الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرح
سنن النسائي
المسَمَّى
ذخيرة العقبى في شرح المجتبى
لجامعة الفقير إلى مولاه الغني القدير
محمد ابن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى الأتيوبي الوَلَّوِي
المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة
عفا الله عنه وعن والديه آمين
الجُزْءُ الخامس والثلاثون
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
1424 هـ - 2003 م
دَار آل بروم للنشر والتوزيع
المملكة العربية السعودية - مكة المكرمة - المكتب الرئيسي التنعيم
صَ بُ: 4145 - (تلفاكس 5211576 - جوال 055541026)
شرح
سنن النسائيّ
بسم الله الرحمن الرحيم
50 - (بَيْعِ الْفِضَّةِ بِالذَّهَبِ، وَبَيْعِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ)
4580 -
(وَفِيمَا قَرَأَ عَلَيْنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ بَيْعِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، إِلاَّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَبْتَاعَ الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ، كَيْفَ شِئْنَا، وَالْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ كَيْفَ شِئْنَا").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(أحمد بن منيع) أبو جعفر البغويّ، نزيل بغداد الثقة الحافظ [10] تقدم فِي 80/ 1011.
[تنبيه]: قوله: "وفيما قرأ علينا أحمد بن منيع": وقع فِي مُعظم نسخ "المجتبى"، والكبرى" قرىء بالبناء للمجهول، وعليه فالجارّ والمجرور خبر مقدّم، وقوله: "أحمد ابن منيع قَالَ الخ" مبتدأ مؤخّرٌ محكيٌّ لقصد لفظه، ويكون القارىء مجهولاً، وأن المصنّف لم يسمعه منْ أحمد بن منيع، وأشار فِي هامش "الهنديّة" إلى أن فِي بعض النسخ بلفظ "قرأ" مبنيّا للفاعل، وعليه يكون قوله: "أحمد بن منيع" فاعلاً، ويكون المصنّف سمع قراءته.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه النسخة عندي هي الصحيحة؛ لأن أحمد بن منيع منْ شيوخه الذين روى عنهم بلا واسطة، فقد روى عنه فِي خمسة مواضع، وهذا آخرها، فروى عنه:
1 -
فِي "كتاب الصلاة" 32/ 562 حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما فِي النهي عن الصلاة بعد الصبح. 2 - وفيه أيضًا 80/ 1011 حديث ابن عبّاس أيضًا فِي قوله عز وجل: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} الآية. 3 - وفي "كتاب الصيام" 76/ 2388 حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله تعالى عنهما فِي أفضل الصيام. 4 - وفي "كتاب الصيد" 18/ 4300 حديث عديّ بن حاتم رضي الله عنه فِي السؤال عن الصيد. وفي كلها يقول: أخبرنا أحمد منيع، إلا فِي "الصيام"، فَقَالَ: فيه: "وفيما قرأ علينا أحمد بن منيع الخ"، فالظاهر أن ما هنا مثله، فيكون المصنّف رحمه الله تعالى سمع منه قراءته. والله تعالى أعلم.
2 -
(عبّاد بن العوّام) بن عمر الكلابيّ مولاهم، أبو سهل الواسطيّ، ثقة [8] 2/ 3907.
3 -
(يحيى بن أبي إسحاق) الحضرميّ مولاهم البصريّ النحويّ، صدوقٌ ربما أخطأ
[5]
1/ 1438.
4 -
(عبد الرحمن بن أبي بكرة) نُفيع بن الحارث الثقفيّ البصريّ، أول مولود فِي الإِسلام بالبصرة، ثقة [2] 14/ 4391.
5 -
(أبوه) نُفيع بن الحارث بن كَلَدَة بن عمرو الثقفيّ الصحابيّ المشهور بكنيته، وقيل: اسمه مسروح -بمهملات- أسلم بالطائف، ثم نزل البصرة، ومات بها سنة (51) أو (52) وتقدم فِي 41/ 836. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فبغداديّ، وعباد، فواسطيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وفيه أبو بكرة ممن اشتهر بهذه الكنية، وهي لقب بصورة الكنية، لقّب بها لكونه نزل منْ حصن الطائف ببكرة البئر، فأسلم، وكنيته أبو عبد الرحمن. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبي بكرة) نُفيع بن الحارث رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ:"نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ بَيْعِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، إِلاَّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ) أي إلا متماثلين فِي الوزن (وَأَمَرَنَا أَنْ نَبْتَاعَ الذَّهَبَ بالْفِضَّةِ، كَيْفَ شِئْنَا) أي منْ حيث الكمّية، لا منْ حيث تأخير التقابض، فإنه منْ شرطه؛ لما فِي الرواية التالية بلفظ: "إلا عينًا بعين، سواء بسواء"، والعين خلاف الدين، قَالَ فِي "التهذيب": العين: النقد، يقال: اشتريت بالدين، أو بالعين. ذكره الفيّوميّ. وزاد فِي رواية مسلم فِي آخره: "قَالَ: فسأله رجلٌ، فَقَالَ: يدًا بيد؟، فَقَالَ: هكذا سمعت"، وأخرج منْ طريق يحيى بن أبي كثير، عن يحيى بن أبي إسحاق، ولم يسق لفظه، وساقه أبو عوانة فِي "مستخرجه"، فَقَالَ فِي آخره: "والفضّة بالذهب، كيف شئتم يدًا بيد"، فدلّ عَلَى أن التقابض فِي المجلس شرط، قَالَ فِي "الفتح" 5/ 125 - : واشتراط القبض فِي الصرف متّفقٌ عليه، وإنما وقع الاختلاف فِي التفاضل بين الجنس الواحد انتهى (وَالْفِضَّةَ بِالذَّهَب كَيْفَ شِئْنَا) أي فِي الكمّ، لا فِي التقابض، كما بيّنّاه آنفًا. والله تعالى أعلم بالصَواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي بكرة رضي الله عنه هَذَا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -50/ 4580 و4581 - وفي "الكبرى" 51/ 6170 و6171. وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 2175 و2182 (م) فِي "البيوع" 1590 (أحمد) فِي "مسند البصريين" 19882. والله تعالي أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم بيع الفضّة بالذهب، وبالعكس، وهو الجواز وإن تفاضلا، لكن بشرط التقابض فِي المجلس. (ومنها): وجوب التساوي فِي بيع الفضّة بالفضّة، والذهب بالذهب. (ومنها): جواز بيع الربويّات بعضها ببعض، إذا كَانَ يدًا بيد، وأصرح منه حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عند مسلم بلفظ:"فإذا اختلفت الأصناف، فبيعوا كيف شئتم". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4581 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ الْحَرَّانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلاَّمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: "نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ نَبِيعَ الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ، إِلاَّ عَيْنًا بِعَيْنٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَلَا نَبِيعَ الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، إِلاَّ عَيْنًا بِعَيْنٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ"، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَبَايَعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ، كَيْفَ شِئْتُمْ، وَالْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ كَيْفَ شِئْتُمْ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن يحيى بن محمد بن كثير": هو الكلبيّ الحرّانيّ، الملقّب لؤلؤ، ثقة [11] 4/ 403 منْ أفراد المصنّف. و"أبو توبة": هو الربيع بن نافع الحلبيّ، نزيل طَرَسُوس، ثقة حجة عابد [10] 2/ 3909. و"معاوية بن سلَّام" بتشديد اللام: هو الدمشقيّ الثقة [7] 13/ 1479.
[تنبيه]: ظاهر هَذَا الإسناد أنه ليس بين يحيى بن أبي كثير وبين عبد الرحمن بن أبي بكرة، واسطة، ولكن قَالَ فِي "الكبرى" بعد إيراد هذه الرواية: ما نصّه: قَالَ أبو عبد الرحمن: خبر أبي توبة، أدخل بين يحيى بن أبي كثير، وبين عبد الرحمن بن أبي بكرة يحيى بنَ أبي إسحاق" انتهى. وهذا يدلّ عَلَى أن يحيى بن أبي كثير لم يسمعه منْ عبد الرحمن، وإنما رواه عنه بواسطة يحيى بن أبي إسحاق، وهذا هو الذي فِي "صحيح مسلم"، فقد رواه عن إسحاق بن منصور، عن يحيى بن صالح، عن معاوية بن سلّام، عن يحيى بن أبي كثير، عن يحيى بن إسحاق: أن عبد الرحمن بن أبي بكرة أخبره -الْحَدِيث.
فكأن المصنّف رحمه الله تعالى أشار بكلامه السابق أن يحيى بن أبي كثير دلّسه فِي هذه الرواية، وهو معروف بالتدليس، لكن الْحَدِيث صحيح، لثبوته منْ الطريق السابقة، ولأن الواسطة هنا معروف، فلا يضرّ تدليسه، فتبصّر. والله تعالى أعلم.
وقوله: "عينًا بعين": معناه يدًا بيد، كما سبق قريبًا. والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4582 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا رِبًا إِلاَّ فِي النَّسِيئَةِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا.
و"سفيان": هو ابن عُيينة. و"عُبيد الله بن أبي يزيد": هو المكيّ، مولى آل قارظ بن شيبة، ثقة كثير الْحَدِيث [4] 70/ 2370.
والسند فِي حكم رباعيّات المصنّف رحمه الله تعالى، فإن ابن عبّاس، وأسامة رضي الله عنهم صحابيّان، فهما فِي درجة واحد، فكأنهما راو واحد. وشرح الْحَدِيث سيأتي فِي الْحَدِيث التالي، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4583 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، يَقُولُ: قُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ، أَرَأَيْتَ هَذَا الَّذِي تَقُولُ، أَشَيْئًا وَجَدْتَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل، أَوْ شَيْئًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: مَا وَجَدْتُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل، وَلَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنْ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَخْبَرَنِي، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد: خمسة، وَقَدْ تقدمت تراجمهم قريبًا، وكلهم منْ رجال الصحيح، و"سفيان": هو ابن عيينة. و"عمرو": هو ابن دينار. و"أبو صالح": هو ذكوان السمّان. والسند مسلسل ببغلانيّ، فمكيّينِ، فمدنيَّيْن. وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان السمّان والزيّات، أنه (سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ) سعد بن مالك ابن سِنَان الصَحابيّ المشهور ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما (يَقُولُ: قُلْتُ
لِابْنِ عَبَّاسِ) وفي رواية البخاريّ، منْ طريق ابن جريج، عن عمرو بن دينار أن أبا صالح أخبره أنه سمع أبا سعيد الخدريّ رضي الله عنه يقول:"الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم"، زاد فِي رواية مسلم:"مثلاً بمثل، منْ زاد، أو ازداد، فقد أربى"، فقلت له: فإن ابن عبّاس لا يقوله، فَقَالَ أبو سعيد: سألته، فقلت: سمعته منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو وجدته فِي كتاب الله؟ الْحَدِيث.
(أَرَأَيْتَ) أي أخبرني (هَذَا الَّذِي تَقُولُ) بحذف ضمير النصب، وهو جائز، لكونه فضلة، كما قَالَ ابن مالك فِي خلاصته:
وَحَذْفَ فَضْلَةِ أَجِزْ إِنْ لَمْ يَضِرْ
…
كَحَذْفِ مَا سِيقَ جَوَابًا أوْ حُصِرْ
أي تقوله، والذي يقوله: هو أنه لا ربا فِي الفضل فإما كَانَ يدًا بيد، وهكذا ابن عمر رضي الله عنهم يقول، فقد أخرج مسلم فِي "صحيحه" ج: 3 ص: 1217 منْ طريق أبي نضرة، قَالَ: سألت ابن عمر وابن عباس، عن الصرف؟ فلم يريا به بأسا، فإني لقاعد عند أبي سعيد الخدريّ، فسألته عن الصرف؟ فَقَالَ: ما زاد فهو ربا، فأنكرت ذلك لقولهما، فَقَالَ: لا أحدثك إلا ما سمعتُ منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءه صاحب نخله بصاع منْ تمر طيب، وكان تمر النبيّ صلى الله عليه وسلم هَذَا اللون، فَقَالَ له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أَنَّى لك هَذَا؟ "، قَالَ: انطلقت بصاعين، فاشتريت به هَذَا الصاع، فإن سعر هَذَا فِي السوق كذا، وسعر هَذَا كذا، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ويلك أربيت، إذا أردت ذلك، فبع تمرك بسلعة، ثم اشتر بسلعتك أَيَّ تمر شئت؟ "، قَالَ أبو سعيد: فالتمر بالتمر أحق أن يكون ربا، أم الفضة بالفضة؟، قَالَ: فأتيت ابن عمر بعد ذلك، فنهاني، ولم آت ابن عباس، قَالَ: فحدثني أبو الصهباء، أنه سأل ابن عباس عنه بمكة؟ فكرهه. انتهى.
قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى فِي "شرحه": 11/ 23: معنى ما ذكره أوّلا عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم أنهما كانا يعتقدان أنه لا ربا فيما كَانَ يدا بيد، وأنه يجوز بيع درهم بدرهمين، ودينار بدينارين، وصاع تمر بصاعين منْ التمر، وكذا الحنطة، وسائر الربويات، كانا يريان جواز بيع الجنس بعضه ببعض متفاضلا، وأن الربا لا يحرم فِي شيء منْ الأشياء، إلا إذا كَانَ نسيئة، وهذا معنى قوله: إنه سألهما عن الصرف، فلم يريا به بأسا، يعني الصرف متفاضلا، كدرهم بدرهمين، وكان مُعتَمَدهما حديث أسامة بن زيد:"إنما الربا فِي النسيئة"، ثم رجع ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم عن ذلك، وقالا: بتحريم بيع الجنس بعضه ببعض متفاضلا، حين بلغهما حديث أبي سعيد، كما ذكره مسلم منْ رجوعهما صريحا.
وهذه الأحاديث التي ذكرها مسلم، تدل عَلَى أن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم لم يكن
بلغهما حديث النهي عن التفاضل فِي غير النسيئة، فلما بلغهما رجعا إليه. انتهى كلام النوويّ. فِي "شرحه" 11/ 26 - 27.
(أَشَيْئًا) قَالَ السنديّ: أي أيكون شيئًا، واعتباره منصوبًا عَلَى الإضمار بشرط التفسير بعيدٌ؛ نظراً إلى المعنى. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لا بعد فيه، بل هو واضح؛ فإن النصب عَلَى الاشتغال هكذا طريقته، فتبصّر. والله تعالى أعلم.
(وَجَدْتَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل، أَوْ شَيْئًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: مَا وَجَدْتُهُ فِى كِتَابِ اللَّهِ عز وجل، وَلَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية البخاريّ: "قَالَ: كلَّ ذلك لا أقول". قَالَ فِي "الفتح": بنصب "كل" عَلَى أنه مفعول مقدم، وهو فِي المعنى نظير قوله عليه الصلاة والسلام، فِي حديث ذي اليدين:"كل ذلك لم يكن"، فالمنفيّ هو المجموع. وفي رواية مسلم:"فَقَالَ: لم أسمعه منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا وجدته فِي كتاب الله عز وجل"، ولمسلم أيضًا منْ طريق عطاء: أن أبا سعيد، لقي ابن عباس فذكر نحوه، وفيه:"فَقَالَ: كل ذلك لا أقول، أما رسول الله، فأنتم أعلم به، وأما كتاب الله، فلا أعلمه"، أي لا أعلم هَذَا الحكم فيه، وإنما قَالَ لأبي سعيد: أنتم أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم مني؛ لكون أبي سعيد وأنظاره، كانوا أسن منه، وأكثر ملازمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى.
(وَلَكِنْ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ) حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابنُ حبّه رضي الله تعالى عنهما (أَخْبَرَنِي، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ") وفي الرواية السابقة: "لا ربا إلا فِي النسيئة"، وهي رواية البخاريّ، وفي رواية مسلم:"الربا فِي النسيئة"، وله منْ طريق عبيد الله بن أبي يزيد، وعطاء جميعا، عن ابن عباس:"إنما الربا فِي النسيئة"، زاد فِي رواية عطاء:"ألا إنما الربا"، وزاد فِي رواية طاوس، عن ابن عباس:"لا ربا فيما كَانَ يدا بيد". وروى مسلم منْ طريق أبي نضرة، قَالَ: سألت ابن عباس، عن الصرف؟ فَقَالَ:"أيدًا بيد؟ " قلت: نعم، قَالَ: فلا بأس، فأخبرت أبا سعيد، فَقَالَ: أَوَ قَالَ ذلك؟ إنّا سنكتب إليه، فلا يفتيكموه". وله منْ وجه آخر، عن أبي نضرة: "سألت ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم عن الصرف؟ فلم يريا به بأسا، فإني لقاعد عند أبي سعيد، فسألته عن الصرف؟ فَقَالَ: ما زاد فهو ربا، فأنكرت ذلك؛ لقولهما، فذكر الْحَدِيث، قَالَ: فحدثني أبو الصهباء، أنه سأل ابن عباس عنه بمكة؟ فكرهه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -50/ 4582 و4583 - وفي "الكبرى" 51/ 6172 و6173 و6174. وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 2179 (م) فِي "البيوع" 1596 (ق) فِي "التجارات" 2257 (أحمد) فِي "مسند الأنصار" 21236 و21250 و21255 و21288 و21308 و2310 (الدارمي) فِي "البيوع" 2467. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم بيع الفضّة بالذهب، وعكسه، وهو الجواز إذا كَانَ يدًا بيد. (ومنها): أن فِي قصة أبي سعيد، مع ابن عمر، ومع ابن عباس رضي الله عنهم المتقدّمة أن العالم يناظر العالم، ويوقفه عَلَى معنى قوله، ويرده منْ الاختلاف إلى الاجتماع، ويحتج عليه بالأدلة. (ومنها): أن فيه إقرارَ الصغير للكبير بفضل التقدم. (ومنها): أن فِي السياق دليلاً عَلَى أن أبا سعيد، وابن عباس متفقان، عَلَى أن الأحكام الشرعية، لا تطلب إلا منْ الكتاب، أو السنة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي أقوال أهل العلم فِي الصرف:
الصرفُ -بفتح المهملة -: دفع ذهب، وأخذ فضة وعكسه، وله شرطان: منع النسيئة مع اتفاق النوع، واختلافه، وهو المجمع عليه، ومنع التفاضل فِي النوع الواحد منهما، وهو قول الجمهور، وخالف فيه ابن عمر، ثم رجع، وابن عباس، واختُلف فِي رجوعه، وَقَدْ رَوَى الحاكم منْ طريق حيان العدوي -وهو بالمهملة، والتحتانية- سألت أبا مِجْلَز عن الصرف؟ فَقَالَ: كَانَ ابن عباس، لا يرى به بأسا زمانا منْ عمره، ما كَانَ منه عينا بعين، يدا بيد، وكان يقول: إنما الربا فِي النسيئة، فلقيه أبو سعيد، فذكر القصة والحديث، وفيه:"التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والذهب بالذهب، والفضة بالفضة، يدا بيد، مِثْلا بمثل، فمن زاد فهو ربا"، فَقَالَ ابن عباس: أستغفر الله، وأتوب إليه، فكان ينهى عنه أشد النهي. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: فتبيّن بما تقدّم أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ثبت رجوعه، كما ثبت رجوع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فتكون المسألة إجماعية، فلا يجوز ربا الفضل، كما لا يجوز ربا النسيئة بالإجماع. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي تأويل حديث أسامة رضي الله عنهم: "لا ربا
إلا فِي النسيئة":
قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: ما حاصله: هَذَا الخلاف شاذّ متقدّم، مرجوع عنه، كما قد نصّ عليه هنا منْ رجوع ابن عمر، وابن عبّاس رضي الله عنهم عنه، وممن قَالَ بقولهما منْ السلف: عبد الله بن الزبير، وزيد بن أرقم، وأُسامة بن زيد، ولا شكّ فِي معارضة هَذَا الْحَدِيث لحديث عبادة، وأبي سعيد، وغيرهما، فإنها نصوصٌ فِي إثبات ربا الفضل، ولَمّا كَانَ كذلك اختلف العلماء فِي كيفيّة التخلّص منْ ذلك عَلَى أوجه، أشبهها وجهان:
[أحدهما]: أن حديث ابن عبّاس منسوخٌ بحديث عبادة، وأبي سعيد، غير أنهم لم ينقلوا التاريخ صريحًا، وإنما أخذوه منْ رجوع ابن عبّاس عن ذلك، ومن عمل الجمهور منْ الصحابة، وغيرهم، منْ علماء المدينة عَلَى خلاف فِي ذلك.
قَالَ القرطبيّ: وهذا لا يدلّ عَلَى النسخ، وإنما يدلّ عَلَى الأرجحيّة.
[وثانيهما]: أن قوله: "لا ربا إلا فِي النسيئة" إنما مقصوده نفي الأغلظ الذي حرّمه الله بنصّ القرآن، وتوعّد عليه بالعقاب الشديد، وجعل فاعله محاربًا لله، وذلك بقوله تعالى:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} إلى آخر الآيات [البقرة: 275 - 281] وما كانت العرب تعرف ربا إلا ذلك، فكانت إذا حلّ دينها قالت للغريم: إما أن تقضي، وإما أن تربي: أي تزيد فِي الدين، وهذا هو الذي نسخه النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، لَمّا قَالَ:"ألا إن كلّ ربا موضوع، وإن أول ربا أضعُهُ ربانا، ربا عباس"، متّفقٌ عليه. وهذا كما تقول العرب: إنما المال الإبل، وإنما الشجاع عليٌّ، وإنما الكريم يوسف ابن نبيّ الله، ولا عالم فِي البلد إلا زيد، ومثله كثير، يعنون بذلك نفي الأكبر والأكمل، لا نفي الأصل، وهذا واضح، ومما يقرب فيه هَذَا التأويل جدًّا رواية منْ روى:"لا ربا فيما كَانَ يدًا بيد": أي لا ربا كثيرٌ، أو عظيمٌ، كما قَالَ:"لا صلاة لجار المسجد، إلا فِي المسجد"
(1)
: أي لا صلاة كاملة.
قَالَ: ويظهر لي وجهٌ آخر، وهو حسنٌ، وذلك أن دلالة حديث ابن عبّاس عَلَى نفي ربا الفضل دلالة بالمفهوم، ودلالة إثباته دلالةٌ بالمنطوق، ودلالة المنطوق راحجة عَلَى دلالة المفهوم، باتّفاق النُّظّار. انتهى كلام القرطبيّ ببعض تصرّف "المفهم" 4/ 484 - 485.
وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: فِي "شرح مسلم": أما حديث أسامة: "لا ربا إلا فِي
(1)
حديث ضعيف رواه البيهقيّ، والدارقطنيّ، والحاكم.
النسيئة" فقد قَالَ قائلون بأنه منسوخ بهذه الأحاديث، وَقَدْ أجمع المسلمون عَلَى ترك العمل بظاهره، وهذا يدل عَلَى نسخه. وتأوله آخرون تأويلات: [أحدها]: أنه محمول عَلَى غير الربويات، وهو كبيع الدين بالدين مؤجلا، بأن يكون له عنده ثوب موصوف، فيبيعه بعبد موصوف مؤجلا، فإن باعه به حالّا جاز. [الثاني]: أنه محمول عَلَى الأجناس المختلفة، فإنه لا ربا فيها منْ حيث التفاضل، بل يجوز تفاضلها يدا بيد. [الثالث]: أنه مجمل، وحديث عبادة بن الصامت، وأبي سعيد الخدريّ، وغيرهما مُبَيَّن، فوجب العمل بالمبين، وتنزيل المجمل عليه، هَذَا جواب الشافعيّ رحمه الله تعالى. انتهى كلام النوويّ. فِي "شرحه" 11/ 26 - 27.
وَقَالَ فِي "الفتح" 5/ 124 - : اتفق العلماء عَلَى صحة حديث أسامة، واختلفوا فِي الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد، فقيل: منسوخ، لكن النسخ لا يثبت بالاحتمال. وقيل: المعنى فِي قوله: "لا ربا" الربا الأغلظ الشديد التحريم، المتوعدُ عليه بالعقاب الشديد، كما تقول العرب: لا عالم فِي البلد إلا زيد، مع أن فيها علماء غيره، وإنما القصد نفي الأكمل، لا نفي الأصل، وأيضا فنفي تحريم ربا الفضل، منْ حديث أسامة، إنما هو بالمفهوم، فيقدم عليه حديث أبي سعيد؛ لأن دلالته بالمنطوق، ويُحمَل حديث أسامة عَلَى الربا الأكبر، كما تقدم. والله أعلم. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أقرب التأويلات الترجيح بأن دلالة حديث أسامة بالمفهوم، ودلالة حديث أبي سعيد بالمنطوق، فيرجّح المنطوق عَلَى المفهوم، كما سبق استحسانه فِي كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4584 -
(أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كُنْتُ أَبِيعُ الإِبِلَ بِالْبَقِيعِ، فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ، وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فِي بَيْتِ حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ، إِنِّي أَبِيعُ الإِبِلَ بِالْبَقِيعِ، فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ، وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ؟ قَالَ: "لَا بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا، مَا لَمْ تَفْتَرِقَا، وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث منْ أحاديث الباب التالي، فكان الأولى إيراده هناك، كما فعل فِي "الكبرى"، فإنه أورده هناك، والله تعالى أعلم.
ورجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(أحمد بن يحيى) الأوديّ، أبو جعفر الكوفيّ العابد، ثقة [11] 38/ 1274.
2 -
(أبو نُعيم) الفضل بن دُكين الحافظ الكوفيّ، ثقة ثبت [9] 11/ 516.
3 -
حماد بن سلمة) أبو سلمة الربَعِيّ الثقة العابد، من كبار [8] 181/ 288.
4 -
(سماك بن حرب) هو أبو المغيرة الكوفيّ، صدوقٌ، وروايته عن عكرمة خاصّةً مضطربة، وَقَدْ تغيّر بآخره، فكان ربّما يُلقّن [4] 2/ 325.
5 -
(سعيد بن جُبير) الأسديّ مولاهم الثقة الثبت الفقيه الكوفيّ [3] 28/ 436.
6 -
(ابن عمر) عبد الله رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير حماد، فبصريّ، والصحابيّ، فمدنيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عمر منْ العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: كُنْتُ أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالْبَقِيعِ) بالباء الموحّدة هو الموضع المعروف ببقيع الغَرْقد، وهو مقبرة أهل المدينة. وقيل: هو بالنون بدل الماء الموحّدة: موضع قريب منْ المدينة، قَالَ الفيّوميّ فِي مادّة "بقع": والبقيع: المكان المتّسع، ويقال: الموضع الذي فيه شجرٌ، وبقيع الْغَرْقد بمدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ ذا شجر، وزال، وبقي الاسم، وهو الآن مقبرة، وبالمدينة أيضًا موضع يقال له: بقيع الزُّبير. انتهى. وَقَالَ فِي مادّة "نقع": نَقيع موضع بقرب مدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو فِي صدر وادي العقيق، وحماه عمر رضي الله عنه لإبل الصدقة، قَالَ فِي "الْعُبَاب": والنقيع موضعٌ فِي بلاد مُزينة عَلَى عشرين فرسخًا منْ المدينة. انتهى.
(فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ، وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ) أي مكان الدنانير، زاد فِي رواية أبي داود:"وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير، آخذ هذه منْ هذه، وأعطي هذه منْ هذه"، يعني أنه تارة يبيع بالدنانير، ويأخذ الدراهم، وتارة يبيع بالدراهم، ويأخذ الدنانير (فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فِي بَيْتِ حَفْصَةَ) متعلّق بحال مقدّر: أي حال كونه كائنًا فِي بيت حفصة بنت عمر، أم المؤمنين، وأخته الشقيقة رضي الله عنهم (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ، إِنَّي أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالْبَقِيعِ، فَأَبِيعُ بالدَّنَانِيرِ، وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَا بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا)"أن" يحتمل أن تكون بفتح الهمزة، عَلَى أنها مصدريّة، والفعل بعدها منصوبٌ بها، ويحتمل أن تكون بالكسر عَلَى أنها شرطيّةٌ، والفعل بعدها مجزوم بها. والمعنى: أنه لا بأس أن تأخذ بدل الدنانير الدراهم، وبالعكس لكن بشرط التقابض، كما يدلّ عليه قوله: "ما لم
تفترقا الخ" وقوله (بسِعْرِ يَوْمِهَا) قيل: التقييد به عَلَى سبيل الاستحباب، وفيه نظر لا يخفى، بل الحقّ أنه للوجوب، كما سيأتي تحقيقه، إن شاء الله تعالى (مَا لَمْ تَفْتَرِقَا) "ما" مصدريّة ظرفيّة: أي مدةَ عدم افتراقكما (وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ") جملة فِي محلّ نصب عَلَى الحال منْ الفاعل، يعني أنه لا بأس بأخذ الدنانير مكان الدراهم، وبالعكس مدة عدم افتراقكما، والحال أنه لم يبق بينكما شيء منْ البدلين غير مقبوض.
قَالَ الخطّابيّ رحمه الله تعالى: اقتضاء الذهب منْ الفضّة، والفضّة منْ الذهب عن أثمان السلعة، هو فِي الحقيقة بيع ما لم يُقبض، فدلّ جوازه عَلَى أن النهي عن بيع ما لم يُقبض إنما ورد فِي الأشياء التي يُبتغى ببيعها، وبالتصرّف فيها الربح، كما رُوي أنه صلى الله عليه وسلم "نهى عن ربح ما لم يُضمن"، واقتضاءُ الذهب منْ الفضة خارجٌ عن هَذَا المعنى؛ لأنه إنما يُراد به التقابض، والتقابض منْ حيث لا يشقّ، ولا يتعذّر، دون التصارف، والترابح.
ويبيّن لك صحّة هَذَا المعنى قوله: "لا بأس أن تأخذها بسعر يومها": أي لا تطلب فيها ربح ما لم تضمن، واشترط أن لا يفترقا، وبينهما شيء؛ لأن اقتضاء الدراهم منْ الدنانير صرفٌ، وعقد الصرف لا يصحّ إلا بالتقابض. انتهى. "معالم السنن" 5/ 25 - 26. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا ضعيف، مرفوعًا، وإنما يصحّ موقوفًا عَلَى ابن عمر، وذلك لتفرّد سماك بن حرب عن سعيد بن جبير برفعه، وَقَدْ خالفه داود ابن أبي هند، وهو أحفظ منه، وأثبت، فرواه عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، موقوفًا عليه، كما لم يرفعه سائر أصحاب ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.
فقد أخرج البيهقيّ فِي "المعرفة" 4/ 353 - بسنده عن علي بن عبد الله، قَالَ: سمعت أبا داود الطيالسيّ، يقول: كنّا عند شعبة، فجاءه خالد بن طليق، وأبو ربيع السمّان، وكان خالد الذي سأله، فَقَالَ: يا أبا بسطام، حدّثنا بحديث سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر فِي اقتضاء الورق منْ الذهب، والذهب منْ الورق، وَقَالَ شعبة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، ولم يرفعه، وحدثنا قتادة، عن سعيد ابن المسيّب، عن ابن عمر، ولم يرفعه، وحدّثنا داود بن أبي هند، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، ولم يرفعه، وحدثنا يحيى بن أبي إسحاق، عن سالم، عن ابن عمر، ولم
يرفعه، ورفعه لنا سماك بن حرب، وأنا أفرقه. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: فتبيّن بهذا أن سماكًا خالف منْ هو أحفظ منه، وهو داود ابن أبي هند، حيث رواه عن سعيد بن جبير، فوقفه عَلَى ابن عمر، مع أن الأثبات الثلاثة، منْ أصحاب ابن عمر رضي الله عنهما عَلَى وقفه، وهم نافع، وابن المسيّب، وسالم.
والحاصل أن الْحَدِيث موقوفًا صحيح. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -50/ 4584 و51/ 4585 و4586 و4588 و52/ 4591 - وفي "الكبرى" 52/ 6175 و6176 و6177 و6178 و6179 و6180 و6181. وأخرجه (د) فِي "البيوع" 3354 (ت) فِي "البيوع" 1242 (ق) فِي "التجارات" 2262 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 4868 و5530 و5739 و6203 و6391 (الدارمي) فِي "البيوع" 2468. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي جواز اقتضاء أحد النقدين منْ الآخر:
قَالَ الإِمام الخطّابيّ رحمه الله تعالى: وَقَدْ اختلف النَّاس فِي اقتضاء الدراهم منْ الدنانير، فذهب أكثر أهل العلم إلى جوازه، ومنع منْ ذلك أبو سلمة بن عبد الرحمن، وابن شُبْرُمة. وكان ابن أبي ليلى يكره ذلك إلا بسعر يومه، ولم يَعتبر غيره السعر، ولم يتأولوا، كَانَ ذلك بأغلى، أو بأرخص منْ سعر يومه، والصواب ما ذهب إليه، وهو منصوص فِي الْحَدِيث، ومعناه ما بيّنته لك، فلا تذهب عنه، فإنه لا يجوز غير ذلك. والله أعلم. انتهى "معالم السنن" 5/ 25 - 26.
وَقَالَ الموفّق رحمه الله تعالى فِي "المغني" 6/ 107 - 108: يجوز اقتضاء أحد النقدين منْ الآخر، ويكون صرفا بعين وذمة، فِي قول أكثر أهل العلم، ومنع منه ابن عباس، وأبو سلمة بِن عبد الرحمن، وابن شبرمة، وروي ذلك عن ابن مسعود؛ لأن القبض شرط، وَقَدْ تَخَلّف، ولنا ما روى أبو داود، والأثرم فِي "سننهما" عن ابن عمر، قَالَ: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه منْ هذه، وأعطي هذه منْ هذه، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله، رُويدك أسألك، إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير أخذ هذه منْ هذه، وأعطي هذه منْ هذه؟ فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا بأس أن تأخذها بسعر يومها، ما لم تفترقا وبينكما شيء".
قَالَ أحمد: إنما يقضيه إياها بالسعر، لم يختلفوا أنه يقضيه إياها بالسعر، إلا ما قَالَ أصحاب الرأي: إنه يقضيه مكانها ذهبا عَلَى التراضي؛ لأنه بيع فِي الحال، فجاز ما تراضيا عليه، إذا اختلف الجنس كما لو كَانَ العوض عرضا، ووجه الأول قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا بأس أن تأخذها بسعر يومها"، وروي عن ابن عمر، أن بكر بن عبد الله الْمُزَنيّ، ومسروقا العجليّ، سألاه عن كَرِيّ لهما، له عليهما دراهم، وليس معهما إلا دنانير، فَقَالَ ابن عمر: أعطوه بسعر السوق، ولأن هَذَا جرى مجرى القضاء، فَقُيّد بالمثل، كما لو قضاه منْ الجنس، والتماثل هاهنا منْ حيث القيمة؛ لتعذر التماثل منْ حيث الصورة.
قيل لأبي عبد الله: فإن أهل السوق يتغابنون بينهم بالدانق فِي الدينار، وما أشبهه؟ فَقَالَ: إذا كَانَ مما يتغابن النَّاس به، فسهل فيه ما لم يكن حيلة، ويزاد شيئا كثيرا. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن قول منْ قَالَ بجواز اقتضاء أحد النقدين مكان الآخر بشرط أن يكون بسعر يومه، يدًا بيد هو الصواب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا. ونعم الوكيل.
…
51 - (أَخْذِ الْوَرِقِ مِنَ الذَّهَبِ، وَالذَّهَبِ مِنَ الْوَرِقِ، وَذِكْرِ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ النَّاقِلِينَ لِخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فِيهِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وجه الاختلاف فيه واضح، حيث إن سماكًا رواه عن سعيد بن جبير، مرفوعًا، وخالفه أبو هاشم الرّمانيّ، فرواه عنه موقوفًا عَلَى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وخالفهما موسى بن نافع، فوقفه عَلَى سعيد. والله تعالى أعلم بالصواب.
4585 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كُنْتُ أَبِيعُ الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ، أَوِ الْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: "إِذَا بَايَعْتَ صَاحِبَكَ، فَلَا تُفَارِقْهُ وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ لَبْسٌ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو الأحوص": هو سلاّم بن سُليم الحنفيّ الكوفيّ. وقوله: "لبسٌ" بفتح اللام، وسكون الباء الموحّدة: أي خلط بسبب أن يبقى بينكما بقيّة.
والحديث ضعيف مرفوعًا كما سبق تمام البحث فيه فِي الْحَدِيث الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4586 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُوسَى بْنُ نَافِعٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الدَّنَانِيرَ مِنَ الدَّرَاهِمِ، وَالدَّرَاهِمَ مِنَ الدَّنَانِيرِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "موسى بن نافع" الأسَديّ، ويقال: الْهُذليّ، أبو شهاب الحنّاط بمهملة، فنون -مشهور بكنيته، وهو الأكبر الكوفيّ، ويقال: البصريّ، صدوق [6].
رَوَى عن مجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، وأبي علي النعمان بن علي الوالبي. وعنه الثوري، وعيسى بن يونس، ووكيع، والقطان، والمحاربي، وأبو أسامة، ومحمد ابن عبيد الطنافسي، وأبو نعيم، وغيرهم. قَالَ علي بن المديني: سألت يحيى بن سعيد، عن موسى بن نافع؟ فَقَالَ: أفسدوه علينا. وَقَالَ أبو حاتم: قَالَ عثمان بن أبي شيبة: أثنى أبو نعيم عَلَى موسى بن نافع خيرا. وَقَالَ أيضا: قَالَ أبو جعفر الحمال: قَالَ أحمد بن حنبل: موسى بن نافع منكر الْحَدِيث. وَقَالَ إسحاق بن منصور، عن بن معين: ثقة. وَقَالَ ابن أبي حاتم، عن أبيه: يكتب حديثه، قَالَ: وغيري يحكي عن أبي، أنه قَالَ: ثقة. وَقَالَ ابن عدي: وموسى بن نافع هَذَا بصري، ليس بالمعروف، ولم يحضرني له شيء. وَقَالَ البخاريّ: قَالَ عثمان بن أبي شيبة: هو أسدي، وأثنى عليه خيرا. وَقَالَ ابن سعد: كَانَ مولى بني أسد، وكان ثقة، قليل الْحَدِيث، وَقَالَ ابن شاهين: فِي "الثقات": قَالَ ابن عمار: هو ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، له فِي "الصحيحين" حديثه عن عطاء، عن جابر، فِي حجة الوداع. روى له البخاريّ، ومسلم، والمصنّف، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط، ذكره فِي هَذَا الباب مرَّتين.
[تنبيه]: موسى هَذَا هو المعروف بأبي شهاب الحنّاط الأكبر، ولهم أبو شهاب الحنّاط الأصغر، واسمه: عبد ربّه بن نافع الكنانيّ الحنّاط، نزيل المدائن، صدوقٌ يهم [8] مات سنة (171) أو (172)، وسيأتي له فِي "كتاب الزينة" برقم 10/ 5064 حديث أبي وائل قَالَ: خطبنا ابن مسعود، فَقَالَ: كيف تأمروني أقرأ عَلَى قراءة زيد بن ثابت، بعدما قرأت منْ فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة، وإن زيدا مع الغلمان له ذؤابتان. وليس له فِي هَذَا الكتاب غيره. والله أعلم.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: أثر سعيد بن جبير رحمه الله تعالى هَذَا مما تفرّد به
المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا 51/ 4586 و4589 - وفي "الكبرى" 52/ 6176 و6180. وهو مقطوعٌ صحيح الإسناد، لكن سيأتي آخر الباب بهذا السند نفسه خلافه، وهو أصحّ مما هنا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4587 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُؤَمَّلٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا -يَعْنِي- فِي قَبْضِ الدَّرَاهِمِ مِنَ الدَّنَانِيرِ، وَالدَّنَانِيرِ مِنَ الدَّرَاهِمِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "مؤمّل": هو ابن إسماعيل، أبو عبد الرحمن البصريّ، نزيل مكة، صدوقٌ سيّء الحفظ، منْ صغار [9] 22/ 4094. و"سفيان": هو الثوريّ. و"أبو هاشم": هو الرُّمّانيّ الواسطيّ، اسمه يحيى بن دينار، وقيل: بن الأسود، وقيل: ابن نافع، ثقة [6] 188/ 296.
والحديث موقوف صحيحٌ، وتقدّم تخريجه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4588 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الْهُذَيْلِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فِي قَبْضِ الدَّنَانِيرِ مِنَ الدَّرَاهِمِ، أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُهَا، إِذَا كَانَ مِنْ قَرْضٍ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. و"سفيان": هو الثوريّ. و"أبو الْهُذَيل" غالب بن الْهُذيل الأَوديّ الكوفيّ، صدوقٌ، رُمي بالرفض [5].
رَوَى عن أنس، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، وكليب الأودي، وابن رَزِين، وروى عنه الثوري، وإسرائيل، وشريك، وعلي بن صالح بن حي. قَالَ ابن أبي حاتم، عن أبيه: لا بأس به، قلت: يحتج بحديثه؟ قَالَ: وأيُّ شيء عنده؟ قليل، وَقَالَ ابن أبي مريم، عن ابن معين: ثقة. وعن أبي سعيد الأشج، عن عبد الله بن إدريس، عن أبيه، حدثنا غالب أبو الهذيل، وكان رافضيا. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". تفرد به المصنّف بهذا الأثر فقط.
و"إبراهيم": هو النخعيّ.
وقوله: "إذا كَانَ منْ قرض" وإنما كرهه إذا كَانَ منْ قرض؛ لئلا يؤدّي إلى جرّ نفع، والقرض إذا جرّ النفع يكون مكروهًا.
والأثر مقطوعٌ صحيح، تفرّد به المصنّف، أخرجه هنا -51/ 4588 - وفي "الكبرى" 52/ 6178. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4589 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُوسَى أَبِي شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَرْضٍ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "عن موسى أبي شهاب" كذا وقع فِي "الهنديّة"، وبعض نسخ "الكبرى"، وهو الصواب، ووقع فِي معظم النسخ "عن موسى بن شهاب"، وهو غلطٌ فاحش، ولا يوجد فِي الرواة منْ اسمه موسى بن شهاب أصلاً، وموسى هَذَا هو ابن نافع المذكور قبل حديثين، والآتي فِي السند التالي، وهو أبو شهاب الأكبر. فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
4590 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ نَافِعٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بِمِثْلِهِ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: كَذَا وَجَدْتُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الإسناد تقدّم قبل ثلاثة أحاديث.
وقوله: "كذا وجدته الخ" أشار به إلى المخالفة بينه وبين الرواية السابقة، حيث إن فيها أن سعيدًا كَانَ يكره أن يأخذ الدنانير منْ الدراهم، والدراهم منْ الدنانير، وهذه الرواية أرجح منْ تلك؛ لموافقتها لرواية الثوريّ التي قبلها.
والأثر صحيح، منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -51/ 4589 - وفي "الكبرى" 52/ 6180. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
52 - (أَخْذِ الْوَرِقِ مِنَ الذَّهَبِ)
4591 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعَافَى، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: رُوَيْدَكَ أَسْأَلُكَ، إِنِّي أَبِيعُ الإِبِلَ بِالْبَقِيعِ بِالدَّنَانِيرِ، وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ؟ قَالَ: "لَا بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَ بِسِعْرِ يَوْمِهَا، مَا لَمْ تَفْتَرِقَا، وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن عبد الله بن عمّار": هو الْمُخَرِّميّ الأزديّ، أبو جعفر، نزيل الموصل، ثقة حافظ [10] 20/ 1220 منْ أفراد المصنّف. و"المعافى": هو ابن عمران الأزديّ الفهميّ، أبو مسعود الموصِليّ، ثقة فقيه عابدٌ، منْ كبار [9] 36/ 1271.
وقوله: "رُويدك" بضم أوله، بصيغة المصغّر: بمعنى أمهلني.
والحديث ضعيفٌ، لما سبق منْ مخالفة سماك للثقات فِي رفعه، وَقَدْ سبق تمام البحث فيه قبل باب، فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
53 - (الزِّيَادَةِ فِي الْوَزْنِ)
4592 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، دَعَا بِمِيزَانٍ، فَوَزَنَ لِي، وَزَادَنِي).
رجال هَذَا الإسناد. خمسة:
1 -
(محمد بن عبد الأعلى) الصنعانيّ، ثم البصريّ، ثقة [10] 5/ 5.
2 -
(خالد) بن الحارث الْهُجيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الإِمام الحجة الثبت [7] 24/ 27.
4 -
(محارب بن دِثَار) السدوسيّ الكوفيّ القاض، ثقة إمام زاهد [4] 16/ 652.
5 -
(جابر) بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَمِيّ رضي الله تعالى عنهما 31/ 35. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين، غير محارب، فكوفي، وجابر، فمدنيّ. (ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله عنه منْ المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ جَابِر) بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ) منْ غزوه، لا قدومه فِي الهجرة، فإن هذه القصّة وقعت فِي غزوة تبوك، وقيل: فِي غزوة ذات الرقاع، ورحجه الحافظ فِي "الفتحِ" 5/ 665 - (دَعَا بِمِيزَانٍ) بكسر الميم، وأصله مِوْزان؛ لأنه واويّ، وجمعه موازين (فَوَزَنَ لِي، وَزَادَنِي) أي أمر بأن يوزن لي، لا
أنه هو الذي وزن بنفسه؛ لما سيأتي فِي 77/ 4641 - مطوّلاً، وفيه:"فلما قدمت المدينة جئته، فَقَالَ لبلال: زن له أُوقيّةً، وزده قِيراطًا". وفيه جواز الزيادة فِي الثمن عند الوزن للأداء، وهو محلّ الترجمة هنا، لكن يشترط فيه رضا المالك، وهل هي هبة مستأنفة، حَتَّى لو رُدّت السلعة بعيب مثلاً، لم يجب ردّها، أو هي تابعة للثمن حَتَّى تردّ معه؟ فيه احتمال، والظاهر الثاني.
والحديث متّفقٌ عليه، وسيأتي تمام شرحه، وتخريجه بعد ثلاثة وعشرين بابا 77 - "البيع يكون فيه الشرط، فيصحّ البيع، والشرط"، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4593 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَضَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَزَادَنِي).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن منصور": هو الجوّاز المكيّ، منْ أفراد المصنّف. و"محمد بن عبد الله بن يزيد": هو أبو يحيى المكيّ، منْ أفراد المصنّف، وابن ماجه. و"سفيان": هو ابن عيينة. و"مِسعر": هو ابن كِدام بن ظُهير الهلاليّ مولاهم، أبو سلمة الكوفيّ الثقة الثبت الفاضل [7].
والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
54 - (الرُّجْحَانُ فِي الْوَزْنِ)
" الرُّجحان" بضم الراء، وسكون الجيم: مصدر رَجَح الشيءُ يَرْجَحُ، بفتح الجيم فِي الماضي، وتثليثها فِي المضارع رُجُوحًا، ورُجحانًا. أفاده فِي "القاموس"، وفي "المصباح": رجح الشيء يرجح بفتحتين، ورَجَح رُجوحًا منْ باب قعد لغةٌ، والاسم الرجحان: إذا زاد وزنه، ويُستعمل متعدّيًا أيضًا، فيقال: رَجَحْته، ورجح الميزانُ يرجَح، ويرجُحُ: إذا ثقلت كفّته بالموزون، ويتعدّى بالألف، فيقال: أرجحته، ورجّحت الشيء بالتثقيل: فضّلتُهُ، وقوّيته، وأرجحتُ الرجلَ بالألف: أعطيته راجحًا. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.
4594 -
(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: جَلَبْتُ أَنَا، وَمَخْرَفَةُ الْعَبْدِيُّ بَزًّا، مِنْ هَجَرَ، فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ بِمِنًى، وَوَزَّانٌ يَزِنُ بِالأَجْرِ، فَاشْتَرَى مِنَّا سَرَاوِيلَ، فَقَالَ لِلْوَزَّانِ: "زِنْ، وَأَرْجِحْ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(يعقوب بن إبراهيم) الدورقيّ، أبو يوسف البغداديّ، ثقة حافظ [10] 21/ 22.
2 -
(عبد الرحمن) بن مهديّ العنبريّ مولاهم البصريّ، ثقة ثبت حجة [9] 42/ 49.
3 -
(سفيان) بن سعيد الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة ثبت حجة [7] 33/ 37.
4 -
(سماك) بن حرب بن أوس بن خالد الذهليّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوق، تغير بآخره، فكان ربما يلقّن [4] 2/ 325.
5 -
(سُويد بن قيس) أبو صفوان، ويقال: أبو مرحب، صحابيّ نزل الكوفة، وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى منه رجل سراويل، وروى عنه سماك بن حرب، واختُلف فيه عَلَى سماك. روى له الأربعة حديث السراويل فقط. انتهى "تهذيب الكمال". وَقَالَ الحافظ: ما جزم به منْ أنَّ كنيته أبو صفوان فيه نظر، والذي يُكنى أبا صفوان اسمه مالك انتهى "تهذيب التهذيب" 2/ 136.
وَقَالَ فِي "الإصابة" فِي "حرف السين" 4/ 302 - : سُويد بن قيس العبديّ، أبو مرحب، روى سماك بن حرب عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اشترى منه رجل سَراويل، أخرجه أحمد، وأصحاب السنن فيه، واختُلف فيه عَلَى سماك، فقيل: عنه، عن أبي صفوان مالك بن عَمِيرة، وسيأتي فِي ترجمته، وكلام المزّيّ يوهم أن سويدًا يُكنى أبا صفوان، وليس كذلك. اهـ. وَقَالَ فِي "حرف الميم" 9/ 63 - : مالك بن عَمِيرة، أبو صفوان، وأبوه بفتح العين، وحَكَى فيه البغويّ عُميرًا، مصغّرًا بلا هاء فِي آخره، حديثه يشبه حديث سُويد بن قيس، فقيل: إنهما واحد، اختُلف فِي اسمه عَلَى سماك بن حرب، وقيل: هما اثنان. وأخرجه البغويّ منْ رواية أبي داود الطيالسيّ، عن شعبة، عن سماك: سمعت أبا صفوان مالك بن عمير، ومن طريق شبابة، عن شعبة، قَالَ: مالك ابن عمير به. انتهى. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، سوى الصحابيّ، فمن رجال الأربعة. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فبغداديّ، وعبد الرحمن، فبصريّ. (ومنها): أن صحابيه منْ
المقلّين منْ الرواية، فليس له إلا حديث الباب. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ سُوَيْدِ بْنِ قَيْسٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: جَلَبْتُ) بفتح اللام، يقال: جلبَ الشيءَ يجلبه منْ بابي ضرب، ونصر جَلْبًا، وجَلَبًا بالتحريك، واجتلبه: ساقه منْ موضع إلى آخر، فجلب هو، وانجلب. أفاده فِي "القاموس" وقوله (أَنَا) أتى به ليكون عطف ما بعده عليه فصيحًا، كما قَالَ ابن مالك رحمه الله تعالى فِي "خلاصته":
وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ
…
عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ
أَوْ فَاصِلِ مَا وِبِلَا فَصْلٍ يَرِدْ
…
فِي النَّظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ
(وَمَخْرَفَةُ الْعَبْدِيُّ) قيل: مخرفة -بفتح الميم، وسكون الخاء المعجمة، وبعدها راء مهملة، وفاء، وتاء تأنيث، وقيل: مَخْرَمة بالميم، بدل الفاء، والأول أصحّ، قَالَ ابن حبّان: له صحبة. (بَزًّا) بفتح الموحّدة، وتشديد الزاي: الثياب، أو متاع البيت، منْ الثياب، ونحوها، وبائعه البَزّاز، وحرفته الْبِزَازة بالكسر. أفاده فِي "القاموس"، وَقَالَ الفيّوميّ: البزّ بالفتح: نوع منْ الثياب، وقيل: الثياب خاصّةً منْ أمتعة البيت. وقيل: أمتعة التاجر منْ الثياب. انتهى (مِنْ هَجَرَ) بفتحتين: قَالَ فِي "القاموس": هجرٌ محرّكةً بلد باليمن، بينه وبين عَثَّرَ يومٌ وليلةٌ، مذكّرٌ مصروفٌ، وَقَدْ يؤنّث، ويُمنع، والنسبة هَجَريٌّ، وهاجِرِيّ، واسم لجميع أرض البحرين، ومنه المثل:"كمُبْضِعِ تمرِ إلى هجر". قَالَ: وقرية كانت قرب المدينة، إليها تُنسب القِلال، أو تُنسب إلى هجر اليمن. انتهى. وَقَالَ فِي "المصباح": هجر بفتحتين: بلد بقرب المدينة، يذكّر، فيُصرف، وهو الأكثر، ويؤنّث، فيُمنع، وإليها تُنسب القِلال عَلَى لفظها، فيُقال: هَجَريّةٌ، وقِلالُ هَجَر بالإضافة إليها، وهجرٌ أيضًا بالوجهين منْ بلاد نجد، والنسبة إليها هاجِرِيّ بزيادة الألف، وكسر الجيم عَلَى غير قياس، فرقًا بين البلدين، وربّما نُسب إليها عَلَى لفظها، وَقَدْ أُطلقت عَلَى الإقليم، وهو المراد بالحديث أنه صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية منْ مجوس هَجَر. انتهى (فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ بِمِنًى) بكسر الميم، مقصورًا المكان المعروف بمكة، والغالب فيه التذكير، فيُصرف، ويقال: بينه وبين مكة ثلاثة أميال، وسمّي مني لِمَا يُمنى به منْ الدماء: أي يُراق. قاله الفيّوميّ (وَوَزَّانٌ يَزِنُ بِالأَجْرِ) مضارع وزن، منْ باب وعد، حُذفت الواو منه لوقوعها بين الياء والكسرة، والجملة فِي محلّ نصب عَلَى الحال، أي والحال أن هناك رجلٌ يزن الأثمان بأجرة يأخذها ممن يزن لهم (فَاشْتَرَى مِنَّا سَرَاوِيلَ) قَالَ المجد: السراويل: فارسيّةٌ معرّبة، وَقَدْ تُذكّر، جمعه سَراويلات، أو جمع
سِرْوال، وسِرْوالة، أو سِرْوِيل، بكسرهنّ، وليس فِي الكلام فِعْويلٌ غيرها، والسراوينُ بالنون لغةٌ، والشَّرْوال بالشين لغة. انتهى. وَقَالَ الفيّوميّ: السراويل أُنثى، وبعض العرب يظنّ أنها جمعٌ؛ لأنها عَلَى وزن الجمع، وبعضهم يذكّر، فيقول: هي السراويل، وهو السراويل، وفرّق فِي "المجرّد بين صيغتى التذكير والتأنيث، فيقال: هي السراويل، وهو السروال، والجمهور أن السراويل أعجميّة، وقيل: عربيّة، جمع سِرْوالة، تقديرًا، والجمع سَرَاويلات. انتهى.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لِلْوَزَّانِ: "زِنْ، وَأَرْجِحْ) أي أعط راجحا، وتقدّم فِي أول الباب أنه يقال: أرجحتُ الرجلَ بالألف: أعطيته راجحًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث سويد بن قيس رضي الله عنه هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -54/ 4594 و4595 - وفي "الكبرى" 55/ 6184 و6185. وأخرجه (د) فِي "البيوع" 3336 (ت) فِي "البيوع" 1305 (ق) فِي "التجارات" 2220 و"اللباس" 3579 (أحمد) فِي "مسند الكوفيين" 18619 (الدارمي) فِي "البيوع" 2472. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان مشروعية الرجحان فِي الوزن. (ومنها): ما قاله الخطّابيّ رحمه الله تعالى: فيه دليلٌ عَلَى جوز أخذ الأجرة عَلَى الوزن والكيل، وفي معناهما أجرة القسّام، والحاسب، وكان سعيد بن المسيّب ينهى عن أجرة القسّام، وكرهها أحمد بن حنبل. (ومنها): أن فِي مخاطبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأمره إياه بالوزن، والإرجاح دليل عَلَى أن وزن الثمن عَلَى المشتري، وإذا كَانَ الوزن عليه؛ لأن الإيفاء يلزمه، فيكون أجرة الوزن عليه، وإذا كَانَ ذلك عَلَى المشتري، فقياسه فِي السلعة المبيعة أن يكون عَلَى البائع. قاله الخطابيّ. (ومنها): أن فيه استحباب لبس السراويل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم اشتراه، قَالَ ابن القيّم رحمه الله تعالى فِي "الهدي": واشترى صلى الله عليه وسلم سراويل، والظاهر أنه إنما اشتراها ليلبسها، وَقَدْ رُوي فِي غير حديث أنه لبس السراويل، وكانوا يلبسون السراويلات بإذنه. انتهى "زاد المعاد" 1/ 139.
