-: هو الحرّانيّ، لا بأس به [11] 38/ 582. و"سعيد بن عيسى" بن سعيد بن تَلِيد: هو الرُّعَينيّ الْقِتْبَانيّ المصريّ، ثقة، فقيهٌ، منْ قُدماء [10] 38/ 582. و"الْمُفَضَّل بن فَضَالة": هو الْقِتبانيّ، أبو معاوية القاضي المصريّ، ثقة فاضلٌ عابدٌ [8] 42/ 586.

و"عبد الله بن سليمان": هو ابن زرعة الْحِمْيريّ، أبو حمزة المصريّ الطويل، صدوقٌ، يُخطىء [6].

روى عن كعب بن علقمة، ونافع مولى ابن عمر، وإسماعيل بن يحيى المعافري، وسعيد بن أبي هلال، ودَرّاج أبي السمح، وعنه المفضل بن فضالة، ويحيى بن أيوب، وعمرو بن الحارث، والليث بن سعد، وضمام بن إسماعيل، وسعيد بن أبي أيوب، وعبد الله بن عياش بن عباس المصريون. قَالَ أبو همام، الوليد بن شجاع، عن ابن وهب: سمعت حيوة بن شريح، يحدث عن عبد الله بن سليمان، وكانوا يرون أنه منْ الأبدال. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ فيه البزار: إنه حدّث بأحاديث لم يتابع عليها. قَالَ ابن يونس: يقال: توفي سنة ست وثلاثين ومائة. تفرّد به المصنّف، وأبو داود، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.

وقوله: "إذا لم ينحر" يعني البدن. وقوله: "يذبح" يعني الشاة، ونحوها.

والحديث صحيح، وهو بهذا السياق منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -3/ 4369 - وفي "الكبرى" 3/ 4457. وَقَدْ سبق البحث فيه فِي الذي قبله. والله

ص: 287

تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلتُ، وإليه أنيب".

‌4 - (ذَبْحُ النَّاسِ بِالْمُصَلَّى)

4370 -

(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ سُفْيَانَ، قَالَ: شَهِدْتُ أَضْحَى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى بِالنَّاسِ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ رَأَى غَنَمًا، قَدْ ذُبِحَتْ، فَقَالَ: "مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَلْيَذْبَحْ شَاةً مَكَانَهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ، فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ عز وجل").

رجال هَذَا الإسناد: أربعة:

1 -

(هنّاد بن السريّ) التميمي، أبو السري الكوفيّ، ثقة [10] 23/ 25.

2 -

(أبو الأحوص) سلّام بن سُليم الحنفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة متقن [7] 79/ 96.

3 -

(الأسود بن قيس) العبديّ البجليّ، أبو قيس الكوفيّ، ثقة [4] 15/ 1484.

4 -

(جندب بن سفيان) هو جندب بن عبد الله بن سفيان الْبَجَليّ، ثم الْعَلَقيّ، أبو عبد الله الصحابيّ رضي الله تعالى عنه، نسب هنا لجدّه، مات رضي الله تعالى عنه بعد الستّين، وتقدّمت ترجمته فِي 2/ 3999. والله تعالى أعلم.

(منها): أنه منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (208) منْ رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عن جندب بن سفيان) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ شهدت) بكسر الهاء (أضحى) جمع أضحاة، كأرطاة وأرطى، أي وقت ذبح الأضحية، وفي رواية البخاريّ: "شهدت النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم النحر

" (مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس) أي صلاة العيد (فلما قضى الصلاة) أي سلّم منها (رأى غنما قد ذُبحت) بالبناء للمفعول، ولفظ البخاريّ فِي "كتاب الذبائح": "ضحّينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أضحاةً، ذات يوم، فإذا أناسٌ، قد ذبحوا ضحاياهم قبل الصلاة، فلما انصرف، رآهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أنهم قد ذبحوا قبل الصلاة، قَالَ: منْ ذبح

" الْحَدِيث (فَقَالَ منْ ذبح قبل الصلاة فليذبح شاة مكانها) أي بدلها؛ لعدم

ص: 288

إجزائها، حيث وقعت قبل وقتها. ولفظ البخاريّ:"فليُعد مكانها أُخرى" (ومن لم يكن ذبح فليذبح عَلَى اسم الله عز وجل وفي رواية أبي عوانة: "ومن كَانَ لم يذبح حَتَّى صلّينا، فليذبح عَلَى اسم الله"، وفي رواية لمسلم:"فليذبح باسم الله"، أي فليذبح قائلًا باسم الله، أو مسمّيًا، والجارّ والمجرور متعلق بمحذوف، وهو حال منْ الضمير فِي قوله:"فليذبح"، وهذا أولى ما حُمِل عليه الْحَدِيث، وصححه النوويّ، ويؤيده ما فِي حديث أنس رضي الله تعالى عنه:"وسمّى، وكبر". وَقَالَ عياض: يحتمل أن يكون معناه: فليذبح لله، والباء تجىء بمعنى اللام، ويحتمل أن يكون معناه: بتسمية الله، ويحتمل أن يكون معناه: متبركا باسمه، كما يقال: سِرّ عَلَى بركة الله، ويحتمل أن يكون معناه: فليذبح بسنة الله، قَالَ: وأما كراهة بعضهم افعَلْ كذا عَلَى اسم الله؛ لأنّ اسمه عَلَى كل شيء، فضعيف.

قَالَ الحافظ: ويحتمل وجها خامسا، أن يكون معنى قوله:"بسم الله"، مطلق الإذن فِي الذبيحة حينئذ؛ لأن السياق يقتضي المنع قبل ذلك، والأذن بعد ذلك، كما يقال للمستأذن: بسم الله، أي ادخل.

وَقَدْ استدل بهذا الأمر، فِي قوله:"فليذبح مكانها أخرى"، منْ قَالَ بوجوب الأضحية، قَالَ ابن دقيق العيد: صيغة "منْ" فِي قوله: "منْ ذبح"، صيغة عموم، فِي حق كل منْ ذبح قبل أن يصلي، وَقَدْ جاءت لتأسيس قاعدة، وتنزيلُ صيغة العموم، إذا وردت لذلك عَلَى الصورة النادرة يستنكر، فإذًا بعد تخصيصه بمن نذر أضحية معينة، بقي التردد هل الأولى حمله عَلَى منْ سبقت له أضحية معينة، أو حمله عَلَى ابتداء أضحية، منْ غير سبق تعيين، فعلى الأول يكون حجة لمن قَالَ بالوجوب، عَلَى منْ اشترى الأضحية، كالمالكية، فإن الأضحية عندهم تجب بالتزام اللسان، وبنية الشراء، وبنية الذبح. وعلى الثاني يكون لا حجة

(1)

لمن أوجب الضحية مطلقا، لكن حصل الانفصال ممن لم يقل بالوجوب، بالأدلة الدالة عَلَى عدم الوجوب، فيكون الأمر للندب.

واستدل به منْ اشترط تقدم الذبح منْ الإِمام، بعد صلاته، وخطبته؛ لأن قوله:"منْ ذبح قبل أن يصلي، فليذبح مكانها أخرى"، إنما صدر منه بعد صلاته، وخطبته، وذبحه، فكأنه قَالَ: منْ ذبح قبل فعل هذه الأمور، فليُعِد، أي فلا يعتمد بما ذبحه. قَالَ ابن دقيق العيد: وهذا استدلال غير مستقيم؛ لمخالفته التقييد بلفظ الصلاة، والتعقيب بالفاء. قاله فِي "الفتح" 13/ 137 - 138. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع

(1)

هكذا نسخة "الفتح"، والظاهر أن الصواب "لا يكون حجة الخ"، فليُحرّر.

ص: 289

والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث حديث جندب بن سفيان رضي الله تعالى عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -4/ 4370 و17/ 4405 - وفي "الكبرى" 4/ 4458 و17/ 4484. وأخرجه (خ) فِي "العيدين" 985 و"الذبائح" 5500 و"الأضاحي" 5562 و"الأيمان والنذور" 6674 و"التوحيد" 7400 (م) فِي "الأضاحي" 5037 و5038 و5039 و5040 (ق) فِي "الأضاحي" 3152. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان مشروعيّة ذبح النَّاس بمصلّى العيد. (ومنها): مشروعيّة صلاة العيد. (ومنها): أن السنّة صلاة العيد بالمصلّى المعدّ لها خارج المسجد، ولا تُصلّى فِي المسجد، إلا للضرورة. (ومنها): عدم جواز ذبح الأضحيّة قبل الصلاة، فلو ذبح لزمه استبدالها بغيرها، وسيأتي بيان اختلاف العلماء فِي وقتها دخولًا، وخروجًا بعد اثني عشر بابًا -17/ 4396 - إن شاء الله تعالى.

(ومنها): أنه لا يذبح قبل الإِمام، وفيه اختلاف بين العلماء سيأتي بيانه فِي الباب المذكور، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب"

‌5 - (بابُ مَا نِهُيَ عَنهُ مِن الأَضَاحِي (الْعَوْرَاءُ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الْعَوْراءُ" بفتح العين المهملة، والمدّ تأنيث الأعور، يقال: عَوِرت العينُ عَوَرًا، منْ باب تَعِبَ: إذا نقصت، أو غارت. قاله الفيّوميّ. والله تعالى أعلم بالصواب.

4371 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَوْلَى بَنِي أَسَدٍ، عَنْ أَبِي الضَّحَّاكِ، عُبَيْدِ بْنِ فَيْرُوزَ، مَوْلَى بَنِي شَيْبَانَ، قَالَ:

ص: 290

قُلْتُ لِلْبَرَاءِ: حَدِّثْنِي عَمَّا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الأَضَاحِي، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَيَدِي أَقْصَرُ مِنْ يَدِهِ، فَقَالَ:"أَرْبَعٌ لَا يَجُزْنَ: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلْعُهَا، وَالْكَسِيرَةُ الَّتِي لَا تُنْقِي"، قُلْتُ: إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْقَرْنِ نَقْصٌ، وَأَنْ يَكُونَ فِي السِّنِّ نَقْصٌ، قَالَ: مَا كَرِهْتَهُ فَدَعْهُ، وَلَا تُحَرِّمْهُ عَلَى أَحَدٍ).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الْجَحْدريّ البصريّ ثقة [10] 42/ 47، منْ أفراد المصنّف.

2 -

(خالد) بن الحارث الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإِمام الحجة الثبت [7] 24/ 27.

4 -

(سليمان بن عبد الرحمن) بن عيسى، ويقال: سليمان بن يسار، ويقال: سليمان بن أنس بن عبد الرحمن، الدمشقي، أبو عمرو، ويقال: أبو عمر مولى بني أسد بن خزيمة، ويقال: مولى بني أمية، ويقال: غير ذلك، خراساني الأصل، حديثه فِي المصريين، ثقة [6].

روى عن القاسم أبي عبد الرحمن، وعُبيد بن فيروز، ونافع بن كيسان، وعنه عمرو بن الحارث، ويزيد بن أبي حبيب، والليث، وابن لهيعة، وزيد بن أبي أنيسة، ومعاوية بن صالح فيما قيل. وَقَالَ ابن المبارك، عن شعبة، كَانَ حسن النحو. وَقَالَ أحمد: ما أحسن حديثه فِي الضحايا. وَقَالَ ابن معين، وأبو حاتم، والنسائي: ثقة، زاد أبو حاتم: صدوق عن البراء، مستقيم الْحَدِيث، لا بأس به. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ العجليّ: ثقة وَقَالَ ابن المديني فِي "العلل": لم يسمع منْ عبيد بن فيروز. وَقَالَ الحاكم فِي "المستدرك" أظهر علي بن المديني فضله وإتقانه

(1)

. روى له الأربعة، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط وأعاده فِي البابين التاليين.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله ابن المدينيّ منْ أنه لم يسمع منْ عبيد بن فيروز يرده ما سيأتي فِي الباب التالي منْ تصريح سليمان بسماعه منْ عُبيد بن فيروز، فليُتأمّل. والله تعالى أعلم.

و"أبو الضَحّاك، عُبيد بن فَيْرُوز" الشيبانيّ مولاهم الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقة [3].

روى عن البراء بن عازب، وعنه سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي الكبير، والقاسم أبو عبد الرحمن. قَالَ أبو حاتم، والنسائي: ثقة، زاد أبو حاتم: لا بأس به. وذكره بن حبّان فِي

(1)

هَذَا الكلام يحتاج إلى تأمل؟؟؟.

ص: 291

"الثقات". روى له الأربعة حديثا واحدًا فِي "الأضحية" صححه الترمذي، وأعاده المصنّف فِي البابين التاليين. انتهى "تهذيب التهذيب" 3/ 38 - 39. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه، فمن أفراده، وسليمان، وأبي الضحاك، فمن رجال الأربعة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عن أي الضحاك عبيد بن فيروز مولى بني شيبان) أنه (قَالَ: قلت للبراء) بن عازب رضي الله تعالى عنهما (حدثني) فعل أمر منْ التحديث (عما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم منْ الأضاحي) بفتح الهمزة، وتشديد التحتانيّة، وتُخفّف، جمع أضحيّة، بضم الهمزة، وكسرها (قَالَ) البراء رضي الله تعالى عنه (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدي أقصر منْ يده) ولفظ أبي داود:"وأصابعي أقصر منْ أصابعه، وأناملي أقصر منْ أنامله"، وإنما قَالَ ذلك تأدّبًا (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم بأصابعه الأربعة (أربع) منْ الأنعام (لا يَجُزْن) بفتح أوله، وضمّ الجيم، منْ الجواز، ويحتمل أن يكون بضم أوله، منْ الإجزاء (العوراء البَيّن) بفتح الموحّدة، وتشديد التحتانيّة، فعيلٌ بمعنى فاعل، أي الظاهر (عورها) بالعين، والواو المفتوحتين، وهو مرفوع عَلَى الفاعلية لـ"بيّن"، والعَوَرُ: ذَهاب بصر إحدى العينين، أي التي يكون عَوَرها ظاهرًا. قَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى فِي "المغني" 13/ 369 - : ومعنى "العوراء البيّن عورها": التي قد انخسفت عينها، وذهبت؛ لأنها قد ذهبت عينها، والعين عضو مستطابٌ، فإن كَانَ عَلَى عينها بياضٌ، ولم تذهب، جازت التضحية بها؛ لأن عورها ليست ببيّن، ولا ينقُص ذلك لحمها. انتهى.

(والمريضة البين مرضها) وهي التي لا تعتلف، قاله القاري. وَقَالَ فِي "المغني": وأما المريضة التي لا يرجى برؤها، فهي التي بها مَرَض، قد يُئِسَ منْ زواله؛ لأن ذلك يَنقُصُ لحمها، وقيمتها نقصا كبيرًا، والذي فِي الْحَدِيث:"المريضة الْبَيِّنُ مرضها": وهي التي يتبيّن أثره عليها؛ لأن ذلك ينقص لحمها، ويفسده، وهو أصح. وذكر القاضي: أن المراد بالمريضة الْجَرْباء؛ لأن الْجَرَب يفسد اللحم، ويُهزِل إذا كثر، وهذا قول أصحاب الشافعيّ. وهذا تقييد للمطلق، وتخصيص للعموم، بلا دليل، فالمعنى يقتضي العموم، كما يقتضيه اللفظ، فإن كَانَ المرض يفسد اللحم، وينقصه، فلا معنى للتخصيص، مع عموم اللفظ والمعنى. انتهى.

(والعرجاء) تأنيث الأعرج، يقال: عَرِج فِي مشيه عَرَجًا، منْ باب تَعِبَ: إذا كَانَ منْ علّة لازمة، فهو أعرج، والأنثى عرْجاء، فإن كَانَ منْ علّة غير لازمة، بل منْ شيء

ص: 292

أصابه حَتَّى غَمَرَ فِي مشيه قيل: عَرَجَ يعرُجُ، منْ باب قتل، فهو عارجٌ. قاله الفيّوميّ (البين ظلعها) قَالَ بسكون اللام، ويفتح: أي عرجها، وهو أن يمنعها منْ المشي. قَالَ الفيّوميّ: ظَلَع البعير، والرَّجُلُ ظلعًا، منْ باب نفَعَ: غَمَزَ فِي مشيه، وهو شَبيه بالْعَرَج، ولهذا يقال: هو عرج يسير. انتهى. وَقَالَ السنديّ فِي "شرحه" 7/ 214: المشهور عَلَى ألسنة أهل الْحَدِيث فتح الظاء، والسلام، وضبطه أهل اللغة بفتح الظاء، وسكون اللام، وهو العرج. قلت: كأن أهل الْحَدِيث راعوا مشاكلة العَوَر، والْمَرَض. والله تعالى أعلم. انتهى.

وَقَالَ فِي "المغني" 13/ 370: وأما العرجاء البيّن عرجُها، فهي التي بها عَرَجٌ فاحش، وذلك يمنعها منْ اللَّحَاق بالغنم، فتسبقها إلى الكلأ، فَيَرْعَينَه، ولا تدركهنّ، فينقص لحمها، فإن كَانَ عرجًا يسيرًا لا يفضي بها إلى ذلك أجزأت. انتهى.

(والكسيرة) بفتح الكاف، وكسر السين المهملة، قَالَ ابن الأثير: الكسيرة البيّنة الكسر: أي المنكسرة الرِّجْل التي لا تقدر عَلَى المشي، فعيل بمعنى مفعول. انتهى. وذكر فِي الرواية الآتية بعد باب بدل "الكسيرة":"الْعَجْفَاء"، ولفظه:"والعجفاءُ التي لا تنقي"، وهي المهزولة، وهذه الرواية أظهر فِي المعنى (التي لا تُنقي) بضمّ أوله، منْ أنقى: إذا صار ذا نِقْي، -بكسر النون، وإسكان القاف-، وهو المُخ، فالمعنى: ما بقي لها مُخٌّ منْ غاية العَجَف. وَقَالَ فِي "المغني": والعجفاء: المهزولة، التي لا تُنقِي، وهي التي لا مُخّ لها فِي عظامها؛ لهزالها، والنِّقْيُ المخ، قَالَ الشاعر:

لا تَشْكِيَنَّ عَمَلًا مَا أَنْقَيْنّ

مَا دَامَ مُخٌّ فِي سُلَامَى أَوْ عَيْن

فهذه، لا تجزىء؛ لأنها لا لحم فيها، إنما هي عظام مجتمعة. انتهى.

(قلت: إني أكرَه) بفتح الراء (أن يكون فِي القرن نقص، وأن يكون فِي السنن نقص) أي أكره النقص الذي فِي القرن، والسنّ مانعًا منْ التضحية (قَالَ) البراء رضي الله تعالى عنه (ما كرهته فدعه) أي اترك التضحية به (و) لكن (لا تحزمه) بتشديد الراء، منْ التحريم (عَلَى أحد) قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: المراد لا تقل: إنها لا تجوز عن أحد، وإلا فلا يُتصوّر التحريم، فليُتأمّل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

ص: 293

أخرجه هنا -5/ 4371 و6/ 4372 و7/ 4373 - وفي "الكبرى" 5/ 4459 و6/ 4465 و7/ 4461. وأخرجه (د) فِي "الضحايا" 2802 (ت) فِي "الأضاحي" 1497 (ق) 3144. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان ما لا يجوز أن يُضحّى به، وهي العوراء الظاهر عورها، والمريضة البيّن مرضها، والعرجاء البيّن عرَجها، والمكسورة التي لا تذهب إلى المرعى، فتكون مهزولة غاية الهُزال. (ومنها): ما كَانَ عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم منْ سلوك مسلك الأدب حينما يحكون أفعال النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأحواله، فإن البراء رضي الله تعالى عنه لَمّا أراد يحكي فعله صلى الله عليه وسلم حينما يشير بأصابعه إلى الأشياء المنهيّ عنها فِي الأضحيّة خشي أن يتوهم السامع أنه يده، وأصابعه صلى الله عليه وسلم مثل أصابعه، فَقَالَ: يدي أقصر منْ يده صلى الله عليه وسلم، وأصابعي أقصر منْ أصابعه. (ومنها): أنه يدلّ قول البراء رضي الله تعالى عنه: "فما كرهت فدعه" إلى أنه لا ينبغي للشخص أن يتقرب فِي الأضاحي بما هو معيب عنده، وإن لم يرد النصّ بكونه عيبًا؛ لأن التقرّب لابدّ أن يكون بما يراه المتقرّب طيّبًا؛ لقوله تعالى:{ولا تيمّمُوا الخبِيث مِنْهُ تُنفِقُون ولستُم بِآخِذِيهِ إِلّا أن تُغمِضُوا فِيهِ} الآية [البقرة: 267]. (ومنها): أنه يدلّ قول البراء رضي الله تعالى عنه أيضًا: "ولا تُحرّمه عَلَى أحد" أنه لا يحرُم منْ أنواع الأضحيّة التي بها عيبٌ، إلا ما نصّ الشارع بالنهي عن التضحية به، فكلّ لم يصحّ به النهي لا يمنع منْ التضحية به، وإن كَانَ فيه عيبٌ، وان كَانَ الأولى أن لا يُضحّي به. ولا خلاف بين أهل العلم -قاله ابن قُدامة رحمه الله تعالى- فِي أن الأربعة المذكورة فِي حديث البراء رضي الله تعالى عنه تمنع الإجزاء منْ التضحية بها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والماب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌6 - (بَابُ الْعَرْجَاءِ)

4372 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَيَحْيَى، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، وَأَبُو الْوَلِيدِ، قَالُوا: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ فَيْرُوزَ، قَالَ: قُلْتُ لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: حَدِّثْنِي مَا كَرِهَ، أَوْ

ص: 294

نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الأَضَاحِيِّ، قَالَ: فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ، هَكَذَا بِيَدِهِ، وَيَدِي أَقْصَرُ مِنْ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَرْبَعَةٌ لَا يَجْزِينَ فِي الأَضَاحِي، الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلْعُهَا، وَالْكَسِيرَةُ الَّتِي لَا تُنْقِي"، قَالَ: فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ نَقْصٌ فِي الْقَرْنِ وَالأُذُنِ، قَالَ: فَمَا كَرِهْتَ مِنْهُ فَدَعْهُ، وَلَا تُحَرِّمْهُ عَلَى أَحَدٍ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، غير سليمان، وعبيد.

و"محمد بن جعفر": هو غُندر. و"أبو داود": هو سليمان بن داود الطيالسيّ. و"يحيى": هو ابن سعيد القطّان. و"عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. و"ابن أبي عديّ": هو محمد بن إبراهيم. و"أبو الوليد": هشام بن عبد الملك الطيالسيّ.

وقوله: "أو نهى""أو" فيه للشكّ منْ الراوي. وقوله: "لا يَجْزِين" بفتح أوّله، منْ جزى يَجْزِي، ويجوز أن يكون بضمّ أوله أيضًا، منْ الإجزاء. قَالَ الفيّوميّ رحمه الله تعالى: جزى الأمرُ يَجزي جَزَاءً، مثلُ قضى يَقضِي قَضَاءً، وزنًا ومعنًى، وفي التنزيل:{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} الآية [البقرة: 48 و123]. وفي الدعاء: "جزاه الله خَيْرًا": أي قضاه له، وأثابه عليه، وَقَدْ يُستعمل أجزأ بالألف والهمزة بمعنى "جزى"، ونقلهما الأخفش بمعنًى واحدٍ، فَقَالَ: الثلاثيّ منْ غير همز لغة الحجاز، والرباعيّ المهموز لغة تميم. وجازيته بذنبه: عاقبته عليه، وجزيت الدين: قضيته، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بُردة بن نِيَار رضي الله تعالى عنه لمّا أمره أن يُضحّي بجذعة منْ المعز:"ولن تَجزي عن أحد بعدك "، قَالَ الأصمعيّ: أي ولن تَقضي، وأجزأت الشاة بالهمزة: بمعنى قضت، لغةٌ حكاها ابن القطّاع. وأما أجزأ بالألف والهمز، فبمعنى أغنى. انتهى المقصود منْ كلام الفيّوميّ.

والحديث صحيح، وَقَدْ سبق شرحه، وبيان مسائله، فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌7 - (بَابُ الْعَجْفَاءِ)

4373 -

(أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَذَكَرَ آخَرَ، وَقَدَّمَهُ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَهُمْ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ

ص: 295

فَيْرُوزَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ، وَأَصَابِعِي أَقْصَرُ مِنْ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُشِيرُ بِأَصْبُعِهِ، يَقُولُ:"لَا يَجُوزُ مِنَ الضَّحَايَا الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِى").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه:"سليمان بن داود": هو أبو الربيع المَهْريّ المصريّ ابن أخي رِشْدين بن سعد، فإنه تفرّد به هو، وأبو داود، وهو ثقة.

و"ابن وهب": هو عبد الله، أبو محمد القرشيّ مولاهم المصريّ الثقة الحافظ العابد. و"عمرو بن الحارث": هو أبو أيوب المصريّ الثقة الثبت الفقيه. و"الليث بن سعد": هو الإِمام الحجة الثبت المصريّ.

وقوله: "وذكر آخر الخ الضمير لابن وهب، أي ذكر ابن وهب شيخًا آخر مع عمرو بن الحارث، والليث بن سعد، وقدّم ذلك الشيخ عليهما، ولعل الشيخ الآخر هو يزيد بن أبي حبيب، فقد أخرجه الترمذيّ فِي "الجامع" محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سليمان بنحوه.

وقوله: "والعجفاء": أي المهزولة.

والحديث صحيح، وَقَدْ سبق البحث عنه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌8 - (الْمُقَابَلَةِ، وَهِيَ مَا قُطِعَ طَرَفُ أُذُنِهَا)

4374 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ -وَهُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ- عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ عَلِيٍّ رضى الله عنه، قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالأُذُنَ، وَأَنْ لَا نُضَحِّيَ بِمُقَابَلَةٍ، وَلَا مُدَابَرَةٍ، وَلَا بَتْرَاءَ، وَلَا خَرْقَاءَ).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن آدم) بن سليمان الْجُهَنيّ المصّيصيّ، صدوقٌ [10] 93/ 115.

ص: 296

2 -

(عبد الرحيم بن سُليمان) أبو عليّ الأشلّ المروزيّ، نزيل الكوفة، ثقة، له تصانيف، منْ صغار [8] 57/ 2305.

3 -

(زكريا بن أبي زائدة) خالد، ويقال: هُبيرة بن ميمون بن فيروز الْهَمدْاني الوادعي، أبو يحيى الكوفيّ، ثقة، يدلس، وسماعه منْ أبي إسحاق بآخره [6] 93/ 115.

4 -

(أبو إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعيّ الكوفيّ، ثقة عابد، اختلط بآخره [3] 38/ 42.

5 -

(شُريح بن النعمان) الصائديّ الكوفيّ، صدوق [3].

روى عن علي، وعنه ابنه سعيد، وسعيد بن عمرو بن أشوع، وأبو إسحاق السبيعي، وَقَالَ كَانَ رجل صدق، وقيل: إنه لم يسمع منه، وإنما سمع منْ ابن أشوع عنه، قَالَ ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، وعن هبيرة بن يَرِيم؟. قَالَ: ما أقربهما، قلت: يُحتج بحديثهما؟ قَالَ: لا، هما شبه المجهولين. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". قَالَ البخاريّ: لَمّا ذكر هَذَا الْحَدِيث، لم يثبت رفعه. وَقَالَ ابن سعد: كَانَ قليل الْحَدِيث. انتهى "تهذيب التهذيب" 2/ 162. روى له الأربعة، حديثا واحدًا فِي الأضحية، وكرره المصنّف أربع مرّات.

6 -

(علي) بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه 74/ 91 والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه، فتفرد به هو وأبو داود، وشريح، فهو منْ رجال الأربعة. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين منْ زكريا. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عن علي) بن أبي طالب رضي الله عنه أنه (قَالَ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن) أي نتأمّل سلامتهما منْ آفة تكون بهما. وقيل: هو منْ الشُّرْفة، وهي خيار المال: أي أُمِرْنا أن نتخيّرها. قاله فِي "النهاية" 2/ 462. وَقَالَ السنديّ فِي "شرحه" 7/ 216: قوله: "أن نستشرف العين والأذن": أي نبحث عنهما، ونتأمّل فِي حالهما؛ لئلّا يكون فيهما عيب. قَالَ السيوطيّ فِي "حاشية الترمذيّ": اختُلِف فِي المراد به، هل هو منْ التأمّل والنظر، منْ قولهم: استشرف: إذا نظر منْ مكان مرتفع، فإنه أمكن فِي النظر والتأمّل، أو هو تحرّي الأشرف، بأن لا يكون فِي عينه، أو أذنه نقصٌ. وقيل: المراد به كبر العضوين المذكورين؛ لأنه يدلّ عَلَى كونه أصلًا فِي جنسه. قَالَ الجوهريّ: أذُن شرفاءُ: أي طويلة، والقول الأول هو المشهور. انتهى.

(وأن لا نُضَحّي) بضم أوله، وتشديد ثالثه، منْ التضحية (بمقابلة) -بفتح الباء

ص: 297

الموحّدة-: فِي التي يُقطع منْ طرف أذنها شيء، ثم يُترك معلّقًا كأنه زَنَمَةٌ، واسم تلك السمة القُبْلَة، والإقبالة. قاله فِي "النهاية" 4/ 8 (ولا مدابرة) بفتح الموحّدة أيضًا: هي التي قُطع مُقدّم أُذنها، ثم تُرك كأنه زَنَمة (ولا بتراء) أي مقطوعة الذنب (ولا خرقاء) هي التي فِي أذنها خرقٌ مستديرٌ. زاد فِي رواية أبي داود منْ طريق زُهير، عن أبي إسحاق: قَالَ زهير: فقلت لأبي إسحاق: أذكر عضْبَاء؟ قَالَ: لا، قلت" فما المقابلة؟ قَالَ: يُقطع طرف الأذن، فقلت: فما المدابرة؟ قَالَ: يُقطع منْ مؤخّر الأذن، قلت: فما الشرقاء؛ قَالَ: تُشقّ الأذن، قلت: فما الخرقاء؛ قَالَ: تُخرّق أُذنها للسِّمَة. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عليّ رضي الله تعالى عنه هَذَا ضعيف، لعنعنة أبي إسحاق السبيعيّ، فإنه مدلّس.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -8/ 4374 و9/ 4375 و10/ 4376 و11/ 4377 - وفي "الكبرى" 8/ 4462 و9/ 4463 و10/ 4464 و11/ 4465. وأخرجه (د) فِي "الضحايا" 2804 (ت) فِي "الأضاحي" 1498 (ق) فِي "الأضاحي" 3142. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌9 - (الْمُدَابَرَةِ وَهِيَ مَا قُطِعَ مِنْ مُؤَخَّرِ أُذُنِهَا)

4375 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَعْيَنَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ النُّعْمَانِ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَكَانَ رَجُلَ صِدْقٍ، عَنْ عَلِيٍّ رضى الله عنه، قَالَ: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالأُذُنَ، وَأَنْ لَا نُضَحِّيَ بِعَوْرَاءَ، وَلَا مُقَابَلَةٍ، وَلَا مُدَابَرَةٍ، وَلَا شَرْقَاءَ، وَلَا خَرْقَاءَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو داود": هو سليمان بن سيف الحرّانيّ. و"الحسن بن محمد بن أعين": هو أبو عليّ الجزريّ. و"زهير": هو ابن معاوية.

وقوله: "ولا شرقاء": هي المشقوقة الأذن باثنين، يقال: شَرِقَت الشاة شَرَقًا، منْ

ص: 298

باب تَعِبَ: إذا كانت مشقوقة الأذن باثنين، فهي شَرْقَاء، ويتعدّى بالحركة، فيقال: شَرَقَها شَرْقًا، منْ باب قتل: إذا شقّها، واسم السِّمَة الشَّرَقَةُ بالتحريك. قاله فِي "المصباح" 1/ 310 - 311، و"النهاية" 2/ 466.

والحديث سبق شرحه، وهو ضعيف؛ للعلّة المذكورة فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

‌10 - (الْخَرْقَاءِ، وَهِيَ الَّتِي تُخْرَقُ أُذُنُهَا)

يقال: خَرِقت الشاةُ خَرَقًا، منْ باب تَعِبَ: إذا كَانَ فِي أُذنها خَرْق، وهو ثُقْبٌ مستدير، فهي خرقاء. قاله الفيّوميّ.

4376 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ نَاصِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضى الله عنه، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ نُضَحِّىَ بِمُقَابَلَةٍ، أَوْ مُدَابَرَةٍ، أَوْ شَرْقَاءَ، أَوْ خَرْقَاءَ، أَوْ جَدْعَاءَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أحمد بن ناصح" بن موسى: هو الْمِصِّيصيّ، صدوق [10] 139/ 1102.

وقوله: "أو جدعاء" -بجيم، ودال مهملة-: منْ الجدع، وهو قطع الأنف، أو الأذن، أو الشفة، وهو بالأنف أخصّ، فإذا أُطلق غلب عليه.

والحديث ضعيف، كما سبق بيانه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌11 - (الشَّرْقَاءِ، وَهِيَ مَشْقُوقَةُ الأُذُنِ)

4377 -

(أَخْبَرَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُجَاعُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنِي

ص: 299

زِيَادُ بْنُ خَيْثَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضى الله عنه:"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَا يُضَحَّى بِمُقَابَلَةٍ، وَلَا مُدَابَرَةٍ، وَلَا شَرْقَاءَ، وَلَا خَرْقَاءَ، وَلَا عَوْرَاءَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "هارون بن عبد الله": هو أبو موسى الحمّال الثقة الحافظ.

و"شُجاع بن الوليد" بن قيس السكونيّ، أبو بدر الكوفيّ، صدوقٌ، ورعٌ، له أوهام [9].

روى عن الأعمش، وموسى بن عقبة، وهاشم بن هاشم بن عتبة، وعمر بن محمد بن زيد العمري، وأبي خالد الدالاني، وزياد بن خيثمة، وزهير بن معاوية، وغيرهم.

وعنه بقية بن الوليد، ومات قبله، وأحمد، وإسحاق، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وهارون الحمال، وغيرهم.

