المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

شرح سنن النّسائي المسَمَّى ذخيرة العقبى في شرح المجتبى لجامعة الفقير إلى مولاه الغني - ذخيرة العقبى في شرح المجتبى - جـ ٣٤

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

شرح

سنن النّسائي

المسَمَّى

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى

لجامعة الفقير إلى مولاه الغني القدير

محمد ابن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى الأتيوبي الوَلَّوِي

المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة

عفا الله عنه وعن والديه آمين

الجُزْءُ الرّابع والثّلاثون

ص: 1

جميع الحقوق محفوظة

الطبعة الأولى

1424 هـ - 2003 م

دَار آل بروم للنشر والتوزيع

المملكة العَربيّة السعودية - مكة المكرمة - المكتب الرئيسيْ التنعيم

صَ بُ: 4145 - (تلفاكس 5211576 - جوال 055541026)

ص: 2

شرح

سُنن النّسَائي

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 4

‌28 - (وَضْعِ الرِّجْلِ عَلَى صَفْحَةِ الضَّحِيَّةِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الصفحة" -بفتح الصاد المهملة، وسكون الفاء-: الجانب، و"الضَّحِيّة" بوزن عَطِيّة: لغة فِي الأضحيّة، إذ فيه أربع لغات، الأضحيّة بضم الهمزة، وكسرها، والضحيّة، كعطيّة، والأضحاة، كالأرطاة، وَقَدْ تقدّم بيان ذلك فِي أول "كتاب الضحايا". والله تعالى أعلم بالصواب.

4417 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ شُعْبَةَ، أَخْبَرَنِي قَتَادَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا، قَالَ: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِكَبْشَيْنِ، أَمْلَحَيْنِ، أَقْرَنَيْنِ، يُكَبِّرُ، وَيُسَمِّي، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَذْبَحُهُمَا بِيَدِهِ، وَاضِعًا عَلَى صِفَاحِهِمَا قَدَمَهُ، قُلْتُ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْهُ، قَالَ: نَعَمْ).

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الجحدري البصريّ، ثقة [10] 42/ 47.

2 -

(خالد) بن الحارث الْهُجَيمي البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة المشهور [7] 24/ 27.

4 -

(قتادة) بن دعامة السدوسي البصريّ، ثقة ثبت يدلس [4] 30/ 34.

5 -

(أنس) بن مالك الصحابيّ الشهير رضي الله تعالى عنه 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فمن أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه منْ المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر منْ مات بالبصرة منْ الصحابة رضي الله عنهم، مات سنة (92) أو (93)، وَقَدْ جاوز مائة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ شُعْبَةَ) بن الحجّاج، أنه قَالَ (أَخْبَرَنِي قَتَادَةُ) بن دِعامة السدوسي (قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا) رضي الله تعالى عنه (قَالَ: ضَحَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية الآتية فِي الباب التالي: "كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُضحّي"، وفيها أيضًا إشعار بالمداومة عَلَى ذلك، فتمسك

ص: 5

بها منْ قَالَ: الضأن فِي الأضحية أفضل (بِكَبْشَيْنِ) تثنية كبش، وهو فحل الضأن فِي أيّ سنّ كَانَ، واختُلف فِي ابتدائه، فقيل: إذا أثنى، وقيل: إذا أربع، وتقدّم تمام البحث فيه (أمْلَحَيْنِ) قَالَ فِي "الفتح" 11/ 124 - 125 - : الأملح بالمهملة-: هو الذي فيه سواد وبياض، والبياض أكثر، ويقال: هو الأغبر، وهو قول الأصمعي، وزاد الخطابي: هو الأبيض الذي فِي خلل صوفه، طبقات سود، ويقال: الأبيض الخالص، قاله ابن الأعرابيّ، وبه تمسك الشافعية فِي تفضيل الأبيض فِي الأضحية، وقيل: الذي يعلوه حمرة، وقيل: الذي ينظر فِي سواد، ويمشي فِي سواد، ويأكل فِي سواد، ويَبْرُك فِي سواد: أي أن مواضع هذه منه سود، وما عدا ذلك أبيض، وحكى ذلك الماوردي عن عائشة، وهو غريب، ولعله أراد الْحَدِيث الذي جاء عنها كذا، لكن ليس فيه وصفه بالأملح، وسيأتي قريبا أن مسلما أخرجه، فإن ثبت فلعله كَانَ فِي مرة أخرى.

واختلف فِي اختيار هذه الصفة، فقيل: لحسن منظره، وقيل؛ لشحمه، وكثرة لحمه. نتهى.

(أَقْرَنَيْنِ) أي لكلّ منهما قرنان معتدلان (يُكَبِّرُ) وفي نسخة: "ويُكبّر" بالواو (وَيُسَمِّي، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَذْبَحُهُمَا بِيَدِهِ) والمراد اليدين، إن هو مفرد مضاف، فيعمّ، أي يذبح الكبشين بيديه الشريفتين صلى الله عليه وسلم (وَاضِعًا عَلَى صِفَاحِهِمَا قَدَمَهُ) أي حال كونه واضعًا قدمه عَلَى صفاح كلّ منهما عند ذبحه، و"الصفاح" بكسر الصاد المهملة، وتخفيف الفاء، آخره حاء مهملة-: جمع صفحة، والمواد صفحة العنق، وهي جانبه، قَالَ فِي "الفتح" 11/ 134: والمراد الجانب الواحد منْ وجه الأضحيّة، وإنما ثُنّي إشارة إلى أنه فعل فِي كلّ منهما، فهو منْ إضافة الجمع إلى المثنّى بإرادة التوزيع. انتهى. وَقَالَ النوويّ فِي "شرح مسلم" 13/ 123: وإنما فعل هَذَا؛ ليكون أثبت له، وأمكن؛ لئلا تضطرب الذبيحة برأسها، فتمنعه منْ إكمال الذبح، أو تؤذيه، وهذا أصح منْ الْحَدِيث الذي جاء بالنهي عن هَذَا. انتهى.

(قُلْتُ) القائل هو شعبة (أَنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْهُ) أي منْ أنس رضي الله عنه، ولفظ مسلم:"قَالَ: قلت: آنت سمعته منْ أنس؟ "(قَالَ) قتادة (نَعَمْ) أي سمعته منه، وإنما استثبته شعبة؛ لأنه معروف بالتدليس، فيحتمل سماعه له منْ ضعيف، لا يستجيز شعبة الرواية عنه، وفيه التأكد منْ ثبوت السماع، ولاسيما إذا كَانَ الشيخ معروفًا بالتدليس، كقتادة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

ص: 6

حديث أنس رضي الله تعالى عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -28/ 4417 و29/ 4418 و30/ 4419 و31/ 4420 - وفي "الكبرى" 29/ 4504 و30/ 4506 و32/ 4507 و33/ 4508. وأخرجه (خ) فِي "الأضاحي" 5563 و5554 و5558 (م) فِي "الأضاحي" 5060 و5061 و5062 و5063 (ق) فِي "الأضاحي" 3120 و3155. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان استحباب وضع الرجل عَلَى صفحة عُنُق الأضحية، واتفقوا عَلَى أن إضجاعها يكون عَلَى الجانب الأيسر، فيضع رجله عَلَى الجانب الأيمن؛ ليكون أسهل عَلَى الذابح فِي أخذ السكين باليمين، وإمساك رأسها بيده اليسار.

(ومنها): أن فيه مشروعيّة التسمية عند ذبح الأضحيّة، وهر الذي ترجم له المصنّف الباب التالي، وكذا سائر الذبائح، وهذا مجمع عليه، لكن هل هو شرطٌ، أم مستحبّ، فيه خلاف، سبق بيانه فِي "كتاب الصيد والذبائح"، إن شاء الله تعالى.

(ومنها): استحباب التكبير مع التسمية، وهو الذي ترجم له الباب الثالث، فيقول:"باسم، والله أكبر".

(ومنها): استحباب ذبح الرجل أضحيّته بيده، وهو الذي عقد له الباب الرابع، قَالَ النوويّ: ولا يوكّل فِي ذبحها إلا لعذر، وحينئذ يستحبّ أن يشهد ذبحها، وإن استناب مسلمًا جاز بلا خلاف، وان استناب كتابيًا كُره كراهية تنزيه، وأجزأه، ووقعت التضحية عن الموكلّ، وهذا مذهب كافّة العلماء، إلا مالكًا فِي إحدى الروايين عنه، فإنه لم يجوّزها، ويجوز أن يستنيب صبيّا، أو امرأةً حائضًا، لكن يكره توكيل الصبيّ، وفي كراهية توكيل الحائض وجهان، قَالَ الشافعيّة: الحائض أولى بالاستنابة منْ الصبيّ، والصبيّ أولى منْ الكتابيّ، قالوا: والأفضل لمن وكّل أن يوكّل مسلمًا فقيهًا بباب الذبح والضحايا؛ لأنه أعرف بشروطها، وسننها. انتهى كلام النوويّ "شرح مسلم" 13/ 122 - 123.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قولهم بكراهة توكيل الصبيّ والحائض محلّ نظر؛ إذ لا دليل عَلَى ذلك، فتبصّر، ولا تتحيّر. والله تعالى أعلم.

(ومنها): أنه استُدِلّ به عَلَى اختيار العدد فِي الأضحية، ومن ثم قَالَ الشافعية: إن الأضحية بسبع شياه، أفضل منْ البعير؛ لأن الدم المراق فيها أكثر، والثواب يزيد

ص: 7

بحسبه، وأن منْ أراد أن يضحي بأكثر منْ واحد، يعجله.

وحكى الروياني منْ الشافعية، استحباب التفريق عَلَى أيام النحر، قَالَ النوويّ: هَذَا أرفق بالمساكين، لكنه حلاف السنة، كذا قَالَ، والحديث دَالَ عَلَى اختيار التثنية، ولا يلزم منه أن منْ أراد أن يضحي بعدد، فضحى أول يوم باثنين، ثم فرق البقية عَلَى أيام النحر أن يكون مخالفا للسنة.

(ومنها): أن الذكر فِي الأضحية أفضل منْ الأنثى، وهو قول أحمد، وعنه رواية أن الأنثى أولى، وحكى الرافعي فيه قولين عن الشافعيّ: أحدهما: عن نصه فِي البويطي الذكر أفضل؛ لأن لحمه أطيب، وهذا هو الأصح. والثاني: أن الأنثى أولى، قَالَ الرافعي: وإنما يذكر ذلك فِي جزاء الصيد، عند التقويم، والأنثى أكثر قيمة، فلا تُفْدَى بالذكر، أو أراد الأنثى التي لم تلد. وَقَالَ ابن العربي: الأصح أفضلية الذكور عَلَى الإناث، فِي الضحايا، وقيل: هما سواء.

(ومنها): أن فيه استحبابَ التضحية بالأقرن، وأنه أفضل منْ الأجم، مع الاتفاق عَلَى جواز التضحية بالأجم، وهو الذي لا قرن له. واختلفوا فِي مكسور القرن.

(ومنها): أنه استُدِلّ به عَلَى مشروعية استحسان الأضحية، صفة ولونا، قَالَ الماوردي: إن اجتمع حُسن المنظر، مع طيب المخبر فِي اللحم، فهو أفضل، وإن انفردا فطيب المخبر أولى، منْ حسن المنظر. وَقَالَ أكثر الشافعية: أفضلهما البيضاء، ثم الصفراء، ثم الغبراء، ثم البلقاء، ثم السوداء. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عيه توكلت، وإليه أنيب".

‌29 - (تَسْمِيَةُ اللَّهِ عز وجل عَلَى الضَّحِيَّةِ)

4418 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ نَاصِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ، أَمْلَحَيْنِ، أَقْرَنَيْنِ، وَكَانَ يُسَمِّي، وَيُكَبِّرُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَذْبَحُهُمَا بِيَدِهِ، وَاضِعًا رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا).

ص: 8

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح غير شيخه فإنه منْ أفراده، وهو مصّيصيّ صدوق [10] 139/ 1102.

والحديث متّفقٌ عيه، وَقَدْ سبق البحث عنه مستوفًى فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما اشطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌30 - (التَّكْبِيرُ عَلَيْهَا)

4419 -

(أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ، عَنِ الْحَسَنِ -يَعْنِي ابْنَ صَالِحٍ- عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُهُ -يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَذْبَحُهُمَا بِيَدِهِ، وَاضِعًا عَلَى صِفَاحِهِمَا قَدَمَهُ، يُسَمِّي، وَيُكَبِّرُ، كَبْشَيْنِ، أَمْلَحَيْنِ، أَقْرَنَيْنِ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.

و"القاسم بن زكريا": هو أبو محمد الطحّان الكوفيّ، ثقة [11] 8/ 410. و"مُصعب بن المقدام": هو الْخَثْعميّ مولاهم، أبو عبد الله الكوفيّ، صدوق له أوهام [9] 49/ 2720. و"الحسن بن صالح": هو ابن حيّ الهمدانيّ الكوفيّ، ثقة فقيه عابد، رمى بالتشيّع [7] 160/ 252.

وقوله: "كبشين الخ" بالنصب بدل منْ الضمير المنصوب فِي "يذبحهما".

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 9

‌31 - (ذَبْحُ الرَّجُلِ أُضْحِيَّتَهُ بِيَدِهِ)

4420 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -يَعْنِي ابْنَ زُرَيْعٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ، أَقْرَنَيْنِ، أَمْلَحَيْنِ، يَطَؤُ عَلَى صِفَاحِهِمَا، وَيَذْبَحُهُمَا، وَيُسَمِّي، وَيُكَبِّرُ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"سعيد": هو ابن أبي عروبة.

وقوله: "يطؤ" مضار وطىء الشيء: إذا علاه. والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌32 - (ذَبْحُ الرَّجُلِ غَيْرَ أُضْحِيَّتِهِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: غرضه بهذه الترجمة بيان جواز أن يذبح أضحيّة الشخص غيره، قَالَ النوويّ فِي "شرح مسلم" 8/ 419: ما حاصله: يجوز الاستنابة فِي ذبح الهدي بالإجماع، إذا كَانَ النائب مسلمًا، ويجوز عندنا أن يكون النائب كافرًا، كتابيًا، بشرط أن ينوي صاحب الهدي عند دفعه إليه، أو عند ذبحه. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب

4421 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَحَرَ بَعْضَ بُدْنِهِ بِيَدِهِ، وَنَحَرَ بَعْضَهَا غَيْرُهُ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه الحارث:

وهو ثقة حافظ. و"محمد بن سلمة": هو المراديّ الْجَمَليّ المصريّ الثقة الثبت. و"ابن القاسم": هو عبد الرحمن، صاحب مالك. و"مالك": هو ابن أنس إمام دار الهجرة. و"جعفر بن محمد": هو المعروف بالصادق. و"أبوه": هو محمد بن عليّ

ص: 10

المعروف بالباقر. والله تعالى أعلم.

وقوله: "نَحَرَ بَعْضَ بُدْنِهِ بِيَدِهِ" وهي ثلاث وستّون بدنة، كما تقدّم بيانها فِي "كتاب الحجّ". وقوله:"وَنَحَرَ بَعْضَهَا غَيْرُهُ" هو عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وكّله النبيّ صلى الله عليه وسلم أن ينحر ما بقي منْ هديه، وهو ست وثلاثون بدنة، ولفظ مسلم:"ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثًا وستّين بيده، ثم أعطى عليّا، فنحر ما غَبَرَ، وأشركه فِي هديه" الْحَدِيث.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث بهذا السياق المختصر منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -32/ 4421 - وفي "الكبرى" 32/ 4507 - وَقَدْ تقدّم أيضًا فِي "الطهارة"، و"مناسك الحج" بالاختصار، وإنما قلت: بهذا السياق المختصر؛ لأنه أخرجه مسلم مطوّلًا، وأبو داود 3074 وَقَدْ تقدم أنْ سُقْتُهُ مطوّلا منْ رواية مسلم فِي "كتاب مناسك الحج" منْ هَذَا الشرح بحمد الله تعالى ومَنِّهِ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌33 - (نَحْرُ مَا يُذْبَحُ)

4422 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ، قَالَتْ: نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَكَلْنَاهُ، وَقَالَ قُتَيْبَةُ فِي حَدِيثِهِ: فَأَكَلْنَا لَحْمَهُ. خَالَفَهُ عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه الثاني، وهو مكيّ ثقة.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم قبل تسعة أبواب، "باب الرخصة فِي نحو ما يُذبح، وذبح ما يُنحر"، وَقَدْ تقدّم شرحه، وبيان مسائله هناك، وكان الأولى للمصنّف أن يذكر هاتين الروايتين هناك، ولا يكرّره هنا، فتأمّل.

و"سفيان" هنا: هو ابن عيينة، بخلافه فِي السند المتقدّم فِي الباب المذكور، فإنه الثوريّ، فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله: "خالفه عبدة بن سليمان" يعني أن عبدة بن سليمان الكلابيّ خالف ابن عيينة

ص: 11

فِي روايته هَذَا الْحَدِيث عن هشام بن عروة، حيث رواه بلفظ:"ذبحنا"، بدل روايته هو بلفظ "نحرنا"، وزاد أيضًا:"ونحن بالمدينة"، وَقَدْ بيّن رواية عبدة بقوله:

4423 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ، قَالَتْ: ذَبَحْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا، وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ، فَأَكَلْنَاهُ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو وأبو داود، وهو مصّيصيّ ثقة.

والحديث سبق الكلام فيه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌34 - (مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ عز وجل

4424 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى -وَهُوَ ابْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ- عَنِ ابْنِ حَيَّانَ -يَعْنِي مَنْصُورًا- عَنْ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ عَلِيًّا، هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُسِرُّ إِلَيْكَ بِشَىْءٍ، دُونَ النَّاسِ؟ فَغَضِبَ عَلِيٌّ، حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ، وَقَالَ: مَا كَانَ يُسِرُّ إِلَيَّ شَيْئًا، دُونَ النَّاسِ، غَيْرَ أَنَّهُ حَدَّثَنِي بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَأَنَا وَهُوَ فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَهُ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الأَرْضِ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد البغلاني، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(يحيى بن زكريا بن أبي زائدة) الهمداني، أبو سعيد الكوفيّ، ثقة ثبت، منْ كبار [9] 93/ 115.

3 -

(منصور بن حيّان) -بتحتانيّة- ابن حِصْن الأسديّ، والد إسحاق، ثقة [5].

قَالَ ابن معين، والعجليّ، والنسائيّ: ثقة. وَقَالَ أبو حاتم: كَانَ منْ أثبت النَّاس.

ص: 12

وَقَالَ الآجريّ: سألت أبا داود عنه؟ فَقَالَ: كوفيّ، وكأنه حمِده. وَقَالَ يعقوب بن سُفيان: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". روى له مسلم، وأبو داود، والمصنّف، له عند مسلم، والمصنّف حديثان فقط: هَذَا، وفي "كتاب الأشربة" 36/ 5645 - حديث ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم فِي النهي عن الدباء والحنتم الخ، وعند أبي داود الثاني فقط.

[تنبيه]: ضبط "حيّان" بالياء التحتانيّة هو الذي فِي النسخة الهنديّة، وهو الصواب، وأما ما وقع فِي النسخ المطبوعة، و"الكبرى" منْ ضبطه بالباء الموحدة، فغلط فاحشٌ، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

4 -

(عامر بن واثلة) بن عبد الله بن عمرو بن جحش الليثي، أبو الطفيل، وُلد عام أُحُد، ورأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عن أبي بكر، ومن بعده، وعُمّر إلى أن مات رضي الله عنه سنة عشر ومائة عَلَى الصحيح، وهو آخر منْ مات منْ الصحابة عَلَى الإطلاق، قاله مسلم وغيره، وتقدّمت ترجمته فِي 42/ 587.

5 -

(علي) بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه 74/ 91. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو فِي حكم الرباعيّات؛ لأن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، وهما فِي درجة واحدة، فكأنهما راو واحد. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين. (ومنها): أن فيه رواية صحابي، عن صحابيّ، وفيه أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، عليّ رضي الله عنه، وفيه آخر منْ مات منْ الصحابة عَلَى الإطلاق، وهو عامر رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ) الليثيّ، أبي الطفيل رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ عَلِيًّا) وفي رواية مسلم منْ طريق مروان بن معاوية الفزاريّ، عن منصور، حدثنا أبو الطفيل، عامر بن واثلة، قَالَ: كنت عند عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فأتاه رجل، فَقَالَ، وله منْ طريق سليمان بن حيّان، عن منصور، عن أبي الطفيل، قَالَ: قلنا لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: أخبرنا بشيء أسره إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم (هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يُسِرُّ) بضمّ أوله، منْ الإسرار (إِلَيْكَ بِشَيْءٍ) الباء زائدة فِي المفعول؛ لأنه يتعدّى بنفسه، قَالَ الفيّوميّ رحمه الله تعالى: أسررت الحديثَ إسرارًا: أخفيته، يتعدّى بنفسه، وأما قوله تعالى:{تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} الآية [الممتحنة: 1]، فالمفعول محذوف، والتقدير:

ص: 13

تُسرّون إليهم أخبار النبيّ صلى الله عليه وسلم بسبب المودّة التي بينكم وبينهم، مثلُ قوله تعالى:{تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} الآية، ويجوز أن تكون "المودّة" مفعوله، والباء زائدة للتأكيد، مثلُ أخذت الخطام، وأخذت به، وعلى هَذَا فيقال: أسرّ الفاتحة، وبالفاتحة، قَالَ الصغانيّ: أسررت المودّةَ، وبالمودّة، ودخول الباء حملاً عَلَى نقيضه، والشيء يُحمل عَلَى النقيض، كما يُحمل عَلَى النظير، ومنه قوله تعالى:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} الآية [الإسراء: 110]. قَالَ: والسرّ: ما يُكتم، وهو خلاف الإعلان، والجمع الأسرار. ويقال: أسررته: أي أظهرته، فهو منْ الأضداد، وأسررته: نسبته الى السرّ. انتهى كلام الفيّوميّ ببعض تصرّف.

(دُونَ النَّاسِ؟) أي دون سائر الصحابة رضي الله عنهم، أو دون سائر الأمّة (فَغَضِبَ عَلِيٌّ) رضي الله تعالى عنه (حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ) أي منْ شدّة غضبه؛ وإنما غضب بهذا السؤال؛ لتضمّنه باطلاً، وهو التقوّل عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما افترته الشيعة عليه (وَقَالَ) رضي الله عنه (مَا) نافية (كَانَ) صلى الله عليه وسلم (يُسِرُّ إليَّ شَيْئًا، دُونَ النَّاسِ) قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى فِي "المفهم" 5/ 244: قول عليّ رضي الله عنه هَذَا فيه ردّ، وتكذيب للفِرَق الغالية فيه، وهم: الشيعة، والإماميّة، والرافضة، الزاعمون أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وصّى لعليّ رضي الله عنه، وولّاه بالنصّ، وأسرّ إليه، دون النَّاس كلِّهم بعلوم عظيمة، وأمور كثيرة، وهذه كلّها منهم أكاذيب، وتُرّهاتٌ، وتمويهاتٌ، يشهد بفسادها نصوص متبوعهم، وما تقتضيه العادات منْ انتشار ما تدعو إليه الحاجة العامّة، وغضب عليّ رضي الله عنه عَلَى ذلك دليلٌ عَلَى أنه لا يرتضي شيئاً مما قيل هنالك. انتهى.

(غَيْرَ) منصوب عَلَى الاستثناء (أَنَّهُ) صلى الله عليه وسلم (حَدَّثَنى بِأرْبَعِ كَلِمَاتٍ) ولفظ مسلم: "غير أنه قد حدّثني بكلمات أربع"(وَأَنَا وَهُوَ فِي الْبَيْتِ) يحتمل أن يكون المراد به بيته صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون بيت عليّ رضي الله عنه، أو بيت الله الحرام، والجملة فِي محلّ نصب عَلَى الحال (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَعَنَ الله) أي طرده، وأبعده منْ رحمته، يقال: لعنه لعنًا، منْ باب نفع: إذا طرده، وأبعده، أو سبّه، فهو لعينٌ، أو ملعون. قاله الفيّوميّ (مَنْ لَعَنَ وَالِدَهُ) أي دعا عليه بأن يلعنه الله تعالى، أو سبّه. ولفظ مسلم:"والديه" بالتثنية، قَالَ القرطبيّ: وإنما استحقّ لاعن أبويه لعنة الله؛ لمقابلته نعمة الأبوين بالكفران، وانتهائه إلى غاية العقوق والعصيان، كيف لا، وَقَدْ قرن الله تعالى برّهما بعبادته، وإن كانا كافرين بتوحيده، وشريعته. انتهى.

(وَلَعَنَ الله مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ) قَالَ النوويّ فِي "شرح صحيح مسلم" 13/ 141: ما حاصله: المراد بالذبح لغير الله، أن يذبح باسم غير الله تعالى، كمن ذبح للصنم، أو

ص: 14

الصليب، أو لموسى، أو لعيسى صلى الله عليهما، أو للكعبة، ونحو ذلك، فكلُّ هَذَا حرام، ولا تحل هذه الذبيحة، سواء كَانَ الذابح مسلما، أو نصرانيا، أو يهوديا، نصّ عليه الشافعى، واتفق عليه أصحابنا، فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له، غير الله تعالى، والعبادة له، كَانَ ذلك كفرا، فان كَانَ الذابح مسلما، قَبْلَ ذلك صار بالذبح مرتدا. وذكر الشيخ إبراهيم المروزى، منْ أصحابنا أن ما يُذبح عند استقبال السلطان، تقربا إليه أفتى أهل بخارة

(1)

بتحريمه؛ لأنه مما أهل به لغير الله تعالى، قَالَ الرافعي: هَذَا إنما يذبحونه؛ استبشارا بقدومه، فهو كذبح العقيقة، لولادة المولود، ومثل هَذَا لا يوجب التحريم. والله أعلم. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الرافعيّ رحمه الله تعالى هو الظاهر. والله تعالى أعلم.

وَقَالَ أبو العبّاس القرطبيّ: وأما لعن منْ ذبح لغير الله، فإن كَانَ كافرًا يَذبح للأصنام، فلا خفاء بحاله، وهي التي أُهلّ بها لغير الله، والتي قَالَ الله تعالى فيها:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} الآية [الأنعام: 121]، وأما إن كَانَ مسلمًا، فيتناوله عموم هَذَا اللعن، ثم لا تحَلّ ذبيحته؛ لأنه لم يَقصد بها الإباحة الشرعيّة، وَقَدْ تقدّم أنها شرط فِي الذكاة، ويُتصوَّر ذبح المسلم لغير الله فيما إذا ذبح عابثًا، أو مُجرِّبًا لآلة الذبح، أو اللَّهو، ولم يقصِد الإباحة، وما أشبه ذلك. انتهى. "المفهم" 5/ 144 - 245.

(وَلَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى) أي ضمّه، ومنعه ممن له عليه حقّ، ونصره، ويقال: أوى بالقصر والمدّ، متعدّيًا، ولازمًا، والقصر فِي اللازم أكثر، والمدّ فِي المتعدّي أكثر. قاله القرطبيّ فِي "المفهم" 3/ 487.

وبالأكثر جاء القرآن العزيز فِي الموضعين، قَالَ الله تعالى فِي اللازم:{أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} [الآية: الكهف: 63] وَقَالَ فِي المتعدّي: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} الآية [المؤمنون: 50].

(مُحْدِثًا) بكسر الدال، اسم فاعل منْ أحدث، والمراد منْ يأتى بالفساد فِي الأرض. قاله النوويّ. وَقَالَ القرطبيّ: يعني منْ أحدث ما يخالف الشرع، منْ بدعة، أو معصية، أو ظلم، كما قَالَ صلى الله عليه وسلم:"منْ أحدث فِي أمرنا هَذَا ما ليس منه، فهو ردّ"، متَّفقٌ عليه.

قَالَ النوويّ فِي "شرح مسلم" 9/ 143 نقلاً عن القاضي عياض رحمهما الله -عند

(1)

هكذا نسخة شرح النوويّ "بخارة" بتاء التأنيث، ولعله مصحف منْ بخارا بالألف مقصورًا، فليحرر. والله تعالى أعلم.

ص: 15

قوله فِي "باب فضل المدينة" منْ "صحيح مسلم": "منْ أحدث فيها حدثًا، أو آوى محدثّا" الْحَدِيث-: ما حاصله: ولم يُرو هَذَا الحرف إلا "محدثًا" بكسر الدال، ثم قَالَ: وَقَالَ الإِمام المازريّ: رُوي بوجهين، كسرِ الدال، وفتحها، قَالَ: فمن فتح أراد الإحداث نفسه، ومن كسر أراد فاعل الحدث. انتهى.

وَقَالَ فِي "النهاية" -1/ 351 - : "الحدّث": الأمر الحادث المنكر الذي ليس بمعتاد، ولا معروف فِي السنّة، و"المحدث": يُروى بكسر الدال، وفتحها، عَلَى الفاعل، والمفعول، فمعنى الكسر: منْ نصر جانيًا، أو آواه، وأجاره منْ خصمه، وحال بينه وبين أن يقتصّ منه، والفتح هو الأمر المبتدع نفسه، ويكون معنى الإيواء فيه الرضا به، والصبر عليه، فإذا رضي بالبدعة، وأقرّ فاعلها، ولم ينكرها عليه، فقد آواه. انتهى.

(وَلَعَنَ اللهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الأَرْضِ") -بفتح الميم-: أي علامات حدودها، وَقَالَ فِي "النهاية" -5/ 127 - : المنار جمع منارة: وهي العلامة تُجعل بين الحدّين، ومنار الحرَم: أعلامه التي ضربها الخليل عليه السلام عَلَى أقطاره، ونواحيه، والميم زائدة. انتهى. وَقَالَ القرطبيّ: منار الأرض: هي التُّخُوم

(1)

، والحدود التي بها تتميّز الأملاك، والمغيّر لها إن أضافها إلى ملكه، فهو غاصبٌ، وإن لم يُضفها إلى ملكه، فهو متعدّ، ظالم، مفسدٌ لملك الغير، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم:"منْ غصب شبراً منْ الأرض، طُوّقه يوم القيامة منْ سبع أرضين". وَقَدْ حمل أبو عُبيد هَذَا الْحَدِيث عَلَى تغيير حدود الحرم، ولا معنى للتخصيص، بل هو عامٌ فِي كلّ الحدود، والتُّخُوم. والله تعالى أعلم. انتهى. "المفهم" 5/ 245. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -34/ 4424 - وفي "الكبرى" 35/ 4511 وأخرجه (م) فِي "الأضاحي" 3657 و3658 و3659 (أحمد) فِي "مسند العشرة" 813 و908 و1238. والله تعالى أعلم.

(1)

قَالَ فِي "المصباح": التَّخْمُ: حدّ الأرض، والجمع تُخُوم، مثلُ فَلْس وفُلُوس، وقيل: واحده: تَخُوم، والجمع تُخمٌ، مثلْ رَسُول ورُسُل. انتهى.

ص: 16

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان وعيد منْ ذبح لغير الله تعالى، وهو أنه ملعون، ومطرود عن رحمة الله تعالى. (ومنها): تحريم لعن الوالدين. (ومنها): تحريم تغيير علامات الأرض، وحدودها التي تعلّق بها حقوق النَّاس. (ومنها): أن هذه الأعمال منْ الكبائر؛ لأن اللعنة لا تكون إلا فِي كبيرة. قيل: المراد باللعن هنا: العذاب الذي يستحقّه عَلَى ذنبه، والطرد عن الجنة أول الأمر، وليست هي كلعنة الكفّار الذين يُبعَدون منْ رحمة الله تعالى كلَّ الإبعاد. (ومنها): أن فيه إبطالَ ما تزعمه الرافضة، والشيعة، والإماميّة، منْ الوصيّة إلى عليّ رضي الله عنه، وغير ذلك منْ اختراعاتهم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌35 - (النَّهْيُ عَنِ الأَكْلِ منْ لُحُومِ الأَضَاحِي بَعْدَ ثَلَاثِ، وَعَنْ إِمْسَاكِهِ)

4425 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى أَنْ تُؤْكَلَ لُحُومُ الأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الحنظلي المروزي، ثقة ثبت [10] 2/ 2.

2 -

(عبد الرزاق) بن همّام، أبو بكر الصنعاني، ثقة حافظ مصنف شهير، عَمِي فِي آخره، فتغير، وكان يتشيع [9] 61/ 77.

3 -

(معمر) بن راشد الأزدي مولاهم، أبو عروة الصنعاني، ثقة ثبت فاضل، منْ كبار [7] 10/ 10.

4 -

(الزهريّ) محمد بن مسلم الإِمام الحجة المثبت المدنيّ [4] 1/ 1.

5 -

(سالم) بن عبد الله بن عمر العدَوي المدنيّ الثقة المثبت الفاضل [3] 23/ 490.

6 -

(ابن عمر) عبد الله رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.

ص: 17

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين منْ الزهريّ، وشيخه مروزي، ثم نيسابورين وعبد الرزاق ومعمر صنعانيان. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه سالمًا أحد الفقهاء السبعة، وفيه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أحد العبادلة الأربعة، واحد المكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله تعالى عنهمِا (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى أَن تُؤْكَلَ) بالبناء للمفعول (لُحُومُ الأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ) أي نَهَى صاحب الأضاحي عن إبقاء لحومها إلى ما بعد ثلاث ليال، وأراد صلى الله عليه وسلم بذلك أن يتصدّقوا عَلَى الفقراء. قَالَ القاضي عياض: يحتمل أن يكون ابتداء الثلاث منْ يوم ذبحها، ويحتمل منْ يوم النحر، وإن تأخّر ذبحها إلى أيام التشريق، قَالَ: وهذا أظهر.

وَقَالَ القرطبيّ: ظاهر النهي عن الادخار التحريم. وقيل: كَانَ محمولا عَلَى الكراهة. واختُلف فِي أول الثلاثة الأيام التي كَانَ الادخار جائزًا فيها، فقيل: أولها يوم النحر، فمن ضحّى فيه جاز له أن يُمسك يوم النحر، ويومين بعده، ومن ضحّى بعده أمسك ما بقي له منْ الثلاثة الأيام منْ يوم النحر. وقيل: أولها يوم يُضحّي، فلو ضحّى فِي آخر أيام النحر، لكان له أن يمسك ثلاثة أيام بعده، وهذا الظاهر منْ حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، فإنه قَالَ فيه:"منْ ضحّى منكم، فلا يُصبحنّ فِي بيته بعد ثالثة شيء". قَالَ: ويظهر منْ بعض ألفاظ أحاديث النهي ما يوجب قولاً ثالثًا، وهو أن فِي حديث أبي عبيد:"فوق ثلاث ليال"، وهذا يوجب إلغاء اليوم الذي ضحّى فيه منْ العدد، وتُعتبر ليلته، وما بعدها، وكذلك حديث ابن عمر، فإن فيه:"فوق ثلاث": يعني الليال، وكذلك حديث سلمة، فإن فيه:"بعد ثالثة"، وأما حديث أبي سعيد، ففيه "ثلاثة أيام"، وهذا يقتضي اعتبار الأيام، دون الليالي. انتهى. "المفهم" 5/ 376 - 377.

وَقَالَ فِي "الفتح" 11/ 146: ما محصّله: يؤيد عدم الاعتداد باليوم الذي يقع فيه النحر منْ الثلاث، ما فِي حديث جابر:"كنا لا نأكل منْ لحوم بُدْنِنا فوق ثلاث مني"، فإن ثلاث مني تتناول يوما بعد يوم النحر، لأهل النفر الثاني. انتهى.

[تنبيه]: زاد فِي رواية للبخاريّ فِي آخر هَذَا الْحَدِيث: "وكان عبد الله يأكل بالزيت حين ينفر منْ مني، منْ أجل لُحوم الهدي". يعني أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، كَانَ لا يأكل منْ لحم الأضحيّة بعد ثلاث، فكان إذا انقضت ثلاث مني، ائتدم بالزيت، ولا يأكل اللحم، تمسّكًا بالأمر المذكور، ويحتمل أنه كَانَ يسوّي بين لحم الهدي

ص: 18

والأضحيّة فِي الحكم، أو أطلق الهدي عدى الأضحية لمناسبة أنه كَانَ بمنى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -35/ 4425 - وفي "الكبرى" 36/ 4512. وأخرجه (خ) فِي "الأضاحي" 5146 (م) فِي "الأضاحي" 3641 (ت) فِي "الأضاحي" 1429 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 4330 و4414 و4665 و4699 و5268 و5912 (الدارمي) فِي "الأضاحي" 1875. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان النهي عن الأكل منْ لحوم الأضاحي بعد ثلاث، وعن ادّخاره. (ومنها): أن فيه مراعاة الشارع مصالح العباد؛ لأنه سيأتي فِي حديث عائشة رضي الله عنها أن النهي لأجل الدّافّة التي دفّت إلى المدينة، يوم الأضحى، فأراد الشارع الحكيم أن يواسي المؤمونون هؤلاء المساكين، فتبيّن به أنه لا يأمر، ولا ينهى إلا لمصلحة، وإن لم نَصِلْ إلى معرفتها؛ لقصور علمنا.

(ومنها): ما قيل: استُدل بهذه الأحاديث، عَلَى أن النهي عن الأكل فوق ثلاث، خاص بصاحب الأضحية، فأما منْ أُهدي له، أو تُصدق عليه، فلا؛ لمفهوم قوله عند مسلم:"منْ لحم أضحيّته"، وفي حديث علي:"منْ نسكه"، وَقَدْ جاء فِي حديث الزبير ابن العوام، عند أحمد، وأبي يعلى ما يفيد ذلك، ولفظه: قلت: يا نبي الله، أرأيت قد نُهي المسلمون أن يأكلوا منْ لحم نسكهم، فوق ثلاث، فكيف نصنع بما أُهدي لنا؟ قَالَ:"أما ما أهدي إليكم، فشأنَكم به"، فهذا نص فِي الهدية، وأما الصدقة، فإن الفقير لا حجر عليه فِي التصرف، فيما يُهدَى له؛ لأن القصد أن تقع المواساة منْ الغني للفقير، وَقَدْ حصلت. أفاده فِي "الفتح" 11/ 147. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي النهي عن ادّخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث:

اختلفوا فِي ذلك عَلَى مذاهب:

(المذهب الأول): أنه كَانَ للتحريم، وأنه منسوخٌ بالأحاديث الآتية فِي الباب التالي،

ص: 19

حكاه النوويّ فِي "شرح مسلم" عن جماهير العلماء، قَالَ: وهذا منْ نسخ السنّة بالسنّة، قَالَ: والصحيح نسخ النهي مطلقًا، وأنه لم يبق تحريم، ولا كراهة، فيباح اليوم الادّخار فوق ثلاثة، والأكل إلى متى شاء، كصريح حديث بريدة وغيره، وكذا قَالَ فِي "شرح المهذّب": الصواب المعروف أنه لا يحرم الادّخار اليوم بحال، وسبقه إلى ذلك الرافعيّ، فَقَالَ: والظاهر أنه لا تحريم اليوم بحال. وَقَالَ ابن عبد البرّ: لا خلاف بين فقهاء المسلمين فِي إجازة أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث، وأن النهي عن ذلك منسوخ.

(المذهب الثاني): أن هَذَا ليس نسخًا، ولكن كَانَ التحريم لعلّة، فلما زالت زال، فلو عادت لعاد، وبهذا قَالَ ابن حزم، واستدلّ بحديث عليّ رضي الله عنه الآتي بعد هَذَا، قَالَ: هَذَا كَانَ عام حُصِر عثمان رضي الله عنه، وكان أهل البوادي قد ألجأتهم الفتنة إلى المدينة، ودفّت دافّة. انتهى. وللشافعيّ رحمه الله تعالى نصّ، حكاه البيهقيّ، تردّد فيه بين هَذَا القول، والذي قبله، قَالَ بعد ذكر حديث عائشة، وجابر رضي الله عنهما: يجب عَلَى منْ علِم الأمرين معًا أن يقول: نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه لمعنًى، فإذا كَانَ مثله، فهو منهيّ عنه، وإذا لم يكن مثله لم يكق منهيًّا عنه، أو يقول: نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي وقت، ثم أرخص فيه بعده، والآخر منْ أمره ناسخٌ للأول. وَقَالَ الإسنويّ رحمه الله تعالى: الصحيح أن النهي كَانَ مخصوصًا بحالة الضيق، والصحيح أيضاً أنه إذا حَدَثَ ذلك فِي زماننا أن يعود المنع عَلَى خلاف ما رجّحه الرافعيّ، فقد نصّ الشافعيّ عَلَى ذلك كلّه، فَقَالَ فِي "الرسالة" فِي آخر "باب العلل فِي الْحَدِيث": ما نصّه: فإذا دفّت الدّافّة، ثبت النهي عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث، وإن لم تدفّ دافّة، فالرخصة ثابتةٌ بالأكل، والتزوّد، والادّخار، والصدقة، قَالَ الشافعيّ: ويحتمل أن يكون النهي عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث منسوخًا فِي كلّ حال. انتهى. وَقَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: حديث سلمة، وعائشة رضي الله تعالى عنهما نصّ عَلَى أن المنع كَانَ لعلّة، ولما ارتفعت ارتفع؛ لارتفاع موجبه، لا لأنه منسوخٌ، فتعيّن الأخذ به، ويعود الحكم لعود العلّة، فلو قَدِم عَلَى أهل بلدة ناسٌ محتاجون فِي زمان الأضحى، ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعة يسدّون بها فاقتهم إلا الضحايا، لتعيّن عليهم أن لا يدّخروها فوق ثلاث.

(المذهب الثالث): كالذي قبله فِي أن هَذَا ليس نسخًا، ولكن التحريم لعلّة، فلما زالت زال، ولكن لا يعود الحكم لو عادت، وهذا وجه لبعض الشافعيّة، حكاه الرافعيّ، والنوويّ، وهو بعيد.

(المذهب الرابع): أن النهي الأول لم يكن للتحريم، وإنما كَانَ للكراهة، وهذ ذكره أبو عليّ الطبريّ، صاحب "الإفصاح" عَلَى سبيل الاحتمال، كما حكاه الرافعيّ، ونصّ

ص: 20

عليه الشافعيّ، كما حكاه البيهقيّ، فَقَالَ: وَقَالَ الشافعيّ رحمه الله تعالى فِي موضع آخر: يشبه أنه يكون نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث، إذا كانت الدّافّة، عَلَى معنى الاختيار، لا عَلَى معنى الفرض؛ لقوله تعالى فِي البدن:{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} الآية [الحج: 36]، وهذه الآية فِي البدن التي يَتطوّع بها أصحابها، قَالَ النوويّ فِي "شرح مسلم": قَالَ هؤلاء: والكراهة باقية إلى اليوم، ولكن لا يحرُم، قالوا: ولو وقع مثل تلك العلّة اليوم، فدفّت دافّة، واساهم النَّاس، وحملوا عَلَى هَذَا مذهب عليّ، وابن عمر. انتهى. وإلى هَذَا ذهب المهلّب، فَقَالَ: إنه الذي يصحّ عندي. انتهى. قَالَ الحافظ وليّ الدين: ويدلّ لهذا قوله فِي حديث عائشة رضي الله عنها: "وليست بعزيمة، ولكن أراد أن يطعم منه"، وَقَالَ ابن حزم: لا حجة فيه؛ لأن قوله: "ليست بعزيمة"، ليس منْ كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما ظنّ بعض رواة الخبر، ويبيّن ذلك قوله بعده:"ولكن أراد أن يطعم منه". والله تعالى أعلم.

(المذهب الخامس): أن هَذَا النهي للتحريم، وأن حكمه مستمر، لم يُنسخ، وحُمل عَلَى هَذَا ما تقدّم عن عليّ رضي الله عنه، وما رواه ابن أبي شيبة عن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ وليّ الدين: وحمله عَلَى أنهما رأيا عود الحكم لعود العلّة، كما تقدّم فِي القول الثاني أولى، وبتقدير أن لا يؤوّل عَلَى هَذَا، فسببه عدم بلوغ الناسخ، فإنه لا يسع أحدًا العمل بالمنسوخ بعد ورود الناسخ، ومن علم حجة عَلَى منْ لم يعلم. ذكر هذه المذاهب الحافظ وليّ الدين العراقيّ رحمه الله تعالى فِي "طرح التثريب" 5/ 197 - 199.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الأرجح هو المذهب الثاني؛ لوضح دليله، وحاصله أن النهي مستمرّ، وليس منسوخًا، وإنما كَانَ لعلة، فلما زالت زال، فإذا عادت تلك عاد الحكم، وهذا هو الأولى فِي الجمع بين الأحاديث منْ غير دعوى إهمال لبعضها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4426 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ غُنْدَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، مَوْلَى ابْنِ عَوْفٍ، قَالَ: شَهِدْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ -كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ- فِي يَوْمِ عِيدٍ، بَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ صَلَّى، بِلَا أَذَانٍ، وَلَا إِقَامَةٍ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَنْهَى أَنْ يُمْسِكَ أَحَدٌ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا، فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) الدورقي، أبو يوسف البغدادين ثقة حافظ [10] 21/ 22.

2 -

(غندر) محمد بن جعفر البصريّ، ثقة صحيح الكتاب [9] 21/ 22.

ص: 21

3 -

(أبو عبيد مولى ابن عوف) هو سعد بن عُبيد مَوْلَى عبد الرحمن بْنِ عَوْفٍ، ويقال: مولى ابن أزهر، أي عبد الرحمن بن أزهر بن عوف، ابن أخي عبد الرحمن بن عوف، الزهريّ المدنيّ، ثقة [2] تقدّم فِي 1/ 1819. والباقون تقدّموا قريباً. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخه بغدادي، وغندر بصري، ومعمر بصري، ثم صنعاني، والباقون مدنيون. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ) سعد بن عُبيد (مَوْلَى) عبد الرحمن (ابْنِ عَوْفٍ) أنه (قَالَ: شَهِدْتُ) أي حضرت (عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ -كَرَّمَ الله وَجْهَهُ- فِي يَوْمِ عِيدٍ) أي يوم عيد الأضحى، فقد وقع التصريح به فِي رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن أبي عبيد أنه سمع عليًا، يقول يوم الأضحى.

والحديث مختصر، وَقَدْ ساقه البخاريّ فِي "صحيحه"، مطوّلاً، فَقَالَ 5/ 2116:

5251 -

حدثنا حبّان بن موسى، أخبرنا عبد الله، قَالَ: أخبرني يونس، عن الزهريّ، قَالَ: حدثني أبو عبيد، مولى بن أزهر، أنه شهد العيد، يوم الأضحى، مع عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فصلى قبل الخطبة، ثم خطب النَّاس، فَقَالَ: يا أيها النَّاس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد نهاكم عن صيام هذين العيدين، أما أحدهما فيوم فطركم منْ صيامكم، وأما الآخر فيوم تأكلون نسككم، قَالَ أبو عبيد: ثم شهدت مع عثمان بن عفان، فكان ذلك يوم الجمعة، فصلى قبل الخطبة، ثم خطب، فَقَالَ: يا أيها النَّاس إن هَذَا يوم، قد اجتمع لكم فيه عيدان، فمن أحب أن ينتظر الجمعة، منْ أهل العوالي فلينتظر، ومن أحب أن يرجع، فقد أذنت له، قَالَ أبو عبيد: ثم شهدته مع علي بن أبي طالب، فصلى قبل الخطبة، ثم خطب النَّاس، فَقَالَ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث. انتهى.

(بَدَأَ بِالصَّلَاةِ) أي صلاة العيد (قَبْلَ الْخُطْبَةِ) أي لأنه السنّة (ثُمَّ صَلَّى، بِلَا أَذَانِ، وَلَا إِقَامَةِ) إذ لا يُشرعان لصلاة العيد؛ لكونها نافلة (ثُمَّ قَالَ) عليّ رضي الله عنه (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَنْهَى أَنْ يُمْسِكَ أَحَدٌ منْ نُسُكِهِ) بضمّتين، وبضمّ، فسكون: أي لحم أضحيّته (شَيْئًا) أي لا كثيرًا، ولا قليلاً (فَوْقَ ثَلَاَثَةِ أَيَّامٍ) وفي الرواية التالية:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهاكم أن تأكلوا لُحُوم نُسُككم فوق ثلاث"، وزاد عبد الرزّاق فِي روايته:"فلا تأكلوها".

ص: 22

وَقَالَ فِي "الفتح"

(1)

11/ 146 - 147 - : قَالَ القرطبيّ: اختُلف فِي أول الثلاث، التي كَانَ الادخار فيها جائزا، فقيل: أولها يومُ النحر، فمن ضَحَّى فيه جاز له أن يمسك يومين بعده، ومن ضحى بعده أمسك ما بقي له منْ الثلاثة. وقيل: أولها يومُ يُضَحِّي، فلو ضَحَّى فِي آخر أيام النحر، جاز له أن يمسك ثلاثاً بعدها. ويحتمل أن يؤخذ منْ قوله:"فوق ثلاث" أن لا يُحْسَبَ اليوم الذي يقع فيه النحر منْ الثلاث، وتعتبر الليلة التي تليه، وما بعدها. قَالَ الحافظ: ويؤيده ما فِي حديث جابر: "كنا لا نأكل منْ لحوم بدننا، فوق ثلاث مني"، فإن ثلاث مني، تتناول يوما بعد يوم النحر، لأهل النفر الثاني.

قَالَ الشافعيّ: لعل عليا لم يبلغه النسخ، وَقَالَ غيره: يحتمل أن يكون الوقت الذي قَالَ علي فيه ذلك، كَانَ بالناس حاجة، كما وقع فِي عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبذلك جزم ابن حزم، فَقَالَ: إنما خطب عليّ بالمدينة فِي الوقت الذي كَانَ عثمان حُوصر فيه، وكان أهل البوادي، قد ألجأتهم الفتنة إلى المدينة، فأصابهم الجهد، فلذلك قَالَ عليّ ما قَالَ.

قَالَ الحافظ: أما كون علي خطب به، وعثمان محصورٌ، فأخرجه الطحاوي منْ طريق الليث، عن عقيل، عن الزهريّ، فِي هَذَا الْحَدِيث، ولفظه:"صلّيت مع علي العيد، وعثمان محصور"، وأما الحمل المذكور، فلما أخرج أحمد، والطحاوي أيضًا، منْ طريق مخارق بن سليم، عن عليّ رضي الله عنه، رفعه:"إني كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فادخروا ما بدا لكم"، ثم جمع الطحاوي بنحو ما تقدم، وكذلك يجاب عما أخرج أحمد، منْ طريق أمّ سليمان، قالت: دخلت عَلَى عائشة، فسألتها عن لحوم الأضاحي؟ فقالت: كَانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، نهى عنها، ثم رخّص فيها، فَقَدِم عليٌّ منْ السفر، فأتته فاطمة بلحم منْ ضحاياها، فَقَالَ:"أو لم نُنْه عنه؟ "، قالت: إنه قد رُخّص فيها، فهذا عليّ، قد اطلع عَلَى الرخصة، ومع ذلك خطب بالمنع، فطريق الجمع ما ذكرته. وَقَدْ جزم به الشافعيّ فِي "الرسالة"، فِي آخر "باب العلل فِي الْحَدِيث"، فَقَالَ: ما نصه: فإذا دَفَّت الدافّة ثبت النهي عن إمساك لحوم الضحايا، بعد ثلاث، وإن لم تَدُفّ دافّة، فالرخصة ثابتة بالأكل، والتزود، والادخار، والصدقة، قَالَ الشافعيّ: ويحتمل أن يكون النهي عن إمساك لحوم الأضاحي، بعد ثلاث منسوخا، فِي كل حال. قَالَ الحافظ: وبهذا الثاني أخذ المتأخرون منْ الشافعية، فَقَالَ الرافعي: الظاهر أنه لا يحرم اليوم بحال، وتبعه النوويّ، فَقَالَ فِي "شرح المهذب": الصواب المعروف، أنه لا يحرم الادخار اليوم بحال. وحكى فِي "شرح مسلم" عن جمهور العلماء، أنه منْ نسخ السنة بالسنة، قَالَ: والصحيح نسخ النهي مطلقا، وأنه لم يبق تحريم، ولا كراهة، فيباح

(1)

عبارة "الفتح" المذكورة هنا قد تقدمت فيما نقلته منْ الحافظ ولي الدين وغيره، وإنما أعدتها لما رأيت فيها منْ الفوائد الزائدة، فلا تظن أيها الأخ المحب للتحقيق العلمي أن هَذَا مجرد تكرار، وَقَدْ حذرتك عن هَذَا فِي مقدمة هَذَا الشرح، فلتعذرني، فالعذر عند كرام النَّاس مقبول. والله تعالى ولي التوفيق.

ص: 23

اليوم الادخار فوق ثلاث، والأكل إلى متى شاء. انتهى.

وإنما رجح ذلك؛ لأنه يلزم منْ القول بالتحريم، إذا دَفّت الدافّة إيجاب الإطعام، وَقَدْ قامت الأدلة عند الشافعية، أنه لا يجب فِي المال حقٌّ سوى الزكاة.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدّم فِي أواخر كتاب الزكاة البحث عن هذه المسألة، وأن الصحيح وجوب حقّ سوى الزكاة، بحسب ما تدعو الحاجة إليه، فراجعه، تجده موضّحًا بأدلّته، والله تعالى وليّ التوفيق.

قَالَ: ونقل ابن عبد البرّ ما يوافق ما نقله النوويّ، فَقَالَ: لا خلاف بين فقهاء المسلمين، فِي إجازة أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث، وأن النهي عن ذلك منسوخ، كذا أطلق، وليس بجيد، فقد قَالَ القرطبيّ: حديث سلمة، وعائشة، نصّ عَلَى أن المنع كَانَ لعلة، فلما ارتفعت ارتفع؛ لارتفاع موجبه، فتعين الأخذ به، وبعود الحكم تعود العلة

(1)

، فلو قَدِم عَلَى أهل بلد ناس، محتاجون فِي زمان الأضحى، ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعة، يَسُدُّون بها فاقتهم، إلا الضحايا، تَعَيّن عليهم ألا يدخروها فوق ثلاث. قَالَ الحافظ: والتقييد بالثلاث واقعة حال، وإلا فلو لم تُسَدّ الخلة إلا بتفرقة الجميع، لزم عَلَى هَذَا التقرير عدم الإمساك، ولو ليلة واحدة. وَقَدْ حكى الرافعي عن بعض الشافعية: أن التحريم كَانَ لعلة، فلما زالت زال الحكم، لكن لا يلزم عود الحكم عند عود العلة. قَالَ الحافظ: واستبعدوه، وليس ببعيد؛ لأن صاحبه قد نظر إلى أن الخلة، لم تُسدّ يومئذ، إلا بما ذُكر، فأما الآن فإن الخلة تستد بغير لحم الأضحية، فلا يعود الحكم إلا لو فرض أن الخلة لا تستد، إلا بلحم الأضحية، وهذا فِي غاية الندور. وحكى البيهقي عن الشافعيّ، أن النهي عن أكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث، كَانَ فِي الأصل للتنزيه، قَالَ: وهو كالأمر فِي قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ} الآية [الحج: 36]، وحكاه الرافعي، عن أبي علي الطبري احتمالا. وَقَالَ المهلب: إنه الصحيح؛ لقول عائشة: "وليس بعزيمة". والله أعلم. انتهى ما فِي "الفتح" 11/ 146 - 147.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -35/ 4426 و4427 - وفي "الكبرى" 36/ 4513 و4514. وأخرجه

(1)

هكذا عبارة "الفتح" 13/ 146 ولعله: "وبعود العلّة يعود الحكم"، والله تعالى أعلم.

ص: 24

(خ) فِي "الأضاحي" 5573 (م) فِي "الأضاحي" 3639، 3640 (أحمد)"مسند العشرة" 4375 و512 و588 و808 و1190 و1196 و1279. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان النهي عن أكل لحوم الأضاحي، وادّخارها بعد ثلاثة أيام. (ومنها): مشروعيّة الخطبة فِي العيد. (ومنها): أن خطبة العيد تُخالف خطبة الجمعة فِي كونها بعد الصلاة، وَقَدْ تقدّم فِي "كتاب العيدين" القول فِي أول منْ قدّم الخبطة عَلَى الصلاة فيها. (ومنها): أنه لا يُشرع الأذان، ولا الإقامة لصلاة العيد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4427 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ أَبَا عُبَيْدٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَدْ نَهَاكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا لُحُومَ نُسُكِكُمْ فَوْقَ ثَلَاثٍ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه أبي داود: سليمان بن سيف الحَرّانيّ، فإنه منْ أفراده، وهو ثقة. و"يعقوب": هو ابن إبراهيم الزهريّ. "وأبوه": هو إبراهيم بن سعد الزهريّ. و"صالح": هو ابن كيسان.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق شرحه، وبيان مسائله فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌36 - (الإِذْنِ فِي ذَلِكَ)

أي فيما ذُكر منْ أكل لحوم الأضاحي، وادّخارها بعد ثلاث.

4428 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثٍ، ثُمَّ قَالَ: "كُلُوا، وَتَزَوَّدُوا، وَادَّخِرُوا").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

ص: 25

1 -

(محمد بن سلمة) المرادي الجمَلي، أبو الحارث المصريّ، ثقة ثبت [11] 19/ 25.

2 -

(الحارث بن مسكين) بن محمد، أبو عمرو المصريّ القاضي، ثقة فقيه [10] 9/ 9.

3 -

(ابن القاسم) هو عبد الرحمن العتقي المصريّ الفقيه، ثقة، منْ كبار [10] 19/ 20.

4 -

(مالك) بن أنس الإِمام الحجة المثبت الفقيه المدنيّ [7] 7/ 7.

5 -

(أبو الزبير) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، صدوق يرسل [4] 31/ 35.

6 -

(جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما 31/ 35. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه الحارث. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين منْ مالك، وقبله بالمصريين. (ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله تعالى عنه منْ المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) رضي الله تعالى عنهما (أَنَّهُ أَخْبَرَهُ) الضمير الأول لجابر، والثاني لأبي الزبير: أي أن جابرًا رضي الله عنه أخبر أبا الزبير (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثٍ) أي بعد ثلاث ليال، فتذكير العدد باعتبار الليالي، وفي رواية مسلم:"كنا لا نأكل منْ لحوم بدننا فوف ثلاث مني، فأرخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "كلُوا، وتزوّدوا". وفي رواية:"كنا لا نمسك لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتزوّد منها، ونأكل" -يعني فوق ثلاث-. وفي رواية: "كنا نتزوّدها إلى المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم"(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم بعد أن نهى عن ذلك (كُلُوا) الأمر فيه للاستحباب عند الجمهور، وأوجبه ابن حزم الظاهري (وَتَزَوَّدُوا) أي خذوا منه زادًا فِي السفر، وهذا لمن أراد أن يسافر (وَادَّخِرُوا") بالمهملة، وأصله منْ ذخر بالمعجمة، دخلت عليها تاء الافتعال، ثم أُدغمت، ومنه قوله تعالى:{وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} الآية [يوسف: 45].

وفي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها الآتي فِي الباب التالي: "وكلوا، وادّخروا، وتصدّقوا"، قَالَ السنديّ: قوله: "ثم كلوا" هَذَا ظاهر فِي النسخ، والذي يدلّ عليه النظر فِي أحاديث الباب أن المدار عَلَى حاجة النَّاس، فإن رأى حاجتهم شديدة ينبغي له أن لا

ص: 26

يدّخر فوق ثلاث، وإلا فله ذلك، وعلى هَذَا فلا نسخ، ولعلّ نهي عليّ رضي الله عنه مبنيّ عَلَى ذلك، لا عَلَى عدم بلوغ النسخ إليه. انتهى.

وَقَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: هذه أوامر وردت بعد الحظر، فهل تقَدُّمه عليها يُخرجها عن أصلها منْ الوجوب عند يراه، أو لا يُخرجها؟ اختلف الأصوليون فيه عَلَى قولين. قَالَ: والظاهر منْ هذه الأموار هنا إطلاق ما كَانَ ممنوعا، بدليل اقتران الادّخار مع الأكل، والصدقة، ولا سبيل إلى حمل الادّخار عَلَى الوجوب بوجهٍ، فلا يجب الأكل، ولا الصدقة منْ هَذَا اللفظ، وجمهور العلماء عَلَى أن الأكل منْ الأضحيّة ليس بواجب، وَقَدْ شذّت طائفة، فأوجبت الأكل منها؛ تمسّكًا بظاهر الأمر هنا، وفي قوله تعالى:{فَكُلُوا مِنْهَا} [الحجّ: 28]، ووقع لمالك فِي كتاب ابن حبيب أن ذلك عَلَى الندب، وأنه إن لم يأكل مخطىء، وَقَالَ أيضًا: لو أراد أن يتصدّق بلحم أضحيّته كلِّه كَانَ له، كأكله كلّه حَتَّى يفعل الأمرين. وَقَالَ الطبريّ: جميع أئمة الأمصار عَلَى جواز أن لا يأكل منها، إن شاء، ويطعم جميعها، وهو قول محمد بن الموّاز. انتهى كلام القرطبيّ. "المفهم" 5/ 379 - 381.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: مسألة الأمر بعد الحظر، قيل: للإباحة؛ لتبادره إلى الذهن، وهذا القول عندي أظهر. وقيل: للوجوب حقيقةً؛ لأن الصيغة تقتضيه. وقيل: بالتفصيل، فما كَانَ قبل الحظر واجبًا كَانَ للوجوب، كما فِي قوله تعالى:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية [التوبة: 5]، فإنه كَانَ واجبًا قبل تلك المدة، فاستمرّ كذلك بعدها، وإلا كَانَ للإباحة، كما فِي قوله تعالى:{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} الآية [المائدة: 2]، وإلى هذه الأقوال أشار فِي "الكوكب الساطع" بقوله:

فَإِنْ أَتَى افْعَلْ بَعْدَ حَظْرِ دَانِي

قَالَ الإِمَامُ أَوِ الاسْتِئْذَانِ

فَلِلإِبَاحَةِ وَقِيلَ الْحَتْمِ

وَقِيلَ مَا قَدْ كَانَ قَبْلَ الْحِرْمِ

وقول الطبريّ: "جميع أئمة الأمصار الخ" فيه نظر، فقد تقدّم أن ابن حزم قَالَ بالوجوب، وَقَدْ نقله عن بعض السلف، فليس هناك إجماع. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -36/ 4428 - وفي "الكبرى" 37/ 4515. وأخرجه (خ) "الحج"

ص: 27

1719 و"الجهاد" 2980 و"الأطعمة" 5424 و"الأضاحي" 5567 (م)"الأضاحي" 3644 و3645 و3646 (أحمد)"باقي مسند المكثرين" 14624 و14719 و14748 و (الموطأ)"الضحايا"1046. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان الإذن فِي أكل لحم الأضحيّة، والادخار بعد ثلاث. (ومنها): استحباب الادّخار، منْ لحوم الأضاحيّ. (ومنها): جواز الادّخار للقوت، خلافًا لمن كرهه، وَقَدْ ورد فِي الادّخار:"كَانَ يدّخر لأهله قوت سنة"، وفي رواية:"كَانَ لا يدّخر لغد"، والأول فِي "الصحيحين"، والثاني فِي "صحيح مسلم"، والجمع بينهما أنه كَانَ لا يدّخر لنفسه، ويدّخر لعياله، أو أن ذلك كَانَ باختلاف الحال، فيتركه عند حاجة النَّاس إليه، ويفعله عند عدم الحاجة. (ومنها): ما قَالَ ابن بطّال رحمه الله تعالى: وفيه ردّ عَلَى منْ زعم منْ الصوفيّة أنه لا يجوز ادّخار طعام لغد، وأن اسم الولاية لا يستحقّها منْ ادّخر شيئاً، ولو قلّ، وأن منْ ادّخر أساء الظنّ بالله تعالى. انتهى

(1)

. (ومنها): ما قَالَ ابن العربيّ: فيه ردّ عَلَى المعتزلة الذين يرون أن النسخ لا يكون إلا بالأخفّ للأثقل، وَقَدْ كَانَ أكلها مباحًا، ثم حُرّم، ثم أُبيح، وأيّ هذين أخفّ، أو أثقل، فقد نسخ أحدهما بالآخر. وتعقّبه وليّ الدين، فَقَالَ: تحريمها بعد الإباحة ليس نسخًا؛ لأنه رفع للبراءة الأصليّة، ورفع البراءة الأصليّة، ليس بنسخ، عَلَى ما تقرّر فِي الأصول، وإن صحّ ما قاله، فقد وقع النسخ هنا مرَّتين، وذلك فِي مواضع محصورة، لم يُذكر هَذَا منها. انتهى "طرح التثريب" 5/ 201. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم الأكل منْ الأضحيّة:

ذهب جمهور العلماء إلى أنه مستحبّ، قَالَ النوويّ فِي "شرح مسلم": هَذَا مذهبنا، ومذهب العلماء كافّةً، إلا ما حُكي عن بعض السلف أنه أوجب الأكل منها، وهو قول أبى الطيب بن سلمة منْ أصحابنا، حكاه عنه الماورديّ؛ لظاهر هَذَا الْحَدِيث فِي الأمر بالأكل، مع قوله تعالى:(فَكُلُوا مِنْهَا)، وحمل الجمهور هَذَا الأمر عَلَى الندب، أو الإباحة، لاسيّما وَقَدْ ورد بعد الحظر، فقد قَالَ جماعة منْ أصحابنا: إنه فِي هذه الحالة للإباحة، والجمهور عَلَى أنه للوجوب، كما لو ورد ابتداء، وبرجوب الأكل، ولو لُقمة قَالَ ابن حزم الظاهريّ.

(1)

راجع "الفتح" 10/ 694 "كتاب الأطعمة".

ص: 28

وأما الصدقة منها، فالصحيح عند الشافعيّة، والحنابلة بما يقع عليها الاسم، ويستحبّ أن يتصدّق بمعظمها، ويُهدي الثلث، وللشافعيّ قول إنه يأكل النصف، ويتصدّق بالنصف، وهذا الخلاف فِي قدر أو فى الكمال فِي الاستحباب، وأما الإجزاء فتجزيه الصدقة بما يقع عليه الاسم، وذهب بعضهم إلى أنه لا تجب الصدقة بشيء منها، وهو مذهب المالكيّة، قَالَ ابن عبد البرّ: وعلى هَذَا جماعة العلماء، إلا أنهم يكرهون أن لا يتصدّق منها بشيء. انتهى.

وقالت الحنفيّة يستحب أن يتصدّق بالثلث، ويأكل الثلث، ويدّخر الثلث.

قَالَ وليّ الدين: وأما الادّخار فالأمر به للإباحة بلا شكّ. انتهى

(1)

.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن الأرجح استحباب كلًّا منْ الأكل، والصدقة، والادّخار؛ لما سبق لنا بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4429 -

(أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ، زُغْبَةُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ خَبَّابٍ -هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَبَّابٍ- أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَقَدَّمَ إِلَيْهِ أَهْلُهُ لَحْمًا، مِنْ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ، فَقَالَ: مَا أَنَا بِآكِلِهِ، حَتَّى أَسْأَلَ، فَانْطَلَقَ إِلَى أَخِيهِ لأُمِّهِ، قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، وَكَانَ بَدْرِيًّا، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ حَدَثَ بَعْدَكَ أَمْرٌ، نَقْضًا لِمَا كَانُوا نُهُوا عَنْهُ، مِنْ أَكْلِ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ، بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ).

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(عيسى بن حماد) بن مسلم التجيبي، أبو موسى المصريّ، ثقة [10] 135/ 211.

[تنبيه]: قوله: "زُغبة" -بضم الزاي، وسكون الغين المعجمة، آخره باء موحّدة- لقب عيسى، ولقب أبيه أيضاً.

2 -

(الليث) بن سعد أبو الحارث المصريّ الإِمام الحجة [7] 31/ 35.

3 -

(يحيى بن سعيد) بن قيس الأنصاريّ المدنيّ، ثقة ثبت [5] 22/ 23.

4 -

(القاسم بن محمد) بن أبي بكر الصدّق المدنيّ، ثقة ثبت فقيه، منْ كبار [3] 120/ 166.

5 -

(عبد الله بن خباب) -بمعجمة، وموحّدتين، الأولى ثقيلة- الأنصاريّ النجّاريّ مولاهم المدنيّ، ثقة [3] مات بعد المائة، وتقدّم فِي 53/ 1293.

6 -

(أبو سعيد الخدريّ) سعد بن مالك بن سنان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله

(1)

راجع "طرح التثريب" 5/ 200 - 201.

ص: 29

تعالى عنهما 169/ 262.

7 -

(قتادة بن النعمان) بن زيد بن عامر بن سَوَاد بن ظَفَر، وهو كعب بن الخزرج بن عمرو ابن مالك بن الأوس الأنصاريّ الظَّفَريّ، أبو عبد الله، ويقال: أبو عمرو، ويقال: أبو عُمر، أو أبو عثمان، شَهِدَ بدرًا، والمشاهد كلّها، وهو الذي ردّ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم عينه بعد أن سقطت يوم أحد، وقيل: يوم الخندق، مات سنة (23) وصلّى عليه عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، وهو يومئذ ابن (65) سنة وقيل:(70)، وقيل: مات سنة (22) روى له الجماعة، سوى مسلم، وأبي داود، له عند المصنّف هَذَا الباب فقط. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، والليث، فمصريان. (ومنها): أن فيه ثلاثة منْ التابعيين يروي بعضهم عن بعض: يحيى، والقاسم، وابن خبّاب. وفيه رواية صحابي عن صحابي أخيه. (ومنها): أن فيه القاسم أحد الفقهاء السبعة. (ومنها): أن فيه أبا سعيد الخدريّ رضي الله عنه، أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثاً. (ومنها): أن صحابية منْ المقلين منْ الرواية، فليس له إلا نحو خمسة أحاديث. راجع "تحفة الأشراف" جـ 8 ص 277 - 280. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ ابْنِ خَبَّابٍ) بمعجمة، وموحّدتين، الأولى ثقيلة (-هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَبَّابٍ-) الأنصاريّ النجّاريّ مولاهم (أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ) رضي الله تعالى عنه (قَدِمَ) بكسر الدال المهملة، منْ باب تَعِب قُدُومًا، ومَقْدَمًا (مِنْ سَفَر، فَقَدَّمَ) بتشديد الدال، مبنيًّا للفاعل: أي وَضَع بين يديه (إِلَيْهِ أَهْلُهُ لَحْمًا، مِنْ لُحُومِ الأضَاحِيِّ، فَقَالَ: مَا أَنَا بِآكِلِهِ، حَتَّى أَسْأَلَ) وفي رواية البخاريّ: فَقَالَ: أخّروه، لا أذوقه" (فَانْطَلَقَ إِلَى أَخِيهِ لِأُمِّهِ) اسمها أُنيسة بنت أبي خارجة عمرو بن قيس بن مالك، منْ بني عديّ بن النجّار. ذكر ذلك ابن سعد، قاله فِي "الفتح" 11/ 142 (قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ وَكَانَ بَدْرِيًّا) أي كَانَ ممن شهد وقعة بدر المشهورة (فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ) أي سأل أبو سعيد قتادة بن النعمان، عن حكم أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث (فَقَالَ) قتادة رضي الله عنه (إِنَّهُ قَدْ حَدَثَ) بتخفيف الدال، منْ الحدوث (بَعْدَكَ أَمْرٌ) أي بعدما سمعته صلى الله عليه وسلم ينهى عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث تجدد أمر آخر، وهو إباحة ذلك، وقوله (نَقْضًا) منصوب عَلَى أنه مفعول لأجله: أي لأجل النقض والإزالة (لِمَا) متعلّق بـ"نقضا" (كَانُوا نُهُوا عَنْهُ) وقوله (منْ أكْلِ لُحُومِ الأضَاحِيِّ) بيان لـ"ما"

ص: 30

(بَعْدَ ثَلَاَثَةِ أَيَّامٍ) وأخرج الإِمام أحمد رحمه الله تعالى الْحَدِيث، مطوّلاً، فَقَالَ: 15624 - حدثنا يعقوب، قَالَ: حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، قَالَ: حدثني محمد بن علي بن حسين بن جعفر، وأبي إسحاقُ بن يسار، عن عبد الله بن خباب، مولى بني عدي ابن النجار، عن أبي سعيد الخدريّ، قَالَ: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد نهانا عن أن نأكل لحوم نسكنا فوق ثلاث، قَالَ: فخرجت فِي سفر، ثم قَدِمتُ عَلَى أهلي، وذلك بعد الأضحى بأيام، قَالَ: فأتتني صاحبتي بساق، قد جعلت فيه قَديدا، فقلت لها: أَنَّى لك هَذَا القديد؟ فقالت: منْ ضحايانا، قَالَ: فقلت لها، أولم ينهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أن نأكلها فوق ثلاث؟ قَالَ: فقالت: إنه قد رَخَّصَ للناس بعد ذلك، قَالَ: فلم أُصدّقها حَتَّى بعثتُ إلى أخي قتادةَ بن النعمان، وكان بدريا، أسأله عن ذلك؟ قَالَ: فبعث إليّ أن كل طعامك، فقد صَدَقَتْ، قد أرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين فِي ذلك.

وأخرجه أحمد أيضًا منْ وجه آخر، فجعل القصّة لأبي قتادة، وأنه سأل قتادة بن النعمان عن ذلك أيضًا، لكن فِي إسناده نظر، وفيه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قام فِي حجة الوداع، فَقَالَ:"إني كنت أمرتكم ألا تأكلوا الأضاحي فوق ثلاثة أيام لتسعكم، وإني أحلّه لكم، فكلوا منه ما شئتم" الْحَدِيث، فبيّن فيه وقت الإحلال، وأنه كَانَ فِي حجة الوداع، وكأن أبا سعيد رضي الله عنه ما سمع ذلك، ولذا قَالَ له قتادة:"حدث بعدك أمر"، وبيّن فيه أيضًا السبب فِي التقييد، وأنه لتحصيل التوسعة بلحوم الأضاحي لمن لم يضحّي

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث قتادةَ بنِ النعمان رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -36/ 4429 و4430 - وفي "الكبرى" 37/ 4516 و4517. وأخرجه (خ) "المغازي" 3997 و"الأضاحي" 5568 (الموطأ) "الضحايا" 1048، وفوائد الْحَدِيث تقدّمت قريباً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4430 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي زَيْنَبُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَقَدِمَ قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَكَانَ أَخَا أَبِي سَعِيدٍ لأُمِّهِ، وَكَانَ بَدْرِيًّا، فَقَدَّمُوا إِلَيْهِ،

(1)

راجع "الفتح" 11/ 142 - 143.

ص: 31

فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: إِنَّهُ قَدْ حَدَثَ فِيهِ أَمْرٌ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَانَا أَنْ نَأْكُلَهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ رَخَّصَ لَنَا أَنْ نَأْكُلَهُ، وَنَدَّخِرَهُ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عبيد الله بن سعيد": هو أبو قُدامة السرخسيّ. و"يحيى": هو القطّان. و"سعد بن إسحاق": هو ابن كعب بن عُجرة الْبَلَويّ المدنيّ، حليف الأنصار، ثقة [5] 1/ 1600. و"زينب": هي بنت كعب بن عُجرة، زوج أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، مقبولة [2]، ويقال: لها صحبة، وهي عمة سعد الراوي عنها. وشرح الْحَدِيث تقدّم فيما قبله.

والحديث تفرّد به المصنّف رحمه الله تعالى، وَقَدْ وقع فيه قلبٌ، وذلك أن الصواب كون السائل الذي قدم منْ السفر هو أبا سعيد الخدريّ، والمسئول هو قتادة بن النعمان، كما هو فِي الرواية الأولى، قَالَ الحافظ أبو الحجاج المزّيّ رحمه الله تعالى فِي "تحفة الأشراف" 3/ 502: والمحفوظ أن الذي حدّث فيه بالرخصة قتادة بن النعمان. انتهى. وَقَالَ الحافظ فِي "الفتح" 11/ 143 - : وأخرجه النسائيّ، وصححه ابن حبّان منْ طريق زينب بنت كعب، عن أبي سعيد، فقلب المتن، جعل راوي الْحَدِيث أبا سعيد، والممتنع منْ الأكل قتادة بن النعمان، وما فِي "الصحيح" أصحّ. انتهى.

والحاصل أن الْحَدِيث صحيح، منْ مسند قتادة بن النعمان رضي الله عنه، كما فِي الرواية الأولى، وهو الذي أخرجه البخاريّ فِي "صحيحه"، لا منْ مسند أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، كما هنا، فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4431 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ -وَهُوَ النُّفَيْلِيُّ- قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ ح وَأَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْدَانَ بْنِ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُبَيْدُ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا، وَلْتَزِدْكُمْ زِيَارَتُهَا خَيْرًا، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَكُلُوا مِنْهَا، وَأَمْسِكُوا مَا شِئْتُمْ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ الأَشْرِبَةِ فِي الأَوْعِيَةِ، فَاشْرَبُوا فِي أَيِّ وِعَاءٍ شِئْتُمْ، وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا"، وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ "وَأَمْسِكُوا").

رجال هَذَا الإسناد: تسعة:

1 -

(عمرو بن منصور) أبو سعيد النسائيّ، ثقة ثبت [11] 108/ 147 منْ أفراد المصنّف.

2 -

(محمد بن معدان بن عيسى) الحرّاني، ثقة [12] 16/ 649 منْ أفراد المصنّف أيضًا.

ص: 32

3 -

(عبد الله بن محمد النفيلي) أبو جعفر الحراني، ثقة حافظ، منْ كبار [10] 7/ 406.

4 -

(الحسن بن أعين) هو الحسن بن محمد بن أعين، نسب لجده، أبو عليّ الحرّانيّ، صدوق [9] 16/ 649.

5 -

(زهير) بن معاوية بن حُديج، أبو خيثمة الجعفيّ الكوفيّ، ثقة ثبت [7] 38/ 42.

6 -

(زبيد بن الحارث) بن عبد الكريم بن عمرو بن كعب، أبو عبد الرحمن اليامي الكوفيّ، ثقة عابد [6] 37/ 1420.

7 -

(محارب بن دثار) السدوسي الكوفيّ القاضي، ثقة إمام زاهد [4] 16/ 652.

8 -

(ابن بريدة) هو عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي، أبو سهل المروزيّ القاضي، ثقة [3] 25/ 393.

9 -

(أبوه) بريدة بن الحصيب الأسلمي، أبو سهل الصحابيّ، أسلم قبل بدر، ومات سنة (63)، وتقدّم فِي 101/ 133. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخيه، فإنهما منْ أفراده، وكلاهما ثقتان. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعي، ورواية الابن عن أبيه. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ) عبد الله (ابْنِ بُرَيدَةَ، عَنْ أَبِيهِ) بريدة بن الحُصيب رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي كُنْتُ نَهيْتُكُمْ عَنْ ثَلَاثٍ) أي ثلاث خصال (عَنْ زِيارَةِ الْقُبُورِ) بدل تفصيل منْ مجمل الجار والمجرور قبله، قيل: إنما نهوا لقرب عهدهم بعبادة الأصنام، ودعائها، فنهوا خشية أن يقولوا عندها ما اعتادوه فِي الجاهليّة، وخوفًا منْ أن يكون ذلك ذريعة لعبادتها (فَزُورُوهَا) أمر بالزيارة، وهو للاستحباب؛ بدليل ما فِي الرواية التالية بلفظ: "ومن أراد زيارة القبور، فإنها تذكّر الآخرة"، وتقدّم فِي "الجنائز" بلفظ: "فمن أراد أن يزورها، فليزرها" (وَلْتَزِدْكُمْ زِيَارَتُهَا خَيْرًا) أي لتكن زيارتكم إياها سبب خير لكم، وذلك بتذكّر الآخرة، ففي الرواية التالية: "فإنها تذكّر الآخرة" (وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ) أي عن أكلها (بَعْدَ ثَلَاثٍ) أي ثلاث ليال (فَكُلُوا مِنْهَا، وَأَمْسِكُوا) هو بمعنى قوله: "ادّخروا" فِي الروايات السابقة (مَا شِئْتُمْ) أي أيَّ وقت شئتم، ثلاثًا، أو أكثر (وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ الأَشْرِبَةِ) أي عن اتخاذ الأشربة (فِي الأَوْعِيَةِ) جمع وعاء، كسقاء، وأسقية، وزنًا ومعنى (فَاشْرَبُوا فِي أَيِّ وِعَاءِ شِئْتُمْ، وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا) يعني أن الانتباذ فِي جميع

ص: 33

الظروف جائز، وإنما المنهيّ عنه هو شرب المسكر فقط. وقوله (وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ) أي ابن معدان شيخه الثاني (وَأَمْسِكُوا") يعني أن ذكر لفظ:"وأمسكوا" فِي رواية عمرو بن منصور النسائيّ، شيخه الأول، وأما محمد بن معدان، فلم يذكرها فِي روايته، بل اقتصر عَلَى قوله:"فكلوا منها ما شئتم". والله تعالى أعلم.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث أخرجه مسلم، وَقَدْ تقدّم فِي "كتاب الجنائز" -100/ 2032 - شرحه، مستوفًى، وكذا بيان مسائله، وسيأتي ما يتعلّق بالأشربة فِي "كتاب الأشربة"، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4432 -

(أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيُّ، عَنِ الأَحْوَصِ بْنِ جَوَّابٍ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ رُزَيْقٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَعَنِ النَّبِيذِ إِلاَّ فِي سِقَاءٍ، وَعَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَكُلُوا مِنْ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ، مَا بَدَا لَكُمْ، وَتَزَوَّدُوا، وَادَّخِرُوا، وَمَنْ أَرَادَ زِيَارَةَ الْقُبُورِ، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الآخِرَةَ، وَاشْرَبُوا، وَاتَّقُوا كُلَّ مُسْكِرٍ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.

و"الأحوص بن جوّاب" -بفتح الجيم، وتشديد الواو: هو الضبيّ الكوفيّ، صدوقٌ ربما وهم [9]. و"عمّار بن رُزيق" -بتقديم الراء، عَلَى الزاي، مصغّرًا-: هو الضبيّ، أبو الأحوص الكوفيّ، لا بأس به [8]. و"أبو إسحاق": هو عمرو بن عبد الله السبيعيّ الكوفيّ المشهور. و"الزبير بن عديّ": هو الهمدانيّ الياميّ الكوفيّ، ولي قضاء الريّ، ثقة [5].

والحديث أخرجه مسلم، كما سبق بيانه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

‌37 - (الادِّخَارُ مِنَ الأَضَاحِي)

4433 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَفَّتْ دَافَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، حَضْرَةَ الأَضْحَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"كُلُوا وَادَّخِرُوا ثَلَاثًا"، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَنْتَفِعُونَ مِنْ أَضَاحِيهِمْ، يَجْمِلُونَ مِنْهَا الْوَدَكَ، وَيَتَّخِذُونَ مِنْهَا

ص: 34

الأَسْقِيَةَ، قَالَ:"وَمَا ذَاكَ؟ "، قَالَ: الَّذِي نَهَيْتَ مِنْ إِمْسَاكِ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ، قَالَ:"إِنَّمَا نَهَيْتُ لِلدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ، كُلُوا، وَادَّخِرُوا، وَتَصَدَّقُوا").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(عبيد الله بن سعيد) أبو قُدامة السرخسي، ثقة ثبت [10] 15/ 15.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطّان البصريّ الإِمام الحجة الثبت [9] 4/ 4.

3 -

(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة الحجة الفقيه [7] 7/ 7.

4 -

(عبد الله بن أبي بكر) بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاريّ المدنيّ القاضي، ثقة [5] 118م 163.

5 -

(عمرة) بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصاريّة المدنيّة، ثقة [3] 134/ 203.

6 -

(عائشة) أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها 5/ 5. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فسرخسي، ويحيى، فبصري. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّة، وفيه عائشة رضي الله تعالى عنها منْ المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله تعالى عنها، أنها (قَالَتْ: دَفَّتْ دَافَّةٌ) بالدال المهملة، وتشديد الفاء، قَالَ القرطبيّ: الدفيف: الدبيب، وهو السير الخفيّ الليّن، والدافّة: الجيش الذين يدبّون إلى أعدائهم، وكأن هؤلاء ناس ضعفاء، فجاءوا دافّين؛ لضعفهم منْ الحاجة والجوع. انتهى. وَقَالَ فِي "النهاية" 2/ 124: الدّافّة: القوم يسيرون سيرًا ليس بالشديد، يقال: هو يدفّون دفيفًا، والدافّة: قومٌ منْ الأعراب، يَرِدون العصر، يُريد أنهم قوم قَدِموا المدينة عند الأضحى، فنهاهم عن ادّخار لحوم الأضاحي، ليفرّقوها، ويتصدّقوا بها، فينتفع أولئك القادمون بها. انتهى.

وَقَالَ النوويّ: قَالَ أهل اللغة: الدّافّة -بتشديد الفاء-: قوم يسيرون جميعًا سيرًا خفيفًا، ودفّ يدِفّ بكسر الدال، ودافّةُ الأعراب منْ يَرِد منهم العصر، والمراد هنا مَن ورد منْ ضعفاء الأعراب للمواساة. انتهى. "شرح مسلم" 13/ 131.

(مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ) أي منْ الأعراب يسكونون البادية، وهي خلاف الحاضرة (حَضْرَةَ الأَضْحَى) قَالَ القرطبيّ: الرواية المعروفة بسكون الضاد، وهو منصوبٌ عَلَى الظرف:

ص: 35

أي زمن حضور الأضحى، ومشاهدته، وقيّده بعضهم: حَضَرَة بفتح الضاد، وفي "الصحاح": يقال: كلّمته بحَضْرَة فلان، وبمحضره: أي بمشهد منه. وحكى يعقوب: كلّمته بحَضَر فلان بالتحريك، منْ غير هاء، وكلّمته بحضرة فلان، حُضرته، وحِضرته. -أي بتثليث أوله- انتهى. "المفهم" 5/ 378.

وَقَالَ النوويّ فِي "شرح مسلم" 13/ 132: هي بفتح الحاء، وضمّها، وكسرها، والضاد ساكنة فيها كلِّها، وحكي فتحها، وهو ضعيفٌ، وإنما تُفتَح إذا حُذفت الهاء، فيقال: بحضرة فلان. انتهى.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُوا، وَادَّخِرُوا ثَلَاثًا) زاد فِي رواية مسلم: "ثم تصدّقوا بما بقي": أي كلوا بعضه، وادّخروا بعضه مدةَ ثلاث ليال، وما فضل عن ذلك، فتصدّقوا به عَلَى هؤلاء المحتاجين (فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ) أي فِي العام الذي بعده (قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَنْتَفِعُونَ منْ أَضَاحِيِّهِمْ) بتشديد الياء، جمع أضحيّة (يَجْمُلُونَ) بالجيم، وفتح أوله، وضمه، منْ جمل، كنصر، وضرب، وأجمل، يقال: جملت الدهن، أجمِله، بكسر الميم، وأجمُلُه بضمها جملاً، وأجملته إجمالاً: أي أذبته. قاله النوويّ. وَقَالَ القرطبيّ: يقال: جملت الشحم، واجتملته: إذا أذبته، وربّما قالوا: أجملت، وهو قليل. انتهى.

(مِنْهَا) أي الأضحية (الْوَدَكَ) بفتحتين: هو الشحم، ودسم اللحم: أي يُذيبون الشحم، ويستخرجون دهنه (وَيَتَّخِذُونَ مِنْهَا الأَسْقِيَةَ) جمع سِقاء، بالكسر، قَالَ فِي "القاموس": السقاء ككساء. جلد السَّخْلَة، إذا أجذع، يكون للماء، واللبن، جمعه أسقية، وأسقيات، وأساق. انتهى.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (وَمَا ذَاكَ؟) أي ما سبب قولكم هَذَا؟، مع ظهور أنه جائز (قَالَ) هكذا رواية المصنّف بالإفراد هنا، وفي "الكبرى"، ولفظ مسلم:"قالوا" بواو الجمع، وهو واضح، وما هنا أيضاً له وجه صحيح، وذلك أن الذي تولّى الجواب أحدهم، وإنما قيل فِي الأول: قالوا؛ لرضاهم بقوله. والله تعالى أعلم. وقوله (الَّذِي نَهَيْتَ) خبر لمحذوف: أي هو الذي نهيته، وقوله (مِنْ إِمْسَاكِ لُحُومِ الأضَاحِيِّ) بيان للموصول، والمعنى أن الذي دعانا إلى أن نسألك هو الذي نهيته فِي العام السابق، وذلك إمساك لحوم الأضاحي، وادّخارها (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (إِنَّمَا نَهيْتُ لِلدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ) أي لأجل الجماعة التي أتتكم منْ البادية، أردت أن تتصدّقوا عليهم، وهذا ظاهر فيما قدّمناه منْ أن المدار هو الحاجة، وليس هَذَا منْ باب النسخ. قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: وهذا نصّ منه صلى الله عليه وسلم عَلَى أن المنع كَانَ لعلّة، ولَمّا ارتفعت ارتفع المنع المتقدِّم؛ لارتفاع

ص: 36

موجِبه، لا لأنه منسوخٌ، وهذا يُبطل قول منْ قَالَ: إن ذلك المنع إنما ارتفع بالنسخ، لا يقال: فقد قَالَ صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن ادّخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فادّخروا"، وهذا رفعٌ لحكم الخطاب الأول بخطاب متأخّر عنه، وهذا هو حقيقة النسخ؛ لأنا نقول: هَذَا لعمر الله ظاهر هَذَا الْحَدِيث، مع أنه يحتمل أن يكون ارتفاعه بأمر آخر غير النسخ، فلو لم يرد لنا نصٌّ بأن المنع منْ الادّخار ارتفع لارتفاع علّته، لما عدَلنا عن ذلك الظاهر، وقلنا: هو نسخٌ، كما قلناه فِي زيارة القبور، وفي الانتباذ بالحنتم المذكورين معه فِي حديث بُريدة رضي الله عنه المتقدّم، لكن النصّ الذي فِي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها فِي التعليل بيّنَ أن ذلك الرفع ليس للنسخ، بل لعدم العلّة، فتعيّن ترك ذلك الظاهر، والأخذ بذلك الاحتمال لعضد النصّ له. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: الفرق بين رفع الحكم بالنسخ، ورفعه لارتفاع علّته أن المرفوع بالنسخ لا يُحكم به أبدًا، والمرفوع لارتفاع علّته يعود الحكم لعود العلّة، فلو قَدِمَ عَلَى أهل بلدة ناس محتاجون فِي زمان الأضحى، ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعةٌ، يسدّون بها فاقتهم إلا الضحايا، لتعيّن عليهم أن لا يدّخروها فوق ثلاث، كما هو فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى كلام القرطبيّ. "المفهم" 5/ 378 - 379.

(كُلُوا، وَادَّخِرُوا، وَتَصَدَّقُوا") قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: هَذَا تصريح بزوال النهي عن ادّخارها فوق ثلاث، وفيه الأمر بالصدقة منها، والأمر بالأكل، فأما الصدقة منها، إذا كانت أضحية تطوّع، فواجبة عَلَى الصحيح عند أصحابنا بما يقع عليه الاسم منها. ويستحبّ أن يكون بمعظمها، قالوا: وأدنى الكمال أن يأكل الثلث، ويتصدّق بالثلث، ويُهدي الثلث. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -37/ 4433 و4434 و4435 - وأخرجه (خ)"الأضاحي" 5570 (م)"الأضاحي" 3643 (د)"الضحايا" 2812 (ت)"الأضاحي" 1511 (ق)"الأضاحي" 2159 (أحمد)"باقي مسند الأنصار" 23728 و24441 و24526 و24692 و25013 (الموطأ)"الضحايا"1047. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

ص: 37

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز الادّخار منْ الأضاحي، فوق ثلاثة أيام. (ومنها): جواز النسخ فِي الأحكام الشرعيّة. (ومنها): ما قاله فِي "الفتح": فِي هذه الأحاديث منْ الفوائد، غير ما تقدم، نسخ الأثقل بالأخف؛ لأن النهي عن ادخار لحم الأضحية بعد ثلاث، مما يثقل عَلَى المضحين، والإذن فِي الادخار أخف منه، وفيه ردّ عَلَى منْ يقول: إن النسخ لا يكون إلا بالأثقل للأخف، وعكسه ابن العربي زعما أن الإذن فِي الادخار نسخ بالنهي. وتُعُقّب بأن الادخار كَانَ مباحا بالبراءة الأصلية، فالنهي عنه ليس نسخا، وعلى تقدير أن يكون نسخا، ففيه نسخ الكتاب بالسنة؛ لأن فِي الكتاب الإذن فِي أكلها، منْ غير تقييد؛ لقوله تعالى:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} . ويمكن أن يقال: إنه تخصيص، لا نسخ، وهو الأظهر. انتهى ما قاله فِي "الفتح".

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي استظهره الحافظ منْ كون هَذَا النهي ليس بنسخ، وإنما هو منْ باب التخصيص، هو الحقّ، كما سبق بيانه مستوفًى، فتبصّر، ولا تتحيّر. والله تعالى أعلم.

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى: وفي هَذَا الْحَدِيث أبواب منْ أصول الفقه، وهو أن الشرع يُراعي المصالح، ويحكم لأجلها، ويسكت عن التعليل، ولَمّا تصفّح العلماء ما وقع فِي الشريعة منْ هَذَا وجدوه كثيرًا، بحيث حصل لهم منه أصل كلّيّ، وهو أن الشارع مهما حكم، فإنما يحكم لمصلحة، ثم قد يجدون فِي كلام الشارع ما يدلّ عليها، وَقَدْ لا يجدون، فيسبُرُون أوصاف المحلّ الذي يحكم فيه الشرع حَتَّى يتبيّن لهم الوصف الذي يمكن أن يعتبره الشرع بالمناسبة، أو لصلاحيته لها، فيقولون: الشرع يحكم بالمصلحة، والمصلحة لا تعدو أوصاف المحلّ، وليس فِي أوصافه ما يصلح للاعتبار إلا هَذَا، فتعيّن. انتهى. "المفهم" 5/ 379. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4434 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى، عَنْ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ أَصَابَ النَّاسَ شِدَّةٌ، فَأَحَبَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يُطْعِمَ الْغَنِيُّ الْفَقِيرَ، ثُمَّ قَالَتْ: لَقَدْ رَأَيْتُ آلَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، يَأْكُلُونَ الْكُرَاعَ، بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ، قُلْتُ: مِمَّ ذَاكَ؟ فَضَحِكَتْ، فَقَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، مِنْ خُبْزٍ مَأْدُومٍ، ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ عز وجل.

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(يعقوب بن إبراهيم) الدَّوْرقيّ البغداديّ، ثقة حافظ [10] 21/ 22.

ص: 38

2 -

(عبد الرحمن) بن مهدي البصريّ الإِمام الحجة الثبت [9] 42/ 49.

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوري الكوفيّ الإِمام الحجة الثبت [7] 33/ 37.

4 -

(عبد الرحمن بن عابس) النخعيّ الكوفيّ، ثقة [4] 5/ 851.

5 -

(أبوه) عابس -بموحّدة، فمهملة- ابن ربيعة النخعيّ الكوفيّ، ثقة، مخضرمٌ [2] 147/ 2938.

[تنبيه]: قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: ويلتبس به عابس بن ربيعة الغطيفيّ، صحابيّ، ذكره ابن يونس، وَقَالَ: له صحبة، وشهد فتح مصر، ولم أجد لهم عنه رواية. انتهى. "الفتح" 10/ 693 "كتاب الأطعمة". والله تعالى أعلم.

6 -

(عائشة) رضي الله تعالى عنها المذكورة فِي الماضي. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فبغدادي، وابن مهدي، فبصري، وعائشة فمدنية. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ والابن عن أبيه. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ، عَنْ أَبِيهِ) عابس بن ربيعة النخعيّ رضي الله عنه، أنه (قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ) رضي الله تعالى عنها (فَقُلْتُ: أَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى، عَنْ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ؟) وفي رواية البخاريّ فِي "الأطعمة": قَالَ: قلت لعائشة: أنهى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن تؤكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث؟ قالت: ما فعله إلا فِي عامٍ، جاع النَّاس فيه" الْحَدِيث. قَالَ فِي "الفتح" 10/ 693: بيّنت عائشة رضي الله عنها فِي هَذَا الْحَدِيث أن النهي عن ادّخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث نُسخ، وأن سبب النهي كَانَ خاصًّا بذلك العام للعلّة التي ذكرتها. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدّم قريباً أن الأظهر أن هَذَا ليس منْ باب النسخ، وإنما هو منْ باب التخصيص بالعلّة، فزال بزوالها، فإذا عادت عاد الحكم. والله تعالى أعلم.

(قَالَتْ: نَعَمْ، أَصَابَ النَّاسَ شِدَّةٌ) بنصب "الناسَ" عَلَى أنه مفعول مقدّم، و"شدّة" بالرفع فاعل مؤخّر.

(فَأَحَبَّ) وفي رواية البخاريّ: "فأراد"(رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يُطْعِمَ) بضم أوله منْ

ص: 39

الإطعام (الْغَنيُّ) بالرفع عَلَى الفاعليّة (الْفَقِيرَ) بالنصب عَلَى المفعوليّة (ثُمَّ قَالَتْ) هكذا فِي بعض نسخ "المجتبى"، وهو الصواب، ووقع فِي معظم نسخه، و"الكبرى" بلفظ "قَالَ"، وهو خطأ فاحش؛ لأن قوله:"لقد رأيت الخ" منْ كلام عائشة قطعًا، فلا يناسبه معه لفظ "قَالَ"، وإنما المناسب "قالت"، فتنبّه.

(لَقَدْ رَأَيْتُ آلَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، يَأْكُلُونَ الْكُرَاعَ) بضم الكاف، وتخفيف الراء، قَالَ الفيّوميّ: الكراع وزان غُراب منْ الغنم والبقر بمنزلة الْوَظِيف منْ الفرس، وهو مُستدقّ الساعد، والكراع أنثى، والجمع أَكْرُع، مثلُ فلس وأفلُس، ثم تُجمع الأكرع عَلَى أكارع، قَالَ الأزهريّ: الأكارع للدابّة قوائمها، ويقال للسَّفِلَة منْ النَّاس: أكارع؛ تشبيهًا بأكارع الدوابّ؛ لأنها أسافل. انتهى.

ولفظ البخاريّ: "وإن كنّا لنرفع الكراع، فنأكله بعد خمس عشرة"، وفيه بيان جواز ادّخار اللحم، وأكل القديد.

(بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ) أي ليلة (قُلْتُ: مِمَّ ذَاكَ؟) أي لأيّ سبب ادّخاركم الكراع؟. (فَضَحِكَتْ) أي متعجّبة منْ قلة معيشتهم، ومستغربة سؤاله عن ذلك، مع أنه معروف، مشهور لدى النَّاس (فَقَالَتْ: مَا شَبعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، مِنْ خُبْزٍ مَأْدُوم) اسم مفعول، منْ أَدَمَه، يقال: أَدَمْتُ الخبزَ، منْ باب ضرب، وآدمته بالمدّ لغة فيه: إذا أصلحتَ إساغته بالإدام، والإدام بالكسر: ما يؤتَدم به، مائعًا كَانَ، أو جامدًا، وجمعه أُدُمٌ بضمّتين، ككتاب وكتُب، ويسكّن للتخفيف، فيُعامل معاملة المفرد، ويجمع عَلَى آدام، مثل قُفْل وأقفال. أفاده الفيّوميّ.

(ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ عز وجل") بفتح اللام، وكسر الحاء المهملة، منْ باب تعب، أىِ حَتَّى مات النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَلَقِيَ ربّه عز وجل، وأرادت عائشة رضي الله عنها بهذا قلّة اللحم عندهم، بحيث إنهم لم يكونوا يشبعون منْ خبز فيه إدام أيامًا متوالية، فضلاً عن كثر أكل اللحم.

والحديث متَّفقٌ عليه، أخرجه البخاريّ بتمامه، ومسلم جملة الشبع بنحوه، وَقَدْ سبق تمام البحث فيه فِي الْحَدِيث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4435 -

(أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -وَهُوَ ابْنُ زِيَادِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ، عَنْ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ؟ قَالَتْ: كُنَّا نَخْبَأُ الْكُرَاعَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَهْرًا، ثُمَّ يَأْكُلُهُ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "يوسف بن عيسى": هو الزهريّ، أبو يعقوب

ص: 40

المروزيّ، ثقة فاضل [10] 32/ 924. و"الفضل بن موسى": هو السِّينانيّ المروزيّ، ثقة ثبت، ربما أغرب، منْ كبار [9] 83/ 100. و"يزيد بن زياد بن أبي الجعد": هو الأشجعيّ الكوفىّ، صدوقٌ [7] 51/ 2532.

وقوله: "نخبأ" بفتح أوله، مهموزًا، يقال: خبأت الشيء، منْ باب نفع: إذا سترته، والمعنى: كنا ندّخر الكراع، ويحتمل أن يكون بضم أوله، وتشديد الموحّدة، منْ خبأت الشيء بالتشديد للتكثير.

والحديث أخرجه البخاريّ، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4436 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ إِمْسَاكِ الأُضْحِيَةِ، فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ قَالَ: "كُلُوا وَأَطْعِمُوا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه: فإنه منْ أفراده، وهو مروزيّ ثقة. و"عبد الله": هو ابن المبارك. و"ابن عون": هو عبد الله. والحديث تقدّم 36/ 4429 مطوّلاً، وتقدّم أنه وقع فيه القلب، وأن الصواب أنه منْ مسند قتادة بن النعمان رضي الله عنه، لا مسند أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌38 - (بَابُ ذَبَائِحِ الْيَهُودِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: المراد ذبائح أهل الكتاب، لا خصوص اليهود، وَقَدْ أجاد الإِمام البخاريّ رحمه الله تعالى حيث ترجم بأتمّ منْ ترجمة المصنّف رحمه الله تعالى، فَقَالَ:

"باب ذبائح أهل الكتاب، وشحومها، منْ أهل الحرب وغيرهم"، وقوله تعالى:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} الآية [المائدة: 5]، وَقَالَ الزهريّ: لا بأس بذبيحة نصارى العرب، وإن سمعته يسمي لغير الله، فلا تأكل، وإن لم تسمعه فقد أحله الله لك، وعَلِمَ كفرهم. ويُذكر عن عليّ نحوُهُ. وَقَالَ

ص: 41

الحسن، وإبراهيم: لا بأس بذبيحة الأقلف. وَقَالَ ابن عباس: طعامهم ذبائحهم". ثم أورد حديث عبد الله بن مغفّل رضي الله عنه المذكور فِي الباب. راجع صحيح البخاريّ ج: 5 ص: 2097.

وَقَالَ فِي "الفتح": ما حاصله: أشار بهذه الترجمة إلى جواز ذبائح أهل الكتاب، وشحومها، وهو قول الجمهور، وعن مالك، وأحمد تحريم ما حرم الله عَلَى أهل الكتاب، كالشحوم. وَقَالَ ابن القاسم: لأن الذي أباحه الله طعامهم، وليس الشحوم منْ طعامهم، ولا يقصدونها عند الذكاة. وتعقب بأن ابن عباس، فَسَّر طعامهم بذبائحهم، كما سيأتي آخر الباب، وإذا أُبيحت ذبائحهم لم يحتج إلى قصدهم أجزاء المذبوح، والتذكية لا تقع عَلَى بعض أجزاء المذبوح دون بعض، وان كانت التذكية شائعة فِي جميعها، دخل الشحم لا محالة، وأيضاً فإن الله سبحانه وتعالى، نَصّ بأنه حرم عليهم كل ذي ظفر، فكان يلزم عَلَى قول هَذَا القائل، أن اليهودي إذا ذبح ما له ظفر، لا يحل للمسلم أكله، وأهل الكتاب أيضاً يُحَرِّمون أكل الإبل، فيقع الالزام كذلك.

وقوله: وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} كذا لأبي ذر، وساق غيره إلى قوله:{حِلٌّ لَهُمْ} ، وبهذه الزيادة يتبين مراده، منْ الاستدلال عَلَى الحل؛ لأنه لم يخص ذميا منْ حربي، ولا خص لحما منْ شحم، وكونُ الشحوم محرمة عَلَى أهل الكتاب لا يضر؛ لأنها محرمة عليهم، لا علينا، وغايته بعد أن يتقرر أن ذبائحهم لنا حلال، أن الذي حرم عليهم منها، مسكوت فِي شرعنا عن تحريمه علينا، فيكون عَلَى أصل الإباحة.

وقوله: "وَقَالَ الزهريّ: لا بأس بذبيحة نصارى العرب، وان سمعته يُهلّ لغير الله فلا تأكل، وان لم تسمعه، فقد أحله الله لك، وعَلِم كفرهم"، وصله عبد الرزاق، عن معمر، قَالَ: سألت الزهريّ عن ذبائح نصارى العرب، فذكر نحوه، وزاد فِي آخره: قَالَ: وإهلاله أن يقول: باسم المسيح، وكذا قَالَ الشافعيّ: إن كَانَ لهم ذبحٌ يسمون عليه غير اسم الله، مثل اسم المسيح لم يحل، وان ذكر المسيح عَلَى معنى الصلاة عليه لم يحرم. وحكى البيهقي عن الْحَليمي بحثا أن أهل الكتاب، إنما يذبحون لله تعالى، وهم فِي أصل دينهم لا يقصدون بعبادتهم، إلا الله، فإذا كَانَ قصدهم فِي الأصل ذلك، اعتبرت ذبيحتهم، ولم يضر قول منْ قَالَ منهم مثلا: باسم المسيح؛ لأنه لا يريد بذلك إلا الله، وإن كَانَ قد كفر بذلك الاعتقاد.

وقوله: وَقَالَ الحسن، وإبراهيم: لا بأس بذبيحة الأقلف -بالقاف، ثم الفاء- هو

ص: 42

الذي لم يختن، والقلفة -بالقاف- ويقال: بالغين المعجمة- الغرلة، وهي الجلدة التي تستر الحشفة. وأثر الحسن أخرجه عبد الرزاق، عن معمر، قَالَ: كَانَ الحسن يُرخّص فِي الرجل، إذا أسلم بعدما يكبر، فخاف عَلَى نفسه إن اختتن، أن لا يختتن، وكان لا يرى بأكل ذبيحته بأسا. وأما أثر إبراهيم، فأخرجه أبو بكر الخلال، منْ طريق سعيد بن أبي عروبة، عن مغيرة، عن إبراهيم النخعي، قَالَ: لا بأس بذبيحة الأقلف. وَقَدْ ورد ما يخالفه، فأخرج ابن المنذر عن ابن عباس: الأقلف لا تؤكل ذبيحته، ولا تقبل صلاته ولا شهادته. وَقَالَ ابن المنذر: قَالَ جمهور أهل العلم: تجوز ذبيحته؛ لأن الله سبحانه أباح ذبائح أهل الكتاب، ومنهم منْ لا يختتن.

وقوله: وَقَالَ ابن عباس: طعامهم ذبائحهم، هو موصول عند البيهقي، منْ طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، فِي قوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} قَالَ: ذبائحهم، وقائل هَذَا يلزمه أن يجيز ذبيحة الأقلف؛ لأن كثيرا منْ أهل الكتاب، لا يختتنون، وَقَدْ خاطب النبيّ صلى الله عليه وسلم هرقل بقومه بقوله:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية [آل عمران: 64]، وهرقل وقومه ممن لا يختتن، وَقَدْ سُمُّوا أهل الكتاب. انتهى "فتح" 11/ 66 - 67. والله تعالى أعلم بالصواب.

4437 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُغِيرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ، قَالَ: دُلِّيَ جِرَابٌ مِنْ شَحْمٍ، يَوْمَ خَيْبَرَ، فَالْتَزَمْتُهُ، قُلْتُ: لَا أُعْطِي أَحَدًا مِنْهُ شَيْئًا، فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَتَبَسَّمُ).

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(يعقوب بن إبراهيم) الدورقي المذكور فِي الباب الماضي.

2 -

(يحيى بن سعيد) القطّان المذكور فِي الباب الماضي أيضاً.

3 -

(سليمان بن المغيرة) القيسيّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقة [7] 54/ 616.

4 -

(حُميد بن هلال) العدويّ، أبو نصر البصريّ، ثقة عالم [3] 4/ 4.

5 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ) بصيغة اسم المفعول المضعّف، بوزن محمد الصحابيّ المشهور، بايع تحت الشجرة، وكان ممن نزل البصرة، مات رضي الله تعالى عنه سنة (57) وقيل: بعد ذلك، تقدّمت ترجمته فِي 32/ 36. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فبغدادي. (ومنها): أن

ص: 43

شيخه أحد مشايخ الأئمة السنّة بلا واسطة، كما سبق قريباً. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

عن حُميد بن هلال رحمه الله تعالى أنه (قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُغَفَّلٍ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: دُلِّيَ) بالبناء للمفعول منْ التدلية: أي نزّلوه منْ القلعة إلى خارجها (جِرَابٌ) بكسر الجيم، وتخفيف الراء (مِنْ شَحْمٍ) أي جراب مملوء بشحم (يَوْمَ خَيْبَرَ) أي يوم فتح خيبر (فَالْتَزَمْتُهُ) أي أخذته (قُلْتُ: لَا أُعْطِي أَحَدًا مِنْهُ شَيْئًا) وفي رواية البخاريّ: "كنّا محاصرين قصر خيبر، فرمى إنسان بجراب فيه شحم، فنزوت لآخذه، فالتفتّ، فإذا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاستحييت منه"(فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)"إذا" هي الفُجائيّة، أي ففجأني وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي ذلك المكان (يَتَبَسَّمُ) جملة فِي محلّ نصب عَلَى الحال، أي حال كونه متبسّمًا؛ تعجّبًا منْ حرصه عَلَى ذلك الشحم. قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: وهذا تقرير منه صلى الله عليه وسلم عَلَى تناوله، إذ عادة النَّاس فِي تلك الأيام أكل الشحم، فلو كَانَ حرامًا لوجب أن يبيّن أنه لا يجوز أكله، ويلزم منه حلّه، وهو يستلزم حلّ ذبائحهم، فإن الشحم شحم ذبائحهم. انتهى.

وزاد أبو داود الطيالسيّ فِي روايته فِي آخره: "فَقَالَ: هو لك"، وكأنه صلى الله عليه وسلم عرف شدّة حاجته إليه، فسوّغ له الاستئثار به. قاله فِي "الفتح" 6/ 389 "كتاب فرض الخمس".

وَقَالَ أيضًا: وَقَدْ أخرج ابن وهب بسند معضل أن صاحب المغانم كعب بن عمرو بن زيد الأنصاريّ، أخذ منه الجراب، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم خلّ بينه وبين جرابه"، وبهذا يتبيّن معنى قوله: "فاستحييت منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ولعله استحيا منْ فعله ذلك، ومن قوله معاً. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبد الله بن مُغفّل رضي الله تعالى عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -38/ 4437 - وفي "الكبرى" 39/ 4524. وأخرجه (خ) "فرض الخمس" 3153 و"المغازي" 4213 و"الذبائح" 5508 (م) "الجهاد" 3320 و3321 (د) "الجهاد" 2702 (أحمد) "مسند الشاميين" 16349 و20044 (الدارمي) "السير" 2500. والله تعالى أعلم.

ص: 44

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم أكل ذبائح اليهود، وهو الجواز. (ومنها): جواز أكل الشحوم التي توجد عند اليهود، وكانت محرّمة عَلَى اليهود، وكرهها مالك، وعن أحمد تحريمها، وسيأتي تحقيق الخلاف فِي المسألة التالية، إن شاء الله تعالى.

(ومنها): أن فيه حجةً عَلَى منْ منع ما حرم عليهم، كالشحوم؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أقرّ ابن مغفل عَلَى الانتفاع بالجراب المذكور. (ومنها): أن فيه جواز أكل الشحم مما ذبحه أهل الكتاب لو كانوا أهل حرب؛ لأن الله تعالى لم يخصّ حين أحلّ ذبائحهم ذميًّا منْ حربيّ، ولا لحمًا منْ شحم. (ومنها): بيان ما كَانَ عليه الصحابة رضي الله عنهم منْ توقير النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن معاناة التنزّه عن خوارم المروءة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة) فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم ذبائح أهل الكتاب:

قَالَ الإِمام ابن قُدامة رحمه الله تعالى فِي "المغني" 13/ 293 - 2945 - : أجمع أهل العلم عَلَى إباحة ذبائح أهل الكتاب؛ لقول الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} الآية [المائدة: 5] يعني ذبائحهم. قَالَ البخاريّ: قَالَ ابن عباس: طعامهم ذبائحهم، وكذلك قَالَ مجاهد، وقتادة، ورُوي معناه عن ابن مسعود، وأكثر أهل العلم، يرون إباحة صيدهم أيضاً، قَالَ ذلك عطاء، والليث، والشافعي، وأصحاب الرأي، ولا نعلم أحدا حَرَّم صيد أهل الكتاب، إلا مالكا، أباح ذبائحهم، وحرّم صيدهم، ولا يصح؛ لأن صيدهم منْ طعامهم، فيدخل فِي عموم الآية؛ ولأن منْ حلت ذبيحته حل صيده، كالمسلم.

قَالَ: ولا فرق بين العدل والفاسق، منْ المسلمين، وأهل الكتاب، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لا تؤكل ذبيحة الأقلف، وعن أحمد مثله، والصحيح إباحته، فإنه مسلم، فأشبه سائر المسلمين، وإذا أبيحت ذبيحة القاذف، والزاني، وشارب الخمر، مع تحقُّق فسقه، وذبيحة النصراني، وهو كافر أقلف، فالمسلم أولى.

قَالَ: ولا فرق بين الحربي والذمي، فِي إباحة ذبيحة الكتابي منهم، وتحريم ذبيحة منْ سواه، وسئل أحمد عن ذبائح نصارى أهل الحرب، فَقَالَ: لا بأس بها، حديث عبد الله ابن مغفل فِي الشحم

(1)

قَالَ إسحاق أجاد. وَقَالَ ابن المنذر: أجمع عَلَى هَذَا كل منْ نَحفَظ عنه منْ أهل العلم، منهم مجاهد، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق،

(1)

هكذا عبارة "المغني"، ولعل فيها سقطًا، والأصل "لْحَدِيث عبد الله بن مغفّل الخ"، أو نحو ذلك ذلك، فليُحرّر.

ص: 45

وأبو ثور، وأصحاب الرأي، ولا فرق بين الكتابي العربي، وغيره، إلا أن فِي نصارى العرب اختلافا، ذكرناه فِي باب الجزية. وسُئل مكحول عن ذبائح العرب؟ فَقَالَ: أما بَهْرَا، وتَنُوخ، وسُلَيح، فلا بأس، وأما بنو تَغْلِب، فلا خير فِي ذبائحهم، والصحيح إباحة ذبائح الجميع؛ لعموم الآية فيهم.

قَالَ: فإن كَانَ أحد أبوي الكتابي، ممن لا تحل ذبيحته، والآخر ممن تحل ذبيحته، فَقَالَ أصحابنا -يعني الحنبليّة-: لا يحل صيده، ولا ذبيحته، وبه قَالَ الشافعيّ، إذا كَانَ الأب غير كتابي، وإن كَانَ الأب كتابيًا، ففيه قولان:[أحدهما]: تباح، وهو قول مالك، وأبو ثور. [والثاني]: لا تباح؛ لأنه وُجد ما يقتضي التحريم والإباحة، فغُلِّب ما يقتضي التحريم، كما لو جرحه مسلم ومجوسي، وبيانُ وجود ما يقتضي التحريم أنَّ كونه ابن مجوسي، أو وثني، يقتضي تحريم ذبيحته.

وَقَالَ أبو حنيفة: تباح ذبيحته، بكل حال؛ لعموم النص، ولأنه كتابي يُقَرُّ عَلَى دينه، فتحل ذبيحته، كما لو كَانَ ابن كتابيين، وأما إن كَانَ ابن وثنيين، أو مجوسيين، فمقتضى مذهب الأئمة الثلاثة تحريمه، ومقتضى مذهب أبي حنيفة حله؛ لأن الاعتبار بدين الذابح، لا بدين أبيه، بدليل أن الاعتبار فِي قبول الجزية بذلك، ولعموم النص والقياس.

قَالَ: فأما ما ذبحوه لكنائسهم وأعيادهم، فننظر فيه، فإن ذبحه لهم مسلم، فهو مباح، نُصَّ عليه. وَقَالَ أحمد، وسفيان الثوري، فِي المجوسي يذبح لإلهه، ويدفع الشاة إلى المسلم يذبحها، فيسمي: يجوز الأكل منها، وَقَالَ إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عما يُقَرَّب لآلهتهم، يذبحه رجل مسلم؟ قَالَ: لا بأس به، وإن ذبحها الكتابي، وسمى الله وحده، حَلَّت أيضاً؛ لأن شرط الحل وُجد، وإن عُلم أنه ذكر اسم غير الله عليها، أو ترك التسمية عمدا لم تحل. قَالَ حَنْبَل: سمعت أبا عبد الله قَالَ: لا يؤكل يعني ما ذُبح لأعيادهم وكنائسهم؛ لأنه أهل لغير الله به. وَقَالَ فِي موضع: يَدَعُون التسمية عَلَى عمد، إنما يذبحون للمسيح، فأما ما سوى ذلك، فرُويت عن أحمد الكراهة فيما ذُبح لكنائسهم، وأعيادهم مطلقا، وهو قوله ميمون بن مهران؛ لأنه ذُبح لغير الله، وروي عن أحمد إباحته. وسُئل عنه العرباض بن سارية؟ فَقَالَ: كلوا، وأطعموني. وروي مثل ذلك عن أبي أمامة الباهلي، وأبي مسلم الخولاني، وأكله أبو الدرداء، وجبير بن نفير، ورخص فيه عمرو بن الأسود، ومكحول، وضمرة بن حبيب؛ لقول الله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} ، وهذا منْ طعامهم، قَالَ القاضي: ما ذبحه الكتابي لعيده، أو نجم، أو صنم، أو نبي، فسماه عَلَى ذبيحته حَرُم؛ لقوله تعالى:

ص: 46

{وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} الآية [المائدة: 3]، وإن سمى الله وحده حلّ؛ لقول الله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} الآية [الأنعام: 118]، لكنه يكره؛ لقصده بقلبه الذبح لغير الله. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله تعالى. "المغني" 13/ 293 - 295.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بحل ذبائح أهل الكتاب عَلَى الإطلاق هو الحقّ؛ لإطلاق النصّ بذلك، دون تفصيل؛ فإن الله تعالى فِي الوقت الذي أخبرنا بأن أهل الكتاب بدَّلوا، وغَيَّرُوا، فَقَالَ:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} الآية [التوبة: 30]، وَقَالَ:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} الآية [المائدة: 73]، فقد أحلّ ذبائحهم، فَقَالَ:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} الآية، فدلّ عَلَى أن الحلّ عَلَى إطلاقه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌39 - (ذَبِيحَةُ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "يُعْرَف" بالبناء للمفعول: أي ذبح الشخص الذي لم يُعرف أذبيحته حلالٌ لذكره الله تعالى عليها، أم لا؛ لعدمه؟. وَقَدْ ترجم الإِمام رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" بقوله:"باب ذبيحة الأعراب ونحوهم"، وهي بمعنى ترجمة المصنّف رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب.

4438 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَعْرَابِ، كَانُوا يَأْتُونَا بِلَحْمٍ، وَلَا نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، أَمْ لَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عز وجل عَلَيْهِ، وَكُلُوا").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) الحنظلي المروزي المعروف بابن راهويه ثقة ثبت حجة [10] 2/ 2.

2 -

(النضر بن شُميل) المازني، أبو الحسن النحوي البصريّ، نزيل مرو، ثقة ثبت،

ص: 47

منْ كبار [9] 41/ 45.

3 -

(هشام بن عروة) بن الزبير الأسدي، أبو المنذر المدنيّ، ثقة فقيه ربما دلس [5] 49/ 61.

4 -

(أبوه) عروة بن الزبير بن العوام الأسدي، أبو عبد الله المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 40/ 44.

5 -

(عائشة) أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها 5/ 5. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، والنضر، فمروزيان. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه، عن خالته. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَائِشَةَ) هكذا فِي رواية النضر بن شُميل، عند المصنّف موصولاً بذكر عائشة رضي الله تعالى عنها، ووافقه عليه أبو خالد الأحمر، عند البخاريّ، فِي "التوحيد"، ومحمد بن عبد الرحمن الطُّفاويّ، عنده فِي "البيوع"، وأسامة بن حفص، عنده أيضاً فِي "الذبائح"، والدراورديّ عند الإسماعيليّ، وآخرون، فكلهم رووه عن هشام بن عروة، عن أبيه، عنها، وخالفهم مالك، فرواه عن هشام، عن أبيه، مرسلاً، ليس فيه ذكر عائشة رضي الله عنها، قَالَ الدارقطنيّ فِي "العلل": رواه عبد الرحيم بن سليمان، ومحاضر بن المورّع، والنضر بن شُميل، وآخرون، عن هشام موصولاً، ورواه مالك، مرسلاً عن هشام، ووافق مالكًا عَلَى إرساله الحمّادان، وابن عُيينة، والقطّان، عن هشام، وهو أشبه بالصواب، وذكر أيضًا أن يحيى بن أبي طالب رواه عن عبد الوهّاب بن عطاء، عن مالك موصولاً.

قَالَ الحافظ: رواية عبد الرحيم عند ابن ماجه، ورواية النضر عند النسائيّ -يعني رواية الباب- ورواية محاضر عند أبي داود، وَقَدْ أخرجه البيهقي، منْ رواية جعفر بن عون، عن هشام مرسلاً. ويستفاد منْ صنيع البخاريّ، أن الْحَدِيث إذا اختُلِفَ فِي وصله وإرساله، حُكِم للواصل بشرطين: أحدهما: أن يزيد عدد منْ وصله عَلَى منْ أرسله.

والآخر أن يَحتَفّ بقرينة تُقَوِّي الرواية الموصولة؛ لأن عروة معروف بالرواية عن عائشة، مشهور بالأخذ عنها، ففي ذلك إشعار بحفظ منْ وصله، عن هشام، دون منْ أرسله، ويؤخذ منْ صنيعه أيضاً أنه وإن اشترط فِي الصحيح، أن يكون راويه منْ أهل الضبط والإتقان، أنه إن كَانَ فِي الراوي قصور عن ذلك، ووافقه عَلَى رواية ذلك الخبر، منْ هو مثله، انجبر ذلك القصور بذلك، وصح الْحَدِيث عَلَى شرطه. انتهى. "الفتح"

ص: 48

11/ 63 - 64.

(أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَعْرَابِ) وفي رواية مالك: "منْ البادية"، وفي رواية البخاريّ:"أن قومًا قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ قومًا يأتوننا بلحم"(كَانُوا يَأْتُونَا بِلَحْمٍ) وفي رواية أبي خالد الأحمر عند البخاريّ: "يأتوننا بلحمان"(وَلَا نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمِ اللهِ عَلَيْهِ، أَمْ لَا؟) وفي رواية أبي داود: "أم لم يذكروا، أفنأكل منها؟ "(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اذكُرُوا اسْمَ اللهِ عز وجل عَلَيْهِ، وَكُلُوا") وفي رواية البخاريّ: "سمّوا عليه أنتم، وكلوا". وزاد فِي رواية البخاريّ: "قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر"، وفي رواية أبي داود:"بجاهليّة"، وزاد مالك فِي آخره:"وذلك فِي أول الإِسلام".

قَالَ فِي "الفتح" 11/ 64: وَقَدْ تعلق بهذه الزيادة قوم، فزعموا أن هَذَا الجواب، كَانَ قبل نزول قوله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} الآية [الأنعام: 121]. قَالَ ابن عبد البرّ: وهو تعلق ضعيف، وفي الْحَدِيث نفسِهِ ما يرُدُّه؛ لأنه أمرهم فيه بالتسمية عند الأكل، فدَلّ عَلَى أن الآية كانت نزلت بالأمر بالتسمية عند الأكل، وأيضاً فقد اتفقوا عَلَى أن "الأنعام" مكية، وأن هذه القصة جرت بالمدينة، وأن الأعراب المشار إليهم فِي الْحَدِيث، هم بادية أهل المدينة.

وزاد ابن عيينة فِي روايته: "واجتَهِدُوا أيمانهم، وكلوا": أي حَلِّفوهم عَلَى أنهم سَمُّوا حين ذبحوا، وهذه الزيادة غريبة فِي هَذَا الْحَدِيث، وابن عيينة ثقة، لكن روايته هذه مرسلة، نعم أخرج الطبراني، منْ حديث أبي سعيد نحوه، لكن قَالَ:"اجتَهِدوا أيمانهم أنهم ذبحوها"، ورجاله ثقات، وللطحاوي فِي "المشكل" سأل ناس منْ الصحابة، رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أعاريب يأتوننا بلحمان، وجُبن وسَمْن، ما ندري ما كُنْهُ إسلامهم، قَالَ:"انظروا ما حَرَّم الله عليكم، فأمسكوا عنه، وما سكت عنه، فقد عفا لكم عنه، وما كَانَ ربك نسيا، اذكروا اسم الله عليه". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هَذَا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -39/ 4438 - وفي "الكبرى" 40/ 4525. وأخرجه (خ) "البيوع" 2057 و"الذبائح" 5507 و"التوحيد" 7398 (د) "الضحايا" 2829 (ق) "الذبائح" 3174 (المِوطأ) "الذبائح" 1054 (الدارمي) "الأضاحي" 1976. والله تعالى أعلم.

ص: 49

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم ذبيحة منْ لم يُعرف، هل سمّى الله تعالى عليها، أم لا؟، وهو الحلّ؛ حملاً لحال المسلم عَلَى الصلاح. (ومنها): ما كَانَ عليه الصحابة رضي الله عنهم منْ الورع، حيث إنهم لم يكتفوا بظاهر الحال، بل تورّعوا عن أكل ما أتى به منْ لم يُعرف حاله، حَتَّى سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فبيّن لهم أنه حلال.

(ومنها): ما قاله المهلب رحمه الله تعالى: هَذَا الْحَدِيث أصل فِي أن التسمية على الذبيحة لا تجب؛ إذ لو كانت واجبة، لاشترطت عَلَى كل حال، وَقَدْ أجمعوا عَلَى أن التسمية عَلَى الأكل ليست فرضا، فلما نابت عن التسمية عَلَى الذبح، دَلّ عَلَى أنها سنة؛ لأن السنة لا تنوب عن الفرض

(1)

، ودل هَذَا عَلَى أن الأمر فِي حديث عدي، وأبي ثعلبة محمول عَلَى التنزيه، منْ أجل إنهما كانا يصيدان عَلَى مذهب الجاهلية، فعلّمهما النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر الصيد والذبح، فرضه ومندوبه؛ لئلا يواقعا شبهة منْ ذلك، وليأخذا بأكمل الأمور فيما يستقبلان، وأما الذين سألوا عن هذه الذبائح، فإنهم سألوا عن أمر قد وقع، ويقع لغيرهم، ليس فيه قدرة عَلَى الأخذ بالأكمل، فعرّفهم بأصل الحل فيه. وَقَالَ ابن التين: يحتمل أن يراد بالتسمية هنا عند الأكل، وبذلك جزم النوويّ، قَالَ ابن التين: وأما التسمية عَلَى ذبح، تولاه غيرهم، منْ غير علمهم، فلا تكليف عليهم فيه، وإنما يُحمل عَلَى غير الصحة، إذا تبين خلافها، ويحتمل أن يريد أن تسميتكم الآن، تستبيحون بها أكل ما لم تعلموا، أذُكر اسم الله عليه أم لا؟، إذا كَانَ الذابح، ممن تصح ذبيحته إذا سَمَّي.

(ومنها): أنه يستفاد منه أن كل ما يوجد فِي أسواق المسلمين، محمول عَلَى الصحة، وكذا ما ذبحه أعراب المسلمين؛ لأن الغالب أنهم عرفوا التسمية، وبهذا الأخير جزم ابن عبد البرّ، فَقَالَ: فيه أن ما ذبحه المسلم يؤكل، ويُحمَل عَلَى أنه سَمَّى؛ لأن المسلم لا يُظَن به فِي كل شيء إلا الخير، حَتَّى يتبين خلاف ذلك، وعَكَسَ هَذَا الخطابيّ، فَقَالَ: فيه دليل عَلَى أن التسمية غير شرط عَلَى الذبيحة؛ لأنها لو كانت شرطا، لم تُستَبَح الذبيحة بالأمر المشكوك فيه، كما لو عَرَض الشك فِي نفس الذبح، فلم يُعلَم، هل وقعت الذكاة المعتبرة، أو لا، وهذا هو المتبادر منْ سياق الْحَدِيث، حيث وقع الجواب فيه:"فسموا أنتم، وكلوا"، كأنه قيل لهم: لا تهتموا بذلك، بل الذي يُهمكم أنتم أن تذكروا اسم الله، وتأكلوا، وهذا منْ أسلوب الحكيم، كما نَبّه عليه الطيبي، ومما يدل عَلَى عدم الاشتراط، قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ

(1)

كلام المهلب هَذَا فيه نظر لا يخفى، وَقَدْ تقدم أن الراجح وجوب التسمية عَلَى الذبيحة؛ لوضوح أدلته، فلا تغفل. والله تعالى أعلم.

ص: 50

لَكُمْ}، فأباح الأكل منْ ذبائحهم، مع وجود الشك فِي أنهم سَمُّوا أم لا. قاله فِي "الفتح" 11/ 64 - 65.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدّم فِي أوائل "كتاب الصيد" أن القول بوجوب التسمية عَلَى الذبيحة هو الحقّ، فلا تغفل. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قَالَ الغزالي فِي "الإحياء" فِي مراتب الشبهات: المرتبة الأولى ما يتأكد الاستحباب فِي التورع عنه، وهو ما يَقْوَى فيه دليل المخالف، فمنه التورع عن أكل متروك التسمية، فإن الآية ظاهرة فِي الإيجاب، والأخبار متواترة بالأمر بها، ولكن لَمّا صح قوله صلى الله عليه وسلم:"المؤمن يَذبح عَلَى اسم الله، سَمَّي، أو لم يسم"، احتمل أن يكون عاما، موجبا لصرف الآية، والأخبار عن ظاهر الأمر، واحتمل أن يُخصص بالناسي، ويبقى مَن عداه على الظاهر، وهذا الاحتمال الثاني أولي. والله أعلم.

قَالَ الحافظ: الْحَدِيث الذي اعتمد عليه، وحكم بصحته بالغ النوويّ فِي إنكاره، فَقَالَ: هو مُجمَع عَلَى ضعفه، قَالَ: وَقَدْ أخرجه البيهقي، منْ حديث أبي هريرة، وَقَالَ منكر، لا يُحتَجّ به، وأخرج أبو داود فِي "المراسيل"، عن الصلت، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"ذبيحة المسلم حلال، ذَكَر اسم الله، أو لم يذكر".

قَالَ الحافظ: الصلت، يقال له: السدوسي، ذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وهو مرسل جَيّد، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه، فيه مروان بن سالم، وهو متروك، ولكن ثبت ذلك عن ابن عباس، واختُلف فِي رفعه ووقفه، فإذا انضم إلى المرسل المذكور قَوِي، أما كونه يبلغ درجة الصحة فلا. انتهى. "الفتح" 11/ 64 - 65. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي حكم اللحوم المستوردة منْ بلدان غير الإِسلاميّة:

قَالَ الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله تعالى: اللحوم التي تباع فِي أسواق دول غير إسلامية، إن عُلم أنها منْ ذبائح أهل الكتاب، فهي حلّ للمسلمين، إذا لم يُعلم أنها ذُبحت عَلَى غير الوجه الشرعيّ، إذا الأصل حلّها بالنصّ القرآنيّ، فلا يُعدل عن ذلك إلا بأمر محقّق، يقتضي تحريمها. وأما إن كانت اللحوم منْ ذبائح بقيّة الكفّار، فهي حرام عَلَى المسلمين، ولا يجوز لهم أكلها بالنصّ، والإجماع، ولا تكفي التسمية عليها عند أكلها. انتهى.

وَقَالَ الشيخ عبد الله بن حُميد رحمه الله تعالى: وأما اللحوم المستوردة، فما وردت منْ بلاد جرت عادتهم، أو أكثرهم يذبحون بالخنق، أو بالصعق الكهربائيّ، ونحو ذلك، فلا شكّ فِي حرمته. وأما إذا جُهل الأمر، هل يذبحون بالطريقة الشرعيّة، أم

ص: 51

بغيرها؟ فلا شكّ فِي حرمتها، تغليبًا لجانب الحظر، كما قرّره أهل العلم، منهم النوويّ، وشيخ الإِسلام، وابن القيّم، وابن رَجَب، وابن حجر، وغيرهم. انتهى

(1)

.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: خلاصة القول فِي مسألة اللحوم المستورة منْ البلاد غير الإسلاميّة أن ما اتّضح كونه منْ ذبائح المسلمين، أو منْ ذبائح اليهود، أو النصارى، فهو حلالٌ، وما لم يتّضح فهو حرام؛ لأنه إما أن يكون منْ ذبائح منْ لا تحلّ ذبيحته، كالوثنيّ، ومنكر الأديان السماوية، أو نحوهم، فواضح التحريم، أو يكون مشكوكًا فيه، وحيث وقع الشكّ حرم؛ لما تقدّم 1/ 4265 - منْ قوله صلى الله عليه وسلم لعديّ بن حاتم رضي الله عنه:"وإن خالط كلبك كلابًا، فقتلن، فلم يأكلن، فلا تأكل منه شيئاً، فإنك لا تدري أيها قتل"، فقد نهاه للشكّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌40 - (تَأوِيلُ قَوْلِ اللهِ عز وجل: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}

الآية [الأنعام: 121])

4439 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ أَبِي وَكِيعٍ -وَهُوَ هَارُونُ بْنُ عَنْتَرَةَ- عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ عز وجل: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} قَالَ: خَاصَمَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَقَالُوا: مَا ذَبَحَ اللَّهُ فَلَا تَأْكُلُوهُ، وَمَا ذَبَحْتُمْ أَنْتُمْ أَكَلْتُمُوهُ).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلّاس الصيرفي البصريّ، ثقة حافظ [10] 4/ 4.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطّان البصريّ الإِمام الثبت الحجة [9] 4/ 4.

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوريّ الكوفيّ الإِمام الحجة الثبت [7] 31/ 35.

4 -

(هارون بن عنترة) الشيبانيّ، أبو عبد الرحمن، أو أبو عمرو بن أبي وكيع

(1)

راجع ما كتبه الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام فِي "توضيح الأحكام منْ بلوغ المرام" 6/ 41.

ص: 52

الكوفيّ، لا بأس به [6] 18/ 799.

5 -

(أبوه) عنترة -بفتح العين المهملة، وسكون النون، وفتح التاء المثنّاة، والراء- ابن عبد الرحمن الكوفيّ، ثقة [2]، ووهم منْ زعم أن له صحبة.

روى عن عمر، وعليّ، وأبي الدرداء، وابن عبّاس، وزاذان أبي عمر. وعنه ابنه هارون، وعبد الله بن عمرو بن مرّة الْجَمَليّ، وأبو سنان الشيبانيّ. ذكر ابن أبي حاتم، عن أبي زرعة: أنه كوفيّ ثقة. وذكره مسلم فِي الطبقة الأولى منْ الكوفيين. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". تفرّد به المصنّف بحديث الباب فقط. والله تعالى أعلم.