وأخرج الطبرانيّ فِي "الأوسط"، وأبو يعلى فِي "مسنده" منْ طريق يوسف بن زياد
الواسطيّ، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعُم الإفريقيّ القاضي، عن الأغرّ أبي مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: دخلت يومًا السوق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس إلى البزّازين، فاشترى سراويل بأربعة دراهم، وكان لأهل السوق وزّان، قَالَ: فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتّزن، وأرجح"، فَقَالَ الوزّان: إن هذه الكلمة ما سمعتها قط منْ أحد، قَالَ أبو هريرة رضي الله عنه: فقلت له: كفى بك منْ الجفاء فِي دينك أن لا تعرف نبيّك صلى الله عليه وسلم، فطرح الميزان، ووثب إلى يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبّلها، فجذب النبيّ صلى الله عليه وسلم يده منه، وَقَالَ:"هَذَا إنما تفعله الأعاجم بملوكها، إنما أنا رجلٌ منكم، فزن، وأرجح"، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السراويل، قَالَ أبو هريرة رضي الله عنه: فذهبت لأحمله عنه، فَقَالَ:"صاحب الشيء أحقّ بشيئه أن يحمله، إلا أن يكون ضعيفًا يعجز عنه، فيُعينه أخوه المسلم"، قَالَ: قلت: يا رسول الله، وإنك لتلبس السراويل؟ قَالَ:"نعم، بالليل والنهار، وفي السفر والحضر، فإني أُمرت بالستر، فلم أجد شيئًا أستر منه". قَالَ الطبرانيّ: لم يروه عن أبي هريرة إلا الأغرّ، ولا عنه إلا عبد الرحمن. انتهى
(1)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث ضعيفٌ؛ لأن يوسف بن زياد، وعبد الرحمن الإفريقيّ ضعيفان. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4595 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا صَفْوَانَ، قَالَ: بِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، سَرَاوِيلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، فَأَرْجَحَ لِي).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد": هو ابن جعفر غندر.
زاد فِي "الكبرى" 4/ 35 - رقم 6185 - بعد هَذَا الْحَدِيث: ما نصّه: قَالَ أبو عبد الرحمن: وحديث سفيان أشبه بالصواب منْ حديث شعبة. انتهى. يعني قوله: "عن سُويد بن قيس"، أصوب منْ قول شعبة:"سمعت أبا صفوان".
وَقَالَ أبو داود فِي "سننه" بعدما أخرج الْحَدِيث منْ طريق سفيان، عن سماك بن حرب: 3/ 245 - حدثنا حفص بن عمر، ومسلم بن إبراهيم -المعنى قريب- قالا: ثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن أبي صفوان بن عَمِيرة، قَالَ: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، قبل أن يهاجر، بهذا الْحَدِيث، ولم يذكر يزن بأجر، وَقَدْ رواه قيس -يعني ابن الربيع- كما قَالَ سفيان، والقول قول سفيان.
(1)
راجع "مجمع البحرين فِي زوائد المعجمين" للحافظ الهيثمي 7/ 152 - 153 تحقيق عبد القدوس بن محمد نذير.
حدثنا ابن أبي رزمة
(1)
، سمعت أبي، يقول: قَالَ رجل لشعبة: خالفك سفيان، قَالَ: دَمَغْتَني. وبلغني عن يحيى بن معين، قَالَ: كلُّ منْ خالف سفيان، فالقول قول سفيان.
حدثنا أحمد بن حنبل، ثنا وكيع، عن شعبة قَالَ: كَانَ سفيان أحفظ مني.
وقوله: "القول قول سفيان": أي القول الأصح، والأوثق هو قول سفيان. وَقَالَ البيهقي فِي "السنن الكبرى" بعدما ذكر حديث سفيان: وكذا رواه قيس بن الربيع، عن سماك، وخالفهما شعبة، ثم أخرجه منْ طريقه، عن سماك، سمعت أبا صفوان، مالك ابن عَمِيرة الْحَدِيث، ثم ذكر البيهقي، عن أبي داود، أنه قَالَ: القول قول سفيان، لكن أخرجه الحاكم فِي "المستدرك" منْ طريق شعبة، عن سماك، سمعت أبا صفوان، يقول: سمعت منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيث، ثم قَالَ الحاكم: أبو صفوان كنيته سُوَيد بن قيس، هما واحد صحابي منْ الأنصار، والحديث صحيح عَلَى شرط مسلم. انتهى.
قَالَ المنذري: وأخرجه النسائيّ، وابن ماجه، ووقع فِي حديث النسائيّ، وابن ماجه: سمعت مالكا أبا صفوان، وَقَالَ النسائيّ: حديث سفيان أشبه بالصواب -يعني الْحَدِيث الأول، الذي فيه سُويد بن قيس، وَقَالَ أبو داود: والقول قول سفيان.
وَقَالَ الحاكم أبو أحمد الكرابيسي: أبو صفوان مالك بن عَمِيرة، ويقال: سُويد بن قيس، باع منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأرجح له. وَقَالَ أبو عمر النمري: أبو صفوان، مالك بن عميرة، ويقال: سويد بن قيس، وذكر له هَذَا الْحَدِيث، وهذا يدل عَلَى أنه عندهما رجل واحد، كنيته أبو صفوان، واختلف فِي اسمه. والله عز وجل أعلم. انتهى "عون المعبود" 9/ 185 - 188.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الحاصل مما تقدّم أن المصنّف، وأبا داود رحمهما الله تعالى رجّحا رواية سفيان الثوريّ عَلَى أن الصحابيّ سُويد بن قيس، وليس أبا صفوان مالك بن عَميرة، كما رواه شعبة؛ وسبب ترجيحهما كون سفيان أحفظ منْ شعبة، كما اعترف به هو نفسه، وغيره، وأيضًا تابعه فِي ذلك قيس بن الربيع، فكانت روايته أرجح، لكن الظاهر أنه لا خلاف بين الروايتين، كما أشار إليه أبو أحمد الحاكم، وابن عبد البرّ، بأن كنيته أبو صفوان، واختُلف فِي اسمه، فهو رجل واحد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4596 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْمُلَائِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ ح وَأَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
(1)
هو محمد بن عبد العزيز بن أبي رِزْمة اليشكريّ مولاهم، أبو محمد المروزيّ، ثقة منْ التاسعة، مات سنة (206).
إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمِكْيَالُ عَلَى مِكْيَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْوَزْنُ عَلَى وَزْنِ أَهْلِ مَكَّةَ".
وَاللَّفْظُ لإِسْحَاقَ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن إسماعيل بن إبراهيم": هو المعروف أبوه بابن عُليّة البصريّ، نزيل دمشق، وقاضيها، ثقة [11] 22/ 489 منْ أفراد المصنّف.
[تنبيه]: وقع فِي النسخ المطبوعة منْ "المجتبى"، و"الكبرى":"محمد بن إبراهيم"، وهو غلط، والصواب "محمد بن إسماعيل بن إبراهيم"، كما هو فِي "النسخة الهنديّة"، وَقَالَ فِي "تحفة الأشراف" 5/ 439:"ومحمد بن إسماعيل ابن عُليّة". فتنبّه. والله تعالى أعلم.
و"إسحاق": هو ابن راهويه. و"الملائيّ": بضمّ الميم: هو الفضل بن دُكين، أبو نعيم الكوفيّ الحافظ الحجة [9]. و"سفيان": هو الثوريّ. و"حنظلة": هو ابن سُفيان الجمحيّ المكيّ، الثقة الحجة [6]. و"طاوس": هو ابن كيسان الإِمام المشهور. والسند كله رجال الصحيح، غير شيخه الثاني. والله تعالى أعلم.
وقوله: "المكيال عَلَى أهل المدينة": أي المكيال الذي يتعلّق به وجوب الكفّارات، وصدقات الفطر مقدّر بمكيال أهل المدينة؛ لأنهم أصحاب زراعات، فهم أعلم بأحوال المكاييل.
وقوله: "والوزن عَلَى وزن أهل مكّة": أي الوزن المعتبر وزن أهل مكة؛ لأنهم أهل تجارات، فعهدهم بالموازين، وعلمهم بالأوزان أكثر.
قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى فِي "شرحه" 7/ 284 - 285: قوله: "المكيال عَلَى مكيال أهل المدينة": أي الصاع الذي يتعلق به وجوب الكفارات، ويجب إخراج صدقة الفطر به صاع المدينة، وكانت الصيعان مختلفة فِي البلاد. والمراد بالوزن وزن الذهب والفضة فقط: أي الوزن المعتبر فِي باب الزكاة، وزن أهل مكة، وهي الدراهم التي العشرةُ منها بسبعة مثاقيل، وكانت الدراهم مختلفة الأوزان فِي البلاد، وكانت دراهم أهل مكة هي الدراهم المعتبرة فِي باب الزكاة، فأرشد صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بهذا الكلام، كما أرشد إلى بيان الصاع المعتبر فِي باب الكفارات، وصدقة الفطر بما سبق. انتهى.
وَقَالَ فِي "شرح السنة": الْحَدِيث فيما يتعلق بالكيل والوزن منْ حقوق الله تعالى، كالزكوات، والكفارات ونحوها، حَتَّى لا تجب الزكاة فِي الدراهم، حَتَّى تبلغ مائتي درهم بوزن مكة، والصاع فِي صدقة الفطر، صاع أهل المدينة، كُلُّ صاع خمسة أرطال
وثلث رطل. كذا فِي المرقاة.
وَقَالَ فِي "نيل الأوطار": والحديث فيه دليل عَلَى أنه يُرجع عند الاختلاف فِي الكيل، إلى مكيال المدينة، وعند الاختلاف فِي الوزن إلى ميزان مكة، أما مقدار ميزان مكة، فَقَالَ ابن حزم: بحثت غاية البحث، عن كل منْ وثِقت بتمييزه، فوجدت كلاًّ يقول: إن دينار الذهب بمكة وزنه اثنتان وثمانون حبَّة، وثلاثة أعشار حبَّة، بالحب منْ الشعير، والدرهم سبعة أعشار المثقال، فوزن الدرهم سبع وخمسون حبَّة، وستة أعشار حبَّة، وعشر عشر حبَّة، فالرطل مائة وثمانية وعشرون درهما بالدرهم المذكور. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
والحديث صحيح، وَقَدْ تقدّم فِي "كتاب الزكاة" 44/ 2520 "كم الصاع؟ " وتقدم شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: اختُلف فِي هَذَا الْحَدِيث هل هو منْ مسند ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، كما هو عند المصنّف، أم هو منْ مسند ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما:
قَالَ الإِمام أبو داود رحمه الله تعالى بعد أن أخرجه عن عثمان بن أبي شيبة، عن الفضل بن دُكين، عن الثوريّ بسند المصنّف: ما نصّه: وكذا رواه الفريابيّ، وأبو أحمد، عن سفيان، وافقهما فِي المتن، وَقَالَ أبو أحمد: عن ابن عبّاس، مكان ابن عمر، ورواه الوليد بن مسلم، عن حنظلة، فَقَالَ:"وزن المدينة، ومكيال مكة". انتهى.
قَالَ فِي "عون المعبود": حديث طاوس، عن ابن عمر سكت عنه المؤلف، والمنذري، وأخرجه أيضا البزار، وصححه ابن حبّان، والدارقطني.
(وكذا رواه الفريابي) بكسر الفاء منسوب إلى فرياب، مدينة ببلاد الترك، كذا فِي "جامع الأصول"، هو محمد بن يوسف، ثقة فاضل عابد، منْ أجلة أصحاب الثوري. (وأبو أحمد) الزبيري، الكوفيّ، ثقة (وافقهما) أي وافق فضلُ بنُ دُكين فِي هَذَا المتن الفريابي، وأبا أحمد الزبيري (وَقَالَ أبو أحمد: عن ابن عباس) والمعنى: أي رواه فضل بن دكين عن سفيان الثوري، بلفظ:"الوزنُ وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة"، وهكذا رواه محمد ابن يوسف الفريابي، وأبو أحمد الزبيري، عن الثوري، فهؤلاء الثلاثة اتفقوا فِي روايتهم عن الثوري، عَلَى هَذَا اللفظ، أما أبو أحمد الزبيري، فجعله منْ مسند ابن عباس، وأما فضل ابن دكين، والفريابي فجعلاه منْ مسند ابن عمر.
قلت: وكذا جعله أبو نعيم، عن الثوري، منْ حديث ابن عمر، وروايته عند النسائيّ.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: وكذا جعله أبو نعيم الخ هَذَا عجيب، منْ صاحب "العون" فإن أبا نعيم هو فضل بن دُكين الذي فِي سند أبي داود، فكأنه توهّمه غيره. سبحان منْ لا يغفل.
قَالَ المحدثون: طريق سفيان الثوري، عن حنظلة، عن طاوس، عن ابن عمر هي أصح الروايات، وروى الدارقطنيّ منْ طريق أبي أحمد الزبيري، عن سفيان، عن حنظلة، عن طاوس، عن ابن عباس، ورواه منْ طريق أبي نعيم، عن الثوري، عن حنظلة، عن سالم بدل طاوس، عن ابن عباس، قَالَ الدارقطنيّ: أخطأ أبو أحمد فيه. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن أرجح الروايات رواية أبي نعيم، والفريابيّ، كلاهما عن الثوريّ، عن حنظلة بن أبي سفيان، عن طاوس، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، بلفظ:"المكيال مكِيال أهل المدينة، والوزن وزن أهل مكة". وأما جعل أبي أحمد الزبيريّ منْ مسند ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، وكذا رواية الوليد بلفظ:"وزن المدينة، ومكيال مكة"، فمنكران. فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
55 - (بَيْعُ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوْفَى)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "يُسْتَوْفَى" بالبناء للمفعول أي يَقْبِضَهُ وافيًا، يقال: أوفى فلانًا حقّه: أعطاه وافيًا، كوفّاه، ووافاه، فاستوفاه، وتوفّاه. قاله فِي "القاموس". والله تعالى أعلم بالصواب.
4597 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا، فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن سلمة) المراديّ المصريّ، ثقة ثبت [11] 19/ 20.
2 -
(الحارث بن مسكين) القاضي المصريّ، ثقة فقيه [10] 9/ 9.
3 -
(ابن القاسم) عبد الرحمن الْعُتَقيّ المصريّ الفقيه، ثقة، منْ كبار [10] 19/ 20.
4 -
(مالك) بن أنس الإِمام المدنيّ الحجة الثبت [7] 7/ 7.
5 -
(نافع) مولى ابن عمر المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 12/ 12.
6 -
(ابن عمر) عبد الله رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه الحارث، فتفرد به هو وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين منْ مالك، والباقون مصريون. (ومنها): أن فيه ابن عمر منْ العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنِ ابْتَاعَ) أي اشترى (طَعَامًا، فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ) وفي الرواية التالية: "حَتَّى يقبضه"، وفيها زيادة معنى؛ لأنه قد يستوفيه بالكيل بأن يكيله البائع، ولا يُقبِضه للمشتري، بل يَحبسه عنده لينقُده الثمن مثلاً، ويُستفاد منه أنه لو استوفى المبيع المفصول منْ البائع، وأبقاه فِي منزل البائع، لا يكون قبضًا شرعيّا حَتَّى ينقله المشتري إلى مكان لا اختصاص للبائع به، كما نُقل عن الشافعيّ رحمه الله تعالى. أفاده فِي "الفتح" 5/ 83 - 84.
وَقَالَ الحافظ وليّ الدين رحمه الله تعالى: قوله: "حَتَّى يستوفيه"، وقوله:"حَتَّى يقبضه" بمعنى واحد، فإن الاستيفاء هو القبض، كما دلّت عليه الرواية الأخرى، والقبض فِي المنقولات يكون بالنقل، والمراد بالنقل تحويله إلى مكان، لا يختصّ بالبائع، أو يختصّ بالبائع بإذنه. انتهى "طرح التثريب" 5/ 1555.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله وليّ الدين رحمه الله منْ أن الاستيفاء والقبض بمعنى واحد أظهر مما سبق فِي عبارة "الفتح" منْ الفرق بينهما، فتأمل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -55/ 4597 و4598 و56/ 4606 و57/ 4607 و4608 و4609
و4610 - وفي "الكبرى" 56/ 6187 و57/ 6188 و6197 و58/ 6198 و6199 و6200 و6201. وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 2124 و2126 و2131 و2133 و2136 و2137 و2166 و2167 و"الحدود" 6852 (م) فِي "البيوع" 1526 و1527 (د) فِي "البيوع" 3492 و3493 و3494 و3495 و3498 (ق) فِي "التجارات" 2226 و2229 (أحمد) فِي "مسند العشرة" 397 و"مسند المكثرين" 4625 و4702 و5213 و5272 و4403 و5476 و5827 (الموطأ) فِي "البيوع" 1335 و1336. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي النهي عن بيع الطعام قبل القبض:
اختلفوا فِي هذه المسألة عَلَى سبعة أقوال:
(القول الأول): اختصاص ذلك بالمطعومات، كما هو مقتضى الْحَدِيث، فأما غيره، فيجوز بيعه قبل قبضه، وهذا مذهب مالك، وحَكَى عنه ابن عبد البرّ استثناء أمرين منْ المطعوم يجوز بيعهما قبل القبض:
[أحدهما]: الماء، وحكى ابن حزم عنه فِي الماء روايتين.
[الأمر الثاني]: الطعام المشترى جزافًا، فالمشهور منْ مذهب مالك جواز بيعه قبل القبض، وبه قَالَ الأوزاعيّ، ثم قَالَ: ولا أعلم أحدًا تابع مالكًا منْ جماعة فقهاء الأمصار عَلَى تفرقته بين ما اشتُري جِزافًا منْ الطعام، وبين ما اشتُري منه كيلاً إلا الأوزاعيّ، فإنه قَالَ: منْ اشترى طعامًا جزافًا، فهلك قبل القبض فهو منْ المشتري، وإن اشتراه مكايلةً، فهو منْ البائع، وهو نصّ قول مالك، وَقَدْ قَالَ الأوزاعيّ: منْ اشترى ثمرة لم يجز له بيعها قبل القبض، وهذا تناقض، ثم استدلّ ابن عبد البرّ لمالك برواية القاسم، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نهى أن يبيع أحدٌ طعامًا اشتراه بكيل حَتَّى يستوفيه"، قَالَ: فقوله: "بكيل" دليل عَلَى أن ما خالفه بخلافه.
وتُعُقّب بأن الرويات الآتية فِي نهي الَّذين يبتاعون الطعام جزافًا عن بيعه حَتَّى ينقلوه منْ مكانه صريحٌ فِي الرّدّ عَلَى منْ جوّز بيع الطعام قبل قبضه، إذا كَانَ اشتراه جزافًا. والله تعالى أعلم.
(القول الثاني): اختصاص ذلك بالمطعوم، سواء اشتُري جزافًا، أو مقدّرًا بكيل، أو وزن، أو غيرهما، وبه قَالَ بعض المالكيّة، وحكاه عن مالك، واختاره أبو بكر الوقار، وصححه أبو عمرو بن الحاجب، وحكاه ابن عبد البرّ عن أحمد، وأبي ثور، قَالَ: وهو الصحيح عندي؛ لثبوت الخبر بذلك، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعمل أصحابه، وعليه جمهور أهل العلم، قَالَ: وحجّتهم عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "منْ ابتاع طعامًا"، لم يقل: جزافًا، ولا كيلاً، بل ثبت عنه فيمن ابتاع طعامًا جزافًا أن لا يبيعه حَتَّى ينقله، ويقبضه، قَالَ: وضعّفوا الزيادة فِي قوله: "طعاما بكيل".
(القول الثالث): اختصاص ذلك بما اشتُري مقدّرًا بكيل، أو وزن، أو ذرع، أو عدد، سواء كَانَ مطعومًا، أم لا؟ فإن اشتُري بغير تقدير جاز بيعه قبل قبضه، وهذا هو المشهور عن أحمد، كما قَالَ الشيخ مجد الدين ابن تيميّة فِي "المحرّر"، وَقَالَ ابن عبد البرّ: رُوي عن عثمان بن عفّان، وسعيد بن المسيّب، والحسن البصريّ، والحكم بن عُتيبة، وحمّاد بن أبي سُليمان، وبه قَالَ إسحاق بن راهويه، ورُوي عن أحمد بن حنبل، والأول أصحّ عنه. انتهى. والمعتمد فِي ذلك قول ابن تيميّة، فإنه أعرف بمذهبه. قَالَ ابن عبد البرّ: وحجتهم أن الطعام المنصوص عليه أصله الكيل، أو الوزن، فكلّ مكيل، أو موزون، فذلك حكمه.
وتُعُقّب بأن النهي الوارد عن بيع المشترَى جزافًا قبل قبضه يردّ هَذَا، كما تقدّم بيانه. وعن أحمد رواية أخرى: أن صبر المكيل والموزون خاصّة كبيعهما كيلاً، ووزنًا.
(القول الرابع): طرد ذلك فِي جميع الأشياء، المطعوم، وغيره، والمقدّر، وغيره، فلا يجوز بيعها قبل قبضها، إلا العقار، وبهذا قَالَ أبو حنيفة، وأبو يوسف.
(القول الخامس): منع المبيع قبل القبض مطلقًا، حَتَّى فِي العقار، وبهذا قَالَ الشافعيّ، ومحمد بن الحسن، وهو روايةٌ عن أحمد، وحكاه ابن عبد البرّ عن عبد الله ابن عباس، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم، وسفيان الثوريّ، وسفيان بن عُيينة، ويدلّ لذلك أن ابن عبّاس رضي الله عنهما، لَمّا روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "أنه نهى عن بيع الطعام حَتَّى يُستوفَى"، قَالَ: ولا أحسب كلّ شيء إلا مثله، رواه الأئمة الستّة، وهذا لفظ البخاريّ، ولفظ مسلم:"وأحسب كلّ شيء مثله"، وفي لفظ:"وأحسب كلّ شيء بمنزلة الطعام"، وفي لفظ له:"حَتَّى يكتاله"، وكذلك قَالَ جابر رضي الله عنه أي أن غير الطعام مثله، قَالَ ابن عبد البرّ: فدلّ عَلَى أنهما فَهِما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم المراد والمغزى. وعن حكيم بن حِزام رضي الله عنه قَالَ: قلت: يا رسول الله إني أشتري بيوعًا، فما يحلّ لي منها، وما يحرم؟ قَالَ:"إذا اشتريت بيعًا، فلا تبعه حَتَّى تقبضه"، رواه النسائيّ باختلاف فِي إسناده، ومتنه، وصححه ابن حزم، وَقَالَ ابن عبد البرّ: هَذَا الإسناد، وإن كَانَ فيه مقالٌ، ففيه لهذا المذهب استظهار. وروى أبو داود وغيره عن عبد الله بن عمرو، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحلّ بيعٌ وسلف، ولا بيع ما لم يُضمن، ولا بيع ما ليس عندك"، وهو حديث صحيح، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أنه نهى أن تباع السَّلَعُ حيث تُشترى حَتَّى يحوزها الذي اشتراها إلى رحله"، رواه الحاكم، وَقَالَ: صحيح عَلَى شرط مسلم، لكن فيه عنعنة ابن إسحاق.
فهذه الأحاديث حجة لهذا المذهب، وللذي قبله إلا أن صاحب المذهب الذي قبله
استثنى منْ ذلك العقار؛ لانتفاء الغرر فيه، فإن الهلاك فيه نادر بخلاف غيره.
(القول السادس): جواز البيع قبل القبض مطلقًا فِي كلّ شيء، وبهذا قَالَ عثمان البتّيّ، قَالَ ابن عبد البرّ: هَذَا قول مردود بالسنّة، والحجة المجمعة عَلَى الطعام فقط، وأظنّه لم يبلغه الْحَدِيث، ومثل هَذَا لا يُلتفت إليه. وَقَالَ النوويّ: وحكاه المازريّ، والقاضي عياض، ولم يحكه الأكثرون، بل نقلوا الإجماع عَلَى بطلان بيع الطعام المبيع قبل قبضه، قالوا: وإنما الخلاف فيما سواه، فهو شاذّ متروك. قَالَ وليّ الدين: وحكاه ابن حزم عن عطاء بن أبي رباح.
(القول السابع): منع البيع قبل القبض فِي القَمْح مطلقًا، وفي غيره إن ملكه بالشراء خاصّةً، ويُعتبر أيضًا فِي القمح خاصَّةً مع القبض، وهو إطلاق اليد عليه، وعدم الحيلولة بينه وبين أن ينقله عن موضعه الذي هو فيه إلى مكان آخر، فإن اشتراه بكيل لم يحلّ له بيعه حَتَّى يكتاله، فإذا اكتاله حلّ له بيعه، وإن لم ينقله عن موضعه، وبهذا قَالَ ابن حزم الظاهريّ، وتمسّك فِي القمح بحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما:"أما الذي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُباع حَتَّى يُقبض، فهو الطعام"، وَقَالَ: فهذا تخصيص للطعام فِي البيع خاصّة، وعموم له بأيّ وجه مُلك، واسم الطعام فِي اللغة لا يُطلق إلا عَلَى القمح وحده، وإنما يُطلق عَلَى غيره بإضافة، وتمسّك فِي غير القمح بحديث حكيم بن حزام رضي الله عنه المتقدّم، وَقَالَ: هَذَا عموم لكلّ بيع، ولكلّ ابتياع، والمذكور فِي حديثي ابن عمر، وابن عبّاس رضي الله عنهم بعض ما فِي حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه، فهو أعمّ، ثم حكى مثل قوله عن ابن عبّاس، وجابر، والحسن، وابن شُبْرُمة رضي الله عنهم. هكذا ذكر هذه الأقوال فِي "طرح التثريب" 5/ 1555 - 1558.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أرجح الأقوال هو القول الخامس، وهو منع البيع قبل القبض، مطلقًا، حَتَّى فِي العقار، فهو أرجح؛ لثبوت النصوص بذلك:
(فمنها): ما يأتي للمصنّف رحمه الله تعالى منْ حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحلّ سلَفٌ، وبيعٌ، ولا شرطان فِي بيع، ولا ربح ما لم يُضمَن"، وهو حديث صحيحٌ، فمعنى "ربح ما لم يُضمن" هو ربح مبيع اشتراه، فباعه، قبل أن ينتقل منْ ضمان البائع، وهو يعمّ كل شيء، الطعام، وسائر المنقولات، وغيرها.
(ومنها): حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه الذي أخرجه أحمد فِي "مسنده" بلفظ: "إذا اشتريت بيعًا، فلا تبعه حَتَّى تقبضه"، فهو وإن كَانَ فِي سنده راو مبهم، إلا أنه يشهد له حديث ابن عمرو هَذَا.
(ومنها): ما أخرجه أبو داود، والحاكم، وابن حبّان، وصحّحاه، منْ حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه بلفظ:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السِّلع حيث تبتاع حَتَّى يحوزها التجّار إلى رحالهم"، فهو وإن كَانَ فيه محمد بن إسحاق، وَقَدْ عنعنه، لكنه يشهد له ما تقدّم، فهذه الأحاديث كما رأيت صالحة للحجيّة، ولاسيّما حديث عبد الله بن عَمْرِو رضي الله تعالى عنهما، فإنه بمفرده كاف للحجيّه، وأيضًا قول ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما فيما يأتي:"فأحسب أن كل شيء بمنزلة الطعام"، وفي رواية البخاريّ:"ولا أحسب كل شيء إلا مثله".
والحاصل أن أرجح الأقوال هو القول الخامس، وهو مذهب الشافعيّ رحمه الله تعالى وجماعة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي التصرّف فِي المبيع قبل القبض بغير البيع:
اختلفوا فِي ذلك عَلَى أربعة أقوال:
(القول الأول): قصر المنع عَلَى البيع، وتجويز غيره منْ التصرّفات قبل القبض، قاله ابن حزم، قَالَ: والشركة، والتولية، والإقالة كلّها بيوعٌ مبتدأة لا يجوز فِي شيء منها إلا ما يجوز فِي سائر البيوع.
(القول الثاني): أن سائر التصرّفات فِي المنع قبل القبض كالبيع، قَالَ وليّ الدين: وهذا هو الذي فهمته منْ مذهب الحنابلة؛ لإطلاق ابن تيميّة فِي "المحرّر" التصرّف منْ غير استثناء شيء منه.
(القول الثالث): طرد المنع فِي كلّ معاوضة فيها حقّ توفية، منْ كيل، أو شبهه بخلاف القرض، والهبة، والصدقة، وهذا مذهب مالك، وأرخص فِي الإقالة، والتولية، والشركة مع كونها معاوضات فيها حقّ توفية، قَالَ ابن حزم: واحتجّوا بما رويناه منْ طريق عبد الرزّاق، قَالَ ابن جريج: أخبرني ربيعة بن أبي عبد الرحمن، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله حديثًا مستفيضًا فِي المدينة:"منْ ابتاع طعامًا فلا يبعه حَتَّى يقبضه، ويستوفيه، إلا أن يشرك فيه، أو يوليه، أو يقيله"، وَقَالَ مالك: إن أهل العلم اجتمع رأيهم عَلَى أنه لا بأس بالشركة، والإقالة، والتولية فِي الطعام وغيره -يعني قبل القبض- قَالَ ابن حزم: ما نعلم رُوي هَذَا إلا عن ربيعة، وطاوس فقط، وقوله عن الحسن فِي التولية، قد جاء عنه خلافها، قَالَ ابن حزم: وخبر ربيعة مرسل، ولو استفاضَ عن أصل صحيح، لكان الزهريّ أولى بأن يعرف ذلك منْ ربيعة، والزهريّ مخالف له فِي ذلك، قَالَ: التولية بيع فِي الطعام وغيره، ثم ذكر عن الحسن أنه قَالَ: ليس له أن يولّيه حَتَّى
يقبضه، فقيل له: أبرأيك تقوله؟ قَالَ: لا، ولكن أخذناه عن سلفنا، وأصحابنا، قَالَ ابن حزم: سلف الحسن هم الصحابة، أدرك منهم خمسمائة وأكثر، وأصحابه أكابر التابعين، فلو أقدم امرؤ عَلَى دعوى الإجماع هنا لكان أصحّ منْ الإجماع الذي ذكره مالك.
(القول الرابع): المنع منْ سائر التصرّفات، كالبيع، إلا العتق، والاستيلاد، والتزويج، والقسمة، هَذَا حاصل الفتوى فِي مذهب الشافعيّ، مع الخلاف فِي أكثر الصور، وأما الوقف، فَقَالَ المتوليّ فِي "التتمّة": إن قلنا: إن الوقف يفتقر إلى القبول، فهو كالبيع، وإلا فهو كالإعتاق، وبه قطع الماورديّ فِي "الحاوي"، وَقَالَ: يصير قابضًا، حَتَّى لو لم يرفع البائع يده عنه، صار مضمونًا عليه بالقيمة، فمن قصر المنع عَلَى البيع، اقتصر عَلَى مورد النصّ، ومن عدّاه إلى غيره، فبالقياس، وذلك متوقّفٌ عَلَى فهم العلّة فِي ذلك، ووجودها فِي الْفَرَع المقيس، والله تعالى أعلم.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأرجح القول الأول، وهو قصر النهي عَلَى البيع فقط؛ عملاً بظواهر النصوص، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي بيع ما مُلك بغير البيع قبل القبض:
قَالَ الحافظ وليّ الدين رحمه الله تعالى: والذي فِي الْحَدِيث المنع فيما مُلك بالبيع، وهو ساكت عما مُلك بغيره، وللعلماء فِي ذلك خلاف أيضًا:
قَالَ الشافعيّة: يلتحق بالمملوك بالبيع ما كَانَ فِي معناه، وهو ما كَانَ مضمونا عَلَى منْ هو فِي يده بعقد معاوضة، كالأجرة، والعوض المصالح عليه عن المال، وكذا الصداق؛ بناءً عَلَى أنه مضمون عَلَى الزوج ضمان عقد، وهو الأظهر، أما ما ليس مضمونًا عَلَى منْ هو تحت يده، كالوديعة، والإرث، أو مضمونًا ضمان يد، وهو المضمون بالقيمة، كالمستام، ونحوه، فيجوز بيعه قبل القبض؛ لتمام الملك فيه. ومذهب أحمد نحوه، قَالَ ابن تيميّة فِي "المحرّر": وكلّ عين مُلكت بنكاح، أو خُلع، أو صلح عن دم عمدًا، أو عتق، فهي كالبيع فِي ذلك كله، لكن يجب بتلفها مثلها، إن كانت مثليّة، وإلا فقيمتها، ولا فسخ لعقدها بحال، فأما ما ملك بإرث، أو وصيّة منْ مكيل، أو غيره، فالتصرّف فيه قبل قبضه جائزٌ. وفرّق ابن حزم فِي ذلك بين القمح وغيره، فَقَالَ فِي القمح: إنه بأيّ وجه ملكه لا يحلّ له بيعه قبل قبضه، وَقَالَ فِي غيره: متى ملكه بغير البيع فله بيعه قبل قبضه. انتهى "طرح التثريب" 5/ 1559.
وَقَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: وكل عوض ملك بعقد ينفسخ بهلاكه قبل القبض، لم
يجز التصرف فيه قبل قبضه، كالذي ذكرنا، والأجرة، وبدل الصلح، إذا كانا منْ المكيل، أو الموزون، أو المعدود، وما لا ينفسخ العقد بهلاكه، جاز التصرف فيه قبل قبضه، كعوض الخلع، والعتق عَلَى مال، وبدل الصلح عن دم العمد، وأرش الجناية، وقيمة المتلف؛ لأن الْمُطْلِق للتصرف الملكُ، وَقَدْ وُجد، لكن ما يتوهم فيه غررُ الانفساخِ بهلاك المعقود عليه، لم يجز بناء عقد آخر عليه تحرزا منْ الغرر، وما لا يتوهم فيه ذلك الغرر انتفى المانع، فجاز العقد عليه، وهذا قول أبي حنيفة، والمهر كذلك عند القاضي، وهو قول أبي حنيفة؛ لأن العقد لا ينفسخ بهلاكه، وَقَالَ الشافعيّ: لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه، ووافقه أبو الخطاب فِي غير المتعين؛ لأنه يخشى رجوعه بانتقاض سببه بالردة قبل الدخول، أو انفساخه بسبب منْ جهة المرأة، أو نصفه بالطلاق، أو انفساخه بسبب منْ غير جهتها، وكذلك قَالَ الشافعيّ فِي عوض الخلع، وهذا التعليل باطل بما بعد القبض، فإن قبضه لا يمنع الرجوع فيه قبل الدخول.
وأما ما مُلك بإرث، أو وصية، أو غنيمة، وتعين ملكه فيه، فإنه يجوز له التصرف فيه بالبيع وغيره قبل قبضه؛ لأنه غير مضمون بعقد معاوضة، فهو كالمبيع المقبوض، وهذا مذهب أبي حنيفة، والشافعي، ولا أعلم عن غيرهم خلافهم، وإن كَانَ لإنسان فِي يد غيره وديعة، أو عارية، أو مضاربة، أو جعله وكيلا فيه جاز له بيعه ممن هو فِي يده ومن غيره؛ لأنه عين مال مقدور عَلَى تسليمها، لا يخشى انفساخ الملك فيها، فجاز بيعها كالتي فِي يده، وإن كَانَ غصبا جاز بيعه ممن هو فِي يده؛ لأنه مقبوض معه فأشبه بيع العارية ممن هي فِي يده، وأما بيعه لغيره فإن كَانَ عاجزا عن استنقاذه، أو ظن أنه عاجز لم يصح شراؤه له؛ لأنه معجوز عن تسليمه إليه، فأشبه بيع الآبق والشارد، وإن ظن أنه قادر عَلَى استنقاذه ممن هو فِي يده صح البيع؛ لإمكان قبضه، فإن عجز عن استنقاذه فله الخيار بين الفسخ والإمضاء؛ لأن العقد صح؛ لكونه مظنون القدرة عَلَى قبضه، ويثبت له الفسخ للعجز عن القبض، فأشبه ما لو باعه فرسا، فشردت قبل تسليمها، أو غائبا بالصفة، فعجز عن تسليمه. انتهى "المغني" 6/ 191 - 192. وهو بحث نفيس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): فِي أقوال أهل العلم فِي تفسير القبض:
قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: وقبض كل شيء بحسبه، فإن كَانَ مكيلا أو موزونا، بيع كيلا أو وزنا، فقبضه بكيله ووزنه، وبهذا قَالَ الشافعيّ. وَقَالَ أبو حنيفة: التخليةُ فِي ذلك قبض، وَقَدْ رَوى أبو الخطاب، عن أحمد رواية أخرى: أن القبض فِي كل شيء بالتخلية مع التمييز؛ لأنه خَلَّى بينه وبين المبيع منْ غير حائل، فكان قبضا له كالعقار.
ولنا ما رَوَى أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذا بعت فكِلْ، وإذا ابتعت فاكتل"، رواه البخاريّ، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أنه نهى عن بيع الطعام حَتَّى يجري فيه الصاعان: صاع البائع، وصاع المشتري"، رواه ابن ماجه
(1)
، وهذا فيما بيع كيلا، وإن بيع جزافا فقبضه نقله، لأن ابن عمر قَالَ:"كانوا يُضرَبون عَلَى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا اشتروا طعاما جِزافا، أن يبيعوه فِي مكانه، حَتَّى يحولوه"، وفي لفظ:"كنا نبتاع الطعام جِزافا، فبُعِثَ علينا منْ يأمرنا بانتقاله منْ مكانه، الذي ابتعناه إلى مكان سواه، قبل أن نبيعه"، وفي لفظ:"كنا نشتري الطعام منْ الركبان جِزافًا، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حَتَّى ننقله"، رواهن مسلم. وهذا يبين أن الكيل إنما وجب فيما بيع بالكيل، وَقَدْ دل عَلَى ذلك أيضا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إذا سميت الكيل فكل"
(2)
، رواه الأثرم.
وإن كَانَ المبيع دراهم أو دنانير، فقبضها باليد، هان كَانَ ثيابا باليد فقبضها نقلها، وإن كَانَ حيوانا فقبضه تمشيته منْ مكانه، وإن كَانَ مما لا يُنقل ويحول، فقبضه التخلية بينه وبين مشريه، لا حائل دونه، وَقَدْ ذكره الْخِرَقي فِي "باب الرهن" فَقَالَ: إن كَانَ مما ينقل فقبضه أخذه إياه منْ راهنه منقولا، وإن كَانَ لا ينقل فقبضه تخلية راهنه بينه وبين مرتهنه، لا حائل دونه، ولأن القبض مطلق فِي الشرع، فيجب الرجوع فيه إلى العرف، كالإحراز، والتفرق، والعادة فِي قبض هذه الأشياء ما ذكرنا. انتهى "المغني" 6/ 176 - 188. وهو بحث نفيس جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): فِي بيان مَن عليه أجرة الكيل، والوزن:
قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: وأجرة الكيال والوزان، فِي المكيل والموزون عَلَى البائع؛ لأن عليه تقبيضَ المبيع للمشتري، والقبض لا يحصل إلا بذلك، فكان عَلَى البائع، كما أن عَلَى بائع الثمرة سقيَهَا، وكذلك أجرة الذي يَعُدّ المعدودات، وأما نقل المنقولات وما أشبهه، فهو عَلَى المشتري؛ لأنه لا يتعلق به حق توفية، نص عليه أحمد رحمه الله تعالى.
قَالَ: ويصح القبض قبل نقد الثمن وبعده، باختيار البائع، وبغير اختياره؛ لأنه ليس للبائع حبس المبيع عَلَى قبض الثمن، ولأن التسليم منْ مقتضيات العقد، فمتى وُجد بعده وقع موقعه كقبض الثمن. انتهى "المغني" 6/ 188. والله تعالى أعلم بالصواب،
(1)
رواه ابن ماجه فِي "سننه" 2/ 750 وفي إسناده محمد بن أبي ليلى، سيء الحفظ، وحسن الْحَدِيث بعضهم.
(2)
رواه ابن ماجه فِي "سننه" 2/ 750 وفي سنده عبد الله بن لهيعة، لكنه منْ رواية عبد الله بن يزيد المقرىء، وهو ممن روى عنه قبل اختلاطه، ولذلك صحح الْحَدِيث بعض المحدّثين.
وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4598 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا، فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الْحَدِيث متّفقٌ عليه، وسبق تمام البحث فيه فِي الْحَدِيث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4599 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَاسِمٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا، فَلَا يَبِيعُهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أحمد بن حرب": هو الطائيّ الموصليّ، صدوق [10] 102/ 135 منْ أفراد المصنّف.
[تنبيه]: وقع فِي نسخ "المجتبى""محمد بن حرب" بدل "أحمد بن حرب"، والصواب "أحمد بن حرب"، وهو الذي وقع فِي "الكبرى" 4/ 36 رقم (6189)، و"تحفة الأشراف" 5/ 11. والله تعالى أعلم.
و"قاسم": هو ابن يزيد الْجَرْميّ، أبو يزيد الموصليّ، ثقة عابد [9] 102/ 135 منْ أفراد المصنّف أيضًا. والباقون كلهم رجال الصحيح. و"سفيان": هو الثوريّ. و"ابن طاوس": هو عبد الله.
وقوله: "حَتَّى يكتاله": كناية عن القبض، أو لكون القبض عادةً بالكيل، فهو فِي معنى الرواية الآتية:"حَتَّى يقبضه"، وتمام شرح الْحَدِيث سبق فِي حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وفيه مسألتان:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -55/ 4599 و4600 و4601 و4602 - وفي "الكبرى" 56/ 6189 و6190 و6191 و6192 و6193. وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 2132 (م) فِي "البيوع" 1525 (د) فِي "البيوع" 3496 و3497 (ت) فِي "البيوع" 1291 (ق) فِي "التجارات" 2227 (أحمد) فِي "مسند بني هاشم" 2580، وبقية المسائل المتعلّقة بالحديث قد تقدّمت فِي شرح حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فلتُراجَع هناك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4600 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، وَالَّذِي قَبْلَهُ: "حَتَّى يَقْبِضَهُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.
و"إسحاق بن منصور": هو الْكَوْسج. و"عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. و"سفيان": هو الثوريّ. و"عمرو": هو ابن دينار.
وقوله: "بمثله، والذي قبله": أي إن لفظ حديث عمرو بن دينار عن طاوس، بمثل لفظ رواية ابن طاوس، عن أبيه، وأيضًا بمثل لفظ الْحَدِيث الذي قبله، وهو حديث ابن عمر، فإن كلا اللفظين واحد:"منْ ابتاع طعامًا فلا يبعه". وقوله: "حَتَّى يقبضه" يعني آخر رواية عمرو بلفظ "حَتَّى يقبضه"، بخلاف رواية ابن طاوس، فإنها بلفظ:"حَتَّى يكتاله"، وَقَدْ سبق أن معنى الروايتين واحد.
والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4601 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ طَاوُسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: "أَمَّا الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يُبَاعَ حَتَّى يُسْتَوْفَى الطَّعَامُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.
و"سفيان": هو ابن عيينة.
وقوله: "أما الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم الخ"، وفي رواية البخاريّ عن عليّ بن المدينيّ، قَالَ: حدثنا سفيان، قَالَ: الذي حفظناه منْ عمرو بن دينار، سمع طاوسًا يقول: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: "أما الذي نهى عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فهو الطعام أن يباع حَتَّى يُقبض" الْحَدِيث.
قَالَ فِي "الفتح" 5/ 82 - 83: وقوله: "الذي حفظناه منْ عمرو": كأن سفيان يشير إلى أن فِي رواية غير عمرو بن دينار، عن طاوس، زيادة عَلَى ما حدثهم به عمرو بن دينار عنه، كسؤال طاوس منْ ابن عباس عن سبب النهي وجوابه، وغير ذلك.
وقوله: "عن ابن عباس أما الذي نهى عنه الخ": أي وأما الذي لم أحفظ نهيه فما سوى ذلك.
وقوله: "فهو الطعام أن يباع حَتَّى يقبض"، فِي رواية مسعر، عن عبد الملك بن ميسرة، عن طاوس، عن ابن عباس:"منْ ابتاع طعاما فلا يبعه حَتَّى يقبضه"، قَالَ
مسعر: وأظنه قَالَ: "أو عَلَفًا" وهو بفتح المهملة، واللام، والفاء. انتهى.
والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4602 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا، فَلَا يَبِيعُهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ"، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَحْسَبُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة.
و"عبد الرزاق": هو ابن همّام الصنعانيّ. و"معمر": هو ابن راشد الصنعانيّ.
وقوله: "فأحسب أن كلّ شيء بمنزلة الطعام"، وفي رواية البخاريّ:"ولا أحسب كلّ شيء إلا مثله". وهذا منْ تفقه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ومال ابن المنذر إلى اختصاص ذلك بالطعام، واحتجّ باتفاقهم عَلَى أن منْ اشترى عبدًا، فأعتقه قبل قبضه أن عتقه جائز، قَالَ: فالبيع كذلك.
وتعقب بالفارق، وهو تشوف الشارع إلى العتق.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وَقَدْ تقدّم ترجيح إطلاق المنع، فِي المسألة الرابعة، فِي شرح حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما الماضي، فلا تغفل.
وفي رواية للبخاريّ منْ طريق وُهيب، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع الرجل طعامًا حَتَّى يستوفيه"، قلت لابن عبّاس: كيف ذاك؟ قَالَ: ذاك دراهم بدارهم، والطعام مرجأ".
قَالَ فِي "الفتح" 5/ 81: معناه: أنه استفهام عن سبب هَذَا النهى، فأجابه ابن عباس بأنه إذا باعه المشتري قبل القبض، وتأخر المبيع فِي يد البائع، فكأنه باعه دراهم بدراهم، ويبين ذلك ما وقع فِي رواية سفيان، عن ابن طاوس عند مسلم، قَالَ طاوس: قلت لابن عباس: لِمَ؟ قَالَ: ألا تراهم يتبايعون بالذهب، والطعامُ مرجأ: أي فإذا اشترى طعاما بمائة دينار مثلا، ودفعها للبائع، ولم يقبض منه الطعام، ثم باع الطعام لأخر بمائة وعشرين دينارا، وقبضها والطعام فِي يد البائع، فكأنه باعه مائة دينار بمائة وعشرين دينارا، وعلى هَذَا التفسير لا يختص النهي بالطعام، ولذلك قَالَ ابن عباس:"لا أحسب كل شيء إلا مثله"، ويؤيده حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع السِّلَعُ حيث تبتاع، حَتَّى يحوزها التجار إلى رحالهم"، أخرجه أبو داود، وصححه ابن حبّان.
قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: هذه الأحاديث حجة عَلَى عثمان البتّيّ، حيث أجاز
بيع كل شيء قبل قبضه. وَقَدْ أخذ بظاهرها مالك، فحمل الطعام عَلَى عمومه، وألحق بالشراء جميع المعاوضات، وألحق الشافعيّ، وابن حبيب، وسحنون بالطعام كل ما فيه حق توفية، وزاد أبو حنيفة، والشافعي فعدياه إلى كل مُشترى، إلا أن أبا حنيفة استثنى العقار، ومالا ينقل، واحتج الشافعيّ بحديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، قَالَ:"نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يُضمَن"، أخرجه الترمذيّ.
وفي معناه حديث حكيم بن حزام المتقدّم.
وفي صفة القبض عن الشافعيّ تفصيل: فما يُتناول باليد، كالدراهم والدنانير والثوب، فقبضه بالتناول، وما لا يُنقل كالعقار والثمر عَلَى الشجر، فقبضه بالتخلية، وما ينقل فِي العادة، كالأخشاب، والحبوب والحيوان، فقبضه بالنقل إلى مكان، لا اختصاص للبائع به، وفيه قولُ أنه يكتفي فيه بالتخلية. انتهى عبارة "الفتح" 5/ 83.
وَقَدْ تقدّم البحث فِي هَذَا مستوفًى فِي شرح حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فِي أول الباب، فأرجع إليه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4603 -
(أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مَوْهَبٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صَيْفِي، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَبِعْ طَعَامًا حَتَّى تَشْتَرِيَهُ، وَتَسْتَوْفِيَهُ").
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(إبراهيم بن الحسن) بن الهيثم الخثعميّ، أبو إسحاق المصّيصيّ ثقة [11] 51/ 64.
2 -
(حجاج بن محمد) الأعور المصّيصيّ، أبو محمد، ترمذيّ الأصل، ثقة ثبت، لكنه اختلط فِي آخره [9] 28/ 32.
3 -
(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكيّ، ثقة فقيه فاضل، يدلس [6] 28/ 32.
4 -
(عطاء) بن أبي رباح أسلم القرشي مولاهم المكيّ، ثقة فقيه فاضل [3] 112/ 154.
5 -
(صفوان بن موهب) الحجازيّ، مقبول [6].
روى عن عبد الله بن عِصْمة الْجُشَميّ، وعبد الله بن محمد بن صَيفيّ، ومسلم بن عَقيل بن أبي طالب. وعنه عطاء بن أبي رَبَاح، وعمرو بن دينار. ذكره ابن حبّان فِي
"الثقات"، تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.
6 -
(عبد الله بن محمد بن صَيْفيّ) المخزوميّ، مقبول [3].
روى عن حكيم بن حزام، وعنه صفوان بن موهب، ذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.
7 -
(حكيم بن حزام) -بكسر المهملة- ابن خُويلد بن أسد بن عبد العزّي الأسديّ، أبو خالد المكيّ، ابن أخي خديجة الكبرى رضي الله تعالى عنهما، أسلم يوم الفتح، وصحب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وله (74) سنة، ثم عاش بعده إلى سنة (54) أو بعدها رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أنه مسلسل بالمكيين، غير شيخه، وشيخ شيخه، فمصيصيان. (ومنها): أن رواية عطاء عن صفوان منْ رواية الأكابر عن الأصاغر، فإن عطاء منْ الطبقة الثالثة، وصفوان منْ الطبقة السادسة. (ومنها): أن صحابيه منْ المعمرين، عاش (120) سنة، نصفها فِي الجاهلية، ونصفها فِي الإِسلام، وولد فِي جوف الكعبة، ولم يُسمع هَذَا لغيره. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ حَكِيم بْنِ حِزَامٍ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَبعْ طَعَامًا حَتَّى تَشْتَرِيَهُ) أي حَتَّى تملكه، فهو بمعنى حديثه الآخر: "نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عندي"، أخرجه الترمذيّ، وَقَالَ: حسنٌ صحيح، وحديثه الآتي 60/ 4615 - بسند صحيح: قَالَ: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، يأتيني الرجل، فيسألني البيع، ليس عندي أبيعه منه، ثم أبتاعه له منْ السوق؟، قَالَ: "لا تبع ما ليس عندك" (وَتَسْتَوْفِيَهُ) أي تقبضه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
والحديث صحيح، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا 55/ 4603 و4604 و4605 - وفي "الكبرى" 56/ 6194 و6195 و6196.
[فإن قيل]: هَذَا الْحَدِيث فِي سنده صفوان بن موهب، وعبد الله بن محمد بن صيفي، وهما مقبولان، فكيف يصح؟
[أجيب]: بأنه إنما صح بمجموع الطرق المذكورة فِي الباب. والله تعالى أعلم.