قَالَ وكيع: سمعت سفيان يقول: ليس بالكوفة أعبد منه، وَقَالَ أحمد عن أبي نعيم: لقيت سفيان بمكة، فكان أول شيء سألني، كيف شجاع؟. وَقَالَ أحمد بن حنبل: كنت مع يحيى بن معين، فلقي أبا بدر، فَقَالَ له: اتّق الله، يا شيخ، وانظر هذه الأحاديث، لا يكون ابنك يعطيك، قَالَ أبو عبد الله: فاستحييت، وتنحيت ناحية. وَقَالَ المروذيّ: فقلت لأحمد: ثقة هو؟ قَالَ: أرجو أن يكون صدوقا. وَقَالَ حنبل: قَالَ أبو عبد الله: كَانَ أبو بدر شيخا صالحا صدوقا، كتبنا عنه قديما، قَالَ: ولقيه ابن معين يوما، فَقَالَ له: يا كذاب، فَقَالَ له الشيخ: إن كنتُ كذابا، وإلا فهتكك الله، قَالَ أبو عبد الله: فأظنّ دعوة الشيخ أدركته. وَقَالَ ابن خراش، عن محمد بن عبد الله الْمُخَرِّميّ: سئل وكيع عنه، فَقَالَ: كَانَ جارنا هاهنا، ما عرفناه بعطاء بن السائب، ولا المغيرة. وَقَالَ بن أبي خيثمة، عن ابن معين: شجاع بن الوليد ثقة. وَقَالَ العجليّ: كوفيّ ليس به بأس. وَقَالَ أبو حاتم: عبد الله بن بكر السهمي، أحبُّ إليّ منه، وهو شيخ ليس بالمتين، لا يحتج بحديثه. وَقَالَ مطين: مات سنة ثلاث ومائتين. وَقَالَ ابن سعد: مات سنة أربع ومائتين، فِي رمضان، وكان ورِعًا، كثير الصلاة. وَقَالَ أحمد بن كامل: مات سنة خمس ومائتين. وَقَالَ أبو زرعة: لا بأس به. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: يروي عن إسماعيل بن أبي خالد، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، مات سنة (4) أو (205)، وأرخه سنة خمس البخاريُّ، وإسحاق الْقَرّاب، والكلاباذيّ، وغيرهم. وَقَالَ أبو حاتم: روى حديث قابوس فِي العرب، وهو منكر، وشجاع لين الْحَدِيث، إلا أنه عن محمد بن عمرو بن علقمة، روى أحاديث صحاحا، ونقل ابن خلفون عن ابن

ص: 300

نمير، توثيقه. روى له الجماعة، وله فِي هَذَا الكتاب حديث الباب فقط.

و"زياد بن خَيْثمة" الجعفيّ الكوفيّ، ثقة [7].

روى عن أبي إسحاق السبيعي، ونعيم بن أبي هند، وسعد بن مجاهد الطائي، وسماك بن حرب، وعطية العوفي، ومجاهد، وثابت البناني، والأسود بن سعيد، وجماعة. وعنه أبو خيثمة الجعفي، وهشيم، وأبو بدر، ومحمد بن المُعَلَّى الكوفيّ، نزيل الرّيّ، وغيرهم. قَالَ ابن معين، وأبو زرعة: ثقة. وَقَالَ أبو حاتم: صالح الْحَدِيث. وَقَالَ أبو داود: زياد بن خيثمة قَرَابة زهير ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". روى له مسلم، والأربعة، وله فِي هَذَا الكتاب حديث الباب فقط.

والحديث ضعيف، كما سبق الكلام فيه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4378 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَنَّ سَلَمَةَ -وَهُوَ ابْنُ كُهَيْلٍ- أَخْبَرَهُ، قَالَ: سَمِعْتُ حُجَيَّةَ بْنَ عَدِيٍّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيًّا، يَقُولُ: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالأُذُنَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "خالد": هو ابن الحارث الْهُجَيميّ.

و"حُجيّة" -بضم الحاء المهملة، مصغّرًا، بوزن عُلَيّة- ابن عليّ الكنديّ، صدوق، يُخطىء [3].

روى عن علي، وجابر، وعنه الحكم بن عتيبة، وسلمة بن كهيل، وأبو إسحاق السبيعي. قَالَ ابن المديني: لا أعلم روى عنه إلا سلمة بن كهيل. وَقَالَ أبو حاتم: شيخ لا يحتج بحديثه، شيبة بالمجهول. وَقَالَ ابن سعد: كَانَ معروفا، وليس بذاك. وَقَالَ العجليّ: تابعيّ ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وروى الْبَرْقانيّ فِي اللفظ، منْ طريق شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن أبي الزعراء، وعن زيد بن وهب، أن سويد بن غَفَلَة دخل عَلَى علي فِي إمارته، فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، إني مررت بنفر، يذكرون أبا بكر وعمر

الْحَدِيث، قَالَ البرقاني: أبو الزعراء هَذَا، هو حُجيّة بن عدي، وليس هو صاحب ابن مسعود، ذاك اسمه عبد الله بن هانىء. قَالَ الحافظ: ووثق أبو عبد الله، محمد بن إبراهيم الْبُوشَنجيّ أبا الزعراء المذكور، فِي الإسناد الماضي، فَقَالَ: هو ثقة مأمون. انتهى "تهذيب التهذيب" ج 1 ص 366. روى له الأربعة، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 301

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عليّ رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -11/ 4378 - وفي "الكبرى" 11/ 4466. وأخرجه (ت) فِي "الأضاحي" 1503 (ق) فِي "الأضاحي" 3143 (أحمد) فِي "مسند العشرة" 599 و822. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌12 - (بَابُ الْعَضْبَاءِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "العضباء" بفتح، فسكون، تأنيث الأعضب، يقال: عَضِبَت الشاة عَضَبًا، منْ باب تَعِبَ: إذا انكسر قرنها، وعَضِبت الشاة، والناقة أيضًا عَضَبًا: إذا شُقّ أذنها، فالذكر أعضب، والأنثى عَضْبَاء، مثلُ أحمر، وحمراء. وكانت ناقة النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم تُلقَّب العضباء؛ لنجابتها، لا لشق أذنها. قاله الفيّوميّ. والله تعالى أعلم بالصواب.

4379 -

(أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ سُفْيَانَ -وَهُوَ ابْنُ حَبِيبٍ- عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ جُرَيِّ بْنِ كُلَيْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُضَحَّى، بِأَعْضَبِ الْقَرْنِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: نَعَمْ، إِلاَّ عَضَبَ النِّصْفِ، وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "جُريّ بن كُليب" -بالتصغير فيهما- السدوسيّ البصريّ، مقبول [3].

روى عن عليّ، وبَشِير بن الخصاصيّة. وعنه قتادة، وكان يُثني عليه خَيْرًا. وَقَالَ همام، عن قتادة: حدّثني جُريّ بن كُليب، وكان منْ الأزارقة. وَقَالَ ابن المديني: مجهول، ما روى عنه غير قتادة. وَقَالَ أبو حاتم: شيخ، لا يُحتجّ بحديثه. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، بروايته عن عليّ، لكن جعله نَهْديّا. وَقَالَ العجليّ: بصريّ تابعيّ ثقة. وصحّح الترمذيّ حديثه. روى له الأربعة حديث الباب فقط.

وقوله: "بأعضب القرن": هي المكسورة القرن. وقوله: "فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب الخ"، وفي رواية أبي داود، منْ طريق هشام الدستوائيّ، عن قتادة، قَالَ: قلت

ص: 302

لسعيد بن المسيّب: ما الأعضب؟، قَالَ النصف، فما فوقه. انتهى.

وقوله: "إِلَّا عَضَبَ النصفِ الخ، هكذا وقع فِي النسخ المطبوعة، بلفظ "إلا" الاستثنائية، وإضافة عضب إلى النصف، وهو تصحيف فاحش، والصواب: "الأعضب النصف" فـ"أن" هي المعرفة، دخلت عَلَى "عَضْبٍ" بفتح، فسكون -وهو مضاف إلى "القرن"، وقوله: "وأكثر منْ ذلك" بالرفع عطفٌ عَلَى "النصفُ"، فتنبه.

ومعنى كلام ابن المسيّب رحمه الله تعالى: أن الأعضب هي التي ذهب نصف قرنها، أو أكثر منْ ذلك، فلا يجوز التضحية بها. وسيأتي تحقيق الخلاف قريبًا، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عليّ رضي الله تعالى عنه هَذَا حسنٌ؛ وجُريّ بن كُليب، وإن قَالَ ابن المدينيّ، وأبو حاتم، تابعيّ، أثني عليه قتادة الراوي عنه، ووثقه العجليّ، وابن حبّان، وصحح الترمذيّ حديثه هَذَا، وصححه أيضًا الحاكم فِي "المستدرك" 4/ 224، ووافقه الذهبيّ، فأقلّ أحواله أن يكون حسن الْحَدِيث، وله شاهد منْ رواية جابر الجعفيّ، عن عبد الله بن نُجيّ، عن عليّ رضي الله تعالى عنه، أخرجه أحمد فِي "مسنده" 1/ 109، وجابر ضعيف.

والحاصل أن الْحَدِيث حسنٌ. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -12/ 4379 - وفي "الكبرى" 12/ 4467. وأخرجه (د) فِي "الضحايا" 2805 (ت) فِي "الأضاحي" 1504 (ق) فِي "الأضاحي" 3145. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي اختلاف العلماء فِي التضحية بأعضب القرن:

قَالَ ابن قُدامة فِي "المغني" 13/ 370 - 371: وأما العضب، فهو ذهاب أكثرَ منْ نصف الأذن، أو القرن، وذلك يمنع الإجزاء أيضًا، وبه قَالَ النخعيّ، وأبو يوسف، ومحمد. وَقَالَ أبو حنيفة، والشافعي: تجزىء مكسورة القرن، ورُوي نحو ذلك عن علي، وعمار، وابن المسيب، والحسن. وَقَالَ مالك: إن كَانَ قرنها يَدْمَى لم يجز، وإلا جاز. وَقَالَ عطاء، ومالك: إذا ذهبت الأذن كلها لم يجز، وإن ذهب يسير جاز. واحتجوا بأن قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أربع لا تجوز فِي الأضاحي"، يدل عَلَى أن غيره يجزىء؛ ولأن فِي حديث البراء، عن عبيد بن فيروز، قَالَ: قلت للبراء: فإني أكره النقص منْ

ص: 303

القرن، ومن الذنب، فَقَالَ: اكرَهْ لنفسك ما شئت، وإياك أن تضيق عَلَى النَّاس؛ ولأن المقصود اللحم، ولا يؤثر ذهاب ذلك فيه.

واحتجّ الأولون بما روى علي رضي الله عنه قَالَ: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُضَحَّى بأعضب القرن والأذن، قَالَ قتادة: فسألت سعيد بن المسيب؛ فَقَالَ: نعم الْعَضْبُ النصف، فأكثر منْ ذلك. رواه الشافعيّ، وابن ماجه. وعن علي رضي الله عنه، قَالَ: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن. رواه أبو داود، والنسائي، وهذا منطوق يقدم عَلَى المفهوم. انتهى كلام ابن قُدامة.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه الأولون منْ عدم إجزاء التضحية بالأعضب هو الأرجح عندي؛ لحديث عليّ رضي الله تعالى عنه المذكور فِي الباب، وَقَدْ مرّ آنفاً أنه حديث حسن صالح للاحتجاج به. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌13 - (الْمُسِنَّةُ، وَالْجَذَعَةُ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "المسنّة" بضم الميم، وكسر السين المهملة: اسم الفاعل منْ أسنّ: إذا نبت سنّه التي يصير بها مُسنّا، والبقر والشاة يقع عليهما اسم المسنّ، إذا أثنتا، فإذا سقطت ثنيّتهما بعد طلوعها، فقد أسنّت، وليس معنى إسنانها كِبَرَ سنّها كالرجل، ولكن معناه طلوع ثنيّتها، وتُثني البقرة فِي السنة الثالثة، وكذلك الْمِعْزَى تُثني فِي الثالثة، ثم تكون رباعية فِي الرابعة، ثم سِدْسًا فِي الخامسة، ثم سالِغًا فِي السادسة، وكذلك البقر فِي جميع ذلك. قاله فِي "اللسان" 13/ 222.

و"الجَذَعَة" -بفتحتين- أُنثى الْجَذَع، جمعها جَذَعات، مثلُ قَصَبَة وقَصَبَات، والْجَذَع -بفتحتين أيضًا: ما قبل الثنيّ، والجمع جِذَاع، مثلُ جبل وجبال، وجُذْعان، بضمّ الجيم، وكسرها، وأجذع ولد الشاة فِي السنة الثانية، وأجذع ولد البقرة، والحافر فِي الثالثة، وأجذع الإبل فِي الخامسة، فهو جذَعٌ. وَقَالَ ابن الأعرابيّ: الإجذاع وقتٌ، وليس بسنّ، فالعناق تُجذع لسنة، وربّما أجذعت قبل تمامها للخِصْب، فَتَسْمُنُ، فيُسرع إجذاعها، فهي جذعة، ومن الضأن إذا كَانَ منْ شابّين يُجذع لستّة أشهر إلى سبعة، وإذا كَانَ منْ هرمين أجذع منْ ثمانية إلى عشرة. ذكره فِي "المصباح" 1/ 94.

ص: 304

وَقَالَ فِي "الفتح" 11/ 131: اختلف القائلون بإجزاء الجذع منْ الضأن، وهم الجمهور، فِي سِنِّه عَلَى آراء:[أحدها]: أنه ما أكمل سنة، ودخل فِي الثانية، وهو الأصح عند الشافعية، وهو الأشهر عند أهل اللغة. [ثانيها]: نصف سنة، وهو قول الحنفية، والحنابلة. [ثالثها]: سبعة أشهر، وحكاه صاحب "الهداية" منْ الحنفية، عن الزعفراني. [رابعها]: ستة، أو سبعة، حكاه الترمذي عن وكيع. [خامسها]: التفرقة بين ما تولد بين شابين، فيكون له نصف سنة، أو بين هَرِمين، فيكون ابن ثمانية. [سادسها]: ابن عشر. [سابعها]: لا يجزي حَتَّى يكون عظيما، حكاه ابن العربي، وَقَالَ: إنه مذهب باطل، كذا قَالَ، وَقَدْ قَالَ صاحب "الهداية": إنه إذا كانت عظيمة، بحيث لو اختلطت بالثنيات، اشتبهت عَلَى الناظر منْ بعيد، أجزأت. وَقَالَ العبادي منْ الشافعية: لو أجذع قبل السنة: أي سقطت أسنانه، أجزأ كما لو تمت السنة قبل أن يجذع، ويكون ذلك كالبلوغ، إمّا بالسن، وإما بالاحتلام، وهكذا قَالَ البغوي: الجذع ما استكمل السنة، أو أجذع قبلها. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أن القول الأول هو الأرجح؛ لشهرته عند أهل اللغة؛ لأن الشارع إنما يأمر بما هو متعارف عند أهل اللغة؛ إلا أن يكون هناك دليل يصرفه إلى غيره. والله تعالى أعلم بالصواب.

4380 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ سَيْفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ -وَهُوَ ابْنُ أَعْيَنَ- وَأَبُو جَعْفَرٍ -يَعْنِي النُّفَيْلِيَّ- قَالَا: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَذْبَحُوا إِلاَّ مُسِنَّةً، إِلاَّ أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ، فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(سليمان بن سيف) الطائي مولاهم، أبو يحيى الحرّانيّ ثقة حافظ [11] 103/ 136 منْ أفراد المصنّف.

2 -

(الحسن بن أعين) هو الحسن بن محمد بن أعين، نسب لجدّه، أبو علي الحرّانيّ، صدوق [9] 16/ 649.

3 -

(أبو جعفر النُّفَيلي) هو عبد الله بن محمد بن عليّ بن نُفيل الحرّانيّ ثقة حافظ، منْ كبار [10] 7/ 406.

4 -

(زُهير) بن معاوية بن حُدَيج، أبو خيثمة الجعفيّ الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقة ثبت [7] 38/ 42.

5 -

(أبو الزبير) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، صدوق يدلس [4] 31/ 35.

6 -

(جابر) بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَمي الصحابيّ ابن الصحابيّ

ص: 305

رضي الله تعالى عنهما 31/ 35. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها). أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله تعالى عنه منْ المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ جَابِرٍ) بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَذْبَحُوا إِلاَّ مُسِنَّةً) اسم فاعل، منْ أسنّت: إذا طلع سنّها، وذلك بعد سنتين، لا منْ أسنّ الرجل: إذا كبر، وتقدم تمام البحث فيه قريبًا (إِلاَّ أَنْ يَعْسُرَ) بضم السين المهلمة، وكسرها، يقال: عسُر الأمر عَسَارة بالفتح، فهو عَسير، وعَسِر عَسَرًا، منْ باب تَعِبَ، فهو عَسِرٌ: إذا كَانَ صعبًا شديدًا (عَلَيْكُمْ، فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً) بفتحتين، قيل: هي منْ الضأن ما تمّ له سنة. وقيل: دون ذلك، وتقدّم بأتمّ منْ هَذَا فِي أول الباب (مِنَ الضَّأْنِ") قَالَ الفيّوميّ: الضأن ذوات الصوف، منْ الغنم، الواحدة ضائنة، والذكر ضائنٌ. قَالَ ابن الأنباريّ: الضأن مؤنّثةٌ، والجمع أضْؤُنٌ، مثلُ فلس وأفلُس، وجمع الكثرة ضَئِين، مثلُ كَرِيم. انتهى.

وَقَالَ النوويّ فِي "شرح مسلم" ج: 13 ص: 119 - 120 فِي شرح هَذَا الْحَدِيث: قَالَ العلماء: المسنة هى الثنية منْ كل شيء، منْ الإبل، والبقر، والغنم، فما فوقها، وهذا تصريح بأنه لا يجوز الجذع منْ غير الضأن، فِي حال منْ الأحوال، وهذا مجمع عليه، عَلَى ما نقله القاضي عياض، ونقل العبدري وغيره، منْ أصحابنا عن الأوزاعي، أنه قَالَ: يُجزي الجذع منْ الإبل والبقر والمعز والضأن، وحكى هَذَا عن عطاء، وأما الجذع منْ الضأن، فمذهبنا ومذهب العلماء كافة، يجزى، سواء وجد غيره أم لا، وحكوا عن ابن عمر، والزهري، أنهما قالا: لا يجزي، وَقَدْ يحتج لهما بظاهر هَذَا الْحَدِيث، قَالَ الجمهور: هَذَا الْحَدِيث محمول عَلَى الاستحباب والأفضل، وتقديره: يستحب لكم أن لا تذبحوا إلا مسنة، فإن عجزتم، فجذعة ضأن، وليس فيه تصريح بمنع جذعة الضأن، وأنها لا تجزىء بحال، وَقَدْ أجمعت، الأمة أنه ليس عَلَى ظاهره؛ لأن الجمهور يجوزون الجذع منْ الضأن، مع وجود غيره وعدمه، وابن عمر والزهرى يمنعانه، مع وجود غيره وعدمه، فتعين تأويل الْحَدِيث عَلَى ما ذكرنا منْ الاستحباب. والله أعلم.

وأجمع العلماء عَلَى أنه لا تجزي الضحية بغير الإبل، والبقر، والغنم، إلا ما حكاه ابن

ص: 306

المنذر، عن الحسن بن صالح، أنه قَالَ: تجوز التضحية ببقرة الوحش عن سبعة، وبالظبي عن واحد، وبه قَالَ داود فِي بقرة الوحش. والله أعلم.

والجذع منْ الضأن ما له سنة تامة، هَذَا هو الأصح عند أصحابنا، وهر الأشهر عند أهل اللغة، وغيرهم، وقيل: ماله ستة أشهر، وقيل: سبعة. وقيل: ثمانية. وقيل ابن عشرة. حكاه القاضي، وهر غريب، وقيل: أن كَانَ متولدا منْ بين شابين، فستة أشهر، وإن كَانَ منْ هرمين، فثمانية أشهر.

ومذهبنا، ومذهب الجمهور: أن أفضل الأنواع البدنة، ثم البقرة، ثم الضأن، ثم المعز، وَقَالَ مالك: الغنم أفضل؛ لأنها أطيب لحما. وحجة الجمهور أن البدنة تجزي عن سبعة، وكذا البقرة، وأما الشاة فلا تجزى إلا عن واحد، بالاتفاق، فدل عَلَى تفضيل البدنة، والبقرة. واختلف أصحاب مالك فيما بعد الغنم، فقيل: الإبل أفضل منْ البقرة، وقيل: البقرة أفضل منْ الإبل، وهو الأشهر عندهم.

وأجمع العلماء عَلَى استحباب سمينها، وطيبها، واختلفوا فِي تسمينها، فمذهبنا، ومذهب الجمهور استحبابه، وفي "صحيح البخاريّ" عن أبي أمامة، كنا نُسَمّن الأضحية، وكان المسلمون يسمنون. وحكى القاضي عياض، عن بعض أصحاب مالك كراهة ذلك؛ لئلا يتشبه باليهود، وهذا قول باطل. انتهى كلام النوويّ.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: سيأتي تحقيق الخلاف فِي جواز التضحية بالجذع مستوفًى فِي المسألة الرابعة، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهر المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث جابر رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه مسلم.

[تنبيه]: ضعّف الشيخ الألبانيّ هَذَا الْحَدِيث

(1)

، وأعلّه بعنعنة أبي الزبير، مع أن الإِمام مسلمًا رحمه الله تعالى أخرجه فِي "صحيحه"، وهذا عجيب منه؛ لأن منْ المعلوم أنه إذا أخرج صاحب الصحيح حديثًا للمدلّسين لابدّ أن يكون ذلك الْحَدِيث ثابتًا عنده، زائلًا عنه تهمة التدليس، وأن إخراجه له فِي الصحيح، كحكمه الصريح بأن هَذَا الْحَدِيث لا تدليس فيه، منْ دون فرق، ومما أعلّه به أيضًا مخالفته حديثَ:"إن الجذع يوفي مما يوفي منه الثنيّ" الآتي قريبًا، وهذا الإعلال غير صحيح؛ لأنه لا

(1)

انظر "إرواءه" 4/ 358 - 359.

ص: 307

معارضة بين الحديثين؛ لأن المراد بالمسنّة المنهيّ عنها فِي حديث مسلم هي المسنة منْ المعز، فإنها التي لا تُجزىء، كما سيأتي فِي حديث البراء رضي الله تعالى عنه.

وأما قوله بعد ذكر هَذَا التأويل: فإنه خلاف الظاهر منْ السياق، ثم ادّعى بطلانه بما نقله منْ رواية أبي يعلى منْ طريق محمد بن عثمان القرشيّ، عن سليمان، بلفظ:"إذا عزّ عليك المسان منْ الضأن، أجزأ الجذع منْ الضأن"، فغير صحيح أيضًا.

أما أوّلًا فما هو السياق الذي يخالف هَذَا الجمع؟، وأما ثانيًا فإن محمد بن عثمان رجل مجهول، كما قَالَ الدارقطنيّ، ولم يُعرف منْ هو سليمان؟ فكيف يُدَّعَى تضعيف حديث ما أخرجه مسلم فِي "صحيحه" بمثل هَذَا الْحَدِيث الضعيف الذي رواه مثل هَذَا المجهول، إن هَذَا العجب العجاب.

والحاصل أن الْحَدِيث صحيح، كما صححه الإِمام مسلم، وأنه لا معارضة بينه وبين حديث: "إن الجذع يوفي

" الْحَدِيث؛ لما عرفت منْ تأويله، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتهوّر بالاعتساف. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -13/ 4380 - وفي "الكبرى" 13/ 4468. وأخرجه (م) فِي "الأضاحي" 2631 (د) فِي "الضحايا" 2415 (ق) فِي "الأضاحي" 3132 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 13828. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان أن المسنّة هي المجزئة فِي الأضاحي. (ومنها): مشروعيةُ الأضحيّة. (ومنها): أنه لا يجوز فِي الأضحية الجذع منْ المعز، ولا منْ البقر، ولا منْ الإبل، وهو قول أهل العلم، وإنما اختلفوا فِي إجزاء الجذعة منْ الضأن، وسيأتي تحقيقه فِي المسألة التالية، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي الأضحيّة بالجذع منْ الضأن:

قَالَ العلّامة ابن قُدامة رحمه الله تعالى: فِي "المغني" ج 13/ 367 - 368:

ولا يجزىء إلا الجذع منْ الضأن، والثنيّ منْ غيره، وبهذا قَالَ مالك، والليث، والشافعي، وأبو عبيد، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. وَقَالَ ابن عمر، والزهري: لا يجزىء الجذع؛ لأنه لا يجزىء منْ غير الضأن، فلا يجزىء منه، كالْحَمَل، وعن عطاء، والأوزاعي: يجزىء الجذع، منْ جميع الأجناس؛ لما روى مُجاشع بن سليم، قَالَ: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الجذَع يُوَفِّي مما يوفى منه الثني"، رواه داود، والنسائي.

ص: 308

احتجّ الأولون عَلَى أن الجذع منْ الضأن يجزىء بحديث مجاشع، وأبي هريرة، وغيرهما، وعلى أن الجذعة، منْ غيرها لا تجزىء، بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا تذبحوا إلا مسنة، فإن عسر عليكم، فاذبحوا الجذع منْ الضأن". وَقَالَ أبو بردة بن نيار: عندي جَذَعَة أحبّ إليّ منْ شاتين، فهل تجزىء عني؛ قَالَ:"نعم، ولا تجزىء عن أحد بعدك". متَّفقٌ عليه، وحديثهم محمول عَلَى الجذع منْ الضأن؛ لما ذكرنا، قَالَ إبراهيم الحربي: إنما يجزىء الجذع منْ الضأن؛ لأنه ينزو، فيُلَقِّح، فإذا كَانَ منْ المعز، لم يُلقِّح حَتَّى يكون ثنيا. انتهى كلام ابن قُدامة.

وَقَالَ فِي "الفتح": فِي الْحَدِيث أن الجذع منْ المعز لا يجزي، وهو قول الجمهور، وعن عطاء، وصاحبه الأوزاعي: يجوز مطلقا، وهو وجه لبعض الشافعية، حكاه الرافعي، وَقَالَ النوويّ: وهو شاذّ، أو غلط، وأغرب عياض، فحكى الإجماع عَلَى عدم الإجزاء، قيل: والأجزاء مُصادرٌ للنص، ولكن يحتمل أن يكون قائله، قيد ذلك بمن لم يجد غيره، ويكون معنى نفى الإجزاء، عن غير منْ أَذِن له فِي ذلك محمولا، عَلَى منْ وجد.

وأما الجذع منْ الضأن، فَقَالَ الترمذي: إن العمل عليه عند أهل العلم، منْ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وغيرهم، لكن حكي غيره عن ابن عمر، والزهري: أن الجذع لا يجزي مطلقا، سواء كَانَ منْ الضأن، أم منْ غيره، وممن حكاه عن ابن عمر ابن المنذر، فِي "الإشراف"، وبه قَالَ ابن حزم، وعزاه لجماعة منْ السلف، وأطنب فِي الرد عَلَى منْ أجازه. ويحتمل أن يكون ذلك أيضًا، مقيدا بمن لم يجد، وَقَدْ صح فيه حديث جابر، رفعه:"لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم، فتذبحوا جذعة منْ الضأن"، أخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وغيرهم. لكن نقل النوويّ عن الجمهور، أنهم حملوه عَلَى الأفضل، والتقدير: يستحب لكم أن لا تذبحوا إلا مسنة، فإن عجزتم، فاذبحوا جذعة منْ الضأن، قَالَ: وليس فيه تصريح بمنع الجذعة منْ الضأن، وأنها لا تجزي، قَالَ: وَقَدْ أجمعت الأمة عَلَى أن الْحَدِيث ليس عَلَى ظاهره؛ لأن الجمهور يجوزون الجذع منْ الضأن، مع وجود غيره وعدمه، وابن عمر، والزهري يمنعانه مع وجود غيره وعدمه، فتعين تأويله.

ويدل للجمهور -كما قَالَ الحافظ- الأحاديث الآتية قريبًا، وكذا حديث أم هلال بنت هلال، عن أبيها، رفعه:"يجوز الجذع منْ الضأن أضحية"، أخرجه ابن ماجه، وحديث رجل منْ بني سليم، يقال له: مجاشع، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إن الجذع يوفي ما يوفى منه الثنيّ"، أخرجه أبو داود، وابن ماجه، وأخرجه النسائيّ، منْ وجه آخر، لكن لم يسم

ص: 309

الصحابيّ، بل وقع عنده: أنه رجل منْ مزينة، وحديث معاذ بن عبد الله بن حبيب، عن عقبة بن عامر:"ضَحّينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بجذع منْ الضأن"، أخرجه النسائيّ بسند قوي، وحديث أبي هريرة رفعه:"نعمت الأضحية الجذعة، منْ الضأن"، أخرجه الترمذي، وفي سنده ضعف. انتهى ما فِي "الفتح".

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الجمهور منْ أن الجذع يُجزىء إذا كَانَ منْ الضأن، دون غيره هو الأرجح؛ لظهور أدلّته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4381 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَعْطَاهُ غَنَمًا، يُقَسِّمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ، فَبَقِيَ عَتُودٌ، فَذَكَرَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "ضَحِّ بِهِ أَنْتَ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ البغلاني، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(الليث) بن سعد الإِمام الحجة الثبت المصريّ [7] 31/ 35.

3 -

(يزيد بن أبي حبيب) سُويد، أبو رجاء المصريّ، ثقة، يرسل [5] 134/ 207.

4 -

(أبو الخير) مَرْثد بن عبد الله الْيَزَنيّ المصريّ، ثقة فقيه [3] 38/ 582.

5 -

(عقبة بن عامر) الجهني الصحابيّ المشهور، أبو حماد عَلَى المشهور، ولي إمرة مصر لمعاوية ثلاث سنين، وكان فقيهًا فاضلًا، مات رضي الله تعالى عنه فِي قرب الستين، تقدم فِي 108/ 144. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمصريين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَعْطَاهُ غَنَمًا) هو أعمّ منْ الضأن والمعز، قَالَ الفيّوميّ رحمه الله تعالى: الغنم اسم جنس، يُطلق عَلَى الضأن والمعز، وَقَدْ تُجمَع عَلَى أغنام، عَلَى معنى قُطْعَانَات، منْ الغنم، ولا واحد للغنم منْ لفظها، قاله ابن الأنباريّ. وَقَالَ الأزهريّ أيضًا: الغنم الشاءُ، الواحدة شاة، وتقول العرب: راح عَلَى فلان غنمان: أي قَطِيعان منْ الغنم، كلُّ قطيع منفردٌ بمَرْعًى، وراعٍ. وَقَالَ الجوهريّ: الغنم

ص: 310

اسم مؤنّثٌ، موضوع لجنس الثاء، يقع عَلَى الذكر والإناث، وعليهما، ويُصغّر، فتدخل الهاء، ويقال: غُنيمةٌ؛ لأن أسماء المجموع التي لا واحد لها منْ لفظها، إذا كانت لغير الآدميين، وصُغّرت، فالتأنيث لازم لها. انتهى.

(يُقَسِّمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ) قَالَ فِي "الفتح" 11/ 126: يحتمل أن يكون الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم. ويحتمل أن يكون لعقبة، فعلى كلٍّ، يحتمل أن تكون الغنم ملكا للنبي صلى الله عليه وسلم وأمر بقسمتها بينهم تبرعا، ويحتمل أن تكون منْ الفيء، وإليه جنح القرطبيّ، حيث قَالَ: فِي الْحَدِيث: إن الإِمام ينبغي له أن يُفَرِّق الضحايا عَلَى منْ لم يقدر عليها، منْ بيت مال المسلمين. وَقَالَ ابن بطال: إن كَانَ قسمها بين الأغنياء، فهي منْ الفيء، وان كَانَ خص بها الفقراء، فهي منْ الزكاة، وَقَدْ ترجم له البخاريّ فِي "الشركة" - "باب قسمة الغنم، والعدل فيها"، وكأنه فهم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بَيّن لعقبة، ما يعطيه لكل واحد منهم، وهو لا يُوَكِّل إلا بالعدل، وإلا لو كَانَ وَكّلَ ذلك لرأيه، لعسر عليه؛ لأن الغنم لا يتأتى فيها قسمة الأجزاء، وأما قسمة التعديل فتحتاج إلى ردّ؛ لأن استواء قسمتها عَلَى التحرير بعيد.

قَالَ الحافظ: ويحتمل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم ضَحَّى بها عنهم، ووقعت القسمة فِي اللحم، تكون القسمة قسمة الأجزاء.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لكن هَذَا الاحتمال الذي قاله الحافظ فيه نظر؛ إذ يُبعده قوله: "فبقي عتود"؛ لأن الظاهر أنه بقي منْ الأغنام المقسومة، لا المذبوحة، والله تعالى أعلم.

(فَبَقِيَ عَتُودٌ) بفتح المهملة، وضم المثناة الخفيفة، وهو منْ أولاد المعز ما قَوِيَ، وَرَعَى، وأَتَى عليه حول، والجمع أعْتِدَة، وعِتْدَانٌ، وتدغم التاء فِي الدال، فيقال: عِدّان. وَقَالَ ابن بطال: العتود الجذع، منْ المعز ابن خمسة أشهر، وهذا يُبَيّن المراد بقوله فِي الرواية التالية عن عقبة رضي الله عنه:"فصارت لي جذعة"، وأنها كانت منْ المعز، وزعم ابن حزم أن العتود لا يقال، إلا للجذع منْ المعز. وتعقبه بعض الشراح بما وقع فِي كلام صاحب "المحكم" أن العتود الجدي الذي استكرش. وقيل: الذي بلغ السِّفَاد. وقيل: هو الذي أجذع.

(فَذَكَرهُ لِرسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي ذكر له عبقة بقاء العتد (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (ضَحِّ) بفتح الضاد المعجمة، وتشديد الحاء المهملة، فعل أمر منْ التضحية (بِهِ أَنْتَ) زاد البيهقي فِي روايته، منْ طريق يحيى بن بكير، عن الليث:"ولا رخصة فيها لأحد بعدك" وسيأتي البحث فِي هذه الزيادة عند ذكر حديث أبي بُردة بن نِيار رضي الله تعالى عنه، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 311

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -13/ 4381 و4382 و4383 و4384 - وفي "الكبرى" 13/ 4469 و4470 و4471 و4472. وأخرجه (خ) فِي "الوكالة" 2136 و"الشركة" 2319 و"الأضاحيّ" 5121 و5129 (م) فِي "الأضاحي" 3633 (ت) فِي "الأضاحي" 1420 (ق) فِي "الأضاحي" 2129 (أحمد) فِي "مسند الشاميين" 16666 و16707 و16740 و16783 "الدارمي" فِي "الأضاحي" 1871 و1872. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم التضحية بالجذع. (ومنها): أن الإمام يقسم الضحايا بين الرعيّة، إذا لم يجدوها. (ومنها): جواز التوكيل بالقسمة. (ومنها): أنه استُدِلّ به عَلَى إجزاء الأضحية بالشاة الواحدة، وأن التضحية بكبشين الآتي فِي الباب التالي ليس عَلَى الوجوب، بل عَلَى الاختيار، فمن ذبح واحدة، أجزأت عنه، ومن زاد فهو خير، والأفضل الاتباع فِي الأضحية بكبشين، ومن نظر إلى كثرة اللحم، كالشافعي، قَالَ: الأفضل الإبل، ثم الضأن، ثم البقر. قَالَ ابن العربي: وافق الشافعيَّ أشهبُ منْ المالكية، ولا يُعدَلُ بفعل النبيّ صلى الله عليه وسلم شيء، لكن يمكن التمسك بقول ابن عمر رضي الله عنهما، كَانَ يذبح، وينحر بالمصلى

(1)

، أي فإنه يشمل الإبل وغيرها، قَالَ لكنه عموم، والتمسك بالصريح أولى، وهو الكبش.