6 -

(ابن عبّاس) البحر الحبر رضي الله تعالى عنهما 27/ 31. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير هارون، فتفرد به المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه فِي "التفسير"، وغير أبيه فمن أفراد المصنّف. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، ويحيى، فبصريان، والصحابي، فمدني بصري مكي طائفي. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وفيه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (1696) حديثاً. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما (فِي قَوْلِهِ عز وجل: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}، قَالَ: خَاصَمَهُمُ الْمُشْرِكُونَ) أي خاصم المؤمنين المشركون (فَقَالُوا) فِي معرض الاستدلال عَلَى بطلان دين المسلمين فِي زعمهم (مَا) شرطيّة، ولذا جُزم جوابها (ذَبَحَ اللهُ) أي أماته، والمراد به الحيوان الذي مات منْ غير ذبح (فَلَا تَأْكُلُوهُ) جواب "ما"، مجزوم بحذف النون؛ لأنه منْ الأفعال الخمسة (وَمَا ذَبَحْتُمْ أَنْتُمْ أَكَلْتُمُوهُ) يريدون بذلك إلقاء الشبهة عليهم بأن تحليل ما ذبحوه، وتحريم ما ذبحه الله بعيد عن عقولهم المريضة بالهوى والعناد، فردّ الله عز وجل ذلك عليهم بقوله:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} الآية.

وحاصل الجواب أن الذبيحة إنما حلّت لأنه قد ذُكر اسم الله تعالى عليها، والميتة لم يذكر عليها اسم الله تعالى، فحرمت لذلك، ومقتضى التفسير أن متروك التسمية لا يحلّ، ولو ناسيًا، وَقَدْ تقدّم أن هَذَا هو الأرجح دليلاً، فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 53

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -40/ 4439 - وفي "الكبرى" 41/ 4526. وأخرجه (د) "الضحايا" 2817 و2818 و2819. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): قَالَ الإِمام ابن جرير رحمه الله تعالى: وَقَدْ اختلف أهل العلم فِي هذه الآية، هل نسخ منْ حكمها شيء، أم لا؟ فَقَالَ بعضهم: لم ينسخ منها شيء، وهي محكمة فيما عُنيت به، وعلى هَذَا قول مجاهد، وعامة أهل العلم، وروي عن الحسن البصريّ، وعكرمة، ما حدثنا به ابن حميد، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد، عن عكرمة، والحسن البصريّ، قالا: قَالَ الله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} ، وَقَالَ:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} ، فنسخ، واستثنى منْ ذلك، فَقَالَ:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} ، وَقَالَ ابن أبي حاتم: قرىء عَلَى العبّاس بن الوليد بن مَزْيَد، حدثنا محمد بن شعيب، أخبرني النعمان -يعني ابن المنذر- عن مكحول، قَالَ: أنزل الله فِي القرآن: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ، ثم نسخها، ورَحِمَ المسلمين، نقال:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} ، فنسخها بذلك، وأحل طعام أهل الكتاب. ثم قَالَ ابن جرير: والصواب أنه لا تعارض بين حل طعام أهل الكتاب. وبين تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه. قَالَ ابن كثير: وهذا الذي قاله صحيح، ومن أطلق منْ السلف النسخ هاهنا، فإنما أراد التخصيص، انتهى "تفسير ابن كثير" 2/ 174 - 176. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 54

‌41 - (النَّهْيُ عَنِ الْمُجَثَّمَةِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الْمُجَثَّمَةُ" بضمّ الميم، منْ اسم مفعول، منْ التجثيم، أو الإجثام: هي الحيوانات التي تُنصب، وتُرمَى لتُقتل، أي تُحبس، وتُجعل هدفًا، وتُرمى بالنبل. يقال: جثم الإنسان، والنعام، والطائر، ونحوها يجثِمُ، ويجثُم، منْ بابي ضرب، ونصر، جَثْمًا، وجُثُومًا، فهو جاثمٌ، وجَثُومُ: لزِم مكانه، فلم يبرح، أو وقع عَلَى صدره، أو تلبّد بالأرض. أفاده فِي "القاموس".

وَقَالَ فِي "الفتح" 11/ 74: و"المُجَثَّمَةُ": هي التي تُربط، وتُجعل غرضًا للرمي، فإذا ماتت منْ ذلك لم يحلّ أكلها، والجثوم للطير، ونحوها بمنزلة البروك للإبل، فلو جثَمَت بنفسها، فهي جاثمة، ومُجثِمة بكسر المثلّثة، وتلك إذا صيدت عَلَى تلك الحالة، فذُبحت جاز أكلها، وإن رُميت، فماتت لم يجز؛ لأنها تفسير مَوْقُوذَةً. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.

4440 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، عَنْ بَحِيرٍ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَحِلُّ الْمُجَثَّمَةُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث صحيح، وَقَدْ تقدّم سندًا ومتنًا بأتمّ منْ هَذَا، فِي "كتاب الصيد والذبائح""باب تحريم أكل السباع"، وتقدّم هناك شرحه، وتخريجه مستوفًى، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

و"بقيّة": هو ابن الوليد الحمصي، صدوق، كثير التدليس عن الضعفاء [8]. و"بَحير" -بفتح الموحّدة، وكسر الحاء المهملة-: هو ابن سعد السُّحَولي

(1)

الحمصي، ثقة [6]. و"خالد": هو ابن معدان الكلاعي الحمصي، ثقة عابد [3]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4441 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَنَسٍ، عَلَى الْحَكَمِ -يَعْنِي ابْنَ أَيُّوبَ- فَإِذَا أُنَاسٌ يَرْمُونَ دَجَاجَةً، فِي دَارِ الأَمِيرِ، فَقَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ) الجَحْدَريُّ البصريّ، ثقة [10] 42/ 47.

(1)

بفتح السين وضمها: نسبة إلى قرية باليمن.

ص: 55

2 -

(خالد) بن الحارث الْهُجَيمِيُّ البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإِمام الحجة الثبت [7] 24/ 27.

4 -

(هشام بن زيد) بن أنس بن مالك الأنصاريّ البصريّ، ثقة [5] 25/ 4314.

5 -

(أنس) بن مالك الصحابيّ الشهير رضي الله تعالى عنه 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه رواية الراوي عن جده، وفيه أنس رضي الله تعالى عنه منْ المكثرين السبعة، روى (2286) حديثاً. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ هِشَام بْنِ زَيْدٍ) بن أنس بن مالك الأنصاريّ البصريّ، حفيد أنس رضي الله عنه، أنه (قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَنَس) بن مالك رضي الله عنه (عَلَى الْحَكَم -يَعْنِى ابْنَ أَيُّوبَ-) يعني ابن أبي عقيل الثقفيّ، ابن عمّ الحجّاج بن يوسف، ونائبه على البصرة، وزوج أخته زينب بنت يوسف، وهو الذي يقول فيه جرير يمدحه:

حَتَّى أنَخْنَا عَلَى بَابِ الْحَكَمِ

خَلِيفَةِ الْحَجَّاجِ غَيْرِ الْمُتَّهَمِ

وقع ذكره فِي عدّة أحاديث، وكان يُضاهي فِي الجور ابنَ عمّه، وليزيد الضبّيّ معه قصّة طويلة، تدلّ عَلَى ذلك، أوردها أبو يعلى الموصليّ فِي "مسند أنس" له. ووقع فِي رواية الإسماعليّ بلفظ:"خرجت مع أنس بن مالك، منْ دار الحكم بن أيّوب، أمير البصرة".

(فَإِذَا أُنَاسٌ) بضم الهمزة، قيل: فُعال، بضمّ الفاء، مشتقّ منْ الأُنس، لكن يجوز حذف الهمزة، تخفيفًا، عَلَى غير قياس، فيبقى ناساً، وعن الكسائيّ أن الأُناس والناس لغتان، بمعنى واحدٍ، وليس أحدهما مشتقًا منْ الآخر، وهو الوجه؛ لأنهما مادّتان مختلفتان فِي الاشتقاق. قاله الفيّوميّ.

وفي رواية البخاريّ: "فرأى غلمانًا، أو فتيانًا، بالشكّ منْ الراوي، قَالَ الحافظ: ولم أقف عَلَى أسمائهم، وظاهر السياق أنهم منْ أتباع الحكم بن أيوب المذكور. انتهى (يَرْمُونَ دَجَاجَةً) وفي رواية البخاريّ: "نصبوا دجاجة، يرمونها". و"الدجاجة" مثلّثة الدال، والفتح أفصح (فِي دَارِ الأَمِيرِ) أي وهو الحكم المذكور، فإنه أمير البصرة، كما مرّ آنفًا (فَقَالَ) أي أنس رضي الله عنه (نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ) بضمّ أوله، مبنيًّا للمفعول، وفي رواية الإسماعيليّ بلفظ: "سمعت أنس بن مالك يقول: نهى رسول الله

ص: 56

-صلى الله عليه وسلم عن صبر الرُّوح". وأصل الصبر الحبس. قَالَ النوويّ رحمه الله: قَالَ العلماء: صَبْرُ البهائم أن تُحبَسَ، وهي حيّةٌ لتُقتل بالرمي، ونحوه.

وأخرج العقيليّ فِي "الضعفاء" منْ طريق الحسن، عن سمرة، قَالَ:"نهى رسول النبيّ صلى الله عليه وسلم أن تُصبر البهيمة، وأن يؤكل لحمها إذا صُبِرت"، قَالَ العقيليّ: جاء فِي النهي عن صبر البهيمة أحاديث جياد، وأما النهي عن أكلها، فلا يُعرف إلا فِي هَذَا. انتهى. قَالَ الحافظ: إن ثبت، فهو محمول عَلَى أنها ماتت بذلك بغير تذكية، كما تقدّم فِي المقتول بالبندقة. انتهى. "فتح" 11/ 74. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أنس رضي الله تعالى عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -41/ 4441 - وفي "الكبرى" 42/ 4528. وأخرجه (خ) "الذبائح" 5513 (م) "الصيد" 3616 (د) "الضحايا" 2816 (ق) "الذبائح" 3186 (أحمد) "باقي مسند المكثرين" 11751 و12335 و12451 و12570. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان النهي عن صبر البهائم، وهو معنى النهي عن المجثّمة. (ومنها): تحريم تعذيب الحيوان: الآدميّ، أوغيره. (ومنها): قوّة أنس رضي الله عنه عَلَى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مع معرفته بشدّة الأمير المذكور، لكن كَانَ الخليفة عبد الملك بن مروان، نهى الحجّاج عن التعرّض له، بعد أن كَانَ صدر منْ الحجّاج فِي حقّه خشونة، فشكاه لعبد الملك، فأغلظ للحجّاج، وأمره بإكرامه. قاله فِي "الفتح" 11/ 76. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4442 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زُنْبُورٍ الْمَكِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ يَزِيدَ -وَهُوَ ابْنُ الْهَادِ- عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُنَاسٍ، وَهُمْ يَرْمُونَ كَبْشًا بِالنَّبْلِ، فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَقَالَ: "لَا تَمْثُلُوا بِالْبَهَائِمِ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن زنبور) بن أبي الأزهر، أبو صالح المكيّ، واسم زنبور جعفر، صدوقٌ له أوهام [10] 73/ 90 منْ أفراد المصنّف.

ص: 57

2 -

(ابن أبي حازم) عبد العزيز بن أبي حازم سلمة بن دينار المدنيّ، صدوقٌ فقيه [8] 40/ 44.

3 -

(يزيد بن الهاد) يزيد بن عبد الله بن أُسامة بن الهاد الليثيّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقة مكثر [5] 73/ 90.

4 -

(معاوية بن عبد الله بن جعفر) بن أبي طالب الهاشميّ، وَثَّقَهُ العجليّ، وابن حبّان [4] 66/ 988.

5 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ) بن أبي طالب الهاشميّ، أحد الأجواد، ولد بأرض الحبشة، وله صحبة، مات سنة ثمانين، وهو ابن ثمانين، وتقدّمت ترجمته فِي 25/ 1248. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فمكي. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، ورواية الراوي عن جدّه. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ) بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، أنه (قالَ: مَرَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُنَاسٍ) تقدّم الكلام عليه فِي الْحَدِيث الماضي (وَهُمْ يَرْمُونَ كَبْشًا) بفتح، فسكون: الحَمَلُ إذا أثنى، أو إذا خرجت رباعيته، جمعه أكبُش، وكِبَاش، وأكباش. قاله المجد (بِالنَّبْلِ) أي بالسهام (فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَقالَ: "لَا تَمْثُلُوا بِالْبَهَائِم) أي لا تنصبوها، فترموها، أو تقطعوا أطرافها، وهي حيّة، يقال: مَثَلتُ بالقتيل مَثْلاً، منْ بابي قتل، وضرب: إذا جَدَعْته، وظهرت آثار فعلك عليه تنكيلاً، والتشديد للمبالغة، والاسم الْمُثلة، وزانُ غُرْفة. قاله الفيّوميّ. وَقَالَ فِي "النهاية" 4/ 294: يقال: مثلت بالحيوان أمثل به مَثْلاً: إذا قطعت أطرافه، وشوّهت به، ومثلتُ بالقتيل: إذا جدعت أنفه، أو أذنه، أو مذاكيره، أو شيئاً منْ أطرافه، والاسم المثلة، فأما مثّل بالتشديد، فهو للمبالغة. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

والحديث صحيح، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -41/ 4442 - وفي "الكبرى" 42/ 4529. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4443 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِى بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ

ص: 58

جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَنِ اتَّخَذَ شَيْئًا، فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة بن سعيد) الثقفيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(هُشيم) بن بَشِير بن القاسم بن دينار السلمي، أبو معاوية بن أبي خازم -بمعجمتين- الواسطيّ، ثقة ثبت، كثير التدليس والإرسال الخفي [7] 88/ 109.

3 -

(أبو بشر) بن أبي وحشية جعفر بن إياس الواسطي، بصري الأصل، ثقة، منْ أثبت النَّاس فِي سعيد بن جبير [5] 13/ 520.

4 -

(سعيد بن جبير) الأسدي مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 28/ 436.

5 -

(ابن عمر) عبد الله الْعَدوي رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية البخاريّ منْ طريق إسحاق بن سعيد بن عمرو، عن أبيه، أنه سمعه يحدث، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه دخل عَلَى يحيى بن سعيد، وغلام منْ بني يحيى، رابط دجاجة يرميها، فمشى إليها ابن عمر، حَتَّى حَلّها، ثم أقبل بها وبالغلام معه، فَقَالَ: ازجروا غلامكم، عن أن يصبر هَذَا الطير للقتل، فإني سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم، نهى أن تُصبَر بهيمة أو غيرها للقتل.

وفي رواية منْ طريق أبي عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، قَالَ: كنت عند ابن عمر، فمروا بفتة، أو بنفر، نصبوا دجاجة، يرمونها، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا عنها، وَقَالَ ابن عمر: منْ فعل هَذَا؟، إن النبيّ صلى الله عليه وسلم، لعن منْ فعل هَذَا. وفي رواية الإسماعيليّ:"فإذا فتية نصبوا دجاجة، يرمونها، وله كلّ خاطئة". يعني أن الذي يصيبها يأخذ السهِم الذي تُرمى به إذا لم يصبها.

(مَنِ اتَّخَذَ شَيْئًا، فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا) بغين معجمة، وراء مفتوحتين، آخره ضاد معجمة: أي هَدَفًا منصوبًا للرمي. أي لا تتخذوا الحيوان الحيّ غرضًا، ترمون إليه كالغرَض منْ الجلود وغيرها، وهذا النهي للتحريم، ولهذا قَالَ فِي الرواية الأخرى:

ص: 59

"لعن الله منْ فعل هَذَا"، ولأنه تعذيب للحيوان، واتلاف لنفسه، وتضييع لماليّته، وتفويتٌ لذكاته، إن كَانَ مذكّى، ولمنفعته إن لم يكن مذكّى. قاله النوويّ. "شرح مسلم" 13/ 109.

وَقَالَ فِي "الفتح": فيه دليل عَلَى تحريم التمثيل بالحيوان؛ لأن اللعن منْ دلائل التحريم. وأخرج أحمد منْ طريق أبي صالح الحنفيّ، عن رجل منْ الصحابة، أراه عن ابن عمر، رفعه:"منْ مثل بذي رُوح، ثم لم يتب، مثل الله به يوم القيامة"، رجاله ثقات. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -41/ 4443 و4444 - وفي "الكبرى" 42/ 4530 و4531. وأخرجه (خ) "الذبائح" 5514 و5515 (م) "الصيد" 3618 (أحمد) "مسند بني هاشم" 3123 و"مسند المكثرين" 4608 و5225 و5649 و5767 و6222 (الدارمي) "الأضاحي" 1973. وفوائد الْحَدِيث سبقت قريباً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4444 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَعَنَ اللَّهُ مَنْ مَثَّلَ بِالْحَيَوَانِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، تقدّموا قريباً.

و"عمرو بن علي": هو الفلّاس. و"يحيى": هو القطّان. و"المنهال بن عمرو": هو الأسديّ مولاهم الكوفيّ، صدوق، ربّما وهِم [5] 13/ 892.

وقوله: "منْ مثل بالحيوان" بتخفيف الثاء المثلثة، منْ باب بي نصر، وضرب، ويجوز تشديدها للمبالغة، والأول أظهر؛ لأن المراد أصل المثل، لا المبالغة فيه: أي صيّره مُثْلة، بضمّ الميم، وسكون المثلثة.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4445 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ

ص: 60

ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"لَا تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، وهو مروزيّ ثقة.

و"عبد الله": هو ابن المبارك. و"عديّ بن ثابت": هو الأنصاريّ الكوفيّ، صدوق، رُمي بالتشيّع [4] 49/ 605. وشرح الْحَدِيث تقدّم فِي حديث ابن عمر الماضي.

وهو حديث صحيح، أخرجه المصنّف هنا 41/ 44445 و4446 - وفي "الكبرى" 42/ 4532 و4533. وأخرجه (م) "الصيد" 3617 (ت) "الصيد" 1475 (ق) "الذبائح" 3187 (أحمد) "مسند بني هاشم" 1866 و2470 و2476 و2528 و2581 و2700 و3205. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4446 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن عُبيد": هو المحاربيّ النحّاس الكوفيّ، صدوق [10] 144/ 226. و"عليّ بن هاشم": هو ابن الْبَرِيد الكوفيّ، صدوقٌ يتشيّع، منْ صغار [8] 43/ 2242.

و"العلاء بن صالح" التيميّ، أو الأسديّ الكوفيّ، صدوقٌ، له أوهام [7].

قَالَ ابن معين، وأبو داود: ثقة. وَقَالَ ابن معين أيضاً، وأبو زرعة، وأبو حاتم: لا بأس به. ووثّقه يعقوب بن سفيان، وابن نُمير، والعجليّ. وَقَالَ ابن خزيمة: شيخ. وَقَالَ يعقوب بن شيبة: مشهور. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ ابن المدينيّ: روى أحاديث مناكير. وَقَالَ البخاريّ: لا يُتابع. تفرّد به المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط، وعند الترمذي حديث وائل فِي الصلاة.

وقوله: "لا تتخذوا شيئاً الخ" ولفظ "الكبرى": "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُتّخذ شيء فيه الروح غرضًا".

والحديث صحيح، كما سبق بيانه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

***

ص: 61

‌42 - (مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا بِغَيْرِ حَقِّهَا)

4447 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ صُهَيْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، يَرْفَعُهُ، قَالَ: "مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا، فَمَا فَوْقَهَا، بِغَيْرِ حَقِّهَا، سَأَلَ اللَّهُ عَزَّ جَلَّ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا حَقُّهَا؟ قَالَ: "حَقُّهَا أَنْ تَذْبَحَهَا فَتَأْكُلَهَا، وَلَا تَقْطَعْ رَأْسَهَا، فَيُرْمَى بِهَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: تقدّم هَذَا الْحَدِيث فِي 34/ 4351 وهو حديث ضعيف؛ لجهالة صُهيب مولى ابن عامر، كما تقدّم الكلام عليه هناك. و"سفيان": هو ابن عيينة. و"عمرو": هو ابن دينار. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4448 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ الْمِصِّيصِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ، عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ وَاصِلٍ، عَنْ خَلَفٍ -يَعْنِي ابْنَ مِهْرَانَ- قَالَ: حَدَّثَنَا عَامِرٌ الأَحْوَلُ، عَنْ صَالِحِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّرِيدَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا عَبَثًا، عَجَّ إِلَى اللَّهِ عز وجل، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ يَا رَبِّ، إِنَّ فُلَانًا قَتَلَنِي عَبَثًا، وَلَمْ يَقْتُلْنِي لِمَنْفَعَةٍ").

رجال هَذَا الإسناد: ثمانية:

1 -

(محمد بن داود) أبو جعفر المصّيصيّ، ثقة فاضل [11] 112/ 2879.

2 -

(أحمد بن حنبل) هو أحمد بن محمد بن حنبل الإِمام الحجة الفقيه المجتهد البغداديّ، إمام أهل السنة والجماعة [10] 49/ 958.

3 -

(أبو عُبيدة، عبد الواحد بن واصل) الحدَّاد السدوسيّ مولاهم البصريّ، نزيل بغداد، ثقة تكلّم فيه الأزديّ بغير حجة [9] 55/ 972.

4 -

(خلف بن مِهْران) العدويّ، أبو الربيع البصريّ، إمام مسجد سعيد بن أبي عروبة، وهو مسجد بني عديّ بن يشكُر، صدوقٌ يَهِم [5].

روى عن عامر بن عبد الواحد الأحول، وعمرو بن عثمان بن يعلي بن أُميّة، وعبد الرحمن بن عبد الله بن الأصمّ. وعنه حرميّ بن عُمارة، وأبو عُبيدة الحدَّاد، وَقَالَ: كَانَ ثقة صدوقًا، خيِّرًا فاضلاً. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات".

قَالَ الحافظ: وجعل البخاريّ خلَف بن مهران، إمام مسجد بني عديّ، غير خلف أبي الربيع، إمام مسجد سعيد بن أبي عروبة، وكذا أبو حاتم، وذكر أن إمام مسجد

ص: 62

سعيد يروي عن أنس بن مالك. قَالَ البخاريّ: روى عنه عَمرو بن حمزة القيسيّ، لا يتابع فِي حديثه، وذكر أن إمام مسجد بني عديّ هو الذي أثنى عليه أبو عبيدة الحدَّاد، قَالَ الحافظ: وهو الذي ذكره ابن حبّان فِي "ثقاته"، ولكن قَالَ البغويّ: حدّثنا عبد الله بن عون، حدّثنا أبو عبيدة الحدَّاد، حدّثنا خلف بن مهران، أبو الربيع العدويّ، وكان ثقة. فهذا يدلّ عَلَى أنه واحد. وَقَالَ ابن خُزيمة لَمّا أخرج حديث خلف، إمام مسجد سعيد، عن أنس: لا أعرف خلفًا بعدالة، ولا جرح. انتهى. تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.

5 -

(عامر الأحول) بن عبد الواحد البصريّ، صدوقٌ يُخطىء [6] 4/ 630.

6 -

(صالح بن دينار) الجعفيّ، ويقال: الهلاليّ، مقبول [7].

روى عن عمرو بن الشريد، وعنه عامر الأحول، ذكره ابن حبّان فِي "الثقات". تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.

7 -

(عَمْرُو بْنُ الشَّرِيدِ) الثقفيّ، أبو الوليد الطائفيّ، ثقة [3] 19/ 4184.

8 -

(الشَّرِيدُ بن سُويد) الثقفيّ الصحابيّ رضي الله تعالى عنه، شهد بيعة الرضوان، قيل: كَانَ اسمه مالكاً، تقدمت ترجمته فِي 8/ 3680. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ) الثقفيّ، أنه (قالَ: سَمِعْتُ الشَّرِيدَ) بفتح الشين المعجمة، وكسر الراء، بوزن الطويل ابن سُوَيد الثقفيّ رضي الله عنه.

(يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا عَبَثًا) بفتحتين، يقال: عَبِثَ عَبَثًا، منْ باب تَعِبَ: إذا لعِبَ، وعمل ما لا فائدة فيه (عَجَّ) بتشديد الجيم: أي رفع صوته (إِلَى اللهِ عز وجل أي لأجل الشكوى منْ الذي قتله لاعبًا (يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ: يَا رَبِّ، إِنَّ فُلَانًا قَتَلَنِي عَبَثًا، وَلَمْ يَقْتُلْنِي لِمَنْفَعَةٍ") فيه أنه لا ينبغي قتل الحيوان بغير حاجة. والله تعالى أعلم بالصواب.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الْحَدِيث ضعيف؛ لجهالة صالح بن دينار، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -42/ 4448 وفي "الكبرى" 43/ 4535. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 63

‌43 - (النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْجَلَّالَةِ)

4449 -

(أَخْبَرَنِي عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: مَرَّةً عَنْ أَبِيهِ، وَقَالَ مَرَّةً: عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ، عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، وَعَنِ الْجَلاَّلَةِ، وَعَنْ رُكُوبِهَا، وَعَنْ أَكْلِ لَحْمِهَا).

رجال هَذَا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عثمان بن عبد الله) أبو عمرو البصريّ، نزيل أنطاكية، ثقة، منْ صغار [11] 112/ 155 منْ أفراد المصنّف.

2 -

(سَهْل بن بكّار) الدارميّ البصريّ، أبو بشر المكفوف، ثقة، ربّما وَهِمَ [10] 51/ 2281.

[تنبيه]: وقع فِي نسخ "المجتبى" سُهيل بن بكّار مصغّرًا، وهو غلط، والصواب "سهل بن بكّار" مكبّرًا، وهو الذي فِي "الكبرى" 3/ 73 رقم 4536 - و"تحفة الأشراف" 6/ 320 فتنبّه. والله تعالى أعلم.

3 -

(وُهيب بن خالد) الباهليّ البصريّ الثقة الثبت، لكنه تغيّر قليلاً بآخره [7] 21/ 427.

4 -

(ابن طاوس) عبد الله، أبو محمد اليماني، ثقة فاضل عابد [6] 11/ 514.

5 -

(عمرو بن شعيب) بن محمد المدنيّ، ويقال: الطائفي، صدوق [5] 105/ 140.

6 -

(أبوه) شعيب بن محمد الطائفي، صدوق [3] 105/ 140.

7 -

(أبوه) محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص السهميّ الطائفيّ، مقبول [3] 1/ 4227.

8 -

(جده) عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما 89/ 111. والله تعالى أعلم.

(منها): أنه منْ ثمانيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم موثقون. (ومنها): أن فيه ثلاثة منْ التابعين يروي بعضهم عن بعض، ورواية الراوي عن أبيه، عن أبيه عن أبيه: عمرو بن شعيب بن محمد. والله تعالى أعلم.

ص: 64

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ) شعيب (عَنْ أَبِيهِ، مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بن العاص (قَالَ مَرَّةً: عَنْ أَبِيهِ) الظاهر أن الضمير لابن طاوس، يعني أن عبد اللهَ بن طاوس حدّث بهذا الْحَدِيث مرَّتين، فمرّة قَالَ -بعد ذكر محمد بن عبد الله-:"عن أبيه"، والضميرِ لمحمد، وأبوه هو عبد الله بن عمرو (وَقَالَ مَرَّةً) أخرى (عَنْ جدِّهِ) بدل "عن أبيه"، فالضمير عَلَى هَذَا لشعيب، وجده هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما.

والحاصل أن عبد الله بن طاوس حدث به مرتين، فمرةً قَالَ:"عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن أبيه محمد بن عبد الله، عن أبيه، ومرةً قَالَ: "عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن أبيه محمد بن عبد الله، عن جدّه. والله تعالى أعلم.

(أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ) أي يوم فتح خيبر (عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ) تقدّم بيانه مستوفًى فِي "كتاب الصيد" 31/ 4336 - فلا تغفل (وَعَنِ الْجَلَّالَةِ) بفتح الجيم، وتشديد اللام: هي تأكل العذِرَة منْ الدواب. قَالَ فِي "الفتح" 11/ 80 - 81: والجلالة عبارة عن الدابة التي تأكل الْجِلة -بكسر الجيم، والتشديد- وهي البعر، وادعى ابن حزم اخصاص الجلالة بذوات الأربع، والمعروف التعميم. وَقَدْ أخرج ابن أبي شيبة، بسند صحيح، عن ابن عمر، أنه كَانَ يحبس الدجاجة الجلالة ثلاثاً (وَعَنْ رُكُوبِهَا) هكذا رواية المصنّف بالواو العاطفة، ورواية أبي داود:"عن ركوبها" بدون عاطف، وهو الظاهر؛ لأن قوله:"عن ركوبها" بدل منْ قوله: "عن الجلّالة" بدل تفصيل منْ مجمل، والبدل لا يعطف عَلَى المبدل منه. وإنما نهى عن ركوبها؛ لأن عرقها يتنجّس بالعذرة، فيتنجّس به الراكب (وَعَنْ أَكْلِ لَحْمِهَا) لأنه يكون أكلاً للنجاسة، حيث إنها اعتلفت بالعذرة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -43/ 4449 - وفي "الكبرى" 44/ 4536. وأخرجه (د) فِي "الأطعمة" 2811 (أحمد) "مسند المكثرين" 6999.

ص: 65

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان النهي عن أكل لحوم الحيوانات، إذا كانت جلّالة. (ومنها): النهي عن ركوبها. (ومنها): النهي عن أكل لحوم الحمر الأهليّة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي أكل لحم الجلّالة:

قَالَ الإِمام ابن قُدامة رحمه الله تعالى: قَالَ أحمد: أكره لحوم الجلالة، وألبانها. قَالَ القاضي فِي "المجرد": هي التي تأكل القذر، فإذا كَانَ أكثر علفها النجاسة، حرم لحمها ولبنها، وفي بيضها روايتان، وان كَانَ أكثر علفها الطاهر، لم يحرم أكلها، ولا لبنها، وتحديد الجلالة بكون أكثر علفها النجاسة، لم نسمعه عن أحمد، ولا هو ظاهر كلامه، لكن يمكن تحديده بما يكون كثيرا فِي مأكولها، ويعفى عن اليسير. وَقَالَ الليث: إنما كانوا يكرهون الجلالة التي لا طعام لها، إلا الرجيع، وما أشبهه. وَقَالَ ابن أبي موسى فِي الجلالة: روايتان: إحداهما: أنها محرمة. والثانية أنها مكروهة، غير محرمة، وهذا قول الشافعيّ، وكره أبو حنيفة لحومها، والعمل عليها، حَتَّى تُحبس. ورخص الحسن فِي لحومها وألبانها؛ لأن الحيوان لا ينجس بأكل النجاسات، بدليل أن شارب الخمر، لا يحكم بتنجيس أعضائه، والكافر الذي يأكل الخنزير والمحرمات، لا يكون ظاهره نجاسا، ولو نجس لَمَا طَهُر بالإِسلام، ولا الاغتسال، ولو نجست الجلالة لَمَا طهرت بالحبس.

واحتجّ الأولون بما روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قَالَ:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة، وألبانها"، رواه أبو داود، ورَوَى عبد الله بن عمرو بن العاص، قَالَ:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإبل الجلالة، أن يؤكل لحمها، ولا يحمل عليها إلا الأُدْمُ، ولا يَركبها النَّاس حَتَّى تُعلف أربعين ليلة"، رواه الخلال بإسناده

(1)

، ولأن لحمها يتولد منْ النجاسة، فيكون نجسا كرماد النجاسة، وأما شارب الخمر، فليس ذلك أكثر غذائه، وإنما يتغذى الطاهرات، وكذلك الكافر فِي الغالب.

وَقَالَ فِي "الفتح": قَالَ مالك، والليث: لا بأس بأكل الجلالة، منْ الدجاج وغيره، وإنما جاء النهي عنها للتقذر. وَقَدْ ورد النهي عن أكل الجلالة، منْ طرق أصحها ما أخرجه الترمذي، وصححه، وأبو داود، والنسائي -يعني الْحَدِيث الآتي فِي الباب التالي، منْ طريق قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، نهى عن المجثمة،

(1)

وكذا أخرجه البيهقيّ فِي "السنن الكبرى" 9/ 333 وهو ضعيف؛ لأن فِي سنده إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، وهو ضعيف.

ص: 66

وعن لبن الجلالة، وعن الشرب منْ فِي السقاء". وهو عَلَى شرط البخاريّ، فِي رجاله، إلا أن أيوب، رواه عن عكرمة، فَقَالَ عن أبي هريرة. وأخرجه البيهقي، والبزار، منْ وجه آخر، عن أبي هريرة: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلالة، وعن شرب ألبانها، وأكلها، وركوبها"، ولابن أبي شيبة، بسند حسن، عن جابر: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلالة، أن يؤكل لحمها، أو يشرب لبنها"، ولأبي داود، والنسائي -يعني حديث الباب- منْ حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وعن الجلالة، عن ركوبها، وأكل لحمها"، وسنده حسن. وَقَدْ أطلق الشافعية كراهة أكل الجلالة، إذا تغير لحمها بأكل النجاسة، وفي وجه إذا أكثرت منْ ذلك، ورجح أكثرهم أنها كراهة تنزيه، وهو قضية صنيع أبي موسى رضي الله عنه

(1)

.

ومن حجتهم أن العلف الطاهر، إذا صار فِي كَرِشها تنجس، فلا تتغذى إلا بالنجاسة، ومع ذلك فلا يُحكَم عَلَى اللحم واللبن بالنجاسة، فكذلك هَذَا.

وتعقب بأن العلف الطاهر، إذا تنجس بالمجاورة، جاز إطعامه للدابة؛ لأنها إذا أكلته، لا تتغذى بالنجاسة، وإنما تتغذى بالعلف، بخلاف الجلالة.

وذهب جماعة منْ الشافعية، وهو قول الحنابلة إلى أن النهي للتحريم، وبه جزم ابن دقيق العيد عن الفقهاء، وهو الذي صححه أبو إسحاق المروزي، والقفال، وإمام الحرمين، والبغوي، والغزالي، وألحقوا بلبنها ولحمها بيضها، وفي معنى الجلالة ما يتغذى بالنجس، كالشاة تَرْضَع منْ كلبة، والمعتبر فِي جواز أكل الجلالة، زوال رائحة النجاسة، بعد أن تُعلَف بالشيء الطاهر، عَلَى الصحيح، وجاء عن السلف فيه توقيت، فعند ابن أبي شيبة عن ابن عمر، أنه كَانَ يحبس الدجاجة الجلالة ثلاثاً، كما تقدم، وأخرج البيهقي بسند فيه نظر

(2)

، عن عبد الله بن عمرو، مرفوعاً:"أنها لا تؤكل حَتَّى تعلف أربعين يوما". انتهى ما فِي "الفتح".

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد اتّضح مما تقدّم أن القول بتحريم أكل لحوم الجلّالة، وشرب ألبانها هو الحقّ؛ لظواهر هذه الأحاديث الصحيحة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: قَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى: وتزول الكراهة بحبسها اتفاقا، واختُلف فِي قدره، فروي عن أحمد أنها تحبس ثلاثاً، سواء كانت طائرا، أو بهيمة، وكان ابن عمر

(1)

يعنىِ أبا موسى الأشعريّ رضي الله عنه الذي تقدّم حديث فِي قوله للرجل الذي قاله: رأيته يأكل شيئاً، فقذرته، فردّ عليه أبو موسى بأنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم يأكله.

(2)

بل هو ضعيف؛ لأن فيه إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، وهو ضعيف.

ص: 67

إذا أراد أكلها، حبسها ثلاثًا، وهذا قول أبي ثور. والأخرى تحبس الدجاجة ثلاثاً، والبعير والبقرة ونحوهما يحبس أربعين، وهذا قول عطاء فِي الناقة والبقرة؛ لحديث عبد الله بن عمرو؛ لأنهما أعظم جسما، وبقاء علفهما فيهما، أكثر منْ بقائه فِي الدجاجة، والحيوان الصغير. والله أعلم. انتهى. "المغني" 13/ 329 ببعض اختصار.

[تنبيه آخر]: قَالَ ابن قُدامة أيضًا: تحرم الزروع والثمار التي سقيت بالنجاسات، أو سُمِّدت بها. وَقَالَ ابن عقيل: يحتمل أن يكره ذلك، ولا يحرم، ولا يحكم بتنجيسها؛ لأن النجاسة تستحيل فِي باطنها، فتظهر بالاستحالة، كالدم يستحيل فِي أعضاء الحيوان لحما، ويصير لبنا، وهذا قول أكثر الفقهاء، منهم: أبو حنيفة، والشافعي، وكان سعد بن أبي وقاص، يَدْمُلُ أرضع بالْعُرّة، ويقول: مكتل عُرّة مكتل بُرّ، والعرّة: عذرة النَّاس.

ولنا ما روي عن ابن عباس، قَالَ:"كنا نكرى أراضي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونشترط عليهم أن لا يَدمُلوها بعذرة النَّاس"

(1)

، ولأنها تتغذى بالنجاسات، تَتَرَقَّى فيها أجزاؤها، والاستحالة لا تُطَهِّر، فعلى هَذَا تَطهُرُ إذا سُقِيت الطاهرات، كالجلالة، إذا حُبست، وأطعمت الطاهرات. انتهى "المغني" 13/ 330 وهو بحث نفيس جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌44 - (النَّهْيُ عَنْ لَبَنِ الْجَلَّالَةِ)

4450 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُجَثَّمَةِ، وَلَبَنِ الْجَلاَّلَةِ، وَالشُّرْبِ مِنْ فِي السِّقَاءِ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الجحدري البصريّ، ثقة [10] 42/ 47.

2 -

(خالد) ابن الحارث الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.

3 -

(هشام) بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائيّ البصريّ، ثقة ثبت، منْ كبار [7] 30/ 34.

(1)

أخرجه البيهقيّ 6/ 139 وضعّفه.

ص: 68

4 -

(قتادة) بن دعامة السدوسي البصريّ، ثقة ثبت يدلس [4] 30/ 34.

5 -

(عكرمة) مولى ابن عباس، أبو عبد الله، ثقة ثبت عالم بالتفسير [3] 2/ 325.

6 -

(ابن عباس) عبد الله البحر الحبر رضي الله تعالى عنهما 27/ 31. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما حبر الأمة، وبحرها، وترجمان القرآن، وأحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ:"نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُجَثَّمَةِ) تقدّم ضبطها، ومعناها قريباً (وَلَبَنِ الْجَلَّالَةِ) أي لأنه يتولّد منْ لحمها، وَقَدْ تنجّس لحمها بسبب كون غذائها نجسًا (وَالشُّرْب مِنْ فِي السِّقَاءِ) "فِي" لغة فِي الفم، وهي منْ الأسماء الستة التي تُرفع بالواو، وتنصبَ بالألف، وتجرّ بالياء، كما قَالَ ابن مالك فِي "خلاصته":

وَارْفَعْ بَوَاوٍ وَانْصِبَنَّ بِالأَلِفْ

وَاجْرُرْ بِيَاءٍ مَا مِنَ الأَسْمَا أَصِفْ

منْ ذَاكَ "ذُو" إِنْ صُحْبَة أَبَانَا

و"الْفَمُ" حَيْثُ الْمِيمُ مِنْهُ بَانَا

"أَبٌ""أَخٌ""حَمٌ" كَذَاكَ و"هَنُ"

وَالنَّقْصُ فِي هَذَا الأَخِيرِ أَحْسَنُ

وَفِي "أَبٍ" وَتَالِيَيْهِ يَنْدُرُ

وَقَصْرُهَا مِنْ نَقْصِهِنَّ أَشْهَرُ

و"السقاء" بكسر السين المهملة، وتخفيف القاف"، ككساء: جلد السَّخْلَة إذا أجذع، يكون للماء واللبن، جمعه أسقية، وأسقياتٌ، وأساق. قاله فِي "القاموس".

وأخرج الْحَدِيث البخاريّ منْ طريق خالد الحذّاء، عن عكرمة، مختصرًا عَلَى الشرب منْ فِي السقاء، ولفظه:"عن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الشرب منْ فِي السقاء". قَالَ فِي "الفتح" 11/ 224: زاد أحمد، عن إسماعيل بهذا الإسناد والمتن، قَالَ أيوب:"فأُنبئت أن رجلاً شرب منْ فِي السقاء، فخرجت حية"، وكذا أخرجه الإسماعيلي منْ رواية عباد بن موسى، عن إسماعيل، ووَهِمَ الحاكم، فأخرج الْحَدِيث فِي "المستدرك" بزيادته، والزيادة المذكورة، ليست عَلَى شرط

ص: 69

"الصحيح"؛ لأن راويها لم يُسَمَّ، وليست موصولة، لكن أخرجها ابن ماجه منْ رواية سلمة بن وَهْرَام، عن عكرمة، بنحو المرفوع، وفي آخره:"وأن رجلاً قام منْ الليل بعد النهي، إلى سقاء، فاختنثه، فخرجت عليه منه حية"، وهذا صريح فِي أن ذلك وقع بعد النهي، بخلاف ما تقدم منْ رواية بن أبي ذئب، فِي أن ذلك كَانَ سبب النهي، ويمكن الجمع، بأن يكون ذلك، وقع قبل النهي، فكان منْ أسباب النهي، ثم وقع أيضاً بعد النهي، تأكيدا. انتهى ما فِي "الفتح" 11/ 224. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -44/ 4450 - وفي "الكبرى" 45/ 4537. وأخرج (خ) جزء الشرب منْ فِي السقاء فقط فِي "الأشربة" 5629 وأخرجه (د) فِي "الأشربة" 3719 (ت) فِي "الأطعمة" 1825 (ق) فِي "الأشربة" 3421 (أحمد) فِي "مسند بني هاشم" 1990 و2162 و2666 و2944 و3132 (الدارمي) فِي "الأضاحي" 1975 و"الأشربة" 2117. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): إنه قد سبق الكلام فِي المجثّمة، والجلّالة قريباً، وبقي الكلام فِي الشرب منْ فِي السقاء، وبيان ما قاله أهل العلم فِي ذلك، ودونك ملخّص كلامهم:

قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: اتفقوا عَلَى أن النهي هنا للتنزيه، لا للتحريم، قَالَ الحافظ: كذا قَالَ، وفي نقل الاتفاق نظر؛ لما سأذكره، فقد نقل ابن التين وغيره، عن مالك أنه أجاز الشرب منْ أفواه القرب، وَقَالَ: لم يبلغني فيه نهي، وبالغ ابن بطال فِي ردّ هَذَا القول، واعتذر عنه ابن الْمُنَيِّر باحتمال أنه كَانَ لا يحمل النهي فيه عَلَى التحريم، كذا قَالَ، مع القتل عن مالك، أنه لم يبلغه فيه نهي، فالاعتذار عنه بهذا القول أولى، والحجة قائمة عَلَى منْ بلغه النهي، قَالَ النوويّ: ويؤيد كون هَذَا النهي للتنزيه أحاديث الرخصة فِي ذلك.

قَالَ الحافظ: لم أر فِي شيء منْ الأحاديث المرفوعة، ما يدل عَلَى الجواز، إلا منْ فعله صلى الله عليه وسلم، وأحاديث النهي كلها منْ قوله، فهي أرجح إذا نظرنا إلى علة النهي عن ذلك، فإن جميع ما ذكره العلماء فِي ذلك، يقتضي أنه مأمون منه صلى الله عليه وسلم، أما أولاً فلعصمته، ولطيب نكهته، وأما ثانيا فلرفقه فِي صب الماء، وبيان ذلك بسياق ما ورد فِي علة

ص: 70

النهي، فمنها ما تقدم، منْ أنه لا يؤمن دخول شيء منْ الهوام، مع الماء فِي جوف السقاء، فيدخل فمَ الشارب، وهو لا يشعر، وهذا يقتضي أنه لو ملأ السقاء، وهو يشاهد الماء، يدخل فيه، ثم ربطه ربطا محكما، ثم لما أراد أن يشرب حلّه، فشربه منه، لا يتناوله النهي. ومنها ما أخرجه الحاكم، منْ حديث عائشة، بسند قوي، بلفظ:"نهى أن يُشرب منْ فِي السقاء؛ لأن ذلك ينتنه"، وهذا يقتضي أن يكون النهي خاصا بمن يشرب، فيتنفس داخل الإناء، أو باشر بفمه باطن السقاء، أما منْ صب منْ القربة داخل فمه، منْ غير مماسة فلا. ومنها أن الذي يشرب منْ فم السقاء، قد يغلبه الماء، فينصب منه أكثر منْ حاجته، فلا يأمن أن يُشرَق به، أو تَبْتَلّ ثيابه، قَالَ ابن العربي: وواحدة منْ الثلاثة، تكفي فِي ثبوت الكراهة، وبمجموعها تقوى الكراهة جدًا.

وَقَالَ الشيخ محمد بن أبي جمرة: ما مُلَخَّصه: اختُلف فِي علة النهي، فقيل يُخشى أن يكون فِي الوعاء حيوان، أو ينصب بقوة، فيُشرق به، أو يقطع العروق الضعيفة، التي بإزاء القلب، فربما كَانَ سبب الهلاك، أو بما يتعلق بفم السقاء، منْ بُخَار النَّفَس، أو بما يخالط الماء منْ ريق الشارب، فيتقذره غيره، أو لأن الوعاء يفسد بذلك فِي العادة، فيكون منْ إضاعة المال، قَالَ: والذي يقتضيه الفقه، أنه لا يبعد أن يكون النهي لمجموع هذه الأمور، وفيها ما يقتضي الكراهة، وفيها ما يقتضي التحريم، والقاعدة فِي مثل ذلك، ترجيح القول بالتحريم، وَقَدْ جزم ابن حزم بالتحريم؛ لثبوت النهي، وحمل أحاديث الرخصة عَلَى أصل الإباحة، وأطلق أبو بكر الأثرم، صاحب أحمد، أن أحاديث النهي ناسخة للإباحة؛ لأنهم كانوا أوّلاً يفعلون ذلك، حَتَّى وقع دخول الحية فِي بطن الذي شرب منْ فم السقاء، فنسخ الجواز. قَالَ الحافظ: ومن الأحاديث الواردة فِي الجواز: ما أخرجه الترمذي، وصححه منْ حديث عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن جدته كبشة، قالت: دخلت عدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشرب منْ فِي قربة معلقة، وفي الباب عن عبد الله بن أنيس، عند أبي داود، والترمذي، وعن أم سدمة فِي "الشمائل"، وفي "مسند أحمد"، والطبراني، و"المعاني" للطحاوي.

قَالَ الحافظ العراقيّ فِي "شرح الترمذي": لو فُرِّق بين ما يكون لعذر، كأن تكون القربة معلقة، ولم يجد المحتاجُ إلى الشرب إناء متيسرا، ولم يتمكن منْ التناول بكفه، فلا كراهة حينئذ، وعلى ذلك تحمل الأحاديث المذكورة، وبين ما يكون لغير عذر، فتحمل عليه أحاديث النهي.

قَالَ الحافظ: ويؤيده أن أحاديث الجواز كلها، فيها أن القربة كانت معلقة، والشرب منْ القربة المعلقة، أخص منْ الشرب منْ مطلق القربة، ولا دلالة فِي أخبار الجواز عَلَى

ص: 71

الرخصة مطلقا، بل عَلَى تلك الصورة وحدها، وحملها عَلَى حال الضرورة، جمعا بين الخبرين أولى، منْ حملها عَلَى النسخ. والله أعلم.

وَقَدْ سبق ابنُ العربي إلى نحو ما أشار إليه العراقيّ، فَقَالَ: يحتمل أن يكون شربه صلى الله عليه وسلم فِي حال ضرورة، إما عند الحرب، واما عند عدم الإناء، أو مع وجوده، لكن لم يتمكن؛ لشغله منْ التفريغ منْ السقاء فِي الإناء، ثم قَالَ: ويحتمل أن يكون شَرِبَ منْ إداوة، والنهي محمول عَلَى ما إذا كانت القربة كبيرة؛ لأنها مظنة وجود الهوامّ، كذا قَالَ، والقربة الصغيرة، لا يمتنع وجود شيء منْ الهوام فيها، والضرر يحصل به، ولو كَانَ حقيرا، والله أعلم. انتهى ما فِي "الفتح" 11/ 224 - 225.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما تقدّم أن أرجح الأقوال القول بتحريم الشرب منْ فِي السقاء؛ لقوّة دليله، وأما أحاديث الرخصة، فلا تعارضها؛ لأنها محمولة عَلَى حالة الضرورة، والحاجة، لا عَلَى إطلاقها، فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌43 - (كتاب البيوع)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "البيوع": جمع بيع، وإنما جُمع، وإن كَانَ المصدر لا يُجمع، ولا يُثنّى، نظرًا إلى أنواعه، و"البيع" فِي الأصل مصدر باعه يبيعه بيعًا، ومَبِيعًا، فهو بائعٌ، وبَيْعٌ، وأباعه بالألف لغة، قاله ابن القطّاع، والبيع منْ الأضداد، مثل الشراء، يقال كلّ منهما لكلّ منهما، فمن استعمال البيع بمعنى الشراء، قول الشاعر [منْ الكامل]:

إِنَّ الشَّبَابَ لَرَابِحٌ مَنْ بَاعَهُ

وَالشَّيْبُ لَيْسَ لِبَائِعِهِ تِجَارُ

يعني منْ اشتراه. ومن استعمال الشراء بمعنى البيع قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} الآية. أي باعوه. ويُطلق عَلَى كل منْ المتعاقدين أنه بائعٌ، ولكن إذا أطلق البائع، فالمتبادر إلى الذهن باذل السلعة، وُيطلق البيع أيضاً عَلَى المبيع، فيقال: بيعٌ جيّدٌ، وبعت زيدًا الدارَ، يتعدّى إلى مفعولين، وكثر الاقتصار عَلَى الثاني؛ لأنه المقصود بالإسناد، ولهذا تتمّ به الفائدة، نحو بعت الدار، ويجوز الاقتصار عَلَى الأول، عند عدم اللبس، نحو بعت الأميرَ؛ لأن الأمير لا يكون مملوكًا يُباع، وَقَدْ تدخل "منْ"

ص: 72

عَلَى المفعول الأول عَلَى وجه التأكيد، فيقال: بعت منْ زيد الدارَ، كما يقال: كتمته الحديثَ، وكتمتُ منه الْحَدِيث، وربّما دخلت اللام مكان "منْ"، فيقال: بعتك الشيء، وبعته لك، فاللام زائدة زيادتَها فِي قوله تعالى:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} الآية، والأصل بوّأنا إبراهيم، وابتاع زيد الدار بمعنى اشتراها، وابتاعها لغيره: اشتراها له، وباع عليه القاضي، أي منْ غير رضاه. والمبتاعُ مَبِيعٌ عَلَى النقص، ومبيُوعٌ عَلَى التمام، مثلُ مَخِيط، ومخيوط. والأصل فِي البيع مبادلة مال بمال؛ لقولهم: بيْعٌ رابحٌ، وبيعٌ خاسرٌ، وذلك حقيقة فِي وصف الأعيان، لكنه أُطلق عَلَى العقد مجازًا؛ لأنه سبب التمليك، والتملّك. وقولهم: صحّ البيع، أو بطل، ونحوُهُ: أي صيغة البيع، لكن لَمّا حُذف المضاف، وأُقيم المضاف إليه مُقامه، وهو مذكرٌ أُسند الفعل إليه بلفظ التذكير. والْبَيْعة: الصَّفْقة عَلَى إيجاب البيع، وجمعها بيعات بالسكون، وتُحرّك فِي لغة هُذيل، كما بيضة وبيْضَات. وتُطلق أيضًا عَلَى المبايعة والطاعة، ومنه "أيمان البيعة"، وهي التي رتّبها الحجّاج، مشتملةً عَلَى أمور مغلّظة، منْ طلاق، وعتق، وصوم، ونحو ذلك. قاله الفيّوميّ رحمه الله تعالى "المصباح المنير" 1/ 69.

وَقَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: البيع فِي اللغة مصدر باع كذا بكذا: أي دفع معوضًا، وأخذ عِوَضًا منه، وهو يقتضي بائعًا، وهو المالك، أو منْ يتنزّل منزلته، ومُبتاعًا، وهو الذي يبذل الثمن، ومَبِيعًا، وهو الْمُثْمَن، وهو الذي يُبذل فِي مقابلة الثمن، وعلى هَذَا فأركان البيع أربعة: البائع، والمبتاع، والثمن، والْمُثْمَن، وكلّ واحد منْ هذه يتعلّق النظر فيها بشروط، ومسائل، ستراها إن شاء الله تعالى. والمعاوضة عند العرب تختلف بحسب اختلاف ما يُضاف إليه، فإن كَانَ أحد العوضين فِي مقابلة الرقبة سُمّي بيعًا، وإن كَانَ فِي مقابلة منفعة رقبة، فإن كانت منفعة بُضع سُمّي نكاحًا، وإن كانت منفعةً غيرها سُمّي إجارةً. انتهى "المفهم" 4/ 360.

وَقَالَ فِي "الفتح": 5/ 3: والبيوع جمع بيع، وجُمع لاختلاف أنواعه، والبيع: نقل ملك إلى الغير بثمن، والشراء قبوله، ويطلق كل منهما عَلَى الآخر. وأجمع المسلمون عَلَى جواز البيع، والحكمة تقتضيه؛ لأن حاجة الإنسان تتعلق بما فِي يد صاحبه غالبا، وصاحبه قد لا يبذله له، ففي تشريع البيع، وسيلة إلى بلوغ الغرض، منْ غير حرج.

قَالَ: والأصل فِي جواز البيع قوله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} الآية [البقرة: 275]. وللعلماء فِي هذه الآية أقوال: أصحها أنه عام مخصوص، فإن اللفظ لفظ عموم، يتناول كل بيع، فيقتضى إباحة الجميع، لكن قد مَنَع الشارع بيوعا أخرى، وحرمها، فهو عام فِي الإباحة، مخصوص بما لا يدل الدليل عَلَى منعه. وقيل: عام

ص: 73

أريد به الخصوص. وقيل: مجملٌ، بَيّنَتْه السنة، وكل هذه الأقوال تقتضي أن المفرد المحلى بالألف واللام يعم، والقول الرابع: أن اللام فِي {الْبَيْعَ} للعهد، وإنها نزلت بعد أن أباح الشرع بيوعا، وحرم بيوعا، فأريد بقوله:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} : أي الذي أحله الشرع منْ قبل، ومباحث الشافعيّ وغيره، تدل عَلَى أن البيوع الفاسدة، تسمى بيعا، وإن كانت لا يقع بها الحنث؛ لبناء الأيمان عَلَى العرف، قَالَ: وقوله عز وجل: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} الآية [البقرة: 282] تدل عَلَى إباحة التجارة فِي البيوع الحالّة، ويدل أول الآية -يعني آية المداينة فِي البيوع المؤجلة. انتهى "فتح" بتصرّف.

وَقَالَ الإِمام ابن قُدامة رحمه الله تعالى: البيع مبادلة المال بالمال، تمليكا وتملكا، واشتقاقه منْ الباع؛ لأن كل واحد منْ المتعاقدين يَمُدّ باعه للأخذ والإعطاء، ويحتمل أن كل واحد منهما كَانَ يبايع صاحبه: أي يصافحه عند البيع، ولذلك سُمّي البيع صفقة. وَقَالَ بعض أصحابنا: هو الإيجاب والقبول، إذ تضمن عينين للتمليك، وهو حدّ قاصر؛ لخروج بيع المعاطاة منه، ودخول عقودٍ سوى البيع فيه.

والبيع جائز بالكتاب، والسنة، والإجماع، أما الكتاب، فقول الله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} الآية [البقرة: 275]، وقوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} الآية [البقرة: 282]، وقوله تعالى:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} الآية [النِّساء: 29]، وقوله تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} الآية [البقرة: 198]. وروى البخاريّ، عن ابن عباس، قَالَ: كانت عكاظ، ومَجَنَّةُ، وذو المجاز أسواقًا فِي الجاهلية، فلما كَانَ الإِسلام تأثموا فيه، فأُنزلت:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} ، يعني فِي مواسم الحج. وعن الزبير نحوه.

وأما السنة فقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "البَيِّعَان بالخيار، ما لم يتفرقا"، متّفقٌ عليه. وروى رِفاعة رضي الله عنه، أنه خرج مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المصلى، فرأى النَّاس يتبايعون، فَقَالَ:"يا معشر التجار"، فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفعوا أعناقهم، وأبصارهم إليه، فَقَالَ:"إن التجار يبعثون يوم القيامة فُجّارا، إلا منْ بَرّ، وصَدَقَ"، قَالَ الترمذي: هَذَا حديث حسن صحيح

(1)

. وروى أبو سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قَالَ:"التاجر الصدوق الأمين، مع النبيين، والصديقين، والشهداء"، قَالَ الترمذي: هَذَا حديث حسن

(2)

، فِي أحاديث

(1)

بل فِي سنده إسماعيل بن عبيد لم يرو عنه غير ابن خثيم، فهو مجهول عين.

(2)

بل هو ضعيف، فإن فيه انقطاعًا؛ لأن الحسن البصريّ لم يسمع منْ أبي سعيد الخدريّ، كما فِي ترجمته منْ "تهذيب التهذيب" 1/ 389 - 390.

ص: 74

كثيرة سوى هذه.

وأجمع المسلمون عَلَى جواز البيع فِي الجملة، والحكمة تقتضيه؛ لأن حاجة الإنسان تتعلق بما فِي يد صاحبه، وصاحبه لا يبذله بغير عوض، ففي شرع البيع، وتجويزه شرع طريق إلى إلى وصول كل واحد منهما إلى غرضه، ودفع حاجته. انتهى كلام ابن قُدامة.

وَقَالَ العلّامة العينيّ رحمه الله تعالى: ثم للبيع تفسيرٌ لغة، وشرعًا، وركنٌ، وشرطٌ، ومحلٌّ، وحكمٌ، وحكمة، أما تفسيره لغة، فمطلق المبادلة، وهو ضدّ الشراء، والبيع الشراء أيضاً، باعه الشيء، وباعه منه جميعاً فيهما، وابتاع الشيء: اشتراه، وأباعه: عرّضه للبيع، وأما تفسيره شرعًا، فهو مبادلة المال بالمال عَلَى سبيل التراضي، وأما ركنه، فالإيجاب والقبول.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: كون الإيجاب والقبول ركنا للبيع فيه نظر، والصحيح أنهما ليسا ركنًا له، كما سيأتي قريباً، إن شاء الله تعالى.

قَالَ: وأما شرطه، فأهليّة المتعاقدين، وأما محلّه فهو المال؛ لأنه يُنبىء عنه شرعًا. وأما حُكمه، فهو ثبوت الملك للمشتري فِي المبيع، وللبائع فِي الثمن، إذا كَانَ تامًا، وعند الإجازة إذا كَانَ موقوفاً. وأما حِكمته، فهي كثيرةٌ:

(منها): اتّساع أمور المعاش والبقاء. (ومنها): إطفاء نار المنازعات، والنهب، والسرقة، والطرّ، والخيانات، والحيل المكروهة. (ومنها): بقاء نظام المعاش، وبقاء العالم؛ لأن المحتاج يميل إلى ما فِي يد غيره، فبغير المعاملة، يفضي إلى القاتل، والتنازع، وفناء العالم، واختلال نظام المعاش، وغير ذلك.

وثبوته بالكتاب؛ لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} . والسنّة، وهي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بُعث والناس يتعاملون، فأقرّهم عليه، والإجماع منعقد عَلَى شرعيّته. انتهى "عمدة القاري" باختصار 9/ 237 - 238. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تبيه]: قَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى: البيع عَلَى ضربين:

(أحدهما): الإيجاب والقبول، فالإيجاب أن يقول: بعتك، أو ملّكتك، أو لفظ يدل عليهما، والقبول أن يقول، اشتريت، أو قبلت، ونحوهما، فإن تقدم القبول عَلَى الإيجاب، بلفظ الماضي، فَقَالَ: ابتعت منك، فَقَالَ: بعتك صح؛ لأن لفظ الإيجاب والقبول وجد منهما، عَلَى وجه تحصل منه الدلالة، عَلَى تراضيهما به، فصح كما لو تقدم الإيجاب، وإن تقدم بلفظ الطلب، فَقَالَ: بعني ثوبك، فَقَالَ: بعتك، ففيه روايتان: إحداهما: يصح كذلك، وهو قول مالك، والشافعي، والثانية: لا يصح، وهو

ص: 75

قول أبي حنيفة؛ لأنه لو تأخر عن الإيجاب، لم يصح به البيع، فلم يصح إذا تقدم، كلفظ الاستفهام، ولأنه عَقْدٌ عَرِيَ عن القبول، فلم ينعقد، كما لو لم يطلب، وحَكَى أبو الخطاب، فيما إذا تقدم بلفظ الماضي روايتين أيضاً، فأما إن تقدم بلفظ الاستفهام، مثل أن يقول: أتبيعني ثوبك بكذا، فيقول: بعتك لم يصح بحال، نص عليه أحمد، وبه يقول أبو حنيفة، والشافعي، ولا نعلم عن غيرهم خلافهم؛ لأن ذلك ليس بقبول، ولا استدعاء.

(الضرب الثاني): المعاطاة، مثل أن يقول: أعطني بهذا الدينار خبزا، فيعطيه ما يرضيه، أو يقول: خذ هَذَا الثوب بدينار، فيأخذه، فهذا بيع صحيح، نصّ عليه أحمد، فيمن قَالَ لخباز: كيف تبيع الخبز؟ قَالَ: كذا بدرهم، قَالَ: زنه، وتصدق به، فإذا وزنه، فهو عليه، وقول مالك نحوٌ منْ هَذَا، فإنه قَالَ: يقع البيع بما يعتقده النَّاس بيعا، وَقَالَ بعض الحنفية: يصح فِي خسائس الأشياء، وحكي عن القاضي مثل هَذَا، قَالَ: يصح فِي الأشياء اليسيرة، دون الكبيرة، ومذهب الشافعيّ رحمه الله، أن البيع لا يصح إلا بالإيجاب والقبول، وذهب بعض أصحابه إلى مثل قولنا، ولنا إن الله أحل البيع، ولم يبين كيفيته، فوجب الرجوع فيه إلى العرف، كما رجع إليه فِي القبض والإحراز والتفرق، والمسلمون فِي أسواقهم، وبياعاتهم عَلَى ذلك، ولأن البيع كَانَ موجودا بينهم، معلوما عندهم، وإنما عَلّق الشرع عليه أحكاما، وأبقاه عَلَى ما كَانَ، فلا يجوز تغييره بالرأي والتحكم، ولم يُنقَل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه، مع كثرة وقوع البيع بينهم، استعمال الإيجاب والقبول، ولو استعملوا ذلك فِي بياعاتهم، لنقل نقلا شائعا، ولو كَانَ ذلك شرطا، لوجب نقله، ولم يتصور منهم إهماله، والغفلة عن نقله، ولأن البيع مما تعم به البلوى، فلو اشترط له الإيجاب والقبول، لبينه صلى الله عليه وسلم، بيانا عاما، ولم يُخْفِ حكمه؛ لأنه يفضي إلى وقوع النقود الفاسدة كثيرا، وأكلهم المال بالباطل، ولم ينقل ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد منْ أصحابه فيما علمناه، ولأن النَّاس يتبايعون فِي أسواقهم بالمعاطاة، فِي كل عصر، ولم ينقل إنكاره قبل مخالفينا، فكان ذلك إجماعا، وكذلك الحكم فِي الإيجاب والقبول فِي الهبة، والهدية، والصدقة، ولم يُنقل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد منْ أصحابه، استعمال ذلك فيه، وَقَدْ أُهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منْ الحبشة وغيرها، وكان النَّاس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، متّفقٌ عليه. ورَوَى البخاريّ عن أبي هريرة، قَالَ: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أُتى بطعام، سأل عنه أهدية أم صدقة؟، فإن قيل: صدقة، قَالَ لأصحابه: كلوا، ولم يأكل، وإن قيل: هدية ضرب بيده، وأكل معهم. وفي حديث سلمان رضي الله عنه، حين جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بتمر، فَقَالَ:

ص: 76

هَذَا شيء منْ الصدقة، رأيتك أنت وأصحابك أحق النَّاس به، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"كلوا، ولم يأكل"، ثم أتاه ثانية بتمر، فَقَالَ: رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذا شيء أهديته لك، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"بسم الله"، وأكل، ولم يُنقل قبول، ولا أمر بإيجاب، وإنما سأل ليَعلَم هل هو صدقة، أو هدية؟، وفي أكثر الأخبار لم ينقل إيجاب، ولا قبول، وليس إلا المعاطاة، والتفرقُ عن تراض يدل عَلَى صحته، ولو كَانَ الإيجاب والقبول شرطا فِي هذه العقود، لشق ذلك، ولكانت أكثر عقود المسلمين فاسدة، وأكثر أموالهم محرمة، ولأن الإيجاب والقبول، إنما يرادان للدلالة عَلَى التراضىِ، فإذا وُجد ما يدل عليه، منْ المساومة، والتعاطي، قام مقامهما، وأجزأ عنهما؛ لعدم التعبد فيه. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله تعالى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي حققه العلّامة ابن قُدامة، منْ عدم اشتراط الإيجاب والقبول فِي العقود، كالبيع، والهبة، والصدقة، ونحوها؛ لعدم ثبوته عن الشارع الحكيم هو الحقّ، فتبصّر، ولا تتحيّر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

‌1 - (بَابُ الْحَثِّ عَلَى الْكَسْبِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الحثّ" -بفتح الحاء المهملة-: مصدر حَثَثته، يقال: حَثَثتُ الإنسان عَلَى الشيء حَثًا، منْ باب نصر: إذا حَرَّضتَه، وذهب حثيثًا: أي مُسرعًا، وحَثَثتُ الفرسَ عَلَى الْعَدْوِ: صِحْتُ به، أو وَكَزْته برِجْل، أو ضربٍ، واستحثثته كذلك. قاله الفيّوميّ.

و"الكسب" -بفتح، فسكون-: مصدر كَسَب، يقال: كسبتُ مالاً كسبًا، منْ باب ضرب: إذا ربِحته، واكتسبته كذلك، وكسب لأهله، واكتسب: طلب المعيشة، وكسب الإثمَ، واكتسبه: تحمّله، ويتعدّى بنفسه إلى مفعول ثان، فيقال: كسبتُ زيدًا مالاً، وعلمًا: أي أنلته. قَالَ ثعلب: وكلُّهم يقول: كَسَبَك فلانٌ خيرًا، إلا ابن الأعرابيّ، فإنه يقول: أكسبك بالألف، واستكسبتُ العبدَ: جعلته يكتسب، وأصل السين للطلب، ويكون بمعنى فَعَلْتُ، مثلُ استخرجته، بمعنى أخرجته. قاله الفيّوميّ. والله تعالى أعلم بالصواب.

4451 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، أَبُو قُدَامَةَ السَّرَخْسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَمَّتِهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَ الرَّجُلِ

ص: 77

مِنْ كَسْبِهِ").

رجال هَذَا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ أَبُو قُدَامَةَ السَّرَخْسِيُّ) نزيل نيسابور، ثقة ثبت سنّيّ [10] 15/ 15.

2 -

(يحيى بن سعيد) بن فرُّوخ القطّان، أبو سعيد البصريّ، ثقة ثبت حجة [9] 4/ 4.

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة ثبت حجة فقيه [7] 33/ 37.

4 -

(منصور) بن المعتمر، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقة ثبت [6] 2/ 2.

5 -

(إبراهيم) بن يزيد النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه، يرسل كثيرًا [5] 29/ 33.

6 -

(عمارة بن عمير) التيميّ الكوفيّ، ثقة ثبت [4] 49/ 608.

7 -

(عمة عمارة) مجهولة.

8 -

(عائشة) رضي الله تعالى عنها 5/ 5. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ ثمانيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير عمة عمارة، فمجهولة. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فسرخسي، ثم نيسابوري، ويحيى بن سعيد، فبصريّ، وعائشة رضي الله تعالى عنها، فمدنية. (ومنها): أن فيه ثلاثة منْ التابعين يروىِ بعضهم عن بعض: إبراهيم، عن عمارة، عن عمته، وعلى قول منْ جعل منصورًا منْ صغار التابعين يكونون أربعة. (ومنها): أن فيه عائشة رضي الله تعالى عنها منْ المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ) التيميّ (عَنْ عَمَّتِهِ) لم تُعرف، وفي رواية أبي داود منْ طريق الحكم، عن عُمارة بن عمير، عن أمه (عَنْ عَائِشَةَ) وفي رواية أبي داود: أنها سألت عائشة رضي الله عنها: فِي حجري يتيمٌ، أفآكل منْ ماله؟، فقالت: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أطيب ما أكل الرجل" الْحَدِيث (قَالَت: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَطْيَبْ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ) أي أحلّه، وأهنأه، قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: الطيّب الحلال، والتفضيل فيه بناء عَلَى بعده منْ الشبهات، ومظانّها، والكسب السعيُ، وتحصيل الرزق، وغيره،

ص: 78

والمراد المكسوب الحاصل بالطلب، والجدّ فِي تحصيله بالوجه المشروع. انتهى (مِنْ كَسْبِهِ) أي مما كسبه بنفسه، منْ غير واسطة. وَقَالَ السنديّ: أي منْ المكسوب الحاصل بالجَدّ والطلب، ومباشرة أسبابه. انتهى (وَإِنَّ وَلَدَ الرَّجُلِ مِنْ كَسْبهِ") أي لأنه بعضه، وحكم بعضه حكم نفسه، وسُمّي الولد كسبًا مجازًا. قاله المناوَيّ. وفي رواية عند أحمد:"إن ولد الرجل منْ أطيب كسبه، فكلوا منْ أموالهم هنيئا". وفي حديث جابر رضي الله عنه: "أنت ومالك لأبيك". قَالَ ابن رسلان: اللام للإباحة، لا للتمليك؛ لأن مال الولد له، وزكاته عليه، وهو موروث عنه. انتهى.

قَالَ الإِمام الترمذيّ رحمه الله تعالى فِي "جامعه": والعمل عَلَى هَذَا عند بعض أهل العلم، منْ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وغيرهم، قالوا: إن يد الوالد مبسوطة فِي مال ولده، يأخذ ما شاء، وَقَالَ بعضهم: لا يأخذ منْ ماله إلا عند الحاجة إليه. انتهى.

وَقَالَ الشوكانيّ رحمه الله تعالى: الْحَدِيث يدلّ عَلَى أن الرجل مشارك لولده فِي ماله، فيجوز له الأكل منه، سوأء أذن له الولد، أو لم يأذن، ويجوز له أيضًا أن يتصرّف به كما يتصرّف بماله، ما لم يكن ذلك عَلَى وجه السرَف، والسَّفَه. وَقَدْ حكى فِي "البحر" الإجماع عَلَى أنه يجب عَلَى الولد الموسر مؤنة الأبوين المعسرين. انتهى.

وَقَالَ ابن الهمام رحمه الله تعالى بعد ذكر حديث عائشة المذكور: [فإن قيل]: هَذَا يقتضي أن له ملكًا ناجزًا فِي ماله. [قلنا]: نعم، لو لم يُقيّده حديث رواه الحاكم، وصححه، والبيهقيّ عنها، مرفوعًا:"إن أولادكم هبة، يهب لمن يشاء إناثًا، ويهب لمن يشاء الذكور، وأموالهم لكم، إذا احتجتم إليها"، ومما يؤيّد أن الْحَدِيث مؤول أنه تعالى ورّث الأب منْ ابنه السدس، مع ولد ولده، فلو كَانَ الكلّ ملكه، لم يكن لغيره شيء، مع وجوده. انتهى بتصرّف.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي ادّعاه ابن الهمام منْ التقييد مستدلاً بالحديث المذكور، غير صحيح؛ لأن قوله:"إذا احتجتم إليها" زيادة غير صحيحة، فقد قَالَ أبو داود رحمه الله فِي "سننه": حماد بن أبي سليمان زاد فيه: "إذا احتجتم" وهو منكر. انتهى. ونقل الحافظ فِي "التلخيص": عن ابن المبارك، عن سفيان، قَالَ: حدّثنا به حمّاد، ووهم فيه. انتهى.

فثبت بهذا أن القيد بالحاجة غير معتبر، بل للوالد أن يتصرف فِي مال ولده مطلقًا عَلَى ما هو ظاهر النصّ، وَقَدْ أخرج أبو داود، وابن ماجه منْ حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه: أن رجلاً قَالَ: يا رسول الله، إن لي مالاً، وولدًا، وإن والدي يجتاح مالي، قَالَ: "أنت ومالك لوالدك، إن أولادكم منْ أطيب كسبكم، فكلوا منْ

ص: 79

كسب أولادكم". وأخرج ابن ماجه بإسناد رجاله ثقات، عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: أن رجلاً قَالَ: يا رسول الله، إن لي مالاً، وولدًا، وإن أبي يجتاح مالي، فَقَالَ: "أنت ومالك لأبيك". فهذه النصوص تدلّ عَلَى جواز تصرّفه مطلقًا، فليُتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هَذَا صحيح، ولا يضرّ فيه جهالة عمة عُمارة بن عُمير؛ لأنه ثبت منْ رواية الأسود عنها، كما سيأتي بعد حديث. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -1/ 4451 و4452 و4453 و4454 - وفي "الكبرى" 2/ 6043 و6044 و6045 و6046 و6047. وأخرجه (د) فِي "البيوع" 3061 و3062 (ت) فِي "الأحكام" 1278 (ق) فِي "التجارات" 2128 و2281 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 22904 و23005 و23809 و24133 و24231 و24433 و24474 و24488 و24662 (الدارمي) فِي "البيوع" 2425. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان الحثّ عَلَى الكسب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جعله منْ أطيب كسب الرجل. (ومنها): جواز تصرّف الوالد فِي مال ولده بغير إذنه. (ومنها): ما قاله الخطّابيّ رحمه الله تعالى: فيه منْ الفقه أن نفقة الوالدين واجبة عَلَى الولد، إذا كَانَ واجدًا لها، واختلفوا فِي صفة منْ يجب لهم النفقة، منْ الآباء والأمْهات، فَقَالَ الشافعيّ: إنما يجب ذلك للأب الفقير الزمِنِ، فإن كَانَ له مالٌ، أو كَانَ صحيح البدن، غير زمن، فلا نفقة له عليه، وَقَالَ سائر الفقهاء: نفقة الوالدين واجبةٌ عَلَى الولد، ولا أعلم أن أحدًا منهم اشترط فيها الزمانة، كما اشترط الشافعيّ. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4452 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَمَّةٍ لَهُ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: إِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ، فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلَادِكُمْ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه: محمد بن منصور الْجَوّاز المكيّ، وهو ثقة. و"سفيان": هو ابن عُيينة. والحديث صحيح، سبق شرحه، وتخريجه فِي الْحَدِيث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 80

4453 -

(أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَوَلَدُهُ مِنْ كَسْبِهِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

و"يوسف بن عيسى": هو أبو يعقوب المروزيّ الثقة الفاضل [10]. و"الفضل بن موسى": هو السينانيّ المروزيّ. وفي الإسناد ثلاثة منْ ثقات الكوفيين، يروي بعضهم عن بعض. الأعمش، وإبراهيم، والأسود.

والحديث صحيح، وَقَدْ سبق شرحه، وتخريجه قريباً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4454 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

و"عمر بن سعيد": هو ابن مسروق الثوريّ، أخو سفيان، ثقة [7] 40/ 683.

[تنبيه]: وقع فِي النسخ المطبوعة منْ "المجتبى"، و"الكبرى":"عمرو بن سعيد" بفتح العين، وهو تصحيف، والصواب "عُمَر" بضمّها، كما فِي النسخة "الهنديّة"، و"تحفة الأشراف" 11/ 362. فتنبّه. والحديث صحيح، كما سبق تمام البحث فيه قريباً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌2 - (بَابُ اجْتِنَاب الشُّبُهَاتِ فِي الْكَسْبِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الاجتناب": مصدر اجتنب الشيءَ: إذا ابتعد عنه. و"الشبهات" -بضمّتين، أو بضمّ، فسكون: أي الأمور الملتبسات. قَالَ الفيّوميّ:

ص: 81

واشتبهت الأمور، وتشابهت: التبست، فلم تتميّز، ولم تظهر. ومنه اشتبهت القبلة، ونحوها. والشُّبْهَة فِي العقيدة: المأخذُ الملبَّسُ، سُمّيت شبهة؛ لأنها تشبه الحقّ، والشبهة: الْعُلْقَة، والجمع فيهما شُبَهٌ، وشُبُهات، مثلُ غُرْفة، وغُرَف، وغُرُفات. قَالَ: والاشتباه الالتباس. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.

4455 -

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الصَّنْعَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ -وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ- قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَاللَّهِ لَا أَسْمَعُ بَعْدَهُ أَحَدًا، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ بَيْنَ ذَلِكَ أُمُورًا مُشْتَبِهَاتٍ"، وَرُبَّمَا قَالَ: "وَإِنَّ بَيْنَ ذَلِكَ أُمُورًا مُشْتَبِهَةً"، قَالَ: "وَسَأَضْرِبُ لَكُمْ فِي ذَلِكَ مَثَلاً، إِنَّ اللَّهَ عز وجل حَمَى حِمًى، وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ عز وجل مَا حَرَّمَ، وَإِنَّهُ مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكْ أَنْ يُخَالِطَ الْحِمَى"، وَرُبَّمَا قَالَ: "إِنَّهُ مَنْ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكْ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، وَإِنَّ مَنْ يُخَالِطِ الرِّيبَةَ، يُوشِكْ أَنْ يَجْسُرَ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الصَّنْعَانِيُّ) البصريّ، ثقة [10] 5/ 5.

2 -

(خَالِدٌ بْنُ الْحَارِثِ) الْهُجَيمِيُّ، أبو عثمان البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.

3 -

(ابْنُ عَوْنٍ) عبد الله بن عون بن أرطبان، أبو عون البصريّ، ثقة ثبت فاضل، رأى أنساً رضي الله عنه[5] 29/ 33.

4 -

(الشَّعْبِيِّ) عامر بن شَرَاحيل، أبو عمرو الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه فاضل مشهور، توفي بعد المائة، وله نحو ثمانين سنة [3] 66/ 82.

5 -

(النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ) بن سعد بن ثعلبة الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما، سكن الشام، ثم ولي إمرة الكوفة، ثم قُتل رضي الله عنه بحمص سنة (65) وله (64) سنة، وتقدّم فِي 19/ 528. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى ابن عون، والباقيان كوفيان. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، فإن ابن عون تابعيّ؛ لأنه رأى أنس بن مالك رضي الله عنه، فهو منْ الطبقة الخامسة، لا منْ السادسة، كما هو فِي "التقريب". والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ الشَّعْبِيِّ) عامر بن شَراحيل، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِير) رضي الله

ص: 82

تعالى عنهما. وأخرج أبو عوانة فِي "صحيحه" منْ طريق أبي حَرِيز -وهو بفتح الحاء المهملة، وآخره زاي- عن الشعبيّ، أن النعمان بن بشير، خطب به بالكوفة. وفي رواية لمسلم أنه خطب به بحمص. قَالَ الحافظ: ويُجمع بينهما بأنه سمع منه مرّتين، فإنه قد ولي إمرة البلدين، واحدة بعد أخرى. وزاد مسلم، والإسماعيليّ منْ طريق زكرياء بن أبي زائدة، عن الشعبيّ فيه:"وأهوى النعمان بإصبعه إلى أذنيه، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. وفيه ردّ لقول الواقديّ، ومن تبعه: إن النعمان لا يصحّ سماعه منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيه دليلٌ عَلَى صحّة تحمّل الصبيّ المميّز؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم مات، وللنعمان ثمان سنين. انتهى. "الفتح" 1/ 172 "كتاب الإيمان" رقم 52.

(قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وقوله (فَوَاللهِ لَا أَسْمَعُ بَعْدَهُ أَحَدًا، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم) جملة معترضة، والظاهر أنه منْ كلام الشعبيّ، ولعه أراد به أنه آخر منْ سمع منه منْ الصحابة الذين يروون عنه صلى الله عليه وسلم مباشرة. والله تعالى أعلم.

(يَقولُ: "إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وإنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ) أي فِي عينهما، ووصفهما بأدلّتهما الظاهرة. قاله فِي "الفتح".

وَقَالَ السنديّ فِي "شرحه" 7/ 242: ليس المعنى كلّ ما هو حلالٌ عند الله تعالى، فهو بيّن بوصف الحلّ، يعرفه كلّ أحد بهذا الوصف، وأن ما هو حرام عند الله تعالى، فهو كذلك، وإلا لم يبق المشتبهات، وإنما معناه والله تعالى أعلم- أن الحلال منْ حيث الحكم تبيّن بأنه لا يضرّ تناوله، وكذا الحرام بأنه يضرّ تناوله، أي هما بيّنان، يَعرف النَّاس حكمهما، لكن ينبغي أن يعلم النَّاس حكم ما بينهما، منْ المشتبهات بأن تناوله يخرج منْ الورع، ويقرب إلى تناول الحرام، وعلى هَذَا فقوله:"الحلال بيّن، والحرام بيّنٌ" اعتذار لترك ذكر حكمهما. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي فسّر به السنديّ هَذَا الْحَدِيث فيه نظرٌ، إذ ظاهر السياق يأباه، بل الذي يظهر أن كلًّا منْ الحلال والحرام بيّنٌ متّضح لكل أحد له معرفة بأمور الدين، حيث نصّ عليه فِي الكتاب، أو السنّة، أو الإجماع، وهناك أمور تشتبه عَلَى كثيرين، حيث إن لها شبهًا بالحلال، وشبها بالحرام، فلا يتبيّن أمرها لكثير منْ النَّاس، وإنما يعلمها خواصّ العلماء الذين لهم رسوخ فِي معرفة النصوص، فيُلحقونها بما هي قريبة الشبه له منْ النوعين. والله تعالى أعلم.

قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "الحلال بيّن الخ" يعني أن كلّ واحد منهما مبين بأدلّته فِي كتاب الله تعالى، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم تأصيلاً، وتفصيلاً، فمن وقف عَلَى ما فِي كتاب الله، والسنّة منْ ذلك وجد فيهما أمورًا جليّة التحليل، وأمورًا

ص: 83

جليّة التحريم، وأمورًا متردّدة بين التحليل والتحريم، وهي التي تتعارض فيها الأدلّة، فهي المتشابهات. انتهى "المفهم" 4/ 488.

وَقَالَ النوويّ فِي "شرح مسلم" 11/ 29: قوله صلى الله عليه وسلم: "الحلال بيّن الخ" معناه: أن الأشياء ثلاثة أقسام: حلالٌ بيّن واضحٌ، لا يخفى حلّه، كالخبز، والفواكه، والزيت، والعسل، والسمن، ولبن مأكول اللحم، وبيضه، وغير ذلك منْ المطعومات، وكذلك الكلام، والنظر، والمشي، وغير ذلك منْ التصرّفات، فيها حلال بيّن واضح، لا شكّ فِي حلّه.

وأما الحرام البيّن، فكالخمر، والخنزير، والميتة، والبول، والدم المسفوح، وكذلك الزنا، والكذب، والغيبة، والنميمة، والنظر إلى الأجنبيّة، وأشباه ذلك. انتهى.

(وِإنَّ بَيْنَ ذَلِكَ) أي بين الحلال والحرام البينين (أُمُورًا مُشْتَبِهَاتٍ) بوزن مُفْتَعِلات، بتاء مفتوحة، وعين خفيفة مكسورة، بصيغة اسم الفاعل، منْ اشتبه، وهي رواية ابن ماجه، والمعنى أنها موحدة اكتسبت الشبه منْ وجهين متعارضين، ولفظ البخاريّ:"وبينهما مُشَبَّهات"، بوزن مُفَعَّلات، بتشديد العين المفتوحة، وهي فِي رواية مسلم: أي شُبِّهَت بغيرها، مما لم يتبين به حكمها عَلَى التعيين، ورواه الدارمي عن أبي نعيم شيخ البخاريّ فيه بلفظ وبينهما متشابهات.

وحاصل المعنى: أنها لا يتّضح أمرها، أي منْ الحلال هي، أو منْ الحرام، وذلك الاشتباه عَلَى بعض الناس بدليل قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان:"لا يعلمها كثير منْ النَّاس"، وفي رواية الترمذيّ:"لا يدري كثير منْ النَّاس، أمن الحلال هي، أم منْ الحرام"، فمفهوم قوله:"كثير" أن معرفة حكمها ممكن، لكن للقليل منْ النَّاس، وهم المجتهدون، فالشبهات عَلَى هَذَا فِي حقّ غيرهم، وَقَدْ تقع لهم، حيث لا يظهر لهم ترجيح أحد الدليلين. قاله فِي "الفتح".

وَقَالَ النوويّ: أما المشتبهات، فمعناها: أنها ليست بواضحة الحلّ، ولا الحرمة، فلهذا لا يعرفها كثير منْ النَّاس، ولا يعلمون حكمها، وأما العلماء، فيعرفون حكمها بنصّ، أو استصحاب، أو غير ذلك، فإذا تردّد الشيء بين الحلّ والحرمة، ولم يكن فيه نصّ، ولا إجماع، اجتهد فيه المجتهد، فألحقه بأحدهما بالدليل الشرعيّ، فإذا ألحقه به صار حلالاً، وَقَدْ يكون دليله غير خال عن الاحتمال البيّن، فيكون الورع تركه، ويكون داخلاً فِي قوله صلى الله عليه وسلم:"فمن اتّقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه"، وما لم يظهر للمجتهد فيه شيء، وهو مشبه، منه، يأخذ بحلّه، أم بحرمته، أم يتوقّف؟ فيه ثلاثة مذاهب، حكاها القاضي عياض وغيره، والظاهر أنها مُخرّجة عَلَى الخلاف المذكور فِي

ص: 84

الأشياء قبل ورود الشرع، وفيه أربعة مذاهب: الأصحّ أنه لا يُحكم بحلّ، ولا حرمة، ولا إباحة، ولا غيرها؛ لأن التكليف عند أهل الحقّ لا يثبت إلا بالشرع. والثاني: أن حكمها التحريم. والثالث: الإباحة. والرابع التوقّف. والله أعلم. انتهى كلام النوويّ 11/ 29 - 30.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الراجح القول بالإباحة فِي المنافع، وبالتحريم فِي المضارّ؛ لقوله عز وجل فِي معرض الامتنان:{خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} الآية [البقرة: 29]، ولا يمتّن الله تعالى إلا بالجائز، ولما صح مما أخرجه أحمد، وغيره، منْ قوله صلى الله عليه وسلم:"لَا ضرر، ولا ضرار" أي لا يجوز فِي ديننا، وإلى هَذَا أشار السيوطيّ فِي "الكوكب الساطع"، حيث قَالَ:

الْحُكْمُ قَبْلَ الشَّرْعِ فِي ذِي النَّفْعِ

وَالضُّرِّ قَدْ مَرَّ وَبَعْدَ الشَّرْعِ

رُجِّحَ أَنَّ الأَصْلَ تَحْرِيمُ الْمَضَارُّ

وَالْحِلُّ فِي ذِي النَّفْعِ وَالسُّبْكِيُّ صَارْ

إِلَي خُصُوصِهِ بِغَيْرِ الْمَالِ

فَذَاكَ حَظْرٌ بِالْحَدِيثِ الْعَالِي

يعني أن حكم المنافع والمضارّ قبل الشرع قد مرّ فِي أوائل النظم عند قوله:

بِالشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ شُكْرُ الْمُنْعِمِ

حَتْمٌ وَقَبْلَ الشَّرْعِ لَا حُكْمَ نُمِي

وأما بعده فالأصحّ أن الأصل فِي المضارّ التحريم، وفي المنافع الحلّ؛ للآية، والحديث المذكورين، واستثنى السبكيّ منْ أن الأصل المنافع فِي الحلّ الأموالَ، قَالَ: والظاهر فيها التحريم؛ لحديث: "إن دماءكم، وأموالكم عليكم حرام"، وهو أخصّ منْ أدلّة الإباحة، وتعقّبه وليّ الدين العراقيّ، بأن الدعوى عامّة، والدليل خاصّ؛ لأنه فِي الأموال المختصّة، وما قاله العراقيّ هو الظاهر؛ انظر شرحي عَلَى "الكوكب الساطع" ص 482 - 483. والله تعالى أعلم.

(وَرُبَّمَا قَالَ) أي الراوي: النعمان، أو منْ دونه (وَإِنَّ بَيْنَ ذَلِكَ أُمُورًا مُشْتَبِهَةً) بالإفراد. زاد فِي رواية الشيخين:"فمن اتقى المشبهات، استبرأ لدينه، وعرضه، ومن وقع فِي الشبهات، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه".

وقوله: "فمن اتقى المشتبهات": أي حَذِرَ منها. وقوله: "استبرأ لدينه، وعرضه" بالهمز بوزن استفعل منْ البراءة: أي بَرّأ دينه منْ النقص، وعرضه منْ الطعن فيه؛ لأن منْ لم يُعرَف باجتناب الشبهات، لم يسلم لقول منْ يطعن فيه. وفيه دليل عَلَى أن منْ لم يتوق الشبهة فِي كسبه، ومعاشه، فقد عَرَّض نفسه للطعن فيه، وفي هَذَا إشارة إلى المحافظة عَلَى أمور الدين، ومراعاة المروءة. قاله فِي "الفتح".

ص: 85

وَقَدْ اختُلِفَ فِي حكم الشبهات: فقيل: التحريم، وهو مردود. وقيل: الكراهة. وقيل: الوقف، وهو كالخلاف فيما قبل الشرع.

وحاصل ما فسر به العلماء الشبهات، أربعة أشياء:[أحدها]: تعارض الأدلة كما تقدم. [ثانيها]: اختلاف العلماء، وهي متزعة منْ الأولى. [ثالثها]: أن المراد بها مُسَمَّى المكروه؛ لأنه يجتذبه جانبا الفعل والترك. [رابعها]: أن المراد بها المباح، ولا يمكن قائل هَذَا، أن يحمله عَلَى متساوي الطرفين، منْ كل وجه، بل يمكن حمله عَلَى ما يكون منْ قسم خلاف الأولى، بأن يكون متساوي الطرفين، باعتبار ذاته، راجح الفعل أو الترك، باعتبار أمر خارج. ونقل ابن المنير فِي مناقب شيخه القباري عنه، أنه كَانَ يقول: المكروه عقبة بين العبد والحرام، فمن استكثر منْ المكروه، تَطَرَّق إلى الحرام، والمباح عقبة بينه وبين المكروه، فمن استكثر منه تطرق إلى المكروه، وهو مَنْزَعٌ حسن، ويؤيده رواية ابن حبّان منْ طريقٍ ذكر مسلم إسنادها، ولم يسق لفظها، فيها منْ الزيادة:"اجعلوا بينكم وبين الحرام سُتْرَةً منْ الحلال، منْ فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه، ومن أَرْتَعَ فيه كَانَ كالْمُرْتِع إلى جنب الحمى، يوشك أن يقع فيه".

والمعنى أن الحلال حيث يُخشَى أن يؤل فعله مطلقا إلى مكروه، أو محرم، ينبغي اجتنابه، كالاكثار مثلاً منْ الطيبات، فإنه يُحوِج إلى كثرة الاكتساب، الموقع فِي أخذ ما لا يستحق، أو يُفضي إلى بطر النفس، وأقلُّ ما فيه الاشتغال عن مواقف العبودية، وهذا معلوم بالعادة، مشاهد بالعيان.

قَالَ الحافظ: والذي يظهر لي رُجحان الوجه الأول، عَلَى ما سأذكره، ولا يبعد أن يكون كل منْ الأوجه مرادا، ويختلف ذلك باختلاف النَّاس، فالعالم الفَطِن لا يخفى عليه تمييز الحكم، فلا يقع له ذلك، إلا فِي الاستكثار منْ المباح، أو المكروه، كما تقرر قبلُ، ودونه تقع له الشبهة فِي جميع ما ذُكر، بحسب اختلاف الأحوال، ولا يخفى أن المستكثر منْ المكروه، تفسير فيه جُرأة عَلَى ارتكاب المنهي فِي الجملة، أو يحمله اعتياده ارتكاب المنهي غير المحرم، عَلَى ارتكاب المنهي المحرم، إذا كَانَ منْ جنسه، أو يكون ذلك لشبهة فيه، وهو أن منْ تعاطى ما نُهي عنه يصير مظلم القلب؛ لفقدان نور الورع، فيقع فِي الحرام، ولو لم يختر الوقوع فيه.

ووقع عند البخاريّ فِي "البيوع" منْ رواية أبي فروة، عن الشعبي، فِي هَذَا الْحَدِيث:"فمن ترك ما شُبِّهَ عليه منْ الإثم، كَانَ لما استبان له أترك، ومن اجترأ عَلَى ما يَشُكُّ فيه منْ الإثم، أوشك أن يواقع ما استبان"، وهذا يرجح الوجه الأول كما أشرت إليه.

[تنبيه]: استدل به ابن الْمُنَيِّر عَلَى جواز بقاء المجمل، بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ الحافظ:

ص: 86

وفي الاستدلال بذلك نظر، إلا إن أراد به أنه مُجمَل فِي حق بعض، دون بعض، أو أراد الرد عَلَى منكرى القياس، فيحتمل ما قَالَ. والله أعلم.

وقوله: "كراع يَرعى" هكذا فِي جميع نسخ البخاريّ، محذوف جواب الشرط، إن أُعربت "منْ" شرطية، وَقَدْ ثبت المحذوف فِي رواية الدارمي، عن أبي نعيم، شيخ البخاريّ فيه، فَقَالَ:"ومن وقع فِي الشبهات، وقع فِي الحرام، كالراعي يرعى"، ويمكن إعراب "منْ" فِي سياق البخاريّ موصولة، فلا يكون فيه حذف، إذ التقدير: والذي وقع فِي الشبهات، مثل راع يرعى، والأُولى أَولى؛ لثبوت المحذوف فِي "صحيح مسلم"، وغيره، منْ طريق زكريا التي أخرجه منها البخاريّ، وعلى هَذَا، فقوله:"كراع يرعى"، جملة مستأنفة، وردت عَلَى سبيل التمثيل، للتنبيه بالشاهد عَلَى الغائب. قاله فِي "الفتح".

وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "ومن وقع فِي الشبهات وقع فِي الحرام" وذلك يكون بوجهين: [أحدهما]: أن منْ لم يتّق الله تعالى، وتجرّأ عَلَى الشبهات، أفضت به إلى المحرّمات، بطريق اعتياد الجرأة، والتساهل فِي أمرها، فيحمله ذلك عَلَى الجرأة عَلَى الحرام المحض، ولهذا قَالَ بعض المتّقين: الصغيرة تجرّ إلى الكبيرة، والكبيرة تجرّ إلى الكفر، ولذلك قَالَ صلى الله عليه وسلم:"المعاصي بريد الكفر"

(1)

وهو معنى قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14].

[وثانيهما]: أن منْ أكثر منْ مواقعة الشبهات أظلم عليه قلبه؛ لفقدان نور العلم، ونور الورع، فيقع فِي الحرام، ولا يشعر به، وإلى هَذَا النور الإشارة بقوله تعالى:{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22] وإلى ذلك الإظلام الإشارة بقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22]. انتهى "المفهم" 4/ 493.

(قَالَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (وَسَأَضْرِبُ لَكُمْ فِي ذَلِكَ مَثَلا) أي لإيضاح تلك الأمور (إِنَّ الله عز وجل، حَمَى حِمَى) بكسر الحاء المهملة، والقصر: هي فِي الأصل أرضٌ يَحميها الملوك، ويمنعون النَّاس عن الدخول فيها، فمن دخله أوقع به العقوبة.

قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: هَذَا مثلٌ ضربه النبيّ صلى الله عليه وسلم لمحارم الله تعالى، وأصله أن ملوك العرب كانت تحمي مراعي ماشيها الخاصّة بها، وتُحرّج بالتوعّد بالعقوبة عَلَى منْ قربها، فالخائف منْ عقوبة السلطان يبعُد بماشيته منْ ذلك الحمى؛ لأنه إن قرب منه فالغالب الوقوع، وان كثر الحذر، إذ قد تنفرد الفاذّة، وتشذّ الشاذّة، ولا تنضبط،

(1)

قَالَ فِي "كشف الخفا"(حديث 2317) قَالَ ابن حجر المكيّ فِي "شرح الأربعين": أظنه منْ قول السلف، وقيل: حديث. اهـ.

ص: 87

فالحذر أن يجعل بينه وبين ذلك الحمى مسافة بحيث يأمن فيها منْ وقوع الشاذّة والفاذّة، وهكذا محارم الله تعالى، لا ينبغي أن يحوم حولها، مخافة الوقوع فيها. انتهى "المفهم" 4/ 493.

وَقَالَ فِي "الفتح": الحمى: الْمَحْمِيّ، أُطلق المصدر عَلَى اسم المفعول، وفي اختصاص التمثيل بذلك نكتة، وهي أن ملوك العرب، كانوا يَحمُون لمراعي مواشيهم، أماكن مختصة، يَتَوَعّدون منْ يرعى فيها بغير إذنهم بالعقوبة الشديدة، فَمَثَّل لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بما هو مشهور عندهم، فالخائف منْ العقوبة، المراقب لرضا الملك يَبعُد عن ذلك الحمى، خشية أن تقع مواشيه فِي شيء منه، فبُعدُه أسلم له، ولو اشتدّ حذره، وغير الخائف المراقب يَقرُب منه، ويَرعى منْ جوانبه، فلا يَأمن أن تنفرد الفاذّة، فتقع فيه بغير اختياره، أو يُمْحِل المكان الذي هو فيه، ويقع الْخِصْب فِي الحمى، فلا يملك نفسه أن يقع فيه، فالله سبحانه وتعالى هو الملك حقًّا، وحماه محارمه. انتهى.

[تنبيه]: رواية المصنّف هذه ظاهرة فِي كون ضرب المثل منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذكر فِي "الفتح" أن بعضهم ادّعى أن التمثيل منْ كلام الشعبي، وأنه مُدرج فِي الْحَدِيث، حكى ذلك أبو عمرو الداني، قَالَ الحافظ: ولم أقف عَلَى دليله، إلا ما وقع عند ابن الجارود، والإسماعيلي، منْ رواية ابن عون عن الشعبي، قَالَ ابن عون فِي آخر الْحَدِيث: لا أدري المثل منْ قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو منْ قول الشعبي؟، قَالَ الحافظ: وتردد ابن عون فِي رفعه، لا يستلزم كونه مدرجا؛ لأن الأثبات قد جزموا باتصاله ورفعه، فلا يَقدح شك بعضهم فيه، وكذلك سقوط المثل منْ رواية بعض الرواة، كأبي فروة، عن الشعبي، لا يقدح فيمن أثبته؛ لأنهم حفاظ، قَالَ: ومما يقوي عدم الإدراج رواية ابن حبّان الماضية، وكذا ثبوت المثل مرفوعاً فِي رواية ابن عباس، وعمار بن ياسر أيضاً. انتهى.

(وِإنَّ حِمَى اللهِ عز وجل مَا حَرَّمَ) المراد بما حرّم فعلُ المنهي المحرم، أو ترك المأمور الواجب، ولهذا وقع فِي رواية أبي فروة عند البخاريّ التعبير بالمعاصي بدل المحارم.

(وَإِنَّهُ) الضمير للشأن (مَنْ) موصولة مبتدأ، والفعلان بعدها مرفوعان، الأوّل صلتها، والثاني خبرها، ويحتمل أن تكون شرطيّةً، والفعلان بعدها مجزومان بها شرطاً، وجزاءً (يَرْتَعُ حَوْلَ الْحِمَى) بفتح أول "يرتع"، وثالثه: أي يطوف به، ويدور حوله، قاله ابن الأثير. ويحتمل أن يكون بضم أوله، منْ أرتع، قَالَ فِي "القاموس": رَتَعَ كمنع رَتْعًا، ورُتُوعًا، ورِتاعًا بالكسر: أكل، وشرب ما شاء فِي خصب، وسَعَةٍ، أو هو الأكلُ، والشربُ رَغَدًا فِي الرِّيف، أو بِشَرَه، قَالَ: وَقَدْ أرتع فلانٌ إبله. انتهى. وعلى الثاني فيكون مفعوله فِي الْحَدِيث محذوفًا: أي إبله. و"حوله" منصوب عَلَى الظرفية متعلّقٌ بـ"يرتع".

ص: 88

(يُوشِكُ) بضمّ أوله، منْ أوشك: أي يقرب (أنْ يُخَالِطَ الْحِمَى) أي يقع، ويدخل فيه؛ لأنه يتعاهد به التساهل، ويتمرّن عليه، ويجسُر عَلَى شبهة أخرى، أغلظ منها، وهكذا حَتَّى يقع فِي الحرام (وَرُبَّمَا قالَ) الراوي (إِنَّهُ مَنْ يَرْعَى) بفتح أوله، منْ باب سعى يسعى، يقال: رعت الماشية ترعى رَعْيًا، فهي راعية: إذا سَرَحَت بنفسها، ورَعَيتها، يُستعمل لازماً، ومتعدّيًا، وما هنا منْ المتعدّي (حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُرْتِعَ فِيهِ) بضم أوله، منْ الإرتاع (وَإِنَّ مَنْ) يحتمل أن تكون موصولة، وشرطيّة، عَلَى ما سبق قريباً (يُخَالِطُ الرِّيبَةَ) بكسر الراء: أي الشكّ والتهمة، وجمعه ريب، بكسر، ففتح، مثلُ سِدْرة وسِدَر، والمعنى أن منْ يدخل فِي محلّ التهمة، والشكّ (يُوشِكُ أَنْ يَجْسُرَ) بفتح أوله، وضم ثالثه: أي يُقدِم، ويَقَع فيه.

[تنبيه]: زاد فِي رواية الشيخين فِي آخر هَذَا الْحَدِيث: "ألا وإن فِي الجسد مضغةً، إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب".

قَالَ فِي "الفتح": وقوله: "مضغة": أي قدر ما يُمضَغ، وعبر بها هنا عن مقدار القلب فِي الرؤية، وسُمي القلب قلبا لتقلبه فِي الأمور، أو لأنه خالص ما فِي البدن، وخالص كل شيء قلبه، أو لأنه وُضِع فِي الجسد مقلوبا.

وَقَالَ القرطبيّ: "المضغة": القطعة منْ اللحم، وهي قدر ما يمضغه الماضغ، يعني بذلك صغير جرمها، وعظيم قدرها. قَالَ: والقلب فِي الأصل مصدر قلبت الشيءَ: إذا رددته عَلَى بدأته، وقلبت الإناء: إذا رددته عَلَى وجهه، وقلبتُ الرجلَ عن رأيه: إذا صرفته عنه، وعن طريقه كذلك، ثم نقل هَذَا اللفظ، فسمّي به هَذَا العضو الذي هو أشرف أعضاء الحيوان؛ لسرعة الخواطر فيه، ولتردّدها عليه، وَقَدْ نظم بعض الفضلاء هَذَا المعنى، فَقَالَ [منْ البسيط]:

مَا سُمِّيَ الْقَلْبُ إِلَّا مِنْ تَقَلُّبِهِ

فَاحْذَرْ عَلَى الْقَلْبِ منْ قَلْبٍ وَتَحْوِيلِ

(1)

انتهى "المفهم" 4/ 494 - 495.

وقوله: "إذا صلحت، وإذا فسدت" هو بفتح عينهما، وتُضم فِي المضارع، وحكى الفراء الضم فِي ماضي صلُح، وهو يُضم وفاقا، إذا صار له الصلاح هيئة لازمة، لشرف ونحوه، والتعبير بـ"إذا" لتحقق الوقوع غالبا، وَقَدْ تأتي بمعنى "إن" كما هنا، وخَصّ القلبَ بذلك؛ لأنه أمير البدن، وبصلاح الأمير تصلح الرعية، وبفساده تفسد، وفيه تنبيه

(1)

وأنشده فِي "لسان العرب"، و"تاج العروس" كما يلي [منْ البسيط]:

مَا سُمِّيَ الْقَلْبُ إِلَّا مِنْ تَقَلُّبِهِ

وَالرَّأْيُ يَصْرِفُ بِالإنْسَانِ أَطْوَارًا

ص: 89

عَلَى تعظيم قدر القلب، والحث عَلَى صلاحه، والإشارة إلى أن لطيب الكسب أثرا فيه، والمراد المتعلق به، منْ الفهم الذي ركبه الله فيه، ويُستدلّ به عَلَى أن العقل فِي القلب، ومنه قوله تعالى:{فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} الآية [الحجّ: 46]، وقوله تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} الآية [ق: 37]، قَالَ المفسرون: أي عقل، وعَبّر عنه بالقلب؛ لأنه محل استقراره.

[فائدة]: لم تقع هذه الزيادة، التي أولها:"ألا وإن فِي الجسد مضغةً" إلا فِي رواية الشعبي، ولا هي فِي أكثر الروايات عن الشعبي، إنما تفرد بها فِي "الصحيحين" زكريا ابن أبي زائدة، عنه، وتابعه مجاهد، عند أحمد، ومغيرة وغيره عند الطبراني، وعَبّر فِي بعض رواياته عن الصلاح والفساد، بالصحة والسقم، ومناسبتها لما قبلها بالنظر إلى أن الأصل فِي الاتقاء، والوقوع هو ما كَانَ بالقلب؛ لأنه عماد البدن. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفقٌ عليه،

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -2/ 4455 و50/ 5712 - وفي "الكبرى" 1/ 6040. وأخرجه (خ) فِي "الإيمان" 50 و"البيوع" 1910 (م) فِي "المساقاة" 2996 (د) فِي "البيوع" 2892 (ت) فِي "البيوع" 1126 (ق) فِي "الفتن" 2974 (أحمد) فِي "مسند الكوفيين" 17624 و17645 و17649 و17658 و1692 (الدارمي) فِي "البيوع" 2419. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان الحثّ عَلَى اجتناب الشبهات فِي الكسب. (ومنها): بيان عظم موقع هَذَا الْحَدِيث، وأنه ذو شأن، ونباهة، فلذا قد توارد أكثر أئمة الْحَدِيث الذين خرّجوه عَلَى إيراده فِي "كتاب البيوع"؛ لأن الشبهة فِي المعاملات تقع فيها كثيرًا، وله أيضًا تعلّق بالنكاح، وبالصيد، والذبائح، والأطعمة، والأشربة، وغير ذلك، منْ أبواب المعاملات، كما لا يخفى عَلَى منْ تأمّل ذلك. (ومنها): بيان أن الحلال، والحرام بيّنان واضحان لكلّ منْ له علم بالنصوص الشرعيّة. (ومنها): أن بين الحلال والحرام مرتّبة ينبغي التنبّه لها، وأخذ الحذر منها، ألا وهي الشبهات، فعلى العاقل أن يُحاسب نفسه عندها، ويأخذ حذره منها، فإنه إذا

ص: 90

أرخى العنان لنفسه فيها، جرّه ذلك إلى التجاوز إلى الحرام، فليتّق الله تعالى عند الشبهات، ليسهل عليه البد عن المحرّمات، وإلا وقع فِي المهلكات. (ومنها): ضرب المثل لإيضاح الأحكام. (ومنها): أن منْ وقع فِي الشبهات، فقد عرّض دينه، وعرضه للطعن. (ومنها): أن فيه تقسيمَ الأحكام إلى ثلاثة أشياء، وهو صحيحٌ؛ لأن الشيء إما أن يُنصّ عَلَى طلبه مع الوعيد عَلَى تركه، أو يُنصّ عَلَى تركه، مع الوعيد عَلَى فعله، أو لا ينصّ عَلَى واحد منهما، فالأول الحلال البيّن، والثاني الحرام البيّن، فمعنى قوله:"الحلال بيّن": أي لا يحتاج إلى بيانه، ويشترك فِي معرفته كلّ أحد. والثالث: مشتبه؛ لخفائه، فلا يُدرى هل هو حلالٌ، أو حرامٌ، وما كَانَ هَذَا سبيله يبغي اجتنابه؛ لأنه إن كَانَ فِي نفس الأمر حرامًا، فقد برىء منْ تبعتها، وإن كَانَ حلالاً، فقد أُجر عَلَى تركها بهذا القصد؛ لأن الأصل فِي الأشياء مختلف فيه حظرًا، واباحةً، والأولان قد يردان جميعًا، فإن عُلم المتأخّر منهما، وإلا فهو منْ حيّز القسم الثالث. قاله فِي "الفتح" 5/ 8 "كتاب البيوع" رقم 2051. (ومنها): أن فيه دليلاً عَلَى جواز الجرح والتعديل، قاله البغويّ فِي "شرح السنّة". (ومنها): أن بعضهم استنبط منه منع إطلاق الحلال والحرام عَلَى ما لا نصّ فيه؛ لأنه منْ جملة ما لم يستبن. لكن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يعلمها كثير منْ النَّاس" يُشعر بأن منهم منْ يعلمها". قاله فِي "الفتح" 5/ 9. "كتاب البيوع". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فيما قاله أهل العلم منْ التنويه بشأن هَذَا الْحَدِيث:

قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: أجمع العلماء عَلَى عظم وقع هَذَا الْحَدِيث، وكثرة فوائده، وأنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإِسلام، قَالَ جماعة: هو ثلث الإِسلام، وإن الإِسلام يدور عليه، وعلى حديث "الأعمال بالنيّات"، وحديث "لا يؤمن أحدكم حَتَّى يُحبّ لأخيه ما يُحبّ لنفسه"، وقيل: حديث: "ازهد فِي الدنيا يُحبّك الله، وازهد فيما فِي أيدي النَّاس يحبّك النَّاس"، قَالَ العلماء: وسبب عظم موقعه أنه صلى الله عليه وسلم نبّه فيه عَلَى إصلاح المطعم، والمشرب، والملبس، وغيرها، وأنه ينبغي ترك المشتبهات، فإنه سبب لحماية دينه وعرضه، وحذّر منْ مواقعة الشبهات، وأوضح ذلك بضرب المثل بالحمى، ثم بيّن أهمّ الأمور، وهو مراعاة القلب، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"ألا إن فِي الجسد مضغة" الخ، فبيّن صلى الله عليه وسلم أن بصلاح القلب يصلح باقي الجسد، وبفساده يفسد باقيه. انتهى "شرح مسلم" 11/ 29.

وَقَالَ القاضي عياض رحمه الله تعالى: رُوي عن أبي داود السجستانيّ، قَالَ: كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث، الثابت منها أربعة آلاف حديث، وهي ترجع

ص: 91

إلى أربعة أحاديث: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيّات"، وقوله:"منْ حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، وقوله:"الحلال بيّن، والحرام بيّن"، وقوله:"لا يكون المرء مؤمنًا حَتَّى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه"، وروي مكان هَذَا "ازهد فِي الدنيا يحبّك الله" الْحَدِيث، قَالَ: وَقَدْ نظم هَذَا أبو الحسن طاهر بن مفوز فِي بيتين، فَقَالَ [منْ الخفيف]:

عُمْدَةُ الدِّينِ عِنْدَنَا كَلِمَاتٌ

مُسْنَدَاتْ منْ قَوْلِ خَيْرِ الْبَرِيَّة

اترُكِ الْمُشْبَهَاتِ وَازْهَدْ وَدَعْ مَا

لَيْسَ يَعْنِيكَ وَاعْمَلَنَّ بِنِيَّة

وَقَالَ فِي "الفتح": ما حاصله: وَقَدْ عظم العلماء أمر هَذَا الْحَدِيث، فعَدُّوه رابع أربعة، تدور عليها الأحكام، كما نُقل عن أبي داود، وفيه البيتان المشهوران، قَالَ: والمعروف عن أبي داود، عَدُّ "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه" الْحَدِيث، بدل "ازهد فيما فِي أيدي النَّاس"، وجعله بعضهم ثالثَ ثلاثة، حذف الثاني، وأشار ابن العربي إلى أنه يُمكن أن ينتزع منه وحده، جميع الأحكام، قَالَ القرطبيّ: لأنه اشتمل عَلَى التفصيل بين الحلال وغيره، وعلى تعلق جميع الأعمال بالقلب، فمن هنا يمكن أن ترد جميع الأحكام إليه. والله المستعان. انتهى ما قاله فِي "الفتح" 1/ 176.

وَقَالَ المازريّ: وإنما نبّه أهل العلم عَلَى عظم هَذَا الْحَدِيث؛ لأن الإنسان إنما يعبد بطهارة قلبه وجسمه، فأكثر المذامّ المحظورات إنما تنبعث منْ القلب، وأشار صلى الله عليه وسلم لإصلاحه، ونبّه عَلَى أن إصلاحه هو إصلاح الجسم، وأنه الأصل، وهذا صحيح، يؤمن به حتّى منْ لا يؤمن بالشرع، وَقَدْ نصّ عليه الفلاسفة، والأطبّاء، والأحكام، والعبادات آلة يتصرّف الإنسان عليها بقلبه وجسمه فيها، يقع فِي مشكلات، وأمور ملتبسات، تكسب التساهل فيها، وتعويد النفس الجراءة عليها، وتكسب فساد الدين والعرض، فنبّه صلى الله عليه وسلم عَلَى توقّي هذه، وضرب لها مثلاً محسوسًا؛ لتكون النفس له أشدّ تصوّرًا، والعقل أعظم قبولاً، فأخبر أن الملوك لهم أحمية، وكانت العرب تعرف فِي الجاهليّة أن العزيز فيهم يحمي مُرُوجًا، وأفنيةً، ولا يتجاسر عليها، ولا يدنو منها أحدٌ مهابةً منْ سطوته، وخوفًا منْ الوقوع فِي حوزته، وهكذا محارم الله سبحانه وتعالى منْ ترك منها ما قرب، فهو منْ توسطها أبعد، ومن تحامى طرف النهي أُمن عليه أن يتوسّط، ومن قرب توسّط. انتهى.

وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى بعد ذكر نحو ما تقدّم فِي كلام القاضي وغيره: ما نصّه: وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة رحمهم الله أجمعين حسنٌ، غير أنهم لو أمعنوا النظر فِي هَذَا الْحَدِيث كلّه منْ أوّله إلى آخره لوجدوه متضمّنًا لعلوم الشريعة كلّها، ظاهرها وباطنها، وان أردت الوقوف عَلَى ذلك، فأعد النظر فيما عقدناه منْ الجمل فِي الحلال

ص: 92

والحرام، والمتشابهات، وما يُصلح القلوب، وما يُفسدها، وتعلّق أعمال الجوارح بها، وحينئذ يستلزم ذلك الْحَدِيث معرفة تفاصيل أحكام الشريعة كلّها، أصولها، وفروعها، والله هو المسؤول أن يستعملنا بما علّمنا، ويوفّقنا لما يرضى به عنّا، إنه وليّ ذلك، والقادر عليه. انتهى "المفهم" 4/ 499 - 500. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): فيما يتعلّق بقوله: "فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه":

قد كتب أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى فِي هَذَا بحثًا نفيسًا، أحببت إيراده لنفاسته، وعظيم فوائده، قَالَ رحمه الله تعالى: ما حاصله: أنّ منْ ترك ما يشتبه عليه، سَلِم دينه مما يفسده، أو ينقصه، وعرضه مما يَشينه ويَعيبه، فيَسلم منْ عقاب الله وذمّه، ويدخل فِي زمرة المتّقين الفائزين بثناء الله تعالى وثوابه، لكن لا يصحّ اتّقاء الشبهات حَتَّى تُعرَف، ومعرفتها عَلَى التعيين والتفصيل يستدعي فصل تطويل، لكن نعقد فيه عقدًا كليًّا، إن شاء الله تعالى، عن التفصيل مغنيا، فنقول:

المكلّف بالنسبة إلى الشرع، إما أن يترجّح فعله عَلَى تركه، أو تركه عَلَى فعله، أو لا يترجّح واحد منهما، فالراجح الفعل، أو الترك، إما أن يجوز نقيضه بوجه ما، أو لا يجوز نقيضه، فإن لم يجز نقيضه فهو المعلوم الحكم منْ التحليل، كحلّيّة لحوم الأنعام، أو منْ التحريم، كتحريم الميتة والخنزير عَلَى الجملة، فهذان النوعان هما المراد بقوله:"الحلال بيّنٌ، والحرام بيّنٌ". وأما إن جُوّز نقيض ما ترجّح عنده، فإما أن يكون ذلك التجويز بعيدًا، لا مستند له أكثر منْ توهْم، وتقدير، فلا يُلتفت إلى ذلك، ويُلغَى بكلّ حال، وهذا كترك النكاح منْ نساء بلدة كبيرة، مخافة أن يكون له فيها ذات محرم منْ النسب، أو الرضاع، أو كترك استعمال ماء باق عَلَى أوصافه فِي فلاة منْ الأرض، مخافة تقدير نجاسة وقعت فيه، أو كترك الصلاة عَلَى موضع، لا أثر، ولا علامة للنجاسة فيه؛ مخافة أن يكون فيها بولٌ، قد جفّ، أو كتكرار غسل الثوب؛ مخافة طروء نجاسة لم يشاهدها، إلى غير ذلك، مما فِي معناه، فهذا النوع يجب أن لا يُلتفت إليه، والتوقف لأجل ذلك التجويز هَوَسٌ، والورع فيه وسوسة شيطانيّة؛ إذ ليس فيه منْ معنى الشبهة شيء، وَقَدْ دخل الشيطان عَلَى كثير منْ أهل الخير منْ هَذَا الباب، حَتَّى يُعطّل عليهم واجبات، أو ينقص ثوابها لهم، وسبب الوقوع فِي ذلك عدم العلم بالمقاصد الشرعية.

وَقَدْ حكى الشيخ عبد الله بن يوسف، والد إمام الحرمين عن قوم أنهم لا يلبسون

ص: 93

ثيابًا جُدُدًا حَتَّى يغسلوها؛ لما فيها ممن يعاني قصر الثياب، ودقّها، وتجفيفها، وإلقاءها وهي رطبة عَلَى الأرض النجسة، ومباشرتها بما يغلب عَلَى الظنّ نجاسته منْ غير أن يُغسل بعد ذلك، فاشتد نكيره عليهم، وَقَالَ: هذه طريقة الخوارج الحروريّة، أبلاهم الله تعالى بالغلق فِي غير موضع القلق، وبالتهاون فِي موضع الاحتياط، وفاعل ذلك معترض على أفعال النبيّ صلى الله عليه وسلم والصحابة، والتابعين، فإنهم كانوا يلبسون الثياب الجدد قبل غسلها، وحال الثياب فِي أعصارهم كحالها فِي أعصارنا، ولو أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بغسلها ما خفي؛ لأنه مما تعمّ به البلوى.

وذكر أيضاً أن قوما يغسلون أفواههم إذا أكلوا الخبز؛ خوفًا منْ روث الثيران عند الدياس، فإنها تقيم أيامًا فِي المداسة، ولا يكاد يخلو طحينٌ عن ذلك، قَالَ: وهذا غلق، وخروج عن عادة السلف، وما روي عن أحد منْ الصحابة والتابعين أنهم رأوا غسل الفم منْ ذلك. انتهى. ذكر حكاية الجوينيّ العينيّ فِي "عمدة القاري" 1/ 344 - 345.

قَالَ القرطبيّ: [فإن قيل]: كيف يقال هَذَا، وَقَدْ فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، لَمّا دخل بيته، فوجد فيه تمرةً، فَقَالَ:"لولا أني أخاف أن تكون منْ الصدقة لأكلتها" رواه أحمد 3/ 184. ودخول الصدقة بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم بعيدٌ؛ لأنها كانت محرّمة عليه، وعلى آله، لكنه راعى الاحتمال البعيد، والاحتمالات التي ذكرتم ليست بأبعد منْ هَذَا الاحتمال، فما وجه الانفصال؟.

[قلنا]: لا نسلّم أن ما توقّعه النبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ بعيدًا؛ لأنهم كانوا يأتون بصدقات التمر للمسجد، وحجرته صلى الله عليه وسلم متّصلة بالمسجد، فتوقع أن يكون صبيّ، أو منْ يغفل عن ذلك يُدخل التمر منْ الصدقة فِي البيت، فاتّقى ذلك لقربه بحسب ما ظهر، مما قرّب ذلك التقدير، وليس منْ تلك الصور فِي شىء؛ لأنها خليّةٌ عن الأمارات، وإنما هي محض تجويزات.

وأما إن كَانَ ذلك التجويز له مستند، معتبرٌ بوجه ما، فالأصل العمل بالراجح، والورع الترك، إن لم يلزم منه العمل بترك الراجح، وبيانه بالمثال، وهو أن جلد الميتة لا يطهره الدباغ فِي مشهور مذهب مالك، فلا يجوز أن يُستعمل فِي شيء منْ المائعات؛ لأنها تنجس، إلا الماء وحده، فإنه يدفع النجاسة عن نفسه؛ لأنه لا ينجس إلا إذا تغيّر، هَذَا الذي ترجّح عنده، ثم إنه اتّقى الماء فِي خاصّة نفسه.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي نقله منْ مذهب مالك رحمه الله تعالى، منْ أن جلد الميتة لا يطهر بالدباغ، خلاف السنة الصحيحة الصريحة: "أيما إهاب دُبغ،

ص: 94

فقد طهر"، فلا يُلتفت إليه، والله تعالى أعلم.

قَالَ: ونحو ذلك حُكي عن أبي حنيفة، أو سفيان الثوريّ أنه قَالَ: لأن أخرّ منْ السماء أهون عليّ منْ أفتي بتحريم قليل النبيذ، وما شربته قط، ولا أشربه، فقد أعلموا الراجح فِي الفتيا، وتورّعوا عنه فِي أنفسهم. وَقَدْ قَالَ بعض المحققين: منْ حِكَم الحكيم أن يوسّع عَلَى المسلمين فِي الأحكام، ويُضيّق عَلَى نفسه. يعني به ذلك المعنى.

ومنشأ هَذَا الورع الالتفات إلى مكان اعتبار الشرع ذلك المرجوح، وهذا الالتفات نشأ منْ القول بأن المصيب واحدٌ، وهو مشهور قول مالك، ومنه ثار القول فِي مذهبه بمراعاة الخلاف، كما بيّنّاه فِي الأصول، غير أن تلك التجوّزات المعتبرة، وإن كانت مرجوحة، فهي عَلَى مراتب فِي القرب والبعد، والقوّة والضعف، وذلك بحسب الموجب لذلك الاعتبار، فمنها ما يوجب حَزَازةً فِي قلب المتّقي، ومنها ما لا يوجب ذلك، فمن لم يجد ذلك، فلا ينبغي له أن يتوقّف؛ لأنه يلتحق ذلك بالقسم الأول عنده، ومن وجد ذلك توقّف، وتورّع، وإن أفتاه المفتون بالراجح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يبلغ العبد أن يكون منْ المتّقين حَتَّى يدع ما لا بأس به، حذرًا مما به البأس"

(1)

، وهنا يصدق قولهم

(2)

: استفت قلبك، وإن أفتوك، لكن هَذَا إنما يصح ممن نوّر الله قلبه بالعلم، وزيّن جوارحه بالورع، بحيث يجد للشبهة أثرًا فِي قلبه، كما يُحكى عن كثير منْ هذه الأمة، كما نَقَل عنهم فِي "الحلية" لأبي نعيم، و"صفة الصفوة" لابن الجوزيّ، وغيرهما منْ كتب ذلك الشأن.

وأما إن لم يترجّح الفعل عَلَى الترك، ولا الترك عَلَى الفعل، فهذا هو الأحقّ باسم الشبهة، والمتشابه؛ لأنه قد تعارضت فيه الأشباه، فهذا النوع يجب فيه التوقّف إلى الترجيح؛ لأن الإقدام عَلَى أحد الأمرين منْ غير رجحان حكمٌ بغيرِ دليل، فيحرُم، إذ لا دليل مع التعارض، ولعلّ الذي قَالَ: إن الإقدام عَلَى الشبهة حرامٌ، أراد هَذَا النوع، والذي قَالَ: إن ذلك مكروه، أراد النوع الذي قبل هَذَا. والله تعالى أعلم. انتهى "المفهم" 4/ 490 - 492. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): فيما يتعلّق بقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا وهي القلب":

(1)

رواه الترمذيّ رقم 2451 وابن ماجه رقم 4215 وهو ضعيف؛ لأن فِي سنده عبد الله بن يزيد الدمشقيّ، وهو ضعيف.

(2)

كَانَ الأولى به أن يجعله حديثا مرفوعًا، فإنه حديث حسن، أخرجه البخاريّ فِي "التاريخ الكبير" منْ حديث وابصة. فتنبّه.

ص: 95

قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: ثم اعلم أن الله تعالى خصّ جنس الحيوان بهذا العضو المسمّى بالقلب، وأودع فيه المعنى الذي تنتظم به المصالح المقصودة منْ ذلك النوع، فتجد البهائم تدرك مصالحها، ومنافعها، وتميّز بين مفاسدها ومضارّها، مع اختلاف أشكالها، وصُوَرها، إذ منها ما يمشي عَلَى بطنه، ومنها ما يمشي عَلَى أربع، ومنها ما يطير بجناحيه، ثم خصّ الله تعالى منْ بين سائر الحيوان نوع الإنسان الذي هو المقصود الأول منْ الكونين، والمعنيّ فِي العالمين بهذا القلب المخصوص المشتمل عَلَى هَذَا المعنى المخصوص الذي به تميّز الإنسان، ووقع بينه وبين سائر الحيوان الفرقان، وهو المعنى الذي به يفهم القلب المفهومات، ويحصل به عَلَى معوفة الكليّات والجزئيّات، ويعرف به فَرقَ ما بين الواجبات، والجائزات، والمستحيلات، وَقَدْ أضاف الله تعالى العقل إلى القلب، كما أضاف السمع إلى الأذن، والإبصار إلى العين، فَقَالَ تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحجّ: 46]، وهو ردّ عَلَى منْ قَالَ منْ أهل الضلال: إن العقل فِي الدماغ، وهو قول منْ زلّ عن الصواب، وزاغ، كيف لا، وَقَدْ أخبرنا عن محلّه خالقه القدير:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، وَقَدْ روي ذلك عن أبي حنيفة، وما أظنّها عنه معروفة.

وإذا فهمت أن الإنسان إنما شرّفه الله تعالى عَلَى سائر الحيوان بهذا القلب، وأن هَذَا القلب لم يشرف منْ حيث صورته الشكليّة، فإنها موجودة لغيره منْ الحيوانات البهيميّة، بل منْ حيث هو مقرّ لتلك الخاصيّة الإلهيّة، علمت أنه أشرف الأعضاء، وأعزّ الأجزاء؛ إذ ليس ذلك المعنى موجودًا فِي شيء منها.

ثم إن الجوارح مسخّرةٌ له، ومطيعة، فما استقرّ فيه ظهر عليها، وعملت عَلَى مقتضاه، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًا فشرٌ، وعند هَذَا انكشف لك معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه"، ولمّا ظهر ذلك وجبت العناية بالأمور التي يصلح بها القلب؛ ليتّصف بها، وبالأمور التي تفسد القلب؛ ليتجنّبها، ومجموع ذلك علومٌ، وأعمالٌ، وأحوال:

فالعلوم ثلاثة: [الأول]: العلم بالله تعالى، وصفاته، وأسمائه، وتصديق رسله فيما جاؤوا به. [والثاني]: العلم بأحكامه عليهم، ومراده منهم. [والثالث]: العلم بمساعي القلوب، منْ خواطرها، وهمومها، ومحمود أوصافها، ومذمومها.

وأما أعمال القلوب، فالتحلّي بالمحمود منْ الأوصاف، والتخلّي منْ المذموم منها،

ص: 96

ومنازلة المقامات، والترقّى عن مفضول المنازلات، إلى سنيّ الحالات.

وأما الأحوال، فمراقبة الله تعالى فِي السرّ والعلن، والتمكّن منْ الاستقامة عَلَى السنن، وإلى هَذَا أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قَالَ:"أن تعبد الله كأنك تراه" متّفقٌ عليه. وتفصيل هذه المعاقد الْجُمليّة توجد فِي تصانيف محقّي الصوفيّة.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: بل هي مفصّلة فِي الكتاب والسنّة، فمن أمعن النظر، وأجال الفكر ظفر بمقاصدها، وأما ما اصطلح عليه المتأخّرون منْ الألفاظ المصطلحيّة، فلا حاجة للمكلّف إليها، ولا هي مما تكلّم بها النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي جعل الله تعالى هداية الأمة عَلَى يديه، ولا كَانَ يعرفها الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ولا التابعون لهم بإحسان، ولو سئلوا عنها لما استطاعوا أن يفهموها، فضلاً عن أن يجيبوا عنها، ولو طُلب منْ الأئمة الأربعة الفقهاء المحققين، أو منْ الأئمة الستة المحدثين الناقدين أن يحُلّوا بعض غوامضها لما وجدوا إلى ذلك سبيلاً، فهيهات هيهات أن يكون هَذَا منْ مقاصد الدين، الذي أكمله الله سبحانه وتعالى، وأتمّه، والنبيّ صلى الله عليه وسلم حيّ بين ظهراني أصحابه، فلا يقبل الزيادة ولا النقص، قَالَ الله عز وجل فِي محكم كتابه:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} الآية [المائدة: 3]. وَقَدْ حذّر النبيّ صلى الله عليه وسلم عن محدثات الأمور، فكان يقول فِي خطبته:"إن أصدق الْحَدِيث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة فِي النار"، رواه النسائيّ رقم 1578 بسند صحيح.

وأخرج الترمذيّ منْ حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، قَالَ: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، بعد صلاة الغداة، موعظة بليغة، ذَرَفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فَقَالَ رجل: إن هذه موعظة مُودِّع، فماذا تعهد إلينا يا رسول الله، قَالَ:"أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبدٌ حبشي، فإنه منْ يعش منكم، يرى اختلافا كثيرا، وإياكم ومحدثات الأمور، فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم، فعليه بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ".

وذكر الإِمام الذهبيّ رحمه الله تعالى فِي "ميزان الاعتدال" 1/ 430 - 431 عن الحافظ سعيد بن عمرو البردعيّ، أنه قَالَ: شهدت أبا زرعة، وَقَدْ سئل عن الحارث بن أسد المحاسبيّ، وكتبه؟ فَقَالَ للسائل: إياك وهذه الكتب، هذه كتب بدع وضلالات، وعليك بالأثر، فإنك تجد فيه ما يُغنيك، قيل له: فِي هذه الكتب عبرة، فَقَالَ: منْ لم يكن له فِي كتاب الله عبرة، فليس له فِي هذه الكتب عبرة، بلغكم أن سفيان، ومالكًا، والأوزاعيّ صنّفوا هذه الكتب فِي الخطرات، والوساوس، ما أسرع النَّاس إلى البدع.

ص: 97

قَالَ الذهبيّ: مات الحارث سنة (243) وأين مثل الحارث، فكيف لو رأي أبو زرعة تصانيف المتأخّرين، كـ"القوت" لأبي طالب، وأين مثل "القوت"؟ كيف لو رأى "بهجة الأسرار" لابن جهضم، و"حقائق التفسير" للسلميّ، لطار لبّه، كيف لو رأى تصانيف أبي حامد الطوسيّ فِي ذلك عَلَى كثرة ما فِي "الإحياء" منْ "الموضوعات" كيف لو رأى "الغنية" للشيخ عبد القادر، كيف لو رأى "فصوص الحكم"، و"الفتوحات المكيّة"، بلى لَمّا كَانَ الحارث لسان القوم فِي ذلك العصر، كَانَ معاصره ألف إمام فِي الْحَدِيث، فيهم مثل أحمد بن حنبل، وابن راهويه، ولَمّا صار أئمة الْحَدِيث مثل ابن الدخميسي، وابن شحانة، كَانَ قطب العارفين كصاحب "الفصوص"، وابن سفيان

(1)

، نسأل الله العفو، والمسامحة، آمين انتهى.

وبالجملة فمن لم يستغن بكتاب الله تعالى، وكتب السنة المطهرة، كالكتب الستة، وغيرها، فلا يرجى منه خير أبدًا، فعليه أن يبكي عَلَى نفسه، ويتوب إلى الله تعالى، ويسأله أن يصلح قلبه، وقالبه. والله تعالى أعلم.

ولنعد إلى كلام القرطبيّ، قَالَ رحمه الله تعالى:

[تنبيه]: الجوارح، وإن كانت تابعة للقلب، فقد يتأثّر القلب بأعمالها، للارتباط الذي بين الباطن والظاهر، والقلب مع الجوارح كالملك مع الرعيّة، إن صلح صلحت، ثم يعود صلاحها عليه بزيادة مصالح ترجع إليه، ولذلك قيل: الملك سوقٌ، ما نفق عنده جُلب إليه.

وَقَدْ نصّ عَلَى هَذَا المعنى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"إن الرجل ليصدق، فينكت فِي قلبه نكتة بيضاء، حَتَّى يُكتب عند الله صدّيقًا، وإن الرجل ليكذب الكذبة، فيسودّ قلبه حَتَّى يُكتب عند الله كذّابًا"

(2)

.

وأخرج أحمد، والترمذيّ، وابن ماجه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إن العبد إذا أخطأ خطيئة، نُكتت فِي قلبه نكتةٌ سوداء، فإذا هو نزع، واستغفر، وتاب صقل قلبه، وإن عاد زيد فيها، حَتَّى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، قَالَ الترمذيّ: هَذَا حديث

(1)

وفي نسخة: سبعين.

(2)

هكذا ساقه القرطبيّ، ولم أره بهذا اللفظ، والذي فِي "الصحيحين" منْ حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حَتَّى يكون صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حَتَّى يكتب عند الله كذابا".

ص: 98

حسن صحيح.

وَقَالَ مجاهد: القلب كالكفّ تقبض منه بكل ذنب أصبع، ثم يُطبع، وإلى هَذَا المعنى الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم:"إن فِي الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كلّه" متصلاً بقوله: "الحلال بيّنٌ، والحرام بيّنٌ"؛ إشعارًا بأن أكل الحلال ينوّره، ويُصلحه، وأكل الحرام، والشبهة يُفسده، ويقسيه، ويُظلمه، وَقَدْ وجد ذلك أهلُ الورع، حتّى قَالَ بعضهم: استسقيت جنديًّا، فسقاني شربة ماء، فعادت قسوتها عَلَى قلبي أربعين صباحًا. وقيل: الأصل المصحّح للقلوب والأعمال أكل الحلال، ويُخاف عَلَى آكل الحرام، والمتشابه أن لا يُقبل له عملٌ، ولا تُسمع له دعوةٌ، ألا تَسمع قوله تعالى:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]، وآكل الحرام المسترسل فِي الشبهات ليس بمتّقٍ عَلَى الإطلاق، وَقَدْ عضد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"أيها النَّاس إن الله طيّبٌ، ولا يقبل إلا طيّبًا، وإن الله تعالى أمر المؤمنين، بما أمر به المرسلين، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} الآية [المؤمنون: 51]، ثم ذكر الرجل يُطيل السفر أشعث، أغبر، يقول: يا ربّ، يا ربّ، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأنّى يُستجاب له"، رواه مسلم، والترمذيّ. ولَمّا شرب أبو بكر جرعة لبن منْ شبهةً استقاءها، فأجهده ذلك حَتَّى تقيّأها، فقيل له: أكلّ ذلك فِي شربة؟ فَقَالَ: والله لو لم تخرج إلا بنفسي لأخرجتها، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"كلّ لحم نبت منْ سُحت فالنار أولى به"

(1)

.