ومحلّ الترجمة منْ الْحَدِيث قوله: "وتستوفيه"، فهو بمعنى قوله:"حَتَّى تقبضه"، وَقَدْ
تقدّم تمام البحث فيه قريبًا، وأما قوله:"لا تبع طعامًا حَتَّى تشتريه"، فسيأتي البحث عنه بعد أربعة أبواب، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4604 -
(أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنِي عَطَاءٌ ذَلِكَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِصْمَةَ الْجُشَمِيِّ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الإسناد هو المذكور قبله، غير:
1 -
(عبد الله بن عصمة الْجُشَميّ) بضم الجيم، وفتح الشين المعجمة الحجازيّ مقبول [3].
روى عن حكيم بن حزام، وعنه عطاء بن أبي رباح، ويوسف بن ماهك، وصفوان ابن موهب المكّيّون. ذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ ابن حزم: متروك، وتلقى ذلك عنه عبد الحقّ، فَقَالَ: ضعيف جدّا. وَقَالَ ابن القطّان: بل هو مجهول الحال. وَقَالَ الحافظ العراقيّ: لا أعلم أحدًا منْ أئمة الجرح والتعديل تكلّم فيه، بل ذكره ابن حبّان فِي "الثقات". تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4605 -
(أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ حِزَامِ بْنِ حَكِيمٍ، قَالَ: قَالَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ: "ابْتَعْتُ طَعَامًا، مِنْ طَعَامِ الصَّدَقَةِ، فَرَبِحْتُ فِيهِ قَبْلَ أَنْ أَقْبِضَهُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: "لَا تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "سليمان بن منصور": هو البلخي البزّاز الدُّهنيّ الْجَرْميّ، الملقّب زَرْغَنْدَه، لا بأس به [10] 60/ 75 منْ أفراد المصنّف. و"أبو الأحوص": هو سلّام بن سُليم الحنفيّ الكوفيّ. و"عبد العزيز بن رُفيع": هو أبو عبد الله المكيّ، نزيل الكوفة، ثقة [4] 190/ 2997.
و"حزام بن حكيم" بن حزام بن خُويلد الأسديّ القرشيّ، حجازيّ مقبول [3].
روى عن أبيه، وعنه عطاء بن أبي رباح، وزيد بن رُفيع، ذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط. وشرح الْحَدِيث واضح، وهو حديث صحيح، كما سبق بيانه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
***
56 - (النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ مَا اشْتُرِيَ مِنَ الطَّعَامِ بِكَيْلٍ حَتَّى يُسْتَوْفَى)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "اشتُري" بالبناء للمجهول، وكذا قوله:"يُستوفَى": أي يُقبض.
الظاهر أن المصنّف رحمه الله تعالى أراد بالاستيفاء هنا الاستيفاء كيلاً، فهو أمر زائد عَلَى معنى القبض المذكور فِي الباب الماضي، فيكون هَذَا أخصّ منه، فإذا اشترى طعامًا كيلاً، فلا يكفي مجرد القبض، بل لابدّ منْ استيفائه كيلاً، فلا يجوز أن يبيعه إلا بعد قبضه كيلاً، وهو معنى حديث جابر رضي الله عنه:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حَتَّى تجري فيه الصاعان: صاع البائع، وصاع المشتري"، ونحوه للبزّار منْ حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ الحافظ: بإسناد حسن.
وفي ذلك دلالة عَلَى اشتراط القبض فِي المكيل بالكيل، وفي الموزون بالوزن، فمن اشترى شيئا مكايلة، أو موازنة، فقبضه جزافا فقبضه فاسد، وكذا لو اشترى مكايلة، فقبضه موازنة وبالعكس، ومن اشترى مكايلة وقبضه، ثم باعه لغيره، لم يجز تسليمه بالكيل الأول، حَتَّى يكيله عَلَى منْ اشتراه ثانيا، وبذلك كله قَالَ الجمهور، وَقَالَ عطاء: يجوز بيعه بالكيل الأول مطلقا، وقيل: إن باعه بنقد جاز بالكيل الأول، وإن باعه بنسيئة، لم يجز بالأول، والأحاديث المذكورة ترد عليه. قاله فِي "الفتح" 5/ 84 - 85. والله تعالى أعلم بالصواب.
4606 -
(أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، نَهَى أَنْ يَبِيعَ أَحَدٌ طَعَامًا، اشْتَرَاهُ بِكَيْلٍ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "سليمان بن داود": هو الْمَهْريّ، أبو الربيع المصريّ، ابن أخي رِشدين بن سعد، ثقة [11] 63/ 79. و"ابن وهب": هو عبد الله. و"عمرو بن الحارث": هو أبو يوب المصريّ الثقة الثبت. و"المنذر بن عُبيد": هو المدنيّ، مقبول [6] 42/ 2214 منْ أفراد المصنّف. و"القاسم بن محمد": هو ابن أبي بكر الصدّيق المدنيّ، هو أحد الفقهاء السبعة.
وقوله: "اشتراه بكيل" خرج مخرج الغالب المعتاد، فلا مفهوم له، فلا يخالف الأحاديث الماضية، وأحاديث الجِزاف الآتية.
والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق بيانه فِي أول أحاديث الباب الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
57 - (بَيْعُ مَا يُشْتَرَى مِنَ الطَّعَامِ جِزَافًا قَبْلَ أَنْ يُنْقَلَ مِنْ مَكَانِهِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: المراد بيان حكم بيع ما يُشترى منْ الطعام بدون كيل قبل نقله منْ مكانه، وهو المنع؛ فـ"بيع" مضاف إلى "ما يُشترى" منْ إضافة المصدر إلى مفعوله، و"يُشترى" مبنيٌّ للمفعول، وكذا قوله:"يُنقل".
وقوله: "جِزافًا": قَالَ المجد: "الْجِزَاف"، و"الْجِزَافَةُ" -مثلّثتين، و"الْمُجَازفة": الْحَدْسُ فِي البيع والشراء، مُعَرَّبُ "كزاف"، وبيعٌ جزافٌ مثلّثةً، وجَزِيفٌ، كأمير. انتهى "قاموس". وَقَالَ ابن الأثير:"الْجَزْفُ" و"الجزاف": المجهول القدر، مكيلاً كَانَ، أو موزونًا. انتهى "النهاية" 1/ 269. وَقَالَ الفيّوميّ:"الجزاف": بيع الشيء، لا يُعلم كيله، ولا وزنه، وهو اسم منْ جازف مُجازفةً، منْ باب قاتل، والْجُزاف بالضمّ خارجٌ عن القياس، وهو فارسيّ قريب "كُزاف"، ومن ثمّ قيل: أصل الكلمة دَخِيلٌ فِي العربيّة. قَالَ ابن القطّاع: جَزَف فِي الكيل جَزْفًا: أكثر منه، ومنه الجِزاف، والمجازفة فِي البيع، وهو المساهلة، والكلمة دَخِيلة فِي العربيّة، ويؤيّده قول ابن فارس" الْجَزْفُ: الأخذُ بكثرة، كلمة فارسيّةٌ، ويقال لمن يُرسل كلامه إرسالاً منْ غير قانون: جازف فِي كلامه، فأُقيم نَهْجُ الصواب مُقام الكيل، والوزن. انتهى.
وَقَدْ ترجم الإِمام البخاريّ رحمه الله فِي "صحيحه" بقوله: "باب منْ رأى إذا اشترى طعاما جزافا أن لا يبيعه حَتَّى يؤويه إلى رحله، والأدب فِي ذلك": قَالَ فِي "الفتح" 5/ 84 - : أي تعزير منْ يبيعه قبل أن يؤويه إلى رحله، ذكر فيه حديث ابن عمر فِي ذلك -يعني المذكور فِي الباب- وهو ظاهر فيما ترجم له، وبه قَالَ الجمهور، لكنهم لم يخصوه بالجزاف، ولا قيدوه بالإيواء إلى الرحال، أما الأول، فلما ثبت منْ النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، فدخل فيه المكيل، وورد التنصيص عَلَى المكيل منْ وجه آخر
عن ابن عمر، مرفوعا، أخرجه أبو داود، وأما الثاني؛ فلأن الإيواء إلى الرحال، خرج مخرج الغالب، وفي بعض طرق حديث ابن عمر عند مسلم، والنسائيّ:"كنا نبتاع الطعام، فيَبعَث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن يأمرنا بانتقاله منْ المكان الذي ابتعناه فيه، إلى مكان سواه، قبل أن نبيعه".
وفرّق مالك فِي المشهور عنه، بين الجزاف والمكيل، فأجاز بيع الجزاف قبل قبضه، وبه قَالَ الأوزاعي، وإسحاق، واحتُجّ لهم بأن الْجَزّاف مربي، فتكفى فيه التخلية، والاستيفاء إنما يكون فِي مكيل أو موزون. انتهى. والله تعالى أعلم.
4607 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: "كُنَّا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَبْتَاعُ الطَّعَامَ، فَيَبْعَثُ عَلَيْنَا مَنْ يَأْمُرُنَا بِانْتِقَالِهِ، مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي ابْتَعْنَا فِيهِ، إِلَى مَكَانٍ سِوَاهُ قَبْلَ أَنْ نَبِيعَهُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الإسناد تقدّم فِي الباب الماضي. وهو أصحّ أسانيد ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وقيل: أصح الأسانيد عَلَى الإطلاق، كما نُقل ذلك عن البخاريّ رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: "كُنَّا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَبْتَاعُ الطَّعَامَ) أي جزافًا، بدليل الروايات الآتية.
قَالَ ابن حزم: جمهور الرواة عن مالك لهذا الْحَدِيث فِي "الموطّإ" وغيره ذكروا فيه عنه الجزاف، كما ذكره عبيد الله، عن نافع، والزهريّ عن سالم، وإنما أسقط ذكره القعنبيّ، ويحيى فقط، توهّمًا فيه؛ لأنه خبر واحد. انتهى.
وتعقّبه وليّ الدين، فَقَالَ وفيه نظر، فقد قَالَ ابن عبد البرّ: لم يُختلف عَلَى مالك فيه، ولم يقل: جزافًا. انتهى "طرح التثريب" 5/ 1552.
والحاصل أن ذكر الجزاف ثابت فِي غير رواية مالك، فسيأتي فِي هَذَا الباب منْ روية عبيد الله، عن نافع، والزهريّ، عن سالم. والله تعالى أعلم
(فَيَبْعَثُ عَلَيْنَا) بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون مبنيّا للمفعول، والنائب عن الفاعل قوله (مَنْ يَأْمُرُنَا بِانْتِقَالِهِ) هكذا رواية المصنّف فِي "المجتبى"، وفي "الكبرى"، وهو مشكلٌ؛ لأن "انتقل" لازم، وإنما المتعدّي نقل الثلاثيّ، قَالَ فِي "المصباح": نقلته نقلاً، منْ باب قتل: حوّلته منْ موضع إلى موضع، وانتقل: تحوّل، والاسم النُّقلة، ونقّلته بالتشديد مبالغةٌ وتكثيرٌ. انتهى. وفي
"القاموس": نقله: حوّله، فانتقل، والنُّقْلةُ بالضمّ: الانتقال. انتهى، ولعلّه أطلق الانتقال عَلَى النقل مجازًا، منْ إطلاق المسبّب عَلَى السبب. والله تعالى أعلم.
(مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي ابْتَعْنَا فِيهِ) أي اشتريناه (إِلَى مَكَانٍ سِوَاهُ) أي غير مكان الشراء (قَبْلَ أَنْ نَبِيعَهُ) أي ليتمّ القبض عَلَى آكد الوجوه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم تخريجه قبل باب، والكلام هنا عَلَى ما يتعلق بهذا الباب فقط، وفيه مسائل:
(المسألة الأولى): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم ما يُشترى منْ الطعام جزافًا قبل نقله منْ مكانه، وهو المنع، فلا يجوز أن يبيعه إلا بعد قبضه، ونقله منْ محل الشراء إلى محلّ آخر، وفيه خلاف للعلماء، سيأتي تحقيقه فِي المسألة الثالثة، إن شاء الله تعالى.
(ومنها): أن فيه جواز بيع الصبرة جِزافا، سواءٌ عَلِم البائع قدرها، أم لم يعلم، وعن مالك التفرقة، فلو علم لم يصح، وسيأتي تحقيق ذلك فِي المسألة التالية، إن شاء الله تعالى. (ومنها): أن فيه مشروعيةَ تأديب منْ يتعاطى العقود الفاسدة؛ لقوله فِي الرواية الآتية: "رأيت النَّاس يُضربون عَلَى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا الطعام جزافًا، أن يبيعوه حَتَّى يؤوه إلى رحالهم". (ومنها): إقامة الإِمام عَلَى النَّاس منْ يراعي أحوالهم فِي ذلك. (ومنها): ما قاله السيوطيّ رحمه الله تعالى: هَذَا أصل إقامة المحتسب عَلَى أهل السوق. (ومنها): أن هَذَا أصلٌ فِي ضرب المحتسب أهل الأسواق إذا خالفوا الحكم الشرعيّ فِي مبايعتهم، ومعاملاتهم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): فِي اختلاف أهل العلم فِي جواز بيع الصبرة جزافًا:
قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: ما حاصله: يجوز بيع الصبرة جزافا، مع جهل البائع والمشتري بقدرها، وبهذا قَالَ أبو حنيفة، والشافعي، ولا نعلم فيه خلافا، وَقَدْ نص عليه أحمد، ودل عليه قول ابن عمر:"كنا نشتري الطعام منْ الركبان جزافا، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن نبيعه حَتَّى ننقله منْ مكانه"، مُتّفقٌ عليه، ولأنه معلوم بالرؤية، فصح بيعه كالثياب والحيوان، ولا يضر عدم مشاهدة باطن الصبرة، فإن ذلك يشق؛ لكون الحب بعضه عَلَى بعض، ولا يمكن بسطها حبة حبة، ولأن الحب تتساوى أجزاؤه فِي
الظاهر، فاكتُفي برؤية ظاهره بخلاف الثوب، فإن نشره لا يَشُقّ، ولم تختلف أجزاؤه، ولا يحتاج إلى معرفة قدرها مع المشاهدة؛ لأنه عَلِمَ ما اشترى بأبلغ الطرق، وهو الرؤية، وكذلك لو قَالَ: بعتك نصف هذه الصبرة، أو ثلثها، أو جزءا منها معلوما جاز؛ لأن ما جاز بيع جملته جاز بيع بعضه، كالحيوان، ولأن جملتها معلومة بالمشاهدة، فكذلك جزؤها، قَالَ ابن عقيل: ولا يصح هَذَا، إلا أن تكون الصبرة متساوية الأجزاء، فإن كانت مختلفة، مثل صبرة بَقّال القرية لم يصح، ويحتمل أن يصح؛ لأنه يشتري منها جزءا مشاعا، فيستحق منْ جيدها ورديئها بقسطه.
ولا فرق بين الأثمان والْمُثْمَنات فِي صحة بيعها جزافا، وَقَالَ مالك: لا يجوز فِي الأثمان؛ لأن لها خطرا، ولا يشق وزنها ولا عددها، فأشبه الرقيق والثياب، ولنا أنه معلوم بالمشاهدة، فأشبه المثمنات، والنقرةَ والْحَلْيَ، ويبطل بذلك ما قاله، أما الرقيق فإنه يجوز بيعهم إذا شاهدهم، ولم يَعُدّهم، وكذلك الثياب إذا نشرها، ورأى جميع أجزائها. انتهى "المغني" 6/ 201 - 202. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم بيع ما اشتُري جزافًا قبل نقله منْ مكانه:
قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى أيضًا: إذا اشترى الصبرة جزافا، لم يجز له بيعها حَتَّى ينقلها، نص عليه أحمد فِي رواية الأثرم، وعنه رواية أخرى، له بيعها قبل نقلها، اختارها القاضي، وهو مذهب مالك؛ لأنه مبيع متعين لا يحتاج إلى حق توفية، فأشبه الثوب الحاضر. ولنا قول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما:"إن كنا لنشتري الطعام منْ الركبان جزافا، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حَتَّى ننقله منْ مكانه"، وعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"منْ ابتاع طعاما، فلا يبعه حَتَّى يستوفيه"، متّفقٌ عليه، مع ما ذكرنا منْ الأخبار، ورَوَى الأثرم بإسناده عن عُبيد بن حنين، قَالَ قدم زيتٌ، منْ الشام فاشتريت منه أبعرة، وفرغت منْ شرائها، فقام إليّ رجل، فأربحني فيها ربحا، فبسطت يدي لأبايعه، فإذا رجل يأخذني منْ خلفي، فنظرت فإذا زيد بن ثابت رضي الله عنه، فَقَالَ: لا تبعه حَتَّى تنقله إلى رحلك؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك
(1)
.
فإذا تقرر هَذَا، فإن قبضها نقلها، كما جاء فِي الخبر، ولأن القبض لو لم يعين فِي الشرع، لوجب رده إلى العرف، كما قلنا فِي الإحياء، والإحراز، والعادةُ فِي قبض الصبرة النقل. انتهى. "المغني" 6/ 201 - 202.
(1)
أخرجه أبو داود فِي "سننه" رقم 3499 وفيه عنعنة ابن إسحاق، لكنه صحيح بشواهده، كما سبق الكلام فيه.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبين بما ذُكر أن الصواب منع بيع المشترى جزافًا، حَتَّى يتمّ القبض بنقله منْ مكانه إلى مكان آخر؛ لصحّة الأحاديث بذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: لا يحل لبائع الصبرة أن يَغُشّها بأن يجعلها عَلَى دَكّة، أو رَبْوَة، أو حجر ينقصها، أو يجعل الرديء فِي باطنها، أو المبلول، ونحو ذلك؛ لما رَوَى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرّ عَلَى صبرة منْ طعام، فأدخل يده، فنالت أصابعه بللا، فَقَالَ:"يا صاحب الطعام ما هَذَا؟ " قَالَ: أصابته السماء يا رسول الله، قَالَ:"أفلا جعلته فوق الطعام، حَتَّى يراه النَّاس؟ "، ثم قَالَ:"منْ غشنا فليس منا"، قَالَ الترمذيّ: هَذَا حديث حسن صحيح.
فإذا وُجد ذلك ولم يكن المشتري علم به، فله الخيار بين الفسخ وأخذ تفاوت ما بينهما؛ لأنه عيب، وإن بان تحتها حُفْرة، أو بان باطنها خيرا منْ ظاهرها، فلا خيار للمشتري؛ لأنه زيادة له، وإن علم البائع ذلك، فلا خيار له؛ لأنه دخل عَلَى بصيرة به، وإن لم يكن علم فله الفسخ، كما لو باع بعشرين درهما، فوزنها بصّنْجَة، ثم وجد الصنجة زائدة، كَانَ له الرجوع، وكذلك لو باع بمكيال، ثم وجده زائدا، ويحتمل أنه لا خيار له؛ لأن الظاهر أنه باع ما يعلم، فلا يثبت له الفسخ بالإحتمال. انتهى "المغني" 6/ 203 وهو بحث نفيس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4608 -
(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّهُمْ كَانُوا يَبْتَاعُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي أَعْلَى السُّوقِ جُزَافًا، فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِ حَتَّى يَنْقُلُوهُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.
و"يحيى": هو القطّان. و"عُبيد الله": هو ابن عمر العمريّ.
وقوله: "يبتاعون": أي يشترون. وفيه أن التلقّي فِي أعلى السوق منْ تلقّي الركبان الذي ورد النهي عنه، وبذلك جمع الإِمام البخاريّ رحمه الله تعالى بين أحاديث النهي عن تلقّي البيوع، وبين هَذَا الْحَدِيث، حيث قَالَ:"باب منتهى التلقّي"، ثم أورد حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا.
قَالَ فِي "الفتح" -5/ 115 - 116: قوله: "باب منتهى التلقّي": أي وابتدائه، وَقَدْ ذكرنا أن الظاهر أنه لا حد لانتهائه منْ جهة الجالب، وأما منْ جهة المتلقي، فقد أشار المصنّف
بهذه الترجمة إلى أن ابتداءه الخروج منْ السوق؛ أخذًا منْ قول الصحابيّ: "إنهم كانوا يتبايعون الطعام فِي أعلى السوق، فيبيعونه فِي مكانه، فنهاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه فِي مكانه، حَتَّى ينقلوه"، ولم ينههم عن التبايع فِي أعلى السوق، فدل عَلَى أن التلقّي إلى أعلى السوق جائز، فإن خرج عن السوق، ولم يخرج منْ البلد، فقد صرح الشافعيّة بأنه لا يدخل فِي النهي، وحدُّ ابتداء التلقّي عندهم الخروج منْ البلد، والمعنى فيه: أنهم إذا قدموا البلد أمكنهم معرفة السعر، وطلب الحظ لأنفسهم، فإن لم يفعلوا ذلك فهو منْ تقصيرهم، وأما إمكان معرفتهم ذلك قبل دخول البلد فنادر، والمعروف عند المالكية اعتبار السوق مطلقا، كما هو ظاهر الْحَدِيث، وهو قول أحمد، وإسحاق، وعن الليث كراهة التلقّي ولو فِي الطريق، ولو عَلَى باب البيت، حَتَّى تدخل السلعة السوق. انتهى.
ثم أورد البخاريّ حديث ابن عمر منْ طريق جُويرية عن نافع، بلفظ:"كنا نتلقّى الركبان، فنشتري منهم الطعام، فنهانا النبيّ صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حَتَّى يُبلغ به سوق الطعام"، ثم قَالَ: قَالَ أبو عبد الله: هَذَا فِي أعلى السوق، ويُبيّنه حديث عُبيد الله، ثم ساق طريق عبيد الله، عن نافع، بلفظ:"كانوا يبتاعون الطعام فِي أعلى السوق، فيبيعونه فِي مكانه، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حَتَّى ينقلوه".
وقوله: قَالَ أبو عبد الله: "هَذَا فِي أعلى السوق" أي حديث جويرية، عن نافع، بلفظ:"كنا نتلقى الركبان، فنشتري منهم الطعام"، الْحَدِيث، قَالَ: وبينه حديث عبيد الله بن عمر يعني عن نافع أي حيث قَالَ كانوا يتبايعون الطعام فِي أعلى السوق الْحَدِيث مثله وأراد البخاريّ بذلك الرد عَلَى منْ استدل به عَلَى جواز تلقي الركبان؛ لإطلاق قول ابن عمر: "كنا نتلقى الركبان"، ولا دلالة فيه؛ لأن معناه إنهم كانوا يتلقونهم فِي أعلى السوق كما فِي رواية عبيد الله بن عمر، عن نافع، وَقَدْ صرح مالك فِي روايته عن نافع، بقوله:"ولا تَلَقَّوُا السلع حَتَّى يُهبَط بها السوقُ"، فدلّ عَلَى أن التلقّي الذي لم يُنهَ عنه إنما هو ما بلغ السوق، والحديث يفسر بعضه بعضا، وادَّعَى الطحاوي التعارضَ فِي هاتين الروايتين، وجمع بينهما بوقوع الضرر لأصحاب السلع وعدمه، قَالَ: فيُحمل حديث النهي عَلَى ما إذا حصل الضرر، وحديث الإباحة عَلَى ما إذا لم يحصل. قَالَ الحافظ: ولا يخفى رجحان الجمع الذي جمع به البخاريّ. انتهى. "فتح" 5/ 115 - 116 وهو بحث نفس جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4609 -
(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُمْ: "أَنَّهُمْ كَانُوا يَبْتَاعُونَ الطَّعَامَ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الرُّكْبَانِ، فَنَهَاهُمْ أَنْ يَبِيعُوا فِي مَكَانِهِمُ
الَّذِي ابْتَاعُوا فِيهِ، حَتَّى يَنْقُلُوهُ إِلَى سُوقِ الطَّعَامِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه فإنه منْ أفراده، وهو أبو القاسم المصريّ، ثقة [11] 152/ 2944.
و"محمد بن عبد الرحمن": هو ابن غَنَج -بفتح المعجمة، والنون، بعدها جيم- المدنيّ، نزيل مصر، مقبول [7] 3/ 3957.
والحديث متّفق عليه، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4610 -
(أَخْبَرَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: "رَأَيْتُ النَّاسَ يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا اشْتَرَوُا الطَّعَامَ جُزَافًا، أَنْ يَبِيعُوهُ حَتَّى يُئْوُوهُ إِلَى رِحَالِهِمْ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.
و"يزيد": هو ابن زُريع. و"شيخ المصنّف": هو أحد مشايخ الأئمة الستة الذين رووا عنهم بلا واسطة، وهم تسعة، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة.
وقوله: "رأيت النَّاس يُضربون الخ" بالبناء للمجهول، ويُستفاد منه جواز تأديب منْ خالف الأمر الشرعيّ، فتعاطى العقود الفاسدة بالضرب، ومشروعيّة إقامة المحتسب فِي الأسواق. قاله فِي "الفتح" 14/ 155. "كتاب الحدود" رقم 6853.
وَقَالَ النوويّ: هَذَا دليلٌ عَلَى أن وليّ الأمر يعزّر منْ تعاطى بيعًا فاسدًا، ويعزّره بالضرب وغيره، مما يراه منْ العقوبات فِي البدن عَلَى ما تقرّر فِي كتب الفقه. انتهى. "شرح مسلم" 10/ 411 - 412.
وقوله: "أن يبيعوه": أي لبيعه، أو عَلَى بيعه، والمراد بيعه قبل قبضه.
[تنبيه]: أخرج مسلم رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" 3/ 1162 قَالَ:
حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عبد الله بن الحارث المخزومي، حدثنا الضحاك ابن عثمان، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة، أنه قَالَ لمروان: أحللت بيع الربا، فَقَالَ مروان: ما فعلت، فَقَالَ أبو هريرة: أحللت بيع الصكاك، وَقَدْ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام، حَتَّى يُستَوفَى، قَالَ: فخطب مروان النَّاس، فنهى عن بيعها، قَالَ سليمان: فنظرت إلى حَرَس يأخذونها منْ أيدي النَّاس.
قَالَ النوويّ فِي "شرحه": قوله: "قَالَ أبو هريرة لمروان: أحللت بيج الصكاك الخ": الصكاك جمع صَكّ، وهو الورقة المكتوبة بدين، ويجمع أيضًا عَلَى صكوك، والمراد هنا الورقة التي تخرج منْ وليّ الأمر بالرزق لمستحقه، بأن يكتب فيها للإنسان كذا وكذا، منْ
طعام أو غيره، فيبيع صاحبها ذلك لإنسان قبل أن يقبضه.
وَقَدْ اختلف العلماء فِي ذلك، والأصح عند أصحابنا وغيرهم: جواز بيعها، والثانى: منعها، فمن منعها أخذ بظاهر قول أبى هريرة رضي الله عنه، وبحجته، ومن أجازها تأول قضية أبى هريرة، عَلَى أن المشتري ممن خرج له الصك باعه لثالث قبل أن يقبضه المشتري، فكان النهي عن البيع الثاني، لا عن الأول؛ لأن الذي خرجت له مالك لذلك ملكا مستقرا، وليس هو بمشتر، فلا يمتنع بيعه قبل القبض، كما لا يمتنع بيعه ما ورثه قبل قبضه، قَالَ القاضي عياض بعد أن تأوله عَلَى نحو ما ذكرته: وكانوا يتبايعونها، ثم يبيعها المشترون قبل قبضها، فنهوا عن ذلك، قَالَ: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فرده عليه، وَقَالَ لا تبع طعاما ابتعته حَتَّى تستوفيه. انتهى.
هَذَا تمام الْحَدِيث فِي "الموطإ"، وكذا جاء الْحَدِيث مفسرا فِي "الموطإ" أن صكوكا خرجت للناس فِي زمن مروان بطعام، فتبايع النَّاس تلك الصكوك، قبل أن يستوفوها، وفي "الموطإ"، ما هو أبين منْ هَذَا، وهو أن حكيم بن حزام رضي الله عنه ابتاع طعاما أَمر به عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه، فباع حكيم الطعام الذي اشتراه قبل قبضه. والله أعلم. انتهى "شرح مسلم" 10/ 412.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا التأويل الذي ذكره النوويّ رحمه الله تعالى وغيره لأثر أبي هريرة رضي الله عنه المذكور حسنٌ جدًّا، يشهد له ما مرّ آنفًا عن "الموطّإ". والله تعالى أعلم.
والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ وما توفيقى إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
58 - (الرَّجُلُ يَشْتَرِي الطَّعَامَ إِلَى أَجَلٍ، وَيَسْتَرْهِنُ الْبَائِعُ مِنْهُ بِالثَّمَنِ رَهْنًا)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الرهن" -بفتح أوله وسكون الهاء- فِي اللغة: الاحتباس، منْ قولهم: رَهَنَ الشيءُ منْ باب قعد: إذا دام، وثبت، ومنه: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا
كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} الآية [المدّثّر: 38]، وفي الشرع: جعلُ مال وثيقة عَلَى دين، ويطلق أيضا عَلَى العين المرهونة؛ تسميةً للمفعول باسم المصدر، وأما الرُّهُن بضمتين، فجمع رَهن، كفلس وفُلُوس، ويجمع أيضا عَلَى رِهان بكسر الراء، ككتب وكتاب، وقُرىء بهما. أفاده فِي "الفتح" 5/ 438.
وَقَالَ فِي "المغني": "الرهن" فِي اللغة: الثبوت والدوام، يقال: ماء راهن: أي راكد، ونعمة راهنة: أي ثابتة دائمة، وقيل: هو منْ الحبس، قَالَ الله تعالى:{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21]، وَقَالَ:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38]، وَقَالَ الشاعر [منْ البسيط]:
وَفَارَقَتْكِ بِرَهْنٍ لَا فَكَاكَ لَهُ
…
يَوْمَ الْوَدَاعِ فَأَضْحَى الرَّهْنُ قَدْ غَلِقَا
شَبَهّ لزوم قلبه لها، واحتباسه عندها لشدة وجده بها، بالرهن الذي يلزمه المرتهن، فيُبقيه عنده، ولا يفارقه، وغَلَقُ الرهن: استحقاق المرتهن إياه؛ لعجز الراهن عن فكاكه.
والرهن فِي الشرع: المال الذي يُجعل وثيقة بالدين؛ ليُستَوفَى منْ ثمنه، إن تعذر استيفاؤه ممن هو عليه. وهو جائز بالكتاب، والسنة، والإجماع:
أما الكتاب: فقول الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} الآية [البقرة: 283]، وتُقرأ {فَرُهُن} والرهان جمع رهن، والرُّهُن جمع الجمع، قاله الفراء. وَقَالَ الزجاج: يحتمل أن يكون جمع رَهْن، مثل سقف وسقف.
وأما السنة: فروت عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اشترى منْ يهودي طعاما، ورهنه درعه" متَّفقٌ عليه، ورَوَى أبو هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الظهر يُركب بنفقته، إذا كَانَ مرهونا، ولبن الدر يشرب بنفقته، إذا كَانَ مرهونا، وعلى الذي يركب، ويشرب النفقة"، رواه البخاريّ. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لا يَغلَقُ الرهنُ"
(1)
.
وأما الإجماع: فأجمع المسلمون عَلَى جواز الرهن فِي الجملة. انتهى "المغني" 6/ 443 - 444. والله تعالى أعلم بالصواب.
4611 -
(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ، عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتِ: "اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ).
(1)
رواه ابن ماجه 2/ 816 وهو ضعيف، فِي سند محمد بن حميد الرازيّ ضعفه الجمهور، وشيخه سيء الحفظ.
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن آدم) بن سليمان الجهنيّ المصّيصيّ، صدوق [10] 93/ 115.
2 -
(حفص بن غياث) بن طلق بن معاوية النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ القاضي، ثقة فقيه، تغير قليلاً فِي الآخر [8] 86/ 105.
3 -
(الأعمش) سليمان بن مهران الإِمام الحجة الثبت الكوفيّ، يدلس [5] 17/ 18.
4 -
(إبراهيم) بن يزيد النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقة فقيه، يرسل كثيرًا [5] 29/ 33.
5 -
(الأسود) بن يزيد النخعيّ، أبو عمرو الكوفيّ، ثقة مخضرم فقيه [2] 29/ 33.
6 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها 5/ 5. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين، غير شيخه، فإنه مِصّيصيّ. (ومنها): أن فيه ثلاثة منْ التابعين الكوفيين، يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، وأن الأسود خال لإبراهيم، فإن أمه هي مُليكة بنت يزيد أخت الأسود. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ إِبْرَاهِيمَ) النخعيّ، وفي رواية للبخاريّ منْ طريق عبد الواحد عن الأعمش، قَالَ:"ذكرنا عند إبراهيم الرهن فِي السلم، فَقَالَ: حدّثني الأسود، عن عائشة رضي الله عنها"، فذكره (عَنِ الْأَسْوَدِ) بن يزيد النخعيّ (عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، أنها (قَالَتِ:"اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ يَهُودِيٍّ) هَذَا اليهودي: هو أبو الشَّحْم، بَيّنه الشافعيّ، ثم البيهقي، منْ طريق جعفر بن محمد، عن أبيه: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، رهن درعا له، عند أبي الشحم اليهودي، رجل منْ بني ظَفَر فِي شعير". انتهى.
و"أبو الشَّحْم" -بفتح المعجمة وسكون المهملة-: اسمه كنيته، و"ظَفَر" -بفتح الظاء والفاء- بطن منْ الأوس، وكان حليفا لهم. وضبطه بعض المتأخرين بهمزة ممدودة، وموحّدة مكسورة، اسم فاعل منْ الإباء، وكأنه التبس عليه بـ"أبي اللحم" الصحابيّ المشهور.
(طَعَامًا) المراد به هنا الشعير؛ لما يأتي فِي الباب التالي، منْ حديث أنس رضي الله عنه:"ولقد رهن درعًا له، عند يهوديّ بالمدينة، وأخذ منه شعيرًا لأهله".
وكان قدر الشعير المذكور ثلاثين صاعا، كما هو عند البخاريّ منْ حديث عائشة فِي "الجهاد"، وأواخر "المغازي"، وكذلك رواه أحمد، والنسائيّ، وابن ماجه، والطبراني وغيرهم منْ طريق عكرمة، عن ابن عباس، وأخرجه الترمذيّ، منْ هَذَا الوجه، فَقَالَ:"بعشرين".
قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: ولعله كَانَ دون الثلاثين، فجبر الكسر تارة، وأُلغي أخرى، ووقع لابن حبّان منْ طريق شيبان، عن قتادة، عن أنس: أن قيمة الطعام كانت دينارا، وزاد أحمد منْ طريق شيبان فِي آخره:"فما وجد ما يفتكّها به حَتَّى مات".
(إِلَى أَجَلٍ) قد تبيّن مدة الأجل عند ابن حبّان فِي "صحيحه" منْ طريق عبد الواحد بن زياد، عن الأَعمش: أنه سنة (وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ) وفي رواية للبخاريّ: "ورهنه درعًا منْ حديد". وهو -بكسر الدال المهملة، وسكون الراء- قَالَ الفيّوميّ: درع الحديد مؤنّثة فِي الأكثر، وتُصغّر عَلَى دُريع، بغير هاء عَلَى غير قياس، وجاز أن يكون التصغير عَلَى لغة منْ ذكّر، وربما قيل: دُريعةٌ بالهاء، وجمعها أدرُعٌ، ودُرُوعٌ، وأَدْراعٌ. قَالَ ابن الأثير: وهي الزَّرَدِيَّةُ. انتهى.
واستدل به عَلَى جواز بيع السلاح منْ الكافر، ووقع عند البخاريّ فِي أواخر "المغازي" منْ طريق الثوري، عن الأعمش، بلفظ:"تُوفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودرعه مرهونة"، وفي حديث أنس، عند أحمد:"فما وجد ما يَفتَكُّها به".
وفيه دليل عَلَى أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم، فِي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"نفس المؤمن معلقة بدينه، حَتَّى يُقضَى عنه"، وهو حديث صححه ابن حبّان وغيره، محله فِي غير نفس الأنبياء، فإنها لا تكون معلقة بدين، فهي خصوصية، أو لمن لم يترك عند صاحب الدين ما يحصل له به الوفاء، وإليه جنح الماوردي.
وذكر ابن الطلاع فِي "الأقضية النبوية": أن أبا بكر افْتَكّ الدرع بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم. لكن رَوَى ابن سعد عن جابر رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه قضى عِدَات النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأن عليا قضى ديونه. وروى إسحاق بن راهويه فِي "مسنده" عن الشعبي، مرسلا أن أبا بكر افْتَكّ الدرع، وسلمها لعلي بن أبي طالب.
وأما منْ أجاب بأنه صلى الله عليه وسلم افتكها قبل موته، فمعارض بحديث عائشة رضي الله عنها المذكور. أفاده فِي "الفتح" 5/ 441. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هَذَا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -58/ 4611 و83/ 4652 - وفي "الكبرى" 59/ 6202 و84/ 6246. وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 2068 (م) فِي "البيوع" 1603 (ق) فِي "الأحكام" 2436 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 24746 و25403. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان مشروعيّة الرهن عند الشراء إلى أجل. قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: فيه منْ الفقه جواز أخذ الدين عند الحاجة، وجواز الاستيثاق بالرهن، والكفالة فِي الدين والسلم، وَقَدْ منع الرهن فِي السلم زُفرُ، والأوزاعيّ، وهذا الْحَدِيث أعني حديث عائشة رضي الله تعالى عنها حجة عليهم؛ إذ لا فرق بين الدين والسلم، وكذلك عموم قوله تعالى:{إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} الآية [البقرة: 282]. انتهى "المفهم" 4/ 518.
(ومنها): جواز معاملة الكفار فيما لم يتحقق تحريم عين المتعامل فيه، وعدم الاعتبار بفساد معتقدهم، ومعاملاتهم فيما بينهم. قاله فِي "الفتح".
وَقَالَ القرطبيّ: فيه دليلٌ عَلَى جواز معاملة أهل الذمّة مع العلم بأنهم يبيعون الخمر، ويأكلون الربا؛ لأنا قد أقررناهم عَلَى ما بأيديهم منْ ذلك، وكذلك لو أسلموا لطاب لهم ذلك، وليس كذلك المسلم الذي يعمل بشيء منْ ذلك، لا يُقرّ عَلَى ذلك، ولا يُترك بيده، ولا يجوز أن يعامل منْ كَانَ كسبه منْ ذلك، وإذا تاب تصدّق بما بيده منه.
وأما أهل الحرب، فيجوز أن يعاملوا، ويُشترى منهم كلّ ما يجوز لنا شرؤه، وتملّكه، ويباع لهم كلّ شيء منْ العروض، والحيوان، ما لم يكن ذلك مُضرّا بالمسلمين، مما يحتاجون إليه، وما خلا آلة الحرب، وعُدّته، وما يُخاف أن يَتقَوّوا به عَلَى المسلمين، فلا يُباع منهم شيء منه، ولا يُباع منهم، ولا منْ أهل الذّمّة مسلم، ولا مصحف. وَقَالَ ابن حبيب: لا يُباع منْ أهل الحرب الحرير، ولا الكتّان، ولا البُسُط؛ لأنهم يتجمّلون بذلك فِي حروبهم، ولا الطعام، لعلهم أن يضعفوا. انتهى "المفهم" 4/ 518.
وسيعقد المصنّف رحمه الله تعالى بعد نحو ستة وعشرين بابًا لذلك بقوله: 84 - "معاملة أهل الكتاب". (ومنها): أنه استُنبِط منه جواز معاملة منْ أكثر ماله حرام.
(ومنها): جواز بيع السلاح، ورهنه، وإجارته، وغير ذلك منْ الكافر، ما لم يكن حربيا. (ومنها): ثبوت أملاك أهل الذمة فِي أيديهم. (ومنها): جواز الشراء بالثمن المؤجل. (ومنها): اتخاذ الدروع والْعُدَد، وغيرها منْ آلات الحرب، وأنه غير قادح فِي التوكل. (ومنها): أن قنية آلة الحرب لا تدل عَلَى تحبيسها قاله ابن المنير. (ومنها): أن أكثر قوت ذلك العصر الشعير. قاله الداودي. (ومنها): أن القول قول المرتهن فِي قيمة المرهون مع يمينه، حكاه ابن التين. (ومنها): أن فيه بيان ما كَانَ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ التواضع، والزهد فِي الدنيا، والتقلل منها، مع قدرته عليها، والكرم الذي أفضى به إلى عدم الادّخار، حَتَّى احتاج إلى رهن درعه، والصبر عَلَى ضيق العيش، والقناعة باليسير. (ومنها): أنه فيه فضيلةَ أزواجه صلى الله عليه وسلم لصبرهن معه عَلَى ذلك رضي الله تعالى عن جميعهنّ.
[فائدة]: قَالَ العلماء رحمهم الله تعالى: الحكمة فِي عدوله صلى الله عليه وسلم عن معاملة مياسير الصحابة، إلى معاملة اليهود، إما لبيان الجواز، أو لأنهم لم يكن عندهم إذا ذاك طعام فاضل عن حاجة غيرهم، أو خَشِي أنهم لا يأخذون منه ثمنا، أو عوضا، فلم يُرِد التضييق عليهم؛ فإنه لا يبعد أن يكون فيهم إذ ذاك منْ يقدر عَلَى ذلك، وأكثر منه، فلعله صلى الله عليه وسلم لم يُطلِعهم عَلَى ذلك، وإنما أطلع عليه منْ لم يكن موسرا به ممن نقل ذلك. والله تعالى أعلم. قاله فِي "الفتح" 5/ 440. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة): فيما قاله أهل العلم فِي أحوال الرهن:
قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: الرهن غير واجب، لا نعلم فيه مخالفا؛ لأنه وثيقة بالدين، فلم يجب، كالضمان، والكفالة، وقول الله تعالى:{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] إرشاد لنا، لا إيجاب علينا، بدليل قول الله تعالى:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283]، ولأنه أمر به عند إعواز الكتابة، والكتابة غير واجبة، فكذلك بدلها. انتهى. وهو تحقيق حسن، وسيأتي أن الامر بالكتابة للندب لا للوجوب برقم 85/ 46570 إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي أحوال الرهن:
قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى أيضًا: ولا يخلو الرهن منْ ثلاثة أحوال: [أحدها]: أن يقع بعد الحق، فيصح بالإجماع؛ لأنه دين ثابت تدعو الحاجة إلى أخذ الوثيقة به، فجاز أخذها به، كالضمان، ولأن الله تعالى قَالَ:{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فجعله بدلا عن الكتابة، فيكون فِي محلها، ومحلها بعد وجوب الحق، وفي
الآية ما يدل عَلَى ذلك، وهو قوله تعالى:{إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]، فجعله جزاء للمداينة، مذكورا بعدها بفاء التعقيب.
[الحال الثاني]: أن يقع الرهن مع العقد الموجب للدين، فيقول: بعتك ثوبي هَذَا بعشرة إلى شهر، ترهنني بها عبدك سعدا، فيقول: قبلت ذلك، فيصح أيضا، وبه قَالَ مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي؛ لأن الحاجة داعية إلى ثبوته، فإنه لو لم يعقده مع ثبوت الحق، ويشترط فيه لم يتمكن منْ إلزام المشتري عقده، وكانت الخيرة إلى المشتري، والظاهر أنه لا يبذله، فتفوت الوثيقة بالحق.
[الحال الثالث]: أن يرهنه قبل الحق، فيقول: رهنتك عبدي هَذَا بعشرة تقرضنيها، فلا يصح فِي ظاهر المذهب، وهو اختيار أبي بكر، والقاضي، وذكر القاضي أن أحمد نص عليه فِي رواية ابن منصور، وهو مذهب الشافعيّ، واختار أبو الخطاب أنه يصح، فمتى قَالَ: رهنتك ثوبي هَذَا بعشرة، تقرضنيها غدا، وسلمه إليه، ثم أقرضه الدراهم، لزم الرهن، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة؛ لأنه وثيقة بحق، فجاز عقدها قبل وجوبه، كالضمان، أو فجاز انعقادها عَلَى شيء، يحدث فِي المستقبل، كضمان الدرك.
قَالَ: ولنا أنه وثيقة لحق لا يلزم قبله، فلم تصح قبله، كالشهادة، ولأن الرهن تابع للحق، فلا يسبقه كالشهادة، والثمن لا يتقدم البيع، وأما الضمان فيحتمل أن يمنع صحته، وإن سلمنا فالفرق بينهما أن الضمان التزام مال، تبرعا بالقول، فجاز منْ غير حق ثابت، كالنذر، بخلاف الرهن. انتهى "المغني" 6/ 444 - 445. وهو بحث نفيس والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
59 - (الرَّهْنُ فِي الْحَضَرِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "فِي الحضر" إشارة إلى أن التقييد بالسفر فِي الآية، خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له؛ لدلالة الْحَدِيث عَلَى مشروعيته فِي الحضر. قاله فِي "الفتح" جـ 5/ ص 438. والله تعالى أعلم بالصواب.
4612 -
(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، قَالَ
حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ:"أَنَّهُ مَشَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِخُبْزِ شَعِيرٍ، وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ، قَالَ: وَلَقَدْ رَهَنَ دِرْعًا لَهُ، عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِالْمَدِينَةِ، وَأَخَذَ مِنْهُ شَعِيرًا لأَهْلِهِ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(إسماعيل بن مسعود) الْجَحْدريّ، أبو مسعود البصريّ، ثقة [10] 42/ 47 منْ أفراد المصنّف.
2 -
(خالد) بن الحارث الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.
3 -
(هشام) بن أبي عبد الله سنبر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت، وَقَدْ رمي بالقدر، منْ كبار [7] 30/ 34.
4 -
(قتادة) بن دعامة السدوسيّ البصريّ، ثقة ثبت، يدلس [4] 30/ 34.
5 -
(أنس بن مالك) رضي الله تعالى عنه 6/ 6. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين. (ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر منْ مات بالبصرة منْ الصحابة رضي الله عنهم، مات سنة (93) وقيل: غير ذلك، وَقَدْ جاوز المائة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكِ) رضي الله عنه (أَنَّهُ مَشَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِخُبْزِ شَعِيرِ، وَإهَالَةٍ) بكسر الهمزة، وتخفيف الهاء: ما أُذيب منْ الشحم، والأَلية
(1)
وقيَل: هو كل دَسَم جامد. وقيل: ما يُؤتدم به منْ الأدهان.
(سَنِخَةٍ) بفتح المهملة، وكسر النون، بعدها معجمة مفتوحة: أي متغيرة الريح، ويقال فيها: بالزاي أيضا. ووقع لأحمد منْ طريق شيبان، عن قتادة، عن أنس:"لقد دُعي نبي الله صلى الله عليه وسلم، ذات يوم عَلَى خبز شعير، وإهالة سَنِخة"، فكأن اليهوديّ دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى لسان أنس رضي الله عنه، فلهذا قَالَ:"مشيت إليه"، بخلاف ما يقتضيه ظاهره أنه أحضر ذلك إليه.
(قَالَ) أنس رضي الله عنه (وَلَقَدْ رَهَنَ دِرْعًا لَهُ) تقدّم معناه فِي الْحَدِيث الماضي (عِنْدَ يهُودِيٍّ)
(1)
"الألية" بالفتح، ولا تكسر الهمز، جمعه أَلَيات، كسجْدَة وسَجَدَات.
تقدّم أنه أبو الشحم (بِالْمَدِينَةِ) هَذَا محلّ الترجمة، فإنه يدلّ عَلَى أنه صلى الله عليه وسلم رهن فِي الحضر (وَأَخَذَ) صلى الله عليه وسلم (مِنْهُ) أي منْ ذلك اليهوديّ (شَعِيرًا لِأَهْلِهِ) تقدّم أنها ثلاثون صاعًا، وفي رواية عشرون صاعًا، وتقدّم أيضًا وجه الجمع بين الروايتين.
زاد فِي رواية البخاريّ: "قَالَ: ولقد سمعته يقول: ما أصبح لآل محمد صلى الله عليه وسلم إلا صاع، ولا أمسى، وإنهم لتسعة".
قَالَ فِي "الفتح": قوله: "ولقد سمعته": فاعل "سمعت" أنس، والضمير للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو فاعل "يقول"، وجزم الكرماني بأنه أنس، وفاعل سمعت قتادة، وَقَدْ أشرت إلى الرد عليه فِي أوائل البيوع، وَقَدْ أخرجه أحمد، وابن ماجه، منْ طريق شيبان المذكورة، بلفظ:"ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "والذي نفس محمد بيده"، فذكر الْحَدِيث، لفظ ابن ماجه، وساقه أحمد بتمامه.
وقوله: "ما أصبح لآل محمد، إلا صاع، ولا أمسى"، وفي أبي نعيم فِي "المستخرج" منْ طريق الكجي، عن مسلم بن إبراهيم، شيخ البخاريّ فيه، بلفظ:"ما أصبح لآل محمد، ولا أمسى إلا صاع".
وقوله: "وإنهم لتسعة أبيات"، فِي رواية:"وإن عنده يومئذ لتسع نسوة".
ومناسبة ذكر أنس لهذا القدر، مع ما قبله، الإشارةُ إلى سبب قوله صلى الله عليه وسلم هَذَا، وأنه لم يقله مُتضجّرًا، ولا شاكيًا، معاذ الله منْ ذلك، وإنما قاله معتذرا عن إجابته دعوة اليهودي، ولرهنه عنده درعه، ولعل هَذَا هو الحامل للذي زعم بأن قائل ذلك هو أنس؛ فرارًا منْ أن يُظَنّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ ذلك بمعنى التضجر. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هَذَا أخرجه البخاريّ.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه: أخرجه هنا -59/ 4612 - وفي "الكبرى" 60/ 6203. وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 2069 (ت) فِي "البيوع" 1215 (ق) فِي "الأحكام" 2437 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 11952. وفوائد الْحَدِيث تقدّمت فِي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها الماضي. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي الرهن فِي الحضر:
ذهب الجمهور إلى مشروعيته فِي الحضر؛ لحديث الباب، واحتجوا له أيضًا منْ حيث المعنى، بأن الرهن شُرع توثقة عَلَى الدين؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ
بَعْضًا} [البقرة: 283]، فإنه يشير إلى أن المراد بالرهن الاستيثاق، وإنما قيده بالسفر؛ لأنه مظنة فقد الكاتب، فأخرجه مخرج الغالب.
وخالف فِي ذلك مجاهد، والضحاك، فيما نقله الطبري عنهما، فقالا: لا يُشرع إلا فِي السفر، حيث لا يوجد الكاتب، وبه قَالَ داود وأهل الظاهر، وَقَالَ ابن حزم: إن شَرَط المرتهن الرهن فِي الحضر، لم يكن له ذلك، وإن تبرع به الراهن جاز، وحمل حديث الباب عَلَى ذلك. قاله فِي "الفتح" 5/ 438.
وَقَالَ فِي "المغني" -6/ 444 - : ويجوز الرهن فِي الحضر، كما يجوز فِي السفر، قَالَ ابن المنذر: لا نعلم أحدا خالف فِي ذلك، إلا مجاهدا، قَالَ: ليس الرهن إلا فِي السفر؛ لأن الله تعالى شرط السفر فِي الرهن بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} .
واحتجّ الجمهور بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، اشترى منْ يهودي طعاما، ورهنه درعه، وكانا بالمدينة، ولأنها وثيقة تجوز فِي السفر، فجازت فِي الحضر، كالضمان، فأما ذكر السفر، فإنه خرج مخرج الغالب؛ لكون الكاتب يُعدم فِي السفر غالبا، ولهذا لم يشترط عدم الكاتب، وهو مذكور معه أيضا. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: فثبت بما ذُكر أن الحقّ مشروعيّة الرهن فِي الحضر، كما هو مشروع فِي السفر بلا خلاف؛ لصحة الأحاديث بذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
…
60 - (بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْبَائِعِ)
4613 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، وَحُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ").
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(عمرو بن عليّ) الفلّاس البصريّ، ثقة حافظ [10] 4/ 4.
2 -
(حُميد بن مسعدة) الساميّ الباهليّ البصريّ، صدوقٌ [10] 5/ 5.
3 -
(ويزيد) بن زُريع، أبو معاوية البصريّ، ثقة ثبت [8] 5/ 5.
4 -
(أيوب) بن أبي تميمة/ كيسان السختيانيّ البصريّ، ثقة ثبت فقيه [5] 42/ 48.
5 -
(عمرو بن شعيب) بن محمد الطائفيّ، صدوق [5] 105/ 140.
6 -
(أبوه) شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو الطائفيّ، صدوق [3] 105/ 140.
7 -
(جدّه) عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما 89/ 111. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): مسلسل بالبصريين إلى أيوب، والباقون طائفيّون، وفيه رواية ثلاثة منْ التابعين، بعضهم منْ بعض: أيوب، وعمرو، وشعيب، وفيه رواية الراوي عن أبيه، عن جدّه، والكلام فِي هَذَا الإسناد مشهور، وَقَدْ تقدّم غير مرّة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ) شعيب بن محمد (عَنْ جَدِّهِ) عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ) السلف بفتحتين: القرض، ويُطلق عَلَى السلم، والمراد هنا القرض: أي لا يحلّ بيع مع شرط قرض، بأن يقول: بعتك هَذَا العبد عَلَى أن تُسلفني ألفًا. وقيل: هو أن تُقرضه، ثم تبيع منه شيئًا بأكثر منْ قيمته، فإنه حرام؛ لأنه قرضٌ جرّ نفعًا، أو المراد السلم، بأن أسلم إليه فِي شيء، فيقول: فإن لم يتهيّأ عندك، فهو بيعٌ عليك.
وَقَالَ الخطّابيّ رحمه الله تعالى: هو مثل أن يقول: أبيعك هَذَا العبد بخمسين دينارًا عَلَى أن تُسلفني ألف درهم فِي متاع أبيعه منك إلى أجل، أو يقول: أبيعكه بكذا عَلَى أن تُقرضني ألف درهم، ويكون معنى السلف: القرض، وذلك فاسد؛ لأنه إنما يُقرضه عَلَى أن يُحابيه فِي الثمن، فيدخل الثمن فِي حدّ الجهالة، ولأن كلّ قرض جرّ منفعةً، فهو ربا. انتهى.
(وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ) قيل: معناه مثل أن يقول: بعتك هَذَا الثوب نقدًا بدينار، ونسيئةً بدينارين، وهو بيعان فِي بيع، وهذا عند منْ لا يُجَوّز الشرط فِي البيع أصلاً، كالجمهور، وأما منْ يُجوّز الشرط الواحد، دون اثنين يقول: هو أن يقول: أبيعك هَذَا الثوب، وعليّ خياطته، وقِصَارته، وهذا لا يجوز، ولو قَالَ: أبيعك وعليّ خياطته، فلا بأس به.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا فسّره الخطّابيّ وغيره، وأحسن منْ هَذَا،
وأولى تفسير ابن القيّم رحمه الله تعالى الآتي قريبًا، وحاصله أن معناه: أن يقول له: بعتك هذه السلعة بعشرة نقدًا، وآخذها منك بعشرين نسيئةً، وهذه هي صورة المسألة المشهورة ببيع العِينة، كما تقدّم البحث عنها، وهذا أشبه المعنى بالحديث، وأما الصورة التي ذكروها منْ ترديد الثمن، فإنها جائزة، كما سيأتي الكلام عليها فِي بحثه الآتي فِي المسألة الرابعة، إن شاء الله تعالى.
(وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ) قَالَ الخطّابيّ رحمه الله: يريد بيع العين، دون بيع الصفة، ألا ترى أنه أجاز السلم إلى الآجال، وهو بيع ما ليس عند البائع فِي الحال، وإنما نُهي عن بيع ما ليس عند البائع منْ قِبَل الغرر، وذلك مثل أن يبيعه عبده الآبق، أو جمله الشارد، ويدخل فِي ذلك كلّ شيء ليس بمضمون عليه، مثل أن يشتري سلعة، فيبيعها قبل أن يقبضها، ويدخل فيه أيضًا بيع الرجل مال غيره موقوفًا عَلَى إجازة المالك؛ لأنه بيع ما ليس عنده، ولا فِي ملكه، وهو غرر؛ لأنه لا يُدرَى، هل يُجيزه صاحبه، أم لا؟ انتهى "معالم السنن" 5/ 143.
زاد فِي الرواية الآتية فِي 71/ 4632 و72/ 4633 و4634 - : "ولا ربح ما لم يُضمن" ببناء الفعل للمجهول: ومعناه: أن يبيعه سلعة قد اشتراها، ولم يكن قبضها، فهي منْ ضمان البائع الأول، وليست منْ ضمانه، فهذا لا يجوز بيعه حَتَّى يقبضه، فيكونَ منْ ضمانه. وللإمام ابن القيّم رحمه الله تعالى بحث مطوّل فِي هَذَا الْحَدِيث سيأتي قريبًا، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -60/ 4611 و4612 و71/ 4631 و72/ 4632 و4633 - وفي "الكبرى" 61/ 6204 و6205. وأخرجه (د) فِي "البيوع" 3503 (ت) فِي "البيوع" 1232 و1233 و1234 و1235 (ق) فِي "التجارات" 2187 (أحمد) فِي "مسند المكيين" 14888 و15145. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم بيع ما ليس عند الإنسان، وهو التحريم. (ومنها): أن يدلّ عَلَى تحريم كلّ غرر فِي تعامل المسلم لأخيه،
فلا يجوز له أن يعامله بما فيه غشّ، أو خِداع. (ومنها): البيع بشرط السلف. (ومنها): تحريم اشتراط شرطين فِي بيع. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي البحث القيّم الذي كتبه الإِمام ابن القيّم رحمه الله تعالى عَلَى هَذَا الْحَدِيث فِي كتابه "تهذيب السنن"، وهو بحث طويلٌ مفيدٌ، أحببت إيراده لنفاسته:
قَالَ رحمه الله تعالى: هَذَا الْحَدِيث أصلٌ منْ أصول المعاملات، وهو نصّ فِي تحريم الحيل الرِّبويّة، وَقَدْ اشتمل عَلَى أربعة أحكام:
[الحكم الأول]: تحريم الشرطين فِي البيع، وَقَدْ أشكل عَلَى أكثر الفقهاء معناه، منْ حيث إن الشرطين، إن كانا فاسدين، فالواحد حرام، فأيّ فائدة لذكر الشرطين؟ وإن كانا صحيحين لم يحرُما.
فَقَالَ ابن المنذر: قَالَ أحمد، وإسحاق فيمن اشترى ثوبًا، واشترط عَلَى البائع خياطته، وقِصَارته، أو طعامًا، واشترط طحنه، وحمله-: إن شرط أحد هذه الأشياء، فالبيع جائز، وإن شرط شرطين، فالبيع باطل. وهكذا فسّره القاضي أبو يعلى، وغيره.
وعن أحمد فِي تفسيره رواية ثانية، حكاها الأثرم، وهو أن يشتريها -يعني الجارية- عَلَى أن لا يبيعها منْ أحد، ولا يطأها، ففسّره بالشرطين الفاسدين.
وعنه رواية ثالثة، حكاها إسماعيل بن سعيد الشالنجيّ عنه، وهو أن يقول: إذا بعتها فأنا أحقّ بها بالثمن، وأن تخدمني سنة. ومضمون هذه الرواية أن الشرطين يتعلّقان بالبائع، فيبقى له علقتان، علقة قبل التسليم، وهي الخدمة، وعلقة بعد التسليم، وهي كونه أحقّ بها، فأما اشتراط الخدمة، فيصحّ، وهو استثناء منفعة المبيع مدّة، كاستثناء ركوب الدابّة، ونحوه. وأما شرط كونه أحقّ بها بالثمن، فَقَالَ فِي رواية المروزيّ: هو فِي معنى حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا شرطان فِي بيع"، يعني لأنه شرط أن يبيعه إياه، وأن يكون البيع بالثمن الأول، فهما شرطان فِي بيع. وروى عنه إسماعيل بن سعيد: جواز هَذَا البيع، وتأوله بعض أصحابنا عَلَى جوازه مع فساد الشرط، وحمل رواية المروزيّ عَلَى فساد الشرط وحده، وهو تأويل بعيد، ونصّ أحمد يأباه. قَالَ إسماعيل بن سعيد: ذكرت لأحمد حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قَالَ: "ابتعت منْ امرأتي زينب الثقفيّة جاريةً، وشرطت لها أني إن بعتها، فهي لها بالثمن الذي ابتعتها به، فذكرت ذلك لعمر رضي الله عنه، فَقَالَ: لا تقربها، ولأحمد فيها شرط"، فَقَالَ أحمد: البيع جائزٌ، ولا تقربها، لأنه كَانَ فيها شرط واحد للمرأة، ولم يقل عمر فِي ذلك البيع: إنه فاسد.
فهذا يدلّ عَلَى تصحيح أحمد للشرط منْ ثلاثة أجه:
[أحدها]: أنه قَالَ: "لا تقربها"، ولو كَانَ الشرط فاسدًا لم يمنع منْ قربانها.
[الثاني]: أنه علّل ذلك بالشرط، فدلّ عَلَى أن المانع منْ القربان هو الشرط، وأن وطئها يتضمّن إبطال ذلك الشرط؛ لأنها قد تحمل، فيمتنع عودها إليها.
[الثالث]: أنه قَالَ: "كَانَ فيها شرط واحد للمرأة"، فذكِرُهُ وحدةَ الشرط يدلّ عَلَى أنه صحيحٌ عنده؛ لأن النهي إنما هو عن الشرطين.
وَقَدْ حكى عنه بعض أصحابنا رواية صريحة، أن البيع جائزٌ، والشرط صحيحٌ، ولهذا حمل القاضي منعه منْ الوطء عَلَى الكراهة؛ لأنه لا معنى لتحريمه عنده، مع فساد الشرط. وحمله ابن عقيل عَلَى الشبهة؛ للاختلاف فِي صحّة هَذَا العقد. وَقَالَ القاضي فِي "المجرّد": ظاهر كلام أحمد أنه متى شرط فِي العقد شرطين بطل، سواء كانا صحيحين، أو فاسدين، لمصلحة العقد، أو لغير مصلحته؛ أخذًا بظاهر الْحَدِيث، وعملاً بعمومه.
وأما أصحاب الشافعيّ، وأبي حنيفة: فلم يفرّقوا بين الشرط والشرطين، وقالوا: يبطل البيع بالشرط الواحد؛ لنهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، وأما الشروط الصحيحة، فلا تؤثّر فِي العقد، وإن كثُرت، وهؤلاء ألغوا التقييد بالشرطين، ورأوا أنه لا أثر له أصلاً.
وكلّ هذه الأقوال بعيدة عن مقصود الْحَدِيث، غير مرادة منه.
فأما القول الأول: وهو أن يشترط حمل الحطب، وتكسيره، وخياطة الثوب، وقِصَارته، ونحو ذلك، فبعيد، فإن اشتراط منفعة البائع فِي المبيع، إن كَانَ فاسدًا فسد الشرط والشرطان، وإن كَانَ صحيحًا، فأيّ فرق بين منفعة، ومنفعتين، أو منافع؟ لاسيّما والمصححون لهذا الشرط قالوا: هو عقد قد جمع بيعًا، وإجارةً، وهما معلومان لم يتضمّنا غررًا، فكانا صحيحين، وإذا كَانَ كذلك، فما الموجب لفساد الإجارة عَلَى منفعتين، وصحّتها عَلَى منفعة؟ وأيُّ فرق بين أن يشترط عَلَى بائع الحطب حمله، أو حمله ونقله، أو حمله وتكسيره؟.
وأما التفسير الثاني: وهو الشرطان الفاسدان، فأضعف وأضعف؛ لأن الشرط الواحد الفاسد منهيّ عنه، فلا فائدة فِي التقييد بشرطين فِي بيع، وهو يتضمّن زيادة فِي اللفظ، وإيهامًا لجواز الواحد، وهذا ممتنع عَلَى الشارع مثله؛ لأنه زيادة مخلّة بالمعنى.
وأما التفسير الثالث، وهو أن يشترط أنه إن باعها، فهو أحقّ بها بالثمن، وأن ذلك يتضمّن شرطين: أن لا يبيعها لغيرها، وأن يبيعها إياها بالثمن، فكذلك أيضًا، فإن كل واحد منهما إن كَانَ شرطًا فاسدًا، فلا أثر للشرطين، وإن كَانَ صحيحًا لم يفسُد
بانضمامه إلى صحيح مثله، كاشتراط الرهن والضمين، واشتراط التأجيل والرهن، ونحو ذلك.
وعن أحمد فِي هذه المسألة ثلاث روايات:
[إحداهنّ]: صحّة البيع والشرط. [والثانية]: فسادهما. [والثالثة]: صحّة البيع، وفساد الشرط، وهو رضي الله عنه إنما اعتمد فِي الصحّة عَلَى اتفاق عمر وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما عَلَى ذلك، ولو كَانَ هَذَا هو الشرطان فِي البيع لم يُخالفه لقول أحد، عَلَى قاعدة مذهبه، فإنه إذا كَانَ عنده فِي المسألة حديث صحيح لم يتركه لقول أحد، ويَعجَب ممن يخالفه منْ صاحب، أو غيره.
وقوله فِي رواية المروزيّ: هو فِي معنى حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا شرطان فِي بيع"، ليس تفسيرًا منه صريحًا، بل تشبيه، وقياس عَلَى معنى الْحَدِيث، ولو قُدّر أنه تفسيره، فليس بمطابق لمقصود الْحَدِيث، كما تقدّم.
وأما تفسير القاضي فِي "المجرّد": فمن أبعد ما قيل فِي الْحَدِيث، وأفسده، فإن شرط ما يقتضيه العقد، أو ما هو منْ مصلحته، كالرهن، والتأجيل، والضمين، ونقد كذا جائزٌ، بلا خلاف، تعددت الشروط، أم اتّحدت.
فإذا تبيّن ضعف هذه الأقوال، فالأولى تفسير كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم بعضه ببعض، فنفسّر كلامه بكلامه، فنقول: نظير هَذَا نهيه صلى الله عليه وسلم عن صفقتين فِي صفقة، وعن بيعتين فِي بيعة، فروى سماك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه رضي الله عنه، قَالَ:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين فِي صفقة"، وفي "السنن" عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"منْ باع بيعتين فِي بيعة، فله أوكسهما، أو الربا".
وَقَدْ فُسّرت البيعتان فِي البيعة بأن يقول: أبيعك بعشرة نقدًا، وبعشرين نسيئة، وهذا بعيد منْ معنى الْحَدِيث منْ وجهين:
[أحدهما]: أنه لا يدخل الربا فِي هَذَا العقد. [الثاني]: أن هَذَا ليس بصفقتين، إنما هو صفقة واحدة بأحد الثمنين، وَقَدْ ردّده بين الأوليين، أو الربا، ومعلوم أنه إذا أخذ بالثمن الأزيد فِي هَذَا العقد لم يكن ربا، فليس هَذَا معنى الْحَدِيث.
وفُسّر بأن يقول: خذ هذه السلعة بعشرة نقدًا، وآخذها منك بعشرين نسيئة، وهي مسألة العينة بعينها، وهذا هو المعنى المطابق للحديث، فإنه إذا كَانَ مقصوده الدراهم العاجلة بالآجلة، فهو لا يستحقّ إلا رأس ماله، وهو أوكس الثمنين، فإن أخذه أخذ أوكسهما، وإن أخذ الثمن الأكثر، فقد أخذ الربا، فلا مَحِيد له عن أوكس الثمنين، أو الربا، ولا يحتمل الْحَدِيث غير هَذَا المعنى، وهذا هو بعينه الشرطان فِي بيع، فإن
الشرط يُطلق عَلَى العقد نفسه؛ لأنهما تشارطا عَلَى الوفاء به، فهو مشروط، والشرط يُطلق عَلَى المشروط كثيرًا، كالضرب يُطلق عَلَى المضروب، والخلق يطلق عَلَى المخلوق، والنسخ يُطلق عَلَى المنسوخ، فالشرطان كالصفقتين سواءً، فشرطان فِي بيع كصفقتين فِي صفقة.
وإذا أردت أن يتّضح لك هَذَا المعنى، فتأمل نهيه صلى الله عليه وسلم فِي حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن بيعتين فِي بيعة، و"عن سلف وبيع، رواه أحمد، ونهيه فِي هَذَا الْحَدِيث عن شرطين فِي بيع، وعن سلف وبيع، فجمع السلف والبيع، مع الشرطين فِي البيع، ومع البيعتين فِي البيعة.
وسرّ ذلك أن كلا الأمرين يؤول إلى الربا، وهو ذريعة إليه، أما البيعتان فِي بيعة، فظاهرٌ، فإنه إذا باعه السلعة إلى شهر، ثم اشتراها منه بما شرطه له، كَانَ قد باع بما شرطه له بعشرة نسيئةً، ولهذا المعنى حرّم الله، ورسوله العينة. وأما السلف والبيع، فلأنه إذا أقرضه مائة إلى سنة، ثم باعه ما يُساوي خمسين بمائة، فقد جعل هَذَا المبيع ذريعة إلى الزيادة فِي القرض الذي موجبه ردّ المثل، ولولا هَذَا البيع لما أقرضه، ولولا عقد القرض لما اشترى ذلك، فظهر سرّ قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يحلّ سلف وبيعٌ، ولا شرطان فِي بيع"، وقول ابن عمر:"نُهي عن بيعتين فِي بيعة، وعن سلف وبيع"، واقتران إحدى الجملتين بالأخرى لما كانا سلّمًا إلى الربا. ومن نظر فِي الواقع، وأحاط به علمًا فهم مراد الرسول صلى الله عليه وسلم منْ كلامه، ونزّله عليه، وعلم أنه كلام منْ جُمعت له الحكمة، وأُوتي جوامع الكلم، فصلوات الله وسلامه عليه، وجزاه أفضل ما جزى نبيّا عن أمته.
وَقَدْ قَالَ بعض السلف: اطلبوا الكنوز تحت كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما كَانَ موجب عقد القرض ردّ المثل منْ غير زيادة، كانت الزيادة ربا.
قَالَ ابن المنذر: أجمعوا عَلَى أن المسلف إذا شرط عَلَى المستسلف زيادةً، أو هديّةً، فأسلف عَلَى ذلك، أن أخذه الزيادة عَلَى ذلك ربا. وَقَدْ رُوي عن ابن مسعود، وأُبيّ بن كعب، وابن عبّاس رضي الله عنهم "أنهم نهوا عن قرض جرّ منفعةً"، وكذلك إن شرط أن يؤجره داره، أو يبيعه شيئًا، لم يجز؛ لأنه سُلّمٌ إلى الربا، ولهذا نهى عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولهذا منع السلف رضي الله عنهم منْ قبول هديّة المقترض، إلا أن يحتسبها المقرض منْ الدين.
فروى الأثرم: أن رجلاً كَانَ له عَلَى سمّاك عشرون درهمًا، فجعل يُهدي إليه السمك، ويقوّمه، حَتَّى بلغ ثلاثة عشر درهمًا، فسأل ابن عبّاس، فَقَالَ: أعطه سبعة دراهم. ورُوي عن ابن سيرين أن عمر أسلف أبي بن كعب عشرة آلاف درهم، فأهدى إليه أُبيّ منْ ثمرة أرضه، فردّها عليه، ولم يقبلها، فأتاه أبيّ، فَقَالَ: لقد علم أهل
المدينة أنّي منْ أطيبهم ثمرةً، وأنه لا حاجة لنا، فبم منعت هديّتنا؟ ثم أهدى إليه بعد ذلك، فقبل. فكان ردّ عمر لَمّا توهّم أن تكون هديّته بسبب القرض، فلما تيقّن أنها ليست بسبب القرض قبلها، وهذا فصل النزاع فِي مسألة هديّة المقترض.
وَقَالَ زرّ بن حُبيش: قلت لأبيّ بن كعب: إني أريد أن أسير إلى أرض الجهاد، إلى العراق، فَقَالَ: إنك تأتي أرضًا فاش بها الربا، فإن أقرضت رجلاً قرضًا، فأتاك بقرضك ليؤدّي إليك قرضك، ومعه هديّة، فاقبض قرضك، واردد عليه هديّته. ذكرهنّ الأثرم.
وفي "صحيح البخاريّ"
(1)
عن أبي بردة بن أبي موسى، قَالَ: قدمت المدينة، فلقيت عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فذكر الْحَدِيث، وفيه: ثم قَالَ لي: إنك بأرض فيها الربا فاش، فإذا كَانَ لك عَلَى رجل دينٌ، فأهدى إليك حمل تِبْن، أو حِمل قَتّ، أو حمل شعير، فلا تأخذه، فإنه ربا. قَالَ ابن أبي موسى: ولو أقرضه قرضًا، ثم استعمله عملاً، لم يكن يستعمله مثله قبل القرض، كَانَ قرضًا جرّ منفعة، قَالَ: ولو استضاف غريمه، ولم تكن العادة جرت بينهما بذلك حسب له ما أكله. واحتجّ له صاحب "المغني" بما روى ابن ماجه فِي "سننه" عن أنس رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقرض أحدكم قرضًا، فأَهدى إليه، أو حمله عَلَى دابته، فلا يركبها، ولا يقبله، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك"
(2)
.
واختلفت الروايات عن أحمد فيما لو أقرضه دراهم، وشرط عليه أن يوفيه إياها ببلد آخر، ولا مؤنة لحملها، فروي عنه أنه لا يجوز، وكرهه الحسن، وجماعة، ومالكٌ، والأوزاعيّ، والشافعيّ. وروي عنه الجواز، نقله ابن المنذر؛ لأنه مصلحة لهما، فلم ينفرد المقترض بالمنفعة، وحكاه عن عليّ، وابن عباس، والحسن بن عليّ، وابن الزبير، وابن سيرين، وعبد الرحمن بن الأسود، وأيوب، والثوريّ، وإسحاق، واختاره القاضي.
ونظير هَذَا ما لو أفلس غريمه، فأقرضه دراهم يوفيه كلّ شهر شيئًا معلومًا منْ ربحها جاز؛ لأن المقترض لم ينفرد بالمنفعة. ونظيره ما لو كَانَ عليه حنطةٌ، فأقرضه دراهم يشتري بها حنطة، ويوفيه إياها. ونظير ذلك أيضًا إذا أقرض فلّاحه ما يشتري به بقرًا يعمل بها فِي أرضه، أو بذرًا يبذره فيها. ومنعه ابن أبي موسى، والصحيح جوازه، وهو اختيار صاحب "المغني"، وذلك لأن المستقرض إنما يقصد نفع نفسه، ويحصل انتفاع
(1)
رواه البخاريّ فِي "كتاب المناقب" رقم 3814 "باب مناقب عبد الله بن سلام رضي الله عنه".
(2)
رواه ابن ماجه رقم 2432 وهو ضعيف فِي إسناده إسماعيل بن عياش رواه عن عتبة بن حميد الضبيّ، وهو بصريّ، وَقَدْ ضعفه أحمد، وشيخه يحيى بن أبي إسحاق مجهول.
المقترض ضمنًا، فأشبه أخذ السفتجة به، وإيفاءه إياه فِي بلد آخر، منْ حيث إنه مصلحة لهما جميعًا.
والمنفعة التي تجرّ إلى الربا فِي القرض هي التي تخصّ المقرض، كسكنى دار المقترض، وركوب دوابّه، واستعماله، وقبول هديّته، فإنه لا مصلحة له فِي ذلك، بخلاف هذه المسائل، فإن المنفعة مشتركة بينهما، وهما متعاونان عليها، فهي منْ جنس التعاون والمشاركة.
وأما "نهيه صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يُضمن": فهو كما ثبت عنه فِي حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، حيث قَالَ له: إني أبيع الإبل بالبقيع بالدراهم، وآخذ الدنانير، وأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم؟ قَالَ:"لا بأس إذا أخذتها بسعر يومها، وتفرّقتما، وليس بينكما شيء"، فجوّز ذلك بشرطين:[أحدهما]: أن يأخذ بسعر يوم الصرف؛ لئلا يربح فيها، وليستقرّ ضمانه. [والثاني]: أن لا يتفرّقا إلا عن تقابض؛ لأنه شرط فِي صحّة الصرف؛ لئلا يدخله ربا النسيئة.
والنهي عن ربح ما لم يُضمن قد أشكل عَلَى بعض الفقهاء علّته، وهو منْ محاسن الشريعة، فإنه لم يتمّ عليه استيلاء، ولم تنقطع علق البائع عنه، فهو يطمع فِي الفسخ، والامتناع منْ الإقباض، إذا رأى المشتري قد ربح فيه، وإن أقبضه إياه، فإنما يُقبضه عَلَى إغماض، وتأسّف عَلَى ذوات الربح، فنفسه متعلّقة به، لم ينقطع طمعها منه. وهذا معلوم بالمشاهدة، فمن كمال الشريعة، ومحاسنها النهي عن الربح فيه، حَتَّى يستقرّ عليه، ويكون منْ ضمانه، فييأس البائع منْ الفسخ، وتنقطع علقه عنه. وَقَدْ نصّ أحمد عَلَى ذلك فِي الاعتياض عن دين القرض وغيره أنه إنما يعتاض عنه بسعر يومه؛ لئلا يربح فيما لم يضمن.
[فإن قيل]: هَذَا ينتقض عليكم بمسألتين:
[إحداهما]: بيع الثمار بعد بدُوّ صلاحها، فإنكم تجوّزون لمشتريها أن يبيعها عَلَى رؤوس الأشجار، وأن يربح فيها، ولو تلفت بجائحة لكانت منْ ضمان البائع، فيلزمكم أحد أمرين: إما أن تمنعوا بيعها، وإما أن لا تقولوا بوضع الجوائح، كما يقول الشافعيّ، وأبو حنيفة، بل تكون منْ ضمانه، فكيف تجمعون بين هَذَا وهذا؟.
[المسألة الثانية]: إنكم تجوّزون للمستأجر أن يؤجر العين المستأجرة بمثل الأجرة وزيادة، مع أنها لو تلفت لكانت منْ ضمان المؤجر، فهذا ربح ما لم يُضمن؟
[قيل]: النقض الوارد إما أن يكون بمسألة منصوص عليها، أو مجمع عَلَى حكمها، وهاتان المسألتان غير منصوص عليهما، ولا مجمع عَلَى حكمهما، فلا يردان نقضًا،
فإن فِي جواز بيع المشتري ما اشتراه منْ الثمار عَلَى الأشجار كذلك روايتان منصوصتان عن أحمد، فإن منعنا البيع بطل النقض، وإن جوّزنا البيع، وهو الصحيح، فلأن الحاجة تدعو إلى ذلك، فإن الثمار قد لا يمكن بيعها إلا كذلك، فلو منعناه منْ بيعها أضررنا به، ولو جعلناها منْ ضمانه إذا تلفت بجائحة أضررنا به أيضًا، فجوّزنا له بيعها؛ لأنها فِي حكم المقبوض بالتخلية بينه وبينها، وجعلناها منْ ضمان البائع بالجائحة؛ لأنها ليست فِي حكم المقبوض منْ جميع الوجوه، ولهذا يجب عليه تمام التسليم بالوجه المحتاج إليه، فلما كانت مقبوضة منْ وجه، غير مقبوضة منْ وجه، رتّبنا عَلَى الوجهين مقتضاهما، وهذا منْ ألطف الفقه.
وأما مسألة الإجارة، فاختلفت الرواية عن أحمد فِي جواز إجارة الرجل ما استأجره بزيادة عَلَى ثلاث روايات:
[إحداهنّ]: المنع مطلقًا؛ لئلا يربح فيما لم يضمن، وعلى هَذَا فالنقض مندفع.
[والثانية]: أنه إن جدّد فيها عمارة، جازت الزيادة، وإلا فلا؛ لأن الزيادة لا تكون ربحًا، بل هي فِي مقابلة ما أحدثه منْ العمارة، وعلى هذه الرواية أيضًا فالنقض مندفع.
[والثالثة]: أنه يجوز أن يؤجرها بأكثر مما استأجرها مطلقًا، وهذا مذهب الشافعيّ، وهذه الرواية أصحّ، فإن المستأجر لو عطل المكان، وأتلف منافعه بعد قبضه لتلفت منْ ضمانه؛ لأنه قبضه القبض التامّ، ولكن لو انهدمت الدار، لتلفت منْ مال المؤجر؛ لزوال محلّ المنفعة، فالمنافع مقبوضة، ولهذا له استيفاؤها بنفسه، وبنظيره، وإيجارها، والتبرّع بها، ولكن كونها مقبوضة مشروط ببقاء العين، فإذا تلفت العين زال محلّ الاستيفاء، فكانت منْ ضمان المؤجر.
وسرّ المسألة أنه لم يربح فيما لم يضمن، وإنما هو مضمون عليه بالأجرة.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تبع ما ليس عندك": فمطابق لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر؛ لأنه إذا باع ما ليس عنده، فليس هو عَلَى ثقة منْ حصوله، بل قد يحصل له، وَقَدْ لا يحصل، فيكون غررًا، كبيع الآبق، والشارد، والطير فِي الهواء، وما تحمل ناقته ونحوه. قَالَ حكيم بن حزام رضي الله عنه: يا رسول الله، الرجل يأتيني يسألني البيع ليس عندي، فأبيعه منه، ثم أمضي إلى السوق، فأشتريه، وأسلّمه إياه،؟ فَقَالَ:"لا تبع ما ليس عندك".
وَقَدْ ظنّ طائفة أن السلم مخصوص منْ عموم هَذَا الْحَدِيث، فإنه بيع ما ليس عنده، وليس كما ظنّوا، فإن الْحَدِيث إنما تناول بيع الأعيان، وأما السلم، فعقد عَلَى ما فِي الذمّة،، بل شرطه أن يكون فِي الذمّة، فلم أسلم فِي معيّن عنده كَانَ فاسدًا، وما فِي الذمّة مضمون مستقرّ فيها، وبيع ما ليس عنده إنما نُهي عنه لكونه غير مضمون عليه،
ولا ثابت فِي ذمّته، ولا فِي يده، فالمبيع لابدّ أن يكون ثابتًا فِي ذمّة المشتري، أو فِي يده، وبيع ما ليس عنده ليس بواحد منهما، فالحديث باقٍ عَلَى عمومه.
[فإن قيل]: فأنتم تجوّزن للمغصوب منه أن يبيع المغصوب لمن يقدر عَلَى انتزاعه منْ غاصبه، وهو بيع ما ليس عنده؟.
[قيل]: لَمّا كَانَ البائع قادرًا عَلَى تسليمه بالبيع، والمشتري قادرًا عَلَى تسلّمه منْ الغاصب، فكأنه قد باعه ما هو عنده، وصار كما لو باعه مالاً، وهو عند المشتري، وتحت يده، وليس عند البائع، والعنديّة هنا ليست عنديّة الحسّ والمشاهدة، فإنه يجوز أن يبيعه ما ليس تحت يده، ومشاهدته، وإنما هي عنديّة الحكم والتمكين، وهذا واضحٌ، ولله الحمد. انتهى بحث ابن القيّم رحمه الله تعالى بطوله، وهو بحث نفيسٌ مفيد، ولذا نقلته برمّته تتميمًا للفائدة، وتعميمًا للعائدة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4614 -
(أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ الْعَوَّامِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، قَالَ عُثْمَانُ: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ سَيْفٍ، عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ عَلَى رَجُلٍ بَيْعٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عثمان بن عبد الله": هو ابن خُرّزاد، أبو عمرو البصريّ، نزيل أنطاكية، ثقة، منْ صغار [11] 112/ 155 منْ أفراد المصنّف. و"سعيد بن سُليمان": هو الضبّيّ، أبو عثمان الواسطيّ، نزيل بغداد البزّار، لقبه سَعْدويه، ثقة حافظ، منْ كبار [10] 15/ 1854. و"عبّاد بن الْعَوّام": هو الكلابيّ مولاهم، أبو سهل الواسطيّ، ثقة [8] 2/ 3907. و"سعيد بن أبي عروبة" مهران: هو اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقة حافظ، له تصانيف، لكنه كثير التدليس، واختلط، منْ أثبت النَّاس فِي قتادة [6] 34/ 38.
و"أبو رجاء/ محمد بن سيف" الأزديّ الْحُدّانيّ -بضمّ المهملة، وتشديد الدال المهملة- البصريّ، ثقة [6].
أدرك أنسًا، وروى عن الحسن، وابن سيرين، ومطر الورّاق، وعكرمة، وعبد الله ابن بُريدة، وعطاء الخراسانيّ. وروى عنه شعبة، وسعيد بن أبي عروبة، وحماد بن زيد، وابن عُليّة، ونوح بن قيس، ويزيد بن زُريع. قَالَ ابن معين، ومحمد بن سعد، والنسائيّ: ثقة. وَقَالَ أبو حاتم: صالح الْحَدِيث. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وذكره خليفة فيمن مات قبل الطاعون، أو بعده بقليل يعني طاعون سنة (131). روى له أبو
داود فِي "المراسيل"، والمصنّف، وله عنده فِي هَذَا الكتاب ثلاثة أحاديث: هَذَا، وفي "كتاب الأشربة" 29/ 5625 - حديث الحسن "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نبيذ الجرّ" الْحَدِيث. وفيه 53/ 5726 - "قَالَ: سألت الحسن عن الطلاء؟ فَقَالَ: لا تشربه".
و"مطر الورّاق": هو ابن طهمان، أبو رجاء السلميّ مولاهم الخراسانيّ، سكن البصرة، صدوقٌ كثير الخطأ [6] 38/ 3276.
وقوله: "ليس عَلَى رجل الخ": أي لو باع ملك غيره لا يلزم عليه ذلك البيع، حَتَّى يُطلبَ منه تسليم المبيع.
وهذا حديث مختصر منْ حديث طويل، ساقه أبو داود رحمه الله تعالى فِي "سننه" بتمامه، فَقَالَ:
2190 -
حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام ح وحدثنا ابن الصباح، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد، قالا: حدثنا مطر الوراق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لا طلاق إلا فيما تملك، ولا عتق إلا فيما تملك، ولا بيع إلا فيما تملك"، زاد ابن الصباح:"ولا وفاء نذرٍ إلا فيما تملك".
حدثنا محمد بن العلاء، أخبرنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، حدثني عبد الرحمن بن الحارث، عن عمرو بن شعيب، بإسناده ومعناه، زاد:"منْ حلف عَلَى معصية، فلا يمين له، ومن حلف عَلَى قطيعة رحم، فلا يمين له".
حدثنا ابن السرح، حدثنا ابن وهب، عن يحيى بن عبد الله بن سالم، عن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي هَذَا الخبر، زاد:"ولا نذر إلا فيما ابتُغِي به وجهُ الله تعالى ذكره". انتهى.
والحديث صحيح، كما سبق بيانه فِي الْحَدِيث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4615 -
(حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَأْتِينِي الرَّجُلُ، فَيَسْأَلُنِي الْبَيْعَ لَيْسَ عِنْدِي أَبِيعُهُ مِنْهُ، ثُمَّ أَبْتَاعُهُ لَهُ مِنَ السُّوقِ؟ قَالَ: "لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(زياد بن أيوب) الحافظ البغداديّ المعروف بدلّويه، ثقة ثبت [10] 101/ 132.
2 -
(هشيم) بن بَشير الواسطيّ، ثقة ثبت، كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7] 88/ 109.
3 -
(أبو بِشر) بن أبي وَحْشيّة جعفر بن إياس الواسطيّ، بصريّ الأصل، ثقة [5]
13/ 520.
4 -
(يوسف بن ماهَك) بن بُهْزاد الفارسيّ المكيّ ثقة [3] 125/ 1084.
5 -
(حكيم بن حزام) بن خُوَيلد بن أسد الأسدي، أبو خالد المكيّ، أسلم يوم الفتح، ومات رضي الله عنه سنة 54 أو بعدها، تقدم فِي 125/ 1084. والله تعالى أعلم. رضي الله تعالى عنه المذكور قريبًا. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ حَكِيم بْنِ حِزَامٍ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، يَأْتِينِي الرَّجُلُ، فَيَسْألُنِيَ الْبَيْعَ) أي المبيع، فهو منْ إطلاق المصدر، وإرادة اسم المفعول، ولفظ "الكبرى":"يسألني بيع ما ليس عندي"(لَيْسَ عِنْدِي) جملة فِي محلّ نصب عَلَى الحال منْ "البيع"، بناء عَلَى القاعدة المشهورة:"الجملة وشبهها بعد المعارف أحوال، وبعد النكرات صفات"، أو صفة له، بناء عَلَى أن ما عُرّف بـ"أل" الجنسيّة كالنكرة، كما فِي قوله تعالى:{كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} الآية [الجمعة: 5]، وقول الشاعر [منْ الوافر]:
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي
…
فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لَا يَعْنِينِي
وقوله (أَبِيعُهُ مِنْهُ) استفهام بتقدير همزته، أي أأبيع ذلك الشيء الذي طلبه منّي، وليس عندي (ثُمَّ أَبْتَاعُهُ لَهُ مِنَ السُّوقِ؟) أي أشتريه منْ النَّاس لأجل أن أوفي له بما التزمته؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَا تَبعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ) قَالَ ابن المنذر رحمه الله تعالى: بيع ما ليس عندك يحتمل معنيين: [أحدهما]: أن يقول أبيعك عبدًا، أو دارًا معيّنةً، وهي غائبةٌ، فيُشبه الغرر؛ لاحتمال أن تتلف، أو لا يرضاها. [ثانيهما]: أن يقول: هذه الدار بكذا عَلَى أن أشتريها لك منْ صاحبها، أو عَلَى أن يسلّمها لك صاحبها. انتهى
(1)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قصّة حكيم رضي الله عنه موافقة للاحتمال الثاني، وأما الاحتمال الأول، وهو بيع الغائب، ففيه خلاف للعلماء، والصحيح أنه جائز؛ لإمكان معرفته بالوصف، ومتى خالف الوصف فللمشتري الخيار. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
راجع "الفتح" 5/ 82. "كتاب البيوع".
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -60/ 4614 - وفي "الكبرى" 61/ 62065. وأخرجه (د) فِي "البيوع" 3503 (ت) فِي "البيوع" 1232 و1233 و1234 و1235 (ق) فِي "التجارات" 2187 (أحمد) فِي "مسند المكيين" 14888 و15145. وفوائد الْحَدِيث وبقية المسائل تقدّمت قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
61 - (السَّلَمُ فِي الطَّعَامِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "السَّلَم" -بفتحتين-: كالسلف وزنا ومعنى، وذكر الماوردي: أن السلف لغةُ أهل العراق، والسلم لغة أهل الحجاز. وقيل: السلف تقديم رأس المال، والسلم تسليمه فِي المجلس، فالسلف أعم.
والسلم شرعا: بيع موصوف فِي الذمة، ومن قيده بلفظ "السلم" زاده فِي الحد، ومن زاد فيه:"ببدل يُعطَى عاجلا" فيه نظر؛ لأنه ليس داخلا فِي حقيقته.
واتفق العلماء عَلَى مشروعيته، إلا ما حُكى عن ابن المسيب، واختلفوا فِي بعض شروطه، واتفقوا عَلَى أنه يُشترط له ما يشترط للبيع، وعلى تسليم رأس المال فِي المجلس، واختلفوا هل هو عقد غرر، جُوّز للحاجة، أم لا؟. قاله فِي "الفتح" 5/ 181 - 182.
وَقَالَ فِي "المغني" 6/ 384: "السلم": هو أن يُسلم عِوَضًا حاضرا، فِي عِوَض موصوف فِي الذمة، إلى أجل، ويسمى سَلَمًا، وسَلَفًا، يقال: أسلم، وأسلف، وسَلَّفَ، وهو نوع منْ البيع، ينعقد بما ينعقد به البيع، وبلفظ السلم، والسلف، ويُعتبر فيه منْ الشروط ما يعتبر فِي البيع، وهو جائز بالكتاب، والسنة، والإجماع:
أما الكتاب: فقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} الآية [البقرة: 282]، ورَوَى سعيد بإسناده، عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما أنه قَالَ: "أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى، قد أحله الله فِي كتابه، وأذن فيه، ثم قرأ هذه الآية"، ولأن هَذَا اللفظ يَصلح للسلم، ويشمله بعمومه.
وأما السنة: فرَوَى ابنُ عباس رضي الله تعالى عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم قَدِمُوا المدينة، وهم يُسلفون فِي الثمار السنتين والثلاث، فَقَالَ:"منْ أسلف فِي شيء، فليُسلِف فِي كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم"، مُتّفق عليه
(1)
، وروى البخاريّ عن محمد بن أبي المجالد، قَالَ: أرسلني أبو بردة، وعبد الله بن شداد، إلى عبد الرحمن بن أبزى، وعبد الله بن أبي أوفى، فسألتهما عن السلف، فقالا: كنا نُصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يأتينا أنباط منْ أنباط الشام، فنسلفهم فِي الحنطة، والشعير، والزبيب، فقلت: أكان لهم زرع، أم لم يكن لهم زرع؟، قَالَ: ما كنا نسألهم عن ذلك
(2)
.
وأما الإجماع: فَقَالَ ابن المنذر: أجمع كُلُّ منْ نَحفظ عنه منْ أهل العلم، عَلَى أن السلم جائز، ولأن المثمن فِي البيع أحد عوضي العقد، فجاز أن يثبت فِي الذمة كالثمن، ولأن بالناس حاجة إليه، لأن أرباب الزروع، والثمار، والتجارات يحتاجون إلى النفقة عَلَى أنفسهم، وعليها؛ لتكمل، وَقَدْ تُعوزهم النفقة، فجُوّز لهم السلم؛ ليرتفقوا، ويَرتفق الْمُسلِم بالاسترخاص. انتهى.
وَقَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: السلم، والسلف عبارتان عن مُعَبَّر واحد، غير أن الاسم الخاصّ بهذا الباب السلم؛ لأن السلف يُقال عَلَى القرض، والسلم فِي عرف الشرع: بيع منْ البيوع الجائزة بالاتفاق، غير أنه مختصّ بشروط، منها متّفقٌ عليها، ومنها مختلف فيها، وَقَدْ حدّه أصحابنا -يعني المالكيّة- بأن قالوا:
هو بيع معلوم فِي الذّمّة، محصور بالصفة، بعين حاضرة، أو ما فِي حكمها، إلى أجل معلوم.
فتقييده بـ"معلوم فِي الذّمّة": يفيد التحرّز منْ المجهول، ومن السلم فِي الأعيان المعيّنة، مثل الذي كانوا يُسلفون فِي المدينة حين قدِم عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا يُسلفون فِي ثمار بأعيانها، فنهاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لما فيه منْ الغرر؛ إذ قد تُخلف تلك النخيل، فلا تُثمر شيئًا.
وقولنا: "محصور بالصفة": تحرّز عن المعلوم عَلَى الجملة، دون التفصيل، كما لو أسلم فِي ثمر، أو ثياب، ولم يُبيّن نوعها، ولا صفتها المعيّنة.
وقولنا: "بعين حاضرة": تحرّز منْ الدين بالدين. وقولنا: "أو ما هو فِي حكمها": تحرّز منْ اليومين، والثلاثة التي يجوز تأخير رأس مال السلم إليها، فإنه يجوز عندنا
(1)
هو الْحَدِيث الآتي للمصنف برقم 63/ 4618.
(2)
هو الْحَدِيث الذي أورد المصنّف بعد هَذَا.
تأخيره ذلك القدر بشرط، وبغير شرط؛ لقرب ذلك، ولا يجوز اشتراط زيادة عليها.
وقولنا: "إلى أجل معلوم": تحرّز منْ الأجل المجهول الذي كانوا فِي الجاهليّة، يُسلمون إليه. انتهى "المفهم" 4/ 514.
وقوله: "فِي "الطعام ": المراد به هنا ما يعمّ البرّ وغيره، بدليل ما ذكره فِي الْحَدِيث، وإن كَانَ الطعام كثيرًا ما يُطلق عَلَى الحنطة، كما سبق بيان ذلك. والله تعالى أعلم بالصواب.
4616 -
(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْمُجَالِدِ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى عَنِ السَّلَفِ؟ قَالَ: كُنَّا نُسْلِفُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، فِي الْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ، إِلَى قَوْمٍ لَا أَدْرِي أَعِنْدَهُمْ، أَمْ لَا؟، وَابْنُ أَبْزَى قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ).
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(عبيد الله بن سعيد) أبو قُدامة السرخسيّ، ثقة ثبت [10] 15/ 15.
2 -
(يحيى) بن سعيد القطّان البصريّ، ثقة ثبت [9] 4/ 4.
3 -
(شعبة) بن الحجاج البصريّ، ثقة ثبت [7] 24/ 27.
4 -
(عبد الله بن أبي المجالد) بالجيم- مولى عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه، ويقال: محمد بن أبي المجالد الكوفيّ، مولى عبد الله بن أبي أوفى، ثقة [5].
رَوَى عن مولاه، وعبد الرحمن بن أبزى، وعبد الله بن شداد بن الهاد، وورّاد مولى المغيرة، ومقسم. وعنه شعبة، وأبو إسحاق الشيباني، وإسماعيل السُّدّي، وغيرهم. وَقَالَ البخاريّ، عن علي بن المديني: له نحو عشرة أحاديث. وَقَالَ ابن معين، وأبو زرعة: ثقة. وَقَالَ الآجري، عن أبي داود: يخطىء فيه شعبة، فيقول: محمد بن أبي المجالد. وَقَالَ ابن حبّان فِي "الثقات": عبد الله بن أبي المجالد، خَتَنُ مجاهد. وَقَدْ سماه أيضا محمدًا أبو إسحاق الشيباني، كذا عند البخاريّ، وأبي داود، وأما شعبة، فكان يشك فِي اسمه، ففي البخاريّ عن شعبة مرة: عبد الله، ومرة: محمد، ومرة عبد الله، أو محمد، وكذلك أخرجه البخاريّ، وأبو داود جميعا عن حفص بن عمر، عن شعبة، عن محمد، أو عبد الله بن أبي المجالد، وكذا روى النسائيّ -فِي الباب التالي- عن محمود بن غيلان، عن أبي داود، عن شعبة، عن عبد الله بن أبي المجالد، قَالَ: وَقَالَ مرة: محمد. انتهى. رَوَى له البخاريّ، وأبو داود، والمصنّف، وابن ماجه، وله عند البخاريّ، والمصنّف هَذَا الْحَدِيث فقط.
5 -
(عبد الله بن أبي أوفى) علقمة بن خالد بن الحارث الأسلميّ، صحابيّ شهِد
الْحُديبية، وعُمّر بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم دهرًا، ومات رضي الله عنه سنة (87)، وهو آخر منْ مات بالكوفة منْ الصحابة رضي الله عنهم. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه ما بين سرخسيّ، وهو شيخه، وبصريين، وهما يحيى وشعبة، وكوفيّين، وهما عبد الله بن أبي المجالد والصحابيّ. (ومنها): أن صحابيه آخر منْ مات بالكوفة منْ الصحابة رضي الله تعالى عنهم. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي الْمُجَالِدِ) تقدّم اختلاف الرواة فِي اسمه آنفًا، فلا تغفل، أنه (قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى) رضي الله تعالى عنه (عَنِ السَّلَفِ؟) أي عن حكم السلم، هل يجوز إلى منْ ليس عنده المسلم فيه فِي تلك الحالة، أم لا؟، وسبب سؤاله عن ذلك هو ما يأتي فِي الباب التالي، قَالَ: تمارى أبو بردة، وعبد الله بن شدّاد فِي السلم، فأرسلوني إلى ابن أبي أوفى، فسألته" الْحَدِيث (قَالَ) ابن أبي أوفى رضي الله عنه (كُنَّا نُسْلِفُ) بضم أوله، منْ الإسلاف، ويحتمل أن يكون منْ التسليف، يقال: أسلف، وسلّف بتشديد اللام: بمعنى أسلم (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبِي بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه (وَعُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنه (فِي الْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ، إِلَى قَوْمٍ لَا أَدْرِي، أَعِنْدَهُمْ، أَمْ لَا؟) أي لا أعلم هل المسلم فيه موجود وقت العقد، أم لا؟ (وَابْنُ أَبْزَى) بفتح الهمزة، وسكون الموحّدة، بعدها زايٌ، مقصورًا- هو عبد الرحمن بن أبزى الْخُزاعيّ مولاهم، صحابيّ صغيرٌ، وكان رضي الله عنه فِي عهد عمر رضي الله عنه رجلاً، وكان عَلَى خراسان لعليّ رضي الله عنه، فقوله: "وابن أبزى" مبتدأ، خبره جملة قوله (قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ) وفي الراوية التالية: "فسألت ابن أبزى؟ فَقَالَ مثل ذلك".
وفي رواية البخاريّ منْ طريق أبي إسحاق الشيباني، عن محمد بن أبي المجالد، قَالَ: بعثني عبد الله بن شداد، وأبو بردة إلى عبد الله بن أبي أوفى، رضي الله عنهما، فقالا: سله هل كَانَ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فِي عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، يُسلفون فِي الحنطة؟، قَالَ عبد الله: كنا نُسلف نَبِيط أهل الشام، فِي الحنطة، والشعير، والزيت، فِي كيل معلوم إلى أجل معلوم، قلت: إلى منْ كَانَ أصله عنده؟ قَالَ: ما كنا نسألهم عن ذلك، ثم بعثاني إلى عبد الرحمن بن أبزى، فسألته، فَقَالَ: كَانَ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، يُسلفون عَلَى عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم نسألهم ألهم حرث أم لا؟. انتهى.
قوله: "نَبِيط أهل الشام": وفي رواية سفيان: "أنباط منْ أنباط الشام": وهم قوم منْ العرب، دخلوا فِي العجم والروم، واختلطت أنسابهم، وفسدت ألسنتهم، وكان الذين اختلطوا بالعجم منهم، ينزلون البطائح بين العراقين، والذين اختلطوا بالروم، ينزلون فِي بوادي الشام، ويقال لهم:"النَّبَط" -بفتحتين-، و"النَّبِيط" بفتح أوله، وكسر ثانيه، وزيادة تحتانية، و"الأنباط"، قيل: سُمُّوا بذلك لمعرفتهم بإنباط الماء: أي استخراجه؛ لكثرة معالجتهم الفِلاحة.
وقوله: "إلى منْ كَانَ أصله عنده": المراد ما أسلم فيه. وقيل: المراد بالأصل أصل الشيء الذي يسلم فيه، فأصل الحب مثلا الزرع، وأصل الثمر مثلا الشجر.
وقوله: "ما كنا نسألهم عن ذلك": كأنه استفاد الحكم منْ عدم الاستفصال، وتقرير النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذلك. قاله فِي "الفتح" 5/ 185. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه هَذَا أخرجه البخاريّ
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -61/ 4616 و62/ 4617 - وفي "الكبرى" 62/ 6207 و63/ 6208.
وأخرجه (خ) فِي "السلم" 2243 (د) فِي "البيوع" 3464 (ق) فِي "التجارات" 2282 (أحمد) فِي "مسند الكوفيين"18643. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز السلم فِي الطعام. (ومنها): أنه استُدِلّ به عَلَى صحة السلم، إذا لم يذكر مكان القبض، وهو قول أحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وبه قَالَ مالك، وزاد: ويقبضه فِي مكان السلم، فإن اختلفا فالقول قول البائع. وَقَالَ الثوري، وأبو حنيفة، والشافعي: لا يجوز السلم فيما له حَمْل ومُؤنة، إلا أن يشترط فِي تسليمه مكانا معلوما.
(ومنها): أنه استُدِلَ به أيضًا عَلَى جواز السلم، فيما ليس موجودا فِي وقت السلم، إذا أمكن وجوده فِي وقت حلول السلم، وهو قول الجمهور، ولا يضر انقطاعه قبل المحل، وبعده عندهم. وَقَالَ أبو حنيفة: لا يصح فيما ينقطع قبله، ولو أسلم فيما يَعُمّ، فانقطع فِي محله، لم ينفسخ البيع عند الجمهور، وفي وجه للشافعية ينفسخ.
(ومنها): أنه استُدل به أيضًا عَلَى جواز التفرق فِي السلم قبل القبض؛ لكونه لم يُذكر
فِي الْحَدِيث، وهو قول مالك، إن كَانَ بغير شرط. وَقَالَ الشافعيّ، والكوفيون: يفسد بالافتراق قبل القبض؛ لأنه يصير منْ باب بيع الدين بالدين.
(ومنها): جواز مبايعة أهل الذمة، والسلم إليهم. (ومنها): رجوع المختلفين عند التنازع إلى السنة، والاحتجاج بتقرير النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأن السنة إذا وردت بتقرير حكم، كَانَ أصلا برأسه، لا يضره مخالفة أصل آخر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
62 - (السَّلَمُ فِي الزَّبِيبِ)
4617 -
(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الْمُجَالِدِ، وَقَالَ مَرَّةً: عَبْدُ اللَّهِ، وَقَالَ مَرَّةً: مُحَمَّدٌ، قَالَ: تَمَارَى أَبُو بُرْدَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ فِي السَّلَمِ، فَأَرْسَلُونِي إِلَى ابْنِ أَبِي أَوْفَى، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: "كُنَّا نُسْلِمُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَلَى عَهْدِ عُمَرَ، فِي الْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ، وَالزَّبِيبِ، وَالتَّمْرِ، إِلَى قَوْمٍ، مَا نُرَى عِنْدَهُمْ، وَسَأَلْتُ ابْنَ أَبْزَى، فَقَالَ: مِثْلَ ذَلِكَ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.
و"أبو داود": هو سليمان بن داود الطيالسيّ.
وقوله: "وَقَالَ مرّة" القائل: هو شعبة، يعني أنه كَانَ يتردّد فِي ابن أبي المجالد، والصحيح -كما تقدّم- أنه عبد الله.
وقوله: "تمارى أبو بُردة، وعبد الله بن شدّاد": أي تخاصم، وتجادل. و"أبو بُردة". ابن أبي موسى الأشعريّ، اختُلف فِي اسمه، فقيل: عامر، وقيل. الحارث، ثقة [3] 3/ 3.
و"عبد الله بن شدّاد": هو ابن الهاد الليثيّ أبو الوليد المدنيّ، وُلد فِي عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذكره العجليّ، منْ كبار التابعين الثقات، وكان معدودًا فِي الفقهاء، مات بالكوفة مقتولاً سنة (81) وقيل: بعدها، تقدّمت ترجمته فِي 44/ 738.
وقوله: "ما نرى" بفتح النون: أي ما نعلم وجود المسلم فيه عندهم. ويحتمل أن
يكون بضم النون، بصيغة المبنيّ للمفعول، ومعناه معلوم: أي ما نظنّ ذلك.
والحديث أخرجه البخاريّ، وَقَدْ سبق شرحه، وبيان مسائله فِي الباب الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
63 - (السَّلَمُ فِي الثِّمَارِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الثِّمَارُ" بالكسر جمع ثَمَر بالثاء المثلّثة، هكذا ترجم باللفظ العام، مع أن لفظ الْحَدِيث عنده بلفظ التمر، إشارة إلى أنه لا فرق بين التمر وسائر الثمار فِي جواز السلم فيه، لكن لفظ الْحَدِيث فِي "الصحيحين" بلفظ "الثمار"، وعلى هَذَا فلا يحتاج إلى القياس، بل هو نصّ، ولعله أشار بالترجمة إلى اختلاف الرواة فِي الْحَدِيث، وأن الاختلاف فِي ذلك لا يضرّ. والله تعالى أعلم بالصواب.
4618 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي التَّمْرِ، السَّنَتَيْنِ، وَالثَّلَاثَ، فَنَهَاهُمْ، وَقَالَ: "مَنْ أَسْلَفَ سَلَفًا، فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(قتيبة بن سعيد) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.
2 -
(سفيان) بن عيينة الهلاليّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقة ثبت [8] 1/ 1.
3 -
(ابن أبي نَجِيح) عبد الله بن يسار الثقفيّ مولاهم، أبو يسار المكيّ، ثقة، رُمي بالقدر، وربّما دلّس [6] 112/ 155.