قَالَ الحافظ: قلت: قد أخرج البيهقي منْ حديث ابن عمر: "كَانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، يضحي بالمدينة، بالجزور أحيانا، وبالكبش، إذا لم يجد جزروا". فلو كَانَ ثابتا لكان نصا فِي موضع النزاع، دكين فِي سنده عبد الله بن نافع، وفيه مقال. وَقَدْ ثبت حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ضَحّى عن نسائه بالبقر"، وَقَدْ ثبت فِي حديث عروة، عن عائشة، رضي الله عنها، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن، يطأ فِي سواد، وينظر فِي سواد، ويبرك فِي سواد، فأضجعه، ثم ذبحه، ثم قَالَ: "بسم الله، اللَّهم تقبل منْ محمد، وآل محمد، ومن أمة محمد"، ثم ضحى، أخرجه مسلم. قَالَ الخطابي: قولها: "يطأ فِي سواد الخ": تريد أن أظلافه، ومواضع البروك منه، وما أحاط بملاحظ

(1)

قد تقدّم للمصنف مرفوعًا 3/ 4368 و4369، فتنبه.

ص: 312

عينيه، منْ وجهه أسود، وسائر بدنه أبيض. قاله فِي "الفتح" 11/ 126 - 127. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4382 -

(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ دُرُسْتَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ -وَهُوَ الْقَنَّادُ- قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنِي بَعْجَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَسَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ ضَحَايَا، فَصَارَتْ لِي جَذَعَةٌ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَارَتْ لِي جَذَعَةٌ، فَقَالَ: "ضَحِّ بِهَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح غير "أبي إسماعيل القَنّاد"، وهو إبراهيم بن عبد الملك البصريّ، فإنه منْ رجال المصنّف، والترمذيّ، وهو صدوقٌ، فِي حفظه شيء. [7] 23/ 24.

و"يحيى": هو ابن أبي كثير.

و"بعجة" بن عبد الله بن بدر الْجُهَنيّ، ثقة [3].

روى عن أبيه، وله صحبة، وعليّ، وعثمان، وعقبة بن عامر، وأبي هريرة. وعنه أسامة بن زيد الليثيّ، وأبو حازم المدنيّ، وعبد الله، ومعاوية ابنا بعجة، ويحيى بن أبي كثير، ويزيد بن أبي حبيب. قَالَ النسائيّ: ثقة. وذكره مسلم فِي الطبقة الأولى منْ أهل المدينة. وَقَالَ البخاريّ: مات قبل القاسم بن محمد، ومات القاسم سنة (101) وأرّخ ابن حبّان فِي "الثقات" وفاته سنة (100). روى الجماعة، سوى أبي داود، فروى له فِي "المراسيل"، وله فِي هَذَا الكتاب حديث الباب فقط.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4383 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ بَعْجَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيِّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بَيْنَ أَصْحَابِهِ أَضَاحِيَّ، فَأَصَابَنِي جَذَعَةٌ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصَابَتْنِي جَذَعَةٌ، فَقَالَ: "ضَحِّ بِهَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده، وهو بصريّ، ثقة. و"خالد": هو ابن الحارث الْهجيميّ البصريّ. و"هشام": هو الدستوائيّ. والسند مسلسل بالبصريين إلى يحيى، وبعجة مدنيّ، والصحابيّ مدني نزيل مصر.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 313

4384 -

(أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خُبَيْبٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: ضَحَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِجَذَعٍ مِنَ الضَّأْنِ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، سوى شيخه، وهو أبو الربيع المهريّ المصريّ، فقد تفرد به هو وأبو داود، وهو ثقة. و"عمرو": هو ابن الحارث. و"بُكير بن الأشجّ": هو ابن عبد الله بن الأشجّ، نسب لجدّه.

و"معاذ بن عبد الله" بن خُبيب -مصغّرًا- الجُهَنيّ المدنيّ، صدوقٌ، ربّما وهم [4].

روى عن أبيه، وأخيه عبد الله، وعقبة بن عامر الجهني، وابن عباس، وجابر بن أسامة الجهني، وعبد الله بن أنيس الجهني، وسعيد بن المسيب، وجابر بن عبد الله، وجماعة. وعنه عبد الله بن سليمان بن أبي سلمة الأسلمي، وزيد بن أسلم، وبكير بن الأشج، وسعد بن سعيد الأنصاريّ، وغيرهم.

قَالَ عثمان الدارمي: قلت لابن معين: معاذ بن عبد الله، عن أبيه كيف هو؟ قَالَ: منْ الثقات. وَقَالَ الآجري، عن أبي داود: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، قَالَ ابن أبي عاصم: مات سنة ثماني عشرة ومائة. وَقَالَ ابن سعد فِي الطبقة الثالثة منْ المدنيين: مات فيها، وكان قليل الْحَدِيث، وَقَالَ الدارقطني: ليس بذاك. وَقَالَ ابن حزم مجهول. روى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، والأربعة، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب ثلاثة أحاديث: هَذَا، وفي "كتاب الاستعاذة" 1/ 5430 حديثٌ عن أبيه، قَالَ: أصابنا طشّ، وظلمة

الْحَدِيث، و5431 حديث عن أبيه أيضًا: "كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي طريق مكة

" الْحَدِيث، و5433 - حديث عن أبيه، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه: "قَالَ: بينا أنا أقود برسول الله صلّى الله وسلم

" الْحَدِيث، و5434 - حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل: قلت: وما أقول؟

" الحديث.

وفي هَذَا الْحَدِيث دلالة عَلَى أن الجذع منْ الضأن يجزىء فِي الأضحيّة، وهو مذهب الجمهور، وَقَدْ تقدّم تحقيقه فِي مسائل الْحَدِيث المذكور أول الباب، وبالله تعالى التوفيق.

وهو حديث صحيح، تفرّد به المصنّف، فأخرجه هنا -13/ 4384 - وفي "الكبرى"4472. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4385 -

(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، فِي حَدِيثِهِ عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنِ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنَّا فِي سَفَرٍ، فَحَضَرَ الأَضْحَى، فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنَّا يَشْتَرِي الْمُسِنَّةَ

ص: 314

بِالْجَذَعَتَيْنِ، وَالثَّلَاثَةِ، فَقَالَ لَنَا رَجُلٌ، مِنْ مُزَيْنَةَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَحَضَرَ هَذَا الْيَوْمُ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَطْلُبُ الْمُسِنَّةَ بِالْجَذَعَتَيْنِ، وَالثَّلَاثَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ الْجَذَعَ يُوفِي مِمَّا يُوفِي مِنْهُ الثَّنِيُّ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(هناد بن السريّ) بن مصعب، أبو السريّ الكوفيّ، ثقة [10] 23/ 25.

2 -

(أبو الأحوص) سلّام بن سُليم الحنفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة متقن [7] 79/ 96.

3 -

(عاصم بن كُليب) بن شهاب الجرمي الكوفيّ، صدوق رمي بالإرجاء [5] 11/ 889.

4 -

(أبوه) كليب بن شهاب بن المجنون الكوفيّ، صدوق [2] ووهم منْ ذكره فِي الصحابة 11/ 889.

5 -

(رجل منْ مزينة) مجهولٌ، ولكن لا تضرّ جهالته؛ لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهما كلهم عدول، ويحتمل أن يكون مجاشع -بضم الميم، بصيغة اسم الفاعل- ابن مسعود بن ثعلبة بن وهب السُّلَميّ، صحابي قتل رضي الله تعالى عنه يوم الجمل سنة ست وثلاثين. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ) كُليب بن شهاب، أنه (قَالَ: كُنَّا فِي سَفَرٍ، فَحَضَرَ الأَضْحَى) أي يوم عيد الأضحى (فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنَّا يَشْتَرِى الْمُسِنَّةَ بِالْجَذَعَتَيْنِ) أي ليضحّي بها، لظنه أن الجذع لا يجزىء التضحية بها.

قَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى فِي "المغني" 13/ 368 - 369 - : والجذع منْ الضأن ما له ستة أشهر، ودخل فِي السابع، قَالَ أبو القاسم: وسمعت أبي يقول: سألت بعض أهل البادية، كيف تعرفون الضأن إذا أجذع؟ قَالَ: لا تزال الصوفة قائمة عَلَى ظهره، ما دام حَمَلًا، فإذا نامت الصوفة عَلَى ظهره، عُلِمَ أنه قد أجذع، وثَنِيّ المعز، إذا تمت له سنة، ودخل فِي الثانية، والبقرةِ، إذا صار لها سنتان، ودخلت فِي الثالثة، والإبل، إذا كمل لها خمس سنين، ودخلت فِي السادسة. قَالَ الأصمعي، وأبو زياد الكلابي، وأبو

ص: 315

زيد الأنصاريّ: إذا مضت السنة الخامسة عَلَى البعير، ودخل فِي السادسة، وألقى ثنيته، فهو حينئذ ثَنِيٌّ، ونرى إنما سمى ثَنِيّا؛ لأنه ألقى ثنيته، وأما البقرة، فهي التي لها سنتان؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"لا تذبحوا إلا مسنة"، ومسنة البقر: التي لها سنتان. وَقَالَ وكيع: الجذع منْ الضأن، يكون ابن سبعة، أو ستة أشهر. انتهى كلام ابن قُدامة.

(وَالثَّلَاثةِ) بالجرّ عطفًا عَلَى "الجذعتين"(فَقَالَ لنا رَجُلٌ، مِنْ مُزَيْنَةَ) بصيغة التصغير القبيلة المعروفة، ثم إنه يحتمل أن يكون الرجل هو مُجاشع بن مسعود رضي الله تعالى عنه، فقد أخرجه أبو داود (2799) منْ طريق الثوريّ، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، قَالَ: كنّا مع رجل منْ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، يقال له: مُجاشعٌ، منْ بني سُليم، فعزّت الغنم، فأمر مناديًا، فنادى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كَانَ يقول

" الْحَدِيث (كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَحَضَرَ هَذَا الْيَوْمُ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَطْلُبُ الْمُسِنَّةَ بِالْجَذَعَتَيْنِ، وَالثَّلَاثَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْجَذَعَ) أي منْ الضأن؛ لما فِي رواية البيهقيّ: "إن الجذع منْ الضأن يفي ما تفي منه الثنيّة"(يُوفِي) يحتمل أن يكون منْ الإيفاء، أو منْ التوفية: أي يجزىء، ويُغني (مِمَّا يُوفِي مِنْهُ الثَّنِيُّ) هو المسنّ، وتقدّم آنفًا تفسيره. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

حديث عاصم بن كُليب، عن أبيه، عن رجل منْ مُزينة رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -13/ 4385 و4389 - وفي "الكبرى" 13/ 4473 و4474. وأخرجه (أحمد) فِي "مسند الأنصار" 22043. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم المسنّة والجذعة فِي الأضحيّة، وهو جواز التضحية بهما، والمراد بالجذع هو الجذع منْ الضأن؛ لما تقدّم منْ حديث جابر رضي الله تعالى عنه؛ مرفوعًا:"لا تذبحوا إلا مسنّةٌ الخ"، ولما فِي رواية البيهقيّ المذكورة. (ومنها): مشروعيّة الأضحية فِي السفر. (ومنها): جواز بيع الحيوان بعضها ببعض متفاضلًا، وسيأتي تمام البحث فيه فِي محلّه منْ "كتاب البيوع" إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4386 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، يُحَدِّثُ عَنْ رَجُلٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَبْلَ الأَضْحَى بِيَوْمَيْنِ، نُعْطِي الْجَذَعَتَيْنِ بِالثَّنِيَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْجَذَعَةَ تُجْزِىءُ، مَا

ص: 316

تُجْزِىءُ مِنْهُ الثَّنِيَّةُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

و"خالد": هو ابن الحارث الهجيميّ. والحديث صحيح، كما سبق بيانه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌14 - (الْكَبْشُ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الكبش" بفتح، فسكون-: واحد الكِبَاش، والأكبُش، قَالَ ابن سيدهْ: الكبش فحل الضأن، فِي أيّ سنّ كَانَ. وَقَالَ الليث: إذا أثنى الْحَمَلُ، فقد صار كَبْشًا. وقيل: إذا أربع. قاله فِي "اللسان". والله تعالى أعلم بالصواب.

4387 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ -وَهُوَ ابْنُ صُهَيْبٍ- عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ، قَالَ: أَنَسٌ وَأَنَا أُضَحِّى بِكَبْشَيْنِ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

و"إسحاق بن إبراهيم": هو ابن راهويه. و"إسماعيل": هو ابن عليّة.

والسند مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فمروزي، ثم نيسابوريّ، وهو منْ رباعيّات المصنّف، وهو (209) منْ رباعيات الكتاب، وهو أعلى ما وقع له منْ الأسانيد، كما تقدّم غير مرّة، وتقدم معنى الكبش أول الباب، والحديث متّفق عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4388 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، وَقَدْ تقدموا غير مرّة.

و"خالد": هو ابن الحارث الهُجَيميّ. و"حميد": هو ابن أبي حميد الطويل. و"ثابت": هو ابن أسلم البناني. والسند مسلسل بالبصريين، وشيخه أحد مشايخ الستة الذين يروون عنهم بلا واسطة، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أنس رضي الله تعالى عنه منْ المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر منْ مات منْ الصحابة

ص: 317

بالبصرة رضي الله تعالى عنهم.

وقوله: "أملحين": "الأملح" هو الذي بياضه أكثر منْ سواده. وقيل: هو النقيّ البياض. وقيل: هو الذي يُخالط بياضه. وقيل: هو الأسود، تعلوه حمرة.

والحديث متّفقٌ عيه، وَقَدْ تقدّم فِي "كتاب صلاة العيدين" 30/ 1588 - ومضى شرحه، وتخريجه هناك، وسيأتي أيضًا بعد بابين، وسنتكلّم عيه هناك أيضًا، ويأتي أيضًا بعد خمسة عشر بابًا، وسأتوسّع هناك فِي الكلام عليه، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4389 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: ضَحَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، أَقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى، وَكَبَّرَ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح.

و"أبو عوانة": هو الوضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ، والسند أيضًا منْ رباعياته، وهو (210) منْ رباعيات الكتاب.

وقوله: "ضحّى النبيّ صلى الله عليه وسلم" وفي الرواية السابقة: "كَانَ يُضحّي"، وهو أظهر فِي المداومة عَلَى ذلك.

وقوله: "أقرنين": "الأقرن": هو الذي له قرنان معتدلان.

وقوله: "عَلَى صِفاحهما": أي صفحة العنق، قَالَ فِي "القاموس": الصَفح بالفتح: الجانب، ومن الجبل مُضْطَجَعُهُ، ومنك جنبك، ومن الوجه والسيف: عرضه، ويُضمّ، جمعه صِفَاحٌ. انتهى.

وَقَالَ فِي "الفتح" 11/ 134: قوله: "عَلَى صفاحهما": أي عَلَى صفاح كلّ منهما عند ذبحه، والصفاح بكسر الصاد المهملة، وتخفيف الفاء، وآخره حاء مهملة: الجوانب، والمراد الجانب الواحد منْ وجه الأضحيّة، وإنما ثنّي إشارة إلى أنه فعل فِي كلّ منهما، فهو منْ إضافة الجمع إلى المثنّى بإرادة التوزيع. انتهى.

والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم كَانَ يضع رجله عَلَى جانب عنق كلّ منهما، وإنما فعل ذلك؛ ليكون أثبت، وأمكن؛ لئلا تضطرب الذبيحة برأسها، فتمنعه منْ إكمال الذبح، أو تؤذيه. والله تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عيه، كما مرّ فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4390 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ

ص: 318

مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَوْمَ أَضْحَى، وَانْكَفَأَ إِلَى كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، فَذَبَحَهُمَا، مُخْتَصَرٌ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "حاتم بن وَرْدان ": هو السعديّ، أبو صالح البصريّ، ثقه [8]. و"أيوب": هو السختيانيّ.

وقوله: "وانكفأ": أي مال، ورجع. وقوله:"مختصر" بالرفع خبر لمبتدإٍ محذوف: أي هَذَا الْحَدِيث مختصر منْ الْحَدِيث الطويل، وسيأتي مطوّلًا بعد بابين، إن شاء الله تعالى.

والحديث متّفقٌ عليه، كما مضى بيانه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4391 -

(أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، فِي حَدِيثِهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ

(1)

عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفَ، كَأَنَّهُ يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَوْمَ النَّحْرِ إِلَى كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، فَذَبَحَهُمَا، وَإِلَى جُذَيْعَةٍ مِنَ الْغَنَمِ، فَقَسَمَهَا بَيْنَنَا).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(حميد بن مسعدة) بن المبارك السامي الباهلي البصريّ، صدوق [10] 5/ 5.

2 -

(يزيد بن زُريع) أبو معاوية البصريّ، ثقة ثبت [8] 5/ 5.

3 -

(ابن عون) عبد الله، أبو عون البصريّ، ثقة ثبت فاضل [5] 29/ 33.

4 -

(محمد) بن سيرين الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقة ثبت عابد [3] 46/ 57.

5 -

(عبد الرحمن بن أبي بكرة) نُفيع بن الحارث الثقفيّ، أبو بحر، ويقال: أبو حاتم البصريّ، وهو أول مولود، وُلد فِي الإِسلام بالبصرة، ثقة [2].

روى عن أبيه، وعلي، وعبد الله بن عمرو بن الأسود بن سَرِيع، والأشج العصري. وعنه ابن أخيه ثابت بن عبيد الله بن أبي بكرة، وابن ابنه بحر بن مرار بن عبد الرحمن، وخالد الحذاء، ومحمد بن سيرين، وجماعة. ذكره بن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ ابن سعد: هو أول مولود، وُلد بالبصرة، فأطعم أبوه أهل البصرة جزورا، فكفتهم، وكان ثقة، وله أحاديث ورواية. قَالَ الحافظ: وَقَالَ ابن خلفون فِي "الثقات" فيما نقله منْ خطه مغلطاي: وُلد سنة (14) ومات سنة (96) وراجعتُ كتاب ابن خلفون، ففيه:

(1)

وقع فِي بعض النسح: "عن محمد بن عبد الرحمن، وهو تصحيف، تصحّفت: "عن" إلى "ابن"، فتنبّه.

ص: 319

يقال: إنه أول مولود ولد بالبصرة، سنة (14) ثم ذكر وفاته، وكذا أرّخ وفاته إسحاق القَرّاب، وَقَالَ خليفة: توفي بعد الثمانين. وَقَالَ العجليّ: بصري تابعيّ ثقة. وَقَالَ البلاذري: حدثني أبو الحسن البلاذري، حدثني أبو الحسن المدائني، قَالَ: كَانَ عبد الرحمن بن أبي بكرة فَرّاسا، وشارف التسعين. ووقع فِي بعض النسخ منْ "مختصر السنن" للمنذري بتقديم السين عَلَى الباء، وهو خطأ، وكان يَخرُج كل يوم إلى الْمِرْبَد، فَقَالَ له سارب: إنك لطويل العمر، يا شيخ، فذكر قصة، قَالَ: وحدثني شيبان بن فروخ، قَالَ: ثنا أبو هلال، قَالَ: كَانَ زياد وَلّى عبد الرحمن بيوت الأموال، ووَلَّى عبد الله سِجِستان، وَقَالَ أبو اليقظان: ولاه عليّ بيتَ المال، ثم ولاه ذاك زياد. انتهى "تهذيب التهذيب" 2/ 492. روى له الجماعة.

وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب خمسة أحاديث، كلها عن أبيه، هَذَا الْحَدِيث، وفي "البيوع" -50/ 4580 - حديث: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيع الفضة بالفضة

" الْحَدِيث، وأعاده بعده رقم 4581 وفي "كتاب آداب القضاء" 18/ 5408 "لا يحكم أحد بين اثنين، وهو غضبان"، و32/ 5423 حديث: "لا يقضينّ أحد فِي قضاء بقضاءين

" الْحَدِيث.

6 -

(أبوه) أبو بكرة نُفيع بن الحارث بن كَلَدَة الثقفيّ، الصحابيّ المشهور، أسلم بالطائف، ثم نزل البصرة، ومات بها سنة (1) أو (52) تقدمت ترجمته فِي 41/ 836. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه ثلاثة منْ التابعين يروي بعضهم عن بعض، ابن عون، وهو قد رأى أنسًا رضي الله تعالى عنه، وابن سيرين، وعبد الرحمن، وفيه رواية الابن عن أبيه، وأن أبا بكرة رضي الله تعالى عنه ممن لُقّب بالكنية، وإنما لقب بها؛ لأنه نزل منْ حصن ثقيف ببكرة البئر، وكنيته أبو عبد الرحمن. والله تعالى أعلم.

شرحِ الْحَدِيث

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ) أبي بكرة نُفيع بن الحارث رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفَ) ولفظ مسلم: "ثمّ انكفأ"(كأَنَّهُ يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) الْحَدِيث مختصر، طوّله مسلم، فِي "صحيحه"، ولفظه فِي "كتاب القسامة":

1679 -

حدثنا نصر بن علي الجهضمي، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا عبد الله بن

ص: 320

عون، عن محمد بن سيرين، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، قَالَ: لَمّا كَانَ ذلك اليومُ قعد عَلَى بعيره، وأخذ إنسان بخطامه، فَقَالَ:"أتدرون أيُّ يوم هَذَا؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، حَتَّى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، فَقَالَ:"أليس بيوم النحر؟ " قلنا: بلى، يا رسول الله، قَالَ:"فأيُّ شهر هَذَا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم، قَالَ؛ "أليس بذي الحجة؟ " قلنا: بلى، يا رسول الله، قَالَ:"فأيُّ بلد هَذَا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم، قَالَ: حَتَّى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، قَالَ:"أليس بالبلدة؟ " قلنا: بلى يا رسول الله، قَالَ:"فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هَذَا، فِي شهركم هَذَا، فِي بلدكم هَذَا، فليبلغ الشاهد الغائب"، قَالَ: ثم انكفأ إلى كبشين أملحين، فذبحهما، وإلى جُزَيْعَةٍ منْ الغنم فقسمها بيننا. انتهى صحيح مسلم ج: 3 ص: 1306.

(يَوْمَ النَّحْرِ) ظرف متعلّق بـ"انصرف"(إِلَى كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ) تقدّم تفسيره (فَذَبَحَهُمَا، وَإِلَى جُذَيْعَةٍ مِنَ الْغَنَمِ) قَالَ ابن الأثير رحمه الله تعالى فِي "النهاية" 1/ 269: "الْجُزَيعة": القطعة منْ الغنم، تصغير جِزْعة بالكسر، وهو القليل منْ الشيء، يقال: جَزَعَ له جِزْعَةً منْ المال: أي قطع له منه قِطعةً، هكذا ضبطه الجوهريّ، مصغّرًا، والذي جاء فِي "المجمل" لابن فارس بفتح الجيم، وكسر الزاي، قَالَ: هي القطعة منْ الغنم، كأنها فَعِيلةٌ بمعنى مفعولة، وما سَمِعناها فِي الْحَدِيث إلا مصغّرةً. انتهى.

وَقَالَ النوويّ فِي "شرح مسلم" 11/ 172: قوله: "جزيعة" بضم الجيم وفتح الزاي، ورواه بعضهم جَزِيعة بفتح الجيم وكسر الزاي، وكلاهما صحيح، والأول هو المشهور، فِي رواية المحدثين، وهو الذي ضبطه الجوهري وغيره، منْ أهل اللغة، وهي القطعة منْ الغنم، تصغير جِزْعة بكسر الجيم، وهي القليل منْ الشيء، يقال جَزَع له منْ ماله: أي قطع، وبالثاني ضبطه ابن فارس فِي "المجمل"، قَالَ: وهي القطعة منْ الغنم، وكأنها فعيلة بمعنى مفعولة، كضَفِيرة، بمعنى مضفورة. انتهى.

[تنبيه]: هَذَا الذي ذُكر منْ ضبط "الجُزَيعة" بالزاي، هو الذي وقع فِي النسخة الهنديّة، وغيرها، وهو الصواب، وأما ما وقع فِي النسخة المطبوعة المصرية، و"الكبرى" مكتوبًا بالذال المعجمة بدل الزاي، فتصحيف، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

(فَقَسَمَهَا بَيْنَنَا) أي قسم تلك الأغنام بين أصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي بكرة رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه مسلم، لكن تكلّم فيه الدارقطنيّ، قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى فِي "شرح صحيح مسلم" ج: 11 ص: 172: قَالَ

ص: 321

القاضي: قَالَ الدارقطني: قوله: "ثم انكفأ"

(1)

إلى آخر الْحَدِيث، وَهَمٌ منْ ابن عون، فيما قيل، وإنما رواه ابن سيرين، عن أنس، فأدرجه ابن عون هنا، فِي هَذَا الْحَدِيث، فرواه عن ابن سيرين، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ القاضي: وَقَدْ روى البخاريّ هَذَا الْحَدِيث، عن ابن عون، فلم يذكر فيه هَذَا الكلام، فلعله تركه عمدا، وَقَدْ رواه أيوب، وقُرّة، عن ابن سيرين، فِي كتاب مسلم، فِي هَذَا الباب، ولم يذكروا فيه هذه الزيادة، قَالَ القاضي: والأشبه أن هذه الزيادة، إنما هي فِي حديث آخر، فِي خطبة عيد الأضحى، فوهم فيها الراوي، فذكرها مضمومة إلى خطبة الحجة، أو هما حديثان، ضم أحدهما إلى الآخر، وَقَدْ ذكر مسلم هَذَا بعد هَذَا فِي "كتاب الضحايا" منْ حديث أيوب، وهشام، عن ابن سيرين:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى، ثم خطب، فأمر منْ كَانَ ذبح قبل الصلاة أن يُعيد، ثم قَالَ فِي آخر الْحَدِيث: "فأنكفأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كبشين أملحين، فذبهما، فقام النَّاس إلى غُنيمة، فتوزّعوها"، فهذا هو الصحيح، وهو دافع للإشكال. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حاصل ما فِي كلامهم هَذَا أن ذكر زيادة: "ثم انكفأ الخ" ليست صحيحة فِي حديث أبي بكرة رضي الله عنه فِي خطبة النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم النحر، وإنما وهم فيها ابن عون، فأدخلها منْ رواية ابن سيرين لحديث أنس رضي الله عنه فِي خطبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، يوم الأضحى، وحديث أنس هو الذي قبل هَذَا، وسيأتي أيضًا بعد حديث، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -14/ 4391 - وفي "الكبرى" 14/ 4479. وأخرجه (م) فِي "القسامة" 4360 (ت) فِي "الأضاحي" 1520. والله تعالى أعلم.

وفوائد الْحَدِيث تقدّمت فيما سبق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4392 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشٍ أَقْرَنَ، فَحِيلٍ، يَمْشِي فِي سَوَادٍ، وَيَأْكُلُ فِي سَوَادٍ، وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ).

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ) الكوفيّ، ثقة، منْ صغار [10] 22/ 907.

2 -

(حفص بن عياش) بن طلق بن معاوية النخعي، أبو عمر الكوفيّ القاضي، ثقة

(1)

هكذا لفظ مسلم، وقد سبق أنه عند المصنّف بلفظ:"ثم انصرف"، فتنبّه.

ص: 322

فقيه تغير حفظه قليلًا فِي الآخر [8] 86/ 105.

3 -

(جعفر بن محمد) بن علي الهاشمي، أبو عبد الله المدنيّ المعروف بالصادق، صدوق فقيه إمام [6] 123/ 182.

4 -

(أبوه) محمد بن عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو جعفر المدنيّ المعروف بالباقر، ثقة فاضل [4] 123/ 182.

5 -

(أبو سعيد) سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاريّ الخدريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما، وتقدم فِي 169/ 262. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وحفص، فكوفيان. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه. (ومنها): أن فيه أبا سعيد منْ المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَن أَبِي سَعِيْدٍ) الخدريّ رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: ضَحَّى) بتشديد الحاء المهملة، منْ التضحية (رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشٍ أَقْرَنَ) أي ذي قرنين (فَحِيلٍ) بفتح الفاء، وكسر الحاء المهملة، بوزن كَريم، قَالَ الخطّابيّ: هو الكريم المختار للفحلة، وأما الفحل، فهو عامّ فِي الذكورة منها، وقالوا فِي ذكورة النحل: فُحّال، فرقًا بينه، وبين سائر الفحول منْ الحيوان. انتهى. وَقَالَ فِي "النهاية" 3/ 416 - 417: الفَحِيل: هو الْمُنجب فِي ضرابه. وقيل: الذي يُشبه الفُحُولة فِي عظم خَلْقِه: أي كامل الخلقة، واختار الفحل عَلَى الخصيّ والنعجة طَلَب نُبْله، وعِظَمه. انتهى.

وَقَدْ أخرج أبو داود فِي "سننه" عن أبي عيّاش المعافريّ، عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، قَالَ: ذبح النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الذبح كبشين أقرنين، أملحين، موجئين

" الْحَدِيث، وفي إسناده ابن إسحاق، وَقَدْ عنعنه، وهو مدلّس، وأبو عياش المذكور، قَالَ عنه فِي "التقريب": مقبول. والموجأ الخصيّ.

ولا تنافي بينه وبين حديث الباب؛ لإمكان حمله عَلَى تعدد الأوقات، قَالَ الشوكانيّ: فيه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ضحّى بالفحيل، كما ضحّى بالخَصِيّ.

(يَمْشِي فِي سَوادِ) أي فِي رجله سواد (وَيَأْكُلُ فِي سَوَادِ) أي فِي بطنه سواد (وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ) أي حول عينيه سود، وباقيه أبيض، وهو أجمل. والله تعالى أعلم بالصواب،

ص: 323

وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -14/ 4392 - وفي "الكبرى"4485. وأخرجه (د) فِي "الضحايا" 2414 (ت) فِي "الأضاحي" 1416 (ق) فِي "الأضاحي" 3119.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم التضحية بالكبش، وهو الجواز. (ومنها): استحباب كون الكبش أقرن. (ومنها): استحباب كونه فحلًا، ويجوز كونه خصيًا، كما تقدّم. (ومنها): جواز التضحية بكبش واحد، فما تقدّم فِي الْحَدِيث الذي قبله منْ أنه صلى الله عليه وسلم ضحّى بكبشين عَلَى سبيل الاستحباب، لا الوجوب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي أن الكبش الواحد يكفي عن أهل بيت الرجل، أم لا؟:

ذهب مالك، والليث، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، إلى أنه يجوز أن يضحّي الرجل عن أهل بيته بشاة واحدة، أو بقرة، أو بدنة، وروي ذلك عن ابن عمر، وأبي هريرة، قَالَ صالح بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: يضحى بالشاة عن أهل البيت؟ قَالَ: نعم لا بأس، قد ذبح النبيّ صلى الله عليه وسلم كبشين، فقرب أحدهما، فَقَالَ:"بسم الله، اللَّهم هَذَا عن محمد وأهل بيته"، وقرب الآخر، فَقَالَ:"بسم الله، اللَّهم هَذَا منك، ولك عمن وحدك منْ أمتي".

وحكي عن أبي هريرة، أنه كَانَ يضحي بالشاة، فتجيء ابنته، فتقول: عني، فيقول: وعنكِ. وكره ذلك الثوري، وأبو حنيفة؛ لأن الشاة لا تجزىء عن أكثر منْ واحد، فإذا اشترك فيها اثنان، لم تجز عنهما كالأجنبيين.

واحتجّ الأولون بما رواه مسلم فِي "صحيحه"، عن عائشة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أُتي بكبش؛ ليضحي به، فأضجعه، ثم ذبحه، ثم قَالَ:"بسم الله، اللَّهم تقبل منْ محمد، وآل محمد". وعن جابر، قَالَ: ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم الذبح، كبشين أقرنين، أملحين، موجأين، فلما وجههما، قَالَ: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض، عَلَى ملة إبراهيم، حنيفا، مسلما، وما أنا منْ المشركين، إن صلاتي،

ص: 324

ونسكي، ومحياي، ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا منْ المسلمين، اللَّهم منك ولك، عن محمد وأمته، بسم الله والله أكبر"، ثم ذبح، رواه أبو داود، وأخرج الترمذيّ، وابن ماجه، عن أبي أيوب، قَالَ: "كَانَ الرجل فِي عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، يُضَحِّي بالشاة عنه، وعن أهل بيته، فيأكلون، ويُطعمون النَّاس". قَالَ الترمذيّ: حديث حسن صحيح. ذكره ابن قُدامة فِي "المغني" 13/ 365 - 366

(1)

.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه الأولون منْ جواز التضحية بالشاة الواحدة عن أهل بيت الرجل هو الأرجح عندي؛ لقوّة أدلّته، كما سمعتها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي أفضل الأضاحي:

قَالَ العلّامة ابن قُدامة رحمه الله تعالى: وأفضل الأضاحي البدنة، ثم البقرة، ثم الشاة، ثم شرك فِي بقرة، وبهذا قَالَ أبو حنيفة، والشافعي، وَقَالَ مالك: الأفضل الجذع منْ الضأن، ثم البقرة، ثم البدنة؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ضَحَّى بكبشين، ولا يفعل إلا الأفضل، ولو علم الله خيرا منه، لَفَدَى إسحاق به.

قَالَ: ولنا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، فِي الجمعة:"منْ راح فِي الساعة الأولى، فكأنما قرّب بدنة، ومن راح فِي الساعة الثانية، فكأنما قرّب بقرة، ومن راح فِي الساعة الثالثة، فكأنما قرّب كبشا، ومن راح فِي الساعة الرابعة، فكأنما قرّب دجاجة، ومن راح فِي الساعة الخامسة، فكأنما قرّب بيضة". متّفقٌ عليه. ولأنه ذبح يُتقرب به إلى الله تعالى، فكانت البدنة منه أفضل، كالهدي، فإنه قد سَلَّمَه، ولأنها أكثر ثمنا ولحما وأنفع. فأما التضحية بالكبش، فلأنه أفضل أجناس الغنم، وكذلك حصول الفداء به أفضل، والشاة أفضل منْ شرك فِي بدنة؛ لأن إراقة الدم مقصودة فِي الأضحية، والمنفرد يتقرب بإراقته كله، والكبش أفضل الغنم؛ لأنه أضحية النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو أطيب لحما. وذكر القاضي أن جَذَع الضأن أفضل، منْ ثني المعز؛ لذلك؛ ولأنه يُروَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قَالَ:"نعم الأضحية الجذع منْ الضأن"، أخرجه الترمذيّ، وَقَالَ: حديث غريب.

قَالَ الجامع: هو ضعيف؛ لأن فِي إسناده كدام بن عبد الرحمن، وهو مجهول.

قَالَ: ويحتمل أن الثني أفضل؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تذبحوا إلا مسنة، فإن عسُر عليكم، فاذبحوا الجذع منْ الضأن"، رواه مسلم، وأبو داود، والنسائيّ، وهذا يدل عَلَى فضل الثني عَلَى الجذع؛ لكونه جعل الثني أصلا، والجذع بدلا، لا يُنتقل إليه، إلا

(1)

راجع "المغني لابن قدامة" 13/ 365 - 366.