وعند هَذَا يعلم الواحد منا قدر المصيبة التي هو فيها، وعظم المحنة التي ابتُلي بها، إذ المكاسب فِي هذه الأوقات قد فسدت، وأنواع الحرام والشبهات قد عمّت، فلا يكاد أحد منّا اليوم يتوصّل إلى الحلال، ولا ينفكّ عن الشبهات، فإن الواحد منا، وإن اجتهد فيما يعلمه، فكيف يعمل فيمن يعامله، مع استرسال النَّاس فِي المحرّمات، والشبهات، وقلّة منْ يتّقي ذلك، منْ جميع الأصناف، والطبقات، مع ضرورة المخالطة، والاحتياج للمعاملة، وعلى هَذَا فالخلاص بعيدٌ، والأمر شديدٌ، ولولا النهي عن القنوط واليأس، لكان ذلك الأولى بأمثالنا منْ النَّاس، لكنّا إذا دفعنا عن أنفسنا أصول المحرّمات، واجتهدنا فِي ترك ما يمكننا منْ الشبهات، فعفو الله تعالى مأمولٌ، وكرمه مرجوّ، فلا ملجأ إلا هو، ولا مفزع إلا إليه، ولا استعانة إلا به، ولا حول، ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى. "المفهم" 4/ 494 - 498. وهو كلام

(1)

عزاه فِي الهامش إلى الطبرانيّ فِي الكبير 19/ 136. ولم أجده فيه.

ص: 99

نفيسٌ، وبَحْثٌ أنيسٌ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4456 -

(حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، مَا يُبَالِي الرَّجُلُ مِنْ أَيْنَ أَصَابَ الْمَالَ؟ مِنْ حَلَالٍ، أَوْ حَرَامٍ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة.

1 -

(الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ دِينَارٍ) القرشيّ/ أبو محمد الكوفيّ الطحان، وربما نُسب إلى جده، ثقة [11] 8/ 410.

2 -

(أبو داود الْحَفَريّ) عُمر بن سعد بن عُبيد، والحفريّ بفتحتين: نسبة إلى موضع بالكوفة، ثقة عابد [9] 15/ 523.

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوريّ، أبو عيبد الله الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه [7] 33/ 37.

4 -

(محمد بن عبد الرحمن) بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب القرشيّ العامريّ المدنيّ، ثقة فقيه فاضل [7] 41/ 685.

5 -

(المقبريّ) سعيد بن كيسان، أبو سَعْد المدنيّ، ثقة، تغير قبل موته بأربع سنين [3] 95/ 117.

[تنبيه]: منْ الغريب ما كتبه الحافظ فِي "الفتح" 5/ 15 - عَلَى هَذَا السند، حيث قَالَ: ما حاصله: أورده النسائيّ منْ طريق محمد بن عبد الرحمن، عن الشعبيّ، عن أبي هريرة، ووهِم المزّيّ فِي "الأطراف"، فظنّ أن محمد بن عبد الرحمن، هو ابن أبي ذئب، فترجم به للنسائيّ مع طريق البخاريّ هذه عن ابن أبي ذئب، وليس كما ظنّ، فإني لم أقف عليه فِي جميع النسخ التي وقفت عليها منْ النسائيّ إلا عن الشعبيّ، لا عن سعيد، ومحمد بن عبد الرحمن المذكور عنه أظنّه ابن أبي ليلى، لا ابن أبي ذئب؛ لأني لا أعرف لابن أبي ذئب رواية عن الشعبيّ. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وهذا التعقّب فيه نظر، فإن نسخ "المجتبى" التي عندي ليس فيها ذكر الشعبيّ أصلاً، وإنما الذي فيها المقبريّ، وأما نسخة "الكبرى" التي عندي فليس فيها ذكر المقبريّ أصلاً، وإنما هو عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، ولكن ألحق به محقق الكتاب ذكر المقبريّ أخذًا منْ "المجتبى".

فتبين بهذا أن توهيم الحافظ للمزيّ غير صحيح، بل الصواب معه، وأن محمد بن عبد الرحمن هو ابن أبي ذئب، وأن شيخه هو سعيد المقبريّ، لا الشعبيّ، فتنبّه. والله

ص: 100

تعالى أعلم.

6 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين إلى سفيان، ومن بعده بالمدنيين. (ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أكثر منْ روى الْحَدِيث فِي دهره، روى (5374) حديثاً. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ) وفي رواية للبخاريّ: "ليأتينّ عَلَى النَّاس زمانٌ"(مَا يُبَالِي الرَّجُلُ مِنْ أَيْنَ أَصَابَ الْمَالَ؟) أي منْ أيّ وجه وجده (مِنْ حَلَالٍ، أَوْ حَرَامٍ") يعني أنه لا يبحث أحدٌ عن الوجه الذي أصاب المال منه، أهو حلالٌ، أم حرام، وإنّما مطلوبه المال، فبأيّ وجه وصل إلى يده أخذه. وَقَالَ ابن التين رحمه الله تعالى: أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذا، تحذيرًا منْ فتنة المال، وهو منْ بعض دلائل نبوّته؛ لإخباره بالأمور التي لم تكن فِي زمنه، ووجه الذّمّ منْ جهة التسوية بين الأمرين، وإلا فأخذ المال منْ الحلال ليس مذموماً، منْ حيث هو. ذكره فِي "الفتح" 5/ 15 "كتاب البيوع". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -2/ 4456 - وفي "الكبرى" 1/ 6041. وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 2059 و2083 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 9462 و10159 (الدارمي) فِي "البيوع" 2424. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو الحثّ عَلَى اجتناب الشبهات فِي الكسب؛ لأن الوقوع فيها يجرّ إلى الوقوع فِي المحرّمات. (ومنها): أن فيه علمًا منْ أعلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر بما لم يقع فِي عهده، بل بعده بقرون، وهو العصر الذي

ص: 101

نحن فيه، فإنا لله، وإنا إليه راجعون. (ومنها): أنه يدلّ عَلَى أن الحلال لا يُفقد منْ الأرض فِي أيّ عصر كَانَ، فالواجب عَلَى المسلم أن يتحرّى فِي كسبه الحلال، ويبحث عنه، فإنه إذا أخلص فِي طلبه سيوفّق بإذن الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4457 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي خَيْرَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، يَأْكُلُونَ الرِّبَا، فَمَنْ لَمْ يَأْكُلْهُ أَصَابَهُ مِنْ غُبَارِهِ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ البغلاني، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(ابن أبي عديّ) محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، أبو عمرو البصريّ، ثقة [9] 122/ 175.

3 -

(داود بن أبي هند) القشيريّ مولاهم، أبو بكر، أو أبو محمد البصريّ، ثقة متقنٌ، كَانَ يهم بآخره [5] 21/ 538.

4 -

(سعيد بن أبي خيرة) -بفتح المعجمة، بعدها تحتانيّة ساكنة- البصريّ، مقبول [6].

روى عن الحسن البصريّ، وعنه داود بن أبي هند، وعبّاد بن راشد، وسعيد بن أبي عرُوبة. ذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وزعم أنه سعيد بن وهب الهمدانيّ، ولكنه لم يُتابع عَلَى ذلك. وَقَالَ ابن المدينيّ: لم يرو عنه غير داود بن أبي هند، وهو متعقّب بما سبق. تفرّد به المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، بهذا الْحَدِيث فقط.

5 -

(الحسن) بن أبي الحسن يسار الأنصاريّ مولاهم البصريّ، ثقة فقيه فاضل مشهور، يرسل كثيرًا ويدلس، رأس [3] 32/ 36.

6 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير سعيد بن أبي خيرة، فقد تفرد به المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، لكنه منقطع عند الجمهور؛ لأن الحسن لم يسمع منْ أبي هريرة رضي الله عنه. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فبغلاني، والصحابي، فمدنيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

ص: 102

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"يَأتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، يَأَكُلُونَ الرِّبَا) لرقّة دينهم، وعدم ورعهم، وقلّة اكتراثهم بالوعيد الوارد فِي آكل الربا، كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه، هم فيه سواء"، رواه مسلم (فَمَنْ لَمْ يَأْكُلْهُ) اجتنابًا للحرام، وتورّعًا منه (أَصَابَهُ مِنْ غُبَارِهِ) أي أصابه غبار بعض الربا، والمراد إصابة قليل الربا، وذلك بسبب تعامله مع عامة النَّاس الذين لا يتورّعون منْ أكل الربا، والمراد أنه وإن لم يأكل الربا قصدًا، لكنه يصيبه بغير اختياره، حيث لابدّ له منْ التعامل مع النَّاس، وهذا هو الواقع الآن، فإن الإنسان، وإن لم يقصد أكل الربا، إلا أنه لابدّ وأن يأتيه منْ جهة البنوك الربويّة بأي وسلية منْ الوسائل؛ إذ لابد له منْ أن يتقاضى راتبه الشهريّ عَلَى وظيفته، أو يأخذ ثمن سلعته، أو أجرة ما يؤاجره، أو نحو ذلك، منْ الأمور الحاجيّة، فبسبب هذه الأمور قد أصابه الربا، نسأل الله تعالى أن يجعل لنا فرجًا، ومخرجًا .... والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا ضعيفٌ؛ لأن فيه الحسن، أما عَلَى قول الجمهور، فإنه منقطع؛ لأنه لم يسمع منْ أبي هريرة رضي الله عنه، وأما عَلَى قول منْ يثبت سماعه منه، فإنه لم يصرّح بالتحديث، بل عنعنه، وهو مدلّس. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -2/ 4457 - وفي "الكبرى" 1/ 6042. وأخرجه (د) فِي "البيوع" 2892 (ق) فِي "التجارات" 2269 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 10007. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 103

‌3 - (بَابُ التِّجَارَةِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "التجارة" بكسر التاء المثنّاة، وتخفيف الجيم، اسم منْ تجر تَجْرًا، منْ باب قتل: إذا باع واشترى، واتّجر مثله، وهو تاجر، والجمع تَجْرٌ، مثلُ صاحب وصَحْبٍ، وتُجّار بضم التاء، مع التثقيل، وبكسرها مع التخفيف، قَالَ الفيّوميّ: ولا يكاد يوجِد تاء، بعدها جيم، إلا نَتَجَ، وتَجَرَ، والرَّتَجُ، وهو الباب، ورُتِجَ فِي منطقه، وأما تُجَاه الشيء، فأصلها واو. انتهى. والمراد بالترجمة بيان فُشُوِّ التجارة وكثرتها فِي آخر الزمان. والله تعالى أعلم بالصواب.

4458 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، أَنْ يَفْشُوَ الْمَالُ، وَيَكْثُرَ، وَتَفْشُوَ التِّجَارَةُ، وَيَظْهَرَ الْعِلْمُ، وَيَبِيعَ الرَّجُلُ الْبَيْعَ، فَيَقُولَ: لَا، حَتَّى أَسْتَأْمِرَ تَاجِرَ بَنِي فُلَانٍ، وَيُلْتَمَسَ فِي الْحَيِّ الْعَظِيمِ الْكَاتِبُ، فَلَا يُوجَدُ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلّاس البصريّ، ثقة ثبت [10] 4/ 4.

2 -

(وهب بن جرير) بن حازم الأزديّ البصريّ، ثقة [9] 196/ 1178.

3 -

(أبوه) جرير بن حازم بن زيد بن عبد الله الأزديّ، أبو النضر البصريّ، ثقة، لكن فِي حديثه عن قتادة ضعف، وله أوهام إذا حدّث منْ حفظه، وَقَدْ اختلط، لكنه لم يحدّث بعد اختلاطه [6] 82/ 1014.

4 -

(يونس) بن عُبيد بن دينار العبديّ، أبو عبيد البصريّ، ثقة ثبت فاضل ورع [5] 88/ 109.

5 -

(الحسن) بن أبي الحسن البصريّ المذكور فِي السند السابق.

6 -

(عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ) -بفتح التاء المثنّاة، وسكون المعجمة، وكسر اللام، ثم موحّدة- النمريّ -بفتح النون، والميم- منْ النمِر بن قاسط، ويقال العبديّ، منْ جُواثَا، قرية منْ قُرَى البحرين، له صحبة، روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه الحسن البصريّ، ولم يرو عنه غيره، قاله غير واحد، وذكر ابن عبد البرّ أن الحكم بن الأعرج روى عنه أيضًا، وسبقه إلى ذلك أبو محمد بن أبي حاتم فِي "كتاب الجرح والتعديل". قَالَ البخاريّ: يُعدّ فِي البصريين، ولم يذكر له راويًا غير الحسن، وأنه قد صرّح الحسن بسماعه منه،

ص: 104

فكأنه تأخّر إلى بعد الأربعين. روى له البخاريّ، والمصنّف، وابن ماجه، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستة أصحاب الأصول بلا واسطة. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ منْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ) أي منْ علامات قرب القيامة (أَنْ يَفْشُوَ الْمَالُ) أي يظهر، والمراد به كثرته، فما بعده عطف تفسير له (وَيَكثُرَ، وَتَفْشُوَ التِّجَارَةُ) أي البيع والشراء (وَيَظْهَرَ الْعِلْمُ) هكذا فِي معظم النسخ بلفظ "العلم"، والظاهر أن المراد به علم الدنيا، ويؤيّد هَذَا ما وقع فِي "الكبرى" بلفظ: "ويظهر القلم" بالقاف، فإن ظهور القلم إنما يكون بسبب انتشار العلم الدنيويّ، كما هو المشاهد الآن، ولا تنافي بينه وبين حديث أنس رضي الله عنه، مرفوعًا: "إن منْ أشراط الساعة أن يُرفع العلم، ويثبت الجهل، ويُشرب الخمر، ويظهر الزنا"، متّفقٌ عليه، فإن المراد به العلم الديني، فالناس جهلاء فِي أمور دينهم؛ لبعدهم عنه، علماء بأمور دنياهم؛ لانهماكهم فِي حبّ الدنيا، وانشغالهم بها.

وأما ما قاله السنديّ: منْ معنى "يظهر العلم" يزول، ويرتفع: أي يذهب العلم عن وجه الأرض، فبعيد عن لفظ الْحَدِيث، ولعله إنما فسّره به لئلا يتعارض مع حديث أنس رضي الله عنه المذكور، ولا تنافي بينهما، كما أوضحته آنفًا، ولله الحمد. ووقع فِي بعض النسخ:"ويظهر الجهل"، وهو واضح. والله تعالى أعلم.

قَالَ الشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى: فِي الْحَدِيث إشارة قويّة إلى اهتمام الحكومات اليوم فِي أغلب البلاد بتعليم النَّاس القراءة والكتابة، والقضاء عَلَى الأميّة، حَتَّى صارت الحكومات تتباهى بذلك، فتعلن أن نسبة الأميّة قد قلّت عندها حَتَّى كادت أن تُمحى، فالحديث علم منْ أعلام نبوّته صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، ولا يخالف ذلك كما قد يتوهّم البعض ما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم فِي غير ما حديث أن منْ أشراط الساعة أن يُرفع العلم، ويظهر الجهل؛ لأن المقصود به العلم الشرعيّ الذي به يعرف النَّاس ربهم، ويعبدونه حقّ عبادته، وليس بالكتابة، ومحو الأميّة كما يدلّ عَلَى ذلك المشاهدة اليوم، فإن كثيرًا منْ

ص: 105

الشعوب الإِسلاميّة فضلاً عن غيرها لم تستفد منْ تعلّمها القراءة والكتابة عَلَى المناهج العصريّة إلا الجهل، والبعد عن الشريعة الإِسلاميّة، إلا ما قلّ وندر، وذلك مما لا حكم له. انتهى "السلسلة الصحيحة" 6/ 635 رقم الْحَدِيث 2767.

(وَيَبِيعَ الرَّجُلُ الْبَيْعَ) أي يريد أن يبيع المبيع لمن سامه (فَيَقُولَ: لَا) أي لا أعقد البيع معك (حَتَّى أَسْتَأمِرَ تَاجِرَ بَنِي فُلَانٍ) أي حَتَّى أشاوره، ومراده أن يسأله عن سعر المتاع؛ لأنه ربما يزيد عنده، وهذا دليل عَلَى كثرة اهتمام النَّاس، وحرصهم عَلَى إصلاح الدنيا، وَقَالَ السنديّ: معنى "حَتَّى أستأمر تاجر بني فلان": أي أشاوره، بيان لكثرة الجهل، إذ لا يجوز التعليق فِي البيع، لكن بعض العلماء جوّزوا شرط الخيار لغيره. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا التفسير بعيد منْ سياق الْحَدِيث، بل الظاهر أن المعنى عَلَى الأول، والله تعالى أعلم.

(وَيُلْتَمَسَ) بالبناء للمفعول: أي يُطلب (فِي الحَيِّ الْعَظِيم) أي القبيلة الكبيرة (الْكَاتِبُ) أي الذي يكتب بالعدل، ولا يطمع فِي المال بغير حقّ. قَاله السنديّ (فَلَا يُوجَدُ) ذلك الكاتب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عمرو بن تغلب رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح، أخرجه المصنّف هنا -3/ 4458 - وفي "الكبرى" 3/ 6048، وهو منْ أفراده، فلم يخرجه منْ أصحاب الأصول غيره، وأخرجه الحاكم فِي "مستدركه" 2/ 7، وأبو داود الطيالسيّ فِي "مسنده"1171.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه عنعنة الحسن؟.

[قلت]: ثبت تصريحه بالتحديث منْ عمرو بن تغلب، حديث أشراط الساعة عند البخاريّ فِي "صحيحه" ولفظه:

2710 -

حدثنا أبو النعمان، حدثنا جوير بن حازم، قَالَ: سمعت الحسن يقول: حدثنا عمرو بن تغلب، قَالَ: قَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن منْ أشراط الساعة، أن تقاتلوا قوما، ينتعلون نعال الشعر، وإن منْ أشراط الساعة، أن تقاتلوا قوما، عِرَاَض الوجوه، كأن وجوههم الْمَجَان المطرقة".

وأخرجه أبو داود الطيالسيّ، وفيه ذكر التجارة، والقلم، ولفظه: حدّثنا ابن فضالة، عن الحسن، قَالَ: قَالَ عمرو بن تغلب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن منْ أشراط الساعة أن تقاتلوا قومًا، نعالهم الشعر، وان منْ أشراط الساعة أن تقاتلوا قومًا، كأن

ص: 106

وجوههم المجانّ المطرقة، وإن منْ أشراط الساعة أن يكثر التجّار، ويظهر القلم".

وإن لم يكن بهذا اللفظ، كما بيّنه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى فِي "الصحيحة" 6/ القسم الأول 631.

ومما يشهد لهذا الْحَدِيث ما أخرجه أحمد فِي "مسنده" 1/ 407 والبخاريّ فِي "الأدب المفرد" رقم 1049 بإسناد صحيح، عن سيّار أبي الحكم، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن بين يدي الساعة تسليم الخاصّة، وفُشُوّ التجارة، حَتَّى تعين المرأة زوجها عَلَى التجارة، وقطع الأرحام، وشهادة الزور، وكتمان شهادة الحقّ، وظهور القلم". والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان فشوّ التجارة، وأنه منْ أشراط الساعة. (ومنها): أن كثرة المال منْ أشراط الساعة، ولا خير فيه؛ لأنه يُلهي عن الآخرة، إلا لمن وفقه الله تعالى للقيام بحقّه. (ومنها): أن ظهور علم الدنيا، وانتشاره بين الأمة، منْ أشراط الساعة، وأنه لا خير فيه إذا صدّ النَّاس عن الاشتغال بالعلم الشرعيّ، كما هو مشاهد عند أكثر النَّاس المتعلّمين اليوم، وأما منْ قام بتعلم الواجب الدينيّ، ثم أضاف إليه علم العصر، فإنه خير كثيرٌ. (ومنها): أن فيه علماً منْ أعلام النبوّة، حيث أخبر صلى الله عليه وسلم بهذه الأمور، فجاءت مطابقة لما أخبر به. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌4 - (مَا يَجِبُ عَلَى التُّجّارِ مِنَ التَّوْقِيَةِ فِي مُبَايَعَتِهِمْ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "التوقية": مصدر وقّى بتشديد القاف، قَالَ فِي "القاموس": وقاه وَقْيًا، ووِقَايةً، وواقيةً: صانه، كوقّاه، والوَقَاء -بالفتح- ويُكسر، والوقاية، مثلّثةً: ما وقيتَ به، والتوْقِيةُ: الْكِلَاءَة، والحفظُ. انتهى.

فالمعنى هنا: حفظ أموالهم منْ تعريضها عند البيع للحرام، كأن يكذب أنها سليمة،

ص: 107

ويكتم ما بها منْ العيب.

وقوله: "فِي مبايعتهم"، وفي نسخة:"فِي مبايعاتهم" بلفظ الجمع، وفي أخرى:"فِي مَبايعهم"، والظاهر أنه بفتح الميم: جمع مبيعة، كمعيشة ومعايش. والله تعالى أعلم بالصواب.

4459 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ، مَا لَمْ يَفْتَرِقَا، فَإِنْ صَدَقَا، وَبَيَّنَا، بُورِكَ فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا، وَكَتَمَا مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا").

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلّاس المذكور فِي الباب الماضي.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطّان البصريّ الإِمام الحجة الثبت [9] 4/ 4.

3 -

(شعبة) بن الحجاج البصريّ الإِمام الحجة الثبت [7] 24/ 27.

4 -

(قتادة) بن دعامة السدوسيّ البصريّ، ثقة ثبت يدلّس [4] 30/ 34.

5 -

(أبو الخليل) صالح بن أبي مريم الضُّبَعيّ مولاهم البصريّ، ثقة [6] 51/ 3308.

6 -

(عبد الله بن الحارث) بن نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب الهاشميّ، أبو محمد المدنيّ، له رؤية، ولأبيه وجدّه صحبة، ثقة [2] 41/ 2211.

7 -

(حَكِيمُ بْنُ حِزَام) بن خُويلد بن أسد بن عبد العُزّى الأسديّ، أبو خالد المكيّ، ابن أخي خديجة، أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهما، أسلم يوم الفتح، وصحب، وله (74) سنة، ثم عاش إلى سنة (54) أو بعدها، وكان عالماً بالنسب رضي الله عنه 125/ 1084. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى، (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريبن، غير عبد الله بن الحارث، فمدني، وحكيم، فمكيّ. (ومنها): أن فيه ثلاثة منْ التابعين يروي بعضهم عن بعض: قتادة، وأبو الخليل، وعبد الله بن الحارث. (ومنها): أن صحابيّه ممن وُلد فِي جوف الكعبة، ولا يُعرف هَذَا لغيره جاهليّةً، ولا إسلامًا، وهو منْ الصحابة الذين عاشوا (120) سنة، ستين فِي الجاهليّة، وستّين فِي الإِسلام، وإلى هَذَا أشار السيوطيّ رحمه الله تعالى فِي "ألفية الْحَدِيث"، حيث قَالَ:

وَعِدَّةٌ مِنَ الصِّحَابِ وَصَلُوا

عِشْرِينَ بَعْدَ مِائَةٍ تُكَمَّلُوا

ص: 108

سِتُّون فِي الإسْلَامِ حَسَّانٌ يَلِي

حُوَيْطِبٌ مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلِ

ثُمَّ حَكِيمٌ حَمْنَنٌ سَعِيدُ

وَآخَرُونَ مُطْلَقَ سَعِيدُ

عَاصِمُ سَعْدٌ نَوْفَلٌ مُنْتَجِعُ

لَجْلَاجُ أَوْسٌ وَعَدِيٌّ نَافِعُ

نَابِغَةٌ ثُمَّةَ حَسَّانُ انْفَرَدْ

أَنْ عَاشَ ذَا أَبٌ وَجَدُّهُ وَجَد

ثُمَّ حَكِيمٌ مُفْرَدٌ بِأَنْ وُلِدْ

بِكَعْبَةٍ وَمَا لِغَيْرِهِ عُهِدْ

والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْبَيِّعَانِ) بفتح الموحّدة، وتشديد التحتانيّة: أي المتبايعان، وهما اللذان جرى العقد بينهما، فإنهما لا يُسمّيان بيّعين إلا حينئذ (بالْخِيَارِ) أي لكلّ منهما خيار فسخ البيع (مَا لَمْ يَفْتَرِقَا) بتقديم الفاء عَلَى التاء، وبالتخفيف، هكذا فِي "المجتبى" فِي حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه، هنا وفي الآتي بعد ثلاثة أبواب، ووقع فِي "الكبرى": "ما لم يتفرّقا" بتقديم التاء، وتشديد الراء، وثبت بالوجهين فِي حديث ابن عمر رضي الله عنهما الآتي، قَالَ الحافظ وليّ الدين رحمه الله تعالى: حكى ثعلب، عن ابن الأعرابيّ، عن المفضّل أنه قَالَ: "يفترقان" بالكلام، و"يتفرّقان" بالأبدان، وأنكره القاضي أبو بكر بن العربيّ، وَقَالَ. لا يشهد له القرآن، ولا يعضده الاشتقاق، قَالَ الله عز وجل: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} الآية [البينة: 4]، فذكر التفرّق فيما ذكر فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم الافتراق فِي قوله: "افترقت اليهود والنصارى عَلَى ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي عَلَى ثلاث وسبعين فرقة". قَالَ وليّ الدين: التفرّق الذي فِي الآية، والافتراق الذي فِي الخبر لا يمتنع أن يراد بهما الأبدان؛ لأنه لازم لاختلاف العقائد غالبًا، فإن منْ خالف شخصًا فِي عقيدته هجره، ولم يساكنه غالبًا، وبتقدير أن يُراد به الأقوال، فلا يطابق مَنْ أَوَّلَ هَذَا الْحَدِيث عَلَى الافتراق بالأقوال، كما سنحكيه؛ لأن أقوال أولئك المختلفين مفترقة، ولا يطابق شيء منها الآخر، وأما هنا فإن قولي المتبايعين متوافقان، لا يُخالف أحدهما الآخر، فإنه لو خالفه لم يصحّ البيع. والله أعلم. انتهى "طرح التثريب" 6/ 148.

ثم إن هَذَا الافتراق هو الافتراق عن المجلس بالأبدان عند الجمهور، وهو ظاهر اللفظ. وقيل: المراد بالمتبايعين المتساومان اللذان جرى بينهما كلام البيع، وإن لم يتمّ البيع بينهما بالإيجاب والقبول، وهما بالخيار، إذ يجوز لكلّ منهما أن يرجع عن العقد

ص: 109

ما لم يفترقا بالأقوال، وهو الفراغ عن العقد، فصار حاصله: لهما الخيار قبل تمام العقد، وبهذا قَالَ الحنفيّة، ولا يخفى أن الخيار قبل تمام العقد ضروريّ، لا فائدة فِي بيانه، مع ما فيه منْ حمل البيع عَلَى السوم، وحمل التفرّق عَلَى الأقوال، وكلّ ذلك بعده ظاهرٌ، قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: إلا أن يجاب عن الأول بأنه لدفع أن الموجب لا خيار له؛ لأنه أوجب، ثم بعض روايات التفرّق فِي "الصحيحين" ينفي هَذَا الحمل قطعًا. انتهى. فظهر بهذا أن قول الجمهور هو الصحيح، وسيأتي تمام البحث فِي ذلك بعد ثلاثة أبواب، إن شاء الله تعالى.

(فَإِنْ صَدَقَا، وَبَيَّنَا) أي صدق البائع فِي إخبار المشتري مثلاً، وبين العيب، إن كَانَ فِي السلعة، وصدق المشتري فِي قدر الثمن مثلاً، وبيّن العيب، إن كَانَ فِي الثمن. ويحتمل أن يكون الصدق والبيان بمعنى واحدٍ، وذِكرُ أحدهما تأكيد للآخر. قاله فِي "الفتح" 5/ 57 (بُورِكَ فِي بَيْعِهِمَا) فعل مبنيّ للمفعول، ونائب فاعله الجارّ والمجرور (وَإِنْ كَذَبَا، وَكَتَمَا مُحِقَ) بالبناء للمفعول، منْ المحق، يقال: مَحَقَه مَحْقًا، منْ باب نفع: نقصه، وأذهب منه البركة. وقيل: هو ذَهَاب الشيء كلّه، حتّى لا يُرَى له أثرٌ، ومنه قوله تعالى:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} الآية، وانمحق الهلال لثلاث ليال فِي آخر الشهر، لا يكاد يُرى لخفائه، والاسم الْمِحَاق بالضمّ، والكسرُ لغةٌ. قاله الفيّوميّ. وقوله (بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا) بالرفع عَلَى أنه نائب الفاعل، قَالَ فِي "الفتح" 5/ 57: يحتمل أن يكون عَلَى ظاهره، وأن شؤم التدليس، والكذب وقع فِي ذلك العقد، فمحق بركته، وإن كَانَ الصادق مأجورًا، والكاذب مأزورًا. ويحتمل أن يكون ذلك مختصًا بمن وقع منه التدليس، والعيب، دون الآخر، ورجّحه ابن أبي جمرة، انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -4/ 4459 و8/ 4466 - وفي "الكبرى" 4/ 6049 و8/ 6056.

وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 2079 و1940 و2082 و2108 و2110 (م) فِي "البيوع" 2725 (د) فِي "البيوع" 300 (ت) فِي "البيوع" 1167 (أحمد) فِي "مسند المكيّين" 14775 و14785 و15024 (الدارمي) فِي "البيوع"2435. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

ص: 110

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان وجوب التحفّظ فِي البيع والشراء، وذلك لا يكون إلا بصدق كلّ واحد منهما فيما يُخبر به منْ المبيع، أو الثمن، وبيان ما فيهما منْ عيوب، فلا يجوز لمسلم أن يبيع سلعة معيبة، إلا إذا بيّن ما فيها منْ العيب، ومثله المشتري. (ومنها): حصول البركة للمتبايعين إن حصل منهما الشرط، وهو الصدق، والتبيين، ومحقها إن وُجد ضدّهما، وهو الكذب، والكتم، وهل تحصل البركة لأحدهما، إذا وُجد المشروط، دون الآخر؟ ظاهر الْحَدِيث يقتضيه. ويحتمل أن يعود شؤم أحدهما عَلَى الآخر، بأن تُنزع البركة منْ المبيع، إذا وُجد الكذب، أو الكتم منْ كلّ واحد منهما، وإن كَانَ الأجر ثابتًا للصادق المبيّن، والوزر حاصلٌ للكاذب الكاتم.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الأول هو الظاهر؛ لظاهر الْحَدِيث، وَقَدْ تقدّم قريباً أن ابن أبي جمرة رحمه الله تعالى رجّحه. والله تعالى أعلم.

(ومنها): أن الدنيا لا يتمّ حصولها إلا بالعمل الصالح، وأن شؤم المعاصي يَذهب بخير الدنيا والآخرة. (ومنها): بيان فضل الصدق، والحثّ عليه، وأنه سبب لبركة كسب العبد. (ومنها): ذمّ الكذب، والحثّ عَلَى تركه، وأنه سبب لذهاب البركة منْ كسب العبد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌5 - (الْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "المنفق": بصيغة اسم الفاعل، منْ التنفيق، أو الإنفاق، والأول هو المشهور: وهو المروّج متاعه للناس. و"السعلة": -بكسر السين المهملة، وسكون اللام-: البضاعة، وجمعها سِلَع بكسر، ففتح- كسِدْرة وسِدَر. و"الحلف" -بكسر اللام، وتُخفّف بالسكون: اليمين. والله تعالى أعلم بالصواب.

4460 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الْحُرِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ

ص: 111

-صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"، فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا، وَخَسِرُوا، قَالَ:"الْمُسْبِلُ إِزَارَهُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ، وَالْمَنَّانُ عَطَاءَهُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجَال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح.

و"محمد": هو ابن جعفر، غندر. و"عليّ بن مُدرك": هو النخعيّ الكوفيّ الثقة [4]. و"خَرَشة" -بفتحات- "ابن الحرّ" بضم المهملة، اختُلف، قَالَ أبو داود: له صحبة، وَقَالَ العجليّ: ثقة، منْ كبار التابعين. و"أبو زرعة بن عمرو بن جرير": هو البجليّ الكوفيّ، حفيد جرير بن عبد الله البجليّ الصحابيّ رضي الله عنه، قيل: اسمه هَرِم، وقيل: غير ذلك.

والحديث أخرجه مسلم، وتقدّم فِي "كتاب الزكاة" 69/ 2563 - وتقدّم شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد.

وقوله: "ثلاثة لا يكلّمهم الله الخ" الكلام مسوقٌ لإفادة كمال الغضب عليهم، وإلا فلا يغيب أحد عن نظره تعالى، فقوله:"لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم": أي كلامًا يسرّهم، ونظر رحمة ولطف. وقوله:"ولا يزكّيهم": أي لا يطهّرهم عن دنس الذنوب بالمغفرة، أو لا يُثني عليهم بالأعمال الصالحة، ثم كلّ هَذَا مقيّد بأول الأحوال، لا بالدوام، وهو أيضًا بيان ما يستحقّونه، وفضل الله أوسع، فقد قَالَ عز وجل:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .

وقوله: "فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم": أي قرأ هذه الجمل المذكورة.

وقوله: "خابوا، وخسروا" يحتمل أن يكون دعاءً عليهم، أو إخبارًا بخيبتهم، وخسارتهم.

وقوله: "المسبل": اسم فاعل، منْ أسبل: أي منْ يطوّل ثوبه، ويرسله إلى الأرض إذا مشى، وهذا اللفظ مطلق، وَقَدْ قُيّد فِي الرويات الأخرى بأن ذلك إذا فعله تكبّرًا، وخيلاء، وأما غيره، وإن كَانَ منهيًا عنه، لكنه ليس داخلاً فِي هَذَا الوعيد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4461 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ الأَعْمَشُ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الْحُرِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إِلاَّ مَنَّهُ، وَالْمُسْبِلُ إِزَارَهُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْكَذِبِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمرو بن عليّ": هو الفلّاس. و"يحيى": هو

ص: 112

القطّان. و"سفيان": هو الثوريّ. و"سليمان بن مسهر": هو الفزاريّ الكوفيّ، ثقة [4] 69/ 2564. والحديث أخرجه مسلم، كما سبق بيانه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4462 -

(أَخْبَرَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْوَلِيدُ -يَعْنِي ابْنَ كَثِيرٍ- عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَلِفِ فِي الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ يُنَفِّقُ، ثُمَّ يَمْحَقُ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن مروان الحمّال، أبو موسى البغداديّ، ثقة [10] 50/ 62.

2 -

(أبو أسامة) حمّاد بن أسامة القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبت ربما دلّس، وكان بآخره يحدّث منْ كتب غيره، منْ كبار [9] 44/ 52.

3 -

(الوليد بن كثير) المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، ثم الكوفيّ، صدوق، عارف بالمغازي، ورمي برأي الخوارج [6] 44/ 52.

4 -

(معبد بن كعب بن مالك) الأنصاريّ السَّلَميّ المدنيّ، روى عنه جماعة، ووثقه ابن حبّان، وأخرج له البخاريّ ومسلم [3] 48/ 1930.

5 -

(أبو قتادة) الحارث، ويقال: عمرو، أو النعمان بن ربعي -بكسر الراء، وسكون الموحّدة، بعدها مهملة- ابن بُلْدُمة -بضم الموحدة، والمهملة، بينهما لام ساكنة- السلميّ -بفتحتين- المدنيّ، شهد أحدًا، وما بعدها، ولم يصحّ شهوده بدرًا، ومات رضي الله عنه سنة (54) وقيل: سنة (38) والأول أصح. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغداديّ، وشيخ شيخه، فكوفي. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ) رضي الله عنه اختُلف فِي اسمه، كما سبق آنفًا (أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"إِيَّاكُمْ) هَذَا تحذيرٌ، وهو تنبيه المخاطب عَلَى أمر يجب الاحتراز منه، وهو منصوب بفعل محذوف وجوبًا، والتقدير إياكم أحذّر، قَالَ ابن مالك رحمه الله تعالى فِي "خلاصته":

ص: 113

إِيَّاكَ وَالشَّرَّ وَنَحْوَهُ نَصَبْ

مُحَذِّرٌ بِمَا اسْتِتَارُهُ وَجَبْ

وقوله (وَكَثْرَةَ الْحَلِفِ فِي الْبَيْعِ) بنصب "كثرة" بالعطف عَلَى "إيّا"، والمعنى: أحذّركم عن إكثار الحلف فِي البيع، وإنما حذّرهم منه؛ لأن الغالب ممن كثرت أيمانه وقوعه فِي الكذب، والفجور، وإن سلِم منْ ذلك -عَلَى بعده- لم يسلم منْ الحنث، أو الندم؛ لأن اليمين حنث، أو مندمة، وإن سلم منْ ذلك لم يسلم منْ مدح السلعة المحلوف عليها، والإفراط فِي تزيينها؛ ليُروّجها عَلَى المشتري، مع ما فِي ذلك منْ ذكر الله تعالى، لا عَلَى جهة التعظيم، بل عَلَى جهة مدح السلعة، فاليمين عَلَى ذلك تعظيم للسِّلَع، لا تعظيم لله تعالى، وهذه كلّها أنواع منْ المفاسد، لا يُقدِم عليها إلا منْ عقله، ودينه فاسد. قاله فِي "المفهم" 4/ 523.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: [فإن قلت]: ما وجه إيراد المصنّف هَذَا الْحَدِيث فِي هَذَا الباب؛ لأن ظاهره يدلّ عَلَى ذم كثرة الحلف، وإن كَانَ صادقًا، والمصنّف رحمه الله تعالى قيّد الترجمة بالكذب، حيث قَالَ:"المنفّق سلعته بالحلف الكاذب"؟.

[قلت]: وجه إيراده هنا الإشارة إلى أن النهي عن كثرة الحلف إنما هو لكونه مفضيًا إلى أن يحلف كاذبًا فِي بعض الأمور. والله تعالى أعلم.

(فَإِنَّهُ) أي المذكور منْ كثرة الحلف (يُنَفِّقُ) بضم أوله، وتشديد الفاء، منْ التنفيق، ويجوز كونه منْ الإنفاق: أي يروّج السلعة (ثُمَّ يَمْحَقُ) بفتح أوله، وثالثه، منْ باب نفع، كما سبق قريبًا، أي يزيل البركة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي قتادة الأنصاريّ رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -5/ 4462 - وفي "الكبرى" 5/ 6053. (م) فِي "البيوع" 2015 (ق) فِي "التجارات" 2200 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 21504 و21527. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4463 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "الْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلْكَسْبِ").

ص: 114

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ) أبو الطاهر المصريّ، ثقة [10] 35/ 39.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله المصَريّ، ثقة ثبت عابد [9] 9/ 9.

3 -

(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، ثقة ثبت [7] 9/ 9.

4 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الإِمام الحجة الثبت [4] 1/ 1.

5 -

(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ) بن حزن بن أبي وهب المخزومي المدنيّ الثقة الثبت الحجة الفقيه، منْ كبار [3] 9/ 9.

6 -

(أبو هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بثقات المصريّين، والثاني مسلسل بثقات المدنيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، ابن شهاب، عن ابن المسيّب. (ومنها): أن هَذَا السند أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، وقيل: أصحها: أبو الزناد، عن الأعرج، عنه. وقيل: أصحها: حماد بن زيد، عن أيوب السختيانيّ، عن محمد بن سيرين، عنه. وإلى هَذَا أشار السيوطيّ فِي "ألفية الْحَدِيث"، حيث قَالَ:

وَلأَبِي هُرَيْرَةَ الزُّهْريُّ عَنْ

سَعِيدِ أَوْ أَبُو الزِّنَادِ حَيْثُ عَنّ

عَنْ أَعْرَجٍ وَقِيلَ حَمَّادٌ بِمَا

أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدِ لَهُ نَمَى

(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أكثر منْ روى الْحَدِيث فِي دهره، روى (5374) حديثاً. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية البخاريّ: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم"(قَالَ: "الْحَلِفُ) بفتح الحاء المهملة، وكسر اللام، وتسكّن: أي اليمين، قَالَ السيوطيّ فِي "حاشية أبي داود": المراد اليمين الكاذبة. فَقَالَ السنديّ: يمكن إبقاؤه عَلَى إطلاقه؛ لأن الصادق لترويج أمر الدنيا، وتحصيده يتضمّن ذكر الله تعالى للدنيا، وهو لا يخلو عن كراهة مّا، بخلاف يمين المدّعَى عليه، فإنها لإزالة التهمة، فلا كراهة فيها، إذا كانت صادقة. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله السيوطيّ هو الأولى؛ لورده مبيّنا فِي رواية أحمد منْ طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، بلفظ:

ص: 115

"اليمين الكاذبة"، وخير ما فُسّر به الوارد هو الوارد (مَنْفَقَةٌ) بفتح الميم، والفاء، بينهما نون ساكنة، مَفْعَلة منْ النَّفاق -بفتح النون-، وهو الرواج، ضد الكساد (لِلسِّلْعَةِ) بكسر السين المهملة: المتاع (مَمْحَقَةٌ) بالمهملة، والقاف، بوزن ما قبله، وحكى عياض ضمّ أوله، وكسر الحاء، والمحق النقص، والإبطال. وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: الرواية مَنفَقة، ممحقة -بفتح الميم، وسكون ما بعدها، وفتح ما بعدها- وهما فِي الأصل مصدران مزيدان، محدودان، بمعنى النَّفاق، والمحق: أي الحلف الفاجرة تنفق السلعة، وتمحق بسببها البركة، فهي ذات نَفَاق، وذات مَحْق. ومعنى تمحق البركة: أي تُذهبها، وَقَدْ تُذهب رأس المال والربح، كما قَالَ الله تعالى:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} الآية [البقرة: 276] وَقَدْ يتعدّى المحق إلى الحالف، فيُعاقب بإهلاكه، وبتوالي المصائب عليه، وَقَدْ يتعدّى ذلك إلى خراب بيته، وبلده، كما روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"اليمين الفاجرة تذر الديار بلاقع"

(1)

، أي خالية منْ سكانها، إذا توافقوا عَلَى التجرّؤ عَلَى الأيمان الفاجرة. وأما محق الحسنات فِي الآخرة، فلابدّ منه لمن لم يتب، وسبب هَذَا كلّه أن اليمين الكاذبة يمين غَمُوس، يؤكل بها مال المسلم بالباطل. انتهى "المفهم" 4/ 522 - 523.

(لِلْكَسْبِ") هكذا فِي رواية ابن وهب بلفظ "الكسب"، وتابعه الليث عند الإسماعيليّ، ومال الإسماعيليّ إلى ترجيح هذه الرواية، وفي رواية البخاريّ:"للبركة"، ولمسلم:"للربح".

والمعنى أن الحلف مظنّة لرواج السلعة فِي الحال، لكنه مزيل لبركتها فِي المآل، بأن يسلط الله تعالى عليه وجوها منْ أسباب التلف، إما سرقة، أو حرقًا، أو غرَقًا، أو غصبًا، أو نهبًا، أو عوارض أخرى يتلف بها مما شاء الله تعالى، فيكون كسبه، وجمعه مجرّد تعب، وكدّ، وهو عقاب منْ الله تعالى، مع ما ينتظره منْ العذاب الأليم فِي الآخرة، إن لم يتب، كما قَالَ عز وجل:{فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(1)

حديث صحيح، أخرجه البيهقيّ فِي "السنن الكبرى" مطولاً -10/ 35، وانظر "السلسة الصحيحة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى 2/ 706 - 709.

ص: 116

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -5/ 4463 - وفي "الكبرى" 5/ 6053. وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 2087 (م) فِي "البيوع" 1606 (د) فِي "البيوع" 3335 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 6909 و6992 و8981. والكلام عَلَى مناسبة الْحَدِيث للباب تقدّم فِي الْحَدِيث الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌6 - (الْحَلِفِ الْوَاجِبِ لِلْخَدِيعَةِ فِي الْبَيْعِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا النسخ بلفظ "الواجب" بصيغة اسم الفاعل منْ الثلاثيّ، والظاهر كونه بلفظ الموجب بصيغة اسم الفاعل منْ الرباعي، أي هَذَا باب ذكر الْحَدِيث الدالّ عَلَى الوعيد لمن حلف يمينًا، موجبًا للخديعة فِي بيعه، يعني أنه خدع مسلمًا بسبب يمينه الكاذبة. والله تعالى أعلم بالصواب.

4464 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ عز وجل، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ، يَمْنَعُ ابْنَ السَّبِيلِ مِنْهُ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لِدُنْيَا، إِنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ، وَفَّى لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ لَمْ يَفِ لَهُ، وَرَجُلٌ سَاوَمَ رَجُلاً، عَلَى سِلْعَةٍ، بَعْدَ الْعَصْرِ، فَحَلَفَ لَهُ بِاللَّهِ، لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا كَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ الآخَرُ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) الحنظليّ المروزيّ المعروف بابن راهويه، ثقة ثبت [10] 2/ 2.

2 -

(جرير) بن عبد الحميد بن قرط الضبّيّ الكوفيّ، ثقة ثبت [8] 2/ 2.

3 -

(الأعمش) سليمان بن مِهران الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقة ثبت ورع، لكنه يدلس [5] 17/ 18.

ص: 117

4 -

(أبو صالح) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقة ثبت [3] 36/ 40.

5 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنه، وفي رواية للبخاريّ، منْ طريق عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش، سمعت أبا صالح، يقول: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أنه (قالَ: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلْمُهُمُ اللهُ عز وجل أي بكلام منْ رضي عنه، وإنما يكلّمهم بكلام منْ سخط عليه، كما جاء فِي "صحيح البخاريّ" منْ حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا: "يقول الله لمانع الماء: اليوم أمنعك فضلي، كما منعت فضل ما لم تعمل يداك"، وَقَدْ ذكر الله تعالى فِي كتابه العزيز أنه يقول للكافرين: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]. وقيل: معناه: لا يكلّمهم بغير واسطة، استهانة بهم. وقيل: معنى ذلك الإعراض عنهم، والغضب عليهم (وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) أي نظر لطف، ورحمة، وإحسان إليهم؛ إذ نظره تعالى محيط بكل شيء (يَومَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ) قَالَ الزجّاج: لا يُثني عليهم، ومن لم يُثن عليه عذّبه. وقيل: لا يطهّرهم منْ خُبث أعمالهم؛ لعظيم جُرْمهم (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي شديد الألم الموجع (رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ) يعضي بفضل الماء ما فضل عن كفاية السابق للماء، وأخذ حاجته منه، فمن كَانَ كذلك، فمنع ما زاد عَلَى ذلك تعلّق به هَذَا الوعيد (بِالطَّرِيقِ) وفي رواية للشيخين:"بالفلاة": أي القفر، وهو المراد بالطريق هنا، كما قاله فِي "الفتح" 15/ 114 (يَمْنَعُ ابْنَ السَّبِيلِ مِنْهُ) وفي رواية للبخاريّ:"رجل كَانَ له فضل ماء، منعه منْ ابن السبيل"، قَالَ فِي "الفتح": والمقصود واحد، وإن تغاير المفهومان؛ لتلازمهما؛ لأنه إذا منعه منْ الماء، فقد منع الماء منه. انتهى.

و"ابن السبيل": هو المسافر، و"السبيل": الطريق، وسمّي المسافر بذلك؛ لأن الطريق تُبرزه، وتظهره، فكأنها ولدته. وقيل: سُمي بذلك؛ لملازمته إياه، كما يقال فِي الغراب: ابن دَأْيَة؛ لملازمته دَأْية البعير الدَّبِرِ لينقُرها

(1)

.

(1)

"البعير الدبِر": هو الذي تقرّحت دأيته، والدأية منْ البعير: هو الموضع الذي تقع عليه ظَلِفَةُ الرحل، فيعقره.

ص: 118

وهذا الماء هو الذي قد نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن منعه بقوله: "لا يُمْنَعُ فضلُ الماء؛ ليُمْنَعَ به الكلأُ"، متّفقٌ عليه. وَقَدْ أجمع المسلمون عَلَى تحريم ذلك؛ لأنه منع ما لا حقّ له فيه منْ مستحقّه، وربّما أتلفه، أو أتلف ماله وبهائمه، فلو منعه هَذَا الماء حَتَّى مات عطشًا قِيد منه، عند مالك؛ لأنه قتله، كما لو قتله بالجوع، أو بالسلاح. انتهى "المفهم" 1/ 306.

(وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لِدُنْيَا) وفي رواية مسلم: "لا يبايعه إلا لدنيا"، قَالَ القرطبيّ: إنما استحقّ هَذَا الوعيد الشديد؛ لأنه لم يَقُم لله تعالى بما وجب عليه منْ البيعة الدينيّة، فإنها منْ العبادات التي تجب فيها النيّة، والإخلاص، فإذا فعلها لغير الله تعالى منْ دنيا يقصدها، أو غرض عاجل يقصده، بقيت عهدها عليه؛ لأنه منافق مُراء غاشّ للإمام والمسلمين، غير ناصح فِي شيء منْ ذلك، ومن كَانَ هَذَا حاله كَانَ مُثيرًا للفتن بين المسلمين، بحيث يسفك دماءهم، ويستبيح أموالهم، ويهتك بلادهم، ويسعى فِي إهلاكهم؛ لأنه إنما يكون مع منْ بلّغه إلى أغراضه، فيبايعه لذلك، وينصره، ويغضب له، ويقاتل مخالفه، فينشأ منْ ذلك تلك المفاسد، وَقَدْ تكون هذه المخالفة فِي بعض أغراضه، فينكث بيعته، ويطلب هلكته، كما هو حال أهل أكثر هذه الأزمان، فإنهم قد عمّهم الغدر، والخذلان. انتهى "المفهم" 1/ 308 - 309.

(إِنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ) أي منْ أغراضه الدنيويّة (وَفَى لَهُ) أي ما عليه منْ الطاعة، مع أن الوفاء واجب عليه مطلقاً (وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ) أي ما يريده، فالمفعول الثاني محذوف للعلم به (لَمْ يَفِ لَهُ) قَالَ القرطبيّ: هكذا الرواية "وفَى" بتخفيف الفاء، و"يَفِ" محذوف الواو، والياء، مخفّفًا، وهو الصحيح هنا راويةً، ومعنًى؛ لأنه يقال: وفي بعهده يفي وفاءً، والوفاء بالعهد ممدود: ضدّ الغدر، ويقال:"أوفى" بمعنى وفي، وأما "وفّي" المشدّد الفاء، فهي بمعنى توفية الحقّ، وإعطائه، يقال: وفّاه حقّه يوفّيه توفيّةً، ومنه قوله تعالى:{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37]، أي قام بما كلّفه منْ الأعمال، كخصال الفطرة، وغيرها، كما قَالَ الله تعالى:{فَأَتَمَهُنَّ} [البقرة: 124]، وحكى الجوهريّ: أوفاه حقّه، قَالَ: وعلى هَذَا، وعلى ما تقدّم فيكون "أوفى" بمعنى الوفاء بالعهد، وتوفية الحقّ، والأصل فِي "أوفى": أطلّ عَلَى الشيء، وأشرف عليه. انتهى كلام القرطبيّ "المفهم" 1/ 309.

(وَرَجُلٌ سَاوَمَ رَجُلاً) مفاعلة منْ السوم، يقال: سام البائع السلعة سومًا، منْ باب قَالَ: إذا عَرضَها للبيع، والتساوم بين اثنين أن يعرض البائع السلعة بثمن، ويطلبها صاحبه بثمن دون ما طلبه، أفاده الفيّوميّ (عَلَى سِلْعَةٍ) أي عَلَى بيع متاع، وفي رواية البخاريّ:"ورجل بايع رجلا بسلعة"، وفي رواية مسلم:"ورجل بايع رجلاً سلعة"،

ص: 119

قَالَ القرطبيّ: رويناه "سلعة" بغير باء، ورويناه بالباء، فعلى الباء بايع بمعنى ساوم، كما جاء فِي الرواية الأخرى:"ساوم"، مكان "بايع"، وتكون الباء بمعنى "عن"، كما فِي قول الشاعر [منْ الطويل]:

فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإنَّنِي

بَصِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ

أي عن النِّساء. وعلى إسقاطها يكون معنى "بايع" باع، فيتعدّى بنفسه، و"سلعة" مفعوله. انتهى.

(بَعْدَ الْعَصْرِ) أي بعد صلاة العصر، وخصّ بعد العصر مبالغة فِي الذّمّ؛ لأنه وقتٌ يتوب فيه المقصّر تمام النهار، ويشتغل فيه الموفّق بالذكر ونحوه، فالمعصية فِي مثله أقبح. وَقَالَ النوويّ: وخصّ ما بعد العصر بالحلف؛ لشرفه بسبب اجتماع ملائكة الليل والنهار، وغير ذلك. وَقَالَ الخطّابيّ: خصّ وقت العصر بتعظيم الإثم فيه، وإن كانت اليمين الفاجرة محرّمة فِي كل وقت؛ لأن الله عظّم شأن هَذَا الوقت، بأن جعل الملائكة تجتمع فيه، وهو وقت ختام الأعمال، والأمور بخواتيمها، فغلّظت العقوبة فيه؛ لئلا يُقدم عليها تجرّؤًا، فإن منْ تجرّأ عليها فيه اعتادها فِي غيره. وكان السلف يحلفون بعد العصر، وجاء ذلك فِي الْحَدِيث أيضاً. ذكره فِي "الفتح" 15/ 115 - 116.

وَقَالَ القرطبيّ: وتخصيصه بما بعد العصر يدلّ عَلَى أن لهذا الوقت منْ الفضل والحرمة ما ليس لغيره منْ ساعات اليوم، ويظهر لي أن يقال: إنما كَانَ ذلك؛ لأنه عقب الصلاة الوسطى، ولما كانت هذه الصلاة لها منْ الفضل، وعظيم القدر أكثر مما لغيرها، فينبغي لمصلّيها أن يظهر عليه عقبها منْ التحفّظ عَلَى دينه، والتحرّز عَلَى إيمانه أكثر مما ينبغي له عقب غيرها؛ لأن الصلاة حقّها أن تنهى عن الفحشاء والمنكر، كما قَالَ الله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} الآية [العنكبوت: 45] أي تحمل عَلَى الامتناع عن ذلك مما يحدُث فِي قلب المصلّي بسببها منْ النور، والانشراح، والخوف منْ الله تعالى، والحياء منه، ولهذا أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"منْ لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد منْ الله إلا بعدا"

(1)

، وإذا كَانَ هَذَا فِي

(1)

قَالَ الهيثميّ فِي "مجمع الزوائد" 2/ 258: رواه الطبرانيّ فِي "الكبير"، وفيه ليث بن أبي سُليم، وهو ثقة، ولكنه مدلّس، منْ حديث ابن عباس، ورواه أيضًا منْ حديث ابن مسعود، ورجاله رجال الصحيح.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: بل الْحَدِيث ضعيف مرفوعًا، وقوله ليث بن أبي سليم ثقة، فيه نظر، بل هو متروك؛ لأنه اختلط أخيرًا، ولم يتميّز حديثه، فترك، كما قاله الحافظ فِي "التقريب". أما أثر ابن مسعود رضي الله عنه فصحيح، موقوفًا عليه، لكن تكلّم العلماء فيه، قَالَ الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام رحمه الله تعالى: لا يصحّ حمله عَلَى ظاهره؛ لأن ظاهره معارض بما =

ص: 120

الصلوات كلّها، كانت الوسطى بذلك أولى، وحقّها فِي ذلك أكثر، وأوفى، فمن اجترأ بعدها عَلَى اليمين الغموس التي يأكل بها مال الغير، كَانَ إثمه أشدّ، وقلبه أفسد. والله تعالى أعلم.

قَالَ: وهذا الذي ظهر لي أولى مما قاله القاضي أبو الفضل، فإنه قَالَ: إنما كَانَ ذلك لاجتماع ملائكة الليل وملائكة النهار فِي ذلك الوقت؛ لوجهين:

[أحدهما]: أن هَذَا المعنى موجود فِي صلاة الفجر؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ثم يجتمعون فِي صلاة العصر، وصلاة الفجر"، متّفقٌ عليه، وعلى هَذَا فتبطل خصوصيّة العصر؛ لمساواة الفجر لها فِي ذلك.

[وثانيهما]: أن حضور الملائكة، واجتماعهم إنما فِي حال فعل هاتين الصلاتين، لا بعدهما، كما قد نصّ عليه فِي الْحَدِيث، حين قَالَ:"يجتمعون فِي صلاة الفجر، وصلاة العصر، وتقول الملائكة: أتيناهم، وهم يصلّون، وتركناهم، وهم يصلّون"، وهذا يدلّ دلالة واضحةً عَلَى أن هؤلاء الملائكة لا يشاهدون منْ أعمال العباد إلا الصلوات فقط، وبها يشهدون، فتدبّر ما ذكرته، فإنه الأنسب الأسلم. والله تعالى أعلم. انتهى "المفهم" 1/ 307 - 308.

(فَحَلَفَ لَهُ بِاللهِ، لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا كَذَا وَكَذَا) بضمّ همزة "أُعطي"، وكسر الطاء، مبنيًا للمفعول: أي أعطاه غيره ثمنًا معيّنًا، ويجوز أن يكون مبنيًا للفاعل، والضمير للحالف: أي دفع هو ثمنًا معيّنًا، ورجّح فِي "الفتح" 15/ 114 - هَذَا الثاني، قَالَ: ووقع فِي رواية عبد الواحد بلفظ: "لقد أعطيتُ بها"، وفي رواية أبي معاوية:"فحلف له بالله لأخذها بكذا": أي لقد أخذها. وفي رواية عمرو بن دينار، عن أبي صالح:"لقد أَعطى بها أكثر مما أُعطي"، بفتح الهمزة والطاء، وفي بعضها بضمّ أوله، وكسر الطاء، والأول أرجح. انتهى.

= ثبت فِي الأحاديث الصحيحة منْ أن الصلاة مكفّرة للذنوب، فكيف تكون مكفّرة، ويزداد بها بعدًا؟ هَذَا مما لا يُعقل، ثم قَالَ: وحمل الْحَدِيث عَلَى المبالغة والتهديد ممكن عَلَى اعتبار أنه موقوف عَلَى ابن عباس، أو غيره، وأما عَلَى أنه منْ كلامه صلى الله عليه وسلم فهو بعيد عندي. -والله أعلم-. قَالَ: ويشهد لذلك ما ثبت فِي البخاريّ أن رجلاً أصاب منْ امرأة قبلة، فذكر ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} . انتهى مختصرًا.

وَقَالَ شيخ الإِسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى: هَذَا الْحَدِيث ليس بثابت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لكن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر كما ذكر الله فِي كتابه، وبكل حال فالصلاة لا تزيد صاحبها بعدًا، بل الذي يصلي خير منْ الذي لا يصلي، وأقرب إلى الله منه، وإن كَانَ فاسقًا. انتهى.

انظر تفاصيل أقوالهم فِي "السلسلة الضعيفة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى 1/ 14 - 17 رقم الْحَدِيث 2.

ص: 121

وَقَالَ القرطبيّ: يعني أنه كذب، فزاد فِي الثمن الذي اشترى به، فكذب، واستخفّ باسم الله تعالى، حين حلف به عَلَى الكذب، وأخذ مال غيره ظلمًا، فقد جمع بين كبائر، فاستحقّ هَذَا الوعيد الشديد. انتهى.

(فَصَدَّقَهُ الآخَرُ) أي وهو المشتري. وفي رواية البخاريّ: "فصدّقه، فأخذها، ولم يُعطِ بها": أي لم يعط القدر الذي حلف أنه أعطى عوضها. وفي رواية: "فصدّقه، وهو عَلَى غير ذلك". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث.

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -6/ 4464 - وفي "الكبرى" 6/ 6054. وأخرجه (خ) فِي "المساقاة" 2358 و2369 و"الشهادات" 2672 و"الأحكام" 7212 و"التوحيد" 7446 (م) فِي "الإيمان" 108 (ت) فِي "السير" 1595 (ق) فِي "التجارات" 2207 و"الجهاد" 2870 و"الفتن" 4037 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 7292 و9866. والله تعالى أعلم.

[تنبيهان]:

(أحدهما): خالف الأعمش فِي سياق هَذَا المتن، عمرو بن دينار، عن أبي صالح، فقد أخرجه البخاريّ فِي "الشرب" و"التوحيد" منْ طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة نحوَ صدر حديث الباب، وَقَالَ فيه:"ورجل عَلَى سلعة" الْحَدِيث، "ورجل منع فضل ماء" الْحَدِيث، "ورجل حلف عَلَى يمين كاذبة، بعد العصر؛ ليقتطع بها مال رجل مسلم"، قَالَ الكرماني: ذَكَرَ عوض الرجل الثاني، وهو المبايع للإمام آخر، وهو الحالف ليقتطع مال المسلم، وليس ذلك باختلاف؛ لأن التخصيص بعدد، لا ينفى ما زاد عليه. انتهى.

وَقَالَ الحافظ: ويحتمل أن يكون كل منْ الراويين، حفظ ما لم يحفظ الآخر؛ لأن المجتمع منْ الحديثين أربع خصال، وكل منْ الحديثين مُصَدَّر بـ"ثلاثة"، فكأنه كَانَ فِي الأصل أربعة، فاقتصر كل منْ الراويين عَلَى واحد، ضمه مع الاثنين الذين توافقا عليهما، فصار فِي رواية كل منهما ثلاثة، ويؤيده ما سيأتي فِي التنبيه الثاني.

[ثانيهما]: أخرج مسلم هَذَا الْحَدِيث منْ رواية الأعمش أيضاً، لكن عن شيخ له آخر، بسياق آخر، فذكر منْ طريق أبي معاوية، ووكيع جميعًا، عن الأعمش، عن أبي

ص: 122

حازم، عن أبي هريرة، كصدر حديث الباب، لكن قَالَ:"شيخ زانٍ، ومَلِكٌ كذاب، وعائل مستكبر". والظاهر أن هَذَا حديث آخر، أخرجه منْ هَذَا الوجه، عن الأعمش، فَقَالَ: عن سليمان بن مسهر، عن خَرَشَة بن الْحُرّ، عن أبي ذر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة: المنان الذي لا يعطي شيئاً، إلا مَنَّهُ، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل إزاره"، وهو الْحَدِيث الذي مضى للنسائيّ فِي الباب الماضي.

قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: وليس هَذَا الاختلاف عَلَى الأعمش فيه، بقادح؛ لأنها ثلاثة أحاديث عنده، بثلاثة طرق، ويجتمع منْ مجموع هذه الأحاديث تسع خصال، ويحتمل أن تبلغ عشرا؛ لأن المنفق سلعته بالحلف الكاذب، مغاير للذي حلف لقد أعطي بها كذا؛ لأن هَذَا خاص بمن يكذب، فِي أخبار الشراء، والذي قبله أعمّ منه، فتكون خصلة أخرى. أفاده فِي "الفتح" 15/ 115. "كتاب الأحكام" رقم 7212. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان الوعيد الشديد لمن خدع مسلمًا فِي البيع بحلفه الكاذب. (ومنها): أن فيه الوعيد الشديد لمن نكث بيعة إمام، وخرج عليه؛ وذلك لما فيه منْ تفريق الكلمة، وشقّ العصى، ونشر الفساد والظلم والفحشاء بين الأمة، وفي الوفاء بالعهد تحصين للفروج، والأموال، وحقن للدماء. (ومنها): أن كلّ عمل لا يراد وجه الله تعالى، بل العرض الدنيويّ، فإنه وبالٌ عَلَى صاحبه، وخسران مبين. (ومنها): الوعيد الشديد لمن منع فضل الماء المسافر المحتاج إلى الماء، قَالَ النوويّ: لكن يُستثنى منْ ذلك الحربيّ، والمرتدّ، إذا أصرّا عَلَى الكفر، فلا يجب بذل الماء لهما. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

‌7 - (الأَمْرِ بِالصَّدَقَةِ لِمَنْ لَمْ يَعْتَقِدِ الْيَمِينَ بِقَلْبِهِ فِي حَالِ بَيْعِهِ)

4465 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ قَيْسِ

ص: 123

بْنِ أَبِي غَرَزَةَ، قَالَ: كُنَّا بِالْمَدِينَةِ نَبِيعُ الأَوْسَاقَ، وَنَبْتَاعُهَا، وَنُسَمِّي أَنْفُسَنَا السَّمَاسِرَةَ، وَيُسَمِّينَا النَّاسُ، فَخَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَمَّانَا بِاسْمٍ هُوَ خَيْرٌ لَنَا، مِنَ الَّذِي سَمَّيْنَا بِهِ أَنْفُسَنَا، فَقَالَ:"يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ، إِنَّهُ يَشْهَدُ بَيْعَكُمُ الْحَلِفُ، وَاللَّغْوُ، فَشُوبُوهُ بِالصَّدَقَةِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث صحيح، وَقَدْ تقدّم فِي "كتاب الأيمان والنذور" 22/ 3824 بنفس الترجمة المذكورة هنا، وَقَدْ استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

و"جرير": هو ابن عبد الحميد. و"منصور": هو ابن المعتمر. و"أبو وائل": هو شقيق بن سلمة.

وقوله: "نبيع الأوساق" جمع وسق بكسر الواو، وفتحها: مكيلة معلومة، وقيل: حمل بعير. والظاهر أنهم كانوا يبيعون نفس الوسق، ويحتمل أن يكون المراد ما يكال بالوسق، منْ الحبوب.

وقوله: "السماسرة" جمع سمسار بكسر أوله، وهو الذي يتوسط بين البائع والمشتري فِي إمضاء البيع.

وقوله: "باسم هو خير لنا" إنما كَانَ خيرًا لهم؛ لأن التجارة منْ الألفاظ العربيّة، "وبخلاف السمسرة، فإنها كلمة عجميّة، تلقّوها منْ العجم، وذلك لأن أكثر منْ يعالج البيع والشراء كانوا عجمًا.

وقوله: "إنه يشهد بيعكم الخ" الضمير المنصوب بـ"إن" للشأن.

وقوله: "فشوبوه" أمر منْ الشوب بمعنى الخلط، أمرهم به ليكون كفّارة لما يجري بينهم منْ الكذب وغيره، والمراد بها صدقة غير معيّنة، حسب تضاعيف الآثام. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

‌8 - (وُجُوبِ الْخِيَارِ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ قَبْلَ افْتِرَاقِهِمَا)

4466 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو الأَشْعَثِ، عَنْ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ -وَهُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ- عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ صَالِحٍ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، أَنَّ

ص: 124

رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ، مَا لَمْ يَفْتَرِقَا، فَإِنْ بَيَّنَا، وَصَدَقَا، بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا، وَكَتَمَا، مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم قبل ثلاثة أبواب، ومضى شرحه، وبيان مسائله هناك.

و"أبو الأشعث": هو أحمد بن المقدام العجليّ البصريّ، صدوق [10] 138/ 319.

و"خالد": هو ابن الحارث الهجيميّ البصريّ الحافظ الثبت [8].

ودلالة الْحَدِيث عَلَى الترجمة واضحة، حيث يدلّ عَلَى ثبوت الخيار للمتبايعين ما داما فِي المجلس، وسيأتي بيان اختلاف العلماء فيه فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌9 - (ذِكْرِ الاِخْتِلَافِ عَلَى نَافِعٍ فِي لَفْظِ حَدِيثِهِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الاختلاف عَلَى نافع فِي لفظ هَذَا الْحَدِيث واضحٌ، فإنه رواه عنه سبعة أنفس، وهم: مالك، وعبد الله العمريّ، واسماعيل بن أميّة، وابن جريج، وأيوب السختيانيّ، وله روايان: شعبة، وابن عليّة، والليث بن سعد، ويحيى ابن سعيد الأنصاريّ، وله راويان: عبد الوهّاب الثقفيّ، وهُشيم بن بشير، وكلهم رووه بألفاظ مختلفة، كما سيتّضح فِي رواياتهم الآتية، إن شاء الله تعالى.

4467 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ، عَلَى صَاحِبِهِ، مَا لَمْ يَفْتَرِقَا، إِلاَّ بَيْعَ الْخِيَارِ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن سلمة) بن أبي فاطمة المراديّ الجمليّ، أبو الحارث المصريّ، ثقة [11] 19/ 20.

ص: 125

2 -

(الحارث بن مسكين) بن محمد، أبو عمرو المصريّ القاضي، ثقة فقيه [10] 9/ 9.

3 -

(ابن القاسم) هو عبد الرحمن الْعُتَقي المصريّ الفقيه، ثقة، منْ كبار [10] 19/ 20.

4 -

(مالك) بن أنس، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبتين [7] 7/ 7.

5 -

(نافع) مولى ابن عمر المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 12/ 12.

6 -

(عبد الله بن عمر) بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه الحارث، فقد تفرد به هو وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخيه وابن القاسم، فمصريون. (ومنها): أن هَذَا السند هو الذي قيل فيه: إنه أصحّ الأسانيد مطلقًا، كما نُقِلَ ذلك عن الإِمام البخاريّ رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: قَالَ: "الْمُتَبَايِعَانِ) أي البائع والمشتري، وتسمية المشتري بائعًا جائز كما سبق، وَقَالَ وليّ الدين رحمه الله تعالى: قوله: "المتبايعان" كذا فِي أكثر الروايات، وفي بعضها:"البيّعان"، وكلاهما فِي "الصحيحين"، ولم يرد فِي شيء منْ طرقه فيما أعلم:"البائعان"، وإن كَانَ استعمال لفظ البائع أغلب، وَقَدْ استُعمل فِي اللغة الأمران، كما فِي ضَيِّقٍ، وضائق، وَصَيِّنٍ، وصائن، انتهى "طرح التثريب" 6/ 148.

(كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ) أي فِي إمضاء البيع (عَلَى صَاحِبِهِ، مَا لَمْ يَفْتَرِقَا) وفي رواية: "يتفرّفا" بتقديم التاء عَلَى الفاء، وتقدّم الكلام فِي الفرق بينهما قريباً (إِلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ) أي فلا يحتاج إلى التفرّق، وفي الرواية الآتية:"إلا أن يكون البيع كَانَ عن خيار، فإن كَانَ البيع عن خيار، فقد وجب البيع"، وفي رواية:"أو يقول أحدهما للآخر: اختر".

وَقَدْ اختلف العلماء فِي المراد بقوله: "إلا بيع الخيار"، فَقَالَ الجمهور، وبه جزم الشافعيّ: هو استثناء منْ امتداد الخيار إلى التفرق، والمراد أنهما إن اختارا إمضاء البيع

ص: 126

قبل التفرق، لزم البيع حينئذ، وبطل اعتبار التفرق، فالتقدير: إلا البيع الذي جرى فيه التخاير.

قَالَ النوويّ: اتفق أصحابنا عَلَى ترجيح هَذَا التأويل، وأبطل كثير منهم ما سواه، وغَلَّطُوا قائله. انتهى. ورواية الليث الآتية فِي -4474 ظاهرة جدًّا فِي ترجيحه.

وقيل. هو استثناء منْ انقطاع الخيار بالتفرق. وقيل: المراد بقوله: "أو يُخيّر أحدهما الآخر": أي فيشترط الخيار مدة معينة، فلا ينقضي الخيار بالتفرق، بل يبقى حَتَّى تمضى المدة. حكاه ابن عبد البرّ، عن أبي ثور، ورجح الأول، بأنه أقل فِي الإضمار، وتُعَيِّنُه رواية النسائيّ الآتية بعد حديث، منْ طريق إسماعيل، قيل: هو ابن أمية، وقيل: غيره، عن نافع، بلفظ:"إلا أن يكون البيع، كَانَ عن خيار، فإن كَانَ البيع عن خيار، وجب البيع".

وقيل: هو استثناء منْ إثبات خيار المجلس، والمعنى: أو يخير أحدهما الآخر، فيختار فِي خيار المجلس، فينتفى الخيار. وهذا أضعف الاحتمالات.

وقيل: قوله: "إلا أن يكون بيع خيار": أي هما بالخيار، ما لم يتفرقا، إلا أن يتخايرا، ولو قبل التفرق، وإلا أن يكون البيع بشرط الخيار، ولو بعد التفرق، وهو قول يجمع التأويلين الأولين، ويؤيده رواية عبد الرزاق، عن سفيان، بلفظ:"إلا بيع الخيار، أو يقول لصاحبه: اختر"، إن حملنا "أو" عَلَى التقسيم، لا عَلَى الشك. قاله فِي "الفتح" 5/ 61 - 62.

وَقَالَ الحافظ وليّ الدين رحمه الله تعالى: اختُلف فِي قوله: "إلا بيع الخيار" عَلَى أقوال:

[أحدها]: أنه استثناء منْ امتداد الخيار إلى التفرّق، والمراد ببيع الخيار أن يتخايرا فِي المجلس، ويختارا إمضاء البيع، فيلزم بنفس الخيار، ولا يدوم إلى التفرّق، ويدلّ لهذا قوله فِي رواية أيوب السختيانيّ، وهي فِي "الصحيح":"ما لم يتفرّقا، أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر"، وربّما قَالَ:"أو يكون بيع الخيار"، فلما وَضَع قوله:"أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر"، موضع "بيع الخيار"، دلّ عَلَى أنه بمعناه، ويدلّ لذلك قوله فِي رواية أخرى:"ما لم يتفرّقا، أو يختارا"، وكذا قوله فِي رواية أخرى:"ما لم يتفرقا، وكانا جميعًا، أو يخيّر أحدهما الآخر".

وَقَدْ رجّح الشافعيّ رحمه الله هَذَا المعنى، فَقَالَ فيما رواه البيهقيّ فِي "المعرفة": واحتمل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إلا بيع الخيار" معنيين: [أظهرهما]: عند أهل العلم باللسان، وأولاهما بمعنى السنّة، والاستدلال بها، والقياس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جعل الخيار للمتبايعين، والمتبايعان اللذان عقدا البيع، حَتَّى يتفرّقا، إلا بيع الخيار، فإن الخيار إذا كَانَ لا ينقطع بعد عقد البيع فِي السنة حَتَّى يتفرّقا، وتفرّقهما هو أن يتفرقا عن

ص: 127

مُقامهما الذي تبايعا فيه، كَانَ بالتفرّق، أو بالتخيير، وكان موجودًا فِي اللسان، والقياس إذا كَانَ البيع يجب بشيء بعد البيع، وهو الفراق أن يجب بالثاني بعد البيع، فيكون إذا خيّر أحدهما صاحبه بعد البيع، كَانَ الاختيار تحديد شيء يوجبه، كما كَانَ التفرّق تحديد شيء يوجبه، ولو لم يكن فيه سنة تبيّنه بمثل ما ذهبت إليه كَانَ ما وصفنا أولى المعنيين أن يؤخذ به؛ لما وصفت منْ القياس، مع أن سفيان بن عيينة أخبرنا عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، قَالَ: خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً بعد البيع، فَقَالَ الرجل: عمرك الله، ممن أنت؟ فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"امرؤ منْ قريش"، قَالَ: فكان أبي يحلف ما كَانَ الخيار إلا بعد البيع. قَالَ الشافعيّ: وبهذا نقول

(1)

. وكذا حكاه الترمذيّ عن الشافعيّ، وغيره، وحكاه ابن المنذر عن الثوريّ، والأوزاعيّ، وابن عيينة، وعبيد الله بن الحسن العنبريّ، والشافعيّ، وإسحاق بن راهويه. وَقَالَ النوويّ فِي "شرح مسلم": اتّفق أصحابنا عَلَى ترجيح هَذَا القول، وأبطل كثير منهم ما سواه، وغلّطوا قائله. وممن رجحه منْ المحدّثين البيهقيّ، ثم بسط دلائله، وبيّن ضعف ما يعارضها.

[القول الثاني]: أنه استثناء منْ انقطاع الخيار بالتفرّق، والمراد إلا بيعًا شُرِط فيه خيار الشرط، ثلاثة أيام، أو دونها، فلا ينقضي الخيار فيه بالتفرّق، بل يبقى حَتَّى تنقضي المدّة المشروطة. حكى ابن عبد البرّ هَذَا عن الشافعيّ، وأبي ثور، وجماعة.

[القول الثالث]: أنه استثناء منْ إثبات الخيار، والمعنى: إلا بيعًا شُرِط فيه نفي خيار المجلس، فيلزم البيع، ولا يكون فيه خيار. انتهى "طرح التثريب" 6/ 156 - 157.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يترجح عندي هو القول الأول الذي رجحه الشافعيّ رحمه الله تعالى؛ لقوة حجته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -9/ 4467 و4468 و4469 و4470 و4471 و4472 و4473 و4474 و4475 و4476 و10/ 4477 و4478 و4479 و4480 و4481 و4482 و4483 و4484 - وفي "الكبرى" 8/ 6056 و6057 و6058 و6059 و6060 و6061

(1)

"معرفة السنن والآثار" 4/ 281 - 282.

ص: 128

و6062 و6063 و6064 و6065 و6066 و9/ 6067 و6068 و6069 و 070 و6071 و6072. وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 2107 و2109 و2111 و2112 و2113 (م) فِي "البيوع" 1531 (د) فِي "البيوع" 3454 (ت) فِي "البيوع" 1245 (ق) فِي "التجارات" 2181 (أحمد) فِي "مسند العشرة" 395 و4470 و4552 و5136 و5395 و5970 و6158 (الموطأ) فِي "البيوع" 1374. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): بيان ثبوت الخيار للمتبايعين. (ومنها): جواز البيع بشرط الخيار. (ومنها): ثبوت خيار المجلس فِي البيع، وهو قول الجمهور، وسيأتي تحقيق الخلاف فيه فِي المسألة التالية، إن شاء الله تعالى. (ومنها): بيان عظم ما جاءت به الشريعة الغرّاء، حيث تكفّلت مصالح العباد فِي كلّ شؤون حياتهم، فشرعت التروّي فِي أبواب كثيرة منْ أبواب المعاملات، كباب البيع، فمثلاً شرعت الخيار فِي هَذَا الباب لكلّ منْ المتبايعين، حَتَّى لا يقع واحد منهما فِي ندم لا يمكنه تلافيه، فإنه إذا أتيح له وقت واسع يتروّى فيه، ويفكّر فيما يؤول إليه أمره، يسلم منْ هَذَا الندم، ويُقدِم عَلَى هَذَا الفعل، وهو عَلَى بصيرة منْ أمره، والعكس بالعكس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم خيار المجلس:

ذهب الجمهور، منْ السلف، والخلف إلى ثبوته، وممن قَالَ به عليّ بن أبي طالب، وابن عمر، وابن عبّاس، وأبو هريرة، وأبو برزة الأسلميّ، وطاوس، وسعيد بن المسيّب، وعطاء، وشُريح القاضي، والحسن البصريّ، والشعبيّ، والزهريّ، وابن جريج، والأوزاعيّ، وابن أبي ذئب، والليث بن سعد، وسفيان بن عيينة، والشافعيّ، ويحيى القطّان، وعبد الرحمن بن مهديّ، وعبيد الله بن الحسن العنبريّ، وسوّار القاضي، ومسلم بن خالد الزنجيّ، وابن المبارك، وعلي بن المدينيّ، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، وأبو عبيد، والبخاريّ، وسائر المحدّثين، وآخرون، وَقَالَ به منْ المالكيّة عبد الملك بن حبيب.

وذهب مالك، وأبو حنيفة، وأصحابهما إلى إنكار خيار المجلس، وقالوا: إنه يلزم البيع بنفس الإيجاب والقبول، وبه قَالَ إبراهيم النخعيّ، واختُلف فِي ذلك عن ربيعة، وسفيان الثوريّ، قَالَ ابن حزم: ما نعلم لهم منْ التابعين سلفًا، إلا إبراهيم وحده، ورواية مكذوبة عن شريح، والصحيح عنه موافقة الحقّ. وكذا قَالَ ابن عبد البرّ: لا أعلم أحدًا ردّه غير هذين الاثنين، إلا ما روي عن إبراهيم النخعيّ. انتهى. هكذا ذكر

ص: 129

ولي الدين رحمه الله تعالى فِي "طرحه" 6/ 149.

وَقَالَ فِي "الفتح" فِي شرح هَذَا الْحَدِيث: وفيه دليل عَلَى إثبات خيار المجلس، وَقَدْ مضى قبل بباب أن ابن عمر، حصله عَلَى التفرق بالأبدان، وكذلك أبو برزة الأسلمي، ولا يعرف لهما مخالف منْ الصحابة، وخالف فِي ذلك إبراهيم النخعي، فروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عنه: قَالَ: البيع جائز، وإن لم يتفرقا. ورواه سعيد بن منصور عنه، بلفظ: إذا وجبت الصفقة، فلا خيار. وبذلك قَالَ المالكية، إلا ابن حبيب، والحنفية كلهم، قَالَ ابن حزم: لا نعلم لهم سلفا، إلا إبراهيم وحده. وَقَدْ ذهبوا فِي الجواب عن هَذَا الْحَدِيث فِرَقًا:

فمنهم منْ رده؛ لكونه معارضا لما هو أقوى منه. وردّ بأنه لا يوجد ما هو أقوى، بل ولا ما يساويه. ومنهم منْ صححه، ولكن أوّله عَلَى غير ظاهره، وهؤلاء المأولون عَلَى أقوال، نلخّصها فيا يلي:

[أحدها]: قالت طائفة منهم: هو منسوخ، بحديث:"المسلمون عَلَى شروطهم"، والخيار بعد لزوم العقد، يفسد الشرط، وبحديث التحالف عند اختلاف المتبايعين؛ لأنه يقتضى الحاجة إلى اليمين، وذلك يستلزم لزوم العقد، ولو ثبت الخيار، لكان كافيا فِي رفع العقد. وبقوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} الآية، والإشهاد إن وقع بعد التفرق، لم يطابق الأمر، وإن وقع قبل التفرق، لم يصادف محلا.

ولا حجة فِي شيء منْ ذلك؛ لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، والجمع بين الدليلين مهما أمكن، لا يصار معه! إلى الترجيح، والجمع هنا ممكن بين الأدلة المذكورة، بغير تعسف، ولا تكلف.

[ثانيها]: قَالَ بعضهم: هو منْ رواية مالك، وَقَدْ عمل بخلافه، فَدَلّ عَلَى أنه عارضه ما هو أقوى منه، والراوي إذا عمل بخلاف ما رَوَى، دلّ عَلَى وَهْن المروي عنده.

وتعقب بأن مالكا لم يتفرد به، فقد رواه غيره، وعمل به، وهم أكثر عددا، رواية، وعملاً، وَقَدْ خص كثير منْ محققى أهل الأصول الخلاف المشهور، فيما إذا عمل الراوي بخلاف ما روى بالصحابة، دون منْ جاء بعدهم، ومن قاعدتهم: أن الراوي أعلمُ بما روى، وابن عمر هو راوي الخبر، وكان يفارق إذا باع ببدنه، فاتباعه أولى منْ غيره.

[ثالثها]: قالت طائفة: هو معارض بعمل أهل المدينة، ونقل ابن التين عن أشهب، بأنه مخالف لعمل أهل مكة أيضًا.

ص: 130

وتعقب بأنه قَالَ به ابن عمر، ثم سعيد بن المسيب، ثم الزهريّ، ثم ابن أبي ذئب، كما مضى، وهؤلاء منْ أكابر علماء أهل المدينة، فِي أعصارهم، ولا يحفظ عن أحد منْ علماء المدينة القول بخلافه، سوى عن ربيعة، وأما أهل مكة، فلا يَعرف أحد منهم القول بخلافه، فقد سبق عن عطاء، وطاوس، وغيرهما منْ أهل مكة. وَقَدْ اشتد إنكار ابن عبد البرّ، وابن العربي عَلَى منْ زعم منْ المالكية، أن مالكا ترك العمل به، لكون عمل أهل المدينة عَلَى خلافه.

وأيضاً فإن إجماعهم عَلَى تقدير صحته ليس حجة، قَالَ الشيخ تقيّ الدين ابن دقيق العيد رحمه الله فِي "شرح العمدة": الحقّ الذي لا شكّ فيه أن إجماعهم لا يكون حجة فيما طريقه الاجتهاد والنظر؛ لأن الدليل العاصم للأمة منْ الخطإ فِي الاجتهاد لا يتناول بعضهم، ولا مستند للعصمة سواه، وكيف يمكن أن يقال: بأن منْ كَانَ بالمدينة منْ الصحابة يُقبل خلافه ما دام مقيما بها، فإذا خرج عنها لم يقبل خلافه، هَذَا محال، فإن قبول قوله باعتبار صفات قائمة به، حيث حلّ، وَقَدْ خرج منها عليّ رضي الله عنه، وهو أفضل أهل زمانه بإجماع أهل السنّة، وَقَالَ أقوالاً بالعراق، كيف يمكن أن تهدر إذا خالفها أهل المدينة، وهو كَانَ رأسهم، وكذلك ابن مسعود رضي الله عنه، ومحلّه منْ العلم معلوم، وغيرهما قد خرجوا، وقالوا أقوالاً، عَلَى أن بعض النَّاس يقولون: إن المسائل المختلف فيها خارج المدينة، مختلف فيها بالمدينة، وادّعى العموم فِي ذلك. انتهى. ذكره فِي "الطرح" 6/ 150.

وَقَالَ ابن العربي: إنما لم يأخذ به مالك؛ لأن وقت التفرق غير معلوم، فأشبه بيوع الغرر، كالملامسة.

وتعقب بأنه يقول بخيار الشرط، ولا يحده بوقت معين، وما ادّعاه منْ الغرر موجود فيه، وبأن الغرر فِي خيار المجلس معدوم؛ لأن كلا منهما متمكن منْ إمضاء البيع، أو فسخه بالقول، أو بالفعل، فلا غرر.

(رابعها): قالت طائفة: هو خبر واحد، فلا يُعمل به إلا فيما تعم به البلوي. ورد بأنه مشهور، فيعمل به كما ادعوا نظير ذلك فِي خبر القهقهة فِي الصلاة، وإيجاب الوتر.

(خامسها): قَالَ آخرون: هو مخالف للقياس الجلي، فِي إلحاق ما قبل التفرق بما بعده. وتعقب بأن القياس مع النص فاسد الاعتبار.

(سادسها): قَالَ آخرون: التفرق بالأبدان محمول عَلَى الاستحباب، تحسينا للمعاملة مع المسلم، لا عَلَى الوجوب.

(سابعها): قَالَ آخرون: هو محمول عَلَى الاحتياط؛ للخروج منْ الخلاف، وهذا

ص: 131

والذي قبله عَلَى خلاف الظاهر، ولا يُعدل عن الظاهر إلا بدليل، ولا يوجد.

(ثامنها): قالت طائفة: المراد بالتفرق فِي الْحَدِيث، التفرق بالكلام، كما فِي عقد النكاح، والإجارة، والعتق. وتعقب بأنه قياس مع ظهور الفارق؛ لأن البيع يُنقل فيه ملك رقبة المبيع، ومنفعته، بخلاف ما ذُكر.

وَقَالَ ابن حزم: سواء قلنا: التفرق بالكلام، أو بالأبدان، فإن خيار المجلس بهذا الْحَدِيث ثابت، أما حيث قلنا: التفرق بالأبدان فواضح، وحيث قلنا: بالكلام فواضح أيضاً؛ لأن قول أحد المتبايعين مثلا: بعتكه بعشرة، وقول الآخر: بل بعشرين مثلا: افتراق فِي الكلام بلا شك، بخلاف ما لو قَالَ: اشتريته بعشرة، فإنهما حينئذ متوافقان، فيتعين ثبوت الخيار لهما حين يتفقان، لا حين يتفرقان، وهو المدَّعَى.

(تاسعها): قيل: المراد بالمتبايعين المتساومان. ورد بأنه مجاز، والحمل عَلَى الحقيقة، أو ما يقارب منها أولى.

واحتج الطحاوي بآيات، وأحاديث، استعِمل فيها المجاز، وَقَالَ: منْ أنكر استعمال لفظ البائع فِي السائم، فقد غفل عن اتساع اللغة.

وتعقب بأنه لا يلزم منْ استعمال المجاز فِي موضع، طرده فِي كل موضع، فالأصل منْ الإطلاق الحقيقة، حَتَّى يقوم الدليل عَلَى خلافه.

وقالوا أيضاً: وقت التفرق فِي الْحَدِيث، هو ما بين قول البائع: بعتك هَذَا بكذا، وبين قول المشترى: اشتريت، قالوا: فالمشتري بالخيار فِي قوله: اشتريت، أو تركه، والبائع بالخيار إلى أن يوجب المشتري، وهكذا حكاه الطحاوي عن عيسى بن أبان منهم، وحكاه ابن خويزمنداد عن مالك، قَالَ عيسى بن أبان: وفائدته تظهر فيما لو تفرقا قبل القبول، فإن القبول يتعذر. وتعقب بأن تسميتهما متبايعين، قبل تمام العقد مجاز أيضاً. فأجيب بأن تسميتهما متبايعين بعد تمام العقد مجاز أيضاً؛ لأن اسم الفاعل فِي الحال حقيقة، وفيما عداه مجاز، فلو كَانَ الخيار بعد انعقاد البيع، لكان لغير البيعين، والحديث يرده، فتعين حمل التفرق عَلَى الكلام.

وأجيب: بأنه إذا تعذر الحمل عَلَى الحقيقة، تعين المجاز، وإذا تعارض المجازان، فالأقرب إلى الحقيقة أولى، وأيضاً فالمتبايعان، لا يكونان متبايعين حقيقة، إلا فِي حين تعاقدهما، لكن عقدهما لا يتم إلا بأحد أمرين: إما بإبرأم العقد، أو التفرق عَلَى ظاهر الخبر، فصحّ أنهما متعاقدان ما داما فِي مجلس العقد، فعلى هَذَا تسميتهما متبايعين حقيقة، بخلاف حمل المتبايعين عَلَى المتساومين، فإنه مجاز باتفاق.

(عاشرها): قالت طائفة: التفرق يقع بالأقوال، كقوله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ

ص: 132

كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} الآية [النِّساء: 130].

وأجيب: بأنه سُمي بذلك لكونه يفضى إلى التفرق بالأبدان. قَالَ البيضاوي: ومن نفى خيار المجلس، ارتكب مجازين: بحمله التفرق عَلَى الأقوال، وحمله المتبايعين عَلَى المتساومين، وأيضاً فكلام الشارع يصان عن الحمل عليه؛ لأنه يصير تقديره أن المتساومين إن شاءا عقدا البيع، وإن شاءا لم يعقداه، وهو تحصيل الحاصل؛ لأن كل أحد يعرف ذلك، ويقال لمن زعم أن التفرق بالكلام، ما هو الكلام الذي يقع به التفرق، أهو الكلام الذي وقع به العقد، أم غيره؟، فإن كَانَ غيره فما هو؟ فليس بين المتعاقدين كلام غيره، وإن كَانَ هو ذلك الكلام بعينه، لزم أن يكون الكلام الذي اتّفقا عليه، وتم بيعهما به، هو الكلامَ الذي افترقا به، وانفسخ بيعهما به، وهذا فِي غاية الفساد.

(حادي عشرها): قَالَ آخرون: العمل بظاهر الْحَدِيث متعذر، فيتعين تأويله، وبيان تعذره أن المتبايعين، إن اتفقا فِي الفسخ، أو الإمضاء، لم يثبت لواحد منهما عَلَى الآخر خيار، وإن اختلفا فالجمع بين الفسخ والإمضاء جمع بين النقيضين، وهو مستحيل.

وأجيب: بان المراد أن لكل منهما الخيار فِي الفسخ، وأما الإمضاء، فلا احتياج إلى اختياره، فإنه مقتضى العقد، والحال يفضي إليه مع السكوت، بخلاف الفسخ.

(ثاني عشرها): قَالَ آخرون: حديث ابن عمر هَذَا، وحكيم بن حزام، معارَض بحديث عبد الله بن عمرو، وذلك فيما أخرجه أبو داود وغيره

(1)

، منْ طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، مرفوعاً:"البيعان بالخيار، ما لم يتفرقا، إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارق صاحبه، خشية أن يستقيله". قَالَ ابن العربي: ظاهر هذه الزيادة، مخالف لأول الْحَدِيث فِي الظاهر، فإن تأولوا الاستقالة فيه عَلَى الفسخ، تأولنا الخيار فيه عَلَى الاستقالة، وإذا تعارض التأويلان، فُزِع إلى الترجيح، والقياس فِي جانبنا، فيرجح.

وتعقب: بأن حمل الاستقالة عَلَى الفسخ، أوضح منْ حمل الخيار عَلَى الاستقالة؛ لأنه لو كَانَ المراد حقيقة الاستقالة، لم تمنعه منْ المفارقة؛ لأنها لا تختص بمجلس العقد، وَقَدْ أثبت فِي أول الْحَدِيث الخيار، ومَدَّه إلى غاية التفرق، ومن المعلوم أن منْ له الخيار، لا يحتاج إلى الاستقالة، فتعين حملها عَلَى الفسخ، وعلى ذلك حمله الترمذي وغيره، منْ العلماء، فقالوا: معناه: لا يحل له أن يفارقه بعد البيع، خشية أن يختار فسخ البيع؛ لأن العرب تقول: استقلت ما فات عني، إذا استدركته، فالمراد بالاستقالة، فسخ النادم منهما للبيع، وحملوا نفى الحل عَلَى الكراهة؛ لأنه لا يليق

(1)

هو الْحَدِيث الآتي للمصنف برقم 11/ 4485.

ص: 133

بالمروءة، وحسن معاشرة المسلم، لا أَنَّ اختيار الفسخ حرام، قَالَ ابن حزم: احتجاجهم بحديث عمرو بن شعيب، عَلَى التفرق بالكلام، لقوله فيه:"خشية أن يستقيله"؛ لكون الاستقالة لا تكون إلا بعد تمام البيع، وصحةُ انتقال الملك، تستلزم أن يكون الخبر المذكور، لا فائدة له؛ لأنه يلزم منْ حمل التفرق عَلَى القول، إباحة المفارقة، خشي أن يستقيله، أو لم يخش.

(ثالث عشرها): قَالَ بعضهم: التفرق بالأبدان فِي الصرف، قبل القبض يبطل العقد، فكيف يثبت العقد ما يبطله؟.

وتعقب باختلاف الجهة، وبالمعارضة بنظيره، وذلك أن النقد، وترك الأجل شرط لصحة الصرف، وهو يفسد السلم عندهم.

واحتج بعضهم بحديث ابن عمر الآتي بعد بابين فِي قصة البكر الصعب

(1)

وسيأتي توجيهه وجوابه

(2)

.

واحتج الطحاوي بقول ابن عمر: ما أدركت الصفقة، حيّا مجموعا، فهو منْ مال المبتاع. وتُعقب بأنهم يخالفونه، أما الحنفية، فقالوا: هو منْ مال البائع، ما لم يره المبتاع، أو ينقله. والمالكية قالوا: إن كَانَ غائبا غيبة بعيدة، فهو منْ البائع، وأنه لا حجة فيه؛ لأن الصفقة فيه محمولة عَلَى البيع الذي انبرم، لا عَلَى ما لم ينبرم، جمعا بين كلاميه.

(رابع عشرها): قَالَ بعضهم: معنى قوله: "حَتَّى يتفرقا": أي حَتَّى يتوافقا، يقال للقوم: عَلَى ماذا تفارقتم: أي عَلَى ماذا اتفقتم.

وتعقب بما ورد فِي بقية حديث ابن عمر فِي جميع طرقه، ولاسيما فِي طريق الليث الآتية فِي الباب الذي بعد هَذَا. يعني الآتي للنسائيّ برقم 4473 و4474.

(خامس عشرها): قَالَ بعضهم: حديث "البيعان بالخيار" جاء بألفاظ مختلفة، فهو

(1)

وقصّة البكر الصعب هو ما أخرجه البخاريّ فِي "صحيحه" 2116 - منْ طريق عمرو بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي سفر، فكنت عَلَى بكر صعب لعمر، فكان يغلبني، فيتقدم أمام القوم، فيزجره عمر، ويرده، ثم يتقدم، فيزجره عمر ويرده، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم لعمر:"بعنيه"، قَالَ: هو لك يا رسول الله، قَالَ:"بعنيه"، فباعه منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"هو لك يا عبد الله بن عمر، تصنع به ما شئت".

(2)

وجوابه أنه صلى الله عليه وسلم قد بين بالأحاديث السابقة المصرّحة بخيار المجلس، والجمع بين الحديثين ممكن، بأن يكون بعد العقد فارق عمر بأن تقدّمه، أو تأخر عنه مثلاً، ثم وهب، وليس فِي الْحَدِيث ما يثبت ذلك، ولا ما ينفيه، فلا معنى للاحتجاج بهذه الواقعة العينيّة فِي إبطال ما دلّت عليه الأحاديث المصرّحة منْ إثبات خيار المجلس. اهـ "فتح" 5/ 64.

ص: 134

مضطرب، لا يحتج به. وتعقب بأن الجمع بين ما اختلف منْ ألفاظه، ممكن بغير تكلف، ولا تعسف، فلا يضره الاختلاف، وشرط المضطرب أن يتعذر الجمع بين مختلف ألفاظه، وليس هَذَا الْحَدِيث منْ ذلك.

(سادس عشرها): قَالَ بعضهم: لا يتعين حمل الخيار فِي هَذَا الْحَدِيث عَلَى خيار الفسخ، فلعله أريد به خيار الشراء، أو خيار الزيادة فِي الثمن، أو المثمن.

وأجيب بأن المعهود فِي كلامه صلى الله عليه وسلم، حيث يُطلق الخيار إرادة خيار الفسخ، كما فِي حديث المصراة، وكما فِي حديث الذي يُخدَع فِي البيوع، وأيضاً فإذا ثبت أن المراد بالمتبايعين المتعاقدان، فبعد صدور العقد، لا خيار فِي الشراء، ولا فِي الثمن.

(سابع عشرها): تمسّك بعضهم فِي ردّ ذلك بالعمومات، مثل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} الآية [المائدة: 1]، قالوا: وفي الخيار إبطال الوفاء بالعقد، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم:"منْ ابتاع طعامًا، فلا يبعه حَتَّى يستوفيه"، قالوا: فقد أباح بيعه بعد قبضه، ولو كَانَ قبل التفرّق.

وأجيب بأن هَذَا مسلك ضعيف؛ لأن العمومات لا تردّ بها النصوص الخاصّة، وإنما يُقضى للخاصّ عَلَى العامّ. ذكره فِي "طرح التثريب" 6/ 153 - 154.

(ثامن عشرها): حكى ابن السمعاني فِي "الاصطلام" عن بعض الحنفية، قَالَ: البيع عقد مشروع بوصف، وحكم، فوصفه اللزوم، وحكمه الملك، وَقَدْ تم البيع بالعقد، فوجب أن يتم بوصفه وحكمه، فأما تأخير ذلك، إلى أن يفترقا فليس عليه دليل؛ لأن السبب إذا تم يفيد حكمه، ولا ينتفى إلا بعارض، ومن ادّعاه فعليه البيان. وأجاب أن البيع سبب للإيقاع فِي الندم، والندم يحوج إلى النظر، فأثبت الشارع خيار المجلس، نظرا للمتعاقدين؛ ليسلما منْ الندم، ودليله خيار الرؤية عندهم، وخيار الشرط عندنا، قَالَ: ولو لزم العقد بوصفه وحكمه، لَمَا شُرعت الإقالة، لكنها شُرعت نظرا للمتعاقدين، إلا أنها شرعت لاستدراك ندم، ينفرد به أحدهما، فلم تجب، وخيار المجلس شرع لاستدراك ندم، يشتركان فيه، فوجب. انتهى ما فِي "الفتح" 5/ 57 - 60. بتصرّف.

وَقَالَ الحافظ وليّ الدين رحمه الله تعالى بعد إيراد نحو ما تقدّم منْ الأقوال: ما حاصله: وَقَدْ ظهر بما بسطناه أنه ليس لهم متعلّق صحيح فِي ردّ هَذَا الْحَدِيث، ولذلك قَالَ ابن عبد البرّ: أكثر المتأخّرون منْ المالكية، والحنفية منْ الاحتجاج لمذهبنا، فِي رد هَذَا الْحَدِيث، بما يطول ذكره، وأكثره تشغيب، لا يُحصَل منه عَلَى شيء لازم لا مدفع له.

وَقَالَ النوويّ فِي "شرح مسلم": الأحاديث الصحيحة ترُدّ عليهم، وليس لهم عليها

ص: 135

جواب صحيح، فالصواب ثبوته، كما قاله الجمهور.

وانتصر ابن العربيّ فِي ذلك لمذهبه بما لا يقبله منصف، ولا يرتضيه لنفسه عاقل، فَقَالَ: الذي قصد مالك هو أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا جعل العاقدين بالخيار بعد تمام البيع، ما لم يتفرّقا، ولم يكن لفرقتهما، وانفصال أحدهما عن الآخر وقتٌ معلوم، ولا غاية معروفة، إلا أن يقوما، أو يقوم أحدهما عَلَى مذهب، وهذه جهالة يقف معها انعقاد البيع، فيصير منْ باب بيع المنابذة، والملامسة، بان يقول: إذا لمسته، فقد وجب البيع، وإذا نبذته، أو نبذت الحصاة، فقد وجب البيع، وهذه الصفة مقطوع بفسادها فِي العقد، فلم يتحصّل المراد منْ الْحَدِيث مفهومًا، وإن فسّره ابن عمر راويه بفعله، وقيامه عن المجلس، ليجب البيع، فإنما فسّره بما يثبت الجهالة فيه، فيدخل تحت النهي عن الغرر، كما يوجبه النهي عن الملامسة، والمنابذة، وليس منْ قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا تفسيره، وإنما هو منْ فهم ابن عمر، وأصل الترجيح الذي هو قضيّة الأصول أن يقدّم المقطوع به عَلَى المظنون، والأكثر رواةً عَلَى الأقلّ، فهذا هو الذي قصده مالك، مما لا يدركه إلا مثله، ولا يتفطّن له أحد قبله، ولا بعده، وهو إمام الأئمة، غير مدافع له فِي ذلك. انتهى.

وهو عجيب، أيُتَمَعْقَلُ عَلَى الشارع، ويقال له: هَذَا الذي حكمت به غرر، وَقَدْ نهيت عن الغرر، فلا نقبل هَذَا الحكم، ونتمسّك بقاعدة النهي عن الغرر، وأيّ غرر فِي ثبوت الخيار، رفقا بالمتعاقدين؛ لاستدراك ندم، وهذا المخالف يُثبت خيار الشرط، عَلَى ما فيه منْ الغرر بزعمه، وحديث خيار المجلس أصحّ منه، ويعتبر التفرّق فِي إبطاله للبيع، إذا وُجد قبل التقابض فِي الصرف، ولا يرى تعليق ذلك بالتفرّق بالأبدان غررًا، مبطلاً للعقد، ثم بتقدير أن يكون فيه غررٌ، فقد أباح الشارع الغرر فِي مواضع معروفة، كالسلم، والإجارة، والحوالة، وغيرها، ثم بتقدير أن يكون لحكمة اقتضت ذلك، بل ولو لم يظهر لنا حكمته، فإنه يجب علينا الأخذ به تعبّدًا، والمسلك الذي نفاه عن إمامه أقلّ مفسدة منْ الذي سلكه، فإن ذاك تقديم للإجماع فِي اعتقاده، إن صحّ عَلَى خبر الواحد، وأما ما سلكه ففيه ردّ السنن بالرأي، وذلك قبيحٌ بالعلماء. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله تعالى "طرح التثريب" 6/ 154 - 155.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: فقد أجاد الحافظ وليّ الدين رحمه الله تعالى فِي هَذَا الردّ عَلَى ابن العربي، فإن ما ذهب إليه الجمهور هو الحقّ، والانتصار للحقّ هو الواجب عَلَى العلماء.

والحاصل أنه قد اتّضح بما سبق منْ إيراد أدلّة الفريقين أن الحقّ هو ما عليه

ص: 136

الجمهور، منْ إثبات خيار المجلس؛ لوضوح أدلّته، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتحيّر بالتقليد والاعتساف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): لم يُذكر فِي الْحَدِيث للتفرق ضابطٌ، فيكون مرجعه إلى العرف، وَقَدْ كَانَ ابن عمر، راوي الْحَدِيث، إذا اشترى شيئاً يعجبه فارق صاحبه، وفي رواية: إذا ابتاع بيعًا، وهو قاعد، قام ليجب له، وفي رواية: كَانَ إذا بايع رجلاً، فأراد أن لا يقيله قام، فمشى هُنيّةً، ثم رجع إليه. قَالَ وليّ الدين: قَالَ أصحابنا -يعني الشافعيّة-: ما عدّه النَّاس تفرّقًا، لزم به العقد، فلو كانا فِي دار صغيرة، فالتفرق أن يخرج أحدهما منها، أو يصعد السطح، وكذا لو كانا فِي مسجد صغير، أو سفينة صغيرة، فالتفرّق أن يخرج أحدهما منها، فإن كانت الدار كبيرة، حصل التفرّق بأن يخرج أحدهما منْ البيت إلى الصحن، أو منْ الصحن إلى بيت، أو صفّة، وإن كانا فِي صحراء، أو سوق، فإذا ولّى أحدهما ظهره، ومشى قليلاً، حصل التفرّق عَلَى الصحيح، وَقَالَ الإصطخريّ: يشترط أن يبعد عن صاحبه، بحيث لو كلّمه عَلَى العادة منْ غير رفع صوت لم يسمع كلامه، ولا يحصل التفرّق بأن يُرخَى بينهما سترٌ، أو يُشقّ نهرٌ، وهل يحصل ببناء جدار بينهما، فيه وجهان، أصحّهما لا، وصحن الدار، والبيت الواحد إذا تفاحش اتساعهما كالصحراء، فلو تناديا متباعدين، وتبايعا، فلا شكّ فِي صحّة البيع. ثم قَالَ إمام الحرمين: يحتمل أن لا يقال: لا خيار لهما؛ لأن التفرّق الطارىء يقطع الخيار، فالمقارن يمنع ثبوته، ويحتمل أن يقال: يثبت ما داما فِي موضعهما، وبهذا قطع المتولّي، ثم إذا فارّق أحدهما موضعه بطل خياره، وهل يبطل خيار الآخر، أم يدوم إلى أن يفارق مكانه، فيه احتمالان للإمام، قَالَ النوويّ: الأصح ثبوت الخيار، وأنه متى فارق أحدهما موضعه، بطل خيار الآخر. وحكى ابن عبد البرّ عن الأوزاعيّ، قَالَ: حدّ التفرقة أن يتوارى كلّ واحد منهما عن صاحبه، وهو قول أهل الشام، قَالَ: وَقَالَ الليث ابن سعد: التفرّق أن يقوم أحدهما. انتهى. "طرح التثريب" 6/ 155 - 156.

وَقَالَ ابن حزم رحمه الله تعالى فِي "المحلّى": فإن تبايعا فِي بيت، فخرج أحدهما عن البيت، أو دخل حنية فِي البيت، فقد تفرّقا، وتمّ البيع، أو تبايعا فِي حنية، فخرج أحدهم إلى البيت، فقد تفرّقا، وتمّ البيع، فلو تبايعا فِي صحن دار، فدخل أحدهما البيت، فقد تفرّقا، وتمّ البيع، فلو تبايعا فِي دار، أو خصّ، فخرج أحدهما إلى الطريق، أو تبايعا فِي طريق، فدخل أحدهما دارًا، أو خصّا، فقد تفرّقا، وتمّ البيع، فإن تبايعا فِي سفينة، فدخل أحدهما البليج، أو الخزانة، أو مضى إلى الفندقوق، أو صعِد الصاري، فقد تفرّقا، وتمّ البيع، وكذلك لو تبايعا فِي أحد هذه الواضع، فخرج أحدهما

ص: 137

إلى السفينة، فقد تمّ البيع، إذ تفرّقا، فإن تبايعا فِي دكّان، فزال أحدهما إلى دكان آخر، أو خرج إلى الطريق، فقد تمّ البيع، وتفرّقا، ولو تبايعا فِي الطريق، فدخل أحدهما الدكان، فقد تمّ البيع، وتفرّقا، فلو تبايعا فِي سفر، أو فِي فضاء، فإنهما لا يفترقان إلا بأن يصير بينهما حاجز يسمّى تفريقًا فِي اللغة، أو بأن يغيب عن بصره فِي الرفقة، أو خلف ربوة، أو خلف شجرة، أو فِي حفرة، وإنما يُرعَى ما يُسمّى فِي اللغة تفريقًا فقط. وبالله تعالى التوفيق. انتهى "المحلَّى" 8/ 366 - 367. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4468 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ، مَا لَمْ يَفْتَرِقَا، أَوْ يَكُونَ خِيَارًا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

و"عمرو بن عليّ": هو الفلّاس. و"يحيى": هو القطّان. و"عبيد الله": هو ابن عمر العمريّ. والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم شرحه، وبيان مسائله فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4469 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحْرِزُ بْنُ الْوَضَّاحِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ، مَا لَمْ يَفْتَرِقَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ كَانَ عَنْ خِيَارٍ، فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ عَنْ خِيَارٍ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن عليّ المروزيّ": هو المعروف بالتُّرْك، وَقَدْ ينسب لجدّه، ثقة [11] 109/ 148 منْ أفراد المصنّف.

و"مُحرز بن الوضّاح": هو المروزيّ، مقبول [9] 16/ 2468.

و"إسماعيل": هو ابن أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية الأمويّ، ثقة ثبت [6] 16/ 248.

[تنبيه]: كون إسماعيل هَذَا هو ابن أمية هو الذي جزم به الحافظ المزّيّ رحمه الله تعالى فِي "تحفة الأشراف" 6/ 59 - 60، لكن كتب الحافظ رحمه الله تعالى فِي "النكت الظراف": ما نصّه: قلت: لم يقع إسماعيل عند النسائيّ هنا منسوباً، وَقَدْ جزم أبو العبّاس الطرقيّ بأنه إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة. وجزم ابن حزم بأنه إسماعيل بن جعفر، وهو خطأ منه. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ومهما كَانَ الأمر، فكلّ هؤلاء الثلاثة ثقات، فلا يضرّ الاختلاف. والله تعالى أعلم.

ص: 138

وقوله: "فإن كَانَ البيع عن خيار": أي إذا قَالَ أحدهما للآخر: اختر البيع، فَقَالَ: اخترت، فقد انتهى خيار المجلس، وثبت البيع، فلا خيار لأحدهما بعده، وهذا ظاهر فِي أن الاستثناء فِي قوله فِي الْحَدِيث الماضي:"إلا بيع الخيار" منْ نفس الحكم، أي إلا أن يكون البيع جرى فيه التخاير بأن قَالَ أحدهما للآخر فِي المجلس: اختر، فَقَالَ: اخترت، فلا خيار قبل التفرّق، وهذا هو الذي ذهب إليه الجمهور، وهو الحقّ، كما سبق تحريره قريباً. والله تعالى أعلم.

والحديث صحيح، وهو بهذا السياق منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى. وقوله:"فقد وجب البيع": أي لزم، وانبرم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4470 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَمْلَى عَلَيَّ نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا تَبَايَعَ الْبَيِّعَانِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مِنْ بَيْعِهِ، مَا لَمْ يَفْتَرِقَا، أَوْ يَكُونَ بَيْعُهُمَا عَنْ خِيَارٍ، فَإِنْ كَانَ عَنْ خِيَارٍ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عليّ بن ميمون": هو العطّار الرقيّ، ثقة [10] 28/ 435. و"سفيان": هو ابن عيينة.

وقوله: "أملى عليّ الخ": أي ألقى عليّ، فكتبته. قَالَ الفيّوميّ: وأمللت الكتاب عَلَى الكاتب إملالاً: ألقيته عليه، وأميته عليه إملاءً، والأولى لغة الحجاز، وبني أسد، والثانية لغة تميم، وقيس، وجاء الكتاب العزيز بهما، قَالَ عز وجل:{وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} الآية [البقرة: 282]، وَقَالَ:{فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5]. انتهى. وَقَالَ المجد فِي "القاموس": وأملّه: قَالَ له: فكتب عنه. انتهى.

وقوله: "أو يكون الخ" بالنصب، بـ"أن" مقدّرة بعد "أو" التي هي بمعنى "إلا"، كما قَالَ ابن مالك فِي "خلاصته":

كَذَاكَ بَعْدَ "أَو" إِذَا يَصْلُحُ فِي

مَوْضِعِهَا "حَتَّى" أَوِ "الَّا" أَنْ" خَفِي

يعني أن الفعل يُنصب بـ"أن" مضمرة وجوبًا بعد "أو" التي بمعنى "حَتَّى"، أو "إلا"، فالأول إذا كَانَ الفعل الذي قبلها ينقضي شيئاً، فشيئًا، والثاني إن لم يكن كذلك، فالأول كقول الشاعر [منْ الطويل]:

لأَسْتَسْهِلَنَّ الصَّعْبَ أَوْ أُدْرِكَ الْمُنَى

فَمَا انْقَادَتِ الآمَالُ إِلَّا لِصَابِرِ

والثاني كقوله [منْ الطويل]:

وَكُنْتُ إِذَا غَمَزْتُ قَنَاةَ قَوْمٍ

كَسَرْتُ كُعُوبَهَا أَوْ تَسْتَقِيمَا

ص: 139

وليس قوله: "يكون" معطوفًا عَلَى "يفترقا"؛ لأنه لو كَانَ كذلك لكان مجزوما.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه قريباً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4471 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَة، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ، مَا لَمْ يَفْتَرِقَا، أَوْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ: اخْتَرْ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

و"عبد الأعلى": هو ابن عبد الأعلى الساميّ البصريّ. و"أيوب": هو السختيانيّ.

[تنبيه]: وقع هنا فِي نسخ "المجتبى" التي بين يديّ: "حدثنا شعبة"، والذي فِي "الكبرى" 4/ 8، و"تحفة الأشراف" 6/ 62:"حدثنا سعيد" بدل شعبة، ولم يتبيّن لي المراد منهما، إذ كلاهما يرويان عن أيوب، ويروي عنهما عبد الأعلى، فليُحرّر، و"سعيد": هو ابن أبي عروبة. والله تعالى أعلم.

وقوله: "أو يقول الخ" بالنصب، بـ"أن" مضمرة بعد "أو" التي بمعنى "إلا"، كما تقدّم نظيره فِي الْحَدِيث الماضي. والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4472 -

(أَخْبَرَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ، حَتَّى يَفْتَرِقَا، أَوْ يَكُونَ بَيْعَ خِيَارٍ"، وَرُبَّمَا قَالَ نَافِعٌ: "أَوْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ: اخْتَرْ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

و"زياد بن أيوب": هو المعروف بدلّويه، وكان أحمد يلقبه شعبة الصغير؛ لحفظه، وإتقانه.

وقوله: "أو يكون بيع خيار" معناه أن المتبايعين إذا قَالَ أحدهما لصاحبه: اختر إمضاء البيع، أو فسخه، فاختار إمضاء البيع مثلاً أن البيع يتمّ، وإن لم يفترقا، وبهذا قَالَ الثوريّ، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وإسحاق، وآخرون. وَقَالَ أحمد: لا يتمّ البيع حَتَّى يتفرّقا، وقيل: إنه تفرّد بذلك. وقيل: معنى: "أو يكون بيع خيار" أي أن يشترطا الخيار مطلقا، فلا يبطل بالتفرّق. وهذا ضعيف، وَقَدْ تقدّم بيانه مفصّلاً قريبًا، فلا تغفل.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع

ص: 140

والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4473 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ، حَتَّى يَفْتَرِقَا، أَوْ يَكُونَ بَيْعَ خِيَارٍ، وَرُبَّمَا قَالَ نَافِعٌ: "أَوْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ: اخْتَرْ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.

والحديث متّفقٌ عليه، كما مضى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4474 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ، حَتَّى يَفْتَرِقَا"، وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: "مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَكَانَا جَمِيعًا، أَوْ يُخَيِّرَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ، فَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا، وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْبَيْعَ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا السند هو السند الماضي قبله.

وقوله: "ما لم يتفرقا": أي فينقطع الخيار. وقوله: "وكانا جميعاً" تأكيد لذلك.

وقوله: "أو يخير أحدهما الآخر": أي فينقطع الخيار. و"يخير" بالجزم عطفًا عَلَى "يفترقا"، أو بالنصب بـ"أن" مضمرة بعد "أو"، كما سبق نظيره فِي قوله:"أو يكون بيعهما عن خيار".

وَقَالَ وليّ الدين: والمراد أن يخيّر أحدهما الآخر، فيختار إمضاء البيع، وَقَدْ دلّ عَلَى ذلك قوله بعدُ:"فإن خيّر أحدهما الآخر، فتبايعا عَلَى ذلك"، أما لو خيّر أحدهما، فلم يختر الآخر الإمضاء، فخيار ذلك الساكت باق، وأما خيار المتكلّم، فإنه ينقطع عَلَى الأصحّ عند أصحابنا يعني الشافعيّة- وَقَالَ النوويّ: إنه ظاهر لفظ الْحَدِيث، وفيه نظر، فإنه قد دلّ بتمامه عَلَى أن الكلام فيما إذا خيّره، فاختار الإمضاء، إلا أن يعتمد فِي ذلك لفظ الرواية الأخرى التي اقتصر فيها عَلَى قوله:"أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر"، لكن الروايات يفسّر بعضها بعضًا، فلابد منْ النظر فِي مجموعها، وَقَدْ اعتمد أصحابنا فِي انقطاع خيار القائل أن تخييره لصاحبه دالّ عَلَى رضاه بإمضاء البيع. انتهى "طرح التثريب" 6/ 158.

وقوله: "فتبايعا عَلَى ذلك، فقد وجب البيع": أي لزم البيع، وانبرم، وبطل الخيار. وقوله:"فإن تفرقا بعد أن تبايعا، ولم يترك واحد منهما البيع": أي لم يفسخه "فقد وجب البيع". وهذا الكلام تأكيد لما فُهم منْ قوله أوّلاً: "ما لم يتفرّقا"، مصرّحٌ بأنهما إذا تفرّقا منْ غير ترك أحدهما للبيع وجب البيع: أي لزم، والمراد بترك البيع فسخه،

ص: 141

وهذه الرواية صريحة فِي أنه يُكتَفَى فِي حصول الفسخ بفسخ أحدهما، ولو لم يوافقه الآخر عليه، بل اختار الإمضاء، وهو الذي صرّح به الفقهاء القائلون بخيار المجلس، منْ الشافعيّة، وغيرهم. أفاده فِي "طرح التثريب" 6/ 158.

وَقَالَ فِي "الفتح" 5/ 61 - : قوله: "فقد وجب البيع" أي بعد التفرّق، وهذا ظاهر جدًّا فِي انفساخ البيع بفسخ أحدهما، قَالَ الخطابي: هَذَا أوضح شيء فِي ثبوت خيار المجلس، وهو مبطل لكل تأويل، مخالف لظاهر الْحَدِيث، وكذلك قوله فِي آخره:"وإن تفرقا بعد أن تبايعا": فيه البيان الواضح أن التفرق بالبدن، هو القاطع للخيار، ولو كَانَ معناه التفرق بالقول، لخلا الْحَدِيث عن فائدة. انتهى.

وَقَدْ أقدم الداودي عَلَى ردّ هَذَا الْحَدِيث، المتفق عَلَى صحته، بما لا يُقبَل منه، فَقَالَ: قول الليث فِي هَذَا الْحَدِيث: "وكانا جميعاً الخ": ليس بمحفوظ؛ لأن مقام الليث فِي نافع، ليس كمقام مالك، ونظرائه. انتهى. وهو رَدٌّ لما اتفق الأئمة عَلَى ثبوته، بغير مُستَنَد، وأيُّ لَوْم عَلَى منْ روى الْحَدِيث، مُفَسَّرًا لأحد محتملاته، حافظاً منْ ذلك، ما لم يحفظه غيره، مع وقوع تعدد المجلس، فهو محمول عَلَى أن شيخهم حدثهم به تارة مفسرا، وتارة مختصرا. قاله فِي "الفتح" 5/ 61.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4475 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ نَافِعًا، يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ فِي بَيْعِهِمَا، مَا لَمْ يَفْتَرِقَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ خِيَارًا"، قَالَ نَافِعٌ: فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ، إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ، فَارَقَ صَاحِبَهُ).

قَالَ الجامع عفاَ الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

و"عبد الوهاب": هو ابن عبد المجيد الثقفيّ البصريّ. و"يبيح بن سعيد": هو الأنصاريّ المدنيّ.

وقوله: "قَالَ نافع: فكان عبد الله الخ" موصول بالإسناد المذكور، وَقَدْ ذكره مسلم أيضاً منْ طريق ابن جريج، عن نافع، وهو ظاهر فِي أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كَانَ يذهب إلى أن التفرّق المذكور بالأبدان، كما سبق بيانه. والحديث دليلٌ فِي ثبوت الخيار لكلّ منْ المتبايعين ما داما فِي المجلس. أفاده فِي "الفتح" 5/ 54.

وقوله: "فارق صاحبه" أي خوفًا منْ أن يردّ البائع البيع بما له منْ الخيار، قَالَ السنديّ: فانظر إلى ما فهم عبد الله منْ الْحَدِيث، وهو راويه، هل هو الذي يقول

ص: 142

المثبت للخيار فِي المجلس، أم هو الذي يقول النافي له. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: أراد السنديّ رحمه الله بهذا الكلام الإشارة إلى تأييد قول منْ يقول: إن المراد بالحديث إثبات خيار المجلس، حيث إن راوي الْحَدِيث رضي الله عنه فهم منه هَذَا المعنى، وعمل به، حيث كَانَ يفارق صاحبه الذي باع له؛ لئلا يفسخ البيع بناء عَلَى أن له خيار المجلس، فلما فارقه تمّ البيع، ولا يستطيع أن يفسخ، وهذا إنصاف منْ السنديّ رحمه الله تعالى مخالفًا لمذهبه الحنفيّ القائل: إن التفرّق هو التفرّق بالأقوال، لا بالأبدان؛ لوضوح دليله، وهكذا ينبغي للعالم أن يكون مع الدليل، لا مع آراء الرجال، كما فعل منْ قدّمنا قوله، ممن ردّ ما دلّ عليه ظاهر هَذَا الْحَدِيث بتأويلات سخيفة، قاتل الله التعصّب، والله المستعان عَلَى منْ خالف ظواهر الأدلّة بتأويلات مُبْتَذَلَة.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4476 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُتَبَايِعَانِ، لَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا، حَتَّى يَتَفَرَّقَا، إِلاَّ بَيْعَ الْخِيَارِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

وقوله: "لا بيع بينهما"، قَالَ وليّ الدين رحمه الله تعالى: أي ليس بينهما بيع لازم، وليس المراد نفي أصل البيع، وكيف يَنفِي أصلَ البيع، وَقَدْ أثبته أوّلاً بقوله:"المتبايعان"، وَقَدْ تمسّك ابن حزم بظاهر هذه اللفظة، وَقَالَ: إن البيع غير صحيح، ما لم يتفرّقا، أو يتخيّرا، والمعروف صحّته، إلا أنه عقد جائزٌ، ما لم يوجد أحد الأمرين. انتهى "طرح" 6/ 158 - 159 ببعض تصرّف.

وَقَالَ السنديّ: وَقَدْ يقال: هذه الرواية ناظرة إلى قول منْ يفسّر الافتراق بالافتراق بالأقوال، فليتأمل. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قالوه دعوى بغير بيّنة، فأين الدلالة المزعومة؟ بل هذه الرواية كسائر الروايات السابقة، بلا فرق، فتبصّر، ولا تتحيّر. والله تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق غير مرّة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

ص: 143

‌10 - (ذِكْرِ الاِخْتِلَافِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ فِي لَفْظِ هَذَا الْحَدِيثِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الاختلاف الواقع فِي ألفاظ الْحَدِيث فِي رواية عبد الله بن دينار ليس مئل الاختلاف الواقع فِي رواية نافع المتقدّمة فِي الباب الماضي، فإن كلّ الرواة عنه رووه بلفظ:"كلّ بيّعين لا بيع بينهما حَتَّى يتفرّقا، إلا بيع الخيار"، إلا سفيان ابن عيينة، فإنه رواه بلفظ:"البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا، أو يكون بينهما عن خيار"، فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب.

4477 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ بَيِّعَيْنِ، لَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا، حَتَّى يَتَفَرَّقَا، إِلاَّ بَيْعَ الْخِيَارِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

و"إسماعيل": هو ابن جعفر ابن أبي كثير الأنصاريّ الزرقيّ المدنيّ الثقة الثبت [8].

و"عبد الله بن دينار": هو أبو عبد الرحمن العدويّ مولاهم، المدنيّ مولى ابن عمر الثقة المدنيّ [4]. والسند منْ رباعيّات المصنّف، وهو (214) منْ رباعيات الكتاب، وهو أعلى الأسانيد عنده كما سبق غير مرّة.

وقوله: "البيّعان": بتشديد التحتانيّة: تثنية بيّع، بمعنى البائع، كضيّق وضائق، وصيّن وصائن، وليس كبيّن وبائن، فإنهما متغايران، كقيّم وقائم، واستعمال البيع فِي المشتري إما عَلَى سبيل التغليب، أو لأن كلاً منهما بائع. قاله فِي "الفتح" 5/ 53 - 54.

وقوله: "لا بيع بينهما": أي لازم. وقوله: "حَتَّى يتفرّقا": أي فيلزم البيع حينئذ بالتفرّق. وقوله: "إلا بيع الخيار": أي فيلزم باشتراطه، كما تقدّم البحث فيه مستوفًى، وظاهره حصر لزوم البيع فِي التفرّق، أو فِي شرط الخيار، والمعنى أن البيع عقدٌ جائزٌ، فإذا وُجد أحد هذين الأمرين كَانَ لازمًا. قاله فِي "الفتح" 5/ 62.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4478 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "كُلُّ بَيِّعَيْنِ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا، حَتَّى يَتَفَرَّقَا، إِلاَّ بَيْعَ الْخِيَارِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير

ص: 144

شيخه، فإنه منْ أفراده، وهو مصريّ ثقة، فقيه [11].

و"شعيب": هو ابن الليث بن سعد، شيخه فِي هَذَا السند. و"ابن الهاد": هو يزيد بن عبد الله بن أسامة الليثيّ المدنيّ، ثقة [5].

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4479 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَخْلَدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ بَيِّعَيْنِ لَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا، حَتَّى يَتَفَرَّقَا، إِلاَّ بَيْعَ الْخِيَارِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه عبد الحميد بن محمد بن الْمُسْتَام، أبي عمرو الحرّانيّ، إمام مسجدها، فإنه منْ أفراده، وهو ثقة [11] 22/ 932.

و"مخلد": هو ابن يزيد القرشيّ الْحَرّانيّ، صدوق له أوهام، منْ كبار [10] 141/ 222.

و"سفيان": هو الثوريّ.

[تنبيه]: وقع فِي نسخ "المجتبى" التي عندي "عمرو بن دينار" بدل "عبد الله بن دينار"، وهو غلطٌ، والصواب "عبد الله بن دينار"، كما هو فِي "الكبرى" 4/ 9 رقم 6069 وكذا هو فِي "صحيح البخاريّ" رقم 2113، وكذا فِي "تحفة الأشراف" 5/ 450.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4480 -

(أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "كُلُّ بَيِّعَيْنِ لَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا، حَتَّى يَتَفَرَّقَا، إِلاَّ بَيْعَ الْخِيَارِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه "الربيع بن سليمان"، فقد تفرّد به هو، وأبو داود، وهو المصريّ الجِيزيّ الأعرج، وهو ثقة [11] 122/ 173. و"والد إسحاق": هو بكر بن مضر بن محمد المصريّ، الثقة الثبت [8] 122/ 173. و"يزيد بن عبد الله": هو ابن الهاد المذكور قبل حديث.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4481 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَزِيدَ، عَنْ بَهْزِ بْنِ أَسَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا

ص: 145

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ بَيِّعَيْنِ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا، حَتَّى يَتَفَرَّقَا، إِلاَّ بَيْعَ الْخِيَارِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده، وهو أبو بُريد الجرميّ البصريّ صدوق [11] 100/ 130. و"بهز بن أسد": هو العمّيّ البصريّ.

والحديث متّفقٌ عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4482 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ يَكُونَ بَيْعُهُمَا عَنْ خِيَارٍ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح.

و"سفيان": هو ابن عيينة، والسند منْ رباعيّات المصنّف، كما سبق فِي السند المذكور أول الباب، وهو (215) منْ رباعيات الكتاب.

والحديث متّفقٌ عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4483 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا، أَوْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْبَيْعِ مَا هَوِيَ، وَيَتَخَايَرَانِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلّاس البصريّ، ثقة ثبت [10] 4/ 4.

2 -

(معاذ بن هشام) الدستوائيّ البصريّ، وَقَدْ سكن اليمن، صدوق ربما وهم [9] 30/ 34.

3 -

(أبوه) هشام بن أبي عبد الله سنبر الدستوائي، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت، وَقَدْ رمي بالقدر، منْ كبار [7] 30/ 34.

4 -

(قتادة) بن دعامة السدوسي البصريّ، ثقة ثبت يدلس [4] 30/ 37.

5 -

(الحسن) بن أبي الحسن يسار البصريّ، ثقة فقيه فاضل يدلس ويرسل [3] 32/ 36.

6 -

(سمرة) بن جندب بن هلال الفزاريّ، حليف الأنصار الصحابيّ المشهور، له أحاديث، ومات بالبصرة سنة (58) وتقدم فِي 25/ 393. والله تعالى أعلم.

ص: 146

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين. (ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستة الذين رووا عنهم بلا واسطة، وتقدّم ذلك غير مرّة. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: قتادة، عن الحسن البصريّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ سَمُرَةَ) بن جندب رضي الله تعالى عنه (أَنَّ نَبِيَّ الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "الْبَيِّعَانِ) بتشديد التحتانيّة: أي البائع والمشتري (بِالْخِيَارِ) أي فِي إمضاء البيع، وفسخه (حَتَّى يَتَفَرَّقَا) أي بأبدانهما منْ مجلس العقد (أَوْ) وفي نسخة بالواو (يَأْخُذَ) قَالَ وليّ الدين رحمه الله تعالى: هو معطوف عَلَى قوله: "يتفرّقا"، وتقدير إدخال "حَتَّى" عليه ممكن، لكن يكون مدلولها غير مدلولها عند الدخول عَلَى قوله:"يتفرّقا"، فهي فِي دخولها عَلَى قوله:"يتفرّقا" للغاية، وفي دخولها عَلَى قوله:"يأخذ" للتعليل: أي إن الخيار ثابت إلى غاية التفرّق، وأن علّة ثبوته أن يأخذ كلُّ واحد منهما منْ البيع ما هوِي، وإذا اختلف مدلول "حتّى" تعذّر عطف أحد الفعلين عَلَى الآخر، فيُقدّر له حينئذ فعلٌ، تقديره: البيّعان بالخيار حَتَّى يأخذ الخ، ودلّ عَلَى هَذَا المقدّر "حتّى" الداخلةُ عَلَى قوله:"يتفرّقا". انتهى. "طرح" 6/ 160. وقوله (كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) بالرفع فاعل "يأخذ" (مِنَ الْبَيْعِ) أي مما اشتمل عليه عقد البيع، منْ الثمن، والمثمن، فالبائع بالخيار بين الإجازة، فيأخذ الثمن، والفسخ، فيأخذ المثمن، والمشتري بعكسه (مَا هَوِيَ) -بكسر الواو- كرضي وزنًا ومعنى: أي ما أحبّ، فـ"ما" اسم موصول، مفعول به لـ"يأخذ" (وَيَتَخَايَرَانِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) أي يختاران ثلاث مرّات، وهو ندب إلى تكرير التخاير ثلاث مرّات؛ لأنه أطيب للقلب، وأحوط، وهو استحباب بالإجماع، فيما نعلم، ولفظه خبر، ومعناه الأمر. قَالَ وليّ الدين رحمه الله تعالى: قوله: "ثلاث مرّات" يحتمل أن يكون معناها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كرّر هَذَا اللفظ ثلاث مرار، ويحتمل أن يكون المراد أن التخاير يكون ثلاث مرار، وعلى هَذَا الاحتمال الثاني، فهو احتياط، واستظهار، فإن التخاير يحصل بمرّة واحدة، لا نعلم فِي ذلك اختلافاً، والظاهر أنه يتعيّن الاحتمال الثاني فِي رواية البخاريّ:"يختار ثلاث مرار". انتهى "طرح التثريب" 6/ 160.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أن الاحتمال الثاني هو المتعيّن؛ لأنه وقع فِي رواية أحمد، عن عفّان، عن همّام، بلفظ:"وجدت فِي كتابي: الخيار ثلاث مرار". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 147

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث سمرة رضي الله تعالى عنه هَذَا ضعيفاً، أما عَلَى قول منْ ينفي سماع الحسن منْ سمرة رضي الله عنه مطلقًا، أو يقول: إنه سمع منه حديث العقيقة فقط، فظاهر، وأما عَلَى قول منْ يثبت سماعه مطلقًا، فلشهرته بالتدليس، وَقَدْ عنعنه. وَقَدْ جاء الخيار ثلاثًا فِي حديث حكيم ابن حزام عند أبي داود بلفظ:"البيّعان بالخيار، حَتَّى يتفرّقا، أو يختار ثلاث مرار"، والحديث عند البخاريّ، بلفظ: قَالَ همّام: وجدت فِي كتابي: يختار ثلاث مرار".

[تنبيه]: ردّ أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى هذين الحديثين، فَقَالَ رواية الحسن عن سمرة مرسلة، لم يسمع منه إلا حديث العقيقة وحده، وأما رواية همّام، فإنه لم يحدّث بهذه اللفظة، وإنما أخبر أنه وجدها فِي كتابه، ولم يلتزمها، ولا رواها، ولا أسندها، وما كَانَ هكذا، فلا يجوز الأخذ به، ولا تقوم به حجة. قَالَ: لو ثبت همام عليها منْ روايته، أو غيره منْ الثقات، لقلنا بها؛ لأنها تكون زيادة. انتهى "المحلّى" 8/ 366. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -10/ 4483 و4484 - وفي "الكبرى" 9/ 6073 و 6074. وأخرجه (ق) فِي "التجارات" 2183. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4484 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَيَأْخُذْ

(1)

أَحَدُهُمَا مَا رَضِيَ مِنْ صَاحِبِهِ، أَوْ هَوِيَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه:"محمد بن إسماعيل"، وهو المعروف أبوه بابن عليّة، فإنه منْ أفراده، وهو بصريّ، نزيل دمشق، وقاضيها، ثقة حافظ [11]. و"يزيد": هو ابن هارون الواسطيّ الحجة المشهور. و"همّام": هو ابن يحيى العَوْذيّ الثقة البصريّ. وقوله: "أو هوي""أو" للشكّ منْ الراوي. والحديث سبق القول فيه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

وفي نسخة: "أو يأخذ".

ص: 148

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌11 - (وُجُوبِ الْخِيَارِ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ قَبْلَ افْتِرَاقِهِمَا بِأَبْدَانِهِمَا)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: أشار المصنّف رحمه الله تعالى بهذه الترجمة إلى ترجيح مذهب الجمهور، منْ إثبات خيار المجلس للمتبايعين، وأن ثبوته مقيّدٌ بعدم افتراقهما بأبدانهما، لا بأقوالهما، كما قاله البعض، واستدلاله بحديث الباب عَلَى هَذَا واضح، حيث إن قوله:"ولا يحلّ له أن يفارقه الخ" ظاهر فِي كون التفرّق بالأبدان، لا بالأقوال. والله تعالى أعلم بالصواب.