4 -
(عبد الله بن كثير) الداريّ المكيّ، أبو معبد القارىء، أحد الأئمة، مولى عمرو ابن علقمة الكناني، وكان عطارا بمكة، وأهل مكة يقولون للعطار: داريّ، ويقال: بل هو منْ ولد الدار بن هانىء، وهي تميم الداري. وَقَالَ أبو نعيم الأصبهاني: هو مولى بني عبد الدار، صدوقٌ [6].
رَوَى عن أبي الزبير، ومجاهد، وقرأ عليه القرآن، وأبي المنهال: عبد الرحمن بن
مطعم، وعكرمة مولى ابن عباس، وغيرهم. وعنه أيوب، وجرير بن حازم، وابن أبي نجيح، وابن جريج، وحماد بن سلمة، وشِبْل بن عباد، وابن خثيم، وابن عيينة، وجماعة.
قَالَ علي بن المديني: كَانَ ثقة. وَقَالَ ابن سعد: ثقة، وله أحاديث صالحة. وَقَالَ حماد بن سلمة: رأيت أبا عمرو بن العلاء، يقرأ عَلَى عبد الله بن كثير. وَقَالَ ابن عيينة: لم يكن بمكة أقرأ منه، ومن حميد بن قيس. وَقَالَ جرير بن حازم: كَانَ فصيحا بالقرآن. وذكر أبو عمرو الداني: أنه أخذ القراءة عن عبد الله بن السائب المخزومي، والمعروف أنه إنما أخذها عن مجاهد. وَقَالَ ابن المجاهد، عن بشر بن موسى، عن الحميدي، عن سفيان: رأيت قاسم الرحال فِي جنازة عبد الله بن كثير، سنة عشرين ومائة.
وَقَالَ البخاريّ: عبد الله بن كثير المكيّ القرشي، سمع مجاهدا، سمع منه ابن جريج. قَالَ الجياني: وقول البخاريّ: إنه منْ بني الدار وَهَمٌ، وإنما هو سهمي، كذا يقوله النسابون، والمحدثون، وَقَالَ: والذي ذكر ابن عيينة: أنه رأى قاسم الرحال فِي جنازته، هو السهميّ، لا القاريء. وَقَالَ ابن أبي مريم، عن ابن معين: عبد الله بن كثير الرازي القارىء ثقة. وَقَالَ أبو عبيد: إليه صارت قراءة أهل مكة، وبه اقتدى أكثرهم، وصح ابن البادي أن نسبته إلى دارين، قَالَ: لأنه كَانَ عطارًا. روى له الجماعة، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب حديث الباب فقط.
[تنبيه]: مدار هَذَا الْحَدِيث -كما قَالَ فِي "الفتح" 5/ 182 - عَلَى "عبد الله بن كثير": وَقَدْ اختُلف فيه، فقيل: هو عبد الله بن كثير بن المطّلب بن أبي وداعة السهميّ، مقبول [6] 4/ 3963. وبهذا جزم الكلاباذيّ، وابن طاهر، والدمياطيّ.
وقيل: هو عبد الله بن كثير القارىء المشهور، وبهذا جزم القابسيّ، وعبد الغنيّ، والمزّيّ، قَالَ الحافظ: وهو أرجح، فإنه مقتضى صنيع البخاريّ فِي "تاريخه"، وكلاهما ثقتان
(1)
.
5 -
(أبو المنهال) عبد الرحمن بن مُطعم البُنَانيّ البصريّ، نزيل مكة، ثقة [3] 49/ 4575.
6 -
(ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما 27/ 31. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم
(1)
لكن الأول لم يوثقه إلا ابن حبّان.
رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات المكيين، غير شيخه، فبغلانيّ، وفيه عبد الله بن كثير أحد القرّاء السبعة، الذي قَالَ عنه الشاطبيّ فِي "حرز الأماني":
وَمَكَّةُ عَبْدُ اللهِ فِيهَا مُقَامُهُ
…
هُوَ ابْنُ كَثِيرٍ كَاثِرُ الْقَوْمِ مُعْتَلَى
وفيه ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، حبر الأمة، وبحرها، وأحد المكثرين السبعة، وأحد العبادلة الأربعة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ) عبد الرحمن بن مطعم، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما (قَالَ: قَدِمَ) بكسر الدال المهملة، منْ باب تعب (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَهُمْ يُسْلِفُونَ) بضمّ أوله، منْ الإسلاف، أو التسليف، يقال: أسلف إسلافًا، وسلّف تسليفًا، والاسم السّلَف، وهو عَلَى وجهين:[أحدهما]: قرض، لا منفعة للمقرض غير الأجر، والشكر. [والثاني]: أن يُعطي مالاً فِي سلعة إلى أجل معلوم. قاله السنديّ. والمراد هنا الثاني.
(فِي التَّمْرِ) بفتح المثنّاة الفوقيّة، وفي رواية للشيخين:"فِي الثمار"، بالثاء المثلّثة، وفي رواية للبخاريّ "فِي الثمر" بالثاء المثلّثة أيضًا.
وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: إنما جرى ذكر التمر فِي هذه الرواية؛ لأنه غالب ما يُسلم فيه عندهم. انتهى.
(السَّنَتَيْنِ، وَالثَّلَاثَ) منصوب عَلَى الظرفيّة متعلّق بـ"يُسلفون"، وَقَالَ السنديّ: منصوب إما عَلَى نزع الخافض، أي إلى السنتين، أو عَلَى المصدر: أي إسلاف السنتين. انتهى.
(فَنَهَاهُمْ) أي منعهم منْ الإسلاف إلى أجل مجهول، لا أنه منعهم منْ أصل السلف؛ لقوله (وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَسْلَفَ) بالهمز، وفي رواية للبخاريّ منْ طريق ابن عُليّة، عن ابن أبي نَجيح:"منْ سلّف" بتشديد اللام، وهو بمعناه، كما سبق بيانه (سَلَفًا) اسم مصدر لـ "أسلف"، وفي رواية البخاريّ:"منْ أسلف فِي شيء"(فَلْيُسْلِفْ) بضم حرف المضارعة، منْ الإسلاف، أو التسليف (فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنِ مَعْلُومٍ) هكذا الرواية بالواو، وهي هنا بمعنى "أو"؛ لأن المراد اعتبار الكيل فيما يُكال، والوزن فيما يوزن.
وَقَالَ السنديّ: قوله: "ووزن معلوم" بالواو فِي الأصول، فقيل: الواو للتقسيم: أي بمعنى "أو": أي قيل فيما يكال، ووزن فيما يوزن. وقيل: بتقدير شرط: أي فِي كيل معلوم، إن كَانَ كيليّا، ووزن معلوم، إن كَانَ وزنيّا، أو منْ أسلف فِي مكيل، فليُسلف فِي كيل معلوم، ومن أسلف فِي موزون، فليُسلف فِي وزن معلوم. انتهى.
(إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ) أي وقت محدّد، احترز به عن الأجل المجهول الذي كانوا فِي الجاهليّة يسلفون إليه. قيل: ظاهره اشتراط الأجل فِي السلم، وبه يقول الجمهور، وسيأتي تحقيقه قريبًا، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -63/ 4618 - وفي "الكبرى" 64/ 6209. وأخرجه (خ) فِي "السلم" 2239 و2241 و2253 (م) فِي "البيوع" 1604 (د) فِي "البيوع" 3463 (ت) فِي "البيوع" 1311 (ق) فِي "التجارات" 2280 (أحمد) فِي "مسند بني هاشم" 1871 و2544 و2360 (الدارمي) فِي "البيوع" 2470. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز السلم فِي الثمار. (ومنها): اشتراط تعيين الكيل فيما يسلم فيه منْ المكيل، منْ أجل اختلاف المكاييل، إلا أن لا يكون فِي البلد سوى كيل واحد، فإنه ينصرف إليه عند الإطلاق. قَالَ فِي "الفتح": واتّفقوا عَلَى اشتراط الكيل فيما يُسلم فيه منْ المكيل، كصاع الحجاز، وقفيز العراق، وإردبّ مصر، بل مكاييل هذه البلاد فِي نفسها مختلفة، فإذا أطلق صُرف إلى الأغلب. انتهى
(1)
. (ومنها): أن ما يوزن لا يُسلم فيه مكيلاً، وبالعكس، قَالَ فِي "الفتح": وهو أحد الوجهين، والأصحّ عند الشافعيّة الجواز، وحمله إمام الحرمين عَلَى ما يُعدّ الكيل فِي مثله ضابطًا. انتهى
(2)
.
(ومنها): أنه يؤخذ منْ رواية "منْ أسلف فِي شيء" جواز السلم فِي كلّ شيء، منْ الحيوان، وغيره منْ العروض، مما تجتمع شروط السلم فيه، وهو مذهب الجمهور، منْ الصحابة، والتابعين، وأئمة الفتيا، وَقَدْ منع السلم، والقرض فِي الحيوان الأوزاعيّ، والثوريّ، والحنفيّة، وروي عن ابن عمر، وابن مسعود رضي الله عنهم، قَالَ القرطبيّ: والكتاب، والسنّة حجة عليهم، فمن الكتاب عموم قوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} ،
(1)
"فتح" جـ 5 ص 183.
(2)
"فتح" جـ 5 ص 183.
وقوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ} الآية، ومن السنّة أنه صلى الله عليه وسلم استسلف منْ رجل بكرًا" الْحَدِيث رواه مسلم، وسيأتي فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: ذكر العلماء لصحة السلم ستة شروط؛ استنباطًا منْ حديث الباب، وغيره، فمنها ما هو مجمع عليه، ومنها ما هو مختلف فيه، وسأورد هذه الشروط مع بيان بعض ما يتفرّع منها منْ المسائل، ملخّصًا منْ كلام الإِمام العلامة موفّق الدين أبي محمد ابن قُدامة رحمه الله تعالى، فِي كتابه المفيد "المغني"، وأرتّبها فِي مسائل متممة للمسائل الماضية فأقول:
(المسألة الرابعة): فِي الكلام عَلَى الشرط الأول:
قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: ما حاصله: الشرط الأول أن يكون المسلم فيه، مما ينضبط بالصفات التي يختلف الثمن باختلافها ظاهرا، فيصح فِي الحبوب، والثمار، والدقيق، والثياب، والإبريسم، والقطن، والكتان، والصوف، والشعر، والكاغد، والحديد، والرصاص، والصفر، والنحاس، والأدوية، والطيب، والخلول، والأدهان، والشحوم، والألبان، والزئبق، والشَّبّ، والكبريت، والكحل، وكل مكيل، أو موزون، أو مذروع، وَقَدْ جاء الْحَدِيث فِي الثمار، وحديث بن أبي أوفى رضي الله عنه فِي الحنطة، والشعير، والزبيب، والزيت، وأجمع أهل العلم عَلَى أن السلم فِي الطعام جائز، قاله ابن المنذر، وأجمعوا عَلَى جواز السلم فِي الثياب.
ولا يصح السلم فيما لا ينضبط بالصفة، كالجوهر، منْ اللؤلؤ، والياقوت، والفيروزج، والزبرجد، والعقيق، والبِلَّوْر؛ لأن أثمانها تختلف اختلافا متباينا بالصغر، والكبر، وحسن التدوير، وزيادة ضوئها، وصفائها، ولا يمكن تقديرها ببيض العصفور ونحوه؛ لأن ذلك يختلف، ولا بشيء معين؛ لأن ذلك يَتْلَف، وهذا قول الشافعيّ، وأصحاب الرأي، وحكي عن مالك صحة السلم فيها، إذا اشترط منها شيئا معلوما، وإن كَانَ وزنا فبوزن معروف، والذي قلناه أولى لما ذكرنا.
ولا يصح فيما يَجمع أخلاطا مقصودة، غير متميزة، كالغالية، والنَّدّ، والمعاجين، التي يتداوى بها؛ للجهل بها، ولا فِي الحوامل منْ الحيوان؛ لأن الولد مجهول، غير متحقق، ولا فِي الأواني المختلفة الرؤوس والأوساط؛ لأن الصفة لا تأتي عليه.
وفيه وجه آخر أنه يصح السلم فيه، إذا ضُبط بارتفاع حائطه، ودور أعلاه وأسفله؛ لأن التفاوت فِي ذلك يسير، ولا يصح فِي القَسِيّ المشتملة عَلَى الخشب، والقرن، والعصب، والتُّوز
(1)
؛ إذ لا يمكن ضبط مقادير ذلك، وتمييز ما فيه منها. وقيل: يجوز السلم فيها،
(1)
"التُّوز" عدّ فِي: "القاموس" منْ معانيها: أنه شجر، وخشبة يُلعب بها بالكجة. والله أعلم.
والأولى ما ذكرنا. قَالَ القاضي والذي يجمع أخلاطا عَلَى أربعة أضرب: [أحدها]: مختلط مقصود متميز، كالثياب المنسوجة منْ قطن وكتان، أو قطن وإبريسم، فيصح السلم فيها؛ لأن ضبطها ممكن. [الثاني]: ما خلطه لمصلحته، وليس بمقصود فِي نفسه، كالإنفحة فِي الجبن، والملح فِي العجين والخبز، والماء فِي خل التمر والزبيب، فيصح السلم فيه؛ لأنه يسير لمصلحته. [الثالث]: أخلاط مقصودة غير متميزة، كالغالية والند والمعاجين، فلا يصح السلم فيها؛ لأن الصفة لا تأتي عليها. [الرابع]: ما خلطه غير مقصود، ولا مصلحة فيه، كاللبن المشوب بالماء، فلا يصح السلم فيه. انتهى "المغني" 6/ 385 - 386. وهو بحث نفيس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): مما يتفرّع عَلَى الشرط المذكور مما اختلف فيه أهل العلم السلم فِي الحيوان:
قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: واختلفت الرواية -أي عن أحمد- فِي السلم فِي الحيوان، فرُوي لا يصح السلم فيه، وهو قول الثوري، وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن عمر، وابن مسعود، وحذيفة، وسعيد بن جبير، والشعبي، والجوزجاني؛ لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قَالَ: إن منْ الربا أبوابا، لا تخفى وإن منها السلمَ فِي السنّ، ولأن الحيوان يختلف اختلافا متباينا، فلا يمكن ضبطه، وإن استقصى صفاته التي يختلف بها الثمن مثل أزج الحاجبين، أكحل العينين، أقنى الأنف، أشم العرنين، أهدب الأشفار، أَلْمَى الشفة
(1)
بديع الصفة، تعذر تسليمه؛ لندرة وجوده عَلَى تلك الصفة. وظاهر المذهب صحة السلم فيه، نص عليه فِي رواية الأثرم. قَالَ ابن المنذر: وممن روينا عنه أنه لا بأس بالسلم فِي الحيوان: ابنُ مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وسعيد بن المسيب، والحسن، والشعبي، ومجاهد، والزهري، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وحكاه الجوزجاني عن عطاء، والحكم؛ لأن أبا رافع رضي الله عنه، قَالَ:"استسلف النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ رجل بكرا"، رواه مسلم، ورَوَى عبد الله بن عمرو بن العاص، قَالَ:"أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن أبتاع البعير بالبعيرين وبالأبعرة، إلى مجيء الصدقة"، ولأنه ثبت فِي الذمة صداقا، فثبت فِي السلم، كالثياب، فأما حديث عمر فلم يذكره أصحاب الاختلاف
(2)
، ثم هو محمول
(1)
زَجّ الحاجبُ: دقّ فِي طول، وتقوّس. وقَنَى الأنف: ارتفاع وسط قصبته. وشمُّ الأنف: ارتفاع قصبته قليلاً فِي استواء. أهدب الأشفار: طويلها. ألمى الشفة أسمر الشفة، وهي تستحسن.
(2)
هكذا قَالَ، ولعله يريد أصحاب اختلاف الْحَدِيث، وحاصله أنه يحتاج إلى ثبوته أولا، ثم يطلب الجمع بين الاختلافات.
عَلَى أنهم يشترطون منْ ضراب فحل بني فلان، قَالَ الشعبي: إنما كره ابن مسعود السلف فِي الحيوان؛ لأنهم اشترطوا نتاج فحل معلوم رواه سعيد. وَقَدْ رُوي عن علي رضي الله عنه أنه باع جملا له يُدعى عُصيفيرا بعشرين بَعيرًا إلى أجل، ولو ثبت قول عمر، فِي تحريم السلم فِي الحيوان، فقد عارضه قول منْ سمينا ممن وافقنا. انتهى "المغني" 6/ 388 - 389. وهو بحث مفيد جدًّا والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): مما اختلفوا فيه أيضًا السلم فِي غير الحيوان مما لا يكال، ولا يوزن:
قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: واختلفت الرواية -أي عن أحمد- فِي غير الحيوان، مما لا يكال، ولا يوزن، ولا يذرع، فنقل إسحاق بن إبراهيم، عن أحمد: أنه قَالَ: لا أرى السلم إلا فيما يكال، أو يوزن، أو يوقف عليه، قَالَ أبو الخطاب: معناه: يوقف عليه بحد معلوم، لا يختلف كالذرع، فأما الرمان، والبيض، فلا أرى السلم فيه، وحكى ابن المنذر عنه، وعن إسحاق: أنه لا خير فِي السلم فِي الرمان، والسفرجل، والبطيخ، والقثاء، والخيار؛ لأنه لا يكال، ولا يوزن، ومنه الصغير والكبير، فعلى هذه الرواية لا يصح السلم فِي كل معدود مختلف، كالذي سميناه، وكالبقول؛ لأنه يختلف، ولا يمكن تقدير البقل بالحزم؛ لأن الحزم يمكن فِي الصغير والكبير، فلم يصح السلم فيه كالجواهر، ونقل إسماعيل بن سعيد، وابن منصور: جواز السلم فِي الفواكه، والسفرجل، والرمان، والموز، والخضروات ونحوها؛ لأن كثيرا منْ ذلك، مما يتقارب، وينضبط بالصغر والكبر، وما لا يتقارب ينضبط بالوزن، كالبقول ونحوها، فصح السلم فيه، كالمذروع، وبهذا قَالَ أبو حنيفة، والشافعي، والأوزاعي، وحكى ابن المنذر عن الشافعيّ المنع منْ السلم فِي البيض، والجوز، ولعل هَذَا قول آخر، فيكون له فِي ذلك قولان. انتهى "المغني" 6/ 388 - 389.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: القول الثاني عندي أرجح؛ لإمكان ضبطها بما ذُكر، ضبطًا تقريبيّا، وهو كاف فِي مثل هَذَا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): فِي الكلام عَلَى الشرط الثاني: وهو أن يضبطه بصفاته التي يختلف الثمن بها ظاهرا، فإن السلم فيه عوض فِي الذمة، فلابد منْ كونه معلوما بالوصف، كالثمن، ولأن العلم شرط فِي المبيع، وطريقه إما الرؤية، وإما الوصف، والرؤية ممتنعة ههنا، فتعين الوصف، والأوصاف عَلَى ضربين: متَّفقٌ عَلَى اشتراطها، ومختلف فيها، فالمتفق عليها ثلاثة أوصاف: الجنس، والنوع، والجودة والرداءة، فهذه
لابد منها فِي كل مسلم فيه، ولا نعلم بين أهل العلم خلافا فِي اشتراطها، وبه يقول أبو حنيفة، ومالك، والشافعي.
الضرب الثاني: ما يختلف الثمن باختلافه، مما عدا هذه الثلاثة الأوصاف، وهذه تختلف باختلاف المسلم فيه، وذكرها شرط فِي السلم عند إمامنا، والشافعي، وَقَالَ أبو حنيفة: يكفي ذكر الأوصاف الثلاثة؛ لأنها تشتمل عَلَى ما وراءها منْ الصفات.
ولنا إنه يبقى منْ الأوصاف منْ اللون، والبلد، ونحوهما ما يختلف الثمن، والغرض لأجله، فوجب ذكره كالنوع، ولا يجب استقصاء كل الصفات؛ لأن ذلك يتعذر، وَقَدْ ينتهي الحال فيها إلى أمر يتعذر تسليم المسلم فيه، إذ يبعد وجود المسلم فيه عند المحل بتلك الصفات كلها، فيجب الاكتفاء بالأوصاف الظاهرة، التي يختلف الثمن بها ظاهرا، ولو استقصى الصفات حَتَّى انتهى إلى حال يندر وجود المسلم فيه بتلك الأوصاف، بطل السلم؛ لأن منْ شرط السلم أن يكون المسلم فيه عامَّ الوجود عند المحل، واستقصاء الصفات يمنع منه. انتهى "المغني" 6/ 391 - 392. وهو بحث نفيس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثامنة): فِي الكلام عَلَى الشرط الثالث: وهو معرفة مقدار المسلم فيه بالكيل، إن كَانَ مكيلا، وبالوزن إن كَانَ موزونا، وبالعدد إن كَانَ معدودا؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"منْ أسلم فِي شيء، فليسلف فِي كيل معلوم، أو وزن معلوم، إلى أجل معلوم"، متّفقٌ عليه، ولأنه عوض غير مشاهَد يثبت فِي الذمة، فاشتُرط معرفة قدره، كالثمن، قَالَ الموفّق: ولا نعلم فِي اعتبار معرفة المقدار خلافا، ويجب أن يقدره بمكيال، أو أرطال معلومة عند العامة، فإن قدره بإناء معيّن، أو صنجة معينة، غير معلومة لم يصح؛ لأنه يهلك، فيتعذر معرفة قدر المسلم فيه، وهذا غرر، لا يحتاج إليه العقد، قَالَ ابن المنذر: أجمع كل منْ نحفظ عنه منْ أهل العلم، عَلَى أن المسلم فِي الطعام، لا يجوز بقفيز لا يعلم عياره، ولا فِي ثوب بذرع فلان؛ لأن المعيار لو تَلِف، أو مات فلان بطل السلم، منهم: الثوري، والشافعي، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأبو ثور. وإن عين مكيال رجل، أو ميزانه، وكانا معروفين عند العامة جاز، ولم يختص بهما، وإن لم يعرفا لم يجز. انتهى "المغني" 6/ 399 - 400. وهو بحث نفيس أيضًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة التاسعة): مما يتفرّع عَلَى الشرط الثالث المذكور اختلافهم، فيما إذا أسلم فيما يكال وزنا، أو فيما يوزن كيلا، قَالَ الموفّق: نقل الأثرم أنه سأل أحمد، عن السلم فِي التمر وزنا؟، فَقَالَ: لا إلا كيلا، قلت: إن النَّاس هاهنا لا يعرفون الكيل، قَالَ: وإن كانوا لا يعرفون الكيل، فيحتمل هَذَا أنه لا يجوز فِي المكيل إلا كيلا، ولا فِي الموزون
إلا وزنا، وهكذا ذكره القاضي، وابن أبي موسى؛ لأنه مبيع يشترط معرفة قدره، فلم يجز بغير ما هو مقدر به فِي الأصل، كبيع الرطوبات بعضها ببعض، ولأنه قدر المسلم بغير ما هو مقدر به فِي الأصل، فلم يجز، كما لو أسلم فِي المذروع وزنا، ونقل المروذي عن أحمد: أنه يجوز السلم فِي اللبن إذا كَانَ كيلا أو وزنا، وهذا يدل عَلَى إباحة السلم فِي المكيل وزنا، وفي الموزون كيلا؛ لأن اللبن لا يخلو منْ كونه مكيلا، أو موزونا، وَقَدْ أجاز السلم فيه بكل واحد منهما، وهذا قول الشافعيّ، وابن المنذر، وَقَالَ مالك: ذلك جائز، إذا كَانَ النَّاس يتبايعون التمر وزنا، قَالَ الموفّق: وهذا أصح إن شاء الله تعالى؛ لأن الغرض معرفة قدره، وخروجه منْ الجهالة، وإمكان تسليمه منْ غير تنازع، فبأي قدر قدره جاز، ويفارق بيع الربويات، فإن التماثل فيها فِي المكيل كيلا، وفي الموزون وزنا شرط، ولا نعلم هَذَا الشرط إذا قدرها بغير مقدارها الأصلي. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي صححه الموفّق رحمه الله تعالى هو الصواب عندي؛ لوضوح حجته، كما بينه فِي كلامه المذكور آنفًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة العاشرة): فِي الكلام عَلَى الشرط الرابع: وهو أن يكون مؤجلا أجلا معلومًا، وَقَدْ اختلف أهل العلم فِي ثلاثة مواضع منْ هَذَا الشرط:
[أحدها]: أنه يشترط لصحة السلم كونه مؤجلا، ولا يصح السلم الحالّ، قَالَ أحمد فِي رواية المروذي: لا يصح حَتَّى يشترط الأجل، وبهذا قَالَ أبو حنيفة، ومالك، والأوزاعي، وَقَالَ الشافعيّ، وأبو ثور، وابن المنذر: يجوز السلم حالًّا؛ لأنه عقد يصح مؤجلا، فصح حالًّا، كبيوع الأعيان، ولأنه إذا جاز مؤجلا، فحالا أجوز، ومن الغرر أبعد.
واحتجّ الأولون بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "منْ أسلف فِي شيء، فليسلف فِي كيل معلوم، أو وزن معلوم، إلى أجل معلوم"، فأمر بالأجل، وأمره يقتضي الوجوب، ولأنه أمر بهذه الأمور؛ تبيينا لشروط السلم، ومنعا منه بدونها، وكذلك لا يصح إذا انتفى الكيل والوزن، فكذلك الأجل، ولأن السلم إنما جاز رخصة للرفق، ولا يحصل الرفق إلا بالأجل، فإذا انتفى الأجل انتفى الرفق، فلا يصح كالكتابة، ولأن الحلول يخرجه عن اسمه ومعناه: أما الاسم فلأنه يسمى سَلَمًا وسَلَفًا؛ لتعجل أحد العوضين، وتأخر الآخر، ومعناه ما ذكرناه فِي أول الباب، منْ أن الشارع أرخص فيه للحاجة الداعية إليه، ومع حضور ما يبيعه حالاً لا حاجة إلى السلم، فلا يثبت، ويفارق بيوع الأعيان، فإنها
لم تثبت عَلَى خلاف الأصل، لمعنى يختص بالتأجيل، وما ذكروه منْ التنبيه غير صحيح؛ لأن ذلك إنما يجزىء فيما إذا كَانَ المعنى المقتضي موجودا فِي الْفَرَع بصفة التأكيد، وليس كذلك هاهنا، فإن البعد منْ الضرر، ليس هو المقتضي لصحة السلم المؤجل، وإنما المصحح له شيء آخر، لم نذكر اجتماعهما فيه، وَقَدْ بينا افتراقهما.
إذا ثبت هَذَا، فإنه إن باعه ما يصح السلم فيه حالا فِي الذمة صح، ومعناه معنى السلم، وإنما افترقا فِي اللفظ.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن أرجح الأقوال ما ذهب إليه الجمهور منْ اشتراط كونه مؤجّلاً؛ لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "إلى أجل معلوم". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب ..
[الموضع الثاني]: مما اختلفوا فيه أيضًا: أنه لابد منْ كون الأجل معلوما؛ لقوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} الآية [البقرة: 282]، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إلى أجل معلوم"، قَالَ الموفّق: ولا نعلم فِي اشتراط العلم فِي الجملة اختلافا، فأما كيفيته، فإنه يحتاج أن يعلمه بزمان بعينه لا يختلف، ولا يصح أن يؤجله بالحصاد، والجذاذ، وما أشبهه، وكذلك قَالَ ابن عباس، وأبو حنيفة، والشافعي، وابن المنذر، وعن أحمد رواية أخرى: أنه قَالَ: أرجو أن لا يكون به بأس، وبه قَالَ مالك، وأبو ثور، وعن ابن عمر: أنه كَانَ يبتاع إلى العطاء، وبه قَالَ ابن أبي ليلى، وَقَالَ أحمد: إن كَانَ شيء يُعرف، فأرجو، وكذلك إن قَالَ: إلى قُدُوم الغزاة، وهذا محمول عَلَى أنه أراد وقت العطاء، لأن ذلك معلوم، فأما نفس العطاء، فهو فِي نفسه مجهول، يختلف، ويتقدم، ويتأخر، ويحتمل أنه أراد نفس العطاء؛ لكونه يتفاوت أيضا، فأشبه الحصاد، واحتج منْ أجاز ذلك، بأنه أجل يتعلق بوقت منْ الزمن، يعرف فِي العادة، لا يتفاوت فيه تفاوتا كثيرا، فأشبه إذا قَالَ: إلى رأس السنة.
واحتجّ الأولون بما رُوي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنه قَالَ: لا تتبايعوا إلى الحصاد والدياس، ولا تتبايعوا إلا إلى شهر معلوم، ولأن ذلك يختلف، ويقرب ويبعد، فلا يجوز أن يكون أجلاً، كقدوم زيد.
[فإن قيل]: فقد رُوي عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها قالت:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بَعَث إلى يهودي: أن ابعث إلى بثوبين إلى الميسرة".
[قلنا]: قَالَ ابن المنذر: رواه حَرَمِيّ بن عُمارة، قَالَ أحمد: فيه غفلة، وهو صدوق، قَالَ ابن المنذر: فأخاف أن يكون منْ غفلاته، إذ لم يتابع عليه، ثم لا خلاف فِي أنه لو جعل الأجل إلى الميسرة لم يصح. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الْحَدِيث المذكور سيأتي للمصنّف رحمه الله تعالى بعد ستّة أبواب، فِي 70/ 4630 - "البيع إلى الأجل المعلوم"، وهو حديث صحيح، كما سيأتي بيانه هناك، فالظاهر أن الْحَدِيث يدلّ لمن قَالَ بجواز السلم إلى العطاء، ونحوه، مما يعلم عادة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: إذا جعل الأجل إلى شهر، تعلق بأوله، وإن جعل الأجل اسما يتناول شيئين: كجمادى، وربيع، ويوم النفر، تعلق بأولهما، وإن قَالَ إلى ثلاثة أشهر: إلى انقضائها؛ لأنه إذا ذكر ثلاثة أشهر مبهمة، وجب أن يكون ابتداؤها منْ حين لفظه بها، وكذلك لو قَالَ: إلى شهر كَانَ آخره، وينصرف ذلك إلى الأشهر الهلالية، بدليل قوله تعالى:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} الآية [التوبة: 36]، وأراد الهلالية، وإن كَانَ فِي أثناء شهر، كملنا شهرين بالهلال، وشهرا بالعدد ثلاثين يوما، وقيل: تكون الثلاثة كلها عددية. انتهى "المغني" 6/ 404. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[الأمر الثالث]: فِي كون الأجل معلوما بالأهلة، وهو أن يُسلم إلى وقت يُعلم بالهلال، نحو أول الشهر، أو أوسطه، أو آخره، أو يوم معلوم منه؛ لقول الله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} الآية [البقرة: 189]، ولا خلاف فِي صحة التأجيل بذلك، ولو أسلم إلى عيد الفطر، أو النحر، أو يوم عرفة، أو عاشوراء، أو نحوها جاز؛ لأنه معلوم بالأهلة، وإن جعل الأجل مقدرا بغير الشهور الهلالية، فذلك قسمان:[أحدهما]: ما يعرفه المسلمون، وهو بينهم مشهور، ككانون، وشباط، أو عيد لا يختلف، كالنيروز، والمهرجان عند منْ يعرفهما، فظاهر كلام الخرقي، وابن أبي موسى، أنه لا يصح؛ لأنه أسلم إلى غير الشهور الهلالية، أشبه إذا أسلم إلى الشعانين، وعيد الفطير؛ لأن هذه لا يعرفها كثير منْ المسلمين، أشبه ما ذكرنا. وَقَالَ القاضي: يصح، وهو قول الأوزاعي، والشافعي، قَالَ الأوزاعي: إذا أسلم إلى فصح النصارى، وصومهم جاز؛ لأنه معلوم لا يختلف، أشبه أعياد المسلمين، وفارق ما يختلف، فإنه لا يعلمه المسلمون
[القسم الثاني]: ما لا يعرفه المسلمون، كعيد الشعانين، وعيد الفطير، ونحوهما، فهذا لا يجوز السلم إليه؛ لأن المسلمين لا يعرفونه، ولا يجوز تقليد أهل الذمة فيه؛ لأن قولهم غير مقبول، ولأنهم يقدمونه ويؤخرونه عَلَى حساب لهم، لا يعرفه المسلمون، وإن أسلم إلى ما لا يختلف، مثل كانون الأول، ولا يعرفه المتعاقدان، أو أحدهما لم يصح؛ لأنه مجهول عنده. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه
المرجع والمآب ..
(المسألة الثانية عشرة): فِي الكلام عَلَى الشرط الخامس: وهو كون المسلم فيه عام الوجود فِي محله، قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: ولا نعلم فيه خلافا، وذلك لأنه إذا كَانَ كذلك، أمكن تسليمه عند وجوب تسليمه، وإذا لم يكن عام الوجود، لم يكن موجودا عند المحل بحكم الظاهر، فلم يمكن تسليمه، فلم يصح بيعه، كبيع الآبق، بل أولى، فإن السلم احتُمِل فيه أنواعٌ منْ الغرر للحاجة، فلا يُحتَمل فيه غرر آخر؛ لئلا يكثر الغور فيه، فلا يجوز أن يسلم فِي العنب، والرطب، إلى شباط أو آذار، ولا إلى محل لا يعلم وجوده فيه، كزمان أول العنب، أو آخره، الذي لا يوجد فيه إلا نادرا، فلا يؤمن انقطاعه.
ولا يجوز أن يُسلم فِي ثمرة بستان بعينه، ولا قرية صغيرة؛ لكونه لا يؤمن تلفه وانقطاعه. قَالَ ابن المنذر: إبطال السلم إذا أسلم فِي ثمرة بستان بعينه، كالإجماع منْ أهل العلم، وممن حفظنا عنه ذلك الثوري، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وأصحاب الرأي، وإسحاق، قَالَ: ورَوينا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: أنه أسلف إليه رجل منْ اليهود دنانير، فِي تمر مسمى، فَقَالَ اليهودي: منْ تمر حائط بني فلان، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أما منْ حائط بني فلان فلا، ولكن كيلٌ مسمى، إلى أجل مسمى"، رواه ابن ماجه
(1)
وغيره، ورواه أبو إسحاق الجوزجاني فِي "المترجم"، وَقَالَ: أجمع النَّاس عَلَى الكراهة لهذا البيع، ولأنه إذا أسلم فِي ثمرة بستان بعينه، لم يؤمن انقطاعه وتلفه، فلم يصح كما لو أسلم فِي شيء، قدّره بمكيال معين، أو صنجة معينة، أو أحضر خرقة، وَقَالَ أسلمت إليك فِي مثل هذه.
[تنبيه]: لا يشترط كون المسلم فيه موجودا، حال السلم، بل يجوز أن يسلم فِي الرُّطَب فِي أوان الشتاء، وفي كل يوم معدوم، إذا كَانَ موجودا فِي المحل، وهذا قول مالك، والشافعي، وإسحاق، وابن المنذر. وَقَالَ الثوري، والأوزاعي، وأصحاب الرأي: لا يجوز حَتَّى يكون جنسه موجودا حال العقد إلى حين المحل؛ لأن كل زمن يجوز أن يكون محلا للمسلم فيه؛ لموت المسلم إليه، فاعتبر وجوده فيه كالمحل.
واحتجّ الأولون بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قدم المدينة، وهم يسلفون فِي الثمار السنة والسنتين، فَقَالَ:"منْ أسلف فليسلف فِي كيل معلوم"، ولم يذكر الوجود، ولو كَانَ شرطا لذكره، ولنهاهم عن السلف سنتين؛ لأنه يلزم منه انقطاع المسلم فيه أوسط السنة، ولأنه يثبت
(1)
رواه ابن ماجه فِي: "سننه" 2/ 766 وهو ضعيف؛ لأن فِي إسناده الوليد بن مسلم، وهو معروف بالتدليس، وَقَدْ عنعنه.
فِي الذمة، ويوجد فِي محله غالبا، فجاز السلم فيه كالموجود، ولا نسلم أن الدين يحل بالموت، وإن سلمنا فلا يلزم أن يشترط ذلك الوجود، إذ لو لزم أفضى إلى أن تكون آجال السلم مجهولة، والمحل ما جعله المتعاقدان محلا، وهاهنا لم يجعلاه.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الأولون هو الحقّ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم حينما بيّن لهم التعامل الصحيح فِي السلم لم يستفصلهم ذلك، فدلّ عَلَى أنه يجوز، ولو كَانَ ينقطع فِي بعض الأحيان، فإن الشرط وجوده وقت حلول الأجل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه آخر]: إذا تعذر تسليم المسلم فيه عند المحل، إما لغيبة المسلم إليه، أو عجزه عن التسليم، حَتَّى عُدم المسلم فيه، أو لم تحمل الثمار تلك السنة، فالْمُسْلِم بالخيار بين أن يصبر إلى أن يوجد، فيطالب به، وبين أن يَفسخ العقد، ويرجع بالثمن، إن كَانَ موجودا، أو بمثله إن كَانَ مثليا، وإلا بقيمته، وبه قَالَ الشافعيّ، وإسحاق، وابن المنذر. وقيل: إنه ينفسخ العقد بنفس التعذر؛ لكون المسلم فيه منْ ثمرة العام، بدليل وجوب التسليم منها، فإذا هلكت انفسخ العقد، كما لو باعه قفيزا منْ صبرة، فهلكت، والأول هو الصحيح، فإن العقد قد صح، وإنما تعذر التسليم، فهو كما لو اشترى عبدا، فأبق قبل القبض. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة عشرة): فِي الكلام عَلَى الشرط السادس: وهو أن يقبض رأس مال السلم فِي مجلس العقد، فإن تفرقا قبل ذلك بطل العقد، وبهذا قَالَ أبو حنيفة، والشافعي، وَقَالَ مالك: يجوز أن يتأخر قبضه يومين وثلاثة، وأكثر ما لم يكن ذلك شرطا؛ لأنه معاوضة لا يخرج بتأخير قبضه منْ أن يكون سلما، فأشبه ما لو تأخر إلى آخر المجلس.
وحجة الأولين: أنه عقد معاوضة لا يجوز فيه شرط تأخير العوض المطلق، فلا يجوز التفرق فيه قبل القبض كالصرف، ويفارق المجلس ما بعده بدليل الصرف.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي ما قاله مالك رحمه الله تعالى هو الظاهر؛ لأنه لم يرد نصّ باشتراط القبض، وما ذكروه منْ الاستدلال ليس بواضح. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة عشرة): فِي اختلافهم فِي اشتراط معرفة صفة الثمن المعيّن:
قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: لا خلاف فِي اشتراط معرفة صفته، إذا كَانَ فِي الذمة؛ لأنه أحد عوضي السلم، فإذا لم يكن معينا اشترط معرفة صفته كالمسلم فيه، إلا أنه إذا أطلق، وفي البلد نقد معين، انصرف الإطلاق إليه، وقام مقام وصفه، فأما إن كَانَ الثمن
معينا، فَقَالَ القاضي وأبو الخطاب: لابد منْ معرفة وصفه، واحتجا بقول أحمد: يقول: أسلمت إليك كذا وكذا درهما، ويصف الثمن، فاعتبر ضبط صفته، وهذا قول مالك، وأبي حنيفة؛ لأنه عقد لا يملك إتمامه فِي الحال، ولا تسليم المعقود عليه، ولا يؤمن انفساخه، فوجب معرفة رأس المسلم فيه ليرد بدله كالقرض والشركة، ولأنه لا يؤمن أن يظهر بعض الثمن مستحقا، فينفسخ العقد فِي قدره، فلا يدري فِي كم بقي، وكم انفسخ.
وقيل: لا يشترط؛ لأنه لم يُذكر فِي شرائط السلم، وهو أحد قولي الشافعيّ؛ لأنه عوض مشاهد، فلم يحتج إلى معرفة قدره، كبيوع الأعيان.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي القول الثاني أرجح؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "منْ أسلم فليسلم فِي كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم"، ولم يذكر معرفة ذلك، فلو كَانَ لازمًا لما تركه صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة عشرة): فِي اختلافهم فِي اشتراط تعيين مكان الإيفاء:
ذهب بعضهم إلى أنه ليس بشرط، وحكاه ابن المنذر عن أحمد، وإسحاق، وطائفة منْ أهل الْحَدِيث، وبه قَالَ أبو يوسف، ومحمد، وهو أحد قولي الشافعيّ؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"منْ أسلم فليسلم فِي كيل معلوم، أو وزن معلوم، إلى أجل معلوم"، ولم يذكر مكان الإيفاء، فدل عَلَى أنه لا يشترط، وفي الْحَدِيث الذي فيه: أن اليهودي أسلم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أما منْ حائط بني فلان فلا، ولكن كيل مسمى إلى أجل مسمى"، ولم يذكر مكان الإيفاء، ولأنه عقد معاوضة، فلا يشترط فيه ذكر مكان الإيفاء، كبيوع الأعيان. وَقَالَ الثوري: يشترط ذكر مكان الإيفاء، وهو القول الثاني للشافعي، وَقَالَ الأوزاعي: هو مكروه؛ لأن القبض يجب بحلوله، ولا يعلم موضعه حينئذ، فيجب شرطه؛ لئلا يكون مجهولا. وَقَالَ أبو حنيفة، وبعض أصحاب الشافعيّ: إن كَانَ لحمله مؤنة وجب شرطه، وإلا فلا يجب؛ لأنه إذا كَانَ لحمه مؤنة، اختلف فيه الغرض، بخلاف ما لا مؤنة فيه. وَقَالَ ابن أبي موسى: إن كانا فِي برية لزم ذكر مكان الإيفاء، وإن لم يكونا فِي برية، فذِكْرُ مكان الإيفاء حسن، وإن لم يذكراه كَانَ الإيفاء مكان العقد؛ لأنه متى كانا فِي برية، لم يمكن التسليم فِي مكان العقد، فإذا ترك ذكره كَانَ مجهولا، وإن لم يكونا فِي برية اقتضى العقد التسليم فِي مكانه، فاكتفى بذلك عن ذكره، فإن ذكره كَانَ تأكيدا فكان حسنا، فإن شرط الإيفاء فِي مكان سواه صح؛ لأنه عقد بيع، فصح شرط ذكر الإيفاء فِي غير مكانه، كبيوع الأعيان.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي القول الأول وهو عدم اشتراط مكان الإيفاء
أرجح؛ لقوّة أدلته، كما سبق آنفًا.
هذه خلاصة ما يتعلّق بحديث: "منْ أسلف سلفًا، فليُسلف فِي كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم"، فهي تفريعٌ، وتفصيل لهذه الشروط المذكورة فيه، فالكلام، وإن طال إلا أن المقام اقتضى ذلك؛ لأن المقصود منْ الشرح إيضاح معاني الأحاديث المذكورة فِي الكتاب، عَلَى وجه مفيد، وهذا يكون عَلَى حسب مفاهيم الأحاديث، فبهذا أعتذر إلى منْ يقول لي طوّلت، وأسأمت، اللَّهم انفعنا بما علّمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علمًا، إنك جواد كريم، رؤوف رحيم. وصلّى الله، وسلم عَلَى المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحابته أجمعين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيِقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
64 - (اسْتِسْلَافِ الْحَيَوَانِ، وَاسْتِقْرَاضِهِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الاستسلاف": طلب السلف، والمراد به هنا القرض، فيكون عطف قوله:"واستقراضه" عطف تفسير.
قَالَ الفيّوميّ رحمه الله تعالى: القرض: ما تُعطيه غيرك منْ المال؛ لتُقضاه، والجمع قُرُوض، مثلُ فلس وفُلُوس، وهو اسم منْ أقرضته المال إقراضًا، واستقرض: طلب القرض، واقترض: أخذه، وتقارضا الثناء: أثنى كلّ واحد عَلَى صاحبه، وقارضه منْ المال قِراضًا، منْ باب قاتل، وهو المضاربة. انتهى.
قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: القرض نوع منْ السلف، وهو جائز بالسنة، والإجماع، أما السنة: فحديث أبي رافع رضي الله عنه: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، استسلف منْ رجل بكرا، فقدمت عَلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بَكْرَه، فرجع إليه أبو رافع، فَقَالَ: يا رسول الله، لم أجد فيها إلا خيارا رباعيا، فَقَالَ: أعطه، فإن خير النَّاس أحسنهم قضاء"، رواه مسلم. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"ما منْ مسلم يُقرض مسلما قرضا مرتين، إلا كَانَ كصدقة مرة"
(1)
، وعن أنس رضي الله عنه قَالَ: قَالَ
(1)
حديث صحيح، رواه ماجه فِي "سننه" 2/ 812. راجع "السلسلة الصحيحة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى رقم 1553.
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ليلة أُسري بي عَلَى باب الجنة مكتوبا: الصدقةُ بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر، فقلت: يا جبريل ما بال القرض أفضل منْ الصدقة؟ قَالَ: لأن السائل يسأل وعنده، والمستقرض لا يستقرض إلا منْ حاجة"
(1)
، رواهما ابن ماجه، وأجمع المسلمون عَلَى جواز القرض. والله تعالى أعلم بالصواب.
4619 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا، فَأَتَاهُ يَتَقَاضَاهُ بَكْرَهُ، فَقَالَ لِرَجُلٍ: "انْطَلِقْ، فَابْتَعْ لَهُ بَكْرًا"، فَأَتَاهُ، فَقَالَ: "مَا أَصَبْتُ إِلاَّ بَكْرًا، رَبَاعِيًّا، خِيَارًا، فَقَالَ: "أَعْطِهِ، فَإِنَّ خَيْرَ الْمُسْلِمِينَ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(عمرو بن عليّ) الفلّاس الصيرفي، أبو حفص البصريّ، ثقة حافظ [10] 4/ 4.
2 -
(عبد الرحمن) بن مهديّ بن حسّان العنبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقة ثبت [9] 42/ 49.
3 -
(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7] 7/ 7.
4 -
(زيد بن أسلم) العدويّ مولاهم المدنيّ، ثقة فقيه [3] 64/ 80.
5 -
(عطاء بن يسار) الهلاليّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، ثقة عابد فاضل [3] 64/ 80.
6 -
(أبو رافع) القبطيّ، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل: اسمه إبراهيم، وقيل: أسلم، وقيل: ثابت، وقيل: هُرْمُز، صحابيّ مشهور، مات رضي الله عنه فِي أول خلافة علي رضي الله عنه عَلَى الصحيح، وتقدّم فِي 58/ 862. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات المدنيين، غير عمرو بن عليّ الفلّاس، وعبد الرحمن، فإنهما بصريّان، وفيه أن شيخه هو أحد مشايخ الستة بلا واسطة، كما تقدم غير مرّة. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: زيد عن عطاء، وهو منْ رواية الأقران. والله تعالى أعلم.
(1)
حديث ضعيف رواه ابن ماجه فِي "سننه" 2/ 812 لأن فِي إسناده خالد بن يزيد أبو هاشم الدمشقي ضعيف مع كونه فقيها: وَقَدْ اتهمه ابن معين.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي رَافِعٍ) رضي الله تعالى عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، اسْتَسْلَفَ) أي طلب السَّلَف، وهو القرَض (مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا) بفتح الباء الموحّدة: الفتِيّ منْ الإبل، وهو فيها كالغلام فِي الرجال، والْقَلُوص فيها كالجارية فِي النِّساء، قاله فِي "المفهم" 4/ 506 وَقَالَ الفيّوميّ: البَكْرُ بالفتح: الْفَتِيّ منْ الإبل، وبه كُني، ومنه أبو بَكر الصدّيق رضي الله عنه، والجمع أبكار، والبكرة: الأنثى، والجمع بِكار، مثل كلبة وكِلاب، وَقَدْ يقال: بِكارةٌ مثل حجارة. انتهى.
(فَأَتَاهُ يَتَقَاضَاهُ) أي يستوفي منه (بَكْرَهُ، فَقَالَ لِرَجُلٍ) هو أبو رافع نفسه، ففي رواية مسلم:"فقدمت عليه إبلٌ منْ إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره"، وفي رواية لابن خُزيمة:"استسلف منْ رجل بكرًا، فَقَالَ: إذا جاءت إبل الصدقة قضيناك، فلما جاءت إبل الصدقة، أمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع، فَقَالَ: لم أجد فيها إلا خيارًا رَباعيًا، فَقَالَ: أعطه إياه"(انْطَلِقْ، فَابْتَعْ) أي اشتر (له بَكْرًا) هَذَا يخالف الرواية المذكورة عند مسلم، وابن خزيمة، ويُجمع بينهما بأنه صلى الله عليه وسلم أمره أوّلاً أن يشتري له بكره، ثم أتاه إبل الصدقة قبل أن يُشتري له، فأعطاه منها، أو أنه أمر بالشراء منْ إبل الصدقة ممن استحقّ منها شيئًا، ويؤيّده رواية ابن خزيمة المذكورة:"إذا جاءت الصدقة قضيناك". قاله فِي "الفتح" 5/ 336 (فَأَتَاهُ) أي أتى الرجل المأمور النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ: "مَا أَصَبْتُ إِلَّا بَكْرًا، رَبَاعِيًا) بفتح الراء: هو الذي دخل فِي السنة السابعة؛ لأنه يُلقي فيها رَباعيته، وهي التي تلي الثنايا، وهي أربع رباعيات -مخفّف الياء- والذكر رَبَاعٌ، والأنثى رباعية (خِيَارًا) خيار الشيء: أحسنه، وأفضله، قاله فِي "المفهم"، وَقَالَ فِي "الفتح": والخيار الجيّد، يُطلق عَلَى الواحد والجمع. انتهى (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَعْطِهِ) أي أعط الرجل الرباعي، فالهاء عائد عَلَى الرجل، وهو المفعول الأول، والثاني محذوف؛ اختصارًا، كما فِي قوله تعالى:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ} الآية [الضحى: 5]، ويحتمل أن يكون الهاء للرباعي، والمحذوف هو المفعول الأول، كما فِي قوله تعالى:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} الآية [التوبة: 29].
(فَإِنَّ خَيْرَ الْمُسْلِمِينَ) أي فِي المعاملة، أو "منْ" مقدّرة، كما تدلّ عليه الرواية، فقد ثبت فِي حديث أبي هريرة رضي الله عنه فِي رواية عند البخاريّ، بلفظ:"فإن منْ خيركم"، وفي رواية له:"فإن منْ خيار النَّاس أحسنهم قضاء". وَقَالَ العينيّ: قوله: "فإن خيركم": أي أخيركم، فالخير والشرّ يُستعملان للتفضيل عَلَى لفظهما، بمعنى الأخير والأشرّ. انتهى "عمدة القاري" 10/ 240 (أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً) أي أداءً لما عليه منْ الدين.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي رافع رضي الله عنه هَذَا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -64/ 4619 - وفي "الكبرى" 65/ 6210. وأخرجه (م) فِي "البيوع" 1600 (د) فِي "البيوع" 2346 (ت) فِي "البيوع" 1318 (ق) فِي "التجارات" 2285 (أحمد) فِي "مسند القبائل" 26640 (موطّأ) فِي "البيوع" 1384 (الدارمي) فِي "البيوع" 2452. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز استسلاف الحيوان، واستقراضه، وهو قول أكثر أهل العلم، ومنع منْ ذلك الثوري، والحنفية، وسيأتي البحث فِي ذلك فِي المسألة الخامسة، إن شاء الله تعالى. (ومنها): أن فيه جوازَ وفاء ما هو أفضل منْ المثل المقترض، إذا لم تقع شرطية ذلك فِي العقد، فيحرم حينئذ اتفاقا، وبه قَالَ الجمهور، وعن المالكية تفصيل فِي الزيادة، إن كانت بالعدد مُنعت، وإن كانت بالوصف جازت. (ومنها): جواز المطالبة بالدين، إذا حَلّ أجله. (ومنها): أن فيه جوازَ الاقتراض فِي البر، والطاعة، وكذا فِي الأمور المباحة، وأنه لا يعاب ذلك. (ومنها): أن للأمام أن يقترض عَلَى بيت المال؛ لحاجة بعض المحتاجين؛ ليوفي ذلك منْ مال الصدقات. (ومنها): أنه استدل به الشافعيّ رحمه الله تعالى عَلَى جواز تعجيل الزكاة، هكذا حكاه ابن عبد البرّ. قَالَ الحافظ: ولم يظهر لي توجهه، إلا أن يكون المراد ما قيل فِي سبب اقتراضه صلى الله عليه وسلم، وأنه كَانَ اقترضه لبعض المحتاجين منْ أهل الصدقة، فلما جاءت الصدقة، أوفى صاحبه منها، ولا يعكر عليه، أنه أوفاه أزيد منْ حقه منْ مال الصدقة؛ لاحتمال أن يكون المقترض منه، كَانَ أيضا منْ أهل الصدقة، إما منْ جهة الفقر، أو التألّف، أو غير ذلك، بجهتين: جهة الوفاء فِي الأصل، وجهة الاستحقاق فِي الزائد.