ص: 325

عند عدم الثني. انتهى كلام ابن قُدامة.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن ما ذهب إليه الأولون، منْ أفضليّة البدنة، ثم البقرة، ثم الشاة، أرجح؛ لوضوح دليله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: يسن استسمان الأضحية، واستحسانها؛ لقول الله تعالى: ({ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، قَالَ ابن عباس رضي الله عنهما: تعظيمها استسمانها، واستعظامها، واستحسانها، ولأن ذلك أعظم لأجرها، وأكثر لنفعها، والأفضل فِي الأضحية منْ الغنم فِي لونها البياض؛ لما روي عن مولاة أبي ورقة بن سعيد، قالت: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دم عفراء أزكى عند الله، منْ دم سوداوين"، رواه أحمد

(1)

. وَقَالَ أبو هريرة: "دم بيضاء، أحبُّ إلى الله منْ دم سوداوين"

(2)

، ولأنه لون أضحية النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم ما كَانَ أحسن لونا، فهو أفضل. أفاده ابن قدامة فِي "المغني" 13/ 367. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌15 - (بَابُ مَا تُجْزِىءُ عَنْهُ الْبَدَنَةُ فِي الضَّحَايَا)

4393 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَجْعَلُ فِي قَسْمِ الْغَنَائِمِ، عَشْرًا مِنَ الشَّاءِ بِبَعِيرٍ، قَالَ شُعْبَةُ: وَأَكْبَرُ عِلْمِي أَنِّي سَمِعْتُهُ مِنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، وَحَدَّثَنِي بِهِ سُفْيَانُ عَنْهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.

(1)

حسنه الشيخ الألبانيّ رحمه الله فِي "السلسلة الصحيحة" 4/ 475 - 476 رقم 1861. لكن قَالَ "كبيرة بنت سفيان"، فليحرّر.

(2)

حسنه الألباني أيضًا، منْ حديث أبي هريرة مرفوعًا، وعزاه إلى أحمد 2/ 417 والحاكم 4/ 227 بلفظ "دم عفراء الخ". ج 4/ ص 475 رقم 1861.

ص: 326

و"أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ" الهاشمي المعروف بابن الكردي، أبو الحسين البصريّ، ثقة [10] 39/ 583. و"محمد بن جعفر": هو المعروف بغندر البصريّ، ثقة صحيح الكتاب [9]. و"والد سفيان الثوريّ": هو سعيد بن مسروق بن حَبيب الكوفيّ، ثقة [6]. و"عباية بن رفاعة بن رافع": هو الأنصاريّ الزرقي، أبو رفاعة المدنيّ، ثقة [3] 9/ 3116. و"جده": هو رافع بن خَديج الحارثي الأوسي الأنصاريّ، صحابي شهير، تقدم فِي 112/ 155.

وقوله: "وأكبر علمي الخ" معناه أن شعبة روى هَذَا الْحَدِيث عن سفيان، عن أبيه، وَقَالَ: أكبر ظنّي أني سمعته منْ والده أيضًا.

والحديث متّفقٌ عليه، ومضى 17/ 4299 ومضى شرحه، وبيان مسائله هناك، ولم يبق إلا البحث فيما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان ما تجزىء عنه البدنة فِي الضحايا، فأقول:

(مسألة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم الاشتراك فِي التضحية بالبدنة والبقرة: قَالَ العلّامة ابن قُدامة رحمه الله تعالى فِي "المغني" ج: 13 ص: 363 - 365: ما حاصله:

ذهب أكثر أهل العلم إلى أن البدنة تحزىء عن سبعة وكذلك البقرة، روي ذلك عن علي، وابن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وعائشة رضي الله عنهم، وبه قَالَ عطاء، وطاوس، وسالم، والحسن، وعمرو بن دينار، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وعن عمر أنه قَالَ: لا تجزىء نفس واحدة عن سبعة، ونحوُهُ قول مالك، قَالَ أحمد: ما علمت أحدا إلا يرخص فِي ذلك، إلا ابن عمر، وعن سعيد بن المسيب: أن الجزور عن عشرة، والبقرة عن سبعة، وبه قَالَ إسحاق؛ لما روى رافع، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قسم، فعدل عشرة منْ الغنم، ببعير، متَّفقٌ عليه. وعن ابن عباس، قَالَ، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي سفر، فحضر الأضحى، فاشتركنا فِي الجزور عن عشرة، والبقرة عن سبعة، حديث صحيح رواه أصحاب السنن.

واحتجّ الأولون بما رواه جابر رضي الله تعالى عنه، قَالَ: نحرنا بالحديبية، مع النبيّ صلى الله عليه وسلم البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة، وَقَالَ أيضا: كنا نتمتع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنذبح البقرة عن سبعة، نشترك فيها، رواه مسلم، وهذان أصحُّ منْ حديثهم.

وأما حديث رافع، فهو فِي القسمة، لا فِي الأضحية، إذا ثبت هَذَا، فسواء كَانَ المشتركون منْ أهل بيت، أو لم يكونوا، مفترضين، أو متطوعين، أو كَانَ بعضهم يريد القربة، وبعضهم يريد اللحم؛ لأن كل إنسان منهم، إنما يجزىء عنه نصيبه، فلا تضره

ص: 327

نية غيره فِي عشرة. انتهى كلام ابن قُدامة ببعض تصرّف.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي ذهب إليه ابن المسيّب، وإسحاق منْ أن الجزور تجزىء عن عشرة هو الأرجح عندي؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور، فإنه نصّ فِي محلّ النزاع، ولا ينافي حديث جابر رضي الله عنه، فإنه فِي التمتّع، وحكمهما مختلف، بدليل أن الشاة الواحدة تكفي عن أهل بيت، فِي الأضحيّة، دون التمتّع. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4394 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ غَزْوَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنْ حُسَيْنٍ -يَعْنِي ابْنَ وَاقِدٍ- عَنْ عِلْبَاءَ بْنِ أَحْمَرَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي سَفَرٍ، فَحَضَرَ النَّحْرُ، فَاشْتَرَكْنَا فِي الْبَعِيرِ عَنْ عَشْرَةٍ، وَالْبَقَرَةِ عَنْ سَبْعَةٍ).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن عبد العزيز بن غَزْوان) بن أبي رِزْمة، أبو عمرو المروزيّ، ثقة [11] 47/ 602.

2 -

(الفضل بن موسى) السِّينانيّ، أبو عبد الله المروزيّ، ثقة ثبت ربما أغرب، منْ كبار [83/ 100].

3 -

(الحسين بن واقد) أبو عبد الله القاضي المروزيّ، ثقة له أوهام [7] 5/ 463.

4 -

(علباء بن أحمر) -بكسر العين المهملة، وسكون اللام، بعدها موحَدة، ومدّ- اليشكريّ -بفتح التحتانيّة، وسكون المعجمة- البصريّ، صدوق، منْ القرّاء [4].

روى عن أبي زيد، وعمرو بن أخطب، وعكرمة مولى ابن عباس، والأسود بن كلثوم، وعنه أبو علي الرَّحَبِيّ، وداود بن أبي الْفُرَات، والحسين بن واقد، وأبو ليلى، عبد الله بن ميسرة، وعَزْرَة بن ثابت، والمنذر بن ثعبة العبدي. قَالَ أبو طالب، عن أحمد بن حنبل: لا بأس به، لا أعلم إلا خيرا. وَقَالَ ابن معين، وأبو زرعة: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وهو أحد القراء، له اختيار ذكره الداني. روى له مسلم، والأربعة، سوى أبي داود، له فِي مسلم حديث واحد: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، ثم صعد المنبر، فخطب، حَتَّى حضرت الظهر

" الْحَدِيث. وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.

5 -

(عكرمة) البربري، مولى ابن عباس، أبو عبد الله المدنيّ، ثقة ثبت عالم بالتفسير [3] 2/ 325.

6 -

(ابن عباس) عبد الله البحر الحبر رضي الله تعالى عنهما 27/ 31. والله تعالى

ص: 328

أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمراوز إلى حسين، وما بعده بصريون، وابن عباس، وان كَانَ مدنيا إلا أنه نزل البصرة، وعكرمة مولاه. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: كُنَّا مَعَ رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فِي سَفَرٍ، فَحَضَرَ النَّحْرُ) أي جاء يوم نحر الأضاحي، وهو العاشر منْ شهر ذي الحجة (فَاشْتَرَكْنَا فِي الْبَعِيرِ) أي فِي نحره (عَن عَشْرَةٍ، والْبَقَرَةِ عَنْ سَبْعةٍ) فيه جواز الاشتراك فِي أضحية البدنة، والبقرة، وبه قَالَ الجمهور، وهو الحقّ، وخالف فِي ذلك ابن عمر، ومالك، وَقَدْ تقدّم ذلك فِي الذي قبله، وفيه أيضًا أن البدنة تجزىء عن العشرة، وبه قَالَ ابن المسيّب، وإسحاق، وهو الحقّ، كما تقدم تحقيقه أيضًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -15/ 4394 - وفي "الكبرى" 15/ 4482. وأخرجه (ت) فِي "الحجّ" 905 و"الأضاحي" 1501 (ق) فِي "الأضاحي" 3131. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 329

‌16 - (بَابُ مَا تُجْزِىءُ عَنْهُ الْبَقَرَةُ فِي الضَّحَايَا)

4395 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: "كُنَّا نَتَمَتَّعُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَذْبَحُ الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَنَشْتَرِكُ فِيهَا").

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا، و"يحيى": هو القطّان. و"عبد الملك": هو ابن أبي سُليمان ميسرة، العَرْزَميّ الكوفيّ. و"عطاء": هو ابن أبي رباح. وشرح الْحَدِيث واضح، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث جابر رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -16/ 4395 - وفي "الكبرى"4483. وأخرجه (م) فِي "الحج" 2322 و2324 (د) فِي "الضحايا" 2424 و2425 و2426 (ت) فِي "الحج" 828 و"الأضاحي" 1422 (ق) فِي "الأضاحي" 3123 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 13612 و13878 و1480 و14385 و14395 و1450 و1873 (الدارميّ) فِي "الأضاحي" 1874. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌17 - (ذَبْحُ الضَّحِيَّةِ قَبْلَ الإِمَامِ)

وفي نسخة: "ذبح الأضحيّة قبل الإمام".

4396 -

(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبِي، عَنْ فِرَاسٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ح وَأَنْبَأَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ، فَذَكَرَ أَحَدُهُمَا مَا لَمْ يَذْكُرِ الآخَرُ، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الأَضْحَى، فَقَالَ: "مَنْ

ص: 330

وَجَّهَ قِبْلَتَنَا، وَصَلَّى صَلَاتَنَا، وَنَسَكَ نُسُكَنَا، فَلَا يَذْبَحْ حَتَّى يُصَلِّيَ"، فَقَامَ خَالِي، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي عَجَّلْتُ نُسُكِي، لأُطْعِمَ أَهْلِي، وَأَهْلَ دَارِي، أَوْ أَهْلِي، وَجِيرَانِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَعِدْ ذِبْحًا آخَرَ"، قَالَ: فَإِنَّ عِنْدِي عَنَاقَ لَبَنٍ، هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ، قَالَ: "اذْبَحْهَا، فَإِنَّهَا خَيْرُ نَسِيكَتَيْكَ، وَلَا تَقْضِي جَذَعَةٌ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ").

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(هناد بن السريّ) المذكور قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(ابن أبي زائدة) يحيى الهمداني، أبو سعيد الكوفيّ ثقة متقن، منْ كبار [93/ 115].

3 -

(أبوه) زكريّا بن أبي زائدة خالد، ويقال: هُبيرة بن ميمون بن فيروز الهمداني الوادعي، أبو يحيى الكوفيّ، ثقة، يدلس [6] 93/ 115.

4 -

(داود بن أبي هند) القشيري مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقة متقن كَانَ يهم بآخره [5] 21/ 538.

5 -

(فِراس) بن يحيى الهمداني الخارفي، أبو يحيى الكوفيّ المكتب، صدوق، ربما وهم [6] 59/ 2541.

6 -

(عامر) بن شَرَاحيل، أبو عمرو الشعبيّ الكوفيّ، ثقة فقيه فاضل مشهور [3] 66/ 82.

7 -

(البراء بن عازب) بن الحارث بن عديّ الأنصاريّ الأوسيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما، استصغر يوم بدر، ونزل الكوفة، ومات سنة (72)، وتقدم فِي 86/ 105. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، داود بن أبي هند، عن الشعبي. (ومنها): أن قوله: "وأنبأنا دواد بن أبي هند" معطوف عَلَى "أنبأنا أبي"، فيحيى بن زكريّا يروي عن أبيه، عن فراس بن يحيى، عن عامر الشعبيّ، وعن داود بن أبي هند، عن الشعبيّ، والثاني أعلى منْ الأول؛ لأنه وصل إلى الشعبيّ فيه بواسطة. والله تعالى أعلم.

(ومنها): أن فِي قوله: "فذكر أحدهما ما لم يذكره الآخر"، فائدة حديثية، وهو منْ كلام يحيى بن زكريا، وحاصل المعنى أن كلًّا منْ أبيه، وداود بن أبي هند أنبأه بهذا

ص: 331

الْحَدِيث، ثم إن كلًّا منهما تفرد بذكر ألفاظ فِي الْحَدِيث لم يذكرها الآخر.

ثم إن مثل هَذَا الإجمال لا يضرّ فِي صحة الْحَدِيث؛ لأن كلًّا منهما ثقة، وإنما يضرّ لو كَانَ أحدهما ضعيفًا.

قَالَ فِي "تقريب النواوي" مع شرحه "تدريب الراوي": 2 ص: 124 - 125: ما مُلَخَّصُهُ:

وإذا سمع بعض حديث منْ شيخ، وبعضه الآخر منْ شيخ آخر، فروى جملته عنهما، مبينا أن بعضه عن أحدهما، وبعضه عن الآخر، غير مميز لما سمعه منْ كل شيخ عن الآخر جاز، ثم يصير كل جزء منه، كأنه رواه عن أحدهما مبهما، فلا يحتج بشيء منه، إن كَانَ فيهما مجروح؛ لأنه ما منْ جزء منه، إلا ويجوز أن يكون عن ذلك المجروح، ويجب ذكرهما حينئذ جميعا، مبينا أن عن أحدهما بعضه، وعن الآخر بعضه، ولا يجوز ذكرهما ساكتا عن ذلك، ولا إسقاط أحديث، مجروحا كَانَ أو ثقة.

ومن أمثلة ذلك: حديث الإفك فِي "الصحيح"، منْ رواية الزهريّ، حيث قَالَ: حدثني عروة، وسعيد بن المسيب، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عائشة، قَالَ: وكل قد حدثني طائفة منْ حديثها، ودخل حديث بعضهم فِي بعض، وأنا أوعى لحديث بعضهم منْ بعض، فذكر الْحَدِيث. انتهى المقصود منْ "التقريب"، و"التدريب".

وإلى هَذَا أشار الحافظ السيوطيّ رحمه الله تعالى فِي "ألفية الْحَدِيث"، حيث قَالَ:

وَلَوْ رَوَى بَعْضَ حَدِيثٍ عَن رَجُلْ

وَبَعْضَهُ عَنْ آخَرٍ ثُمَّ جَمَلْ

ذَلِكَ عَن ذَيْنِ مُبَيِّنًا بِلَا

مَيْزٍ أجِزْ وَحَذْفُ شَخْصٍ حُظِلَا

مُجَرَّحًا يَكُونُ أو مُعَدَّلَا

وَحَيْثُ جَرْحُ وَاحِدٍ لَا تَقْبَلَا

والله تعالى أعلم بالصواب.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَوْمَ الأَضْحَى) وفي الرواية التالية:"خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر، بعد الصلاة"(فَقَالَ: "مَنْ وَجَّهَ قِبلَتَنَا) -بفتح الواو، وتشديد الجيم-: أي وَجَّهَ وجهه، والمراد استقبل القبلة، والمراد أن يكون معنا فِي هذه الأمور، وَقَالَ فِي "الفتح": المراد منْ كَانَ عَلَى دين الإِسلام. انتهى (وَصَلَّى صَلَاتَنَا، وَنَسَكَ نُسُكَنَا) أي أراد أن يذبح مثل ذبيحتنا (فَلَا يَذْبَحْ حَتَّى يُصَلِّيَ) أي صلاة العيد (فَقَامَ خَالِي) هو أبو بُردة/ هانىء بن نِيار -بكسر النون،

ص: 332

وتخفيف الياء المثنّاة منْ تحتُ، وآخره راء، واسم جدّه عمرو بن عُبيد، وهو بلويّ، منْ حلفاء الأنصار. وَقَدْ قيل: إن اسمه الحارث بن عمرو. وقيل: مالك بن هُبيرة، والأول هو الأصحّ. وأخرج ابن منده منْ طريق جابر الجعفيّ، عن الشعبيّ، عن البراء، قَالَ: كَانَ اسم خالي قيلًا، فسمّاه النبيّ صلى الله عليه وسلم كثيرًا، وَقَالَ: يا كثير، إنما نسكنا بعد صلاتنا

" ثم ذكر حديث الباب بطوله، وجابر ضعيف، وأبو بردة ممن شهِد العقبة، وبدرًا، والمشاهد، وعاش إلى سنة اثنتين، وقيل: خمس وأربعين. قاله فِي "الفتح" 11/ 127 - 128.

(فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي عَجَّلْتُ نُسُكِي) أي استعجلت فِي ذبح أضحيّتي قبل الصلاة (لأُطْعِمَ أَهْلِي، وَأَهْلَ دَارِي، أَوْ) شك منْ الراوي (أَهْلِي، وَجِيرَانِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَعِدْ ذِبْحًا آخَرَ") وفي الرواية التالية: "تلك شاة لحم"، أي ليست أضحيّة، بل هو لحم، يُنتفع به، كما وقع فِي رواية:"إنما هو لحم، يقدمه لأهله" وفي رواية: "ذاك شيء عجلته لأهلك".

وَقَدْ استشكلت الإضافة فِي قوله: "شاة لحم"، وذلك أن الإضافة قسمان: معنوية، ولفظية، فالمعنوية، إما مقدرة بـ"منْ"، كخاتم حديد، أو باللام، كغلام زيد، أو بـ"فِي"، كضَرْبِ اليوم، معناه: ضرب فِي اليوم. وأما اللفظية فهي صفة، مضافة إلى معمولها، كضارب زيد، وحسن الوجه، ولا يصح شيء منْ الأقسام الخمسة، فِي "شاة لحم"، قَالَ الفاكهي: والذي يظهر لي أن أبا بردة، لَمّا اعتقد، أن شاته شاة أضحية، أوقع صلى الله عليه وسلم فِي الجواب قوله:"شاة لحم"، موقع قوله: شاة غير أضحية. ذكره فِي "الفتح" 11/ 128.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أنه لا وجه للاستشكال المذكور، فإن الإضافة هنا بمعنى اللام، فيكون المعنى أنها شاة مذبوحة للاستفادة منْ لحمها، لا لإقامة السنة بالتضحية بها، وذلك أن القاعدة النحويّة، أن كلّ ما لا يصلح أن تكون إضافته بمعنى "منْ"، أو "فِي"، فإنها تكون بمعنى اللام، قَالَ ابن مالك رحمه الله تعالى فِي "خلاصته":

وَالثَّانِي اجْرُرْ وَانْوِ "مِنْ" أوْ (فِي) إِذَا

لَمْ يَصْلُحِ إلَّا ذَاكَ وَاللَّام خُذَا

لِمَا سِوَى دَيْنِكَ واخْصُصَ اوَّلَا

أوْ أَعْطِهِ التَّعْرِيفَ بِالَّذِي تَلَا

راجع شروح الألفية لابن عقيل، مع حاشية الخضريّ 2/ 3/-4. تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(قَالَ) أبو بردة (فَإنَّ عِنْدِي عَنَاقَ لَبَنٍ) بفتح العين المهملة، والإضافة إلى اللبن،

ص: 333

و"العناق" هي الأنثى منْ أولاد المعز، دون المسنّة، وإضافتها إلى اللبن، إما للدلالة عَلَى أنها صغيرة، ترضع اللبن، أو للدلالة عَلَى أنها سمينة، أُعدّت للبن. وفي الرواية التالية:"فإن عندي عَناقًا جذعةً".

وفي رواية البخاريّ: "إن عندي داجنا جذعةً منْ المعز"، قَالَ فِي "الفتح" 11/ 128 - 129: والداجن: هي التي تَأْلَف البيوت، وتستأنس، وليس لها سنّ معين، ولما صار هَذَا الاسم علما، عَلَى ما يَأْلَف البيوت، اضمحلّ الوصف عنه، فاستوى فيه المذكر والمؤنث، والجذعة تقدم بيانها، وَقَدْ بين فِي هذه الرواية أنها منْ المعز.

قَالَ: والعَنَاق -بفتح العين، وتخفيف النون-: الأنثى منْ ولد المعز، عند أهل اللغة، ولم يصب الداودي فِي زعمه، أن العناق هي التي استَحَقَّت أن تحمل، وأنها تطلق عَلَى الذكر والأنثى، وأنه بَيَّنَ بقوله:"لبن"، أنها أنثى. قَالَ ابن التين: غَلِطَ فِي نقل اللغة، وفي تأويل الْحَدِيث، فإن معنى "عناق لبن": أنها صغيرة سن، ترضع أمها.

ووقع عند الطبراني، منْ طريق سهل بن أبي حثمة، أن أبا بردة، ذبح ذبيحته بسحر، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"إنما الأضحية ما ذُبح بعد الصلاة، اذهب فَضَحّ"، فَقَالَ: ما عندي إلا جذعة منْ المعز

الْحَدِيث. وزاد فِي رواية أخرى: "هي أحب إلى منْ شاتين". وفي رواية لمسلم منْ "شاتي لحم".

والمعنى أنها أطيب لحما، وأنفع للآكلين؛ لِسِمَنِها، ونفاستها.

وَقَدْ استشكل هَذَا بما ذُكر أن عتق نفسين أفضل، منْ عتق نفس واحدة، ولو كانت أنفس مهما.

وأجيب بالفرق بين الأضحية والعتق، أن الأضحية يُطلَب فيها كثرة اللحم، فتكون الواحدة السمينة أولى منْ الهزيلتين، والعتق يطلب فيه التقرب إلى الله بفك الرقبة، فيكون عتق الإثنين أولى منْ عتق الواحدة، نعم إن عرض للواحد وصف يقتضى رفعته عَلَى غيره، كالعلم، وأنواع الفضل المتعدي، فقد جزم بعض المحتقين بأنه أولى؛ لعموم نفعه للمسلمين. ووقع فِي رواية أخرى:"وهي خير منْ مسنة"، وحكى ابن التين عن الداودي أن المسنة التي سقطت أسنانها للبدل، وَقَالَ أهل اللغة: المسن الثَّنِيُّ الذي يُلقي سنهُ، ويكون فِي ذات الخف، فِي السنة السادسة، وفي ذات الظلف والحافر، فِي السنة الثالثة. وَقَالَ ابن فارس: إذا دخل ولد الشاة فِي الثالثة، فهو ثَنِيٌّ، ومسن. ذكره فِي "الفتح".

(هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ) أي لكونها أطيب، وأنفع؛ لسمنها (قَالَ: "اذْبَحْهَا، فَإِنَّهَا خَيْرُ نَسِيكَتَيْكَ) أي خير ذبيحتيك، حيث تجزي عن الأضحيّة، بخلاف الأولى (وَلَا

ص: 334

تَقْضِي) بفتح أوله، منْ القضاء: أي إلا تؤدّي، ولا تُسقط، يقال: قضيتُ الحجّ، والدينَ: أدّيته، قَالَ الله تعالى:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} الآية [البقرة: 200]: أي أدّيتموها، فالقضاء هنا بمعنى الأداء، كما قوله تعالى:{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ} الآية [النِّساء: 103]: أي أدّيتموها، واستعمل العلماء القضاء فِي العبادة التي تُفعل خارج وقتها المحدود شرعًا، والأداءَ إذا فُعلت فِي الوقت المحدود، وهو مخالف للوضع اللغويّ، لكنه اصطلاحٌ للتمييز بين الوقتين. قاله الفيّوميّ (جَذَعَةٌ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ) وفي الرواية التالية:"ولن تَجزي عن أحد بعدك": وهو بفتح أوله، غيرَ مهموز: وهو بمعنى "تَقضِي"، يقال: جزا عني فلانٌ كذا: أي قَضَى ومنه: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} الآية [البقرة: 48]: أي لا تقضي عنها. قَالَ ابن بَرِيّ: الفقهاء يقولون: لا تُجزِىء -بالضم، والهمز- فِي موضع لا تقضي، والصواب بالفتح، وترك الهمز، قَالَ: لكن يجوز الضم والهمز، بمعنى الكفاية، يقال: أجزأ عنك. وَقَالَ صاحب "الأساس": بنو تميم يقولون: البدنة تُجزِى عن سبعة، بضم أوله، وأهل الحجاز تَجزِي بفتح أوله، وبهما قُرِىءَ:{لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} . وفي هَذَا تَعَقُّب عَلَى منْ نقل الاتفاق، عَلَى منع ضم أوله. قاله فِي "الفتح" 11/ 129. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق كذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -17/ 4396 و4397 وفي "كتاب العيدين" 8/ 1563 و1569 و1581 - وفي "الكبرى" 18/ 4486 و4487 وفي "العيدين" 1764 و1803. وأخرجه (خ) فِي "العيدين" 951 و955 و965 و968 و977 و983 و"الأضاحي" 5545 و5560 و5563 و5556 و"الأيمان والنذور" 6673 (م) فِي "الأضاحي" 5042 و5043 و5544 و5045 و5046 و5047 و5048 و5049 (د) فِي "الضحايا" 2800 و2801 (ت) فِي "الأضاحي" 1508. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم ذبح الضّحيّة قبل الإِمام، وهو عدم الجواز، وسيأتي اختلاف العلماء فيه فِي المسألة التالية، إن شاء الله تعالى. (ومنها): أنه استُدلّ به عَلَى وجوب الأضحية، عَلَى منْ التزم الأضحية، فأفسد

ص: 335

ما يُضحِّي به، ورده الطحاوي بأنه لو كَانَ كذلك، لتعرض إلى قيمة الأُولى ليلزم بمثلها، فلما لم يَعتبر ذلك دلّ عَلَى أن الأمر بالإعادة، كَانَ عَلَى جهة الندب، وفيه بيان ما يجزي فِي الأضحية، لا عَلَى وجوب الإعادة.

(ومنها): أن المرجع فِي الأحكام إنما هو إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنه قد يَخُصّ بعض أمته بحكم، ويمنع غيره منه، ولو كَانَ بغير عذر. (ومنها): أن خطاب الشارع للواحد يعم جميع المكلفين، حَتَّى يَظهر دليل الخصوصية؛ لأن السياق يُشعر بأن قوله لأبي بردة:"ضَحِّ به" -أي بالجذع- لو كَانَ يفهم منه تخصيصه بذلك، لما احتاج إلى أن يقول له:"ولن تجزى عن أحد بعدك"، ويحتمل أن تكون فائدة ذلك قطع إلحاق غيره به فِي الحكم المذكور، لا أن ذلك مأخوذ منْ مجرد اللفظ، وهو قويّ.

(ومنها): أن منْ ذبح قبل الصلاة لم يجزئه، ولزمه البدل، قَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى: وهذا محمول عَلَى الأضحية الواجبة بنذر، أو تعيين، فإن كانت غير واجبة بواحد منْ الأمرين، فهي شاة لحم، ولابدل عليه، إلا أن يشاء؛ لأنه قصد التطوع، فأفسده، فلم يجب عليه بدله، كما لو خرج بصدقة تطوع، فدفعها إلى غير مستحقها، والحديث يُحمل عَلَى أحد أمرين: إما عَلَى الندب، وأما عَلَى التخصيص بمن وجبت عليه، بدليل ما ذكرنا، فأما الشاة المذبوحة فهي شاة لحم، كما وصفها النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومعناه: يصنع بها ما شاء، كشاةِ ذبحها للحمها، لا لغير ذلك، فإن هذه إن كانت واجبة، فقد لزمه إبدالها، وذبح ما يقوم مقامها، فخرجت هذه عن كونها واجبة، كالهدي الواجب، إذا عطب دون محله، وإن كَانَ تطوعا، فقد أخرجها بذبحه إياها قبل محلها عن القربة، فبقيت مجرد شاة لحم، ويحتمل أن يكون حكمها حكم الأضحية، كالهدي إذا عطب، لا يخرج عن حكم الهدي عَلَى رواية، ويكون معنى قوله:"شاة لحم"، أي فِي فضلها، وثوابها خاصة، دون ما يصنع بها. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الأول هو الأظهر. والله تعالى أعلم.

(ومنها): أنه استُدلّ بقوله: "اذبح مكانها أخرى"، وفي لفظ:"أَعِد نسكا"، وفي لفظ:"ضَحِّ بها"، وغير ذلك منْ الألفاظ المصرحة بالأمر بالأضحية، عَلَى وجوب الأضحية، قَالَ القرطبيّ فِي "المفهم": ولا حجة فِي شيء منْ ذلك، وإنما المقصود بيان كيفية مشروعية الأضحية، لمن أراد أن يفعلها، أو منْ أوقعها عَلَى غير الوجه المشروع خطأً، أو جهلًا، فبَيَّن له وجه تدارك ما فرّط منه، وهذا معنى قوله:"لا تجزى عن أحد بعدك": أي لا يحصل له مقصود القربة، ولا الثواب، كما يقال فِي صلاة النفل: لا تجزي إلا بطهارة، وستر عورة، قَالَ: وَقَدْ استدل بعضهم للوجوب بأن الأضحية منْ

ص: 336

شريعة إبراهيم الخليل، وَقَدْ أمرنا باتباعه. ولا حجة فيه؛ لأنا نقول بموجبه، ويُلزمهم الدليل عَلَى أنها كانت فِي شريعة إبراهيم واجبة، ولا سبيل إلى علم ذلك، ولا دلالة فِي قصة الذبيح للخصوصية التي فيها. والله أعلم.

(ومنها): أنَّ فيه أن الإِمام يُعلّم النَّاس فِي خطة العيد أحكام النحر. (ومنها): أن فيه جوازَ الاكتفاء فِي الأضحية بالشاة الواحدة، عن الرجل وعن أهل بيته، وبه قَالَ الجمهور، وعن أبي حنيفة، والثوري: يكره، وَقَالَ الخطابي لا يجوز أن يضحى بشاة واحدة عن اثنين، وادعى نسخ ما دل عليه حديث عائشة رضي الله عنها:"ضَحَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه بالبقر"، رواه البخاريّ. وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال.

(ومنها): أن فيه أن العمل وان وافق نية حسنة، لم يصح إلا إذا وقع عَلَى وفق الشرع. (ومنها): أن فيه جواز أكل اللحم يوم العيد، منْ غير لحم الأضحية؛ لقوله:"إنما هو لحم قدّمه لأهله". (ومنها): أن فيه كرم الرب سبحانه وتعالى؛ لكونه شرع لعبيده الأضحية، مع ما لهم فيها منْ الشهوة بالأكل والادخار، ومع ذلك فأثبت لهم الأجر فِي الذبح، ثم منْ تصدق أثيب، وإلا لم يأثم.

(ومنها): أن فيه تخصيص أبي بردة بإجزاء الجذع منْ المعز فِي الأضحية، لكن وقع فِي عدة أحاديث التصريح بنظير ذلك لغير أبي بردة، ففي حديث عقبة بن عامر، كما تقدم قريبا:"ولا رخصة فيها لأحد بعدك"، قَالَ البيهقي: إن كانت هذه الزيادة محفوظة، كَانَ هَذَا رخصة لعقبة، كما رخص لأبي بردة. قَالَ الحافظ: وفي هَذَا الجمع نظر؛ لأن فِي كل منهما صيغة عموم فأيُّهما تَقَدَّم عَلَى الآخر اقتضى انتفاء الوقوع للثاني، وأقرب ما يقال فيه: إن ذلك صَدَرَ لكل منهما فِي وقت واحد، أو تكون خصوصية الأول نُسِخت بثبوت الخصوصية للثاني، ولا مانع منْ ذلك؛ لأنه لم يقع فِي السياق استمرار المنع لغيره صريحا، وقد انفصل ابن التين، وتبعه القرطبيّ، عن هَذَا الإشكال باحتمال أن يكون العتود، كَانَ كبير السن، بحيث يجزىء، لكنه قَالَ ذلك، بناءً عَلَى أن الزيادة التي فِي آخره، لم تقع له، ولا يتم مراده مع وجودها، مع مصادمته لقول أهل اللغة فِي العتود. وتمسك بعض المتأخرين بكلام ابن التين، فضعف الزيادة، وليس بجيد، فإنها خارجة منْ مخرج الصحيح، فإنها عند البيهقي، منْ طريق عبد الله البوشنجي، أحد الأئمة الكبار فِي الحفظ والفقه، وسائر فنون العلم، رواها عن يحيى ابن بكير، عن الليث، بالسند الذي ساقه البخاريّ، ولكني رأيت الْحَدِيث فِي "المتفق للجوزقي"، منْ طريق عبيد بن عبد الواحد، ومن طريق أحمد بن إبراهيم بن مِلْحان، كلاهما عن يحيى بن بكير، وليست الزيادة فيه، فهذا هو السر فِي قول البيهقي: إن

ص: 337

كانت محفوظة، فكأنه لَمّا رأى التفرد، خشي أن يكون دخل عَلَى راويها، حديث فِي حديث. وَقَدْ وقع فِي كلام بعضهم أن الذين ثبتت لهم الرخصة أربعة، أو خمسة. واستَشكَلَ الجمعَ، وليس بمشكل، فإن الأحاديث التي وردت فِي ذلك، ليس فيها التصريح بالنفي، إلا فِي قصة أبي بردة فِي "الصحيحين"، وفي قصة عقبة بن عامر فِي البيهقي، وأما ما عدا ذلك، فقد أخرج أبو داود، وأحمد، وصححه ابن حبّان، منْ حديث زيد بن خالد: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أعطاه عتودا جذعا، فَقَالَ:"ضَحِّ به"، فقلت: إنه جذع، أفأضحي به؟ قَالَ:"نعم، ضحِّ به"، فضحيت به. لفظ أحمد، وفي "صحيح ابن حبّان"، وابن ماجه، منْ طريق عباد بن تميم، عن عويمر بن أشقر، أنه ذبح أضحيته، قبل أن يغدو يوم الأضحى، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم، أن يعيد أضحية أخرى. وفي الطبراني الأوسط، منْ حديث ابن عباس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أعطى سعد بن أبي وقاص جذعا، منْ المعز، فأمره أن يُضحّي به. وأخرجه الحاكم، منْ حديث عائشة، وفي سنده ضعف، ولابي يعلى، والحاكم، منْ حديث أبي هريرة: أن رجلًا قَالَ: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هَذَا جذع منْ الضأن مهزول، وهذا جذع منْ المعز سمين، وهو خيرهما، أفاضحي به؟، قَالَ:"ضحّ به، فإن لله الخير". وفي سنده صعف.

قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: والحق أنه لا منافاة بين هذه الأحاديث، وبين حديثي أبي بردة، وعقبة؛ لاحتمال أن يكون ذلك فِي ابتداء الأمر، ثم تقرر الشرع بأن الجذع منْ المعز لا يجزي، واختُصَّ أبو بردة، وعقبة بالرخصة فِي ذلك، وإنما قلت ذلك؛ لأن بعض النَّاس، زعم أن هؤلاء شاركوا عقبة، وأبا بردة لي ذلك، والمشاركةُ إنما وقعت فِي مطلق الإجزاء، لا فِي خصوص مع الغير.