4485 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة بن سعيد) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(الليث) بن سعد الإِمام الحجة الثبت المصريّ [7] 31/ 35.

3 -

(ابن عجلان) هو محمد القرشيّ، مولى فاطمة بنت الوليد المدنيّ، صدوق [5] 36/ 40.

4 -

(عمرو بن شعيب) بن محمد المدنيّ، أو الطائفيّ، صدوق [5] 105/ 140.

5 -

(أبوه) شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو الطائفيّ، صدوق [3] 105/ 140.

6 -

(جدّه) عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما 89/ 111. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير عمرو، وأبيه، فإنهما منْ رجال الأربعة. (ومنها): أن فيه ثلاثة منْ

ص: 149

التابعين يروي بعضهم عن بعض: ابن عجلان، عن عمرو، عن أبيه، ورواية الأوّلين منْ رواية الأقران، وفيه رواية الابن عن أبيه، عن جدّه. والله تعالى أعلم.

"ابن عجلان": هو محمد، أبو عبد الله المدنيّ، صدوق [5] 36/ 40. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ) شعيب بن محمد بن عبد الله (عَنْ جَدِّهِ) الضمير لشعيب، لا لعمرو، على الصحيح؛ لأنه لو كَانَ له، لكان مرسلاً؛ لأن جده، وهو محمد تابعيّ، وأما جدّ شعيب، فهو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابيّ مشهور، وَقَدْ سبق الكلام عَلَى هَذَا السند غير مرّة، فلا تغفل (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "الْمُتُبَايِعَانِ بالْخِيَارِ) أي بين إمضاء البيع، وفسخه (مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا) أي بأبدانهما، عَلَى ما عليه الجمهور، وهو الصواب، ويدلّ عليه قوله هنا:"ولا يحلّ له أن يفارقه الخ"(إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ) بفتح الصاد المهملة، وإسكان الفاء، وفتح القاف: أي بيعة خيار، وسُمّي البيع صفقةً؛ لأن المتبايعين يضع أحدهما يده فِي يد الآخر (وَلَا يَحِلُّ لَهُ أنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ) قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: أي يُبطل البيع بسبب ما له منْ الخيار، فهذا يفيد وجود خيار المجلس، وإلا فلا خشية. وقيل: بل ينفيه؛ لأن طلب الإقالة إنما يُتصوّر إذا لم يكن له خيار، وإلا فيكفيه ما له منْ الخيار فِي إبطاله البيع عن طلب الإقالة منْ صاحبه. والله تعالى أعلم. انتهى.

وَقَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى: قوله: "إلا أن تكون صفقة خيار" يحتمل أنه أراد البيع المشروط فيه الخيار، فإنه لا يلزم بتفرّقهما، ولا يكون تفرّقهما غاية للخيار فيه؛ لكونه ثابتًا به تفرّقهما. ويحتمل أنه أراد البيع الذي شَرَطا فيه أن لا يكون بينهما فيه خيار، فيلزم بمجرّد العقد منْ غير تفرّق. وظاهر الْحَدِيث تحريم مفارقة أحد المتبايعين لصاحبه؛ خشيةً منْ فسخ البيع، وهذا ظاهر كلام أحمد فِي رواية الأثرم، فإنه ذُكر له فعل ابن عُمر، وحديث عمرو بن شُعيب، فَقَالَ: هَذَا الآن قول النبيّ صلى الله عليه وسلم. وهذا اختيار أبي بكر، وذكر القاضي أن ظاهر كلام أحمد جواز ذلك؛ لأن ابن عمر كَانَ إذا اشترى شيئاً، يُعجبه فارق صاحبه، متّفقٌ عليه. والأول أصحّ؛ لأن قول النبيّ صلى الله عليه وسلم يُقدّم عَلَى فعل ابن عمر، والظاهر أن ابن عمر لم يبلغه هَذَا، ولو بلغه لما خالفه. انتهى "المغني" 8/ 14 - 15.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول الثاني أرجح، ولا تنافي بينه وبين فعل ابن عمر رضي الله تعالى عنهما؛ لإمكان حمل النهي عَلَى ما إذا علم المفارق أن

ص: 150

صاحبه سيلحقه بذلك ضررٌ يورثه الندم والأسف، وأما إذا لم يكن كذلك، فلا؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم:"ما لم يتفرّقا" شاملٌ لمفارقة أحدهما للآخر، ودليلٌ عَلَى جوازه، فتأمّل. والله تعالى أعلم.

وَقَالَ الحافظ وليّ الدين رحمه الله تعالى: استدلّ بهذه الزيادة -يعني قوله: "ولايحلّ له الخ" عَلَى عدم ثبوت خيار المجلس منْ حيث إنه لولا أن العقد لازم لما احتاج إلى استقالته، ولا طلب الفرار منْ الاستقالة، وجوابه منْ وجهين:

[أحدهما]: أن قوله: "لا يحلّ" لفظة منكرة، فإن صحّت، فليست عَلَى ظاهرها؛ لإجماع المسلمين عَلَى أنه جائز له أن يفارقه؛ لينفّذ بيعه، ولا يقيله، إلا أن يشاء.

[ثانيهما]: أنه أراد بالإقالة هنا الفسخ بحكم الخيار، فإنه الذي ينقطع بالمفارقة، أما طلب الإقالة بالاختيار، فلا فرق بين أن يتفرّقا، أو لا، فإن ذلك إنما يكون بالرضا منهما، وهو جائز بعد التفرّق. انتهى. "طرح التثريب" 6/ 152.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الجواب الثاني عندي أقرب؛ لأنه أولى منْ دعوى النكارة المذكورة، ويُحمل هَذَا النهي عَلَى ما إذا علم أن صاحبه يتضرّر بمفارقته، حيث يلزمه البيع، فإذا عرف ذلك، فلا يجوز له أن يوقعه فِي الضرر، بل يلازمه، ولا يفارقه حَتَّى يكون له مهلة للتروّي، والتفكّر فِي مصلحته، فيختار الإمضاء، أو الفسخ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه هَذَا حسنٌ، كما قَالَ الترمذيّ رحمه الله تعالى.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -11/ 4485 - وفي "الكبرى" 10/ 6075. وأخرجه (د) فِي "البيوع" 3456 (ق) فِي "التجارات" 2183. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان ثبوت خيار المجلس للمتبايعين. (ومنها): أن التفرّق يكون بالأبدان، لا بالأقوال، كما قيل. (ومنها): أنه إذا خيّر أحدهما صاحبه فِي المجلس، بأن قَالَ له: اختر، فاختار، انقطع خيار المجلس، ولزم البيع. (ومنها): وجوب النصيحة عَلَى المتبايعين، فلا يجوز لأحدهما أن يوقع الآخر فِي الندم، باستعجاله فِي لزوم البيع، وذلك بالمفارقة لمجلس البيع، بل عليه أن

ص: 151

يتأنّى، حَتَّى يعطي صاحبه مهلة التروّي، والتفكر فِي مصلحته، فيمضي البيع، أو يفسخه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌12 - (الْخَدِيعَةُ فِي الْبَيْعِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الْخَدِيعَةُ" بفتح الخاء المعجمة، وكسر الدال المهملة: اسم منْ الْخَدْعِ -بفتح، فسكون-، قَالَ المجد فِي "قاموسه": خَدَعه، كمنعه خَدْعًا، ويُكسر: خَتَلَهُ، وأراد به المكروه منْ حيث لا يَعلَم، كاختدعه، فانخدع، والاسم الخديعة، و"الحرب خدعة"، مثلّثة، وكهُمَزَة، وروي بهنّ جميعًا: أي تنقضي بخدعة. انتهى.

وترجم الإِمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" بقوله: "باب ما يكره منْ الْخِدَاع فِي البيع"، فَقَالَ فِي "الفتح": كأنه أشار بهذه الترجمة إلى أن الخداع فِي البيع مكروه ولكنه لا يفسخ البيع، إلا أن شَرَط المشتري الخيار عَلَى ما تُشعِر به القصة المذكورة فِي الْحَدِيث. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.

4486 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلاً ذَكَرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي الْبَيْعِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا بِعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ"، فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا بَاعَ، يَقُولُ: لَا خِلَابَةَ").

رجال هَذَا الإسناد: أربعة:

1 -

(قتيبة بن سعيد) المذكور فِي الباب السابق.

2 -

(مالك) بن أنس، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7] 7/ 7.

3 -

(نافع) مولى ابن عمر، أبو عبد الله المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 12/ 12.

4 -

(ابن عمر) عبد الله رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (216) منْ رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ، نسبة إلى "بَغْلان" -بفتح الموحّدة، وسكون الغين المعجمة-: اسم قرية ببلخ. (ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما منْ المكثرين السبعة،

ص: 152

روى (2630) حديثًا، ومن العبادلة الأربعة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ رَجُلاً) وفي رواية أحمد، منْ طريق محمد ابن إسحاق: حدثني نافع، عن ابن عمر، كَانَ رجل منْ الأنصار، زاد ابن الجارود فِي "المنتقى" منْ طريق سفيان، عن نافع، أنه حَبَّان بن مُنقِذ، وهو -بفتح المهملة، والموحدة الثقيلة-. ورواه الدارقطني، منْ طريق عبد الأعلى، والبيهقي منْ طريق يونس ابن بكير، كلاهما عن ابن إسحاق به، وزاد فيه: قَالَ ابن إسحاقا: فحدثني محمد بن يحيى بن حَبّان، قَالَ: هو جدي مُنقذ بن عمرو، وكذلك رواه ابن منده، منْ وجه آخر، عن ابن إسحاق. قاله فِي "الفتح" 5/ 67.

وَقَالَ النوويّ فِي "شرحه" 10/ 418: هو حبّان -بفتح الحاء، وبالباء الموحّدة- ابن منقذ بن عمرو الأنصاريّ، والد يحيى، وواسع ابني حَبّان، شَهِدَ أحدًا. وقيل: بل هو والده منقذ بن عمرو، وكان قد بلغ مائة وثلاثين سنة، وكان قد شُجّ فِي بعض مغازيه مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي بعض الحصون بحجر، فأصابته فِي رأسه مأمومة، فتغيّر بها لسانه، وعقله، لكن لم يخرج عن التمييز. وذكر الدارقطنيّ أنه كَانَ ضريرًا. انتهى.

(ذَكَرَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية ابن إسحاق: "فشكا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ما يلقى منْ الغبن"(أَنَّهُ يُخْدَعُ) بالبناء للمفعول (فِي الْبَيْعِ) ولفظ البخاريّ: "فِي البيوع"، وَقَدْ بَيَّن ابن إسحاق فِي روايته المذكورة سبب شكواه، وهو ما يَلقَى منْ الغبن، وَقَدْ أخرجه أحمد، وأصحاب السنن، وابن حبّان، والحاكم منْ حديث أنس، وهو الْحَدِيث التالي للنسائيّ، بلفظ:"أن رجلاً كَانَ يبايع، وكان فِي عُقدته ضعف"

(فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا بعْتَ، فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ) -بكسر المعجمة، وتخفيف اللام-: أي لا خَدِيعة، و"لا" لنفى الجنس: أي لا خديعة فِي الدين؛ لأن الدين النصيحة.

زاد ابن إسحاق، فِي رواية يونس بن بكير، وعبد الأعلى عنه:"ثم أنت بالخيار فِي كل سلعة ابتعتها، ثلاث ليال، فإن رضيتَ فأمسك، وإن سخطتَ، فاردد"، فبقي حَتَّى أدرك زمان عثمان، وهو ابن مائة وثلاثين سنة، فأكثر النَّاس فِي زمن عثمان، وكان إذا اشترى شيئاً، فقيل له: إنك غُبِنتَ، فيه رجع به، فيَشهَد له الرجلُ، منْ الصحابة بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قد جعله بالخيار ثلاثاً، فيرد له دراهمه.

قَالَ العلماء: لقنه النبيّ صلى الله عليه وسلم هَذَا القول؛ ليتلفظ به عند البيع، فيَطْلع به صاحبه عَلَى أنه ليس منْ ذوي البصائر، فِي معرفة السِّلَع، ومقادير القيمة، فيَرَى له كما يرى لنفسه؛

ص: 153

لما تقرر منْ حَضّ المتبايعين عَلَى أداء النصيحة، كما تقدم فِي قوله صلى الله عليه وسلم، فِي حديث حكيم بن حزام:"فإن صدقا وبينا، بورك لهما فِي بيعهما" الْحَدِيث.

(فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا بَاعَ، يَقُولُ: لَا خِلَابَةَ) هكذا فِي رواية المصنّف، وفي رواية مسلم:"فكان إذا بايع يقول: لا خيابة"، قَالَ النوويّ فِي "شرحه" 10/ 418: هو بياء مثناة تحتُ، بدل اللام، هكذا هو فِي جميع النسخ، قَالَ القاضي: ورواه بعضهم:

"لا خيانة" بالنون، قَالَ: وهو تصحيف، قَالَ: ووقع فِي بعض الروايات فِي غير مسلم: "خذابة" بالذال المعجمة، والصواب الأول، وكان الرجل ألثغ، فكان يقولها هكذا، ولا يمكنه أن يقول:"لا خلابة"، ومعنى "لا خلابة": لا خديعة: أي لا تحلّ لك خديعتي، ولا يلزمني خديعتك. انتهى.

ونقل فِي "الفتح" 14/ 353 - 354 - فِي "كتاب الحيل" عن المهلب، أنه قَالَ: معنى قوله: "لا خلابة": لا تخلُبوني: أي لا تخدعوني، فان ذلك لا يحل. قَالَ الحافظ: والذي يظهر أنه وارد مورد الشرط: أي إن ظهر فِي العقد خداع، فهو غير صحيح، كأنه قَالَ: بشرط أن لا يكون فيه خديعة، أو قَالَ: لا تلزمني خديعتك. قَالَ المهلب: ولا يدخل فِي الخداع المحرم الثناءُ عَلَى السلعة، والإطناب فِي مدحها، فإنه متجاوز عنه، ولا يَنتقض به البيع. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -12/ 4486 - وفي "الكبرى" 11/ 6076. وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 2117 و"الاستقراض" 2407 و"الخصومات" 2414 و"الحيل" 6964 (م) فِي "البيوع" 1533 (د) فِي "البيوع" 2500 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 5016 و5249 و5382 و5491 و5536 و5820 و5934 و6099 (الموطأ) فِي "البيوع" 1393. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم الخديعة فِي البيع، وهو أنها لا تجوز. (ومنها): أنه استُدِلّ به لأحمد، وأحد قولي مالك، أنه يُرَدّ بالغبن الفاحش، لمن لم يَعرف قيمة السلعة.

وتعقب بأنه صلى الله عليه وسلم، إنما جعل له الخيار لضعف عقله، ولو كَانَ الغبن يُملك به الفسخ،

ص: 154

لما احتاج إلى شرط الخيار.

وَقَالَ ابن العربي: يحتمل أن الخديعة فِي قصة هَذَا الرجل كانت فِي العيب، أو فِي الكذب، أو فِي الثمن، أو فِي الغبن، فلا يُحتج بها فِي مسألة الغبن بخصوصها، وليست قصة عامة، وإنما هي خاصة فِي واقعة عين، فيحتج بها فِي حق منْ كَانَ بصفة الرجل، قَالَ: وأما ما رُوي عن عمر، أنه كُلِّم فِي البيع، فَقَالَ: ما أجد لكم شيئاً أوسع، مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لحبان بن منقذ، ثلاثة أيام، فمداره على ابن لهيعة، وهو ضعيف. انتهى.

قَالَ الحافظ: وهو كما قَالَ، أخرجه الطبراني، والدارقطني، وغيرهما منْ طريقه، لكن الاحتمالات التي ذكرها، قد تعينت بالرواية التي صُرَح بها، بأنه كَانَ يُغبن فِي البيوع. (ومنها): أنه استُدِلّ به عَلَى أن أمد الخيار المشترط ثلاثة أيام، منْ غير زيادة؛ لأنه حكم ورد عَلَى خلاف الأصل، فيُقتصر به عَلَى أقصى ما ورد فيه، ويؤيده جعل الخيار فِي الْمُصَرّاة ثلاثة أيام، واعتبار الثلاث فِي غير موضع. وأغرب بعض المالكية، فَقَالَ: إنما قصره عَلَى ثلاث؛ لأن معظم بيعه كَانَ فِي الرقيق. وهذا يحتاج إلى دليل، ولا يكفي فيه مجرد الاحتمال.

(ومنها): أنه استُدلّ به عَلَى أن منْ قَالَ عند العقد: لا خلابة، أنه يصير فِي تلك الصفقة بالخيار، سواء وَجَدَ فيه عيبا، أو غبنا، أم لا، وبالغ ابن حزم فِي جموده، فَقَالَ: لو قَالَ: لا خديعة، أو لا غش، أو ما أشبه ذلك، لم يكن له الخيار، حَتَّى يقول: لا خلابة. ومن أسهل ما يُردّ به عليه، أنه ثبت فِي "صحيح مسلم" أنه كَانَ يقول: لا خيابة -بالتحتانية، بدل اللام، وبالذال المعجمة بدل اللام أيضاً

(1)

، وكأنه كَانَ لا يفصح باللام؛ للثغة لسانه، ومع ذلك لم يتغير الحكم فِي حقه، عند أحد منْ الصحابة، الذين كانوا يشهدون له، بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، جعله بالخيار، فدل عَلَى أنهم اكتفوا فِي ذلك بالمعنى.

(ومنها): أنه استُدِلّ به عَلَى أن الكبير لا يُحجر عليه، ولو تبين سفهه؛ لما فِي بعض طرق حديث أنس: أن أهله أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، احجُر عليه، فدعاه، فنهاه عن البيع، فَقَالَ: لا أصبر عنه، فَقَالَ:"إذا بايعت، فقل: لا خلابة".

وتُعُقّب بأنه لو كَانَ الحجر عَلَى الكبير لا يصح؛ لأنكر عليهم، وأما كونه لم يحجر عليه، فلا يدل عَلَى منع الحجر عَلَى السفيه.

(1)

هَذَا فيه نظر؛ لأن هذه الرواية ليست فِي مسلم، بل بر فِي غيره، كما تقدّم عن القاضي عياض رحمه الله تعالى.

ص: 155

(ومنها): أنه استُدِلّ به عَلَى جواز البيع، بشرط الخيار، وعلى جواز شرط الخيار للمشترى وحده. (ومنها): أن فيه ما كَانَ أهل ذلك العصر عليه، منْ الرجوع إلى الحق، وقبول خبر الواحد، فِي الحقوق وغيرها. قاله فِي "الفتح" 5/ 67 - 68. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): قَالَ الإِمام ابن القيم رحمه الله تعالى فِي كتابه "إعلام الموقّعين عن ربّ العالمين": أحدث بعض المتأخرين حِيَلا، لم يصح القول بها عن أحد منْ الأئمة، ومن عَرَف سيرة الشافعيّ، وفضله، عَلِم أنه لم يكن يأمر بفعل الحيل، التي تبنى عَلَى الخداع، وان كَانَ يُجري العقود عَلَى ظاهرها، ولا ينظر الى قصد العاقد، إذا خالف لفظه، فحاشاه أن يُبيح للناس المكر والخديعة، فان الفرق بين إجراء العقد عَلَى ظاهره، فلا يعتبر القصد فِي العقد، وبين تجويز عقد، قد عُلم بناؤه عَلَى المكر، مع العلم بأن باطنه بخلاف ظاهره ظاهر، ومن نسب حِلَّ الثاني إلى الشافعيّ، فهو خصمه عند الله، فان الذي جوزه بمنزلة الحاكم يُجري الحكم عَلَى ظاهره، فِي عدالة الشهود، فيحكم بظاهر عدالتهم، وان كانوا فِي الباطن شهود زور، وكذا فِي مسألة الْعِينَةِ، إنما جوز أن يبيع السلعة ممن يشتريها، جريا منه عَلَى أن ظاهر عقود المسلمين سلامتها منْ المكر والخديعة، ولم يجوّز قط أن المتعاقدين يتواطآن عَلَى ألف، بألف ومائتين، ثم يُحضران سلعة، تُحلل الربا، ولاسيما إن لم يقصد البائع بيعها، ولا المشتري شراءها، ويتأكد ذلك، إذا كانت ليست ملكا للبائع، كأن يكون عنده سلعة لغيره، فيوقع العقد، ويَدَّعي أنها ملكه، ويصدقه المشتري، فيوقعان العقد عَلَى الأكثر، ثم يستعيدها البائع بالأقل، ويترتب الأكثر فِي ذمة المشتري فِي الظاهر، ولو عَلِمَ الذي جَوَّز ذلك بذلك، لبادر إلى إنكاره؛ لأن لازم المذهب ليس بمذهب، فقد يذكر العالم الشيء، ولا يستحضر لازمه، حَتَّى إذا عرفه أنكره، وأطال فِي ذلك جِدًّا، وهذا ملخصه.

قَالَ الحافظ: والتحقيق أنه لا يلزم منْ الإثم فِي العقد بطلانه، فِي ظاهر الحكم، فالشافعية يجوزون العقود عَلَى ظاهرها، ويقولون مع ذلك: إن منْ عَمِلَ الحيل بالمكر والخديعة، يأثم فِي الباطن، وبهذا يحصل الانفصال عن إشكاله. والله أعلم. انتهى "الفتح" 14/ 353 - 354.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا عجيب منْ مثل الحافظ، فأين الانفصال الذي زعمه، وبأي دليل انفصل عما أورده الإِمام ابن القيّم رحمه الله تعالى، منْ هَذَا الكلام المفصّل الذي إذا سمعه منْ أنصف لا يتأخّر عن الاعتراف به، واعتقاد صحّته، وأنه لا مفرّ عن القول به، فهذه الحيل التي ذكرها، لا نعتقد أحدًا ممن له علم بالكتاب والسنة

ص: 156

يُجيزها، فإن عُثر عَلَى أن بعض أهل العلم قالوا بجوازها، فيُعتذر عنهم بما اعتذر به هو، وذلك أنهم جوّزوا نوعًا منها إجمالاً، ولو استُفصلوا بجميع لوازم المسألة، لبادروا بالإنكار، فضلاً عن القول بجوازها، وهذا هو الذي ندين الله تعالى به فِي حقّ علماء الإِسلام، فإن هذه الحيل هي التي دخل بها تحريف الأديان السابقة، فكان أحبارهم يحتالون فِي مخالفة ما فِي كتابهم، منْ التكاليف، فيجيزون للعوامّ ما هو حرام صرف، فيشترون بذلك عرض الدنيا الفانية، كما ذمّهم الله سبحانه وتعالى فِي كتابه العزيز، فَقَالَ عز وجل:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4487 -

(أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلاً كَانَ فِي عُقْدَتِهِ ضَعْفٌ، كَانَ يُبَايِعُ، وَأَنَّ أَهْلَهُ أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ احْجُرْ عَلَيْهِ، فَدَعَاهُ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَهَاهُ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي لَا أَصْبِرُ عَنِ الْبَيْعِ، قَالَ: "إِذَا بِعْتَ، فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(يُوسُفُ بْنُ حَمَّادٍ) الْمَعْنيّ -بفتح الميم، وسكون المهملة- أبو يعقوب البصريّ، ثقة [10] 25/ 1783.

2 -

(عبد الأعلى) بن عبد الأعلى الساميّ، أبو محمد البصريّ، ثقة [8] 20/ 386.

3 -

(سعيد) بن أبي عروبة مِهْران البصريّ، ثقة ثبت، لكنه يدلس، واختلط [6] 34/ 38.

4 -

(قتادة) بن دعامة السدوسيّ البصريّ، ثقة ثبت يدلس [4] 30/ 34.

5 -

(أنس) بن مالك رضي الله تعالى عنه 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين. (ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر منْ مات منْ الصحابة بالبصرة، مات سنة (2) أو (93 هـ)، وَقَدْ جاوز المائة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله تعالى عنه (أَنَّ رَجُلاً) هو حَبّان بن منقذ بن عمرو الأنصاريّ

ص: 157

-رضي الله عنه، وقيل: والده منقذ رضي الله عنه، كما تقدّم فِي الْحَدِيث الماضي (كَانَ فِي عُقْدَتِهِ) -بضم العين، وفتح الدال المهملتين، بينهما قاف ساكنة-: أي فِي رأيه، ونظره فِي مصالح نفسه وعقله. وقيل: هي العقدة فِي اللسان لما فِي بعض الروايات منْ أنه أصابته مأمومة، فكسرت لسانه، حَتَّى كَانَ يقول: لا خيابة، بالياء، كما فِي "صحيح مسلم"، أو "لا خذابة" بالذال، كما عند غيره (ضَعْفٌ) بفتح الضاد المعجمة، وضمها، قرىء بهما فِي السبع، وَقَالَ الفيّوميّ: الضَّعف بفتح الضاد فِي لغة تميم، وبضمّها فِي لغة قريش: خلاف القوّة، والصحّة، فالمضموم مصدرُ ضَعُفَ، مثالُ قرُب قُرْبًا، والمفتوح مصدر ضَعَفَ ضَعْفًا، منْ باب قَتَلَ، ومنهم منْ يجعل المفتوح فِي الرأي، والمضموم فِي الجسد. انتهى (كَانَ يُبَايعُ) بالبناء للفاعل، أي يبيع للناس، ويشتري منهم، أو بالبناء للمفعول: أي يبيع له النَّاس، ويشترون منه (وَأَنَّ أَهْلَهُ أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ الله احْجُرْ عَلَيهِ) بضم الجيم: أمر منْ الحجر، يقال: حجر عليه حَجْرًا، منْ باب قتل: إذا منعه منْ التصرّف، فهو محجور عليه، والفقهاء يحذفون الصلة؛ تخفيفًا لكثرة الاستعمال، ويقولون: محجورٌ، وهو سائغ. قاله الفيّوميّ (فَدَعَاهُ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَهَاهُ) أي منعه منْ التبايع مع النَّاس؛ لئلا يقع فِي الغبن (فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنِّي لَا أَصْبِرُ) بكسر الباء، منْ الصبر، وهو الحبس، والفعل منْ باب ضرب (عَنِ الْبَيْعِ) يعني أنه مُغرَم بحبّ البيع، فلا يقدر عَلَى حبس نفسه عنه (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (إِذَا بعْتَ، فَقُل: لَا خِلَابَةَ") أي لا خديعة، وفي رواية أبي داود:"إن كنت غير تارك للبيع، فقل: هاء، وهاء، ولا خلابة"، فقوله:"هاء" بالمدّ، وفتح الهمزة، وقيل: بالكسر، وقيل: بالسكون. قَالَ فِي "المجمع": هو أن يقول كلّ منْ المتبايعين: هاء، فيعطيه ما فِي يده، كحديث "إلا يداً بيد". وقيل: معناه: هاك، وهات: أي خذ، وأعط.

قَالَ فِي "النيل": اختلف العلماء فِي هَذَا الشرط، هل كَانَ خاصًا بهذا الرجل، أم يدخل فيه جميع منْ شرط هَذَا الشرط، فعند أحمد، ومالك فِي رواية عنه أنه يثبت الردّ لكل منْ شرط هَذَا الشرط، ويُثبتون الرد بالغبن لمن لم يعرف قيمة السلع. وأجيب بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما جعل لهذا الرجل الخيار للضعف الذي كَانَ فِي عقله، كما فِي حديث أنس رضي الله عنه، فلا يُلحق به إلا منْ كَانَ مثله فِي ذلك بشرط أن يقول هذه المقالة، ولهذا روي أنه كَانَ إذا غُبن يشهد له رجل منْ الصحابة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد جعله بالخيار ثلاثاً، فيرجع فِي ذلك، وبهذا يتبيّن أنه لا يصحّ الاستدلال بمثل هذه القصّة عَلَى ثبوت الخيار لكلّ مغبون، وإن كَانَ صحيح العقل، ولا عَلَى ثبوت الخيار لمن كَانَ ضعيف العقل إذا غُبن، ولم يقل هذه المقالة، وهذا مذهب الجمهور، وهو الحقّ. انتهى ملخّصًا.

ص: 158

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أنّ ما ذهب إليه الإِمام أحمد رحمه الله منْ إثبات خيار الغَبْنِ هو الأرجح، كما سيأتي قريبًا، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أنس رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -12/ 4487 - وفي "الكبرى" 11/ 6077. وأخرجه (د) فِي "البيوع" 3500 (ت) فِي "البيوع" 1250 (ق) فِي "الأحكام" 2354.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم الخديعة فِي البيع، وهو التحريم. (ومنها): مشروعيّة خيار الغبن لمن كَانَ ضعيف العقل، فباع، أو اشترى، ثم ظهر الغبن له، وفيه خلاف بين العلماء، قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: واختلف العلماء فِي هَذَا الْحَدِيث، فجعله بعضهم خاصًا فِي حقّه، وأن المغابنة بين المتبايعين لازمة، ولا خيار للمغبون بسببها، سواء قلّت، أو كثُرت، وهذا مذهب الشافعيّ، وأبي حنيفة، وآخرين، وهي أصحّ الروايتين عن مالك، وَقَالَ البغداديّون منْ المالكيّة: للمغبون الخيار لهذا الْحَدِيث، بشرط أن يبلغ الغبن ثلث القيمة، فإن كَانَ دونه فلا، والصحيح الأول؛ لأنه لم يثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أثبت له الخيار، وإنما قَالَ له: قل: "لا خلابة": أي لا خديعة، ولا يلزم منْ هَذَا ثبوت الخيار، ولأنه لو ثبت، أو أثبت له الخيار، كانت قضيّة عين، لا عموم لها، فلا ينفذ منه إلى غيره إلا بدليل. انتهى "شرح مسلم" 10/ 171.

وَقَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى فِي "المغني": ويثبت الخيار فِي البيع للغبن فِي مواضع: [أحدها]: تلقي الركبان، إذا تلقاهم، فاشترى منهم، وباعهم، وغبنهم. [الثاني]: بيع النجش، ويذكران فِي مواضعهما. [الثالث]: المسترسِل إذا غُبن غبنا يخرج عن العادة، فله الخيار بين الفسخ والإمضاء، وبهذا قَالَ مالك، وَقَالَ ابن أبي موسى: وَقَدْ قيل: قد لزمه البيع، وليس له فسخه، وهذا مذهب أبي حنيفة، والشافعي؛ لأن نقصان قيمة السلعة مع سلامتها، لا يمنع لزوم العقد، كبيع غير المسترسل، وكالغبن اليسير. ولنا أنه غبن حصل لجهله بالمبيع، فأثبت الخيار كالغبن فِي تلقي الركبان، فأما غير المسترسل، فإنه دخل عَلَى بصيرة بالغبن، فهو كالعالم بالعيب، وكذا لو استعجل، فجهل ما لو تثبت لعلمه، لم يكن له خيار؛ لأنه انبنى عَلَى تقصيره وتفريطه، والمسترسل: هو الجاهل بقيمة السلعة، ولا يُحسِن المبايعة، قَالَ أحمد:

ص: 159

المسترسل: الذي لا يحسن أن يُماكِس، وفي لفظ: الذي لا يماكس، فكأنه استرسل إلى البائع، فأخذ ما أعطاه، منْ غير مماسكة، ولا معرفة بغبنه، فأما العالم بذلك، والذي لو توقف لعرف، إذا استعجل فِي الحال، فغُبِن فلا خيار لهما. ولا تحديد للغبن فِي المنصوص عن أحمد، وحَدَّه أبو بكر فِي "التنبيه"، وابن أبي موسى فِي "الإرشاد" بالثلث، وهو قول مالك؛ لأن الثلث كثير، بدليل قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"والثلث كثير"، وقيل: بالسدس، وقيل: ما لا يتغابن النَّاس به فِي العادة؛ لأن ما لا يَرِدُ الشرع بتحديده، يُرجَع فيه إلى العرف. انتهى كلام ابن قدامة.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه أحمد رحمه الله تعالى منْ إثبات الخيار فِي الغبن للمسترسل هو الظاهر؛ لأن الشارع أثبت الخيار فِي مواضع كثيرة، منْ مواضع الغرر، مثل تلقّي الركبان، والمصرّاة، والنجش، وغيرها، فدلّ ذلك عَلَى أن ما كَانَ بمعناها مثلها فِي الحكم، وهو الغبن. والله تعالى أعلم.

(ومنها): مشروعيّة الحجر عَلَى السفيه، قَالَ الإِمام الترمذيّ رحمه الله تعالى بعد أن أخرج الْحَدِيث: والعمل عَلَى هَذَا الْحَدِيث عند بعض أهل العلم، وقالوا: الحجر عَلَى الرجل الحرّ فِي البيع والشراء، إذا كَانَ ضعيف العقل، وهو قول أحمد، وإسحاق، ولم ير بعضهم أن يُحجر عَلَى الحرّ البالغ. انتهى. وحجة الأولين هَذَا الْحَدِيث، ووجهه أن أهل ذلك الرجل لما طلبوا منه صلى الله عليه وسلم الحجر عليه، لم ينكر عليهم، بل منعه منْ البيع، إلا أنه لمّا رأى أنه لا يترك ذلك، عَلَّمَهُ أن يقول:"لا خلابة". واحتجّ المانعون أيضاً بهذا الْحَدِيث، ووجهه أنه صلى الله عليه وسلم لم يحجر عليه، فلو كَانَ الحجر جائزًا لحجر عليه. وتُعقّب بأنه حجر عليه، لكنه لما رأى أنه لا ينفع الحجر فيه، لكونه لا يترك البيع علّمه ما يرفع عنه الضرر، إن لحقه، كما مرّ آنفًا، والحاصل أن دلالة الْحَدِيث عَلَى ما قاله الأولون واضحة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌13 - (الْمُحَفَّلَةُ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الْمُحَفَّلَةُ" بتشديد الفاء: اسم مفعول، منْ التحفيل: يقال: حَفَل اللبن وغيرُهُ، منْ باب ضرب، حَفْلاً،، وحُفُولاً: إذا اجتمع، وحفّلتُ الشاةَ

ص: 160

بالتثقيل: إذا تركتَ حلبها حَتَّى اجتمع اللبن فِي ضرعها، فهي مُحفّلة، وكان الأصل: حفّلتُ لبن الشاة؛ لأنه هو المجموع، فهي مُحفّل لبنها. قاله الفيّوميّ.

وَقَالَ ابن الأثير رحمه الله تعالى: المحفّلة: الشاة، أو البقرة، أو الناقة، لا يَحلُبها صاحبها أيامًا، حَتَّى يجتمع لبنها فِي ضرعها، فإذا احتلبها المشتري حسبها غزيرة، فزاد فِي ثمنها، ثم يظهر له بعد ذلك نقص لبنها عن أيام تحفيلها، سُمّيت مُحفّلة؛ لأن اللبن حُفّل فِي ضرعها: أي جمع. انتهى "النهاية" 1/ 408 - 409.

والظاهر أن المصنّف رحمه الله تعالى يرى أن المحفّلة أعمّ منْ المصرّاة، حيث فسر المصرّاة فِي الباب التالي بأنها التي رُبط ضرعها حَتَّى يجتمع لبنها، فكلّ مصرّاة محفّلة، ولا عكس، ولكن المشهور أنهما بمعنى واحد، قَالَ فِي "اللسان": المحفّلة، والمصرّاة واحدة، وسُمّيت محفّلة؛ لأن اللبن حُفّل فِي ضرعها: أي جُمع، والتحفيل مثلُ التصرية، وهو أن لا تُحلب الشاة أيامًا ليجتمع اللبن فِي ضرعها للبيع، والشاة مُحفّلة، ومصرّاة، وأنشد الأزهريّ للْقَطَاميّ، يذكر إبلاً اشتدّ عليها حَفْلُ اللبن فِي ضروعها حَتَّى آذاها [منْ الطويل]:

ذَوَارِفُ عَيْنَيْهَا مِنَ الْحَفْلِ بِالضُّحَى

سُجُومٌ كَنَضَّاحِ الشِّنَانِ الْمُشَرَّبِ

وسيأتي معنى التصرية مستوفًى فِي الباب التالي، إن شاء اللهَ تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب.

4488 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو كَثِيرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا بَاعَ أَحَدُكُمُ الشَّاةَ، أَوِ اللَّقْحَةَ، فَلَا يُحَفِّلْهَا").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبرَاهِيمَ) الحنظليّ المعروف بابن راهويه المروزيّ، ثم النيسابوريّ، ثقة ثبت إمام [10] 2/ 2.

2 -

(عبد الرزاق) بن همام، أبو بكر الصنعانيّ، ثقة مصنف مشهور، عمي بآخره، فتغير، وكان يتشيع [9] 61/ 77.

3 -

(معمر) بن راشد، أبو عروة اليمنيّ، بصري الأصل، ثقة ثبت [7] 10/ 10.

4 -

(يحيى بن أبي كثير) الطائي مولاهم، أبو نصر اليماميّ، ثقة ثبت، يدلس، ويرسل [5] 23/ 24.

5 -

(أبو كثير السُّحَيميّ) -بمهملتين، مصغّرًا- الْغُبَريّ -بضم المعجمة، وفتح الموحّدة- اليماميّ الأعمى، قيل: هو يزيد بن عبد الرحمن الضرير، وقيل: عبد الله بن

ص: 161

أُذَينة، أو ابن غُفَيلة -بمعجمة، وفاء، مصغّرًا- قَالَ أبو عوانة الإسفراينيّ: إنه أصحّ منْ أُذينة، ثقة [3].

روى عن أبيه، وأبي هريرة، وعنه ابنه زُفر، ويحيى بن أبي كثير، وعكرمة بن عمار، وغيرهم. قَالَ أبو حاتم، وأبو داود، والنسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وفرّق بين يزيد بن أذينة، وبين يزيد بن غُفيلة الشاميّ. روى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، والباقون، أخرج له المصنّف فِي أربعة مواضع منْ هَذَا الكتاب: هَذَا، وفي "كتاب الأشربة" 17/ 5572 حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُخلط البسر" الْحَدِيث، و19/ 5574 - حديثه:"الخمر منْ هاتين" الْحَدِيث، و5575 - حديثه:"الخمر منْ هاتين الشجرتين: النخلة، والعنبة".

6 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه منْ المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِير) أنه (قالَ: حَدَّثَنِي أَبُو كَثِير) السُّحيميّ (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا بَاعَ) أي إذا أراد أن مع (أَحَدُكُمُ الشَّاةَ، أَوِ اللَّقْحَةَ) بفتح اللام، وكسرها، وسكون القاف: الناقة القريبة العهد بالنتاج، وفي "الصحاح": اللِّقْحَة، كالْقِرْبة، والجمع لِقَح، كقِرَب. وَقَالَ الفيّوميّ: اللقحة بالكسر: الناقة ذات لبن، والفتح لغةٌ، والجمع لِقَحٌ، مثل سدرةٍ، وسِدَر، أو مثلُ قَصْعَة، وقِصَعٍ، واللقوح بفتح اللام، مثل اللقحة، والجمع لِقَاح، مثل قَلُوص وقِلَاص. وقال ثعلب: اللقاح جمع لِقْحَة، وان شئت لَقُوحٌ، وهي التي نُتِجت، فهي لَقُوحُ شهرين، أو ثلاثة، ثم هي لَبُونٌ بعد ذلك. انتهى (فلَا يُحَفِّلْهَا) بضمّ أوله، وتشديد الفاء، منْ التحفيل: أي فلا يحبس لبنها فِي الضرع؛ ليخدع بها المشتري. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا 13/ 4488 - وفي "الكبرى" 12/ 6078. وأخرجه (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 7642. والمسائل المتعلّقة به ستأتي فِي الباب

ص: 162

التالي، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌14 - (النَّهْي عَنِ الْمُصَرَّاةِ، وَهُوَ أَنْ يَرْبِطَ أَخْلَافَ النَّاقَةِ، أَوِ الشَّاةِ، وَتُتْرَكُ مِنَ الْحَلْبِ، يَوْمَيْنِ، وَالثَّلَاثَةَ، حَتَّى يَجْتَمِعَ لَهَا لَبَنٌ، فَيَزِيدَ مُشْتَرِيهَا؛ فِي قِيمَتِهَا؛ لِمَا يَرَى مِنْ كَثْرَةِ لَبَنِهَا)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "النهي عن المصرّاة" -بصيغة اسم المفعول، وظاهر كلام المصنّف رحمه الله تعالى أنه أراد به التصرية، فيكون مصدرًا ميميًا لـ"صَرَّى"، وليس اسم مفعول صفة للشاة، أو نحوها، وذلك لأنه فسّره بقوله:"وهو أن يربط الخ"، فلو أراد كونه اسم مفعول لقال: وهي الشاة، أو الناقة المربوطة أخلافها، وأيضاً فإن الإخبار به عن قوله:"النهي" لا يصلح؛ لأن اسم الذات لا يكون خبرًا عن اسم المعنى، إلا بتأويل، كأن يقال هنا: "النهي عن بيع المصرّاة، أو نحو ذلك، وهو لا يتناسب مع تفسير المصنّف.

ولفظ "الكبرى": "النهي عن التصرية"، وهو واضح، وتذكير الضمير فِي قوله:"وهو" أن يربط باعتبار الخبر".

وقوله: "أن يربط" بالبناء للمفعول، و"أخلاف الناقة" نائب فاعله، و"الأخلاف" -بفتح الهمزة: جمع خِلْف، بكسر، فسكون، مثل حِمْل وأَحْمَال، وهو لذوات الخفّ كالثدي للإنسان، وقيل: الحِلْف: طرف الضرع.

وقوله: "أن تُترك" بالبناء للمفعول أيضاً. وقوله: "يومين، والثلاثة" بالنصب عَلَى الظرفيّة، متعلّق بـ"تترك". وقوله:"لما يرى" بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير المشتري، ويحتمل أن يكون بالبناء للمفعول، والأول أولى.

ثم إن تفسير المصنّف رحمه الله تعالى للمصرّاة بربط الأخلاف هو التفسير المنقول عن الإِمام الشافعيّ رحمه الله تعالى، قَالَ الخطّابيّ رحمه الله تعالى: اختلف أهل العلم، واللغة فِي تفسير المصرّاة، ومن أين أُخذت، واشتُقّت؟، فَقَالَ الشافعيّ رحمه

ص: 163

الله تعالى: التصرية: أن تربط أخلاف الناقة، أو الشاة، ويُترك حلبها اليومين، والثلاثة، حَتَّى يجتمع لها لبن، فيراه مشتريها كثيرًا، ويزيد فِي ثمنها؛ لما يرى منْ كثرة لبنها، فإذا حلبها بعد تلك الحلبة حلبةً، أو اثنتين عَرَف أن ذلك ليس بلبنها، وهذا غرور للمشتري. وَقَالَ أبو عبيد:"المصرّاة": الناقة، أو الشاة التي قد صُرّي اللبن فِي ضرعها: يعني حُقِن فيه، وجُمع أيامًا، فلم يُحلب، وأصل التصرية: حبس الماء، وجمعه، يقال منه: صَرَيتُ الماءَ، ويقال: إنما سُمّيت المُصَرَّاة، كأنها مياه اجتمعت، قَالَ أبو عبيد: ولو كَانَ منْ الربط، لكانت مصرورةً، أو مصرّرة. قَالَ الخطّابيّ: كأنه يريد به ردًّا عَلَى الشافعيّ، قَالَ: قول أبي عبيد حسنٌ، وقول الشافعيّ صحيح، قَالَ: والعرب تصُرّ ضروع الحلوبات، إذا أرسلتها تَسرح، ويسمّون ذلك الرباط صِرَارًا، فإذا راحت حُلّت تلك الأصرّة، وحُلبت، وهذا حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لا يحلّ لرجل يؤمن بالله، واليوم الآخر أن يحُلّ صِرَارَ ناقة بغير إذن صاحبها، فإنه خاتم أهلها عليها"

(1)

، ومن هَذَا قول عنترة: العبد لا يُحسن الكرّ، إنما يُحسن الحلب والصرّ، وبقول مالك بن نُويرة، وكان بنو يربوع جمعوا صدقاتهم ليوجّهوها إلى أبي بكر رضي الله عنه، فمنعهم منْ ذلك، وردّ عَلَى كلّ رجل منهم صدقته، وَقَالَ: أنا جنة لكم مما تكرهون، وَقَالَ [منْ الطويل]:

وَقُلْتُ خُذُوهَا هَذِهِ صَدَقَاتُكُمْ

مُصَرَّرَةٌ أَخْلَافُهَا لَمْ تُجَرَّدِ

سَأَجْعَلُ نَفْسِي دُونَ مَا تجِدُونَهُ

وَأَرْهَنُكُمْ يَوْمًا بِمَا قُلْتُهُ يَدِي

قَالَ: ويحتمل أن تكون المصرّاة أصله المصرورة، أُبدلت إحدى الراءين ياءً، كقولهم: تقضّى الباز، وأصله تقضضَ، كرهوا اجتماع ثلاثة أحرف منْ جنس واحد فِي كلمة واحدة، فأبدلوا حرفًا منها بحرف آخر، ليس منْ جنسها. قَالَ العجاج [منْ مشطور الرجز]:

تَقَضِّيَ الْبَازِي إِذَا الْبَازِ كَسَرْ

ومن هَذَا الباب قول الله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 10]: أي أخملها بمنع الخير، وأصله منْ دسسها، ومثل هَذَا فِي الكلام كثير. انتهى كلام الخطابيّ "معالم السنن" 5/ 84 - 86.

وَقَالَ ابن الأثير رحمه الله تعالى: "المصرّاة": الناقة، أو البقرة، أو الشاة، يُصَرَّى اللبن فِي ضرعها: أي يُجمع، ويُحبس. قَالَ الأزهريّ: ذكر الشافعيّ رضي الله عنه المصرّاة، وفسّرها أنها التي تُصرّ أخلافها، ولا تُحلب أيامًا، حَتَّى يجتمع اللبن فِي ضرعها، فإذا حلبها المشتري استغزرها. وَقَالَ الأزهريّ: جائز أن تكون سُمّيت مصرّاة منْ صرّ

(1)

فِي سنده شريك القاضي، وهو متكلم فيه، لكن له شاهد منْ حديث ابن عمر أخرجه أحمد فِي "مسنده" برقم 4471 ومسلم فِي "صحيحه".

ص: 164

أخلافها، كما ذكر، إلا أنهم لما اجتمع لهم فِي الكلمة ثلاث راآت قُلبت أحداها ياء، كما قالوا: تظنّيت فِي تظنّنت، ومثله تقضى البازي فِي تقضّض، وتَصَدَّى فِي تصدّد، وكثير منْ أمثال ذلك، أبدلوا منْ أحد الأحرف المكرّرة ياء، كراهية لاجتماع الأمثال، قَالَ: وجائز أن تكون سُمّيت مصرّاة منْ الصَّرْيِ، وهو الجمع، كما سبق، وإليه ذهب الأكثر. انتهى "النهاية" 3/ 27.

وَقَالَ ابن قُدامة فِي "المغني" 6/ 215 - : التصرية: جمع اللبن فِي الضرع، يقال: صَرَّى الشاة، وصَرَى اللبن فِي ضرع الشاة، بالتشديد، والتخفيف، ويقال: صَرَى الماءَ فِي الحوض، وصَرَى الطعامَ فِي فيه، وصَرَى الماءَ فِي ظهره: إذا ترك الجماع، وأنشده أبو عبيد [منْ الرجز]:

رَأَتْ غُلَامًا قَدْ صَرَى فِي فِقْرَتِهْ

مَاءَ الشَّبَابِ عُنْفُوَانَ شِرَّتِه

وماء صَرى، وصَرِ: إذا طال استنقاعه. قَالَ البخاريّ: أصل التصرية: حبس الماء، يقال: صَرَّيتُ الماءَ، ويقال للمصراة: الْمُحَفَّلة، وهو منْ الجمع ايضا، ومنه سُمّيت مجامع النَّاس محافل، والتصرية حرام، إذا أراد بذلك التدليس عَلَى المشتري؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا تُصَرُّوا"، وقوله:"منْ غَشّنا فليس منا"، وروى ابن ماجه فِي "سننه"، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قَالَ:"بيع المحفّلات خِلابة، ولا تحل الخلابة لمسلم"، ورواه ابن عبد البرّ:"ولا يحل خِلابة لمسلم". انتهى "المغني" 6/ 215 - 216. والله تعالى أعلم بالصواب.

4489 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَا تَلَقُّوا الرُّكْبَانَ لِلْبَيْعِ، وَلَا تُصَرُّوا الإِبِلَ، وَالْغَنَمَ، مَنِ ابْتَاعَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَرُدَّهَا رَدَّهَا، وَمَعَهَا صَاعُ تَمْرٍ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن منصور) الجوّاز المكيّ، ثقة [10] 20/ 21. منْ أفراد الصنف.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإِمام الحجة الثبت المكيّ [8] 1/ 1.

3 -

(أبو الزناد) عبد الله بن ذكران المدنيّ، ثقة ثبت [5] 7/ 7.

4 -

(الأعرج) عبد الرحمن بن هُرْمُز المدنيّ، ثقة ثبت [3] 7/ 7.

5 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم

ص: 165

رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بثقات المكيين، والمدنيين، فشيخه، وسفيان مكيّان، والباقون مدنيّون. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. (ومنها): أنه منْ أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، كما سبق قريباً، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ منْ روى الْحَدِيث فِي دهره. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قالَ: "لَا تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ لِلْبَيْعِ) منْ التلقي: أي لا تستقبلوا القافلة الجالبة للطعام قبل أن يَقْدَمُوا الأسواق، وسيعقد المصنّف رحمه الله تعالى لهذا بابًا مستقلاً بعد ثلاثة أبواب، ويأتي تمام البحث فيه هناك، إن شاء الله تعالى (وَلَا تُصَرُّوا) -بضم أوله، وفتح ثانيه، بوزن تُزَكُوا، يقال: صَرَّى يُصَرِّى تَصْرِيَةً، كزَكَّى يزكى تزكية، و"الإبل" بالنصب عَلَى المفعولية، وقيده بعضهم -بفتح أوله، وضم ثانيه- والأول أصح؛ لأنه منْ صَرَّيتُ اللبن فِي الضرع: إذا جمعته، وليس منْ صَرَرتُ الشيءَ: إذا ربطته، إذ لو كَانَ منه، لقيل: مصرورة، أو مُصَرَّرَة، ولم يُقَل: مُصَرّاة، عَلَى أنه قد سمع الأمران فِي كلام العرب، قَالَ الأغلب العجليّ [منْ الرجز]:

رَأَتْ غُلَامًا قَدْ صَرَى فِي فِقْرَتِه

مَاءَ الشَّبَابِ عُنْفُوَانَ شِرَّتِهْ

وَقَالَ مالك بن نويرة [منْ الطويل]:

فَقُلْتُ لِقَوْمِي

(1)

هَذِهِ صَدَقَاتُكُمْ

مُصَرَّرَةً أَخْلَافُهَا لمْ تُجَرَّدِ

وضبطه بعضهم بضم أوله، وفتح ثانيه، لكن بغير واو، عَلَى البناء للمجهول، والمشهور الأول. قاله فِي "الفتح".

(الإِبِلَ، وَالْغَنَمَ) لم يذكر البقر؛ لغلبتهما عندهم، وإلا فحكمها كحكمهما سواء، خلافًا لداود الظاهريّ، قاله فِي "الفتح". وَقَالَ وليّ الدين: الظاهر أن ذكر الغنم والإبل، دون غيرهما خرج مخرج الغالب فيما كانت العرب تصرّيه، وتبيعه، تدليساً، وغشًا، فإن البقر قليل ببلادهم، وغير الأنعام لا يُقصد لبنها غالبًا، فلم يكونوا يُصَرُّون غير الإبل والغنم، وما خرج مخرج الغالب لا مفهوم له، كيف وهو مفهوم لقب، وليس حجةً عند الجمهور. وروى الترمذيّ، منْ رواية محمد بن زياد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"منْ اشترى مُصَرّاةً"، وهو يتناول كلّ مصرّاة، لكن فِي "صحيح مسلم"،

(1)

وتقدم إنشاده فِي كلام الخطابيّ: "وقلت خذوها هذه صدقاتكم" الخ.

ص: 166

وغيره منْ رواية محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"منْ اشترى شاةً مصرّاةً"، فصرّح بذكر الموصوف، وَقَدْ صرّح الشافعيّة بأن تحريم التصرية عامّ فِي كلّ مصرّاة، سواء فِي ذلك الأنعام، وغيرها، مما هو مأكول اللحم، وغير مأكول اللحم مما يحلّ بيعه، وأما ثبوت الخيار، وردّ الصاع فسيأتي ذكره بعد هَذَا، إن شاء الله تعالى. انتهى "طرح التثريب" 6/ 77 - 78.

[تنبيه]: قَالَ فِي "الفتح": وظاهر النهى تحريم التصرية، سواء قصد التدليس، أم لا، وفي رواية البخاريّ فِي "الشروط"، منْ طريق أبي حازم، عن أبي هريرة:"نهى عن التصرية"، وبهذا جزم بعض الشافعية، وعلَّله بما فيه منْ إيذاء الحيوان، لكن أخرج النسائيّ، حديث الباب منْ طريق سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، بلفظ:"لا تُصَرُّوا الإبلَ، والغنم للبيع"، وله منْ طريق أبي كثير السُّحَيمي، عن أبي هريرة:"إذا باع أحدكم الشاة، أو اللِّقْحَة، فلا يُحَفِّلْهَا"، وهذا هو الراجح، وعليه يدل تعليل الأكثر بالتدليس، ويجاب عن التعليل بالإيذاء، بأنه ضرر يسير، لا يستمر، فيُغتَفَر؛ لتحصيل المنفعة. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عزوه الْحَدِيث الأول إلى النسائي خطأ، فإنه ليس فِي نسخ "المجتبى"، ولا "الكبرى" زيادة لفظة "للبيع" هنا أصلاً، وإنما هي فِي قوله:"لا تلقوا الركبان للبيع"، وإنما هذه الزيادة فِي رواية المزنيّ، عن الشافعيّ، عن سفيان بن عيينة، أوردها البيهقيّ فِي "المعرفة" 4/ 354 رقم 3470 - و3471. نبّه عَلَى ذلك الحافظ وليّ الدين رحمه الله تعالى، وعبارته فِي "الطرح" 6/ 77 - : فيه تحريم التصرية، وظاهره أنه لا فرق بين أن يفعل ذلك للبيع، أو غيره، وهو ظاهر إطلاق الرافعيّ، والنوويّ، وغيرهما، لكنّهما علّلاه بما فيه منْ التدليس، وذلك يقتضي اختصاصه بما إذا فعل ذلك لأجل البيع، وصرّح المتولّي فِي "التّتمّة" بتحريم التصرية مطلقًا للبيع وغيره، وعلّله بما فيه منْ إيذاء الحيوان، لكن روى المزنيّ، عن الشافعيّ، عن سفيان، ومالك، كلاهما عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا: "لا تصرّوا الإبل، والغنم للبيع"، ورواه البيهقيّ فِي "المعرفة" منْ طريقه، وهذا يقتضي اختصاص التحريم بحالة البيع، فلو حفّلها، وجمع لبنها لولدها، أو لضيف، يَقدَم عليه لم يحرُم، ويُجاب عن التأذي بأنه يسير، لا يحصل منه ضرر مستمرٌ، فيُغتفر؛ لأجل تحصيل المصلحة المتعلّقة به، كما يُغتفر تأذّي الدّابّة فِي الركوب والحمل، حيث لا يكون فيه ضرر، ومحظور. انتهى كلام وليّ الدين.

(مَنِ ابْتَاعَ منْ ذَلِكَ شَيْئًا) أي منْ اشترى شيئًا منْ مصرّاة الإبل، أو الغنم. وفي رواية

ص: 167

البخاريّ: "فمن ابتاعها بعدُ"، أي منْ اشتراها بعد التحفيل.

وفي رواية محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه الآتية بعد حديث:"منْ ابتاع محفّلة، أو مصرّاة، فهو بالخيار ثلاثة أيام"، والصحيح أن ابتداء هذه المدة، منْ وقت بيان التصرية، وهو قول الحنابلة، وعند الشافعية: أنها منْ حين العقد، وقيل: منْ التفرق، ويلزم عليه أن يكون الغرر أوسع منْ الثلاث، فِي بعض الصور، وهو ما إذا تأخر ظهور التصرية، إلى آخر الثلاث، ويلزم عليه أيضاً أن تُحسَب المدة قبل التمكن منْ الفسخِ، وذلك يُفَوِّت مقصود التوسع بالمدة.

(فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ) أي أحسن الرأيين، وفي رواية موسى بن يسار، عن أبي هريرة التالية:"فإن رضيها إذا حلبها، فليمسكها". وظاهره، أن الخيار لا يثبت، إلا بعد الحلب، والجمهور عَلَى أنه إذا علم بالتصرية، ثبت له الخيار، ولو لم يَحلُب، لكن لما كانت التصرية، لا تعرف غالبا إلا بعد الحلب، ذُكِر قيدًا فِي ثبوت الخيار، فلو ظهرت التصرية بغير الحلب، فالخيار ثابت. قاله فِي "الفتح". ثم بين النظرين بقوله (فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا) وفي رواية ابن يسار المذكورة:"فإن رضيها إذا حلبها فليُمسكها": أي ليبقها عَلَى ملكه، وهو يقتضى صحة بيع المصراة، وإثبات الخيار للمشترى، فلو اطلع عَلَى عيب، بعد رضاه بالتصرية، فردها، هل يلزم الصاع؟ فيه خلاف، والأصح عند الشافعية وجوب الرد، ونقلوا نص الشافعيّ عَلَى أنه لا يرد، وعند المالكية قولان.

(وَإِنْ شَاءَ أن يَرُدَّهَا رَدَّهَا) وفي رواية مالك: "وإن سَخِطها ردها"، وظاهره اشتراط الفور، وقياسا عَلَى سائر العيوب، لكن الرواية التي فيها: أن له الخيار ثلاثة أيام، مقدمة عَلَى هَذَا الإطلاق، ونقل أبو حامد، والروياني، فيه نص الشافعيّ، وهو قول الأكثر، وأجاب منْ صحح الأول، بان هذه الرواية، محمولة عَلَى ما إذا لم يَعلَم أنها مصراة، إلا فِي الثلاث؛ لكون الغالب أنها لا تُعلَم فيما دون ذلك، قَالَ ابن دقيق العيد: والثاني أرجح؛ لأن حكم التصرية، قد خالف القياس فِي أصل الحكم؛ لأجل النص، فيطرد ذلك، ويتبع فِي جميع موارده.

قَالَ الحافظ: ويؤيده أن فِي بعض روايات أحمد، والطحاوي، منْ طريق ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"فهو بأحد النظرين، بالخيار إلى أن يحوزها، أو يردها"، وسيأتي. انتهى.

(وَمَعَهَا صَاعُ تَمْرٍ) جملة فِي محلّ نصب عَلَى الحال منْ المفعول .. وفي رواية البخاريّ: "وصاع تمر"، وفي رواية مالك:"وصاعا منْ تمر"، قَالَ فِي "الفتح": والواو عاطفة للصّاع عَلَى الضمير فِي "ردها"، ويجوز أن تكون الواو بمعنى "مع"، ويستفاد منه

ص: 168

فورية الصاع مع الرد، ويجوز أن يكون مفعولا معه، ويَعكُر عليه قول جمهور النحاة: إن شرط المفعول معه أن يكون فاعلا.

[فإن قيل]: التعبير بالرد فِي المصراة واضح، فما معنى التعبير بالرد فِي الصالح؟.

[فالجواب]: أنه مثل قول الشاعر:

عَلَفتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا

أي علفتها تبنا، وسقيتها ماء باردا، أو يُجعَل "علفتها" مجازا عن فعل شامل للأمرين: أي ناولتها، فيُحمل الرد فِي الْحَدِيث عَلَى نحو هَذَا التأويل.

واستُدِلّ به عَلَى وجوب رد الصاع مع الشاة، إذا اختار فسخ البيع، فلو كَانَ اللبن باقيا، ولم يتغير، فأراد رده، هل يلزم البائع قبوله، فيه وجهان: أصحهما لا؛ لذهاب طراوته، ولاختلاطه بما تجدد عند المبتاع. والتنصيص عَلَى التمر، يقتضى تعيينه كما سيأتي.

[تنبيه]: أشار الإِمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" إلى أنه اختُلف فِي قوله. "وصاعا منْ تمر"، فرواه بعضهم:"وصاعًا منْ طعام"، فَقَالَ بعد إيراد هَذَا الْحَدِيث منْ طريق جعفر بن ربيعة، عن الأعرج: ما نصه: ويُذكر عن أبي صالح، ومجاهد، والوليد بن رَبَاح، وموسى بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"صاع تمر". وَقَالَ بعضهم، عن ابن سيرين:"صاعا منْ طعام، وهو بالخيار ثلاثاً"، وَقَالَ بعضهم عن ابن سيرين:"صاعاً منْ تمر"، ولم يذكر "ثلاثاً"، والتمر أكثر. انتهى.

وَقَدْ بيّن ما أشار إليه الحافظ فِي "الفتح"، فَقَالَ: قوله: "ويذكر عن أبي صالح، ومجاهد، والوليد بن رباح، وموسى بن يسار الخ": يعني أن أبا صالح، ومن بعده وقع فِي رواياتهم، تعيين التمر:

فأما رواية أبي صالح، فوصلها أحمد، ومسلم، منْ طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، بلفظ:"منْ ابتاع شاة مصراة، فهو فيها بالخيار، ثلاثة أيام، فإن شاء أمسكها، وإن شاء ردّها، ورد معها صاعا منْ تمر".

وأما رواية مجاهد، فوصلها البزار، قَالَ مغلطاي: لم أرها إلا عنده، قَالَ الحافظ: قد وصلها أيضاً الطبراني فِي "الأوسط" منْ طريق محمد بن مسلم الطائفي، عن ابن أبي نجيح، والدارقطنيُّ منْ طريق الليث بن أبي سليم، كلاهما عن مجاهد، وأولُ رواية ليث:"لا تبيعوا المصراة، منْ الإبل، والغنم" الْحَدِيث، وليث ضعيف، وفي محمد بن مسلم أيضاً لين.

وأما رواية الوليد بن رباح، وهو -بفتح الراء، وبالموحدة-، فوصلها أحمد بن

ص: 169

منيع، فِي "مسنده" بلفظ:"منْ اشترى مصراة، فليرد معها صاعا منْ تمر".

وأما رواية موسى بن يسار، وهو -بالتحتانية، والمهملة- فوصلها مسلم بلفظ:"منْ اشترى شاة مصراة، فلينقلب بها، فليحلبها، فإن رضي بها أمسكها، وإلا ردها، ومعها صاع منْ تمر"، وسياقه يقتضي الفورية.

وقوله: "وَقَالَ بعضهم، عن ابن سيرين: "صاعا منْ طعام، وهو بالخيار ثلاثاً"، وَقَالَ بعضهم، عن ابن سيرين: "صاعا منْ تمر"، ولم يذكر "ثلاثاً".

أما رواية منْ رواه بلفظ "الطعام"، و"الثلاث"، فوصلها مسلم، والترمذي، منْ طريق قُرَّة بن خالد، عنه، بلفظ:"منْ اشترى مصراة، فهو بالخيار ثلاثة أيام، فإن ردها، رد معها صاعا منْ طعام، لا سمراء"، وأخرجه أبو داود، منْ طريق حماد بن سلمة، عن هشام، وحبيب، وأيوب، عن ابن سيرين نحوه.

وأما رواية منْ رواه بلفظ التمر، دون ذكر الثلاث، فوصلها أحمد، منْ طريق معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، بلفظ:"منْ اشترى شاة مصراة، فإنه يحلبها، فإن رضيها أخذها، وإلا ردّها ورد معها صاعا منْ تمر"، وَقَدْ رواه سفيان، عن أيوب، فذكر الثلاث، أخرجه مسلم منْ طريقه، بلفظ:"منْ اشترى شاة مصراه، فهو بخير النظرين، ثلاثة أيام، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها، وصاعا منْ تمر، لا سمراء".

قَالَ الجامع: ورواية سفيان هذه هي الآتية للنسائيّ بعد حديث، بنحوها.

قَالَ: ورواه بعضهم عن ابن سيرين بذكر الطعام، ولم يقل: ثلاثاً، أخرجه أحمد، والطحاوي، منْ طريق عون

(1)

، عن ابن سيرين، وخِلاس بن عمرو، كلاهما عن أبي هريرة، بلفظ:"منْ اشترى لِقحة مصراة، أو شاة مصراة، فحلبها، فهو بأحد النظرين، بالخيار إلى أن يحوزها، أو يردها، وإناء منْ طعام".

قَالَ الحافظ: فحصلنا عن ابن سيرين عَلَى أربع روايات، ذكر التمر والثلاث، وذكر التمر، بدون الثلاث، والطعام بدل التمر كذلك.

والذي يظهر فِي الجمع بينها، أن منْ زاد الثلاث، معه زيادة علم، وهو حافظ، ويحمل الأمر فيمن لم يذكرها، عَلَى أنه لم يحفظها، أو اختصرها، وتحمل الرواية التي فيها الطعام عَلَى التمر، وَقَدْ روى الطحاوي، منْ طريق أيوب، عن ابن سيرين أن المراد بالسمراء الحنطة الشامية. وروى ابن أبي شيبة، وأبو عوانة منْ طريق هشام بن حسان، عن ابن سيرين:"لا سمراء" يعني الحنطة. وروى ابن المنذر منْ طريق ابن عون، عن

(1)

هكذا نسخة "الفتح"، والظاهر أنه ابن عون، سقطت منه لفظة "ابن"، فليحرّر.

ص: 170

ابن سيرين، أنه سمع أبا هريرة، يقول:"لا سمراء" تمر ليس ببر. فهذه الروايات تبين أن المراد بالطعام التمر، ولما كَانَ المتبادر إلى الذهن، أن المراد بالطعام القمح، نفاه بقوله:"لا سمراء"، لكن يعكُر عَلَى هَذَا الجمع، ما رواه البزار، منْ طريق أشعث بن عبد الملك، عن ابن سيرين، بلفظ:"إن ردها ردها، ومعها صاع منْ بر، لا سمراء"، وهذا يقتضي أن المنفي فِي قوله:"لا سمراء"، حنطة مخصوصة، وهي الحنطة الشامية، فيكون المثبت قوله:"منْ طعام": أي منْ قمح.

ويحتمل أن يكون راويه رواه بالمعنى، الذي ظنه مساويا، وذلك أن المتبادر منْ الطعام البر، فظن الراوي أنه البر، فعبر به، وإنما أطلق لفظ الطعام عَلَى التمر؛ لأنه كَانَ غالب قوت أهل المدينة، فهذا طريق الجمع، بين مختلف الروايات، عن ابن سيرين فِي ذلك، لكن يعكُر عَلَى هَذَا، ما رواه أحمد، بإسناد صحيح، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن رجل منْ الصحابة، نحو حديث الباب، وفيه:"فإن ردها رد معها صاعا منْ طعام، أو صاعا منْ تمر"، فإن ظاهره يقتضي التخيير، بين التمر والطعام، وأن الطعام غير التمر.

ويحتمل أن تكون "أو" شكا منْ الراوي، لا تخييرا، وإذا وقع الاحتمال فِي هذه الروايات، لم يصح الاستدلال بشيء منها، فَيُرجَع إلى الروايات التي لم يختلف فيها، وهي التمر، فهي الراجحة، كما أشار إليه البخاريّ.

وأما ما أخرجه أبو داود، منْ حديث ابن عمر، بلفظ:"إن ردها رد معها مثل، أو مثلي لبنها قمحا"، ففي إسناده ضعف، وَقَدْ قَالَ ابن قدامة: إنه متروك الظاهر بالاتفاق.

وقوله: "والتمر أكثر": أي أن الروايات الناصة عَلَى التمر أكثر عددا، منْ الروايات التي لم تنص عليه، أو أبدلته بذكر الطعام، فقد رواه بذكر التمر غير منْ تقدم ذكره، ثابت بن عياض عند البخاريّ، وهمام بن منبه عند مسلم، وعكرمة، وأبو إسحاق عند الطحاوي، ومحمد بن زياد، عند الترمذي، والشعبي عند أحمد، وابن خزيمة، كلهم عن أبي هريرة رضي الله عنه. وأما رواية منْ رواه بذكر الإناء، فيفسرها رواية منْ رواه بذكر الصاع، وَقَدْ تقدم ضبطه فِي الزكاة. انتهى "الفتح" 5/ 100 - 101. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

ص: 171

أخرجه هنا -14/ 4489 و4490 و4491 و16/ 4493 - وفي "الكبرى" 13/ 6079 و6080 و15/ 6082. وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 2148 و2150 و2151 (م) فِي "البيوع" 3809 و3810 و3811 و3812 و3813 و3814 (د) فِي "البيوع" 3443 و3444 و3445 و3446 (ت) فِي "البيوع" 1222 و1304 (ق) فِي "التجارات" 2172 و2174 و2175 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 7207 و7270 و7406 و7641 (الموطأ) فِي "البيوع" 1391. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان النهي عن التصرية، وأنه محرم، وأن منْ اشترى مصرّاة، فله الخيار بعد حلبها بين إمساكها، وردّها مع صاع تمر. (ومنها): ما قاله الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى: هَذَا الْحَدِيث أصل فِي النهى عن الغشّ، وأصل فِي ثبوت الخيار لمن دُلس عليه بعيب، وأصل فِي أنه لا يَفسُد أصل البيع، وأصل فِي أن مدة الخيار ثلاثة أيام، وأصل فِي تحريم التصرية، وثبوت الخيار بها انتهى. وَقَدْ روى أحمد، وابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا:"بيع المحفلات خِلابة، ولا تحل الخلابة لمسلم"، وفي إسناده ضعيف. وَقَدْ رواه ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، موقوفاً، بإسناد صحيح. وروى ابن أبي شيبة، منْ طريق قيس بن أبي حازم، قَالَ: كَانَ يقال: التصرية خِلابة، وإسناده صحيح. قاله فِي "الفتح" 5/ 105.

(ومنها): أن بيع المصرّاة صحيحٌ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن رضيها أمسكها"، وهو مجمع عليه، وأنه يثبت للمشتري الخيار، إذا علم بالتصرية، وبه قَالَ الجمهور، وخالف فيه أبو حنيفة، فَقَالَ: لا يردّها، بل يرجع بنقصان العيب، وسيأتي الردّ عليه.

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى: إن العقد المنهي عنه المحرّم، إذا كَانَ لأجل الآدميّ، لم يدلّ عَلَى الفساد، ولا يُفسخ به العقد، ألا ترى أن التصرية غش، محرّم، ثم إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يفسخ به العقد، لكن جعل للمشتري الخيار. انتهى "المفهم" 4/ 372.

(ومنها): ما قاله أيضاً: إن الغرر بالفعل معتبر شرعًا؛ لأنه صار كالتصريح باشتراط نفي العيب، ولا يختلف فِي الغرر الفعليّ، وإنما اختُلف فِي الغرر بالقول، هل هو معتبر، أم لا؟، فيه قولان.

[فرع]: لو كَانَ الضرع كثير اللحم، فظنه المشتري لبنًا، لم يجب له الخيار؛ إذ لا غرور، ولا تدليس، لا بالفعل، ولا بالقول. انتهى "المفهم". 4/ 372.

(ومنها): أن التصرية عيب يوجب الخيار، وهو حجة عَلَى أبي حنيفة، ومحمد بن

ص: 172

الحسن، حيث قالا: إن التصرية ليست بعيب، ولا توجب خيارًا، وَقَدْ روي عن أبي خيفة أنها عيب توجب الأرش، وَقَالَ زفر منْ أصحابه: يردّ صاعاً منْ تمر، أو نصف صاع منْ برّ. قاله فِي "المفهم" 4/ 373.

(ومنها): أن بيع الخيار موضوعٌ لتمام البيع، واستقراره، لا للفسخ، وهو أحد القولين عند المالكية. وقيل: هو موضوع للفسخ. قَالَ القرطبيّ: والأول أولى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن شاء أمسكها"، والإمساك: استدامة التمسّك، لما قد ثبت وجوده، كما قَالَ صلى الله عليه وسلم لغيلان:"أمسك أربعًا، وفارق سائرهنّ": أي استدم حكم العقود السابقة. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم منْ اشترى مصرّاة:

ذهب عامّة أهل العلم إلى أن منْ اشترى مصراة منْ بهيمة الأنعام، لم يعلم تصريتها، ثم علم، فله الخيار فِي الرد والإمساك، رُوي ذلك عن ابن مسعود، وابن عمر، وأبي هريرة، وأنس رضي الله عنهم، وإليه ذهب مالك، وابن أبي ليلى، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو يوسف.

وذهب أبو حنيفة، ومحمد، إلى أنه لا خيار له؛ لأن ذلك ليس بعيب، بدليل أنها لو لم تكن مصراة، فوجدها أقل لبنا منْ أمثالها، لم يملك ردها، والتدليل بما ليس بعيب، لا يثبت الخيار، كما لو علفها فانتفخ بطنها، فظن المشتري أنها حامل.

واحتجّ الأولون بحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قَالَ:"لا تصروا الإبل، والغنم، فمن ابتاعها بعدُ، فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها وصاعا منْ تمر"، متَّفقٌ عليه.

قَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى: ولأن هَذَا تدليس بما يختلف الثمن باختلافه، فوجب به الرد، كما لو كانت شمطاء، فسوّد شعرها، وقياسهم يبطل بتسويد الشعر، فإن بياضه ليس بعيب كالكِبَر، وإذا دلسه ثبت له الخيار، وأما انتفاخ البطن، فقد يكون منْ الأكل والشرب، فلا معنى لحمله عَلَى الحمل، ثم إن هَذَا القياس مخالف للنص، واتباع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب منْ غيره. أفاده فِي "المغني" 6/ 216 - 217.

وَقَالَ الحافظ رحمه الله تعالى فِي "الفتح": وَقَدْ أخذ بظاهر هَذَا الْحَدِيث جمهور أهل العلم، وأفتى به ابن مسعود، وأبو هريرة، ولا مخالف لهما منْ الصحابة، وَقَالَ به منْ التابعين، ومن بعدهم منْ لا يحصى عدده، ولم يفرقوا بين أن يكون اللبن الذي احتُلِب قليلاً، أو كثيرًا، ولا بين أن يكون التمر قوت تلك البلد، أم لا.

وخالف فِي أصل المسألة أكثر الحنفية، وفي فروعها آخرون، أما الحنفية، فقالوا: لا

ص: 173

يُرَدّ بعيب التصرية، ولا يجب رد صاع منْ التمر، وخالفهم زفر، فَقَالَ بقول الجمهور، إلا أنه قَالَ: يتخير بين صاع تمر، أو نصف صاع بر، وكذا قَالَ ابن أبي ليلى، وأبو يوسف فِي رواية، إلا إنهما قالا: لا يتعين صاع التمر، بل قيمته، وفي رواية عن مالك، وبعض الشافعية كذلك، لكن قالوا: يتعين قوت البلد؛ قياسا عَلَى زكاة الفطر، وحكى البغوي أن لا خلاف فِي المذهب، أنهما لو تراضيا بغير التمر، منْ قوت، أو غيره كفى، وأثبت ابن كجّ الخلاف فِي ذلك، وحكى الماوردي وجهين، فيما إذا عجز عن التمر، هل تلزمه قيمته يلده، أو بأقرب البلاد التي فيها التمر إليه؟، وبالثاني قَالَ الحنابلة.

واعتذر الحنفية عن الأخذ بحديث المصراة، بأعذار شَتَّى، فمنهم منْ طعن فِي الْحَدِيث؛ لكونه منْ روايه أبي هريرة، ولم يكن كابن مسعود، وغيره، منْ فقهاء الصحابة، فلا يؤخذ بما رواه مخالفا للقياس الجلي، وهو كلام آذى قائله به نفسه، وفي حكايته غِنًى عن تكلف الرد عليه، وَقَدْ ترك أبو حنيفة القياس الجلي لرواية أبي هريرة رضي الله عنه وأمثاله، كما فِي الوضوء بنبيذ التمر، ومن القهقهة فِي الصلاة، وغير ذلك، قَالَ الحافظ: وأظن أن لهذه النكتة أورد البخاريّ حديث ابن مسعود، عقب حديث أبي هريرة، إشارةً منه، إلى أن ابن مسعود قد أفتي بوفق حديث أبي هريرة، فلولا أن خبر أبي هريرة فِي ذلك ثابت، لما خالف ابن مسعود القياس الجلي فِي ذلك.

وَقَالَ ابن السمعاني فِي "الاصطلام" التعرض إلى جانب الصحابة، علامة عَلَى خذلان فاعله، بل هو بدعة وضلالة، وَقَدْ اختص أبو هريرة بمزيد منْ الحفظ؛ لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له -يعني الذي أخرجه البخاريّ فِي "كتاب العلم"، وفي أول "البيوع" أيضاً: وفيه قوله: "إن إخواني منْ المهاجرين، كَانَ يشغلهم الصفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا" الْحَدِيث، ثم مع ذلك، لم ينفرد أبو هريرة، برواية هَذَا الأصل، فقد أخرجه أبو داود، منْ حديث ابن عمر، وأخرجه الطبراني منْ وجه آخر عنه، وأبو يعلى منْ حديث أنس، وأخرجه البيهقي فِي "الخلافيات" منْ حديث عمرو بن عوف المزني، وأخرجه أحمد، منْ رواية رجل منْ الصحابة، لم يُسَمّ. وَقَالَ ابن عبد البرّ: هَذَا الْحَدِيث مجمع عَلَى صحته، وثبوته منْ جهة النقل، واعتل منْ لم يأخذ به بأشياء، لا حقيقة لها.

ومنهم منْ قَالَ: هو حديث مضطرب؛ لذكر التمر فيه تارة، والقمح أخرى، واللبن أخرى، واعتباره بالصاع تارة، وبالمثل أو المثلين تارة، وبالإناء أخرى.

والجواب أن الطرق الصحيحة، لا اختلاف فيها، كما تقدم، والضعيف لا يُعِلّ الصحيح. ومنهم منْ قَالَ: هو معارض لعموم القرآن، كقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ

ص: 174

فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} الآية [النحل: 126].

وأجيب بأنه منْ ضمان المتلفات، لا العقوبات، والمتلفات تضمن بالمثل، وبغير المثل.

ومنهم منْ قَالَ: هو منسوخ. وتُعُقّب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، ولا دلالة عَلَى النسخ مع مدعيه؛ لأنهم اختلفوا فِي الناسخ، فقيل: حديث النهي عن بيع الدين بالدين، وهو حديث أخرجه ابن ماجه وغيره، منْ حديث ابن عمر، ووجه الدلالة منه، أن لبن المصراة، يصير دينا فِي ذمة المشترى، فإذا أُلزم بصاع منْ تمر، نسيئة صار دينا بدين، وهذا جواب الطحاوي.

وتعقب بأن الْحَدِيث ضعيف، باتفاق المحدثين، وعلى التنزّل، فالتمر إنما شُرع فِي مقابل الحلب، سواء كَانَ اللبن موجودا، أو غير موجود، فلم يتعين فِي كونه منْ الدين بالدين. وقيل: ناسخه حديث: "الخراجُ بالضمان"، وهو حديث أخرجه أصحاب "السنن" عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وجهه الدلالة منه، أن اللبن فضلة منْ فضلات الشاة، ولو هلكت لكان منْ ضمان المشترى، فكذلك فضلاتها، تكون له، فكيف يُغرّم بدلها للبائع، حكاه الطحاوي أيضاً.

وتعقب بأن حديث المصراة أصح منه باتفاق، فكيف يُقَدّم المرجوح عَلَى الراجح، ودعوى كونه بعده، لا دليل عليها، وعلى التنزل، فالمشتري لم يؤمر بغرامة ما حدث فِي ملكه، بل بغرامة اللبن الذي ورد عليه العقد، ولم يدخل فِي العقد، فليس بين الحديثين عَلَى هَذَا تعارض.

وقيل: ناسخه الأحاديث الواردة فِي رفع العقوبة بالمال، وَقَدْ كانت مشروعة قبل ذلك، كما فِي حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، فِي مانع الزكاة:"فإنا آحذوها وشطر ماله"، وحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده فِي الذي يَسرِق منْ الجرين، "يغرم مثليه"، وكلاهما فِي "السنن"، وهذا جواب عيسى بن أبان، فحديث المصراة منْ هَذَا القبيل، وهي كلها منسوخة.

وتعقبه الطحاوي بأن التصرية، إنما وجدت منْ البائع، فلو كَانَ منْ ذلك الباب للزمه التغريم، والفرض أن حديث المصراة، يقتضي تغريم المشترى فافترقا.

ومنهم منْ قَالَ: ناسخه حديث: "البيعان بالخيار، ما لم يتفرقا"، وهذا جواب محمّد ابن شجاع، ووجه الدلالة منه، أن الفرقة تقطع الخيار، فثبت أن لا خيار بعدها، إلا لمن استثناه الشارع بقوله:"إلا بيع الخيار".

وتعقبه الطحاوي بأن الخيار الذي فِي المصراة، منْ خيار الرد بالعيب، وخيار الرد

ص: 175

بالعيب لا تقطعه الفرقة. ومن الغريب أنهم لا يقولون بخيار المجلس، ثم يحتجون به فيما لم يرد فيه.

ومنهم منْ قَالَ: هو خبر واحد، لا يفيد إلا الظن، وهو مخالف لقياس الأصول، المقطوع به، فلا يلزم العمل به.

وتعقب بأن التوقف فِي خبر الواحد، إنما هو فِي مخالفة الأصول، لا فِي مخالفة قياس الأصول، وهذا الخبر إنما خالف قياس الأصول، بدليل أن الأصول الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، والكتاب والسنة فِي الحقيقة، هما الأصل، والآخران مردودان إليهما، فالسنة أصل، والقياس فرع، فكيف يرد الأصل بالفرع؟، بل الْحَدِيث الصحيح أصل بنفسه، فكيف يقال: إن الأصل يخالف نفسه؟، وعلى تقدير التسليم يكون قياس الأصول، يفيد القطع، وخبر الواحد لا يفيد إلا الظن، فتناوُل الأصلِ لمحلّ هَذَا الخبر الواحد، غير مقطوع به؛ لجواز استثناء محله منْ ذلك الأصل.

قَالَ ابن دقيق العيد: وهذا أقوى متمسك به، فِي الرد عَلَى هَذَا المقام. وَقَالَ ابن السمعاني: متى ثبت الخبر صار أصلاً منْ الأصول، ولا يُحتاج إلى عرضه عَلَى أصل آخر؛ لأنه إن وافقه فذاك، وان خالفه فلا يجوز رد أحدهما؛ لأنه رد للخبر بالقياس، وهو مردود باتفاق، فإن السنة مقدمة عَلَى القياس بلا خلاف، إلى أن قَالَ: والأولى عندي فِي هذه المسألة، تسليم الأقيسة، لكنها ليست لازمة؛ لأن السنة الثابتة مقدمة عليها. والله تعالى أعلم.

وعلى تقدير التنزل، فلا نسلم أنه مخالف لقياس الأصول؛ لأن الذي ادَّعَوه عليه منْ المخالفة، بينوها بأوجه:

[أحدها]: أن المعلوم منْ الأصول، أن ضمان المثليات بالمثل، والمتقومات بالقيمة، وهاهنا إن كَانَ اللبن مثليا، فليضمن باللبن، وإن كَانَ متقوما، فليضمن بأحد النقدين، وَقَدْ وقع هنا مضمونا بالتمر، فخالف الأصل.

[والجواب]: منع الحصر، فإن الحر يُضمن فِي ديته بالإبل، وليست مثلا، ولا قيمة، وأيضاً فضمان المثل ليس مطردا، فقد يُضمن المثل بالقيمة، إذا تعذرت المماثلة، كمن أتلف شاة لبونا، كَانَ عليه قيمتها، ولا يجعل بإزاء لبنها لبنا آخر؛ لتعذر المماثلة.

[ثانيها]: أن القواعد تقتضي، أن يكرن المضمون مُقَدَّر الضمان بقدر التالف، وذلك مختلف، وَقَدْ قدرنا هنا بمقدار واحد، وهو الصاع، فخرج عن القياس.

[والجواب]: منع التعميم فِي المضمونات، كالموضحة، فأرشها مُقَدَّر، مع

ص: 176

اختلافها بالكبر والصغر، والغرةِ مقدرة فِي الجنين، مع اختلافه، والحكمة فِي ذلك، أن كل ما يقع فيه التنازع، فليقدر بشيء معين؛ لقطع التشاجر، وتقدم هذه المصلحة عَلَى تلك القاعدة، فإن اللبن الحادث بعد العقد، اختلط باللبن الموجود وقت العقد، فلم يُعرف مقداره حَتَّى يوجب نظيره عَلَى المشترى، ولو عُرف مقداره، فوُكل إلى تقديرهما، أو تقدير أحدهما، لأفضى إلى النزاع والخصام، فقطع الشارع النزاع والخصام، وقدّره بحد لا يتعديانه؛ فصل للخصومة، وكان تقديره بالتمر أقرب الأشياء إلى اللبن، فإنه كَانَ قوتهم إذ ذاك، كاللبن وهو مكيل كاللبن، ومقتات، فاشتركا فِي كون كل واحد منهما مطعوما، مقتاتا، مكيلا وأشتركا أيضًا فِي أن كلا منهما يُقتات به بغير صنعة، ولا علاج.

[ثالثها]: أن اللبن التالف، إن كَانَ موجودا عند العقد، فقد ذهب جزء منْ المعقود عليه، منْ أصل الخلقة، وذلك مانع منْ الرد، فقد حدث عَلَى ملك المشتري، فلا يضمنه، وإن كَانَ مختلطا، فما كَانَ منه موجودا عند العقد، وما كَانَ حادثا لم يجب ضمانه.

[والجواب]: أن يقال إنما يمتنع الرد بالنقص، إذا لم يكن لاستعلام العيب، وإلا فلا يمتنع، وهنا كذلك.

[رابعها]: أنه خالف الأصول، فِي جعل الخيار فيه ثلاثاً، مع أن خيار العيب، لا يقدر بالثلاث، وكذا خيار المجلس عند منْ يقول به، وخيار الرؤية عند منْ يثبته.

[والجواب]: بأن حكم المصراة انفرد بأصله عن مماثلة، فلا يُستغرب أن ينفرد بوصف زائد عَلَى غيره، والحكمة فيه أن هذه المدة هي التي يتبين بها لبن الخلقة، منْ اللبن المجتمع بالتدليس غالبا، فشُرعت لاستعلام العيب، بخلاف خيار الرؤية والعيب، فلا يتوقف عَلَى مدة، وأما خيار المجلس، فليس لاستعلام العيب، فظهر الفرق بين الخيار فِي المصراة، وغيرها.

[خامسها]: أنه يلزم منْ الأخذ به، الجمع بين العوض والمعوض، فيما إذا كانت قيمة الشاة صاعا منْ تمر، فإنها ترجع إليه منْ الصاع الذي هو مقدار ثمنها.

[والجواب]: أن التمر عوض عن اللبن، لا عن الشاة، فلا يلزم ما ذكروه.

[سادسها]: أنه مخالف لقاعدة الربا، فيما إذا اشترى شاة بصاع، فإذا استرد معها صاعا، فقد استرجع الصاع الذي هو الثمن، فيكون قد باع شاة وصاعا بصاع.

والجواب أن الربا إنما يعتبر فِي العقود، لا الفسوخ، بدليل أنهما لو تبايعا ذهبا بفضة، لم يجز أن يتفرقا قبل القبض، فلو تقايلا فِي هَذَا العقد بعينه، جاز التفرق قبل القبض.

ص: 177

[سابعها]: أنه يلزم منه ضمان الأعيان مع بقائها، فيما إذا كَانَ اللبن موجودا، والأعيان لا تضمن بالبدلّ، إلا مع فواتها، كالمغصوب.

[والجواب]: أن اللبن، وإن كَانَ موجودا، لكنه تعذر رده؛ لاختلاطه باللبن الحادث بعد العقد، وتعذر تمييزه، فأشبه الآبق، بعد الغصب، فإنه يضمن قيمته مع بقاء عينه؛ لتعذر الرد.

[ثامنها]: أنه يلزم منه إثبات الرد بغير عيب، ولا شرط، أما الشرط فلم يوجد، وأما العيب فنقصان اللبن، لو كَانَ عيبا لثبت به الرد، منْ غير تصرية.

[والجواب]: أن الخيار يثبت بالتدليس، كمن باع رَحًى دائرة، بما جمعه لها بغير علم المشتري، فإذا اطلع عليه المشتري، كَانَ له الرد، وأيضاً فالمشتري لَمّا رأى ضرعا، مملوءا لبنا، ظن أنه عادة لها، فكأنّ البائع شرط له ذلك، فتبين الأمر بخلافه، فثبت له الرد؛ لفقد الشرط المعنوي؛ لأن البائع يُظهر صفة المبيع تارة بقوله، وتارة بفعله، فإذا أظهر المشري عَلَى صفة، فبان الأمر بخلافها، كَانَ قد دلّس عليه، فشرع له الخيار، وهذا هو محض القياس، ومقتضى العدل، فإن المشتري إنما بذل ماله؛ بناء عَلَى الصفة التي أظهرها له البائع، وَقَدْ أثبت الشارع الخيار للركبان، إذا تُلُقُّوا، واشتُرِي منهم قبل أن يَهبِطوا إلى السوق، ويعلموا السعر، وليس هناك عيب، ولا خُلْف فِي شرط، ولكن لما فيه منْ الغش والتدليل.

(ومنهم): منْ قَالَ: الْحَدِيث صحيح، لا اضطراب فيه، ولا علة، ولا نسخ، وإنما هو محمول عَلَى صورة مخصوصة، وهو ما إذا اشترى شاه، بشرط أنها تحلب مثلا خمسة أرطال، وشرط فيها الخيار، فالشرط فاسد، فإن اتفقا عَلَى إسقاطه فِي مدة الخيار، صح العقد، وإن لم يتفقا بطل العقد، ووجب ردّ الصاع منْ التمر؛ لأنه كَانَ قيمة اللبن يومئذ. وتُعُقّب بأن الْحَدِيث ظاهر فِي تعليق الحكم بالتصرية، وما ذكره هَذَا القائل، يقتضى تعليقه بفساد الشرط، سواء وُجدت التصرية، أم لا؟، فهو تأويل مُتعَسَّف، وأيضاً فلفظ الْحَدِيث لفظ عموم، وما ادّعوه عَلَى تقدير تسليمه، فرد منْ أفراد ذلك العموم، فيحتاج منْ ادعى قصر العموم عليه الدليل عَلَى ذلك، ولا وجود له. انتهى ما فِي "الفتح" 5/ 101 - 105 بطوله، وهو بحث نفيس جدًّا.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بهذا كلّه أن الحقّ هو ما عليه الجمهور منْ ثبوت الخيار بسبب التصرية، كما نصّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتحير بالتقليد الأعمى والاعتساف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): فِي اختلاف العلماء فِي ردّ بدل اللبن:

ص: 178

ذهب كل منْ جوّز رد المصرّاة بعيب التصرية إلى أنه إذا علم التصرية، واختار الرد بعد أن حلبها، لزمه رد بدل اللبن، وهو مقدر فِي الشرع بصاع منْ تمر، كما فِي الْحَدِيث الصحيح المذكور فِي الباب، ولا فرق فِي ذلك بين الغنم، والإبل، وغيرهما مما أُلحق بهما، ولا بين أن يكون اللبن قليلاً، أو كثيرًا، ولا بين أن يكون التمر قوت البلد، أم لا؟، وهذا مذهب مالك، والشافعيّ، والليث، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور.

وذهب مالك، وبعض الشافعية، إلى أن الواجب صاع، منْ غالب قوت البلد؛ لأن فِي بعض طرق الْحَدِيث:"ورد معها صاعا منْ طعام"، وفي بعضها:"ورد معها مثل أو مثلي لبنها قمحا"

(1)

، فجمع بين الأحاديث، وجعل تنصيصه عَلَى التمر؛ لأنه غالب قوت البلد فِي المدينة، ونص عَلَى القمح؛ لأنه غالب قوت بلد آخر.

وَقَالَ أبو يوسف: يرد قيمة اللبن؛ لأنه ضمان متلف، فكان مقدرا بقيمته، كسائر المتلفات، وحكي ذلك عن ابن أبي ليلى، وحكي عن زفر: أنه يرد صاعا منْ تمر، أو نصف صاع منْ بر، بناءً عَلَى قولهم فِي الفطرة، والكفارة.

وحجة الأولين الْحَدِيث الصحيح المذكور، وهو المعتمد عليه فِي هذه المسألة، وَقَدْ نص فيه عَلَى التمر، فَقَالَ:"إن شاء ردها وصاعا منْ تمر"، وفي لفظ:"منْ اشترى غنما مصراة، فاحتلبها، فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها ففي حلبتها صاع منْ تمر"، وفي لفظ:"ورد صاعا منْ تمر، لا سمراء"، وفي لفظ:"طعاما، لا سمراء": يعني لا يرد قمحا، والمراد بالطعام هاهنا التمر؛ لأنه مطلق فِي أحد الحديثين، مقيد فِي الآخر فِي قضية واحدة، والمطلق فيما هَذَا سبيله يحمل عَلَى المقيد، وحديث ابن عمر، مُطرح الظاهر بالإتفاق، إذ لا قائل بإيجاب مثل لبنها، أو مثلي لبنها قمحا، ثم قد شك فيه الراوي، وخالفته الأحاديث الصحاح، فلا يعول عليه. وقياس أبي يوسف مخالف للنص، فلا يلتفت إليه، ولا يبعد أن يقدر الشرع بدل هَذَا المتلف، قطعا للخصومة، ودفعا للتنازع، كما قدر بدل الآدمي، ودية أطرافه، ولا يمكن حمل الْحَدِيث، عَلَى أن

(1)

الْحَدِيث رواه أبو داود فِي "سننه" 3446 - وفي سنده جُميع بن عمير، مختلف فيه، قَالَ الخطابي: ليس إسناده بذاك، وَقَالَ البيهقيّ: تفرد به جميع بن عير، قَالَ البخاريّ: فيه نظر. وَقَالَ ابن نمير: كَانَ منْ أكذب النَّاس، كَانَ يقول: الكراكي تفرخ فِي السماء، ولا تقع فراخها، وذكره ابن حبّان فِي "الضعفاء"، وَقَالَ: كَانَ رافضيًّا، يفع الْحَدِيث، وذكره فِي "الثقات" أيضاً، وَقَالَ ابن عديّ: عامة ما يرويه لا يتابع عليه، وَقَالَ أبو حاتم: كوفيّ صالح الْحَدِيث، منْ عتّق الشيعة. انتهى "طرح التثريب" 6/ 81.

ص: 179

الصاع كَانَ قيمة اللبن، فلذلك أوجبه؛ لوجوه ثلاثة:

[أحدها]: أن القيمة هي الأثمان، لا التمر. [الثاني]: أنه أوجب فِي المصراة منْ الإبل، والغنم جميعًا، صاعا منْ تمر، مع اختلاف لبنها. [الثالث]: أن لفظه للعموم، فيتناول كل مصراة، ولا يتفق أن تكون قيمة لبن كل مصراة صاعا، وإن أمكن أن يكون كذلك، فيتعين إيجاب الصاع؛ لأنه القيمة التي عين الشارع إيجابها، فلا يجوز أن يعدل عنها.

وإذ قدمت هَذَا، فإنه يجب أن يكون الصاع منْ التمر جيدا، غير معيب؛ لأنه واجب بإطلاق الشارع، فينصرف إلى ما ذكرناه، كالصاع الواجب فِي الفطرة، ولا يجب أن يكون منْ الأجود، بل يجوز أن يكون منْ أدنى ما يقع عليه اسم الجيد، ولا فرق بين أن تكون قيمة التمر، مثل قيمة لبن الشاة، أو أقل، أو أكثر، نص عليه أحمد، وليس هَذَا جمعا بين البدل والمبدل؛ لأن التمر بدل اللبن، قدره الشرع به، كما قدر فِي يدي العبد قيمته، وفي يديه ورجليه قيمته مرتين، مع بقاء العبد عَلَى ملك سيده.

وإن عدم التمر فِي موضعه، فعليه قيمته فِي الموضع الذي وقع عليه العقد؛ لأنه بمثابة عين أتلفها، فيجب عليه قيمتها. أفاده فِي "المغني" 6/ 217 - 219. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): قَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى: إن عدم بالتصرية قبل حلبها، مثل أن أقر به البائع، أو شهد به منْ تقبل شهادته، فله ردها، ولا شيء معها؛ لأن التمر إنما وجب بدلا للبن المحتلب، ولذلك قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"منْ اشترى غنما مصراة، فاحتلبها، فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها ففي حلبتها صاع منْ تمر"، ولم يأخذ لها لبنا هاهنا، فلم يلزمه رد شيء معها، وهذا قول مالك، قَالَ ابن عبد البرّ: هَذَا ما لا خلاف فيه.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: فيه أن الخلاف موجود، فقد قَالَ فِي "الفتح" 5/ 105: فيه وجه للشافعية، ويرجح أنه لا يثبت، رواية عكرمة، عن أبي هريرة، فِي هَذَا الْحَدِيث عند الطحاوي، فإن لفظه:"منْ اشترى مُصَرّاة، ولم يعلم أنها مصراة" الْحَدِيث. انتهى.

قَالَ الجامع: لكن الْحَدِيث ضعيف؛ لأن فِي إسناده ابن لهيعة، فظهر بهذا أن الصحيح أنه يثبت له الخيار، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

قَالَ ابن قدامة: وأما لو احتلبها، وترك اللبن بحاله، ثم ردها رد لبنها، ولا يلزمه أيضًا بشيء؛ لأن المبيع إذا كَانَ موجودا، فرده لم يلزمه بدله، فإن أبى البائع قبوله،

ص: 180

وطلب التمر، لم يكن له ذلك، إذا كَانَ بحاله لم يتغير، وقيل: لا يلزمه قبوله لظاهر الخبر، ولأنه قد نقص بالحلب، وكونه فِي الضرع أحفظ له، ولنا إنه قدر عَلَى رد المبدل، فلم يلزمه البدل، كسائر المبدلات مع أبدالها، والحديث المراد به التمر، حالة عدم اللبن؛ لقوله:"ففي حلبتها صاع منْ تمر"، ولما ذكرنا منْ المعنى، وقولهم: إن الضرع أحفظ له لا يصح؛ لأنه لا يمكن إبقاؤه فِي الضرع عَلَى الدوام، وبقاؤه يضر بالحيوان، وإن كَانَ اللبن قد تغير ففيه وجهان: أحدهما لا يلزمه قبوله، وهذا قول مالك؛ للخبر، ولأنه قد نقص بالحموضة، فأشبه ما لو أتلفه. والثاني يلزمه قبوله؛ لأن النقص حصل بإسلام المبيع، وبتغرير البائع، وتسليطه عَلَى حلبه، فلم يمنع الرد كلبن غير المصراة. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي ثبوت التصرية فِي البقرة:

ذهب الجمهور إلى أنه لا فرق فِي التصرية، بين الشاة، والناقة، والبقرة، وشذ داود، فَقَالَ: لا يثبت الخيار بتصرية البقرة؛ لأن الْحَدِيث: "لا تصروا الإبل والغنم"، فدل عَلَى أن ما عداهما بخلافهما، ولأن الحكم ثبت فيهما بالنص، والقياس لا تثبت به الأحكام، واحتجّ الجمهور بعموم قوله:"منْ اشترى مصراة، فهو بالخيار ثلاثة أيام"، وفي حديث ابن عمر:"منْ ابتاع مُحَفَّلة"، ولم يفصل، ولأنه تصرية بلبن منْ بهيمة الأنعام، فأشبه الإبل والغنم، والخبر فيه تنبيه عَلَى تصرية البقر؛ لأن لبنها أغزر، وأكثر نفعا، وقولهم: إن الأحكام لا تثبت بالقياس ممنوع، ثم هو هاهنا ثبت بالتنبيه، وهو حجة عند الجميع. قاله فِي "المغني" 6/ 221 - 222. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم مصرّاة غير بهيمة الأنعام:

قَالَ ابن قدامة رحمه الله تعالى: فإن اشترى مصراة منْ غير بهيمة الأنعام، كالأمة، والأتان، والفرس، ففيه وجهان:[أحدهما]: يثبت له الخيار، اختاره ابن عقيل، وهو ظاهر مذهب الشافعيّ؛ لعموم قوله:"منْ اشترى مصراة"، و"منْ اشترى محفلة"، ولأنه تصرية بما يختلف الثمن به، فأثبت الخيار، كتصرية بهيمة الأنعام، وذلك أن لبن الآدمية يراد للرضاع، ويرغب فيها ظئرا، ويُحَسِّن ثديها، ولذلك لو اشترط كثرة لبنها، فبان بخلافه، مَلَك الفسخ، ولو لم يكن مقصودا لما ثبت باشتراطه، ولا ملك الفسخ بعدمه، ولأن الأتان والفريس يرادان لولدهما.

[والثاني]: لا يثبت به الخيار؛ لأن لبنها لا يعتاض عنه فِي العادة، ولا يُقصد قصد لبن بهيمة الأنعام، والخبر ورد فِي بهيمة الأنعام، ولا يصح القياس عليه؛ لأن قصد لبن

ص: 181

بهيمة الأنعام أكثر، واللفظ العام أريد به الخاص، بدليل أنه أمر فِي ردها بصاع منْ تمر، ولا يجب فِي لبن غيرها، ولأنه ورد عاما وخاصا فِي قضية واحدة، فيحمل العام عَلَى الخاص، ويكون المراد بالعام فِي أحد الحديثين الخاصَّ فِي الْحَدِيث الآخر.

وعلى الوجه الأول، إذا ردها لم يلزم بدل لبنها، ولا يرد معها شيئًا؛ لأن هَذَا اللبن لا يباع عادة، ولا يعاوض عنه. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي القول الثاني -وهو عدم ثبوت الخيار فِي غير بهيمة الأنعام- أرجح؛ لقوة أدلّته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة التاسعة): قَالَ الحافظ وليّ الدين رحمه الله تعالى: [إن قلت]: قوله: "بعد أن يحلبها" يقتضي أنه لا يثبت الخيار إلا بعد الحلب، مع أنه ثابتٌ قبله، إذا علم التصرية. [قلت]: قَالَ الشيخ تقيّ الدين فِي "شرح العمدة": جوابه أنه يقتضي إثبات الخيار فِي هذين الأمرين المعنيين، أعني الإمساك والرّدّ مع الصاع، وهذا إنما يكون بعد الحلب؛ لتوقّف هذين المعنيين عَلَى الحلب؛ لأن الصاع عوضٌ عن اللبن، ومن ضرورة ذلك الحلب. انتهى.

قَالَ وليّ الدين: وَقَدْ يجاب عنه بأن التصرية لا تعرف غالبًا إلا بالحلب؛ لأنه إذا حلب أوّلًا لبنا غزيرًا، ثم حلب ثانيًا لبنًا قليلًا، عُرف حينئذ ذلك، فعبّر بالحلب عن معرفة التصرية؛ لأنه ملازم له غالبًا. والله أعلم. انتهى "طرح التثريب" 6/ 78. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة العاشرة): فِي اختلاف أهل العلم فِي الردّ، هل هو عَلَى الفور، أم لا؟:

ذهب بعضهم إلى أنه عَلَى الفور؛ كسائر العيوب، وصححه البغويّ، والرافعيّ، والنوويّ. لظاهر قوله:"وإن كرهها ردّها".

وذهب بعضهم إلى أنه يمتد إلى ثلاثة أيام؛ لقوله: "فهو بالخيار ثلاثة أيام"، وصوّبه ابن دقيق العيد فِي "شرح العمدة"، وهو الصحيح، وحكي عن نصّ الشافعيّ، وَقَالَ ابن المنذر: إنه مذهب الشافعيّ، وهو مذهب الحنابلة. وجواب الأولين عن هذه الرواية بحملها عَلَى ما إذا لم يعلم أنها مصرّاة إلا فِي ثلاثة أيام؛ لأن الغالب أنه لا يُعلم فيما دون ذلك، فإنه إذا نقص لبنها فِي اليوم الثاني عن الأول، احتمل كون النقص لعارض، منْ سوء مرعاها فِي ذلك اليوم، أو غير ذلك، فإذا استمرّ كذلك ثلاثة أيام، عُلم أنها مصرّاة، مما لا يُلتفت إليه؛ لكونه خلاف الظاهر. والله تعالى أعلم.

ثم اختلف القائلون بامتداد الخيار ثلاثة أيام فِي ابتدائها، وللشافعيّة فِي ذلك وجهان:[أحدهما]: أن ابتداءها منْ العقد. [الثاني]: أنه منْ التفرّق، وشبّهوا الوجهين

ص: 182

بالوجهين فِي خيار الشرط، ومقتضى ذلك أن الراجح أن ابتداءها منْ العقد، وَقَالَ الحنابلة: إن ابتداءها منْ حين تبّينت التصرية. قاله فِي "الطرح" 6/ 79.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الحنابلة هو الأرجح عندي؛ لموافقته لظاهر الْحَدِيث، حيث رتّب ثبوت الخيار بما بعد الحلب، وهو معنى تبيّن التصرية، فافهم. والله تعالى أعلم.

قَالَ الحافظ وليّ الدين رحمه الله تعالى: رتّب الشافعيّة عَلَى القول بامتداد الخيار ثلاثة أيام فروعًا: [منها]: أنه لو عرف التصرية قبل ثلاثة أيام امتدّ الخيار إلى آخر الثلاثة فقط. [ومنها]: أنه لو عرف التصرية فِي آخر الثلاثة، أو بعدها، فلا خيار عَلَى القول بأن مدّته ثلاثة أيام؛ لامتناع مجاوزة الثلاثة. [ومنها]: أنه لو اشترى عالمًا بالتصرية، ثبت له الخيار ثلاثة أيام، وأما عَلَى القول بأنه عَلَى الفور، فلا يختلف الحكم فِي الفرعين الأولين، ولا خيار فِي الثالث، كسائر العيوب. قَالَ وليّ الدين رحمه الله: وفيما ذكره أصحابنا فِي هذه الفروع نظر، والظاهر أن الشارع إنما اعتبر المدّة منْ حين معرفة سبب الخيار، وإلا كَانَ يلزم أن يكون الفور متّصلًا بالعقد، ولو لم يعلم به لخيف أنه إذا تأخّر علمه به عن العقد، فات الخيار، وهذا لا يمكن القول به، ويلزم عَلَى ما ذكروه أن يكون الفور أوسع منْ ثلاث فِي الْفَرَع الثاني، وهو بعيد، ويلزم عليه أيضًا أن تُحسب المدة قبل التمكن منْ الفسخ، وذلك يفوّت مقصود التوسيع بالمدّة، ويؤدّي إلى نقصانها فيما إذا لم يعلم به إلا بعد مضيّ بعضها، وهذا مما يقوّي مذهب الحنابلة فِي ذلك، وهو عندي أظهر، وأوفق للحديث، وللمعنى. والله أعلم انتهى "طرح" 6/ 79.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هذ الذي قاله الحافظ ولي الدين رحمه الله تعالى، منْ ترجيح مذهب الحنابلة؛ لموافقته ظاهر النصّ، إنصاف منه رحمه الله تعالى، وياليت جميع أتباع المذاهب سلكوا هَذَا المسلك؛ فإنه عين اتّباع الحقّ، والحقّ أحقّ أن يتبع، لكننا نرى العجب العجاب، حينما يبذل متأخروهم -إلا منْ عصمه الله- قصارى جهدهم فِي الدفاع عن مذهبهم، إذا خالف النصوص بالتأويلات الزائفة، والتكلّفات الباردة، فإن لله وإنا إليه راجعون.

فيا أيها المسلم الحريص عَلَى دينه، أتبع الحقّ، فكن غيورًا عَلَى النصوص، وابذل جهدك فِي الدفاع عنها، وإن أدّى ذلك إلى مخالفة رأي إمامك، فإنك مسئوول عن الكتاب والسنّة، لا عن آراء الرجال، وآراهم إنما تطلب للاستعانة بها عَلَى فهمهما فقط، فأيّ استعانة إذا خالفتهما؟.

وبالجملة فليس هناك أحد أوجب الله اتباعه، وأناط الهدى والفلاح به، إلا رسول

ص: 183

الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ الله سبحانه وتعالى:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، وَقَالَ عز وجل:{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]، وَقَالَ تعالى:{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]. اللَّهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الحادية عشرة): أن ظاهره أنه لا خيار فيما إذا لم يقصد البائع التصرية، بل ترك الحلب، ناسيًا، أو لشغل عرض له، أو تصرّت هي بنفسها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن التصرية لأجل البيع، ثم ذكر أن منْ اشترى ما هو بهذه الصفة تخيّر، وهذه الصورة المذكورة لم يقع فيها تصرية لأجل البيع، وبهذا جزم الغزاليّ، وتبعه عبد الغفّار القزوينيّ فِي "الحاوي الصغير"، وحكى البغويّ فيها وجهين، وصحح ثبوت الخيار لحصول الضرر للمشتري، وإن لم يقصد البائع التدليس. قاله فِي "الطرح".

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما صححه البغويّ أرجح؛ نظرًا لتضرّر المشتري. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية عشرة): ظاهر الْحَدِيث أنه إذا تبيّن للمشتري التصرية، لكن درّ اللبن عَلَى الحدّ الذي أشعرت به التصرية، واستمرّ كذلك، ثبت له الخيار؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أطلق ثبوت الخيار، ولم يفصّل، لكن تغير الحال عما كَانَ عليه، وصيرورتها ذات لبن غزير بعد أن لم تكن كذلك قبل التصرية صورة نادرة، فيظهر أنها مرادة منْ العموم، فلا خيار فيها، وفي المسألة وجهان للشافعية، قَالَ ولي الدين: وينبغي بناؤهما عَلَى أن الْفَرَع النادر هل يدخل فِي العموم، أم لا؟، والصحيح فِي الأصول دخوله، لكن شبّه أصحابنا الوجهين بالوجهين فيما إذا لم يعرف العيب القديم إلا بعد زواله، وبالقولين فيما لو عتقت الأمة تحت عبد، ولم تعلم عتقها حَتَّى عتق العبد، ومقتضى التشبيه تصحيح أنه لا خيار له، كما هو الصحيح فِي تينك الصورتين. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عدم ثبوت الخيار هو الذي يظهر لي؛ لأنه إنما شُرع دفعًا للضرر، وَقَدْ زال. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة عشرة): قَالَ ولي الدين رحمه الله تعالى: أخذ أصحابنا منْ ثبوت الخيار فِي المصرّاة ثبوت الخيار فِي كلّ موضع حصل فيه تدليسٌ، وتغرير منْ البائع، كما لو حبس ماء القناة، أو الرحى، ثم أرسله عند البيع، أو الإجارة، فظنّ المشتري كثرته، ثم تبيّن له الحال، أو حمّر وجه الجارية، أو سوّد شعرها، أو جعّده، أو أرسل الزنبور عَلَى وجهها، فظنها المشتري سمينة، ثم بأن خلافه، فله الخيار فِي هذه الصور

ص: 184

كلّها. وحكى أصحابنا خلافًا فيما لو لطخ ثوب العبد بمداد، أو ألبسه ثوب الكتّاب، أو الخبّازين، وخيّل كونه كاتبًا، أو خبّازًا، فبان خلافه، أو أكثر علف البهيمة، حَتَّى انتفخ بطنها، فظنها المشتري حاملًا، أو أرسل الزنبور عَلَى ضرعها، فانتفخ، فظنها لبونًا، والأصحّ فِي هذه الصور أنه لا خيار؛ لتقصير المشتري، وأثبت المالكية الخيار فِي تلطيخ الثوب بالمداد. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي القول بثبوت الخيار فِي هذه الصور كلها أظهر؛ لأن الغرر بها لا يقلّ عن الغرر بالتصرية. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4490 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ، عَنِ ابْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنِ اشْتَرَى مُصَرَّاةً، فَإِنْ رَضِيَهَا إِذَا حَلَبَهَا فَلْيُمْسِكْهَا، وَإِنْ كَرِهَهَا فَلْيَرُدَّهَا، وَمَعَهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.

و"إسحاق بن إبراهيم": هو ابن راهويه. و"عبد الله بن الحارث": هو المخزوميّ، أبو محمّد المكيّ، ثقة [8] 39/ 2193. و"داود بن قيس": هو الفرّاء الدبّاغ المدنيّ، ثقة فاضل [5] 96/ 120. و"ابن يسار": هو موسى بن يسار المطّلبيّ مولاهم المدنيّ، عمّ محمّد بن إسحاق، صاحب المغازي، ثقة [4] 66/ 3349. والسند مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فإنه نيسابوريّ، وعبد الله بن الحارث، فمكيّ، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رئيس المكثرين فِي الرواية.

وقوله: "إذا حلبها" ظاهره أن صاع التمر متوقّفٌ عَلَى الحلب، كما تقدّم.

وقوله: "فإن كرهها الخ"، وفي رواية البخاريّ منْ طريق ثابت مولى عبد الرحمن بن زيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"وإن سخطها، ففي حلبتها صاع تمر".

قَالَ فِي "الفتح": قوله: "وفي حلبتها" -بسكون اللام، عَلَى أنه اسم للفعل، ويجوز الفتح، عَلَى إرادة المحلوب، وظاهره أن التمر مقابل للحلبة، وزعم ابن حزم أن التمر فِي مقابلة الحلب، لا فِي مقابلة اللبن؛ لأن الحلبة حقيقة فِي الحلب، مجاز فِي اللبن، والحمل عَلَى الحقيقة أولي، فلذلك قَالَ: يجب رد التمر واللبن معا، وشذَّ بذلك عن الجمهور.

وظاهره أيضًا أن صاع التمر، فِي مقابل المصراة، سواء كانت واحدة، أو أكثر؛ لقوله:"منْ اشترى غنمًا" ثم قَالَ: "ففي حلبتها صاع منْ تمر"، ونقله ابن عبد البرّ عمن استعمل الْحَدِيث، وابن بطال عن أكثر العلماء، وابن قُدامة عن الشافعيّة، والحنابلة،

ص: 185

وعن أكثر المالكيّة: يردّ عن كل واحدة صاعًا حَتَّى قَالَ المازريّ: منْ المستبشع أن يغرم متلف لبن ألف شاة، كما يغرم متلف لبن شاة واحدة.

وأجيب بأنّ ذلك مغتفر بالنسبة إلى ما تقدّم منْ أن الحكمة فِي اعتبار الصاع قطع النزاع، فجُعل حدًّا يُرجع إليه عند التخاصم، فاستوى القليل والكثير، ومن المعلوم أن لبن الشاة الواحدة، أو الناقة الواحدة، يختلف اختلافا متباينًا، ومع ذلك فالمعتبر الصاع، سواء قلّ اللبن، أم كثُر، فكذلك هو معتبرٌ، سواء قلّت المصرّاة، أو كثُرت. والله تعالى أعلم. انتهى "فتح" 5/ 107.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم تمام شرحه، وبيان مسائله فِي الْحَدِيث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4491 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ ابْتَاعَ مُحَفَّلَةً، أَوْ مُصَرَّاةً، فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، إِنْ شَاءَ أَنْ يُمْسِكَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَرُدَّهَا رَدَّهَا، وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ، لَا سَمْرَاءَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده، وهو الجوّاز المكيّ المذكور قبل حديث. و"سفيان": هو ابن عيينة. و"أيوب": هو السختيانيّ. و"محمّد": هو ابن سيرين.

وقوله: "لا سمراء": قَالَ وليّ الدين رحمه الله: فيه تنصيص عَلَى أن السمراء، وهي القمح لا تجزيء فِي هَذَا، وإنما نصّ عليه، دون غيره؛ لفهم غيره منْ طريق الأولى، فإنه أغلى الأقوات، وأنفسها، فإذا لم يجزيء، فغيره أولى بذلك. وفي رواية:"صاعًا منْ طعام، لا سمراء" قَالَ وليّ الدين: يحتمل أن يريد بالطعام فيه التمر، بدليل الرواية الأخرى، وعلى هَذَا مشى البيهقيّ، فَقَالَ: المراد بالطعام المذكور فيه التمر، واستدل عَلَى ذلك بالرواية الأخرى. ويحتمل أن يريد مطلق الطعام، ثم أخرج منه السمراء، وخرج ما هو أدون منها، منْ الأقوات، والخضر للأمر بالتمر، كما فِي الرواية الأخرى، وهذا الاحتمال يعود فِي المعنى للذي قبله، لكنه يخالفه فِي التقدير. انتهى "طرح التثريب" 6/ 88.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ مضى البحث عنه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

ص: 186

‌15 - (الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ)

4492 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، وَوَكِيعٌ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ مَخْلَدِ بْنِ خُفَافٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ").

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) الحنظليّ المروزي ابن راهويه، ثقة ثبت حجة [10] 2/ 2.

2 -

(عيسى بن يونس) بن أبي إسحاق السبيعيّ الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا [8] 8/ 8.

3 -

(وكيع) بن الحرّاح بن مليح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقة ثبت عابد [9] 23/ 25.

4 -

(ابن أبي ذئب) محمّد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب القرشي العامريّ، أبو الحارث المدنيّ، ثقة فقيه فاضل [7] 41/ 685.

5 -

(مخلد بن خُفاف) -بضمّ الخاء المعجمة، وفاءين خفيفتين- ابن إيماء بن رحضة الغفاريّ، لأبيه، وجده صحبة، مقبول [3].

روى عن عروة، عن عائشة رضي الله تعالى عنها:"الخراج بالضمان"، وعنه ابن أبي ذئب، قَالَ أبو حاتم: لم يرو عنه غيره، وليس هَذَا إسنادا تقوم بمثله الحجّة. وَقَالَ ابن عديّ: لا يُعرف له غير هَذَا الْحَدِيث. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَدْ روى حديثه المذكور الهيثم بن جميل، عن يزيد بن عياض، عن مخلد، وَقَالَ البخاريّ: فيه نظر. انتهى. قَالَ الحافظ: وفي سماع ابن أبي ذئب منه عندي نظر. وتابعه عَلَى هَذَا الْحَدِيث مسلم بن خالد الزنجيّ، عن هشام بن عروة، عن أبيه به. وَقَالَ ابن وضّاح: مخلد ثقة. روى له الأربعة حديث الباب فقط.

6 -

(عروة) بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 40/ 44.

7 -

(عائشة) رضي الله تعالى عنها 5/ 5. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير مخلد بن خُفاف، فإنه منْ رجال الأربعة. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين منْ ابن أبي ذئب، وشيخه مروزي، فنيسابوريّ، وعيسى ووكيع كوفيان.

ص: 187

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه عائشة رضي الله تعالى عنها منْ المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله تعالى عنها، أنها (قالت:"قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْخَرَاجَ) بفح الخاء المعجمة: قَالَ الخطّابيّ رحمه الله تعالى: الخراج: الدَّخل، والمنفعة، ومن هَذَا قوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} الآية [المؤمنون: 72]. ويقال للعبد إذا كَانَ لسيّده عليه ضريبة: مُخارج. ومعنى قوله: "الخراج بالضمان": المبيع إذا كَانَ له دخلٌ، وغَلّة، فإن مالك الرقبة الذي هو ضامن الأصل يملك الخراج بضمان الأصل، فإذا ابتاع الرجل أرضًا، فشغلها، أو ماشيةً، فَنَتَجَها، أو دابّةٌ، فركبها، أو عبدًا، فاستخدمه، ثم وجد به عيبًا، فله أن يردّ الرقبة، ولا شيء عليه فيما انتفع به؛ لأنها لو تلفت ما بين مدّة العقد والفسخ، لكانت منْ ضمان المشتري، فوجب أن يكون الخراج منْ حقّه. انتهى. "معالم السنن" 5/ 158.

وَقَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: أريد بالخراج ما يخرج، ويحصل منْ غَلّة العين المشتراة، عبدًا كَانَ، أو أمة، أو غيرهما، وذلك بأن يشتريه، فيستغلّه زمانًا، ثم يعثُر منه عَلَى عيب كَانَ فيه عند البائع، فله ردّ العين المبيعة، وأخذ الثمن، ويكون للمشتري ما استغلّه؛ لأن المبيع لو تلِف فِي يده، لكان فِي ضمانه، ولم يكن له عَلَى البائع شيء.

والباء فِي قوله (بِالضَّمَانِ) متعلّقة بمحذوف، تقديره: الخراج مستحقّ بالضمان، أي بسببه، أي ضمان الأصل سبب لملك خراجه. وقيل: الباء للمقابلة، وفيه مضاف محذوف: تقديره: بقاء الخراج فِي مقابلة الضمان: أي منافع المبيع بعد القبض تبقى للمشتري فِي مقابلة الضمان اللازم عليه بتلف المبيع، ومن هَذَا القبيل: الْغُنْمُ بالْغُرْمِ. انتهى كلام السنديّ.

وَقَالَ الفيّوميّ: معنى الْغُنْمُ بالْغُرْم: أي مقابل به، فكما أن المالك يختصّ بالغُنْم، ولا يُشاركه فيه أحد، فكذلك يتحمّل الْغُرْم، ولا يتحمّل معه أحد، وهذا معنى قولهم: الْغُرم مجبورٌ بالغُنْمِ. انتهى.

[تنبيه]: فِي هَذَا الْحَدِيث قصّة، ساقها أبو داود فِي "سننه"، فَقَالَ:

3509 -

حدثنا محمود بن خالد، عن سفيان -هو الثوريّ- عن محمّد بن عبد الرحمن، عن مَخْلَد بن خُفَاف الغفاري، قَالَ: كَانَ بيني وبين أناس، شَرِكَة فِي عبد، فاقتويته، وبعضنا غائب، فأغَلّ عليّ غلة، فخاصمني فِي نصيبه، إلى بعض القضاة، فأمرني أن أردّ الغلة، فأتيت عروة بن الزبير، فحدثته، فأتاه عروة، فحدثه عن عائشة،

ص: 188

رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"الخراج بالضمان". ومعنى "اقتويته": استخدمته. وقوله: "فأغلّ العبد" أي أتاني بالدخل.

وأخرجه أيضًا منْ طريق مسلم بن خالد الزنجي، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: رضي الله عنها، أن رجلًا ابتاع غلاما، فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم، ثم وجد به عيبا، فخاصمه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فرده عليه، فَقَالَ الرجل: يا رسول الله قد استغل غلامي، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الخراج بالضمان". قَالَ أبو داود: هَذَا إسناد ليس بذاك. انتهى. أي لأن فيه الزنجيّ، وَقَدْ ضعّفه البخاريّ.

وأخرجه البيهقيّ فِي السنن الكبرى ج: 5 ص: 321 منْ طريق الشافعيّ، قَالَ: أخبرني منْ لا أتّهم، عن ابن أبي ذئب، قَالَ: أخبرني مَخْلَد بن خُفاف، قَالَ: ابتعت غلاما، فاستغللته، ثم ظهرت منه عَلَى عيب، فخاصمت فيه، إلى عمر بن عبد العزيز، فقضى لي برده، وقضى عليَّ برد غلته، فأتيت عروة، فأخبرته، فَقَالَ أَرُوح إليه العشية، فأخبره أن عائشة رضي الله عنها، أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قضى فِي مثل هَذَا:"أن الخراج بالضمان"، فعجلت إلى عمر، فأخبرته ما أخبرني عروة، عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عمر: فما أيسر عليّ منْ قضاء قضيته، الله يعلم أني لم أُرد فيه إلا الحقّ، فبلغتني فيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأَرُدُّ قضاء عمر، وأُنفذ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فراح إليه عروة، فقضى لي أن آخذ الخراج، منْ الذي قضى به عليّ له. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هَذَا حسنٌ، فقد صححه الترمذيّ، وابن خُزيمة، وابن الجارود، وابن حبّان، والحاكم، وابن القطّان، وضعفه البخاريّ، وأبو داود. قاله الحافظ فِي "بلوغ المرام"، وَقَالَ الحافظ المنذريّ فِي "مختصر السنن" 5/ 160 - بعد أن نقل تحسين الترمذيّ للحديث: قَالَ البخاريّ: هَذَا حديث منكر، ولا أعرف لمخلد بن خفاف غير هَذَا الْحَدِيث، قَالَ الترمذيّ: فقلت له: فقد روي هَذَا الْحَدِيث عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة؟ فَقَالَ: إنما رواه مسلم بن خالد الزنجيّ، وهو ذاهب الْحَدِيث. وَقَالَ ابن أبي حاتم: سئل أبي عنه -يعني مخلد بن خُفاف-؟ فَقَالَ: لم يرو عنه غير ابن أبي ذئب، وليس هَذَا إسنادًا يقوم بمثله الحجة -يعني الْحَدِيث الذي يروي مخلد بن خفاف، عن عروة، عن عائشة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أن الخراج بالضمان".

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: زاد فِي "الجرح والتعديل" 8/ 347: ما نصه: غير

ص: 189

أني أقول به؛ لأنه أصلح منْ آراء الرجال. اهـ.

وَقَالَ الأزديّ: مخلد بن خفاف ضعيف.

قَالَ المنذريّ بعد إيراد طريق مسلم بن خالد الزنجيّ: قَالَ أبو داود: هَذَا إسناد ليس بذاك، يشير إلى ما أشار إليه البخاريّ منْ تضعيف مسلم بن خالد الزنجيّ، وَقَدْ أخرج الْحَدِيث الترمذيّ فِي "جامعه" منْ حديث عمر بن علي الْمُقَدَّميّ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، مختصرًا:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى أن الخراج بالضمان"، وَقَالَ: هَذَا حديث حسن صحيح غريب، منْ حديث هشام بن عروة. وَقَالَ أيضًا: استغرب محمّد بن إسماعيل -يعني البخاريّ- هَذَا الْحَدِيث منْ حديث عمر بن عليّ، قلت: تراه تدليسًا؟ قَالَ: لا. وحكى البيهقيّ، عن الترمذيّ: أنه ذكره لمحمد بن إسماعيل البخاريّ، فكأنه أعجبه. هَذَا آخر كلامه. وعمر بن عليّ: هو أبو حفص عمر بن عليّ المقدّميّ البصريّ، وَقَدْ اتفق البخاريّ ومسلم عَلَى الاحتجاج بحديثه. ورواه عن عمر بن علي أبو سلمة يحيى ابن خلف الْجُوَيباريّ، وهو ممن روى عنه مسلم فِي "صحيحه"، وهذا إسناد جيّد، ولهذا صححه الترمذيّ، وهو غريب، كما أشار إليه البخاريّ، والترمذيّ. والله عز وجل أعلم. انتهى كلام المنذريّ.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وخلاصة الأمر أن الْحَدِيث لا ينقص عن درجة الحسن، فإن مخلد بن خفاف وثقه ابن حبّان، وابن وضّاح، كما سبق فِي ترجمته، وتابعه مسلم بن خالد الزنجيّ، وهو صدوق، كثير الأوهام، كما قَالَ فِي "التقريب"، ومثله يصلح فِي المتابعة، والشواهد، وتابعه أيضًا عمر بن عليّ، وهو وإن كَانَ شديد التدليس، فقد نفى التدليس عنه البخاريّ فِي هَذَا الْحَدِيث، فمتابعته أقوى مما قبله.

والحاصل أن الْحَدِيث حسن بمجموع هذه الطرق. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -15/ 4492 - وفي "الكبرى" 14/ 6081. وأخرجه (د) فِي "البيوع" 3508 (ت) فِي "البيوع" 1285 (ق) فِي "البيوع" 2242 و2243. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي اختلاف العلماء فِي حكم هَذَا الْحَدِيث:

قَالَ الإِمام الخطّابيّ رحمه الله تعالى: اختلف أهل العلم فِي هَذَا، فَقَالَ الشافعيّ: ما حَدَث فِي ملك المشتري، منْ غَلّة، ونتاج ماشية، وولد أمة، فكلّ ذلك سواء، لا يَرُدّ منه شيئًا، ويردّ المبيع، إن لم يكن ناقصًا عما أخذه. وَقَالَ أصحاب الرأي: إذا كَانَ ماشيةً، فحلبها، أو نخلًا، أو شجرًا، فأكل ثمرها، لم يكن له أن يردّ بالعيب، ويرجع بالأرش، وقالوا فِي الدار، والدابّة، والعبد: الغلّة له، ويرد بالعيب. وَقَالَ مالك فِي

ص: 190

أصواف الماشية وشعورها: إنها للمشتري، ويردّ الماشية إلى البائع، فأما أولادها، فإنه يردّها مع الأمهات.

واختلفوا فِي المبيع إذا كَانَ جارية، فوطئها المشتري، ثم وجد بها عيبًا، فَقَالَ أصحاب الرأي: تلزمه، ويرجع عَلَى البائع بأرش العيب، وكذلك قَالَ الثوريّ، وإسحاق بن راهويه. وَقَالَ ابن أبي ليلى: يردها، ويردّ معها مهر مثلها. وَقَالَ مالك: إن كانت ثيبا ردّها، ولا يردّ معها شيئا، وإن كانت بكرًا، فعليه ما نقص منْ ثمنها. وَقَالَ الشافعيّ: إن كانت ثيّبًا ردّها، ولا شيء عليه، وإن كانت بكرًا لم يكن له ردّها، ويرجع بما نقصها العيب منْ أصل الثمن.

وَقَالَ

(1)

أصحاب الرأي: الغصوب عَلَى البيوع، منْ أجل ضمانها عَلَى الغاصب، فلم يجعلوا عليه ردّ الغلّة، واحتجّوا بالحديث، وعمومه. قَالَ الخطّابيّ: والحديث إنما جاء فِي البيع، وهو عقد يكون بين المتعاتدين بالتراضي، وليس الغصب بعقد عن تراض منْ المتعاقدين، وإنما هو عدوان، وأصله، وفروعه سواء فِي وجوب الردّ، ولفظ الْحَدِيث مبهم؛ لأن قوله:"الخراج بالضمان" يحتمل أن يكون المعنى: أن ضمان الخراج بضمان الأصل، واقتضاء العموم منْ اللفظ المبهم ليس بالبيّن الجواز، والحديث فِي نفسه ليس بالقويّ، إلا أن أكثر العلماء قد استعملوه فِي البيوع، فالأحوط أن يُتوقّف عنه فيما سواه. انتهى "معالم السنن" 5/ 159 - 160.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وهذا الذي ردّ به الخطابيّ رحمه الله تعالى عَلَى أصحاب الرأي قياسهم المغصوب عَلَى المبيع، فِي كون غلته لا تردّ إلى البائع، حسنٌ جدًّا، فالحقّ أن المغصوب يجب ردّه، وردّ غلته معه؛ لأن يد الغاصب يد ظالمة، فلا تستحقّ شيئًا منْ فوائد المغصوب، بخلاف المشتري، فإن يده محقّةٌ أمينة، فيستحقّ لذلك الغلّة، فافهم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

(1)

هكذا نسخة "المعالم"، والظاهر أن الصواب:"وقاس" بالسين بدل اللام، فليحرّر.

ص: 191

‌16 - (بَيْعِ الْمُهَاجِرِ لِلأَعْرَابِيِّ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: المراد بالمهاجر هنا هو الحاضر، المقابل للباد، لا خصوص المهاجر الذي خرج منْ بلده إلى بلد آخر، وإنما ذكره بلفظ المهاجر؛ نظرًا إلى واقع أهل المدينة فِي ذلك الوقت، وذلك لأن المهاجرين هم الذين كانوا يشتغلون بالتجارة فِي ذلك الوقت، وأما الأنصار فكانوا أهل زرع، ليس لهم علاقةٌ بالتجارة، كما بيّن ذلك أبو هريرة رضي الله عنه، فيما أخرجه الشيخان منْ طريق الأعرج، عنه، قَالَ:"إن النَّاس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان فِي كتاب الله، ما حدثت حديثا، ثم يتلو: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} إلى قوله: {الرَّحِيمِ}، إن إخواننا منْ المهاجرين، كَانَ يشغلهم الصَّفْقُ بالأسواق، وإن إخواننا منْ الأنصار، كَانَ يشغلهم العمل فِي أموالهم، وإن أبا هريرة، كَانَ يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون".

والمراد بالأعرابيّ: هنا هو الباد، والأعرابيّ فِي الأصل واحد الأعراب، قَالَ الفيّوميّ رحمه الله تعالى: وأما الأعراب بالفتح: فأهل البدو منْ العرب، الواحد أعرابيّ بالفتح أيضًا، وهو الذي يكون صاحب نُجْعَة، وارتياد للكلإ، وزاد الأزهريّ، فَقَالَ: سواء كَانَ منْ العرب، أو منْ مواليهم، قَالَ: فمن نزل البادية، وجاور العبادتين، وظَعَنَ بظَعْنهم، فهم أعرابٌ، ومن نزل بلاد الريف، واستوطن المدن، والقرى العربيّة، وغيرها ممن ينتمي إلى العرب، فهم عَرَبٌ، وإن لم يكونوا فصحاء، ويقال: سُمُّوا عربًا؛ لأن البلاد التي سكنوها تُسمّى العرَبَات، ويقال: العرب العاربة: هم الذين تكلّموا بلسان يَعْرُب بن قَحْطان، وهو اللسان القديم، والعرب المستعربة: هم الذين تكلّموا بلسان إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وهي لغات الحجاز، وما والاها. انتهى. وتقدّم هَذَا غير مرّة، وإنما أعدته تذكيرًا، حيث طال به العهد. والله تعالى أعلم بالصواب.

4493 -

(أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ تَمِيمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ التَّلَقِّي، وَأَنْ يَبِيعَ مُهَاجِرٌ لِلأَعْرَابِيِّ، وَعَنِ التَّصْرِيَةِ وَالنَّجْشِ، وَأَنْ يَسْتَامَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، وَأَنْ تَسْأَلَ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ تَمِيمٍ) أبو حميد المصّيصيّ، ثقة [11] 200/ 319.

ص: 192

2 -

(حجاج) بن محمّد الأعور المصيصيّ، ثقة ثبت، اختلط بآخره [9] 28/ 32.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإِمام الحجة الثبت [7] 24/ 27.

4 -

(عديّ بن ثابت) الأنصاريّ الكوفيّ، ثقة رُمي بالتشيع [4] 49/ 605.

5 -

(أبو حازم) سلمان الأشجعيّ الكوفيّ، ثقة [3] 110/ 149.