وقيل: كَانَ اقتراضه فِي ذمته، فلما حل الأجل، ولم يجد الوفاء صار غارما، فجاز له الوفاء منْ الصدقة. وقيل: كَانَ اقتراضه لنفسه، فلما حل الأجل، اشترى منْ إبل الصدقة بعيرا، ممن استحقه، أو اقترضه منْ آخر، أو منْ مال الصدقة؛ ليوفيه بعد ذلك، قَالَ الحافظ: والاحتمال الأول أقوى، ويؤيده سياق حديث أبي رافع. ذكره فِي "الفتح"
5/ 336 - 337. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي حكم القرض:
قَالَ فِي "المغني" 6/ 429 - 430: والقرض مندوب إليه فِي حق المقرض، مباح للمقترض؛ لما روينا منْ الأحاديث؛ ولما رَوَى أبو هريرة رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"منْ نفّس عن مؤمن كربة منْ كرب الدنيا، نفّس الله عنه كربة منْ كرب يوم القيامة، ومن يسّر عَلَى معسر، يسّر الله عليه فِي الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله فِي الدنيا والآخرة، والله فِي عون العبد، ما كَانَ العبد فِي عون أخيه" الْحَدِيث، أخرجه مسلم، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قَالَ: لأن أقرض دينارين، ثم يردان، ثم أقرضهما أحب إلى منْ أن أتصدق بهما، ولأن فيه تفريجا عن أخيه المسلم، وقضاء لحاجته، وعونا له، فكان مندوبا إليه، كالصدقة عليه، وليس بواجب. قَالَ أحمد: لا إثم عَلَى منْ سئل القرض، فلم يقرض، وذلك لأنه منْ المعروف، فأشبه صدقة التطوع، وليس بمكروه فِي حق المقرض، قَالَ أحمد: ليس القرض منْ المسألة -يعني ليس بمكروه- وذلك لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يستقرض بدليل حديث أبي رافع رضي الله عنه، ولو كَانَ مكروها كَانَ أبعد النَّاس منه، ولأنه يأخذه بعوضه، فأشبه الشراء بدين فِي ذمته. قَالَ ابن أبي موسى: لا أحب أن يتحمل بأمانته، ما ليس عنده -يعني ما لا يقدر عَلَى وفائه- ومن أراد أن يستقرض، فليعلم منْ يسأله القرض بحاله، ولا يَغُرّه منْ نفسه، إلا أن يكون الشيء اليسير الذي لا يتعذر رد مثله. قَالَ أحمد: إذا اقترض لغيره، ولم يُعلمه بحاله لم يعجبني، وَقَالَ: ما أحب أن يقترض بجاهه لإخوانه، قَالَ القاضي: يعني إن كَانَ منْ يقترض له غير معروف بالوفاء؛ لكونه تغريرا بمال المقرض، وإضرارا به، أما إذا كَانَ معروفا بالوفاء لم يكره؛ لكونه إعانة له، وتفريجا لكربته. انتهى. وهو بحث مفيد جدًّا.
[تنبيه]: لا يصح القرض إلا منْ جائز التصرف؛ لأنه عقد عَلَى المال، فلم يصلح إلا منْ جائز التصرف كالبيع، وحكمه فِي الإيجاب والقبول حكم البيع عَلَى ما مضى، ويصح بلفظ السلف والقرض؛ لورود الشرع بهما، وبكل لفظ يؤدي معناهما، مثل أن يقول: ملكتك هَذَا عَلَى أن تَرُدّ عليّ بدله، أو توجد قرينة دالة عَلَى إرادة القرض. فإن قَالَ: ملكتك، ولم يذكر البدل، ولا وُجد ما يدل عليه، فهو هبة، فإن اختلفا فالقول قول الموهوب له؛ لأن الظاهر معه؛ لأن التمليك منْ غير عوض هبة. قاله فِي "المغني" 6/ 430 - 431. وهو تحقيق نفيس أيضًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي جواز اقتراض الحيوان:
قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: فيه ثلاثة مذاهب: [الأول]: مذهب الشافعيّ،
ومالك، وجماهير العلماء، منْ السلف والخلف أنه يجوز قرض جميع الحيوانات، إلا الجارية لمن يملك وطأها، فإنه لا يجوز، ويجوز إقراضها لمن لا يملك وطأها، كمحارمها، والمرأة، والخنثى.
[والمذهب الثاني]: مذهب المزنيّ، وابن جرير، وداود: أنه يجوز قرض الجارية، وسائر الحيوانات لكلّ واحد.
[والمذهب الثالث]: مذهب أبي حنيفة، والكوفيين أنه لا يجوز قرض شيء منْ الحيوانات، وهذه الأحاديث تردّ عليهم، ولا تُقبل دعواهم النسخ بغير دليل. انتهى "شرح مسلم" 11/ 38.
وَقَالَ فِي "الفتح": ما حاصله: ذهب أكثر أهل العلم إلى جوازه، وذهب الثوري، والحنفية إلى منعه، واحتجوا بحديث النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وهو حديث، قد رُوي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، مرفوعا، أخرجه ابن حبّان، والدارقطني، وغيرهما، ورجال إسناده ثقات، إلا أن الحفاظ رجحوا إرساله، وأخرجه المصنّف فِي الباب التالي، والترمذي، منْ حديث الحسن، عن سمرة رضي الله عنه، وفي سماع الحسن منْ سمرة اختلاف، قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: وفي الجملة هو حديث صالح للحجيّة.
وادعى الطحاوي أنه ناسخ لحديث الباب. وتُعُقّب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، والجمع بين الحديثين ممكن، فقد جمع بينهما الشافعيّ، وجماعة، يحمل النهي عَلَى ما إذا كَانَ نسيئة منْ الجانبين، ويتعين المصير إلى ذلك؛ لأن الجمع بين الحديثين أولى منْ إلغاء أحدهما بإتفاق، وإذا كَانَ ذلك المراد منْ الْحَدِيث بقيت الدلالة عَلَى جواز استقراض الحيوان، والسلم فيه.
واعتل منْ منع أيضًا بأن الحيوان يختلف اختلافا متباينا، حَتَّى لا يوقف عَلَى حقيقة المثلية فيه.
وأجيب بأنه لا مانع منْ الإحاطة به بالوصف، بما يدفع التغاير، وَقَدْ جوّز الحنفية التزويج، والكتابة عَلَى الرقيق الموصوف فِي الذمة. قاله فِي "الفتح" 5/ 336 - 337.
وَقَالَ ابن المنذر رحمه الله تعالى: أجمع كل منْ نحفظ عنه منْ أهل العلم، عَلَى أن استقراض ماله مثل منْ المكيل والموزون، والأطعمة جائز، ويجوز قرض كل ما يثبت فِي الذمة سَلَمًا، سوى بني آدم، وبهذا قَالَ الشافعيّ، وَقَالَ أبو حنيفة: لا يجوز قرض غير المكيل والموزون؛ لأنه لا مثل له، أشبه الجواهر.
واحتجّ الأولون بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، استسلف بكرا، وليس بمكيل ولا موزون؛ ولأن ما
يثبت سلما يُملك بالبيع، ويُضبط بالوصف، فجاز قرضه، كالمكيل والموزون، وقولهم: لا مثل له، خلاف أصلهم، فإن عند أبي حنيفة: لو أتلف عَلَى رجل ثوبا، ثبت فِي ذمته مثله، ويجوز الصلح عنه بأكثر منْ قيمته.
قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: فأما ما لا يثبت فِي الذمة سلمًا، كالجواهر، وشبهها، فَقَالَ القاضي: يجوز قرضها، ويرد المستقرض القيمة؛ لأن ما لا مثل له يُضمن بالقيمة، والجواهر كغيرها فِي القيم، وَقَالَ أبو الخطاب: لا يجوز قرضها؛ لأن القرض يقتضي رد المثل، وهذه لا مثل لها، ولأنه لم ينقل قرضها، ولا هي فِي معنى ما نُقل القرض فيه؛ لكونها ليست منْ المرافق، ولا يثبت فِي الذمة سلما، فوجب إبقاؤها عَلَى المنع، ويمكن بناء هَذَا الخلاف عَلَى الوجهين فِي الواجب فِي بدل غير المكيل والموزون، فإذا قلنا الواجب رد المثل، لم يجز قرض الجواهر، وما لا يثبت فِي الذمة سلما لتعذر رد مثلها، وإن قلنا الواجب رد القيمة، جاز قرضه لإمكان رد القيمة، ولأصحاب الشافعيّ وجهان كهذين.
قَالَ: فأما بنو آدم، فَقَالَ أحمد: أكره قرضهم، فيحتمل كراهية تنزيه، ويصح قرضهم، وهو قول ابن جريج، والمزني؛ لأنه مال يثبت فِي الذمة سلما، فصح قرضه، كسائر الحيوان، ويحتمل أنه أراد كراهة التحريم، فلا يصح قرضهم، واختاره القاضي؛ لأنه لم ينقل قرضهم، ولا هو منْ المرافق، ويحتمل صحة قرض العبيد دون الإماء، وهو قول مالك، والشافعي، إلا أن يقرضهن منْ ذوي محارمهن؛ لأن الملك بالقرض ضعيف، فإنه لا يمنعه منْ ردها عَلَى المقرض، فلا يستباح به الوطء، كالملك فِي مدة الخيار، وإذا لم يبح الوطء فلم يصح القرض؛ لعدم القائل بالفرق، ولأن الأبضاع مما يحتاط لها، ولو أبحنا قرضهن، أفضي إلى أن الرجل يستقرض أمة، فيطؤها ثم يردها منْ يومه، ومتى احتاج إلى وطئها استقرضها فوطئها ثم ردها، كما يستعير المتاع، فينتفع به ثم يرده.
قَالَ الموفّق: ولنا أنه عقد ناقل للملك، فاستوى فيه العبيد والإماء، كسائر العقود، ولا نسلم ضعف الملك، فإنه مطلق لسائر التصرفات، بخلاف الملك فِي مدة الخيار، وقولهم: متى شاء المقترض ردها ممنوع، فإننا إذا قلنا الواجب رد القيمة لم يملك المقترض رد الأمة، وإنما يرد قيمتها، وإن سلمنا ذلك، لكن متى قصد المقترض هَذَا لم يحل له فعله، ولا يصح اقتراضه، كما لو اشترى أمة ليطأها، ثم يردها بالمقايلة، أو بعيب فيها، وإن وقع هَذَا بحكم الإتفاق لم يمنع الصحة، كما لو وقع ذلك فِي البيع، وكما لو أسلم جارية فِي أخرى، موصوفة بصفاتها، ثم ردها بعينها عند حلول الأجل،
ولو ثبت أن القرض ضعيف لا يبيح الوطء لم يمنع منه فِي الجواري، كالبيع فِي مدة الخيار، وعدم القائل بالفرق ليس بشيء عَلَى ما عرف فِي مواضعه، وعدم نقله ليس بحجة، فإن أكثر الحيوانات لم ينقل قرضها، وهو جائز. انتهى "المغني" 6/ 433 - 434.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه أحمد رحمه الله تعالى منْ جواز اقتراض العبد والأمة هو الأرجح؛ لأنه لم يرد نصّ يمنع منْ ذلك، ولا إجماع، فصار كسائر الحيوانات. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4620 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، سِنٌّ مِنَ الإِبِلِ، فَجَاءَ يَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ: "أَعْطُوهُ"، فَلَمْ يَجِدُوا إِلاَّ سِنًّا فَوْقَ سِنِّهِ، قَالَ: "أَعْطُوهُ"، فَقَالَ: أَوْفَيْتَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(عمرو بن منصور) أبو سعيد النسائيّ، وهو ثقة ثبتٌ [11] 108/ 147.
2 -
(أبو نُعيم) الفضل بن دُكين، واسم دُكين عمرو بن حماد بن زُهير التيميّ مولاهم الأحول الكوفيّ، ثقة ثبت [9] 11/ 516.
3 -
(سفيان) بن سعيد الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة ثبت إمام [7] 33/ 37.
4 -
(سلمة بن كُهيل) الحضرميّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقة [4] 195/ 312.
5 -
(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف المدنيّ الفقيه ثقة ثبت [3] 1/ 1.
6 -
(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين، منْ أبي نُعيم، إلى سلمة، وشيخه نسائيّ، كما مرّ آنفًا، وأبو سلمة، وأبو هريرة مدنيّان. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سلمة أحد الفقهاء السبعة عَلَى بعض الأقوال. وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين منْ الرواية، وَقَدْ تقدّم هَذَا كله غير مرّة. والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قَالَ فِي "الفتح" 5/ 337 - : هَذَا الْحَدِيث منْ غرائب الصحيح، قَالَ البزار: لا يُروَى عن أبي هريرة رضي الله عنه، إلا بهذا الإسناد، ومداره عَلَى سلمة بن كهيل، وَقَدْ
صرح فِي هَذَا الباب عند البخاريّ، بأنه سمعه منْ أبي سلمة بن عبد الرحمن بمنى، ولفظه: قَالَ: سمعت أبا سلمة بمنى، يُحدّث عن أبي هريرة رضي الله عنه، فذكره، وذلك لما حج. انتهى. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، سِنٌّ مِنَ الْإِبِلِ، فَجَاءَ يَتَقَاضَاهُ) أي يطلب منه قضاء الدين، وفي رواية أحمد عن عبد الرزّاق، عن سفيان:"جاء أعرابيّ، يتقاضى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعيرًا"، وله عن يزيد بن هارون، عن سفيان:"استقرض النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ رجل بعيرًا"، وللترمذيّ منْ طريق عليّ بن صالح، عن سلمة:"استقرض النبيّ صلى الله عليه وسلم سنّا".
زاد فِي رواية البخاريّ: فأغلظ له، فهمّ به أصحابه، فَقَالَ:"دعوه، فإن لصاحب الحقّ مقالاً".
وقوله: "فأغلظ له": يحتمل أن يكون الإغلاظ بالتشديد فِي المطالبة منْ غير قدر زائد. ويحتمل أن يكون بغير ذلك، ويكون صاحب الدين كافرًا، فقد قيل: إنه كَانَ يهوديًا، والأول أظهر؛ لما تقدّم منْ رواية عبد الرزاق أنه كَانَ أعرابيًّا، وكأنه جرى عَلَى عادته منْ جفاء المخاطبة.
قَالَ الحافظ: ووقع فِي ترجمة بكر بن سهل فِي "معجم الطبراني" عن العرباض بن سارية رضي الله عنه ما يُفهم أنه هو، لكن روى النسائيّ، والحاكم الْحَدِيث المذكور، وفيه ما يقتضي أنه غيره، وأن القصّة وقعت لأعرابيّ، ووقع للعرباض نحوها. انتهى.
وَقَالَ القرطبيّ: هَذَا الرجل كَانَ منْ اليهود، فإنهم كانوا أكثر منْ يُعامل بالدين. وحُكي أن القول الذي قاله، إنما هو: إنكم يا بني عبد المطّلب مُطلٌ، وكذب اليهوديّ، لم يكن هَذَا معروفًا منْ أجداد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا أعمامه، بل المعروف منهم الكرم، والوفاء، والسخاء، وبعيدٌ أن يكون هَذَا القائل مسلمًا، إذ مقابلة النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك أذى للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأذاه كفر. انتهى "المفهم" 4/ 509.
وقوله: "فهمّ به أصحابه": أي أراد أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يؤذوه بالقول، أو الفعل، لكن لم يفعلوا أدبًا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقوله:"فإن لصاحب الحقّ مقالاً": أي صولة الطلب، وقوّة الحجة، لكن عَلَى منْ يمطُل، أو يسيء المعاملة، وأما منْ أنصف منْ نفسه، فبذل ما عنده، واعتذر عما ليس عنده، فيُقبل عذره، ولا تجوز الاستطالة عليه، ولا كَهْرُه. قاله فِي "الفتح"، و"المفهم".
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَعْطُوهُ) وفي رواية البخاريّ: "واشتروا له بعيرًا، فأعطوه إياه"، وفي
رواية عبد الرزّاق: "التمسوا له مثل سنّ بعيره".
(فَلَمْ يَجِدُوا إِلَّا سِنًّا فَوْقَ سِنِّهِ) أي أكبر منه، فإنه كَانَ بكرًا، فوجدوا له رباعيًا، كما تقدّم وَقَالَ العينيّ:"السنّ": هي المعروفة، ثم سُمّي بها صاحبها. انتهى "عمدة القاري" 10/ 240 (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَعْطُوهُ) أي أعطوه السنّ الأكبر (فَقَالَ) ذلك الرجل (أَوْفَيْتَنِي) أي أعطيتني حقّي وافيًا، يقال: أوفى الرجلَ حقَه، ووفّاه إياه: بمعنى أكمله له، وأعطاه وافيًا. قاله فِي "اللسان"، وَقَالَ الفيّوميّ: وفَيتُ بالعهد، والوعد أَفِي به وَفَاءً، والفاعل وَفِيٌّ، والجمع أوفياءُ، مثلُ صَدِيق وأَصدِقاءَ، وأوفيت به إيفاءً، وَقَدْ جمعهما الشاعر، فَقَالَ [منْ البسيط]:
أَمَّا ابْنُ طَوْقٍ فَقَدْ أَوْفَى بِذِمَّتِهِ
…
كَمَا وَفَى بِقِلَاصِ النَّجْمِ حَادِيهَا
(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ خِيَارَكُمْ) قَالَ فِي "الفتح": الخيار: الجيّد، يطلق عَلَى الواحد، والجمع، فيحتمل أن يريد المفرد بمعنى المختار، أو الجمع، والمراد أنه خيرهم فِي المعاملة، أو تكون "منْ" مقدّرةً، ويدلّ عليها الرواية الأخرى، فقد وقع فِي رواية عند البخاريّ:"منْ خياركم". وقوله: (أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً) لمّا أضيف أفعل، والمقصود به الزيادة جاز فيه الإفراد. انتهى "فتح" 5/ 336. وَقَالَ القرطبيّ: قوله: "خيركم أحسنكم قضاء": هَذَا هو اللفظ الفصيح الحسن، وَقَدْ رُوي "أحاسنكم" وهو جمع حسن، ذهبوا به مذهب الأسماء، كأحمد، وأحامد. وَقَدْ وقع فِي "الأمّ" -يعني "صحيح مسلم"- فِي بعض طرقه:"محاسنكم" بالميم، وكأنه جمع محسن، ومطلع، ومطالع، وفيه بُعدٌ، وأحسنها الأول. انتهى "المفهم" 4/ 510. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هَذَا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -64/ 4620 و103/ 4695 - وفي "الكبرى" 65/ 6211 و105/ 6292 وأخرجه (خ) فِي "الوكالة" 2305 (م) فِي "البيوع" 1601 (ت) فِي "البيوع" 1316 و1317 (ق) فِي "الأحكام" 2423 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 8680 و8862 و9289 و9814 و10231. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز استقراض الحيوان،
قَالَ القرطبيّ: وهو مذهب الجمهور، ومنع منْ ذلك الكوفيّون، وهذا الْحَدِيث الصحيح حجة عليهم، واستثنى منْ الحيوان أكثر العلماء الجواريَ، فمنعوا قرضهنّ؛ لأنه يؤدّي إلى عارية الفروج، وأجاز ذلك بعض أصحابنا بشرط أن يردّ غيرها، وأجاز ذلك مطلقًا الطبريّ، والمزنيّ، وداود الأصبهانيّ، وقصر بعض الظاهريّة جواز القرض عَلَى ما له مثلٌ منْ المعيّن، والمكيل، والموزون، وهذا الْحَدِيث حجة عليهم. انتهى "المفهم" 4/ 506.
(ومنها): ما قَالَ القرطبيّ: قوله: "اشتروا له سنّا الخ" دليلٌ عَلَى أن هَذَا الْحَدِيث قضيّة أخرى، غير قضيّة حديث أبي رافع، فإن ذلك الْحَدِيث يقتضي أنه أعطاه منْ إبل الصدقة، وهذا اشتُري له. (ومنها): أن فيه دليلاً عَلَى صحة الوكالة فِي القضاء. (ومنها): أن فيه جوازَ الزيادة فِي القضاء، وَقَدْ تقدّم تفصيله، وذكر الخلاف فيه.
(ومنها): أن فيه بيان حسنِ خلق النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعظم حلمه، وتواضعه، وإنصافه، وقوة صبره عَلَى الجفاء، مع القدرة عَلَى الانتقام، وأن منْ عليه دين لا ينبغي له مجافاة صاحب الحق، وأن منْ أساء الأدب عَلَى الإِمام، كَانَ عليه التعزير بما يقتضيه الحال، إلا أن يعفو صاحب الحق. قاله فِي "الفتح". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي تأويل قضائه صلى الله عليه وسلم البكر، منْ مال الصدقة:
قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: واختلف أرباب التأويل فِي استسلاف النبيّ صلى الله عليه وسلم هَذَا البكر، وقضائه عنه منْ مال الصدقة، هل كَانَ ذلك السلف لنفسه، أو لغيره؟، فمنهم منْ قَالَ: كَانَ لنفسه، وكان هَذَا قبل أن تحرم عليه الصدقة. وهذا فاسدٌ، فإنه صلى الله عليه وسلم لم تزل الصدقة محرّمة عليه، منذ قدُوم المدينة، وكان ذلك منْ خصائصه صلى الله عليه وسلم، ومن جملة علاماته المذكورة فِي الكتب المتقدّمة، بدليل قصّة سلمان الفارسيّ رضي الله عنه، فإنه عند قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، جاءه سلمان بتمر، فقدّمه إليه، وَقَالَ: كل، فَقَالَ:"ما هَذَا؟ "، فَقَالَ: صدقةٌ، فَقَالَ لأصحابه:"كلوا"، ولم يأكل، وأتاه يومًا آخر بتمر، وَقَالَ: هديّة، فأكل، فَقَالَ سلمان رضي الله عنه: هذه واحدة، ثم رأى خاتم النبوّة، فأسلم، وهذا واضح.
وقيل: استسلفه لغيره، ممن يستحقّ أخذ الصدقة، فلما جاءت إبل الصدقة دفع منها، وَقَدْ استُبعد هَذَا منْ حيث إنه قضاه أزيد منْ القرض منْ مال الصدقة، وَقَالَ:"إخيركم أحسنكم قضاء"، فكيف يُعطي زيادة منْ مال ليس له، ويجعل ذلك منْ باب
حسن القضاء؟. وأجيب عن هَذَا بأنه قيل: كَانَ الذي استقرض منه منْ أهل الصدقة، فدفع الرباعي بوجهين: بوجه القرض، وبوجه الاستحقاق.
وقيل: وجه ثالثٌ، وهو أحسنها -إن شاء الله تعالى-، وهو أن يكون استقرض البكر عَلَى ذمّته، فدفعه لمستحقّ، فكان غارمًا، فلما جاءت إبل الصدقة، أخذ منها بما هو غارمٌ جملاً رباعيًا، فدفعه فيما كَانَ غارمًا، فكان أداءً عما فِي ذمّته، وحسن قضاء بما يملكه، وهذا كما رُوي أنه صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر أن يجهّز جيشًا، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ عَلَى قلائد الصدقة، فظاهره أنه أخذ عَلَى ذمّته، فبقي أن يقال: كيف يجوز له أن يؤدّي دينه، ويُبرىء ذمّته مما لا يجوز له أخذه؟.
ويُجاب عنه بأنه لَمّا لم يأخذ لنفسه صار بمنزلة منْ ضمنه فِي ذمّته إلى وقت مجيء الصدقة، فلو لم يجىء منْ إبل الصدقة شيء لضمنه لمقرضه منْ ماله. انتهى "المفهم" 4/ 506 - 507. قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الجواب الذي قبل هَذَا الثالث، وهو ما تقدّم فِي قوله: وقيل: استسلفه لغيره الخ" أظهر منْ هَذَا، وأقرب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): فيما قيل فِي حكمة شغله صلى الله عليه وسلم ذمّته بدين:
قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: [فإن قيل]: كيف شَغَل النبيّ صلى الله عليه وسلم ذمّته بدين، وَقَدْ قَالَ:"إياكم والدين، فإنه شينٌ، الدين همّ بالليل، ومذلّةٌ بالنهار"
(1)
وَقَدْ كَانَ كثيرًا ما يتعوّذ منه، حَتَّى قيل له: ما أكثر ما تستعيذ منْ المغرم؟ فَقَالَ: "إن الرجل إذا غَرِم، حدّث، فكذب، ووعد، فأخلف" متّفقٌ عليه.
ولا يقال: إنما استقرض عند الحاجة والضرورة؛ لأنا نقول: لم يكن ذلك فِي ضرورة إلى ذلك، فإن الله تعالى خيّره بين أن يجعل له بطحاء مكة ذهبًا، كما رواه الترمذيّ، منْ حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وحسّنه، ومن كانت هذه حاله لم يكن فِي ضرورة، ولا حاجة، ولذلك قَالَ الله تعالى له:{وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8].
قَالَ القرطبيّ: أما الأخذ بالدين عند الحاجة، وقصد الأداء عند الوجدان، فلا يُختلف فِي جوازه، وَقَدْ يجب فِي بعض الأوقات عند الضرورات المتعيّنة. وأما النهي عن أخذه -إن صحّ- فإنما ذلك لمن لم تدعه إليه حاجة؛ لما يطرأ منْ تحمّله منْ الأمور التي ذكرتها، منْ الإذلال، والمطالبة، وما يُخاف منْ الكذب فِي الْحَدِيث، والإخلاف
(1)
رواه البيهقيّ فِي "شعب الإيمان"(5554) دون قوله: "فإنه شين"، ورواه مالك فِي "الموطّأ" 2/ 770 بلفظ:"إياكم والدين، فإن أوله هَمٌّ، وآخره حَرْبٌ".
فِي الوعد، وَقَدْ عصم الله تعالى نبينا صلى الله عليه وسلم منْ ذلك كله، فلم يُحوجه إلى شيء منْ ذلك، ولا أجراه عليه.
وأما قولهم: إنه لم يكن فِي ضرورة؛ لأن الله تعالى خيّره. فجوابه أن الله تعالى لَمّا خيّره، فاختار أن يجوع ثلاثًا، ويَشبع يومًا، أجرى الله تعالى عليه ما اختاره لنفسه، وما أشاره إليه به صفيّه، ونصيحه جبريل عليه السلام، فسلك الله تعالى به منْ ذلك أعلى السبيل؛ ليصبر عَلَى المشقّات والشدائد، كما صبر أولو العزم منْ الرسل، ولينال أعلى المقامات الفاخرة، ألا تسمع قوله لعمر رضي الله عنه:"أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة؟ ". ثمّ لَمّا أخلص الله تعالى جوهره، وطيّبَ خُبْرَه، وخَبَرَه، أغناه بعد الْعَيْلة، وكثّره بعد الْقِلّة، وأعزّه بعد الذّلّة. ومن تمام الحكمة فِي أخذه صلى الله عليه وسلم بالديون لِيَقْتَدِيَ به فِي ذلك المحتاجون. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى. "المفهم" 4/ 508 - 509. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4621 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ هَانِىءٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ، يَقُولُ: بِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَكْرًا، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ: "أَجَلْ، لَا أَقْضِيكَهَا إِلاَّ نَجِيبَةً"، فَقَضَانِي، فَأَحْسَنَ قَضَائِي، وَجَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ، يَتَقَاضَاهُ سِنَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَعْطُوهُ سِنًّا"، فَأَعْطَوْهُ يَوْمَئِذٍ جَمَلاً، فَقَالَ: هَذَا خَيْرٌ مِنْ سِنِّي، فَقَالَ: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ قَضَاءً").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه الحنظليّ المروزيّ، ثقة ثبت [10] 2/ 2.
2 -
(عبد الرحمن بن مهديّ) بن حسان البصريّ، ثقة ثبت [9] 42/ 49.
3 -
(معاوية بن صالح) الحضرميّ الحمصيّ، قاضي الأندلس، صدوقٌ له أوهام [7] 50/ 62.
4 -
(سعيد بن هانىء) الْخَولانيّ، أبو عثمان المصريّ، ويقال: الشاميّ، ثقة [3].
قَالَ العجليّ: شاميّ تابعيّ ثقة. وَقَالَ ابن سعد: كَانَ ثقة، إن شاء الله، مات سنة (127). وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". تفرّد به المصنّف، وابن ماجه بهذا الْحَدِيث فقط.
5 -
(عرباض بن سارية) -بكسر العين المهملة، وسكون الراء، بعدها موحّدة، آخره ضاد معجمة- السلميّ، أبو نَجيح الصحابيّ، كَانَ منْ أهل الصّفّة، ونزل حمص، ومات رضي الله عنه بعد السبعين. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير سعيد بن هانىء، فمن رجال المصنّف، وابن ماجه، والصحابي، فمن رجال الأربعة. (ومنها): أنه مسلسل بالحمصيين. (ومنها): أن صحابيّه منْ المقلّين منْ الرواية، فليس له إلا أحد عشر حديثًا عند أصحاب السنن. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
عن سَعِيدِ بْنِ هَانِىءٍ رحمه الله تعالى، أنه قَالَ:(سَمِعْتُ عِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ) رضي الله تعالى عنه (يَقُولُ: بِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَكْرًا) بفتح، فسكون: الفَتِيّ منْ الإبل، كالغلام منْ الإنسان (فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ) أي أطلب منه أن يعطيني حقّي (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَجَلْ) بفتحتين، كنَعَم وزنًا ومعنًى، قَالَ فِي "اللسان": وأجل بفتحتين، بمعنى نَعَمْ، قَالَ الأخفش: إلا أنه أحسن منْ نعم فِي التصديق، ونعم أحسن منه فِي الاستفهام، فإذا قَالَ: أنت سوف تذهب، قلت: أجل، وكان أحسن منْ نعم، وإذا قَالَ: أتذهب؟ قلت: نعم، وكان أحسن منْ أجل. انتهى (لَا أَقْضِيكَهَا إِلَّا نَجِيبَةً) بفتح النون: أي ناقةً نَجيبةً، أي كريمة، وفي "النسخة الهنديّة": إلا بُختيّة"، والبُختيّ بضم، فسكون: واحد البُخت، كرومي ورُوم، وهي -كما فِي "القاموس"-: الإبل الخراسانيّة، فإن صحّت النسخة، يحمل عَلَى أن هَذَا النوع منْ أحسن أنواع الإبل.
ثم ظاهر هَذَا الْحَدِيث أنه إنما باعه البكر بالناقة، فيكون منْ بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وسيأتي النهي عنه فِي الباب التالي، ويمكن أن يجاب بأن النهي إذا كَانَ نسيئة منْ الطرفين، كما قاله بعضهم، أو أنه كَانَ اشتراه بثمن، ولكنه أراد يدفع له ناقة نجيبة، لكونها أفضل منْ الثمن الذي اشتراه به. والله تعالى أعلم.
(فَقَضَانِي، فَأَحْسَنَ قَضَائِي) أي لكون النجيبة أكثر قيمة منْ الثمن الذي وقع به العقد (وَجَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ، يَتَقَاضَاهُ سِنَّهُ) أي بعيره المعروف بسنّه (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَعْطُوهُ سِنًّا) أي أفضل منْ سنّه الذي يطالب به، بدليل قوله (فَأَعْطَوْهُ يَوْمَئِذٍ جَمَلاً) أي وهو أكبر منْ سنّه، قَالَ الفيّوميّ: الجمل منْ الإبل: بمنزلة الرجل، يختصّ بالذكر، قالوا: ولا يُسمّى بذلك إلا إذا بَزَلَ، وجمعه جِمالٌ، وأَجمالٌ، وأجُملٌ، وجمالةُ بالهاء، وجمع الجمال جمالات. انتهى. ومعنى بزل منْ باب قعد: فَطَرَ نابه بدخوله فِي السنة التاسعة.
(فَقَالَ) أي الأعرابيّ (هَذَا) أي الذي أعطيه (خَيْرٌ مِنْ سِنِّي) أي منْ البعير الذي أطالب به (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ قَضَاءً) أي خيركم منزلة عند الله تعالى منْ كَانَ خيرًا عند
قضاء دينه، بأن يُعطي أحسن مما أخذه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عرباض بن سارية رضي الله عنه هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -64/ 4621 - وفي "الكبرى" 65/ 6212. وأخرجه (ق) فِي "التجارات" 2286. وفوائده، وسائر المسائل المتعلّقة به تقدّمت قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
65 - (بَيْعُ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً)
4622 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَيَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، وَخَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالُوا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، وَأَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ فَضَالَةَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً").
رجال هَذَا الإسناد: اثنا عشر:
1 -
(عمرو بن عليّ) الفلّاس المذكور قريبًا.
2 -
(يحيى بن سعيد) القطّان المذكور قريبًا أيضًا.
3 -
(يزيد بن زريع) أبو معاوية البصريّ، ثقة ثبت [8] 5/ 5.
4 -
(خالد بن الحارث) الْهُجيميّ البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.
5 -
(شعبة) بن الحجاج الإِمام الحجة الثبت البصريّ [7] 24/ 27.
6 -
(أحمد بن فَضالة) -بفتح الفاء- أبو المنذر النسائيّ، صدوقٌ ربما أخطأ [11] 26/ 266 منْ أفراد المصنّف.
7 -
(عبيد الله بن موسى) بن أبي المختار باذام العبسيّ الكوفيّ، ثقة كَانَ يتشيع [9]
72/ 26.
8 -
(الحسن بن صالح) بن صالح بن حيّ الهمدنيّ الثوريّ الكوفيّ، ثقة فقيه عابد رُمي بالتشيّع [7] 160/ 252.
9 -
(ابن أبي عروبة) هو سعيد اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقة حافظ، له تصانيف، كثير التدليس، واختلط، وكان منْ أثبت النَّاس فِي قتادة [6] 34/ 38.
10 -
(قتادة) بن دعامة السدوسيّ البصريّ، ثقة ثبت، يدلس [4] 30/ 34.
11 -
(الحسن) بن أبي الحسن يسار البصريّ، ثقة فقيه فاضل، يدلس ويرسل [3] 32/ 36.
12 -
(سمرة) بن جندب بن هلال الفزاريّ، حليف الأنصار، الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه بالبصرة سنة (58) وتقدّم فِي 25/ 393. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى بالنسبة للسند الأول، ومن سباعياته بالنسبة للثاني. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه أحمد بن فضالة، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه رواية تابعى عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قوله: "وأخبرني أحمد بن فَضالة بن إبراهيم" القائل هو المصنّف، فهو سند آخر لهذا الْحَدِيث، ومُلتقى الإسنادين هو قتادة، فيروي كلّ منْ شعبة، وسعيد بن أبي عروبة عن قتادة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ سَمُرَةَ) بن جندب رضي الله تعالى عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً) أي منْ الطرفين، أو أحدهما، وبه قَالَ الحنفيّة؛ ترجيحًا للمحرّم عَلَى المبيح، ومن لا يقول به يَحمِل النسيئة منْ الطرفين. قَالَ الخطّابيّ رحمه الله تعالى: وجهه عندي أن يكون إنما نَهَى عما كَانَ منه نسيئة فِي الطرفين، فيكون منْ باب الكاليء بالكاليء، بدليل حديث عبد الله بن عمرو الذي يليه. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث سمرة رضي الله عنه هَذَا ضعيف.
[اعلم]: أنه اختلف العلماء فِي تصحيح هَذَا الْحَدِيث، وتضعيفه، قَالَ المنذري رحمه الله تعالى: -أخرجه الترمذيُّ، والنسائي، وابن ماجه، وَقَالَ الترمذيّ: حسن صحيح، وسماع الحسن منْ سمرة رضي الله عنه صحيح، هكذا قَالَ علي بن المديني وغيره. هَذَا آخر كلامه. وَقَدْ تقدم اختلاف الأئمة فِي سماع الحسن منْ سمرة رضي الله عنه. وَقَالَ الشافعيّ رضي الله عنه: وأما قوله: "نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم، عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة"، فهو غير ثابت، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ الخطّابيّ: الحسن عن سمرة مختلف فِي اتصاله عند أهل الْحَدِيث، قَالَ الخطابيّ: أخبرنا ابن الأعرابيّ، قَالَ حدثنا عبّاس الدُّوريّ، عن يحيى بن معين: قَالَ: الحسن عن سمرة صحيفة. وَقَالَ محمد بن إسماعيل -يعني البخاريّ-: حديث النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، منْ طريق عكرمة، عن ابن عباس، رواه الثقات، عن ابن عباس موقوفا، أو عكرمة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسل، قَالَ: وحديث زياد بن جبير، عن ابن عمر، إنما هو زياد بن جبير، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسل، وطرق هَذَا الْحَدِيث واهية، ليست بالقوية، وتأويله إذا ثبت عَلَى ما قلنا. انتهى "مختصر المنذريّ" 5/ 27 - 28. بزيادة منْ "معالم السنن" 5/ 28.
وَقَالَ البيهقيّ: أكثر الحفّاظ لا يثبتون سماع الحسن منْ سمرة رضي الله عنه فِي غير حديث العقيقة. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن الْحَدِيث ضعيفٌ، أما عَلَى قول منْ يقول بعدم سماع الحسن منْ سمرة، سوى حديث العقيقة، فظاهرٌ، وأما عَلَى قول منْ يقول بسماعه منه مطلقًا، فإنه مدلّس، وَقَدْ عنعنه، والمدلّس إذا لم يصرّح بالسماع لا يقبل، مع مخالفته للأحاديث الصحيحة التي تدلّ عَلَى جواز بيع الحيوان بالحيوان متفاضلاً نسيئة:
(منها): ما أخرجه الإِمام مسلم رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" عن أنس رضي الله عنه: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اشترى صفيّة منْ دحية الكلبيّ بسبعة أرؤس".
(ومنها): ما أخرجه أبو داود رحمه الله تعالى فِي "سننه" عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهّز جيشًا، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ فِي قلاص الصدقة، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة". واختلف فِي إسناده عَلَى محمد بن إسحاق، قَالَ البيهقيّ بعد أن ساقه منْ طريق حماد سلمة، عن ابن إسحاق: وحماد بن سلمة أحسنهم سياقة له، وله شاهد صحيح، ثم ساق بسنده عن ابن جريج، أن عمرو بن شعيب أخبره، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يُجهّز جيشًا، قَالَ عبد الله بن عمرو: وليس عندنا ظهر، قَالَ:
فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يبتاع ظهرًا إلى خروج المصدّق، فابتاع عبد الله بن عمرو البعير بالبعيرين، وبأبعرة إلى خروج المصدّق بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وهذا كما قَالَ البيهقيّ حديث صحيح، يشهد للأول، فدلّ هَذَا عَلَى جواز بيع الحيوان متفاضلاً نسيئة.
(ومنها): الْحَدِيث الآتي فِي الباب التالي: أنه صلى الله عليه وسلم اشترى عبدًا بعبدين أسودين، وهو حديث صحيح.
فظهر بهذا ضعف حديث الباب، فتبصّر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -65/ 4622 - وفي "الكبرى" 66/ 6214. وأخرجه (د) فِي "البيوع" 3356 (ت) فِي "البيوع" 1237 (ق) فِي "التجارات" 2270 (أحمد) فِي "مسند البصريين" 19630 و19703 و19725 و19751 (الدارمي) فِي "البيوع" 2451. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي العمل بحديث الباب:
قَالَ الخطّابيّ رحمه الله تعالى: اختلف أهل العلم فِي بيع الحيوان بالحيوان نسيئةً، فكره ذلك عطاء بن أبي رَبَاح، ومنع منه سفيان الثوريّ، وهو مذهب أصحاب الرأي، ومنع منه أحمد، واحتجّ بحديث سمرة، وَقَالَ مالك: إذا اختلفت أجناسها جاز بيعها نسيئة، وإن تشابهت لم يجز، وجوّز الشافعيّ بيعها نسيئةً، كانت جنسًا واحدًا، أو أجناسًا مختلفةً، إذا كَانَ أحد الحيوانين نقدًا. انتهى "معالم السنن" 5/ 29.
وَقَالَ الإِمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" 2/ 776:
"باب بيع العبيد، والحيوان بالحيوان نسيئة"، واشترى ابن عمر راحلة بأربعة أبعرة، مضمونة عليه، يُوفيها صاحِبَهَا بالربذة. وَقَالَ ابن عباس: قد يكون البعير خيرا منْ البعيرين. واشترى رافع بن خديج بعيرا ببعيرين، فأعطاه أحدهما، وَقَالَ: آتيك بالآخر غدا، رَهْوًا، إن شاء الله، وَقَالَ ابن المسيب: لا ربا فِي الحيوان، البعير بالبعيرين، والشاة بالشاتين إلى أجل. وَقَالَ ابن سيرين: لا بأس بعير ببعيرين نسيئة.
2115 -
حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه، قَالَ:"كَانَ فِي السبي صفية، فصارت إلى دحية الكلبي، ثم صارت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم". انتهى.
قَالَ فِي "الفتح": قوله: "باب بيع العبد، والحيوان بالحيوان نسيئة": التقدير: بيع
العبد بالعبد نسيئة، والحيوان بالحيوان نسيئة، وهو منْ عطف العام عَلَى الخاص، وكأنه أراد بالعبد جنس منْ يُستعبد، فيدخل فيه الذكر والأنثى، ولذلك ذكر قصة صفية، أو أشار إلى إلحاق حكم الذكر بحكم الأنثى فِي ذلك؛ لعدم الفرق.
قَالَ ابن بطال: اختلفوا فِي ذلك، فذهب الجمهور إلى الجواز، لكن شرط مالك أن يختلف الجنس، ومنع الكوفيون، وأحمد مطلقا؛ لحديث سمرة المخرج فِي "السنن"، ورجاله ثقات، إلا أنه اختلف فِي سماع الحسن منْ سمرة.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد عرفت فيما سبق ضعف حديث سمرة رضي الله عنه، فلا تغفل. قَالَ: وفي الباب: عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، عند البزار، والطحاوي، ورجاله ثقات أيضا، إلا أنه اختُلف فِي وصله وإرساله، فرجح البخاريّ، وغير واحد إرساله. وعن جابر رضي الله عنه عند الترمذيّ وغيره، وإسناده لين. وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه عند عبد الله فِي زيادات "المسند". وعن ابن عمر عند الطحاوي، والطبراني.
واحتُجّ للجمهور بحديث عبد الله بن عمرو: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أمره أن يُجَهّز جيشا، وفيه: فابتاع البعير بالبعيرين، بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم"، أخرجه الدارقطنيّ وغيره، وإسناده قوي. واحتج البخاريّ هنا بقصة صفية، واستشهد بآثار الصحابة رضي الله عنهم.
وقوله: "واشترى ابن عمر راحلة بأربعة أبعرة" الْحَدِيث وصله مالك، والشافعي عنه، عن نافع، عن ابن عمر بهذا، ورواه ابن أبي شيبة منْ طريق أبي بشر، عن نافع: أن ابن عمر اشترى ناقة، بأربعة أبعرة بالربذة، فَقَالَ لصاحب الناقة: اذهب، فانظر، فإن رضيت فقد وجب البيع.
وقوله: "راحلة": أي ما أمكن ركوبه منْ الإبل، ذكرا أو أنثى، وقوله:"مضمونة" صفة "راحلة": أي تكون فِي ضمان البائع حَتَّى يوفيها: أي يسلمها للمشتري، والربذة -بفتح الراء، والموحدة، والمعجمة-: مكان معروف بين مكة والمدينة.
وقوله: وَقَالَ ابن عباس: "قد يكون البعير خيرا منْ البعيرين": وصله الشافعيّ، منْ طريق طاوس: أن ابن عباس سئل عن بعير ببعيرين؟ فقاله.
قوله: "واشترى رافع بن خديج بعيرا ببعيرين، فأعطاه أحدهما، وَقَالَ: آتيك بالآخر غدا، رَهْوًا، إن شاء الله": وصله عبد الرزاق، منْ طريق مُطَرّف بن عبد الله عنه.
وقوله: "رَهْوًا" بفتح الراء، وسكون الهاء-: أي سهلا، والرهو السير السهل، والمراد به هنا أن يأتيه به سريعا، منْ غير مطل.
وقوله: "وَقَالَ ابن المسيب: لا ربا فِي الحيوان البعير بالبعيرين، والشاة بالشاتين،
إلى أجل": أما قول سعيد: فوصله مالك، عن ابن شهاب عنه، لا ربا فِي الحيوان، ووصله ابن أبي شيبة، منْ طريق أخرى، عن الزهريّ عنه، لا بأس بالبعير بالبعيرين نسيئة.
وقوله: "وَقَالَ ابن سيرين: لا بأس ببعير ببعيرين، ودرهم بدرهم نسيئة": وصله عبد الرزاق، منْ طريق أيوب عنه، بلفظ:"لا بأس بعير ببعيرين، ودرهم بدرهم نسيئة، فإن كَانَ أحد البعيرين نسيئة، فهو مكروه. وروى سعيد بن منصور، منْ طريق يونس عنه، أنه كَانَ لا يرى بأسا بالحيوان بالحيوان يدا بيد، أو الدراهم نسيئة، ويكره أن تكون الدراهم نقدا، والحيوان نسيئة. انتهى "فتح" 5/ 170 - 171.
وَقَالَ الإِمام ابن القيّم رحمه الله تعالى: فِي "تهذيب السنن" 5/ 29: اختلف أهل العلم فِي هذه المسألة عَلَى أربعة أقوال، وهي أربع روايات عن أحمد:
[إحداها]: أن ما سوى المكيل والموزون منْ الحيوان، والنبات، ونحوه يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلاً ومتساويًا، وحالّا، ونساء، وأنه لا يجري فيه الربا بحال، وهذا مذهب الشافعيّ، وأحمد فِي إحدى رواياته، واختارها القاضي، وأصحابه، وصاحب "المغني".
[والرواية الثانية عن أحمد]: أنه يجوز التفاضل فيه يدًا بيد، ولا يجوز نسيئةً، وهي مذهب أبي حنيفة، كما دلّ عليه حديثا جابر وابن عمر رضي الله عنهم.
[والرواية الثالثة عنه]: أنه يجوز فيه النسَاء إذا كَانَ متماثلاً، ويحرم مع التفاضل، وعلى هاتين الروايتين، فلا يجوز الجمع بين النسيئة والتفاضل، بل إن وجد أحدهما حرم الآخر، وهذا أعدل الأقوال فِي المسألة، وهو قول مالك، فيجوز عبد بعبدين حالا، وعبد بعبد نساء، إلا أن لمالك فيه تفصيلاً، والذي عقد عليه أصل قوله: أنه لا يجوز التفاضل والنساء معًا فِي جنس منْ الأجناس، والجنس عنده معتبر بإتفاق الأغراض والمنافع، فيجوز بيع البعير البختيّ بالبعيرين منْ الحمولة، ومن حاشية إبله إلى أجل؛ لاختلاف المنافع، وإن أشبه بعضها بعضًا، اختلفت أجناسها، أو لم تختلف، فلا يجوز منها اثنان بواحد إلى أجل.
فسِرُّ مذهبه أنه لا يجتمع التفاضل والنسَاء فِي الجنس الواحد عنده، والجنس ما اتفقت منافعه، وأشبه بعضه بعضًا، وإن اختلفت حقيقته، فهذا تحقيق مذاهب الأئمة فِي هذه المسألة المعضلة، ومآخذهم.
وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه صريح فِي جواز المفاضلة والنساء، وهو حديث حسن. قَالَ عثمان بن سعيد: قلت ليحيى بن معين: أبو سفيان الذي روى عنه محمد بن
إسحاق -يعني هَذَا الْحَدِيث ما حاله؟ قَالَ: مشهور ثقة، قلت: عن مسلم بن كثير، عن عمرو بن حُريش الزبيديّ؟ قَالَ: هو حديث مشهور، ولكن مالك يحمله عَلَى اختلاف المنافع والأغراض، فإن الذي كَانَ يأخذه إنما هو للجهاد، والذي جعله عوضه هو منْ إبل الصدقة، قد يكون منْ بني المخاض، ومن حواشي الإبل، ونحوها.
وأما الإِمام أحمد: فإنه كَانَ يُعلّل أحاديث المنع كلّها، قَالَ: ليس فيها حديث يُعتمد عليه، ويُعجبني أن يتوقّاه، وذُكر له حديث ابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم، فَقَالَ: هما مرسلان، وحديث سمرة عن الحسن، قَالَ الأثرم: قَالَ أبو عبد الله: لا يصحّ سماع الحسن منْ سمرة.
وأما حديث جابر رضي الله عنه، منْ رواية حجاج بن أرطاة، عن أبي الزبير، عنه، فَقَالَ الإِمام أحمد: هَذَا حجاج زاد فيه "نساء"، والليث بن سعد سمعه منْ أبي الزبير، لا يذكر فيه "نساء".
وهذه ليست بعلة فِي الحقيقة، فإن قوله:"ولا بأس به يدًا بيد" يدلّ عَلَى أن قوله: "لا يصلح" يعني نساء، فذكر هذه اللفظة زيادة إيضاح، لو سكت عنها لكانت مفهومة منْ الْحَدِيث، ولكنه معلّل بالحجاج، فقد أكثر النَّاس الكلام فيه، وبالغ الدارقطنيّ فِي "السنن" فِي تضعيفه، وتوهينه.
وَقَدْ قَالَ أبو داود: إذا اختلفت الأحاديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نظرنا إلى ما عمل به أصحابه منْ بعده.
وَقَدْ ذكرنا الآثار عن الصحابة بجواز ذلك متفاضلاً ونسيئةً.
وهذا كله مع اتحاد الجنس، وأما إذا اختلف الجنس، كالعبيد بالثياب، والشاء بالإبل، فإنه يجوز عند جمهور الأمة التفاضل فيه والنساء، إلا ما حُكي رواية عن أحمد: أنه لا يجوز بيعه متفاضلاً يدًا بيد، ولا يجوز نساءً، وحَكَى هَذَا أصحابنا عن أحمد رواية رابعةً فِي المسألة، واحتجّوا لها بظاهر حديث جابر رضي الله عنه:"الحيوان اثنان بواحد لا يصلح نسيئةً، ولا بأس به يدًا بيد"، ولم يخصّ به الجنس المتّحد، وكما يجوز التفاضل فِي المكيل المختلف الجنس، دون النسَاء، فكذلك الحيوان وغيره، إذا قيل: إنه ربويّ، وهذه الرواية فِي غاية الضعف؛ لمخالفتها النصوص، وقياس الحيوان عَلَى المكيل فاسد؛ إذ فِي محلّ الحكم فِي الأصل أوصاف معتبرة، غير موجودة فِي الْفَرَع، وهي مؤثّرةٌ فِي التحريم.
وحديث جابر رضي الله عنه لو صحّ، فإنما المراد به مع اتحاد الجنس، دون اختلافه، كما هو مذكورٌ فِي حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.
فهذه نُكَت فِي هذه المسألة المعضلة، لا تكاد توجد مجموعةً فِي كتاب، وبالله تعالى التوفيق. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله تعالى فِي "تهذيب السنن" 5/ 30 - 31.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الأرجح هو المذهب الأول الذي قَالَ به الشافعيّ، وأحمد فِي رواية، وهو جواز بيع الحيوان بعضه ببعض، متفاضلاً، ونساءً، لصحة الأحاديث بذلك، كما قدّمناه فِي المسألة الماضية، ولصحة الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم، كما أشار إليه البخاريّ رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
66 - (بَيْعُ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ يَدًا بِيَدٍ مُتَفَاضِلاً)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ظاهر صنيع المصنّف رحمه الله تعالى أنه يرى ترجيح قول منْ قَالَ: إن بيع الحيوان بعضه ببعض متفاضلاً يجوز بشرط أن يكون يدًا بيد، وَقَدْ تقدّم أنه مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى، لكن سبق فِي الباب الماضي أن الأصحّ جواز ذلك نساءً أيضًا؛ لصحة حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، وضعف حديث سمرة رضي الله عنه، وأما حديث الباب فليس فيه النهي عن النسيئة، حَتَّى يُحتجّ به فِي المسألة.
والحاصل أن الأرجح جواز ذلك مطلقًا، متساويًا، أو متفاضلاً، يدًا بيد، أو نساءً؛ لصحة الْحَدِيث بذلك. فتبصّر، ولا تتحيّر. والله تعالى أعلم بالصواب.
4623 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: جَاءَ عَبْدٌ، فَبَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْهِجْرَةِ، وَلَا يَشْعُرُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ عَبْدٌ، فَجَاءَ سَيِّدُهُ يُرِيدُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "بِعْنِيهِ، فَاشْتَرَاهُ بِعَبْدَيْنِ أَسْوَدَيْنِ، ثُمَّ لَمْ يُبَايِعْ أَحَدًا بَعْدُ، حَتَّى يَسْأَلَهُ أَعَبْدٌ هُوَ؟ ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الْحَدِيث كلهم رجال الصحيح، وهو منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (223) منْ رباعيات الكتاب.
والحديث أخرجه مسلم، وَقَدْ تقدّم فِي 21/ 4186 - وتقدّم شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد، وأما دلالته لما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى ففيه نظر لا يخفى، كما بيّنته آنفًا، فتأمل بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
67 - (بَيْعُ حَبَلِ الْحَبَلَةِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: بفتحتين فِي الكلمتين: ومعناه: محبول المحبولة فِي الحال، عَلَى أنهما مصدران، أريد بهما المفعول، والتاء فِي الثاني للإشارة إلى الأنوثة.
قَالَ الفيّومي رحمه الله تعالى: حَبِلَت المرأة، وكلُّ بهيمة تَلِد حَبَلاً، منْ باب تَعِب: إذا حملت بالولد، فهي حُبلى، وشاةٌ حبلى، وسِنَّوْرةٌ حبلى، والجمع حُبْليات عَلَى لفظها، وحَبَالَى، وحَبَلُ الْحَبَلَة بفتح الجميع: ولدُ الولد الذي فِي بطن الناقة، وغيرها، وكانت الجاهليّة تبيع أولاد ما فِي بطون الحوامل، فنهى الشرع عن بيع حَبَل الحَبَلَة، وعن بيع المضامين، والملاقيح. وَقَالَ أبو عُبيد: حبَلُ الحبلة: ولد الجَنِين الذي فِي بطن الناقة، ولهذا قيل: الحَبَلَة بالهاء؛ لأنها أنثى، فإذا ولدت، فولدها حبلٌ بغير هاء. وَقَالَ بعضهم: الْحَبَلُ مختصّ بالآدميّات، وأما غير الآدميّات منْ البهائم، فيقال فيه: حَمْلٌ بالميم. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.
4624 -
(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "السَّلَفُ فِي حَبَلِ الْحَبَلَةِ رِبًا").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(يحيى بن حكيم) الْمُقَوِّم -بتشديد الواو المكسورة- أبو سعيد البصريّ، وهو ثقة حافظ عابد مصنّفٌ [10] 51/ 612.
2 -
(محمد بن جعفر) غندر أبو عبد الله البصريّ، ثقة، صحيح الكتاب [9] 21/ 22.
3 -
(شعبة) بن الحجاج المذكور قريبًا.