ومنهم منْ زاد فيهم: عويمر بن أشقر، وليس فِي حديثه إلا مطلق الإعادة؛ لكونه ذبح قبل الصلاة. وأما ما أخرجه ابن ماجه، منْ حديث أبي زيد الأنصاريّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لرجل منْ الأنصار: "اذبحها، ولن تجزي جذعة عن أحد بعدك"، فهذا يُحمَل عَلَى أنه أبو بردة بن نيار، فإنه منْ الأنصار. وكذا ما أخرجه أبو يعلى، والطبراني، منْ حديث أبي جحيفة: أن رجلا ذبح قبل الصلاة، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تجزي عنك"، قَالَ: إن عندي جذعة، فَقَالَ:"تجزي عنك، ولا تجزي بعدُ"، فلم يثبت الإجزاء لأحد، ونفيه عن الغير، إلا لأبي بردة، وعقبة، وإن تعذر الجمع الذي قدمه، فحديث أبي بردة أصح مخرجا. والله أعلم.

قَالَ الفاكهي: ينبغي النظر فِي اختصاص أبي بردة بهذا الحكم، وكشف السر فيه.

وأجيب بأن الماوردي قَالَ: إن فيه وجهين: [أحدهما]: أن ذلك كَانَ قبل استقرار

ص: 338

الشرع، فاستثنى. [والثاني]: أنه عَلِمَ منْ طاعته، وخلوص نيته ما ميزه عمن سواه.

قَالَ الحافظ: وفي الأول نظر؛ لأنه لو كَانَ سابقا، لامتنع وقوع ذلك لغيره، بعد التصريح بعدم الإجزاء لغيره، والفرض ثبوت الإجزاء لعدد غيره، كما تقدم. انتهى كلام الحافظ فِي "الفتح" 11/ 129 - 130.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا البحث الذي تقدّم منْ الحافظ بحث نفيسٌ جدًّا، وخلاصته أن الجذع منْ الضأن لا يُجوز التضحية به، إلا لمن خصّه الشارع، وهما أبو بُردة بن نيار، وعقبة بن عامر رضي الله تعالى عنهما، ومن عداهما ممن رُوي أنه صلى الله عليه وسلم أمره أن يُضحّي بالجذع، فمحمول عَلَى ما قبل استقرار النهي عن التضحية به. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي وقت الأضحيّة:

ذهبت طائفة إلى أنه إذا مضى منْ نهار يوم العيد، قدر ما تَحِلّ فيه الصلاة، وقدر الصلاة والخطبتين تامتين، فِي أخف ما يكون، فقد دخل وقت الذبح، ولا يعتبر نفس الصلاة، لا فرق فِي هَذَا بين أهل العصر وغيرهم، وهذا مذهب الشافعيّ، وابن المنذر.

وذهبت طائفة إلى أن منْ شرط جواز التضحية، فِي حق أهل المصر، صلاةَ الإمام، وخطبَتَهُ، رُوي نحوُ هَذَا عن الحسن، والأوزاعي، ومالك، وأبي حنيفة، وإسحاق، وهو ظاهر كلام أحمد؛ لما رَوَى جندبُ بن عبد الله البجلي: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "منْ ذبح قبل أن يصلي، فليُعِد مكانها أخرى". وعن البراء، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منْ صلى صلاتنا، ونسك نسكنا، فقد أصاب النسك، ومن ذبح قبل أن يصلي، فليُعِد مكانها أخرى"، متَّفقٌ عليه، وفي لفظ قَالَ:"إن أول نسكنا، فِي يومنا هَذَا الصلاةُ، ثم الذبح، فمن ذبح قبل الصلاة، فتلك شاة لحم قدمها لأهله، ليس منْ النسك فِي شيء"، وظاهر هَذَا اعتبار نفس الصلاة.

وذهب عطاء إلى أن وقتها إذا طلعت الشمس؛ لأنها عبادة، يتعلق آخرها بالوقت، فتلعق أولها بالوقت، كالصيام.

وَقَالَ أبو حنيفة: أول وقتها فِي حقهم، إذا طلع الفجر الثاني؛ لأنه منْ يوم النحر، فكان وقتها منه كسائر اليوم.

قَالَ ابن قُدامة: والصحيح -إن شاء الله تعالى- أن وقتها، فِي الموضع الذي يُصَلَّى فيه بعد الصلاة؛ لظاهر الخبر، والعمل بظاهره أولى، فأما غير أهل الأمصار والقرى، فأول وقتها فِي حقهم قدر الصلاة، والخطبة بعد الصلاة؛ لأنه لا صلاة فِي حقهم تعتبر، فوجب الاعتبار بقدرها.

ص: 339

قَالَ ابن قُدامة: فإن لم يصل الإِمام فِي المصر لم يجز الذبح، حَتَّى تزول الشمس؛ لأنها حينئذ تسقط، فكأنه قد صَلَّى، وسواء ترك الصلاة عمدا، أو غير عمد؛ لعذر أو غيره.

فأما الذبح فِي اليوم الثاني، فهو فِي أول النهار؛ لأن الصلاة فيه غير واجبة، ولأن الوقت قد دخل فِي اليوم الأول، وهذا منْ أثنائه، فلا تعتبر فيه صلاة ولا غيرها، وإن صلى الإِمام فِي المصلَّى، واستخلف منْ صلى فِي المسجد، فمتى صَلَّوا فِي أحد الموضعين، جاز الذبح؛ لوجود الصلاة التي يَسقُط بها الفرض، عن سائر النَّاس، فإن ذبح بعد الصلاة قبل الخطبة، أجزأ فِي ظاهر كلام أحمد؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلَّق المنع عَلَى فعل الصلاة، فلا يتعلق بغيره، ولأن الخطبة غير واجبة، وهذا قول الثوري. انتهى المقصود منْ كلام ابن قدامة باختصار، وتصرّف.

وَقَالَ فِي "الفتح" -عند قوله: "فلا يذبح، حَتَّى ينصرف"-: ما نصّه: تمسك به الشافعية فِي أن أول وقت الأضحية قدر فراغ الصلاة والخطبة؛ وإنما شرطوا فراغ الخطيب؛ لأن الخطبتين مقصودتان مع الصلاة، فِي هذه العبادة، فيعتبر مقدار الصلاة والخطبتين عَلَى أخف ما يجزي بعد طلوع الشمس، فإذا ذبح بعد ذلك أجزأه الذبح عن الأضحية، سواء صلى العيد أم لا، وسواء ذبح الإِمام أضحيته أم لا، ويستوي فِي ذلك أهل المصر والحاضر والبادي. ونقل الطحاوي عن مالك، والأوزاعي، والشافعي: لا تجوز أضحية قبل أن يذبح الإمام، وهو معروف عن مالك، والأوزاعي، لا الشافعيّ. قَالَ القرطبيّ: ظواهر الأحاديث تدل عَلَى تعليق الذبح بالصلاة، لكن لما رأى الشافعيّ، أن منْ لا صلاة عيد عليه، مخاطب بالتضحية، حمل الصلاة عَلَى وقتها. وَقَالَ أبو حنيفة، والليث: لا ذبح قبل الصلاة، ويجوز بعدها، ولو لم يذبح الإمام، وهو خاص بأهل المصر، فأما أهل القرى والبوادي، فيدخل وقت الأضحية فِي حقهم، إذا طلع الفجر الثاني. وَقَالَ مالك: يذبحون إذا نحو أقرب أئمة القرى إليهم، فإن نحروا قبلُ أجزأهم. وَقَالَ عطاء، وربيعة: يذبح أهل القرى بعد طلوع الشمس. وَقَالَ أحمد، وإسحاق: إذا فرغ الإمام منْ الصلاة، جازت الأضحية، وهو وجه للشافعية، قويّ منْ حيث الدليل، وإن ضعفه بعضهم، ومثله قول الثوري: يجوز بعد صلاة الإمام، قبل خطبته، وفي أثنائها، ويحتمل أن يكون قوله:"حَتَّى ينصرف"، أي منْ الصلاة، كما فِي الروايات الأخر، وأصرح منْ ذلك: ما وقع عند أحمد، منْ طريق يزيد بن البراء، عن أبيه، رفعه: إنما الذبح بعد الصلاة، ووقع فِي حديث جندب، عند مسلم:"منْ ذبح قبل أن يصلي، فليذبح مكانها أخرى"، قَالَ ابن دقيق العيد: هَذَا اللفظ أظهر فِي اعتبار

ص: 340

فعل الصلاة، منْ حديث البراء، أي حيث جاء فيه:"منْ ذبح قبل الصلاة"، قَالَ: لكن إن أجريناه عَلَى ظاهره، اقتضى أن لا تجزىء الأضحية، فِي حق منْ لم يصل العيد، فإن ذهب إليه أحد، فهو أسعد النَّاس بظاهر هَذَا الْحَدِيث، وإلا وجب الخروج عن هَذَا الظاهر، فِي هذه الصورة، ويبقى ما عداها فِي محل البحث. وتعقب بأنه قد وقع فِي صحيح مسلم، فِي رواية أخرى:"قبل أن يصلي"، أو "نصلي" بالشك، قَالَ النوويّ: الأولى بالياء، والثانية بالنون، وهو شك منْ الراوي، فعلى هَذَا إذا كَانَ بلفظ "يصلي"، ساوى لفظ حديث البراء، فِي تعليق الحكم بفعل الصلاة. قَالَ الحافظ: وَقَدْ وقع عند البخاريّ، فِي حديث جندب، فِي "الذبائح" بمثل لفظ البراء، وهو خلاف ما يوهمه سياق صاحب "العمدة"، فإنه ساقه عَلَى لفظ مسلم، وهو ظاهر فِي اعتبار فعل الصلاة، فإن إطلاق لفظ الصلاة، وإرادة وقتها خلاف الظاهر، وأظهر منْ ذلك قوله:"قبل أن نصلي"، بالنون وكذا قوله:"قبل أن ننصرف"، سواء قلنا منْ الصلاة، أم منْ الخطبة. وادّعى بعض الشافعية أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"منْ ذبح قبل أن يصلي، فليذبح مكانها أخرى"، أي بعد أن يتوجه منْ مكان هَذَا القول؛ لأنه خاطب بذلك منْ حضره، فكأنه قَالَ: منْ ذبح قبل فعل هَذَا منْ الصلاة والخطبة، فليذبح أخرى، أي لا يعتد بما ذبحه، ولا يخفي ما فيه. وأورد الطحاوي ما أخرجه مسلم، منْ حديث ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، بلفظ:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، صلى يوم النحر بالمدينة، فتقدم رجال، فنحروا، وظنوا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قد نحر فأمرهم أن يعيدوا"، قَالَ: ورواه حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر، بلفظ:"أن رجلًا ذبح قبل أن يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى أن يذبح أحد قبل الصلاة"، وصححه ابن حبّان، ويشهد لذلك قوله فِي حديث البراء:"إن أول ما لصنع، أن نبدأ بالصلاة، ثم لرجع، فننحر"، فإنه دال عَلَى أن وقت الذبح يدخل بعد فعل الصلاة، ولا يشترط التأخير إلى نحر الإمام، ويؤيده منْ طريق النظر، أن الإمام لو لم ينحر، لم يكن ذلك مسقطا عن النَّاس مشروعية النحر، ولو أن الإمام نحر قبل أن يصلي، لم يجزئه نحوه، فدل عَلَى أنه هو والناس فِي وقت الأضحية سواء. وَقَالَ المهلب: إنما كره الذبح قبل الإمام؛ لئلا يشتغل النَّاس بالذبح عن الصلاة. انتهى ما فِي "الفتح".

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما ذُكر أن الأرجح -كما تقدم تصحيحه عن ابن قُدامة رحمه الله تعالى- أن وقتها، فِي الموضع الذي يُصَلَّى فيه العيدُ بعد الصلاة؛ لظاهر الخبر، فإن العمل بظاهر الخبر مهما أمكن هو الواجب، فأما غير أهل الأمصار والقرى، فأول وقتها فِي حقهم قدر الصلاة، والخطبة بعد الصلاة؛ إذا كانوا لا يُصلّون

ص: 341

صلاة العيد، حيث كَانَ مذهبهم عدم مشروعيّتها فِي حقّهم، فوجب الاعتبار بقدرها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي آخر وقت الأضحية:

ذهبت طائفة إلى أن آخره اليوم الثاني منْ أيام التشريق، فتكون أيام النحر ثلاثة: يوم العيد، ويومان بعده، وهذا قول عمر، وعلي، وابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، وأنس، قَالَ أحمد: أيام النحر ثلاثة عن غير واحد، منْ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية قَالَ: خمسةٍ منْ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر أنسا، وهو قول مالك، والثوري، وأبي حنيفة.

واحتجّ هؤلاء بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، نهى عن ادّخار الأضاحي فوق ثلاث، ولا يجوز الذبح فِي وقت لا يجوز ادخار الأضحية إليه، ولأن اليوم الرابع لا يجب الرمي فيه، فلم تجز التضحية فيه كالذي بعده، ولأنه قول منْ ذُكر منْ الصحابة، ولا مخالف لهم إلا رواية عن علي، وَقَدْ روي عنه ما يوافق الأولين.

وتُعقّب بأن النهي عن الادّخار فوق ثلاث؛ لا يستلزم النهي عن الذبح؛ لأن النهي إنما ورد لأجل أن يتصدّقوا باللحم عَلَى المحتاجين، وهذا لا يمنع الذبح، بل يقتضيه، ودعوى عَلَى مخالفة الصحابة للمذكورين غير صحيحة.

قَالَ أبو محمد بن حزم رحمه الله تعالى -بعد ذكر احتجاجهم بما ذُكر منْ عدم المخالف لهؤلاء الصحابة-: ما نصّه: قد ذكرنا قضايا عظيمة خالفوا فيها جماعة منْ الصحابة رضي الله عنهم، لا يُعرف لهم مخالف، فكيف، ولا يصحّ شيء مما ذكرنا، إلا عن أنس وحده عَلَى ما بيّنّا قبلُ؟، وان كَانَ هَذَا إجماعًا، فقد خالف عطاء، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، والزهريّ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار الإجماع، وأُفّ لكلّ إجماع يخرُج عنه هؤلاء. وَقَدْ روينا عن ابن عباس ما يدلّ عَلَى خلافه لهذا لا القول. انتهى "المحلّى" 7/ 378.

وذهبت طائفة إلى أن آخره آخر أيام التشريق، وإليه ذهب الشافعيّ، وبه قَالَ عطاء، والحسن؛ لأنه روي عن جبير بن مطعم: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أيام مني كلها مَنْحَرٌ، ولأنها أيام تكبير وإفطار، فكانت محلا للنحر كالأولين.

وتُعقّب بأن الْحَدِيث إنما هو: "ومنى كلها منحر"، ليس فيه ذكر الأيام، والتكبير أعم منْ الذبح، وكذلك الإفطار، بدليل أول يوم النحر، ويوم عرفة يوم تكبير، ولا يجوز الذبح فيه.

وذهب ابن سيرين إلى أنه لا تجوز الأضحية إلا فِي يوم النحر خاصة؛ لأنها وظيفة

ص: 342

عيد، فلا تجوز إلا فِي يوم واحد، كأداء الفطرة يوم الفطر، وبه قَالَ سعيد بن جبير، وجابر بن زيد، فِي حقّ أهل الأمصار. وحقّ فِي أهل مني كالقول الأول.

وذهب أبو سلمة بن عبد الرحمن، وعطاء بن يسار إلى أنه تجوز التضحية إلى هلال محرم، وَقَالَ أبو أمامة بن سهل بن حنيف: كَانَ الرجل منْ المسلمين، يشتري أضحية، فيُسَمّنها، حَتَّى يكون آخر ذي الحجة، فيضحي بها، رواه الإمام أحمد، بإسناده، وَقَالَ: هَذَا الْحَدِيث عجيب، وَقَالَ: أيام الأضحى التي أجمع عليها ثلاثة أيام

(1)

.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه أبو سلمة بن عبد الرحمن، وعطاء بن يسار، ورُوي عن علي رضي الله تعالى عنه، منْ جواز التضحية إلى هلال محرّم هو الأرجح؛ لقوّة أدلّته، فقد أخرجه ابن حزم فِي "المحلّى" منْ طريق يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم التيميّ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وسليمان بن يسار، قالا جميعًا: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الأضحى إلى هلال المحرّم لمن أراد أن يستأني بذلك"، قَالَ ابن حزم هَذَا منْ أحسن المراسيل، وأصحّها، فيلزم الحنفيين، والمالكيين القول به، وإلا فقد تناقضوا. انتهى.

قَالَ الجامع: وهذا المرسل يعضده ما أخرجه أبو نعيم فِي "مستخرجه" منْ طريق أحمد بن حنبل، عن عباد بن العوّام، قَالَ: أخبرني يحيى بن سعيد، وهو الأنصاريّ، قَالَ سمعت أبا أمامة بن سهل، قَالَ:"كَانَ المسلمون يشتري أحدهم الأضحيّة، فيُسمّنها، ويذبحها فِي آخر ذي الحجة"

(2)

.

فهذا أثر صحيح، وَقَدْ علقه البخاريّ فِي "صحيحه" بصيغة الجزم، وأبو أُمامة، منْ كبار التابعين، وله رؤية، قد أخبر بأن ذلك كَانَ فعل المسلمين، فصحّ الاحتجاج بالمرسل المذكور؛ لاعتضاده، عند منْ لا يحتجّ به إلا إذا اعتضد.

والحاصل أن الحقّ جواز التضحية إلى آخر ذي الحجة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي زمن ذبح الأضحية:

ذهبت طائفة إلى أنه النهار، دون الليل، قَالَ ابن قُدامة: نص عليه أحمد، فِي رواية الأثرم، وهو قول مالك، وروي عن عطاء ما يدل عليه. قَالَ: وحكي عن أحمد رواية أخرى، أن الذبح يجوز ليلًا، وهو اختيار أصحابنا المتأخرين، وقول الشافعيّ،

(1)

وعلّقه البخاريّ فِي "صحيحه" فِي "باب أضحية النبيّ صلى الله عليه وسلم بكبشين

" منْ "كتاب الأضاحي" 7/ 130.

(2)

راجع "الفتح" 11/ 124 "كتاب الأضحية".

ص: 343

وإسحاق، وأبي حنيفة، وأصحابه؛ لأن الليل زمن يصح فيه الرمي، فأشبه النهار.

ووجه الأول قولُ الله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28]، وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه نهى عن الذبح بالليل، ولأنه ليلُ يومٍ يجوز الذبح فيه، فأشبه ليلة يوم النحر، ولأن الليل تتعذر فيه تفرقة اللحم فِي الغالب، فلا يفرق طَرِيّا، فيفوت بعض المقصود، ولهذا قالوا: يكره الذبح فيه، فعلى هَذَا إن ذبح ليلًا لم يجزئه عن الواجب، وإن كَانَ تطوعا، فذبحها كانت شاة لحم، ولم تكن أضحية، فإن فرقها حصلت القربة بتفريقها دون ذبحها. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله تعالى فِي "المغني" 13/ 384 - 387 بتصرّف.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول يجوز الذبح ليلًا هو الأرجح؛ لأنه ليس هناك نصّ يمنع منْ ذلك؛ والآية ليس فيها التعرّض للنهي عن ذلك أصلًا، وما ذكروه منْ الْحَدِيث غير ثابت، فقد أخرجه الطبرانيّ فِي "المعجم الكبير"، وفيه سليمان ابن سلمة الْخَبَائريّ، وهو متروك، كما قاله الحافظ أبو بكر الهيثميّ فِي "مجمع الزوائد" 4/ 23، بل كذّبه بعضهم، كما فِي "الميزان" للذهبيّ 2/ 209 - 210، فتنبّه. وَقَدْ حقّق المسألة أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى فِي "كتابه المحلّى" 7/ 377 - 379، مرجحًا الجواز إلى هلال محزم، ليلًا ونهارًا، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): فِي اختلاف أهل العلم فيما إذا فات وقت الذبح:

ذهبت طائفة إلى أنه إذا فات وقت الذبح، ذبح الواجب قضاء، وصنع به ما يصنع بالمذبوح فِي وقته، وهو غير فِي التطوع، فإن فرق لحمها كانت القربة بذلك، دون الذبح؛ لأنها شاة لحم، وليست أضحية، وبهذا قَالَ الشافعيّ، وأحمد.

وَقَالَ أبو حنيفة: يسلمها إلى الفقراء، ولا يذبحها، فإن ذبحها فرق لحمها، وعليه أرش ما نقصها الذبح؛ لأن الذبح قد سقط بفوات وقته.

واحتجّ الأولون بأن الذبح أحد مقصودي الأضحية، فلا يسقط بفوات وقته، كتفرقة اللحم، وذلك أنه لو ذبحها فِي الأيام، ثم خرجت قبل تفريقها فرّقها بعد ذلك، ويفارق الوقوف، والرمي، ولأن الأضحية لا تسقط بفواتها بخلاف ذلك.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي هو الذي قاله الأولون. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: إذا وجبت الأضحية بإيجابه لها، فَضَلَّت، أو سُرِقت بغير تفريط منه، فلا ضمان عليه؛ لأنها أمانة فِي يده، فإن عادت إليه ذبحها، سواء كَانَ فِي زمن الذبح، أو

ص: 344

فيما بعده. ذكره ابن قُدامة رحمه الله تعالى فِي "المغني" 13/ 387 - 388. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4397 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ، بَعْدَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ قَالَ: "مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا، وَنَسَكَ نُسُكَنَا، فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ، وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَتِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ"، فَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ نَسَكْتُ، قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَعَرَفْتُ أَنَّ الْيَوْمَ يَوْمَ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، فَتَعَجَّلْتُ، فَأَكَلْتُ، وَأَطْعَمْتُ أَهْلِي، وَجِيرَانِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ"، قَالَ: فَإِنَّ عِنْدِي عَنَاقًا، جَذَعَةً، خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ، فَهَلْ تُجْزِىءُ عَنِّي؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

و"أبو الأحوص": هو سلّام بن سُليم الحنفيّ الكوفيّ. و"منصور": هو ابن المعتمر. وقوله: "أبو بُرْدة" بضم الموحدة، وسكون الراء، هو هانىء بن نِيَار الأنصاريّ.

وقوله: "فإن عندي عناقًا جذعةً"، قَالَ الكرمانيّ:"جذعة" صفة للعناق، ولا يقال: عناقةٌ؛ لأنه موضوعٌ للأنثى منْ ولد المعز، فلا حاجة إلى التاء الفارقة بين المذكر والمؤنّث. انتهى.

وقوله: "قَالَ: نعم، ولن تجزي الخ" وفي رواية للبخاريّ: "قَالَ: اذبحها، ولا تصلح لغيرك، وفي رواية: "أأذبحها؟، قَالَ: نعم، ثم لا تجزي عن أحد بعدك"، وفي حديث سهل بن أبي حثمة: "وليس فيها رخصة لأحد بعدك".

وقوله: "عن أحد بعدك" قَالَ الكرمانيّ: هَذَا منْ خصائص أبي بردة، كما أن قيام شهادة خزيمة مقام الشهادتين، منْ خصائص خزيمة، ومثله كثير فِي الصحابة رضي الله تعالى عنهم. وَقَالَ الخطّابيّ: هَذَا منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم تخصيص لعين منْ الأعيان بحكم مفرد، وليس منْ باب النسخ، فإن النسخ إنما يقع عامّا للأمّة، غير خاصّ ببعضهم. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق تمام البحث فيه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4398 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ: "مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَلْيُعِدْ"،

(1)

راجع "زهر الربى" 7/ 223.

ص: 345

فَقَامَ رَجُلٌ: فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا يَوْمٌ، يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ، فَذَكَرَ هَنَةً مِنْ جِيرَانِهِ، كَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَدَّقَهُ، قَالَ: عِنْدِي جَذَعَةٌ، هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ، فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَا أَدْرِي، أَبَلَغَتْ رُخْصَتُهُ مَنْ سِوَاهُ، أَمْ لَا؟، ثُمَّ انْكَفَأَ إِلَى كَبْشَيْنِ، فَذَبَحَهُمَا").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(يعقوب بن إبراهيم) الدُّوْرقيّ، أبو يوسف البغداديّ، ثقة [10] 21/ 22.

2 -

(ابن علية) إسماعيل بن إبراهيم بن مِقسَم، أبو بشر البصريّ، ثقة ثبت [8] 18/ 19.

[تنبيه]: وقع فِي بعض نسخ "المجتبى"، وفي "الكبرى":"حدّثنا ابن عُليّة"، وهو الذي فِي "تحفة الأشراف" 1/ 370 - ووقع فِي النسخة الهنديّة بدله:"حدّثنا حماد بن زيد"، والظاهر أن كليهما صواب، وذلك لأن البخاريّ أخرج الْحَدِيث بالطريقين جميعًا، فأخرجه عن مسدد، وعليّ بن المدينيّ، وصدقة بن الفضل ثلاثتهم عن إسماعيل ابن عليّة، عن أيوب عن ابن سيرين، عن أنس رضي الله تعالى عنه، وأخرجه أيضًا عن حامد بن عمر، عن حماد بن زيد، عن أيوب، به، وكذا أخرجه مسلم بالطريقين جميعًا، فلعل المصنّف أيضًا أخرجه بهما جميعًا. والله تعالى أعلم.

3 -

(أيوب) بن أبي تميمة كيسان السختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت حجة، منْ كبار الفقهاء العبّاد [5] 42/ 48.

4 -

(محمد) بن سيرين، أبو بكر الأنصاريّ مولاهم البصريّ، ثقة ثبت عابد [3] 46/ 57.

5 -

(أنس) بن مالك الأنصاريّ، أبو حمزة الخادم رضي الله تعالى عنه 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فبغدادي. (ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الجماعة الذين يروون عنهم بلا واسطة. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله تعالى عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) وهو آخر منْ مات منْ الصحابه بالبصرة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَن أَنَس) بن مالك رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ:

ص: 346

"مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَلْيُعِدْ") بضم أوله، منْ الإعادة، وهو فعل مضارع، مجزم بلام الأمر، وَقَدْ استدلّ به منْ قَالَ برجوب الأضحيّة؛ لكونه أمرًا، والمختار أنها مستحبّة، والمراد به هنا بيان أن ستة الأضحية لا تتأدّى بالأُولى، بل يُحتاج إلى فعلها مرّةً أخرى، فالأمر بالإعادة؛ لتحصيل السكنة، لا غير، وتقدّم البحث فِي هَذَا مستوفًى، فلا تغفُل.

(فَقَامَ رَجُلٌ) يحتمل أن يكون هو أبا بُردة بن نيار المذكور سابقًا (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا يَوْمٌ، يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ) ببناء الفعل للمفعول (فَذَكَرَ) الرجل (هَنَةً مِنْ جِيرَانِهِ) -بفتحتين- تأنيث هَنٍ، وهو كناية عن كل اسم جنس، وهذا معنى قول منْ قَالَ: يُعبَّر بها عن كلّ شيء، والمراد به هنا الحاجة، أي فذكر أنهم فقراء محتاجون إلى اللحم (كَأَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَدَّقَهُ) أي صدّق ذلك الرجل فيما ذكره منْ حاجة جيرانه، وفي رواية البخاريّ:"فكأن النبيّ صلى الله عليه وسلم عَذَره"، وهو بتخفيف الذال المعجمة- منْ العذر: أي قَبِلَ عذره، ولكن لم يجعل ما فعله كافيًا، ولذلك أمره بالإعادة. قَالَ ابن دقيق العيد: فيه دليلٌ عَلَى أن المأمورات إذا وقعت عَلَى خلاف مقتضى الأمر، لم يُعذر بالجهل، والفرق بين المأمورات والمنهيّات، أن المقصود منْ المأمورات إقامة مصالحها، وذلك لا يحصُل إلا بالفعل، والمقصود منْ المنهيّات الكفّ عنها بسبب مفاسدها، ومع الجهل والنسيان، لم يقصد المكلّف فعلها، فيُعذرُ. ذكره فِي "الفتح" 11/ 137.

(قَالَ) ذلك الرجل لَمّا علم أن ذبحه غير مجزىء (عِنْدِي جَذَعَةٌ، هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ، فَرَخَّصَ لَهُ) أي سهلّ، وأذن له أن يُضحّي بها. قَالَ أنس (فَلَا أَدْرِي، أَبَلَغَتْ رُخْصَتُهُ مَنْ سِوَاهُ، أَمْ لَا؟) قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى فِي "شرح مسلم": هَذَا الشكّ بالنسبة: إلى علم أنس رضي الله تعالى عنه، وَقَدْ صرّح النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي حديث البراء السابق بأنها لا تبلغ غيره، ولا تجزىء أحدًا بعده. انتهى.

(ثُمَّ انْكَفَأَ) بالهمز: أي مال، وانعطف (إِلَى كَبْشَيْنِ، فَذَبَحَهُمَا) زاد فِي رواية البخاريّ: "ثم انكفأ النَّاس إلى غُنيمة، فذبحوها"، وفي رواية مسلم:"فقام النَّاس إلى غُنيمة، فتوزّعوها، أو قَالَ: فتجزّعوها". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أنس رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -17/ 4398 وفي "كتاب العيدين" 1587 و14/ 4387 وتقدّم فِي هَذَا

ص: 347

الكتاب أيضًا 4389 و4390 - وفي "الكبرى" 18/ 4488 وتقدّم أيضًا فِي 15/ 4475. وأخرجه (خ) فِي "العيدين" 954 و984 وفي "الأضاحي" 5546 و5549 و5561 و554 (م) فِي "الأضاحي" 5552 و5053 و5054 (ق) فِي "الأضاحي" 3151. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم ذبح الأضحيّة قبل الإمام، وهو وجوب الإعادة، والظاهر أن المصنّف يرى حمل قوله صلى الله عليه وسلم:"منْ ذبح قبل الصلاة، فليُعد" عَلَى الذبح قبل الإمام، وَقَدْ تقدّم أنه قَالَ به مالك، وبعض أهل العلم، إلا أن الراجح جوازه قبل ذبحه، إذا كَانَ بعد الصلاة، عملاً بظاهر الْحَدِيث. والله تعالى أعلم.

(ومنها): أن فيه إجزاء الذكر فِي الأضحية. (ومنها): أن الأفضل أن يذبح الإنسان أضحيته بنفسه، وهذا والذي قبله مجمع عليهما. قاله النوويّ. (ومنها): أن فيه استحباب التضحية باثنين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4399 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ يَحْيَى ح وَأَنْبَأَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ، أَنَّهُ ذَبَحَ قَبْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعِيدَ، قَالَ: عِنْدِي عَنَاقُ جَذَعَةٍ، هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مُسِنَّتَيْنِ، قَالَ: "اذْبَحْهَا"، فِي حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَجِدُ إِلاَّ جَذَعَةً، فَأَمَرَهُ أَنْ يَذْبَحَ).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(عُبيد الله بن سعيد) بن يحيى اليشكري، أبو قُدامة السرخسيّ، نزيل نيسابور، ثقة ثبت مأمون [10] 15/ 15.

2 -

(عمرو بن علي) الفلّاس، أبو حفص البصريّ، ثقة حافظ [10] 4/ 4.

3 -

(يحيى) بن سعيد القطّان، أبو سعيد البصريّ، ثقة ثبت إمام حجة [9] 4/ 4.

4 -

(يحيى بن سعيد) الأنصاريّ، أبو سعيد القاضي المدنيّ، ثقة ثبت [5] 22/ 23.

5 -

(بُشير بن يسار) -بضمّ الموحّدة، مصغّرًا- الحارثيّ الأنصاريّ مولاهم المدنيّ، ثقة [3] 124/ 186.

[تنبيه]: "بُشَير" بالتصغير فِي الكتب الستّة اثنان، فقط، هَذَا، وبُشير بن كعب بن أبي الحميريّ الْعَدويّ، أبو أيوب البصريّ، ثقة [2]. ومن عداهما، فإنه بَشِير، بالفتح، مكبّرًا، وإلى هَذَا أشار السيوطيّ فِي "ألفية الْحَدِيث"، حيث قَالَ:

ص: 348

وَابْنُ يَسَارٍ وَابْنُ كَعْبٍ قُلْ يُسَيْر

وقُلْ يُسَيْرٌ فِي ابْنِ عَمْرو أَوْ أُسَيْر

6 -

(أبو بُردة بن نيار) اسمه هانىء الصحابيّ المعروف، تقدمت ترجمته عند شرح حديث البراء رضي الله تعالى عنهما أول الباب. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين منْ يحيى الأنصاريّ، ويحيى القطّان، وعمرو بصريان، وعبيد الله سرخسي، ثم نيسابوريّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي بُرْدَةَ) بضم الموحّدة، وسكون الراء، اسمه هانىء (بْنِ نِيَارٍ) -بكسر النون- رضي الله تعالى عنه (أنَّهُ ذَبَحَ قَبْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وتقدم سبب تقدّمه فِي شرح حديث البراء رضي الله تعالى عنه أول الباب (فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعِيدَ) أي يذبح أضحيّته مرّة ثانية؛ لعدم إجزاء الأولى، حيث وقعت قبل دخول وقتها، وهو بعد صلاة العيد (قَالَ) أي أبو بُردة رضي الله تعالى عنه (عِنْدِي عَنَاقُ جَذَعَةٍ) يحتمل أن يكون بإضافة "عناق" إلى "جَذَعَةً"، منْ إضافة الصفة للموصوف، ويحتمل أن يكون "جَذَعَةً" صفة لـ"عناق"، ويدلّ عَلَى هَذَا ما سبق منْ قوله:"فإن عندي عناقًا جذعةً"(هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ) لسمنها، وكثرة لحمها (مِنْ مُسِنَّتَيْنِ) تثنية مُسنّة بصيغة اسم الفاعل، منْ أسنّت: إذا طلع سنّها، وذلك بعد سنتين، لا منْ أسنّ الرجل: إذا كَبِرَ (قَالَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم ("اذْبَحْهَا) أي اذبح الجذعة أضحيّة بدلاً عما وقع قبل وقته (فِي حَدِيثِ عُبَيْدِ الله) بن سعيد، وهو الشيخ الأول للمصنّف فِي هَذَا السند، يعني أن قوله:"اذبحها" إنما هو فِي حديث عمرو بن عليّ الفلّاس الشيخ الأول له، وأما حديث عُبيد الله بن سعيد"، فإنه بلفظ (فَقَالَ) أي الرجل (إِنِّي لا أَجِدُ إلَّا جَذَعَةً، فَأَمَرَهُ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (أَنْ يَذْبَحَ) الجذعة المتيسّرة له. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أبي بُردة بن نيار رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -17/ 4399 - وفي "الكبرى" 17/ 4484. وأخرجه (أحمد) فِي "مسند المكيين" 1570 و"مسند المدنيين" 15893 (الموطأ) فِي "الأضاحي" 915 (الدارمي) فِي "الأضاحي" 1881. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 349

4400 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ سُفْيَانَ، قَالَ: ضَحَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَضْحَى، ذَاتَ يَوْمٍ، فَإِذَا النَّاسُ قَدْ ذَبَحُوا ضَحَايَاهُمْ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَآهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُمْ ذَبَحُوا قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: "مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَنْ كَانَ لَمْ يَذْبَحْ حَتَّى صَلَّيْنَا، فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ عز وجل").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة، و"أبو عوانة": هو الوضاح بن عبد الله. و"جندب بن سفيان": هو جندب بن عبد الله بن سفيان الصحابيّ، رضي الله تعالى عنه، نُسب لجدّه.