6 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين منْ الرواية. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ:"نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ التَّلَقِّي) أي تلقّي الركبان، وسيأتي البحث عنه قريبًا (وَأَنْ يَبِيعَ مُهَاجِرٌ لِلأَعْرَابِيِّ) تقدم أن معناه: أن يبيع حاضر لباد، وَقَدْ وقع عند مسلم بهذا اللفظ (وَعَنِ التَّصْرِيةِ) مضى البحث عنها مستوفًى قبل باب (وَالنَّجْشِ) بفتح، فسكون، أو بفتحتين، يقال: نجش الرجل نَجْشًا، منْ باب قتل: إذا زاد فِي سلعة أكثر منْ ثمنها، وليس قصده أن يشتريها، بل ليغرّ غيره، فيوقعه فيه، وكذلك فِي النكاح، وغيره، والاسم النَّجَشُ -بفتحتين- والفاعل ناجشٌ، ونَجّاشٌ مبالغة، ولا تناجشوا: أي لا تفعلوا ذلك، وأصل النجش الاستتار؛ لأنه يستُرُ قصده، ومنه يقال: للصائد: ناجشٌ؛ لاستتاره. قاله الفيّوميّ (وَأَنْ يَسْتَامَ) ولفظ "الكبرى": "وأن يُسَاوِم" (الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ) أي يطلب منْ شخص أن يبيعه شيئًا طلبه غيره قبله، قَالَ الفيّوميّ: وسام البائع السِّلْعة سَومًا، منْ باب قَالَ: عَرَضَها للبيع، وسامها المشتري، واستامها: طلب بيعها، ومنه: "لا يسوم عَلَى سوم أخيه": أي يشتري، ويجوز حمله عَلَى البائع أيضًا، وصورته أن يَعرِضَ رجل عَلَى المشتري سلعته بثمن، فيقول آخر: عندي مثلها بأقلّ منْ هَذَا الثمن، فيكون النهي عامًّا فِي البائع والمشتري، وَقَدْ تزاد الباء فِي المفعول، فيقال: سُمْتُ به، والتساوم بين اثنين أن يعرض البائع السلعة بثمن، ويطلبها صاحبه بثمن دون الأول. انتهى (وَأَنْ تَسْأَلَ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا) قيل: هو نهي للمخطوبة عن أن تسأل الخاطب طلاق زوجته، وللمرأة أيضًا منْ أن تسأل طلاق ضرتها، والمراد منْ الأخت الأختُ فِي الدين، وفي التعبير باسم الأخت تشنيعٌ لفعلها، وتأكيد لنهيها عن ذلك، وتحريض لها عَلَى تركه، وكذا التعبير باسم الأخ

ص: 193

فِي الذي قبله، وَقَدْ تقدّم البحث فِي هَذَا فِي "كتاب الطلاق" مستوفًى، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -16/ 4493 - وفي "الكبرى" 15/ 6082. وأخرجه (خ) فِي "كتاب الشروط" 2727 (م) فِي "البيوع" 3793 و3795. وَقَدْ تقدّم تخريجه فِي "كتاب الطلاق" بأكثر منْ هَذَا. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان النهي عن بيع الحاضر للباد، وهو المراد بقوله:"بيع المهاجر للأعرابيّ، وسيأتي تمام البحث فيه فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى. (ومنها): تحريم تلقّي الجلب، وسيأتي بباب مفرد، بعد باب، إن شاء الله تعالى. (ومنها): تحريم النجش، وهو الزيادة فِي ثمن سلعة، لا يريد شراءها، وإنما يريد تغرير غيره، وسيأتي تمام البحث فيه، بعد أربعة أبواب، إن شاء الله تعالى. (ومنها): تحريم السوم عَلَى سوم غيره، إذا لم يأذن له صاحبه، وسيأتي بعد بابين، إن شاء الله تعالى. (ومنها): تحريم طلب المرأة منْ الرجل أن يطلّق زوجته، وَقَدْ سبق البحث عنه، مستوفًى فِي "كتاب الطلاق"، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌17 - (بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِ)

4494 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، نَهَى أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَإِنْ كَانَ أَبَاهُ، أَوْ أَخَاهُ").

ص: 194

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمّد بن بشار) بن عثمان العبدي بندار، أبو بكر البصريّ، ثقة حافظ [10] 24/ 27.

2 -

(محمد بن الزبرقان) -بكسر الزاي، وسكون الموحدة، وكسر الراء- أبو همّام الأهوازيّ، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [8].

قَالَ ابن المدينيّ، والدارقطنيّ: ثقة. وَقَالَ أبو زرعة: صالح، وسط. وَقَالَ أبو حاتم. صالح الْحَدِيث، صدوقٌ. وَقَالَ البخاريّ: معروف الْحَدِيث. وَقَالَ النسائيّ: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ ربّما أخطأ. وَقَالَ ابن شاهين فِي "الثقات": قَالَ ابن معين: لم يكن صاحب حديث، ولكن لا بأس به. روى له الجماعة، سوى الترمذيّ، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.

3 -

(يونس بن عُبيد) بن دينار العبدي، أبو عبيد البصريّ، ثقة ثبت فاضل ورع [5] 88/ 109.

4 -

(الحسن) بن أبي الحسن يسار البصريّ، ثقة فقيه فاضل، يدلس [3] 32/ 36.

5 -

(أنس) بن مالك رضي الله تعالى عنه 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين. (ومنها): أن شيخه أحد المشايخ التسعة الذين أخذ عنهم أصحاب الكتب الستة بلا واسطة. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه منْ المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر منْ مات منْ الصحابة رضي الله تعالى عنهم بالبصرة، مات سنة (2) أو (93) وَقَدْ جاوز مائة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عن أنس) بن مالك رضي الله تعالى عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، نَهَى أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ) هو المقيم بالبلد (لِبَادٍ) هو البدويّ، ومعناه: عَلَى ما فسّره به الشافعيّة، والحنبليّة: أن يقدم غريبٌ، بدويًا كَانَ، أو قرويًا بسلعته إلى البلد، يريد بيعها بسعر الوقت؛ ليرجع إلى وطنه، فيأتيه بلديّ، فيقول: ضَعْ متاعك عندي، لأبيعه عَلَى التدريج بأغلى منْ هَذَا السعر، فلم يعتدّوا الحكم بالبادي، وجعلوه منوطًا بمن ليس منْ أهل البلد، سواء كَانَ باديًا، أو حاضرًا؛ لأن المعنى فِي إضرار أهل البلد يتناول الصورتين، وذكر البادي

ص: 195

مثال، لا قيدٌ. وجعله مالك قيدًا، فحكى ابن عبد البرّ أنه قيل له: منْ أهل البادية؟ قَالَ: أهل العمود، قيل له: القرى المسكونة التي لا يفارقها أهلها فِي نواحي المدينة، يقدم بعضهم بالسلع، فيبيعها لهم أهل المدينة؟ قَالَ: نعم، إنما معنى الْحَدِيث أهل العمود. وحكى ابن عبد البرّ أيضًا عن مالك أنه قَالَ: تفسير ذلك أهل البادية، وأهل القرى، فأما أهل المدائن، منْ أهل الريف، فإنه ليس بالبيع لهم بأس، ممن يرى أنه يعرف السوم، إلا منْ كَانَ منهم يشبه أهل البادية، فإني لا أحبّ أن يبيع لهم حاضر، قَالَ: وبه قَالَ ابن حبيب، قَالَ: والبادي الذي لا بيع لهم الحاضر هم أهل العمود، وأهل البوادي، والبراري، مثل الأعراب، قَالَ: وجاء النهي فِي ذلك؛ إرادة أن يُصيب النَّاس ثمرتهم، ثم ذكر حديث جابر رضي الله عنه الآتي بعد حديثين:"لا يبيع حاضر لباد، دَعُوا النَّاس يرزق الله بعضهم منْ بعض"، قَالَ: فأما أهل القرى الذين يعرفون أثمان سلعتهم، وأسواقها، فلم يُعْنَوا بهذا الْحَدِيث. وحكى ابن عبد البرّ أيضًا، عن ابن القاسم أنه قَالَ: ثم قَالَ -يعني مالكًا- بعد ذلك: ولا يبيع مصريّ لمدنيّ، ولا مدنيّ لمصريّ، ولكن يشير عليه. وحكى ابن الحاجب فِي "مختصره" الخلاف فِي ذلك عن مالك، فَقَالَ: وفي "الموطّإ" يحمله عَلَى أهل العمود؛ لجهلهم بالأسعار، وقيل: بعمومه؛ لقوله: ولا يبيع مدنيّ لمصريّ، ولا مصريّ لمدنيّ. انتهى.

وفسّر الحنفيّة بيع الحاضر للبادي بصورة أخرى، وهي أن يبيع الحضريّ شيئًا مما يَحتاج إليه أهل الحضر لأهل البادية؛ لطلب زيادة السعر، فَقَالَ صاحب "الهداية" بعد ذكره هَذَا الْحَدِيث: وهذا إذا كَانَ أهل البلد فِي قحط، وعوز، وهو يبيع منْ أهل البدو؛

طمعًا فِي الثمن الغالي؛ لما فيه منْ الإضرار بهم، أما إذا لم يكن كذلك، فلا بأس به؛ لانعدام الضرر. انتهى.

قَالَ الحافظ وليّ الدين رحمه الله تعالى: ويردّ حمل الْحَدِيث عَلَى هذه الصورة قول ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، لَمّا سئِل عن تفسيره: لا يكون له سِمْسَارًا، والحديثُ الذي رواه أبو داود منْ طريق ابن إسحاق، عن سالم المكيّ، أن أعرابيّا حدّثه أنه قدم بجلوبة

(1)

له، عَلَى عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنزل عَلَى طلحة بن عُبيد الله، فَقَالَ: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع حاضرٌ لباد، ولكن اذهب إلى السوق، فانظر منْ يبايعك، فشاورني حَتَّى آمرك، وأنهاك. انتهى "طرح التثريب" 6/ 72 - 76.

وَقَالَ ابن قدامة رحمه الله تعالى فِي "المغني" ج: 4 ص: 150: بيع الحاض للباد:

(1)

اختلف فِي ضبطها، فضبطها بعضهم بالحاء المهملة المفتوحة، وهي الناقة التي تُحلب، وبعضهم بالجيم المفتوحة: وهي ما يُجلب للبيع منْ كل شيء. وقيل: غير ذلك.

ص: 196

هو أن يخرج الحضريّ، إلى البادي، وَقَدْ جلب السلعة، فيُعَرِّفه السعر، ويقول: أنا أبيع لك، فنهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فَقَالَ:"دعوا النَّاس، يرزق الله بعضهم منْ بعض"، والبادي هاهنا: منْ يدخل البلدة، منْ غير أهلها، سواء كَانَ بدويا، أو منْ قرية، أو بلدة أخرى، نَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم الحاضر، أن يبيع له، قَالَ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما:"نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم، أن تتلقى الركبان، وأن يبيع حاضر لباد"، قَالَ: فقلت لابن عباس: ما قوله: "حاضر لباد"، قَالَ: لا يكون له سمسارا، متَّفقٌ عليه. وعن جابر رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يبيع حاضر لباد، دعوا النَّاس يرزق الله بعضهم منْ بعض"، رواه مسلم، وروى مثله ابنُ عمر، وأبو هريرة، وأنس رضي الله عنهم.

والمعنى فِي ذلك: أنه متى تُرك البدوي، يبيع سلعته، اشتراها النَّاس برخص، ويوسع عليهم السعر، فإذا تولى الحاضر بيعها، وامتنع منْ بيعها، إلا بسعر البلد، ضاق عَلَى أهل البلد، وَقَدْ أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم، فِي تعليله إلى هَذَا المعنى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما ذُكر أن أقرب التفاسير لبيع الحاضر للبادي، هو الذي فسّر به الشافعية، والحنبليّة؛ لأنه الموافق لإطلاق الْحَدِيث.

وحاصله أن يقدم غريب بدويًّا، أو قرويًّا بسلعة إلى البلد يريد بيعها بسعر الوقت؛ ليرجع إلى وطنه، فيأتيه بلديّ، فيطلب منه أن يضع سلعته عنده، حَتَّى يتربّص بها غلاء السعر، فيبيعها. والله تعالى أعلم.

(وَإِنْ كَانَ أَبَاهُ، أَوْ أَخَاهُ) أي وإن الذي يبيع لأجله منْ أقرب النَّاس إليه؛ وإنما جعله غاية؛ تأكيدًا للنهي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أنس رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -17/ 4494 و4495 و4496 - وفي "الكبرى" 16/ 6083 و6084 و6085. وأخرجه (خ) دون قوله: "وإن أباه، أو أخاه" فِي "البيوع" 2161 (م) فِي "البيوع" 1523 (د) فِي "البيوع" 2440. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي النهي عن بيع الحاضر للبادي:

ذهب مالك، والشافعيّ، وأحمد، والأكثرون إلى أنه للتحريم، وذهب بعضهم إلى أنه للتنزيه، وذهبت طائفة إلى جوازه؛ لحديث:"الدين النصيحة"، وقالوا: حديث

ص: 197

النهي عن بيع الحاضر للبادي منسوخ، وحُكي ذلك عن عطاء، ومجاهد، وأبي حنيفة. وردّه الجمهور بأن النهي الذي هنا خاصّ، فيُقدّم عَلَى عموم الأمر بالنصيحة، ويكون هَذَا كالمستثنى منها. قَالَ النوويّ: والصحيح الأول، ولا يُقبل النسخ، ولا كراهة التنزيه بمجرّد الدعوى. قَالَ القفّال منْ الشافعيّة: والإثم عَلَى البلديّ، دون البدويّ. ذكره وليّ الدين فِي "طرحه" 6/ 72.

وَقَالَ ابن قُدامة فِي "المغني" 6/ 309 - 310 - : وممن كره بيع الحاضر للبادي طلحة ابن عبيد الله، وابن عمر، وأبو هريرة، وأنس، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، والليث، والشافعي، ونقل أبو إسحاق بن شاقلا، فِي جملة سماعاته، أن الحسن بن علي المصريّ، سأل أحمد عن بيع حاضر لباد؟، فَقَالَ: لا بأس به، فَقَالَ له: فالخبر الذي جاء بالنهي؟ قَالَ: كَانَ ذلك مرة، فظاهرُ هَذَا صحة البيع، وأن النهي اختص بأول الإِسلام، لِمَا كَانَ عليهم منْ الضيق فِي ذلك، وهذا قول مجاهد، وأبي حنيفة، وأصحابه، والمذهبُ: الأول؛ لعموم النهي، وما يثبت فِي حقهم، يثبت فِي حقنا، ما لم يقم عَلَى اختصاصهم به دليل. انتهى "المغني" 6/ 309 - 310.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبين بهذا أن الصواب قول الجمهور، وهو أن بيع الحاضر للبادي حرام مطلقًا؛ لعموم الأدلّة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فيما ذكره العلماء منْ الشروط لتحريم بيع الحاضر للبادي:

قَالَ ابن قدامة رحمه الله تعالى: ظاهر كلام الخرقيّ أنه يحرم بثلاثة شروط: [أحدهما]: أن يكون الحاضر قصد البادي، ليتولى البيع له. [والثاني]: أن يكون البادي جاهلا بالسعر؛ لقوله: فيعرّفه السعر، ولا يكون التعريف إلا لجاهل، وَقَدْ قَالَ أحمد، فِي رواية أبي طالب: إذا كَانَ البادي، عارفا بالسعر لم يحرم. [والثالث]: أن يكون قد جلب السلع للبيع؛ لقوله: وَقَدْ جلب السلع، والجالب هو الذي يأتي بالسلع ليبيعها، وذكر القاضي شرطين، آخرين:[أحدهما]: أن يكون مريدا لبيعها بسعر يومها. [الثاني]: أن يكون بالناس حاجة إلى متاعه، وضيق فِي تأخير بيعه.

وَقَالَ أصحاب الشافعيّ: إنما يحرم بشروط أربعة، وهي ما ذكرنا، إلا حاجة النَّاس إلى متاعه، فمتى اختل منها شرط، لم يحرم البيع. انتهى "المغني" 6/ 309 - 310.

وَقَالَ الحافظ وليّ الدين رحمه الله تعالى: قَالَ أصحابنا -يعني الشافعية-: إنما يحرم بشروط: [أحدها]: أن يكون عالمًا بالنهي فيه، وهذا شرط يعمّ جميع المناهي. [والثاني]: أن يكون المتاع المجلوب مما تعمّ الحاجة إليه، كالأطعمة، ونحوها، فأما

ص: 198

ما لا يحتاج إليه إلا نادرًا، فلا يدخل فِي النهي. [والثالث]: أن يظهر ببيع ذلك المتاع سعة فِي البلد، فإن لم يظهر لكبر البلد، أو قلّة ما معه، أو لعموم وجوده، ورخص السعر، فوجهان: أوفقهما للحديث التحريم. [والرابع]: أن يعرِض الحضري ذلك عَلَى البدويّ، ويدعوه إليه، أما إذا التمس البدويّ منه بيعه تدريجيًّا، أو قصد الإقامة فِي البلد لبيع ذلك، فسأل البدوي تفويضه إليه، فلا بأس به؛ لأنه لم يضرّ بالناس، ولا سبيل إلى منع المالك منه.

ولو أن البدويّ استشار البلديّ فيما فيه حظّه، فهل يرشده إلى الادّخار، أو البيع عَلَى التدريج؟ وجهان، حكى القاضي ابن كجّ، عن أبي الطيّب بن سلمة، وأبي إسحاق المروزي أنه يجب عليه إرشاده إليه؛ أداءً للنصيحة، وعن أبي حفص بن الوكيل: أنه لا يرشده إليه؛ توسيعًا عَلَى النَّاس، وكذا اعتبر الحنابلة هذه الشروط، وعبارة ابن تيميّة فِي "المحرّر": وبيع الحاضر للبادي منهيّ عنه بخمسة شروط: أن يحضر البادي لبيع شيء بسعر يومه، وهو جاهلٌ بسعره، وبالناس إليه حاجةٌ، ويقصده الحاضر. وَقَالَ مالك فِي البدوي يَقْدَمُ، فيسأل الحاضر عن السعر، أكره له أن يُخبره. وَقَالَ أيضًا: لا أرى أن يبيع مصريّ لمدنيّ، ولا مدنيّ لمصريّ، ولكن يُشير عليه. وَقَالَ أيضًا: لا يبيع أهل القرى لأهل البادية سِلَعَهم، قيل له: فإن بعث بالسلعة إلى أخ له منْ أهل القرى، لم يقدم معه سلعته؟ قَالَ: لا ينبغي له ذلك، حكى ذلك كله عنه ابن عبد البرّ، ثم حكى عن ابن حبيب أنه قَالَ: لا يبعث البدويّ إلى الحضريّ بمتاع يبيعه له، ولا يُشير عليه فِي البيع، إن قدم عليه، ثم حكى عن الليث بن سعد أنه قَالَ: لا يشير الحاضر عَلَى البادي؛ لأنه إذا أشار عليه، فقد باع له؛ لأن منْ شأن أهل الباديه أن يرخصوا إلى أهل الحضر؛ لقلّة معرفتهم بالسوق. وَقَالَ الأوزاعيّ: لا يبيع حاضر لباد، ولكن لا بأس أن يُخبره بالسعر.

وَقَالَ الشيخ تقيّ الدين ابن دقيق العيد فِي "شرح العمدة": [واعلم]: أن أكثر هذه الأحكام تدور بين اتّباع المعنى، واتباع اللفظ، ولكن ينبغي أن يُنظر فِي المعنى إلى الظهور والخفاء، فحيث يظهر ظهورًا كثيرًا، فلا بأس باتّباعه، وتخصيص النصّ به، أو تعميمه عَلَى قواعد القياس، وحيث يخفى، أو لا يظهر ظهورًا قويًّا، فاتباع اللفظ أولى، وأما ما ذكره فِي اشتراط أن يلتمس البدويّ ذلك، فلا يقوى؛ لعدم ظهور دلالة اللفظ عليه، وعدم ظهور المعنى فيه، فإن المذكور الذي علّل به النهي، لا يفترق الحال فيه، بين سؤال البلديّ وعدمه ظاهرًا. وأما اشتراط أن يكون الطعام مما تدعوا الحاجة إليه، فمتوسّط فِي الظهور وعدمه؛ لاحتمال أن يراعى مجرّد ربح النَّاس عَلَى ما أشعر به

ص: 199

التعليل، منْ قوله: "دعوا النَّاس، يرزق الله بعضهم منْ بعض. وأما اشتراط أن يظهر لذلك المتاع المجلوب سعة فِي البلد، فكذلك أيضًا، أي أنه متوسّطٌ فِي الظهور؛ لما ذكرناه، منْ احتمال أن يكون المقصود مجرّد تقريب الربح، والرزق عَلَى أهل البلد، وهذه الشروط [منها]: ما يقوم الدليل الشرعيّ عليه، كشرطنا العلم بالنهي، ولا إشكال فيها. [ومنها]: ما يؤخذ باستنباط المعنى، فيخرّج عَلَى قاعدة أصوليّة، وهي أن النصّ إذا استُنبط منه معنى يعود عليه بالتخصيص، هل يصحّ، أم لا. انتهى.

وَقَالَ الحافظ العراقيّ فِي "شرح الترمذيّ": جواز الإشارة عليه هو الصواب؛ لأنه إنما نُهي عن البيع له، وليس فيه بيع له، وَقَدْ أُمر بنصحه فِي بعض طرق هَذَا الْحَدِيث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"وإذا استنصح أحدكم أخاه، فلينصح له". انتهى. وبه قَالَ ابن حزم. ذكره فِي "طرح التثريب" 6/ 73 - 75.

وَقَالَ فِي "المغني" 6/ 311 - : وأما إن أشار الحاضر عَلَى البادي، منْ غير أن يباشر البيع له، فقد رخص فيه طلحة بن عبيد الله، والأوزاعي، وابن المنذر، وكرهه مالك، والليث، وقول الصحابيّ حجة ما لم يثبت خلافه. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول بجواز الإشارة عليه، إذا استشاره هو الأرجح؛ لعدم تناول النصّ له، مع أن النصيحة له واجبة عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي بطلان بيع الحاضر للبادي، إذا وُجدت الشروط المذكورة:

قَالَ ابن قدامة رحمه الله تعالى: وإن اجتمعت هذه الشروط، فالبيع حرام، وَقَدْ صرح الخرقي ببطلانه، ونص عليه أحمد فِي رواية إسماعيل بن سعيد، قَالَ: سألت أحمد عن الرجل الحضري، ببيع للبدوي؟، فَقَالَ: أكره ذلك، وأَرُدُّ البيع فِي ذلك، وعن أحمد رواية أخرى أن البيع صحيح، وهو مذهب الشافعيّ؛ لكون النهي لمعنى فِي غير المنهي عنه، ولنا إنه منهي عنه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه. انتهى كلام ابن قدامة.

وَقَالَ الحافظ وليّ الدين رحمه الله تعالى: لو خالف الحاضر، وباع للبادي، حيث منعناه منه، كَانَ البيع صحيحًا، عند الشافعيّ، وطائفة؛ لجمعه الأركان، والشرائط، والخلل فِي غيره، واختلف المالكيّة فِي ذلك، فَقَالَ بعضهم بالصحّة، وبعضهم بالبطلان، ما لم يفت، والقولان عن ابن القاسم، وممن قَالَ بالبطلان ابن حبيب، وابن حزم الظاهريّ. وَقَالَ سحنون: وَقَالَ لي غير ابن القاسم: إنه يردّ البيع. وعن أحمد فِي

ص: 200

ذلك روايتان، ومستند البطلان اقتضاء النهي الفساد، قَالَ أصحابنا، وغيرهم: ولا خيار للمشتري، وروى سحنون، عن ابن القاسم أنه يؤدّب الحاضر إذا باع للبادي، وروى عيسى عنه إن كَانَ معتادًا لذلك، وروى عن ابن وهب أنه لا يؤدّب، سواء كَانَ عالمًا، أو جاهلًا. انتهى "طرح" 6/ 75.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: أن القول ببطلان البيع هو الأرجح؛ لأن النهي يقتضي الفساد، ولم يوجد فِي النصّ ما يصرفه عنه، كما وُجد فِي بيع المصرّاة، حيث قَالَ صلى الله عليه وسلم:"فمن ابتاع مصرّاة، فهو بخير النظرين" الْحَدِيث، فإن تخييره البائع يصرف النهي فيه عن اقضائه الفساد، فافهم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي الشراء لأهل البدو:

قَالَ الإِمام ابن قُدامة رحمه الله تعالى: فأما الشراء لهم، فيصح عند أحمد، وهو قول الحسن، وكرهت طائفة الشراء لهم، كما كرهت البيع، يُروَى عن أنس رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ يقال: هي كلمة جامعة، يقول:"لا تبيعنّ له شيئًا، ولا تبتاعنّ له شيئًا"، وعن مالك فِي ذلك روايتان، ووجه القول الأول، أن النهي غير متناول للشراء بلفظه، ولا هو فِي معناه، فإن النهي عن البيع؛ للرفق بأهل الحضر؛ ليتسع عليهم السعر، ويزول عنهم الضرر، وليس ذلك فِي الشراء لهم، إذ لا يتضررون؛ لعدم الغبن للبادين، بل هو دفع الضرر عنهم، والخلق فِي نظر الشارع عَلَى السواء، فكما شَرَع ما يدفع الضرر عن أهل الحضر، لا يلزم أن يلزم أهل البدو الضرر. انتهى "المغني" 6/ 311.

وَقَالَ وليّ الدين رحمه الله تعالى: أما شراء الحاضر للبادي، فاختلف فيه قول مالك، فمرّة منعه، ومرّة قَالَ: لا بأس به، وَقَالَ ابن حبيب: الشراء للبادي مثل البيع، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يبيع بعضكم عَلَى بيع بعض"، إنما هو لا يشتري أحدكم عَلَى شراء بعض، قَالَ: فلا يجوز للحضريّ أن يشتري للبدويّ، ولا أن يبيع له، وبه قَالَ ابن حزم الظاهريّ، وَقَدْ عرفت الردّ عليه فِي حمل البيع فِي ذلك الْحَدِيث عَلَى الشراء قريبًا، ولم يتعرّض أصحابنا لمنع شراء الحاضر للبادي. انتهى. "طرح" 6/ 75.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول بجواز الشراء هو الأرجح؛ إذ الظاهر عدم تناول قوله: "ولا يبع حاضر لباد" للشراء هنا؛ لأن علّة منع البيع هو التوسعة لأهل المدينة ببيع سلعته بسعر يومه، وهذا لا يوجد فِي الشراء. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): بوّب الإِمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه"، بقوله:"هل يبيع الحاضر للبادي بغير أجر، وهل يُعينه، أو ينصحه، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا

ص: 201

استنصح أحدكم أخاه، فلينصح له"، قَالَ: ورخّص فيه عطاء، ثم روى حديث جرير رضي الله عنه: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسمع والطاعة، والنصح لكلّ مسلم"، ثم روى حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "لا يبيع حاضر لباد"، فقيل لابن عباس: ما قوله: "لا يبيع حاضر لباد؟ "، قَالَ: لا يكون له سمسارًا". ثم بوّب "منْ كره أن يبيع حاضر لباد بأجر"، وروى فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد"، قَالَ: وبه قَالَ ابن عبّاس، ثم بوّب:"لا يبيع حاضر لباد بالسمسرة" قَالَ: وكره ابن سيرين، وإبراهيم للبائع والمشتري، وَقَالَ إبراهيم: إن العرب تقول: بع لي ثوبًا، وهي تعني الشراء، ثم روى حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"لا يبيع حاضر لباد". وَقَالَ ابن بطّال: أراد البخاريّ أن يُجيز بيع الحاضر للبادي بغير أجر، ويمنعه إذا كَانَ بأجر، واستدلّ عَلَى ذلك بقول ابن عبّاس: لا يكون له سمسارًا، فكأنه أجاز ذلك لغير السمسار، إذا كَانَ منْ طريق النصح، قَالَ: ولم يراع الفقهاء فِي السمسار أجرًا، ولا غيره، والناس فِي هَذَا عَلَى قولين: فمن كره بيع الحاضر للبادي كرهه بأجر، وبغير أجر، ومن أجازه أجازه بأجر، وبغير أجر. انتهى. ذكره فِي "طرح التثريب" 6/ 75 - 76.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بتحريم بيع الحاضر للبادي مطلقًا -كما هو مذهب الجمهور- هو الحقّ عندي؛ لإطلاق النصوص الواردة فيه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4495 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ نُوحٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا يُونُسُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: نُهِينَا أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ، أَوْ أَبَاهُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا، غير:

1 -

(سالم بن نوح) بن أبي عطاء البصريّ، أبي سعيد العطّار، صدوق، له أوهامٌ [9].

وفي "تهذيب التهذيب" 1/ 677 - 678: سالم بن نوح بن أبي عطاء البصريّ الجزري، أبو سعيد العطار، روى عن سعيد بن إياس الجريري، وابن جريج، وابن أبي عروبة، وعمر بن عامر السلمي، وعمر بن جابر الحنفي، وابن عون، وغيرهم، وعنه أحمد بن حنبل، وعمر بن علي، وقتيبة، وأبو موسى، وبندار، وأبو هشام الرفاعي، وعقبة بن مكرم، ويزيد بن سنان القزاز، وعبد الرحمن بن منصور الحارثي، وغيرهم.

قَالَ عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ما بحديثه بأس. وَقَالَ الدوري، عن ابن معين:

ص: 202

ليس بشيء. وَقَالَ أبو زرعة: لا بأس به، صدوق، ثقة. وَقَالَ أبو حاتم: يكتب حديثه، ولا يحتج به. وَقَالَ عمرو بن علي: قلت ليحيى بن سعيد: قَالَ سالم بن نوح: ضاع مني كتاب يونس -يعني ابن عبيد- والجزري، فوجدتهما بعد أربعين سنة، قَالَ يحيى: وما بأس بذلك. وَقَالَ النسائيّ: ليس بالقوي، وَقَالَ ابن عدي: عنده غرائب، وأفراد، وأحاديثه محتملة، متقاربة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ الساجي: صدوق، ثقة، وأهل البصرة أعلم به، منْ ابن معين. وذكره ابن شاهين فِي "الثقات"، وَقَالَ: قَالَ ابن معين: ليس بحديثه بأس. قَالَ البخاريّ، عن الجراح بن مخلد: مات بعد المائتين. وَقَالَ الدارقطني: ليس بالقوي. وَقَالَ ابن قانع: مات سنة (200)، وهو بصري ثقة. انتهى. روى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، والباقون، سوى ابن ماجه، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.

والسند مسلسلٌ بالبصريين، كسابقه، ولاحقه، وشيخه هو أحد مشايخ الأئمة الستة، كما سبق فيما قبله.

[تنبيه]: زاد فِي "الكبرى" 4/ 12 رقم 6084 عقب هَذَا الْحَدِيث: ما نصّه: قَالَ أبو عبد الرحمن: سالم بن نوح ليس بالقويّ، ومحمد بن الزبرقان قَالَ

(1)

: أحبّ إلينا منه. انتهى.

وقوله: "نُهينا الخ" هكذا رواية ابن سيرين بإبهام الناهي، وَقَدْ تقدم فِي رواية الحسن:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع حاضر لباد"، فعرف أن المبهم هنا هو المفسّر هناك، قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: وهو يقوّي المذهب الصحيح أن لقول الصحابيّ: نُهينا عن كذا حكم الرفع، وأنه فِي قوّة قوله: قَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى. "فتح" 5/ 113.

والحديث متَّفقٌ عليه، كما سبق فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4496 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: نُهِينَا أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

و"خالد": هو ابن الحارث الهجيميّ. و"ابن عون": هو عبد الله. والحديث متَّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا،

(1)

هكذا النسخة، والظاهر أنها زائد غلط، أو مؤخر منْ مقدم: والأصل: قَالَ: ومحمد بن الزبرقان أحب إلينا منه. والله أعلم.

ص: 203

ونعم الوكيل.

4497 -

(أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ، دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(إبراهيم بن الحسن) بن الهيثم الخثعميّ، أبو إسحاق المصّيصيّ المِقسَميّ، ثقة [11].

2 -

(حجاج) بن محمّد الأعور، أبو محمّد المصّيصيّ، ترمذيّ الأصل، نزل بغداد، ثم المصّيصة، ثقة ثبت، اختلط فِي آخره [9] 28/ 32.

3 -

(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز منْ جريج المكيّ، نسب لجده، وله كنيتان اشتهر بهما: أبو خالد، وأبو الوليد. ثقة فقيه فاضل يدلس [6] 28/ 32.

4 -

(أبو الزبير) محمّد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، صدوق يدلّس [4] 31/ 35.

5 -

(جابر) بن عبد الله بن عمرو بن حرام السَّلَمي الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما 31/ 35. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو وأبو داود، وابن ماجه فِي "التفسير". (ومنها): أنه مسلسل بالمكيين، غير شيخه، وشيخ شيخه، فمصّيصيان. (ومنها): أن فيه جابرا رضي الله تعالى عنه منْ المكثرين السبعة، روى (1540) حديثا. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

عن ابن جريج، أنه قَالَ:(أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ) محمّد بن مسلم (أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا) هو ابن عبد الله رضي الله تعالى عنهما (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا) نافية، ولذا رُفع الفعل بعده، والمراد بالنفي النهي (يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ) تقدّم تفسيره فِي شرح حديث أنس رضي الله عنه أول الباب (دَعُوا النَّاسَ) أي اتركوهم عَلَى ما هم عليه منْ التعامل فيما بينهم بالتسامح (يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ) بجزم "يرزق" عَلَى أنه جواب للطلب، كما قَالَ ابن مالك رحمه الله تعالى فِي "خلاصته":

وَبَعْدَ غَيْرِ النَّفْيِ جَزْمًا اعْتَمِدْ

إِنَّ تَسْقُطِ الْفَا وَالْجَزَاءُ قَدْ قُصِدْ

ويحتمل أن يكون بالرفع عَلَى الاستئناف، مرادًا به التعليل؛ أي لأن الله تعالى يرزق

ص: 204

بعضهم منْ بعض. ومعنى رزق الله تعالى بعضهم منْ بعض هو أن يتبايعوا فيما بينهم بأسعار رخيصة، فتحصل لهم الفائدة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث جابر رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -17/ 4497 - وفي "الكبرى" 16/ 6086. وأخرجه (م) 3805 و3806 (د) 3442 (ت) فِي "البيوع" 1223 (ق) فِي "التجارت" 2176. وفوائده تقدّمت قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4498 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَا تَلَقُّوا الرُّكْبَانَ لِلْبَيْعِ، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

و"أبو الزناد": هو عبد الله بن ذكوان. و"الأعرج": هو عبد الرحمن بن هُرْمُز.

والسند مسلسل بثقات المدنيين، غير شيخه، فإنه بغلانيّ، وهو منْ أصح أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه راويان مشهوران باللقب: أبو الزناد، والأعرج، فأبو الزناد لقب بصورة الكنية، وكنيته أبو عبد الرحمن، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أكثر الصحابة رواية للحديث، روى (5374) حديثاً. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَا تَلَقُّوا الرُّكْبَانَ)"لا" ناهية، ولذا جُزم الفعل بعدها، و"تلقوا" -بفح أوله، وتشديد القاف المفتوحة، وضمّ الواو- أصله تتلقّوا، فحُذفت منه إحدى التاءين. و"الركبان": جمع راكب، والمراد به هنا التجار الذين يأتون إلى البلد بالسلع ليبيعوها فيها. قَالَ فِي "الفتح": هَذَا خرج مخرج الغالب فِي أن منْ يجلُب الطعام يكونون عددًا ركبانًا، ولا مفهوم له، بل لو كَانَ الجالب عددًا، مشاةً، أو واحدًا، راكبًا، أو ماشيًا لم يختلف الحكم. انتهى. وسيأتي تمام البحث عن التلقّي فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى (لِلْبَيْعِ) يشمل البيع

ص: 205

لهم، والبيع منهم، ويُفهم منه اشتراط قصد ذلك بالتلقّي، فلو تلقّى الركبان أحد للسلام عليهم، أو الفرجة، أو خرج لحاجة له، فوجدهم، فبايعهم، هل يتناوله النهي؟ فيه احتمال، فمن نظر إلى المعنى لم يفترق عنده الحكم بذلك، وهو الأصحّ عند الشافعية، وشرط بعض الشافعيّة فِي النهي أن يبتديء المتلقّي، فيطلب منْ الجالب البيع، فلو ابتدأ الجالب بطلب البيع، فاشترى منه المتلقّي لم يدخل فِي النهي. وذكر إمام الحرمين فِي صورة التلقّي المحرّم أن يكذب فِي سعر البلد، ويشتري منهم بأقلّ منْ ثمن المثل. وذكر المتولّي فيها أن يُخبرهم بكثرة المؤنة عليهم فِي الدخول. وذكر أبو إسحاق الشيرازيّ أن يخبرهم بكساد ما معهم ليغبنهم. وَقَدْ يؤخذ منْ هذه التقييدات إثبات الخيار لمن وقعت له، ولو لم يكن هناك تلقّ، لكن صرح الشافعيّة أن كون إخباره كذبًا ليس شرطًا لثبوت الخيار، وإنما يثبت له الخيار إذا ظهر الغبن، فهو المعتبر وجودًا وعدمًا. قاله فِي "الفتح" 5/ 114 - 115.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن هذه القيود التي ذكروها مما لا دليل عليه، فالذي يظهر أن إطلاق نصّ تحريم التلقّي عَلَى إطلاقه، حَتَّى يظهر نصّ يقيده بهذه القيود، أو غيرها. والله تعالى أعلم.

(وَلَا يَبِعْ) بالجزم لأن "لا" ناهية، وفي بعض النسخ:"ولا يبيع"، فعلى هَذَا فـ"لا" نافية، والفعل مرفوع (بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ) سيأتي البحث عنه مستوفًى بعد بابين، إن شاء الله تعالى (وَلَا تَنَاجَشُوا) جيء بلفظ التفاعل؛ لأن التجّار يتعارضون، فيفعل هَذَا بصاحبه عَلَى أن يكافئه بمثل ما فعل، فنُهوا عن أن يفعلوا معارضة، فضلًا عن أن يفعلوا بدءًا، وسيأتي البحث فيه بعد ثلاثة أبواب، إن شاء الله تعالى (وَلَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ) تقدم شرحه مستوفًى أول الباب، فلا تغفل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعيه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -17/ 4498 - وفي "الكبرى" 16/ 6087. وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 2150 (م) فِي "البيوع" 3794 (د) فِي "البيوع" 3443. وفوائد الْحَدِيث تقدمت. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4499 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ بْنِ أَعْيَنَ، قَالَ: حَدَّثَنَا

ص: 206

شُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ فَرْقَدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ:"نَهَى عَنِ النَّجْشِ، وَالتَّلَقِّي، وَأَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده، وهو مصريّ ثقة [11] 152/ 2944. و"أبو شعيب": هو الليث ابن سعد، إمام أهل مصر. و"كثير بن فرقد": هو المدنيّ الثقة، نزيل مصر [7] 30/ 1589. و"عبد الله": هو ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.

والحديث متَّفقٌ عليه، ويأتي شرحه، وبيان مسائله فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌18 - (التَّلَقِّي)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "التّلقّي" مصدر: تلقّي يتلقّى، قَالَ فِي "اللسان": قَالَ الأزهريّ: التلقّي: هو الاستقبال، ومنه قوله تعالى:{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصّلت: 35]، قَالَ الفرّاء: يريد ما يلقّى دفع السيئة بالحسنة، إلا منْ هو صابرٌ، أو ذو حظّ عظيم، فأنثها لتأنيث إرادة الكلمة. وقيل: أي ما يُعلَّمها، ويوفَّقُ لها إلا الصابر. وتلقّاه: أي استقبله، وفلان يتلقّى فلانًا: أي يستقبله. انتهى.

وَقَالَ فِي "المصباح": لقِيته ألقاه، منْ باب تَعِبَ، لُقيّا، والأصل عَلَى فُعُول، ولُقًى بالضمّ، مع القصر، ولِقَاءً بالكسر، مع المدّ والقصر، وكلُّ شيء استقبل شيئًا، أو صادفه: فقد لقيه، ومنه لقاءُ البيتِ، وهو استقباله. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.

4500 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ التَّلَقِّي").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(عبيد الله بن سعيد) أبو قُدامة السرخسيّ، ثقة ثبت [10] 15/ 15.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطّان، أبو سعيد البصريّ، ثقة ثبت حجة [9] 4/ 4.

3 -

(عبيد الله) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمريّ، أبو

ص: 207

عثمان المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [5] 15/ 15.

4 -

(نافع) مولى ابن عمر المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 12/ 12.

5 -

(ابن عمر) عبد الله رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فسرخسيّ، ويحيى، فبصريّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: عبيد الله، عن نافع. (ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، منْ المكثرين السبعة، روى (2630) منْ الأحاديث، وهو أحد العبادلة الأربعة، المجموعين فِي قول السيوطيّ فِي "ألفية الْحَدِيث":

وَالْبَحْرُ وَابْنَا عُمَرٍ وَعَمْرِو

وَابْنُ الزُّبَيْرِ فِي اشْتِهَارٍ يَجْرِي

دُونَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَهُمْ عَبَادِلَهْ

وَغَلَّطُوا مَنْ غَيْرَ هَذَا مَالَ لَه

والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ التَّلَقِّي) أي تلقّي الركبان، وفي الرواية التالية:"عن تلقّي الجلب، حَتَّى يُدخل بها السوق".

و"الْجَلَب" -بفتحتين، أو بفتح، فسكون-: بمعنى الشيء المجلوب. وفي رواية مسلم: "نهى أن تتلقّى السِّلَع حَتَّى تبلغ الأسواق"، و"السلع" -بكسر، ففتح-: جمع سِلعة -بكسر، فسكون-: بمعنى المتاع.

قَالَ الحافظ وليّ الدين رحمه الله تعالى: فسّر أصحابنا تلقّي الركبان بأن يتلقّى طائفةً يحملون طعامًا إلى البلد، فيشتريه منهم، قبل قدومهم البلد، ومعرفة سعره، ومقتضى هَذَا التفسير أن التلقّي لشراء غير الطعام، ليس حكمه كذلك، ولم أر هَذَا التقييد فِي كلام غيرهم. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: التقييد المذكور مما لا دليل عليه، فالصواب المنع مطلقاً، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

والشرط فِي التحريم -كما قالوا- أن يعلم النهي عن التلقّي، وهذا شرط فِي سائر المناهي، وروى سحنون عن ابن القاسم أنه يؤدّب، إلا أن يُعذر بالجهل، وروى عيسى ابن دينار، عن ابن القاسم أنه يؤدب إذا كَانَ معتادًا لذلك. واختلفوا فِي قصد التلقّي،

ص: 208

فلو لم يقصده، بل خرج لشغل، فاشترى منهم، ففي تحريمه خلاف عند الشافعيّة، والمالكيّة، والأصح عند الشافعيّة تحريمه؛ لرجود المعنى، وهو الحقّ.

وَقَالَ وليّ الدين رحمه الله تعالى: وشرط بعض أصحابنا للتحريم شرطًا آخر، وهو أن يبتدىء المتلقي القافلة بطلب الشراء منهم، فلو ابتدؤوه، فالتمسوا منه الشراء منهم، وهم عالمون بسعر البلد، أو غير عالمين، فجعلوه عَلَى الخلاف فيما لو بأن أن الشراء بسعر البلد، أو أكثر، والأصحّ أنه لا خيار فِي هذه الصورة. انتهى.

وَقَالَ فِي "الفتح": وظاهر الْحَدِيث منع التلقّي مطلقًا، سواء كَانَ قريبًا، أم بعيدًا، وسواء كَانَ لأجل الشراء منهم، أم لا. انتهى. وسيأتي تمام البحث فيه قريبًا، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -17/ 4499 و18/ 4500 و21/ 4507 - وفي "الكبرى" 16/ 6088 و17/ 6089 و6090 و20/ 6096. وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 2142 و2159 و"الحيل" 6963 (م) فِي "البيوع" 1516 (د) فِي "البيوع" 3436 (ق) فِي "التجارات" 2173 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 4517 و4990 و5282 و5828 (الموطأ) فِي "البيوع" 1392 (الدارمي) فِي "البيوع" 2454.

(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم تلقّي الركبان:

ذهب مالك، والشافعيّ، وأحمد، والجمهور إلى تحريمه. وذهب أبو حنيفة، والأوزاعيّ إلى جوازه، إذا لم يضرّ بالناس، فإن أضرّ كُره، كذا حكاه النوويّ، وَقَالَ: والصحيح الأول؛ للنهي الصريح.

قَالَ وليّ الدين: والذي فِي كتب الحنفيّة الكراهة فِي حالتين: [إحداهما]: أن يضرّ بأهل البلد. [والثانية]: أن يلبّس السعر عَلَى الواردين، فإن أراد النوويّ ضرر أهل البلد، فيرد عليه الحالة الثانية، وان أراد مطلق النَّاس، تناول الصورتين، ثم إن الكراهة عند بعضهم للتحريم، فإن أرادوا ذلك هنا كَانَ مذهبهم موافقا لمذهب الجمهور، لكن قَالَ ابن حزم: إن أبا حنيفة كرهه، إن أضرّ بأهل البلد، دون أن يحظره، قَالَ: وما نعلم أحدًا قاله قبله، وحكى ابن حزم عن مالك أنه لا يجوز فعله للتجارة، ولا بأس به لابتياع

ص: 209

القوت منْ الطعام، والأضحية، قَالَ: ولا نعلمه عن أحد قبل مالك. انتهى. "طرح" 6/ 64 - 65.

وَقَالَ فِي "المغني": وكره التلقّي أكثر أهل العلم، منهم: عمر بن عبد العزيز، ومالك، والليث، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، وحكي عن أبي حنيفة، أنه لم ير بذلك بأسا، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع. انتهى. 6/ 312.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما ذُكر أن الجمهور عَلَى تحريم تلقّي الركبان، وهو الحقّ؛ للأحاديث الصحيحة المذكورة فِي هَذَا الباب وغيره. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي بطلان البيع بالتلقّي:

قَالَ الحافظ وليّ الدين رحمه الله تعالى: واختلفوا، فِي أن البيع هل يبطل، أم لا؟، فَقَالَ الشافعيّ، وأحمد: لا يبطل، فإن النهي لا يرجع إلى نفس العقد، ولا يُخلّ هَذَا الفعل بشيء منْ أركانه، وشرائطه، وإنما هو لأجل الإضرار بالركبان، وذلك لا يقدح فِي نفس البيع.

وَقَالَ آخرون: يبطل؛ لأن النهي يقتضي الفساد، وحكاه الشيخ تقيّ الدين فِي "شرح العمدة" عن غير الشافعيّ منْ العلماء، وهذه الصيغة، لا عموم فيها، وليس المراد أن جميع العلماء غير الشافعيّ قائلون بالبطلان، وإن كانت العبارة توهم ذلك، وهذا قول فِي مذهب مالك، حكاه سحنون عن غير ابن القاسم، وَقَالَ ابن خويز منداد: البيع صحيح عَلَى قول الجميع، وإنما الخلاف فِي أن المشتري لا يفوز بالسلعة، ويشركه فيها أهل الأسواق، ولا خيار للبائع، أو أن البائع بالخيار. وَقَالَ ابن عبد البرّ: ما حكاه ابن خويز منداد عن الجميع فِي جواز البيع هو الصحيح، لا ما حكاه سحنون عن غير ابن القاسم أنه يُفسخ البيع، قَالَ: وكان ابن حبيب يذهب إلى فسخ البيع فِي ذلك، فإن لم يوجد، عُرضت السلعة عَلَى أهل السوق، واشتركوا فيها، إن أحبوا، وإن أبوها رُدّت عَلَى مبتاعها. انتهى "طرح" 6/ 65.

وَقَالَ الإِمام ابن قُدامة رحمه الله تعالى: فإن خالف، وتلقى الركبان، واشترى منهم، فالبيع صحيح، فِي قول الجميع، وقاله ابن عبد البرّ: وحُكي عن أحمد، رواية أخرى، أن البيع فاسد؛ لظاهر النهي، والأول أصح؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه، روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه، واشترى منه، فإذا أتى السوق، فهو بالخيار"، رواه مسلم، والخيار لا يكون إلا فِي عقد صحيح؛ ولأن النهي لا لمعنى فِي البيع، بل يعود إلى ضرب منْ الخديعة، يمكن استدراكها بإثبات الخيار، فأشبه بيع المصراة،

ص: 210

وفارق بيع الحاضر للبادي، فإنه لا يمكن استدراكه بالخيار، إذ ليس الضرر عليه، إنما هو عَلَى المسلمين. انتهى "المغني" 6/ 313.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بهذا أن الجمهور عَلَى أن البيع صحيح؛ لأن الشارع خيّر البائع، بين إمضاء البيع، وفسخه، وإنما يكون الخيار بينهما فِي عقد صحيح. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي معنى الخيار الذي ثبت فِي هذه المسألة:

قَالَ الحافظ وليّ الدين رحمه الله تعالى: قَالَ الشافعيّة: لا خيار للبائع قبل أن يقدم، ويعلم السعر، فإذا قدم، فإن كَانَ الشراء بأرخص منْ سعر البلد، ثبت له الخيار، سواء أخبر المتلقّي بالسعر كاذبًا، أم لم يخبر، وإن كَانَ الشراء بسعر البلد، أو أكثر، فوجهان:[أصحهما] عندهم أنه لا خيار له؛ لعدم الغبن. [والثاني]: ثبوته؛ لإطلاق الْحَدِيث، حيث قَالَ صلى الله عليه وسلم:"فمن تلقّاه، فاشترى منه، فإذا أتى سيّده السوق، فهو بالخيار".

وَقَالَ الحنابلة أيضًا بثبوت الخيار، لكنهم قيّدوه بأن يُغبن بما لا يُغبن به عادةً، واختلفوا فِي تقديره، فقدّره بعضهم بالثلث، وبعضهم بالسدس.

واختلف المالكيّة القائلون بأن البيع لا يبطل عَلَى قولين: [أحدهما]: أن السلعة تُعرض عَلَى أهل السلع فِي السوق، فيشتركون فيها بذلك الثمن، بلا زيادة، فإن لم يوجد لها سوقٌ، عُرضت عَلَى النَّاس فِي العصر، فيشتركون فيها، إن أحبّوا، فإن نقصت عن ذلك الثمن، لزمت المشتري، قاله ابن القاسم، وأصبغ. [والثاني]: يفوز بها المشتري. وَقَالَ الليث بن سعدة إن كَانَ بائعها لم يذهب رُدّت إليه، حَتَّى تباع فِي السوق، وإن كَانَ قد ذهب، ارتُجعت منه، وبيعت فِي السوق، ودفع إليه ثمنها. انتهى "طرح" 6/ 65 - 66.

وَقَالَ الإِمام ابن قدامة رحمه الله تعالى -بعد أن ذكر ما تقدم فِي المسألة السابقة منْ الخلاف: فإذا تقرر هَذَا، فللبائع الخيار، إذا علم أنه قد غبن، وَقَالَ أصحاب الرأي: لا خيار له، وَقَدْ روينا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا، ولا قول لأحد مع قوله.

وظاهر المذهب، أنه لا خيار له إلا مع الغبن؛ لأنه إنما ثبت لأجل الخديعة، ودفع الضرر، ولا ضرر مع عدم الغبن، وهذا ظاهر مذهب الشافعيّ، ويحمل إطلاق الْحَدِيث فِي إثبات الخيار، عَلَى هَذَا، لعلمنا بمعناه ومراده؛ لأنه معنى يتعلق الخيار بمثله، ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم جعل له الخيار، إذا أتى السوق، فيفهم منه أنه أشار إلى معرفته بالغبن فِي

ص: 211

السوق، ولولا ذلك لكان الخيار له، منْ حين البيع. قَالَ: وينبغي أن يتقيد الغبن المثبت للخيار بما يخرج عن العادة؛ لأن ما دون ذلك لا ينضبط.

وَقَالَ أصحاب مالك: إنما نُهي عن تلقي الركبان؛ لما يفوت به منْ الرفق لأهل السوق؛ لئلا يُقطع عنهم ماله جلسوا، منْ ابتغاء فضل الله تعالى، قَالَ ابن القاسم: فإن تلقاها مُتَلَقّ، فاشتراها، عُرِضت عَلَى أهل السوق، فيشتركون فيها. وَقَالَ الليث بن سعد: تباع فِي السوق، وهذا مخالف لمدلول الْحَدِيث، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم، جعل الخيار للبائع، إذا دخل السوق، ولم يجعلوا له خيارا، وجَعْلُ النبيّ صلى الله عليه وسلم الخيار له، يدل عَلَى أن النهي عن تلقي الركبان؛ لحقه، لا لحق غيره، ولأن الجالس فِي السوق، كالمتلقي فِي أن كل واحد منهما، مبتغ لفضل الله تعالى، فلا يليق بالحكمة فسخ عقد أحدهما، وإلحاق الضرر به، دفعا للضرر عن مثله، وليس رعاية حق الجالس، أولى منْ رعاية حق المتلقي، ولا يمكن اشتراك أهل السوق كلهم فِي سلعته، فلا يُعرَّجُ عَلَى مثل هَذَا. والله أعلم. انتهى "المغني" 6/ 313 - 314.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي حقّقه ابن قدامة رحمه الله تعالى فِي الردّ عَلَى أصحاب مالك، رحمهم الله تعالى فيما قالوه؛ لمخالفته صريح الْحَدِيث، حسن جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): فيما ذكره أهل العلم فِي سبب النهي عن التلقّي المذكور:

قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: قَالَ العلماء: وسبب التحريم إزالة الضرر عن الجالب، وصيانته ممن يخدعه، قَالَ الإمام، أبو عبد الله المازريّ:

[فإن قيل]: المنع منْ بيع الحاضر للبادى سببه الرفق بأهل البلد، واحتُمِل فيه غبن البادي، والمنع منْ التلقي أن لا يُغبَن البادي، ولهذا قَالَ صلى الله عليه وسلم:"فإذا أتى سيدُهُ السوق، فهو بالخيار".

[فالجواب]: أن الشرع ينظر فِي مثل هذه المسائل، إلى مصلحة النَّاس، والمصلحة تقتضي أن يُنظر للجماعة عَلَى الواحد، لا للواحد عَلَى الواحد، فلما كَانَ البادي، إذا باع بنفسه، انتفع جميع أهل السوق، واشتروا رخيصا، فانتفع به جميع سكان البلد، نظر الشرع لأهل البلد عَلَى البادي، ولما كَانَ فِي التلقي، إنما ينتفع المتلقي خاصة، وهو واحد فِي قُبالة واحد، لم يكن فِي إباحة التلقي مصلحة، لاسيما وينضاف إلى ذلك علة ثانية، وهي لحوق الضرر بأهل السوق، فِي انفراد المتلقي عنهم بالرخص، وقطع الموادّ عنهم، وهم أكثر منْ المتلقي، فنظر الشرع لهم عليه، فلا تناقض بين المسئلتين، بل هما متفقتان فِي الحكمة، والمصلحة. والله أعلم. انتهى "شرح مسلم" 10/ 403.

ص: 212

وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: واختُلف فِي وجه النهي عن التلقي، فقيل: ذلك لحقّ الله تعالى، وعلى هَذَا، فيُفسخ البيع أبدًا، وَقَالَ به بعض أصحابنا، وهذا إنما يليق بأصول أهل الظاهر. والجمهور: عَلَى أنه لحقّ الآدمي؛ لما يدخل عليه منْ الضرر، ثم اختلفوا فمن يرجع إليه هَذَا الضرر، فَقَالَ الشافعيّ: هو البائع، فيدخل عليه ضرر الغبن، وعلى هَذَا، فلو وقع لم يُفسخ، ويكون صاحبه بالخيار، وعلى هَذَا يدلّ ظاهر الْحَدِيث، فإنه قَالَ فيه:"إذا أتى سيده السوق، فهو بالخيار". وَقَالَ مالك: بل هم أهل السوق بما يدخل عليهم منْ غلاء السلع، ومقصود الشرع الرفقُ بأهل الحاضرة، كما قد قَالَ:"دع النَّاس يرزق الله بعضهم منْ بعض"، وكأن مالكًا لم تبلغه هذه الزيادة، أو لم تثبت عنده أنها منْ قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعلى قول مالك فلا يُفسخ، ولكن يخيّر أهل السوق، فإن لم يكن سوقٌ، فأهل العصر بالخيار، وهل يدخل المتلقّي معه، أو لا؟ قولان، سبب المنع عقوبته بنقيض قصده. وَقَدْ أجاز أبو حنيفة، والأوزاعي التلقّي إلا أن يضرّ بالناس، فيكره، وهذه الأحاديث حجةٌ عليهما. انتهى "المفهم" 4/ 366 - 367.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما سبق أن الصواب ما قاله الشافعيّ رحمه الله تعالى منْ أن النهي لحقّ البائع، وأن له الخيار؛ لموافقته للنصّ الصحيح الصريح:"فإذا أتى سيّده السوق، فهو بالخيار"، فإنه يدلّ عَلَى أن البائع هو سبب النهي، وأن البيع إذا أجازه جاز، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): فِي اختلاف أهل العلم هل يُقدّر النهي عن التلقّي بمسافة، أم لا:

قَالَ وليّ الدين العراقيّ رحمه الله تعالى: ظاهر الْحَدِيث أنه لا فرق فِي النهي عن التلقّي بين أن تكون المسافة التي يُتلقّى إليها قريبة، أو بعيدة، وهو الذي يقتضيه إطلاق أصحابنا، وغيرهم، وقيد المالكية محل النهي بحدّ مخصوص، واختلفوا فِي ذلك الحدّ، فَقَالَ بعضهم: ميل. وَقَالَ بعضهم: فرسخان. وَقَالَ بعضهم: يومان، وهو معنى ما رواه أبو قرّة، عن مالك أنه قَالَ: إني لأكره تلقي السلع، وأن يُبلغ به أربعة برود. انتهى. فإن زادت المسافة عَلَى ذلك لم تدخل تحت النهي، وقيل لمالك: أرأيت إن كَانَ ذلك عَلَى رأس ستة أميال؟ فَقَالَ: لا بأس بذلك، وكأن ذلك جاز عَلَى طريقته فِي أن النظر لأهل البلد، وإنما تتشوّف أطماعهم لمن قرُب منهم، وأما البعيد، فلا تشوّف لهم إليه، ولعلّ النظر فِي تحديد القرب للعرف. وحكى ابن حزم عن سفيان الثوريّ أنه منهيّ عنه إذا كَانَ بحيث لا تقصر الصلاه إليه، فإن تلقّاها بحيث تقصر الصلاة، فصاعدًا، فلا بأس بذلك. انتهى "طرح التثريب" 6/ 67 - 68.

وَقَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: وَقَدْ اختلف أصحابنا -يعني المالكية-

ص: 213

فِي مسافة منع التلقّي، فقيل: يومان، وقيل ستة أميال، وقيل: قرب المصر. قلت: هذه التحديدات متعارضةٌ، لا معنى لها؛ إذ لا توقيف، وإنما محلّ المنع أن ينفرد المتلقّي بالقادم خارج السوق بحيث لا يعرف ذلك أهل السوق غالبًا، وعلى هَذَا، فيكون ذلك فِي القريب والبعيد، حَتَّى يصحّ قول بعض أصحابنا: لو تلقّى الجلب فِي أطراف البلد، أو أقاصيه، لكان تلقّيًا منهيًّا عنه، وهو الصحيح؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم فِي الرواية الأخرى عن تلقّي السلع حَتَّى تورد الأسواق، فلو لم يكن للسلعة سوقٌ، فلا يخرج إليها؛ لأنه التلقّي المنهيّ عنه، غير أنه يجوز أن يشتري فِي أطراف البلد؛ لأن البلد كلّه سوقها. انتهى "المفهم" 4/ 366.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما سبق أن الصواب هو ما عليه الجمهور منْ أن التلقيّ حرام مطلقًا، سواء كانت المسافة قريبة، أم بعيدة، إذا كَانَ خارج السوق؛ لإطلاق النصوص فِي ذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): قد عقد الإِمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه"، بابًا لمنتهى التلقّي، فَقَالَ:"باب منتهى التلقّي"، ثم أورد فيه حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما. "كنّا نتلقّى الركبان، فنشتري منهم الطعام، فنهانا النبيّ صلى الله عليه وسلم أن نبيعه، حَتَّى نبلغ به سوق الطعام"، وحديثه:"كانوا يتبايعون الطعام فِي أعلى السوق، فيبيعونه فِي مكانه، فنهاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه فِي مكانه، حَتَّى ينقلوه"، فبيّن بالرواية الثانية أن التلقّي كَانَ إلى أعلى السوق منْ غير خروج عن البلد، فإن خرج منها، وقع فِي التلقّي المنهيّ عنه، قَالَ وليّ الدين: وكلام أصحابنا يوافق هَذَا، حيث قالوا فِي تعريفه الذي قدّمت ذكره "قبل قدومهم البلد"، والمعنى فيه أنهم إذا قدموا البلد أمكنهم معرفة السعر، وطلب الحظّ لأنفسهم، فإن لم يفعلوا ذلك، فهو بتقصيرهم، وأما قبل دخول البلد، فإنهم لا يعرفون السعر، ولو أمكنهم تعرّفه، فنادرٌ، لا يترتب عليه حكم. وذكر ابن بطّال أن ما كَانَ خارجًا عن السوق فِي الحاضرة، أو قريبًا منها بحيث يجد منْ يسأله عن سعرها أنه لا يجوز الشراء هنالك؛ لأنه داخل فِي معنى التلقّي، وأما الموضع البعيد الذي لا يقدر فيه عَلَى ذلك، فيجوز فيه البيع، وليس بتلقّ. قَالَ مالك: وأكره أن يشتري فِي نواحي المصر حَتَّى يهبط به السوق. قَالَ ابن المنذر: وبلغني هَذَا القول عن أحمد، وإسحاق أنهما نهيا عن التلقّي خارج السوق، ورخّصا فِي ذلك فِي أعلى السوق إلى آخر كلامه، فرد تبويب البخاريّ إلى مذهبه، والمعنى الذي ذكره فِي أنه إذا وجد منْ يسأله عن السعر كَانَ الشراء حرامًا، وإن لم يجد منْ يسأله عن السعر، كَانَ جائزًا غير ملائم، والذي يقتضيه النظر عكسه. والله أعلم.

ص: 214

وحكى ابن عبد البرّ عن الليث بن سعد أنه قَالَ: أكره تلقي السلع، وشراءها فِي الطريق، أو عَلَى بابك، حَتَّى تقف السلعة فِي سوقها التي تباع فيها، قَالَ: وإن كَانَ عَلَى بابه، أو فِي طريقه، فمرّت به سلعة، يريد صاحبها سوق تلك السلعة، فلا بأس أن يشتريها، إذا لم يقصد التلقّي، إنما التلقّي أن يقصد لذلك. انتهى "طرح التثريب" 6/ 68 - 69.

وذكر ابن حزم أن حديث ابن عمر هَذَا استدلّ به منْ أجاز التلقّي، قَالَ: ولا حجة لهم فيه؛ لستّة أوجه:

[أحدها]: أن المحتجّين به هم القائلون بأن الصاحب إذا روى خبرًا، ثم خالفه، فقوله حجة فِي ردّ الخبر، وَقَدْ صحّ عن ابن عمر الفتيا بترك التلقّي. [ثانيها]: أنه لا كراهة عندهم فِي بيع الطعام حيث ابتاعه. [ثالثها]: أن معنى قوله: "فنهانا أن نبيعه": أن نبتاعه. [رابعها]: أن هَذَا منسوخ بالنهي. [خامسها]: أنه محمول عَلَى أن البائعين أجازوا البيع. [سادسها]: ما قدّمته منْ أن الرواية الأخرى بيّنت أن التلقّي كَانَ إلى أعلى السوق منْ غير خروج عنه. انتهى منْ "المحلى" 8/ 451 باختصار. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4501 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: قُلْتُ لأَبِي أُسَامَةَ: أَحَدَّثَكُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ تَلَقِّي الْجَلَبِ، حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا السُّوقَ؟، فَأَقَرَّ بِهِ أَبُو أُسَامَةَ، وَقَالَ: نَعَمْ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

و"أبو أسامة": هو حماد بن أُسامة.

وقوله: "قلت لأبي أسامة الخ" هَذَا طريق منْ طرق تحمّل الْحَدِيث، يسمّى العَرْض، وهو القراءة عَلَى الشيخ، وهو صحيح، بلا خلاف بين الجمهور، إذا أقرّ الشيخ بذلك لفظا، كما فِي هذه الرواية، حيث قَالَ أبو أسامة: نعم، وإنما الخلاف فيما إذا سكت، والأكثرون عَلَى صحة الرواية بها.

قَالَ فِي "تدريب الراوي": إذا قرأ عَلَى الشيخ، قائلا: أخبرك فلان، أو نحوه، كقلت: أخبرنا فلان، والشيخ مصغ إليه، فاهم له، غير منكر، ولا مُقِرّ لفظا، صح السماع، وجازت الرواية به؛ اكتفاء بالقرائن الظاهرة، ولا يشترط نطق الشيخ بالإقرار، كقوله: نعم عَلَى الصحيح الذي قطع به جماهير أصحاب الْحَدِيث، والفقه، والأصول، وشرط بعض الشافعيين، كالشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وابن الصباغ، وسُلَيم الرازي، وبعض الظاهريين نطقه به، وَقَالَ ابن الصباغ: ليس له إذا رواه عنه، أن يقول: حدثني،

ص: 215

ولا أخبرني، وله أن يعمل به، وأن يرويه قائلا: قرات عليه، أو قرىء عليه، وهو يسمع، وصححه الغزالي، والآمدي، وحكاه عن المتكلمين، وحكى تجويز ذلك عن الفقهاء والمحدثين، وحكاه الحاكم عن الأئمة الأربعة، وصححه ابن الحاجب، وَقَالَ الزركشي: يشترط أن يكون سكوته، لا عن غفلة، أو إكراه، وفيه نظر. ولو أشار الشيخ برأسه، أو أصبعه للإقرار، ولم يتلفظ، فجزم فِي المحصول، بأنه لا يقول: حدثني، ولا أخبرني، قَالَ العراقي: وفيه نظر. انتهى.

وإلى هَذَا أشار السيوطي رحمه الله تعالى فِي "ألفية الْحَدِيث" بقوله:

إِذَا قُرِي وَلَمْ يُقِرَّ الْمُسْمَعُ

لَفْظًا كَفَى وَقِيلَ لَيْسَ يَنْفَعُ

ثَالِثُهَا يَعْمَلُ أَوْ يَرْوِيهِ

بِقَدْ قَرَأْتُ أَوْ قُرِي عَلَيْهِ

وقوله: "تلقّي الجلب": هو بفتحتين فَعَلٌ، بمعنى مفعول: وهو ما تجلُبُه منْ بلد إلى بلد. قاله الفيّوميّ. وَقَالَ فِي "القاموس": جلبه يجلبه، منْ بأبي ضرب، ونصر، جَلْبًا -بالسكون-، وجَلَبًا -بفتحتين- واجتلبه: ساقه منْ موضع إلى آخر، فجلب هو، وانجلب. انتهى بإيضاح.

فعلم منْ هَذَا أن الجلب هنا بفتحتين، فقول السنديّ فِي "شرحه": هو بفتح اللام، وسكونها، لا وجه له؛ لأن جواز الوجهين فِي المصدر، لا فِي الجلب بمعنى المجلوب. فتنبّه. والحديث سبق تخريجه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4502 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يُتَلَقَّى الرُّكْبَانُ، وَأَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ"، قُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ: مَا قَوْلُهُ حَاضِرٌ لِبَادٍ؟ قَالَ: لَا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدموا غير مرّة.

و"عبد الرزاق": هو ابن همّام الصنعانيّ. و"معمر": هو ابن راشد. و"ابن طاوس": هو عبد الله. والسند مسلسل باليمنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، حبر الأمة، وبحرها، وأحد المكثرين السبعة، وأحد العبادلة الأربعة. والله تعالى أعلم.

وقوله: (أَنْ يُتَلَقَّى الرُّكْبَانُ) ببناء الفعل للمفعول. وقوله: "مَا قَوْلُهُ حَاضِرٌ لِبَادٍ؟ ": أي ما المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يبيع حاضر لباد؟. وقوله: "لَا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا" هكذا فِي النسخة الهندية بالنصب، خبرًا لـ"يكون"، ووقع فِي النسخ المطبوعة، و"الكبرى"

ص: 216

سمسار"، والأول أولى، وللثاني أيضًا وجه، وهو أن يكون كتب عَلَى لغة ربيعة، حيث إنهم يقفون عَلَى المنصوب المنون بالسكون، كالمرفوع، والمجرور، أو أنَّ "يكون" عملت فِي ضمير الشأن، وجملة "له سمسار" خبرها.

و"السمسار" -بمهملتين، الأولى مكسورة: قَالَ فِي "الفتح": هو فِي الأصل: القيّم بالأمر، والحافظ له، ثم استُعمل فِي متولّي البيع والشراء لغيره. انتهى. وَقَالَ فِي "اللسان": السمسار الذي يبيع البرّ للناس. وَقَالَ الليث: السمسار: فارسيّة معرّبة، والجمع السماسرة. قَالَ: وقيل: السمسار: القيّم بالأمر الحافظ له، وهو فِي البيع اسم للذي يدخل بين البائع والمشتري، متوسّطًا لإمضاء البيع. قَالَ: والسمسرة البيع والشراء. انتهى باختصار 4/ 380 - 381.

وفي هَذَا التفسير تعقب عَلَى منْ فسّر قوله: "لا يبيع حاضر لباد" بأن المراد نهي الحاضر أن يبيع للبادي فِي زمن الغلاء شيئًا يحتاج إليه أهل البلد، وهو مذكور فِي كتب الحنفيّة. أفاده فِي "الفتح" 5/ 110.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -18/ 4502 - وفي "الكبرى" 17/ 6091. وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 2158 و2163 و"الإجارة" 2274 (م) فِي "البيوع" 1521 (د) فِي "البيوع" 3439 (ق) فِي "التجارات" 2177 (أحمد) فِي "مسند بني هاشم" 3472. وفوائد الْحَدِيث تقدّمت. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4503 -

(أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ الْقُرْدُوسِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ سِيرِينَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَلَقُّوا الْجَلَبَ، فَمَنْ تَلَقَّاهُ، فَاشْتَرَى مِنْهُ، فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ السُّوقَ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الإسناد إلى ابن جريج، سبق فِي الباب الماضي. و"هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ الْقُرْدُوسِيُّ": هو الأزدي، أبو عبد الله البصريّ، ثقة، منْ أثبت النَّاس فِي ابن سيرين، وفي روايته عن الحسن، وعطاء مقالٌ؛ لأنه قيل: كَانَ يرسل عنهما [6] 188/ 300.

[تنبيه]: "القردوسيّ": بضم القاف والدال، وإسكان الراء بينهما: منسوب إلى

ص: 217

القراديس، قبيلة معروفة. قاله النوويّ فِي "شرح مسلم" 10/ 403.

وقوله: "فإذا أتى سيده السوق، فهو بالخيار": المراد بالسيّد: هو الجالب. قَالَ النوويّ: قَالَ أصحابنا: لا خيار للبائع قبل أن يَقدَم، ويَعلَم السعر، فإذا قَدِم، فإن كَانَ الشراء بأرخص منْ سعر البلد، ثبت له الخيار، سواء أخبر الْمُتَلَقّي بالسعر كاذبًا، أم لم يخبر، وإن كَانَ الشراء بسعر البلد، أو أكثر فوجهان: الأصح لا خيار له؛ لعدم الغبن، والثانى ثبوته؛ لإطلاق الْحَدِيث. والله أعلم. انتهى. "شرح مسلم" 10/ 403. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -18/ 4503 - وفي "الكبرى" 17/ 6092. وأخرجه (م) فِي "البيوع" 3802. وبقية المسائل تقدّمت. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌19 - (سَوْمِ الرَّجُلِ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ)

4504 -

(حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَبِيعَنَّ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا يُسَاوِمِ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، وَلَا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَلَا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا، لِتَكْتَفِىءَ مَا فِي إِنَائِهَا، وَلِتُنْكَحَ، فَإِنَّمَا لَهَا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

و"إسماعيل": هو ابن عليّة.

وقوله: "ولا تسأل المرأة طلاق أختها": أي لا تطلب المرأة المخطوبة أن يطلّق الخاطب امرأته الموجودة فِي بيته، يعني أنه لا تقول: لا أقبل النكاح، ولا أرضى به إلا بطلاقك زوجتك التي معك.

ص: 218

وقوله: "لتكفىء" بالبناء للفاعل، افتعال منْ كفأ بالهمزة: أي لتكبّ ما فِي إنائها منْ الخير، وهو علّة للسؤال، والمراد أنها لا تسأل طلاقها لتصرف به ما لها منْ النفقة، والكسوة منْ الزوج عنها إليها.

وقوله: "ولتُنكح" بالباء للمفعول، وهو منصوب بالعطف عَلَى "تكفىءَ"، وَقَدْ تقدّم بيان ما يتعلّق به، وبالخطبة عَلَى خِطبة أخيه، مستوفًى فِي "كتاب النكاح"، فراجعه تستفد.

والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي "كتاب النكاح" 20/ 3240 - وتقدّم شرحه، وبيان مسائله، فما بقي إلا أن أتكلّم عَلَى ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو السوم عَلَى سوم أخيه، فأقول:

(مسألة): فِي أقوال أهل العلم فِي معنى السوم عَلَى سوم أخيه، وحكمه:

قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: ما حاصله: معنى "سوم الرجل عَلَى سوم أخيه"، هو أن يكون، قد اتفق مالك السلعة، والراغب فيها عَلَى البيع، ولم يعقداه، فيقول الآخر للبائع: أنا أشتريه، وهذا حرام بعد استقرار الثمن، وأما السوم فِي السلعة التي تباع فيمن يزيد، فليس بحرام. انتهى "شرح مسلم" 10/ 398.

وَقَالَ فِي "الفتح": قَالَ العلماء: البيع عَلَى البيع حرام، وكذلك الشراء عَلَى الشراء، وهو أن يقول لمن اشترى سلعة، فِي زمن الخيار: افسَخْ لأبيعك بأنقص، أو يقول للبائع: افسخ لأشتري منك بأزيد، وهو مجمع عليه.

وأما السوم، فصورته أن يأخذ شيئًا لشتريه، فيقول له: رُدّه لأبيعك خيرا منه بثمنه، أو مثله بأرخص، أو يقول للمالك: استَرِدَّه لأشتريه منك بأكثر، ومحله بعد استقرار الثمن، وركون أحدهما إلى الآخر، فإن كَانَ ذلك صريحا، فلا خلاف فِي التحريم، وإن كَانَ ظاهرا ففيه وجهان للشافعية.

ونقل ابن حزم اشتراط الركون عن مالك، وَقَالَ: إن لفظ الْحَدِيث لا يدل عليه.

وتعقب بأنه لابد منْ أمر مبين لموضع التحريم فِي السوم؛ لأن السوم فِي السلعة التي تباع فيمن يزيد، لا يحرم اتفاقا، كما نقله ابن عبد البرّ، فتعين أن السوم المحرم ما وقع فيه قدر زائد عَلَى ذلك.

وَقَدْ استثنى بعض الشافعيّة، منْ تحريم البيع والسوم عَلَى الآخر، ما إذا لم يكن المشترى مغبونا غبنا فاحشا، وبه قَالَ ابن حزم، واحتج بحديث:"الدينُ النصيحة"، لكن لم تنحصر النصيحة فِي البيع والسوم، فله أن يُعَرّفه أن قيمتها كذا، وأنك إن بعتها بكذا مغبون، منْ غير أن يزيد فيها، فيجمع بذلك بين المصلحتين.

ص: 219

وذهب الجمهور إلى صحة البيع المذكور، مع تأثيم فاعله، وعند المالكية، والحنابلة فِي فساده روايتان، وبه جزم أهل الظاهر. والله أعلم. انتهى ما فِي "الفتح" 5/ 88.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه المالكية، والحنابلة، وأهل الظاهر منْ فساد البيع هو الأرجح؛ لأن النهي للفساد. والله تعالى أعلم.

وَقَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى: ما حاصله: سوم الرجل عَلَى سوم أخيه؛ لا يخلو منْ أربعة أقسام: [أحدها]: أن يوجد منْ البائع تصريح بالرضا بالبيع، فهذا يحرم السوم عَلَى غير ذلك المشتري، وهو الذي تناوله النهي. [الثاني]: أن يظهر منه ما يدل عَلَى عدم الرضا، فلا يحرم السوم؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، باع فيمن يزيد، كما سيأتي حديث أنس رضي الله عنه بعد بابين، إن شاء الله تعالى، قَالَ: وهذا أيضًا إجماع المسلمين، يبيعون فِي أسواقهم بالمزايدة. [الثالث]: أن لا يوجد منه ما يدل عَلَى الرضا، ولا عَلَى عدمه، فلا يجوز له السوم أيضًا، ولا الزيادة؛ استدلالًا بحديث فاطمة بنت قيس، حين ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم، أن معاوية، وأبا جهم خطباها، فأمرها أن تنكح أسامة، وَقَدْ نهى عن الخطبة عَلَى خطبة أخيه، كما نهى عن السوم عَلَى سوم أخيه، فما أبيح فِي أحدهما، أبيح فِي الآخر.

[الرابع]: أن يظهر منه ما يدل عَلَى الرضا، منْ غير تصريح، فَقَالَ القاضي: لا تحرم المساومة، وذكر أن أحمد نص عليه فِي الخِطبة، استدلالا بحديث فاطمة، ولأن الأصل إباحة السوم، والخطبة، فحرم منع ما وجد فيه التصريح بالرضا، وما عداه يبقى عَلَى الأصل، ولو قيل بالتحريم هاهنا: لكان وجهًا حسنًا، فإن النهي عامّ، خرجت منه الصور المخصوصة بأدلتها، فتبقى هذه الصورة عَلَى مقتضى العموم، ولأنه وجد منه دليل الرضا، فأشبه ما لو صرح به، ولا يضر اختلاف الدليل بعد التساوي فِي الدلالة، وليس فِي حديث فاطمة ما يدل عَلَى الرضا؛ لأنها جاءت مستشيرة للنبي صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك دليلًا عَلَى الرضا، فكيف ترضى، وَقَدْ نهاها النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"لا تفوتينا بنفسك"، فلم تكن تفعل شيئًا، قبل مراجعة النبيّ صلى الله عليه وسلم، والحكم فِي الفساد كالحكم فِي البيع عَلَى بيع أخيه، فِي الموضع الذي حكمنا بالتحريم فيه. انتهى "المغني" 6/ 306 - 308. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 220

‌20 - (بَيْعِ الرَّجُلِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ)

4505 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَبِيعُ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

والسند منْ رباعيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (217) منْ رباعيات الكتاب، وهو منْ أصحّ أسانيد ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.

وقوله: "لا يبيع""لا" نافيه، والفعل مرفوع، والمراد منْ النفي النهي، وهو أبلغ، كما تقدّم غير مرّة.

والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم تخريجه فِي "كتاب النكاح" 20/ 3238، وبقي هنا الكلام عَلَى ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وفيه مسائل:

(مسألة): فِي أقوال أهل العلم فِي معنى بيع الرجل عَلَى بيع أخيه، وحكمه:

قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: ما حاصله: معنى "بيع الرجل عَلَى بيع أخيه": هو أن يقول لمن اشترى شيئًا فِي مدة الخيار: افسَخْ هَذَا البيع، وأنا أبيعك مثله، بأرخصَ منْ ثمنه، أو أجود منه بثمنه، ونحو ذلك، وهذا حرام، ويحرم أيضًا الشراء عَلَى شراء أخيه، وهو أن يقول للبائع، فِي مدة الخيار: افسخ هَذَا البيع، وأنا أشتريه منك، بأكثر منْ هَذَا الثمن، ونحو هَذَا.

قَالَ: وأجمع العلماء عَلَى منع البيع عَلَى بيع أخيه، والشراء عَلَى شرائه، والسوم عَلَى سومه، فلو خالف، وعَقَد فهو عاص، وينعقد البيع، هَذَا مذهب الشافعيّ، وأبي حنيفة وآخرين. وَقَالَ داود: لا ينعقد، وعن مالك روايتان، كالمذهبين، وجمهورهم عَلَى إباحة البيع والشراء، فيمن يزيد، وَقَالَ الشافعيّ: وكرهه بعض السلف. انتهى "شرح مسلم" 10/ 398.

وَقَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يبع بعضكم عَلَى بيع بعض": أن الرجلين إذا تبايعا، فجاء آخر إلى المشتري فِي مدة الخيار، فَقَالَ: أنا أبيعك مثل هذه السلعة، دون هَذَا الثمن، أو أبيعك خيرا منها بثمنها، أو دونه، أو عرض عليه سلعة، رغب فيها المشتري، ففسخ البيع، واشترى هذه، فهذا غير جائز؛ لنهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه، ولما فيه منْ الإضرار بالمسلم، والإفساد عليه، وكذلك إن اشترى عَلَى شراء أخيه، وهو أن يجيء

ص: 221

إلى البائع، قبل لزوم العقد، فيدفع فِي المبيع أكثر منْ الثمن، الذي اشتُري به، فهو محرّم أيضًا؛ لأنه فِي معنى المنهي عنه، ولأن الشراء يسمى بيعا، فيدخل فِي النهي، ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، نهى أن يخطب عَلَى خطبة أخيه، وهو فِي معنى الخاطب.

فإن خالف، وعقد فالبيع باطل؛ لأنه منهي عنه، والنهي يقتضي الفساد. ويحتمل أنه صحيح؛ لأن المحرم هو عرض سلعته عَلَى المشتري، أو قوله الذي فَسَخَ البيع منْ أجله، وذلك سابق عَلَى البيع، ولأنه إذا صح الفسخ الذي حصل به الضرر، فالبيع المحصل للمصلحة أولى، ولأن النهي لحق آدمي، فأشبه بيع النجش، وهذا مذهب الشافعيّ. انتهى "المغني" 6/ 305 - 306.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الأرجح هو القول ببطلان البيع؛ لأن النهي يقتضي الفساد، إلا إذا صرفه صارف إلى غيره، كبيع المصرّاة، وتلقّي الجلب، عَلَى ما تقدّم بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): قَالَ القاضي ابن كجّ منْ الشافعيّة: تحريم البيع عَلَى بيع أخيه أن لا يكون المشتري مغبونًا غبنًا مُفْرطًا، فإن كَانَ فله أن يُعرّفه، ويبيع عَلَى بيعه؛ لأنه ضرب منْ النصيحة. قَالَ النوويّ: هَذَا الشرط انفرد به ابن كجّ، وهو خلاف ظاهر إطلاق الْحَدِيث، والمختار أنه ليس بشرط. والله أعلم. قَالَ وليّ الدين: ووافقه ابن حزم، فَقَالَ: وأما منْ منْ رأى المساوم، أو البائع لا يريد الرجوع إلى القيمة، لكن يريد غبن صاحبه بغير علمه، فهذا فرض عليه نصيحة المسلم، فقد خرج عن هَذَا النهي بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الدين النصيحة". انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله ابن كج، ووافقه عليه ابن حزم هو الذي لا يتّجه عندي غيره. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): محلّ التحريم ما لم يأذن البائع فِي البيع عَلَى بيعه، فإن أذن فِي ذلك ارتفع التحريم عَلَى الصحيح، وَقَدْ ورد التصريح بذلك فيما أخرجه مسلم فِي "صحيحه" منْ طريق عبيد الله، عن نافع:"لا يبيع الرجل عَلَى بيع أخيه، ولا يخطب عَلَى خطبة أخيه، إلا أن يأذن له". قَالَ فِي "الفتح": قوله: "إلا أن يأذن له" يحتمل أن يكون استثناء منْ الحكمين، كما هو قاعدة الشافعيّ. ويحتمل أن يختصّ بالأخير، ويؤيّد الثاني رواية البخاريّ فِي "النكاح" منْ طريق ابن جريج، عن نافع، بلفظ:"نهى أن يبيع الرجل عَلَى بيع أخيه، ولا يخطب الرجل عَلَى خطبة أخيه، حَتَّى يترك الخاطب قبله، أو يأذن له الخاطب"، ومن ثم نشأ خلافٌ للشافعية: هل يختصّ ذلك بالنكاح، أو يلتحق به البيع فِي ذلك؟، والصحيح عدم الفرق. انتهى "الفتح" 5/ 87.

ص: 222

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عدم الفرق هو الذي يظهر لي؛ لأن النهي كَانَ لحقه، فإذا أذن فقد زال المانع، وَقَدْ أخرجه المصنّف فِي الرواية التالية 4506 بلفظ:"لا يبيع الرجل عَلَى بيع أخيه، حَتَّى يبتاع، أو يذر". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): ظاهر قوله: "عَلَى بيع أخيه" اختصاص ذلك بالمسلم، وبه قَالَ الأوزاعيّ، وأبو عبيد بن حربويه، منْ الشافعيّة، وأصرح منْ ذلك رواية مسلم، منْ طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:"لا يسوم المسلم عَلَى سوم المسلم، وَقَالَ الجمهور: لا فرق فِي ذلك بين المسلم والذميّ، وذكر الأخ خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له. أفاده فِي "الفتح" 5/ 88.

وَقَالَ فِي "الطرح" 6/ 71 - بعدما ذكر خلاف أبي عبيد المذكور-: والصحيح خلافه؛ لأن هَذَا خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له. وَقَالَ ابن عبد البرّ: أجمع الفقهاء عَلَى أنه لا يجوز دخول المسلم عَلَى الذميّ فِي سومه، إلا الأوزاعيّ وحده، فإنه قَالَ: لا بأس به. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4506 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَالَ "لَا يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، حَتَّى يَبْتَاعَ، أَوْ يَذَرَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه؛ رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

و"إسحاق": هو ابن راهويه. و"أبو معاوية": هو محمّد بن خازم الضرير. و"عبيد الله": هو ابن عمر العمريّ.

وقوله: "حَتَّى يبتاع": أي يشتري، وهو غاية لما يُفهم أي لينتظر حَتَّى يبتاع، وإلا لا تستقيم الغاية، ثم هذه الغاية تؤيّد القول إن المراد بالبيع المغيّا هو الشراء، والسوم. قاله السنديّ.

قَالَ الجامع: حمل البيع هنا عَلَى الشراء خلاف ما عليه الجمهور، ولا داعي إليه؛ لأنه خلاف ظاهر اللفظ، بل الصواب ما عليه الجمهور، قَالَ فِي "الطرح" 6/ 69 - 70: ذهب ابن حبيب منْ المالكيّة، وأبو عبيدة معمر بن المثنّى، وأبو عبيد القاسم بن سلّام، وأبو زيد الأنصاريّ إلى حمل البيع عَلَى بيع أخيه عَلَى الشراء عَلَى شراء أخيه؛ لأن العرب تقول: بعتُ بمعنى اشتريتُ، قالوا: لأنه لا يبيع أحد عَلَى بيع أحد فِي العادة.

ص: 223

قَالَ وليّ الدين: وما أدري أيّ موجب لصرف اللفظ عن ظاهره، والاستعمال الذي ذكروه فِي تسمية الشراء بيعًا، وإن كَانَ صحيحًا، ولكن عكسه أشهر منه، وَقَدْ ردّ ذلك ابن عبد البرّ، وكون البيع عَلَى البيع لا يغلب وقوعه مردود، وبتقدير ذلك، فهذا لا يقتضي أنه لا يُنهى عنه. انتهى.

وقوله: "أو يذَرَ": أي يترك البيع. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌21 - (النَّجْشُ)

بفتح، فسكون، أو بفتحتين، سيأتي معناه قريبًا.

4507 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "نَهَى عَنِ النَّجْشِ").

هَذَا السند سبق البحث فيه فِي الباب الماضي، وهو (218) منْ رباعيات الكتاب. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "نَهَى عَنِ النَّجْشِ") قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: -بنون مفتوحة، ثم جيم ساكنة، ثم شين معجمة-: هو أن يزيد فِي ثمن السلعة، لا لرغبة فيها، بل ليخدَع غيره، ويَغُرَّه ليزيد، ويشتريها.

وأصل النجش: الاستثارة، ومنه نَجَشت الصيد أَنجُشُه بضم الجيم، نَجْشًا: إذا استثرته، سُمِّي الناجش فِي السلعة ناجشا؛ لأنه يُثير الرغبة فيها، ويرفع ثمنها. وَقَالَ ابن قتيبة: أصل النجش: الْخَتْلُ، وهو الخداع، ومنه قيل للصائدة ناجش؛ لأنه يَختِل الصيد، ويختال له، وكلُّ منْ استثار شيئًا، فهو ناجش. وَقَالَ الهروي: قَالَ أبو بكر: النجش المدح، والإطراء، وعلى هَذَا معنى الْحَدِيث: لا يمدح أحدكم السلعة، ويزيد فِي ثمنها بلا رغبة، والصحيح الأول. انتهى "شرح مسلم" 10/ 399.

وَقَالَ فِي "الفتح" 5/ 90 - بعد ذكر ما تقدّم: ما نصه: ويقع ذلك بمواطاة البائع،

ص: 224

فيشتركان فِي الإثم، ويقع ذلك بغير علم البائع، فيختص بذلك الناجش، وَقَدْ يختص به البائع، كمن يخبر بأنه اشترى سلعة بأكثر، مما اشترها به؛ ليغر غيره بذلك. انتهى.

وَقَالَ وليّ الدين رحمه الله تعالى: فسّره أصحابنا الشافعيّة بأن يزيد فِي ثمن السلعة، لا لرغبة فيها، بل ليخدع غيره، ويغرّه؛ ليزيد، ويشتريها، وكذا فسّره به الحنفيّة، والمالكيّة، والحنابلة، كما رأيته فِي "الهداية"، وكتاب ابن الحاجب، و"المحرّر" لابن تيميّة، وعبارة "الهداية": هو أن يزيد فِي الثمن، ولا يريد الشراء، ليرغّب غيره. وعبارة ابن الحاجب: هو أن يزيد ليغُرّ. وعبارة صاحب "المحرّر": إن النجش مزايدة منْ لا يريد الشراء، تغريرًا له. وقيّد الترمذيّ ذلك فِي "جامعه" بأن تكون الزيادة بأكثر مما يسوى، وكذا قيّده ابن عبد البرّ، وابن العربيّ بأن تكون الزيادة فوق ثمنها، وَقَالَ ابن العربيّ: إنه لو زاد فيها حَتَّى ينتهي إلى قيمتها، فهو مأجور بذلك، وكذا ذكر هَذَا التقييد ابن الرفعة منْ متأخري الشافعيّة. انتهى "طرح" 6/ 6. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -21/ 4507 - وفي "الكبرى" 20/ 6096. وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 2142 و"الحيل" 6963 (م) فِي "البيوع" 3797 (ق) فِي "التجارات" 2173.

[تنبيه]: قَالَ وليّ الدين رحمه الله تعالى: اتّفق عليه الشيخان، والنسائيّ، وابن ماجه منْ طريق مالك، ورواه النسائيّ أيضًا منْ رواية كثير بن فرقد، كلاهما عن نافع، وَقَالَ ابن عبد البرّ: هكذا رواه جماعة أصحاب مالك، وزاد فيه القعنبيّ: قَالَ: وأحسبه قَالَ: "وأن تُتلقّى السِّلَعُ حَتَّى يُهبط بها الأسواق"، ولم يذكر غيره هذه الزيادة. ورواه يعقوب بن إسماعيل بن محمّد، قاضي المدائن، قَالَ: أنا يحيى بن موسى، أنا عبد الله ابن نافع، حدثني مالك، عن نافع، عن ابن عمر:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن التحبير، قَالَ: والتحبير أن يمدح الرجل سلعته بما ليس فيها". قَالَ ابن عبد البرّ: هكذا قَالَ: التحبير، وفسّره، ولم يتابع عَلَى هَذَا اللفظ، وإنما المعروف "النجش". انتهى. "طرح التثريب" 6/ 61.

(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم النجش:

قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: النجش حرام بالإجماع، والبيع صحيح، والإثم

ص: 225

مختص بالناجش، إن لم يعلم به البائع، فإن واطأه عَلَى ذلك، أثما جميعًا، ولا خيار للمشترى، إن لم يكن منْ البائع مواطأة، وكدا إن كانت فِي الأصح؛ لأنه قصر فِي الاغترار، وعن مالك رواية أن البيع باطل، وجعل النهى عنه مقتضيا للفساد. انتهى.

وَقَالَ الإِمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه": "باب النجش، ومن قَالَ: لا يجوز ذلك البيع، وَقَالَ ابن أبي أوفى رضي الله عنه: "الناجش آكل ربًا، خائنٌ" وهو خِداع باطلٌ، لا يحلّ. قَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الخديعة فِي النار"

(1)

، و"منْ عمل عملًا ليس عليه أمرنا، فهو ردّ

(2)

". ثم أورد حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما المذكور فِي الباب.

قَالَ فِي "الفتح": قوله: "ومن قَالَ: لا يجوز ذلك البيع": كأنه يشير إلى ما أخرجه عبد الرزاق، منْ طريق عمر بن عبد العزيز، أن عاملا له، باع سبيا، فَقَالَ له: لولا أني كنت أزيد، فأنفقه لكان كاسدا، فَقَالَ له عمر: هَذَا نجش، لا يحل، فبعث مناديا ينادي أن البيع مردود، وأن البيع لا يحل.

قَالَ ابن بطال: أجمع العلماء عَلَى أن الناجش عاص بفعله، واختلفوا فِي البيع، إذا وقع عَلَى ذلك، ونقل ابن المنذر، عن طائفة منْ أهل الْحَدِيث، فساد ذلك البيع، وهو قول أهل الظاهر، ورواية عن مالك، وهو المشهور عند الحنابلة، إذا كَانَ ذلك بمواطاة البائع، أو صنعه، والمشهور عند المالكية فِي مثل ذلك، ثبوت الخيار، وهو وجه للشافعية، قياسا عَلَى المصراة، والأصح عندهم صحة البيع، مع الإثم، وهو قول الحنفية.

وَقَالَ الرافعي: أطلق الشافعيّ فِي المختصر تعصية الناجش، وشرط فِي تعصية منْ باع عَلَى بيع أخيه، أن يكون عالمًا بالنهي، وأجاب الشارحون، بأن النجش خديعة، وتحريم الخديعة واضح لكل أحد، وإن لم يعلم هَذَا الْحَدِيث بخصوصه، بخلاف البيع عَلَى بيع أخيه، فقد لا يشترك فيه كل أحد.

واستشكل الرافعي الفرق بأن البيع عَلَى بيع أخيه إضرار، والإضرار يشترك فِي علم

(1)

قَالَ فِي "الفتح": رويناه فِي "الكامل" لابن عدي، منْ حديث قيس بن سعد بن عبادة، قَالَ: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المكر والخديعة فِي النار"، لكنت منْ أمكر النَّاس، وإسناده لا بأس به، وأخرجه الطبراني فِي "الصغير" منْ حديث ابن مسعود، والحاكم فِي "المستدرك" منْ حديث أنس، وإسحاق بن راهويه فِي "مسنده" منْ حديث أبي هريرة، وفي إسناد كل منهما مقال، لكن مجموعهما، يدل عَلَى أن للمتن أصلًا، وَقَدْ رواه ابن المبارك فِي "البر والصلة" عن عوف، عن الحسن، قَالَ: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ، فذكره. انتهى "فتح" 5/ 91.

(2)

متَّفقٌ عليه.

ص: 226

تحريمه كل أحد، قَالَ: فالوجه تخصيص المعصية فِي الموضعين بمن علم التحريم. انتهى.

وَقَدْ حكى البيهقي فِي "المعرفة"، و"السنن" عن الشافعيّ تخصيص المعصية فِي النجش أيضًا بمن أعلم النهي، فظهر أن ما قاله الرافعي بحثا منصوص، ولفظ الشافعيّ: النجشُ أن يَحضُر الرجلُ السلعةَ، تُباع، فيُعطِي بها الشيءَ، وهو لا يريد شراءها؛ ليقتدي به السُّوّام، فيعطون بها أكثر مما كانوا يعطون، لو لم يسمعوا سومه، فمن نجش فهو عاص بالنجش، إن كَانَ عالمًا بالنهي، والبيع جائز لا يفسده معصية رجل نجش عليه. انتهى.

قَالَ: وَقَدْ اتفق أكثر العلماء، عَلَى تفسير النجش فِي الشرع بما تقدم، وقيد ابن عبد البرّ، وابن العربي، وابن حزم التحريم، بأن تكون الزيادة المذكورة فوق ثمن المثل، قَالَ ابن العربي: فلو أن رجلًا رأى سلعة رجل، تباع بدون قيمتها، فزاد فيها؛ لتنتهى إلى قيمتها، لم يكن ناجشا عاصيا، بل يؤجر عَلَى ذلك بنيته، وَقَدْ وافقه عَلَى ذلك بعض المتأخرين منْ الشافعيّة، وفيه نظر؛ إذ لم تتعين النصيحة فِي أن يُوهم أنه يريد الشراء، وليس منْ غرضه، بل غرضه أن يزيد عَلَى منْ يريد الشراء، أكثر مما يريد أن يشتري به، فللذى يريد النصيحة مندوحة عن ذلك، بأن يُعلم البائع بأن قيمة سلعتك أكثر منْ ذلك، ثم هو باختياره بعد ذلك. ويحتمل أن لا يتعين عليه إعلامه بذلك حَتَّى يسأله؛ لحديث:"دعو النَّاس يرزق الله بعضهم منْ بعض، فإذا استَنصَحَ أحدكم أخاه، فلينصحه"، رواه مسلم. والله أعلم. انتهى "الفتح" 5/ 90 - 91.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول ببطلان البيع بالنجش كما هو ظاهر مذهب البخاريّ، وجماعة منْ أهل الْحَدِيث، وأهل الظاهر، هو الأظهر؛ لظاهر النهي؛ إذ هو يقتضي الفساد، إلا لصارف، كما فِي بيع المصرّاة، وتلقي الجلب، كما سبق، ولم يوجد فِي نهي النجش صارف، فتنبصّر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4508 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ شُعَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "لَا يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا يَزِيدُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ الأُخْرَى، لِتَكْتَفِىءَ مَا فِي إِنَائِهَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح.

و"محمّد بن يحيى": هو الذهليّ الحافظ النيسابوريّ. و"شعيب": هو ابن أبي حمزة

ص: 227

الحمصيّ.

وقوله: "ولا تناجشوا" بحذف إحدى التاءين، وأصله: ولا تتناجشوا، وذكره بصيغة التفاعل؛ لأن التاجر إذا فعل لصاحبه ذلك، كَانَ بصدد أن يفعل له مثله. قاله فِي "الفتح".

والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق شرحه، وبيان مسائله فِي "كتاب النكاح" 20/ 3240. فما بقي هنا إلا ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وَقَدْ سبق فِي الْحَدِيث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4509 -

(حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا يَزِيدُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا؛ لِتَسْتَكْفِىءَ بِهِ مَا فِي صَحْفَتِهَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"يزيد": هو ابن زُريع.

وقوله: "لتستكفىء" السين، والتاء زائدان، أي لتكفىء، وتقلب. وقوله:"ما فِي "صحفتها" -بفتح الصاد، وسكون الحاء المهملتين-: إناء، كالقَصْعة، والجمع صِحَاف، مثلُ كلبة وكِلاب، وَقَالَ الزمخشريّ: الصَّحْفَة: قصعة مستطيلة. قاله الفيّوميّ. وهو بمعنى قوله فِي الرواية السابقة: "ما فِي إنائها"، وهو كناية عن صرف ما لها عند الزوج منْ الحظوة، والكرامة عنها إليها.

والحديث متَّفقٌ عليه، كما سبق بيانه فِي الْحَدِيث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌22 - (الْبَيْعِ فِيمَنْ يَزِيدُ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: يحتمل أن تكون "فِي" بمعنى "منْ"، ويحتمل أن تكون بمعنى اللام. والله تعالى أعلم بالصواب.

ص: 228

4510 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، وَعِيسَى بْنُ يُونُسَ، قَالَا: حَدَّثَنَا الأَخْضَرُ بْنُ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْحَنَفِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَاعَ قَدَحًا، وَحِلْسًا فِيمَنْ يَزِيدُ").

رجال هَذَا الإسناد. ستة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) الحنظليّ ابن راهويه المروزيّ، ثقة ثبت [10] 2/ 2.

(2)

(المعتمر) بن سليمان بن طرخان التيميّ، أبو محمّد البصريّ، ثقة، منْ كبار [9] 10/ 10.

3 -

(عيسى بن يونس) بن أبي إسحاق السبيعيّ الكوفيّ، نزل الشام مرابطاً، وهو أخو إسرائيل، ثقة مأمون [8] 8/ 8.

4 -

(الأخضر بن عجلان) الشيبانيّ البصريّ، صدوقٌ [4].

قَالَ ابن معين: صالح. وَقَالَ مرّة: ليس به بأس. وَقَالَ أبو حاتم: يُكتب حديثه. وَقَالَ النسائيّ: ثقة. وَقَالَ الأزديّ: ضعيف، لا يصحّ يعني حديثه. وفي "العلل الكبير" للترمذيّ: قَالَ البخاريّ: أخضر ثقة. وذكره ابن حبّان، وابن شاهين فِي "الثقات". روى له الأربعة، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب حديث الباب فقط.

5 -

(أبي بكر الحنفيّ) عبد الله البصريّ، لا يعرف حاله [4].

روى عن أنس هَذَا الْحَدِيث فقط، وعنه الأخضر بن عجلان، رواه الأربعة، وحسّنه الترمذيّ، وَقَالَ البخاريّ: لا يصحّ حديثه. وَقَالَ ابن القطّان الفاسيّ: عدالته لم تثبت، فحاله مجهولة.

6 -

(أنس بن مالك) الأنصاريّ الخادم رضي الله تعالى عنه 6/ 6. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله تعالى عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بَاعَ قَدَحًا) -بفتحتين-: آنية معروفة، والجمع أَقداح، مثلُ سبب وأسباب. قاله الفيّوميّ. وفي "اللسان": الْقَدَح منْ الآنية -بالتحريك- واحد الأقداح التي للشرب، معروف، قَالَ أبو عبيد: يُروي الرجلين، وليس لذلك وقتٌ، وقيل: هو اسمٌ يجمع صغارها، وكبارها، والجمع: أقداح، ومتّخِذها قَدّاح، وصِناعَتُهُ: القِدَاحة. انتهى. (وَحِلْسًا) -بكسر الحاء المهملة، وسكون اللام، أو بفتحتين-: قَالَ فِي "القاموس": الْحِلْسُ بالكسر: كساء

ص: 229

عَلَى ظهر البعير، تحت الْبَرْذَعَة، ويُبسَط فِي البيت تحت حُرِّ الثياب، ويُحَرَّك، جمعه أحلاسٌ، وحُلُوسٌ، وحِلَسَةٌ. انتهى. وَقَالَ فِي "اللسان": الْحِلْسُ، والْحَلَسُ، مثلُ شِبْهٍ، وشَبَهِ، ومِثْلٍ، ومَثَلٍ: كلُّ شيء وَلِيَ ظهر البعير، والدابّة، تحت الرحل، والْقَتَبِ، والسَّرْجِ، وهي بمنزلة الْمِرْشَحَة، تكون تحت اللِّنْد. وقيل: هو كساء رقيقٌ يكون تحت الْبَرْذَعَةِ، والجمع أَحْلاس، وحُلُس. قَالَ: وحِلْسُ البيت: ما يُبسط تحت حُرِّ المتاع، منْ مِسْحٍ ونحوه، والجمع أحلاس. وَقَالَ ابن الأعرابيّ: يقال لبساط البيت: الْحِلْسُ، ولِحُصُرِه: الْفُحُول. انتهى.

(فِيمَنْ يَزِيدُ) الظاهر أن فِي بمعنى "منْ". قاله السنديّ.

وهذا الْحَدِيث فيه قصّة، وَقَدْ ساقها أبو داود رحمه الله تعالى فِي "سننه"، فَقَالَ:

1641 -

حدثنا عبد الله بن مسلمة، أخبرنا عيسى بن يونس، عن الأخضر بن عجلان، عن أبي بكر الحنفي، عن أنس بن مالك، أن رجلًا منْ الأنصار، أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم يسأله، فَقَالَ:"أما فِي بيتك شيء؟ "، قَالَ: بلى، حِلْسٌ نلبس بعضه، ونبسط بعضه، وقَعْبٌ

(1)

، نشرب فيه منْ الماء، قَالَ:"ائتني بهما"، قَالَ: فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وَقَالَ:"منْ يشتري هذين؟ "، قَالَ رجل: أنا آخذهما بدرهم، قَالَ:"منْ يزيد عَلَى درهم؟ " مرتين، أو ثلاثًا، قَالَ رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاريّ، وَقَالَ:"اشتر بأحدهما طعاما، فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قَدُّوما، فأتني به"، فأتاه به، فَشَدَّ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عُودا بيده، ثم قَالَ له:"اذهب، فاحتطب، وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوما"، فذهب الرجل يحتطب، ويبيع، فجاء، وَقَدْ أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبا، وببعضها طعاما، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَذَا خير لك، منْ أن تجيء المسألة، نكتة فِي وجهك، يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح، إلا لثلاثة: لذي فَقْر مُدْقِع

(2)

، أو لذي غُرْم مُفْظِع

(3)

، أو لذي دم مُوجِع"

(4)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

بفتح، فسكون: القَدَح منْ خشب.

(2)

بضم الميم، وسكون الدال: أي شديد يفضي إلى الدقعاء: أي التراب.

(3)

بضم الغين، وسكون الراء: أي دين و"مفظع" اسم فاعل منْ أفظع الأمر: اشتدّ.

(4)

اسم فاعل منْ أوجع، والمراد أن يحمل دينا فِي حقن الدماء، وإصلاح ذات البين.

ص: 230

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه هَذَا ضعيف؛ لجهالة أبي بكر الحنفيّ.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -22/ 4510 - وفي "الكبرى" 21/ 6099. وأخرجه (د) فِي "الزكاة" 1641 (ت) فِي "البيوع" 1218 (ق) فِي "التجارات" 2198 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 11557. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): أنّ المصنّف رحمه الله تعالى استدلّ به عَلَى جواز البيع لمن يزيد، وأنه لا يكون منْ باب بيع عَلَى بيع أخيه؛ لكن الْحَدِيث ضعيف، كما مرّ آنفاً، إلا أن ابن قُدامة رحمه الله تعالى ذكر فِي "المغني" 6/ 307 أنه إجماع المسلمين، يبيعون فِي أسواقهم بالمزايدة. انتهى، فإن صحّ هَذَا الإجماع، فهو الحجة فِي المسألة، فافهم. والله تعالى أعلم.

(ومنها): ما قاله الحافظ العراقيّ رحمه الله تعالى: يُستدلّ به عَلَى بيع الحاكم عَلَى المعسر، ولكن لم يُنقل هنا أنه كَانَ عليه دين، حَتَّى يبيع الحاكم عليه، وَقَدْ يقال: كانت نفقة أهله واجبة عليه، فهي كالدين، وأراد الاكتساب بالسؤال، فكره له النبيّ صلى الله عليه وسلم السؤال، مع القدرة عَلَى الكسب، فباع عليه بعض ما يملكه، واشترى له به آلة يكتسب بها، وَقَدْ يقال: هَذَا تصرّفٌ فِي ماله برضاه، مع أن النبيّ صلى الله عليه وسلم يجوز له التصرّف فِي أموال أمّته بما شاء، فتصرّف له عَلَى وجه المصلحة. والله أعلم. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا كلّه مبنيّ عَلَى صحة الْحَدِيث، وَقَدْ عرفت ما فيه. فتأمّل. والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): أخرج الدارقطنيّ رحمه الله تعالى فِي "سننه" منْ رواية عبد الله بن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر، قَالَ:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المزايدة، ولا يبع أحدكم عَلَى بيع أخيه، إلا الغنائم، والمواريث"، ومن رواية عمر بن مالك، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن زيد بن أسلم، قَالَ: سمعت رجلًا، يقال له: شهر، كَانَ تاجرًا، وهر يسأل عبد الله بن عمر، عن بيع المزايدة؟ فَقَالَ:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع أحدكم عَلَى بيع أحد، حَتَّى يذر، إلا الغنائم، والمواريث"، ومن طريق الواقديّ، عن أسامة بن زيد الليثيّ، عن عبيد الله بن أبي

ص: 231

جعفر به مثله.

قَالَ وليّ الدين: عبد الله بن لهيعة ضعيف عند الأكثر، وعمر بن مالك هو الشرعبيّ، موثّق، وأخرج له مسلم، والواقديّ ضعيف عند المحدّثين، وأسامة بن زيد مختلف فيه، فالإسناد الثاني منْ أسانيد الدارقطنيّ هذه لا بأس به

(1)

.

قَالَ: تقدّم الكلام عَلَى البيع عَلَى بيع أخيه، وفي رواية الدارقطنيّ استثناء الغنائم، والمواريث، ومقتضاها جواز البيع عَلَى البيع فيهما خاصة. وحكى الترمذيّ فِي "جامعه" عن أهل العلم أنهم لم يروا بأسًا ببيع منْ يزيد فِي الغنائم، والمواريث. وَقَالَ القاضي أبو بكر ابن العربيّ: الباب واحد، والمعنى مشترك، لا يختصّ به غنيمة، ولا ميراث. وَقَالَ العراقيّ: فِي "شرح الترمذيّ": وإنما قيّد ذلك بالغنيمة، والميراث، تبعًا للحديث الوارد فِي ذلك، فأورد هَذَا الْحَدِيث، ثم قَالَ: والظاهر أن الْحَدِيث خرج عَلَى الغالب، وعلى ما كانوا يعتادون البيع فيه مزايدة، وهي الغنائم، والمواريث، فإن وقع البيع فِي غيرهما مزايدة، فالمعنى واحد، كما قَالَ ابن العربي.

قَالَ وليّ الدين: وَقَدْ يكون الميراث لواحد، أو لجماعة، ويتفقون عَلَى بيعه لشخص بثمن معيّن، منْ غير طلب زيادة، فلا تجوز الزيادة حينئذ، وكذلك فِي الغنيمة، فظهر أن هَذَا الاستثناء لا يصحّ التمسّك به فِي جميع الصور، لا عكسًا، ولا طرادًا، وإنما خرج عَلَى الغالب. والله أعلم. انتهى. "طرح التثريب" 6/ 107. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌23 - (بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ)

4511 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، وَأَبِى الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "نَهَى عَنِ الْمُلَامَسَةِ، وَالْمُنَابَذَةِ").

(1)

وفي "الطرح": "لا يأمن به". والظاهر أنه تصحيف.

ص: 232

رجال هَذَا الإسناد: ثمانية:

1 -

(محمّد بن سلمة) المرادي الجملي، أبو الحارث المصريّ، ثقة ثبت [11] 19/ 20.

2 -

(الحارث بن مسكين) بن محمّد القاضي المصريّ، ثقة فقيه [10] 9/ 9.

3 -

(ابن القاسم) عبد الرحمن العُتَقيّ المصريّ الفقيه، ثقة، منْ كبار [10] 19/ 20.

4 -

(مالك) بن أنس الإِمام المدنيّ، ثقة ثبت حجة [7] 7/ 7.

5 -

(محمّد بن يحيى بن حَبّان) الأنصاريّ المدنيّ، ثقة فقيه [4] 22/ 23.

6 -

(أبو الزناد) عبد الله بن ذكوان المدنيّ الفقيه، ثقة [5] 17/ 18.

7 -

(الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز المدنيّ، ثقة ثبت [3] 17/ 18.

8 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه الحارث، فقد تفرد به هو وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بثقات المدنيين منْ مالك، ومن قبله مصريون. (ومنها): أن فيه رواية تابعيين عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة أكثر منْ روى الْحَدِيث فِي دهره. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "نَهَى عَنِ الْمُلَامَسَةِ) مفاعلة، مصدر لامس، ولا يكون إلا بين اثنين، وأصلها منْ لمس الشيء باليد، وسيأتي تفسيره فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى، والمراد أن يُجعل العقد لمس المبيع، ويكون ذلك قاطعًا للخيار عند البيع، أو قاطعا للخيار بعد البيع، أو قاطعًا لكل خيار، أقوال (وَالْمُنَابَذَةِ) مفاعلة، فهو مصدر نابذ، منْ النبذ، وهو الرمي، وسيأتي تفسيره بعد بابين، والمراد أن يُجعل العقد نبذ المبيع، كسابقه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -23/ 4510 و26/ 4515 و4519 - وفي "الكبرى" 22/ 6100 و25/

ص: 233

6105 و6108. وأخرجه (خ) فِي "الصلاة" 2685 و"البيوع" 2145 و2146 و"اللباس" 5821 (م) فِي "البيوع" 1511 (ت) فِي "البيوع" 1310 (ق) فِي "التجارات" 2169 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 27619 و27245 و9813 و9868 و10064 "الموطأ" فِي "البيوع" 1371.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان تحريم بيع الملامسة، لما فيها منْ الغرر. (ومنها): تحريم بيع المنابذة؛ لما ذُكر. (ومنها): حرص الشارع عَلَى إبعاد ما يكون سببًا للمنافرة، والمشاحنة، منْ التعامل التي كانت بين النَّاس، فِي أيام الجاهلية، ومنها بيع الملامسة، والمنابذة، وبيع الحصاة، وكلّ بيع يؤدّي إلى الغرر، حَتَّى لا يكون بين المسلمين ما كَانَ فِي أهل الجاهلية، منْ التدابر، والتقاطع، والتخاذل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌24 - (تَفْسِيرِ ذَلِكَ)

4512 -

(أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "نَهَى عَنِ الْمُلَامَسَةِ، لَمْسِ الثَّوْبِ، لَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَعَنِ الْمُنَابَذَةِ، وَهِيَ طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ، إِلَى الرَّجُلِ بِالْبَيْعِ، قَبْلَ أَنْ يُقَلِّبَهُ، أَوْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ").

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ) الجوزجانيّ، نزيل دمشق، ثقة حافظ رمي بالنصب [11] 122/ 174.

2 -

(عبد الله بن يوسف) التنّيسيّ، أبو محمّد الكلاعيّ، دمشقيّ الأصل، ثقة متقن، منْ أثبت النَّاس فِي "الموطإ"، منْ كبار [10] 17/ 1540.

3 -

(الليث) بن سعد الإِمام المصريّ الحجة الثبت [7] 31/ 35.

ص: 234

4 -

(عُقيل) -بالضم- بن خالد بن عقيل -بالفتح- الأمويّ مولاهم، أبو خالد الأيليّ، سكن المدينة، ثم الشام، ثم مصر، ثقة ثبت [6] 125/ 187.

5 -

(ابن شهاب) محمّد بن مسلم الزهريّ المدنيّ الإِمام الحجة الثبت [4] 1/ 1.

6 -

(عامر بن سعد بن أبي وقّاص) الزهريّ المدنيّ، ثقة [3] 38/ 679.

7 -

(أبو سعيد الخدريّ) سعد بن مالك بن سنان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما 169/ 262. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو وأبو داود، والترمذيّ. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين منْ ابن شهاب، والباقون مصريون، غير شيخه، فدمشقيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سعيد منْ المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.

والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) سعد بن مالك رضي الله تعالى عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "نَهَى عَنِ الْمُلَامَسَةِ، لَمْسِ الثَّوْبِ) بالجرّ بدل مما قبله، أو بالرفع خبر لمحذوف: أي هو لمس الثوب، ويؤيّد هَذَا قوله الآتي:"وهو طرح الرجل"، ويحتمل النصب عَلَى أنه مفعول لفعل مقدّر: أي يعني (لا يَنْظُرُ إِلَيْهِ) يعني أنه لا يرى باطن الثوب بعينيه، حَتَّى يعلم ما فيه منْ العيب، وإنما يكون تمام العقد بمجرّد لمسه بيده (وَعَنِ الْمُنَابَذَةِ، وَهِيَ طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ، إِلَى الرَّجُلِ بِالْبَيْعِ) أي بسبب بيعه له (قَبْلَ أَنْ يُقَلِّبَهُ) يحتمل أن يكون بفتح أوله، وتخفيف اللام، منْ القلب، منْ باب ضرب، ويحتمل أن يكون بتشديد اللام، منْ التقليب (أَوْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ) الظاهر أن "أو" للشك منْ الراوي. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي بعد باب: منْ رواية ابن المسيب، عنه:"وَالْمُلَامَسَةُ أَنْ يَتَبَايَعَ الرَّجُلَانِ بِالثَّوْبَيْنِ، تَحْتَ اللَّيْلِ، يَلْمِسُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمَا ثَوْبَ صَاحِبِهِ بِيَدِهِ، وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَنْبِذَ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ الثَّوْبَ، وَيَنْبُذَ الآخَرُ إِلَيْهِ الثَّوْبَ، فَيَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ".

وفي رواية حفص بن عاصم، عنه: "وزعم أَنّ الملامسة أن يقول الرجل للرجل: أبيعك ثوبي بثوبك، ولا ينظر واحد منهما إلى ثوب الآخر، ولكن يَلْمُسُه لمسا، والمنابذة أن يقول: أنبِذُ ما معي، وتَنبِذُ ما معك، ليشتري كل واحد منهما منْ الآخر، ولا يَدرِي كل واحد منهما، كم مع الآخر؟، ونحو منْ هَذَا الوصف.

ص: 235

قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: وهذا التفسير الذي فِي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أقعد بلفظ الملامسة والمنابذة؛ لأنها مفاعلة، فتستدعي وجود الفعل منْ الجانبين.

واختلف العلماء فِي تفسير الملامسة، عَلَى ثلاث صور: وهي أوجه للشافعية، [أصحها]: أن يأتي بثوب مَطْوِيّ، أو فِي ظلمة، فيَلمِسَهُ المستام، فيقول له صاحب الثوب: بعتكه بكذا، بشرط أن يقوم لَمْسُك مقام نظرك، ولا خيار لك، إذا رأيته، وهذا موافق للتفسيرين اللذين فِي الْحَدِيث. [الثاني]: أن يجعلا نفس اللمس بيعا، بغير صيغة زائدة. [الثالث]: أن يجعلا اللمس شرطا فِي قطع خيار المجلس وغيره، والبيعُ عَلَى التأويلات كلها باطل، ومأخذ الأول عدم شرط رؤية المبيع، واشتراط نفي الخيار، ومأخذ الثاني اشتراط نفى الصيغة، فِي عقد البيع، فيؤخذ منه بطلان بيع المعاطاة مطلقا، لكن منْ أجاز المعاطاة قيدها بالمحقرات، أو بما جرت فيه العادة بالمعاطاة، وأما الملامسة، والمنابذة عند منْ يستعملهما، فلا يخصهما بذلك، فعلى هَذَا يجتمع بيع المعاطاة مع الملامسة والمنابذة، فِي بيع صور المعاطاة، فلمن يجيز بيع المعاطاة أن يخص النهي فِي بعض صور الملامسة والمنابذة، عما جرت العادة فيه بالمعاطاة، وعلى هَذَا يُحمل قول الرافعي: إن الأئمة أجروا فِي بيع الملامسة والمنابذة الخلاف الذي فِي المعاطاة. والله أعلم.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدّم فِي أوائل البيوع أن اشتراط الصيغة فِي العقد، قول لا يؤيده دليلٌ، فلا يُلتفت إليه، ثم إن تفسير الملامسة بهذا التفسير الثاني غير صحيح؛ لأنه بعيد عن التفسير المذكور فِي الْحَدِيث، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

قَالَ: ومأخذ الثالث شرط نفي خيار المجلس، وهذه الأقوال، هي التي اقتصر عليها الفقهاء، ويخرج مما ذكرناه منْ طريق الْحَدِيث زيادة عَلَى ذلك.

وأما المنابذة، فاختلفوا فيها أيضًا عَلَى ثلاثة أقوال، وهي أوجه للشافعية:[أصحها]: أن يجعلا نفس النبذ بيعا، كما تقدم فِي الملامسة، وهو الموافق للتفسير فِي الْحَدِيث المذكور. [والثاني]: أن يجعلا النبذ بيعا بغير صيغة.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد عرفت ما فيه فيما ذكرته آنفاً.

[والثالث]: أن يجعلا النبذ قاطعا للخيار، واختلفوا فِي تفسير النبذ، فقيل: هو طرح الثوب، كما وقع تفسيره فِي الْحَدِيث المذكور. وقيل: هو نبذ الحصاة، والصحيح أنه غيره، وَقَدْ روى مسلم النهي عن بيع الحصاة، منْ حديث أبي هريرة.

قَالَ الجامع: وسيأتي للمصنّف بعد بابين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 236

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -24/ 4512 و25/ 4513 و4514 و26/ 4516 و4517 - وفي "الكبرى" 23/ 6101 و24/ 6102 و25/ 6103/ 6105 و6106. وأخرجه (خ) فِي "الصلاة" 367 و"الصوم" 1992 و"البيوع" 2144 و2147 و"اللباس" 5820 و5822 و"الاستئذان" 6284 (م) فِي "البيوع" 1512 (د) فِي "البيوع" 3377 (ق) فِي "التجارات" 2170 و"اللباس" 2559 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 10639 و10710 و11029 و11237 و11489 و2449.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان تفسير الملامسة. (ومنها): ما قيل: أنه يُستدلّ بقوله: "لمس الثوب، لا ينظر إليه" عَلَى بطلان بيع الغائب، وهو قول الشافعيّ فِي الجديد، وعن أبي حنيفة يصح مطلقا، ويثبت الخيار إذا رآه، وحُكي عن مالك، والشافعي أيضًا، وعن مالك يصح إن وصفه، وإلا فلا، وهو قول الشافعيّ فِي القديم، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وأهل الظاهر، واختاره البغوي، والروياني منْ الشافعيّة، وإن اختلفوا فِي تفاصيله، ويؤيده قوله، فِي رواية أبي عوانة، التي قدمتها، لا ينظرون إليها، ولا يخبرون عنها، وفي الاستدلال لذلك وفاقا، وخلافا طول. قاله فِي "الفتح".

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الاستدلال بهذا الْحَدِيث عَلَى بطلان بيع الغائب فيه نظر لا يخفى، فإن الغائب يعلم بالوصف، فإن لم يتّفق مع الوصف يكون له الخيار، بخلاف الملامسة، فإنه لا يُخبره بما فيه، ولا يأذن له أن ينظر بنفسه، قَالَ الإِمام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى فِي "شرح العمدة"، لما ذكر الاستدلال به عَلَى بطلان بيع الغائب: ومن يشترط الوصف فِي بيع الأعيان الغائبة لا يكون الْحَدِيث دليلًا عليه؛ لأنه لم يذكر وصفًا.

وذكر أبو محمّد ابن حزم رحمه الله تعالى أن الشافعيّة استدلّوا عَلَى منع الغائب بنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، وعن الملامسة، والمنابذة، قَالَ: ولا حجة لهم فيه؛ لأن بيع الغائب إذا وُصف عن رؤية، وخبرة، ومعرفة، قد صحّ ملكه لمّا اشترى، فأين الغرر؟ قَالَ: ومما يبطله أنه لم يزل المسلمون يتبايعون الضياع بالصفة، وهي فِي البلاد البعيدة، وَقَدْ

ص: 237

باع عثمان ابنَ عمر رضي الله عنهم مالًا لعثمان بخيبر بمال لابن عمر بوادي القرى. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله ابن حزم رحمه الله تعالى منْ صحّة بيع الغائب بالوصف هو الحقّ، وَقَدْ تعقّب وليّ الدين كلام ابن حزم هَذَا، بما هو دفاع بَحْتٌ عن مذهبه، تركت ذكره لكونه خَلْفًا، فتبصّر بالدليل السديد، ولا تكن أسير التقليد. والله تعالى أعلم.

(ومنها): ما قيل: أيضًا إنه يُستَدلّ به عَلَى بطلان بيع الأعمى مطلقا، وهو قول معظم الشافعيّة، حَتَّى منْ أجاز منهم بيع الغائب؛ لكون الأعمى لا يراه بعد ذلك، فيكون كبيع الغائب، مع اشتراط نفي الخيار. وقيل: يصح إذا وصفه له غيره، وبه قَالَ مالك، وأحمد، وعن أبي حنيفة يصح مطلقا، عَلَى تفاصيل عندهم أيضًا. قاله فِي "الفتح" أيضًا.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح عندي ما ذهب إليه مالك، وأحمد، وأبو حنيفة، منْ جواز بيع الأعمى، وشرائه، إذا وُصف المتاع له؛ لأن حكمه فِي المعاملات كحكم غيره ممن يُبصر، دون فرق، وليس نصّ، ولا إجماع يميّزه عنهم، فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(تنبيهان): [الأول]: قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: وقع عند ابن ماجه أن التفسير منْ قول سفيان بن عيينة، وهو خطأ منْ قائله، بل الظاهر أنه قول الصحابيّ، كما هو ظاهر السياق، ولاسيّما حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه.

[الثاني]: حديث أبي سعيد رضي الله عنه، اختُلف فيه عَلَى الزهريّ، فرواه معمر، وسفيان، وابن أبي حفصة، وعبد الله بن بُديل، وغيرهم، عنه، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد، ورواه عقيل، ويونس، وصالح بن كيسان، وابن جريج، عن الزهريّ، عن عامر بن سعد، عن أبي سعيد، وروى ابن جريج بعضه، عن الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي سعيد، وهو محمول عند البخاريّ، عَلَى أنها كلها عند الزهريّ، واقتصر مسلم عَلَى طريق عامر بن سعد وحده، وأعرض عما سواها.

وَقَدْ خالفهم كلهم الزُّبيدي، فرواه عن الزهريّ، عن سعيد، عن أبي هريرة.

وخالفهم أيضًا جعفر بن بُرقان، فرواه عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، وزاد فِي آخره:"وهي بيوع، كانوا يتبايعون بها فِي الجاهلية"، أخرجها النسائيّ، وخطّأ رواية جعفر. قاله فِي "الفتح" 5/ 96.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: تخطئة النسائيّ لرواية جعفر مذكورة فِي "الكبرى"، وسأبينها عند شرح روايته الآتية بعد باب، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم

ص: 238

بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌25 - (بَيْعِ الْمُنَابَذَةِ)

4513 -

(أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الْمُلَامَسَةِ، وَالْمُنَابَذَةِ فِي الْبَيْعِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة، وهم مصريّون إلى يونس، والباقون مدنيون.

والحديث متَّفقٌ عليه، وهو طريق آخر لحديث أبي سعيد رضي الله عنه المذكور فِي الباب الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4514 -

(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ بَيْعَتَيْنِ: عَنِ الْمُلَامَسَةِ، وَالْمُنَابَذَةِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد عندهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"سفيان": هو ابن عيينة. والحديث طريق ثالث لحديث أبي سعيد رضي الله عنه، وَقَدْ سبق شرحه، وبيان مسائله فِي الباب الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

‌26 - (تَفْسِيرُ ذَلِكَ)

4515 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّى بْنِ بُهْلُولٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدًا، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ

ص: 239

-صلى الله عليه وسلم، عَنِ الْمُلَامَسَةِ، وَالْمُنَابَذَةِ وَالْمُلَامَسَةُ أَنْ يَتَبَايَعَ الرَّجُلَانِ بِالثَّوْبَيْنِ، تَحْتَ اللَّيْلِ، يَلْمِسُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمَا ثَوْبَ صَاحِبِهِ بِيَدِهِ، وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَنْبِذَ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ الثَّوْبَ، وَيَنْبُذَ الآخَرُ إِلَيْهِ الثَّوْبَ، فَيَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير شيخه، وهو حمصيّ صدوق، له أوهام، وكان يدلّس [10] 3/ 363.

و"محمّد بن حرب": هو الأبرش الحمصيّ. و"الزبيديّ": هو محمّد بن الوليد الحمصيّ. و"سعيد": هو المسيّب.

وقوله: "أن يتبايع الرجلان بالثوبين" الظاهر أن الباء زائدة. وقوله: "تحت الليل" أي تحت ظلام الليل، وليس كونه ليلًا شرطًا، ففي حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه عند مسلم:"والملامسة: لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل، أو بالنهار، ولا يقلبه إلا بذلك" الْحَدِيث.

وقوله: "يلمس" بضمّ الميم، وكسرها منْ بابي نصر، وضرب. والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق قبل بابين. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البخاريّ عنه منْ طُرُق، ثالثها طريق حفص بن عاصم، عنه، -يعني الآتي للنسائي فِي هَذَا الباب 4519 - وهو فِي "مواقيت الصلاة"، ولم يذكر فِي شيء منْ طرقه عنه، تفسير المنابذة والملامسة، وَقَدْ وقع تفسيرهما فِي رواية مسلم، والنسائي، وظاهر الطرق كلها، أن التفسير منْ الْحَدِيث المرفوع، لكن وقع فِي رواية النسائيّ -يعني رواية حفص الآتية- ما يُشعر بأنه منْ كلام منْ دون النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولفظه:"وزعم أن الملامسة أن يقول الخ"، فالأقرب أن يكون ذلك منْ كلام الصحابيّ؛ لبعد أن يُعَبّر الصحابيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، بلفظ "زعم"، ولوقوع التفسير فِي حديث أبي سعيد الخدريّ. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4516 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عَامِرَ بْنَ سَعْدٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُلَامَسَةِ، وَالْمُلَامَسَةُ لَمْسُ الثَّوْبِ، لَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَعَنِ الْمُنَابَذَةِ، وَالْمُنَابَذَةُ طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ إِلَى الرَّجُلِ، قَبْلَ أَنْ يُقَلِّبَهُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، أبي داود، سليمان بن سيف، وهو حرّانيّ، ثقة. و"أبو يعقوب": هو إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ. و"صالح": هو ابن كيسان المدنيّ.

ص: 240

والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق قبل باب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4517 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ لُبْسَتَيْنِ، وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ، أَمَّا الْبَيْعَتَانِ: فَالْمُلَامَسَةُ، وَالْمُنَابَذَةُ، وَالْمُنَابَذَةُ: أَنْ يَقُولَ إِذَا نَبَذْتُ هَذَا الثَّوْبَ، فَقَدْ وَجَبَ -يَعْنِي الْبَيْعَ- وَالْمُلَامَسَةُ: أَنْ يَمَسَّهُ بِيَدِهِ، وَلَا يَنْشُرَهُ، وَلَا يُقَلِّبَهُ، إِذَا مَسَّهُ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلّهم تقدّموا غير مرّة.

وقوله: "بيعتين" بفتح أوله، والمراد به المرّة منْ البيع. قاله فِي "الطرح" 6/ 100. وَقَالَ فِي "الفتح" 2/ 28: بفتح الموحدة، ويجوز كسرها، عَلَى إرادة الهيئة. انتهى. وَقَالَ السنديّ: المشهور فتح الباء، والأقرب الكسر عَلَى الهيئة. انتهى.

وقوله: "عن لبستين" قَالَ فِي "النهاية" 4/ 226: هي بكسر اللام: الهيئة، والحالة، وروي بالضمّ عَلَى المصدر، والأول الوجه. انتهى. والمراد باللبستين: اشتمال الصمّاء، والاحتباء بثوب واحد، ليس عَلَى فرجه منه شيء.

أما "اشتمال الصماء": فهو بالصاد المهملة، والمد، قَالَ أهل اللغة؛ هو أن يُخَلِّل جسده بالثوب، لا يرفع منه جانبا، ولا يُبقي ما يُخرج منه يده، قَالَ ابن قتيبة: سميت صماء؛ لأنه يَسُدُّ المنافذ كلها، فتصير كالصخرة الصماء، التي ليس فها خرق. وَقَالَ الفقهاء: هو أن يلتحف بالثوب، ثم يرفعه منْ أحد جانبيه، فيضعه عَلَى منكبه، فيصير فرجه باديا، قَالَ النوويّ: فعلى تفسير أهل اللغة، يكون مكروها؛ لئلا يَعرِض له حاجة، فيتعسر عليه إخراج يده، فيلحقه الضرر، وعلى تفسير الفقهاء يحرم، لأجل انكشاف العورة. قَالَ الحافظ: ظاهر سياق البخاريّ، منْ رواية يونس، فِي "اللباس": أن التفسير المذكور فيها مرفوع، وهو موافق لما قَالَ الفقهاء، ولفظه:"والصماء أن يجعل ثوبه عَلَى أحد عاتقيه، فيبدو أحد شقيه"، وعلى تقدير أن يكون موقوفًا، فهو حجة عَلَى الصحيح؛ لأنه تفسير منْ الراوي، لا يخالف ظاهر الخبر.

وأما "الاحتباء": فهو أن يقعد عَلَى ألْيَتيه، وينصب ساقيه، ويَلُفّ عليه ثوبا، ويقال له الْحَبْوَة، وكانت منْ شأن العرب، وفسرها فِي رواية يونس المذكورة بنحو ذلك. أفاده فِي "الفتح" 2/ 28 "كتاب الصلاة" رقم 369.

والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق قبل باب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 241

4518 -

(أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي الزَّرْقَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ، قَالَ: بَلَغَنِي عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ لُبْسَتَيْنِ، وَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ بَيْعَتَيْنِ، عَنِ الْمُنَابَذَةِ، وَالْمُلَامَسَةِ، وَهِيَ بُيُوعٌ، كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "هارون بن زيد بن أبي الزرقاء": هو أبو محمّد الْمَوْصليّ، نزيل الرملة، صدوقٌ [10] 50/ 851 منْ رجال المصنّف، وأبي داود. و"أبوه": هو أبو محمّد الموصليّ، نزيل الرملة، اسم أبيه يزيد، ثقة [9] 50/ 851 منْ رجال المصنّف، وأبي داود أيضًا. و"جعفر بن بُرقان" -بضمّ الموحدة، وسكون الراء-: هو أبو عبد الله الرقّيّ، صدوقٌ يهم فِي حديث الزهريّ [7] 94/ 2025.

وهذا الْحَدِيث تفرّد به المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -26/ 4518 - وفي "الكبرى" 25/ 6107، وَقَدْ تكلم فيه فِي "الكبرى"، فَقَالَ بعد إخراجه: قَالَ أبو عبد الرحمن: هَذَا خطأٌ، وجعفر بن بُرقان ليس بالقويّ فِي الزهريّ خاصة، وفي غيره لا بأس به، وكذلك سفيان بن حُسين، وسليمان بن كثير. انتهى.

وحاصل ما أشار إليه أن المحفوظ فِي رواية الزهريّ كون الْحَدِيث منْ مسند أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، كما رواه الحفّاظ، منْ أصحابه، فيما سبق، كعقيل، ويونس، وسفيان بن عيينة، وصالح بن كيسان، ومعمر، وأما كونه منْ مسند ابن عمر، فخطأ، أخطأ فيه جعفر بن برقان، عَلَى أنه منقطعٌ؛ حيث قَالَ: بلغني عن الزهريّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4519 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، قَالَ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ اللَّهِ، عَنْ خُبَيْبٍ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ: أَمَّا الْبَيْعَتَانِ، فَالْمُنَابَذَةُ وَالْمُلَامَسَةُ، وَزَعَمَ أَنَّ الْمُلَامَسَةَ، أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: أَبِيعُكَ ثَوْبِي بِثَوْبِكَ، وَلَا يَنْظُرَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِلَى ثَوْبِ الآخَرِ، وَلَكِنْ يَلْمِسُهُ لَمْسًا، وَأَمَّا الْمُنَابَذَةُ: أَنْ يَقُولَ: أَنْبُذُ مَا مَعِي، وَتَنْبُذُ مَا مَعَكَ، لِيَشْتَرِىَ أَحَدُهُمَا مِنَ الآخَرِ، وَلَا يَدْرِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَمْ مَعَ الآخَرِ، وَنَحْوًا مِنْ هَذَا الْوَصْفِ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلّهم تقدّموا.

و"المعتمر": هو ابن سليمان. و"عبيد الله": هو ابن عمر العمريّ. و"خُبيب": هو ابن عبد الرحمن بن خُبيب بن يساف الأنصاريّ، أبو الحارث المدنيّ، ثقة [4] 10/ 640. و"حفص بن عاصم": هو ابن عمر بن الخطاب العَدويّ المدنيّ، ثقة [3] 60/ 867.