4 -
(أيوب) بن أبي تميمة كيسان السختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت فقيه [5] 42/ 48.
5 -
(سعيد بن جُبير) الأسديّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 28/ 436.
6 -
(ابن عباس) عبد الله الحبر البحر رضي الله تعالى عنهما 27/ 31. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو وأبو داود، وابن ماجه. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير سعيد بن جبير، فكوفيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه غير ذلك، مما سبق بيانه غير مرّة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: (السَّلَفُ فِي حَبَلِ الْحَبَلَةِ رِبًا") قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى 7/ 293 - : هو أن يُسلم المشتري إلى رجل عنده ناقة حُبْلَى، ويقول له: إذا ولدت هذه الناقة، ثم ولدت التي فِي بطنها، فقد اشتريت منك ولدها بهذا الثمن، فهذه المعاملة شبيهة بالربا؛ لكونها حرامًا كالربا، منْ حيث إنه بيع ما ليس عند البائع، وهو لا يقدر عَلَى تسليمه، ففيه غرر. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث صحيح، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -67/ 4624 - وفي "الكبرى" 68/ 6216. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4625 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه وهو الْجَوّاز المكيّ، فإنه منْ أفراده، وهو ثقة. و"سفيان": هو ابن عيينة.
والحديث متّفقٌ عليه، وسيأتي شرحه فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4626 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.
والسند منْ رباعيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو أعلى ما له منْ الأسانيد، كما تقدّم غير مرّة، وهو (224) منْ رباعيات الكتاب.
والحديث متّفقٌ عليه، وسيأتي شرحه فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
68 - (تَفْسِيرُ ذَلِكَ)
4627 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ، وَكَانَ بَيْعًا يَتَبَايَعُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، كَانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ جَزُورًا، إِلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ، ثُمَّ تُنْتَجَ الَّتِي فِي بَطْنِهَا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه الحارث وهو مصريّ، ثقة حافظ. وهذا الإسناد يتكرر كثيرًا فِي هَذَا الكتاب، وتكلّمنا عَلَى لطائفه غير مرّة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ) -بفتح المهملة والموحدة، وقيل: فِي الأول بسكون الموحدة، وغلطه عياض، وهو مصدر: حَبِلَت تَحْبَل حَبَلاً، منْ باب تَعِبَ، والْحَبَلَة: جمع حابل، مثل ظَلَمَة وظالم، وكَتَبَة وكاتب، والهاء فيه للمبالغة، وقيل: للإشعار بالأنوثة، وَقَدْ ندر فيه امرأة حابلة، فالهاء فيه للتأنيث. وقيل: حَبَلَة: مصدرٌ يُسَمَّى به المحبول، قَالَ أبو عبيد: لا يقال لشيء منْ الحيوان: حَبِلَت، إلا الآدميات، إلا ما ورد فِي هَذَا الْحَدِيث، وأثبته صاحب "المحكم" قولا: فَقَالَ: اختُلِف: أهى للإناث عامة، أم للآدميات خاصة، وأنشد فِي التعميم قول الشاعر:
أَوْ ذِيخَةٌ حُبْلَى مُجِحٌّ مُقْرِبُ
وفي ذلك تَعَقُّبٌ عَلَى نقل النوويّ اتفاق أهل اللغة عَلَى التخصيص. قاله فِي "الفتح" 5/ 92.
(وَكَانَ) أي بيع حبل الحبلة (بَيْعًا يَتَبَايَعُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ) كذا وقع هَذَا التفسير فِي "الموطإ" متصلا بالحديث، قَالَ الإسماعيلي: وهو مدرج -يعني أن التفسير منْ كلام نافع- وكذا ذكر الخطيب فِي "المدرج" وعند البخاريّ فِي آخر "السلم" عن موسى بن إسماعيل التبوذكي، عن جُويرية: التصريح بأن نافعا هو الذي فسره، لكن لا يلزم منْ كون نافع فسره لجويرية، أن لا يكون ذلك التفسير مما حمله، عن مولاه ابن عمر، فعند البخاريّ أيضًا فِي "أيام الجاهلية" منْ طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع عن ابن عمر، قَالَ: كَانَ أهل الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حبل الحبلة، وحبلُ الحبلة أن تُنتَج الناقة ما فِي بطنها، ثم تَحْمِل التي نُتجت، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فظاهر هَذَا السياق، أن هَذَا التفسير منْ كلام ابن عمر، ولهذا جزم ابن عبد البرّ بأنه منْ تفسير ابن عمر، وَقَدْ أخرجه مسلم، والنسائي، منْ رواية الليث، والترمذيُّ، منْ رواية أيوب، كلاهما عن نافع، بدون التفسير، وأخرجه أحمد، والنسائي، وابن ماجه، منْ طريق سعيد بن جبير، عن ابن عمر، بدون التفسير أيضا. قاله فِي "الفتح" 5/ 92 - 93.
(كَانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ جَزُورًا) وفي رواية البخاريّ: "الجزور" بالتعريف، وهو -بفتح الجيم، وضم الزاي-: هو البعير ذكرا كَانَ، أو أنثى، إلا أن لفظه مؤنث، تقول: هذه الجزور، وإن أردت ذكرا، فيَحتَمِل أن يكون ذَكَره فِي الْحَدِيث قيدًا فيما كَانَ أهل الجاهلية يفعلونه، فلا يتبايعون هَذَا البيع، إلا فِي الجزور، أو لحم الجزور، ويحتمل أن يكون ذُكِر عَلَى سبيل المثال، وأما فِي الحكم، فلا فرق بين الجزور وغيرها فِي ذلك. قاله فِي "الفتح".
(إِلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ) -بضم أوله، وفتح ثالثه-: أي تَلِد ولدًا، والناقة فاعل، وهذا الفعل وقع فِي لغة العرب عَلَى صيغة الفعل المسند إلى المفعول، وهو حرف نادر.
(ثُمَّ تُنْتَجُ الَّتِي فِي بَطْنِهَا) أي ثم تعيش المولودة، حَتَّى تَكْبَر، ثم تلد. قَالَ فِي "الفتح": وهذا القدر زائد عَلَى رواية عبيد الله بن عمر، فإنه اقتصر عَلَى قوله:"ثم تحمل التي فِي بطنها"، ورواية جويرية أخصر منهما، ولفظه:"أن تُنْتَج الناقة ما فِي بطنها". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -68/ 4627 وفي الباب الماضي 67/ 4625 و4626 - وفي "الكبرى" 68/ 6217 و6218 و6219 و6220 و69/ 6221. وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 2143 (م) فِي "البيوع" 1514 (د) فِي "البيوع" 3380 (ت) فِي "البيوع" 1229 (أحمد) فِي "مسند العشرة" 396 و"مسند المكثرين" 4477 و5282 و5443 و5828 و6271 و6401 (الموطأ) فِي "البيوع" 1357. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي تفسير "حَبَلِ الْحَبَلَة":
قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى فِي "شرح مسلم": واختلف العلماء، فِي المراد بالنهى عن بيع حبل الحبلة، فَقَالَ جماعة: هو البيع بثمن مؤجل إلى أن تلد الناقة، ويلد ولدها، وَقَدْ ذكر مسلم فِي هَذَا الْحَدِيث هَذَا التفسير، عن ابن عمر، وبه قَالَ مالك، والشافعي، ومن تابعهم. وَقَالَ آخرون: هو بيع ولد الناقة الحامل فِي الحال، وهذا تفسير أبي عبيدة، معمر بن المثنى، وصاحبه: أبي عبيد، القاسم بن سَلّام، وآخرين، منْ أهل اللغة، وبه قَالَ أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وهذا أقرب إلى اللغة، لكن الراوى هو ابن عمر، وَقَدْ فسره بالتفسير الأول، وهو أعرف، ومذهب الشافعيّ، ومحققي الأصوليين، أن تفسير الراوي مقدم إذا لم يخالف الظاهر.
وهذا البيع باطل عَلَى التفسيرين: أما الأول، فلأنه بيع بثمن إلى أجل مجهول، والأجل يأخذ قسطا منْ الثمن. وأما الثاني فلأنه بيع معدوم، ومجهول، وغير مملوك للبائع، وغير مقدور عَلَى تسليمه. والله أعلم. انتهى "شرح مسلم" 10/ 397.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما فسّر به الأولون للنهي عن بيع حَبَل الْحَبَل بأنه بيع الشيء بثمن مؤجّل إلى هَذَا الأجل، هو الأرجح؛ لموافقته تفسير الراوي؛ لأنه أعلم بتفسير ما روى، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
وَقَالَ فِي "الفتح": ما حاصله قَالَ بظاهر هذه الرواية سعيد بن المسيب، فيما رواه عنه مالك، وَقَالَ به مالك، والشافعي، وجماعة، وهو أن يبيع بثمن إلى أن يلد ولد الناقة، وَقَالَ بعضهم: أن يبيع بثمن إلى أن تحمل الدابة، وتلد ويحمل ولدها، وبه جزم أبو إسحاق فِي "التنبيه"، فلم يشترط وضع حمل الولد، كرواية مالك.
قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: ولم أر منْ صرّح بما اقتضته رواية جويرية المتقدّمة، وهو الوضع فقط، وهو فِي الحكم مثل الذي قبله.
والمنع فِي الصور الثلاث للجهالة فِي الأجل، ومن حقه عَلَى هَذَا التفسير، أن يُذْكَر فِي "السلم".
وَقَالَ أبو عبيدة، وأبو عبيد، وأحمد، وإسحاق، وابن حبيب، المالكي، وأكثر أهل
اللغة، وبه جزم الترمذيّ: هو بيع ولد نتاج الدابة، والمنع فِي هَذَا منْ جهة أنه بيع معدوم، ومجهول، وغير مقدور عَلَى تسليمه، فيدخل فِي بيوع الغرر، ولذلك صَدَّر البخاريّ بذكر الغرر، فِي الترجمة، حيث قَالَ:"باب بيع الغرر، وحَبَل الْحَبَلَة"، لكنه أشار إلى التفسير الأول، بإيراد الْحَدِيث فِي كتاب "السلم" أيضا، ورجح الأول؛ لكونه موافقا للحديث، وإن كَانَ كلام أهل اللغة، موافقا للثانى، لكن قد رَوَى الإِمام أحمد، منْ طريق ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ما يوافق الثاني، ولفظه:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن بيع الغرر، قَالَ: إن أهل الجاهلية، كانوا يتبايعون ذلك البيع، يبتاع الرجل بالشارف، حبل الحبلة، فنهوا عن ذلك".
وَقَالَ ابن التين: مُحَصَّل الخلاف، هل المراد البيع إلى أجل، أو بيع الجنين، وعلى الأول، هل المراد بالأجل ولادة الأم، أو ولادة ولدها، وعلى الثاني، هل المراد ببيع الجنين الأول، أو بيع جنين الجنين، فصارت أربعة أقوال. انتهى.
وحَكَى صاحب "المحكم" قولا آخر: إنه بيع ما فِي بطون الأنعام، وهو أيضا منْ بيوع الغرر، لكن هَذَا إنما فَسَّر به سعيدُ بنُ المسيب، كما رواه مالك فِي "الموطإ" بيعَ المضامين، وفسر به غيره بيعَ الملاقيح، واتفقت هذه الأقوال عَلَى اختلافها، عَلَى أن المراد بالحبلة جمع حابل، أو حابلة، منْ الحيوان، إلا ما حكاه صاحب "المحكم" وغيره عن ابن كيسان أن المراد بالْحَبلة: الكَرْمَة، وأن النهي عن بيع حَبلها: أي حملها قبل أن تبلغ، كما نُهِيَ عن بيع ثمر النخلة، قبل أن تُزْهِي، وعلى هَذَا، فالْحَبْلَة بإسكان الموحدة، وهو خلاف ما ثبتت به الروايات، لكن حُكِي فِي الْكَرْمَة فتح الباء.
وادّعَى السهيلي تفرد ابن كيسان به، وليس كذلك، فقد حكاه ابن السَّكِّيت فِي "كتاب الألفاظ"، ونقله القرطبيّ فِي "المفهم" عن أبي العبّاس المبرد، والهاء عَلَى هَذَا للمبالغة، وجها واحدًا. قاله فِي "الفتح" 5/ 93 - 94. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
69 - (بَيْعُ السِّنِينَ)
4628 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ،
قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن منصور": هو الجوّاز. و"سفيان": هو ابن عيينة. و"أبو الزبير": هو محمد بن مسلم بن تَدْرُس. والسند منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو أعلى الأسانيد له، وهو (225) منْ رباعيات الكتاب.
والحديث أخرجه مسلم، وتقدّم فِي 31/ 4533 - ومضى شرحه، وبيان مسائله هناك، فليُراجع. ومعنى قوله:"بيع السنين": هو أن يبيع ثمرة حائطه مدّةَ سنتين، أو أكثر، وإنما نهى عنه؛ لتضمّنه الغرر، حيث إنه باع شيئًا لا وجود له حال العقد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4629 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حُمَيْدٍ الأَعْرَجِ، عَنْ سُلَيْمَانَ -وَهُوَ ابْنُ عَتِيقٍ- عَنْ جَابِرٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "إسحاق بن منصور": هو الْكَوْسج. و"سفيان": هو ابن عُيينة. و"حميد الأعرج": هو ابن قيس، أبو صفوان المكيّ القارىء، ليس به بأس [6] 189/ 2995. و"سليمان بن عتيق": هو المدنيّ، صدوقٌ [4] 30/ 4531. وتقدّم أنه يقال فيه: عتيك بالكاف، والصواب بالقاف، كما هنا، والحديث أخرجه مسلم، وتقدّم القول فيه فِي الْحَدِيث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
70 - (الْبَيْعُ إِلَى الأَجَلِ الْمَعْلُومِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: أرد به بيانَ جواز البيع إلى الأجل المعلوم، وَقَدْ ترجم الإِمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" بقوله:"باب شراء النبيّ صلى الله عليه وسلم بالنسيئة"، قَالَ فِي "الفتح": بكسر السين المهملة، والمدّ: أي بالأجل. قَالَ ابن بطال: الشراء بالنسيئة جائز بالإجماع. قَالَ الحافظ: لعل البخاريّ تخيّل أن أحدًا يتخيّل أنه صلى الله عليه وسلم لا يشتري بالنسيئة؛ لأنها دينٌ، فأراد أن يدفع ذلك التخيّل. انتهى "فتح" 5/ 22. والله تعالى أعلم بالصواب.
4630 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عِكْرِمَةُ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بُرْدَيْنِ قِطْرِيَّيْنِ، وَكَانَ إِذَا جَلَسَ، فَعَرِقَ فِيهِمَا، ثَقُلَا عَلَيْهِ، وَقَدِمَ لِفُلَانٍ الْيَهُودِيِّ بَزٌّ مِنَ الشَّأْمِ، فَقُلْتُ: لَوْ أَرْسَلْتَ إِلَيْهِ، فَاشْتَرَيْتَ مِنْهُ ثَوْبَيْنِ إِلَى الْمَيْسَرَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُ
مَا يُرِيدُ مُحَمَّدٌ، إِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِمَالِي، أَوْ يَذْهَبَ بِهِمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"كَذَبَ، قَدْ عَلِمَ أَنِّي مِنْ أَتْقَاهُمْ لِلَّهِ، وَآدَاهُمْ لِلأَمَانَةِ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُمارة بن أبي حفصة) الأزديّ العتكيّ مولاهم، أبو روح البصريّ، واسم أبيه ثابت بالنون، ثقة [6] 34/ 3491.
2 -
(عكرمة) مولى ابن عباس، أبو عبد الله البربري، ثقة ثبت فقيه [3] 2/ 325.
3 -
(عائشة) رضي الله تعالى عنها 5/ 5، وعمرو بن علي الفلّاس، ويزيد بن زريع تقدما قريبًا. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح وأن شيخه أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما منْ العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.
[فائدة]: قَالَ الإِمام الترمذيّ رحمه الله تعالى فِي "جامعه" بعد أن روى الْحَدِيث عن عمرو بن عليّ، شيخ المصنّف: ما نصّه: وَقَدْ رواه شعبة أيضًا عن عُمارة بن أبي حفصة، سمعت محمد بن فِرَاس البصريّ، يقول: سمعت أبا داود الطيالسيّ يقول: سُئل شعبة يومًا عن هَذَا الْحَدِيث؟ فَقَالَ: لستُ أُحدّثكم حتّى تقوموا إلى حَرَميّ بن عُمارة، فتُقبّلوا رأسه، قَالَ: وحرميّ فِي القوم. انتهى.
وإنما قَالَ شعبة هَذَا إعزازًا وإكرامًا لحرميّ؛ لأنه ابن شيخه عمارة بن أبي حفصة فِي هَذَا الْحَدِيث. أفاده فِي "تحفة الأحوذيّ" 4/ 405. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَائِشَةَ) أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها، أنها (قَالَتْ: كَانَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بُرْدَيْنِ قِطْرِيَّيْنِ) هكذا النسخ كلّها بالياء، وكذا وقع عند الترمذيّ، ولفظه:"كَانَ عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبين قِطْريين"، قَالَ المباركفوريّ رحمه الله تعالى: كذا فِي بعض النسخ، وفي بعضها:"ثوبان قِطريّان"، وهو القياس. انتهى. ووجه الأول أن يكون منْ باب حذف المضاف، وإبقاء المضاف إليه مقامه، وأصله ثوبا بردين، ويكون منْ إضافة العامّ إلى الخاصّ، كشجر أراك، لكن شرط حذف المضاف، وإبقاء المضاف إليه عَلَى حاله لم يوجد هنا؛ لأن شرطه أن يُعطف عَلَى مماثل له،
كما فِي قول الشاعر [منْ المتقارب]:
أَكُلَّ امْرِىءٍ تَحْسَبِينَ امْرَأً
…
وَنَارٍ تَوَقَّدُ بِاللَّيْلِ نَارَا
حيث عطف "ونار" بالجرّ عَلَى "امرىء"، وإلى هذه القاعدة أشار ابن مالك رحمه الله تعالى فِي "خلاصته"، حيث قَالَ:
وَمَا يَلِي الْمُضَافَ يَأْتِي خَلَفَا
…
عَنْهُ فِي الاعْرَابِ إِذَا مَا حُذِفَا
وَرُبَّمَا جَرُّوا الَّذِي أَبْقَوَا كَمَا
…
قَدْ كَانَ قَبْلَ حَذْفِ مَا تَقَدَّمَا
لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَا حُذِفْ
…
مُمَاثِلاً لِمَا عَلَيْهِ قَدْ عُطِفْ
لكن ذكر الأشمونيّ فِي "شرح الخلاصة" 2/ 273 - : ما يُفيد أن الجر بدون عطف جائز، وإن لم يكن قياسًا، وذكر الصبّان فِي "حاشيته" عليه أن الكوفيين قاسوه، وعلى هَذَا فلما وقع فِي هذه الرواية وجه صحيح -والحمد لله عَلَى ذلك-.
وقوله: "بردين": تثنية بُرد بضم، فسكون، قَالَ فِي "القاموس": البُرد بالضمّ: ثوبٌ مُخطّطٌ، جمعه أَبْرادٌ، وأَبْرُدٌ، وبُرُودٌ، وأكسية يُلْتَحف بها. انتهى.
وقوله: "قِطْرِيين" تثنية " قِطريّ" بكسر، القاف، وسكون الطاء، قَالَ فِي "القاموس": القطر بالكسر: ضرب منْ البرود، كالقِطْريّة. انتهى باختصار. وَقَالَ الفيّوميّ: القطر وزان حِمْل: نوع منْ البرود، والقطريّة مثله، نسبة إليه. انتهى. وَقَالَ فِي "النهاية" 4/ 80 - :"ثوب قِطريّ": هو ضربٌ منْ البرود، فيه حُمرةٌ، ولها أعلامٌ، فيها بعض الْخُشُونة. وقيل: هي حُلَلٌ جياد، تُحمل منْ قِبل البحرين. وَقَالَ الأزهريّ: فِي أَعْرَاض البحرين قريةٌ، يقال لها: قَطَر، وأحسب الثياب القِطْريّة نُسبت إليها، فكسروا القاف للنسبة، وخفّفوا. انتهى.
(وَكَانَ) صلى الله عليه وسلم (إِذَا جَلَسَ، فَعَرِقَ فِيهِمَا) بفتح، فكسر، يقال: عَرِق عَرَقًا، منْ باب تَعِب، فهو عَرْقان. قاله الفيّوميّ (ثَقُلَا عَلَيْهِ) بضم القاف (وَقَدِمَ لِفُلَانٍ الْيَهُودِيِّ) لم يُذكر اسمه (بَزٌّ) بفتح الموحّدة، وتشديد الزاي: نوع منْ الثياب، وقيل: الثياب خاصّة منْ أمتعة البيت، وقيل: أمتعة التاجر منْ الثياب. قاله الفيّوميّ (مِنَ الشَّأْمِ) بهمزة ساكنة، ويجوز تركها تخفيفًا: البلد المعروف (فَقُلْتُ: لَوْ أَرْسَلْتَ إِلَيْهِ)"لو" شَرطيّة، وجوابها محذوفٌ: أي لكان خيرًا لك، أو هي هنا للتمنّي، فلا تحتاج إلى تقدير (فَاشْتَرَيْتَ مِنْهُ ثَوْبَيْنِ إِلَى الْمَيْسَرَةِ) بضم السين المهملة، وفتحها: بمعنى اليُسر، أي مؤجّلاً إلى وقت اليُسْر. وَقَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: أي إلى وقت معلوم، يُتوقّع فيه انتقال الحال منْ العسر إلى اليسر، وكأنه كَانَ وقتًا معيّنًا، يُتوقّع فيه ذلك، فلا يرد الإشكال بجهالة
الأجل. انتهى (فَأَرْسَلَ) صلى الله عليه وسلم (إِلَيْهِ) أي إلى ذلك اليهوديّ (فَقَالَ) اليهوديّ (قَدْ عَلِمْتُ مَا يُرِيدُ مُحَمَّدٌ) صلى الله عليه وسلم، و"ما" استفهاميّة، عُلّق بها "علمت"، أو هي موصولة، مفعول "علمت" بمعنى عرفت، ولذا تعدّت إلى مفعول واحد، كما قَالَ ابن مالك رحمه الله تعالى:
لِعِلْمِ عِرْفَانِ وَظَنِّ تَهُمَهْ
…
تَعْدِيَةٌ لِوَاحِدٍ مُلْتَزَمَهْ
(إِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِمَالِي، أَوْ) للشكّ منْ الراوي: أي أو قَالَ: أن (يَذْهَبَ بهِمَا) أي بالبردين (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كَذَبَ) فِي دعواه هَذَا الباطلِ (قَدْ عَلِمَ أَنَّي مِنْ أَتْقَاهُمْ لله) أي أشدّ النَّاس فِي تقوى الله سبحانه وتعالى (وَآدَاهُمْ لِلأَمَانَةِ) بمدّ الألف: أي أحسنهم أداءً للأمانة، ووفاء بالعهد. يقال: هو أَدّى للأمانة منْ غيره بمدّ الألف، وَقَالَ ابن سِيدَهْ: وَقَدْ لَهِجَ العامّة بالخطإ، فقالوا: فلان أَدّى للأمانة بتشديد الدال، وهو لحن، غير جائز. وَقَالَ الأزهريّ: ما علمت أحدًا منْ النحويين أجاز "آدى"؛ لأن أفعل فِي باب التعجّب لا يكون إلا فِي الثلاثيّ، ولا يقال: أَدَى بالتخفيف، بمعنى أَدّى بالتشديد. أفاده المرتضى. "تاج العروس" 10/ 12.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: فيما قاله الأزهريّ نظر؛ لأنه يلزم منه تلحين هَذَا الْحَدِيث، فِي قوله:"وآداهم للأمانة"، فالحقّ جواز استعمال "هو آدى للأمانة"، كما أثبته فِي "الصحاح" و"القاموس" فافهم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -70/ 4630 - وفي "الكبرى" 71/ 6224. وأخرجه (ت) فِي "البيوع" 1213. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز البيع إلى الأجل المعلوم. (ومنها): ما كَانَ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ الصبر عَلَى قلّة العيش، مع أن الله تعالى خيّره أن يكون نبيّا ملكًا، أو نبيّا عبدًا، فاختار أن يكون نبيّا عبدًا؛ لأن ما له عند الله تعالى خيرٌ، وأبقى، فلم يلتفت إلى ملك الدنيا، قَالَ الله عز وجل:{وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 4، 5]، وَقَالَ سبحانه وتعالى:
{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]. (ومنها): بيان سعة أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وحسن معاشرته لأزواجه، حيث يشرن عليه ببعض المصالح، فيعمل بإشارتهنّ، ولا يخالفهنّ. (ومنها): بيان كونه صلى الله عليه وسلم أتقى الخلق جميعًا، وأكثرهم وفاء بالعهود، وأداء للأمانات. (ومنها): جواز التعامل مع اليهود، مع أنهم أكالون للسحت. (ومنها): أن فيه دلالة عَلَى جواز تعامل منْ كَانَ ماله حرامًا، إذا لم يُعلم كونه عين الحرام. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
71 - (سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ السِّلْعَةَ عَلَى أَنْ يُسْلِفَهُ سَلَفًا)
أي يقرضه قرضًا، وَقَدْ تقدّم تمام البحث فِي هَذَا قريبًا 60/ 4613. ولله الحمد، والمنّة.
4631 -
(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ سَلَفٍ وَبَيْعٍ، وَشَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ، وَرِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه فإنه منْ أفراده، وهو ثقة. و"خالد": هو ابن الحارث الْهُجيميّ. و"حسين المعلّم": هو ابن ذكوان. والسند مسلسل بالبصريين إلى عمرو.
وقوله: "وربح ما لم يُضمن" ببناء الفعل للمفعول: هو أن يبيع ما اشتراه قبل أن ينتقل إلى ضمانه بالقبض، فما ربح منْ ذلك البيع، فهو حرام؛ لأنه ربح مبيع لم يقبضه، بل بقي فِي ضمان البائع؛ لأنه لو هلك فِي تلك الحال، فإنه يكون عَلَى ضمانه، لا عَلَى ضمان المشتري.
والحديث صحيح، وَقَدْ تقدّم فِي 60/ 4613، وتقدّم شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
72 - (شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَبِيعُكَ هَذِهِ السِّلْعَةَ إِلَى شَهْرٍ بِكَذَا، وَإِلَى شَهْرَيْنِ بِكَذَا)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدّم تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: "وشرطان فِي بيع"، بتفاسير، ومنها هَذَا الذي قاله المصنّف رحمه الله تعالى، لكن الأقرب إلى معنى الْحَدِيث ما تقدّم ترجيح ابن القيّم رحمه الله تعالى له، وهو أن يقول له: بعتك هذه السلعة بعشرة نقدًا، وآخذها منك بعشرين نسيئةً، وهذه هي صورة بيع العينة، وأما الصورة التي فسر بها المصنّف وغيره، فإنها جائزة؛ لأنها منْ ترديد الأثمان، كما تقدّم تمام البحث فِي ذلك فِي المسألة الرابعة منْ مسائل الْحَدِيث 4613، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
4632 -
(أَخْبَرَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، حَتَّى ذَكَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "زياد بن أيوب": هو المعروف بدلّويه. و"أيوب": هو السختيانيّ. وقوله: "حدّثني أبي": هو شعيب بن محمد. وقوله: "عن أبيه": هو محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص. وقوله: "حَتَّى ذكر عبد الله بن عمرو" يعني أن عمرًا ذكر جدّه الأدنى، وهو محمد، وجدّه الأعلى، وهو عبد الله بن عمرو، فيكون الْحَدِيث مما رواه شعيب، عن أبيه، محمد، عن جدّه عبد الله بن عمرو، وهو قليل، فأكثر روايات شعيب عن جده عبد الله بن عمرو، وَقَدْ تقدّم أن الصحيح أنه سمع منه. والله تعالى أعلم.
والحديث صحيح، وَقَدْ تقدّم الكلام عليه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4633 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ سَلَفٍ وَبَيْعٍ، وَعَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ وَاحِدٍ، وَعَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ، وَعَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الإسناد مخالف لما مضى؛ لأنه منْ رواية شعيب عن جدّه عبد الله بن عمرو، والظاهر أن شعيبًا رواه عن أبيه، عن جدّه، ثم سمعه منْ
جدّه، فرواه بالوجهين. والحديث صحيح، وَقَدْ سبق القول فيه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
73 - (بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَبِيعُكَ هَذِهِ السِّلْعَةَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ نَقْدًا، وَبِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا التفسير قريب منْ التفسير الذي ذكره فِي الباب الماضي، وَقَدْ تقدّم تحقيقه هناك، فلا تغفل. والله تعالى أعلم بالصواب.
4634 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالُوا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ").
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(عمرو بن عليّ) الفلّاس البصريّ، ثقة حافظ [10] 4/ 4.
2 -
(يعقوب بن إبراهيم) الدورقيّ، أبو يوسف البغداديّ، ثقة حافظ [10] 21/ 22.
3 -
(محمد بن المثنّى) أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ، ثقة حافظ [10] 64/ 80.
4 -
(يحيى بن سعيد) القطّان البصريّ، ثقة ثبت حجة [9] 4/ 4.
5 -
(محمد بن عمرو) بن علقمة بن وقّاص الليثيّ المدنيّ، صدوقٌ، له أوهام [6] 16/ 17.
6 -
(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ الفقيه الثبت [3] 1/ 1.
7 -
(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، منْ محمد بن عمرو، ويعقوب بغداديّ، والباقون بصريون. (ومنها): أن مشايخ المصنّف الثلاثة قد اتفق الأئمة الستّة
بالرواية عنهم بلا واسطة، وَقَدْ تقدم ذلك غير مرّة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ:"نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ) تقدّم فِي الترجمة تفسير المصنّف له، ونحوه ما ذكره ابن الأثير رحمه الله تعالى فِي "النهاية" -1/ 173 - : هو أن يقول: بعتك هَذَا الثوب نقدا بعشرة، ونسيئة بخمسة عشر، فلا يجوز؛ لأنه لا يُدرى أيهما الثمن الذي يختاره؛ ليقع عليه العقد، ومن صوره أن يقول: بعتك هَذَا بعشرين، عَلَى أن تبيعني ثوبك بعشرة، فلا يصح للشرط الذي فيه، ولأنه يسقط بسقوطه بعض الثمن، فيصير الباقي مجهولا، وَقَدْ نُهيَ عن بيع وشرط، وعن بيع وسلف، وهما هذان الوجهان. انتهى.
وفي رواية أبي داود، منْ طريق يحيى بن زكريّا، عن محمد بن عمرو بلفظ:"منْ باع بيعتين فِي بيعة، فله أوكسهما، أو الربا".
قَالَ الخطّابيّ رحمه الله تعالى: لا أعلم أحدا منْ الفقهاء، قَالَ بظاهر هَذَا الْحَدِيث، أو صحح البيع بأوكس الثمنين، إلا شيء يُحكى عن الأوزاعي، وهو مذهب فاسد، وذلك لما يتضمنه هَذَا العقد منْ الغرر والجهل.
وتعقّبه الشوكانيّ فِي "نيل الأوطار" 5/ 162 - فَقَالَ: ولا يخفى أن ما قاله، هو ظاهر الْحَدِيث؛ لأن الحكم له بالأوكس، يستلزم صحة البيع به.
قَالَ الخطّابيّ: وإنما المشهور، منْ طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أنه نهى عن بيعتين فِي بيعة"، قَالَ: حدّثنا الأصمّ، قَالَ: حدّثنا الربيع، قَالَ: حدثنا الشافعيّ، قَالَ: حدّثنا الدراوردي، عن محمد بن عمرو. وحدّثونا عن محمد بن إدريس الحنظليّ، حدّثنا الأنصاريّ، عن محمد بن عمرو. فأما رواية يحيى بن زكريا، عن محمد بن عمرو، عَلَى الوجه الذي ذكره أبو داود، فيشبه أن يكون ذلك فِي حكومة فِي شيء بعينه، كأنه أسلفه دينارا، فِي قفيز بر إلى شهر، فلما حل الأجل، وطالبه بالبر، قَالَ له: بعني القفيز الذي لك علي بقفيزين إلى شهرين، فهذا بيع ثان، وَقَدْ دخل عَلَى البيع الأول، فصار بيعتين فِي بيعة، فيردان إلى أوكسهما: أي أنقصهما، وهو الأصل، فإن تبايعا البيع الثاني، قبل أن يتقابضا الأول كانا مُرْبيين.
قَالَ صاحب "العون": وَقَدْ نقل هَذَا التفسير الإِمام ابن الأثير فِي "النهاية"، وابن رسلان فِي "شرح السنن".
ثم قَالَ الخطّابيّ: وتفسير ما نَهَى عنه منْ بيعتين فِي بيعة عَلَى وجهين: [أحدهما]: أن يقول: بعتك هَذَا الثوب نقدا بعشرة، ونسيئة بخمسة عشر، فهذا لا يجوز؛ لأنه لا
يُدري أيهما الثمن الذي يختاره منهما، فيقعَ به العقد، وإذا جهل الثمن بطل البيع.
قَالَ صاحب "العون": وبمثل هَذَا فسر سماك، رواه أحمد، ولفظه: قَالَ سماك: هو الرجل يبيع البيع، فيقول: هو بنساء بكذا، وهو بنقد بكذا وكذا، وكذلك فسره الشافعيّ رحمه الله، فَقَالَ: بأن يقول بعتك بألف نقدا، وبألفين إلى سنة، فخذ أيهما شئت أنت، وشئت أنا.
ونقل ابن الرفعة عن القاضي: أن المسألة مفروضة عَلَى أنه قَبِل عَلَى الإبهام، أما لو قَالَ قبلت بألف نقدا، أو بألفين بالنسيئة، صح ذلك، كذا فِي النيل.
ثم قَالَ الخطّابيّ: والوجه الآخر: أن يقول: بعتك هَذَا العبد بعشرين دينارا، عَلَى أن تبيعني جاريتك بعشرة دنانير، فهذا أيضا فاسد؛ لأنه جعل ثمن العبد عشرين دينارا، وشرط عليه أن يبيعه جاريته بعشرة دنانير، وذلك لا يلزمه، وإذا لم يلزمه ذلك سقط بعض الثمن، فإذا سقط بعضه، صار الباقي مجهولا.
ومن هَذَا الباب أن يقول: بعتك هَذَا الثوب بدينارين، عَلَى أن تعطيني بهما دراهم صرف عشرين، أو ثلاثين بدينار. فأما إذا باعه شيئين بثمن واحد، كدار وثوب، أو عبد وثوب، فهذا جائز، وليس منْ باب البيعتين فِي البيعة الواحدة، وإنما هي صفقة واحدة، جمعت شيئين بثمن معلوم.
وعقد البيعتين فِي بيعة واحدة، عَلَى الوجهين الذين ذكرناهما، عند أكثر الفقهاء فاسد، وحُكي عن طاووس: أنه قَالَ: لا بأس أن يقول له: بعتك هَذَا الثوب نقدا بعشرة، وإلى شهرين بخمسة عشر، فيذهب به إلى أحدهما. وَقَالَ الحكم، وحمّاد: لا بأس به ما لم يفترقا. وَقَالَ الأوزاعيّ: لا بأس بذلك، ولكن لا يفارقه حَتَّى يُباتّه لأحد المعنيين، فقيل له: فإنه ذهب بالسلعة عَلَى ذينك الشرطين؟ فَقَالَ: هي بأقلّ الثمنين إلى أبعد الأجلين. قَالَ الخطّابيّ: هَذَا ما لا يُشكّ فِي فساده، فأما إذا باتّه عَلَى أحد الأمرين فِي مجلس العقد، فهو صحيح، لا خلف فيه، وذِكرُ ما سواه لغوٌ، لا اعتبار به. انتهى كلام الخطابيّ "معالم السنن" 5/ 97 - 99.
وقوله: "فله أوكسهما": أي أنقصهما، "أو الربا": قَالَ فِي "النيل": يعني أو يكون قد دخل هو وصاحبه فِي الربا المحرم، إذا لم يأخذ الأوكس، بل أخذ الأكثر، وذلك ظاهر فِي التفسير الذي ذكره ابن رسلان وغيره، وأما فِي التفسير الذي ذكره أحمد، عن سماك، وذكره الشافعيّ، ففيه مُتَمَسَّكٌ لمن قَالَ: يحرم بيع الشيء بأكثر منْ سعر يومه؛ لأجل النِّساء، وقالت الشافعيّة، والحنفية، والجمهور: إنه يجوز؛ لعموم الأدلة القاضية بجوازه، وهو الظاهر؛ لأن ذلك المتمسك، هو الرواية الأولى -يعني رواية:"منْ باع بيعتين فِي بيعة، فله أوكسهما، أو الربا"- منْ حديث أبي هريرة، وَقَدْ عرفت ما فِي
راويها منْ المقال، ومع ذلك، فالمشهور عنه اللفظ الذي، رواه غيره، وهو النهي عن بيعتين فِي بيعة، ولا حجة فيه عَلَى المطلوب، ولو سلمنا أن تلك الرواية التي تفرد بها ذلك الراوي، صالحة للاحتجاج، لكان احتمالها لتفسير خارج عن محل النزاع، كما سلف عن ابن رسلان قادحا فِي الاستدلال بها عَلَى المتنازع فيه، عَلَى أن غاية ما فيها الدلالة عَلَى المنع منْ البيع، إذا وقع عَلَى هذه الصورة، وهي أن يقول: نقدا بكذا، ونسيئة بكذا، إلا إذا قَالَ منْ أول الأمر نسيئة بكذا فقط، وكان أكثر منْ سعر يومه، مع أن المتمسكين بهذه الرواية، يمنعون منْ هذه الصورة، ولا يدل الْحَدِيث عَلَى ذلك، فالدليل أخص منْ الدعوى، وَقَدْ جمعنا رسالة فِي هذه المسألة، وسميناها "شِفاء الغُلَل، فِي حكم زيادة الثمن لمجرد الأجل"، وحققناها تحقيقا، لم نُسبق إليه.
والعلة فِي تحريم بيعتين فِي بيعة، عدم استقرار الثمن، فِي صورة بيع الشيء الواحد بثمنين، والتعليق بالشرط المستقبل، فِي صورة بيع هَذَا عَلَى أن يبيع منه ذاك، ولزوم الربا فِي صورة قفيز الحنطة. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله تعالى. "نيل الأوطار" 5/ 161 - 163.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدم أن الأشبه فِي معنى النهي عن بيعتين فِي بيعة أن يقول: بعتك هذه السلعة بعشرة نقدًا، وآخذها منك بعشرين نسيئة، وهي المسألة المشهورة ببيع العينة والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -73/ 4633 - وفي "الكبرى" 74/ 6228. وأخرجه (د) فِي "البيوع" 3461 (ت) فِي "البيوع" 1331 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 9301 و27245. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي البحث عن بيع العينة:
أخرج الإِمام أبو داود رحمه الله تعالى فِي "سننه" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلّط الله عليكم ذُلّا، لا ينزعه حَتَّى ترجعوا إلى دينكم". والحديث صحيح بمجموع طرقه، كما بينه الشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى فِي "السلسلة الصحيحة" 1/ 15 - 17 رقم 11.
قَالَ الرافعيّ: بيع العينة: هو أن يبيع شيئًا منْ غيره بثمن مؤجّل، ويسلمه إلى المشتري، ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن نقد أقلّ منْ ذلك القدر. انتهى. وَقَدْ ذهب إلى عدم جواز بيع العينة مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وجوّز ذلك الشافعيّ، وأصحابه. كذا فِي "النيل".
وَقَدْ كتب الإِمام ابن قيّم الجوزيّة رحمه الله تعالى بحثًا نفيسًا فِي هَذَا الْحَدِيث، فِي كتابه "تهذيب السنن"، ولنفاسته أحببت إيراده بطوله؛ تتميمًا للفائدة، وتكثيرًا للعائدة:
قَالَ رحمه الله تعالى: وفي الباب حديث أبي إسحاق السبيعيّ، عن امرأته، أنها دخلت عَلَى عائشة رضي الله تعالى عنها، فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم، قالت: يا أم المؤمنين، إني بعت غلاما منْ زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسيئة، وإني ابتعته منه بستمائة نقدًا، فقالت لها عائشة: بئسما اشتريتِ، أخبري زيدًا أن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بطل إلى أن يتوب". هَذَا الْحَدِيث رواه البيهقيّ، والدارقطنيّ، وذكره الشافعيّ، وأعلّه بالجهالة بحال امرأة أبي إسحاق، وَقَالَ: لو ثبت، فإنما عابت عليها بيعًا إلى العطاء؛ لأنه أجلٌ غير معلوم، ثم قَالَ: ولا يثبت مثل هَذَا عن عائشة، وزيد بن أرقم لا يبيع إلا ما يراه حلالاً. قَالَ البيهقيّ: ورواه يونس بن أبي إسحاق، عن أمه العالية بنت أنفع: أنها دخلت عَلَى عائشة مع أم محمد
(1)
. وَقَالَ غيره: هَذَا الْحَدِيث حسنٌ، ويُحتجّ بمثله؛ لأنه قد رواه عن العالية ثقتان ثبتان: أبو إسحاق زوجها، ويونس ابنها، ولم يُعلم فيها جرحٌ، والجهالة ترتفع عن الراوي بمثل ذلك، ثم إن هَذَا مما ضُبطت فيه القصّة، ومن دخل معها عَلَى عائشة، وَقَدْ صدّقها زوجها، وابنها، وهما منْ هما؟ فالحديث محفوظ.
وقوله فِي الْحَدِيث المتقدّم: "منْ باع بيعتين فِي بيعة، فله أوكسهما، أو الربا" هو منزل عَلَى العينة بعينها، قاله شيخنا يعني ابن تيميّة- لأنه بيعان فِي بيع واحد، فأوكسهما الثمن الحالّ، وإن أخذ بالأكثر، وهو المؤجّل أخذ بالربا، فالمعنيان لا ينفكّان منْ أحد الأمرين: إما الأخذ بأوكس الثمنين، أو الربا، وهذا لا يتنزّل إلا عَلَى العينة.
[فصل]: قَالَ المحرّمون للعينة: الدليل عَلَى تحريمها منْ وجوه:
[أحدها]: أن الله تعالى حرّم الربا، والعينة وسيلة إلى الربا، بل هي منْ أقرب وسائله، والوسيلة إلى الحرام حرام، فهنا مقامان: أحدهما: بيان كونها وسيلة، والثاني: بيان أن الوسيلة إلى الحرام حرام.
(1)
هكذا النسخة، والصواب أم محبّة، كما سيأتي قريبًا، فتنبّه.
فأما الأول: فيشهد له به النقل، والعرف، والنيّة والقصد، وحال المتعاقدين، فأما النقل، فبما ثبت عن ابن عبّاس:"أنه سئل عن رجل باع منْ رجل حريرة بمائة، ثم اشتراها بخمسين؟ فَقَالَ: دراهم بدراهم متفاضلة، دخلت بينهما حريرة". وفي كتاب محمد بن عبد الله الحافظ المعروف بمطيّن، عن ابن عبّاس أنه قَالَ:"اتّقوا هذه العينة، لا تبيعوا دراهم بدراهم بينهما حريرة". وفي كتاب أبي محمد النجشيّ الحافظ، عن ابن عباس أنه سئل عن العينة، يعني بيع الحريرة فَقَالَ:"إن الله لا يُخدع، هَذَا مما حرّم الله ورسوله"، وقول الصحابيّ: حرّم رسول الله كذا، أو أمر بكذا، وقضى بكذا، وأوجب كذا فِي حكم المرفوع اتفاقًا عند أهل العلم، إلا خلافًا شاذًّا لا يُعتدّ به، ولا يؤبه له.
وشُبهة المخالف أنه لعله رواه بالمعنى، فظنّ ما ليس بأمر، ولا تحريم كذلك، وهذا فاسدٌ جدًّا، فإن الصحابة أعلم بمعاني النصوص، وَقَدْ تلقوها منْ فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يظنّ بأحد منهم أن يقدم عَلَى قول: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو حرّم، أو فرض إلا بعد سماع ذلك، ودلالة اللفظ عليه، واحتمال خلاف هَذَا كاحتمال الغلط، والسهو فِي الرواية، بل دونه، فإن رُدّ قوله:"أمر" ونحوه بهذا الاحتمال، وجب ردّ روايته؛ لاحتمال السهو والغلط، وإن قُبلت روايته، وجب قبول الآخر.
وأما شهادة العرف بذلك، فأظهر منْ أن تحتاج إلى تقرير، بل قد علم الله، وعباده منْ المتبايعين ذلك قصدهما أنهما لم يعقدا عَلَى السلعة عقدًا يقصدان به تملكها، ولا غرض لهما فيها بحال، وإنما الغرض، والمقصود بالقصد الأول مائة بمائة وعشرين، وإدخال السلعة فِي الوسط تلبيس وعبث، وهي بمنزلة الحرف الذي لا معنى له فِي نفسه، بل جيء به لمعنى فِي غيره، حَتَّى لو كانت تلك السلعة تُساوي أضعاف ذلك الثمن، أو تساوي أقلّ جزء منْ أجزائه، لم يبالوا بجعلها موردًا للعقد؛ لأنهم لا غرض لهم فيها، وأهل العرف لا يكابرون أنفسهم فِي هَذَا.
وأما النيّة والقصد، فالأجنبيّ المشاهد لهما يقطع بأنه لا غرض لهما فِي السلعة، وإنما القصد الأول مائة بمائة وعشرين، فضلاً عن علم المتعاقدين، ونيّتهما، ولهذا يتواطأ كثير منهم عَلَى ذلك قبل العقد، ثم يُحضران تلك السلعة، محللاً لما حرّم الله ورسوله.
وأما المقام الثاني، وهو أن الوسيلة إلى الحرام حرام، فبانت بالكتاب والسنّة، والفطرة، والمعقول، فإن الله سبحانه وتعالى مسخ اليهود قردةً وخنازير لَمّا توسّلوا إلى الصيد الحرام بالوسيلة التي ظنّوها مباحةً، وسمَّى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعون
مثل ذلك مخادعةً، كما تقدّم، وَقَالَ أيوب السختيانيّ: يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر عَلَى وجهه كَانَ أسهل. والرجوع إلى الصحابة فِي معاني الألفاظ متعيّنٌ، سواء كانت لغويّة، أو شرعيّة، والخداع حرام.
وأيضًا، فإن هَذَا العقد يتضمّن إظهار صورة مباحة، وإضمار ما هو منْ أكبر الكبائر، فلا تنقلب الكبيرة مباحةً بإخراجها فِي صورة البيع الذي لم يُقصد نقل الملك فيه أصلاً، وإنما قصده حقيقة الربا.
وأيضًا فإن الطريق متى أفضت إلى الحرام، فإن الشريعة لا تأتي بإباحتها أصلاً؛ لأن إباحتها، وتحريم الغاية جمع بين النقيضين، فلا يُتصوّر أن يُباح شيء، ويحرم ما يُفضي إليه، بل لابدّ منْ تحريمهما، أو إباحتهما، والثاني باطلٌ قطعًا، فيتعيّن الأول.
وأيضًا، فإن الشارع إنما حرّم الربا، وجعله منْ الكبائر، وتوعّد آكله بمحاربة الله ورسوله؛ لما فيه منْ أعظم الفساد والضرر، فكيف يُتصوّر مع هَذَا أن يبيح هَذَا الفساد العظيم بأيسر شيء يكون منْ الحيل؟، فيا لله العجب، أترى هذه الحيلة أزالت تلك المفسدة العظيمة، وقلبتها مصلحة، بعد أن كانت مفسدة؟.
وأيضًا فإن الله سبحانه وتعالى عاقب أهل الجنة الذين أقسموا ليصرمنّها مصبحين، وكان مقصودهم منع حقّ الفقراء، منْ الثمر المتساقط وقت الحصاد، فلما قصدوا منع حقّهم منعهم الله الثمرة جملة.
ولا يقال: فالعقوبة إنما كانت عَلَى ردّ الاستثناء وحده؛ لوجهين. أحدهما: أن العقوبة منْ جنس العمل، وترك الاستثناء عقوبته أن يعوق وينسى، لا إهلاك ماله، بخلاف عقوبة ذنب الحرمان، فإنها حرمان كالذنب.
الثاني: أن الله تعالى أخبر عنهم أنهم قالوا: {أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} [القلم: 24]، وذنب العقوبة عَلَى ذلك، فلو لم يكن لهذا الوصف مدخل فِي العقوبة لم يكن لذكره فائدة، فإن لم يكن هو العلّة التامة كَانَ جزءًا منْ العلّة، وعلى التقديرين يحصل المقصود.
وأيضًا فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الأعمال بالنيات"، والمتوسّل بالوسيلة التي صورتها مباحة إلى المحرّم إنما نيّته المحرم، ونيته أولى به منْ ظاهر عمله.
وأيضًا فقد روى ابن بطّة وغيره بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلّوا محارم الله بأدنى الحيل"، وإسناده مما يصححه الترمذيّ.
وأيضًا فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لعن الله اليهود حُرّمت عليهم الشحوم، فجملوها،
وباعوها، وأكلوا أثمانها"، و"جملوها": يعني أذابوها، وخلطوها، وإنما فعلوا ذلك ليزول عنها اسم الشحم، ويحدُث لها اسم آخر، وهو الودَكُ، وذلك لا يفيد الحلّ، فإن التحريم تابع للحقيقة، وهي لا تتبدّل بتبدّل الاسم، وهذا الربا تحريمه تابع لمعناه وحقيقته، فلا يزول بتبدّل الاسم بصورة البيع، كما لم يزل تحريم الشحم بتبديل الاسم بصورة الجمل والإذابة، وهذا واضحٌ بحمد الله.
وأيضًا، فإن اليهود لم ينتفعوا بعين الشحم، إنما انتفعوا بثمنه، فيلزم منْ وقف مع صورة العقود والألفاظ، دون مقاصدها، وحقائقها أن لا يحرّم ذلك؛ لأن الله تعالى لم ينصّ عَلَى تحريم الثمن، وإنما حرّم عليهم نفس الشحم، ولَمّا لعنهم عَلَى استحلالهم الثمن، وإن لم ينصّ عَلَى تحريمه، دلّ عَلَى أن الواجب النظر إلى المقصود، وإن اختلفت الوسائل إليه، وأن ذلك يوجب أن لا يقصد الانتفاع بالعين، ولا ببدلها.
ونظير هَذَا أن يقال: لا تقرب مال اليتيم، فتبيعه، وتأكل عوضه، وأن يقال: لا تشرب الخمر، فتغيّر اسمه، وتشربه، وأن يقال: لا تزن بهذه المرأة، فتعقد عليها عقد إجارة، وتقول: إنما أستوفي منافعها، وأمثال ذلك.
قالوا: ولهذا الأصل، وهو تحريم الحيل المتضمّنة إباحة ما حرّم الله، أو إسقاط ما أوجبه الله عليه أكثر منْ مائة دليل، وَقَدْ ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لعن المحلّل، والمحلّل له"، مع أنه أتى بصورة عقد النكاح الصحيح؛ لما كَانَ مقصوده التحليل، لا حقيقة النكاح، وَقَدْ ثبت عن الصحابة أنهم سمّوه زانيًا، ولم ينظروا إلى صورة العقد.
[الدليل الثاني]: عَلَى تحريم العينة: ما رواه أحمد فِي "مسنده": حدثنا أسود بن عامر، حدثنا أبو بكر هو ابن عياش، عن الأعمش، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر، قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا ضَنّ النَّاس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتّبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد فِي سبيل الله، أنزل الله بهم بلاءً، فلا يرفعه عنهم حَتَّى يُراجعوا دينهم"
(1)
، ورواه أبو داود بإسناد صحيح إلى حيوة بن شُريح المصريّ، عن إسحاق أبي عبد الرحمن الخراسانيّ، أنّ عطاء الخراسانيّ حدّثه، أن نافعا حدّثه، عن ابن عمر، قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول- فذكره، وهذان إسنادان حسنان، يشدّ أحدهما الآخر، فأما رجال الأول، فأئمة مشاهير، وإنما يُخاف أن لا يكون الأعمش سمعه منْ عطاء، أو أن عطاء لم يسمعه منْ ابن عمر. والإسناد الثاني
(1)
قَالَ فِي "الجوهر النقيّ" 5/ 316 - 317 - : صححه ابن القطّان، وَقَالَ: هَذَا الإسناد كل رجاله ثقات. كذا قَالَ فِي النسخة "بلاء"، وأُراه مصحّفًا منْ "ذُلّا". اهـ
يبيّن أن للحديث أصلاً محفوظًا عن ابن عمر، فإن عطاء الخراسانيّ ثقة مشهور، وحيوة كذلك، وأما إسحاق أبو عبد الرحمن، فشيخ روى عنه أئمة المصريين، مثل حيوة، والليث، ويحيى بن أيوب، وغيرهم.
وله طريق ثالث، رواه السريّ بن سهل، حدّثنا عبد الله بن رشيد، حدثنا عبد الرحمن بن محمد، عن ليث، عن عطاء، عن ابن عمر، قَالَ: لقد أتى علينا زمان، وما منّا رجلٌ يرى أنه أحقّ بديناره ودرهمه منْ أخيه المسلم، ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا ضنّ النَّاس بالدينار، والدرهم، وتبايعوا بالعِينة، وتركوا الجهاد، واتّبعوا أذناب البقر، أدخل الله عليهم ذُلّا لا ينزعه حَتَّى يتوبوا، ويرجعوا إلى دينهم"، وهذا يبيّن أن للحديث أصلاً، وأنه محفوظ.
[الدليل الثالث]: ما تقدّم منْ حديث أنس رضي الله عنه، أنه سئل عن العينة؟ فَقَالَ:"إن الله لا يُخدع، هَذَا مما حرّم الله ورسوله"، وتقدّم أن هَذَا اللفظ فِي حكم المرفوع.
[الدليل الرابع]: ما تقدّم منْ حديث ابن عباس، وقوله:"هَذَا مما حرّم الله ورسوله".