وقوله: "فليذبح عَلَى اسم الله": قَالَ النوويّ فِي "شرح مسلم" 13/ 112 - 113: قَالَ الْكُتّابُ منْ أهل العربية: إذا قيل؛ "باسم الله" تعين كَتْبُه بالألف، وإنما تحذف الألف إذا كُتِب "بسم الله الرحمن الرحيم" بكمالها.

وَقَالَ أيضًا: "فليذبح عَلَى اسم الله": هو بمعنى رواية: "فليذبح باسم الله"، أي قائلا: باسم الله هَذَا هو الصحيح فِي معناه. وَقَالَ القاضي: يحتمل أربعة أوجه: [أحدها]: أن يكون معناه: فليذبح لله، والباء بمعى اللام. [الثاني]: معناه: فليذبح بسنة الله. [والثالث]: بتسمية الله عَلَى ذبيحته؛ إظهارًا للإسلام، ومخالفةً لمن يذبح لغيره، وقمعًا للشيطان. [والرابع]: تبرّكًا باسمه، وتيمّنًا بذكره، كما يُقال: سِرْ عَلَى بركة الله، وسِرْ باسم الله. وكره بعض العلماء أن يقال: افعل كذا عَلَى اسم الله، قَالَ. لأن اسمه سبحانه عَلَى كلّ شيء. قَالَ القاضي: هَذَا ليس بشيء، قَالَ: وهذا الْحَدِيث يردّ عَلَى هَذَا القائل. انتهى.

وزاد فِي "الفتح" 11/ 137 وجهًا خامسًا، وهو أن يكون معنى قوله:"عَلَى اسم الله" مطلق الإذن فِي الذبيحة حينئذ؛ لأن السياق يقتضي المنع قبل ذلك، والإذن بعد ذلك، كما يقال للمستأذن: باسم الله، أي ادخل. انتهى.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ مضى فِي 4/ 4370 - وَقَدْ استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد.

واستدلّ به المصنّف رحمه الله تعالى هنا عَلَى أن الذبح قبل الإمام لا يجوز، لكن دلالته عَلَى ذلك غير واضحة، إلا بتكلّف، وإنما يدلّ عَلَى عدم الإجزاء قبل الصلاة، وهو القول المختار، كما سبق البحث عنه مستوفًى، فلا تغفل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

ص: 350

‌18 - (بَابُ إِبَاحَةِ الذَّبْحِ بِالْمَرْوَةِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "المروة" بفتح إلميم، وسكون الراء، وفتح الواو، آخره هاء التأنيت: هي الحجارة البِيض، وقيل وهو الذي يُقدح منه النار. والله تعالى أعلم بالصواب.

4401 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَفْوَانَ، أَنَّهُ أَصَابَ أَرْنَبَيْنِ، وَلَمْ يَجِدْ حَدِيدَةً، يَذْبَحُهُمَا بِهِ، فَذَكَّاهُمَا بِمَرْوَةٍ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي اصْطَدْتُ أَرْنَبَيْنِ، فَلَمْ أَجِدْ حَدِيدَةً، أُذَكِّيهِمَا بِهِ، فَذَكَّيْتُهُمَا بِمَرْوَةٍ، أَفَآكُلُ؟ قَالَ: "كُلْ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

و"داود": هو ابن أبي هندء و"عامر": هو ابن شَرَاحيل الشعبيّ.

وقوله: "اصطدت" وفي النسخة التي شرحها السنديّ، "اصدّتُّ"، وأصله افتعال، منْ صاد، قلبت تاء الافتعال منه طاء؛ لوقوعها بعد حرف الإطباق، ثم قلبت الطاء صادًا، وأُدغمت فِي الصاد، فصار "اصّدت، بتشديد الصاد، وإلى هَذَا القاعدة أشار ابن مالك رحمه الله تعالى فِي "خلاصته" حيث قَالَ:

طَا تَا افْتِعَالٍ رُدَّ إِثْرَ مُطْبَقِ

فِي ادَّانَ وَازْدَدْ وادَّكِرْ دَالًا بَقِي

ويجوز أيضًا إظهار الطاء، فيقال:"اصطدت"، كما هو معظم نسخ "المجتبى"، و"الكبرى".

والحديث صححيحٌ، وَقَدْ تقدم فِي "كتاب الصيد والذبائح" 25/ 4315 ومضى شرحه، وتخريجه هناك، فراجعه تستفد.

واستدلال المصنّف رحمه الله تعالى به عَلَى الترجمة واضحة، فإنه صريحٌ فِي إباحة الذبح بالمروة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4402 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَاضِرُ بْنُ الْمُهَاجِرِ الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، يُحَدِّثُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ ذِئْبًا نَيَّبَ فِي شَاةٍ، فَذَبَحُوهَا بِالْمَرْوَةِ، فَرَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أَكْلِهَا).

رجال الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن بشار) بُندار، أبو بكر البصريّ، ثقة حافظ [10] 24/ 27.

2 -

(محمد بن جعفر) غندر البصريّ، ثقة صحيح الكتاب [9] 21/ 22.

ص: 351

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت [7] 24/ 27.

4 -

(حاضر بن المهاجر) أبو عيسى الباهلي، مقبول [6].

روى عن سليمان بن يسار، وعنه شعبة. قَالَ أبو حاتم: مجهول. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". تفرد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط، وابن ماجه.

5 -

(سليمان بن يسار) مولى ميمونة المدنيّ، ثقة فاضل فقيه [3] 122/ 156.

6 -

(زيد بن ثابت) بن الضحاك الأنصاريّ النجاري الصحابيّ المشهور رضي الله تعالى عنه، تقدم فِي 122/ 179. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير حاضر بن المهاجر، فقد تفرد به هو، وابن ماجه. (ومنها): أن رواته ما بين بصريين ومدنيين. (ومنها): أن فيه سليمان بن يسار أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ) الأنصاريّ رضي الله تعالى عنه (أَنَّ ذِئْبًا) بكسر الذال المعجمه، وسكون الهمزة، قَالَ فِي "اللسان": هو كلب البرّ، والجمع أذؤُب فِي القليل، وذِئَاب، وذُؤبان، والأنثى ذِئبةٌ، يُهمز، ولا يُهمز، وأصله الهمز. انتهى (نَيَّبَ فِي شَاةٍ) بفتح النون، وتشديد الياء التحتانيّة: أي علّق أنيابه فيها، والناب: هو السنّ الذي يلي الرَّبَاعيات، وهو مذكّر، وجمعه أنيابٌ، قَالَ ابن سينا: ولا يجتمع ناب وقرنٌ معًا. ذكره الفيّوميّ (فَذَبَحُوهَا بِالْمَرْوَةِ) بفتح، فسكون: أي بالحجر الأبيض (فَرَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أَكْلِهَا) فيه دليل عَلَى جواز الذبح بالمروة، وهو محل الشاهد للترجمة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه هَذَا حسنٌ؛ ولا يضرّه حاضر بن المهاجر؛ لأن روى عنه شعبة، وهو ممن لا يروي إلا عن الثقة غالبًا، ووثقه ابن حبّان، فهو حسن الْحَدِيث، ويشهد لحديثه حديث محمد بن صفوان الذي قبله. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -18/ 4402 ويأتي بعد خمسة أبواب 24/ 4409 وفي "الكبرى" 19/ 4490 و25/ 4496. وأخرجه (ق) فِي "الذبائح" 3167 (أحمد) فِي "مسند الأنصار"

ص: 352

10614.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌19 - (إِبَاحَةِ الذَّبْحِ بِالْعُودِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "العُود" بضم العين المهملة: هو الخشب، جمعه أعواد، وعِيدان، والأصل عِوْدان، لكن قُلبت الواو ياء؛ لمجانسة الكسرة التي قبلها. أفاده الفيّوميّ. والله تعالى أعلم بالصواب.

4403 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُرِّيَّ بْنَ قَطَرِيٍّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُرْسِلُ كَلْبِي، فَآخُذُ الصَّيْدَ، فَلَا أَجِدُ مَا أُذَكِّيهِ بِهِ، فَأَذْبَحُهُ بِالْمَرْوَةِ، وَبِالْعَصَا، قَالَ: "أَنْهِرِ الدَّمَ بِمَا شِئْتَ، وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عز وجل").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه إسماعيل، فإنه منْ أفراده، وهو ثقة، و"خالد": هو الهُجيميّ. و"سماك": هو ابن حرب، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوق، تغير فِي آخره، فربّما تلقّن. و"مُرّيّ -بضم الميم، بلفظ النسب- ابن قَطَريّ" -بفتحتين، وكسر الراء، مخففًا- الكوفيّ، مقبول [3] 2/ 4304.

وقوله: "أنهر الدم الخ " فعل أمر منْ الإنهار، وهو الإسالة، والصبّ بكثرة، شبّه خروج الدم منْ موضع الذبح بجري الماء فِي النهر. قاله فِي "الزهر" 7/ 225.

والحديث صحيح، وَقَدْ تقدّم فِي 20/ 4306 - وتقدّم شرحه، وبيان مسائله، واستدلال المصنّف رحمه الله تعالى به عَلَى الترجمة واضحة، حيث إنه يدلّ عَلَى جواز الذبح بالعصا، وهو بمعنى العُود. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4404 -

(أَخْبَرَنِي

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، فَلَقِيتُ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ، فَحَدَّثَنِي عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: كَانَتْ لِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، نَاقَةٌ تَرْعَى فِي

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 353

قِبَلِ أُحُدٍ، فَعُرِضَ لَهَا، فَنَحَرَهَا بِوَتَدٍ، فَقُلْتُ لِزَيْدٍ: وَتَدٌ مِنْ خَشَبٍ، أَوْ حَدِيدٍ؟ قَالَ: لَا، بَلْ خَشَبٌ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ، فَأَمَرَهُ بِأَكْلِهَا).

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن معمر) الْقيسيّ البحرانيّ البصريّ، صدوق، منْ كبار [11] 5/ 1829.

2 -

(حَبّان بن هلال) -بفتح الحاء المهملة- أبو حبيب البصريّ، الثقة الثبت [9] 44/ 590.

3 -

(جرير بن حازم) بن زيد، أبو النضر البصريّ، ثقة، إلا فِي حديث عن قتادة، ففيه ضعف، وله أوهام إذا حدث منْ حفظه [6] 82/ 1014.

4 -

(أيوب) بن أبي تميمة السختيانيّ المذكور قبل باب.

5 -

(زيد بن أسلم) العدوى مولاهم المدنيّ، ثقة عالم [3] 64/ 80.

6 -

(عطاء بن يسار) الهلالي مولاهم المدنيّ، ثقة فاضل، صاحب مواعظ وعبادة، منْ صغار [3] 64/ 80.

7 -

(أبو سعيد الخدريّ) سعد بن مالك الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما تقدم قريبًا. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى أيوب، وبعده بالمدنيين. (ومنها): أن شيخه أحد مشايح الستة بلا واسطة. (ومنها): أن فيه ثلاثة منْ التابعين يروي بعضهم عن بعض: أيوب عن زيد عن عطاء. (ومنها) أن صحابيه أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَن زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) العدويّ مولاهم المدنيّ الفقيه، قَالَ جرير (فَلَقِيتُ) وفي نسخة:"ولقيت" بالواو (زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ، فَحَدَّثَنِي عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) الهلاليّ مولاهم المدنيّ.

والمعنى: أن جرير بن حازم روى هَذَا الْحَدِيث عن أيوب السختيانيّ، عن زيد بن أسلم، ثم لقي شيخ شيخه، زيدًا، فحدّثه به (عَن أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) سعد بن مالك بن سنان، رضي الله تعالى عنهما (قَالَ: كَانَتْ لِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، نَاقَةٌ) هي الأنثى منْ الإبل، قَالَ أبو عُبيد: ولا تُسمّى ناقةً، حَتَّى تُجذع، والجمع أينُقٌ -أي بالقلب المكانيّ- ونُوقٌ، ونِيَاقٌ. ذكره الفيّوميّ (تَرْعَى) بفتح أوله، مبنيّا للفاعل، يقال: رعت الماشية

ص: 354

تَرْعَى رَعْيًا، فهي راعيةٌ: إذا سَرَحَتْ بنفسها، ورعيتُها أرعاها، يُستعمل لازمًا، ومتعدّيًا، والفاعل راعٍ، والجمع رُعاة بالضمّ، مثلُ قاض وقُضاة، وقيل أيضاً رِعاء بالكسر والمدّ، ورُعْيان، مثلُ رُغْفان. قاله الفيّوميّ (فِي قِبَلِ أُحُدٍ) بكسر القاف، وفتح الموحّدة، وزان عِنَب: الجهة: أي فِي جهة أحد، و"أحُد" بضمتين: الجبل المعروف بالمدينة منْ جهة الشام، وكان به الوقعة المشهورة فِي أوائل شوّال، سنة ثلاث منْ الهجرة، وهو مذكّرٌ، فينصرف، وقيل: يجوز تأنيثه، عَلَى توهّم البقعة، فيُمنَعُ منْ الصرف (فَعُرِضَ لَهَا) بالبناء للمفعول: أي ظهر لها، وحلّ بها عارض أدّى إلى موتها (فَنَحَرَهَا بِوَتَدٍ) بفتح الواو، وكسر التاء فِي لغة الحجاز، وهي الفصحى، وجمعه أوتاد، وفتح التاء لغة، وأهلُ نجد يُسكنون التاء، فيُدغمون بعد القلب، فيبقى وَدّ، يقال: وتدتُ الوتد أتِدُه، منْ باب وعد: إذا أثبتّه بحائط، أو بالأرض، وأوتدته بالألف لغة. قاله الفيّوميّ (فَقُلْتُ لِزَيْدٍ) الظاهر أن القائل هو جرير، ويحتمل أن يكون أيوب. والله تعالى أعلم (وَتَدٌ مِنْ خَشَبٍ، أَوْ حَدِيدٍ؟، قَالَ: لا) أي ليس حديدًا (بَلْ) هو (خَشَبٌ، فَأَتَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ) أي عن حكم أكلها (فَأَمَرَهُ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (بِأَكْلِهَا) وهذا هو محلّ الترجمة، حيث أمره صلى الله عليه وسلم بأكل ما ذبحه بالوتد، وهو منْ العود، فدلّ عَلَى جواز الذبح بالعود. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

والحديث صحيح، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -19/ 4404 - وفي "الكبرى" 20/ 4492. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌20 - (النَّهْيُ عَنِ الذَّبْحِ بِالظُّفُرِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قَالَ الفيّوميّ رحمه الله تعالى: الظفر للإنسان مذكّرٌ، وفيه لغات:[أفصحها]: بضمّتين، وبها قرأ السبعة فِي قوله تعالى:{حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} الآية [الأنعام: 146]، [والثانية]: الإسكان للتخفيف، وقرأ بها الحسن البصريّ، والجمع أظفار، وربّما جُمع عَلَى أظفر، مثلُ رُكن وأركُن. [والثالثة]: بكسر الظاء، وزانُ حِمْل. [والرابعة]: بكسرتين؛ للإتباع، وقُرىء بهما فِي الشاذّ.

ص: 355

[والخامسة]: أُظفُرٌ، والجمع أظافيرُ، مثلُ أسبوع وأَسابيع، قَالَ الشاعر [منْ البسيط]:

مَا بَيْنَ لُقْمَتِهِ الأُولَى إِذَا انْحَدَرَتْ

وَبَيْنَ أُخْرَى تَلِيهَا قِيدُ أُظْفُورِ

انتهى كلام الفيّوميّ رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب.

4405 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ، فَكُلْ، إِلاَّ بِسِنٍّ، أَوْ ظُفْرٍ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح غير شيخه محمد ابن منصور الْجَوّاز المكيّ، فإنه منْ أفراده، وهو ثقة. و"سفيان": هو ابن عيينة. و"عمر بن سعيد" بن مسروق الثوريّ، أخو سفيان، ثقة [7] 40/ 683.

[تنبيه]: وقع فِي النسخة الهنديّة، و"الكبرى":"عمرو بن سعيد" بفتح العين، وهو تصحيفٌ، والصواب "عمر بن سعيد" بالضمّ، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

وقوله: "إلا بسنّ، أو ظفر" استثناء مما يُفهم منْ الكلام السابق: أي فاذبح بكلّ آلة، تُنهِر الدم، إلا بسنّ، أو ظفر، فلا تذبح بهما. قاله السنديّ 7/ 226، وتمام شرح الْحَدِيث يأتي فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى.

والحديث متّفقٌ عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌21 - (بَابُ الذَّبْحِ بِالسِّنِّ)

4406 -

(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا، وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عز وجل، فَكُلُوا مَا لَمْ يَكُنْ سِنًّا، أَوْ ظُفْرًا، وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ، أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفْرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(هناد بن السريّ) أبو السريّ الكوفيّ، ثقة [10] 23/ 25.

2 -

(أبو الأحوص) سلّام بن سُليم الحنفيّ الكوفيّ، ثقة ثبت [7] 79/ 96.

ص: 356

3 -

(سعيد بن مسروق) بن حبيب الثوري والد سفيان الكوفيّ، ثقة [6] 153/ 1121.

[تنبيه]: قَالَ فِي "الفتح" 11/ 51: مدار هَذَا الْحَدِيث فِي "الصحيحين" عَلَى سعيد بن مسروق. انتهى.

4 -

(عَبَايَة بن رِفَاعَةَ) الأنصاريّ الزرقي المدنيّ، ثقة [3] 9/ 3116.

5 -

(أبوه) هو رفاعة بن رافع بن خديج الأنصاريّ الحارثي المدنيّ، ثقة [3].

روى عن أبيه حديث "إنا لاقوا العدو غدًا". وعنه ابنه عباية، قاله أبو الأحوص، وعن سعيد بن مسروق، عن أبيه، عن جدّه. وَقَالَ الثوريّ، وشعبة، وغير واحد، وهو المحفوظ. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: يكنى أبا خديج، مات فِي ولاية الوليد بن عبد الملك. أخرج له الجماعة، سوى مسلم، وابن ماجه، وله حديث الباب فقط.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا أطلق فِي "التقريب" عَلَى رفاعة أنه ثقة، وفيه نظر؛ لأنه وإن أخرج له البخاريّ هَذَا الْحَدِيث، إن صحت الرواية، كما سبق الكلام عليها فِي 17/ 4299، إلا أنه مجهول؛ لأنه لم يرو عنه غير ابنه عباية، كما سبق آنفًا، وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، ومثله فِي اصطلاح "التقريب" أن يكون مقبولاً، فليُتأمّل. والله تعالى أعلم.

6 -

(جده) رافع خديج بن عدي الحارثي الأوسيّ الأنصاريّ الصحابيّ الشهير، أول مشاهده أحد، ثم الخندق، مات سنة (3) أو (74) وقيل: قبل ذلك، وتقدم فِي 112/ 155. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح إن صحت رواية البخاريّ لرفاعة، كما سبقت الإشارة إليه آنفًا. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين إلى سعيد بن مسروق، وبعده بالمدنيين. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعي عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَبَايَةَ) بفتح العين المهملة، وتخفيف الموحّدة، وبعد الألف تحتانيّة (ابْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ أَبِيهِ) هكذا فِي رواية أبي الأحوص زيادة عن "أبيه"، وتقدّم بيان اختلاف الرواة فِي زيادته، ومن تابع أبا الأحوص فِي ذلك، وأن رواية الجماعة بدونها هو المحفوظ فِي - 17/ 4299 - "الإنسيّة تستوحش"، فراجعه تستفد (عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ) بفتح الخاء المعجمة (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا) هكذا بالجزم فِي رواية أبي

ص: 357

الأحوص، ولعله عرف ذلك بخبر منْ صدقه، أو بالقرائن، وفي رواية البخاريّ منْ طريق أبي عوانة:"إنا لنرجو، أو نخاف" بالشك منْ الراوي، قَالَ فِي "الفتح": وفي التعبير بالرجاء إشارة إلى حرصهم عَلَى لقاء العدو؛ لما يرجونه منْ فضل الشهادة، أو الغنمية، وبالخوف إشارة إلى إنهم لا يحبون أن يهجم عليهم العدو بغتة. وفي رواية يزيد بن هارون عن الثوري عند أبي نعيم فِي "المستخرج عَلَى مسلم":"إنا نلقى العدو غدا، وإنا نرجو"، كذا بحذف متعلق الرّجاء، ولعل مراده الغنيمة. انتهى.

والحديث مختصر، وَقَدْ ساقه البخاريّ مطوّلًا منْ طريق أبي عوانة، عن سعيد بن مسروق، عن عباية بن رفاعة بن رافع، عن جده رافع بن خديج، قَالَ: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة، فأصاب النَّاس جوع، فأصبنا إبلا وغنما، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي أخريات النَّاس، فعجلوا، فنصبوا القدور، فدفع إليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم فأمر بالقدور فأكفئت، ثم قسم، فعدل عشرة منْ الغنم ببعير، فَنَدَّ منها بعير، وكان فِي القوم خيل يسيرة، فطلبوه، فأعياهم، فأهوى إليه رجل بسهم، فحبسه الله، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن لهذه البهائم أوابد، كاوابد الوحش، فما نَدَّ عليكم منها فاصنعوا به هكذا"، قَالَ: وَقَالَ جدي: إنا لنرجو، أو نخاف أن نلقى العدو غدا، وليس معنا مُدًى أفنذبح بالقصب؟، فَقَالَ:"ما أنهر الدم، وذُكِر اسم الله عليه فكل، ليس السن والظفر، وسأخبركم عنه، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة".

(وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى) -بضم أوله، مخففًا، مقصورًا- جمع مدية -بسكون الدال، بعدها تحتانية-: وهي السكين، سميت بذلك؛ لأنها تقطع مدى الحيوان، أي عمره، والرابط بين قوله نلقي العدو، وليست معنا مدى، يحتمل أن يكون مراده أنهم إذا لقوا العدو، صاروا بصدد أن يغنموا منهم ما يذبحونه، ويحتمل أن يكون مراده أنهم يحتاجون، إلى ذبح ما يأكلونه؛ ليتقووا به عَلَى العدو، إذا لقوه، ويؤيده ما تقدم منْ قسمة الغنم، والإبل بينهم، فكان معهم ما يذبحونه، وكرهوا أن يذبحوا بسيوفهم؛ لئلا يضر ذلك بحدها، والحاجة ماسة له، فسأل عن الذي يُجزىء فِي الذبح، غير السكين والسيف، وهذا وجه الحصر فِي المدية والقصب ونحوه، مع إمكان ما فِي معنى المدينة، وهو السيف. وَقَدْ وقع فِي حديث غير هَذَا:"إنكم لاقوا العدو غدا، والفطر أقوى لكم"، فندبهم إلى الفطر ليتقووا. قاله فِي "الفتح" 11/ 55.

وزاد فِي رواية البخاريّ: "أفنذبح بالقصب؟ ". وفي رواية لمسلم: "فنُذكّي بالليط" قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى فِي "المفهم" 5/ 367 - 368: وهو قطع القصب، والشَّظير: قطعة العصا، والظُّرَر: قطعة الحجر، ويُجمع عَلَى ظِرّان، ويقال

ص: 358

عليها المروة أيضًا، وكذلك رواه أبو داود فِي هَذَا الْحَدِيث:"أفنذكّي بالمروة؟ " مكان اللَّيط، والشّظاظ: فِلْقة العود، فهذه كلّها إذا قُطع بها الودجان، والحلقوم جازت الذبيحة، غير أنه لا يذبح بها إلا عند عدم الشِّفَار، وما يتنزّل منزلتها؛ لما ثبت منْ الأمر بحدّ الأشفار، وتحسين الذبح، والنهي عن تعذيب الحيوان، وَقَدْ نبّه مالك عَلَى هَذَا لَمّا ترجم عَلَى الذكاة بالشِّظَاظ:"ما يجوز منْ الذكاة عَلَى الضرورة".

ومعنى هَذَا السؤال أنهم لَمّا كانوا عازمين عَلَى قتال العدوّ، صانوا ما عندهم منْ السيوف، والأسنّة، وغير ذلك عن استعمالها فِي الذبح؛ لأن ذلك ربّما يفسد الآلة، أو يَعِيبها، أو ينقُص قطعها، ولم تكن لهم سكاكين صغار مُعدّة للذبح، فسألوا هل يجوز لهم الذبح بغير محدّد السلاح؟ فأجابهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بما يقتضي الجواز، وَقَدْ دخل فِي هَذَا العموم أن كلّ آلة تقطع ذبحًا، أو نحرًا، فالذكاة بها مبيحة للذبيحة، والحديد الْمُجْهِز أولى؛ لما تقدّم، ولا يُستثنى منْ الآلات شيء إلا السنّ، والظفر عَلَى ما يأتي. انتهى كلام القرطبيّ.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا أَنْهَرَ الدَّمَ) أي أساله، وصبه بكثرة، ووزنه أفعل، منْ النهر، شُبِّهَ خُروج الدم بجري الماء فِي النهر. قَالَ عياض: هَذَا هو المشهور فِي الروايات بالراء، وذكره أبو ذر الخشني بالزاي، وَقَالَ النهز بمعنى الرفع، وهو غريب، و"ما" موصولة، فِي موضع رفع بالابتداء، وخبرها "فكلوا"، والتقدير: ما أنهر الدم، فهو حلال، فكلوا. ويحتمل أن تكون شرطية. ووقع فِي رواية أبي إسحاق، عن الثوري:"كل ما أنهر الدم ذكاة"، و"ما" فِي هَذَا موصوفة.

[تنبيه]: زاد فِي رواية الشيخين قبل قوله: "ما أنهر الدم الخ" قولَهُ: "أعجل، أو أرن" قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى فِي "المفهم" 5/ 370 - 372 - : هَذَا الحرف وقع فِي كتاب البخاريّ، ومسلم، وأبي داود، واختلف الرواة فِي تقييده عَلَى أربعة أوجه:[الأول]: قيده النسفيّ، وبعض رواة البخاريّ:"أَرِنْ" بكسر الراء، وسكون النون، مثل أقِمْ. [الثاني]: قيّده الأصيليّ: "أَرِنِي" بكسر النون، بعدها ياء المتكلّم. [الثالث]: قيّده بعض رُواة مسلم كذلك، إلا أنه سكّن الراء. [الرابع]: قيّده فِي كتاب أبي داود بسكرن الراء، ونون مطلقة. هذه التقييدات المنقولة. قَالَ الخطّابيّ: وطالما استثبتُّ فيه الرواة، وسألت عنه أهل العلم، فلم أجد عند أحد منهم ما يُقطع بصحّته.

قَالَ القرطبيّ: قَالَ بعض علمائنا فِي الوجه الأول: هو بمعنى قد أنشط، وأسرع، فهو بمعنى أعجل، فكأنه يشير إلى أنه شكٌّ وقع منْ أحد الرواة فِي أيّ اللفظين قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم. قَالَ القرطبيّ: وهذه غفلة؛ إذ لو كَانَ منْ الأرَن الذي بمعنى النشاط،

ص: 359

للزم أن يكون مفتوح الراء؛ لأن ماضيه أَرِنَ، ومضارعه يأرَنُ، قَالَ الفرّاء: الأرَنُ النشاط، يقال: أَرِنَ البعيرُ بالكسر يأْرَنُ بالفتح أَرَنًا: إذا مَرِح مَرَحًا، فهو آرنٌ: أي نشيطٌ، وقياس الأمر منْ هَذَا أن تُجتلَبَ له همزة الوصل مكسورة، وتفتح الراء، فيقال: ائْرَنْ، مثل "ائذن"، منْ أَذِنَ يأذَنُ، ولم يُروَ كذلك. وأما تقييد الأصيليّ، فَقَالَ بعضهم: يكون بعنى أرِني سيلان الدم. قَالَ القرطبيّ: وعلى هَذَا فيبعُد أن تكون "أو" للشك، بل للجمع بمعنى الواو عَلَى المذهب الكوفيّ، فإنه طلب الاستعجال، وأن يُريه دم ما ذَبَح. وأما ما وقع فِي كتاب مسلم منْ تسكين الراء، فهو تخفيف للراء المكسورة، وهي لغة معروفةٌ، قرأ بها ابن كثير. وأما ما وقع فِي كتاب أبي داود، فقيل: بمعنى أَدِم الْحَزَّ، ولا تَفْتُر، منْ رَنَوتُ: أي أمدتُ النظر. قَالَ القرطبيّ: ويلزم عَلَى هَذَا أن تكون مضمومة النون؛ لأنه أمرٌ، منْ رَنَا يَرْنُو، فتُحذف الواو لبناء الأمر، ويبقى ما قبلها مضمومًا عَلَى أصله، ولم يُحقَّق ضبطه كذلك. وَقَدْ ذكر الخطّابيّ فِي هذه اللفظة أوجها محتملةً، لم يجىء بها تقييد عن مُعتبر، ولا صحّت بها روايةٌ، رأيت الإضراب عنها؛ لعدم فائدتها، وبُعدها عن مقصود الْحَدِيث، وأثبتُّ ما فيها روايةٌ، وأقربه معنًى مَن جعله منْ رؤية العين، وذلك أن اللِّيط والمروة، وما أشبههما مما ليس بمحدّد يُخاف منه ألا يكون مُجْهِزًا، فإن لم يستعجل بالْمَرِّ لم يَقطَع، وربما يموت الحيوان خنقًا، فإذا استعجل فِي المرّ، ورأى أن الدم قد سال منْ موضع القطع، فقد تحقّق الذبح المبيح. والله تعالى أعلم بما أراد رسوله صلى الله عليه وسلم. انتهى كلام القرطبيّ.

وَقَالَ فِي "الفتح": قوله: "فَقَالَ: أعجل، أو أرن": فِي رواية كريمة -بفتح الهمزة، وكسر الراء، وسكون النون- وكذا ضبطه الخطابي فِي "سنن أبي داود"، وفي رواية أبي ذر -بسكون الراء، وكسر النون- ووقع فِي رواية الإسماعيلي منْ هَذَا الوجه الذي هنا:"وأرني" بإثبات الياء آخره، قَالَ الخطابيّ: هَذَا حرف طالما استثبت فيه الرواة، وسألت عنه أهل اللغة، فلم أجد عندهم ما يُقطع بصحته، وَقَدْ طلبت له مَخْرَجًا، فذكر أوجها:[أحدها]: أن يكون عَلَى الرواية بكسر الراء، منْ أَرَانَ القومُ: إذا هلكت مواشيهم، فيكون المعنى: أهلكها ذبحا. [ثانيها]: أن يكون عَلَى الرواية بسكون الراء بوزن أَعْطِ، يعني أَنْظِرْ، وأَنظِر، وانتظر بمعنى، قَالَ الله تعالى، حكاية عمن قَالَ:{نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} الآية [الحديد: 13]: أي أنظرونا. أو هو بضم الهمزة بمعنى أَدِمِ الْحَزَّ، منْ قولك رَنَوْتُ: إذا أدمت النظر إلى الشيء، وأراد أَدِم النظر إليه، وراعِهِ ببصرك. [ثالثها]: أن يكون مهموزا، منْ قولك: أَرْأَنَ يُرْئِنُ: إذا نشِطَ، وخَفّ، كأنه فعل أمر بالإسراع؛ لئلا يموت خنقًا، ورجح فِي "شرح السنن" هَذَا الوجه الأخير، فَقَالَ: صوابه أرئن بهمزة،

ص: 360

ومعناه: خَفْ واعْجَل؛ لئلا تخنقها، فإن الذبح إذا كَانَ بغير الحديد احتاج صاحبه إلى خفة يد، وسرعة فِي إمرار تلك الآلة، والإتيان عَلَى الحلقوم، والأوداج كلها، قبل أن تهلك الذبيحة، بما ينالها منْ ألم الضغط، قبل نطح مذابحها، ثم قَالَ: وَقَدْ ذكرت هَذَا الحرف فِي "غريب الْحَدِيث"، وذكرت فيه وجوها، يحتملها التأويل، وكان قَالَ فيه: يجوز أن تكون الكلمة تصحفت، وكان فِي الأصل أَزِّزْ بالزاي، منْ قولك: أزز الرجل أصبعه: إذا جعلها فِي الشيء، وأززت الجرادةُ أززًا: إذا أدخلت ذنبها فِي الأرض، والمعنى: شُدَّ يدل عَلَى النحر، وزعم أن هَذَا الوجه أقرب الجميع.

قَالَ ابن بطال: عرضت كلام الخطابي عَلَى بعض أهل النقد، فَقَالَ: أما أخذه منْ أران القوم، فمعترض؛ لأن أران لا يتعدى، وإنما يقال: أران هو، ولا يقال: أران الرجل غنمه. وأما الوجه الذي صوّبه، ففيه نظر، وكأنه منْ جهة أن الرواية لا تساعده. وأما الوجه الذي جعله أقرب الجميع، فهو أبعدها؛ لعدم الرواية به.

وَقَالَ عياض: ضبطه الأصيلي "أَرِني" فعلَ أمر منْ الرؤية، ومثله فِي مسلم، لكن الراء ساكنة، قَالَ: وأفادني بعضهم أنه وقف عَلَى هذه اللفظة، فِي "مسند علي بن عبد العزيز" مضبوطة هكذا:"أرني، أو اعجل"، فكأن الراوي شك فِي أحد اللفظين، وهما بمعنى واحد، والمقصود الذبح بما يُسرع القطع، ويُجري الدم. ورجح النوويّ أن "أرن" بمعنى "أعْجِلْ"، وأنه شك منْ الراوي، وضبط أعجِل بكسر الجيم، وبعضهم قَالَ فِي رواية لمسلم: أَرْني، بسكون الراء، وبعد النون ياء، أي أحضرني الآلة التي تَذبح بها لأراها، ثم أضرب عن ذلك، فَقَالَ: أو أعجل، و"أو" تجيء للإضراب، فكأنه قَالَ: قد لا يتيسر إحضار الآلة، فيتأخر البيان، فَعَرَّفَ الحكم، فَقَالَ: أعجل، ما أنهر الدم الخ، قَالَ: وهذا أولى منْ حمله عَلَى الشك.

وَقَالَ المنذري: اختُلف فِي هذه اللفظة، هل هي بوزن أَعْطِ، أو بوزن أَطِعْ، أو هي فعل أمر منْ الرؤية، فعلى الأول المعنى: أدِمِ الْحَزَّ، منْ رَنَوْتُ: إذا أدمت النظر، وعلى الثاني: أهلكها ذبحا، منْ أران القومُ: إذا هلكت مواشيهم.

وتعقب بأنه لا يتعدى، وأجيب بأن المعنى كن ذا شاة هالكة، إذا أُزهقت نفسُها بكل ما أنهر الدم.

قَالَ الحافظ: ولا يخفى تكلفه. وأما عَلَى أنه بصيغة فعل الأمر، فمعناه أَرِني سيلان الدم، ومن سكّن الراء، اختلس الحركة، ومن حذف الياء جاز.