ص: 242

وقوله: "نهي عن بيعتين، أما البيعتان الخ" هكذا نسخ "المجتبى"، و "الكبرى" بلفظ:"أما البيعتان"، والظاهر أن فِي رواية المصنّف اختصارًا، والأصل نَهَى عن بيعتين، ولبستين"، أما البيعتان الخ، يدلّ عَلَى ذلك ما فِي رواية البخاريّ، منْ طريق أيوب، عن محمّد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه: نُهي عن لبستين، أن يحتبي الرجل فِي الثوب الواحد، ثم يرفعه، عَلَى منكبه، وعن بيعتين: اللِّمَاس، والنِّباذ".

وفي رواية أحمد، منْ طريق هشام بن حسّان، عن محمّد، عن أبي هريرة، قَالَ:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن لبستين، وبيعتين: أن يحتبي الرجل فِي ثوب واحد، ليس عَلَى فرجه منه شيء، وأن يرتدي فِي ثوب، يرفع طرفيه عَلَى عاتقه، وأما البيعتان: فاللَّمْس، والإلقاء".

وقوله: "وزعم أن الملامسة" تقدم أن الأقرب أن يكون هَذَا الزعم منْ أبي هريرة رضي الله عنه، لبعد أن يعبّر الصحابيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بلفظ "زعم"، ولوقوع التفسير فِي حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه منْ قوله أيضًا، كما تقدّم. أفاده فِي "الفتح" 5/ 97.

وقوله: "يلمسه" -بضم الميم، وكسرها، منْ بابي نصر، وضرب، كما تقدّم.

والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدم تمام البحث فيه فِي 23/ 4511. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌27 - (بَيْعُ الْحَصَاةِ)

4520 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(عبيد الله بن سعيد) أبو قُدامة السرخسيّ، ثقة ثبت سنّيّ [10] 15/ 15.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطّان البصريّ، ثقة ثبت حجة [9] 4/ 4.

3 -

(عبيد الله) بن عمر بن حفص العمريّ المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [5] 15/ 15.

ص: 243

4 -

(أبو الزناد) عبد الله بن ذكوان المدنيّ، ثقة فقيه [5] 17/ 18.

5 -

(الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 17/ 18.

6 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات المدنيين، غير شيخه، فسرخسيّ، ثم نيسابوريّ، ويحيى، فبصريّ. (ومنها): أنه منْ أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، كما سبق غير مرّة، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ) بفتح الحاء المهملة، واحدة الحصى، قيل: هو منْ إضافة المصدر إلى نوعه، وليس منْ إضافة المصدر إلى مفعوله، وصفته أن يقول البائع للمشتري: أرم هذه الحصاة، فأيُّ ثوب تقع عليه، فعليك بكذا، أو أن يبيعه منْ أرضه ما انتهى إليه رمي الحصاة.

وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى فِي "شرح مسلم" 10/ 395 - 396 - : أما بيع الحصاه، ففيه ثلاث تأويلات:[أحدها]: أن يقول: بعتك منْ هذه الأثواب، ما وقعت عليه الحصاة التي أرميها، أو بعتك منْ هذه الأرض منْ هنا، إلى ما انتهت إليه هذه الحصاة. [والثاني]: أن يقول: بعتك عَلَى أنك بالخيار، إلى أن أرمي بهذه الحصاة. [والثالث]: أن يجعلا نفس الرمي بالحصاة بيعا، فيقول: إذا رميت هَذَا الثوب بالحصاة، فهو مبيع منك بكذا. انتهى.

وَقَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: اختُلف فيه عَلَى أقوال: [أوّلها]: أن يبيعه منْ أرضه قدرَ ما انتهت إليه رميةُ الحصاة. [وثانيها]: أيُّ ثوب وقعت عليه الحصاة، فهو المبيع. [وثالثها]: أن يقبض عَلَى الحصى، فيقول: ما خرج كَانَ لي بعدده دراهم، أو دنانير. [ورابعها]: أيَّ زمن وقعت الحصاة منْ يده وجب البيع. فهذا إيقافُ لزوم عَلَى زمن مجهول، وهذه كلّها فاسدةٌ؛ لما تضمّنته منْ الخطر، والجهل، وأكل المال بالباطل. انتهى "المفهم" 4/ 362.

(وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ") -بفتحتين-: هو الخَطَر. قيل: هو أيضًا منْ إضافة المصدر إلى نوعه، منْ غَرّ يغُرُّ بالضمّ، منْ باب قعد.

ص: 244

وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: هو البيع المشتمل عَلَى غَرَرٍ مقصود، كبيع الأجِنّة، والسمك فِي الماء، والطير فِي الهواء، وما أشبه ذلك، فأما الغرر اليسير الذي ليس بمقصود، فلم يتناوله هَذَا النهي؛ لإجماع المسلمين عَلَى جواز إجارة العبد، والدار مشاهرةً، ومساناةً، مع جواز الموت، وهدم الدار قبل ذلك، وعلى جواز إجارة الدخول فِي الْحَمّام، مع تفاوت النَّاس فيما يتناولون منْ الماء، وفي قدر الْمُقام فيه، وكذلك الشرب منْ السقاء، مع اختلاف أحوال النَّاس فِي قدر المشروب، وأيضًا، فإن كلَّ بيع لابدّ فيه منْ نوع منْ الغرر، لكنه لَمّا كَانَ يسيرًا، غير مقصود، لم يلتفت الشرع إليه. ولَمّا انقسم الغرر عَلَى هذين الضربين، فما تبيّن أنه منْ الضرب الأول مُنع، وما كَانَ منْ الضرب الثاني، أُجيز، وما أشكل أمره، اختُلف فيه، منْ أيّ القسمين هو، فيُلحقَ به. انتهى "المفهم" 4/ 362.

وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى فِي "شرح مسلم": وأما النهي عن بيع الغرر، فهو أصل عظيم، منْ أصول "كتاب البيوع"، ولهذا قدّمه مسلم، ويدخل فيه مسائل كثيرة، غير منحصرة، كبيع الآبق، والمعدوم، والمجهول، وما لا يُقْدَر عَلَى تسليمه، وما لم يتم ملك البائع عليه، وبيع السمك فِي الماء الكثير، واللبن فِي الضرع، وبيع الحمل فِي البطن، وبيع بعض الصُّبْرَة مبهما، وبيع ثوب منْ أثواب، وشاة منْ شياه، ونظائر ذلك، وكل هَذَا بيعه باطل؛ لأنه غرر منْ غير حاجة، وَقَدْ يُحتَمَل بعضُ الغرر بيعا، إذا دعت إليه حاجة، كالجهل بأساس الدار، وكما إذا باع الشاة الحامل، والتي فِي ضرعها لبن، فإنه يصح البيع؛ لأن الأساس تابع للظاهر منْ الدار، ولأن الحاجة تدعو إليه، فإنه لا يمكن رؤيته، وكذا القول فِي حمل الشاة ولبنها، وكذلك أجمع المسلمون عَلَى جواز أشياء فيها غرر حقير، منها: أنهم أجمعوا عَلَى صحة بيع الْجُبّة المحشوة، وإن لم يُر حشوها، ولو بيع حشوها بإنفراده لم يجز، وأجمعوا عَلَى جواز إجارة الدار، والدابة، والثوب، ونحو ذلك شهرا، مع أن الشهر، قد يكون ثلاثين يوما، وَقَدْ يكون تسعة وعشرين، وأجمعوا عَلَى جواز دخول الحمّام بالأجرة، مع اختلاف النَّاس فِي استعمالهم الماء، وفي قدر مكثهم، وأجمعوا عَلَى جواز الشرب منْ السقاء بالعوض، مع جهالة قدر المشروب، واختلاف عادة الشاربين، وعكس هَذَا. وأجمعوا عَلَى بطلان بيع الأجِنّة فِي البطون، والطير فِي الهواء.

قَالَ العلماء: مدارُ البطلان بسبب الغرر، والصحةِ مع وجوده، عَلَى ما ذكرناه، وهو أنه إن دعت حاجة إلى ارتكاب الغرر، ولا يمكن الاحتراز عنه، إلا بمشقة، وكان الغرر حقيرا، جاز البيع، وإلا فلا، وما وقع فِي بعض مسائل الباب، منْ اختلاف العلماء فِي

ص: 245

صحة البيع فيها، وفساده، كبيع العين الغائبة، مبنيّ عَلَى هذه القاعدة، فبعضهم يَرَى أن الغرر حقير، فيجعله كالمعدوم، فيصح البيع، وبعضهم يراه ليس بحقير، فيبطل البيع. والله أعلم.

[واعلم]: أن بيع الملامسة، وبيع المنابذة، وبيع حَبَل الْحَبَلة، وبيع الحصاة، وعَسْبَ الفحل، وأشباهها، منْ البيوع التي جاء فيها نصوص خاصة، هي داخلة فِي النهي عن بيع الغرر، ولكن أُفردت بالذكر، ونهُي عنها؛ لكونها منْ بياعات الجاهلية المشهورة. والله أعلم. انتهى "شرح مسلم" 10/ 396.

وَقَالَ شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وأما الغرر، فالأصل فِي ذلك أن الله تعالى حرّم فِي كتابه أكل أموالنا بالباطل، وهذا يعمّ كلّ ما يؤكل بالباطل، والنبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر، والغرر هو المجهول العاقبة، فمن أنواعه: بيع حَبَل الحَبَلة، وبيع الملاقيح، وبيع المضامين، وبيع الثمار قبل بدوّ صلاحها، وبيع الملامسة، والمنابذة، ونحو ذلك، منْ أنواعه، وصوره. والغرر ثلاثة أنواع: بيع المعدوم، كحبل الحبلة، وبيع المعجوز عن تسليمه، كالجمل الشارد. وبيع المجهول المطلق، أو المجهول الجنس، أو المجهول القدر.

وَقَالَ أيضًا رخّص الشارع فيما تدعو الحاجة إليه منْ الغرر، كبيع العقار بأساسه، والحيوان الحامل، والثمرة بعد بُدُوّ صلاحها، وبيع ما المقصود منه مغيّب فِي الأرض، كالبصل، والفجل، ونحوهما قبل قلعه، وتختلف مشارب الفقهاء فِي هَذَا، فأبو حنيفة، والشافعيّ أشدّ النَّاس قولًا فِي الغرر، وأصول الشافعيّ المحرّمة أكثر منْ أصول أبي حنيفة، أما مالك، فمذهبه أحسن المذاهب فِي هَذَا، فإنه يجوّز بيع هذه الأشياء، وجمع ما تدعو الحاجة إليه، أو يَقِلّ غرره، فيجوز بيع المقاثي جملة، وبيع المغيّبات فِي الأرض، كالجزر، والفجل، والبصل، ونحو ذلك، وأحمد قريب منه في ذلك، والناس محتاجون إلى هذه البيوع، والشارع لا يُحرّم ما يحتاج النَّاس إليه منْ البيع؛ لأجل نوع منْ الغرر، وهذا أصح الأقوال، وعليه يدلّ غالب معاملات السلف، ولا يستقيم أمر النَّاس فِي معاشهم إلا به، وكلّ منْ شدّد فِي تحريم ما يعتقده غررًا، فإنه لابد أن يضطرّ إلى إجازة ما حرّمه الله، فإما أن يخرج عن مذهبه الذي يقلّده فِي هذه المسألة، وإما أن يحتال، ومفسدة التحريم لا تزول بالحيلة. انتهى. "مجموع الفتاوى" 29/ 227 و486.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله شيخ الإِسلام رحمه الله تعالى منْ ترجيح مذهب مالك فِي جواز ما تدعو الحاجة إليه منْ الأشياء التي فيها الغرر هو

ص: 246

الأرجح؛ لقوّة مستدركه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -27/ 4520 - وفي "الكبرى" 26/ 6109، وأخرجه (م) فِي "البيوع" 2151 (د) فِي "البيوع" 3376 (ت) فِي "البيوع" 1230 (ق) فِي "التجارات" 2194 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 7363 و8667 و9345 و9375 و10062 (الدارمي) فِي "البيوع" 2441 و2450. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): مما يتعلّق بالغرر ما يسمّى الآن بالتأمين التجاريّ، فأذكر هنا آراء العلماء منْ المعاصرين، وغيرهم:

وتعريفه: هو عقدٌ يُلزِم أحد الطرفين، وهو المؤمّن -بالكسر- أن يؤدّي إلى الطرف الآخر، وهر المؤمّن له -بالفتح- عِوضًا مادّيًا، يُتّفق عليه، يُدفع عند وقوع الخطر، وتحقّق الخسارة المبيّنة فِي العقد، وذلك نظير رسم، يسمّى "قسط التأمين"، يدفعه المؤمّن له حسبما ينصّ عليه عقد التأمين، إذًا فالمتعاقدان هما: المؤَمِّن، شركةٌ، أو هيئةٌ، والمؤمَّن له، دافع أقساط التأمين.

قَالَ الشيخ محمّد بن إبراهيم آل الشيخ: التأمين مخالف للشريعة الإِسلاميّة؛ لما يشتمل عليه منْ أمور، هي: غرر، وجهالة، ومخاطرة، مما يكون منْ قبل أكل أموال النَّاس بالباطل، ويشبه الميسر؛ لأنه يستلزم المقامرة. وبالجملة فكلّ منْ تأمل هَذَا العقد وجده لا ينطبق عَلَى شيء منْ العقود الشرعية، ولا عبرة بتراضي الطرفين، ولكن العبرة بتراضيهما، إذا كانت معاملتهما قائمة عَلَى أساس منْ العدالة الشرعيّة.

قرار هيئة كبار العلماء:

أصدر مجلس هيئة كبار العلماء فِي المملكة العربية السعوديّة قرارًا عن التأمين التجاريّ برقم 55 وتاريخ 4/ 1397/4 هـ مطوّلًا، لا يتّسع المقام لنقله كله، بل نكتفي بنقل فقرات منه، فمن أراده فليرجع إليه، جاء فيه ما يلي:

1 -

عقد التأمين التجاريّ منْ عقود المعاوضات الماليّة الاجتماعيّة المشتملة عَلَى الغرر الفاحش، وَقَدْ نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر.

ص: 247

2 -

هو ضرب منْ ضروب المقامرة؛ لما فيه منْ المخاطرة فِي معاوضاة ماليّة، ومن الْغُرْم بلا جناية، ومن الْغُنْم بلا مقابل، أو مقابل غير مكافيء.

3 -

منْ الرهبان المحرم الذي لم يُبَحْ منه إلا ما فيه نصرة للإسلام، وَقَدْ حصر النبيّ صلى الله عليه وسلم الرهبان فِي الخفّ، والحانر، والنصل، وليس التأمين منْ ذلك. اهـ ملخصًا.

وأما مجلس مجمع الفقه الإِسلامي المنبثق عن منظّمة المؤتمر الإِسلاميّ، فأصدر قرار برقم 2 فِي دورته الثانية بجدّة فِي 10/ 6/ 1406 هـ جاء فيه:

إن عقد التأمين التجاريّ ذي القسط الثابت الذي تتعامل به شركات التأمين التجاريّ عقدٌ فيه غرر كبير، مفسد للعقد، ولذا فهو حرام شرعًا.

أما مجلس المجمع الفقهيّ بمكة المكرمة، فأصدر قرارًا برقم 5 الذي جاء فيه ما يلي:

بعد الدراسة الوافية، وتداول الرأي فِي ذلك قرر مجلس المجمع الفقهيّ بالإجماع عدا فضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء تحريم التأمين التجاريّ بجميع أنواعه، سواء كَانَ عَلَى النفس، أو البضائع التجارية، أو غير ذلك.

فهذه هي المجامع العلمية الفقهية الشرعيّة، حرّمت التأمين التجاريّ؛ لأنه باب كبير منْ أبواب الغرر.

والمجالس الثلاثة كلها أجازت البديل الشرعيّ، وهو "التأمين التعاونيّ"، فعبارة مجمع الفقه الإِسلاميّ منْ منظّمة المؤتمر الإِسلاميّ هي:

إن العقد البديل الذي يحترم أصول التعامل الإِسلاميّ، هو عقد التأمين التعاونيّ القائم عَلَى أساس التبرّع والتعاون.

وقالت هيئة كبار العلماء فِي قرارها رقم (51) فِي 4/ 1397/4 هـ: إن التأمين التعاونيّ منْ عقود التبرّعات التي يقصد بها أصالة التعاون عَلَى تفتيت الأخطار، والاشتراك فِي تحمّل المسؤوليّة عند نزول الكوارث، وذلك عن طريق إسهام أشخاص بمبالغ نقديّة، تُخصّص لتعويض منْ يُصيبه ضرر، وإمكان الاكتفاء به عن التأمين التجاريّ. انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

(1)

انظر ما كتبه الشيخ البسّام فِي كتابه "توضيح الأحكام، شرح بلوغ المرام" 3/ 445 - 446.

ص: 248

‌28 - (بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهُ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الثّمَرُ -بفتحتين-، والثَّمَرَة مثله، فالأول مذكّرٌ، ويُجمع عَلَى ثِمار، مثلُ جَبَل وجِبال، ثم يُجمع الثمارُ عَلَى ثُمُر مثلُ كتاب وكُتُب، ثم يُجمع عَلَى أثمار، مثلُ عُنُق وأَعناق. والثاني مؤنّث، والجمع ثَمَرَات، مثلُ قَصَبَة وقَصَبَات، والثمر: هو الْحَمْلُ الذي تُخرجه الشجرة، سواء أُكل، أو لا، فيقال: ثَمَر الأراكِ، وثمر الْعَوْسَج، وثمرُ الدَّوْمِ، وهو الْمُقْلُ، كما يُقال: ثمر النحل، وثمر العِنَب. قَالَ الأزهريّ: وأثمر الشجر: أطلع ثمر أوّلَ ما يُخرجه، فهو مُثْمِرٌ، ومن هنا قيل لِمَا لا نفع فيه: ليس له ثَمَرَة. قاله فِي "المصباح".

وقوله: حَتَّى يبدو" معنى "يبدو": يَظهَر، وهو بلا همز، قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: ومما ينبغي أن يُنبّه عليه ما يقع فِي كثير منْ كتب المحدّثين، وغيرهم "حَتَّى يبدوا" بالألف فِي الخطّ، وهو خطأ، والصواب حذفها منْ مثل هَذَا للناصب، وإنما اختلفوا فِي إثباتها إذا لم يكن ناصبٌ، مثل زيدٌ يبدو، والاختيار حذفها أيضًا، ويقع مثله فِي "حَتَّى يزهو"، وصوابه حذف الألف كما ذُكر. انتهى "شرح مسلم" 1/ 419. والله تعالى أعلم.

4521 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَا تَبِيعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ").

رجال هَذَا الإسناد: أربعة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(الليث) بن سعد الإِمام المصريّ الثقة الثبت الفقيه [7] 31/ 35.

3 -

(نافع) مولى ابن عمر المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 12/ 12.

4 -

(ابن عمر) عبد الله رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (219) منْ رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه ما بين مصريين، ومدنيين. (ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما منْ العبادلة الأربعة،

ص: 249

والمكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَبِيعُوا الثَّمَرَ) ذكر الإِمام البخاريّ رحمه الله تعالى سبب هَذَا النهي، فَقَالَ فِي "صحيحه" 2/ 765: وَقَالَ الليث، عن أبي الزناد، كَانَ عروة بن الزبير، يحدث عن سهل بن أبي حثمة الأنصاريّ، منْ بني حارثة، أنه حدثه عن زيد بن ثابت، رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ النَّاس فِي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتبايعون الثمار، فإذا جَدَّ الناسُ وحضر تقاضيهم، قَالَ المبتاع: إنه أصاب الثمر الدُّمَان، أصابه مِرَاضٌ، أصابه قُشَام

(1)

، عاهات، يحتجون بها، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما كثرت عنده الخصومة فِي ذلك، فإِمّا لا، فلا تتبايعوا حَتَّى يبدو صلاح الثمر، كالمشورة، يشير بها؛ لكثرة خصومتهم. انتهى.

قَالَ فِي "الفتح": قَالَ الداودي الشارح: قول زيد بن ثابت: "كالمشورة يشير بها عليهم"، تأويل منْ بعض نقلة الْحَدِيث، وعلى تقدير أن يكون منْ قوله زيد بن ثابت، فلعل ذلك كَانَ فِي أول الأمر، ثم ورد الجزم بالنهي، كما بينه حديث ابن عمر وغيره. انتهى "فتح" 5/ 143.

(حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ) قد جاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما تفسير بدوّ صلاحه، ففي رواية مسلم منْ طريق شعبة، عن عبد الله بن دينار: فقيل لابن عمر: ما صلاحه؟ قَالَ تذهب عاهته. و"العاهة": الآفة.

قَالَ فِي "الفتح" 5/ 141: والمعنى فيه أن تُؤمن فيها العاهة، وتغلب السلامة، فَيَثِق المشتري بحصولها، بخلاف ما قبل بدو الصلاح، فإنه بصدد الغرر، وَقَدْ أخرج مسلم

(2)

الْحَدِيث، منْ طريق أيوب، عن نافع، فزاد فِي الْحَدِيث:"حَتَّى يأمن العاهة"، وفي رواية يحيى بن سعيد، عن نافع، بلفظ:"وتذهب عنه الآفة، يبدو صلاحه، حمرته، وصفرته"، وهذا التفسير منْ قول ابن عمر، بينه مسلم، فِي روايته منْ طريق شعبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، فقيل لابن عمر: ما صلاحه؟ قَالَ: تذهب عاهته. انتهى.

(1)

"الدمان" بفتح الدال، وضمها: فساد الطلع، وتعفّنه. و"المراض" بكسر الميم، وضمها: داء يقع فِي الثمرة، فتهلك. و"القشام" بضم القاف، ومعجمة مخفّفة: أن ينقص ثمر النخل قبل أن يصير بَلْحًا. وقيل: هو أكّال يقع فِي الثمر.

(2)

سيأتي للنسائيّ بهذا الزيادة فِي 40/ 4553 - بلفظ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخلة حَتَّى تزهو، وعن السنبل حَتَّى يبيضّ، ويأمن العاهة، نهى البائع والمشتري".

ص: 250

وَقَالَ الحافظ وليّ الدين رحمه الله تعالى: قَالَ أصحابنا بدوّ الصلاح بظهور النّضج، ومبادىء الحلاوة، وزوال العُفُوصة

(1)

، أو الحموضة المفرطتين، وذلك فيما لا يتلوّن بأن يتموّه، ويَلين، وفيما يتلوّن بأن يحمرّ، أو يصفرّ، أو يسودّ، قالوا: وهذه الأوصاف، وإن عُرف بها بدوّ الصلاح، فليس واحد منها شرطًا فيه؛ لأن القثّاء لا يُتصوّر فيه شيء منها، بل يُستطاب أكله صغيرًا وكبيرا، وإنما بدوّ صلاحه أن يكبر، بحيث يُجنى فِي الغالب، ويؤكل، وإنما يؤكل الصغير عَلَى الندور، وكذا الزرع لا يُتصوّر فيه شيء منها باشتداد الحبّ. وَقَالَ البغويّ: بيع أوراق التوت قبل تناهيها لا يجوز إلا بشرط القطع، وبعده يجوز مطلقًا، وبشرط القطع. والعبارة الشاملة أن يُقال: بدوّ الصلاح فِي هذه الأشياء صيرورتها إلى الصفة التي تطلب غالبًا لكونها عَلَى تلك الصفة. انتهى "طرح" 6/ 129.

وقوله (نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ") قَالَ وليّ الدين: تأكيد لما فيه منْ بيان أن البيع، وإن كَانَ فيه مصلحة الإنسان، فليس له أن يرتكب المنهيّ عنه فيه، ويقول: أسقطتُ حقّي منْ اعتبار المصلحة، فإن المنع لمصلحة المشتري؛ لأن الثمار قبل بُدُوّ الصلاح مُعَرَّضةٌ لطوارىء العاهات عليها، فإذا طرأ عليها شيء منها حصل الإجحاف للمشتري فِي الثمن الذي بذله، فنهى الشرع المشتري، كما نهى البائع، وكأنه قطع بذلك النزاع، والتخاصم. انتهى "طرح" ببعض تصرّف.

وَقَالَ فِي "الفتح" 5/ 141: أما البائع؛ فلئلا يأكل مال أخيه بالباطل، وأما المشتري؛ فلئلا يَضِيع ماله، ويساعد البائع عَلَى الباطل، وفيه أيضًا قطع النزاع والتخاصم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -28/ 4521 و4522 و4523 و4524 و4/ 4553 - وفي "الكبرى" 27/ 6110 و6111 و6112 و6113 و40/ 6143. وأخرجه (خ) فِي "الزكاة" 1486 و"البيوع" 2171 و2173 و2184 و2188 و2193 و2194 و2205 و"المساقاة" 2380 (م) فِي "البيوع" 1534 و1535 و1539 (د) فِي "البيوع" 3367 و3368 (ت) فِي

(1)

يقال: طعام عَفِصٌ: فيه تَقَبُّض.

ص: 251

"البيوع" 1226 و1227 (ق) فِي "التجارات" 2214 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 4479 و4511 و4854 و4924 و4978 و5040 و5112 و5251 (الموطأ) فِي "البيوع" 1303 (الدارمي) فِي "البيوع"2442. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي هَذَا الْحَدِيث النهي عن بيع الثمار حَتَّى يبدو صلاحها، وهذا يشمل ثلاثة أوجه:

[أحدها]: بيعها بشرط القطع، وهذا صحيح، وَقَدْ حكى غير واحد الإجماع عليه، منهم النوويّ، فخصّ النهي بالإجماع، لكن ذهب ابن حزم إلى منع البيع فِي هذه الصورة أيضًا، قَالَ: وممن منع بيع الثمرة مطلقًا، لا بشرط القطع، ولا بغيره سفيان الثوريّ، وابن أبي ليلى. انتهى. وهذا يقدح فِي دعوى الإجماع.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: سيأتي 29/ 4528 - ترجيح المصنّف القول بجواز البيع بشرط القطع، حيث يقول:"شراء الثمار قبل أن يبدو صلاحها، عَلَى أن يقطعها، ولا يتركها إلى أوان إدراكها". والله تعالى أعلم.

قَالَ وليّ الدين: قَالَ أصحابنا: فلو شرط القطع، ثم لم يقطع، فالبيع باق عَلَى صحّته، ويُلزمه البائع بالقطع، فإن تراضيا عَلَى إبقائه جاز، قالوا: وإنما يجوز البيع بشرط القطع، إذا كَانَ المقطوع منتفعًا به، فإن لم تكن فيه منفعة، كالجوز، والكُمّثرى، لم يصحّ بيعه بشرط القطع.

[الحالة الثانية]: بيعها بشرط التبقية، وهذا باطلٌ بالإجماع؛ لأنه ربّما تَلِفت الثمرة قبل إدراكها، فيكون البائع قد أكل مال أخيه بالباطل، كما جاءت به الأحاديث، فإذا شُرط القطع، فقد انتفى هَذَا الضرر. وعلّله الحنفية بأنه شرط لا يقتضيه العقد، وهو شُغل ملك الغير، وبأنه جمع بين صفقتين، وهو إعارة، أو إجارة فِي بيع.

[الحالة الثالثة]: بيعها مطلقًا، منْ غير شرط قطع، ولا تبقية، ومقتضى الْحَدِيث فِي هذه الحالة البطلان، وبه قَالَ الشافعيّ، وأحمد، وجمهور العلماء، منْ السلف، والخلف. وذهب أبو حنيفة إلى الصحّة، وعن مالك قولان، كالمذهبين.

وأجاب الحنفيّة عن هَذَا الْحَدِيث بجوابين: (أحدهما): أن المراد به بيع الثمار قبل أن توجد، وتُخلق، فهو كالحديث الوارد فِي النهي عن بيع السنين.

وردّ عليهم بأن هَذَا مخالف لتفسير الصحابيّ بدوّ الصلاح فِي الْحَدِيث بأنه صفرته، وحمرته، وبأنه صلاحه للأكل منه، وبأنه ذهاب عاهته، وبأن ذلك عند طلوع الثُّرَيّا: أي مقارنته للفجر. ورُوي عن عطاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"إذا طلع النجم صباحًا رُفعت العاهات عن أهل البلد، والنجم الثريّا"، والمراد -كما قَالَ بعضهم-: فِي

ص: 252

الحجاز خاصّة؛ لشدّة حرّه. قَالَ البيهقيّ رحمه الله تعالى فِي "المعرفة": وَقَدْ حمل بعض منْ يدّعي تسوية الأخبار عَلَى مذهبه هذه الأخبار عَلَى بيع الثمار قبل أن تكون، واستدلّ عليه بما روينا عن نهيه عن بيع السنين، وما ورد فِي معناه، وَقَدْ عرفنا بتلك الأخبار نهيه عن بيع الثمار قبل أن تكون، وعرفنا بهذه الأخبار نهيه عن بيعها مطلقًا، إذا كانت ما لم يبدُ فيها الصلاح، ألا تراه علّق المنع بغاية توجد بعد أن تكون الثمار بمدّة، فَقَالَ:"حَتَّى تزهو"، وَقَالَ فِي حديث جابر رضي الله عنه:"حَتَّى تُشْقِح"، قيل: وما تُشقح؟ قَالَ: تحمارّ، أو تصفارّ، ويؤكل منها، وَقَالَ فِي رواية أخرى، عن جابر:"حَتَّى تَطِيب".

وفي ذلك دلالة عَلَى أن حكم الثمار بعد بُدُوّ الصلاح فيها فِي البيع خلاف حكمها قبل أن يبدو الصلاح فيها، فيجوز بيعها بعد بُدُوّ الصلاح فيها مطلقًا، ولا يجوز قبله إلا بشرط القطع. انتهى "المعرفة" 4/ 323 - 324.

(الجواب الثاني): أن النهي فيها ليس للتحريم، وإنما هو عَلَى سبيل التنزيه، والأدب، والمشورة عليهم؛ لكثرة ما كانوا يختصمون إليه فيه.

وهذا مردود عليهم بأن الأصل فِي النهي التحريم، حَتَّى يصرفه عن ذلك صارفٌ.

وَقَدْ وافق بعضُ الحنفيّة الجمهور عَلَى بطلان البيع قبل بدوّ الصلاح منْ غير شرط؛ اتباعا للحديث، وإليه ذهب قاضي خان. أفاده فِي "طرح التثريب" 6/ 125 - 127.

وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: وهل ذلك النهي محمول عَلَى ظاهره منْ التحريم، وهو مذهب الجمهور، أو عَلَى الكراهة، وهو مذهب أبي حنيفة، وعليه فلو وقع بيع الثمرة قبل أن يبدو صلاحها، فسخه الجمهور، وصححه أبو حنيفة، إذا ظهرت الثمرة، وبناه عَلَى أصله فِي ردّ أخبار الآحاد للقياس، والصحيح مذهب الجمهور؛ للتمسّك بظاهر النهي، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"أرأيت إن منع الله الثمرة، بم يأكل أحدكم مالَ أخيه بغير حقّ؟ "، وهذا يدلّ عَلَى أن بيعها قبل بدوّ صلاحها منْ أكل المال بالباطل؛ ولأنه غرر، وبيع الغرر مُحرّم. انتهى "المفهم" 4/ 388.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى، منْ ترجيح مذهب الجمهور فِي تحريم بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وبطلان البيع فيه، هو الحقّ الذي يجب التمسّك به، ورفض ما عداه ممن يعارض النصوص الصحيحة الصريحة لمخالفتها القياس؛ لأن القياس فِي مقابلة النصّ هباءٌ منثور، ولقد أجاد منْ قَالَ، وأحسن فِي المقال [منْ الوافر]:

إِذَا جَالَتْ خُيُولُ النَّصِّ يَوْمًا

تُجَارِي فِي مَيَادِينِ الْكِفَاحِ

ص: 253

غَدَتْ شُبَهُ الْقِياسِيِّينَ صَرْعَى

تَطِيرُ رُؤُوسُهُنَّ مَعَ الرِّيَاحِ

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): قَالَ وليّ الدين رحمه الله تعالى: حمل الفقهاء منْ المذاهب الأربعة المنع منْ بيع الثمرة قبل بدوّ الصلاح عَلَى ما إذا باعها مفردة عن الأشجار، فإن باعها مع الأشجار صحّ مطلقًا، منْ غير شرط القطع، بل قَالَ أصحابنا: لا يجوز شرط القطع فِي هذه الصورة، وأنكر ذلك ابن حزم، وأبشع فِي إنكاره، وهو مردود، والحقّ ما قاله الجمهور، وأيّ معنى للقطع، والأشجار ليست باقية للبائع، بل هي مبيعة للمشتري. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): مقتضى قوله: "حَتَّى يبدو صلاحها": جواز بيعها بعد بُدُوّ الصلاح مطلقا، سواء اشترط الإبقاء، أم لم يشترط؛ لأن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها، وَقَدْ جعل النهي ممتدا إلى غاية بدو الصلاح.

وإلى الفرق بين ما قبل ظهور الصلاح، وبعده، ذهب الجمهور، وعن أبي حنيفة إنما يصح بيعها فِي هذه الحالة، حيث لا يشترط الإبقاء، فإن شرطه لم يصح البيع. وحكى النوويّ فِي "شرح مسلم" عنه أنه أوجب شرط القطع، فِي هذه الصورة.

وتعقب بأن الذي صرح به أصحاب أبي حنيفة، أنه صحح البيع حالة الإطلاق، قبل بدو الصلاح وبعده، وأبطله بشرط الإبقاء قبله وبعده، وأهل مذهبه أعرف به منْ غيرهم. انتهى "الفتح" 5/ 141 - 142. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): اختلف السلف فِي قوله: "حَتَّى يبدو صلاحها"، هل المراد به جنس الثمار، حَتَّى لو بدا الصلاح فِي بستان، منْ البلد مثلا، جاز بيع ثمرة جميع البساتين، وإن لم يبد الصلاح فيها، أو لابد منْ بدو الصلاح فِي كل بستان، عَلَى حِدَةٍ، أو لابُدّ منْ بدو الصلاح فِي كل جنس عَلَى حدة، أو فِي كل شجرة عَلَى حدة، عَلَى أقوال:

[الأول]: قول الليث، وهو عند المالكية بشرط أن يكون الصلاح متلاحقا.

[والثاني]: قول أحمد، وعنه رواية كالرابع. [والثالث]: قول الشافعيّة، ويمكن أن يؤخذ ذلك منْ التعبير ببدوّ الصلاح؛ لأنه دالّ عَلَى الاكتفاء بمسمى الإزهاء، منْ غير اشتراط تكامله، فيؤخذ منه الاكتفاء، بزَهْو بعض الثمرة، وبزَهْو بعض الشجرة، مع حصول المعنى، وهو الأمن منْ العاهة، ولولا حصول المعنى، لكان تسميتها مُزهية بإزهاء بعضها، قد لا يكتفي به؛ لكونه عَلَى خلاف الحقيقة، وأيضًا فلو قيل بإزهاء الجميع؛ لأدّى إلى فساد الحائط، أو أكثره، وَقَدْ مَنّ الله تعالى بكون الثمار، لا تطيب دفعة واحدة؛ ليطول زمن التفكه بها. قاله فِي "الفتح" 5/ 142.

ص: 254

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أرجح الأقوال ما ذهب إليه أحمد رحمه الله تعالى، وهو أنه لابدّ منْ بُدُوِّ الصلاح فِي كل بستان عَلَى حِدَةٍ؛ لكونه أقرب لظاهر النصّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4522 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ، حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

و"سفيان": هو ابن عيينة.

والحديث متّفق عليه، وَقَدْ سبق شرحه، وبيان مسائله فِي الْحَدِيث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4523 -

(أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدٌ، وَأَبُو سَلَمَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَبِيعُوا الثَّمَرَ، حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ، وَلَا تَبْتَاعُوا الثَّمَرَ بِالتَّمْرِ"، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ مِثْلِهِ سَوَاءً").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا السند تقدّم قبل أبواب، و"سعيد": هو ابن المسيّب. وقوله: "قَالَ ابن شهاب" موصول بالإسناد السابق، وليس معلّقًا. وقوله:"ولا تبتاعوا الثمر بالتمر" الأول بالثاء المثلّثة، والثاني بالمثناة الفوقانيّة: أي لا تشتروا الرَّطْب باليابس منه، وهو بمعنى المزابنة فِي الرواية الآتية.

والحديث أخرجه المصنّف هنا -28/ 4523 - وفي "الكبرى" 27/ 6112 وأخرجه (م) فِي "البيوع" 3854 (ق) فِي "التجارات"2215. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4524 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَنْظَلَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ طَاوُسًا، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "لَا تَبِيعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده، وهو حرّانيّ، ثقة. [11] 22/ 932.

و"مخلد بن يزيد": هو الحرّانيّ، صدوق له أوهام، منْ كبار [9] 141/ 222. و"حنظلة": هو ابن أبي سفيان الْجُمَحيّ المكيّ الثقة الثبت [6] 12/ 12.

ص: 255

والحديث متَّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4525 -

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْمُخَابَرَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ، وَالْمُحَاقَلَةِ، وَأَنْ يُبَاعَ الثَّمَرُ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ، وَأَنْ لَا يُبَاعَ إِلاَّ بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، وهو الجوّاز المكيّ ثقة [10].

و"سفيان": هو ابن عيينة. و"عطاء": هو ابن أبي رباح.

وقوله: "عن المخابرة": هي المزارعة ببعض ما يخرج منْ الأرض. وَقَالَ فِي "النهاية" 2/ 7 - : قيل: هي المزارعة عَلَى نصيب معيّن، كالثلث، والربع، وغيرهما، والْخُبْرة: النصيب. وقيل: هو منْ الْخَبَار: الأرضِ الليّنة. وقيل: أصل المخابرة منْ خيبر؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقرّ أهلها عَلَى النصف منْ محصولها، فقيل: خابرهم: أي عاملهم فِي خيبر. انتهى. وَقَدْ تقدّم تمام البحث فيه فِي "كتاب المزارعة".

وقوله: "والمزابنة": هي بيع الرُّطَب فِي رؤوس النخل بالتمر، وأصله منْ الزبن، وهو الدفع، كأن كلّ واحد منْ المتبايعين يَزْبِن صاحبه عن حقّه بما يزداد منه. قاله فِي "النهاية" 2/ 294.

وقوله: "والمحاقلة": قَالَ أبو عبيد: هو بيع الطعام فِي سنبله بالبرّ، مأخوذ منْ الحقل. وَقَالَ الليث: الحَقْلُ: الزرع، إذا تشعّب منْ قبل أن يغلُظ سُوقه، والمنهيّ عنه بيع الزرع قبل إدراكه. وقيل: بيع الثمرة قبل بدوّ صلاحها. وقيل: بيع ما فِي رؤوس النخل بالتمر. وعن مالك: هو كراء الأرض بالحنطة، أو بكيل طعام، أو إدام، والمشهور أن المحاقلة كراء الأرض ببعض ما تُنبت.

وقوله: "وأن لا يباع إلا بالدنانير، والدراهم" أي لا يباع الثمر إلا بالدنانير، والدارهم، يعني أنه لا يجوز بيع الرطب بالتمر، والعنب بالزبيب، لشبهة الربا، وإنما يباع بالدنانير، والدراهم.

قَالَ ابن بطّال رحمه الله تعالى: إنما اقتصر عَلَى الذهب والفضّة؛ لأنهما جلّ ما يتعامل به النَّاس، وإلا فلا خلاف بن الأمّة فِي جواز بيعه بالعروض -يعني بشرطه-. قاله فِي "الفتح" 5/ 131.

وَقَالَ النوويّ رحمه الله: اتفق العلماء عَلَى تحريم بيع الرطب بالتمر فِي غير العرايا، وأنه ربا، وأجمعوا أيضًا عَلَى تحريم بيع العنب بالزبيب. وأجمعوا أيضًا عَلَى تحريم بيع

ص: 256

الحنطة فِي سنبلها بحنطة صافية، وهي المحاقلة، مأخوذة منْ الحقل، وهو الحرث، وموضع الزرع، وسواء عند الجمهور كَانَ الرطب، والعنب عَلَى الشجر، أو مقطوعًا. وَقَالَ أبو حنيفة: إن كَانَ مقطوعًا جاز بيعه بمثله منْ اليابس. انتهى.

وقوله: "ورخّص فِي العرايا": جمع عريّة، كعطيّة وعطايا، يعني أنه أجاز بيع الرطب فيها بعد أن يُخرَص، ويُعرف قدره بقدر ذلك منْ الثمر، كما سيأتي البحث فيه بعد خمسة أبواب، إن شاء الله تعالى.

والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم تمام شرحه، وبيان مسائله فِي "كتاب المزارعة" 45/ 3906. فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4526 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَأَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنِ الْمُخَابَرَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ، وَالْمُحَاقَلَةِ، وَبَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يُطْعَ، مَ إِلاَّ الْعَرَايَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.

و"المفضّل": هو ابن فضالة بن عُبيد القِتبانيّ، أبو معاوية المصريّ، ثقة فاضل عابد [8] 42/ 586.

وقوله: "حَتَّى يُطعم" بضم أوله، مبنيًا للفاعل منْ الإطعام: أي يصلح للأكل، يقال: أطعمت الشجرة بالألف: إذا أدرك ثمرها. قاله الفيّوميّ.

وقوله: "إلا العرايا" ظاهره أنه استثناء عن الأخير، وليس كذلك، بل هو استثناء منْ الأول، بدليل الروايات الأخرى، فتنبه.

والحديث متَّفقٌ عليه، كما سبق بيانه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4527 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ، حَتَّى يُطْعَمَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.

و"خالد": هو ابن الحارث الْهُجَيميّ. و"هشام": هو الدستوائيّ.

وقوله: "عن بيعِ النخل" المراد ثمرها، فهو بمعنى قوله فِي الرواية التي قبل هَذَا:"وبيع الثمر حَتَّى تُطعم".

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

ص: 257

‌29 - (شِرَاءِ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا عَلَى أَنْ يَقْطَعَهَا، وَلَا يَتْرُكَهَا إِلَى أَوَانِ إِدْرَاكِهَا)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: أشار المصنّف رحمه الله تعالى بهذه الترجمة إلى ترجيح القول بجواز بيع الثمار قبل بدوّ صلاحها، إن شرط القطع، وأن النهي محمول عَلَى غير ذلك، وهو قول الجمهور، كما سيأتي بيانه فِي المسائل، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب.

4528 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ، حَتَّى تُزْهِيَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا تُزْهِيَ؟ قَالَ: "حَتَّى تَحْمَرَّ"، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ، فَبِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(محمّد بن سلمة) المرادي المصريّ، ثقة [11] 19/ 20.

2 -

(الحارث بن مسكين) المذكور فِي الباب الماضي.

3 -

(ابن القاسم) عبد الرحمن العتقيّ المصريّ، ثقة فقيه، منْ كبار [10] 19/ 20.

4 -

(مالك) بن أنس المذكور الإِمام المدنيّ الحجة الثبت [7] 7/ 7.

5 -

(حميد الطويل) ابن أبي حميد البصريّ، ثقة يدلّس [5] 87/ 108.

6 -

(أنس بن مالك) رضي الله تعالى عنه 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه الحارث، فقد تفرد به هو وأبو داود. (ومنها): أن فيه أنسًا منْ المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله تعالى عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ) أي عَلَى الأشجار (حَتَّى تُزْهِيَ) بضم أوله، منْ أزهى: أي تحمرّ، أو تصفرّ، قَالَ فِي "الفتح": قَالَ الخطّابيّ: هذه الرواية هي الصواب، فلا يُقال فِي النخل: تزهو، إنما

ص: 258

يقال: تُزهي، لا غير، وأثبت غيره ما نفاه، فَقَالَ: زها: إذا طال، واكتمل، وأزهى إذا احمرّ، واصفرّ. انتهى.

وَقَالَ المجد فِي "القاموس": زها النخلُ: طال، كأزهى، وزهى البُسْر: تلوّن، كأزهى، وزَهَّى. انتهى.

وَقَالَ الفيّوميّ فِي "المصباح": زها النخل يزهو زَهْوًا، والاسم الزُّهُوُّ بالضمّ: ظهرت الحمرة، والصُّفرة فِي ثمره. وَقَالَ أبو حاتم: وإنما يُسمّى زهْوًا: إذا خَلَصَ لون الْبُسْرة فِي الحمرة، أو الصفرة. ومنهم منْ يقول: زها النخل: إذا نبت ثمره، وأزهى: إذا احمرّ، أو اصفرّ. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذكره صاحبا "القاموس"، و"المصباح" أن ما نفاه الخطّابيّ ثابت لغة، وليس غلطًا، فيقال: زها النخل، وأزهى، وزهّى: إذا احمرّ، أو اصفرّ. والله تعالى أعلم.

(قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ) هَذَا صريح فِي أن التفسير مرفوع، لكن ثبت فِي روايه البخاريّ عن حميد:"قلنا لأنس: ما زهوها؟ قَالَ: تحمرّ"، ولمسلم منْ هَذَا الوجه:"فقلت لأنس"، وكذلك رواه أحمد عن يحيى القطّان، عن حميد، لكن قَالَ:"قيل لأنس: ما تزهو؟ ".

ولا تعارض بينهما؛ لأنه يجوز أن يرويه أنس رضي الله عنه مرفوعا أحيانًا، ويُسْأَل عنه أحيانًا فيفسّره، دون أن يرفعه. والله تعالى أعلم.

(وَمَا تُزْهِيَ؟) أي ما المراد به (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (حَتَّى تَحْمَرَّ) أي المعنى أنها لا تباع إلى أن يظهر احمرارها.

وفي حديث جابر رضي الله عنه عند البخاريّ منْ طريق سعيد بن ميناء، عنه: "نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن تباع الثمرة حَتَّى تُشْقِحَ، فقيل: وما تشقح؟ قَالَ: تحمارّ، وتصفارّ، ويؤكل منها.

و"تشقح" بضم أوله، منْ الإشقاح رباعيا، يقال: أشقح ثمر النخل إشقاحًا: إذا احمرّ، أو اصفرّ، والاسم الشُّقْحُ بضم المعجمة، وسكون القاف، بعدها مهملة، وذكره مسلم منْ وجه آخر، عن جابر، بلفظ:"حَتَّى تُشْقِهَ"، فأبدل منْ الحاء هاء؛ لقربها منها.

وقوله: فقيل: وما تشقح؟ هَذَا التفسير منْ قول سعيد بن ميناء، راوي الْحَدِيث، بَيّن ذلك أحمد فِي روايته، لهذا الْحَدِيث، عن بهز بن أسد عن سَلِيم بن حَيّان أنه هو الذي سأل سعيد بن ميناء عن ذلك، فأجابه بذلك، وكذلك أخرجه مسلم، منْ طريق بهز، وأخرجه الإسماعيلي منْ طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن سَليم بن حيان، فَقَالَ فِي

ص: 259

روايته: قلت لجابر: "ما تشقح الخ"؟ فظهر أن السائل عن ذلك، هو سعيد، والذي فسره هو جابر، وَقَدْ أخرج مسلم الْحَدِيث، منْ طريق زيد بن أبي أنيسة، عن أبي الوليد، عن جابر مُطَوّلًا، وفيه:"وأن يشتري النخل، حَتَّى يُشقه، والإشقاه: أن يحمرّ، أو يصفرّ، أو يؤكل منه شيء"، وفي آخره: فَقَالَ زيد: فقلت لعطاء: أسمعت جابرا يذكر هَذَا، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: نعم، وهو يحتمل أن يكون مراده بقوله: هَذَا جميع الْحَدِيث، فيدخل فيه التفسير، ويحتمل أن يكون مراده أصل الْحَدِيث، لا التفسير، فيكون التفسير منْ كلام الراوي، وَقَدْ ظهر منْ رواية ابن مهدي، أنه جابر، والله أعلم.

ومما يقوي كونه مرفوعًا، وقوع ذلك فِي حديث أنس أيضًا -يعني حديث الباب-.

وفيه دليل عَلَى أن المراد ببُدُوّ الصلاح، قدر زائد عَلَى ظهور الثمرة، وسبب النهي عن ذلك خوف الغرر؛ لكثرة الجوائح فيها، وَقَدْ بَيّن ذلك فِي حديث أنس المذكور فِي هَذَا الباب، فإذا احمرت، وأُكل منها، أَمِنت العاهة عليها، غالبا.

وقوله: "تحمارّ، وتصفارّ": قَالَ الخطابي: لم يُرد بذلك اللون الخالص منْ الصفرة والحمرة، وإنما أراد حمرة أو صفرة بكُمُودة، فلذلك قَالَ:"تحمارّ، وتصفارّ"، قَالَ: ولو أراد اللون الخالص لقال تَحمَرّ، وتَصفَرّ. وَقَالَ ابن التين: التشقيح: تغير لونها إلى الصفرة والحمرة، فأراد بقوله:"تحمارّ، وتصفارّ"، ظهور أوائل الحمرة والصفرة، قبل أن تشبع، قَالَ: وإنما يقال: تفعال فِي اللون الغير المتمكن، إذا كَانَ يتلون، وأنكر هَذَا بعض أهل اللغة، وَقَالَ: لا فرق بين تحمرّ وتصفر، وتحمار وتصفار. ويحتمل أن يكون المراد المبالغة فِي احمرارها واصفرارها، كما تقرر أن الزيادة تدل عَلَى التكثير والمبالغة. أفاده فِي "الفتح" 5/ 142 - 143.

(وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ) أي منْ الإدراك، وفي رواية البخاريّ:"إذا منع الله الثمرة" .. وَقَالَ القرطبيّ: أي إذا منع تكاملها، وطيبها؛ لأن الثمرة قد كانت موجودة، مُزهية حين البيع، كما قَالَ فِي الرواية الأخرى:"إن لم يُثمرها الله". أي لم يُكمل ثمرتها. انتهى.

(فَبِمَ) أي بايّ وجه، أي فِي مقابلة أيّ شيء (يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ) أي الثمن الذي يدفعه فِي مقابلة هذه الثمرة التالفة، يعني أنه لو تَلِفَت الثمرة، لا نتَفَى فِي مقابلتها العوضُ، فكيف يأكله بغير عوض.

قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: وهذه العلّة إنما توجد إذا لم يشترط القطع، ومنه أخذ المصنّف جواز البيع قبل بُدُوّ الصلاح بشرط القطع. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 260

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -29/ 4528 - وفي "الكبرى" 28/ 6117. وأخرجه (خ) فِي "الزكاة" 1488 و"البيوع" 2195 و2197 و2199 و2208 (م) فِي "البيوع" 1555 (د) فِي "البيوع" 3271 (ت) فِي "البيوع" 6228 (ق) فِي "التجارات" 2217 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 11728 و12227 و12901 و13201 (الموطأ) فِي "البيوع" 1304. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز شراء الثمار قبل بدوّ صلاحها، بشرط القطع، وهو قول الجمهور.

قَالَ فِي "الفتح" 5/ 139: وَقَدْ اختُلف فِي ذلك عَلَى أقوال، فقيل يبطل مطلقًا، وهو قول ابن أبي ليلى، والثوريّ، ووهم منْ نقل الإجماع عَلَى البطلان. وقيل: يجوز مطلقًا، ولو شرط التبقية، وهو قول يزيد بن أبي حبيب، ووهم منْ نقل الإجماع فيه أيضًا. وقيل: إن شرط القطع لم يبطل، وإلا بطل، وهو قول الشافعيّ، وأحمد، والجمهور، ورواية عن مالك. وقيل: يصحّ إن لم يشترط التبقية، والنهي فيه محمول عَلَى بيع الثمار قبل أن توجد أصلًا، وهو قول أكثر الحنفيّة. وقيل: هو عَلَى ظاهره، لكن النهي فيه للتنزيه. انتهى. وَقَدْ تقدّم تمام البحث فِي هَذَا فِي الباب الماضي. والله تعالى أعلم.

(ومنها): أن فيه إجراء الحكم عَلَى الغالب؛ لأن تطرق التلف إلى ما بدا صلاحه ممكن، وعدم الطرق إلى ما لم يبد صلاحه ممكن، فأنيط الحكم بالغالب فِي الحالتين. قاله فِي "الفتح" 5/ 145.

(ومنها): أن فيه جواز بيع الثمار بعد بدوّ صلاحها، وذهاب العاهة، وهو مما لا خلاف فيه.

(ومنها): أنه استدل به عَلَى وضع الجوائح فِي الثمر، يُشتَرى بعد بُدُوّ صلاحه، ثم تصيبه جائحة، وَقَدْ اختلف فيه العلماء، وسيأتي بيانه فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى.

(المسألة الرابعة): قَالَ فِي "الفتح": قوله: وَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيت إذا منع الله الثمرة" الْحَدِيث، هكذا صرح مالك، برفع هذه الجملة، وتابعه محمّد بن عَبّاد، عن

ص: 261

الدَّرَاوردي، عن حميد، مقتصرًا عَلَى هذه الجملة الأخيرة، وجزم الدارقطنيّ، وغير واحد، منْ الحفاظ، بأنه أخطأ فيه، وبذلك جزم ابن أبي حاتم فِي "العلل" عن أبيه، وأبي زرعة، والخطأ فِي رواية عبد العزيز، منْ محمّد بن عباد، فقد رواه إبراهيم بن حمزة، عن الدراوردي، كرواية إسماعيل بن جعفر الآتي ذكرها، ورواه معتمر بن سليمان، وبشر بن المفضل، عن حميد، فَقَالَ فيه: قَالَ: "أفرأيت" الخ، قَالَ: فلا أدري، أنس قَالَ:"بم يستحل؟ "، أو حَدّث به عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أخرجه الخطيب، فِي "المدرج"، ورواه إسماعيل بن جعفر، عن حميد، فعطفه عَلَى كلام أنس، فِي تفسير قوله:"تُزهي"، وظاهره الوقف، وأخرجه الجوزقي منْ طريق يزيد بن هارون، والخطيب منْ طريق أبي خالد الأحمر، كلاهما عن حميد، بلفظ: قَالَ أنس: "أرأيت إن منع الله الثمرة" الْحَدِيث، ورواه ابن المبارك، وهشيم، كما تقدم آنفاً عن حميد، فلم يذكر هَذَا القدر المختلف فيه، وتابعهما جماعة منْ أصحاب حميد عنه، عَلَى ذلك.

قَالَ الحافظ: وليس فِي جميع ما تقدم، ما يمنع أن يكون التفسير مرفوعًا؛ لأن مع الذي رفعه زيادة، عَلَى ما عند الذي وقفه، وليس فِي رواية الذي وقفه، ما ينفي قول منْ رفعه، وَقَدْ روى مسلم منْ طريق أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، ما يُقَوّي رواية الرفع فِي

حديث أنس رضي الله عنه، ولفظه: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو بعت منْ أخيك ثمرا، فأصابته عاهة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك، بغير حق". انتهى فتح 5/ 145 وهو بحث نفيس جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌30 - (وَضْعِ الْجَوَائِحِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الجوائح" جمع جائحة، قَالَ الفيّوميّ رحمه الله تعالى: الجائحة: الآفة، يقال: جاحت الآفةُ المال تَجُوحه جَوْحًا، منْ باب قَالَ: إذا أهلكته، وتَجِيحه جِيَاحَةً لغةٌ، فهي جائحة، والجمع الجوائح، والمالُ مجوحٌ، ومَجِيحٌ، وأجاحته بالألف لغة ثالثة، فهو مجاحٌ، واجتاحت المالَ، مثلُ جاحته. قَالَ الشافعيّ: الجائحة: ما أذهب الثمر بأمر سماويّ، وفي حديثٍ:"أمر بوضع الجوائح": والمعنى: بوضع صدقات ذات الجوائح، يعني ما أُصيب منْ الثمار بآفة سماويّة، لا يؤخذ منه صدقة فيما بقي. انتهى.

وَقَالَ فِي "اللسان": الْجَوْحةُ، والجائحةُ: الشدّةُ، والنازلةُ العظيمة التي تجتاح المال

ص: 262

منْ سنة، أو فتنة، وكلّ ما استأصله، فقد جاحه، واجتاحه، وجاح الله ماله، وأجاحه بمعنى: أي أهلكه بالجائحة. وَقَالَ الأزهريّ، عن أبي عُبيد: الجائحة: المصيبة تُحلّ بالرجل فِي ماله، فتجتاحه كلَّه. قَالَ: والجائحة تكون بالبَرَد يقع منْ السماء، إذا عظُم حَجمه، فأكثر ضرره، وتكون بالْبَرْد المحرِق، أو الحرّ المفرط، حَتَّى يَبطُل الثمر. انتهى. باختصار. والله تعالى أعلم بالصواب.

4529 -

(أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا، فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ، بِغَيْرِ حَقٍّ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(إبراهيم بن الحسن) أبو إسحاق المصَيصيَ الْمِقْسميَ، ثقة [11] 51/ 64.

2 -

(حجّاج) بن محمّد الأعور المصَيصيَ، ترمذيّ الأصل، ثقة ثبت، اختلط آخرًا [9] 28/ 32.

3 -

(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكيّ، ثقة فقيه فاضل، يدلس [6] 28/ 32.

4 -

(أبو الزبير) محمّد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، ثقة يُدلّس [4] 31/ 35.

5 -

(جابر) بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما 31/ 35. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده، وأبي داود، وابن ماجه فِي "التفسير". (ومنها): أنه مسلسل بالمكيين، منْ ابن جريج، والباقيان مصيصيان. (ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله عنه منْ المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

عن ابن جُريج أنه قَالَ (أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ) محمّد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ (أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا) رضي الله تعالى عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ) مفعول أول لـ"بعت"، دخلت عليه "منْ" توكِيدًا؛ لأنه يتعدّى بنفسه إلى مفعولين، قَالَ الفيّوميّ: وبعتُ زيدًا الدار يتعدّى إلى مفعولين، قَالَ: وَقَدْ تدخل "منْ" عَلَى المفعول الأول عَلَى وجه التوكيد، فيقال: بعت منْ زيد الدار، كما يقال: كتمته الْحَدِيث،

ص: 263

وكتمت منه الْحَدِيث، وربّما دخلت اللام مكان "منْ"، فيقال: بعتك الشيء، وبعته لك، فاللام زائدة، زيادتها فِي قوله تعالى:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} الآية [الحج: 26]، والأصل بوّنا إبراهيم.

وقوله (ثَمَرًا) هو المفعول الثاني لـ"بعت"(فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ) أي أصابت ذلك الثمر آفة، قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى فِي "المفهم" 3/ 87: الجائحة ما اجتاحت المالَ، وأتلفته إتلافًا ظاهرًا، كالسيل، والمطر، والحرق، والسرق، وغلبة العدوّ، وغير ذلك، مما يكون إتلافه للمال ظاهرًا

(1)

.

وَقَالَ أيضًا فِي موضع آخر 4/ 426: واختلف أصحابنا -يعني المالكيّة- فِي حدّها، فرُوي عن ابن القاسم أنها ما لا يمكن دفعه، وعلى هَذَا الخلاف، فلا يكون السارق جائحة، وكذا فِي كتاب محمّد، وفي الكتاب: إنه جائحة. وَقَالَ مطرّفٌ، وابن الماجشون: الجائحة: ما أصاب الثمرة منْ السماء، منْ عَفَنٍ، أو برد، أو عطش، أو حرّ، أو كسر الشجر بما ليس بصنع آدميّ، والجيش ليس بجائحة. وفي رواية ابن القاسم: إنه جائحة. انتهى "المفهم" 4/ 426 "كتاب البيوع".

وَقَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى: الجائحة كل آفة، لا صُنع للآدمي فيها، كالريح، والبرد، والجراد، والعطش؛ لما روى الساجي بإسناده، عن جابر: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قضى فِي الجائحة، والجائحة تكون فِي البرد، والجراد، وفي الحبق

(2)

، والسيل، وفي الريح، وهذا تفسير منْ الراوي لكلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيجب الرجوع إليه

(3)

.

وأما ما كَانَ بفعل آدمي، فَقَالَ القاضي: المشتري بالخيار، بين فسخ العقد، ومطالبة البائع بالثمن، وبين البقاء عليه، ومطالبة الجاني بالقيمة؛ لأنه أمكن الرجوع ببدله، بخلاف التالف بالجائحة. انتهى "المغني" 6/ 179.

(فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ) أي منْ أخيك (شَيْئًا، بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ) أي فِي مقابلة الثمر الذي أصابته الجائحة. وقوله (بِغَيْرِ حَقٍّ") تأكيد للإنكار فِي أخذه، وذلك أن أخذه للثمن فِي مقابلة الثمر الهالك يكون أخذًا بغير حق، إذ لم يأخذ هو مقابله. وظاهره حرمة الأخذ، ووجوب وضع الجائحة، وبه يقول أحمد، وأصحاب الْحَدِيث، قالوا: وضع الجائحة لازم بقدر ما هلك. وَقَالَ الخطّابيّ: هي لندب الوضع منْ طريق المعروف، والإحسان عند الفقهاء. ولا يخفى أن هذه الرواية تبطل هَذَا التأويل. وقيل:

(1)

راجع "المفهم" 3/ 87 "كتاب الزكاة".

(2)

هكذا نسخة "المغني"، ولم أهتد لمعنى هذه اللفظة، فالله تعالى أعلم.

(3)

لكن يحتاج إلى صحة الْحَدِيث، ولم يذكر ابن قدامة سنده، حَتَّى ننظر فيه، فالله تعالى أعلم.

ص: 264

هو محمول عَلَى ما هلك قبل تسليم المبيع إلى المشتري، فإنه فِي ضمان البائع، بخلاف ما هلك بعد التسليم؛ لأن المبيع قد خرج عن عُهْدة البائع بالتسليم إلى المشتري، فلا يلزمه ضمان ما يَعتريه بعده. واستُدلّ عَلَى ذلك بحديث أبي سعيد رضي الله عنه الآتي؛ لأنه لو كانت الجوائح موضوعةً، لم يصر مديونًا بسببها. وسيأتي تمام البحث فِي المسألة الرابعة، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث جابر رضي الله عنه هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -30/ 4529 و4530 و4531 - وفي "الكبرى" 29/ 6118 و6119 و6120. وأخرجه (م) فِي "البيوع" 1554 (د) فِي "البيوع" 3374 و3470 (ق) فِي "التجارات" 2219 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 13908 (الدارمي) فِي "البيوع" 2443. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم وضع الجوائح، والظاهر أنه يرى وجوبه، حيث أورد حديث جابر رضي الله عنه، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:"فلا يحلّ لك أن تأخذ منه شيئاً"، فإنه يدلّ عَلَى وجوب وضع الجائحة، وبه قَالَ بعض أهل العلم، وهو الراجح، كما سيأتي بيانه فِي المسألة التالية، إن شاء الله تعالى.

(ومنها): جواز بيع الثمار، ولا خلاف فيه فِي الجملة، وإنما الخلاف فيما إذا كَانَ قبل بدوّ الصلاح، وَقَدْ تقدّم بيان ذلك مستوفًى فِي الباب الماضي. (ومنها): تحريم أخذ مال المسلم بغير حقّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة) فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم وضع الجائحة:

قَالَ فِي "الفتح": استُدِلَّ بهذا الْحَدِيث عَلَى وضع الجوائح فِي الثمر يُشتَرى بعد بُدُوّ صلاحه، ثم تصيبه جائحة، فَقَالَ مالك: يضع عنه الثلث، وَقَالَ أحمد، وأبو عبيد: يضع الجميع، وَقَالَ الشافعيّ، والليث، والكوفيون: لا يرجع عَلَى البائع بشيء، وقالوا: إنما ورد وضع الجائحة، فيما إذا بيعت الثمرة، قبل بُدُوّ صلاحها بغير شرط القطع، فيُحمل مطلق الْحَدِيث، فِي رواية جابر، عَلَى ما قُيِّد به فِي حديث أنس. والله أعلم.

ص: 265

واستدل الطحاوي، بحديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه الآتي، قَالَ: فلما لم يبطل دينُ الغرماء بذهاب الثمار، وفيهم باعتها، ولم يؤخذ الثمن منهم، دلَّ عَلَى أن الأمر بوضع الجوائح، ليس عَلَى عمومه. والله تعالى أعلم. الهى.

وَقَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى: ما تهلكه الجائحة منْ الثمار، منْ ضمان البائع، وبهذا قَالَ أكثر أهل المدينة، منهم: يحيى بن سعيد الأنصاريّ، ومالك، وأبو عبيد، وجماعة منْ أهل الْحَدِيث، وبه قَالَ الشافعيّ فِي القديم.

وَقَالَ أبو حنيفة، والشافعي فِي الجديد: هو منْ ضمان المشتري؛ لما رُوي: أن امرأة أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: إن ابني اشرى ثمرة منْ فلان، فأذهبتها الجائحة، فسأله أن يضع عنه، فتألى أن لا يفعل، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"تألّى فلان أن لا يفعل خيرا؟ "

(1)

، ولو كَانَ واجبا لأجبره عليه، ولأن التخلية يتعلق بها جواز التصرف، فتعلق بها الضمان، كالنقل، والتحويل، ولأنه لا يضمنه إذا أتلفه آدمي، كذلك لا يضمنه بإتلاف غيره.

ولنا ما رَوَى مسلم فِي "صحيحه" عن جابر رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح، وعنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بعت منْ أخيك ثمرا، فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك، بغير حق؟ "، رواه مسلم، وأبو داود، ولفظه:"منْ باع ثمرا، فأصابته جائحة، فلا يأخذ منْ مال أخيه شيئًا، علام يأخذ أحدكم، منْ مال أخيه المسلم؟ "، وهذا صريح فِي الحكم، فلا يعدل عنه. قَالَ الشافعيّ: لم يثبت عندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح، ولو ثبت لم أَعْدُهُ، ولو كنت قائلا بوضعها، لوضعتها فِي القليل والكثير.

قلنا: الْحَدِيث ثابت، رواه الأئمة، منهم الإِمام أحمد، ويحيى بن معين، وعلي بن حرب، وغيرهم، عن ابن عيينة، عن حميد الأعرج، عن سليمان بن عتيق، عن جابر، ورواه مسلم فِي "صحيحه" وأبو داود فِي "سننه"، وابن ماجه، والنسائيّ، وغيرهم. ولا حجة لهم فِي حديثهم، فإن فعل الواجب خير، فإذا تألى أن لا يفعل الواجب، فقد تألى ألا يفعل خيرا، فأما الإجبار فلا يفعله النبيّ صلى الله عليه وسلم، بمجرد قول المدعي، منْ غير إقرار منْ البائع، ولا حضور، ولأن التخلية ليست بقبض تام، بدليل ما لو تلفت بعطش، عند بعضهم، ولا يلزم منْ إباحة التصرف تمام القبض، بدليل المنافع فِي الإجارة، يباح التصرف فيها، ولو تلفت كانت منْ ضمان المؤجر، كذلك الثمرة، فإنها فِي شجرها

(1)

هَذَا الْحَدِيث الصحيح أنه مرسل، كما قَالَ الشافعيّ رحمه الله تعالى، وَقَدْ روي موصولًا بذكر عائشة رضي الله تعالى عنها، إلا أنه منْ رواية حارثة بن أبي الرجال، وهو ضعيف، انظر ما كتبه البيهقيّ رحمه الله تعالى فِي "السنن الكبرى" 5/ 305.

ص: 266

كالمنافع قبل استيفائها، توجد حالًا فحالًا، وقياسهم يبطل بالتخلية فِي الإجارة. انتهى "المغني" 6/ 177 - 179.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول بوجوب وضع الجائحة هو الأرجح؛ لقوّة دليله. وأما الاحتجاج بحديث أبي سعيد رضي الله عنه الآتي فِي الرجل الذي أصيب فِي الثمار التي ابتاعها، فيجاب عنه بجوابين:

[أحدهما]: أن أحاديث وضع الجائحة ذُكرت لبيان القاعدة، وحكمِها، وهذا الْحَدِيث واقعة عين، فتكون هي أولى منه.

[الثاني]: أنه يحتمل أن يكون اشتراؤه تلك الثمرة بعد تناهي طيبها، ودخول أوان جذاذها، فلا تحتاج إلى تبقية، ولا إلى سقي، فيكون المشتري مفرّطًا فِي تركها بعد ذلك عَلَى الشجر، فتكون منْ ضمانه، لا منْ ضمان البائع، ولهذا قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي آخر الْحَدِيث:"ليس لكم إلا ذلك" فلو كانت الجوائح لا توضع، لكان لهم طلب بقيّة الدين. وجوابهم عن هَذَا بأن معناه: ليس لكم الآن إلا هَذَا، ولا يحلّ لكم مطالبته ما دام معسرًا، بل ينظر إلى ميسرة، خلاف الظاهر.

والحاصل أن وجوب وضع الجوائح هو الحق؛ لما ذُكر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي مقدار الجوائح التي توضع:

قَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى: إن ظاهر المذهب، أنه لا فرق بين قليل الجائحة وكثيرها، إلا أنّ ما جرت العادة بتلف مثله، كالشيء اليسير، الذي لا ينضبط، فلا يلتفت إليه، قَالَ أحمد: إني لا أقول فِي عشر ثمرات، ولا عشرين ثمرة، ولا أدري ما الثلث؟، ولكن إذا كانت جائحةً تُعرَفُ، الثلث، أو الربع، أو الخمس توضع.

وفيه رواية أخرى: أن ما كَانَ دون الثلث، فهو منْ ضمان المشتري، وهو مذهب مالك، والشافعي فِي القديم؛ لأنه لابُدَّ أن يأكل الطير منها، وتَنْثُرَ الريحُ، ويسقط منها، فلم يكن بد منْ ضابط واحد، فاصل بين ذلك، وبين الجائحة، والثلث قد رأينا الشرع اعتبره فِي مواضع، منها: الوصية، وعطايا المريض، وتساوي جراح المرأة وجراح الرجل إلى الثلث. قَالَ الأثرم: قَالَ أحمد: إنهم يستعملون الثلث فِي سبع عشرة مسألة، ولأن الثلث فِي حد الكثرة، وما دونه فِي حد القلة، بدليل قول النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي الوصية:"الثلث، والثلث كثير"، متَّفقٌ عليه، فيدل هَذَا عَلَى أنه آخِرُ حد الكثرة، فلهذا قدر به.

ووجه الأول عموم الأحاديث، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح، وما دون الثلث داخل فيه، فيجب وضعه، ولأن هذه الثمرة لم يتم قبضها، فكان ما تَلِف منها منْ مال

ص: 267

البائع، وإن كَانَ قليلًا، كالتي عَلَى وجه الأرض، وما أكله، أو سقط، لا يؤثر فِي العادة، ولا يسمى جائحة، فلا يدخل فِي الخبر، ولا يمكن التحرز منه، فهو معلوم الوجود بحكم العادة، فكأنه مشروط. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي القول بوضع الجائحة مطلقًا، سواء كَانَ قليلًا، أو كثيرًا، إلا ما جرى العرف بالتسامح فِي تلف مثله، هو الأرجح؛ عملاً بإطلاق النصّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: إذا ثبت هَذَا، فإنه إذا تلف شيء، له قدر خارج عن العادة، وُضِع منْ الثمن بقدر الذاهب، فإن تلف الجميع بطل العقد، ويرجع المشتري بجميع الثمن، وأما عَلَى الرواية الأخرى، فإنه يعتبر ثلث المبلغ، وقيل ثلث القيمة، فإن تلف الجميع، أو أكثر منْ الثلث رجع بقيمة التالف كله منْ الثمن، وإذا اختلفا فِي الجائحة، أو قدر ما أُتْلِف، فالقول قول البائع؛ لأن الأصل السلامة، ولأنه غارم، والقول فِي الأصول قول الغارم. قاله فِي "المغني" 6/ 179 - 180. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4530 -

(أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ جُرَيْجٍ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ بَاعَ ثَمَرًا، فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، فَلَا يَأْخُذْ مِنْ أَخِيهِ"، وَذَكَرَ "شَيْئًا": "عَلَى مَا يَأْكُلُ أَحَدُكُمْ، مَالَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. وهذا السند نصفه الأول شاميّون، والثاني مكيون، فجابر رضي الله عنه ممن سكن مكة.

وقوله: "وذكر شيئًا" أي ذكر لفظ "شيئا" بعد قوله: "فلا يأخذ منْ أخيه"، والظاهر أنه حصل تردّد منْ بعض الرواة فِي ذكر هَذَا اللفظ، ثم تأكّد منْ ذلك، فبيّنه. والله تعالى أعلم.

وقوله: "عَلَى ما يأكل الخ" هي "ما" الاستفهامية، ثبت ألفها مع الجارّ عَلَى خلاف المشهور، فإن المشهور حذفها، كما قَالَ ابن مالك:

و"مّا" فِي الاسْتِفْهَامِ إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ

أَلِفُهَا وَأَوْلِهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ

والحديث أخرجه مسلم، كما سبق بيانه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4531 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حُمَيْدٍ، وَهُوَ الأَعْرَجُ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَتِيقٍ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَضَعَ الْجَوَائِحَ).

ص: 268

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، وهو مكيّ ثقة [10].

و"سفيان": هو ابن عيينة. و"حميد الأعرج": هو ابن قيس، أبو صفوان القارىء المكيّ، لا بأس به [6] 189/ 2995.

و"سليمان بن عَتِيق" المدنيّ، ومن قَالَ فيه: ابن عتيك، فقد وهم، صدوق [4].

قَالَ النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ البخاريّ: لا يصحّ حديثه.

وَقَالَ ابن عبد البرّ: لا يُحتجّ بما تفرّد به. روى له مسلم، وأبو داود، والمصنّف، وابن ماجه، وله عند المصنّف حديث جابر أخرجه هنا، وفي الباب التالي، وفي الباب 69/ 4628 و4629. وله عند الثلاثة حديث جابر المذكور، وعند مسلم، وأبي داود أيضًا حديث عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: "هلك المتنطّعون"، قالها ثلاثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ جَابِرٍ) بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَضَعَ الْجَوَائِحَ) ولفظ مسلم: "أمر بوضع الجوائح"، و"الجوائح جمع جائحة: وهي الآفة، وتقدم البحث عنها فِي أول الباب، ومعنى قوله:"وضع الجوائح": أي أمر بوضعها، وإسقاطها، وعدم المطالبة بها، يعني أن منْ اشترى ثمارًا، فأصابتها آفة سماوية، كالبرد -بفتحتين-، والبرد -بفتح، فسكون- والحرّ الشديدين، والجراد، ونحو ذلك، منْ الآفات التي تعرض للثمار، فإنه لا يحلّ للبائع أن يُطالب بثمنها، وَقَدْ تقدّم بيان اختلاف العلماء فِي وضع الجوائح قريبًا، فلا تنسَ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث جابر رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -30/ 4531 - وفي "الكبرى" 29/ 6120. وأخرجه (م) فِي "البيوع" 3957 (د) فِي "البيوع" 3374. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4532 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي ثِمَارٍ

ص: 269

ابْتَاعَهَا، فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ"، فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة بن سعيد) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(الليث) بن سعد الإِمام المصريّ، ثقة ثبت [7] 31/ 35.

3 -

(بكير) بن عبد الله بن الأشجّ المدنيّ، نزيل مصر، ثقة [5] 135/ 211.

4 -

(عِيَاض بن عبد الله) بن سعد بن أبي سَرْح القرشيّ العامريّ المكيّ، ثقة [3] 26/ 1408.

5 -

(أبو سعيد الخدريّ) سعد بن مالك بن سنان رضي الله تعالى عنهما 169/ 262. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمصريين، غير الصحابيّ، فمدنيّ، وكلّ منْ قتيبة، وبكير، وعياض، ممن دخل مصر أيضًا. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سعيد رضي الله عنه منْ المكثرين السبعة، روى (1140) حديثا. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: أُصِيبَ رَجُلٌ) قيل: هو معاذ بن جبل رضي الله عنه. قاله النوويّ فِي "شرح مسلم" 10/ 461 (فِي عَهْدِ) أي زمان (رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فِي ثِمَارٍ) متعلق بـ"أُصيب"(ابْتَاعَهَا) أي اشتراها، يعني أنه لحقه خسران، بسبب إصابة آفة ثمارًا اشتراها، ولم ينقُد ثمنها (فَكَثُرَ) بضم الثاء المثلثة (دَيْنُهُ) أي فطالبه

البائع بثمن تلك الثمرة، وكذا طالبه بقية غرمائه، وليس له مال يؤديه (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ"، فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ) فيه أن المسألة تحلّ لمثله (فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ) أي ما تصدّقوا عليه (وَفَاءَ دَيْنِهِ) أي لكثرته (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي لغرمائه (خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ) أي مما تصدّق النَّاس عليه (وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ) أي إلا أخذ ما وجدتم، والمعنى: أنه ليس لكم مطالبته بالباقي، بل الواجب عليكم مسامحته، أو إنظاره إلى الميسرة، كما قَالَ عز وجل:{فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} الآية [البقرة: 280].

وَقَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: ظاهره أنه وضع الجائح، بمعنى أنه لا يؤخذ منه ما عجز عنه. ويحتمل أن المعنى ليس لكم فِي الحال إلا ذلك؛ لوجوب الإنظار فِي غيره؛

ص: 270

لقوله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} ، وحينئذ فلا وضع أصلًا، وبالجملة، فهذا الْحَدِيث دليل لمن يقول بعدم الوضع، والله تعالى أعلم. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد عرفت فيما سبق أن هَذَا الْحَدِيث محمول عَلَى أنها تلفت بعد أوان الجذاذ، وتفريط المشتري فِي تركها بعد ذلك عَلَى الشجر، فإنها حينئذ تكون منْ ضمان المشتري، وليس له حقّ فِي الوضع، فلا يكون الْحَدِيث معارضًا لتلك الأحاديث الكثيرة الموجبة وضع الجوائح، وعلى تقدير عدم حمله عَلَى هذه الصورة، فتلك الأحاديث ترجّح عليه؛ لقوّتها.

[تنبيه]: زاد المصنّف رحمه الله تعالى فِي "الكبرى" بعد إيراده حديث أبي سعيد رضي الله عنه هَذَا: ما نصّه: قَالَ أبو عبد الرحمن: هَذَا أصلح منْ حديث سليمان بن عَتِيق. انتهى.

وأشار به إلى ما تقدم منْ الكلام فِي سليمان بن عتيق، فقد ضعّفه بعضهم، إلا أن مسلمًا أخرج له الْحَدِيث المذكور، وغيره، كما سبق بيانه، ويشهد لحديثه حديث أنس رضي الله عنه المتقدِّم فِي الباب الماضي، وحديثا جابر رضي الله عنه المذكوران فِي هَذَا الباب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -29/ 4532 و95/ 4680 - وفي "الكبرى" 28/ 6121 و96/ 6274.

وأخرجه (م) فِي "البيوع" 1556 (د) فِي "البيوع" 3469 (ت) فِي "الزكاة" 655 (ق) فِي "الأحكام" 2356 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 10924 و11157. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): بيان ما كَانَ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ الرأفة، والرحمة بأمته، حيث يهتمّ بتدبير شؤونهم، فيقوم بمساعدة الفقراء، والمحتاجين، إذا كَانَ عنده شيء منْ المال، وإلا أمر أصحابه المياسير رضي الله عنهم أن يساعدوهم حَتَّى يقضوا ديونهم، ويسدّوا حاجاتهم. (ومنها): التعاون عَلَى البرّ، والتقوى، ومواساة المحتاج، ومن عليه دين، والحثّ عَلَى الصدقة. (ومنها): جواز المسألة لمن أصاب ماله جائحة، بقدر ما يؤدّي به دينه، ويسدّ حاجته. (ومنها): أن المعسر لا تحلّ مطالبته، ولا ملازمته، ولا سَجْنه، وبه قَالَ الشافعيّ،

ص: 271

ومالك، وجمهور العلماء، وحكي عن ابن شريح حبسه حَتَّى يقضي الدين، وإن كَانَ قد ثبت إعساره. وعن أبي حنيفة: تجوز ملازمته. (ومنها): أنه يسلم إلى الغرماء جميع مال المفلس، ما لم يَقضِ دينهم، ولا يُترك للمفلس سوى ثيابه، ونحوها. قاله النوويّ فِي "شرح مسلم" 10/ 461. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌31 - (بَيْعِ الثَّمَرِ سِنِينَ)

4533 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حُمَيْدٍ الأَعْرَجِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَتِيكٍ -قَالَ قُتَيْبَةُ: عَتِيكٌ بِالْكَافِ، وَالصَّوَابُ عَتِيقٌ- عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ سِنِينَ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا السند تقدّم الكلام فيه فِي الباب الماضي.

وقوله: "نهى عن بيع الثمر سنين": معناه أن يبيع ثمرة نخلة، أو نخلات بأعيانها سنتين، أو ثلاثا، مثلًا، وإنما نهى عنه؛ لأنه بيع شيء لا وجود له حال العقد.

قَالَ الخطّابيّ رحمه الله تعالى: هو أن يبيع الرجل ما تثمره النخلة، أو النخلات بأعيانها سنين، ثلاثًا، أو أربعًا، أو أكثر منها، وهذا غررٌ؛ لأنه بيع شيء غير موجود، ولا مخلوق حال العقد، ولا يُدرى هل يكون ذلك، أم لا، وهل يُثمر النخل، أم لا، وهذا فِي بيوع الأعيان، وأما فِي بيوع الصفات، فهو جائز، مثل أن يُسلف فِي شيء إلى ثلاث سنين، أو أربع، أو أكثر، ما دامت المدّة معلومة فِي قيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم، بعيد، أو قريب، إذا كَانَ الشيء المسلف فيه غالبًا وجوده عند وقت محل السلف. انتهى "معالم السنن" 5/ 44.

والحديث أخرجه مسلم، وَقَدْ تقدّم تخريجه فِي الباب الماضي فِي حديث جابر رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وضع الجوائح"؛ لأنه حديث واحد فرقه المصنّف، ساقه أبو داود، فِي "سننه"، مساقًا واحدًا، ولفظه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السنين، ووضع الجوائح". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 272

‌32 - (بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الأول بالثاء المثلّثة، والثاني بالتاء المثنّاة الفوقانيّة. والله تعالى أعلم بالصواب.

4534 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا).

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة بن سعيد) الثقفيّ البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإِمام الحجة الثبت المكيّ [8] 1/ 1.

3 -

(الزهريّ) محمّد بن مسلم الإِمام الحجة الثبت المدنيّ [4] 1/ 1.

4 -

(سالم) بن عبد الله بن عمر المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 23/ 490.

5 -

(أبوه) عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ، وسفيان، فمكيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه سالم أحد الفقهاء السبعة، وفيه ابن عمر منْ العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ) بمثلّثة، وميم مفتوحتين، وفي رواية مسلم:"ثمر النخل"، وهو المراد هنا، وليس المراد الثمر منْ غير النخل، فإنه يجوز بيعه بالتمر -بالمثنّاة، والسكون- وإنما وقع النهي عن الرطب بالتمر؛ لكونه متفاضلًا منْ جنسه (بِالتَّمْرِ) بفتح المثنّاة، وسكون الميم (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما، وفي رواية البخاريّ: قَالَ سالم: وأخبرني عبد الله، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه وهو موصول بالإسناد المذكور، وأفرد المصنّف حديث زيد بن ثابت فِي الباب التالي منْ طريق سالم أيضًا، وفي الباب

ص: 273

الذي يليه منْ طريق نافع. وأخرجه الترمذيّ منْ طريق محمّد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، عن زيد بن ثابت، ولم يفَصّل حديث ابن عمر منْ حديث زيد بن ثابت، وأشار الترمذيّ إلى أنه وَهِمَ فيه، والصواب التفصيل، ولفظ الترمذيّ:"عن زيد بن ثابت، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة، والمزابنة، إلا أنه قد أَذِن لأهل العرايا أن يبيعوها بمثل خرصها"، ومراد الترمذيّ أن التصريح بالنهي عن المزابنة لم يَرِد فِي حديث زيد بن ثابت، وإنما رواه ابن عمر بغير واسطة، وروى ابن عمر استثناء العرايا بواسطة زيد بن ثابت، فإن كانت رواية ابن إسحاق محفوظةً احتَمَل أن يكون ابن عمر حمل الْحَدِيث كله عن زيد بن ثابت، وكان عنده بعضه بغير واسطة.

(حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ) الصحابيّ المشهور رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا) وفي رواية البخاريّ: "رخّص بعد ذلك فِي بيع العرايا بالرُّطَب، أو بالتمر، ولم يرخّص فِي غير ذلك". وقوله: "رخّص بعد ذلك" أي بعد النهي عن بيع الثمر بالتمر، وهذا منْ أصرح ما ورد فِي الردّ عَلَى منْ حمل منْ الحنفيّة النهي عن بيع الثمر بالتمر عَلَى عمومه، ومنع أن يكون بيع العرايا مستثنًى منه، وزعم أنهما حكمان مختلفان، وردا فِي سياق واحد، وكذلك منْ زعم منهم كما حكاه ابن المنذر عنهم أن بيع العرايا منسوخٌ بالنهي عن بيع الثمر بالتمر؛ لأن المنسوخ لا يكون بعد الناسخ. قاله فِي "الفتح" 5/ 128. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -32/ 4534 و4535 و33/ 4536 و4538 و4539 و34/ 4540 و4541 و35/ 4542 و39/ 4551 - وفي "الكبرى" 31/ 6123 و6124 و32/ 6125 و33/ 6127 و6128 و39/ 6140. وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 2171 و2172 و2185 و2188 و2192 و2205 و"المساقاة" 2380 (م) فِي "البيوع" 1539 و1542 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 4511. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم بيع الثمر بالتمر، وهو المنع؛ لوقوع التفاضل فيه مع كونهما جنسًا واحدًا. (ومنها): جواز ذلك فِي العرايا، وسيأتي بيانها بعد باب، إن شاء الله تعالى. (ومنها): أنه يدلّ عَلَى تحريم بيع

ص: 274

الرطب باليابس منه، ولو تساويا فِي الكيل والوزن؛ لأن الاعتبار بالتساوي إنما يصحّ حالة الكمال، والرطب قد ينقص عن اليابس إذا جفّ نقصًا لا يتقدّر، وهذا قول الجمهور، وعن أبي حنيفة الاكتفاء بالمساواة حالة الرطوبة، وخالفه صاحباه فِي ذلك؛ لصحّة الأحاديث الواردة فِي النهي عن ذلك، وأصرح منْ ذلك حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرُّطَب بالتمر؟ فَقَالَ: "أينقص الرُّطَب إذا جفّ؟ قالوا: نعم، قَالَ: فلا إذًا"، أخرجه مالكٌ، وأصحاب "السنن"، وصححه الترمذيّ، وابن خزيمة، وابن حبّان، والحاكم، وسيأتي للمصنف بعد ثلاثة أبواب -4548 - بلفظ: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التمر بالرطب؟ فَقَالَ لمن حوله: "أينقص الرُّطَب إذا يبس؟ "، قالوا: نعم، فنهى عنه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4535 -

(أَخْبَرَنِي زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنِ الْمُزَابَنَةِ، وَالْمُزَابَنَةُ أَنْ يُبَاعَ مَا فِي رُءُوسِ النَّخْلِ، بِتَمْرٍ بِكَيْلٍ مُسَمًّى، إِنْ زَادَ لِي، وَإِنْ نَقَصَ فَعَلَيَّ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(زياد بن أيوب) البغداديّ، طوسي الأصل المعروف بدلّويه البغداديّ، ثقة حافظ [10] 101/ 132.

2 -

(ابن علية) إسماعيل بن إبراهيم، أبو بشر البصريّ، ثقة ثبت [8] 18/ 19.

3 -

(أيوب) بن أبي تميمة كيسان السختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت عابد فقيه [5] 42/ 48.

4 -

(نافع) مولى ابن عمر المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 12/ 12، والصحابي ذُكر فِي السند الماضي. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه ما بين مدنيين، وهما ابن عمر، ونافع، وبصريين، وهما أيوب، وابن علية، وبغدادي، وهو شيخه. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنِ الْمُزَابَنَةِ) -بميم

ص: 275

مضمومة، وزاي، وباء موحّدة، ونون: مفاعلة منْ الزَّبْن -بفتح الزاي، وسكون الموحّدة-: وهو الدفع الشديد، ومنه سُمّيت الحرب الزَّبُون؛ لشدّة الدفع فيها، وقيل للبيع المخصوص المزابنة؛ لأن كلّ واحد منْ المتبايعين يدفع صاحبه عن حقّه، أو لأن أحدهما إذا وقف عَلَى ما فيه منْ الغبن أراد دفع البيع بفسخه، وأراد الآخر دفعه عن هذه الإرادة بإمضاء البيع، هَذَا هو تفسير المزابنة لغة، وأما التفسير الشرعيّ، فهو ما بيّنه بقوله (وَالْمُزَابَنَةُ أَنْ يُبَاعَ مَا فِي رُءُوسِ النَّخْلِ) أي منْ الثمار (بِتَمْرٍ، بِكَيْلٍ مُسَمًّى) بدل منْ الجارّ والمجرور قبله.

ثم إن ذِكْرَ الكيل ليس بقيد، فِي هذه الصورة، بل لأنه صورة المبايعة التي وقعت إذ ذاك، فلا مفهوم له؛ لخروجه عَلَى سبب، أو له مفهوم، لكنه مفهوم الموافقة؛ لأن المسكوت عنه أولي بالمنع منْ المنطوق، ويستفاد منه أن معيار التمر والزبيب الكيل. أفاده فِي "الفتح" 5/ 129.

(إِنْ زَادَ لِي، وَإِنْ نَقَصَ فَعَلَيَّ) يعني أن البائع يقول للمشتري: إن زاد ما فِي رؤوس النخل فِي الكيل عَلَى التمر، فالزائد لي، وإن نقص عنه، فالخسارة عليّ. وسيأتي فِي الباب التالي تفسير المزابنة بقوله:"والمزابنة: بيع الثمر بالتمر كيلًا، وبيع الكرم بالزبيب كيلًا".

قَالَ فِي "الفتح": وهذا أصل المزابنة، وألحق الشافعيّ بذلك كل بيع مجهول بمجهول، أو بمعلوم منْ جنس يجري الربا فِي نقده، قَالَ: وأما منْ قَالَ: أضمن لك صبرتك هذه، بعشرين صاعا مثلا، فما زاد فلي، وما نقص فعليّ، فهو منْ القمار، وليس منْ المزابنة.

لكن فيه نظر؛ لأن هَذَا التفسير، قد سمّاه فِي هَذَا الْحَدِيث مزابنة، قَالَ الحافظ: فثبت أن منْ صور المزابنة أيضًا، هذه الصورة منْ القمار، ولا يلزم منْ كونها قمارا، أن لا تسمى مزابنة. ومن صور المزابنة أيضًا بيع الزرع بالحنطة كيلا، وَقَدْ رواه مسلم منْ طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع، بلفظ:"والمزابنة بيع ثمر النخل بالتمر كيلا، وبيع العنب بالزبيب كيلا، وبيع الزرع بالحنطة كيلا".

وَقَالَ مالك: المزابنة كلُّ شيء منْ الجزاف، لا يُعلم كيله، ولا وزنه، ولا عدده، إذا بيع بشيء مسمى منْ الكيل وغيره، سواء كَانَ منْ جنس يجري الربا فِي نقده، أم لا، وسبب النهي عنه، ما يدخله منْ القمار والغرر، قَالَ ابن عبد البرّ: نظر مالك إلى معنى المزابنة لغة، وهي المدافعة، ويدخل فيها القمار، والمخاطرة.

وفسر بعضهم المزابنة، بأنها بيع الثمر قبل بدو صلاحه، وهو خطأ، فالمغايرة بينهما

ص: 276

ظاهرة، منْ أول حديث ابن عمر عند البخاريّ بلفظ:"لا تبيعوا الثمر حَتَّى يبدو صلاحه، ولا تبيعوا الثمر بالتمر"، فقد غاير بينهما. وقيل: هي المزارعة عَلَى الجزء. وقيل غير ذلك والذي تدل عليه الأحاديث فِي تفسيرها أولى.

[تنبيه]: ظاهر هذه الرواية أن تفسير المزابنة منْ المرفوع، ومثله فِي حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه عند البخاريّ، بلفظ:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة، والمزابنة اشتراء الثمر بالتمر، عَلَى رؤوس النخل". وعند مسلم منْ حديث جابر رضي الله عنه، فإن كَانَ هَذَا التفسير مرفوعاً، فلا إشكال فِي وجوب الأخذ به، وان كَانَ موقوفًا عَلَى هؤلاء الصحابة، فهم رواة الْحَدِيث، وأعرف بتفسيره منْ غيرهم، قَالَ ابن عبد البرّ: ولا مخالف لهم علمته، بل قد أجمع العلماء عَلَى أن ذلك مزابنة، وإنما اختلفوا هل يلتحق بذلك، كل ما لا يجوز إلا مثلا بمثل، فلا يجوز فيه قيل بجزاف، ولا جزاف بجزاف، فالجمهور عَلَى الإلحاق، وقيل: يختص ذلك بالنخل والكرم. والله أعلم. أفاده فِي "الفتح" 5/ 127 و"الطرح" 6/ 133.

والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ مضى تخريجه فِي الْحَدِيث الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌33 - (بَيْعِ الْكَرْمِ بِالزَّبِيبِ)

4536 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رضى الله عنهما: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنِ الْمُزَابَنَةِ، وَالْمُزَابَنَةُ بَيْعُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ كَيْلاً، وَبَيْعُ الْكَرْمِ بِالزَّبِيبِ كَيْلاً").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة. والسند منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (220) منْ رباعيات الكتاب، وهو منْ أصح الأسانيد، عَلَى ما نُقل عن الإِمام البخاريّ رحمه الله تعالى، كما سبق غير مرّة.

وقوله: "الثمر بالتمر" الأول بالثاء المثلثة، والثاني بالتاء المثناة الفوقانيّة، والمراد ثمر النخل: أي رُطَبه، لا كلّ ثمر، إذ يجوز بيع الثمر منْ غير النخل بالتمر كيلاً؛ لجواز التفاضل فيه.

ص: 277

وقوله: "وبيع الكرم بالزبيب كيلا"، فِي رواية مسلم:"وبيع العنب بالزبيب كيلا"، والكرم -بفتح الكاف، وسكون الراء-: هو شجر العنب، والمراد منه هنا نفس العنب، كما أوضحته روايةُ مسلم.

وفيه: جواز تسمية العنب كرما، وَقَدْ ورد النهي عنه، فقد أخرج الشيخان منْ حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"لا تُسمُّوا العنب كَرْمًا"، وفي رواية:"ويقولون: الكرم، إنما الكرم قلب المؤمن".

ويُجمع بينهما يحمل النهي عَلَى التنزيه، ويكون ذكره هنا؛ لبيان الجواز، وهذا كله بناء عَلَى أن تفسير المزابنة، منْ كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعلى تقدير كونه موقوفًا، فلا حجة عَلَى الجواز، فيحمل النهي عَلَى حقيقته.

واختلف السلف: هل يُلحق العنب أو غيره بالرطب فِي العرايا، فقيل: لا، وهو قول أهل الظاهر، واختاره بعض الشافعيّة، منهم المحب الطبري. وقيل: يُلحق العنب خاصة، وهو مشهور مذهب الشافعيّ. وقيل: يلحق كل ما يُدَّخَر، وهو قول المالكية. وقيل: يلحق كل ثمرة، وهو منقول عن الشافعيّ أيضًا.

والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق تخريجه فِي الباب الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4537 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ طَارِقٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الْمُحَاقَلَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة بن سعيد) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(أبو الأحوص) سلّام بنُ سُليم الحنفيّ الكوفيّ ثقة ثبت [7] 79/ 96.

3 -

(طارق) بن عبد الرحمن البجليّ الأحمسيّ الكوفيّ، صدوقٌ، له أوهام [5]3890.

4 -

(سعيد بن المسيب) بن حَزْن المخزوميّ المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 9/ 9.

5 -

(رافع بن خديج) بن عديّ الحارثيّ الأوسيّ الأنصاريّ الصحابيّ الجليل، أول مشاهده أُحد، ثم الخندق، ومات رضي الله عنه سنة (3) أو (64) وقيل: قبل ذلك. والله تعالى أعلم.

ص: 278

شرح الْحَدِيث

(عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ:"نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الْمُحَاقَلَةِ) قَالَ ابن الأثير رحمه الله تعالى: اختُلف فِي معناها، قيل: هي اكتراء الأرض بالحنطة، هكذا جاء مفسّرًا فِي الْحَدِيث، وهو الذي يسمّيه الزرّاعون: المحارثة. وقيل: هي المزارعة عَلَى نصيب معلوم، كالثلث، والربع، ونحوهما. وقيل: هي بيع الطعام فِي سُنْبُله بالبرّ. وقيل: بيع الزرع قبل إدراكه. وإنما نُهي عنها؛ لأنها منْ المكيل، ولا يجوز فيه إذا كانا منْ جنس واحد إلا مثلاً بمثل، ويدًا بيد، وهذا مجهولٌ، لا يُدرى أيهما أكثر. انتهى "النهاية" 1/ 416.

(وَالْمُزَابَنَةِ) تقدّم معناها فِي الْحَدِيث الماضي.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث رافع بن خديج رضي الله عنه هَذَا صحيح، وَقَدْ تقدّم فِي "كتاب المزارعة" 45/ 3917 مطوّلًا. فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4538 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"سفيان": هو ابن عُيينة. والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم شرحه، وبيان مسائله فِي الباب الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4539 -

(قَالَ الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا، بِالتَّمْرِ وَالرُّطَبِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، وهو مصريّ حافظ ثقة.

والحديث، أخرجه المصنّف رحمه الله تعالى هنا -33/ 4539 - وفي "الكبرى" 33/ 6128. وأخرجه (م) فِي "البيوع" 3362. وسيأتي شرحه بعد باب، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 279

‌34 - (بَابُ بَيْعِ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا تَمْرًا)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "العَرَيَا": جمع عريّة، قَالَ الفيّوميّ:"العريّة": النخلة يُعْرِيها صاحبها غيرَهُ ليأكل ثمرتها، فيَعْرُوها: أي يأتيها، فَعِلية بمعنى مفعولة، ودخلت الهاء عليها؛ لأنه ذُهِب بها مذهب الأسماء، مثلُ النَّطِيحة، والأكِيلة، فإذا جيء بها مع النخلة حُذفت الهاء، وقيل: نخلة عَرِيّ، كما يقال: امرأة قَتِيلٌ، والجمع: العَرَايا. انتهى.

وَقَالَ فِي "الفتح": هي عطية ثمر النخل، دون الرقبة، كَانَ العرب فِي الجدب يتطوّع أهل النخل بذلك عَلَى منْ لا ثمر له، كما يتطوّع صاحب الشاة، أو الإبل بالمنيحة، وهي عطيّة اللبن، دون الرقبة، قَالَ حسّان بن ثابت رضي الله عنه فيما ذكر ابن التين، وَقَالَ غيره: هي لسُوَيد بن الصَّامت الأنصاريّ [منْ الطويل]:

فَلَيْسَتْ بِسَنْهَاءَ وَلَا رُجَّبِيَّةٍ

(1)

وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الْجَوَائِحِ

ومعنى "سنهاء": أن تَحمِل سنة دون سنة، والرجبية: التي تُدَعَّم حين تميل منْ الضعف. والعرية: فَعلةٌ بمعنى مفعولة، أو فاعلة، يقال: عَرَى النخلَ -بفتح العين، والراء- بالتعدية يَعرُوها: إذا أفردها عن غيرها، بأن أعطاها لآخر، عَلَى سبيل الْمِنْحَة؛ ليأكل ثمرها، وتَبقَى رقبتها لمعطيها، ويقال: عَرِيت النخلُ -بفتح العين، وكسر الراء- تَعرَى عَلَى أنه قاصر، فكأنها عَرِيت عن حكم أخواتها، واستُثبتت بالعطية، واختلف فِي المراد بها شرعا، وسيأتي بيان ذلك فِي المسائل، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب.

4540 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا، تُبَاعُ بِخِرْصِهَا").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(عبيد الله بن سعيد) أبو قُدامة السرخسيّ، ثقة ثبت سنّيّ [10] 15/ 15.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطّان البصريّ، ثقة ثبت حجة [9] 4/ 4.

3 -

(عبيد الله) بن عمر العمريّ المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [5] 15/ 15.

4 -

(زيد بن ثابت) بن الضحّاك ابن لوذان الأنصاريّ النّجّاريّ الصحابيّ المشهور،

(1)

قَالَ فِي "اللسان": يروى رجبية بضم الراء، وتخفيف الجيم المفتوحة، وتشديدها.

ص: 280

كاتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ مسروقٌ: كَانَ منْ الراسخين فِي العلم، مات رضي الله عنه سنة (5) أو (48) وقيل: بعد (5). والباقيان ترجما فِي الباب الماضي. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين منْ عبيد الله بن عمر، ويحيى بصريّ، وعُبيد الله سرخسيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وصحابيّ عن صحابيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) بن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهما (عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ) رضي الله تعالى عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، رَخَّصَ) -بتشديد الخاء المعجمة- منْ الترخيص، وهو التسهيل فِي الأمر، والتيسير فيه، يقال: رخّص الشرع لنا فِي كذا ترخيصًا، وأرخص إرخاصًا: إذا يسّره، وسهّله. قاله الفيّوميّ (فِى بَيْعِ الْعَرَايَا) أي فِي بيع ثمر العرايا؛ لأن العرايا جمع عريّة، وهي النخلة، فيكون الكلام منْ باب حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مُقامه (تُبَاعُ) أي يباع ثمرها، كما بيّناه آنفاً، والجملة فِي محل نصب عَلَى الحال، وفي حديث سهل بن أبي حثْمة الآتي:"أن تباع" بزيادة "أن" وعليه فيكون فِي تأويل المصدر بدلًا منْ "بيع العرايا"(بِخِرْصِهَا) هو بفتح الخاء المعجمة، وأشار ابن التين إلى جواز كسرها، وجزم ابن العربيّ بالكسر، وأنكر الفتح، وجوّزهما النوويّ، وَقَالَ الفتح أشهر، قَالَ: ومعناه: تقدير ما فيها إذا صار تمرًا، فمن فتح قَالَ: هو اسم للفعل، ومن كسر قَالَ: اسم للشيء المخروص. انتهى. والخرص: هو التخمين، والْحَدْسُ. وسيأتي مزيد بسط فِي الكلام عليه فِي تفسير العرايا الآتي فِي المسألة الأولى، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم تخريجه فِي 32/ 4534 - وبقيت هنا مسائل تتعلّق به:

(المسألة الأولى): فِي اختلاف أهل العلم فِي تفسير العرايا:

قَالَ الإِمام البخاريّ رحمه الله تعالى 2/ 764 - 765:

[باب تفسير العرايا]: وَقَالَ مالك: العرية أن يُعرِي الرجل الرجل النخلة، ثم يتأذى

ص: 281

بدخوله عليه، فرخص له أن يشتريها منه بتمر. وَقَالَ ابن إدريس: العرية، لا تكون إلا بالكيل منْ التمر، يدا بيد، لا يكون بالْجِزاف. ومما يقويه: قول سهل بن أبي حثمة: "بالأوسق الموسقة". وَقَالَ ابن إسحاق فِي حديثه، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: كانت العرايا، أن يُعري الرجل فِي ماله النخلة والنخلتين. وَقَالَ يزيد، عن سفيان بن حسين: العرايا نخل، كانت توهب للمساكين، فلا يستطيعون أن ينتظروا بها، فرُخِّص لهم أن يبيعوها بما شاؤوا منْ التمر.

ثم أخرج بسنده عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن زيد بن ثابت رضي الله عنهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رَخَّص فِي العرايا أن تباع بخرصها كيلا، قَالَ موسى بن عقبة: والعرايا نخلات معلومات، تأتيها فتشتريها. انتهى.

قَالَ فِي "الفتح": قوله: وَقَالَ مالك: العرية أن يُعريَ الرجل الرجل النخلة: أي يهبها له، أو يهب له ثمرها، ثم يتأذى بدخوله عليه، فرُخص له: أي للواهب أن يشتريها: أي يشتري رُطَبَها منه: أي منْ الموهوبة له بتمر: أي يابس.

وهذا التعليق وصله ابن عبد البرّ منْ طريق ابن وهب، عن مالك. وروى الطحاوي منْ طريق ابن نافع، عن مالك: أن العرية: النخلة للرجل فِي حائط غيره، وكانت العادة أنهم يخرُجون بأهليهم فِي وقت الثمار إلى البساتين، فيَكرَه صاحب النخل الكثير، دخول الآخر عليه، فيقول له: أنا أعطيك بخرص نخلتك تمرا، فرُخِّص له فِي ذلك.

ومن شرط العرية عند مالك: أنها لا تكون بهذه المعاملة، إلا مع الْمُعرِي خاصة؛ لما يدخل عَلَى المالك منْ الضرر، بدخول حائطه، أو ليدفع الضرر عن الآخر بقيام صاحب النخل بالسقي، والكُلَف، ومن شرطها أن يكون البيع بعد بُدُوّ الصلاح، وأن يكون بتمر مؤجل، وخالفه الشافعيّ فِي الشرط الأخير، فَقَالَ: يشترط التقابض.

وقوله: "وَقَالَ ابن إدريس: العرية لا تكون إلا بالكيل منْ التمر، يدا بيد، ولا تكون بالجزاف"، ابن إدريس هَذَا رجح ابن التين أنه عبد الله الأودي الكوفيّ، وتردد ابن بطال، ثم السبكي، فِي "شرح المهذب"، وجزم المزي فِي "التهذيب" بأنه الشافعيّ، والذي فِي "الأم" للشافعي، وذكره عنه البيهقي، فِي "المعرفة" منْ طريق الربيع عنه، قَالَ: العرايا أن يشتري الرجل ثمر النخلة، فأكثر بخرصه منْ التمر، بأن يُخرَص الرُّطب، ثم يُقَدّر كم ينقص إذا يبس؟، ثم يشتري بخرصة تمرا، فإن تفرقا قبل أن يتقابضا، فسد البيع. انتهى.

وهذا وإن غاير ما علقه البخاريّ لفظا، فهو يوافقه فِي المعنى؛ لأن محصلهما أن لا يكون جزافا، ولا نسيئة.

ص: 282

قَالَ الحافظ: وَقَدْ جاء عن الشافعيّ، بلفظ آخر، قرأته بخط أبي عَلَى الصدفي بهامش نسخته، قَالَ: لفظ الشافعيّ: ولا تباع العريّة بالتمر، إلا أن تُخرَص العريّة، كما يُخرص المعشّر، فيقال: فيها الآن كذا وكذا، منْ الرُّطب، فإذا يبس كَانَ كذا وكذا، فيَدفَع منْ التمر بكيله خرصا، ويقبض النخلة بثمرها، قبل أن يتفرقا، فإن تفرقا قبل قبضها فسد.

قوله: "ومما يقويه": أي قول الشافعيّ بأن لا يكون جزافا، قول سهل بن أبي حثمة:"بالأوسق الموسقة"، وقول سهل هَذَا أخرجه الطبري، منْ طريق الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، عن سهل موقوفًا، ولفظه:"لا يباع الثمر فِي رءوس النخل، بالأوساق الْمُوَسَّقَة، إلا أوسقا: ثلاثة، أو أربعة، أو خمسة يأكلها النَّاس".

وما ذكره البخاريّ عن الشافعيّ، هو شرط العرية عند أصحابه، وضابط العرية عندهم: أنها بيع رُطَب، فِي نخل، يكون خرصه إذا صار تمرا، أقل منْ خمسة أوسق، بنظيره فِي الكيل منْ التمر، مع التقابض فِي المجلس.

ثم إِنَّ صور العرية كثيرة:

[منها]: أن يقول الرجل لصاحب حائط: بعني ثمر نخلات بأعيانها، بخرصها منْ التمر، فيخرصها ويبيعه، ويقبض منه التمر، ويسلم إليه النخلات بالتخلية، فينتفع برطبها.

[ومنها]: أن يهب صاحبُ الحائط لرجل نخلات، أو ثمر نخلات معلومة منْ حائطه، ثم يتضرر بدخوله عليه، فيخرصها، ويشتري منه رطبها، بقدر خرصه بتمر، يعجله له.

[ومنها]: أن يهبه إياها، فيتضرر الموهوب له، بانتظار صيرورة الرطب تمرا، ولا يحب أكلها رطبا؛ لاحتياجه إلى التمر، فيبيع ذلك الرطب بخرصه منْ الواهب، أو منْ غيره، بتمر يأخذه معجلا.

[ومنها]: أن يبيع الرجل ثمر حائطه، بعد بُدُوّ صلاحه، ويستثني منه نخلات معلومة، يُبقيها لنفسه، أو لعياله، وهي التي عُفي له عن خرصها فِي الصدقة، وسُمِّيت عرايا؛ لأنها أعريت منْ أن تُخرَص فِي الصدقة، فرُخّص لأهل الحاجة، الذين لا نقد لهم، وعندهم فضول منْ تمر قوتهم، أن يبتاعوا بذلك التمر منْ رطب تلك النخلات بخرصها.

[ومما يطلق عليه اسم عرية]: أن يُعرِي رجلًا تمر نخلات، يُبِيح له أكلها، والتصرف فيها، وهذه هبة مخصوصة.

[ومنها]: أن يُعري عامل الصدقة لصاحب الحائط، منْ حائطه نخلات معلومة، لا

ص: 283

يَخرُصها فِي الصدقة، وهاتان الصورتان منْ العرايا لا يبيع فيهما. انتهى "فتح" 5/ 134 - 136. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم العرايا:

ذهب أكثر أهل العلم إلى إباحتها، منهم: مالك، وأهل المدينة، والأوزاعي، وأهل الشام، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر.

وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يحل بيعها؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع المزابنة، والمزابنة بيع الثمر بالثمر"، متَّفقٌ عليه، ولأنه يبيع الرطب بالتمر، منْ غير كيل فِي أحدهما فلم يجز، كما لو كَانَ عَلَى وجه الأرض، أو فيما زاد عَلَى خمسة أوسق.

واحتجّ الجمهور بالحديث المتّفق عليه: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رخص فِي العرايا، فِي خمسة أوسق، أو دون خمسة أوسق"، فقد رواه جماعة منْ الصحابة: أبو هريرة، وزيد بن ثابت، وسهل بن أبي حثمة، وغيرهم.

قَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى: خرجه أئمة الْحَدِيث فِي كتبهم، وحديثهم فِي سياقه:"إلا العرايا"، كذلك فِي المتفق عليه، وهذه زيادة يجب الأخذ بها، ولو قُدِّرَ تعارضُ الحديثين وجب تقديم حديثنا؛ لخصوصه، جمعا بين الحديثين، وعملًا بكلا النصين.

وَقَالَ ابن المنذر: الذي نهى عن المزابنة، هو الذي أرخص فِي العرايا، وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى، والقياس لا يُصار إليه مع النص، مع أن فِي الْحَدِيث أنه أرخص فِي العرايا، والرخصة استباحة المحظور، مع وجود السبب الحاظر، فلو منع وجود السبب منْ الاستباحة، لم يبق لنا رخصة بحال. انتهى "المغني" 6/ 119 - 120.

وَقَالَ فِي "الفتح" -بعد أن أورد صور العرايا المذكورة فِي المسألة السابقة-: وجميع هذه الصور صحيحة عند الشافعيّ، والجمهور، وقصر مالك العرية فِي البيع عَلَى الصورة الثانية، وقصرها أبو عبيد عَلَى الصورة الأخيرة، منْ صور البيع، وزاد أنه رُخّص لهم أن يأكلوا الرطب، ولا يشتروه لتجارة، ولا ادّخار.

ومنع أبو حنيفة صور البيع كلها، وقصر العرية عَلَى الهبة، وهو أن يُعرِي الرجل تمر نخلة منْ نخله، ولا يسلم ذلك له، ثم يبدو له فِي ارتجاع تلك الهبة، فرُخص له أن يحتبس ذلك، ويعطيه بقدر ما وهبه له منْ الرطب، بخرصه تمرا، وحمله عَلَى ذلك أخذُه بعموم النهي عن بيع الثمر بالتمر.

وتُعُقب بالتصريح باستثناء العرايا، فِي حديث ابن عمر، كما تقدم، وفي حديث غيره. وحكى الطحاوي عن عيسى بن أبان، منْ أصحابهم: أن معنى الرخصة، أن الذي

ص: 284

وُهِبت له العرية لم يملكها؛ لأن الهبة لا تُملك إلا بالقبض، فلما جاز له أن يُعطي بدلها تمرا، وهو لم يملك المبدل منه، حَتَّى يستحق البدل، كَانَ ذلك مستثنى، وكان رخصة. وَقَالَ الطحاوي: بل معنى الرخصة فيه: أن المرء مأمور بإمضاء ما وعد به، ويعطي بدله، ولر لم يكن واجبا عليه، فلما أُذن له أن يحبس ما وعد به، ويعطي بدلا، ولا يكون فِي حكم منْ أخلَف وعده، ظهر بذلك معنى الرخصة، واحتج لمذهبه بأشياء، تَدُلُّ عَلَى أن العرية العطية، ولا حجة فِي شيء منها؛ لأنه لا يلزم منْ كون أصل العرية العطية، أن لا تُطلق العرية شرعا عَلَى صور أخرى.

قَالَ ابن المنذر: الذي رخص فِي العرية، هو الذي نهى عن بيع الثمر بالتمر، فِي لفظ واحد، منْ رواية جماعة منْ الصحابة، قَالَ: ونظير ذلك: الإذنُ فِي السَّلَم، مع قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تبع ما ليس عندك"، قَالَ: فمن أجاز السلم، مع كونه مستثنى منْ بيع ما ليس عندك، ومنع العرية، مع كونها مستثناة منْ بيع الثمر بالتمر، فقد تناقض، وأما حملهم الرخصة عَلَى الهبة، فبعيد مع تصريح الْحَدِيث بالبيع، واستثناء العرايا منه، فلو كَانَ المراد الهبة، لما استثنيت العرية منْ البيع، ولأنه عبر بالرخصة، والرخصة لا تكون إلا بعد ممنوع، والمنع إنما كَانَ فِي البيع، لا الهبة، وبأن الرخصة قُيِّدت بخمسة أوسق، أو ما دونها، والهبة لا تتقيد؛ لأنهم لم يفرقوا فِي الرجوع فِي الهبة، بين ذي رحم وغيره، وبأنه لو كَانَ الرجوع جائزا، فليس إعطاؤه بالتمر بدل الرطب، بل هو تجديد هبة أخرى، فإن الرجوع لا يجوز، فلا يصح تأويلهم. انتهى "فتح" 5/ 134 - 137.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبين لك مما ذكر أن الحقّ هو ما عليه الجمهور منْ جواز بيع العرايا؛ لرضوح أدلّته، وتبيّن لك أيضًا أن التأويلات التي ذكرها الحنفيّة لأحاديث العرايا كلها باطلة؛ لمعارضتها النصوص الصريحة. قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى بعد أن ذكر مذهب الحنفيّة فِي تأويل أحاديث العرايا: ما نصّه: وهذا المذهب إبطال لحديث العريّة منْ أصله، فيجب اطّراحه، وذلك أن حديث العرية تضمّن أنه بيعٌ مرخّصٌ فيه فِي مقدار مخصوص، وأبو حنيفة يُلغي هذه القيود الشرعيّة. انتهى "المفهم" 4/ 394.

والحاصل أن الواجب هو الأخذ بما دلّت عليه النصوص الصريحة "الصحيحة، وإلغاء ما خالفها منْ الآراء، التي لا تعتمد إلا عَلَى الأدلة القياسية، ولقد تكرّر إنشاد قول القائل:

إِذَا جَالَتْ خُيُولُ النَّصِّ يَوْمًا

تُجَارِي فِي مَيَادِينِ الْكِفَاحِ

غَدَتْ شُبَهُ الْقِيَاسِيِّينَ صَرْعَى

تَطِيرُ رُؤُوسُهُنَّ مَعَ الرِّيَاحِ

ص: 285

فتبصّر بالإنصاف، ولا تتهوَّر بتقليد ذو الاعتساف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة) فِي اختلاف أهل العلم القائلين بجواز بيع العرايا فِي مقدارها:

قَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى: لا تجوز العرايا فِي زيادة عَلَى خمسة أوسق، بغير خلاف نعلمه، وتجوز فيما دون خمسة أوسق، بغير خلاف بين القائلين بجوازها، فأما فِي خمسة أوسق، فلا يجوز عند إمامنا رحمه الله، وبه قَالَ ابن المنذر، والشافعي فِي أحد قوليه، وَقَالَ مالك، والشافعي فِي قول: يجوز، ورواه إسماعيل بن سعيد، عن أحمد؛ لأن فِي حديث زيد، وسهل أنه رَخّص فِي العرية مطلقا، ثم استثنى ما زاد عَلَى الخمسة فِي حديث أبي هريرة، وشك فِي الخمسة، فاستثنى اليقين، وبقي المشكوك فيه عَلَى مقتضى الإباحة، ولنا أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، نهى عن المزابنة، والمزابنة بيع الرطب بالتمر، ثم أرخص فِي العرية، فيما دون خمسة أوسق، وشك فِي الخمسة، فيبقى عَلَى العموم فِي التحريم، ولأن العرية رخصة، بُنيت عَلَى خلاف النص والقياس يقينا فيما دون الخمسة، والخمسة مشكوك فيها، فلا تثبت إباحتها مع الشك. وروى ابن المنذر بإسناده أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، رخص فِي بيع العرية، فِي الوسق، والوسقين، والثلاثة، والأربعة، والتخصيص بهذا يدل عَلَى أنه لا تجوز الزيادة فِي العدد عليه، كما اتفقنا عَلَى أنه لا تجوز الزيادة عَلَى الخمسة؛ لتخصيصه إياها بالذكر. وروى مسلم عن سهل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رخص فِي بيع العرية النخلة، والنخلتين، ولأن خمسة الأوسق فِي حكم ما زاد عليها، بدليل وجوب الزكاة فيها، دون ما نقص عنها، ولأنها قدر تجب الزكاة فيه، فلم يجز بيعه عرية، كالزائد عليها.

فأما قولهم: أرخص فِي العرية مطلقا، فلم يثبت أن الرخصة المطلقة سابقة عَلَى الرخصة المقيدة، ولا متأخرة عنها، بل الرخصة واحدة، رواها بعضهم مطلقة، وبعضهم مقيدة، فيجب حمل المطلق عَلَى المقيد، ويصير القيد المذكور فِي أحد الحديثين، كأنه مذكور فِي الآخر، ولذلك يقيد فيما زاد عَلَى الخمسة اتفاقا. انتهى "المغني" 6/ 121 - 122.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إلىه أحمد، وجماعة منْ تقديره بأقل منْ خمسة أوسق، هو الأرجح؛ لوضوح أدلّته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي أنه هل يجوز أن يشتري أكثر منْ خمسة فيما زاد عَلَى صفقة:

ص: 286

قَالَ ابن قدامة رحمه الله تعالى: لا يجوز أن يشتري أكثر منْ خمسة أوسق، فيما زاد عَلَى صفقة، سواء اشتراها منْ واحد، أو منْ جماعة. وَقَالَ الشافعيّ: يجوز للإنسان بيع جميع ثمر حائطه عرايا، منْ رجل واحد، ومن رجال فِي عقود متكررة؛ لعموم حديث زيد، وسهل، ولأن كل عقد جاز مرة، جاز أن يتكرر، كسائر البيوع. ولنا أن النهي عن المزابنة عامّ، استُثنِي منه العرية، فيما دون خمسة أوسق، فما زاد يبقى عَلَى العموم فِي التحريم؛ ولأن ما لا يجوز عليه العقد مرة، إذا كَانَ نوعا واحدا، لا يجوز فِي عقدين، كالذي عَلَى وجه الأرص، وكالجمع بين الأختين، فأما حديث سهل، فإنه مقيد بالنخلة والنخلتين، بدليل ما روينا، فيدل عَلَى تحريم الزيادة عليهما، ثم إن المطلق يحمل عَلَى المقيد، كما فِي العقد الواحد. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الحنبليّة منْ عدم جواز أكثر منْ خمسة أوسق مطلقًا هو الأرجح؛ لوضوح دليله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: إن باع رجل عريتين منْ رجلين، فيهما أكثر منْ خمسة أوسق جاز، وَقَالَ أبو بكر، والقاضي: لا يجوز؛ لما ذكرنا فِي المشتري، ولنا أنَّ الْمُغَلَّب فِي التجويز حاجة المشتري، بدليل ما روى محمود بن لبيد، قَالَ: قلت لزيد بن ثابت: ما عراياكم هذه؟ فسمى رجالا محتاجين منْ الأنصار، شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الرُّطَب يأتي، ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطبا يأكلونه، وعندهم فضول منْ التمر، فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها منْ التمر، الذي فِي أيديهم، يأكلونه رطبا"

(1)

. وإذا كَانَ سبب الرخصة حاجة المشتري، لم تعتبر حاجة البائع إلى البيع، فلا يتقيد فِي حقه بخمسة أوسق، ولأننا لو اعتبرنا الحاجة منْ المشتري، وحاجة البائع إلى البيع، أفضى إلى أن لا يحصل الإرفاق، إذ لا يكاد يتفق وجود الحاجتين، فتسقط الرخصة، فإن قلنا: لا يجوز ذلك بطل العقد الثاني، وإن اشترى عريتين، أو باعهما، وفيهما أقل منْ خمسة أوسق جاز وجها واحدا. قاله فِي "المغني" 6/ 122 - 123.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي القول الأول أرجح. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): أنه لا يشترط فِي بيع العرية، أن تكون هبة لبائعها، قَالَ ابن قُدامة: هَذَا ظاهر كلام أصحابنا، وبه قَالَ الشافعيّ، وظاهر قول الْخِرَقي أنه شرط. وَقَدْ

(1)

ذكره الزيلعيّ فِي "نصب الراية" 4/ 13 - 14 نقلًا عن صاحب "التنقيح"، وَقَالَ: لم أجد له سندًا بعد الفحص البالغ، وذكره الشافعيّ فِي "باب العرايا" منْ "كتاب البيوع""الأم" 3/ 47.

ص: 287

روى الأثرم، قَالَ: سمعت أحمد سئل عن تفسير العرايا؟ فَقَالَ: العريا أن يُعري الرجل الجار، أو القرابة للحاجة، أو المسكنة، فللمُعرَى أن يبيعها ممن شاء. وَقَالَ مالك: بيع العرايا الجائز هو أن يُعري الرجلُ الرجل نخلات منْ حائطه، ثم يكره صاحب الحائط، دخول الرجل المعرَى؛ لأنه ربما كَانَ مع أهله فِي الحائط، فيؤذيه دخول صاحبه عليه، فيجوز أن يشتريها منه.

واحتجوا بأن العرية فِي اللغة: هبة ثمرة النخيل عاما، قَالَ أبو عبيد: الإعراء أن يجعل الرجل للرجل ثمرة نخله عامها ذلك، قَالَ الشاعر الأنصاريّ، يصِف النخل [منْ الطويل]:

فَلَيْسَتْ بِسَنْهَاءَ وَلا رُجَّبِيَّةٍ

وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الْجَوَائِحِ

يقول: إنا نُعرِيها النَّاس، فتعين صرف اللفظ إلى موضوعه لغة، ومقتضاه فِي العربية ما لم يوجد ما يصرفه عن ذلك.

ولنا حديث زيد بن ثابت، وهو حجة عَلَى مالك، فِي تصريحه بجواز بيعها منْ غير الواهب، ولأنه لو كَانَ لحاجة الواهب، لما اختص بخمسة أوسق؛ لعدم اختصاص الحاجة بها، ولم يجز بيعها بالتمر؛ لأن الظاهر منْ حال صاحب الحائط، الذي له النخيل الكثير، يعريه النَّاس، أنه لا يعجز عن أداء ثمن العرية، وفيه حجة عَلَى منْ اشترط كونها موهوبة لبائعها؛ لأن علة الرخصة حاجة المشتري، إلى أكل الرطب، ولا ثمن معه، سوى التمر، فمتى وجد ذلك جاز البيع، ولأن اشتراط كونها موهوبة، مع اشتراط حاجة المشتري إلى أكلها رطبا، ولا ثمن معه، يفضي إلى سقوط الرخصة؛ إذ لا يكاد يتفق ذلك، ولأن ما جاز بيعه إذا كَانَ موهوبًا، جاز وإن لم يكن موهوبا، كسائر الأموال، وما جاز بيعه لواهبه، جاز لغيره، كسائر الأموال، وإنما سمى عرية؛ لتعريه عن غيره وإفراده بالبيع. قاله فِي "المغني" 6/ 123 - 124.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الأظهر عدم اشتراط كونها موهوبة للبائع؛ لوضوح مستنده. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): أنه إنما يجوز بيعها بخرصها منْ التمر، لا أقل منه، ولا أكثر، ويجب أن يكون التمر الذي يشتري به معلوما بالكيل، ولا يجوز جزافا، قَالَ ابن قُدامة: لا نعلم فِي هَذَا عند منْ أباح بيع العرايا اختلافا؛ لما روى زيد بن ثابت رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص فِي العرايا، أن تُباع بخرصها كيلا"، متَّفقٌ عليه، ولمسلم:"أن تؤخذ بمثل خرصها تمرا، يأكلها أهلها رطبا"، ولأن الأصل اعتبار الكيل منْ الطرفين، وسقط فِي أحدهما للتعذر، فيجب فِي الآخر بقضية الأصل، ولأن ترك الكيل منْ

ص: 288

الطرفين، يُكثِرُ الغرر، وفي تركه منْ أحدهما يقلل الغرر، ولا يلزم منْ صحته مع قلة الغرر، صحته مع كثرته.

ومعنى خرصها بمثلها منْ التمر: أن يُطيف الخارص بالعرية، فينظر كم يجيء منها تمرا؟ فيشتريها المشتري بمثلها تمرا، وبهذا قَالَ الشافعيّ، ونقل حنبل عن أحمد أنه قَالَ: يخرصها رُطَبا، ويعطي تمرا رُخصة، وهذا يحتمل الأول، ويحتمل أنه يشتريها بتمر، مثل الرطب الذي عيها؛ لأنه بيعٌ اشتُرطت المماثلة فيه، فاعتبرت حال البيع، كسائر البيوع، ولأن الأصل اعتبار المماثلة فِي الحال، وأن لا يباع الرطب بالتمر، وخولف الأصل فِي بيع الرطب بالتمر، فيبقَى فيما عداه عَلَى قضية الدليل، وَقَالَ القاضي: الأول أصح؛ لأنه يبنى عَلَى خرص الثمار فِي العُشرِ الصحيح، ثم خرصه تمرا، ولأن المماثلة فِي بيع التمر بالتمر معتبرة حالة الادّخار، وبيع الرطب بمثله تمرا يفضي إلى فوات ذلك.

فأما إن اشتراها بخرصها رطبا لم يجز، وهذا أحد الوجوه لأصحاب الشافعيّ، والثاني: يجوز، والثالث: لا يجوز مع اتفاق النوع، ويجوز مع اختلافه، ووجه جوازه ما روى الْجُوزَجاني عن أبي صالح، عن الليث، عن ابن شهاب، عن سالم، عن ابن عمر، عن زيد بن ثابت، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه أرخص بعد ذلك فِي بيع العرية بالرطب، أو التمر، ولم يرخص فِي غير ذلك"

(1)

، ولأنه إذا جاز بيع الرطب بالتمر، مع اختصاص أحدهما بالنقص فِي ثاني الحال، فلأن يجوز مع عدم ذلك أولى.

واحتجّ الأولون بما رَوَى مسلم بإسناده، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص فِي العرايا، أن تؤخذ بمثل خرصها تمرا"، وعن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نَهَى عن بيع الثمر بالتمر، وَقَالَ:"ذلك الربا، تلك المزابنة"، إلا أنه رخص فِي العرية: النخلة، والنخلتين، يأخذها أهل البيت، بخرصها تمرا، يأكلونها رطبا، رواه مسلم، ولأنه مبيع يجب فيه مثله تمرا، فلم يجز بيعه بمثله رطبا، كالتمر الجافّ، ولأن منْ له رطب، فهو مستغن عن شراء الرطب بأكل ما عنده، وبيع العرايا يشترط فيه حاجة المشتري عَلَى ما أسلفناه، وحديث ابن عمر شك فِي الرطب والتمر، فلا يجوز العمل به مع الشك، سيما وهذه الأحاديث تبينه، وتزيل الشك. قاله فِي "المغني" 6/ 124 - 126 وهو بحث نفيس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

هو الْحَدِيث الآتي للمصنف فِي الباب التالي.

ص: 289

(المسألة السابعة): يشترط فِي بيع العرايا التقابض فِي المجلس، وهذا قول الشافعيّ، قَالَ ابن قُدامة: ولا نعلم فيه مخالفا؛ لأنه بيع تمر بتمر، فاعتبر فيه شروطه، إلا ما استثناه الشرع مما لا يمكن اعتباره فِي بيع العرايا، والقبض فِي كل واحد منهما عَلَى حسبه، ففي التمر اكتياله أو نقله، وفي الثمرة التخليةُ، وليس منْ شروطه حضور التمر عند النخيل، بل لو تبايعا بعد معرفة التمر والثمرة، ثم مضيا جميعًا إلى النخلة، فسلمها إلى مشتريها، ثم مشيا إلى التمر فتسلمه منْ مشتريها، أو تسلم التمر، ثم مضيا إلى النخلة جميعًا، فسلمها إلى مشتريها، أو سلم النخلة، ثم مضيا إلى التمر، فتسلمه جاز؛ لأن التفرق لا يحصل قبل القبض.

إذا ثبت هَذَا، فإن بيع العرية يقع عَلَى وجهين:[أحدهما]: أن يقول بعتك ثمرة هذه النخلة بكذا وكذا، منْ التمر ويصفه.

[والثاني]: أن يكيل منْ التمر بقدر خرصها، ثم يقول: بعتك هَذَا بهذا، أو يقول بعتك ثمرة هذه النخلة بهذا التمر، ونحو هَذَا، وإن باعه بمعين، فقَبضُهُ بنقله وأخذه، وإن باع بموصوف فقبضه باكتياله. انتهى "المغني". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): أنه لا يجوز بيعها إلا لمحتاج إلى أكلها رطبا، ولا يجوز بيعها لغني، وهذا أحد قولي الشافعيّ، وأباحها فِي القول الآخر مطلقا لكل أحد؛ لأن كل بيع جاز للمحتاج، جاز للغني كسائر البياعات، ولأن حديث أبي هريرة، وسهل مطلقان.

ولنا حديث زيد بن ثابت، حين سأله محمود بن لبيد: ما عراياكم هذه؟ فسمى رجالا محتاجين منْ الأنصار، شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الرُّطَب يأتي، ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطبا يأكلونه، وعندهم فضول منْ التمر، فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها منْ التمر، يأكلونه رطبا

(1)

، ومتى خولف الأصل بشرط، لم تجر مخالفته، بدون ذلك الشرط؛ ولأن ما أبيح للحاجة لم يبح مع عدمها، كالزكاة للمساكين، والترخصِ فِي السفر فعلى هَذَا، متى كَانَ صاحبها غير محتاج إلى أكل الرطب، أو كَانَ محتاجا، ومعه منْ الثمن مما يشتري به العرية، لم يجز له شراؤها بالتمر، وسواء باعها لواهبها، تحرزا منْ دخول صاحب العرية حائطه، كمذهب مالك، أو لغيره، فأنه لا يجوز. وَقَالَ ابن عقيل: يباح، ويحتمله كلام أحمد؛ لأن الحاجة وجدت منْ الجانبين، فجاز كما لو كَانَ المشتري محتاجا إلى أكلها، ولنا حديث زيد الذي ذكرناه، والرخصة

(1)

تقدّم أن هَذَا الْحَدِيث لم يوجد له سند، وإنما ذكره الشافعيّ فِي "الأم".

ص: 290

لمعنى خاص، لا تثبت مع عدمه؛ ولأنه فِي حديث زيد، وسهل:"يأكلها أهلها رطبا"، ولو جاز لتلخيص الْمُعرَي لما شرط ذلك.

فيشترط إذًا فِي بيع العرية شروط خمسة: أن يكون فيما دون خمسة أوسق، وبيعها بخرصها منْ التمر، وقبض ثمنها قبل التفرق، وحاجة المشتري إلى أكل الرطب، وأن لا يكون معه ما يشتري به سوى التمر، واشترط القاضي، وأبو بكر شرطا سادسا، وهو حاجة البائع إلى البيع، واشترط الخرقي كونها موهوبة لبائعها، واشترط أصحابنا لبقاء العقد أن يأكلها أهلها رطبا، فإن تركها حَتَّى تصير تمرا، بطل العقد. انتهى "المغني" 6/ 128.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: اشتراط كون المشتري محتاجًا إلى أكلها رطبًا هو الظاهر؛ لما تقدّم منْ رواية مسلم: "أن تؤخذ بمثل خرصها يأكلها أهلها رُطبًا"، وأما الْحَدِيث الذي ذكره ابن قُدامة عن زيد بن ثابت:"أن رجالا منْ المحتاجين شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرطب يأتي الخ"، فليس بثابت؛ إذ لم يوجد له سند، كما نقله الزيلعيّ فِي "نصب الراية" 4/ 13 - 14 عن صاحب "التنقيح"، فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4541 -

(حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ، بِخِرْصِهَا تَمْرًا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.

و"عيسى بن حمّاد": المصريّ المعروف بزغبة. و"الليث": هو ابن سعد. و"يحيى ابن سعيد": هو الأنصاريّ. والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌35 - (بَيْعِ الْعَرَايَا بِالرُّطَبِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: أشار المصنّف رحمه الله تعالى بهذه الترجمة إلى

ص: 291

ترجيح القول بجواز بيع الرطب المخروص، عَلَى رؤوس النخل، بالرطب المخروص أيضًا عَلَى الأرض، وهذا هو الراجح؛ لصحة الْحَدِيث الذي أوردوه فِي الباب، وهو كما قَالَ فِي "الفتح" 5/ 125 - رأي ابن خيران منْ الشافعيّة. وقيل: لا يجوز، وهو رأي الإصطخري، وصححه جماعة. وقيل: إن كانا نوعا واحدا لم يجز، إذ لا حاجة إليه، وإن كانا نوعين جاز، وهو رأي أبي إسحاق، وصححه ابن أبي عصرون، وهذا كله فيما إذا كَانَ أحدهما عَلَى النخل، والآخر عَلَى الأرض. وقيل: ومثله ما إذا كانا معا عَلَى النخل. وقيل: إن محله فيما إذا كانا نوعين. والله تعالى أعلم بالصواب.

4542 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ سَالِمًا أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: إِنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَخْبَرَهُ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا، بِالرُّطَبِ، وَبِالتَّمْرِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، أبي داود سليمان بن سيف الحرّانيّ، وهو ثقة. و"يعقوب بن إبراهيم": هو الزهريّ. و"أبوه": هو إبراهيم بن سعد الزهريّ المدنيّ. و"صالح": هو ابن كيسان.

والسند مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فحرّانيّ، وفيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، وفيه ثلاثة منْ التابعين، يروي بعضهم عن بعض، صالح، وابن شهاب، وسالم، وأن رواية صالح عن الزهريّ منْ رواية الأقران، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، وَقَدْ تقدّم هَذَا غير مرّة.

وقوله: "وبالتمر" هكذا رواية المصنّف رحمه الله تعالى "وبالتمر" بالواو، وفي رواية الشيخين:"أو بالتمر" بـ"أو"، قَالَ فِي "الفتح": كذا عند البخاريّ ومسلم، منْ رواية عقيل، عن الزهريّ، بلفظ:"أو"، وهي محتملة أن تكون للتخيير، وأن تكون للشك، وأخرجه النسائيّ، والطبراني، منْ طريق صالح بن كيسان، والبيهقي، منْ طريق الأوزاعي، كلاهما عن الزهريّ، بلفظ:"بالرطب، وبالتمر، ولم يرخص فِي غير ذلك"، هكذا ذكره بالواو، وهذا يؤيد كون "أو" بمعنى التخيير، لا الشك، بخلاف ما جزم به النوويّ، وكذلك أخرجه أبو داود، منْ طريق الزهريّ أيضًا، عن خارجة بن زيد ابن ثابت، عن أبيه، وإسناده صحيح، وليس هو اختلافا عَلَى الزهريّ، فإن ابن وهب رواه عن يونس، عن الزهريّ بالإسنادين، أخرجهما النسائيّ، وفرقهما.

قَالَ فِي "الفتح" 5/ 128: وإذا ثبتت هذه الرواية، كانت فيها حجة للوجه الصائر إلى

ص: 292

جواز بيع الرطب المخروص، عَلَى رؤوس النخل، بالرطب المخروص أيضًا عَلَى الأرض، وهو رأى ابن خيران منْ الشافعيّة إلى آخر ما سبق بيانه أوّل الباب.

والحديث متَّفقٌ عليه، لكن بلفظ:"أو بالتمر"، وَقَدْ تقدّم تخريجه. والله تعالى أعلم.

وقوله: "ولم يُرخّص فِي غير ذلك" فيه أن الترخيص خاصّ فِي العرايا بالرطب، وبالتمر، وَقَدْ اختلف السلف هل يُلحق العنب، أو غيره بالرطب فِي العرايا؟ فقيل: لا، وهو قول أهل الظاهر، واختاره بعض الشافعيّة، منهم المحبّ الطبريّ. وقيل: يُلحق العنب خاصّة، وهو مشهور مذهب الشافعيّ، وقيل: يُلحق كل ما يُدّخر، وهو قوله المالكية. وقيل: يُلحق كلّ ثمرة، وهو منقول عن الشافعيّ أيضًا. قاله فِي "الفتح" 5/ 129.

وَقَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى: فِي "المغني" 6/ 128 - 129: ولا يجوز بيع العرية فِي غير النخل، وهو اختيار ابن حامد، وقول الليث بن سعد، إلا أن يكون مما ثمرته لا يجري فيها الربا، فيجوز بيع رطبها بيابسها؛ لعدم جريان الربا فيها، ويحتمل أن يجوز فِي العنب والرطب دون غيرهما، وهو قول الشافعيّ؛ لأن العنب كالرطب، فِي وجوب الزكاة فيهما، وجواز خرصهما، وتوسيقهما، وكثرة تيبيسهما، واقتياتهما فِي بعض البلدان، والحاجة إلى أكل رطبهما، والتنصيص عَلَى الشيء يوجب ثبوت الحكم فِي مثله، ولا يجوز فِي غيرهما؛ لاختلافهما فِي أكثر هذه المعاني، فإنه لا يمكن خرصها؛ لتفرقها فِي الأغصان، واستتارها بالأوراق، ولا يُقتات يابسها، فلا يحتاج إلى الشراء به.

وَقَالَ القاضي: يجوز فِي سائر الثمار، وهو قول مالك، والأوزاعي؛ قياسا عَلَى ثمرة النخيل. ولنا: ما روى الترمذيّ: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، نهى عن المزابنة: الثمر بالتمر، إلا أصحاب العرايا، فإنه قد أذن لهم، وعن بيع العنب بالزبيب، وكل ثمرة بِخِرْصها، وهذا حديث حسن، وهذا يدل عَلَى تخصيص العرية بالتمر، وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه رخص بعد ذلك فِي بيع العرية بالرطب، أو بالتمر، ولم يرخص فِي غير ذلك، وعن ابن عمر، قَالَ: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن المزابنة، والمزابنة بيع ثمر النخل بالتمر كيلا، وبيع العنب بالزبيب كيلا، وعن كل ثمرة بخرصه، ولأن الأصل يقتضي تحريم بيع العرية، وإنما جازت فِي ثمرة النخيل رخصة، ولا يصح قياس غيرها عليها؛ لوجهين:[أحدهما]: أن غيرها لا يساويها فِي كثرة الاقتيات بها، وسهولة خرصها، وكون الرخصة فِي الأصل لأهل المدينة، وإنما كانت حاجتهم إلى الرطب

ص: 293

دون غيره. [الثاني]: أن القياس لا يعمل به، إذا خالف نصا، وقياسهم يخالف نصوصا غير مخصوصة، وإنما يجوز التخصيص بالقياس عَلَى المحل المخصوص، ونَهْيُ النبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع العنب بالزبيب، لم يدخله تخصيص، فيقاسَ عليه، وكذلك سائر الثمار، والله أعلم. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بعدم إلحاق غير التمر بالتمر هو الأرجح عندي؛ لظهور أدلته، عملًا بالنصّ؛ لأن الترخيص فِي ذلك عَلَى خلاف الأصل؛ لأن الأصل عدم جواز بيع الرطب بالتمر؛ لعدم تساويهما كيلًا، وهو المسمّى بالمزابنة الذي ورد النهي عنه، كما سيأتي فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى، فما ثبت عَلَى خلاف الأصل يُقتصر عليه، فلا يكون محلًّا للقياس، فتأمل بإنصاف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4543 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا، فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، أَوْ مَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ").

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(إسحاق بن منصور) بن بَهْرام الْكَوْسج، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقة ثبت [11] 72/ 88.

2 -

(يعقوب بن إبراهيم) بن كثير بن أفلح العبديّ مولاهم، أبو يوسف الدورقيّ البغداديّ، ثقة حافظ [10] 21/ 22.

3 -

(عبد الرحمن) بن مهديّ بن حسّان العنبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقة ثبت حافظ 42/ 49.

4 -

(مالك) بن أنس، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7] 7/ 7.

5 -

(داود بن الْحُصين) الأمويّ مولاهم، أبو سليمان المدنيّ، ثقة، إلا فِي عكرمة، ورمي برأي الخوارج [6] 20/ 1226.

6 -

(أبو سفيان) مولى ابن أبي أحمد، قيل اسمه وهب، وقيل: قُزْمان، ثقةٌ [3] 20/ 1226.

[تنبيه]: قَالَ فِي "الفتح" 5/ 129: أبو سفيان هَذَا مشهور بكنيته، حَتَّى قَالَ النوويّ، تبعًا لغيره: لا يعرف اسمه، وسبقهم إلى ذلك أبو أحمد الحاكم، فِي "الكنى"، لكن حكى أبو داود فِي "السنن" فِي روايته لهذا الْحَدِيث، عن القعنبي شيخِهِ فيه: أن اسمه قُزْمان. وابن أبي أحمد -الذي نُسب إليه-: هو عبد الله بن أبي أحمد بن

ص: 294

جحش الأسدي، ابن أخي زينب بنت جحش، أم المؤمنين، وحكى الواقدي: أن أبا سفيان، كَانَ مولى لبني عبد الأشهل، وكان يجالس عبد الله بن أبي أحمد، فنسب إليه. انتهى.

7 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات المدنيين منْ مالك، و"إسحاق" مروزيّ، و"يعقوب" بغداديّ، و"عبد الرحمن" بصريّ. (ومنها): أن فيه يعقوب شيخه هو أحد مشايخ أصحاب الكتب الستة الذين رووا عنهم بدون واسطة، وهم تسعة، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين منْ الرواية. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: ذكر ابن التين تبعًا لغيره، أن داود بن الحصين تفرد بهذا الإسناد، قَالَ: وما رواه عنه إلا مالك بن أنس. قاله فِي "الفتح" 5/ 131 - 132. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنه (أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم، رَخَّصَ) بتشديد الخاء المعجمة، منْ الترخيص، ويقال فيه أرخص، والترخيص: هو التيسير، والتسهيل (فِي الْعَرَايَا) جمع عريّة، بتشديد التحتانيّة، كعطيّة وعطايا، وهديّة، وهدايا، مشتقّة منْ التعرّي، وهو التجرّد؛ لأنها عُرّيت عن حكم باقي البستان، قَالَ الأزهريّ: هي فَعيلة بمعنى فاعلة. وَقَالَ الهرويّ وغيره: فعيلة بمعنى مفعولة، منْ عراه يعروه: إذا أتاه، وتردّد إليه؛ لأن صاحبها يتردّد إليها. وقيل: سمّيت بذلك؛ لتخلّي صاحبها الأول عنها منْ بين سائر نخله. وقيل: غير ذلك. قاله النوويّ فِي "شرح مسلم" 10/ 429. وَقَدْ تقدّم البحث عنها فيما سبق بأتمّ منْ هَذَا.

والمعنى: أنه رخّص فِي بيع ثمر العرايا؛ لأن العريّة هي النخلة، كما تقدّم، فالكلام عَلَى حذف مضاف، وقوله (أَنْ تُبَاعَ) فِي تأويل المصدر بدل منْ "العرايا"(بِخِرْصِهَا) المشهور فِي كتب اللغة أنه بكسر، فسكون: اسم بمعنى المخروص: أي القدر الذي يُعرف بالتخمين، وأما بفتح، فسكون: فهو مصدرٌ بمعنى التخمين. قَالَ فِي "النهاية" 2/ 22 - 23: خَرَصَ النخلة، والكرمة يخرُصها خَرْصًا أي منْ باب نصر-: إذا حَزَرَ ما عليها تمرًا، ومن العنب زبيبًا، فهو منْ الخرص: أي الظنّ؛ لأن الْحَزْرَ إنما هو تقدير بظنّ، والاسم الْخِرْصُ بالكسر، يقال: كم خِرْصُ أرضك؟ وفاعل ذلك الخارص. انتهى.

ص: 295

وَقَالَ القرطبيّ؛ الخِرص بكسر الخاء: هو اسم للمخروص، وبفتح الخاء هو: المصدر، والرواية هنا بالكسر. انتهى "المفهم" 4/ 394.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وَقَدْ تقدّم إنكار ابن العربيّ الفتح، وجزمه بالكسر، لكن جوّز النوويّ الوجهين، وَقَالَ: الفتح أشهر، والظاهر أن الأشهر هنا بالكسر، عكس ما قاله النوويّ؛ لأنه المشهور فِي اللغة، والرواية، كما أشار إليه القرطبيّ آنفاً.

والحاصل أن المكسور اسم للمخروص، والمفتوح مصدر بمعنى التخمين، لكن لو أريد به المفعول، كالخلق بمعنى المخلوق لكان وجيهًا.

هَذَا كله إن جُعلت الباء فِي "بخرصها" للمقابلة، هو المتبادر الشائع، والمعنى: أنها تباع بقدر المخروص، وأما إذا كانت للسببيّة، فالخرص يكون مصدرًا بمعنى التخمين. أفاده السنديّ. والله تعالى أعلم.

ومعنى الْحَدِيث أنه صلى الله عليه وسلم رخّص فِي العرايا أن يباع ثمرها بعد أن يُخرَص، ويُعرَف قدره بقدر ذلك منْ التمر، كما سيأتي البحث فيه.

قَالَ ابن المنذر رحمه الله تعالى: ادّعى الكوفيون أن بيع العرايا منسوخ بنهيه صلى الله عليه وسلم، عن بيع الثمر بالتمر، وهذا مردود؛ لأن الذي روى النهي عن بيع الثمر بالتمر، هو الذي روى الرخصة فِي العرايا، فأثبت النهي والرخصة معا.

ورواية سالم الماضية قبل بابين، تدل عَلَى أن الرخصة فِي بيع العرايا، وقع بعد النهي عن بيع الثمر بالتمر، ولفظه عن ابن عمر، مرفوعًا:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر بالتمر"، قَالَ: وَقَالَ ابن عمر: حدّثني زيد بن ثابت، "أنه صلى الله عليه وسلم رخّص فِي العرايا"، ولفظ البخاريّ "أنه صلى الله عليه وسلم رخص بعد ذلك فِي بيع العرية"، وهذا هو الذي يقتضيه لفظ الرخصة، فإنها تكون بعد منع، وكذلك بقية الأحاديث، التي وقع فيها استثناء العرايا، بعد ذكر بيع الثمر بالتمر، وَقَدْ تقدم إيضاح ذلك كله، مطولًا فِي الباب الماضي، فلا تنس. والله تعالى أعلم.

(فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ) متعلّق بـ"رخّص"، و"الأوسق": جمع وَسْق، بفتح، فسكون، ويُجمع عَلَى وُسُوق أيضًا، كفلس وأفلس، وفُلُوس، ويقال: الوسق بكسر الواو أيضًا، والجمع أوْساقٌ، كحِمْل وأَحمال. قَالَ ابن منظور: الوَسْق، والوِسْق -أي بالفتح، والكسر-: مِكْيلة معلومة، وقيل: هو حِمْل بعير، وهو ستّون صاعًا بصاع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو خمسة أرطال وثلث، فالوسق عَلَى هَذَا الحساب: مائة وستّون مَناً، قَالَ الزجّاج: خمسة أوسق: هي خمسة وعشرون قَفِيزًا، قَالَ: وهو قَفيزنا الذي يُسمّى الْمُعدّل، وكلُّ وسق بالْمُلَجّم ثلاثة أقفزة، قَالَ: وستّون صاعًا أربعة وعشرون مَكُّوكًا بالْمُلَجّم، وذلك

ص: 296

ثلاثة أَقْفِزة. وَقَالَ فِي "التهذيب": الوسق بالفتح: ستّون صاعًا، وهو ثلاثة وعشرون رِطلًا، عند أهل الحجاز، وأربعمائة وثمانون رطلًا عند أهل العراق عَلَى اختلافهم فِي مقدار الصالح والمدّ، والأصل فِي الوَسق: الْحَمْلُ، وكلُّ شيء وَسَقْته، فقد حَمَلته. انتهى "لسان العرب" 10/ 378 - 379.

[فائدة]: قد عرفت مما سبق آنفاً أن الوسق ستون صاعًا بصاع النبيّ صلى الله عليه وسلم، والصاع النبويّ بالموازين المعاصرة عَلَى ما قدّره العلماء المتأخّرون هو 3000 (ثلاثة آلاف غرام)، فالخمسة الأوسق تكون ثلاثمائة صاع، فتكون الثلاثمائة الصاع 9000 (تسعة آلاف غرام). انظر ما كتبه الشيخ البسّام فِي "توضيح الأحكام، شرح بلوغ المرام" 3/ 45. والله تعالى أعلم.

(أَوْ مَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ") شكّ منْ الراوي، وَقَدْ بيّن مسلم رحمه الله تعالى فِي روايته أن الشكّ منْ داود بن الحصين، وللبخاريّ فِي آخر "كتاب الشرب" منْ وجه آخر عن مالك مثله.

[تنبيه]: قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: قوله: "أو ما دون خمسة" شكّ منْ الراوي، أو هو تعميم فِي طرف النقصان؛ لئلا يُتوهّم أن خمسة أوسق ذُكرت تحديدًا لمنع النقصان، ففيه بيان أن خمسة أوسق حدّ لمنع الزيادة فقط. انتهى 7/ 268 - 269.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الاحتمال الذي ذكره السنديّ رحمه الله غلطٌ، بل الصواب أن "أو" للشكّ كما بيّن ذلك مسلم رحمه الله تعالى فِي "صحيحه"، أن الشكّ منْ داود بن الحصين، ولفظه:"رخَص رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي بيع العرايا بخِرصها فيما دون خمسة أوسُق، أو فِي خمسة -يشكّ داود، قَالَ: خمسة، أو دون خمسة". انتهى.

فتبيّن أن "أو" هنا للشكّ منْ الراوي، لا غير. فتبصّر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث حديث أبي هريرة رضي الله عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -35/ 4543 - وفي "الكبرى" 35/ 6132. وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 290 و"المساقاة" 2382 (م) فِي "البيوع" 3869 (د) فِي "البيوع" 3364 (ت) فِي "البيوع" 1301. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: ساق البخاريّ رحمه الله تعالى حديث أبي هريرة رضي الله عنه هَذَا، فَقَالَ: حدّثنا

ص: 297

عبد الله بن عبد الوهّاب، قَالَ: سمعت مالكًا، وسأله عُبيد الله بن الربيع: أحدّثك داود، عن أبي سفيان، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رخّص فِي بيع العرايا فِي خمسة أوسق، أو دون خمسة أوسق؟، قَالَ: نعم"، ونحوه لمسلم، إلا أن السائل عنده هو يحيى بن يحيى شيخ مسلم فيه.

قَالَ فِي "الفتح": قوله: قَالَ: نعم، القائل: هو مالك، وكذلك أخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى، قَالَ: قلت لمالك: أحدثك داود، فذكره، وَقَالَ فِي آخره: نعم، وهذا التحمل يسمى عرض السماع، وكان مالك يختاره عَلَى التحديث منْ لفظه، واختلف أهل الْحَدِيث هل يشترط أن يقول الشيخ: نعم، أم لا؟، والصحيح أن سكوته ينزل منزلة إقراره، إذا كَانَ عارفا، ولم يمنعه مانع، وإذا قَالَ: نعم فهو أولى بلا نزاع. انتهى.

وَقَدْ تقدّم هَذَا البحث فِي هَذَا الشرح غير مرّة. وفوائد الْحَدِيث تقدّمت قريبًا أيضًا. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): قَالَ فِي "الفتح": وَقَدْ اعتبر منْ قَالَ بجواز بيع العرايا بمفهوم هَذَا العدد، ومنعوا ما زاد عليه، واختلفوا فِي جواز الخمسة؛ لأجل الشكّ المذكور، والخلاف عند المالكية، والشافعية، والراجح عند المالكية: الجواز فِي الخمسة، فما دونها، وعند الشافعيّة الجواز فيما دون الخمسة، ولا يجوز فِي الخمسة، وهو قول الحنابلة، وأهل الظاهر.

فمأخذ المنع: أن الأصل التحريم، وبيع العرايا رخصة، فيؤخذ منه بما يتحقق منه الجواز، ويُلغى ما وقع فيه الشك.

وسبب الخلاف: أن النهي عن بيع المزابنة، هل ورد متقدما، ثم وقعت الرخصة فِي العرايا، أو النهي عن بيع المزابنة، وقع مقرونا بالرخصة، فِي بيع العرايا، فعلى الأول لا يجوز فِي الخمسة؛ للشك فِي رفع التحريم، وعلى الثاني يجوز؛ للشك فِي قدر التحريم، ويُرَجِّح الأول روايةُ سالم المذكورة، قبل بابين.

واحتج بعض المالكية بأن لفظه "دون" صالحة لجميع ما تحت الخمسة، فلو عملنا بها للزم رفع هذه الرخصة.

وتعقب بأن العمل بها ممكن، بأن يحمل عَلَى أقل ما تصدق عليه، وهو المفتى به فِي مذهب الشافعيّ، وَقَدْ روى الترمذيّ، حديث الباب منْ طريق زيد بن الحباب، عن مالك، بلفظ:"أرخص فِي بيع العرايا، فيما دون خمسة أوسق"، ولم يتردد فِي ذلك. وزعم المازري أن ابن المنذر ذهب إلى تحديد ذلك بأربعة أوسق؛ لوروده فِي حديث

ص: 298

جابر منْ غير شك فيه، فتعين طرح الرواية التي وقع فيها الشك، والأخذ بالرواية المتيقنة، قَالَ: وألزم المزنيُّ الشافعىَّ القولَ به. انتهى.

وفيما نقله نظر، أما ابن المنذر فليس فِي شيء منْ كتبه ما نقله عنه، وإنما فيه ترجيح القول الصائر إلى أن الخمسة لا تجوز، وإنما يجوز ما دونها، وهو الذي ألزم المزنيُّ أن يقول به الشافعيُّ، كما هو بَيِّن منْ كلامه. وَقَدْ حكى ابن عبد البرّ هَذَا القول عن قوم، قَالَ: واحتجوا بحديث جابر، ثم قَالَ: ولا خلاف بين الشافعيّ، ومالك، ومن اتبعهما فِي جواز العرايا فِي أكثر منْ أربعة أوسق، مما لم يبلغ خمسة أوسق، ولم يثبت عندهم حديث جابر. قَالَ الحافظ: حديث جابر الذي أشار إليه، أخرجه الشافعيّ، وأحمد، وصححه ابن خزيمة، وابن حبّان، والحاكم، أخرجوه كلهم منْ طريق ابن إسحاق: حدثني محمّد بن يحيى بن حبّان، عن عمه واسع بن حبّان، عن جابر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -حين أذِن لأصحاب العرايا، أن يبيعوها بخرصها- يقول:"الوسق، والوسقين، والثلاثة، والأربع"، لفظ أحمد، وترجم عليه ابن حبّان:"الاحتياط أن لا يزيد عَلَى أربعة أوسق"، وهذا الذي قاله يتعين المصير إليه، وأما جعله حَدًّا لا يجوز تجاوزه، فليس بالواضح.

واحتج بعضهم لمالك، بقول سهل بن أبي حثمة: إن العرية تكون ثلاثة أوسق، أو أربعة، أو خمسة"، ولا حجة فيه؛ لأنه موقوف.

ومن فروع هذه المسألة: ما لو زاد فِي صفقة عَلَى خمسة أوسق، فإن البيع يبطل فِي الجميع.

وخرّج بعض الشافعيّة، منْ جواز تفريق الصفقة، أنه يجوز، وهو بعيد؛ لوضوح الفرق، ولو باع ما دون خمسة أوسق فِي صفقة، ثم باع مثلها البائع بعينه للمشترى بعينه فِي صفقة أخرى، جاز عند الشافعيّة، عَلَى الأصح، ومنعه أحمد، وأهل الظاهر، والله أعلم. انتهى "فتح" 5/ 132.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدّم فِي مسائل حديث الباب الماضي ترجيح عدم الجواز فِي خمسة أوسق، وإنما يجوز فيما دونها، كما هو مذهب الشافعيّة، والحنبليّة، وأهل الظاهر، وترجيح عدم الجواز أيضًا فِي أكثر منْ خمسة أوسق فيما إذا تفرّقت الصفقة، كما هو مذهب الحنبلية، وأهل الظاهر قريبًا، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4544 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثَمَةَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ

ص: 299

حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ، وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا، أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا، يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(عبد الله بن محمّد بن عبد الرحمن) بن المسور بن مخرمة الزهريّ البصريّ، صدوق، منْ صغار [10] 42/ 48.

2 -

(سفيان) بن عيينة المذكور قبل باب.

3 -

(يحيى) بن سعيد بن قيس الأنصاريّ، أبو سعيد المدنيّ القاضي، ثقة ثبت [5] 22/ 23.

4 -

(بُشير -بضمّ أوله، مصغّرًا- ابن يسار) الحارثيّ مولى الأنصار المدنيّ، ثقة فقيه [3] 124/ 186.

[تنبيه]: قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى فِي "شرح مسلم" 15/ 426: أما بُشير، فبضم الموحدة، وفتح الشين، وأما يسار، فبالمثناة تحتُ، والسين مهملة، وهو بُشير بن يسار المدنيّ، الأنصاريّ، الحارثي مولاهم، قَالَ يحيى بن معين: ليس هو بأخي سليمان بن يسار. وَقَالَ محمّد بن سعد: كَانَ شيخا، كبيرًا، فقيها، قد أدرك عامة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قليل الْحَدِيث. انتهى.

4 -

(سهل بن أبي حَثْمَة) -بفتح الحاء المهملة، وإسكان الثاء المثلّثة- ابن ساعدة بن عامر الأنصاريّ الخزرجيّ المدنيّ، صحابيّ صغير، وُلد سنة ثلاث منْ الهجرة، وَقَالَ النوويّ: كنيته أبو يحيى، وقيل: أبو محمّد، تُوفّي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو ابن ثمان سنين. قيل: اسم أبيه عبد الله، وقيل: عامر، وقيل: غير ذلك، وهو صحابيّ أيضًا، ومات سهل رضي الله عنه فِي خلافة معاوية رضي الله عنه. تقدّمت ترجمته فِي 5/ 748. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبصريّ، وسفيان، فمكيّ. (ومنها): أن فيه ثلاثةً أنصاريين، مدنيّين، يروي بعضهم عن بعض، وهذا -كما قَالَ النوويّ- نادر جِدًّا، وهم: يحيى بن سعيد الأنصارى، وبُشير بن يسار، الأنصاريّ، وسهل بن أبي حثمة الأنصاريّ، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثَمَةَ) وفي رواية البخاريّ: "سمعت سهل بن أبي حثمة"، وفي الرواية التالية:"أن رافع بن خدِيج، وسهل بن أبي حَثْمة حدّثاه" (أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ

ص: 300

بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ) قد تقدّم تمام البحث فيه قبل ستّة أبواب (وَرَخَّصَ فِى الْعَرَايَا) أي فِي بيعِ ثمر العرايا (أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا) تقدّم ضبطها بالكسر، والفتح (يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا) منصوب عَلَى التمييز، وهو تمييز محوّل عن المفعول، والأصل يأكل أهلها رُطَباً.

وزاد البخاريّ منْ رواية عليّ بن المديني، عن ابن عيينة، فِي آخره قصّة 2/ 764: وَقَالَ سفيان مرة أخرى: إلا أنه رَخَّصَ فِي العرية، يبيعها أهلها بخرصها، يأكلونها رطبا، قَالَ هو سواء، قَالَ سفيان: فقلت ليحيى، وأنا غلام: إن أهل مكة يقولون: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم، رَخَّص فِي بيع العرايا، فَقَالَ: وما يدري أهل مكة؟ قلت: إنهم يروونه عن جابر، فسكت، قَالَ سفيان: إنما أردت أن جابرا منْ أهل المدينة، قيل لسفيان: وليس فيه: نهى عن بيع الثمر حَتَّى يبدو صلاحه؟، قَالَ: لا. انتهى.

قَالَ فِي "الفتح": وقوله: "وأنا غلام" جملة حاليّة، والغرض الإشارة إلى قدم طلبه، وتقدّم فطنته، وأنه كَانَ فِي سنّ الصبا يُناظر شيوخه، ويباحثهم.

وقوله: "رخّص لهم فِي بيع العرايا الخ" محل الخلاف بين رواية يحيى بن سعيد، ررواية أهل مكة، أن يحيى بن سعيد، قَيَّد الرخصة فِي بيع العرايا بالخرص، وأن يأكلها أهلها رُطبًا، وأما ابن عيينة فِي روايته عن أهل مكة، فأطلق الرخصة فِي بيع العرايا، ولم يقيدها بشيء مما ذكر.

وقوله: قلت: إنهم يروونه عن جابر، فِي رواية أحمد فِي "مسنده" عن سفيان، قلت: أخبرهم عطاء، أنه سمع منْ جابر.

وقوله: قَالَ سفيان: أي بالإسناد المذكور، إنما أردت: أي الحاملُ لي عَلَى قولي ليحيى بن سعيد: إنهم يروونه عن جابر، أن جابرا منْ أهل المدينة، فيرجع الْحَدِيث إلى أهل المدينة، وكان ليحيى بن سعيد أن يقول له: وأهل المدينة رووا أيضًا فيه التقييد، فيحمل المطلق عَلَى المقيد، حَتَّى يقوم الدليل عَلَى العمل بالإطلاق، والتقييد بالخرص زيادة حافظ، فتعين المصير إليها، وأما التقييد بالأكل، فالذي يظهر أنه لبيان الواقع، لا أنه قيد، وعن أبي عبيد، أنه شرطه، والله أعلم.

وقوله: "أليس فيه" -أي فِي الْحَدِيث المذكور- "نهى عن بيع الثمر حَتَّى يبدو صلاحه"، قَالَ: لا، أي ليس هو فِي حديث سهل بن أبي حثمة، وإن كَانَ هو صحيحا منْ رواية غيره.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لعلّ سفيان نسي ذلك فِي ذلك الوقت، وإلا فقد ثبت عند المصنّف فِي هَذَا الْحَدِيث أن عبد الله بن محمّد بن عبد الرحمن رواه عنه، وَقَدْ

ص: 301

تابعه كما قَالَ فِي "الفتح" 5/ 134 - عليه عبد الجبار بن العلاء، فرواه عنه، بهذا اللفظ الذي نفاه سفيان، وحكى الإسماعيلي، عن ابن صاعد، أنه أشار إلى أنه وَهِمَ فيه عبد الجبّار، ورواية عبد الله بن محمّد هذه تردّ هَذَا، وتبين أن عبد الجبار، لم ينفرد بذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(مسألتان): تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث سهل بن أبي حثْمَة رضي الله عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-35/ 4544 و4545 و4546 - وفي "الكبرى" 35/ 6133 و6134 و6135. وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 2191 وفي "المساقاة" 2384 (م) فِي "البيوع" 3864 و3865 و3866 و3867 و3868 (د) فِي "البيوع" 3363 (ت) فِي "البيوع" 1303. وفوائد الْحَدِيث تقدّمت. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4545 -

(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي بُشَيْرُ بْنُ يَسَارٍ، أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، وَسَهْلَ بْنَ أَبِي حَثْمَةَ حَدَّثَاهُ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنِ الْمُزَابَنَةِ، بَيْعُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ، إِلاَّ لأَصْحَابِ الْعَرَايَا، فَإِنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.

و"الحسين بن عيسى": هو البسطاميّ الْقُومَسيّ، نزيل نيسابور، صدوقٌ، صاحب حديث [10] 69/ 86. و"أبو أسامة": هو حمّاد بن أُسامة الكوفيّ الحافظ. و"الوليد بن كثير": هو المخزوميّ، أبو محمّد المدنيّ، ثم الكوفيّ، صدوقٌ، عارفٌ بالمغازي، رمي برأي الخوارج [6] 44/ 52.

وقوله: "بيع الثمر بالتمر" بالجرّ بدل منْ "المزابنة"، أو عطف بيان له، ويجوز قطعه إلى الرفع بتقدير مبتدإ: أي هو بيع الثمر، وإلى النصب بتقدير فعل: أي أعني بيع الثمر.

والحديث صحيح وَقَدْ مضى شرحه، وتخريجه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4546 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُمْ قَالُوا: "رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي بَيْعِ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا").

ص: 302

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا

غير مرّة.

و"الليث": هو ابن سعد. و"يحيى": هو ابن سعيد الأنصاريّ المذكور قبل حديث.

وقوله: "عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية مسلم منْ طريق سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن بُشير بن يسار، عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منْ أهل دارهم، منهم سهل بن أبي حثْمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر بالتمر، وَقَالَ:"ذلك الربا، تلك المزابنة"، إلا أنه رخّص فِي بيع العريّة: النخلة، والنخلتين، يأخذها أهل البيت، بخِرْصها تَمْرًا، يأكلونها".

وقوله: "منْ أهل دراهم": يعني بني حارثة، والمراد بالدار المحلة. وقوله: "عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي جماعةٍ منهم، ثم ذكر بعضهم، فَقَالَ: منهم سهل ابن أبي حثمة، والبعض يُطلق عَلَى القليل والكثير.

قَالَ النوويّ: قوله: "عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم سهل بن أبي حثمة": فيه أنه إذا سمع منْ جماعة ثقات، جاز أن يحذف بعضهم، ويروي عن بعض. انتهى "شرح مسلم" 10/ 427.

والحديث بهذا السياق أخرجه مسلم، وأصله متَّفقٌ عليه، كما سبق الكلام عليه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌36 - (اشْتِرَاءِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ)

4547 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ سَعْدٍ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ؟ فَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: "أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ؟ "، قَالُوا: نَعَمْ، فَنَهَى عَنْهُ).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلّاس البصريّ، ثقة حافظ [10] 4/ 4.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطّان المذكور قبل باب.

3 -

(مالك) إمام دار الهجرة المذكور فِي الباب الماضي.

ص: 303

4 -

(عبد الله بن يزيد) المخزوميّ المدنيّ المقرىء الأعور، مولى الأسود بن سفيان، ثقة [6] 51/ 961.

5 -

(زيد بن عيّاش) -بتحتانيّة، ومعجمة- أبو عيّاش المدنيّ، صدوق [3].

وفي "تهذيب التهذيب" 1/ 670: زيد بن عياش، أبو عياش الزُّرَقي، ويقال: المخزومي، ويقال: مولى بني زهرة، المدنيّ، روى عن سعد بن أبي وقاص، وعنه عبد الله بن يزيد، مولى الأسود بن سفيان، وعمران بن أبي أنيس السلمي، وروى له الأربعة حديثا واحدا فِي النهي، عن بيع الرطب بالتمر. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وصحح الترمذيّ، وابن خزيمة، وابن حبّان، حديثه المذكور، وَقَالَ فيه الدارقطنيّ: ثقة. وَقَالَ ابن عبد البرّ: وأما زيد، فقيل: إنه مجهول، وَقَدْ قيل: إنه أبو عياش الزُّرَقي. وَقَالَ الطحاوي: قيل فيه: أبو عياش الزرقي، وهو محال؛ لأن أبا عياش الزرقي منْ جِلَّة الصحابة، لم يدركه ابن يزيد. قَالَ الحافظ: وَقَدْ فرق أبو أحمد الحاكم، بين زيد أبي عياش الزرقي الصحابيّ، وبين زيد أبي عياش الزرقي التابعي. وأما البخاريّ، فلم يذكر التابعي جملة، بل قَالَ: زيد أبو عياش، هو زيد بن الصامت، منْ صغار الصحابة. وَقَالَ الحاكم فِي "المستدرك": هَذَا حديث صحيح؛ لإجماع أئمة أهل القتل، عَلَى إمامة مالك، وأنه محكم فِي كل ما يرويه؛ إذ لم يوجد فِي روايته إلا الصحيح، خصوصا فِي حديث أهل المدينة، إلى أن قَالَ: والشيخان لم يخرجاه؛ لِمَا خشيا منْ جهالة زيد بن عياش. وَقَالَ أبو حنيفة: مجهول. وتعقبه الخطابي، وكذا قَالَ: ابن حزم: إنه مجهول. انتهى. تفرد به الأربعة بحديث الباب فقط.

[تنبيه]: وقع فِي نسخ "المجتبى" غير الهنديّة، وكذا فِي "الكبرى" غلط فِي هَذَا الاسم، فإنه وقع فيها "زيد بن أبي عياش" بزيادة كلمة "أبي"، وهو غلط فاحش، والصواب ما فِي الهنديّة:"زيد بن عيّاش"، وكنيته أبو عيّاش، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

6 -

(سعد) بن أبي وقّاص رضي الله تعالى عنه 96/ 121. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير زيد بن عياش، فإنه منْ رجال الأربعة. (ومنها): أنه مسلسل بثقات المدنيين، إلا شيخه، ويحيى، فبصريّان، وفيه أن شيخه هو أحد مشايخ الأئمة أصحاب الأصول الذين رووا عنهم بلا واسطة، وهم تسعة، وتقدّموا غير مرّة. والله تعالى أعلم.

ص: 304

شرح الْحَدِيث

(عَنْ سَعْد) بن أبي وقّاص رضي الله عنه، أنه (قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ؟) أي عن شرائه به، ففي رواية أبي داود:"سئل عن شراء التمر بالرُّطَب"(فَقَالَ) صلّى الله تعالى عليه وسلم (لِمَنْ حَوْلَهُ) أي للصحابة الجالسين حوله (أَيَنْقُصُ) بفتح أوله، وضم ثالثه، منْ النقص، ثلاثيّا، وهو يتعدّى، ويلزم، والمناسب هنا اللزوم، قَالَ الفيّوميّ: نقص نقصًا، منْ باب قتل، ونُقصاناً، وانتقص: ذهب منه شيء بعد تمامه، ونقصته يتعدّى، ولا يتعدّى، هذه هي اللغة الفصيحة، وبها جاء القرآن فِي قوله تعالى:{نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: 41]، وقوله:{غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود: 109]، وفي لغة ضعيفة يتعدّى بالهمزة، والتضعيف، ولم يأت فِي كلام فصيح، ويتعدّى أيضًا بنفسه إلى مفعولين، فيقال: نقصتُ زيدًا حقّه، وانتقصته مثله، ودرهم ناقصٌ: غير تام الوزن. انتهى. كلام الفيّوميّ (الرُّطَبُ) بالرفع عَلَى الفاعليّة (إِذَا يَبِسَ؟) بكسر الباء الموحّدة، منْ باب تعب، وفي لغة بكسر الماضي والمضارع: أي إذا جفّ، وذهبت رطوبته.

قَالَ الخطّابيّ رحمه الله تعالى: لفظه لفظ استفهام، ومعناه التقرير، والتنبيه فيه عَلَى نكتة الحكم، وعلّتِهِ؛ ليعتبروها فِي نظائرها وأخواتها، وذلك أنه لا يجوز أن يخفى عليه صلى الله عليه وسلم أن الرطب إذا يبس نقص وزنه، فيكونَ سؤاله عنه سؤال تعرّف، واستفهام، وإنما هو عَلَى الوجه الذي ذكرته، وهذا كقول جرير [منْ الوافر]:

أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا

وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ؟

ولو كَانَ هَذَا استفهامًا، لم يكن فيه مدحٌ، وإنما معناه: أنتم خير منْ ركِب المطايا.

وهذا الْحَدِيث أصلٌ فِي أبواب كثيرة، منْ مسائل الربا، وذلك أن كلّ شيء منْ المطعوم، مما له نداوة، ولجفافه نهايةٌ، فإنه لا يجوز رَطْبه بيابسه، كالعنب، بالزبيب، واللحم النيء بالقديد، ونحوهما، وكذلك لا يجوز عَلَى هَذَا المعنى منه الرُّطَب بالرطب؛ لأن اعتبار المماثلة إنما يصحّ فيهما عند أوان الجفاف، وهما إذا تناهى جفافهما، كانا مختلفين؛ لأن أحدهما قد يكون أرَقّ رِقّةً، وأكثر مائيّة منْ الآخر، فالجفاف ينال منه أكثر، وتتفاوت مقاديرهما فِي الكيل عند المماثلة. انتهى "معالم السنن" 5/ 32 - 33.

وَقَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: قوله: "أينقص الرُّطَب": تنبيه عَلَى علّة المنع بعد اتحاد الجنس، فيجري المنع فِي كلّ ما تَجري فيه هذه العلة، قَالَ القاضي رحمه الله تعالى فِي "شرح المصابيح": ليس المراد منْ الاستفهام استفهام القضيّة، فإنها جليّةٌ

ص: 305

مستغنية عن الاستكشاف، بل التنبيه عَلَى أن المطلوب تحقّق المماثلة حال اليبوسة، فلا يكفي تماثل الرطب والتمر عَلَى رطوبته، ولا عَلَى فرض اليبوسة؛ لأنه تخمين وخرص، لا تعيين فيه، فلا يجوز بيع أحدهما بالآخر، وبه قَالَ أكثر أهل العلم، وجوّزه أبو حنيفة، إذا تساويا كيلًا؛ حملًا للحديث عَلَى النسيئة؛ لما روى هَذَا الراوي أنه صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيع الرطب بالتمر نسيئة، وضعفُهُ بيّنٌ؛ لأن النهي عن بيعه نسيئةً لا يستدعي الإذن فِي بيعه يدًا بيد، إلا منْ طريق المفهوم، وهو عنده غير منظور إليه، فضلًا عن أن يسلّط عَلَى المنطوق؛ ليُبطل إطلاقه، ثم هَذَا التقييد يُفسد السؤال والجواب، وترتيب النهي عليهما بالكلّيّة؛ إذ كونه نسيئة يكفي فِي عدم الجواز، ولا دخل معه للجفاف.

قَالَ السنديّ: المشهور عند الحنفيّة فِي الجواب جهالة زيد بن عيّاش، وردّه الجمهور بأن عدم معرفة بعضٍ لا يضرّ فِي معرفة غيره، فالأقرب قول الجمهور، ولذلك خالف الإِمام صاحباه، فذهبا إلى قول الجمهور. والله تعالى أعلم. انتهى "شرح السنديّ" 7/ 269.

(قَالُوا: نَعَمْ) أي ينقص الرطب إذا يبس (فَنَهَى عَنْهُ) أي عن شراء التمر بالرطب. وفي الْحَدِيث قصّة فِي أوله، ساقها أبو داود، فأخرج بسنده، عن عبد الله بن يزيد، أن زيدًا، أبا عيّاش أخبره، أنه سأل سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه عن البيضاء بالسُّلت؟ فَقَالَ له سعد: أيهما أفضل؟، قَالَ: البيضاء، قَالَ: فنهاه عن ذلك، وَقَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن شراء التمر بالرُّطَب؟ فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أينقص إذا يبس؟، قالوا: نعم، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

قَالَ الخطّابيّ: البيضاء نوع منْ البرّ، أبيض اللون، وفيه رخاوة، يكون ببلاد مصر، والسُّلْتُ: نوع غير البرّ، وهو أدقّ حبا منه. وَقَالَ بعضهم: البيضاء هو الرَّطْب منْ السلت، والأول أعرف، إلا أن هَذَا القول أليق بمعنى الْحَدِيث، وعليه يتبيّن موضع التشبيه منْ الرُّطَب بالتمر، وإذا كَانَ الرَّطْب منها جنسًا، واليابس جنسًا آخر لم يصحّ التشبيه. انتهى. "معالم السنن" 5/ 32. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هَذَا صحيح.

[تنبيه]: قَالَ الخطّابيّ رحمه الله تعالى: وَقَدْ تكلّم بعض النَّاس فِي إسناد حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هَذَا، وَقَالَ: زيد أبو عيّاش راويه ضعيفٌ، ومثل هَذَا

ص: 306

الْحَدِيث عَلَى أصل الشافعيّ لا يجوز أن يُحتجّ به.

قَالَ الخطابيّ: وليس الأمر عَلَى ما توهّمه، وأبو عيّاش هَذَا مولى لبني زهرة، معروفٌ، وَقَدْ ذكره مالكٌ فِي "الموطّإ"، وهو لا يروي عن رجل متروك الْحَدِيث بوجه، وهذا منْ شأن مالك، وعادته معلوم. انتهى كلام الخطّابيّ "معالم السنن" 5/ 35.

وَقَالَ المنذريّ رحمه الله تعالى -بعد ذكر كلام الخطّابيّ- وَقَدْ حُكي عن بعضهم أنه قَالَ. زيد أبو عيّاش مجهول، وكيف يكون مجهولا؟ وَقَدْ روى عنه اثنان ثقتان: عبد الله بن يزيد، مولى الأسود بن سفيان، وعمران بن أبي أنس، وهما ممن احتجّ به مسلم فِي "صحيحه"، وَقَدْ عرفه أئمة هَذَا الشان، هَذَا الإِمام مالك قد أخرج حديثه فِي "موطئه"، مع شدّة تحرّيه فِي الرجال، ونقده، وتتبعه لأحوالهم، والترمذيّ قد أخرج حديثه، وصححه، وصحح حديثه أيضًا الحاكم أبو عبد الله النيسابوريّ، وَقَدْ ذكره مسلم بن الحجّاج فِي "كتاب الكنى"، وذكر أنه سمع منْ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وذكره أيضًا الحافظ أبو أحمد الكرابيسيّ، فِي "كتاب الكنى"، وذكر أنه سمع منْ سعد ابن أبي وقّاص رضي الله عنه، وذكره أيضًا النسائيّ فِي "كتاب الكنى"، وما علمت أحدًا ضعّفه، والله عز وجل أعلم. انتهى كلام المنذريّ رحمه الله تعالى "مختصر السنن" 5/ 33 - 35.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن زيد بن عياش ثقة معروف، وحديثه هَذَا صحيح. والله تعالى أعلم بالصواب.

[تنبيه آخر]: أخرج أبو داود رحمه الله تعالى فِي "سننه" حديث سعد رضي الله عنه هَذَا منْ طريق يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن يزيد، مولى الأسود بن سفيان، أن أبا عيّاش أخبره، أنه سمع سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه يقول:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الرُّطَب بالتمر نسيئة" انتهى. فزاد "نسيئة"، قَالَ أبو الحسن الدارقطنيّ رحمه الله تعالى: خالفه مالك، وإسماعيل بن أُميّة، والضحّاك بن عثمان، وأُسامة بن زيد، رووه عن عبد الله ابن يزيد، ولم يقولوا فيه:"نسيئة"، واجتماع هؤلاء الأربعة عَلَى خلاف ما رواه يحيى -يعني ابن أبي كثير- يدلّ عَلَى ضبطهم للحديث. وَقَالَ أبو بكر البيهقيّ رحمه الله تعالى: ورواه عمران بن أبي أنس، عن أبي عيّاش، نحو رواية مالك، وليست فيه هذه الزيادة. انتهى "مختصر السنن" للمنذريّ 5/ 35 - 36.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الحقّ أن هذه الزيادة شاذّة مطّرحه؛ لمخالفتها الأحاديث الصحيحة فِي منع بيع الرطب بالتمر مطلقًا، قَالَ البيهقيّ رحمه الله تعالى: وهذا يخالف رواية الجماعة، وإن كَانَ محفوظًا، فهو حديث آخر، والخبر يصرّح بأن

ص: 307

المنع إنما كَانَ لنقصان الرطب فِي البعض، وحصول الفضل بينهما بذلك، وهذا المعنى يمنع منْ أن يكون النهي لأجل النسيئة، فلذلك لم تُقبل هذه الزيادة ممن خالف الجماعة بروايتها فِي هَذَا الْحَدِيث. وَقَدْ روينا فِي الْحَدِيث عن ابن المسيّب، وأبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لا تبتاعوا الثمر حَتَّى يبدو صلاحه، ولا تبتاعوا الثمر بالتمر". وفي الْحَدِيث الثابت عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تبيعوا ثمر النخل بتمر النخل"، وفي رواية إبراهيم بن سعد، عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا تبايعوا الثمر بالتمر"، هكذا روي مقيّدًا. انتهى. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور رواه مسلم. وحديث ابن عمر رصي الله عنهما متَّفقٌ عليه، ولفظ "الصحيحين":"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر حَتَّى يبدو صلاحه، وعن بيع الرُّطب بالتمر". انتهى "تهذيب السنن" لابن القيّم، منْ هامش "إعلاء السنن" 5/ 32 - 33.

والحاصل أن الْحَدِيث بدون هذه الزيادة هو الذي يوافق هذه الأحاديث الصحاح، وأما معها فإنه يخالفها، فهي إذًا شاذّة منكرة، فافهم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر "المصنّف" له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -36/ 4547 و4548 - وفي "الكبرى" 36/ 6136 و6137. وأخرجه (د) فِي "البيوع" 3359 (ت) فِي "البيوع" 1225 (ق) فِي "التجارات" 2264 (أحمد) فِي "مسند العشرة" 1518 و1547 (الموطأ) فِي "البيوع" 1316. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم اشتراء التمر بالرطب، وهو المنع؛ لعدم المماثلة مع اتحاد الجنس. (ومنها): أن فيه بيان تحريم الربا، وأن علة تحريمه هو ظلم أحد المتابيعين، بسبب نقص يلحقه. (ومنها): بيان اهتمام الشارع ببيان علّة التحريم، حَتَّى يكون المكلّفون عَلَى بصيرة منْ المنهيات، وأنه إنما نُهي عنها للضرر اللاحق ببعصهم ببخس حقّه. (ومنها): أن فيه تحريم أكل أموال النَّاس بالباطل، كالربا، ونحوه، كما قَالَ سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} الآية [النِّساء: 29]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي بيع الرَّطْب باليابس منْ جنس واحد: قَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى: ما حاصله: ولا يباع الرَّطْب مما يجري فيه الربا،

ص: 308

بيابس منْ جنسه، إلا العرايا، وذلك: كالرُّطَب بالتمر، والعنب بالزبيب، واللبن بالجبن، والحنطة المبلولة، أو الرطبة باليابسة، أو المقلية بالنيئة، ونحو ذلك، وبهذا قَالَ سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن المسيّب، والليث، ومالك، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو يوسف، ومحمد. وَقَالَ ابن عبد البرّ: جمهور علماء المسلمين، عَلَى أن بيع الرُّطَب بالتمر لا يجوز، بحال منْ الأحوال.

وَقَالَ أبو حنيفة: يجوز ذلك؛ لأنه لا يخلو: إما أن يكون منْ جنسه، فيجوز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"التمر بالتمر، مثلا بمثل"، أو منْ غير جنسه، فيجوز لقوله صلى الله عليه وسلم":"فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم؟ "، ولنا قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تبيعوا الثمر بالتمر"، وفي لفظ:"نهى عن بيع الثمر بالتمر، ورَخّص فِي العرية، أن تباع بخِرْصها، يأكلها أهلها رُطَبًا"، متَّفقٌ عليه، وعن سعد رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، سئل عن بيع الرُّطَب بالتمر؟ فَقَالَ:"أينقص الرطب إذا يبس؟، قالوا: نعم، فنهى عن ذلك"، رواه مالك، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، والأثرم، ولفظ رواية الأثرم، قَالَ:"فلا إذن"، نَهَى، وعَلَّل بأنه ينقص إذا يبس. وروى مالك، عن نافع، عن ابن عمر:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نهى عن المزابنة، والمزابنة بيع الرطب بالتمر كيلا، وبيع العنب بالزبيب كيلا"، ولأنه جنس فيه الربا، بِيعَ بعضه ببعض، عَلَى وجه ينفرد أحدهما بالنقصان، فلم يَجُز، كبيع المقلية بالنيئة، ولا يلزم الحديثُ بالْعَتِيق؛ لأن التفاوت يسير. انتهى "المغني" 6/ 67 - 68.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبين بما ذُكر أن ما عليه الجمهور منْ عدم جواز بيع الرطب بالتمر هو الحق؛ لصحة الأحاديث بذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم بيع الرُّطَب بالرُّطَب، ونحوه:

ذهب أكثر أهل العلم إلى جواز بيع الرطب بالرطب، والعنب بالعنب، ونحوه منْ الرَّطْب بمثله. وذهب الشافعيّ إلى منعه فيما ييبس، أما ما لا ييبس، كالقثاء، والخيار ونحوه، فعلى قولين؛ لأنه لا يُعلم تساويهما حالة الإدّخار، فأشبه الرطب بالتمر.

واحتجّ بنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر بالتمر؛ فإن مفهومه إباحة بيع كل واحد منهما بمثله؛ ولأنهما تساويا فِي الحال، عَلَى وجه لا ينفرد أحدهما بالنقصان، فجاز كبيع اللبن باللبن، والتمر بالتمر، ولأن قوله تعالى:{وأحَلَّ اللهُ البَيْعَ} الآية [البقرة: 275] عام خرج منه المنصوص عليه، وهو بيع الثمر بالتمر، وليس هَذَا فِي معناه، فبقي عَلَى العموم، وما ذكره الشافعيّ لا يصح، فإن التفاوت كثير، وينفرد أحدهما بالنقصان،

ص: 309

بخلاف مسألتنا، ولا بأس ببيع الْحَدِيث بالعتيق؛ لأن التفاوت فِي ذلك يسير، ولا يمكن ضبطه، فيُعفى عنه. أفاده فِي "المغني" 6/ 68 - 69.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبين بما ذكر أن القول بجواز بيع الرُّطَبِ بالرُّطَبِ، والعنب بالعنب، ونحو ذلك هو الأرجح؛ لقوّة دليله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4548 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ زَيْدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ؟ فَقَالَ: "أَيَنْقُصُ إِذَا يَبِسَ؟ "، قَالُوا: نَعَمْ، فَنَهَى عَنْهُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمّد بن عليّ بن ميمون": هو أبو العبّاس العطّار الرَّقْيّ، ثقة [11] 14/ 418 منْ أفراد المصنّف. و"محمّد بن يوسف الفريابيّ": هو الضبيّ مولاهم، نزيل قيسارية، منْ ساحل الشام، ثقة فاضل، يقال: أخطأ فِي حديث سفيان، وهو مقدّم فيه مع ذلك عندهم عَلَى عبد الرزّاق [9] 14/ 418. و"سفيان": هو الثوريّ. و"إسماعيل بن أُميّة": هو ابن عمرو بن سعيد بن العاص بن أميّة الأمويّ، الثقة الثبت [6] 16/ 2468. و"زيد": هو ابن عيّاش المذكور فِي السند الماضي. و"سعد بن مالك": هو سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه.

والحديث صحيح، وَقَدْ سبق تمام البحث فيه فِي الْحَدِيث السابق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌37 - (بَيْعِ الصُّبْرَةِ مِنَ التَّمْرِ، لَا يُعْلَمُ مَكِيلُهَا بِالْكَيْلِ الْمُسَمَّى مِنَ التَّمْرِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الصبرة" -بضم الصاد المهملة، وسكون الموحّدة-: جمعها صُبَرٌ، -بضم، ففتح- كغُرْفة وغُرَف، يقال: اشتريتُ الشيء صُبْرةً: أي بلا

ص: 310

كيل، ولا وزن. أفاده الفيّوميّ. والله تعالى أعلم بالصواب.

4549 -

(أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ بَيْعِ الصُّبْرَةِ مِنَ التَّمْرِ، لَا يُعْلَمُ مَكِيلُهَا، بِالْكَيْلِ الْمُسَمَّى مِنَ التَّمْرِ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(إبراهيم بن الحسن) بن الهيثم الخَثْعَمِيُّ، أبو إسحاق المصّيصيّ، ثقة [11] 51/ 64.

2 -

(حجاج) بن محمّد الأعور المصيصي، ثقة ثبت، اختلط فِي الآخر [9] 28/ 32.

3 -

(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقة فقيه فاضل، يدلس [6] 28/ 32.

4 -

(أبو الزبير) محمّد بن مسلم بن تدرُس المكيّ، صدوق، يدلس [4] 31/ 35.

5 -

(جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَمِيّ رضي الله تعالى عنهما 31/ 31. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو وأبو داود، وابن ماجه فِي "التفسير". (ومنها): أنه مسلسل بالمكيين، غير شيخه، وحجاج، فمصّيصيّان. (ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله عنه منْ المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

عن ابن جريج، أنه قَالَ (أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ) محمّد بن مسلم (أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) رضي الله تعالى عنهما (يَقُولُ:"نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ بَيْعِ الصُّبْرَةِ) بضم، فسكون: هي الطعام المجتمع، كالكُومة، جمعها صُبَر، كغُرَف (مِنَ التَّمْرِ، لَا يُعْلَمُ) بالبناء للمفعول، ونائب فاعله قوله (مَكِيلُهَا) بفتح الميم مصدر قَالَ، يقال: قَالَ الطعام يكيله كيلًا، ومَيِكلًا ومَكَالًا، واكتاله بمعنى، والاسم الكِيلة بالكسر. قاله فِي "القاموس"، والمراد هنا أنه لا يُعلم مقدار قيل تلك الصُّبْرة.

قَالَ الشوكانيّ رحمه الله تعالى: قوله: "لا يُعلم مكيلها" صفة كاشفة للصبرة؛ لأنه لا يقال لها: صُبرة، إلا إذا كانت مجهولة الكيل. انتهى "نيل الأوطار" 5/ 208 (بِالْكَيْلِ) متعلّقٌ بـ"بيع"، والباء للمقابلة (الْمُسَمَّى مِنَ التَّمْرِ) قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: هَذَا

ص: 311

تصريحٌ بتحريم بيع التمر بالتمر حَتَّى يُعلم المماثلة، قَالَ العلماء: لأنّ الجهل بالمماثلة فِي هَذَا الباب كحقيقة المفاضلة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إلا سواءً بسواءٍ"، ولم يحصُل تحقّق المساواة مع الجهل، وحكم الحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، وسائر الرّبويّات إذا بيع بعضها ببعض حكم التمر بالتمر. انتهى. "شرح مسلم" 10/ 413.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه؛ هَذَا الذي قاله النوويّ منْ الحنطة، والشعير، وسائر الربويات، قياسًا عَلَى التمر قد جاء منصوصًا عليه فِي حديث الباب التالي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث جابر رضي الله عنه هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -37/ 4549 و38/ 4550 - وفي "الكبرى" 37/ 6138 و38/ 6139. وأخرجه (م) فِي "البيوع" 1531. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم بيع الصبرة المجهولة المقدار بالمعلوم المقدار، وهو التحريم. (ومنها): أنه يدلّ عَلَى أنه لا يجوز أن يباع جنس بجنسه، وأحدهما مجهول المقدار؛ لأن العلم بالتساوي مع اتفاق الجنس شرط، لا يجوز البيع بدونه، ولا شكّ أن الجهل بكلا البدلين، أو بأحدهما فقط، مظِنّة للزيادة والنقصان، وما كَانَ مظنّةً للحرام وجب تجنّبه، وتجنّب هذه المظنّة إنما يكون بكيل المكيل، ووزن الموزون منْ كلّ منْ البدلين. قاله فِي "النيل" 5/ 208.

(ومنها): أنه يدل بمفهومه عَلَى أنه لو باع الصبرة بغير جنسها لجاز. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 312

‌38 - (بَيْعِ الصُّبْرَةِ مِنَ الطَّعَامِ بِالصُّبْرَةِ مِنَ الطَّعَامِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: تقدّم معنى الصبرة فِي الباب الماضي، وأما الطعام -فهو كما قَالَ الأزهريّ- أن أهل الحجاز إذا أطلقوه عَنَوا به البُرّ خاصّة، وفي العرف: اسم لما يُؤكل، مثل الشراب: اسم لما يُشرب. انتهى "المصباح". وَقَالَ ابن منظور: الطعام: اسم جامعٌ لكلّ ما يؤكل. وَقَالَ ابن الأثير: الطعام عامّ فِي كلّ ما يُقتات، منْ الحنطة، والشعير، والتمر، وغير ذلك. انتهى.

وهذا الإطلاق هو المراد فِي هَذَا الباب. والله تعالى أعلم بالصواب.

4550 -

(أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، "لَا تُبَاعُ الصُّبْرَةُ مِنَ الطَّعَامِ، بِالصُّبْرَةِ مِنَ الطَّعَامِ، وَلَا الصُّبْرَةُ مِنَ الطَّعَامِ، بِالْكَيْلِ الْمُسَمَّى مِنَ الطَّعَامِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الإسناد هو الإسناد المذكور فِي الباب الماضي.

والحديث صحيح، وَقَدْ تقدّم شرحه، وتخريجه فيه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌39 - (بَيْعِ الزَّرْعِ بِالطَّعَامِ)

4551 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الْمُزَابَنَةِ، أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَ حَائِطِهِ، وَإِنْ كَانَ نَخْلاً بِتَمْرٍ كَيْلاً، وَإِنْ كَانَ كَرْمًا أَنْ يَبِيعَهُ بِزَبِيبٍ كَيْلاً، وَإِنْ كَانَ زَرْعًا أَنْ يَبِيعَهُ بِكَيْلِ طَعَامٍ، نَهَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. والسند منْ رباعيات المصنّف، وهو (221) منْ رباعيات الكتاب.

وقوله: "وإن كَانَ زرعا، أن يبيعه بكيل طعام": المراد إذا كَانَ منْ جنسه، وإلا فلا نهي.

ص: 313

قَالَ ابن بطال رحمه الله تعالى: أجمع العلماء عَلَى أنه لا يجوز بيع الزرع، قبل أن يُقَطع بالطعام؛ لأنه بيع مجهول بمعلوم، وأما بيع رَطْبِ ذلك بيابسه، بعد القطع، وإمكان المماثلة، فالجمهور لا يجيزون بيع شيء منْ ذلك بجنسه، لا متفاضلا، ولا متماثلا. انتهى.

وَقَدْ تقدم البحث فِي ذلك مستوفًى قبل بابين.

وَقَالَ فِي "الفتح" 5/ 151: واحتج الطحاوي لأبي حنيفة، فِي جواز بيع الزرع الرَّطْبِ بالحب اليابس، بأنهم أجمعوا عَلَى جواز بيع الرطب بالرطب، مِثْلا بمثل، مع أن رطوبة أحدهما ليست كرطوبة الآخر، بل تختلف اختلافا متباينا.

وتعقب بأنه قياس فِي مقابلة النص، فهو فاسد، وبأن الرطب بالرطب، وإن تفاوت، لكنه نقصان يسير، فعُفِي عنه؛ لقلته، بخلاف الرطب بالتمر، فإن تفاوته تفاوت كثير. انتهى، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا. والله تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي 32/ 433 والباب الذي بعده، وسبق تمام البحث فيه، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4552 -

(حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنِ الْمُخَابَرَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ، وَالْمُحَاقَلَةِ، وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ يُطْعَمَ، وَعَنْ بَيْعِ ذَلِكَ، إِلاَّ بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده، وهو حرّانيّ ثقة [11] 22/ 932. و"مخلد بن يزيد": هو القرشيّ الحرّانيّ، صدوقٌ له أوهام، منْ كبار [9] 141/ 222. و"عطاء": هو ابن أبي رباح.

وقوله: "المخابرة": هي كراء الأرض ببعض ما يخرج، وقيل: غير ذلك.

و"المزابنة": هي بيع الرطب عَلَى رؤوس النخل بالتمر. و"المحاقلة": هي بيع الحنطة فِي سنبلها بحنطة صافيه.

وقوله: "قبل أن يُطعِم" بالبناء للفاعل: أي يَصلُحَ للأكل، يقال: أَطعمتِ الشجرةُ بالألف: إذا أدرك ثمرها. قاله الفيّوميّ. وَقَدْ تقدّم البحث عن هذه الأشياء كلّها مستوفًى.

والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي 28/ 4525 و4526 - ومحلّ الشاهد للترجمة قوله:"وعن بيع ذلك إلا بالدنانير والدراهم"، فإنه يدلّ عَلَى أنه لا يجوز بيعها بطعام منْ جنسها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 314

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌40 - (بَيْعِ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: سُنْبُلُ الزرع: فُنْعُلٌ -بضم الفاء والعين، الواحدة سُنْبُلة، والسَّبَلُ مثله، الواحدة سَبَلة، مثلُ قصب وقصَبَة، وسَنْبَل الزرعُ: أخرج سُنبُله، وأسبل بالألف: أخرج سَبَلَه. قاله فِي "المصباح".

والسنبلة: -عَلَى ما تفيده عبارة البيضاويّ فِي "تفسيره" عند قوله تعالى: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} الآية [البقرة: 261]-هي الشعبة التي تتفرّع عن ساق الزرع. والله تعالى أعلم بالصواب.

4553 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلَةِ، حَتَّى تَزْهُوَ، وَعَنِ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ، وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِىَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

و"إسماعيل": هو ابن عليّة. و"أيوب": هو السختيانيّ.

وقوله: "عن بيع النخلة": أي ثمارها التي عليها، منفردة عنها. وقوله:"حتّى تزهو" بفتح المثنّاة الفوقيّة، منْ زها النخل يزهو: إذا ظهرت ثمرته، ويقال: أيضًا أزهى بالألف، قَالَ ابن الأعرابيّ: يقال: زها النخل يزهو: إذا ظهرت ثمرته، وأزهى يُزهِي: إذا احمر، أو اصفر. وَقَالَ الأصمعي: لا يقال فِي النخل: أزهى، إنما يقال: زها، وحكاهما أبو زيد لغتين. وَقَالَ الخليل: أزهى النخل بدا صلاحه. وَقَالَ الخطّابيّ: هكذا يُروَى "حَتَّى يزهو"، قَالَ: والصواب فِي العربية: حَتَّى يُزهِي، والإزهاء فِي الثمر: أن يحمرّ، أو يصفرّ، وذلك علامة الصلاح فيها، ودليل خلاصها منْ الآفة. وَقَالَ ابن الأثير: منهم منْ أنكر يُزهِي، كما أن منهم منْ أنكر يَزهُو. وَقَالَ الجوهرى: الزَّهْو -بفتح الزاى- وأهل الحجاز يقولون بضمها: وهو البسر الْمُلَوَّن، يقال: إذا ظهرت الحمرة، أو الصفرة فِي النخل، فقد ظهر فيه الزهو، وَقَدْ زها النخل زهوا، وأزهى لغة.

ص: 315

قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: فهذه أقوال أهل العلم فيه، ويحصل منْ مجموعها جواز ذلك كله، فالزيادة منْ الثقة مقبولة، ومن نقل شيئا لم يعرفه غيره، قبلناه إذا كَانَ ثقة. انتهى. "شرح مسلم" 10/ 419 - 420.

وقوله: حَتَّى يبيضّ" -بتشديد الضاد المعجمة-: معناه: حَتَّى يشتدّ حبّه، وهو بُدُوّ صلاحه.

وقوله: "ويأمن العاهة": هي الآفة، تُصيب الزرع، أو الثمر، ونحوه، فتُفسده.

والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ مضى تمام شرحه، وبيان مسائله فِي 28/ 4521 - فراجعه تستفد.

ودلالته لما ترجم له المصنّف واضحة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4554 -

(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَهُ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَا نَجِدُ الصَّيْحَانِيَّ، وَلَا الْعِذْقَ بِجَمْعِ التَّمْرِ، حَتَّى نَزِيدَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "بِعْهُ بِالْوَرِقِ، ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حقّ هَذَا الْحَدِيث أن يذكر فِي الباب التالي، وهذا الصنيع، مما يتكرر للمصنّف رحمه الله تعالى، فقد تقدّم فِي غير موضع أنه قدّم بعض الأحاديث التي لا تطابق الترجمة بل إنما تطابق الترجمة التالية، فيوردها آخر الباب الأول، ولعله كالتنبيه عَلَى المناسبة بين البابين، والله تعالى أعلم.

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة بن سعيد) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(أبو الأحوص) سلّام بن سليم الحنفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة متقن [7] 79/ 96.

3 -

(الأعمش) سليمان بن مهران الكاهليّ مولاهم، أبو محمّد الكوفيّ، ثقة ثبت فاضل ورع، لكنه يدلس [5] 17/ 18.

4 -

(حبيب بن أبي ثابت) قيس، ويقال. هند بن دينار الأسديّ مولاهم، أبو يحيى الكوفيّ، ثقة فقيه جليل، لكنه كثير الإرسال والتدليس [3] 121/ 170.

5 -

(أبو صالح) ذكوان السمان الزيات المدنيّ، ثقة ثبت [3] 36/ 40.

6 -

(رجل منْ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم) لم يُسمّ، ولكن جهالة الصحابيّ لا تضرّ؛ لأنهم كلهم عدول. والله تعالى أعلم.

ص: 316

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فبغلانيّ، وأبي صالح، فمدنيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: حبيب عن أبي صالح، وهو منْ رواية الأقران. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِى صَالِحٍ) ذكوان السمّان، الزيّات (أَنَّ رَجُلاً) لم أر منْ سماه (مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَهُ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَا نَجِدُ) وفي نسخة: "إني لا أجد"(الصَّيْحَانِيَّ) -بفتح الصاد المهملة، وسكون المثنّاة التحتانيّة-: نوعٌ منْ التمر، قَالَ الفيّوميّ: الصَّيْحانيّ: تمر معروفٌ بالمدينة، ويقال: كَانَ كَبْشٌ اسمه صَيْحَان، شُدّ بنخلة، فنُسبت إليه، وقيل: صَيْحانيّة. قاله ابن فارس، والأزهريّ. وَقَالَ المجد فِي "القاموس": والصَّيْحانيّ: منْ تمر المدينة، نُسب إلى صَيْحَان، لكبش كَانَ يُربط إليها، أو اسم الكبش الصَّيَّاح، وهو منْ تغيير النسب، كصَنْعَانيّ. انتهى. وَقَالَ فِي "اللسان": الصّيْحانيّ: ضرب منْ تمر المدينة، قَالَ الأزهريّ: الصيحانيّ: ضرب منْ التمر أسود صُلْبُ الْمَمْضَغَة، وسُمّي صحانيّا؛ لأن صَيْحان اسم كبش، كَانَ يُربط إلى نخلة بالمدينة، فأثمرت تمرًا، فنُسب إلى صيحان. انتهى.

(وَلَا الْعِذْقَ) قَالَ الفيّوميّ: العِذق -بكسر، فسكون-: الْكِبَاسة، وهو جامع الشماريخ، والجمع أَعْذاقٌ، مثلُ حِمْل وأحمال، والْعَذْق -بفتح، فسكون-، مثال فلس: النخلة نفسها، ويُطلق العَذْقُ عَلَى أنواع منْ التمر، ومنه عَذْق ابن الْحُبَيق، وعَذْق ابن طاب، وعَذق ابن زيد. قاله أبو حاتم. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أنَّ الْعَذْقَ هنا بفتح فسكون، وأنه أراد به نوعًا خاصًّا منْ التمر، كما فِي الصَّيْحَانيّ. والله تعالى أعلم.

(بِجَمْعِ التَّمْرِ) أي بتمر مختلط منْ أنواع متفرّقة، وليس موغوبًا فيه، ولا يكون غالبًا إلا رديئًا. وَقَالَ الفيّوميّ: الجمع: الدّقَلُ؛ لأنه يُجمع، ويُخلط، ثم غلب عَلَى التمر الرديء، وأُطلق عَلَى كل لون منْ النخل، لا يُعرف اسمه. انتهى.

(حَتَّى نَزِيدَهُمْ) أي ندفع لأصحاب الصيحانيّ، والعذق أكثر مما نأخذ منهم (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "بِعْهُ) أي الجمع (بِالْوَرِقِ) بفتح، فكسر، أو بفتح، فسكون: الفضّة، قَالَ الفيّوميّ: الورق بكسر الراء، والإسكان للتخفيف: النُّقْرة المضروبة، ومنهم منْ يقول: النقرة مضروبة كانت، أو غير مضروبة، قَالَ الفاربيّ: الورق: المال، منْ

ص: 317

الدراهم، ويُجمع عَلَى أوراق، والرِّقَة، مثلُ عِدَة: الروق. انتهى. و"النقرة": القطعة المذابة منْ الفضّة (ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ) أي اشتر بذلك الورق ما تشاء منْ أنواع التمر الجيّد.

ومعنى الْحَدِيث: أن أهل التمر الجيّد لا يُعطون منْ الجيّد فِي مقابلة الرديء بقدره، ولا يرضون به، فكيف نفعل إذا بعنا الجيّد، هل نزيد لهم منْ الرديء، فبيّن له النبيّ صلى الله عليه وسلم أن منْ أراد تحصيل الجيّد، ينبغي له أن يبيع الرديء بالدنانير، والدراهم، ثم يشتري به الجيّد. قَالَ السنديّ: وليس فيه أنه يبيع الرديء منْ صاحب الجيّد، لكن بإطلاقه يشمل ما إذا باع منه، فكأنه لهذا استدلّ به بعضهم عَلَى جواز حيلة الربا، لكن ردّه غير واحد. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث صحيح، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -40/ 4554 - وفي "الكبرى" 40/ 6144.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده الأعمش، وحبيب بن أبي ثابت، وهما معروفان بالتدليس، وَقَدْ عنعناه؟.

[قلت]: إنما يصح بحديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه الآتي فِي الباب التالي، فإنه يشهد له، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌41 - (بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ مُتَفَاضِلاً)

4555 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، اسْتَعْمَلَ رَجُلاً، عَلَى خَيْبَرَ، فَجَاءَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ "، قَالَ: لَا، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِصَاعَيْنِ، وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَفْعَلْ، بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا").

رجال هَذَا الإسناد: ثمانية:

1 -

(محمّد بن سلمة) المراديّ الْجَمَليّ، أبو الحارث المصريّ، ثقة ثبت [11] 19/ 20.

ص: 318

2 -

(الحارث بن مسكين) بن محمّد الأمويّ مولاهم، أبو عمرو المصريّ القاضي، ثقة فقيه [10] 9/ 9.

3 -

(ابن القاسم) عبد الرحمن العُتَقيّ، أبو عبد الله المصريّ، ثقة فقيه، منْ كبار [10] 19/ 20.

4 -

(مالك) بن أنس الإِمام المدنيّ، ثقة ثبت حجة [7] 7/ 7.

5 -

(عبد المجيد بن سُهيل) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبي وهب، أو أبي محمّد، ثقة [6].

قَالَ إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة. وكذا قَالَ النسائيّ. وَقَالَ أبو حاتم: صالح الْحَدِيث. وذكره ابن حِبّان فِي "الثقات". وَقَالَ ابن الْبَرْقيّ: ثقة. وَقَالَ الحاكم: شيخ منْ ثقات المدنيين، عزيز الْحَدِيث. روى له الجماعة، سوى الترمذيّ، وابن ماجه، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.

6 -

(سعيد بن المسيّب) المخزوميّ المدنيّ، ثقه ثبت فقيه، منْ كبار [3] 9/ 9.

7 -

(أبو سعيد الخدريّ) سعد بن مالك بن سنان الصحابيّ ابن الصحابيّ، رضي الله تعالى عنهما 67/ 1315.

8 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه الحارث، فقد تفرد به هو وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين منْ مالك، ومن قبله مصريون. (ومنها): أن فيه سعيد بن المسيّب منْ الفقهاء السبعة. (ومنها): أن صحابييه كانا منْ المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ) بميم مفتوحة، بعدها جيم، ومن قاله بالمهملة، ثم الميم، فقد صحف. قاله فِي "الفتح" (ابْنِ سُهَيْلٍ) زاد فِي رواية للبخاريّ:"ابن عوف"(عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) وفي رواية للبخاري، منْ طريق سليمان بن بلال، عن عبد المجيد: أنه سمع سعيد بن المسيب (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنهما. وفي رواية سليمان المذكورة: أن أبا سعيد، وأبا هريرة حدثاه. قَالَ ابن عبد البرّ: ذكر أبي هريرة رضي الله عنه لا يوجد فِي هَذَا الْحَدِيث، إلا لعبد المجيد، وَقَدْ رواه قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي سعيد وحده، وكذلك رواه جماعة، منْ أصحاب أبي سعيد عنه.

ص: 319

قَالَ الجامع: رواية قتادة هي التي تأتي للنسائي بعد هَذَا، منْ طريق سعيد بن أبي عروبة، عنه، ولكن سياقها مغاير لسياق قصة عبد المجيد.

(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، اسْتَعْمَلَ رَجُلاً عَلَى خَيْبَرَ) فِي رواية سليمان المذكورة: "بعث أخا بني عدي منْ الأنصار، إلى خيبر، فأمَّرَه عليها"، وأخرجه أبو عوانة، والدارقطني، منْ طريق الدراوردي، عن عبد المجيد، فسماه سَوَاد بن غَزِيّة -وهو بفتح السين المهملة، وتخفيف الواو، وفي آخره دال مهملة- وغزية -بغين معجمة، وزاي، وتحتانية ثقيلة، بوزن عطية- (فَجَاءَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ) بجيم، ونون، وتحتانية، وموحدة، وِزان عظيم، قَالَ مالك: هو الكبيس، وَقَالَ الطحاوي: هو الطيب، وقيل: الصلب، وقيل: الذي أُخرج منه حَشَفُه، ورديئه، وَقَالَ غيرهم: هو الذي لا يُخلط بغيره، بخلاف الجمع.

(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ ") الهمزة للاستفهام (قَالَ) ذلك الرجل (لَا، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِصَاعَيْنِ) ولفظ "الكبرى""بالصاعين" بالتعريف، وهو الذي فِي "الصحيح"، وزاد فِي رواية سليمان المذكورة عند البخاريّ:"منْ الجمع"، وهو -بفتح الجيم، وسكون الميم-: التمر المختلط، كما سبق (وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلاثِ) هكذا نسخ "المجتبى"، ولفظ "الكبرى":"بالثلاثة"، قَالَ فِي "الفتح": قوله: "بالثلاث": كذا للأكثر، وللقابسي:"بالثلاثة"، وكلاهما جائز؛ لأن الصاع يُذكَّر، ويؤنث. انتهى.

(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَفْعَلْ) أي لا تأخذ الجنيب بدفع الزيادة؛ لأنه ربا، فإن احتجت إلى الأخذ (بعِ الْجَمْعَ) أي التمر الرديء (بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا) وفي رواية سليمان المذكورة: "ولكن مثلا بمثل": أي بيع المثل بالمثل، وزاد فِي آخره:"وكذلك الميزان": أي فِي بيع ما يوزن منْ المقتات بمثله. قَالَ ابن عبد البرّ: كل منْ روى عن عبد المجيد هَذَا الْحَدِيث، ذكر فيه الميزان، سوى مالك.

وتعقبه الحافظ، ولم يتبيّن لي سبب اعتراضه. والله تعالى أعلم.

قَالَ: وهو أمر مجمع عليه، لا خلاف بين أهل العلم فيه، كلٌّ يقول عَلَى أصله: إن كل ما دخله الربا، منْ جهة التفاضل، فالكيل والوزن فيه واحد، ولكن ما كَانَ أصله الكيل، لا يباع إلا كيلا، وكذا الوزن، ثم ما كَانَ أصله الوزن، لا يصح أن يباع بالكيل، بخلاف ما كَانَ أصله الكيل، فإن بعضهم يُجيز فيه الوزن، ولقول: إن المماثلة تُدرك بالوزن فِي كل شيء. قَالَ: وأجمعوا عَلَى أن التمر بالتمر، لا يجوز بيع بعضه ببعض، إلا مثلًا بمثل، وسواء فيه الطَّيِّب والدُّون، وأنه كله عَلَى اختلاف أنواعه جنس واحد. قَالَ:

ص: 320

وأما سكوت منْ سكت منْ الرواة، عن فسخ البيع المذكور، فلا يدل عَلَى عدم الوقوع، إما ذُهولا، وإما اكتفاء، بأن ذلك معلوم.

وَقَدْ ورد الفسخ منْ طريق أخرى، كأنه يشير إلى ما أخرجه مسلم، منْ طريق أبي نضرة، عن أبي سعيد، نحو هذه القصّة، وفيه: فَقَالَ: "هَذَا الربا، فردّوه"، قَالَ: ويحتمل تعدد القصة، وأن القصة التي لم يقع فيها الرد، كانت قبل تحريم ربا الفضل. والله أعلم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي سعيد الخدريّ، وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -41/ 4555 و4556 و4557 و4558 و4559 - وفي "الكبرى" 41/ 6145 و6146 و6147 و6148 و6149. وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 2080 و 2202 و"الوكالة" 2312 (م) فِي "المساقاة" 1593 و1594 و1595 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 10609 و10691 و11020 و11065 و11083 و11161 و11188 (الدارمي) فِي "البيوع" 2464. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم بيع التمر بالتمر، مفاضلًا، وهو التحريم. (ومنها): قيام عذر منْ لا يعلم التحريم، حَتَّى يعلمه. (ومنها): أن فيه جوازَ الرفق بالنفس، وترك الحمل عَلَى النفس؛ لاختيار أكل الطيب عَلَى الرديء، خلافا لمن منع ذلك، منْ المتزهدين. (ومنها): البحث عما يستريب به الشخص، حَتَّى ينكشف حاله. (ومنها): النصّ عَلَى تحريم ربا الفضل. (ومنها): اهتمام الإِمام بأمر الدين، وتعليمه لمن لا يعلمه، وإرشاده إلى التوصّل إلى المباحات، وغيرها. (ومنها): أن فيه أن صفقة الربا لا تصحّ. (ومنها): أن بعضهم استدل به عَلَى جواز بيع العِينة، وهو: أن يبيع السلعة منْ رجل بنقد، ثم يشتريها منه بأقل منْ الثمن؛ لأنه لم يَخُصّ بقوله:"ثم اشتر بالدراهم جنيبا" غير الذي باع له الجمع.

وتعقب بأنه مطلق، والمطلق لا يشمل، ولكن يَشِيع، فإذا عُمل به فِي صورة، سقط الاحتجاج به فيما عداها، ولا يصح الاستدلال به عَلَى جواز الشراء، ممن باعه تلك السلعة بعينها. وقيل: إن وجه الاستدلال به لذلك، منْ جهة ترك الاستفصال، ولا

ص: 321

يخفى ما فيه. (ومنها): ما قَالَ القرطبيّ: استدل بهذا الْحَدِيث، منْ لم يقل بسد الذرائع؛ لأن بعض صور هَذَا البيع، يؤدي إلى بيع التمر بالتمر متفاضلا، ويكون الثمن لغوا، قَالَ: ولا حجة فِي هَذَا الْحَدِيث؛ لأنه لم ينص عَلَى جواز شراء التمر الثاني، ممن باعه التمر الأول، ولا يتناوله ظاهر السياق بعمومه، بل بإطلاقه، والمطلق يحتمل التقييد إجمالا، فوجب الاستفسار، وإذا كَانَ كذلك، فتقييده بأدنى دليل كاف، وَقَدْ دل الدليل عَلَى سد الذرائع، فلتكن هذه الصورة ممنوعة.

واستدل بعضهم عَلَى الجواز، بما أخرجه سعيد بن منصور، منْ طريق ابن سيرين، أن عمر خطب، فَقَالَ: إن الدرهم بالدرهم، سواء بسواء، يدا بيد، فَقَالَ له ابن عوف: فنعطي الجنيب، ونأخذ غيره؟ قَالَ: لا، ولكن ابتع بهذا عَرْضًا، فإذا قبضته، وكان له فيه نية، فاهضم ما شئت، وخذ أيّ نقد شئت. واستدل أيضًا بالاتفاق، عَلَى أن منْ باع السلعة التي اشتراها، ممن اشراها منه بعد مدة، فالبيع صحيح، فلا فرق بين التعجيل فِي ذلك، والتأجيل، فدل عَلَى أن المعتبر فِي ذلك وجود الشرط، فِي أصل العقد وعدمه، فإن تشارطا عَلَى ذلك فِي نفس العقد، فهو باطل، أو قبله، ثم وقع العقد بغير شرط، فهو صحيح، ولا يخفى الورع.

وَقَالَ بعضهم: ولا يضر إرادة الشراء، إذا كَانَ بغير شرط، وهو كمن أراد أن يزني بامرأة، ثم عدل عن ذلك، فخطبها، وتزوجها، فإنه عدل عن الحرام إلى الحلال، بكلمة الله التي أباحها، وكذلك البيع، والله أعلم. (ومنها): جواز اختيار طيب الطعام، وجواز الوكالة فِي البيع وغيره. (ومنها): أن البيوع الفاسدة كلّها تُفسخ، وتردّ، إذا لم تفت. (ومنها): ما قاله القرطبيّ أيضًا: إنه يدلّ عَلَى وجوب فسخ صفقة الربا، وأنها لا تصحّ بوجه، وهو حجةٌ للجمهور عَلَى أبي حنيفة حيث يقول: إن بيع الربا جائز بأصله، منْ حيث إنه بيع، ممنوع بوصفه، منْ حيث إنه ربا، فيُسقَطُ الربا، ويصح البيع. ولو كَانَ عَلَى ما ذكر لما فسخ النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الصفقة، ولأمره برد الزيادة عَلَى الصاع، ولصحّح الصفقة فِي مقابلة الصاع انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): مما يتعلّق بهذا البحث الكلام عَلَى بيع العِينة:

صورة بيع العينة -كما قَالَ ابن الأثير رحمه الله تعالى فِي "النهاية" 3/ 334 - : أن يبيع منْ رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمّى، ثم يشتريها منه بأقلّ منْ الثمن الذي باعها، فإن اشترى بحضرة طالب العِينة سلعة منْ آخر بثمن معلوم، وقبضها، ثم باعها منْ طالب العينة بثمن أكثر مما اشتراها إلى أجل مسمّى، ثم باعها المشتري منْ البائع

ص: 322

الأول بالنقد بأقلّ منْ الثمن، فهذه أيضًا عِينة، وهي أهون منْ الأولى، وسُمّيت عِينة لحصول النقد لصاحب العينة؛ لأن العين هو المال الحاضر منْ النقد، والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضرة، تَصِلُ إليه معجّلةً. انتهى.

وَقَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى فِي "المغني": منْ باع سلعة بثمن مؤجل، ثم اشتراها بأقل منه نقدًا، لم يجز فِي قول أكثر أهل العلم، رُوي ذلك عن ابن عباس، وعائشة، والحسن، وابن سيرين، والشعبي، والنخعي، وبه قَالَ أبو الزناد، وربيعة، وعبد العزيز بن أبي سلمة، والثوري، والأوزاعي، ومالك، وإسحاق، وأصحاب الرأي. وأجازه الشافعيّ؛ لأنه ثمن يجوز بيعها به، منْ غير بائعها، كما لو باعها بمثل ثمنها.

ولنا ما روى غندر، عن شعبة، عن أبي إسحاق السبيعي، عن امرأته العالية بنت أيفع ابن شُرَحبيل، أنها قالت: دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم، وامرأته عَلَى عائشة رضي الله عنها، فقالت أم ولد زيد بن أرقم: إني بعت غلاما منْ زيد بن أرقم، بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته منه بستمائة درهم، فقالت لها: بئسما شريت، وبئسما اشتريت، أبلغي زيد بن أرقم، أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن يتوب، رواه الإِمام أحمد، وسعيد بن منصور، والظاهر أنها لا تقول مثل هَذَا التغليظ، وتُقْدِم عليه، إلا بتوقيف، سمعته منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجرى مجرى روايتها ذلك عنه؛ ولأن ذلك ذريعة إلى الربا، فإنه يُدخِل السلعة ليستبيح بيع ألف بخمسمائة، إلى أجل معلوم. وكذلك روي عن ابن عباس فِي مثل هذه المسألة، أنه قَالَ: أرى مائة بخمسين، بينهما حريرة -يعني خرقة حرير، جعلاها فِي بيعهما، والذرائع معتبرة؛ لما قدمناه، فأما بيعها بمثل الثمن، أو أكثر فيجوز؛ لأنه لا يكون ذريعة، وهذا إذا كانت السلعة لم تنقص عن حالة البيع، فإن نقصت، مثل أن هُزِلَ العبد، أو نَسِي صناعة، أو تخرق الثوب، أو بَلِي جاز له شراؤها بما شاء؛ لأن نقص الثمن لنقص المبيع، لا للتوسل إلى الربا. وإن نقص سعرها، أو زاد لذلك، أو لمعنى حدث فيها، لم يجز بيعها بأقل منْ ثمنها، كما لو كانت بحالها، نص أحمد عَلَى هَذَا كله.

قَالَ: وإن اشتراها بعَرْض، أو كَانَ بيعها الأول بعرض، فاشتراها بنقد جاز، وبه قَالَ أبو حنيفة، ولا نعلم فيه خلافا؛ لأن التحريم إنما كَانَ لشبهة الربا، ولا ربا بين الأثمان والعروض، فأما إن باعها بنقد، ثم اشتراها بنقد آخر، مثل أن يبيعها بمائتي درهم، ثم اشتراها بعشرة دنانير، فَقَالَ أصحابنا -الحنبلية-: يجوز؛ لأنهما جنسان، لا يحرم التفاضل بينهما، فجاز كما لو اشتراها بعرض، أو بمثل الثمن. وَقَالَ أبو حنيفة: لا

ص: 323

يجوز؛ استحسانا؛ لأنهما كالشيء الواحد فِي معنى الثمنية، ولأن ذلك يُتَّخَذُ وسيلةً إلى الربا، فأشبه ما لو باعها بجنس الثمن الأول، وهذا أصح، إن شاء الله تعالى.

قَالَ: وهذه المسألة تسمى مسألة العينة، قَالَ الشاعر [منْ الطويل]:

أنَدَّانُ أَمْ نعْتَانُ أَمْ يَنْبَرِي لَنَا

فَتًى مِثْلُ نَصْلِ الْسَّيْفِ مِيزَتْ مَضَارِبُهْ

فقوله: "نَعْتَان": أي نشتري عِينة مثل ما وصفنا، وَقَدْ روى أبو داود بإسناده، عن ابن عمر: قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا تبايعتم بالعِينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سَلَّطَ اللهُ عليكم ذُلًّا لا ينزعه حَتَّى ترجعوا إلى دينكم"، وهذا وعيد يدل عَلَى التحريم. وَقَدْ رُوي عن أحمد، أنه قَالَ: العينة أن يكون عند الرجل المتاع، فلا يبيعه إلا بنسيئة، فإن باعه بنقد، ونسيئة فلا بأس، وَقَالَ: أكره للرجل أن لا يكون له تجارة، غير العينة، لا يبيع بنقد، وَقَالَ ابن عقيل: إنما كره النسيئة لمضارعتها الربا، فإن الغالب أن البائع بنسيئة، يقصد الزيادة بالأجل. ويجوز أن تكون العِينة اسما لهذه المسألة، وللبيع بنسيئة جميعًا، لكن البيع بنسيئة، ليس بمحرم اتفاقا، ولا يكره، إلا أن لا يكون له تجارة غيره. انتهى "المغني" 6/ 260 - 262.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح عندي تحريم بيع العِينة؛ لحديث أبي داود المذكور، فإنه حديث صحيح، صححه جماعة منْ المحققين، بمجموع طرقه انظر ما كتبه الشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى فِي "السلسلة الصحيحة" 1/ 15 - 17 رقم 11 - وفيه الوعيد الشديد لمن يتعاطى هَذَا الأمر، ولا يكون الوعيد إلا عَلَى شيء محرّم شرعًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة)؛ إن باع سلعة بنقد، ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة، فَقَالَ أحمد فِي رواية حرب: لا يجوز ذلك، إلا أن يغير السلعة؛ لأن ذلك يتخذه وسيلة إلى الربا، فأشبه مسألة العينة، فإن اشتراها بنقد آخر، أو بسلعة أخرى، أو بأقل منْ ثمنها نسيئة جاز؛ لما ذكرناه فِي مسألة العينة، ويحتمل أن يجوز له شراؤها بجنس الثمن بأكثر منه، إلا أن يكون ذلك عن مواطأة، أو حيلة فلا يجوز، وإن وقع ذلك اتفاقا منْ غير قصد جاز؛ لأن الأصل حل البيع، وإنما حرم فِي مسألة العينة بالأثر الوارد فيه، وليس هَذَا فِي معناه، ولأن التوسل بذلك أكثر، فلا يلتحق به ما دونه. انتهى "المغني" 6/ 263. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): منْ باع طعاما إلى أجل، فلما حل الأجل، أخذ منه بالثمن الذي فِي ذمته طعاما قبل قبضه لم يجز، رُوي ذلك عن ابن عمر، وسعيد بن المسيب، وطاوس، وبه قَالَ مالك، وأحمد، وإسحاق. وأجازه جابر بن زيد، وسعيد بن جبير،

ص: 324

وعلي بن حسين، والشافعي، وابن المنذر، وأصحاب الرأي، قَالَ علي بن حسين: إذا لم يكن لك فِي ذلك رأي، ورُوي عن محمّد بن عبد الله بن أبي مريم، أنه قَالَ: بعت تمرا منْ التمارين، كُلَّ سبعة آصع بدرهم، ثم وجدت عند رجل منهم تمرا، يبيعه أربعة آصع بدرهم، فاشتريت منه، فسألت عكرمة عن ذلك؟، فَقَالَ: لا بأس أخذت أنقص مما بعت، ثم سألت سعيد بن المسيب عن ذلك؟ وأخبرته بقول عكرمة، فَقَالَ: كذب، قَالَ عبد الله بن عباس: ما بعت منْ شيء، مما يكال بمكيال، فلا تأخذ منه شيئًا، مما يكال بمكيال إلا ورقا أو ذهبا، فإذا أخذت ورقك، فابتع ممن شئت، منه أو منْ غيره، فرجعت، فإذا عكرمة قد طلبني، فَقَالَ: الذي قلت لك هو حلال، هو حرام، فقلت لسعيد بن المسيب: إن فضل لي عنده فضل؟ قَالَ: فأعطه أنت الكسر، وخذ منه الدرهم، ووجه ذلك أنه ذريعة إلى بيع الطعام بالطعام نسيئة، فحرم كمسألة العينة، فعلى هَذَا كل شيئين، حرم النَّساء فيهما، لا يجوز أن يأخذ أحدهما عوضا عن الآخر قبل قبض ثمنه، إذا كَانَ البيع نساء، نص أحمد عَلَى ما يدل عَلَى هَذَا، وكذلك قَالَ سعيد بن المسيب، فيما حكينا عنه.

قَالَ ابن قُدامة: والذي يَقْوَى عندي جواز ذلك، إذا لم يفعله حِيلةً، ولا قصد ذلك فِي ابتداء العقد، كما قَالَ علي بن الحسين، فيما يَروي عنه عبد الله بن زيد، قَالَ: قدمت عَلَى علي بن الحسين، فقلت له: إني أَجُدَّ نخلي، وأبيع ممن حضرني التمر إلى أجل، فيقدمون بالحنطة، وَقَدْ حل ذلك الأجل، فيوقفونها بالسوق، فأبتاع منهم، وأُقاصُّهم؟ قَالَ: لا بأس بذلك، إذا لم يكن منك عَلَى رأي، وذلك لأنه اشترى الطعام بالدراهم، التي فِي الذمة بعد انبرام العقد أوّلَ لزومه فصح، كما لو كَانَ المبيع الأول حيوانا، أو ثيابا، ولما ذكرنا فِي الفصل الذي قبل هَذَا، فإنه لم يأخذ بالثمن طعاما، ولكن اشترى منْ المشتري طعاما بدراهم، وسلمها إليه، ثم أخذها منه وفاء، أو لم يسلمها إليه، لكن قاصّه بها، كما فِي حديث علي بن الحسين. انتهى "المغني" 6/ 263 - 264.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي صححه ابن قُدامة منْ جواز أخذ الطعام بالثمن الذي فِي ذمّته هو الذي يظهر ليّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4556 -

(أَخْبَرَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنْ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أُتِيَ بِتَمْرٍ رَيَّانٍ، وَكَانَ تَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْلاً، فِيهِ يُبْسٌ، فَقَالَ:"أَنَّى لَكُمْ هَذَا؟ "،

ص: 325

قَالُوا: ابْتَعْنَاهُ صَاعًا بِصَاعَيْنِ مِنْ تَمْرِنَا، فَقَالَ:"لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ هَذَا، لَا يَصِحُّ، وَلَكِنْ بِعْ تَمْرَكَ، وَاشْتَرِ مِنْ هَذَا حَاجَتَكَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه إسماعيل فإنه منْ أفراده، وهو بصريّ ثقة. و"خالد": هو ابن الحارث الْهُجيميّ. و"سعيد": هو ابن أبي عروبة.

والسند مسلسل بثقات البصريين، إلى سعيد، فإنه، وأبو سعيد رضي الله عنه مدنيّان، وفيه سعيد أحد الفقهاء السبعة، وفيه شيخه نصر أحد المشايخ التسعة الذين روى عنهم أصحاب الأصول دون واسطة، كما سبق قريبًا، وفيه أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة (1170) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أُتِيَ بِتَمْرِ رَيَّانَ) ببناء الفعل للمفعول، و"رَيّان" بفتح الراء، وتشديد التحتانيّة: هو التمر الذي سُقي نخله ماءً كثيرًا. ذكره السنديّ 7/ 272 (وَكَانَ تَمْرُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْلاً) بفتح الموحّدة، وسكون العين المهملة: هو ما شرب منْ النخيل بعروقه منْ الأرض، منْ غير سقي سماء، ولا غيرها، قَالَ الأزهريّ: هو ما ينبت منْ النخل فِي أرض يقرب ماؤها، فرسخت عُروقها فِي الماء، واستغنت عن ماء السماء، والأنهار، وغيرها. قاله فِي "النهاية" 1/ 141 (فِيهِ يُبْسٌ) بضم، فسكون: خلاف الرطوبة، قَالَ الفيّوميّ: يَبِس يَيْبَسُ، منْ باب تَعِب، وفي لغة بكسرتين: إذا جفّ بعد رُطوبة، فهو يابسٌ، وشيءٌ يَبْسٌ ساكنُ الباء: بمعنى يابسٍ أيضًا، وحطبٌ يَبْسٌ، كأنه خِلْقةٌ، ويقال: هو جمع يابس، مثلُ صاحب وصَحْب، ومكان يَبَسٌ بفتحتين: إذا كَانَ فيه ماءٌ، فذهب، وَقَالَ الأزهريّ: طريقٌ يَبَسٌ: لا نُدُوّة فيه، ولا بَلَلَ، واليُبْسُ: نقيض الرُّطوبة، واليَبِيسُ منْ النبات: ما يَبِسَ، فَعيلٌ بمعنى فاعل. وَقَالَ الفارابيّ: مكانٌ يَبَسٌ، ويَبْسٌ، وكذلك غيرُ المكان. انتهى.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَنَّى لَكُمْ هَذَا؟) بفتح الهمزة، وتشديد النون، مقصورًا: منْ أدوات الاستفهام، قَالَ الفيّوميّ: هي استفهام عن الجهة: تقول: أنى يكون هَذَا: أي منْ أيّ وجه، وطريق. اهـ. والمعنى هنا: أي منْ أيِّ، جهة حصل لكم هَذَا التمر الجيّد؟ (قَالُوا: ابْتَعْنَاهُ) أي اشترنا هَذَا الرّيّان (صَاعًا بِصَاعَيْنِ) منصوب عَلَى الحال، وإن كَانَ جامدًا؛ لتأويله بالمشتقّ، أي مُسَعَرّا، كلّ صاع منه بصاعين منْ تمرنا، وإلى هَذَا أشار ابن مالك رحمه الله تعالى فِي "خلاصته"، حيث قَالَ:

وَيَكْثُرُ الْجُمُودُ فِي سِعْرٍ وَفِي

مُبْدِ تَأَوُّلِ بِلَا تَكَلُّفِ

ص: 326

كِبعْهُ مُدًّا بِكَذَا يَدًا بيَدْ

وَكرَّ زَيْدٌ أَسَدًا أَيْ كَأَسَدْ

(مِنْ تَمْرِنَا) أي البعل (فَقَالَ) رضي الله عنه (لَا تَفْعَلْ) أي لا تشتر هَذَا الشراء (فَإِنَّ هَذَا، لَا يَصِحُّ) لكونه ربا، وفي قصّة بلال رضي الله عنه الآتية:"أوّهْ عينُ الربا، لا تَقْرَبْه"(وَلَكِنْ بعْ تَمْرَكَ) البعل (وَاشْتَرِ مِنْ هَذَا) الريّان (حَاجَتَكَ) أي ما تحتاج إليه، قليلاً كَانَ، أو كثيرًا.

والحديث تقدّم تخريجه، وسائر مسائله فِي الْحَدِيث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4557 -

(حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، قَالَ: كُنَّا نُرْزَقُ تَمْرَ الْجَمْعِ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَبِيعُ الصَّاعَيْنِ بِالصَّاعِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "لَا صَاعَيْ تَمْرٍ بِصَاعٍ، وَلَا صَاعَيْ حِنْطَةٍ بِصَاعٍ، وَلَا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه كما سبق فِي الذي قبله، و"خالد": هو الْهُجيمي المذكور قبله. و"هشام": هو الدستوائيّ.

والسند مسلسل بالبصريين، إلى أبي سلمة، فإنه، وأبا سعيد رضي الله عنه مدنيّان، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أبو سلمة، أحد الفقهاء السبعة عَلَى بعض الأقوال. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، أنه (قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدِ الْخُدْرِيُّ) رضي الله عنه (قَالَ: كُنَّا نُرْزَقُ) بالبناء للمفعول: أي نعطى، وكان هَذَا العطاء مما كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقسمه فيهم مما أفاء الله تعالى عليهم منْ خيبر. قاله فِي "الفتح" 5/ 34 (تَمْرَ الْجَمْعِ) بفتح، فسكون: هو الْخِلْط منْ التمر، وقيل: هو كلّ لون منْ النخيل، لا يُعرف اسمه، والغالب فِي مثل ذلك أن يكون رديئه أكثر منْ جيّده. قاله فِي "الفتح" 5/ 34 (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي فِي زمنه (فَنَبِيِعُ الصَّاعَيْنِ) أي منْ الجمع (بِالصَّاعِ) أي منْ النوع الجيّد، كالْجَنِيب (فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَا صَاعَيْ تَمْرٍ بِصَاعٍ) بنصب "صاعي"؛ لأن "لا" هي النافية للجنس، تعمل عمل "إنّ"، فتنصب اسمها إذا كَانَ مضافًا، كهذا، أو شبه مضاف، كقولك: لا طالبًا للعلم كسلان، كما قَالَ ابن مالك رحمه الله تعالى فِي "خلاصته":

عَمَلَ "إِنَّ" اجْعَلْ لِـ"لَا" فِي النَّكِرَهْ

مُفْرَدَةً جَاءَتْكَ أَوْ مُكَرَّرَهْ

ص: 327

فَانْصِبْ بِهَا مُضَافًا أوْ مُضَارِعَهْ

وَبَعْدَ ذَاكَ الْخَبَرَ اذْكُرْ رَافِعَهْ

و"صاعي" أصله "صاعين"، حُذفت نونه لإضافته إلى "تمر"، كما قَالَ ابن مالك أيضًا:

نُونًا تَلِي الإِعْرَابَ أَوْ تَنْوِنَا

مِمَّا تُضِيفُ احْذِفْ كَـ"طُورِ سِينَا"

والمعنى: لا يحلّ لكم أن تبيعو صاعين منْ تمر بصاع منه، وإن اختلفا فِي الجودة، وَقَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: والمراد: لا يحلّ بيع صاعين منْ تمر بصاع منه، لا أنه لا يتحقّق شرعًا

(1)

، فيدلّ الْحَدِيث عَلَى بطلان العد فِي الربا. انتهى. وهذا منْ السنديّ إنصافٌ رحمه الله تعالى، حيث خالف فيه مذهبه القائل: إن العقد يصحّ لو أزيل الزائد، كما سبق بيانه، وهكذا ينبغي لمتأخّري أتباع المذاهب أن يكونوا عليه، منْ اتّباع الدليل إذا خالف مذهبهم، ولكن أين المخلصون؟، فإنا لله، وإن إليه راجعون، اللَّهم أرنا الحقّ حقّا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، آمين، آمين، آمين.

(وَلَا صَاعَيْ حِنْطَةٍ بِصَاعٍ، وَلَا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ) أي ولا تبيعوا درهما واحدًا بدرهمين، فإنه الربا الذي توعّد الله عز وجل آكله بقوله عز وجل:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} الآية، ولعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما أخرجه مسلم منْ حديث جابر رضي الله عنه، قَالَ: لَعَن رسول الله صلى الله عليه وسلم، آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه، وَقَالَ:"هم سواء".

والحديث صحيح، وَقَدْ تقدّم تخريجه، وسائر مسائله قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4558 -

(أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ يَحْيَى -وَهُوَ ابْنُ حَمْزَةَ- قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ: كُنَّا نَبِيعُ تَمْرَ الْجَمْعِ، صَاعَيْنِ بِصَاعٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا صَاعَيْ تَمْرٍ بِصَاعٍ، وَلَا صَاعَيْ حِنْطَةٍ بِصَاعٍ، وَلَا دِرْهَمَيْنِ بِدِرْهَمٍ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"يحيى" الثاني: هو ابن أبي كثير المذكور فِي السند الماضي. والسند مسلسلٌ بثقات الشاميين إلى الأوزاعيّ، ويحيى يماميّ، وأبو سلمة، وأبو سعيد رضي الله عنه مدنيّان.

والحديث صحيح، وَقَدْ سبق البحث عنه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4559 -

(أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ يَحْيَى -وَهُوَ ابْنُ حَمْزَةَ- قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ عَبْدِ الْغَافِرِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو

(1)

هكذا عبارة السنديّ: "لا أنه لا يتحقق إلخ" وفيها ركاكة، فليحرر.

ص: 328

سَعِيدٍ، قَالَ: أَتَى بِلَالٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ، فَقَالَ:"مَا هَذَا؟، قَالَ: اشْتَرَيْتُهُ صَاعًا بِصَاعَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوِّهْ عَيْنُ الرِّبَا، لَا تَقْرَبْهُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الإسناد هو الإسناد الماضي، غير:

1 -

(عُقبة بن عبد الغافر) الأزديّ الْعَوْذِيّ، أبو نَهّار البصريّ، ثقة [4]، قديم الموت.

وفي "تهذيب التهذيب" 3/ 125: روى عن أبي سعيد، وعبد الله بن مغفل، وأبي أمامة، وأبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، وعنه يحيى بن أبى كثير، وقتادة، ويحيى بن أبي إسحاق الحضرميّ، وسليمان التيمي، وابن عون، وغيرهم. قَالَ العجليّ، والنسائي: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وذكر ابن أبي حاتم فِي "المراسيل": أنه أرسل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئا. قَالَ البزار: كَانَ منْ أجلة أهل البصرة. وحكى ابن سعد، عن ثابت البناني، قَالَ: ما كَانَ أحد منْ النَّاس، أحبّ إلي أن ألقى الله فِي مِسْلاخه منْ عقبة ابن عبد الغافر، فلما وقعت الفتنة أتيناه، فَقَالَ: ما أعرفكم.

وَقَالَ خليفة: قُتل يوم الزاوية سنة (82). وَقَالَ أحمد بن يحيى بن سعيد: قُتل فِي الجماجم سنة (83). روى له البخاريّ، ومسلم، والمصنّف، وله عنده هَذَا الْحَدِيث فقط. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

عن عقبة بن عبد الغافر رحمه الله تعالى أنه (قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ) الخدريّ رضي الله عنه (قَالَ: أَتَى) بالبناء للفاعل، والفاعل قوله (بِلَالٌ) هو ابن رَبَاح، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن حَمَامة، وهي أمه، أبو عبد الله، مولى أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، منْ السابقين الأولين، شهد بدرًا، والمشاهد كلها، مات رضي الله عنه بالشام سنة (7) أو (8) أو (20)، وله بضع وستّون سنةً (رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بالنصب عَلَى المفعوليّة لـ"أتى"(بتَمْرٍ بَرْنِيٍّ) بفتح الموحّدة، وسكون الراء، بعدها نون، ثم تحتانيّة مشدّدة: ضرب منْ التمر معروف، قيل له: ذلك؛ لأن كلّ تمرة تشبه البرنيّة

(1)

، وَقَدْ وَقَدْ وقع عند أحمد، مرفوعًا:"خير تمراتكم الْبَرْنيّ، يُذهب الداء، ولا داء فيه". قاله فِي "الفتح"(فَقَالَ) رضي الله عنه (مَا هَذَا؟) وفي رواية البخاريّ: "منْ أين هَذَا؟ "(قَالَ) بلال رضي الله عنه (اشْتَرَيْتُهُ صَاعًا بِصَاعَيْنِ) وفي رواية البخاريّ: "كَانَ عندي تمرٌ رديء، فبعت منه صاعين بصاع، لنُطعِم النبيّ صلى الله عليه وسلم"، ولمسلم:"لمَطعم النبيّ صلى الله عليه وسلم"(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوَّهْ عَيْنُ الرَّبَا) وفي رواية البخاريّ: "أَوّه، أوّه عين الربا، عين الربا" مكرّرًا. ومراده بعين الربا أن هَذَا العقد هو

(1)

فِي "القاموس": الْبَرْنِيَّةُ: إِنَاءٌ منْ خَزَفٍ، والدَّيكُ الصغير أول ما يُدْرِك. انتهى.

ص: 329

نفس الربا الذي حرّمه الله تعالى، لا نظيره.

و"أَوّه" كلمة تقال عند التوجّع، وهي مشدّدة الواو المفتوحة، وَقَدْ تكسر، والهاء ساكنة، وربّما حذفوها، ويقال: بسكون الواو، وكسر الهاء، وحكى بعضهم مدّ الهمزة، بدل التشديد. قاله فِي "الفتح".

وَقَالَ فِي "النهاية" 1/ 82 - : "أَوْهِ" كلمة يقولها الرجل عند الشكاية والتوجّع، وهي ساكنة الواو، مكسورة الهاء، وربّما قلبوا الواو ألفًا، فقالوا:"آهِ" منْ كذا، وربّما شدّدوا الواو، وكسروها، وسكّنوا الهاء، فقالوا:"أَوِّهْ"، وربّما حذفوا الهاء، فقالوا:"أَو"، وبعضهم يفتح الواو مع التشديد، فيقول:"أَوَّهْ". انتهى.

قَالَ ابن التين رحمه الله تعالى: إنما تأوّه صلى الله عليه وسلم ليكون أبلغ فِي الزجر، وقاله، إمّا للتألّم منْ هَذَا الفعل، وإمّا منْ سوء الفهم. انتهى.

(لَا تَقْرَبْهُ) بفتح الراء، منْ باب علم: أي إن قربه يضرّ، فضلاً عن مباشرته. وفي رواية البخاريّ:"لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري، فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتر به"، وليس فِي رواية المصنّف، ولا عند البخاريّ أنه أمره بردّه، وَقَدْ ثبت فِي رواية مسلم، منْ طريق أبي نضرة، عن أبي سعيد رضي الله عنه فِي هذه القصّة، فَقَالَ:"هَذَا الربا، فردّه"، وعند الطبريّ منْ طريق سعيد بن المسيّب، عن بلال رضي الله عنه، قَالَ:"كَانَ عندي تمر دون، فابتعت منه تمرَا أجود منه" الْحَدِيث، وفيه:"فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: هَذَا الربا بعينه، انطلق، فرّده عَلَى صاحبه، وخذ تمرك، وبعه بحنطة، أو شعير، ثم اشتر به منْ هَذَا التمر، ثم جئني به".

وَقَدْ تقدّم عن الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى أن هذه القصّة وقعت مرّتين: مرّة لم يقع فيها الأمر بالردّ، وكان ذلك قبل العلم بتحريم الربا، ومرّة وقع فيها الأمر بالردّ، وذلك بعد تحريم الربا، والعلم به. ويدلّ عَلَى التعدّد -كما قَالَ الحافظ- أن الذي تولّى ذلك فِي إحدى القصّتين سَوَاد بن غَزِيّة رضي الله عنه، عامل خيبر، وفي الأخرى بلال رضي الله عنه.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم تخريجه، وبيان بقيّة المسائل فِي الْحَدِيث الأول منْ هَذَا الباب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4560 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ، أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا، إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا، إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا، إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا، إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ").

ص: 330

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"سفيان": هو ابن عيينة. و"مالك بن أوس بن الْحَدَثَان" -بفتح الحاء، والدال المهملتين، بعدها مثلّثة-: هو النصريّ، أبو سعيد المدنيّ، له رؤية، مات سنة (92)، وقيل (91) 1/ 4142. والسند مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وسفيان، فمكيّ، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، ورواية صحابيّ، عن صحابيّ؛ لأن مالك بن أوس صحابيّ رؤية، وتابعيّ رواية. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ) النصريّ المدنيّ (أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) هذه الرواية مختصرة، فإن الْحَدِيث فيه قصّة، وَقَدْ ساقها البخاريّ فِي "صحيحه"، 2/ 761 - فَقَالَ: 2065 حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس أخبره، أنه التمس صرفا

(1)

بمائة دينار، فدعاني طلحة بن عبيد الله، فتراوضنا

(2)

، حَتَّى اصطرف مني، فأخذ الذهب يُقَلِّبها فِي يده، ثم قَالَ: حَتَّى يأتي خازني منْ الغابة، وعمر يسمع ذلك، فَقَالَ: والله لا تفارقه حَتَّى تأخذ منه، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الذهب بالذهب ربا" الْحَدِيث. ونحوه لمسلم.

(الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا) قَالَ ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى: لم يُختَلَف عَلَى مالك فيه، وحمله عنه الحفاظ، حَتَّى رواه يحيى بن أبي كثير، عن الأوزاعي، عن مالك، وتابعه معمر، والليث، وغيرهما، وكذلك رواه الحفاظ عن ابن عيينة، وشذ أبو نعيم عنه، فَقَالَ:"الذهب بالذهب"، وكذلك رواه ابن إسحاق، عن الزهريّ.

ويجوز فِي قوله: "الذهب بالورق" الرفع: أي بَيْعُ الذهب بالورق، فحُذف المضاف للعلم به، أو المعنى الذهب يُباع بالذهب، ويجوز النصب: أي بيعوا الذهب.

والذهب يُطلق عَلَى جميع أنواعه المضروبة وغيرها، والوَرِقُ: الفضة، وهو بفتح الواو، وكسر الراء، وبإسكانها عَلَى المشهور، ويجوز فتحهما، وقيل: بكسر الواو المضروبة، وبفتحها: المال، والمراد هنا، جميع أنواع الفضة، مضروبة، وغير مضروبة.

(1)

قوله: أنه التمس صرفا -بفتح الصاد المهملة- أي منْ الدراهم بذهب كَانَ معه، وبَيَّن ذلك الليث فِي روايته، عن ابن شهاب، ولفظه:"عن مالك بن أوس بن الحدثان، قَالَ: أقبلت أقول: منْ يصطرف الدراهم". اهـ "فتح" 5/ 118.

(2)

قوله: "فتراوضنا" بضاد معجمة-: أي تجارينا الكلام فِي قدر العوض، بالزيادة والنقص، كأن كلا منهما كَانَ يروض صاحبه، ويسهل خلقه، وقيل: المراوضة هنا المواصفة بالسلعة، وهو أن يصف كل منهما سلعته لرفيقه. اهـ "فتح" 5/ 118 - 119.

ص: 331

(إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ) بالمد فيهما، وفتح الهمزة، وقيل: بالكسر، وقيل: بالسكون، وحُكِي القصر بغير همز، وخَطأها الخطابيّ، وردّ عليه النوويّ، وَقَالَ: هي صحيحة، لكن قليلة، والمعنى: خذ، وهات، وحُكِي "هاكِ"، بزيادة كاف مكسورة، ويقال:"هاء" بكسر الهمزة بمعنى هات، وبفتحها بمعنى خذ، بغير تنوين.

وَقَالَ ابن الأثير: "هاء وهاء": هو أن يقول كل واحد منْ البَيِّعَين: هاء، فيعطيه ما فِي يده، كالحديث الآخر:"إلا يدا بيد"، يعني مقابضة فِي المجلس، وقيل: معناه خذ، وأعط، قَالَ: وغيرُ الخطّابيّ يُجيز فيها السكون عَلَى حذف العوض، وَيتَنَزّل منزلة "ها" التي للتنبيه.

وَقَالَ ابن مالك: "ها" اسم فعل، بمعنى خذ، وإن وقعت بعد "إلا" فيجب تقدير قول قبله، يكون به محكيا، فكأنه قيل: ولا الذهب بالذهب، إلّا مقولا عنده منْ المتبايعين: هاء وهاء. وَقَالَ الخليل: كلمة تُستعمل عند المناولة، والمقصود منْ قوله:"هاء وهاء" أن يقول كل واحد منْ المتعاقدين لصاحبه: هاء، فيتقابضان فِي المجلس. قَالَ ابن مالك: حقها أن لا تقع بعد "إلا" كما لا يقع بعدها "خذ"، قَالَ: فالقدير: لا تبيعوا الذهب بالورق، إلا مقولا بين المتعاقدين: هاء وهاء.

(وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا، إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالْبُرُّ بالْبُرِّ) بضم الموحدة ثم راء منْ أسماء الحنطة (رِبَا، إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ) والشعير بفتح أوله معروف وحكى جواز كسره (رِبَا، إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ") واستدل به عَلَى أن البر والشعير صنفان، وهو قول الجمهور، وخالف فِي ذلك مالك، والليث، والأوزاعي، فقالوا: هما صنف واحد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -41/ 4560 - وفي "الكبرى" 41/ 6150. وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 2134 و2170 و2174 (م) فِي "البيوع" 1586 (د) فِي "البيوع" 3348 (ت) فِي "البيوع" 1242 (ق) فِي " التجارات" 2253 و2259 (أحمد) فِي "مسند العشرة" 163 و240 و316 و1333 (الدارمي) فِي "البيوع" 2465. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم بيع التَّمْر بالتمر،

ص: 332

متفاضلاً، وهو التحريم. (ومنها): أن الكبير يلي البيع والشراء لنفسه، وإن كَانَ له وكلاء، وأعوان يكفونه. (ومنها): أن فيه المماكسة فِي البيع، والمراوضة، وتقليب السلعة، وفائدته الأمن منْ الغبن. (ومنها): أن مِن العلم ما يَخفى عَلَى الرجل الكبير القدر، حَتَّى يُذكّره غيره. (ومنها): أن الإمام إذا سمع، أو رأى شيئا لا يجوز، ينهى عنه، ويرشد إلى الحق. (ومنها): أن منْ أَفتَى بحكم حَسُن أن يذكر دليله. (ومنها): أن عَلَى الإمام أن يتفقد أحوال رعيته، ويَهتَمّ بمصالحهم. (ومنها): أن فيه اليمين لتأكيد الخبر. (ومنها): أن فيه الحجةَ بخبر الواحد.

(ومنها): أن النسيئة لا تجوز فِي بيع الذهب بالورق، وإذا لم يجز فيهما مع تفاضلهما بالنسيئة، فأحرى أن لا يجوز فِي الذهب بالذهب، وهو جنس واحد، وكذا الورق بالورق. وَقَدْ نقل ابن عبد البرّ وغيره الإجماع عَلَى هَذَا الحكم، أي التسوية فِي المنع بين الذهب بالذهب، وبين الذهب بالورق، فيُستغنَى حينئذ بذلك عن القياس.

(ومنها): أنه استُدِلَّ به عَلَى اشتراط التقابض فِي الصرف فى المجلس، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وعن مالك: لا يجوز الصرف إلا عند الإيجاب بالكلام، ولو انتقلا منْ ذلك الموضع إلى آخر، لم يصح تقابضهما، ومذهبه أنه لا يجوز عنده تراخي القبض فِي الصرف، سواء كانا فِي المجلس أو تفرقا، وحَمَلَ قول عمر:"لا تُفارقه" عَلَى الفور، حَتَّى لو أخّر الصيرفي القبض، حَتَّى يقوم إلى قعو دُكّانه، ثم يفتح صدوقه لَمَا جاز. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حيث إن أحاديث الأبواب الآتية منْ أحاديث الربا، فيحسن بي أن أتكلّم فِي معنى الربا لغةً وشرعًا، وبعض مسائله؛ لشدّة الحاجة إلى ذلك، فأقول:

(المسألة الرابعة): فِي معنى الربا لغةً وشرعًا:

قَالَ الفيّوميّ رحمه الله تعالى: الربا: الفضل، والزيادة، وهو مصدر عَلَى الأشهر، ويُثنّى رِبَوَان بالواو عَلَى الأصل، وَقَدْ يقال: رِبيان عَلَى التخفيف، ويُنسب إليه عَلَى لفظه، فيقال: رِبويّ. قاله أبو عُبيد وغيره: وزاد الْمُطرِّزِيّ، فَقَالَ: الفتح فِي النسبة خطأ، وَرَبَا الشيءُ يربو: إذا زاد، وأربى الرجل بالألف: دخل فِي الربا. انتهى.

وَقَالَ أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله تعالى فِي "تفسيره" 3/ 348: والربا فِي اللغة: الزيادة مطلقا، يقال: ربا الشيء يربو: إذا زاد، ومنه حديثُ مسلم:"فلا والله ما أخذنا منْ لقمة، إلا ربا منْ تحتها": يعني الطعام الذي دعا فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم بالبركة.

ص: 333

قَالَ: وقياس كتابته بالياء؛ للكسرة فِي أوله، وَقَدْ كتبوه فِي القرآن بالواو. وَقَالَ أيضًا: اختلف النحاة فِي لفظ "الربا"، فَقَالَ البصريون: هو منْ ذوات الواو؛ لأنك تقول فِي تثنيته: ربوان، قاله سيبويه، وَقَالَ الكوفيون: يكتب بالياء، وتثنيته بالياء؛ لأجل الكسرة التي فِي أوله، قَالَ الزجاج: ما رأيت خطأ أقبح منْ هَذَا، ولا أشنع، لا يكفيهم الخطأ فِي الخط، حَتَّى يخطئوا فِي التثنية، وهم يقرءون:{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} [الروم: 39]، قَالَ محمد بن يزيد: كتب الربا فِي المصحف بالواو؛ فرقا بينه وبين الزنا، وكان الربا أولى منه بالواو؛ لأنه منْ ربا يربو.

قَالَ: ثم إن الشرع قد تصرف فِي هَذَا الإطلاق، فقصره عَلَى بعض موارده، فمرة أطلقه عَلَى كسب الحرام، كما قَالَ الله تعالى فِي اليهود:{وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} الآية [النِّساء: 161]، ولم يرد به الربا الشرعي، الذي حكم بتحريمه علينا، وإنما أراد المال الحرام، كما قَالَ تعالى:{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42] يعني به المال الحرام، منْ الرشا، وما استحلوه منْ أموال الأميين، حيث قالوا:{لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75]، وعلى هَذَا فيدخل فيه النهي عن كل مال حرام، بأيّ وجه اكتُسب.

والربا الذي عليه عرف الشرع شيئان: تحريم النِّساء، والتفاضل فِي العقود، وفي المطعومات عَلَى ما نبينه، وغالبه ما كانت العرب تفعله، ومن قولها للغريم: أتقضي، أم تربي؟، فكان الغريم يزيد فِي عدد المال، ويصبر الطالب عليه، وهذا كله محرم باتفاق الأمة.

قَالَ: أكثر البيوع الممنوعة، إنما تجد منعها لمعنى زيادة، إما فِي عين مال، وإما فِي منفعة لأحدهما، منْ تأخير، ونحوه، ومن البيوع ما ليس فيه معنى الزيادة، كبيع الثمرة قبل بُدُوّ صلاحها، وكالبيع ساعة النداء يوم الجمعة، فإن قيل لفاعلها: آكل الربا، فتجوُّز وتشبيه. انتهى "الجامع لأحكام القرآن" 3/ 348.

وَقَالَ الموفّق ابن قُدامة رحمه الله تعالى: الربا فِي اللغة هو: الزيادة، قَالَ الله تعالى:{فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} الآية [الحج: 5]، وَقَالَ:{أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل: 92]: أي أكثر عددا، يقال: أربى فلان عَلَى فلان: إذا زاد عليه. وهو فِي الشرع: الزيادة فِي أشياء مخصوصة. وهو محرم بالكتاب، والسنة، والإجماع: أما الكتاب، فقول الله تعالى:{وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، وما بعدها منْ الآيات. وأما السنة: فما أخرجه الشيخان عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قَالَ:"اجتنبوا السبع الموبقات"، قيل: يا رسول الله، ما هي؟، قَالَ: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله، إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف

ص: 334

المحصنات المؤمنات الغافلات"

(1)

، وأخرجا أيضًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أنه لعن آكله الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه". فِي أخبار سوى هذين كثيرة، وأجمعت الأمة عَلَى أن الربا محرم. أفاده فِي "المغني" 6/ 51 - 52. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: الربا عَلَى ضربين: ربا الفضل، وربا النسيئة، وأجمع أهل العلم عَلَى تحريمهما، وَقَدْ كَانَ فِي ربا الفضل اختلاف بين الصحابة، فحُكي عن ابن عباس، وأسامة بن زيد، وزيد بن أرقم، وابن الزبير رضي الله عنهم، أنهم قالوا: إنما الربا فِي النسيئة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ربا إلا فِي النسيئة"، رواه البخاريّ، والمشهور منْ ذلك قول ابن عباس، ثم إنه رجع إلى قول الجماعة، روى ذلك الأثرم بإسناده، وقاله الترمذيّ، وابن المنذر، وغيرهم، وَقَالَ سعيد، بإسناده عن أبي صالح، قَالَ: صحبت ابن عباس حَتَّى مات، فوالله ما رجع عن الصرف. وعن سعيد بن جبير قَالَ: سألت ابن عباس قبل موته بعشرين ليلة عن الصرف؟ فلم ير به بأسا، وكان يأمر به، والصحيح قول الجمهور؛ لحديث أبي سعيد الخدريّ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تُشِفُّوا بعضها عَلَى بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها عَلَى بعض، ولا تبيعوا غائبا بناجز"، ولحديث أبي سعيد رضي الله عنه أيضا فِي قصّة بلال رضي الله عنه المذكور فِي الباب، متَّفقٌ عليهما. قَالَ الترمذيّ رحمه الله تعالى: عَلَى حديث أبي سعيد رضي الله عنه العملُ عند أهل العلم، منْ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وقولُ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا ربا إلا فِي النسيئة" محمول عَلَى الجنسين. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى أيضًا: وَقَدْ رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي الربا أحاديث كثيرة، ومن أتمها ما رَوَى عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قَالَ:"الذهب بالذهب مثلا بمثل، والفضة بالفضة مثلا بمثل، والتمر بالتمر مثلا بمثل، والبر بالبر مثلا بمثل، والملح بالملح مثلا بمثل، والشعير بالشعير مثلا بمثل، فمن زاد، أو ازداد فقد أربى، بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا الشعير بالتمر، كيف شئتم يدا بيد"، رواه مسلم، وسيأتي للنسائيّ بعد باب.

فهذه الأعيان المنصوص عليها، يثبت الربا فيها بالنصّ، والإجماع، واختلف أهل

(1)

وتقدّم هَذَا الْحَدِيث للمصنّف فِي "كتاب الوصايا" رقم 3698.

ص: 335

العلم فيما سواها، فحُكي عن طاوس وقتادة: أنهما قصرا الربا عليها، وقالا: لا يجري فِي غيرها، وبه قَالَ داود، ونفاة القياس، وقالوا: ما عداها عَلَى أصل الإباحة؛ لقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} الآية [البقرة: 275]، واتفق القائلون بالقياس، عَلَى أن ثبوت الربا فيها بعلة، وأنه يثبت فِي كل ما وُجدت فيه علتها؛ لأن القياس دليل شرعي، فيجب استخراج علة هَذَا الحكم، وإثباته فِي كل موضع وُجدت علته فيه، وقول الله تعالى:{وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] يقتضي تحريم كل زيادة، إذ الربا فِي اللغة الزيادة، إلا ما أجمعنا عَلَى تخصيصه، وهذا يعارض ما ذكروه، ثم اتفق أهل العلم عَلَى أن ربا الفضل، لا يجري إلا فِي الجنس الواحد، إلا سعيد بن جبير، فإنه قَالَ: كل شيئين يتقارب الانتفاع بهما، لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا، كالحنطة بالشعير، والتمر بالزبيب، والذُّرة بالدُّخْن؛ لأنهما يتقارب نفعهما، فجريا مجرى نوعي جنس واحد، وهذا يخالف قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"بيعوا الذهب بالفضة، كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا البر بالتمر، كيف شئتم"، فلا يعول عليه، ثم يَبْطُل بالذهب بالفضة، فإنه يجوز التفاضل فيهما، مع تقاربهما، واتفق المعلِّلُون عَلَى أن علة الذهب والفضة واحدة، وعلة الأعيان الأربعة واحدة، ثم اختلفوا فِي علة كل واحد منهما:

فروي عن أحمد فِي ذلك ثلاث روايات: أشهرهنّ: أن علة الربا فِي الذهب والفضة كونه موزونَ جنسٍ، وعلةُ الأعيان الأربعة مكيلَ جنسٍ، نقلها عن أحمد الجماعة، وذكرها الخرقي، وابن موسى، وأكثر الأصحاب، وهو قول النخعي، والزهري، والثوري، وإسحاق، وأصحاب الرأي، فعلى هذه الرواية يجري الربا فِي كل مكيل، أو موزون بجنسه، مطعوما كَانَ، أو غير مطعوم، كالحبوب، والأشنان، والنُّورة، والقطن، والصوف، والكتّان، والوَرْس، والحنّاء، والعصفر، والحديد، والنحاس، ونحو ذلك، ولا يجري فِي مطعوم، لا يكال ولا يوزن؛ لما رَوَى ابنُ عمر رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين، ولا الصاع بالصاعين، فإني أخاف عليكم الرَّمَاء"، وهو الربا، فقام إليه رجل، فَقَالَ: يا رسول الله، أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس، والنجيبة بالإبل، فَقَالَ:"لا بأس إذا كَانَ يدا بيد"، رواه الإمام أحمد فِي "المسند"، عن أبي جناب، عن أبيه، عن ابن عمر

(1)

.

(1)

حديث ضعيف؛ لأن فِي سنده أبو جناب الكلبيّ يحيى بن أبي حيّة، ضعفوه؛ لكثرة تدليسه، وأبو أبو حيّة الكلبيّ مجهول.

ص: 336

وعن أنس رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ما وُزن مثلا بمثل، إذا كَانَ نوعا واحدا، وما كيل مثلا بمثل، إذا كَانَ نوعا واحدا"، رواه الدارقطنيّ

(1)

، رواه عن ابن صاعد، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أحمد بن محمد بن أيوب، عن أبي بكر بن عياش، عن الربيع بن صَبِيح، عن الحسن، عن عبادة، وأنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: لم يروه غير أبي بكر عن الربيع هكذا، وخالفه جماعة، فرووه عن الربيع، عن ابن سيرين، عن عبادة، وأنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، بلفظ غير هَذَا اللفظ.

وعن عمار: أنه قَالَ: "العبد خير منْ العبدين، والثوب خير منْ الثوبين، فما كَانَ يدا بيد، فلا بأس به، إنما الربا فِي النسَاء، إلا ما كيل أو وزن"، ولأن قضية البيع المساواة، والمؤثر فِي تحقيقها الكيل والوزن والجنس، فإن الوزن أو الكيل، يُسَوّي بينهما صورة، والجنس يسوى بينهما معنى، فكانا علة، ووجدنا الزيادة فِي الكيل محرّمة، دون الزيادة فِي الطعم، بدليل بيع الثقيلة بالخفيفة، فإنه جائز إذا تساويا فِي الكيل.

[الرواية الثانية عن أحمد]: أن العلة فِي الأثمان الثمنية، وفيما عداها كونه مطعوم جنس، فيختص بالمطعومات، ويخرج منه ما عداها، قَالَ أبو بكر: رَوَى ذلك عن أحمد جماعةٌ، ونحوَ هَذَا قَالَ الشافعيّ، فإنه قَالَ: العلة الطعم، والجنس شرط، والعلة فِي الذهب والفضة جوهرية الثمنيِة غالبا، فيختص بالذهب والفضة؛ لما رَوَى معمر بن عبد الله رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل"، رواه مسلم، ولأن الطعم وصفُ شَرَفٍ؛ إذ به قوام الأبدان، والثمنية وصف شرف، إذ بها قوام الأموال، فيقتضي التعليل بهما، ولأنه لو كانت العلة فِي الأثمان الوزن، لم يجز إسلامهما فِي الموزونات؛ لأن أحد وصفي علة ربا الفضل يكفي فِي تحريم النِّساء.

[والرواية الثالثة عنه]: العلة فيما عدا الذهب والفضة، كونه مطعومَ جنسٍ، مكيلا، أو موزونا، فلا يجري الربا فِي مطعوم، لا يكال ولا يوزن، كالتفاح، والرمان، والخوخ، والبطيخ، والكُمَّثْرَى، والأترج، والسفرجل، والإجّاص، والخيار، والجوز، والبيض، ولا فيما ليس بمطعوم، كالزعفران، والأشنان، والحديد، والرصاص، ونحوه، ويروى ذلك عن سعيد بن المسيب، وهو قديم قولي الشافعيّ؛ لما رُوي عن سعيد بن المسيب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قَالَ:"لا ربا إلا فيما كيل، أو وُزن مما يؤكل أو يشرب"، أخرجه الدارقطنيّ، وَقَالَ: الصحيح أنه منْ قول سعيد، ومن رفعه فقد وهم، ولأن لكل واحد منْ هذه الأوصاف أثرا، والحكم مقرون بجميعها

(1)

فِي إسناده الربيع بن صَبيح صدوقٌ سيء الحفظ، وأبو بكر بن عيّاش لما كبر ساء حفظه.

ص: 337

فِي المنصوص عليه، فلا يجوز حذفه، ولأن الكيل والوزن والجنس، لا يقتضي وجوب المماثلة، وإنما أثره فِي تحقيقها فِي العلة ما يقتضي ثبوت الحكم، لا ما تحقق شرطه، والطعم بمجرده لا تتحقق المماثلة به؛ لعدم المعيار الشرعي فيه، وإنما تجب المماثلة فِي المعيار الشرعي، وهو الكيل والوزن، ولهذا وجبت المساواة فِي المكيل كيلا، وفي الموزون وزنا، فوجب أن يكون الطعم معتبرا فِي المكيل والموزون، دون غيرهما.

والأحاديث الواردة فِي هَذَا الباب يجب الجمع بينها، وتقييد كل واحد منها بالآخر، فنَهيُ النبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام، إلا مثلا بمثل، يتقيد بما فيه معيار شرعي، وهو الكيل والوزن، ونهيه عن بيع الصاع بالصاعين، يتقيد بالمطعوم المنهي عن التفاضل فيه.

وَقَالَ مالك رحمه الله تعالى: العلة القوت، أو ما يصلح به القوت، منْ جنس واحد منْ المدخرات. وَقَالَ ربيعة: يجري الربا فيما تجب فيه الزكاة، دون غيره. وَقَالَ ابن سيرين: الجنس الواحد علة، وهذا القول لا يصح؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم، فِي بيع الفرس بالأفراس، والنجيبة بالإبل:"لا بأس به إذا كَانَ يدا بيد"

(1)

، ورُوي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ابتاع عبدا بعبدين، رواه أبو داود، والترمذي، وَقَالَ: هو حديث حسن صحيح

(2)

.

وقول مالك يَنتقض بالحطب والإدام، يُستصلَح به القوت، ولا ربا فيه عنده، وتعليل ربيعة ينعكس بالملح، والعكس لازم عند اتحاد العلة.

والحاصل أن ما اجتمع فيه الكيل والوزن والطعم منْ جنس واحد، ففيه الربا رواية واحدة، كالأرز، والدخن، والذرة، والقطنيات، والدهن، والخل، واللبن، واللحم ونحوه، وهذا قول أكثر أهل العلم، قَالَ ابن المنذر: هَذَا قول علماء الأمصار، فِي القديم والحديث، سوى قتادة، فإنه بلغني أنه شَذّ عن جماعة النَّاس، فقصر تحريم التفاضل عَلَى ستة أشياء، وما انعدم فيه الكيل والوزن والطعم، واختلف جنسه فلا ربا فيه، رواية واحدة، وهو قول أكثر أهل العلم، كالتين، والنوى، والقَتّ، والماء، والطين الأرمني، فإنه يؤكل دواءً، فيكون موزونا مأكولا، فهو إذا منْ القسم الأول، وما عداه إنما يؤكل سَفَهًا، فجرى مجرى الرَّمْل، والحصى. وَقَدْ روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ لعائشة:"لا تأكلي الطين، فإنه يصفر اللون"

(3)

، وما وجد فيه الطعم وحده، أو الكيل أو الوزن منْ جنس واحد، ففيه روايتان، واختلف أهل العلم فيه، والأولى -إن شاء الله

(1)

تقدّم قريبًا أنه حديث ضعيف، فلا تغفل.

(2)

أخرجه مسلم فِي "صحيحه"، وتقدم للنسائيّ فِي "كتاب البيعة" 4186 ويأتي أيضا برقم 4623.

(3)

قَالَ ابن القيم رحمه الله تعالى: فِي "زاد المعاد" 4/ 337: وكل حديث فِي الطين، فإنه لا يصحّ، ولا أصل له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 338

تعالى- حله؛ إذ ليس فِي تحريمه دليل موثوق به، ولا معنى يُقَوِّي التمسك به، وهى مع ضعفها يعارض بعضها بعضا، فوجب اطّراحها، أو الجمع بينها، والرجوع إلى أصل الحل، الذي يقتضيه الكتاب والسنة والإعتبار.