وقوله: "واعْجَلْ" بهمزة وصل، وفتح الجيم، وسكون اللام، فعل أمر منْ العجلة: أي اعجل، لا تموت الذبيحة خَنقًا، قَالَ: ورواه بعضهم بصيغة أَفْعَل التفضيل: أي

ص: 361

ليكن الذبح أعجل ما أنهر الدم.

قَالَ الحافظ: وهذا وإن تمشّى عَلَى رواية أبي داود، بتقديم لفظ "أرني" عَلَى "أعجل"، لم يستقم عَلَى رواية البخاريّ بتأخيرها. وجوز بعضهم فِي رواية "أرن" بسكون الراء أن يكون منْ أرْنَانِي حُسنُ ما رأيته: أي حملني عَلَى الرُّنُوّ إليه، والمعنى عَلَى هَذَا أحْسِنِ الذبح، حَتَّى تحب أن ننظر إليك، ويؤيده حديث:"إذا ذبحتم، فأحسنوا"، أخرجه مسلم. انتهى ما فِي "الفتح". والله تعالى أعلم.

(وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عز وجل هكذا وقع هنا فِي رواية المصنّف، وكذا هو عند البخاريّ فِي "الذبائح"، وعند مسلم أيضًا بحذف قوله:"عليه"، قَالَ الحافظ: وثبتت هذه اللفظة فِي هَذَا الْحَدِيث عند البخاريّ، فِي "الشركة"، وكلام النوويّ فِي "شرح مسلم" يوهم أنها ليست فِي البخاريّ، إذ قَالَ: هكذا هو فِي النسخ كلها -يعني منْ مسلم- وفيه محذوف: أي ذُكر اسم الله عليه، أو معه، ووقع فِي رواية أبي داود وغيره:"وذكر اسم الله عليه". انتهى، فكأنه لما لم يرها فِي "الذبائح" منْ البخاريّ أيضًا، عزاها لأبي داود، إذ لو استحضرها منْ البخاريّ، ما عدل عن التصريح بذكرها فيه. وفيه اشتراط التسمية؛ لأنه علق الإذن بمجموع الأمرين: وهما الإنهار، والتسمية، والمعلق عَلَى شيئين لا يُكتفَى فيه إلا باجتماعهما، وينتفى بانتفاء أحدهما.

وَقَدْ تقدم البحث فِي اشتراط التسمية وعدمه مستوفًى فِي أوائل "كتاب الصيد والذبائح"، فراجعه تستفد.

(فَكُلُوا مَا لَمْ يَكُنْ سِنًّا، أَوْ ظُفْرًا)"ما" مصدريّة ظرفيّة، واسم "يكن" ضمير يعود إلى "ما" منْ قوله:"ما أنهر الدم": أي مدّة عدم كون ذلك الذي أنهر الدم سنًا، أو ظفرًا، وفي رواية البخاريّ:"ليس السنّ والظفر"، قَالَ فِي "الفتح": بالنصب عَلَى الاستثناء بـ"ليس"، ويجوز الرفع: أي ليس السنّ والظفر مباحًا، أو مجزئًا. وفي رواية:"غير السنّ، والظفر"، وفي رواية:"إلا سنًّا، أو ظفرًا".

(وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ) وفي رواية للبخاريّ: "وسأخبركم"، قَالَ الحافظ فِي "الفتح" 11/ 111: جزم النوويّ بأنه منْ جملة المرفوع، وهو منْ كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو الظاهر منْ السياق، وجزم أبو الحسن بن القطّان فِي "كتاب بيان الوهم والإيهام" بأنه مدرج منْ قول رافع بن خديج، راوي الخبر، وذكر ما حاصله: أن أكثر الرواة عن سعيد بن مسروق أوردوه عَلَى ظاهر الرفع، وأن أبا الأحوص، قَالَ فِي روايته عنه بعد قوله:"أو ظفر": "قَالَ رافع: وسأحدثكم عن ذلك" ونسب ذلك لرواية أبي داود، وهو عجيب، فإن أبا داود أخرجه عن مسدد، وليس فِي شيء منْ نسخ "السنن" قوله:"قَالَ رافع"،

ص: 362

وإنما فيه كما عند البخاريّ هنا بدونها، وشيخ أبي داود فيه مسدد، هو شيخ البخاريّ فيه، وَقَدْ أورده البخاريّ فِي الباب الذي بعد هَذَا، بلفظ:"غير السن والظفر، فإن السن عظم الخ"، وهو ظاهر جدا، فِي أن الجميع مرفوع. انتهى.

(أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ) قَالَ البيضاوي: هو قياس حُذفت منه المقدمة الثانية؛ لشهرتها عندهم، والتقدير: أما السن فعظم، وكل عظم لا يحل الذبح به، وطَوَى النتيجة؛ لدلالة الاستثناء عليها. وَقَالَ ابن الصلاح فِي "مشكل الوسيط": هَذَا يدل عَلَى أنه عليه الصلاة والسلام، كَانَ قد قرر كون الذكاة، لا تحصل بالعظم، فلذلك اقتصر عَلَى قوله:"فعظم"، قَالَ: ولم أر بعد البحث، منْ نقل للمنع منْ الذبح بالعظم معنى يُعقَل، وكذا وقع فِي كلام ابن عبد السلام. وَقَالَ النوويّ: معنى الْحَدِيث: لا تذبحوا بالعظام، فإنها تنجس بالدم، وَقَدْ نهيتكم عن تنجيسها؛ لأنها زاد إخوانكم منْ الجن. انتهى. وهو محتمل، ولا يقال: كَانَ يمكن تطهيرها بعد الذبح بها؛ لأن الاستنجاء بها كذلك، وَقَدْ تقرر أنه لا يجزىء. وَقَالَ ابن الجوزي فِي "المشكل": هَذَا يدل عَلَى أن الذبح بالعظم، كَانَ معهودا عندهم، أنه لا يجزىء، وقررهم الشارع عَلَى ذلك، وأشار إليه هنا. وأخرج الطبراني فِي "الأوسط" منْ حديث حذيفة، رفعه:"اذبحوا بكلّ شيء فرى الأوداج، ما خلا السنّ والظفر"، وفي سنده عبد الله بن خراش، مختلفٌ فيه، وله شاهد منْ حديث أبي أُمامة نحوه. قاله فِي "الفتح" 11/ 59.

(وَأَمَّا الظُّفْرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ) أي وهم كفار، وَقَدْ نُهيتم عن التشبه بهم. قاله ابن الصلاح، وتبعه النوويّ. وقيل: نهى عنهما؛ لأن الذبح بهما تعذيب للحيوان، ولا يقع به غالبا، إلا الخنق، الذي ليس هو عَلَى صورة الذبح، وَقَدْ قالوا: إن الحبشة تُدمي مذابح الشاة بالظفر، حَتَّى تُزهق نفسها خَنْقًا.

واعترض عَلَى التعليل الأول، بأنه لو كَانَ كذلك؛ لامتنع الذبح بالسكين، وسائر ما يَذبح به الكفار.

وأجيب، بأن الذبح بالسكين، هو الأصل، وأما ما يلتحق بها، فهو الذي يعتبر فيه التشبّه؛ لضعفها، ومن ثَمَّ كانوا يسألون عن جواز الذبح بغير السكين وشبهها.

وروى البيهقيّ فِي "المعرفة"، منْ رواية حرملة، عن الشافعيّ: أنه حمل الظفر فِي هَذَا الْحَدِيث، عَلَى النوع الذي، يدخل فِي البخور، فَقَالَ معقول فِي الْحَدِيث، أن السن إنما يذكى بها، إذا كانت منتزعة، فأما وهي ثابتة، فلو ذبح بها لكانت منخنقة -يعني فدل عَلَى أن المراد بالسن السنن المنتزعة- وهذا بخلاف ما نقل عن الحنفية، منْ جوازه بالسن المنفصلة، قَالَ: وأما الظفر، فلو كَانَ المراد به ظفر الإنسان، لقال فيه ما قَالَ فِي

ص: 363

السن، لكن الظاهر أنه أراد به الظفر، الذي هو طيب منْ بلاد الحبشة، وهو لا يَفرِي، فيكون فِي معنى الخنق. قاله فِي "الفتح" 11/ 56 - 57. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم تخريجه، وبيان مسائله فِي "كتاب الصيد والذبائح" 17/ 4299 - وبقي الكلام عَلَى ما ترجم المصنّف رحمه الله تعالى هنا وفي الباب الماضي، وهو النهي عن الذبح بالظفر والسنّ، فأقول:

(مسألة): فِي اختلاف أهل العلم فِي الذبح بالظفر والسنّ:

قَالَ فِي "الفتح" عند شرح حديث الباب -11/ 57 - : وفيه منع الذبح بالسن والظفر، متصلا كَانَ أو منفصلا، طاهرا كَانَ أو متنجسا. وفرق الحنفية بين السن والظفر المتصلين، فخصوا المنع بهما، وأجازوه بالمنفصلين، وفرقوا بأن المتصل يصير فِي معنى الخنق، والمنفصل فِي معنى الْحَجَر. وجزم ابن دقيق العيد يحمل الْحَدِيث عَلَى المتصلين، ثم: قَالَ واستَدَلَّ به قوم عَلَى منع الذبح بالعظم مطلقا؛ لقوله: "أما السن فعظم"، فعَلَّلَ منع الذبح به؛ لكونه عظما، والحكم يعم بعموم عدته، وَقَدْ جاء عن مالك فِي هذه المسألة أربع روايات:[ثالثها]: يجوز بالعظم، دون السن مطلقا. [رابعها]: يجوز بهما مطلقا، حكاها ابن المنذر. وحكى الطحاوي الجواز مطلقا عن قوم، واحتجوا بقوله، فِي حديث عدي بن حاتم:"أَمِرَّ الدم بما شئت"، أخرجه أبو داود، لكن عمومه مخصوص بالنهي الوارد صحيحا، فِي حديث رافع، عملا بالحديثين. وسلك الطحاوي طريقا آخر، فاحتج لمذهبه بعموم حديث عديّ، قَالَ: والاستثناء فِي حديث رافع، يقتضي تخصيص هَذَا العموم، لكنه فِي المنزوعين غيرُ محقق، وفي غير المنزوعين محقق، منْ حيث النظر، وأيضا فالذبح بالمتصلين، يشبه الخنق، وبالمنزوعين يشبه الآلة المستقلة، منْ حجر وخشب. والله أعلم. انتهى.

وَقَالَ العلّامة ابن قدامة رحمه الله تعالى فِي "المغني" 13/ 301 - 303 - : ما حاصله: ويشترط فِي الآلة شرطان: [أحدهما]: أن تكون محددة تقطع، أو تخرق بحدها لا بثقلها. [والثاني]: أن لا تكون سنا، ولا ظفرا، فإذا اجتمع هذان الشرطان فِي شيء، حل الذبح به، سواء كَانَ حديدا، أو حجرا، أو بِلِطَة، أو خشبا؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما أنهر الدم، وذُكر اسم الله عليه فكلوا ما، لم يكن سنا أو ظفرا"، متَّفقٌ عليه. وعن عدي بن حاتم قَالَ: قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرأيت إِنْ أحدُنا أصاب صيدا، وليس معه سكتتين، أيذبح بالمروة، وشِقَّة العصا؟ فَقَالَ:"أَمْرِرِ الدم بما شئت، واذكر اسم الله". والمروة الصَّوّان. وعن رجل منْ بني حارثة، أنه كَانَ يرعى لِقحَة، فأخذها

ص: 364

الموت، فلم يجد شيئًا ينحرها به، فأخذ وتدا، فوجأها به فِي لبتها، حَتَّى أهريق دمها، ثم جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأمره بأكلها. رواهما أبو داود. وبهذا قَالَ الشافعيّ، وإسحاق، وأبو ثور، ونحوه قول مالك، وعمرو بن دينار، وبه قَالَ أبو حنيفة، إلا فِي السن والظفر، قَالَ: إذا كانا متصلين لم يجز الذبح بهما، وإن كانا منفصلين جاز.

واحتجّ الأولون بحديث رافع رضي الله عنه يعني المذكور فِي هَذَا الباب- ولأنه ما لم تُجز الذكاة به متصلا، لم تجز منفصلا، كغير المحدد، وأما العظم غير السن، فمقتضى إطلاق قول أحمد، والشافعي، وأبي ثور إباحة الذبح به، وهو قول مالك، وعمرو بن دينار، واصحاب الرأي. وَقَالَ ابن جريج: يُذَكَّى بعظم الحمار، ولا يذكى بعظم القِرْد؛ لأنك تصلي عَلَى الحمار، وتسقيه فِي جفنتك. وعن أحمد لا يذكى بعظم، ولا ظفر. وَقَالَ النخعي: لا يذكى بالعظم والقرن، ووجهه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"ما أنهر الدم، وذُكر اسم الله عليه، فكلوا ليس السن والظفر، وسأحدثكم عن ذلك، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة"، فَعَلَّله بكونه عظما، فكل عظم، فقد وجدت فيه العلة. والأول أصح -إن شاء الله تعالى- لأن العظم دخل فِي عموم اللفظ المبيح، ثم استثنى السن والظفر خاصة، فيبقى سائر العظام، داخلا فيما يباح الذبح به، والمنطوق مقدم عَلَى التعليل، ولهذا عَلَّلَ الظفر بكونه منْ مُدَى الحبشة، ولا يحرم الذبح بالسكين، وإن كانت مدية لهم، ولأن العظام يتناولها سائر الأحاديث العامة، ويحصل بها المقصود، فأشبهت سائر الآلات. انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله تعالى ببعض تصرف.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله ابن قدامة رحمه الله تعالى منْ ترجيح الجواز بالعظم، غير السن هو الذي يترجح عندي؛ لظهور حجته، كما بينه فِي كلامه المذكور آنفًا.

والحاصل أن أرجح المذاهب الذبح بكل ما أنهر الدم، غير المستثني فِي حديث رافع رضي الله تعالى عنه، وهو السن والظفر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌22 - (الْأَمْرُ بِإِحْدَادِ الشَّفْرَةِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الإحداد": بكسر الهمزة، مصدر أحدّ، يقال: حَدَّ السّيفُ وغيرُهُ يَحِدّ، منْ باب ضرب حِدَّةً، فهو حديد، وحادّ: أي قاطعٌ ماضٍ، ويُعدّى بالهمزة، والتضعيف، فيقال: أحددته، وحَدَّدته، وفي لغة يتعدّى بالحركة، فيقال: حَدَدته أَحُدُّهُ، منْ باب قَتَل.

ص: 365

و"الشَّفْرَةُ" -بفتح الشين المعجمة، وسكون الفاء-: الْمُدية، وهي السكّين العريض، والجمع شِفَار، مثلُ كَلْبة وكِلاب، وشَفَرَات، مثلُ سَجْدة وسَجَدَات. أفاده الفيّوميّ. والله تعالى أعلم بالصواب.

4407 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الأَشْعَثِ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، قَالَ: اثْنَتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ، فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(علي بن حجر) السعدي المروزي، ثقة حافظ، منْ صغار [9] 13/ 13.

2 -

(إسماعيل) بن إبراهيم المعروف بابن علية البصريّ، ثقة ثبت [8] 18/ 19.

3 -

(خالد) بن مِهْران، أبو المنازل الحذّاء البصريّ، ثقة يرسل [5] 7/ 634.

4 -

(أبو قِلابة) عبد الله بن زيد بن عمرو الْجَرْميّ البصريّ، ثقة فاضل، يرسل كثيرًا، وفيه نصب يسير [3] 103/ 322.

5 -

(أبو الأشعث) شراحيل بن آدة -بالمدّ، وتخفيف الدال- الصنعانيّ، ويقال:"آدة" جدّ أبيه، وهو ابن شراحيل بن كُليب، ثقة [2] 5/ 1374.

6 -

(شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ) بن ثابت الأنصاريّ، أبو يعلى، صحابيّ مات رضي الله عنه بالشام، قبل الستين، أو بعدها، وهو ابن أخي حسّان بن ثابت رضي الله عنه، تقدّمت ترجمته فِي 2/ 1141. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى أبي قلابة، والباقيان شاميان. (ومنها): أن فيه ثلاثة منْ التابعين يروي بعضهم عن بعض: خالد، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَن شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ) بن ثابت الأنصاريّ رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: اثْنَتَانِ) أي خصلتان اثنتان، وهما: إحسان القِتلة، وإحسان الذبحة (حَفِظْتُهُمَا عَن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي سمعتهما منه صلى الله عليه وسلم دون واسطة، فحفظتهما (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اللهَ كَتَبَ) أي أمر به، وحضّ عليه، وأصل "كتب": أثبت، وجمع، ومنه قوله تعالى: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ

ص: 366

الْإِيمَانَ} [المجادلة: 22]: أي ثبّته، وجمعه، ومنه كَتَبت البغلة: إذا جمعت حياءها (الإِحْسَانَ) بكسر الهمزة، مصدر أحسن، قَالَ القرطبيّ: و"الإحسان" هنا: بمعنى الإحكام، والإكمال، والتحسين فِي الأعمال المشروعة، فحقّ منْ شرع فِي شيء منها أن يأتي به عَلَى غاية كماله، ويُحافظ عَلَى آدابه المصحّحة، والمكمّلة، وإذا فعل ذلك قُبل عمله، وكثُر ثوابه (عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) و"عَلَى" هنا بمعنى "فِي"، كما فِي قوله تعالى:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102]: أي فِي ملكه، ويقال: كَانَ كذا عَلَى عهد فلان: أي فِي عهده. حكاه الْقُتبيّ (فَإِذَا قَتَلْتُمْ) أي شرعتم فِي قتل شيء (فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ) قَالَ القرطبيّ: بكسر القاف، هي الرواية، وهي هيئة القتل، و"القَتْلَةُ" بالفتح مصدر قتل المحدود، وكذلك الرِّكْبَةُ، والمِشيةُ الكسر للاسم، والفتح للمصدر.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: المراد أن المفتوح للمرة، والمكسور للهيئة، كما قَالَ ابن مالك فِي "الخلاصة":

وَفَعْلَةٌ لِمَرَّةٍ كَـ"جَلْسَهْ"

وَفِعْلَةٌ لِهَيئَةٍ كَـ"جِلْسَهْ"

(وَإِذَا ذَبَحْتُمْ) أي شرعتم فِي ذبح الحيوان (فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ) بكسر الذال المعجمة، للهيئة أيضًا، وفي الروايات الآتية:"فأحسنوا الذَّبْحَ"، والذبح أصله: الشقّ، والقطع، قَالَ الشاعر [منْ الرجز]:

كَأَنَّ بَيْنَ فَكِّهَا وَالْفَكِّ

فَأرَةَ مِسْكٍ ذُبِحَتْ فِي سُكِّ

(1)

(وَلْيُحِدَّ) بضمّ أوّله، وكسر ثالثه، منْ الإحداد، أو منْ التحديد، يقال: أحدّ السكين، وحدّدها، واستحدّها: بمعنى. ويجوز أن يكون بفتح أوله، وضمّ ثالثه، منْ الحدّ، منْ باب قتل (أَحَدُكُم شَفْرَتَهُ) بفتح، فسكون: السكّين العريض، أي ليجعله حدًّا، سريع القطع (وَلْيُرِحْ) بضم أوله، منْ الإراحة (ذَبِيحَتَهُ) فعِيلة بمعنى مفعولة: أي مذبوحته، وجمعها ذبائح، ككريمة وكَرائم. فقوله:"وليُحدّ" تفسير لمعنى الإحسان إلى الذبحة.

قَالَ القرطبيّ: وإحسان الذبح فِي البهائم: الرفقُ بالبهيمة، فلا يصرعها بعنف، ولا يجُرّها منْ موضع إلى موضع، وإحداد الآلة، وإحضار نيّة الإباحة والقربة، وتوجيهها إلى القبلة، والتسمية، والإجهاز، وقطع الودجين، والحلقوم، وإراحتها، وتركها إلى أن تبرُد، والاعتراف لله تعالى بالمنّة، والشكر له عَلَى النعمة بأنه سخّر لنا ما لو شاء لسلّطه علينا، وأباح لنا ما لو شاء لحرّمه علينا. وَقَالَ ربيعة: منْ إحسان الذبح ألا تذبح

(1)

"السّكّ": ضربٌ منْ الطب يُضاف إلى غيره منْ الطيب.

ص: 367

بهيمة، وأُخرى تنظر. وحُكي جوازه عن مالك، والأول أولى.

ثم قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قتلتم، فأحسنوا الْقِتلة" يُحمل عَلَى عمومه فِي كلّ شيء، منْ التذكية، والقصاص، والحدود، وغيرهالأوليجهز فِي ذلك، ولا يقصد التعذيب. انتهى كلام القرطبيّ. "المفهم" 5/ 240 - 242. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث شدّاد بن أوس رضي الله عنه هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -22/ 4407 و26/ 4413 و27/ 4414 و4415 و4416 - وفي "الكبرى" 23/ 4494 و27/ 4500 و28/ 4501 و4502 و4503. وأخرجه (م) فِي "الصيد والذبائح" 3615 و (د) فِي "الضحايا" 2815 (ت) فِي "الديات" 1409 (ق) فِي "الذبائح" 1370 (أحمد) فِي "مسند الشاميين" 16490 و16506 و16516 (الدارمي) فِي "الأضاحي" 1888. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان الأمر بإحداد الشَّفْرة. (ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله تعالى فِي "شرح مسلم" 13/ 108 - : هَذَا الْحَدِيث منْ الأحاديث الجامعة لقواعد الإسلام. (ومنها): لطف الله تعالى بعباده، ورحمته، ورأفته حيث كتب "الإحسان عَلَى كلّ شيء، وأمر المكلّفين أن يُحسنوا إلى كلّ شيء، حَتَّى البهائم، فكما شرح معاقبة المجرم عَلَى إجرامه رحمة بمن أجرم بهم، أمر بأن يُحسَنَ إليه فيما عدا إجرامه، فلا يُمنع منْ وجب عليه القتل حدًا، أو قصاصًا منْ الطعام، والشراب، وسائر ما يستمتع به منْ ملاذّ الحياة، حَتَّى يقام عليه الحدّ، وهذا منْ عظيم لطف الله تعالى، وواسع كرمه، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 4].

(ومنها): ما قاله ابن أبي جمرة رحمه الله تعالى: فيه رحمه الله لعباده، حَتَّى فِي حال القتل، فأمر بالقتل، وأمر بالرفق، ويؤخذ منه قهره لجميع عباده؛ لأنه لم يترك لأحد التصرّف فِي شيء، إلا وَقَدْ حدّ له فيه كيفيّة. انتهى، ذكره فِي "الفتح" 11/ 75. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

***

ص: 368

‌23 - (بَابُ الرُّخْصَةِ فِي نَحْرِ مَا يُذْبَحُ، وَذَبْحِ مَا يُنْحَرُ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "النحر" -بفتح، فسكون-: مصدر نَحَر البعيرَ ينحره، منْ باب فتح: إذا أصاب نحوه، وهو أعلى الصدر، ونحره أيضًا: إذا طعنه فِي مَنْحَره، حيث يبدو الْحُلْقوم منْ أعلى الصدر.

و"الذبح" -بفتح، فسكون-: مصدر ذبح الشاةَ يذبحها، منْ باب فتح: إذا قطع الحلقوم منْ الباطن عند النَّصِيل، وهو موضع الذبح منْ الحلق. و"النصيل" كأمير: مَفْصل ما بين العنق والرأس، تحت اللَّحْيين. أفاده فِي "اللسان".

وَقَالَ العلّامة ابن قُدامة رحمه الله تعالى: لا خلاف بين أهل العلم، فِي أن المستحب نحر الإبل، وذبح ما سواها، قَالَ الله تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، وَقَالَ الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67]. قَالَ مجاهد: أُمرنا بالنحر، وأُمر بنو إسرائيل بالذبح، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم بُعثَ فِي قوم، ماشيتهم الإبل، فَسُنَّ النحرُ، وكانت بنو إسرائيل ماشيتهم البقر، فأُمروا بالذبح، وثبت:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحر بدنة، وضَحَّى بكبشين أقرنين، ذبحهما بيده". متَّفقٌ عليه.

ومعنى النحر: أن يضربها بحربة، أو نحوها فِي الْوَهْدَة التي بين أصل عنقها وصدرها. انتهى.

وَقَالَ فِي "الفتح": ما حاصله: النحر فِي الإبل خاصة، وأما غير الإبل فيذبح، وَقَدْ جاءت أحاديث فِي ذبح الإبل، وفي نحر غيرها. وَقَالَ ابن التين: الأصل فِي الإبل النحر، وفي الشاة ونحوها الذبح، وأما البقر فجاء فِي القرآن ذكر ذبحها، وفي السنة ذكر نحرها، واختُلِفَ فِي ذبح ما يُنحر، ونحر ما يُذبَح، فأجازه الجمهور، ومنع ابن القاسم. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.

4408 -

(أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ أَحْمَدَ الْعَسْقَلَانِيُّ، عَسْقَلَانُ بَلْخٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، حَدَّثَهُ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: "نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَكَلْنَاهُ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(عِيسَى بْنُ أَحْمَدَ) بن عيسى بن وردان، الْعَسْقَلَانِيُّ، عَسْقَلَانُ بَلْخٍ -بفتح الموحّدة، وسكون اللام، بعدها معجمة- أبو يحيى، يقال: إن أصله منْ بغداد، ثقة [11].

ص: 369

روى عن بقية بن الوليد، وضمرة بن ربيعة، وعبد الله بن نمير، وأبي أسامة، والأسود بن عامر، وإسحاق بن الفرات، وعبد الله بن وهب، وجماعة. وعنه الترمذي، والنسائي، وأبو حاتم، وأبو عوانة الإسفرائيني، وحماد بن شاكر النسفي، وآخرون. قَالَ النسائيّ: ثقة. وَقَالَ أبو حاتم: صدوق. وَقَالَ الخليلي: كَانَ ثقة، كبيرا فِي العلماء، يُعرف بابن البغداديّ، وله أحاديث، يتفرد بها. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: مات سنة ثمان وستين ومائتين. وَقَالَ أبو القاسم ابن منده: تُوُفي بعسقلان، مَحِلَّةٌ ببَلْخَ، فِي جمادى الأولى، وقيل: فِي الآخرة، سنة (268) منها، ووُلِد ببغداد، سنة (180). انتهى تهذيب "التهذيب" 3/ 355. تفرّد به المصنّف، والترمذيّ، وروى له المصنّف فِي هَذَا الكتاب حديث الباب فقط.

[تنبيه]: قوله: "عسقلان بلخ" إنما قيده بذلك؛ تمييزا عن عسقلان الشام؛ لأن عسقلان يُطلق عَلَى موضعين، قَالَ المجد فِي "القاموس": وعَسْقَلانُ: بلد بساحل الشام، تُحجّه النصارى، وقرية ببلخ، أو محِلّةٌ منها عيسى بن أحمد بن وَرْدان العسقلانيّ. انتهى.

2 -

(ابن وهب) عبد الله المصريّ، ثقة حافظ عابد [9] 9/ 9.

3 -

(سفيان) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة ثبت حجة [7] 33/ 37.

4 -

(هشام بن عروة) بن الزبير الأسدي، أبو المنذر المدنيّ، ثقة فقيه [5] 49/ 61.

5 -

(فاطمة بنت المنذر) بن الزبير بن العوّام، زوج هشام الراوي عنها هنا المدنية، ثقة [3] 185/ 293.

6 -

(أسماء بنت أبي بكر) الصديق رضي الله تعالى عنهما، زوج الزبير بن العوّام، منْ كبار الصحابيات، عاشت مائة سنة، وماتت سنة (3) أو (74) 185/ 293. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رواته كلهم منْ رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو والترمذي، كما مرّ آنفًا. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين منْ هشام، وسفيان كوفيّ، وابن وهب مصري، وشيخه بلخي. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعية، هي زوجته، تروي عن جدّتهما، ففاطمة زوجة هشام، وأسماء جدّتهما، قَالَ هشام: كانت فاطمة أكبر مني بثلاث عشرة سنة. والله تعالى أعلم.

ص: 370

شرح الْحَدِيث

(عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ) بن الزبير بن العوّام (حَدَّثَهُ) أي حدث سفيان (عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ) بن الزبير بن العوّام (عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ) الصديق رضي الله تعالى عنهما، أنها (قَالَتْ: نَحَرْنَا فَرَسًا) وفي الرواية الآتية 33/ 4423 - منْ طريق عبدة بن سليمان، عن هشام بلفظ:"ذبحنا"، وهذا محلّ الشاهد للترجمة، حيث ورد الْحَدِيث بلفظ "نحرنا"، وبلفظ "ذبحنا"، ووجه الاستدلال به عَلَى الرخصة فِي نحو ما يُذبح، وعكسه هو أن هشامًا أطلق عَلَى ذبح الفرس النحر، فدلّ عَلَى أنَّ كلا اللفظين يُستعمل استعمالًا واحدًا، فقوله تعالى:{وَانْحَرْ} ليس إلزامًا بالنحر، فيجوز الذبح، وكذا قوله تعالى:{أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} ليس بمعنى أن البقرة تذبح فقط، بل يجوز نحرها؛ لأن أحد اللفظين يطلق عَلَى ما يُطلق عليه الآخر. والله تعالى أعلم.

وَقَالَ الحافظ رحمه الله تعالى فِي "الفتح" 11/ 72 - 73: ما حاصله:

ذكر البخاريّ فِي الباب، حديث أسماء بنت أبي بكر، فِي أكل الفرس، أورده منْ رواية سفيان الثوري، ومن رواية جرير، كلاهما عن هشام بن عروة، موصولا بلفظ:"نحرنا"، وَقَالَ فِي آخره: تابعه وكيع، وابن عيينة، عن هشام فِي النحر، وأورده أيضًا منْ رواية عبدة -وهو ابن سليمان- عن هشام، بلفظ:"ذبحنا"، ورواية ابن عيينة التي أشار إليها، ستأتي موصولة بعد بابين، منْ رواية الحميدي، عن سفيان -وهو ابن عيينة- به، وَقَالَ:"نحرنا"، ورواية وكيع، أخرجها أحمد عنه، بلفظ:"نحرنا"، وأخرجها مسلم، عن محمد بن عبد الله بن نمير: حدثنا أبي، وحفص بن غياث، ووكيع ثلاثتهم، عن هشام، بلفظ:"نحرنا"، وأخرجه عبد الرزاق، عن معمر، والثوري جميعًا، عن هشام بلفظ:"نحرنا"، وَقَالَ الإسماعيلي: قَالَ همام، وعيسى بن يونس، وعلي بن مسهر، عن هشام بلفظ:"نحرنا"، واختلف عَلَى حماد بن زيد، وابن عيينة، فَقَالَ أكثر أصحابهما:"نحرنا"، وَقَالَ بعضهم:"ذبحنا"، وأخرجه الدارقطني، منْ رواية مؤمل بن إسماعيل، عن الثوري، ووهيب بن خالد، ومن رواية ابن ثوبان -وهو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان- ومن رواية يحيى القطّان، كلهم عن هشام، بلفظ:"ذبحنا"، ومن رواية أبي معاوية، عن هشام:"انتحرنا"، وكذا أخرجه مسلم، منْ رواية أبي معاوية، وأبي أسامة، ولم يسق لفظه، وساقه أبو عوانة عنهما، بلفظ:"نحرنا".

وهذا الاختلاف كله، عن هشام، وفيه إشعار بأنه كَانَ تارة يرويه بلفظ "ذبحنا"، وتارة بلفظ "نحرنا"، وهو مصير منه إلى استواء اللفظين فِي المعنى، وأن النحر يطلق عليه ذبح، والذبح يطلق عليه نحر، ولا يتعين مع هَذَا الاختلاف، ما هو الحقيقة فِي

ص: 371

ذلك منْ المجاز، إلا إن رجح أحد الطريقين، وأما أنه يستفاد منْ هَذَا الاختلاف، جواز نحو المذبوح، وذبح المنحور، كما قاله بعض الشراح فبعيد؛ لأنه يستلزم أن يكون الأمر فِي ذلك، وقع مرتين، والأصل عدم التعدد، مع اتحاد المخرج، وَقَدْ جرى النوويّ عَلَى عادته، فِي الحمل عَلَى التعدد، فَقَالَ رحمه الله بعد أن ذكر اختلاف الرواة، فِي قولها:"نحرنا"، و"ذبحنا"-: يجمع بين الروايتين بأنهما قضيتان، فمرة نحروها، ومرة ذبحوها، ثم قَالَ: ويجوز أن تكون قصة واحدة، واحد اللفظين مجاز، والأول أصح، كذا قَالَ. والله أعلم. انتهى ما فِي "الفتح".

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي فِي قوله: "وأما أنه يستفاد منْ هَذَا الاختلاف الخ" نظر؛ بل الظاهر استفادته منه، وهو الذي يظهر منْ صنيع البخاريّ، حيث ترجم، بقوله:"باب النحر، والذبح"، ثم أورده مستدلاً عَلَى جوازهما، وأصرح منه صنيع المصنّف، حيث قَالَ:"باب الرخصة فِي نحو ما يُذبح، وذبح ما يُنحر"، ووجه ذلك أن هشامًا أطلق النحر والذبح فِي هَذَا الْحَدِيث، فدلّ عَلَى أن ما أُطلق عليه النحر، كالبدنة يجوز ذبحه؛ وما أطلق عليه الذبح، كالبقر يجوز نحره؛ لأن ذلك الإطلاق ليس إلا عَلَى غالب الاستعمال، فلا يستلزم ذلك جواز غيره. والله تعالى أعلم.

(عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي فِي زمانه (فَأَكَلْنَاهُ) أي أكلنا لحمه، كما صرّح به فِي رواية قتيبة الآتية فِي 33/ 4422 إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -23/ 4408 و33/ 4422 و4423 - وفي "الكبرى" 24/ 4495 و34/ 4509 و4150. وأخرجه (خ) فِي "الذبائح والصيد" 5086 و5087 و5088 و5095 (م) فِي "الصيد والذبائح" 3597 (ق) فِي "الذبائح" 3181 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 25682 و25693 و25739 "الدارمي" فِي "الأضاحي" 1908. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان الرخصة فِي نحو ما يُذبح، وذبح ما يُنحر، وتقدّم وجه الاستدلال قريبًا. (ومنها): جواز أكل لحم الفرس، وَقَدْ

ص: 372

تقدّم بيان اختلاف العلماء فيه فِي "كتاب الصيد والذبائح" 29/ 4329. (ومنها): أن قول الصحابيّ: فعلنا كذا عَلَى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم له حكم الرفع، وكذا لو لم يُضفه إلى عهده صلى الله عليه وسلم، وكذا قوله: "منْ السنّة كذا"، و"أُمرنا بكذا"، و"نُهينا عن كذا"، عَلَى الأصحّ فِي كلّ ذلك، قَالَ الحافظ السيوطيّ رحمه الله تعالى فِي "ألفية الْحَدِيث":

وَلْيُعْطَ حُكْمَ الرَّفْعِ فِي الصَّوَابِ

نَحْوُ "مِنَ السُّنَّةِ" مِنْ صَحَابِي

كَذَا "أُمِرْنَا" وَكَذَا "كُنَّا نَرَى

فِي عَهْدِهِ" أَوْ عَن إِضَافَةِ عَرَى

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي الذبح، والنحر:

قَالَ العلّامة ابن قُدامة رحمه الله تعالى فِي "المغني" 13/ 303 - 304: وأما المحل فالحلق واللبة، وهي الوهدة التي بين أصل العنق والصدر، ولا يجوز الذبح فِي غير هَذَا المحل بالإجماع. وَقَدْ روي فِي حديث، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قَالَ:"الذكاة فِي الحلق واللبة"

(1)

، قَالَ أحمد: الذكاة فِي الحلق واللبة. واحتج بحديث عمر، وهو ما روى سعيد، والأثرم، بإسنادهما عن الفرافصة، قَالَ: كنا عند عمر، فنادى أن النحر فِي اللبة والحلق، لمن قدر

(2)

. وإنما نَرَى أن الذكاة اختصت بهذا المحل؛ لأنه مجمع العروق، فتنفسخ بالذبح فيه الدماء السيالة، ويُسرع زُهُوق النفس، فيكون أطيب للحم، وأخفّ عَلَى الحيوان، قَالَ أحمد: لو كَانَ حديث أبي العُشَراء حديثا، يعني ما روى أبو العشراء، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه سئل أما تكون الذكاة إلا فِي الحلق واللبة؟، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو طعنت فِي فخذها لأجزأ عنك"، قَالَ أحمد: أبو العشراء، هَذَا ليس بمعروف.