ولا فرق فِي المطعومات، بين ما يؤكل قوتا، كالأرز، والذرة، والدخن، أو أدما كالقطنيات، واللبن، واللحم، أو تفكها، كالثمار، أو تداويا، كالأهليلج، والسقمونيا، فإن الكل فِي باب الربا واحد. انتهى. كلام ابن قدامة رحمه الله تعالى "المغني" 6: 53 - 58.

وَقَالَ شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى: فِي تحريم التفاضل فِي الأصناف الستة: الذهب، والفضّة، والحنطة، والشعير، والتمر، والملح، هل هو التماثل؟، وهو الكيل والوزن، أو هو الثمنيّة والطعم، أو هو الثمنيّة، والتماثل مع الطعم، والقوت، وما يصلحه؟، أو النهي غير معلّل، والحكم مقصور عَلَى مورد النصّ؟ عَلَى أقوال مشهورة:

[الأول]: مذهب أبي حنيفة، وأحمد فِي أشهر الروايات عنه. [والثاني]: قول الشافعيّ، وأحمد فِي رواية. [والثالث]: قول أحمد فِي رواية ثالثة، اختارها أبو محمد، وقول مالك قريب منْ هَذَا، وهذا القول أرجح منْ غيره. [والرابع]: قول داود، وأصحابه، ويُروَى عن قتادة، ورجّح ابن عقيل هَذَا القول فِي "مفرداته"، وضعّف الأقوال المتقدّمة. وفيها قولٌ شاذّ: أن العلّة الماليّة، وهو مخالف للنصوص، ولإجماع السلف. والاتّحاد فِي الجنس شرط عَلَى كلّ قول منْ ربا الفضل.

قَالَ: والأظهر أن علّة تحريم الربا فِي الدنانير والدراهم هو الثمنيّة، لا الوزن، كما قاله جمهور العلماء، ولا يحرم التفاضل فِي سائر الموزونات، كالرصاص، والحديد، والحرير، والقطن، والكتّان، ومما يدلّ عَلَى ذلك اتّفاق العلماء عَلَى جواز إسلام النقدين فِي الموزونات، وهذا بيع موزون بموزون إلى أجل، فلو كانت العلة الوزن لم يجز هَذَا.

قَالَ: والتعليل بالثميّة تعليل بوصف مناسب، فإن المقصود منْ الأثمان أن تكون معيارًا للأموال، يُتوسل بها إلى معرفة مقادير الأموال، ولا يقصد الانتفاع بعينها. انتهى منْ "مجموع الفتاوى" 29/ 470 - 472 باختصار.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي أشار إليه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فِي كلامه السابق منْ أن الربا يجري بين كلّ ما يصلح ثمنا للأشياء، وكل ما يكال، أو يوزن منْ الطعم، أو القتوت، إذا بيع بجنسه متفاضلا، أو مثلاً بمثل منْ غير قبض فِي

ص: 339

المجلس، هو الأرجح عندي؛ لقوّة مدركه، كما بيّنه رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): قَالَ الموفّق أيضاً: الجيد والرديء، والتبر والمضروب، والصحيح والمكسور، سواء فِي جواز البيع مع التماثل وتحريمه مع التفاضل، وهذا قول أكثر أهل العلم، منهم أبو حنيفة، والشافعي، وحكي عن مالك جواز بيع المضروب بقيمته منْ جنسه، وأنكر أصحابه ذلك ونفوه عنه، وحكى بعض أصحابنا عن أحمد رواية لا يجوز بيع الصحاح بالمكسرة، ولأن للصناعة قيمة، بدليل حالة الإتلاف، فيصير كأنه ضم قيمة الصناعة إلى الذهب. ولنا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"الذهب بالذهب مثلا بمثل، والفضة بالفضة مثلا بمثل"، وعن عبادة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:"الذهب بالذهب تبرها وعينها، والفضة بالفضة تبرها وعينها"، رواه أبو داود، وروى مسلم عن أبي الأشعث، أن معاوية أمر ببيع آنية منْ فضة، فِي أعطيات النَّاس، فبلغ عبادة، فَقَالَ:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينا بعين، فمن زاد أو ازداد، فقد أربى". وروى الأثرم عن عطاء بن يسار، أن معاوية، باع سقاية منْ ذهب، أو ورق بأكثر منْ وزنها، فَقَالَ أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينهى عن مثل هَذَا إلا مثلا بمثل، ثم قدم أبو الدرداء عَلَى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فذكر له ذلك، فكتب عمر إلى معاوية: لا تبع ذلك إلا مثلا بمثل، وزنا بوزن، ولأنهما تساويا فِي الوزن، فلا يؤثر اختلافهما فِي القيمة، كالجيد والرديء، فأما إن قَالَ لصائغ: طبع لي خاتما وزنه درهم، وأعطيك مثل وزنه، وأجرتك درهما، فليس ذلك ببيع درهم بدرهمين، وَقَالَ أصحابنا: للصائغ أخذ الدرهمين: أحدهما فِي مقابلة الخاتم، والثاني أجرة له. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(المسألة الثامنة): قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: لا خلاف فِي جواز التفاضل فِي الجنسين، نعلمه إلا عن سعيد بن جبير، أنه قَالَ: ما يتقارب الانتفاع بهما لا يجوز التفاضل فيهما، وهذا يرده قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"بيعوا الذهب بالفضة، كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا الشعير بالشعير كيف شئتم يدا بيد"، وفي لفظ "إذا اختلفت هذه الأشياء فبيعوا كيف شئتم، إذا كَانَ يدا بيد" رواه مسلم، وأبو داود، ولأنهما جنسان، فجاز التفاضل فيهما، كما لو تباعدت منافعهما. ولا خلاف فِي إباحة التفاضل فِي الذهب بالفضة، مع تقارب منافعهما.

فأما النَّسَاء، فكل جنسين يجري فيهما الربا بعلة واحدة، كالمكيل بالمكيل،

ص: 340

والموزون بالموزون، والمطعوم بالمطعوم عند منْ يُعلل به، فإنه يحرم بيع أحدهما بالآخر نساء بغير خلاف نعلمه، وذلك قوله عليه السلام:"فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم؟ يدا بيد"، وفي لفظ:"لا بأس ببيع الذهب بالفضة، والفضةُ أكثرهما يدا بيد، وأما نسيئة فلا، ولا بأس ببيع البر بالشعير، والشعيرُ أكثرهما يدا بيد، وأما النسيئة فلا"، رواه داود، إلا أن يكون أحد العوضين ثمنا، والآخر مثمنا، فإنه يجوز النّساء بينهما بغير خلاف؛ لأن الشرع أرخص فِي السلم، والأصل فِي رأس المال الدراهم والدنانير، فلو حرم النّساء ههنا لا نسد باب السلم فِي الموزونات فِي الغالب.

فأما إن اختلفت علتهما كالمكيل بالموزون، مثل بيع اللحم بالبر ففيهما روايتان:

[إحداهما]: يحرم النسَاء فيهما، وهو الذي ذكره الْخِرَقي هاهنا؛ لأنهما مالان منْ أموال الربا، فحرم النسَاء فيهما، كالمكيل بالمكيل. [والثانية]: يجوز النسَاء فيهما، وهو قول النخعي؛ لأنهما لم يجتمعا فِي أحد وصفي علة ربا الفضل، فجاز النسَاء فيهما، كالثياب بالحيوان. انتهى "المغني" 6/ 61 - 63. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة التاسعة): فِي البحث عن مسائل عصريّة، ابتُلي بها المسلمون فِي هذه الأعصار المتأخّرة، ينبغي أن أتكلّم فيها لمسيس الحاجة إليها، وهي أنواع، نلخّص ما تيسّر منها، وهي مما كتبه الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن آل بسّام حفظه الله تعالى فِي كتابه "الاختيارات الجلية" التي كتبها فِي هامش كتابه "نيل المآرب فِي تهذيب شرح عمدة الطالب"، فقد لخّصها، وأحسن فِي ذلك:

(فمنها): حكم الآمر بالشراء، وهو أن يتقدّم شخص إلى بنك أو غيره، فيطلب منه شراء سلعة معيّنة، أو سلعة موصوفة؛ ليشتريها البنك لنفسه، ثم يبيعها عَلَى الآمر بالشراء بثمن مؤجّل زائد عَلَى الثمن الذي اشتراها به، فهذه الصورة إن كَانَ شراء الأول شراء صحيحًا بمعنى أن السلعة دخلت فِي ملكه، وتحمّل مسؤوليّة الشراء، وتبعات الملك، منْ تلف، أو خسارة إن قُدّر ذلك، وإن الآمر بالشراء لو عدل عن وعده بالشراء، للزمت المشتري الأول، فهذا بيع صحيحٌ فِي العقد الأول، وفي العقد الثاني. وأما إن كَانَ الشراء الأول صوريّا فقط، فالمشتري الأول لم يشتر حقيقة، وإنما سلّم ثمن السلعة حاضرةً؛ ليربَح الزيادة المقابلة للأجل، فهذا ليس بيعًا، وإنما هو قرض جرّ نفعاً، وهو محرّم بالإجماع.

(ومنها): خيار الشرط الممنوع، وصورته أن يكون لرجل عَلَى آخر دينٌ، لا يستطيع وفاءه إلا ببيع عقاره الذي لا يرغب فِي بيعه حقيقةً، والدائن يريد استيفاء دينه، فيعمِد

ص: 341

الدائن والمدين إلى بيع صوريّ، فيه خيار شرط صوريّ أيضاً، وذلك بأن يبيع المدين عقاره عَلَى الدائن، ويجعلان خيار شرط فِي البيع إلى أجل، فيقبض المشتري المبيع، وينتفع به بسكن، أو استثمار، ويتجمّد الدين مدّة الخيار، فهذا البيع، والخيار فيه ما هو إلا ربا الجاهليّة، وهذا يسمّيه الحنفيّة بيع الوفاء، ويجيزونه.

ولذا فإن المشتري لا يتحقّق غالبًا عن حال البيع، وإنما تحقّقه منْ أن قيمته لو بيع لغطّت الدين الذي عَلَى البائع، والمشتري قد يبيعه هَذَا البيع بنصف ثمنه؛ لعلمه أنه ليس بيعًا حقيقةً.

(ومنها): ودائع البنوك:

الودائع البنكيّة قسمان: [أحدهما]: ودائع بلا فائدة، وحالّة غير مؤجّلة، فهي طلب المودِع -بكسر الدال- وهذا ما يُسمّى بالحساب الجاري، فالبنك ملزَم بالسداد الفوريّ عند طلب صاحب النقود، فهذا فِي حقيقته عقد قرض، لا وديعة بمعناها الفقهيّ، وليس هو القرض الحسن، وإنما هو قرض مباح. فالغرض منه لصاحب المال حفظ نقوده بمؤسّسة أمينة، والسحب منه عَلَى طريقة منتظمة منضبطة. وغرض البنك منْ قبضه هو استثمار هذه الودائع لصالحه، وهذه صورة مباحة، لا محذور فيها، إلا أنه ينبغي للمودِع إذا وجد مصرفًا لا يتعاطى المعاملات الربويّة أن يؤثره بهذا القرض، ليُعينه عَلَى أعماله، ويشجّعه عَلَى نهجه، وإن لم يجد إلا بنكًا ربويًّا أودع عنده للحاجة.

[الثاني]: ودائع مؤجّلة بفائدة، وذلك بأن يضع صاحب النقود نقوده عند البنك بفائدة يتلقّاها مقابل استثمار البنك نقوده مدّة معلومة، قد حدّد البنك حسب نظامه مدّتها، وقدر الفائدة المقابلة لأجلها، فهذه الفوائد هي عين الربا، وَقَدْ حرّمها علماء العصر، كما حرّمها أعضاء المجامع الفقهية التي منها:

1 -

مجمع البحوث الإِسلامية فِي القاهرة. 2 - مجلس هيئة كبار العلماء فِي المملكة العربيّة السعوديّة. 3 - مجلس المجمع الفقهي التابع لمؤتمر المنظّمة الإِسلاميّة. 4 - مجلس المجمع الفقهيّ التابع لرابطة العالم الإسلاميّ.

(ومنها): قروض البنوك:

صورتها أن يقرض المصرف، أو غيره شخصًا محتاجًا للقرض بفائدة محدّدة معلومة، ويَخضع المقترض لنظام المصرف منْ حيث مدّة أجل القرض، ومن قدر الفائدة الذي يقدّرها المصرف.

والقرض نوعان: [أحدهما]: القرض الاستهلاكيّ، ومعناه أن غرض المقترض هو سداد حاجته بهذا القرض لبناء مسكن، أو مهر زواج، أو شراء ما هو منْ ضروراته، أو

ص: 342

حاجته.

[الثاني]: القرض الاستثماريّ، ومعناه أن يقصد المقترض استثمار نقود القرض فِي مشروع إنتاجيّ استثماريّ. وفي كلا الحالين يأخذ المصرف منْ المقترض فوائد مقابل أجل الدين، وبقاء النقود عند المقترض للاستفادة منها استهلاكًا، أو إنتاجًا.

والمجامع الفقهيّة، والمحقّقون منْ فقهاء العصر اعتبروا هذه الفوائد فوائد ربويّة فِي كلا القرضين محرّمة، وأن هذه صفقة جمعت بين ربا الفضل منْ حيث زيادة أحد العوضين عن الآخر، وربا النسيئة منْ حيث تأجيل الوفاء. وهذا هو القول المعتبر شرعًا الصحيح دليلاً وتعليلاً.

وحصل وَهمٌ لأفراد منْ كتّاب العصر، فقالوا: إن التحريم هو فِي الفوائد المأخوذة منْ المقترضين المستهلكين المحتاجين لهذا الغرض، أما المستقرضون للاستثمار فجائزٌ أخذ الفائدة منهم؛ لأنهم مستفيدون، منتجون لهذا القرض.

وهذا قولٌ مردود، رفضه العلماء، وردوا عليه، واعتبروه منْ الأغلاط عَلَى الشرع، وأنه معارض لعموم النصوص التي حرّمت الربا بجميع أنواعه، وأشكاله، وصوره.

(ومنها): دفتر التوفير:

هَذَا النوع منْ أعمال البنوك يشبه "الحساب الجاري" منْ حيث عدم التقيّد بمدّة معيّنة للسحب منْ الرصيد، غير أنه يخضع لقيود لا يخضع لها الحساب الجاري، فنسبة السحب منْ دفاتر التوفير أقلّ منْ الحساب الجاري، ولذلك تستخدم البنوك منْ أرصدة هذه الدفاتير نسبة أكثر منْ الحسابات الجارية، وتدفع فوائد عَلَى هذه الأرصدة بشروط معيّنة. ومعنى هَذَا أن البنك تنتقل إليه ملكيّة الأرصدة، يتصرّف فيها، ويستفيد منها فِي عمليّات الإقراض، وفي مشروعاته المختلفة، ويتعهّد بردّ المثل للمودِعين -المقرضين- والمصرف ضامنٌ فِي جميع الحالات، وهذا فِي حقيقته عقد قرض، ثم تأتي الفوائد، وهي النسبة الزائدة عَلَى القرض مقابل الزمن الذي يستغرقه هَذَا القرض. وهذا هو الربا المحرّم.

(ومنها): خصم الأوراق التجاريّة:

الأوراق التجاريّة تتضمن التزامًا بدفع مبلغ منْ النقود، وتقبل التداول بطريق التظهير، ويقبلها العرف التجاريّ. ويُقصد بالخصم دفع البنك قيمة الورقة قبل ميعاد استحقاقها بعد خصم مبلغ معيّن بفائدة عن المدّة التي بين تاريخ الوفاء، وتاريخ ميعاد الاستحقاق، وبهذا يُعلم أن هَذَا الخصم عمليّة ربويّة.

(ومنها): السندات: صورة منْ صور عقد القرض، وذلك حينما يحتاج البنك مثلاً

ص: 343

إلى مبلغ مائة مليون ريال، فيُصدر عشرة آلاف سند، قيمة كلّ سند مائة ألف ريال، ويُحدّد لها فائدة، فيُصبح البنك بهذا السند مدينًا بقيمة السند، والزيادة الربويّة، أما مشتري هَذَا السند فهو الدائن، فهذه منْ الصور الممنوعة.

(ومنها): الأسهم: السهم جزء منْ الشركة المساهمة، والمساهم فيها يملك أجزاء منْ الشركة بقدر أسهمه، والشركاء يشتركون فِي الْغُنْم والْغُرْم، كلّ بقدر ما يملك، والمساهم تارة يملك الأسهم منْ أجل استثمارها، وتارة يتّخذها للتجارة، فيبيع فيها ويشتري. والأسهم تكون حلالاً إذا أُسّست الشركة لأعمال مباحة، وتكون حرامًا إذا أسست لأعمال محرّمة، كتعاطيها الأعمال الربويّة، أو تكون شركة خمور، وغير ذلك.

(ومنها): شهادة الاستثمار: هي شهادة يُصدرها البنك لمدّة مؤجّلة محدّدة، فيشتريها الراغب فيها، وفوائدها مختلفة كثرةً وقلّةً، حسب طول المدّة وقصرها، والبنك يستلم ثمن الشهادة، فيستثمرها لمصلحته الخاصّة، أما استثمار مشتري الشهادة فهو الزيادة الربويّة التي يأخذها مقابل بقاء نقوده عند البنك، يستثمرها لمصلحته الخاصّة.

وإذا تأملنا هذه الشهادة وجدناها لا تخرج عن كونها عقد قرض بفائدة، فهي الربا المحرّم. وذلك لأنه لا يمكن تخريج النقود عَلَى أنها مؤجّرة عند البنك، ولا عَلَى أنها وديعة تحفظ بعينها عنده، أما إذا كانت شهادة الاستثمار صادرة منْ مصرف إسلاميّ، فشهادة الاستثمار تعني وحدة استثمار، يقوم باستثمارها المصرف الإسلاميّ لصالح مالك هذه الوحدة عَلَى سبيل المضاربة، فهذه جائزة.

(ومنها): الحساب الجاري:

الحساب الجاري يُعتبر وديعة تحت الطلب، فمن حقّ صاحبه أن يأخذ رصيده كلّه، أو جزءًا منه متى شاء، فإن البنك ملتزم بالسداد الفوريّ متى طلب المودع، وتسميته وديعةً اصطلاحٌ بنكيّ عرفيّ، وإلا فهو فِي حقيقة الأمر قرضٌ، وذلك أنه يختلف فِي

أحكامه عن الوديعة، كما عرّفها الفقهاء، ويختلفان بأمور، منها:

1 -

أن المودعَ -بفتح الدال- لا يجوز له الانتفاع بالوديعة، واستعمالها، وهذا البنك يتصرّف بالنقود التي وُضعت عنده.

2 -

إذا تلفت الوديعة بدون تعدّ، ولا تفريط منْ المودَع -بفتح الدال- لم يضمن، أما البنك لو حصل عليه كارثة أتلفت موجوداته، ولو بلا تفريط، فإنه ضامنٌ لما وضعه النَّاس عنده.

3 -

ملكيّة النقود انتقلت إلى البنك، بخلاف الوديعة، فملكيّتها باقية بعينها لصاحبها.

(ومنها): السحب عَلَى المكشوف:

معنى السحب عَلَى المكشوف أن البنك يسمح أحيانًا لبعض عملائه أن يكتبوا

ص: 344

شيكات يسحبون بموجبها أكثر مما لهم منْ رصيد فِي البنك، والبنك يصرف الشيك؛ لأنه يثق فِي عميله ثقة تامّةً، أو لأن عنده ضمانات أُخر للسداد، والبنك يقيّد عليه المبلغ الذي سحبه، ويقيّد عليه زيادة هي الفائدة الربوية، فالساحب أخذ منْ البنك قرضًا ربويًا، وهذا ما أجمع علماء المسلمين عَلَى تحريمه؛ لأنه منْ الربا.

والحلّ لهذه المعاملة المحرّمة، وأمثالها هو تطبيق الشريعة الإِسلاميّة فِي معاملاتنا كما نطبّقها فِي عباداتنا. والله تعالى وليّ التوفيق.

البديل الإسلاميّ منْ أعمال الربا:

الحلال بيّن، والحرام بيّن، ولكن المشكل هو فِي الأمور المشبهة التي لا يعلمها كثير منْ النَّاس، فمن الحلاد البيّن البيع، قَالَ الله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، ومن الحرام البيّن الربا، قَالَ تعالى:{وَحَرَّمَ الرِّبَا} ، أما الأمور المشكلة المشبهة، فعلى علماء المسلمين أن يدرسوها دراسة دقيقة عميقة وافيةً، فإذا اتّضح جانب الحلال أخذوا به، وإذا اتّضح جانب الحرام اجتنبوه. أما إذا أظلمت الأمور، واشتبهت، ولم تتضح، فعلينا أن نستبرىء لديننا وعرضنا، ولا نحوم حول الحمى، فنقع فيه، وحمى الله تعالى محارمه، والواجب عَلَى المسلمين أن يكون لهم شخصيّة مستقلّة فِي دينهم، ولا يكونوا إمّعةً لأنظمة بنوك، أنشأتها أفكار يهوديّة، ولا يهمها منْ الأعمال إلا جمع المال بأيّ طريق كَانَ، وبأيّ وسيلة توصّل بها، وإنما واجب المسلمين منْ علماء، ورجال الاقتصاد أن يُخضعوا البنوك لاقتصاد إسلاميّ مستقلّ متميّز، والبديل الإسلاميّ ليس نظريّة منْ النظريّات، وإنما هو حقيقة ثابتة مدركة، فالإِسلام عاش أزهى عصور اقتصاده قرونًا طويلة، بلغت شعوبه منْ الثروة الطائلة، والرفاهية والرخاء ما لم تبلغه دولة منْ الدول القديمة والجديدة، وها هي التجربة الثابتة فِي دولة باكستان التي أعلنت منع التعامل بنظام الفائدة الربويّة فِي جميع البنوك، فأصبحت تجربة ناجحة رائدة.

وإن منْ البدائل التي يقدّمها الإِسلام المعاملاتِ الآتية:

1 -

باب السلم الذي فتحه الإِسلام فِي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} الآية [البقرة: 282]، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"منْ أسلف فِي شيء، فليُسلف فِي كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم"، فبالسلم يستفيد البائع بتعجيل الثمن للقيام بلوازمه، ويستفيد المشتري لشرائه السلعة برخص.

2 -

بيع السلع بالتقسيط بآجال معلومة، وأقساط معلومة، فيستفيد البائع بزيادة الثمن فِي سلعته، ويستفيد المشتري بدفع الثمن بأقساط ميسّرة.

ص: 345

3 -

مشاركة البنك المستفيد المستثمر فِي نشاطه الاقتصاديّ، فالبنك يمون المستثمر، ويقدّم له الخبرة، والتوجيه فِي مشروعه التجاريّ، أو الزراعيّ، أو الصناعيّ، والمستفيد يقوم بالعمل والجهد، ويكون رأس المال للبنك، أما الربح فهو بينهما عَلَى ما شرطاه.

4 -

إن منْ عنده مالٌ، فإنه يوظّف ماله فِي البنك عَلَى أساس الشركة مما يحصل منْ الربح فِي استثمار البنك له استثمارًا شرعيًا، أو أن البنك يكون وكيلاً باستثمار المال، أما الربح الذي يحصل منْ استثمار البنك له، فكلّه لصاحب رأس المال.

5 -

شركة المضاربة يكون منْ أحد الرجلين تقديم رأس المال، ويكون منْ الآخر العمل، فيعمل المضارب فِي المال، ويكون رأس المال لصاحبه، وأما الربح فهو شركة بينهما عَلَى حسب ما اتّفقا عليه.

6 -

يقوم البنك بمساعدة التجّار عَلَى توريد السلع، وذلك عن طريق فتح الاعتماد، فإن كَانَ للعميل رصيد يغطّي ثمن السلعة كلّها، فالبنك فِي هذه الحال وسيط بأجر عَلَى وساطته فيما بين العميل والمصدر، وإن لم يكن للعميل رصيد يغطّي الثمن، فالمصرف يكون شريكًا فِي هذه الصفقة، ويتمّ بيع البضاعة لحساب الشريكين.

وهناك طرقٌ شرعيّة أخرى، يكون فيها الكفاية والبديل عن الربا الذي قَالَ الله تعالى عنه:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} الآية [البقرة: 276]، وَقَالَ:{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [البقرة: 279]، فالذي يجب عَلَى المسلمين الابتعاد عنه، وأن يُخضعوا معاملاتهم للأحكام الشرعيّة، فإن الدين عند الله الإِسلام، والإِسلام ليس فقط عبادات، وإنما عادات، ومعاملات، وعبادات، فكلها جميعًا لابدّ أن تكون خاضعة لأحكامه، ونظامه، والله تعالى وليّ التوفيق.

(اعلم): أن الأصل فِي المعاملات الإباحة، وأنه لا يحرم منها إلا ما حرّمه الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن منْ ادّعى تحريم تعامل، أو عقد، فعليه إقامة الدليل عَلَى حكم التحريم.

وهذه القاعدة مبنيّة عَلَى نصوص كثيرة منْ الكتاب والسنّة، كقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} الآية [البقرة: 29]، وكقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} الآية [الملك: 15]، والأحاديث فِي هَذَا الباب كثيرة مشهورة، ولكن هناك مسائل فيها إشكالٌ، ويكثر السؤال عنها، أحببنا إيضاحها لمن يُشكل عليه حقيقتها، فمن تلك المشكلات أربع صور منْ المعاملات نذكرها، ونبيّن حكمها:

ص: 346

[الأولى]: مسألة التورّق، والتورّق هو أن يشتري الإنسان السلعة بثمن مؤجّل، لا لذات السلعة، وإنما ليبيعها عَلَى غير بائعها عليه، وينتفع بثمنها، والراجح منْ قولي العلماء جوازها؛ لأن الأصل فِي الشرع حلّ جميع المعاملات، وأنه لا يحرم منها إلا ما قام الدليل عَلَى تحريمه، وأنه لا يُعلم حجة شرعيّة تمنع منْ هذه المعاملة، بل عموم الْحَدِيث المتّفق عليه، منْ حديث أبي سعيد الخدريّ، وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً عَلَى خيبر الْحَدِيث الذي تقدّم للنسائيّ فِي أول هَذَا الباب أقوى حجة عَلَى صحّته.

[الثانية]: البيع بالتقسيط، وهذا البيع منْ البيوع المنتشرة فِي عصرنا انتشارًا كبيرًا، وكثر التعامل به، واحتاج النَّاس إليه فِي شراء مراكبهم، وتأثيث منازلهم، والحصول عَلَى حاجاتهم، وضروراتهم، وصفته أن يشتري السلعة منْ التاجر بثمن مؤجّل مقسّط، زائد عَلَى ثمنها لو عُجّل حال الشراء، فيستفيد الطرفان -البائع والمشتري- فالبائع يستفيد الربح منْ الزيادة فِي الثمن، والمشتري يستفيد تسهيل دفع الثمن عليه أقساطًا معلومة الأجل والمقدار، فشرط حلّها العلم بالآجال، والعلم بقدر القسط الذي يحل فِي كل وقت، وهو بيع جائز، لا شبهة فيه، داخل تحت قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} الآية [البقرة: 282].

[الثالثة]: السُّفْتَجَة:

وهي أن يكتب الإنسان لمن دفع إليه مالاً عَلَى سبيل التمليك لكي يقبض بدلاً عنه فِي بلد آخر معيّن، والقصد منها تفادي أخطار الطريق بنقل المال عيناً، وفي هذه الطريقة مصلحة مشتركة للطرفين، وَقَدْ اختلف العلماء فِي حكمها، فمنعها الحنفيّة، والشافعيّة؛ لأنها عندهم منْ القرض الذي جرّ نفعاً، وأجازها الحنابلة، ومنهم شيخ الإِسلام ابن تيميّة؛ لأنهم يرونها حوالةً، والمنفعة الحاصلة منها لا تخصّ المقرض، بل ينتفع بها الطرفان، والأصل فِي المعاملات الحلّ، ولا يوجد محذور شرعيّ يمنع منها، وهي مما اضطرّ النَّاس إليها فِي هَذَا العصر، والأخذ باليسر، منْ مقاصد الشريعة.

وكان عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما فِي مكة، وأخوه مصعب فِي العراق، فكان الرجل يسلّم نقوده عبد الله، فيرسل معه ورقةً إلى مصعب، فيسلم الرجل مثل نقوده، ولم ينكر ذلك عليهما منْ عاصرهما منْ الصحابة رضي الله عنهم.

[الرابعة]: تحويلات البنوك، وصورته أن يستلم البنك نقود الرجل فِي بلد، ويُعطيه بها شيكًا ليستلمها فِي بلد آخر، وَقَدْ يكون التحويل منْ بنك لآخر فِي بلد واحد، وفائدة ذلك إذا كَانَ التحويل بين بلدين أنه مخرج حينما تمنع دولة البلد المحال إليها دخول

ص: 347

النقود إليها، أو تمنع الدولة المحال خروج النقود منها، أو يكون فِي نقلها خطر، وهي شبيهة بالسفتجة، إلا أن بينهما ثلاثةَ فروق

(1)

:

الأول: أن السفتجة لابدّ أن تكون بين بلدين، وأما التحويل البنكيّ، فتارة يكون كذلك، وتارة يكون بين بنكين فِي بلد واحد. [الثاني]: أن فِي السفتجة اتحاد جنس النقد المدفوع عند العقد، والمؤدّى عند الوفاء، وأما التحويل المصرفيّ، فلا يقتصر عَلَى هَذَا، فإن المصرف فِي أغلب الأحيان يأخذ النقود منْ جنس، ويكتب المصرف منْ جنس آخر، وهذه ليست قرضًا محضًا. [الثالث]: أن السفتجة لا يؤخذ عليها أجر، أما المصرف فيتقاضى أجرًا يُسمّى عمولةً، والحنابلة، وشيخ الإِسلام أجازوا السفتجة، والتحويل المصرفيّ إذا كانت العمولة بقدر أتعاب المصرف، فإنه لا يوجد مانع شرعيّ منها.

قَالَ شيخ الإِسلام: وإذا أقرضه دراهم ليستوفي منه فِي بلد آخر، مثل أن يكون المقترض له دراهم فِي ذلك البلد، وهو محتاج إلى دراهم فِي بلد المقرض، فيكتب المقترض ورقة إلى بلد المقترض، فقد اختلف العلماء فِي جوازه، والصحيح الجواز. انتهى. وكلامه يشمل السفتجة والتحويل المصرفيّ.

وَقَالَ الشيخ عبد العزيز ابن باز: إذا دعت الضرورة إلى التحويل عن طريق البنوك الربويّة، فلا حرج فِي ذلك، إن شاء الله، ولا شكّ أن التحويل عن طريقها منْ الضرورات العامّة فِي هَذَا العصر، وهكذا الإيداع فيها للضرورة بدون الفائدة.

وكلام الشيخ ابن باز هنا ليس عن جواز التحويل، فهو جائز عنده، وإنما كلامه فِي التحويل عن طريق البنوك الربوية. والله أعلم. انتهى ما كتبه الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن آل بسام. "الاختيارات الجليّة" 3/ 88 - 96.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه البحوث التي ذكره الشيخ البسّام جزاه الله تعالى خيرًا بحوث نفيسة نافعة جدًّا ينبغي الاهتمام بها؛ لكثرة تداول هذه المعاملات فِي عصرنا الحاضر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

(1)

هذه الفروق الثلاثة محلّ نظر، فإنها ليست واضحة، فتأمل.

ص: 348

‌42 - (بَيْعُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أن المصنّف رحمه الله تعالى أراد بهذه الترجمة بيان حكم بيع التمر بالتمر مثلاً بمثل، وهو الجواز، كما أن الترجمة السابقة بيان حكم بيعه متفاضلاً، وهو التحريم.

قَالَ الفيّوميّ رحمه الله تعالى: التمر: منْ ثمر النخل، كالزبيب منْ العِنَب، وهو اليابس بإجماع أهل اللغة؛ لأنه يُترك عَلَى النخل بعد إرطابه حَتَّى يجفّ، أو يقارب، ثم يُقطع، ويُترك فِي الشمس حَتَّى يَيْبَس، قَالَ أبو حاتم: وربّما جُدَّت النخلةُ، وهي باسرة، بعدما أخلّت؛ ليُجَفّف عنها، أو لخوف السرقة، فتُترك حَتَّى تكون تمراً، الواحدة تمرة، والجمع تمورٌ، وتُمْرانٌ بالضمّ. والتمر يُذكّر فِي لغة، ويؤنّث فِي لغة، فيقال: هو التمر، وهي التمر، وتَمَرْتُ القومَ تَمْرًا، منْ باب ضرب: أطعمتهم التمر. ورجلٌ تامر، ولابنٌ: ذو تمر ولبنٍ. قَالَ ابن فارس: التامر: الذي عنده التمر، والتمّار: الذي يبيعه، وتمّرته تتميرًا: يَبَّسْتُه، فتَتَمّر هو، وأتمر الرُّطَبُ: حان له أن يصير تمرًا. انتهى.

وقوله: "أَخَلّت" بشديد اللام: أي صار بَلَحُها خَلالاً بالفتح، قَالَ الفيّوميّ فِي مادّة بلح: البلَح: ثمر النخل ما دام أخضر، قريبًا إلى الاستدارة، إلى أن يغلُظ النوى، وهو كالْحِصْرَم منْ العنب، وأهل البصرة يُسمّونه الْخَلالَ، الواحدة بَلَحَةٌ، وخَلالةٌ، فإذا أخذ فِي الطول، والتلوّن إلى الحمرة، أو الصُّفْرة، فهو بُسْرٌ، فإذا خَلَصَ لونه، وتكامل إرطابه، فهو الزَّهْوُ. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.

4561 -

(أَخْبَرَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "التَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زَادَ، أَوِ ازْدَادَ، فَقَدْ أَرْبَى، إِلاَّ مَا اخْتَلَفَتْ أَلْوَانُهُ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(واصل بن عبد الأعلى) الأسديّ الكوفيّ، ثقة [10] 39/ 831.

2 -

(ابن فُضيل) محمد، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوق عارفٌ، رُمي بالتشيّع [9] 18/ 799.

3 -

(أبوه) فُضيل بن غَزْوان -بفتح المعجمة، وسكون الزاي- ابن جرير الضبّيّ

ص: 349

مولاهم، أبو الفضل الكوفيّ، ثقة، منْ كبار [7].

قَالَ أحمد، وابن معين: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". ووثقه محمد بن عبد الله بن عمّار، ويعقوب بن سفيان. وَقَالَ أبو بكر بن أبي خيثمة: حدثنا أبي، حدّثنا ابن فُضيل، عن أبيه، قَالَ: كنّا نجلس أنا وابن شُبْرُمة، والقعقاع بن يزيد، والحارث العكليّ، نتذاكر الفقه، فربّما لم نقُم حَتَّى نسمع النداء لصلاة الفجر. وذكر الخالديّ الشاعر أنه قتل فِي أيام المنصور. روى له الجماعة، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب ثلاثة أحاديث، هَذَا الْحَدِيث، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي فِي 46/ 4571 "الذهب بالذهب وزنا بوزن" الْحَدِيث. وحديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما الآتي فِي 48/ 4870 "لا يزني العبد حين يزني، وهو مؤمن" الْحَدِيث.

4 -

(أبو زرعة) هَرِم بن عمرو بن جرير، وقيل فِي اسمه غير هَذَا البجليّ الكوفيّ، ثقة [3] 43/ 50.

5 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير الصحابيّ، فمدنيّ. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وفيه راويان اشتهرا بالكنية: أبو زرعة، وأبو هريرة رضي الله عنه. وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أكثر منْ روى الْحَدِيث فِي دهره، روى (5374) حديثاً. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "وَالحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ) بكسر الحاء المهملة، وسكون النون-: هو والقَمْح -بفتح فسكون- والبرّ والطعام ألفاظ مترادفة (وَالشَّعِيرُ بالشَّعِيرِ) بفتح الشين المعجمة، وتكسر، وكسر العين المهملة: حبّ معروف، قَالَ الزجّاج: وأهل نجد تؤنّثه، وغيرهم يذكّره، فيقال: هي الشعير، وهو الشعير. انتهى (وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ) بكسر، فسكون، يذكّر ويؤنّث، قَالَ الصغانيّ: والتأنيث أكثر، واقتصر الزمخشريّ عليه، وَقَالَ ابن الأنباريّ: الملح مؤنّثة، وتصغيرها مُليحة، والجمع ملاحٌ بالكسر، مثلُ بئرٍ وبئار انتهى (يَدًا بِيَدٍ) أي ومثلاً بمثل، ولذلك فرّع عليه قوله:"فمن زاد الخ"، وهذا التفريع لا يظهر إلا بملاحظة "مثلاً بمثل"، ففي الْحَدِيث اختصار، ويحتمل أن يكون منْ باب صنعة الاحتباك، وهو الحذف منْ الأول

ص: 350

لدلالة الثاني عليه وبالعكس، فذكر هنا فِي الحكم "يدًا بيد"، وترك "مثلاً بمثل"، ثم ذكر فِي التفريع تفريع "مثلاً بمثل"، وترك تفريع "يدًا بيد"، فتأمّل. أفاده السنديّ.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الأول هو الأولى؛ لما فِي رواية مسلم عن أبي كريب، وواصل بن عبد الأعلى، كلاهما عن ابن فضيل، بسند المصنّف، بلفظ:"التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد"، الْحَدِيث، فقد ذكر "مثلاً بمثل"، ثم أخرجه عن أبي سعيد الأشجّ، عن المحاربيّ، عن فضيل بن غَزْوان به، قَالَ: ولم يذكر "يدًا بيد"، فدل عَلَى أنه اختصار منْ بعض الرواة، فبعضهم ذكر "يدًا بيد"، وترك "مثلاً بمثل"، كما فِي رواية المصنّف، وبعضهم ذكر "مثلاً بمثل"، وترك "يدًا بيد"، كما فِي رواية مسلم الثانية. والله تعالى أعلم.

(فَمَنْ زَادَ) فِي الدفع (أَوِ ازْدَادَ) بأخذ الزيادة (فَقَدْ أَرْبَى) أي أتى بالربا، فصار عاصيًا، يريد أن الربا لا يتوقّف عَلَى أخذ الزيادة، بل يتحقّق بإعطائها أيضاً، فكلّ منْ المعطي والآخذ عاص. وَقَالَ النوويّ: معناه فعل الربا المحرّم، فدافع الزيادة، وآخذها عاصيان مربيان. انتهى (إِلَّا مَا اخْتَلَفَتْ أَلْوَانُهُ") يعني أجناسه، كما صرّح به فِي الروايات الباقية. قاله النوويّ.

وَقَالَ السنديّ: أي أربى فِي تمام تلك البيوع، إلا فِي بيع اختلفت ألوان بدليه: أي أجناسه، وبهذا ظهر أن الاستثناء منقطع، مع كون المستثنى منه محذوفًا، وأنه لابدّ منْ تقدير حرف الجرّ عَلَى خلاف القياس، وأما تقدير المستثنى منه عامًا، حَتَّى يكون الاستثناء متّصلاً، بأن يقال: فقد أربى فِي كلّ بيع، سواء كَانَ منْ المذكورات، أو غيرها، إلا فِي بيع اختلفت ألوان بدليه لا يخلو عن إشكال معنى؛ لأدائه إلى ثبوت الربا إذا اتّحد الجنس فِي كلّ بيع، فليُتأمّل. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -42/ 4561 - وفي "الكبرى" 42/ 6151. وأخرجه (م) فِي "البيوع" 1588 (ق) فِي "التجارات" 2255 (أحمد) فِي باقي "مسند المكثرين" 7131.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم بيع التمر بالتمر،

ص: 351

وهو الجواز إذا كَانَ مثلاً بمثل، يدًا بيد. (ومنها): جواز بيع هذه الأشياء المذكورة فِي الْحَدِيث بعضها ببعض بشرط المماثلة، والتقابض فِي المجلس. (ومنها): أن الربا لا يختصّ بالآخذ، بل المعطي مثله فِي الإثم. (ومنها): أنه إذا اختلفت الأجناس جاز التفاضل. (ومنها): ما قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: فيه حجة للعلماء كافّة فِي وجوب التقابض، وإن اختلف الجنس، وجوّز إسماعيل ابن عليّة التفرّق عند اختلاف الجنس، وهو محجوج بالأحاديث والإجماع، ولعله لم يبلغه الْحَدِيث، فلو بلغه لما خالفه. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌43 - (بَابُ بَيْعِ الْبُرَّ بِالْبُرَّ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "البُرّ" بضمّ الموحّدة، وتشديد الراء-: الحنطة، قَالَ المنتخل الْهُذليّ [منْ البسيط]:

لَا دَرَّ دَرِّيَ إنْ أَطْعَمْتُ نَازِلَكُمْ

قِرْفَ الْحَتِيِّ

(1)

وَعِنْدِي الْبُرُّ مَكْنُوزُ

ورواه ابن دُريد: رائدهم. قَالَ ابن دُريد: الْبُرّ أفصح منْ قولهم: الْقَمْحُ، والْحِنْطَة، واحدته بُرّة. قَالَ سيبويه: ولا يقال لصاحبه بَرّارٌ عَلَى ما يغلب فِي هَذَا النحو؛ لأن هَذَا الضرب إنما هو سماعيّ، لا اطّراديّ. قَالَ الجوهريّ: ومنع سيبويه أن يُجمع البرّ عَلَى أبرار، وجوّزه الْمُبَرّد قياسًا. قاله فِي "لسان العرب". والله تعالى أعلم بالصواب.

4562 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ -وَهُوَ ابْنُ عَلْقَمَةَ- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتِيكٍ، قَالَا: جَمَعَ الْمَنْزِلُ بَيْنَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَمُعَاوِيَةَ، حَدَّثَهُمْ عُبَادَةُ، قَالَ: "نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَالْوَرِقِ بِالْوَرِقِ، وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ" قَالَ أَحَدُهُمَا: "وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ"، وَلَمْ يَقُلْهُ الآخَرُ، "إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَبِيعَ الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ، وَالْوَرِقَ بِالذَّهَبِ، وَالْبُرَّ بِالشِّعِيرِ، وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ، يَدًا بِيَدٍ، كَيْفَ شِئْنَا"، قَالَ أَحَدُهُمَا: "فَمَنْ زَادَ، أَوِ ازْدَادَ، فَقَدْ أَرْبَى").

(1)

"الْقِرف" بالكسر: القشر. اهـ قاموس. والْحَتِيّ عَلَى فَعِيل: سَويق الْمُقْل، وقيل: رديئه. وقيل: يابسه. وقيل: ثُفْلُ التمر، وقُشُوره. اهـ لسان.

ص: 352

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن عبد الله بن بزيع) -بفتح الموحّدة، وكسر الزاي، آخره عين مهملة: هو البصريّ، ثقة [10] 43/ 588.

2 -

(يزيد) بن زُريع، أبو معاوية البصريّ ثقة ثبت [8] 5/ 5.

3 -

(سلمة بن علقمة) التميميّ، أبو بشر البصريّ، ثقة [6] 34/ 1889.

4 -

(محمد بن سيرين) الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر ابن أبي عمرة البصريّ، ثقة ثبت عابد فقيه [3] 46/ 57.

5 -

(مسلم بن يسار) البصريّ، نزيل مكّة، أبو عبد الله الفقيه، مولى بني أمية، وقيل: مولى طلحة، وقيل: مولى مُزَينة، ويقال له: مسلم سكرة، ومسلم المصبّح، ثقة عابد [4].

رَوَى عن أبيه، وابن عباس، وابن عمر، وأبي الأشعث الصنعاني، وحمران ابن أبان، وأرسل عن عبادة بن الصامت، وغيرهم. رَوَى عنه ابنه عبد الله، وثابت البناني، ويعلي بن حكيم، ومحمد بن سيرين، وأيوب السختياني، وأبو نضرة بن البختريّ، وقتادة، وصالح أبو الخليل، ومحمد بن واسع، وعمرو بن دينار، وأبان بن أبي عياش، وعدة. قَالَ أبو طالب، عن أحمد: ثقة. وَقَالَ أبو داود، عن ابن معين رجل صالح قديم. وَقَالَ العجليّ: تابعيّ ثقة. وَقَالَ الآجري، عن أبي داود: كَانَ يقال له: مسلم الْمُصْبح؛ لأنه كَانَ يُسْرِج المسجد. وَقَالَ: روى ابن سعد، عن ابن عون: كَانَ مسلم ابن يسار، لا يُفَضَّل عليه أحد فِي ذلك الزمان. وَقَالَ القطّان: لم يسمع قتادة عنه. وَقَالَ ابن سعد: قالوا: كَانَ ثقة فاضلا عابدا ورعا، توفي فِي خلافة عمر بن عبد العزيز، سنة مائة، أو إحدى ومائة. وَقَالَ خليفة ابن خياط: كَانَ يُعَدُّ خامس خمسة، منْ فقهاء أهل البصرة، مات سنة مائة، له ذكر فِي "اللباس" منْ "صحيح مسلم".

قَالَ الحافظ: ووقع فِي "صحيح مسلم" عن محمد بن عباد، أمرت مسلم بن يسار، مولى نافع بن عبد الحارث، أن يسأل ابن عمر، فهذا هو المكيّ، وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: كَانَ منْ عباد أهل البصرة، وزهادها، أدرك جماعة منْ الصحابة، وأكثر روايته عن أبي الأشعث، وأبي قلابة، وشهد الجماجم، وفرق بينه وبين المكيّ، ثم قَالَ. مسلم المصبح الكوفيّ، كَانَ رجلاً صالحا، وكذا فرق البخاريّ بين البصريّ والمكي، وَقَالَ فِي ترجمة المكيّ المصبح: قَالَ ابن عيينة: كَانَ رجلاً صالحا، وَقَالَ ابن سعد: قالوا: كَانَ أرفع عندهم منْ الحسن، حَتَّى خرج مع ابن الأشعث، فوضعه ذلك عند النَّاس. وذكر ابن أبي خيثمة فِي "تاريخه الكبير" عن مكحول، قَالَ: رأيت سيدا منْ

ص: 353

ساداتكم -يعني مسلم بن يسار-. وعن ابن سلام، قَالَ: كَانَ مسلم مفتي أهل البصرة قبل الحسن. وعن حميد بن هلال، قَالَ: كَانَ مسلم إذا قام يصلي، كأنه نورٌ مُلْقًى. وعن ابن عون، قَالَ: كَانَ مسلم بن يسار، إذا كَانَ فِي غير صلاة، كأنه كَانَ فِي صلاة، وإذا كَانَ فِي صلاة، كأنه وتد لا يتحرك شيء منه. روى له المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب حديث عبادة هَذَا كرّره أربع مرَّات

(1)

.

6 -

(عبد الله بن عتيك) ويقال: ابن عتيق بالقاف، ويقال: ابن عُبيد بالتصغير، وهو الأرجح، ويُدعى ابن هُرْمز، مقبول [3].

رَوَى عن معاوية، وعبادة بن الصامت، وعنه محمد بن سيرين، ذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، رَوى له النسائيّ، وابن ماجه حديثا واحدا، فِي بيع الذهب بالذهب. يعني حديث الباب، وكرّره المصنّف ثلاث مرَّات.

وذكر ابن عساكر فِي رواية ابن علية، وبشر بن المفضل، عبد الله بن عبيد، وفي رواية يزيد بن زريع عبد الله بن عتيك انتهى. والصواب ابن عبيد، وبذلك جزم المزّيّ فِي "الأطراف" تبعاً لابن عساكر، فَقَالَ: رواية ابن زريع وَهَمٌ، وقفت عَلَى قبره، وعليه بلاطة، فيها اسمه ونسبه، وليس فيها تاريخ وفاته، وهكذا ذكره البخاريّ، وابن أبي حاتم، وابن أبي خيثمة، ويعقوب بن سفيان، وابن حبّان، وهكذا وقع فِي "السنن الكبرى" رواية ابن الأحمر، عن النسائيّ فِي جميع طرقه.

7 -

(عبادة بن الصامت) بن قيس الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو الوليد المدنيّ، أحد النقباء البدريّ، مات رضي الله عنه بالرملة سنة (34) وله (72) سنة، وقيل: عاش إلى خلافة معاوية رضي الله عنه، تقدم فِي 6/ 411. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات غير عبد الله بن عتيك، وَقَدْ وثقه ابن حبّان. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّين. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ مُسْلِم بْنِ يَسَارٍ، وَعَبدِ اللهِ بْنِ عَتِيكٍ) تقدّم آنفًا أن قوله: "ابن عتيك" فِي هذه الرواية وَهَمٌ، والصواب أنه ابن عُبيد، كما يأتي فِي رواية ابن عليّة، وبشر بن المفضّل، وكما هو فِي جميع طرق "الكبرى" (قَالَا: جَمَعَ الْمَنْزِلُ) بالرفع فاعل "جمع": يعني أنهما

(1)

راجع "تهذيب التهذيب" 4/ 73 - 74.

ص: 354

اجتمعا فِي منزل واحد، والمراد فِي بلدة واحدة، لا فِي بيت واحد.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا قَالَ السنديّ، ولا حاجة لحمل المنزل عَلَى البلد، بل الصواب حمله عَلَى المكان الواحد، لأن ظاهر القصّة التي فِي رواية مسلم الآتية قريبًا ظاهرة فِي كون المراد به المكان الواحد، فإن معاوية رضي الله عنه خطب النَّاس منكرًا عَلَى عبادة، فبعد خطبته قام عبادة رضي الله عنه رادًّا عليه، فتفطّن. والله تعالى أعلم.

(بَيْنَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) رضي الله عنه (وَمُعَاوِيَةَ) بن أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه (حَدَّثَهُمْ عُبَادَةُ) هكذا هنا، وفي "الكبرى" بدون واو، ولا فاء، فتكون الجملة مستأنفة. زاد فِي رواية قتادة، عن مسلم بن يسار الآتية:"وَكَانَ بَدْرِيًّا، وَكَانَ بَايَعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَنْ لَا يَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ".

وسبب هَذَا التحديث هو ما رواه مسلم فِي "صحيحه" منْ طريق حماد بن زيد، عن أيوب السختيانيّ، عن أبي قلابه، قَالَ: كنت بالشام فِي حلقة فيها مسلم بن يسار، فجاء أبو الأشعث، قَالَ: قالوا: أبو الأشعث، أبو الأشعث، فجلس، فقلت له: حَدِّث أخانا حديث عبادة بن الصامت، قَالَ: نعم غزونا غَزَاةً، وعلى النَّاس معاوية، فغَنِمنا غنائم كثيرة، فكان فيما غَنِمنا آنية منْ فضة، فأمر معاوية رجلاً أن يبيعها فِي أعطِيَات النَّاس، فتسارع النَّاس فِي ذلك، فبلغ عبادة بن الصامت، فقام، فَقَالَ:"إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينا بعين، فمن زاد، أو ازداد، فقد أربى"، فرد النَّاس ما أخذوا، فبلغ ذلك معاوية، فقام خطيبا، فَقَالَ: ألا ما بال رجال، يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث، قد كنا نشهده، ونصحبه، فلم نسمعها منه، فقام عبادة بن الصامت، فأعاد القصة، ثم قَالَ: لنحدثن بما سمعنا منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كره معاوية، أو قَالَ: وإن رَغِمَ، ما أبالي أن لا أصحبه فِي جنده ليلة سوداء. انتهى.

(قَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) جملة القول تفسير لمعنى التحديث (عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَالْوَرِقِ بالْوَرِقِ) تقدّم أنه بفتح الواو، وكسر الراء، وتسكّن تخفيفًا: هي الفضّة المضروبة، وقيل: هي الفضّة مضروبة كانت، أم لا (وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ، قَالَ أَحَدُهُمَا) أي مسلم بن يسار، أو عبد الله بن عتيق (وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ، وَلَمْ يَقُلْهُ الآخَرُ) يعني أن أحدهما اقتصر عَلَى ذكر غير الملح (إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلِ) أي إلا متماثلين (يَدًا بِيَدٍ) أي إلا متقابضين (وَأَمَرَنَا أن نَبيعَ الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ، وَالْوَرِقَ بِالذَّهَبِ، وَالْبُرَّ بِالشَّعِيرِ، وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ، يَدًا بيَدِ، كَيْفَ شِئْنَا) أي منْ حيث الكمّيّة، وإلا فلابدّ منْ مراعاة التقابض، كما بيّنه بقوله:"يدَا بيد"(قَالَ أَحَدُهُمَا: فَمَنْ زَادَ، أَوِ ازْدَادَ) متعلّق

ص: 355

بقوله: "مثلاً بمثل"(فَقَدْ أَرْبَى) أي أخذ الربا، وأكله، فيدخل تحت الوعيد الوارد فِي آكل الربا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه هَذَا أخرجه مسلم.

[تنبيه]: رواية مسلم بن يسار عن عبادة رضي الله عنه منقطعة، كما سبق الإشارة إلى هَذَا فِي ترجمته، وَقَالَ الحافظ المزيّ رحمه الله تعالى فِي "تحفة الأشراف" 4/ 258 - : مسلم ابن يسار البصريّ، عن عبادة بن الصامت، ولم يلقه. انتهى. ويدلّ عَلَى هَذَا رواية قتادة، الآتية برقم (4565) عن مسلم، عن أبي الأشعث الصنعانيّ، وأصرح منه رواية مسلم المتقدّمة، منْ طريق أيوب، عن أبي قلابة، قَالَ: كنت بالشام فِي حلقة فيها مسلم بن يسار، فجاء أبو الأشعث، قَالَ: قالوا: أبو الأشعث، أبو الأشعث، فجلس، فقلت له: حدّث أخانا حديث عبادة بن الصامت

الْحَدِيث.

والحاصل أن الْحَدِيث صحيح، لأنه تبيّن بما يأتى أن مسلم بن يسار رواه عن أبي الأشعث، عن عبادة رضي الله عنه، ومن طريقه أخرجه مسلم فِي "صحيحه"، وأما رواية عبد الله بن عبيد، فالظاهر أنها متصلة، ويحتمل أن تكون مثل رواية مسلم. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -43/ 4562 و4563 و44/ 4564 و4565 و4566 و4568 - وفي "الكبرى" 43/ 6152 و6153 و44/ 6154 و6155 و6156 و45/ 6157 و6159. وأخرجه (م) فِي "البيوع" 1587 (د) فِي "البيوع" 3349 (ت) فِي "البيوع" 1240 (ق) فِي "التجارات" 2254 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 22175 و22217 و22220 (الدارمي) فِي "البيوع" 2466.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده

(1)

:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم بيع البرّ بالبر، وهو أنه يجب المماثلة، والتقابض فِي المجلس. (ومنها): ما كَانَ عليه الصحابة رضي الله عنهم منْ المحافظة عَلَى الوفاء بما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وان أدّى ذلك إلى كراهة أميرهم،

(1)

المراد فوائد حديث عبادة بجميع راوياته المختلفة، لا خصوص هَذَا السياق، فتنبّه.

ص: 356

وذلك أن عبادة رضي الله عنه كَانَ ممن بايع النبيّ صلى الله عليه وسلم أن لا يخاف فِي الله لومة لائم، فلما أنكر عليه معاوية، لم يسكت، بل أعاد الْحَدِيث، وواجهه بما يكرهه، فَقَالَ: وإن رَغِم معاوية. قَالَ القاضي عياض رحمه الله تعالى: فيه ما يجب مما أخذ الله عَلَى العلماء ليبيّنُنّه للناس، ولا يكتمونه، وليكوننّ قوامين بالقسط، شهداء لله، وإغلاظه فِي اللفظ لمعاوية؛ لمقابلته له عَلَى إنكاره تحريمه، مع تحققه حلم معاوية، وصبره. انتهى "إكمال المعلم" 5/ 269. (ومنها): الاهتمام بتبليغ السنن، ونشر العلم، وإن كرهه منْ كرهه. (ومنها): القول بالحقّ، وإن كَانَ المقول له كبيرًا. (ومنها): جواز بيع هذه الأشياء بشرط المماثلة، والتقابض. (ومنها): جواز التفاضل بينها إذا اختلفت الأجناس، بشرط التقابض فِي المجلس. (ومنها): أن إعطاء الربا مثل أكله فِي الإثم. (ومنها): أن فيه الردّ عَلَى منْ قَالَ: إن البرّ والشعير جنس واحد، لأنه صلى الله عليه وسلم نصّ عَلَى جواز بيع البرّ بالشعير كيف شاءوا، وبهذا قَالَ الشافعيّ، وأبو حنيفة، والثوريّ، وفقهاء المحدثين، وآخرون. وَقَالَ مالك، والليث، والأوزاعيّ، ومعظم علماء المدينة، والشام منْ المتقدّمين: إنهما صنف واحد. قاله النوويّ فِي "شرح مسلم" 11/ 16. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4563 -

(أَخْبَرَنَا الْمُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ- عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدٍ، وَقَدْ كَانَ يُدْعَى ابْنَ هُرْمُزَ، قَالَ: جَمَعَ الْمَنْزِلُ بَيْنَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَهُمْ عُبَادَةُ، قَالَ: "نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ"، قَالَ أَحَدُهُمَا: "وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ"، وَلَمْ يَقُلْهُ الآخَرُ، "إِلاَّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، مِثْلاً بِمِثْلٍ"، قَالَ أَحَدُهُمَا: "مَنْ زَادَ، أَوِ ازْدَادَ، فَقَدْ أَرْبَى"، وَلَمْ يَقُلْهُ الآخَرُ، "وَأَمَرَنَا أَنْ نَبِيعَ الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ، وَالْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ، وَالْبُرَّ بِالشَّعِيرِ، وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ، يَدًا بِيَدٍ، كَيْفَ شِئْنَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "المؤمّل بن هشام": هو اليشكريّ، أبو هشام البصريّ، ثقة [10] 24/ 26. و"إسماعيل ابن عُليّة": هو الإِمام الحجة الثبت إسماعيل بن إبراهيم، وعُليّة أمه، وكان يَكره النسبة إليها. والباقون هم المذكورون فِي السند الماضي.

وقوله: "وكان يُدعى ابن هُرمز": أي كَانَ عبد الله بن عُبيد يسمّى بابن هرمز بضمّ الهاء، والميم بينهما راء ساكنة، آخره زاي، ولعله أحد أجداده.

وقوله: "مثلًا بمثل" تأكيد لقوله: "سواء بسواء".

والحديث أخرجه مسلم، وتقدّم شرحه، وبيان مسائله فِي الْحَدِيث الماضي. والله

ص: 357

تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌44 - (بِيْعُ الشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الشَّعِير" حبّ معروفٌ، قَالَ الزجّاج: وأهل نجد تؤنّثه، وغيرهم يُذكّره، فيقال: هي الشعير، وهو الشعير. قاله الفيّوميّ. وَقَالَ ابن منظور:"الشعير" جنس منْ الحبوب معروف، واحدته شَعيرة، وبائعه شَعِيريٌّ، قَالَ سيبويه: وليس مما بُني عَلَى فاعل، ولا فَعّال، كما يغلب فِي هَذَا النحو، وأما قول بعضهم: شِعِير، وبِعِير، ورِغِيف، وما أشبه ذلك -يعني بكسر أولها، وثانيها- لتقريب الصوت منْ الصوت -يعني للمناسبة- فلا يكون هَذَا إلا مع حروف الحلق. انتهى. "لسان". والله تعالى أعلم بالصواب.

4564 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَا: جَمَعَ الْمَنْزِلُ بَيْنَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ عُبَادَةُ:"نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ نَبِيعَ الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، وَالْوَرِقَ بِالْوَرِقِ، وَالْبُرَّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرَ بِالتَّمْرِ"، قَالَ أَحَدُهُمَا:"وَالْمِلْحَ بِالْمِلْحِ"، وَلَمْ يَقُلِ الآخَرُ، "إِلاَّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، مِثْلاً بِمِثْلٍ"، قَالَ أَحَدُهُمَا:"مَنْ زَادَ، أَوِ ازْدَادَ، فَقَدْ أَرْبَى"، وَلَمْ يَقُلِ الآخَرُ، "وَأَمَرَنَا أَنْ نَبِيعَ الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ، وَالْوَرِقَ بِالذَّهَبِ، وَالْبُرَّ بِالشَّعِيرِ، وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ، يَدًا بِيَدٍ، كَيْفَ شِئْنَا"، فَبَلَغَ هَذَا الْحَدِيثُ مُعَاوِيَةَ، فَقَامَ، فَقَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يُحَدِّثُونَ أَحَادِيثَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَدْ صَحِبْنَاهُ، وَلَمْ نَسْمَعْهُ مِنْهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، فَقَامَ، فَأَعَادَ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: لَنُحَدِّثَنَّ بِمَا سَمِعْنَاهُ، مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ رُغِمَ مُعَاوِيَةُ.

خَالَفَهُ قَتَادَةُ، رَوَاهُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي الأَشْعَثِ، عَنْ عُبَادَةَ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "إسماعيل بن مسعود": هو الْجحدريّ البصريّ الثقة، منْ أفراد المصنّف. و"بشر بن المفضّل": هو أبو إسماعيل البصريّ الثقة الثبت. و"محمد": هو ابن سيرين.

وقوله: "فَقَالَ عبادة" أي بعد أن ارتكب معاوية رضي الله عنهم بعض العقود الفاسدة، كما تقدّم فِي رواية مسلم.

ص: 358

وقوله: "ما بال رجال الخ": أي ما حالهم، وما شأنهم، وهذا إنكار منْ معاوية رضي الله عنه عَلَى عبادة رضي الله عنه، والظاهر أنه منْ باب الخوف عليه أن ينسى بعض الْحَدِيث، فيخطىء عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[تنبيه]: قَالَ السنديّ: قوله: "فَقَالَ: ما بال رجال" استدلال بالنفي عَلَى ردّ الْحَدِيث الصحيح بعد ثبوته، مع اتّفاق العقلاء عَلَى بطلان الاستدلال بالنفي، وظهور بطلانه بأدنى نظر، بل بديهة، فهذا جراءة عظيمة يغفر الله لنا وله. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وأنا أقول: سامح الله السنديّ فِي هذه الجراءة العظيمة عَلَى هَذَا الصحابيّ الجليل رضي الله عنه، ولو أن إمام مذهبه خالف الْحَدِيث الصحيح، لما استجاز أن يقول هَذَا الكلام فِي حقه، بل يعتذر عنه بأعذار، لا تسمن، ولا تغني منْ جوع، فكيف استجاز هَذَا الكلام البَشِع عَلَى هَذَا الصحابيّ الجليل رضي الله عنه، بل الصواب أن مثل هَذَا كثيرًا ما يصدر عن غيره منْ الصحابة رضي الله عنهم، إذا سمعوا بعض الأحاديث التي كانوا يظنون أن حكم الشرع بخلافها، ظنّا منهم أن الذي حدّث بها ربما يهم، وربما يحذف نسيانًا بعض القيود، أو الشروط التي ذكرها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتنبيهًا عَلَى هَذَا يصدر منهم إنكارٌ، لا لردّ ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، فحاشا معاوية رضي الله عنه أن يتّهم بمثل هَذَا، فقد أنكر عمر رضي الله عنه عَلَى عمّار حديث التيمم للجنب، وأنكر عَلَى فاطمة بنت قيس حديثها ليس للمطلقة البائن نفقة، ولا سكنى، وأنكرت عائشة عَلَى ابن عمر وغيره أحاديث كثيرة، فالواجب علينا إذا سمعنا مثل هَذَا صدر عن الصحابة رضي الله عنهم أن نعتذر عنهم، ولا نطوّل ألسنتنا، بل نقول:{مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]، والله تعالى المستعان عَلَى منْ تطاول عَلَى الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم.

وقوله. "وإن رَغَم معاوية": بفتح الراء، والغين المعجمة، ويقال بكسر الغين، يقال: رَغَمَ أنفه رَغْمًا، منْ باب قتل، ورَغِمَ، منْ باب تَعِبَ لغةٌ: كناية عن الذلّ، كأنه لَصِقَ بالرَّغَام هَوَانًا، والرَّغام بالفتح: التراب، ويتعدّى بالألف، فيقال: أرغم الله أنفه، وفعلته عَلَى رُغْم أنفه بالفتح، والضَّمّ: أي عَلَى كُرْه منه. قاله الفيّوميّ.

وقوله. (خَالَفَهُ قَتَادَةُ) أي خالف محمدَ بنَ سيرين قتادةُ بنُ دعامة فِي روايته لهذا الْحَدِيث فـ (رَوَاهُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي الأَشْعَثِ، عَنْ عُبَادَةَ) رضي الله عنه حاصل ما أشار إليه أن قتادة خالف محمد بن سيرين، حيث رواه عن مسلم يسار، عن عبادة رضي الله عنه، فرواه عن مسلم بن يسار، عن أبي الأشعث الصنعانيّ، عن عبادة، فأدخل واسطة بين مسلم، وبين عبادة رضي الله عنه، كما بين روايته بقوله:

4565 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ، عَنْ عَبْدَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ

ص: 359

يَسَارٍ، عَنْ أَبِي الأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَكَانَ بَدْرِيًّا، وَكَانَ بَايَعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَنْ لَا يَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، أَنَّ عُبَادَةَ قَامَ خَطِيبًا، فَقَالَ:"أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ قَدْ أَحْدَثْتُمْ بُيُوعًا، لَا أَدْرِي مَا هِيَ: أَلَا إِنَّ الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ، تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا، وَإِنَّ الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ وَزْنًا بِوَزْنٍ، تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا، وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْفِضَّةِ بِالذَّهَبِ يَدًا بِيَدٍ، وَالْفِضَّةُ أَكْثَرُهُمَا، وَلَا تَصْلُحُ النَّسِيئَةُ، أَلَا إِنَّ الْبُرَّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ، مُدْيًا بِمُدْيٍ، وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الشَّعِيرِ بِالْحِنْطَةِ يَدًا بِيَدٍ، وَالشَّعِيرُ أَكْثَرُهُمَا، وَلَا يَصْلُحُ نَسِيئَةً، أَلَا وَإِنَّ التَّمْرَ بِالتَّمْرِ، مُدْيًا بِمُدْيٍ، حَتَّى ذَكَرَ الْمِلْحَ مُدًّا بِمُدٍّ، فَمَنْ زَادَ، أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن آدم": هو الجهنيّ الْمصّيصيّ، صدوقٌ [10] 93/ 115 منْ رجال المصنّف، وأبي داود. و"عبدة": هو ابن سليمان الكلابيّ الكوفيّ، الثقة الثبت. و"ابن أبي عروبة": هو سعيد. و"أبو الأشعث الصنعاني": هو شَرَاحيل بن آدة بالمدّ، وتخفيف الدال، ويقال: آدة جدّ أبيه، وهو ابن شُرَحْبِيل بن كُليب، ثقة [2] 5/ 1374.

[تنبيه]: تقدّم قريبًا أن رواية قتادة هذه بإدخال الواسطة بين مسلم بن يسار، وبين عبادة رضي الله عنه هى الصحيحة، وأما رواية ابن سيرين المتقدّمة بدون واسطة، ففيها انقطاع، ولذلك قدّمها المصنّف رحمه الله تعالى عَلَى عادته أنه يذكر الأخبار المعلّلة أوّلاً، ثم يأتي بالأخبار التي لا علّة فيها، ومثله فِي ذلك الترمذيّ رحمه الله تعالى، كما نبّه عَلَى ذلك الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى فِي "شرح علل الترمذيّ"، ونصّه فيها:

وَقَدْ اعتُرض عَلَى الترمذيّ رحمه الله بأنه فِي غالب الأبواب يبدأ بالأحاديث الغريبة الإسناد غالباً، وليس ذلك بعيب، فإنه رحمه الله يُبيّن ما فيها منْ العلل، ثم يُبيّن الصحيح فِي الإسناد، وكأن قصده رحمه الله ذكر العلل، ولهذا تجد النسائيّ إذا استوعب طرق الْحَدِيث بدأ بما هو غلطٌ، ثم يذكر بعد ذلك الصواب المخالف له. انتهى كلامه

(1)

.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله ابن رَجَب رحمه الله تعالى كلام مفيد جدّا، فتنبّه له ينفعك فِي أبواب كثيرة منْ هَذَا الكتاب. والله تعالى أعلم.

وقوله: "وكان بايع الخ" إشارة إلى أن إنكاره عَلَى أميره إنما هو قيامًا بالوفاء بما عاهد النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه، منْ عدم خوف لومة لائم فِي الله تعالى.

وقوله: "أحدثتم بيوعًا الخ" تقدم فِي رواية مسلم أنهم باعوا مما غنموه آنية منْ فضّة فِي أعطِيات النَّاس، فأنكر ذلك عليهم عبادة رضي الله عنه؛ لأنه إن كَانَ البيع بالفضّة، فلابدّ

(1)

راجع "شرح علل الترمذيّ" للحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى ص 236 بتحقيق صبحي السامرّائي.

ص: 360

منْ المماثلة وزنًا، وأن يكون يدا بيد، وإن كَانَ بالذهب فلابد منْ التقابض فِي المجلس، والبيع بالأعطيات الظاهر أنه هو البيع بما يتقاضونه منْ راتبهم التي يعطيهم أميرهم، فلا يتحقق فيها التساوي، ولا التقابض.

وقوله: "لا أدري ما هي" أي لا أعلم أهي جائزة، أم لا؟ ولعله لم يتبيّن له بيوعهم بالتفصيل، وإلا فما عملوه هو الربا بعينه.

وقوله: "تبرها، وعينها" مبتدأ حذف خبره: أي سواء، و"التبر" بكسر، فسكون: غير المضروب، قَالَ الفيّوميّ رحمه الله تعالى: التبر: ما كَانَ منْ الذهب غيرَ مضروب، فإن ضُرب دنانير، فهو عينٌ، وَقَالَ ابن فارس: التبر: ما كَانَ منْ الذهب والفضّة غير مصوغ، وَقَالَ الزجّاج: التبر: كلُّ جوهر قبل استعماله، كالنحاس، والحديد، وغيرهما. انتهى.

وقوله: "والفضّة أكثرهما" الجملة فِي محلّ نصب عَلَى الحال، وهذا ليس قيدًا، وإنما هو بناء عَلَى المتعارف عادةً، وإلا فلو كَانَ الذهب أكثر فلا يختلف الحكم، كما ثبت فِي الأحاديث الأخرى بلفظ:"وإذا اختلفت الأجناس، فبيعوا كيف شئتم، إذا كَانَ يدًا بيد".

وقوله: "مُدْيًا بمُدْيٍ": أي مكيالاً بمكيال، و"الْمُدْيُ" بضم الميم، وسكون الدال المهملة، كقُفْل: مكيال لأهل الشام، يسع خمسة عشر مَكّوكًا، والْمَكّوك بفتح الميم، وتشديد الكاف: صاع ونصف، وقيل: أكثر منْ ذلك. قاله فِي "النهاية" 4/ 310. وَقَالَ الفيّوميّ: الْمُدْيُ وزانُ قفل: مكيال يسع تسعة عشر صاعاً، وهو غير المدَّ. انتهى. وفي نسخة: "مدًّا بمدّ".

وفي الْحَدِيث دلالة عَلَى أن البرّ والشعير جنسان، كما هو مذهب الجمهور، لا جنس واحد، كما قَالَ به مالك.

والحديث أخرجه مسلم، وتقدّم قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4566 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ مُسْلِمٍ الْمَكِّيِّ، عَنْ أَبِي الأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، تِبْرُهُ وَعَيْنُهُ، وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، تِبْرُهُ وَعَيْنُهُ وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ، أَوِ ازْدَادَ، فَقَدْ أَرْبَى".

ص: 361

وَاللَّفْظُ لِمُحَمَّدٍ، لَمْ يَذْكُرْ يَعْقُوبُ:"وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "ويعقوب بن إبراهيم" هكذا وقع فِي جميع نسخ "المجتبى"، وهو غلط، والصواب:"إبراهيم بن يعقوب"، وهو الْجُوزجانيّ الحافظ الثبت، نبّه عَلَى هَذَا الحافظ المزّيّ رحمه الله تعالى فِي "تحفة الأشراف" 4/ 250، ونصّه: وقع فِي رواية أبي بكر ابن السُّنّيّ، عن النسائيّ، عن محمد بن المثنّى، و"يعقوب بن إبراهيم"، عن عمرو بن عاصم، وهو وَهَمٌ، وإنما هو "إبراهيم بن يعقوب"، كما فِي رواية أبي الحسن بن حيّويه، وأبي عليّ الأسيوطيّ، عن النسائيّ. انتهى.

والحاصل أن للنسائيّ شيخين: أحدهما يعقوب بن إبراهيم، وهو الدورقيّ، والثاني: إبراهيم بن يعقوب، وهو الْجُوزجانيّ، وهذه الرواية له، لا ليعقوب الدورقيّ، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

و"عمرو بن عاصم": هو الكلابيّ القيسيّ، أبو عثمان البصريّ، صدوقٌ فِي حفظه شيء، منْ صغار [9] 17/ 1552. و"هَمّام": هو ابن يحيى الْعَوْذيّ البصريّ. و"أبو الخليل": هو صالح بن أبي مريم الضبعيّ مولاهم البصريّ، ثقة [6] 51/ 3308.

وقوله: "الذهب بالذهب": بالرفع نائب فاعل لفعل محذوف: أي يُباع الذهب بالذهب، أو مبتدأ عَلَى حذف مضاف، وخبره محذوف: أي بيع الذهب بالذهب جائز ويحتمل النصب عَلَى أنه مفعولٌ لفعل محذوف: أي بيعوا الذهب بالذهب، وكذا قوله:"والفضّة بالفضّة" وما بعده.

وقوله: "تبره وعينه" بالرفع بدل منْ "الذهبُ".

وقوله: "لم يذكر يعقوب" تقدم آنفًا أن الصواب أنه إبراهيم بن يعقوب، فالصواب هنا: لم يذكر إبراهيم الخ.

والحديث أخرجه مسلم، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4567 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ، أَنَّ أَبَا الْمُتَوَكِّلِ، مَرَّ بِهِمْ فِي السُّوقِ، فَقَامَ إِلَيْهِ قَوْمٌ، أَنَا مِنْهُمْ، قَالَ: قُلْنَا أَتَيْنَاكَ لِنَسْأَلَكَ عَنِ الصَّرْفِ؟ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، غَيْرُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ؟، قَالَ: لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ غَيْرُهُ، قَالَ: "فَإِنَّ الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، وَالْوَرِقَ بِالْوَرِقِ"، قَالَ سُلَيْمَانُ: أَوْ قَالَ: "وَالْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرَّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرَ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحَ بِالْمِلْحِ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، فَمَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ، أَوِ ازْدَادَ، فَقَدْ أَرْبَى، وَالآخِذُ وَالْمُعْطِي فِيهِ سَوَاءٌ").

ص: 362

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الجحدريّ المذكور أول الباب.

2 -

(خالد) بن الحارث الهجيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.

3 -

(سليمان بن عليّ) الرَّبَعيّ الأزديّ، أبو عكاشة البصريّ، ثقة [5].

قَالَ ابن معين: ثقة. وَقَالَ النسائيّ: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". روى له مسلم، والمصنّف، وابن ماجه، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.

4 -

(أبو المتوكّل) عليّ بن داود، وقيل: دؤاد الناجيّ البصريّ، مشهور بكنيته، ثقة [3] 169/ 262.

5 -

(أبو سعيد الخدريّ) سعد بن مالك رضي الله تعالى عنهما 169/ 262. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سعيد رضي الله عنه منْ المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ) الرَّبَعيّ (أَنَّ أَبَا الْمُتَوَكَّلِ) عليّ بن داود (مَرَّ بهِمْ) أي بسليمان، ومن معه (فِي السُّوقِ، فَقَامَ إِلَيْهِ قَوْمٌ، أَنَا مِنْهُمْ) وفي "الكبرى": أنا فيهم، والجملة فِي محلّ رفع صفة لـ"قوم" (قَالَ) سليمان (قُلْنَا: أَتَيْنَاكَ لِنَسْأَلَكَ عَنِ الصَّرْفِ؟) أي عن حكمه، و"الصرف" بفتح، فسكون: المراد به هنا بيع الذهب بالفضّة، وهو فِي الأصل: الفضل والزيادة، قَالَ ابن منظور رحمه الله تعالى: الصرف: فضل الدرهم عَلَى الدرهم، والدينار عَلَى الدينار؛ لأن كلّ واحد منهما يُصرَف عن قيمة صاحبه، والصرف: بيع الذهب بالفضّة، وهو منْ ذلك؛ لأنه يُنصرَف به عن جوهر إلى جوهر. والتصريف فِي جميع البِيَاعات: إنفاق الدراهم، والصرّاف، والصَّيْرف، والصَّيْرَفيّ: النَّقّاد منْ الْمُصارَفة، وهو منْ التصرّف، والجمع صَيَارفُ، وصيارفةٌ، والهاء للنسبة، وَقَدْ جاء فِي الشعر الصيارف. قَالَ: ويقال: صَرَفتُ الدراهم بالدنانير، وبين الدرهمين صَرْفٌ: أي فضلٌ؛ لجودة فضّة أحدهما. انتهى "لسان العرب" 9/ 190.

(قَالَ) أي أبو المتوكّل (سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ) رضي الله عنه (قَالَ لَهُ رَجُلٌ) أي قَالَ لأبي

ص: 363

المتوكّل رجل منْ القوم الذين سألوه عن الصرف (مَا) وفي "الكبرى": "أما"(بَيْنَكَ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، غَيْرُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ؟) يعني أنك لم تسمع هَذَا الْحَدِيث منْ غير أبي سعيد رضي الله عنه. ويحتمل أن يكون المراد التأكّد منْ سماعه، أي أنك سمعت هَذَا منْ أبي سعيد، وليس بينك وبينه واسطة، والأول أقرب. والله تعالى أعلم.

(قَالَ) أبو المتوكّل (لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ غَيْرُهُ، قَالَ "فَإنَّ) هكذا نسخ "المجتبى"، وفي "الكبرى": قَالَ: قَالَ الخ، وعلى الأول ففاعل "قَالَ" هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيكون منْ حذف القول قبله: والتقدير: قَالَ: قَالَ: فإن الذهب الخ"، أي قَالَ أبو سعيد: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإن (الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ) قَالَ فِي "الفتح" 5/ 122 - : ويدخل فِي الذهب جميع أصنافه، منْ مضروب، ومنقوش، وجيّد، ورديء، وصحيح، ومُكَسَّر، وحليّ، وتبر، وخالص، ومغشوش، ونقل النوويّ، تبعًا لغيره فِي ذلك الإجماع. انتهى.

(وَالْوَرِقَ بِالْوَرِقِ") هو مثل سابقه، يدخل فيه جميع أصنافه (قَالَ سُلَيْمَانُ) بن عليّ (أَوْ قَالَ:"وَالْفِضَّةَ بالْفِضَّةِ) بدل قوله: "والورق بالورق"، وهو بمعناه، كما تقدّم (وَالْبُرَّ بِالْبُرَّ، وَالشَّعِيرَ بَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرَ بالتَّمْرِ، وَالْمِلْحَ بِالْمِلْحِ، سَوَاءً بِسَوَاءِ) منصوب عَلَى الحال: أي متساويين (فَمَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ) أي أعطى الزيادة (أَوِ ازْدَادَ) أي أخذ الزيادة (فَقَدْ أَرْبَى) أي أكل الربا، قَالَ الفيّوميّ: أربى الرجل بالألف: دخل فِي الربا (وَالآخِذُ) للربا (وَالْمُعْطِي) له (فِيهِ) أي فِي حكمه، ووعيده (سَوَاءٌ) فيه تصريح بأن آكل الربا ومؤكله مستويان فِي الإثم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -44/ 4567 و47/ 4572 و4573 - وفي "الكبرى" 45/ 6158 و48/ 6162 و6163. وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 2176 و2177 (م) فِي "البيوع" 1584 (ت) فِي "البيوع" 1241 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 10623 و10678 و11037 و11088 و11102 و11191 و11303 و11362 (الموطأ) فِي "البيوع" 1324. وفوائد الْحَدِيث وبقية مسائله تقدّمت، فلا تغفل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4568 -

(أَخْبَرَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: قَالَ إِسْمَاعِيلُ:

ص: 364

حَدَّثَنَا حَكِيمُ بْنُ جَابِرٍ ح وَأَنْبَأَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَكِيمُ بْنُ جَابِرٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:"الذَّهَبُ الْكِفَّةُ بِالْكِفَّةِ"، وَلَمْ يَذْكُرْ يَعْقُوبُ:"الْكِفَّةُ بِالْكِفَّةِ"، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّ هَذَا لَا يَقُولُ شَيْئًا، قَالَ عُبَادَةُ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا أُبَالِي، أَنْ لَا أَكُونَ بِأَرْضٍ يَكُونُ بِهَا مُعَاوِيَةُ، إِنِّي أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ ذَلِكَ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير:

1 -

(حكيم بن جابر) بن طارق بن عوف الأحمسيّ، ثقة [3].

أرسل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عن أبيه، وعمر، وعثمان، وابن مسعود، وطلحة، وعبادة بن الصامت. وعنه إسماعيل بن أبي خالد، وبيان، وطارق بن عبد الرحمن. قَالَ ابن معين: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ: مات فِي آخر إمارة الحجاج. وكذا قَالَ ابن سعد، وزاد: كَانَ ثقة، قليل الْحَدِيث. وأرخه ابن زَبْر سنة (82)، وأرخه أبو يعقوب القَرّاب سنة (95)، وقيل: غير ذلك. وَقَالَ العجليّ: كوفيّ ثقة. وَقَالَ النسائيّ: ثقة. وَقَالَ البخاريّ فِي "التاريخ الكبير": قَالَ حكيم: أخبرت عن عبادة فِي الصرف. قَالَ الحافظ: قلتُ: يُعَلِّل بذلك الْحَدِيث الذي أخرجه النسائيّ له، عن عبادة بالعنعنة. انتهى. روى له المصنّف، وابن ماجه، وأبو داود فِي "المراسيل"، والترمذيّ فِي "الشمائل"، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.

و"هارون بن عبد الله": هو الحمّال البغداديّ الحافظ. و"يعقوب بن إبراهيم": هو الدَّورقيّ. و"أبو أُسامة": هو حماد بن أسامة. و"يحيى": هو ابن سعيد القطّان. و"إسماعيل": هو ابن أبي خالد البجليّ الأحمسيّ الثقة الكوفيّ.

وقوله: "الذهب الكفّة بالكفّة" هكذا نسخ "المجتبى" مختصرة عَلَى هذه الجملة فقط، ونصّ "الكبرى": "الذهب الكفّة بالكفّة، والفضّة الكفّة بالكفّة، حَتَّى حصى

(1)

، قَالَ:"الملح الكفّة بالكفّة"، فَقَالَ معاوية الخ

و"الذهب" مبتدأ، و"الكفّة" بدل منه، و"بالكفة" خبر المبتدإ، والمعنى: أن كفّة الذهب تباع بكفّة مثلها. ويحتمل النصب عَلَى أنه مفعول لفعل محذوف: أي بيعوا كفّة الذهب بكفّة الذهب.

و"الكفّة" بكسر الكاف، وتشديد الفاء: هو كفّة الميزان" قَالَ الفيّوميّ: وكفّة الميزان بالكسر، والضمُّ لغةٌ، وأما الكفّةُ لغير الميزان، فَقَالَ الأصمعيّ: كلُّ مستدير، فهو

(1)

هكذا النسخة، ولم يظهر لي معناه، ولعل فيه تصحيفًا، فالله تعالى أعلم.

ص: 365

بالكسر، نحو كفّة اللِّثَة، وهو ما انحدر منها، وكفّة الصائد، وهي حِبَالته، وكلُّ مستطيل، فهو بالضمّ، نحو كُفّة الثوب، وهي حاشيته، وكُفّة الرمل. انتهى.

وَقَالَ فِي "اللسان": قَالَ ابن سِيده: والكفّة بالكسر: كلّ شيء مستدير، كدارة الوشم، وعُود الدُّفّ، وحِبالة الصيد، والجمع كِفَفٌ، وكِفَافٌ، قَالَ: وكِفّةُ الميزان الكسر فيها أشهر، وَقَدْ حُكي فيه الفتح، وأباها بعضهم. والكُفّة: كل شيء مستطيل، ككُفّة الرمل، والثوب، والشجر، قَالَ: وكفّة كلّ شيء بالضمّ: حاشيته، وطرّته. انتهى باختصار.

وقوله: "ولم يذكر يعقوب الخ" هَذَا يقتضي أن يعقوب ذكر لفظة "الذهب" فقط، وليس كذلك، بل المراد أنه ذكر بدل لفظ الكفّة غيره، فإن الْحَدِيث مختصر منْ روايات عبادة رضي الله عنه المتقدّمة بطولها.

وقوله: "إن هَذَا لا يقول شيئا" تقدّم توجيه إنكار معاوية رضي الله عنه عَلَى عبادة رضي الله عنه فِي حديثه هَذَا، فلا تغفل.

وقوله: "يقول ذلك" زاد فِي "الكبرى": ما: نصّه: "اللفظ لهارون".

والحديث صحيح

(1)

، تفرّد به المصنّف رحمه الله تعالى بهذا السياق، أخرجه هنا -44/ 4568 - وفي "الكبرى" 45/ 6159. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌45 - (بَيْعِ الدِّينَارِ بِالدِّينَارِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الدينار": معروفٌ، والمشهور فِي الكتب أن أصله دِنّار بالتضعيف، فأُبدل حرفَ علّة للتخفيف، ولهذا يُردّ فِي الجمع إلى أصله، فيقال: دَنَانير، وبعضهم يقول: هو فِيعالٌ، وهو مردود بأنه لو كَانَ كذلك لوُجدت الياء فِي الجمع، كما ثبتت فِي دِيماس ودَيَاميس، ودِيباج ودَيَابيج، وشبهه، والدينار وزنُ إحدى

(1)

لا يقال: تقدم فِي ترجمة حكيم بن جابر أنه لم يسمعه منْ عبادة؛ لأنا تقول: يتقوى بالطرق السابقة. فتنبّه.

ص: 366

وسبعين شَعِيرة ونصفَ شعيرة تقريباً، بناءً عَلَى أن الدانِق ثماني حبّات وخمسا حبّة، وإن قيل: الدانِقُ ثماني حبّات فالدينار ثمانِ وستّون وأربعة أسباع حبّة. والدينار: هو المثقال. قاله فِي "المصباح".

وَقَالَ ابن منظور رحمه الله تعالى: الدينار فارسيّ مُعرّبٌ، وأصله دِنّارٌ بالتشديد، بدليل قولهم: دنانير، ودُنَينير، فقُلبت إحدى النونين ياء؛ لئلا يلتبس بالمصادر التي تجيء عَلَى فِعّال، كقوله تعالى:{وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} [النبأ: 28] إلا أن يكون بالهاء، فيُخرّج عَلَى أصله، مثلُ الصِّنّارة، والدِّنّامة

(1)

؛ لأنه مأمون الآن منْ الالتباس، ولذلك جُمع عَلَى دنانير، ومثله قيراط، ودِيبَاجٌ، وأصله دِبّاجٌ. قَالَ أبو منصور: دينارٌ، وقيراطٌ، ودِيباجٌ أصلها أعجميّةٌ، غير أن العرب تكلّمت بها قديمًا، فصارت عربيّةً. انتهى. "لسان العرب" 4/ 292. والله تعالى أعلم بالصواب.

4569 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي تَمِيمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ، لَا فَضْلَ بَيْنَهُمَا").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة بن سعيد) الثقفيّ البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس الإِمام الحجة الثبت المدنيّ [7] 7/ 7.

3 -

(موسى بن أبي تميم) المدنيّ، ثقة [6].

روى عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه فِي الصرف. وعنه مالك، وزُهير بن محمد العنبريّ، وسليمان بن بلال. قَالَ أبو حاتم: ثقة ليس به بأس. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". تفرّد به مسلم، والمصنّف، وله عندهما هَذَا الْحَدِيث فقط.

4 -

(سعيد بن يسار) أبو الْحُبَاب المدنيّ، ثقة متقنٌ [3] 46/ 740.

5 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات المدنيين، غير شيخه، فإنه بغلانيّ، إلا أن الظاهر أنه دخل المدينة للأخذ عن مالك وغيره. (ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه منْ

(1)

الصَّنَّارة بالكسر: الأُذن، والرجل السيئ الخُلُق. والدَّنَّامَة بالكسر وتشديد النون: القصيرة والذَّرَّةُ. قاله فِي "القاموس".

ص: 367

المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ) يجوز فِي "الدينار" الرفع والنصب، فالرفع عَلَى أنه نائب فاعل لفعل محذوف: أي يباع الدينار، أو مبتدأ عَلَى حذف مضاف، والخبر محذوف: أي بيع الدينار جائز، والنصب بفعل مقدّر: أي بيعوا الدينار (وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ، لَا فَضْلَ بَيْنَهُمَا) أي لا يجوز تفضيل أحدهما عَلَى الآخر. ولفظ مسلم: "الدينار بالدينار لا فضل بينهما، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -45/ 4569 و46/ 4570 - وفي "الكبرى" 46/ 6160 و48/ 6162. وأخرجه (م) فِي "البيوع" 1588 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 8714 (الموطأ) فِي "البيوع" 1323. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌46 - (بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الدّرهم" كمنبر، ومِحراب، وزِبْرِج: معروف، جمعه: دراهمُ ودراهيمُ. قاله فِي "القاموس".

وَقَالَ الفيّوميّ رحمه الله تعالى: الدرهم الإسلاميّ: اسم للمضروب منْ الفضّة، وهو معرَّبٌ وَزْنه فِعْلَلٌ، بكسر الفاء، وفتح اللام فِي اللغة المشهورة، وَقَدْ تُكسر هاؤه، فيقال: دِرْهِمٌ؛ حملاً عَلَى الأوزان الغالبة. والدرهم ستّة دَوَانِقَ، والدرهم نصف دينار وخُمُسُهُ. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.

ص: 368

4570 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ الْمَكِّيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرَ: "الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ، لَا فَضْلَ بَيْنَهُمَا، هَذَا عَهْدُ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم إِلَيْنَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.

و"حُميد بن قيس المكيّ": هو الأعرج، أبو صفوان القارىء، لا بأس به [6] 189/ 2995.

[تنبيه]: وقع فِي جميع نسخ "المجتبى"، وكذا فِي نسخة "الكبرى" التي عندي:"قَالَ عمر"، وهو تصحيف فاحشٌ، والصواب "ابن عمر"، كما فِي "تحفة الأشراف" 6/ 32.

وأشار فِي الهامش إلى أنه وقع فِي نسخة "الكبرى""ابن عمر" عَلَى الصواب. فتنبّه. والله تعالى أعلم.

وقوله: "عهد نبينا صلى الله عليه وسلم إلينا": أي وصيّته، يقال: عهد إليه، منْ باب علم: إذا أوصاه.

والحديث صحيح

(1)

، وَقَدْ سبق شرحه فِي الباب الماضي، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى أخرجه هنا -46/ 4570 - وفي "الكبرى" 47/ 6161. وأخرجه (أحمد) فِي "مسند العشرة" 316. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4571 -

(أَخْبَرَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَزْنًا بِوَزْنٍ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَزْنًا بِوَزْنٍ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ، أَوِ ازْدَادَ، فَقَدْ أَرْبَى").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا قبل ثلاثة أبواب، سوى "ابن أبي نعم": وهو عبد الرحمن بن أبي نُعم بضم، فسكون البجليّ، أبو الحكم الكوفيّ العابد، صدوقٌ عابد [3] 79/ 2578. وشرح الْحَدِيث واضح، وفيه مسألتان:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هَذَا أخرجه مسلم.

(1)

وَقَالَ الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: صحيح بما قبله، وهذا ظنّ منه أنه منقطع، حيث إن مجاهدا لم يلق عمر رضي الله عنه، وهذا الظنّ مبنيّ عَلَى غلط النسخ، والصواب أنه صحيح متّصل؛ لأنه عن مجاهد، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، كما أوضحناه. والله تعالى أعلم.

ص: 369

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -46/ 4571 - وفي "الكبرى" 47/ 6162. وأخرجه (م) فِي "البيوع" 4044 (ق) فِي "التجارات" 2255. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌47 - (بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الذَّهَب" التبر، ويؤنّث، واحدته بهاء، جمعه أَذهابٌ، وذُهُوبٌ، وذُهْبانٌ بالضمّ. انتهى. وَقَالَ الفيّوميّ رحمه الله تعالى: الذهب معروفٌ، ويؤنّث، فيقال: هي الذهب الحمراء، ويقال: إن التأنيث لغة الحجاز، وبها نزل القرآن، وَقَدْ يؤنّث بالهاء، فيقال: ذَهَبةٌ. وَقَالَ الأزهريّ: الذهب مذكّرٌ، ولا يجوز تأنيثه، إلا أن يُجعل جمعًا لذهبة، والجمع أَذهاب، مثلُ أسباب، وذُهْبانٌ، مثلُ رُغْفانٍ، وأذهبته بالألف: مَوَّهته بالذهب. قاله فِي "القاموس". والله تعالى أعلم بالصواب.

4572 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ، إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا شَيْئًا غَائِبًا بِنَاجِزٍ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة، والسند منْ رباعيّات المصنّف، وهو (222) منْ رباعيات الكتاب، وهو مسلسل بثقات المدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ.

وقوله: "إلا مثلاً بمثل" فِي موضع الحال: أي الذهب يباع بالذهب موزونا بموزون.

وقوله: "ولا تُشفّوا" بضم أوله، وكسر الشين المعجمة، وتشديد الفاء: أي لا تفضّلوا، وهو رباعيّ منْ أشفّ: إذا أعطى زائدًا، والشَّفّ بالكسر الزيادة، وتُطلق عَلَى النقص، فهو منْ الأضداد، يقال: شَفّ الدرهم بفتح الشين يَشِفّ بكسرها: إذا زاد، وإذا نقص، وأشفّه غيره يُشفّه .. قاله النوويّ فِي "شرح مسلم" 11/ 12.

وقوله: "ولا تبيعوا غائبًا بناجز" بنون، وجيم، وزاي: أي مؤجّلاً بحال. والمراد

ص: 370

بالغائب أعم منْ المؤجّل، كالغائب عن المجلس مطلقًا، مؤجّلاً كَانَ، أو حالاً، والناجز الحاضر.

قَالَ النوويّ: وَقَدْ أجمع العلماء عَلَى تحريم بيع الذهب بالذهب، أو بالفضّة مؤجّلاً، وكذلك الحنطة بالحنطة، أو بالشعير، وكذلك كلّ شيئين اشتركا فِي علّة الربا، أما إذا باع دينارًا بدينار كلاهما فِي الذّمّة، ثم أخرج كلّ واحد الدينار، أو بعث منْ أحضر له دينارًا منْ بيته، وتقابضا فِي المجلس، فيجوز بلا خلاف عند الشافعيّة؛ لأن الشرط أن لا يتفرّقا بلا قبض، وَقَدْ حصل، ولهذا قَالَ صلى الله عليه وسلم:"ولا تبيعوا شيئًا غائبًا منه بناجز، إلا يدًا بيد".

وأما قول القاضي عياض: اتّفق العلماء عَلَى أنه لا يجوز بيع أحدهما بالآخر إذا كَانَ أحدهما مؤجّلاً، أو غاب عن المجلس، فليس كما قَالَ، فإن الشافعيّ وأصحابه، وغيرهم متّفقون عَلَى جواز الصور التي ذكرتها. والله أعلم. انتهى "شرح مسلم" 11/ 12 - 13.

وَقَالَ ابن بطال: فيه حجة للشافعي فِي قوله: منْ كَانَ له عَلَى رجل دراهم، ولآخر عليه دنانير، لم يجز أن يقاص أحدهما الآخر بما له؛ لأنه يدخل فِي معنى بيع الذهب بالورق دينا؛ لأنه إذا لم يجز غائب بناجز، فأحرى أن لا يجوز غائب بغائب. وأما الْحَدِيث الذي أخرجه أصحاب السنن، عن ابن عمر، قَالَ: كنت أبيع الإبل بالبقيع، أبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟، فَقَالَ:"لا بأس به إذا كَانَ بسعر يومه، ولم تفترقا وبينكما شيء"، فلا يدخل فِي بيع الذهب بالورق دينا؛ لأن النهي بقبض الدراهم عن الدنانير، لم يقصد إلى التأخير فِي الصرف. انتهى.

واستدل بقوله: "مثلا بمثل" عَلَى بطلان البيع بقاعدة مُدّ عَجْوَة، وهو أن يبيع مد عجوة ودينارا، بدينارين مثلا، وأصرح منْ ذلك فِي الاستدلال عَلَى المنع، حديث فَضَالة بن عبيد عند مسلم، فِي رد البيع فِي القلادة التي فيها خَرَزٌ وذهب، حَتَّى تُفَصَّل، أخرجه مسلم، وفي رواية أبي داود:"فقلت: إنما أردت الحجارة، فَقَالَ: "لا حَتَّى يتميز بينهما". قاله فِي "الفتح" 5/ 122. وسيأتي حديث فَضالة رضي الله عنه فِي الباب التالي، وسنتكلّم عليه هناك، إن شاء الله تعالى.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ مضى البحث عنه قبل بابين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4573 -

(أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -وَهُوَ

ص: 371

ابْنُ زُرَيْعٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: بَصُرَ عَيْنِي، وَسَمِعَ أُذُنِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ النَّهْيَ عَنِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَالْوَرِقِ بِالْوَرِقِ، إِلاَّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلَا تَبِيعُوا غَائِبًا بِنَاجِزٍ، وَلَا تُشِفُّوا أَحَدَهُمَا عَلَى الآخَرِ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه إسماعيل، فإنه منْ أفراده، وهو ثقة. و"ابن عون": هو عبد الله.

وقوله: "بصُر عيني، وسمع أذني"، قَالَ ابن الأثير: البصَرُ بمعنى الإبصار، وَقَدْ تكرّر هَذَا اللفظ فِي الْحَدِيث، واختُلف فِي ضبطه، فرُوي بَصُرَ، وسَمِعَ، وبَصَّرَ، وسَمَّع أي بالتشديد- وبَصَرٌ، وسَمْعٌ عَلَى أنهما اسمان. انتهى "النهاية" 1/ 131.

وقوله: "إلا سواء بسواء، مثلاً بمثل": قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: يحتمل أن يكون الجمع بين هذه الألفاظ توكيدًا، ومبالغةً فِي الإيضاح. انتهى. "شرح مسلم" 11/ 14.

وهذا الْحَدِيث فيه قصّة لأبي سعيد الخدريّ مع ابن عمر رضي الله عنهم، وَقَدْ ساقها مسلم، منْ طريق الليث، عن نافع، ولفظه: أن ابن عمر قَالَ له رجل، منْ بني ليث: إن أبا سعيد الخدريّ، يَأْثُر هَذَا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ نافع: فذهب عبد الله، وأنا معه، والليثيّ، حَتَّى دخل عَلَى أبي سعيد الخدريّ، فَقَالَ: إن هَذَا أخبرني أنك تخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيع الورق بالورق، إلا مثلاً بمثلٍ، وعن بيع الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، فأشار أبو سعيد بإصبعه إلى عينيه وأذنيه، فَقَالَ أبصرت عيناي، وسمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا تبيعوا الورق بالورق، إلا مثلا بمثل"، الْحَدِيث، ولمسلم أيضًا منْ طريق أبي نضرة، فِي هذه القصة لابن عمر مع أبي سعيد، أن ابن عمر نهى عن ذلك، بعد أن كَانَ أفتى به لَمّا حدثه أبو سعيد بنهي النبيّ صلى الله عليه وسلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ مضى البحث عنه فيما قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4574 -

(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ بَاعَ سِقَايَةً مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ وَرِقٍ، بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهَا، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذَا، إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ).

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(زيد بن أسلم) العدويّ مولى عمر، أبو عبد الله المدنيّ، ثقة فقيه يرسل [3] 64/ 80.

ص: 372

2 -

(عطاء بن يسار) الهلاليّ، أبو محمد المدنيّ، مولى ميمونة، ثقة فاضل، صاحب مواعظ وعبادة، منْ صغار [3] 64/ 80.

3 -

(أبو الدرداء) عويمر بن زيد بن قيس الأنصاريّ، مختلف فِي اسمه، وإنما هو مشهور بكنيته، وقيل: اسمه عامر، وعُويمر لقبه، صحابيّ جليل، أول مشاهده أحد، مات فِي خلافة عثمان رضي الله عنه، وقيل: عاش بعد ذلك، تقدم فِي 48/ 847، والباقيان ترجما فِي الباب الماضي. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، كما سبق قريبًا. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: زيد، عن عطاء. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) مولى ميمونة رضي الله تعالى عنها (أَنَّ مُعَاوِيَةَ) بن أبي سفيان بن حرب رضي الله تعالى عنهما (بَاعَ سِقَايَةً) بكسر السين المهملة، وتخفيف القاف: هو الإناء الذي يُسقَى به، قاله فِي "القاموس"(مِنْ ذَهَبٍ) أي مصنوع منْ ذهب (أَوْ وَرِقٍ) ولا يلزم منْ هَذَا أنه كَانَ يشرب به، إذ يحتمل أن يكون مصنوعًا قبل النهي، وبقي عندهم، أو لعلهم يستعملونه للزينة والجمال، والله تعالى أعلم (بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهَا) هَذَا محمولٌ عَلَى أن معاوية رضي الله عنه كَانَ يرى أن الصناعة لها قسط منْ الثمن، وسيأتي تحقيق الخلاف فِي ذلك فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى (فَقَال أَبُو الدَّرْدَاءِ) عُويمر بن زيد ابن قيس الأنصاريّ، مختلف فِي اسم أبيه، وهو مشهور بكنيته، وقيل: اسمه عامر، وعُويمر لقبه، الصحابيّ الجليل رضي الله عنه أول مشاهده أحدٌ، وكان عابدًا، مات فِي آخر خلافة عثمان رضي الله عنه، وقيل: عاش بعد ذلك (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذَا، إِلَّا مِثْلاً بِمِثْلٍ) يعني أنه لا يجوز بيع الأشياء المصنوعة منْ الذهب، أو الفضة بجنسها، إلا إذا تساوت فِي الوزن، ولا قيمة للصناعة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أبي الدرداء رضي الله عنه هَذَا صحيح، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -47/ 4574 - وفي "الكبرى" 48/ 6164. وأخرجه (أحمد) فِي "مسند القبائل" 26983 (الموطأ) فِي "البيوع" 1327. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 373

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌48 - (بَيْعِ الْقِلَادَةِ فِيهَا الْخَرَزُ، وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "القِلادة" بالكسر: ما جُعل فِي العنق، يكون للإنسان، والفرس، والكلب، والبدنة التي تهُدى، ونحوها، وقلّدتُ المرأةَ، فتقلّدت هي. قَالَ ابن الأعرابيّ: قيل لأعرابيّ: ما تقول فِي نساء بني فلان؟ قَالَ: قلائد الخيل: أي هنّ كرامٌ، ولا يُقلّد منْ الخيل إلا سابقٌ كريم. قاله فِي "اللسان" 3/ 366.

و"الْخَرَز" بخاء معجمة، فراء مفتوحتين، وآخره زاي، واحدته خرزة، مثل قصبة وقصب. قَالَ فِي "اللسان": الْخَرَز بالتحريك: الذي يُنْظَمُ، الواحدة خَرَزة، وَقَالَ أيضاً: الخَرَز: فُصُوص منْ حجارة، واحدتها خَرَزَةٌ. وقيل: الْخَرَزُ: فصوص منْ جيّد الجوهر، ورديئه، منْ الحجارة، ونحوه. انتهى.

وقوله: "بالذهب" متعلّقٌ بـ "بيع"، ومعنى الترجمة: هَذَا باب فِي ذكر الْحَدِيث الدالّ عَلَى حكم بيع القِلادة المنظومة منْ الخرز، والذهب بالذهب. والله تعالى أعلم بالصواب.

4575 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي شُجَاعٍ، سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ: اشْتَرَيْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ قِلَادَةً، فِيهَا ذَهَبٌ وَخَرَزٌ، بِاثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا، فَفَصَّلْتُهَا، فَوَجَدْتُ فِيهَا أَكْثَرَ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "لَا تُبَاعُ حَتَّى تُفَصَّلَ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد المذكور قريبًا.

2 -

(الليث) بن سعد الإِمام المصريّ، ثقة ثبت حجة [7] 31/ 35.

3 -

(أبو شجاع سعيد بن يزيد) الحميريّ القِتبانيّ الإسكندرانيّ، ثقة عابد [7] 146/ 237.

4 -

(خالد بن أبي عمران) التجيبيّ، أبو عمر، قاضي إفريقية، فقيه صدوق [5] 78/ 1344.

ص: 374

5 -

(حنَش) -بفتح الحاء المهملة، والنون الخفيفة، بعدها شين معجمة- ابن عبد الله، ويقال: ابن عليّ بن عمرو بن حنظلة السَّبَئيّ -بفتح المهملة، والموحّدة، بعدها همزة- أبو رِشدِين الصنعانيّ، منْ صنعاء دمشق، نزيل إفريقية، ثقة [3].

رَوَى عن علي، وابن مسعود، ورُويفع بن ثابت، وفَضَالة بن عبيد، وأبي سعيد، وابن عباس، وكعب الأحبار، وغيرهم، وعنه ابنه الحارث، وخالد بن أبي عمران، وبكر بن سَوَادة، والْجُلاح أبو كثير، وقيس بن الحجاج، وعامر بن يحيى المعافري، وأبو مرزوق التجيبي، وغيرهم. قَالَ العجليّ، وأبو زرعة: ثقة. وَقَالَ أبو حاتم: صالح. وَقَالَ ابن المديني: حنش الذي رَوَى عن فضالة، هو حنش بن علي الصنعاني، وليس هو حنش بن المعتمر الكناني، صاحب علي، ولا حنش ابن ربيعة الذي صلى خلف علي، ولا حنش صاحب التيمي. وَقَالَ ابن يوسف: كَانَ مع علي بالكوفة، وقدم مصر، وغزا المغرب، مع رُويفع بن ثابت، توفي بإفريقية سنة مائة. وَقَالَ أبو عبد الله الحميدي: يقال: إن جامع سرقسطة منْ بنائه. وذكر أبو الوليد الوقشي أن قبره بها. ووثقه يعقوب بن سفيان، وابن حبّان. وَقَالَ الآجري، عن أبي داود: هو حنش بن علي. روى له مسلم، والأربعة، وله فِي هَذَا الكتاب حديث فضالة رضي الله عنه هَذَا فقط.

6 -

(فضالة بن عُبيد) بن نافذ بن قيس الأنصاريّ الأوسيّ، الصحابيّ المشهور، أول مشاهده أحدٌ، ثم نزل دمشق، وولي قضاءها، ومات رضي الله عنه بها سنة (58) وقيل: قبلها، تقدّمت ترجمته فِي 48/ 1284. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمصريين، غير شيخه، والظاهر أنه دخلها. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ فَضَالَةَ) -بفتح الفاء، وتخفيف الضاد المعجمة- (ابْنِ عُبَيْدٍ) -بصيغة التصغير- رضي الله تعالى عنه (قَالَ: اشْتَرَيْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ) أي يوم فتح خيبر (قِلَادَةً) بكسر القاف تقدم معناها أول الباب (فِيهَا ذَهَبٌ وَخَرَزٌ) بفتحتين تقدم معناها (بِاثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا، فَفَصَّلْتُهَا) يحتمل أن يكون بتخفيف الصاد، منْ الفصل: يقال: فصلته فصلاً، منْ باب ضرب: نحّيته، أو قطعته، فانفصل. ويحتمل أن يكون بتشديدها، منْ التفصيل: يقال: فصّلتُ الشيء تفصيلاً: جعلته فُصولاً متمايزة، قاله الفيّوميّ.

ص: 375

والمعنى هنا: أنه فرَزَ ما فيها منْ خرز وذهب، كلَّ نوع لحاله (فَوَجَدْتُ فِيهَا أَكْثَرَ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا) أي أكثر منْ الثمن الذي اشتراها به (فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) ببناء الفعل للمفعول، ويحتمل أن يكون بالبناء للفاعل، ويكون فيه التفات، إذا الظاهر أن يقول:"فذكرت الخ"، وفي رواية مسلم:"فذكرت ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم"(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَا تُبَاعُ حَتَّى تُفَصَّلَ) بالبناء للمفعول: أي لا يجوز بيع هذه القلادة إلا بعد التمييز بين الذهب والخرز؛ لكونه بيع مال ربويّ بجنسه، فيشترط فيه التماثل، ولا يتحقّق ذلك إلا بالفصل.

وفي رواية لمسلم منْ طريق عامر بن يحيى المعافري، عن حنش، أنه قَالَ: كنا مع فَضَالة بن عبيد فِي غزوة، فطارت لي ولأصحابي قلادة فيها ذهب، وورق، وجوهر، فأردت أن أشتريها، فسألت فضالة بن عبيد، فَقَالَ انزع ذهبها، فاجعله فِي كِفّة، واجعل ذهبك فِي كفة، ثم لا تأخذن إلا مثلا بمثل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"منْ كَانَ يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يأخذن إلا مثلا بمثل". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث فضالة بن عُبيد رضي الله عنه هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -48/ 4575 و4576 - وفي "الكبرى" 49/ 6165 و6166. وأخرجه (م) فِي "البيوع" 1591 (د) فِي "البيوع" 3351 و3352 (ت) فِي "البيوع" 1255 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 23421 و22442 و23448. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم بيع القلادة المشتملة عَلَى الذهب والخرز بالذهب، وهو التحريم إلا إذا فُصِّلَت، ومُيّزت، وعُلِمَ الوزنُ. (ومنها): أنه لا يجوز بيع ذهب مع غيره بذهب، حَتَّى يُفصل، فيباع الذهب بوزنه ذهبا، ويباع الآخر بما أراد، وكذا لا تباع فضة مع غيرها بفضة، وكذا الحنطة مع غيرها بحنطة، والملح مع غيره بملح، وكذا سائر الربويات، بل لابد منْ فصلها، وسواء كَانَ الذهب فِي الصورة المذكورة أولا قليلا أو كثيرا، وكذلك باقي الربويات، وهذا القول هو الراجح، وسيأتي تحقيق الخلاف فِي ذلك فِي المسألة التالية، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 376

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فيمن باع شيئا مما فيه الربا بعضه ببعض، ومعهما، أو مع أحدهما منْ غير جنسه:

قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: وهذه هي المسألة المشهورة فِي كتب الشافعيّ، وأصحابه وغيرهم، المعروفة بـ"مسألة مُدّ عجوة"، وصورتها: باع مُدّ عجوة ودرهما، بمدي عجوة، أو بدرهمين، لا يجوز؛ لهذا الْحَدِيث، وهذا منقول عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه وابنه، وجماعة منْ السلف، وهو مذهب الشافعيّ، وأحمد، وإسحق، ومحمد بن عبد الحكم المالكي.

وَقَالَ أبو حنيفة، والثوري، والحسن بن صالح: يجوز بيعه بأكثر مما فيه منْ الذهب، ولا يجوز بمثله، ولا بدونه.

وَقَالَ مالك، وأصحابه، وآخرون: يجوز بيع السيف المحلَّى بذهب وغيره، مما هو فِي معناه، مما فيه ذهب، فيجوز بيعه بالذهب، إذا كَانَ الذهب فِي المبيع تابعا لغيره، وقدّرُوه بأن يكون الثلث، فما دونه.

وَقَالَ حماد بن أبي سليمان: يجوز بيعه بالذهب مطلقا، سواء باعه بمثله منْ الذهب، أو أقل، أو أكثر، وهذا غلط، مخالف لصريح الْحَدِيث.

واحتج أصحاب القول الأول بحديث القلادة، وأجابت الحنفية بأن الذهب كَانَ فيها أكثر منْ اثني عشر دينارا، وَقَدْ اشتراها باثني عشر دينارا، قالوا: ونحن لا نجيز هَذَا، وإنما نجيز البيع إذا باعها، بذهب أكثر مما فيها، فيكون ما زاد منْ الذهب المنفرد، فِي مقابلة الخرز ونحوه، مما هو مع الذهب المبيع، فيصير كعقدين، وأجاب الطحاوي، بأنه إنما نُهِي عنه؛ لأنه كَانَ فِي بيع الغنائم؛ لئلا يُغبن المسلمون فِي بيعها، قَالَ الشافعيّة: وهذان الجوابان ضعيفان، لاسيما جواب الطحاوي، فإنه دعوى مجردة، قالوا: ودليل صحة قولنا، وفساد التأويلين، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"لا يباع حَتَّى يفصل"، وهذا صريح فِي اشتراط فصل أحدهما عن الآخر فِي البيع، وأنه لا فرق بين أن يكون الذهب المبيع قليلا، أو كثيرا، وأنه لا فرق بين بيع الغنائم وغيرها. انتهى "شرح مسلم" 11/ 20 - 21. ببعض تصرّف.

وَقَالَ الموفق رحمه الله تعالى: فِي "المغني": وإن باع شيئا فيه الربا، بعضه ببعض، ومعهما أو مع أحدهما منْ غير جنسه، كمدّ ودرهم، بمد ودرهم، أو بمدين أو بدرهمين، أو باع شيئا مُحَلّى بجنس حليته، فهذه المسألة تُسمّى "مسألة مُدّ عَجْوَة"، والمذهب أنه لا يجوز ذلك، نص عَلَى ذلك أحمد فِي مواضع كثيرة، وذكره قدماء الأصحاب، قَالَ ابن أبي موسى فِي السيف الْمُحَلّى، والمِنطقة، والمراكب المحلاة

ص: 377

بجنس ما عليها، لا يجوز قولا واحدا، وروي هَذَا عن سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وشُريح، وابن سيرين، وبه قَالَ الشافعيّ، وإسحاق، وأبو ثور. وعن أحمد رواية أخرى، تدل عَلَى أنه يجوز، بشرط أن يكون المفرد أكثر منْ الذي معه غيره، أو يكون مع كل واحد منهما منْ غير جنسه، فإن مُهَنّا نقل عن أحمد، فِي أن بيع الزُّبْد باللبن يجوز، إذا كَانَ الزبد المنفرد أكثر منْ الزبد، الذي فِي اللبن. ورَوَى حرب، قَالَ: قلت لأحمد: دفعتُ دينارا كوفيا ودرهما، وأخذت دينارا شاميا، وزنهما سواء، لكن الكوفيّ أوضع؟، قَالَ: لا يجوز إلا أن ينقص الدينار، فيعطيه بحسابه فضة، وكذلك روى عنه محمد بن أبي حرب الجرجرائي، وروى الميموني أنه سأله: لا يشتري السيف، والمنطقة حَتَّى يفصلها؟ فَقَالَ: لا يشتريها حَتَّى يفصلها، إلا أن هَذَا أهون منْ ذلك؛ لأنه قد يشتري أحد النوعين بالآخر يفصله، وفيه غير النوع الذي يشتري به، فإذا كَانَ منْ فضل الثمن، إلا أن مَن ذهب إلى ظاهر القلادة لا يشتريه حَتَّى يفصله، قيل له: فما تقول أنت؟ قَالَ: هَذَا موضع نظر. وَقَالَ أبو داود: سمعت أحمد، سئل عن الدراهم الْمُسَيَّبِيّة

(1)

بعضها صفر، وبعضها فضة بالدراهم؟ قَالَ: لا أقول فيه شيئا. قَالَ أبو بكر: روى هذه المسألة عن أبي عبد الله خمسة عشرة نفسا، كلهم اتفقوا عَلَى أنه لا يجوز حَتَّى يفصل، إلا الميموني، ونقل مهنا كلاما آخر.

وَقَالَ حماد بن أبي سليمان، وأبو حنيفة: يجوز، هَذَا كله إذا كَانَ المفرد أكثر منْ الذي معه غيره، أو كَانَ مع كل واحد منهما منْ غير جنسه. وَقَالَ الحسن: لا بأس ببيع السيف المحلى بالفضة بالدراهم، وبه قَالَ الشعبي، والنخعي.

واحتج منْ أجاز ذلك، بأن العقد إذا أمكن حمله عَلَى الصحة، لم يحمل عَلَى الفساد؛ لأنه لو اشترى لحما منْ قَصّاب جاز، مع احتمال كونه ميتة، ولكن وجب حمله عَلَى أنه مُذَكّى؛ تصحيحا للعقد، ولو اشترى منْ إنسان شيئا جاز، مع احتمال كونه غير ملكه، ولا إذن له فِي بيعه؛ تصحيحا للعقد أيضا، وَقَدْ أمكن التصحيح هاهنا بجعل الجنس فِي مقابلة غير الجنس، أو جعل غير الجنس فِي مقابلة الزائد عَلَى المثل.

واحتجّ الأولون بحديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه المذكور فِي الباب. ولأن العقد إذا جمع عوضين مختلفي الجنس، وجب أن ينقسم أحدهما عَلَى الآخر عَلَى قدر قيمة الآخر فِي نفسه، فإذا اختلفت القيمة اختلف ما يأخذه منْ العوض، بيانه أنه إذا اشترى عبدين قيمة أحدهما مثل نصف قيمة الآخر بعشرة، كَانَ ثمن أحدهما ثلثي العشرة والآخر

(1)

والمسيّبيّة: درهم منْ ضرب الإِسلام اهـ معجم البلدان 1/ 519.

ص: 378

ثلثها، فلو رد أحدهما بعيب رده بقسطه منْ الثمن، ولذلك إذا اشترى شِقْصًا وسيفا بثمن أخذ الشفيع الشقص بقسطه منْ الثمن، فإذا فعلنا هَذَا فيمن باع درهما ومُدًا، قيمته درهمان بمدين قيمتهما ثلاثة، حصل الدرهم فِي مقابلة ثلثي مُدّ، والمد الذي مع الدرهم فِي مقابلة مد وثلث، فهذا إذا تفاوتت القيم، ومع التساوي يُجهَل ذلك؛ لأن التقويم ظنّ وتخمينٌ، والجهل بالتساوي كالعلم بعدمه، فِي باب الربا، ولذلك لم يجز بيع صبرة بصبرة بالظن والخرص.

وقولهم: يجب تصحيح العقد، ليس كذلك، بل يُحمل عَلَى ما يقتضيه منْ صحة وفساد، ولذلك لو باع بثمن، وأطلق وفي البلاد نقود بطل، ولم يُحمل عَلَى نقد أقرب البلاد إليه، أما إذا اشترى منْ إنسان شيئا فإنه يصح؛ لأن الظاهر أنه ملكه؛ لأن اليد دليل الملك، وإذا باع لحما، فالظاهر أنه مُذَكّى؛ لأن المسلم فِي الظاهر لا يبيع الميتة. انتهى "المغني" 6/ 92 - 95.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر منْ الحجج أن الأرجح فِي "مسألة مدّ عجوة" هو المذهب الأول، وهو عدم الجواز؛ لما ذكر منْ الحجج، وأقواها حديث فضالة رضي الله عنه المذكور فِي الباب، وتأويله بأنه للجهالة، غير صحيح؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نصّ عَلَى عدم الجواز حَتَّى تفصّل، ثم يقابل المثل بالمثل، لا بأزيد منه، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"الذهب بالذهب وزنًا بوزن". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4576 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ: أَصَبْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ، قِلَادَةً فِيهَا ذَهَبٌ وَخَرَزٌ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَهَا، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "افْصِلْ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ، ثُمَّ بِعْهَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمرو بن منصور": هو أبو سعيد النسائيّ، ثقة ثبت [11] 108/ 147 منْ أفراد المصنّف. و"محمد بن محبوب" البُنانيّ بضمّ الموحّدة، وتخفيف النون، أبو عبد الله البصريّ، ثقة [10].

وفي "تهذيب التهذيب" 3/ 688 - 689 - : روى عن الحمادين، وحفص بن غياث، وعبد الواحد بن زياد، وهشيم، وأبي عوانة، وغيرهم. وعنه البخاريّ، وأبو داود، وروى النسائيّ، عن عمرو بن منصور عنه، وأحمد بن يوسف السلمي، ومحمد بن يحيى الذهلي، ويعقوب بن سفيان، وعيسى بن شاذان، وآخرون.

قَالَ أبو داود: سمعت ابن معين يثني عليه، ويقول: هو كَيّس صادق كثير الْحَدِيث،

ص: 379

قَالَ يحيى: وكان أكيس فِي الْحَدِيث منْ مُسَدَّد، وكان مسدد خيرا منه. وَقَالَ الآجري: قلت لأبي داود: كَانَ يرى شيئا منْ القدر؟ فَقَالَ ضعيف القول فيه. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". قَالَ البخاريّ: مات قريبا منْ سنة ثلاث وعشرين ومائتين، وَقَالَ غيره: مات سنة اثنتين، وجزم بثلاث ابنُ أبي عاصم، وابنُ قانع، وغيرهما. تفرّد به البخاريّ، قيل. روى له سبعة أحاديث، والمصنّف، وابن ماجه، وله عند المصنّف هَذَا الْحَدِيث فقط.

والحديث أخرجه مسلم، كما سبق بيانه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌49 - (بَيْعِ الْفِضَّةِ بِالذَّهَبِ نَسِيئَةً)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "النَّسِيئة": بفتح النون، وكسر السين المهملة-: فَعِيلة، منْ النسأ، وهو التأخير، قَالَ الفيّوميّ: والنسيء مهموزٌ عَلَى فَعِيل، ويجوز الإدغام؛ لأنه زائد، وهو التأخير، والنسيئة عَلَى فَعِيلة مثله، وهما اسمان، منْ نسأ الله أجله، منْ باب نَفَعَ، وأنسأه بالألف: إذا أخّره، ويتعدّى بالحرف أيضًا، فيقال: نَسَأَ اللهُ فِي أجله، وأنسأ فيه، ونسأته البيع، وأنسأته فيه أيضًا، وأنسأته الدينَ: أخّرته. انتهى.

وفي "اللسان": نَسَأَ الشيءَ ينسؤه نَسْأً، وأنسأه: أخّره، فَعَلَ، وأفعلَ بمعنًى، والاسم النسيئة، والنسيء، ونسأ الله فِي أجله، وأنسأ أجله: أخّره. قَالَ: والنَّسْءُ: التأخير يكون فِي العُمْرِ والدَّيْنِ. قَالَ: ونَسَأَ الشيءَ: باعه بتأخير، والاسم النسيئة، تقول: نسأته البيع، وأنسأته، وبعته بنُسْأَةٍ، وبِعته بكُلأَةٍ، وبعته بنسيئة: أي بتأخير. انتهى.

[تنبيه]: قَالَ فِي "الفتح" 5/ 124 - 125: البيع كلّه إما بالنقد، أو بالعرْضِ، حالاً، أو مؤجّلاً، فهي أربعة أقسام: فبيع النقد إما بمثله، وهو المراطلة، أو بنقد غيره، وهو الصرف، وبيعُ الْعَرْضِ بنقد يُسمّى النقد ثمنًا، والعرضُ عِوَضًا، وبيعُ العرض بالعرض يُسمّى مقايضةً، والحلول فِي جميع ذلك جائزٌ، وأما التأجيل، فإن كَانَ النقد بالنقد مؤخّرًا، فلا يجوز، وإن كَانَ العرض جاز، وإن كَانَ العرض مؤخّرًا، فهو السلم، وإن كانا مؤخّرين، فهو بيع الدين بالدين، وليس بجائز، إلا فِي الحوالة عند منْ يقول: إنها

ص: 380

بيع. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.

4577 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ، قَالَ: بَاعَ شَرِيكٌ لِي، وَرِقًا بِنَسِيئَةٍ، فَجَاءَنِي، فَأَخْبَرَنِي، فَقُلْتُ: هَذَا لَا يَصْلُحُ، فَقَالَ: قَدْ وَاللَّهِ بِعْتُهُ فِي السُّوقِ، وَمَا عَابَهُ عَلَيَّ أَحَدٌ، فَأَتَيْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَنَحْنُ نَبِيعُ هَذَا الْبَيْعَ، فَقَالَ: "مَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ، فَلَا بَأْسَ، وَمَا كَانَ نَسِيئَةً، فَهُوَ رِبًا"، ثُمَّ قَالَ لِي: "ائْتِ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، فَأَتَيْتُهُ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ).

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن منصور) الجوّاز المكيّ، ثقة [10] 20/ 21.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإِمام الحجة الثبت المكيّ [8] 1/ 1.

3 -

(عمرو) بن دينار الأثرم الْجُمَحيّ المكيّ، ثقة ثبت [4] 112/ 154.

4 -

(أبو المنهال) -بكسر الميم- عبد الرحمن بن مُطعم البُنَانيّ بضم الباء، ونونين، الأولى خفيفة- البصريّ، نزيل مكة، ثقة [3].

قَالَ أبو زرعة: مكيّ ثقة. ووثقه ابن معين، والدارقطنيّ، والعجليّ، وأبو حاتم. وَقَالَ ابن سعد: كَانَ ثقة قليل الْحَدِيث. وَقَالَ البخاريّ فِي "تاريخه": أثنى عليه ابن عيية. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". روى له الجماعة، أخرج له المصنّف فِي سبعة مواضع: فِي هَذَا الباب ثلاث مرّات، وفي 63/ 4618 حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة" الْحَدِيث، و88/ 4663 حديث إياس بن عمر رضي الله عنه فِي النهي عن بيع الماء، وفي 89/ 4664 و4665 حديثه أيضًا فِي النهي عن بيع فضل الماء.

[تنبيه]: أبو المنهال المذكور فِي هَذَا الإسناد، غير أبي المنهال، صاحب أبي برزة الأسلميّ رضي الله عنه المذكور فِي "كتاب المواقيت" 2/ 495 "أول وقت الظهر"، فاسم هَذَا عبد الرحمن بن مطعم، واسم صاحب أبي برزة سيّار بن سلَامة. قاله فِي "الفتح" 5/ 16 "كتاب البيوع" رقم 2061.

5 -

(البراء بن عازب) بن الحارث بن عديّ الأنصاريّ الأوسيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ المدنيّ، نزل الكوفة، مات رضي الله عنه سنة (72) وتقدم فِي 86/ 105. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل ثقات المكيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: عمرو، عن أبي المنهال. والله تعالى أعلم.

ص: 381

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ) عبد الرحمن بن مطعِم، أنه (قالَ: بَاعَ) وفي رواية للبخاريّ: "قَالَ: كنت أتّجر فِي الصرف، فسألت زيد بن أرقم رضي الله عنه، فَقَالَ: قَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم"(شَرِيكٌ لِي) قَالَ الحافظ: لم أقف عَلَى اسمه (وَرِقًا بِنَسِيئَةٍ) أي بتأخير، ولفظ البخاريّ فِي "المناقب":"باع شريك لي دراهم فِي السوق نسيئة"(فَجَاءَنِي، فَأَخْبَرَنِي، فَقُلْتُ: هَذَا لَا يَصْلُحُ) وفي رواية للبخاريّ: "فقلت: سبحان الله، أيصلح هَذَا؟ "(فَقَالَ: قَدْ وَاللهِ بِعْتُهُ فِي السُّوقِ) وفي رواية البخاريّ: "فَقَالَ: سبحان الله والله الخ"(وَمَا عَابَهُ عَلَيَّ أَحَدٌ، فَأَتَيْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ) رضي الله تعالى عنهما (فَسَأَلْتُهُ) أي عن حكم البيع الذي باعه شريكه (فَقَالَ) زيد رضي الله عنه (قَدِمَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَنَحْنُ نَبِيعُ هَذَا الْبَيْعَ) أي بيع الدرهم بالدرهم نسيئة (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ) أي مقابضةً (فَلَا بَأْسَ) أي فلا حرج، ولا إثم فيه (وَمَا كَانَ نسِيئَةً) أي مؤخّرًا (فَهُوَ رِبًا) فيه إثبات ربا النسيئة، وهو محلّ إجماع (ثُمَّ قَالَ لِي: ائْتِ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ) رضي الله عنه، زاد فِي الرواية التالية:"فإنه خيرٌ منّي، وأعلم"(فَأَتَيْتُهُ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ) وفي الرواية التالية: "فسألت زيدًا، فَقَالَ: سل البراء، فإنه خيرٌ منّي، وأعلم، فقالا جميعًا: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الورق بالذهب دينًا". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -49/ 4577 و4578 و4579 - وفي "الكبرى" 50/ 6167 و6168 و6169. وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 2061 و2181 و"الشركة" 2498 و"المناقب" 3940 (م) فِي "البيوع" 1589 (أحمد) فِي "مسند الكوفيين" 18788 و18820 و18830. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم بيع الفضّة بالذهب نَسِيئةً، وهو التحريم. (ومنها): أن فيه ما كَانَ عليه الصحابة رضي الله عنهم منْ التواضع، وإنصاف بعضهم بعضًا، ومعرفة أحدهم حقّ الآخر. (ومنها): استظهار العالم فِي الفتيا

ص: 382

بنظيره فِي العلم. (ومنها): أن فيه جواز بيع الربويّات بعضها ببعض إذا كَانَ يدًا بيد. (ومنها): ما قيل: إنه يُستدلّ به عَلَى جواز تفريق الصفقة، فيصحّ الصحيح منها، ويبطل ما لا يصحّ. وفيه نظر؛ لاحتمال أن يكون أشار إلى عقدين مختلفين. قاله فِي "الفتح" 5/ 432 "كتاب الشركة". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي اشتراط التقابض فِي الصرف قبل التفرّق:

قَالَ فِي "المغني" 6/ 112 - 113: قَالَ ابن المنذر رحمه الله تعالى: أجمع كل منْ نحفظ عنه منْ أهل العلم، عَلَى أن المتصارفين إذا افترقا، قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد، والأصل فيه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء"، وقوله عليه السلام:"بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد"، ونهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دَينًا، ونهى أن يباع غائب منها بناجز"، وكلها أحاديث صحاح، ويجزىء القبض فِي المجلس وإن طال، ولو تماشيا مصطحبين إلى منزل أحدهما، أو إلى الصرّاف فتقابضا عنده جاز، وبهذا قَالَ الشافعيّ، وَقَالَ مالك: لا خير فِي ذلك؛ لأنهما فارقا مجلسهما.

والأصحّ أنهما لم يفترقا قبل التقابض، فأشبه ما لو كانا فِي سفينة، تسير بهما، أو راكبين عَلَى دابة واحدة تمشي بهما، وَقَدْ دل عَلَى ذلك حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه فِي قوله للذين مشيا إليه منْ جانب العسكر: وما أراكما افترقتما. وإن تفرقا قبل التقابض بطل الصرف؛ لفوات شرطه، وإن قبض البعض، ثم افترقا بطل فيما لم يقبض، وفيما يقابله منْ العوض، وهل يصح فِي المقبوض عَلَى وجهين، بناء عَلَى تفريق الصفقة، ولو وكل أحدهما وكيلا فِي القبض، فقبض الوكيل قبل تفرقهما جاز، وقام قبض وكيله مقام قبضه، سواء فارق الوكيل المجلس قبل القبض، أو لم يفارقه، وإن افترقا قبل قبض الوكيل بطل؛ لأن القبض فِي المجلس شرط، وَقَدْ فات، وإن تخايرا قبل القبض فِي المجلس، لم يبطل العقد بذلك؛ لأنهما لم يفترقا قبل القبض، ويحتمل أن يبطل، إذا قلنا بلزوم العقد، وهو مذهب الشافعيّ؛ لأن العقد لم يبق فيه خيار قبل القبض، أشبه ما لو افترقا، والصحيح الأول؛ فإن الشرط التقابض فِي المجلس، وَقَدْ وُجد واشتراط التقابض قبل اللزوم، تحكم بغير دليل، ثم يبطل بما إذا تخايرا قبل الصرف، ثم اصطرفا، فإن الصرف يقع لازما صحيحا قبل القبض، ثم يشترط القبض فِي المجلس. انتهى ما فِي "المغني"، وهو بحث نفيس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب،

ص: 383

وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4578 -

(أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَعَامِرُ بْنُ مُصْعَبٍ، أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا الْمِنْهَالِ، يَقُولُ: سَأَلْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، فَقَالَا: كُنَّا تَاجِرَيْنِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلْنَا نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الصَّرْفِ؟ فَقَالَ: "إِنْ كَانَ يَدًا بِيَدٍ، فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ نَسِيئَةً فَلَا يَصْلُحُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "إبراهيم بن الحسن": هو المصّيصيّ الثقة. و"حجاج": هو ابن محمد الأعور. و"عامر بن مصعب"، ويقال: مصعب بن عامر، وَقَالَ الدارقطنيّ: عامر بن مصعب ليس بالقويّ. وَقَدْ وثّقه ابن حبّان عَلَى عادته [3].

تفرّد به البخاريّ، والمصنّف، أخرجا له هَذَا الْحَدِيث فقط، مقرونًا بعمرو بن دينار.

وقوله: "عن الصرف": الصرف: بيع الدراهم بالذهب، أو عكسه، وسمّي به لصرفه عن مقتضى البِياعات، منْ جواز التفاضل فيه. وقيل: منْ الصريف، وهو تصويتهما فِي الميزان. قاله فِي "الفتح" 5/ 125.

وقوله: "فلا يصلح": يقال: صَلَحَ الشيءُ صُلُوحًا، منْ باب قعد، وصلاحًا أيضًا، وصَلُحَ بالضمّ لغةٌ، وهو خلاف فَسَدَ، وصَلَحَ يَصْلَحُ بفتحتين لغةٌ ثالثة، فهو صالح.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4579 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حَبِيبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْمِنْهَالِ، قَالَ: سَأَلْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، عَنِ الصَّرْفِ؟ فَقَالَ: سَلْ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ مِنِّي وَأَعْلَمُ، فَسَأَلْتُ زَيْدًا؟ فَقَالَ: سَلِ الْبَرَاءَ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ مِنِّي وَأَعْلَمُ، فَقَالَا جَمِيعًا: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الْوَرِقِ بِالذَّهَبِ دَيْنًا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أحمد بن عبد الله بن الحكم": هو المعروف بابن الكرديّ، أبو الحسين البصريّ، ثقة [10] 39/ 583. و"محمد": هو ابن جعفر، غندر. و"حبيب": هو ابن أبي ثابت البصريّ، والسند مسلسل بالبصريين، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ. والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ مضى شرحه وبيان مسائله قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

قَالَ الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير، محمد ابن الشيخ عليّ بن آدم بن موسى

ص: 384

الإِتْيُوبيّ الولّويّ، نزيل مكة المكرّمة، عفا الله تعالى عنه وعن والديه ومشايخه آمين:

قد انتهيت منْ كتابة الجزء الرابع والثلاثين منْ شرح سنن الإِمام الحافظ الحجة أبي عبد الرحمن النسائيّ رحمه الله تعالى، المسمّى "ذخيرةَ العُقْبَى فِي شرح المجتبى"، أو "غاية المنى فِي شرح المجتنى".

وذلك بحيّ الزهراء، مخطّط الأمير طلال، فِي مكة المكرمة زادها الله تعالى تشريفًا وتعظيمًا، وجعلني منْ خيار أهلها حيًّا وميتًا، وأَعْظِمْ به تكريمًا.

وأخر دعوانا {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} .

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

"اللَّهم صلّ عَلَى محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت عَلَى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللَّهم بارك عَلَى محمد، وعلى آل محمد، كما باركت عَلَى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام عَلَى النبيّ، ورحمة الله، وبركاته".

ويليه -إن شاء الله تعالى- الجزء الخامس والثلاثون مفتتحًا بالباب 50 - "بيعُ الفضّة بالذهب، وبيع الذهب بالفضّة" الْحَدِيث رقم 4580.

"سبحانك اللهمّ، وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".

***

ص: 385