وأما الفعل: فيعتبر قطع الحلقوم والمريء، وبهذا قَالَ الشافعيّ. وعن أحمد رواية أخرى: أنه يعتبر مع هَذَا قطع الودجين، وبه قَالَ مالك، وأبو يوسف؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه، قَالَ: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن شَرِيطة الشيطان، وهي التي تذبح، فيُقطع الجلد، ولا تُفرَي الأوداج، ثم تترك حَتَّى تموت". رواه أبو داود

(3)

.

(1)

حديث ضعيف جدًّا، رواه الدارقطنيّ فِي "سننه" 4/ 283. وفي إسناد سعيد بن سلّام العطّار كذّبه ابن نُمير، وأحمد، وَقَالَ البخاريّ: يُذكر بوضع الْحَدِيث. وَقَالَ الدارقطنيّ: يحدث بالواطيل، متروك. أفاده فِي "التعليق المغني" 4/ 283.

(2)

رواه البيهقيّ فِي "السنن الكبرى" 9/ 278. وضعّف رفعه.

(3)

حديث ضعيف؛ لأن فِي إسناد عمرو بن عبد الله بن الأسوار اليمانيّ، قَالَ ابن معين: ليس بالقويّ.

ص: 373

وَقَالَ أبو حنيفة: يعتبر قطع الحلقوم والمريء، وأحد الودجين. ولا خلاف فِي أن الأكمل قطع الأربعة: الحلقوم، والمريء، والودجين، فالحلقومُ: مَجْرَى النفس، والمريء: وهو مجرى الطعام والشراب، والودجين، وهما عرقان محيطان بالحلقوم؛ لأنه أسرع لخروج روح الحيوان، فيَخِفّ عليه، ويَخرُج منْ الخلاف، فيكون أولى، والأول يجزىء؛ لأنه قَطَعَ فِي محل الذبح ما لا تبقى الحياة مع قطعه، فأشبه ما لو قطع الأربعة. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله تعالى.

وَقَالَ الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى 5/ 2098:

"باب النحر، والذبح"، وَقَالَ ابن جريج، عن عطاء: لا ذبح، ولا نحر إلا فِي الْمَذْبحِ، والْمَنْحَر، قلت: أيُجزي ما يذبح، أن أنحره؟ قَالَ: نعم ذكر الله ذبح البقرة، فإن ذَبحَت شيئًا يُنحر جاز، والنحر أحبّ إلي، والذبح قطع الأوداج، قلت: فَيُخَلِّفُ الأوداجَ حَتَّى يَقطع النُّخاع؟ قَالَ: لا إِخال، وأخبرني نافع

(1)

، أن ابن عمر نهى عن النَّخْع

(2)

، يقول: يقطع ما دون العظم، ثم يدع حَتَّى تموت. وقولُ الله تعالى:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} الآية [البقرة: 67]، وَقَالَ:{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]، وَقَالَ سعيد، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الذكاة فِي الحلق واللبة. وَقَالَ ابن عمر، وابن عباس، وأنس: إذا قطع الرأس فلا بأس. انتهى.

وَقَالَ فِي "الفتح" 11/ 71 - 72 - : قوله: وَقَالَ ابن جريج، عن عطاء الخ، وصله عبد الرزاق، عن ابن جريج مقطعا. وقوله: والذبح قطع الأوداج: جمع وَدَج -بفتح الدال المهملة، والجيم- وهو العِرْق الذي فِي الأَخدع، وهما عرقان، متقابلان، قيل: ليس لكل بهيمة غير ودجين فقط، وهما محيطان بالحلقوم، ففي الإتيان بصيغة الجمع

(1)

القائل هو ابن جريج. قاله فِي "الفتح".

(2)

وقوله: النخع -بفتح النون، وسكون الخاء المعجمة- فسره فِي الخبر، بأنه قطع ما دون العظم، والنخاعُ عِرْق أبيض، فِي فقار الظهر إلى القلب، يقال له: خيط الرقبة. وَقَالَ الشافعيّ: النخع أن تذبح الشاة، ثم بكسر قفاها، منْ موضع المذبح، أو تضرب ليعجل قطع حركتها. وأخرج أبو عبيد فِي "الغريب" عن عمر: أنه نهى عن الفَرْس فِي الذبيحة، ثم حكى عن أبي عبيدة: أن الفرس هو النخع، يقال: فرست الشاة، ونخعتها، وذلك أن ينتهى بالذبح إلى النخاع، وهو عظم فِي الرقبة، قَالَ: ويقال أيضا: هو الذي يكون فِي فقار الصلب، شبية بالمخ، وهو متمل بالقفا، نهى أن يُنتَهى بالذبح إلى ذلك، قَالَ أبو عبيد: أما النخع فهو عَلَى ما قَالَ، وأما الفرس، فيقال: هو الكسر، وإنما نهى أن تكسر رتبة الذيحة، قبل أن تبرد، ويبين ذلك أن فِي الْحَدِيث:"ولا تعجلوا الأنفس، قبل أن تُزهق". قَالَ الحافظ: يعني فِي حديث عمر المذكور، وكذا ذكره الشافعيّ عن عمر. قاله فِي "الفتح" 11/ 71 - 72.

ص: 374

نظر، ويمكن أن يكون أضاف كل ودجين إلى الأنواع كلها، هكذا اقتصر عليه بعض الشراح، وبقي وجه آخر، وهو أنه أطلق عَلَى ما يُقطع فِي العادة وَدَجًا؛ تغليبا، فقد قَالَ أكثر الحنفية فِي كتبهم: إذا قطع منْ الأوداج الأربعةِ ثلاثةً، حصلت التذكية، وهما: الحلقوم، والمريء، وعرقان منْ كل جانب. وحكى ابن المنذر عن محمد بن الحسن: إذا قَطع الحلقوم والمريء، وأكثر منْ نصف الأوداج أجزأ، فإن قطع أقل، فلا خير فيها. وَقَالَ الشافعيّ: يكفي، ولو لم يقطع منْ الودجين شيئًا؛ لأنهما قد يُسَلّان منْ الإنسان وغيره، فيعيش. وعن الثوري: إن قطع الودجين أجزأ، ولو لم يقطع الحلقوم والمريء. وعن مالك، والليث: يشترط قطع الودجين، والحلقوم فقط، واحتج له بما فِي حديث رافع:"ما أنهر الدم"، وإنهاره إجراؤه، وذلك يكون بقطع الأوداج؛ لأنها مجرى الدم، وأما المريء، فهو مجرى الطعام، وليس به منْ الدم ما يحصل به إنهار، كذا قَالَ. انتهى المقصود منْ "الفتح" 11/ 71 - 72.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: المعتبر فِي الذبح هو إخراج الدم، فما كَانَ قطعه طريقًا إلى إخراجه هو المطلوب، وليس فِي النصّ تحديده، سوى كونه فِي الحلق واللبّة، فإنه صلى الله عليه وسلم نحر، وذبح، ومعلوم أن النحر والذبح فِي الحلق واللبّة، فالأولى قطع الأربعة: الحلقوم، والمريء، والودجين، ليحصل المطلوب بأتم وجه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌24 - (بَابُ ذَكَاةِ الَّتِي قَدْ نَيَّبَ فِيهَا السَّبُعُ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "نَيَّبَ" بفتح النون، وتشديد الياء مَبْنيًا للفاعل: -أي علّق نابه فيها، وَجَرَحَها، وهي التي ذكرها الله عز وجل فِي قوله:{وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} الآية [المائدة: 3] قَالَ أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله تعالى عند تفسير هذه الآية 6/ 49 - 50 - : يريد ما افترسه ذو ناب، وأظفار منْ الحيوان، كالأسد، والنمر، والثعلب، والذئب، ونحوها، هذه كلها سباعٌ، يقال: سَبَعَ فلان فلانًا: أي عضّه بسنّه، وسبعه: أي عابه، ووقع فيه، وفي الكلام إضمار: أي وما أكل منه السبع؛ لأن ما أكله السبع، فقد

ص: 375

فني، ومن العرب منْ يُوقف اسم السبع عَلَى الأسد، وكانت العرب، إذا أَخذ السبع شاة، ثم خلصت منه أكلوها، وكذلك إن أكل بعضها، قاله قتادة وغيره. وقرأ الحسن، وأبو حيوة:"السبع" بسكون الباء، وهي لغة لأهل نجد، وَقَالَ حسان، فِي عتبة بن أبي لهب:

مَنْ يَرْجِعِ الْعَامَ إِلَى أَهْلِهِ

فَمَا أَكِيلُ السَّبْعِ بِالرَّاجِعِ

وقرأ ابن مسعود: "وأكيلة السبع"، وقرأ عبد الله بن عباس "وأكيل السبع". انتهى كلام القرطبيّ فِي "تفسيره" 6/ 49 - 50. والله تعالى أعلم بالصواب.

4409 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ حَاضِرَ بْنَ الْمُهَاجِرِ الْبَاهِلِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، يُحَدِّثُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ ذِئْبًا نَيَّبَ فِي شَاةٍ، فَذَبَحُوهَا بِمَرْوَةٍ، فَرَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أَكْلِهَا).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث صحيحٌ، وَقَدْ تقدم سندًا، ومتنًا فِي 18/ 4402 - ومضى شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد.

وَقَدْ بقي الكلام عَلَى ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم ذكاة ما جرحه السبع، ونحوها المنخنقة، وهي التي تموت خنقًا، سواء فعل بها آدمي، أو اتفق لها بالحبل الذي تربط به، أو نحوه، والموقوذة، وهي التي تُرمى، أو تُضرب بحجر، أو عصًا حَتَّى تموت، والمتردّية، وهي التي تتردّى منْ العلو إلى السفل، والنطيحة، وهي الشاة التي تنطحها أخرى، أو غير ذلك، فتموت، فأقول:

(مسألة): فِي اختلاف العلماء فِي هذه المسألة:

قَالَ الإمام ابن قُدامة رحمه الله تعالى: المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وأكيلة السبع، وما أصابها مرض، فماتت به محرمة، إلا أن تدرك ذكاتها؛ لقول الله تعالى:{إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]، وفي حديث جارية كعب: أنها أصيبت شاة منْ غنمها، فأدركتها، فذبحتها بحجر، فسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم؟، فَقَالَ:"كلوها"، متَّفقٌ عليه. فإن كانت لم يبق منْ حياتها، إلا مثل حركة المذبوح، لم تُبَح بالذكاة؛ لأنه لو ذَبَحَ ما ذبحه المجوسي لم يبح، وإن أدركها، وفيها حياة مستقرة، بحيث يمكنه ذبحها حلت؛ لعموم الآية والخبر، وسواء كانت قد انتهت إلى حال يُعلَم أنها لا تعيش معه، أو تعيش؛ لعموم الآية والخبر، ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يسأل، ولم يستفصل، وَقَدْ قَالَ ابن عباس، فِي ذئب عدا عَلَى شاة، فعقرها، فوقع قُصْها بالأرض، فأدركها، فذبحها بحجر، قَالَ: يُلقِي ما أصاب الأرض، ويأكل سائرها

(1)

. وَقَالَ أحمد، فِي بهيمة عَقَرت بهيمةً، حَتَّى تبين فيها آثار الموت، إلا أن فيها الروح -يعني فذبحت- قَالَ: إذا مَصَعَت

(2)

بذنبها، وطَرَفت

(1)

أخرجه عبد الرزاق فِي "مصنّفه" 4/ 494.

(2)

أي حرّكت.

ص: 376

بعينها، وسال الدم، فأرجو -إن شاء الله تعالى- أن لا يكون بأكلها بأس. ورَوَى ذلك بإسناده عن عُبيد بن عُمير، وطاوس، وقالا: تحركت، ولم يقولا: سال الدم، وهذا عَلَى مذهب أبي حنيفة. وَقَالَ إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عن شاة مريضة، خافوا عليها الموت، فذبحوها، فلم يُعلّم منها أكثر منْ أنها طَرَفت بعينها، أو حركت يدها، أو رجلها، أو ذنبها بضعف، فنهر الدم، قَالَ: فلا بأس به. وَقَالَ ابن أبي موسى: إذا انتهت إلى حدّ لا تعيش معه، لم تُبَح بالذكاة، ونص عليه أحمد، فَقَالَ: إذا شَقّ الذئب بطنها، فخرج قُصْبها فذبحها، لا تأكل، وَقَالَ: إن كَانَ يُعلم أنها تموت منْ عقر السبع، فلا تؤكل، وإن ذَكّاها، وَقَدْ يَخافُ عَلَى الشاة الموتَ منْ العلة، والشيءِ يصيبها، فيبادرها، فيذبحها، فيأكلها، وليس هَذَا مثل هذه، لا يَدري لعلها تعيش، والتي قد خرجت أمعاوها، يُعلم أنها لا تعيش، وهذا قول أبي يوسف.

والأول أصح؛ لأن عمر رضي الله عنه، انتَهَى به الجرح إلى حَدّ عُلم أنه لا يعيش معه، فَوَصَّى، فقبلت وصاياه، ووجبت العبادة عليه، وفيما ذكرنا منْ عموم الآية والخبر، وكون النبيّ صلى الله عليه وسلم، لم يَستَفصِل فِي حديث جارية كعب، ما يَرُدُّ هَذَا، وتُحمل نصوص أحمد، عَلَى شاة خرجت أمعاؤها، وبانت منها، فتلك لا تحل بالذكاة؛ لأنها فِي حكم الميت، ولا تبقى حركتها، إلا كحركة المذبوح، فأما ما خرجت أمعاؤها، ولم تبن منها، فهي فِي حكم الحياة، تباح بالذبح، ولهذا قَالَ الْخِرَقيّ، فيمن شَقّ بطن رجل، فأخرج حِشْوَته، فقطعها، فأبانها، ثم ضرب عنقه آخر، فالقاتل هو الأول، ولو شق بطن رجل، وضرب عنقه آخر، فالقاتل هو الثاني، وَقَالَ بعض أصحابنا: إذا كانت تعيش معظم اليوم، حَلَّت بالذكاة، وهذا التحديد بعيد، يخالف ظواهر المنصوص، ولا سبيل إلى معرفته، وقوله فِي حديث جارية كعب:"فأدركتها، فذكتها بحجر"، يدُلّ عَلَى أنها بادرتها بالذكاة، حين خافت موتها فِي ساعتها، والصحيح أنها إذا كانت تعيش زمنا، يكون الموت بالذبح أسرع منه، حَلَّت بالذبح، وأنها متى كانت مما لا يُتَيَقَّن موتها، كالمريضة أنها متى تحركت، وسال دمها، حَلَّت. والله أعلم. انتهى كلام ابن قُدامة.

"تفسير القرطبيّ" 6/ 50: عند قوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} الآية [المائدة: 3]: ما نصه: نُصب عَلَى الإستثناء المتصل، عند الجمهور، منْ العلماء والفقهاء، وهو راجع عَلَى كل ما أُدرك ذكاته، منْ المذكورات، وفيه حياة، فإن الذكاة عاملة فيه؛ لأن حق الإستثناء، أن يكون مصروفا إلى ما تقدم منْ الكلام، ولا يجعل منقطعا إلا بدليل، يجب التسليم له. رَوَى ابنُ عيينة، وشريك، وجرير، عن الرُّكَين بن الرَّبيع، عن أبي طلبة الأسدي، قَالَ: سألت ابن عباس، عن ذئب عدا عَلَى شاة، فشَقَّ بطنها، حَتَّى انتثر قُصَبها، فأَدركت ذكاتها، فذكيتها؟ فَقَالَ: كُلْ، وما انتثر منْ قصبها فلا تأكل. قَالَ

ص: 377

إسحاق بن راهويه: السنة فِي الشاة، عَلَى ما وصف ابن عباس، فإنها وإن خرجت مصارينها، فإنها حية بعدُ، وموضع الذكاة منها سالم، وإنما يُنظر عند الذبح، أحية هي، أم ميتة؟، ولا يُنظر إلى فعلٍ، هل يعيش مثلها، فكذلك المريضة، قَالَ إسحاق: ومن خالف هَذَا، فقد خالف السنة، منْ جمهور الصحابة، وعامة العلماء.

قَالَ القرطبيّ: وإليه ذهب ابن حبيب، وذُكِر عن أصحاب مالك، وهو قول ابن وهب، والأشهر منْ مذهب الشافعيّ، قَالَ الْمُزَني: وأحفظ للشافعي قولا آخر: أنها لا تؤكل، إذا بلغ منها السبع، أو التردي إلى ما لا حياة معه، وهو قول المدنيين، والمشهور منْ قول مالك، وهو الذي ذكره عبد الوهاب، فِي تلقينه، ورُوِيَ عن زيد بن ثابت، ذَكَره مالك فِي "موطئه"، لااليه ذهب إسماعيل القاضي، وجماعة المالكيين البغداديين، والاستثناء عَلَى هَذَا القول منقطع: أي حرمت عليكم هذه الأشياء، لكن ما ذكيتم، فهو الذي لم يُحَرَّم. قَالَ ابن العربي: اختَلَفَ قول مالك فِي هذه الأشياء، فرُوي عنه أنه لا يؤكل إلاما ذُكِّي بذكاة صحيحة، والذي فِي "الموطإ" أنه إن كَانَ ذبحها، ونفسها يَجري، وهي تضطرب، فليَأكُل، وهو الصحيح منْ قوله، الذي كتبه بيده، وقرأه عَلَى النَّاس منْ كلّ بلد طولَ عمره، فهو أولى منْ الروايات النادرة، وَقَدْ أطلق علماؤنا عَلَى المريضة، أن المذهب جواز تذكيتها، ولو أشرفت عَلَى الموت، إذا كَانَ فيها بقية حياة، وليت شِعري أيُّ فرق بين بقية حياة مَنْ مَرِضَ، وبقية حياة منْ سُبعَ لو اتسق النظر، وسلمت منْ الشبهة الفِكَر.

وَقَالَ أبو عمر: قد أجمعوا فِي المريضة، التي لا ترجى حياتها، أنّ دبحها ذكاة لها، إذا كانت فيها الحياة، فِي حين ذبحها، وعُلم ذلك منها، بما ذكروا منْ حركة يدها، أو رجلها، أو ذنبها، أو نحو ذلك، وأجمعوا أنها إذا صارت فِي حال النزع، ولم تُحرِّك يدا، ولا رجلا، أنه لا ذكاة فيها، وكذلك ينبغي فِي القياس، أن يكون حكم المتردية، وما ذكر معها فِي الآية. والله أعلم. انتهى كلام القرطبيّ. رحمه الله تعالى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما سبق أن أرجح الأقوال قول منْ أطلق جواز أكل ما جرحه السبع، وما ذُكر فِي الآية منْ المتردّية، والنطيحة، إذا أُدرك حيًّا، مطلقًا، سواء كَانَ يعيش مع الجرح، أم لا؟؛ لإطلاق الآية، وحديث جارية كعب رضي الله عنه المتّفق عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

***

ص: 378

‌25 - (ذِكْرُ الْمُتَرَدِّيَةِ فِي الْبِئْرِ الَّتي لَا يُوصَلُ إِلَى حَلْقِهَا)

4410 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الْعُشَرَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا تَكُونُ الذَّكَاةُ إِلاَّ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ؟ قَالَ: "لَوْ طَعَنْتَ فِي فَخِذِهَا لأَجْزَأَكَ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(يعقوب بن إبراهيم) الدورقيّ، أبو يوسف البغداديّ، ثقة حافظ [10] 21/ 22.

2 -

(عبد الرحمن) بن مهديّ العنبري مولاهم البصريّ، ثقة ثبت حجة إمام [9] 42/ 49.

3 -

(حماد بن سلمة) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقة عابد [8] 181/ 288.

4 -

(أبو العشراء) -بضمّ أوله، وفتح المعجمة، والراء، والمدّ- الدارميّ، قيل: اسمه أُسامة بن مالك بن قِهْطِم، وقيل: عُطارد، وقيل: يسار، وقيل: سنان بن بَرْز، أو بَلْز، وقيل: اسمه بلال بن يسار، وهو أعرابيّ، مجهول [4].

وَقَالَ فِي "تهذيب التهذيب" 12/ 186: أبو العشراء الدارمي، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لو طعنت فِي فخذها لأجزاك"، رَوَى عنه حماد بن سلمة، قيل اسمه يسار بن بكر بن مسعود بن خولي بن حرملة بن قتادة، منْ بني دارم بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم. قَالَ الميموني: سألت أحمد، عن حديث أبي العشراء، فِي الذكاة؟ قَالَ: هو عندي غلط، ولا يُعجبني، ولا أذهب إليه، إلا فِي موضع ضرورة، قَالَ: ما أعرف أنه يُروَى عن أبي العشراء حديثٌ، غير هَذَا -يعني حديث الذكاة-. وَقَالَ البخاريّ: فِي حديثه، واسمه، وسماعه منْ أبيه نظر. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: كَانَ ينزل الْجُفْرة، عَلَى طريق البصرة. وروى أبو داود، فِي غير "السنن"، عن محمد بن عمرو الرازي، عن عبد الرحمن بن قيس، عن حماد بن سلمة، عن أبي العشراء الدارمي، عن أبيه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، سُئل عن العتيرة؟ فحَسَّنها. قَالَ أبو داود، فِي موضع آخر: سمعه مني أحمد بن حنبل، فاستحسنه جِدًّا. وَقَالَ ابن سعد: مجهول. وَقَالَ الحاكم، أبو أحمد: اسمه سنان بن بَرْز، أو بلز. قَالَ ابن حبّان: اسمه عبد الله، وقيل: عامر. وَقَالَ الطبراني: اسمه بلال بن يسار. وذكر أبو موسى المديني: أنه وقع له منْ روايته، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، خمسة عشر حديثا. انتهى.

قَالَ الحافظ: وَقَدْ وقفت عَلَى جَمْع حديثه لتَمّام الرازي بخطه، فبلغ نحو هذه العدة،

ص: 379

وكلها بأسانيد مظلمة. انتهى. روى له الأربعة، ليس له عندهم إلا هَذَا الْحَدِيث. والله تعالى أعلم.

5 -

(أبوه) مالك بن قهطم التيميّ، والد أبي العشراء، ليس له إلا هَذَا الْحَدِيث، ولم يرو عنه غير ابنه أبي العشراء

(1)

. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وأن أبا العشراء، وأباه ليس لهما إلا هَذَا الْحَدِيث. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي الْعُشَرَاءِ، عَنْ أَبِيهِ) أنه (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمَا) بفتح الهمزة، وتخفيف الميم: أداة استفتاح، بمنزلة "ألا"(تَكُونُ الذَّكَاةُ) الذكاة فِي اللغة، أصلها التمام، وفي الشرع: عبارة عن إنهار الدم، وفرْي الأوداج فِي المذبوح، والنحر فِي المنحور، والعقر فِي غير المقدور، مقرونا بنية القصد لله، وذكره عليه، وسمّيت ذكاةً، لتطييبها اللحم؛ يقال: رائحة ذكية: أي طيّبة، فالحيوان إذا أسيل دمه، فقد طاب لحمه؛ لأنه يتسارع إليه الجفاف. راجع "تفسير القرطبيّ" 6/ 52 - 53 (إِلَّا فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ؟) بالفتح، قَالَ الفيّوميّ: لبة البعير: موضع نحوه، قَالَ الفارابيّ: اللبّة: الْمَنْحَر، قَالَ ابن قُتيبة: منْ قَالَ: إنها النقرة فِي الحلق، فقد غَلِط، والجمع لَبَات، ومثلُ حبّة وحبّات. انتهى.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَوْ طَعَنتَ) بفتح العين المهملة، منْ باب قتل (فِي فَخِذِهَا) بفتح الفاء، وكسر الخاء المعجمة، ويجوز تخفيفه بتسكين الوسط، مع فتح الفاء، وكسرها (لأَجْزَأَكَ) أي لجاز أكل الذبيحة، سأل الرجل، هل الذكاة منحصرة فِي هذين المحلّين، فأجابه صلى الله عليه وسلم بأن الطعن فِي الفخذ أيضًا مجزىء، وهذا الْحَدِيث عَلَى تقدير صحّته محمول عَلَى حالة الضرورة؛ للأدلّة الأخرى الدالّة عَلَى وجوب الذبح فِي الحلق واللبّة، قَالَ يزيد بن هارون: هَذَا فِي الضرورة. وَقَالَ أبو داود: لا يصلح هَذَا إلا فِي المتردّية، والنافرة، والمستوحش. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإاليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

(1)

انظر ترجمته فِي "الإصابة" 9/ 67 و"الاستيعاب" 9/ 323 - 325.

ص: 380

حديث أبي العُشَراء، عن أبيه هَذَا ضعيفٌ؛ لجهالة أبي العُشراء، كما سبق لي ترجمته.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -25/ 4410 - وفِي "الكبرى" 26/ 4497. وأخرجه (د) فِي "الأضاحي" 2825 (ت) فِي "الأطعمة" 1481 (ق) فِي "الذبائح" 3184 (أحمد) فِي "مسند الكوفيين" 18183 (الداميّ) فِي "الأضاحي" 1890. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌26 - (ذِكْرُ الْمُنْفَلِتَةِ الَّتِي لَا يُقْدَرُ عَلَى أَخْذِهَا)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "المنفلتة": اسم فاعل، منْ انفلت الطائر، وغيره: إذا خرج بسرعة. و"لا يقدر" بالبناء للمفعول.

واستدلال المصنّف بحديث رافع رضي الله عنه عَلَى هذه الترجمة واضح، حيث قَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"فما غلبكم منها، فافعلوا به هكذا"، فإنه يدلّ أن ما لا يُقدر عَلَى ذبحه يُرمى بسهم، ففي أيّ موضع جُرح حلّ أكله. وهذا هو الذي عليه الجمهور، وَقَدْ خالف فِي ذلك المالكيّة، فقالوا: لا يحلّ إلا بذكاة الاختيار، وَقَدْ تقدّم البحث فِي هَذَا مستوفًى فِي "كتاب الصيد والذبائح" 17/ 4299، فلا تغفُل. والله تعالى أعلم بالصواب.

4411 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ رَافِعٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَاقُو الْعَدُوِّ غَدًا، وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى، قَالَ: "مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عز وجل، فَكُلْ، مَا خَلَا السِّنَّ وَالظُّفْرَ"، قَالَ: فَأَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهْبًا، فَنَدَّ بَعِيرٌ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ، فَحَبَسَهُ، فَقَالَ: "إِنَّ لِهَذِهِ النَّعَمِ" أَوْ قَالَ: الإِبِلِ أَوَابِدَ، كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا، فَافْعَلُوا بِهِ هَكَذَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم تمام البحث فيه

ص: 381

قبل أربعة أبواب.

و"خالد": هو ابن الحارث الهجيميّ. و"عباية بن رافع" هو عباية بن رفاعة بن رافع نُسب لجدّه.

وقوله: "إنا لاقو العدو" لاقو اسم فاعل منْ لاقى يلاقي ملاقاةً، ولقاءً، وهو مضاف إلى "العدو"، ولذا حُذفت نونه، كما قَالَ ابن مالك فِي "الخلاصة":

نُونًا تَلِي الإعْرَابَ أوْ تَنْوِينَا

مِمَّا تُضِيفُ احْذِفْ كـ"طُورِ سِينَا"

ومراد رافع رضي الله عنه بهذا أنهم لو استعملوا السيوف فِي الذبائح، لكلّت، فتعجز عن المقاتلة، وليس معهم سكيّن يذبحون به، فهل يجوز الذبح بآلة غير هَذَا؟.

وقوله: "ما خلا السنّ والظفر" بنصب "السنّ"، و"الظفر، بـ"خلا"؛ لكونها منْ أدواة الاستثناء، و"ما" مصدريّة، ويجوز جرّهما عَلَى قلّة، بجعل "ما" زائدة، قَالَ ابن مالك رحمه الله تعالى فِي "الخلاصة":

وَاسْتَثْنِ نَاصِبًا بِـ"لَيْسَ" و"خَلَا"

وَبِـ"عَدَا" وَبِـ"يَكُونُ" بَعْدَ "لَا"

وَاجْرُرْ بِسَابِقَيْ "يَكُونُ" إنْ تُرِدْ

وَبَعْدَ "مَا" انْصِبْ وانْجِرَارٌ قَدْ يَرِدْ

وقوله: "نَهْبًا" بفتح، فسكون: هو المنهوب، قَالَ النوويّ: وكان هَذَا النهب غنيمة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4412 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَاقُو الْعَدُوِّ غَدًا، وَلَيْسَتْ مَعَنَا مُدًى؟ قَالَ: "مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عز وجل فَكُلْ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفْرَ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ، أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفْرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ، وَأَصَبْنَا نَهْبَةَ إِبِلٍ، أَوْ غَنَمٍ، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ، فَحَبَسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِهَذِهِ الإِبِلِ أَوَابِدَ، كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَإِذَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا شَيْءٌ، فَافْعَلُوا بِهِ هَكَذَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمرو بن عليّ": هو الفلّاس. و"يحيى بن سعيد": هو القطّان. و"سفيان": هو الثوريّ. و"أبوه": هو سعيد بن مسروق بن حبيب الثوريّ.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه فيما قبله.

وقوله: "ليس السنّ" بالنصب عَلَى الاستثناء؛ لأن "ليس" منْ أدواته، كما سبق قريبًا فِي عبارة "الخلاصة". و"أصبنا نهبة إبل" قيل: بفتح النون مصدرٌ، وبالضمّ اسم للمال المنهوب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4413 -

(أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا

ص: 382

إِسْرَائِيلُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ الرَّحَبِيِّ، عَنْ أَبِي الأَشْعَثِ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:"إِنَّ اللَّهَ عز وجل كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ إِذَا ذَبَحَ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه هَذَا الْحَدِيث منْ أحاديث الباب التالي، فكان الأولى تأخيره إليه، والحديث صحيح، وَقَدْ تقدّم قبل ثلاثة أبواب، ومضى شرحه، وبيان مسائله هناك.

و"إبراهيم بن يعقوب": هو الْجُوزجانيّ. و"عُبيد الله بن موسى": هو ابن أبي المختار باذام العبسيّ الكوفيّ. و"إسرائيل": هو ابن يونس. و"منصور": هو المعتمر. و"أبو قلابة": هو عبد الله بن زيد بن عمرو. و"أبو أسماء الرَّحَبيّ": هو عمرو بن مرّثَد، ويقال: اسمه عبد الله الدمشقيّ. و"أبو الأشعث": هو شَرَاحيل بن آدة الصنعانيّ.

[تنبيه]: زاد فِي هَذَا الإسناد "أبا أسماء الرحبيّ" والظاهر أنه منْ المزيد فِي متّصل الأسانيد؛ حيث خالف فيه إسرائيل راويين حافظين عن منصور، فقد رواه جرير بن عبد الحميد، عند مسلم، وزائدة بن قُدامة عند المصنّف فِي "التفسير" كلاهما عن منصور، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، فلم يذكرا أبا أسماء، وَقَدْ رواه ستة، وهم: شعبة، وابن عليّة، عند مسلم، والمصنّف، والثوريّ عند مسلم، وهُشيم عند مسلم، والترمذيّ، وعبد الوهاب الثقفيّ عند مسلم، وابن ماجه، ويزيد بن زُريع، عن المصنّف فِي الباب التالي، كلهم عن خالد الحذّاء، بدون ذكر أبي أسماء، ورواه أيوب السختيانيّ أيضًا عن أبي قلابة، بدون ذكره، كما سيأتي فِي الباب التالي، وبهذا يظهر أن زيادته غير محفوظة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌27 - (بَابُ حُسْنِ الذَّبْحِ)

4414 -

(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، أَبُو عَمَّارٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، قَالَ: قَالَ

ص: 383

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه؛ رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"جرير": هو ابن عبد الحميد. والحديث صحيح، وَقَدْ سبق القول فيه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4415 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الأَشْعَثِ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اثْنَتَيْنِ، فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عز وجل كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، ثُمَّ لِيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"عبد الرزّاق": هو ابن همّام الصنعانيّ. و"معمر": هو ابن راشد. و"أيوب": هو السختيانيّ، والحديث صحيح، كما مرّ آنفًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4416 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -وَهُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ ح وَأَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الأَشْعَثِ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، قَالَ: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ عز وجل كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، لِيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا، وقوله:"بزيع" -بفتح الموحدة، وكسر الزاي-. و"زُريع" بضم الزاي، مصغّرًا. و"عبد الله بن عبد الرحمن": هو الدارميّ. و"خالد": هو الحذّاء. والحديث صحيح، وَقَدْ سبق القول فيه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

قَالَ الجامع الفقير إلى مولاه الغني القدير، محمد ابن الشيخ عليّ بن آدم بن موسى الإِتْيُوبيّ الولويّ، نزيل مكة المكرّمة، عفا الله تعالى عنه وعن والديه ومشايخه آمين:

قد انتهيت منْ كتابة الجزء الثالث والثلاثين منْ شرح سنن الإمام الحافظ الحجة أبي عبد الرحمن النسائيّ رحمه الله تعالى، المسمّى "ذخيرة العُقْبَى فِي شرح المجتبى"، أو

ص: 384

"غاية المنى فِي شرح المجتنى".

وذلك بحيّ الزهراء، مخطّط الأمير طلال، فِي مكة المكرمة زادها الله تعالى تشريفًا وتعظيمًا، وجعلني منْ خيار أهلها حيًّا وميتًا، وأعْظِمْ به تكريمًا.

وأخر دعوانا {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} .

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} .

"اللَّهم صلّ عَلَى محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت عَلَى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللَّهم بارك عَلَى محمد، وعلى آل محمد، كما باركت عَلَى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام عليك أيها النبيّ، ورحمة الله، وبركاته".

ويليه -إن شاء الله تعالى- الجزء الرابع والثلاثون مفتتحًا بالباب 28 "وضعُ الرِّجْلِ عَلَى صَفْحَة الضَّحِيّة" الْحَدِيث رقم 4417.

"سبحانك اللَّهم، وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".

***

ص: 385