[الدليل الخامس]: ما رواه الإِمام أحمد، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن العالية، ورواه حرب منْ حديث إسرائيل، حدّثني أبو إسحاق، عن جدّته العالية يعني جدّة إسرائيل -فإنها امرأة أبي إسحاق، قالت: دخلت عَلَى عائشة فِي نسوة، فقالت: ما حاجتكنّ؟ فكان أول منْ سألها أم محبة
(1)
، فقالت: يا أم المؤمنين، هل تعرفين زيد بن أرقم؟ قالت: نعم، قالت: فإني بعته جارية لي بثمانمائة درهم إلى العطاء، وإنه أراد أن يبيعها، فابتعتها بستمائة درهم نقدًا، فأقبلت عليها، وهي غضبى، فقالت: بئسما شريت، وبئسما اشتريت، أبلغي زيدًا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله
(1)
بضم الميم، وكسر الحاء المهملة، هكذا ضبطه الدارقطنيّ فِي "كتاب المؤتلف والمختلف"، وَقَالَ: إنها امرأة تروي عن عائشة، روى حديثها أبو إسحاق السبيعي، عن امرأته العالية، ورواه أيضا يونس بن أبي إسحاق، عن أمه العالية بنت أنفع، عن أم محبة، عن عائشة، وَقَالَ: أم محبة، والعالية مجهولتان، لا يُحتجّ بهما. وأخرجه أحمد فِي "مسنده" حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق السبيعيّ، عن امرأته: أنها دخلت عَلَى عائشة هي وأم ولد زيد بن أرقم، فقالت أم ولد زيد الْحَدِيث، قَالَ فِي "التنقيح": إسناده جيّد، وإن كَانَ الشافعيّ لا يثبت مثله عن عائشة، وكذلك الدارقطنيّ، قَالَ فِي العالية: هي مجهولة، لا يحتجّ بها، وفيه نظر، فقد خالفه غيره، وَقَالَ ابن الجوزي: قالوا: العالية مجهولة، لا يحتجّ بها، ولا يقبل خبرها، قلنا: بل هي امرأة معروفة، جليلة القدر، ذكرها ابن سعد فِي "الطبقات"، فَقَالَ: العالية بنت أنفع بن شراحيل امرأة أبي إسحاق السبيعيّ، سمعت منْ عائشة. انتهى.
-صلى الله عليه وسلم، إلا أن يتوب، وأفحمت صاحبتنا، فلم تتكلّم طويلاً، ثم إنه سهل عنها، فقالت: يا أم المؤمنين، أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي؟ فتلت عليها:{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} الآية [البقرة: 275].
فلولا أن عند أم المؤمنين علمًا لا تستريب فيه أن هَذَا محرّم، لم تستجز أن تقول مثل هَذَا بالاجتهاد، ولاسيّما إن كانت قد قصدت أن العمل يُحبط بالردّة، وأن استحلال الربا كفرٌ، وهذا منه، ولكن زيدًا معذورٌ؛ لأنه لم يعلم أن هَذَا محرم، ولهذا قالت:"أبلغيه".
ويحتمل أن تكون قد قصدت أن هَذَا منْ الكبائر التي يقاوم إثمها ثواب الجهاد، فيصير بمنزلة منْ عمل حسنة وسيّئةً بقدرها، فكأنه لم يعمل شيئًا.
وعلى التقديرين لجزم أم المؤمنين بهذا دليلٌ عَلَى أنه لا يسوغ فيه الاجتهاد، ولو كانت هذه منْ مسائل الاجتهاد، والنزاع بين الصحابة لم تُطلق عائشة ذلك عَلَى زيد، فإن الحسنات لا تبطل بمسائل الاجتهاد.
ولا يقال: فزيد منْ الصحابة، وَقَدْ خالفها؛ لأن زيدًا لم يقل: هَذَا حلالٌ، بل فعله، وفعل المجتهد لا يدلّ عَلَى قوله، عَلَى الصحيح؛ لاحتمال سهو، أو غفلة، أو تأويل، أو رجوع، ونحوه، وكثيرًا ما يفعل الرجل الشيء، ولا يعلم مفسدته، فإذا نُبّه له انتبه، ولاسيّما أم ولده، فإنها دخلت عَلَى عائشة تستفتيها، وطلبت الرجوع إلى رأس مالها، وهذا يدلّ عَلَى الرجوع عن ذلك العقد، ولم يُنقل عن زيد أنه أصرّ عَلَى ذلك.
[فإن قيل]: لا نسلّم ثبوت الْحَدِيث، فإن أم ولد زيد مجهولة؟.
[قلنا]: أم ولده لم ترو الْحَدِيث، وإنما كانت هي صاحبة القصّة، وأما العالية، فهي امرأة أبي إسحاق السبيعيّ، وهي منْ التابعيّات، وَقَدْ دخلت عَلَى عائشة، وروى عنها أبو إسحاق، وهو أعلم بها، وفي الْحَدِيث قصّة، وسياق يدلّ عَلَى أنه محفوظ، وأن العالية لم تختلق هذه القصّة، ولم تضعها، بل يغلب عَلَى الظنّ غلبةً قويّة صدقها فيها، وحفظها لها، ولهذا رواها عنها زوجها ميمون
(1)
ولم ينهها، ولاسيّما عند منْ يقول: رواية العدل عن غيره تعديل له، والكذب لم يكن فاشيًا فِي التابعين فشوّه فيمن بعدهم، وكثير منهم كَانَ يروي عن أمه، وامرأته ما يُخبرن به أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحتجّ به.
فهذه أربعة أحاديث تبيّن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّم العينة: حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما الذي فيه تغليظ العينة. وحديث أنس، وابن عباس رضي الله عنهم أنها مما حرّم الله
(1)
يحتاج إلى تحرير؟؟؟
ورسوله. وحديث عائشة رضي الله تعالى عنها هَذَا المرسل، والمرسل منها له ما يوافقه، وَقَدْ عمل به بعض الصحابة منْ السلف، وهذا حجة بإتفاق الفقهاء.
[الدليل السادس]: ما رواه أبو داود منْ حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"منْ باع بيعتين، فله أوكسهما، أو الربا"، وللعلماء فِي تفسيره قولان:
[أحدهما]: أن يقول: بعتك بعشرة نقدًا، وعشرين نسيئة، وهذا هو الذي رواه أحمد عن سماك، ففسّره فِي حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قَالَ:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين فِي صفقة"، قَالَ سماك: الرجل يبيع البيع، فيقول: هو عَلَى نساء بكذا، وبنقد بكذا. وهذا التفسير ضعيف؛ فإنه لا يدخل الربا فِي هذه الصورة، ولا صفقتين هنا، وإنما هي صفقة واحدة بأحد الثمنين.
[والتفسير الثاني]: أن يقول: أبيعكها بمائة إلى سنة عَلَى أن أشتريها منك بثمانين حالة، وهذا معنى الْحَدِيث، الذي لا معنى له غيره، وهو مطابق لقوله:"فله أوكسهما، أو الربا"، فإنه إما أن يأخذ الثمن الزائد، فيُربي، أو الثمن الأول، فيكون هو أوكسهما، وهو مطابق لصفقتين فِي صفقة، فإنه قد جمع صفقتي النقد والنسيئة فِي صفقة واحدة، ومبيع واحد، وهو قد قصد بيع دراهم عاجلة بدراهم مؤجّلة، أكثر منها، ولا يستحقّ إلا رأس ماله، وهو أوكس الصفقتين، فإن أبى إلا الأكثر، كَانَ قد أخذ الربا، فتدبّر مطابقة هَذَا التفسير لألفاظه صلى الله عليه وسلم، وانطباقه عليها. ومما يشهد لهذا التفسير: ما رواه الإِمام أحمد، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أنه نهى عن بيعتين فِي بيعة، وعن سلف وبيع"، فجمعه بين هذين العقدين فِي النهي لأن كلا منهما يؤول إلى الربا؛ لأنهما فِي الظاهر بيع، وفي الحقيقة ربا.
ومما يدلّ عَلَى تحريم العِينة: حديث ابن مسعود رضي الله عنه يرفعه: "لعن الله آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه، والمحلّل، والمحلّل له". ومعلوم أن الشاهدين، والكاتب إنما يكتب، ويشهد عَلَى عقد صورته جائزة الكتابة، والشهادة، لا يشهد بمجرّد الربا، ولا يكتبه، ولهذا قرنه بالمحلّل والمحلّل له، حيث أظهرا صورة النكاح، ولا نكاح، كما أظهر الكاتب والشاهدان صورة البيع، ولا بيع.
وتأمّل كيف لعن فِي الْحَدِيث الشاهدين، والكاتب، والآكل، والموكل، فلعن المعقود له، والمعين له عَلَى ذلك العقد، ولعن المحلّل، والمحلّل له، فالمحلل له هو الذي يُعقد التحليل لأجله، والمحلّل هو المعين له بإظهار صورة العقد، كما أن المرابي هو المعان عَلَى أكل الربا بإظهار صورة العقد المكتوب المشهود به، فصلوات الله عَلَى منْ أوتي جوامع الكلم.
[الدليل السابع]: ما صحّ عن ابن عبّاس أنه قَالَ: "إذا استقمت
(1)
بنقد، فبعت بنقد، فلا بأس، وإذا استقمت بنقد، فبعت بنسيئة، فلا خير فيه، تلك ورق بورق". رواه سعيد وغيره. ومعنى كلامه: أنك إذا قوّمت السلعة بنقد، ثم بعتها بنسيئة كَانَ مقصود المشتري شراء دراهم معجّلة بدراهم مؤجّلة، وإذا قوّمتها بنقد، ثم بعتها به فلا بأس، فإن ذلك بيع المقصود منه السلعة، لا الربا.
[الدليل الثامن]: ما رواه ابن بطّة، عن الأوزاعيّ، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي عَلَى النَّاس زمان، يستحلّون الربا بالبيع". يعني العينة. وهذا، وإن كَانَ مرسلاً، فهو صالحٌ للاعتضاد به، ولاسيّما وَقَدْ تقدّم منْ المرفوع ما يؤكّده، ويشهد له أيضًا، قوله صلى الله عليه وسلم:"ليشربنّ ناسٌ منْ أمتي الخمر، يسمّونها بغير اسمها"، وقوله أيضًا، فيما رواه إبراهيم الحربيّ منْ حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "أول دينكم نبوّة ورحمة، ثم خلافة ورحمة، ثم ملك ورحمة، ثم ملك وجبرية، ثم ملك عَضُوض
(2)
، يُستحلّ فيه الحِرُ والحرير"، و"الحِر" بكسر الحاء، وتخفيف الراء-: هو الفرج، فهذا إخبار عن استحلال المحارم، ولكنه بتغيير أسمائها، وإظهارها فِي صورة تجعل وسيلة إلى استباحتها، وهي الربا، والخمر، والزنا، فيُسمّى كلّ منها بغير اسمها، ويستباح الاسم الذي سمي به، وَقَدْ وقعت الثلاثة.
وفي قول عائشة: "بئسما شريت، وبئسما اشتريت" دليلٌ عَلَى بطلان العقدين معًا، وهذا هو الصحيح منْ المذهب -يعني الحنبلية-؛ لأن الثاني عقد ربا، والأول وسيلة إليه. وفيه قول آخر فِي المذهب أن العقد الأول صحيح؛ لأنه تمّ بأركانه وشروطه، فطريان الثاني عليه لا يبطله، وهذا ضعيف؛ فإنه لم يكن مقصودًا لذاته، وإنما جعله وسيلة إلى الربا، فهو طريق إلى المحرّم، فكيف يحكم بصحّته؟ وهذا القول لا يليق بقواعد المذهب.
[فإن قيل]: فما تقولون فيمن باع سلعة بنقد، ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة؟.
[قلنا]: قد نصّ أحمد فِي رواية حرب عَلَى أنه لا يجوز إلا إن تغيّرت السلعة؛ لأن هَذَا يتخذ وسيلة إلى الربا، فهو كمسألة العينة سواءً، وهي عكسها صورة، وفي الصورتين قد ترتّب فِي ذمّته دراهم مؤجّلة بأقلّ منها نقدًا، لكن فِي إحدى الصورتين البائع هو الذي اشتغلت ذمته، وفي الصورة الأخرى المشتري هو الذي اشتغلت ذمته، فلا فرق بينهما.
(1)
"استقمت فِي لغة أهل مكة: بمعنى قوّمت، يقولون: استقمت المتاع: إذا قوّمته. اهـ "نهاية".
(2)
أي يصيب الرعية فيه عسفٌ، وظلم، كأنهم يعَضّون فيهى عضّا، والعضوض منْ صيغ المبالغة.
وَقَالَ بعض أصحابنا أي الحنبليّة-: يحتمل أن تجوز الصورة الثانية، إذا لم يكن ذلك حيلة، ولا مواطأةً، بل وقع اتّفاقًا. وفرق بينها وبين الصورة الأولى بفرقين:[أحدهما]: أن النصّ ورد فيها، فيبقى ما عداها عَلَى أصل الجواز. [والثاني]: أن التوسّل إلى الربا بتلك الصورة أكثر منْ التوسّل بهذه. والفرقان ضعيفان، أما الأول، فليس فِي النصّ ما يدلّ عَلَى اختصاص العينة بالصورة الأولى، حَتَّى تتقيّد به نصوص مطلقة عَلَى تحريم العينة، والعِينة فِعْلة منْ العين: النقد، قَالَ الشاعر [منْ الطويل]:
أَنَدَّانُ أَمْ نَعْتَانُ أَمْ يَنْبَرِي لَنَا
…
فَتًى مِثْلُ نَصْلِ السَّيْفِ مِيزَتْ مَضَارِبُهْ
قَالَ الجوزجانيّ: أنا أظنّ أن العينة إنما اشتقّت منْ حاجة الرجل إلى العين منْ الذهب والورق، فيشتري السلعة، ويبيعها بالعين الذي احتاج إليها، وليست به إلى السلعة حاجة.
وأما الفرق الثاني، فكذلك؛ لأن المعتبر فِي هَذَا الباب هو الذريعة، ولو اعتبر فيه الفرق منْ الاتّفاق والقصد لزم طرد ذلك فِي الصورة الأولى، وأنتم لا تعتبرونه.
[فإن قيل]: فما تقولون: إذا لم تعد السلعة إليه، بل رجعت إلى ثالث، هل تسمّون ذلك عينة؟.
[قيل]: هذه مسألة التورّق؛ لأن المقصود منها الورق، وَقَدْ نصّ أحمد فِي رواية أبي داود عَلَى أنها منْ العينة، وأطلق عليها اسمها. وَقَدْ اختلف السلف فِي كراهتها، فكان عمر بن عبد العزيز يكرهها، وكان يقول:"التورّق آخية الربا"
(1)
. ورخّص فيها إياس بن معاوية. وعن أحمد فيها روايتان منصوصتان، وعلّل الكراهة فِي إحداهما بأنه بيع مضطرّ، وَقَدْ روى أبو داود عن عليّ رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المضطرّ، وفي "المسند" عن عليّ رضي الله عنه قَالَ:"سيأتي عَلَى النَّاس زمان يعض المؤمن عَلَى ما فِي يده، ولم يؤمر بذلك، قَالَ تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]، ويباع المضطرّون، وَقَدْ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطرّ"، وذكر الْحَدِيث. فأحمد رحمه الله تعالى أشار إلى أن العينة إنما تقع منْ رجل مضطرّ إلى نقد؛ لأن الموسر يضنّ عليه بالقرض، فيضطرّ إلى أن يشتري منه سلعة، ثم يبيعها، فإن اشتراها منه بائعها كانت عِينة، وإن باعها منْ غيره فهي التورّق، ومقصوده فِي الموضعين الثمن، فقد حصل فِي ذمته ثمن مؤجّل مقابل لثمن حالّ، أنقص منه، ولا معنى للربا إلا هَذَا، لكنه ربا بسلّم، لم يحصل له مقصوده إلا بمشقّة، ولو لم يقصده كَانَ ربا بسهولة.
(1)
الآخية بالمدّ: العروة فِي طرف الحبل تربط به الدابة، يعني أن التورّق يجر إلى الربا.
وللعينة صورة رابعة، وهي أخت صورها، وهي أن يكون عند الرجل المتاع، فلا يبيعه إلا نسيئة، ونصّ أحمد عَلَى كراهة ذلك، فَقَالَ: العينة أن يكون عنده المتاع، فلا يبيعه إلا بنسيئة، فإن باع بنسيئة ونقد فلا بأس. وَقَالَ أيضًا: أكره للرجل أن لا يكون له تجارة غير العينة، فلا يبيع بنقد. قَالَ ابن عقيل: إنما كره ذلك لمضارعته الربا، فإن البائع بنسيئة يقصد الزيادة غالبًا. وعللَّه شيخنا ابن تيميّة رحمه الله بأنه يدخل فِي بيع المضطرّ، فإن غالب منْ يشتري بنسيئة إنما يكون لتعذّر النقد عليه، فإذا كَانَ الرجل لا يبيع إلا بنسيئة كَانَ ربحه عَلَى أهل الضرورة والحاجة، وإذا باع بنقد ونسيئة، كَانَ تاجرًا منْ التجّار.
وللعينة صورة خامسة، وهي أقبح صورها، وأشدّها تحريمًا، وهي أن المترابيين يتواطآن عَلَى الربا، ثم يعمدان إلى رجل عنده متاع، فيشتريه منه المحتاج، ثم يبيعه للمرابي بثمن حالّ، ويقبضه منه، ثم يبيعه إياه للمرابي بثمن مؤجّل، وهو ما اتّفقا عليه، ثم يُعيد المتاع إلى ربّه، ويعطيه شيئًا، وهذه تسمّى الثلاثيّة؛ لأنها بين ثلاثة، وإذا كانت السلعة بينهما خاصّة فهي الثنائيّة، وفي الثلاثية قد أدخلا بينهما محلّلاً يزعمان أنه يحلّل لهما ما حرّم الله منْ الربا، وهو كمحلّل النكاح، فهذا محلّل الربا، وذلك محلّل الفروج، والله تعالى لا تخفى عليه خافية، بل يعلم خائنة الأعين، وما تُخفي الصدور. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله تعالى بطوله منْ "تهذيب السنن" 5/ 99 - 109. وهو بحث نفيسٌ مفيد جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
74 - (النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الثُّنْيَا حَتَّى تُعْلَمَ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الثّنيا" بالضمّ، والقصر، قَالَ الفيّوميّ:"والثُّنْيَا" بضم الثاء، مع الياء، و"الثَّنْوَى" بالفتح، مع الواو: اسم منْ الاستثناء، وفي الْحَدِيث:"منْ استثنى فله ثُنْياه": أي ما استثناه. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.
4635 -
(أَخْبَرَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ
حُسَيْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ:"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنِ الْمُحَاقَلَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ، وَالْمُخَابَرَةِ، وَعَنِ الثُّنْيَا إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح.
و"عبّاد بن العوّام": هو أبو سهل الواسطيّ الثقة [8]. و"سفيان بن حسين" الواسطيّ، ثقة فِي غير الزهريّ باتفاقهم [7]. و"يونس": هو ابن عُبيد الثقة الثبت العابد الفاضل البصريّ [5]. و"عطاء": هو ابن أبي رباح.
وقوله: "عن المحاقلة": هو بيع الطعام فِي سنبله بالبرّ، مأخوذ منْ الحقل، وهو الزرع، إذا تشعّب منْ قبل أن يغلُظ سوقه، وقيل: المحاقلة كراء الأرض ببعض ما يخرج منها، وقيل: غير ذلك.
وقوله: "والمزابنة": هو أن يبيع ثمر حائطه، إن كَانَ نخلاً بتمر كيلاً، وإن كرمًا أن يبيعه بزبيب كيلاً، وإن كَانَ زرعًا أن يبيعه بكيل طعام. مشتق منْ الزبن، وهو الدفع.
وقوله: "والمخابرة": هي والمزارعة متقاربتان، وهما المعاملة عَلَى الأرض ببعض ما يخرج منها منْ الزرع، وقيل: غير ذلك.
وقوله: "وعن الثّنيا إلا أن تُعلم": الثنيا -بضم المثلثة، وسكون النون-: المراد بها الاستثناء فِي البيع، نحو أن يبيع الرجل شيئا، ويستثني بعضه، فإن كَانَ الذي استثناه معلوما، نحو أن يستثني واحدة منْ الأشجار، أو منزلا منْ المنازل، أو موضعا معلوما منْ الأرض، صح بالاتفاق، وإن كَانَ مجهولا، نحو أن يستثني شيئا غير معلوم، لم يصح البيع، وَقَدْ قيل: إنه يجوز أن يستثني مجهول العين، إذا ضرب لاختياره مدة معلومة؛ لأنه بذلك صار كالمعلوم، قَالَ الشوكانيّ: وبه قالت الهادوية، وَقَالَ الشافعيّ: لا يصح؛ لما فِي الجهالة حال البيع منْ الغرر، وهو الظاهر؛ لدخول هذه الصورة تحت عموم الْحَدِيث، وإخراجها يحتاج إلى دليل، ومجرد كون مدة الاختيار معلومة، وإن صار به عَلَى بصيرة فِي التعيين بعد ذلك، لكنه لم يصر به عَلَى بصيرة حال العقد، وهو المعتبر.
والحكمة فِي النهي عن استثناء المجهول، ما يتضمنه منْ الغرر، مع الجهالة. انتهى "نيل الأوطار" 5/ 161.
وَقَالَ النوويّ فِي "شرح مسلم": الثنيا المبطلة للبيع قوله: بعتك هذه الصبرة، إلا بعضها، وهذه الأشجار، أو الأغنام، أو الثياب، ونحوها إلا بعضها، فلا يصح البيع؛ لأن المستثنى مجهول، فلو قَالَ: بعتك هذه الأشجار، إلا هذه الشجرة، أو هذه الشجرة إلا ربعها، أو الصبرة إلا ثلثها، أو بعتك بألف إلا درهما، وما أشبه ذلك منْ الثنيا
المعلومة، صح البيع بإتفاق العلماء، ولو باع الصبرة إلا صاعا منها، فالبيع باطل، عند الشافعيّ، وأبى حنيفة، وصحح مالك أن يستثنى منها ما لا يزيد عَلَى ثلثها، أما إذا باع ثمرة نخلات، فاستثنى منْ ثمر عشرة آصع مثلا للبائع، فمذهب الشافعيّ، وأبي حنيفة، والعلماء كافة بطلان البيع، وَقَالَ مالك، وجماعة منْ علماء المدينة: يجوز ذلك ما لم يزد عَلَى قدر ثلث الثمرة. انتهى "شرح مسلم" 10/ 437.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه كافّة العلماء منْ عدم صحّة الاستثناء المجهول، ولو كَانَ أقلّ منْ الثلث، هو الأرجح؛ لإطلاق الْحَدِيث، فتبصّر.
والحديث أخرجه مسلم، وَقَدْ تقدم سندًا، ومتنًا فِي "كتاب المزارعة" 45/ 3906 و3907 - وتقدّم شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4636 -
(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ، وَأَخْبَرَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُحَاقَلَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ، وَالْمُخَابَرَةِ، وَالْمُعَاوَمَةِ، وَالثُّنْيَا، وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.
و"إسماعيل بن إبراهيم": هو ابن عليّة المذكور فِي السند الثاني. و"زياد بن أيوب": هو المعروف بدلّويه. و"أيوب": هو السختيانيّ.
وقوله: "والمعاومة" وهو بيع السنين، ومعناه: أن يبيع ثمر الشجرة عامين، أو ثلاثةً، أو أكثر، فيُسمّى بيع المعاومة، وبيع السنين، وهو باطلٌ بالإجماع، نقل الإجماع فيه ابن المنذر، وغيره؛ لهذا الْحَدِيث؛ ولأنه بيع غرر؛ لأنه بيع معدوم، ومجهول، غير مقدور عَلَى تسليمه، وغير مملوك للعاقد. قاله النوويّ فِي "شرح مسلم" 10/ 434.
وقوله: "إلا العرايا": تقدم أنها فُسّرت بتفاسير، منها: انها نخل كانت توهب للمساكين، فلا يستطيعون أن ينتظروا بها، فرُخّص لهم أن يبيعوها بخرصها منْ التمر.
والحديث أخرجه مسلم، كما تقدّم بيانه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
***
75 - (النَّخْلُ يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَيَسْتَثْنِي الْمُشْتَرِي ثَمَرَهَا)
4637 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "أَيُّمَا امْرِىءٍ أَبَّرَ نَخْلاً، ثُمَّ بَاعَ أَصْلَهَا، فَلِلَّذِي أَبَّرَ ثَمَرُ النَّخْلِ، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ").
رجال هَذَا الإسناد: أربعة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.
2 -
(الليث) بن سعد الإِمام الحجة الثبت الفقيه المصريّ [7] 31/ 35.
3 -
(نافع) مولى ابن عمر المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت 12/ 12.
4 -
(ابن عمر) عبد الله رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (226) منْ رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه فيه مصريين، ومدنيين. (ومنها): أن فيه ابن عمر أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "أَيُّمَا امْرِىءٍ أَبَّرَ نَخْلاً) اسم جنس، يُذكّر، ويؤنث، والجمع نخيل. والتأبير: هو التلقيح، يقال: أَبَرْتُ النخل آبُرُه أَبْرًا، بوزن أكلت الشيء آكله أكلاً، ويقال: أَبَّرْتُهُ بالتشديد أؤَبِّرت تأبيرا، بوزن عَلَّمتُهُ أُعَلَّمه تعليما، والتأبير: التشقيق، والتلقيح، ومعناه: شَقُّ طلع النخلة الأنثى، ليُذَرّ فيه شيء منْ طلع النخلة الذكر، والحكم مستمر بمجرد التشقيق، ولو لم يَضَعْ فيه شيئا. قاله فِي "الفتح".
وَقَالَ الموفّق: أصل الإِبَار عند أهل العلم: التلقيح، قَالَ ابن عبد البرّ: إلا أنه لا يكون حَتَّى يتشقق الطلع، وتظهر الثمرة، فعبر به عن ظهور الثمرة؛ للزومه منه، والحكم متعلق بالظهور، دون نفس التلقيح، بغير اختلاف بين العلماء، يقال: أَبَرْتُ النخلة بالتخفيف، والتشديد، فهي مُؤَبَّرة، ومأبورة، ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "خير المال
سِكَّة مأبورة"
(1)
، والسكة النخل المصفوف، وأَبَرت النخلة آبُرها أَبْرًا، وِإبارًا، وأَبَّرتها تأبيرًا، وتأبرت النخلة، وائتبرت، ومنه قول الشاعر [منْ الرجز]:
تَأَبَّرِي يَا خَيْرَةَ الْفَسِيلِ
…
إِذْ ضَنَّ أَهْلُ النَّخْلِ بِالْفُحُولِ
يقول: تلقّحي منْ غير تأبير.
وفسر الخرقي المؤبر بما قد تشقق طلعه؛ لتعلق الحكم بذلك، دون نفس التأبير، قَالَ القاضي: وَقَدْ يشقه الصَّعَّاد، فيظهر، وأيهما كَانَ، فهو التأبير المراد هاهنا. انتهى "المغني" 6/ 130 بزيادة منْ "اللسان".
(ثُمَّ بَاعَ أَصْلَهَا) أي النخل، دون ذكر الثمر (فَلِلَّذِي أَبَّرَ) وهو البائع (ثَمَرُ النَّخْلِ) قد استدل بمنطوقه، عَلَى أن منْ باع نخلا، وعليها ثمرة مؤبرة، لم تدخل الثمرة فِي البيع، بل تستمر عَلَى ملك البائع، وبمفهومه عَلَى أنها، إذا كانت غير مؤبرة، تدخل فِي البيع، وتكون للمشتري، وبذلك قَالَ جمهور العلماء، وخالفهم الأوزاعي، وأبو حنيفة، فقالا: تكون للبائع قبل التأبير وبعده، وعكس ابن أبي ليلى، فَقَالَ: تكون للمشتري مطلقا، وهذا كله عند إطلاق بيع النخل، منْ غير تعرض للثمرة، فإن شرطها المشتري، بأن قَالَ: اشتريت النخل بثمرتها، كانت للمشتري، وإن شرطها البائع لنفسه قبل التأبير، كانت له، وخالف مالك، فَقَالَ: لا يجوز شرطها للبائع.
فالحاصل أنه يستفاد منْ منطوقه حكمان، ومن مفهومه حكمان: أحدهما: بمفهوم الشرط، والآخر بمفهوم الاستثناء.
قَالَ القرطبيّ: القول بدليل الخطاب، يعني بالمفهوم فِي هَذَا ظاهر؛ لأنه لو كَانَ حكم غير المؤبرة حكم المؤبرة، لكان تقييده بالشرط لغوا، لا فائدة فيه.
[تنبيه]: لا يشترط فِي التأبير أن يؤبره أحد، بل لو تأبر بنفسه لم يختلف الحكم، عند جميع القائلين به. قاله فِي "الفتح" 5/ 150.
(إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ) المراد بالمبتاع المشتري، بقرينه الإشارة إلى البائع، بقوله:"منْ باع"، وَقَدْ استُدِلّ بهذا الإطلاق، عَلَى أنه يصح اشتراط بعض الثمرة، كما يصح اشتراط جميعها، وكأنه قَالَ: إلا أن يشترط المبتاع شيئا منْ ذلك، وهذه هي النكتة فِي حذف المفعول، وانفرد ابن القاسم، فَقَالَ: لا يجوز له شرط بعضها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
أخرجه أحمد فِي "مسنده" 3/ 468 والطبرانيّ فِي "المعجم الكبير" 7/ 107. وهو حديث ضعيف، انظر "ضعيف الجامع الصغير" للشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى ص 429 رقم 2926.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفقٌ عليه.
[تنبيه]: اختُلف فِي إسناد هَذَا الْحَدِيث عَلَى نافع، وسالم، قَالَ الحافظ العراقيّ رحمه الله تعالى فِي "التقريب": عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "منْ باع نخلاً، قد أُبّرت، فثمرتها للبائع، إلا أن يشترط المبتاع".
وعن سالم، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"منْ باع عبدًا، وله مالٌ، فماله للبائع، إلا أن يشترط المبتاع، ومن باع نخلاً مؤبّرًا، فالثمرة للبائع، إلا أن يشترط المبتاع".
قَالَ البيهقيّ هكذا رواه سالم، وخالفه نافع، فروى قصّة النخل عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقصّة العبد عن ابن عمر، عن عمر، قَالَ مسلم، والنسائيّ، والدارقطنيّ: القول ما قَالَ نافعٌ، وإن كَانَ سالِمٌ أحفظ منه. وذكر الترمذيّ عن البخاريّ أن حديث سالم أصحّ، وذكر فِي "العلل" أنه سأل البخاريّ عنه؟ فكأنه رأى الحديثين صحيحين، وأنه يُحتَمل عنهما جميعًا. ورواه النسائيّ منْ رواية نافع، ورفع القصّتين، ورواه أيضًا منْ رواية نافع، وسالم، عن ابن عمر، عن عمر، مرفوعًا بالقصّتين". انتهى.
قَالَ وليّ الدين رحمه الله تعالى فِي "شرحه": أخرجه منْ الطريق الأولى الأئمّة الستّة، خلا الترمذيّ منْ هَذَا الوجه منْ طريق مالك، وأخرجه منْ الطريق الثانية الأئمة الستّة، فرواه منْ هَذَا الوجه مسلم، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، منْ طريق سفيان بن عيينة، وأخرجه الشيخان، والترمذيّ، وابن ماجه منْ حديث الليث بن سعد، وأخرجه مسلم فقط منْ رواية يونس بن يزيد، والنسائيّ، منْ رواية معمر، أربعتهم عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه.
(واعلم): أن قصّة العبد رواها نافع، عن ابن عمر، عن عمر منْ قوله، كذا روى عنه مالك فِي "الموطإ"، ومن طريقه أبو داود فِي "سننه". قَالَ ابن عبد البرّ: وهذا أحد الأربعة التي اختلف فيها سالمٌ ونافع عن ابن عمر. وَقَالَ البيهقيّ: هكذا رواه سالم، وخالفه نافع، فروى قصّة النخل، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقصّة العبد عن ابن عمر، عن عمر، ثم رواه منْ طريق مالك كذلك، قَالَ: وكذلك رواه أيوب السختيانيّ وغيره عن نافع. انتهى.
واختلف الأئمة فِي الأرجح منْ روايتي نافع وسالم عَلَى أقوال:
[أحدها]: ترجيح رواية نافع، روى البيهقيّ فِي "سننه" عن مسلم، والنسائيّ أنهما سُئلا عن اختلاف سالم ونافع فِي قصّة العبد؟ فقالا: القول ما قَالَ نافع، وإن كَانَ سالم
أحفظ منه. وَقَالَ النوويّ فِي "شرح مسلم": أشار النسائيّ، والدارقطنيّ إلى ترجيح رواية نافع، وهذه إشارة مردودة.
[القول الثاني]: ترجيح رواية سالم، قَالَ الترمذيّ فِي "جامعه": قَالَ محمد بن إسماعيل: وحديث الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحّ. قَالَ الحافظ العراقيّ رحمه الله فِي "شرح الترمذيّ": وسبقه إليه شيخه عليّ بن المدينيّ. وَقَالَ ابن عبد البرّ فِي "التمهيد": إنه الصواب، فإنه كذلك رواه عبد الله بن دينار، عن ابن عمر برفع القصّتين معًا، وهذا مرجّح لرواية سالم.
[القول الثالث]: تصحيحهما معًا، قَالَ الترمذيّ فِي "العلل": سألت محمدًا عن هَذَا الْحَدِيث، وقلت له: حديث الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"منْ باع عبدًا"، وَقَالَ نافع، عن ابن عمر، عن عمر، أيّهما أصحّ؟ قَالَ: إن نافعًا خالف سالمًا فِي أحاديث، وهذا منْ تلك الأحاديث، روى سالم، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ نافع، عن ابن عمر، عن عمر، كأنه رأى الحديثين صحيحين، وأنه يحتمل عنهما جميعًا.
قَالَ العراقيّ فِي "شرح الترمذيّ": وليس بين ما نقله عنه فِي "الجامع"، وما نقله عنه فِي "العلل" اختلافٌ، فحكمه عَلَى الحديثين بالصحّة، لا ينافي حكمه فِي "الجامع" بأن حديث سالم أصحّ، بل صيغة "أفعل" تقتضي اشتراكهما فِي الصحّة.
قَالَ وليّ الدين: المفهوم منْ كلام المحدّثين فِي مثل هَذَا، والمعروف منْ اصطلاحهم فيه أن المراد ترجيح الرواية التي قالوا: إنها أصحّ، والحكم للراجح، فتكون تلك الرواية شاذّة ضعيفة، والمرجّحة هي الصحيحة، وحينئذ فبين النقلين تناف، لكن المعتمد ما فِي "الجامع"؛ لأنه مقول بالجزم واليقين، بخلاف ما فِي "العلل"، فإنه عَلَى سبيل الظنّ والاحتمال، والله أعلم، عَلَى أن ما فِي "العلل" هو الذي يمشي عَلَى طريقة الفقهاء؛ لعدم المنافاة، بأن يكون ابن عمر سمعه منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن أبيه، فرفعه تارةً، وسمعه كذلك سالمٌ، ووقفه تارة، وسمعه كذلك نافع.
وَقَالَ النوويّ فِي "شرح مسلم": لم تقع هذه الزيادة، يعني قصّة العبد- فِي حديث نافع، عن ابن عمر، ولا يضرّ ذلك، فسالم ثقة، بل هو أجلّ منْ نافع، فزيادته مقبولة. انتهى.
قَالَ وليّ الدين: وما ذكرته عن سالم، ونافع هو المشهور عنهما، ورُوي عن نافع رفع القصّتين، رواه النسائيّ -أي فِي "العتق، والشروط منْ الكبرى"- منْ رواية شعبة، عن عبد ربّه بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر، فذكر القصّتين، مرفوعتين، قَالَ شعبة:
فحدّثه بحديث أيوب، عن نافع، أنه حدّثني بالنخل، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، والمملوك عن عمر، فَقَالَ عبد ربّه: لا أعلمهما جميعًا، إلا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم قَالَ مرّةً أخرى: فحدّث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يشكّ. ورواه ابن ماجه منْ رواية شعبة أيضًا مختصرًا:"منْ باع نخلاً، ومن باع عبدًا"، جميعًا، ولم يذكر قصّة أيوب. ورواه النسائيّ أيضًا -أي فِي "العتق، والشروط منْ الكبرى"- منْ رواية محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، مرفوعًا بالقصّتين، وَقَالَ: هَذَا خطأ، والصواب حديث ليث بن سعد، وعبيد الله، وأيوب: أي عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر بقصّة العبد خاصّة موقوفةً. ورواه النسائيّ أيضًا منْ رواية سفيان بن حسين، عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، عن عمر بالقصّتين، مرفوعًا. قَالَ أبو الحجّاج المزيّ: المحفوظ أنه منْ حديث ابن عمر. انتهى "طرح التثريب" 6/ 116 - 119.
وَقَالَ فِي "الفتح": واختلف عَلَى نافع وسالم، فِي رفع ما عدا النخل، فرواه الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، مرفوعا فِي قصة النخل والعبد معا، هكذا أخرجه الحفاظ عن الزهريّ، وخالفهم سفيان بن حسين، فزاد فيه ابن عمر، عن عمر، مرفوعا لجميع الأحاديث، أخرجه النسائيّ -أي فِي "العتق منْ الكبرى"، وروى مالك، والليث، وأيوب، وعبيد الله بن عمر، وغيرهم، عن نافع، عن ابن عمر قصة النخل، وعن ابن عمر، عن عمر قصة العبد موقوفة، كذلك أخرجه أبو داود، منْ طريق مالك بالإسنادين معا.
وجزم مسلم، والنسائي، والدارقطنيّ، بترجيح رواية نافع المفصلة، عَلَى رواية سالم، ومال علي بن المديني، والبخاري، وابن عبد البرّ، إلى ترجيح رواية سالم. ورُوي عن نافع رفع القصتين، أخرجه النسائيّ -أي فِي "العتق منْ الكبرى"- منْ طريق عبد ربه بن سعيد، عنه، وهو وَهَم، وَقَدْ رَوَى عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، قَالَ: ما هو إلا عن عمر شأن العبد، وهذا لا يدفع قول منْ صحح الطريقين، وجوز أن يكون الْحَدِيث عند نافع، عن ابن عمر عَلَى الوجهين. انتهى المقصود منْ "الفتح" 5/ 149. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -75/ 4637 و76/ 4638 - وفي "الكبرى" 76/ 6231 و77/ 6232. وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 2204 و"المساقاة" 2379 (م) فِي "البيوع" 1543 (د) فِي "البيوع" 3433 (ت) فِي "البيوع" 1244 (ق) فِي "التجارات" 2210 و2212 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 4488 و4538 و5140 و5284 و5463 و5515 (الموطأ) فِي
"البيوع" 1302 (الدارمي) فِي "البيوع"2448. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو أنه إذا بيعت النخل، وعليها ثمر، فاشترط المشتري ثمرها، فهي له. (ومنها): أنه إذا لم يشترط فإنه تكون للبائع. (ومنها): أنه استُدِلّ به عَلَى أن المؤبر، يخالف فِي الحكم غير المؤبر، وَقَالَ الشافعيّة: لو باع نخلة، بعضها مؤبر، وبعضها غير مؤبر، فالجميع للبائع، وإن باع نخلتين فكذلك يشترط اتحاد الصفقة، فإن أفرد فلكل حكمه، ويشترط كونهما فِي بستان واحد، فإن تعدد فلكل حكمه، ونص أحمد عَلَى أن الذي يؤبَّر للبائع، والذي لا يؤبر للمشتري، وجعل المالكية الحكم للأغلب.
(ومنها): جواز التأبير، وَقَدْ أخرج مسلم فِي "صحيحه" منْ طريق موسى بن طلحة، عن أبيه، قَالَ: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم، عَلَى رءوس النخل، فَقَالَ:"ما يصنع هؤلاء؟ "، فقالوا: يُلَقِّحُونه، يجعلون الذكر فِي الأنثى، فيلقح، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما أظن يغني ذلك شيئا"، قَالَ: فأُخبروا بذلك، فتركوه، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فَقَالَ: إن كَانَ ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا، فخذوا به، فإني لن أكذب عَلَى الله عز وجل".
وأخرج منْ طريق حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، وعن ثابت، عن أنس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مَرَّ بقوم، يُلَقِّحُون، فَقَالَ:"لو لم تفعلوا لصلح"، قَالَ: فخرج شِيصًا، فمر بهم، فَقَالَ:"ما لنخلكم؟ "، قالوا: قلت: كذا وكذا، قَالَ:"أنتم أعلم بأمر دنياكم".
(ومنها): أن الحكم المذكور مختص بإناث النخل، دون ذكوره، وأما ذكوره فللبائع نظرا إلى المعنى، ومن الشافعيّة منْ أخذ بظاهر التأبير، فلم يفرق بين أنثى وذكر.
واختلفوا فيما لو باع نخلة، وبقيت ثمرتها له، ثم خرج طلع آخر منْ تلك النخلة، فَقَالَ ابن أبي هريرة: هو للمشتري؛ لأنه ليس للبائع، إلا ما وُجد دون ما لم يوجد، وَقَالَ الجمهور: هو للبائع؛ لكونه منْ ثمره المؤبرة دون غيرها.
(ومنها): أنه يستفاد منه أن الشرط الذي لا ينافي مقتضى العقد، لا يفسد البيع، فلا يدخل فِي النهي عن بيع وشرط.
(ومنها): أن الطحاوي استَدَلَّ بهذا الْحَدِيث عَلَى جواز بيع الثمرة قبل بُدُوِّ صلاحها، واحتج به لمذهبه الذي حكيناه فِي ذلك، وَقَدْ تعقبه البيهقي وغيره، بأنه يَستَدِلُّ بالشيء فِي غير ما ورد فيه، حَتَّى إذا جاء ما ورد فيه، استَدَلّ بغيره عليه كذلك، فيُستدل لجواز
بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بحديث التأبير، ولا يَعمَل بحديث التأبير، بل لا فرق عنده كما تقدم فِي البيع قبل التأبير وبعده، فإن الثمرة فِي ذلك للمشتري، سواء شَرَطها البائع لنفسه، أو لم يشترطها، والجمع بين حديث التأبير، وحديث النهي عن بيع الثمرة قبل بُدُوّ الصلاح سهل، بأن الثمرة فِي بيع النخل تابعة للنخل، وفي حديث النهي مستقلة، وهذا واضح جدًّا، والله أعلم بالصواب. ذكره فِي "الفتح" 5/ 150. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فيمن باع نخلاً عليها ثمر:
قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: فِي هذه المسألة فصول ثلاثة: [الأول]: أن البيع متى وقع عَلَى نخل مثمر، ولم يشترط الثمرة، وكانت الثمرة مؤبرة، فهي للبائع، وإن كانت غير مؤبرة، فهي للمشتري، وبهذا قَالَ مالك، والليث، والشافعي. وَقَالَ ابن أبي ليلى: هي للمشتري فِي الحالين؛ لأنها متصلة بالأصل اتصال خلقة، فكانت تابعة له، كالأغصان. وَقَالَ أبو حنيفة، والأوزاعي: هي للبائع فِي الحالين؛ لأن هَذَا نماء له حَدٌّ، فلم يتبع أصله فِي البيع، كالزرع فِي الأرض.
واحتجّ الأولون بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "منْ ابتاع نخلا بعد أن تؤبر، فثمرتها للذي باعها، إلا أن يشترط المبتاع"، متَّفقٌ عليه، وهذا صريح فِي رَدّ قول ابن أبي ليلى، وحجة عَلَى أبي حنيفة، والأوزاعي، بمفهومه؛ لأنه جعل التأبير حدّا لملك البائع للثمرة، فيكون ما قبله للمشتري، وإلا لم يكن حدا، ولا كَانَ ذكر التأبير مفيدا، ولأنه نماء كامن لظهوره غاية، فكان تابعا لأصله قبل ظهوره، وغير تابع له بعد ظهوره، كالحمل فِي الحيوان، فأما الأغصان، فإنها تدخل فِي اسم النخل، وليس لانفصالها غاية، والزرع ليس منْ نماء الأرض، وإنما هو مودع فيها.
[الثاني]: أنه متى اشترطها أحد المتبايعين، فهي له مُؤَبَّرة كانت، أو غير مؤبرة، البائع فيه والمشتري سواء. وَقَالَ مالك: إن اشترطها المشتري بعد التأبير جاز؛ لأنه بمنزلة شرائها مع أصلها، وإن اشترطها البائع قبل التأبير لم يجز؛ لأن اشتراطه لها بمنزلة شرائه لها قبل بُدُوّ صلاحها بشرط تركها.
قَالَ: ولنا أنه استثنى بعض ما وقع عليه العقد، وهو معلوم، فصح كما لو باع حائطا، واستثنى نخلة بعينها، ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"نَهَى عن الثنيا، إلا أن تُعلَم"، ولأنه أحد المتبايعين، فصحّ اشتراطه للثمرة كالمشتري، وَقَدْ ثبت الأصل بالإتفاق عليه، وبقوله عليه السلام:"إلا أن يشترطها المبتاع"، ولو اشترط أحدهما جزءا منْ الثمرة معلوما، كَانَ ذلك كاشتراط جميعها فِي الجواز، فِي قول جمهور الفقهاء، وقول أشهب
منْ أصحاب مالك. وَقَالَ ابن القاسم: لا يجوز اشتراط بعضها؛ لأن الخبر إنما ورد باشتراط جميعها.
قَالَ: ولنا أن ما جاز اشتراط جميعه، جاز اشتراط بعضه، كمدة الخيار، وكذلك القول فِي ما إذا اشترط بعضه.
[الثالث]: أن الثمرة إذا بقيت للبائع، فله تركها فِي الشجر، إلى أوان الجذاذ، سواء استحقها بشرطه، أو بظهورها، وبه قَالَ مالك، والشافعي. وَقَالَ أبو حنيفة: يلزمه قطعها، وتفريغ النخل منها؛ لأنه مبيع مشغول بملك البائع، فلزم نقله، وتفريغه، كما لو باع دارا فيها طعام، أو قُماش له.
قَالَ: ولنا أن النقل والتفريغ للمبيع عَلَى حسب العرف والعادة، كما لو باع دارا، فيها طعام، لم يجب نقله إلا عَلَى حسب العادة فِي ذلك، وهو أن ينقله نهارا، شيئا بعد شيء، ولا يلزمه النقل ليلاً، ولا جمع دواب البلد لنقله، كذلك هاهنا يُفَرّغ النخل منْ الثمرة فِي أوان تفريغها، وهو أوان جذاذها، وقياسه حجة لنا؛ لما بيناه.
إذا تقرر هَذَا، فالمرجع فِي جذّه إلى ما جرت به العادة، فإذا كَانَ المبيع نخلا، فحين تتناهى حلاوة ثمره، إلا أن يكون مما بُسره خير منْ رُطَبه، أو ما جرت العادة بأخذه بسرا، فإنه يجذّه حين تَستحكم حلاوة بسره؛ لأن هَذَا هو العادة، فإذا استحكمت حلاوته، فعليه نقله، وإن قيل بقاؤه فِي شجره خير له، وأَبقَى فعليه النقل؛ لأن العادة فِي النقل، قد حصلت، وليس له إبقاؤه بعد ذلك، وإن كَانَ المبيع عنبا، أو فاكهة سواه، فأخذه حين يتناهى إدراكه، وتستحكم حلاوته، ويُجذّ مثله، وهذا قول مالك، والشافعي. انتهى "المغني" 6/ 130 - 133. وهو بحث نفيسٌ جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
76 - (الْعَبْدُ يُبَاعُ، وَيَسْتَثْنِي الْمُشْتَرِي مَالَهُ)
4638 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"مَنِ ابْتَاعَ نَخْلاً بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ، فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ، وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ، فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه الحنظليّ المروزيّ، ثقة ثبت [10] 2/ 2.
2 -
(سفيان) بن عيينة الإِمام المكيّ، ثقة ثبت [8] 1/ 1.
3 -
(الزهريّ) محمد بن مسلم المدنيّ، ثقة ثبت حجة [4] 1/ 1.
4 -
(سالم) بن عبد الله بن عمر العدويّ المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 23/ 490.
5 -
(أبوه) عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فمروزيّ، وسفيان، فمكيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه أحد الفقهاء السبعة المعروفين بالمدينة، وهو سالم، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أنه منْ أصحّ أسانيد ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وفيه ابن عمر أحد المكثرين السبعة، وأحد العبادلة الأربعة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ سَالِم) بن عبد الله بن عمر رحمه الله تعالى (عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهما (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنِ ابْتَاَعَ) أي اشترى (نَخْلاً بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ) تقدم ضبطها، ومعناها فِي الباب الماضي (فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ) أي المشتري (وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ) جملة فِي محلّ نصب صفة لـ"عبدًا"، قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: قوله: "وله مال": هي إضافة مجازيّةٌ، عند غالب العلماء، كإضافة الجلّ إلى الفرس؛ لأن العبد لا يملك، ولذلك أُضيف المال إلى البائع فِي قوله:"فماله للبائع"، ولا يمكن مثله مع كون الإضافة حقيقيّة فِي المحلّين. وقيل: المال للعبد، لكن للسيّد حقّ النزع منه. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: القول الثاني هو الحقّ عندي؛ كما سيأتي تمام البحث فيه فِي المسألة الثانية، إن شاء الله تعالى.
(فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبتَاعُ) أي المشتري، وهذا هو معنى قول المصنّف:
"ويستثني المشتري ماله". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
وقوله: "ومن باع عبدًا" الجارية فِي ذلك كالعبد، وهذا متّفقٌ عليه، حَتَّى منْ أهل الظاهر، وَقَالَ ابن حزم: لفظ العبد يقع فِي اللغة العربيّة عَلَى جنس العبد والإماء؛ لأن العرب تقول: عبد، وعبدة، والعبد اسم للجنس، كما تقول: الإنسان، والفرس، والحمار. قاله فِي "طرح التثريب" 6/ 124.
والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم تخريجه فِي الباب الماضي، وإنما نبحث هنا عما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، فأقول فيه مسألتان:
(المسألة الأولى): فِي اختلاف أهل العلم فيمن باع عبدًا، وله مالٌ:
قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: إذا باع السيّد عبده، أو جاريته، وله مال، ملّكه إياه مولاه، أو خصه به، فهو للبائع؛ لما رَوَى ابنُ عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"منْ باع عبدا، وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع"، متّفقٌ عليه، ولأن العبد، وماله للبائع، فإذا باع العبد، اختَصّ البيع به دون غيره، كما لو كَانَ له عبدان، فباع أحدهما، وإن اشترطه المبتاع، كَانَ له للخبر، وروى ذلك نافع عن ابن عمر، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وقضى به شريح، وبه قَالَ عطاء، وطاوس، ومالك، والشافعي، وإسحاق، وَقَالَ الْخِرَقيّ: إذا كَانَ قصده للعبد لا للمال، هَذَا منصوص أحمد، وهو قول الشافعيّ، وأبي ثور، وعثمان الْبَتّيّ، ومعناه أنه لا يقصد بالبيع شراء مال العبد، إنما يقصد بقاء المال لعبده، وإقراره فِي يده، فمتى كَانَ كذلك صح اشتراطه، ودخل فِي البيع به، سواء كَانَ المال معلوما، أو مجهولا، منْ جنس الثمن، أو منْ غيره، عينا كَانَ أو دينا، وسواء كَانَ مثل الثمن، أو أقل، أو أكثر، قَالَ البتى: إذا باع عبدا بألف درهم، ومعه ألف درهم، فالبيع جائز، إذا كانت رغبة المبتاع فِي العبد، لا فِي الدراهم، وذلك لأنه دخل فِي البيع تبعا غير مقصود، فأشبه أساسات الحيطان، والتمويه بالذهب فِي السقوف، فأما إن كَانَ المال مقصودا بالشراء، جاز اشتراطه، إذا وجدت فيه شرائط البيع منْ العلم به، وأن لا يكون بينه وبين الثمن ربا، كما يعتبر ذلك فِي العينين المبيعتين؛ لأنه مبيع مقصود، فأشبه ما لو ضَمّ إلى العبد عينا أخرى وباعهما، وَقَالَ القاضي: هَذَا ينبني عَلَى كون العبد يملك، أو لا يملك، فإن قلنا: لا يملك فاشترط المشتري ما له صار مبيعا معه، فاشتُرِط فيه ما يشترط فِي سائر المبيعات، وهذا مذهب أبي حنيفة، وإن قلنا: يملك احتُمِلت فيه الجهالةُ وغيرها، مما ذكرنا منْ قبل، لأنه تبع فِي البيع، لا أصل، فأشبه طيّ الآبار، وهذا خلاف نص أحمد، وقولِ الخرقي؛ لأنهما جعلا الشرط الذي يختلف الحكم به، قصد المشتري دون غيره، وهو أصح إن شاء الله تعالى، واحتمال الجهالة فيه؛ لكونه غير مقصود كما ذكرنا، كاللبن
فِي ضرع الشاة المبيعة، والحمل فِي بطنها، والصوف عَلَى ظهرها، وأشباه ذلك، فإنه مبيع، ويُحتَمَل فيه الجهالة وغيرها؛ لما ذكرنا، وَقَدْ قيل: إن المال ليس بمبيع هاهنا، وإنما استبقاء المشتري عَلَى ملك العبد، لا يزول عنه إلى البائع، وهو قريب منْ الأول. انتهى "المغني" 6/ 257 - 258. وهو بحث نفيسٌ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): فِي اختلاف أهل العلم، هل يملك العبد المال، أم لا؟:
ذهب عامّة أهل العلم، إلى أنه لا يملك شيئا، إذا لم يُمَلِّكه سيده، وَقَالَ أهل الظاهر: يملك؛ لدخوله فِي عموم قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} الآية [البقرة: 29]، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"منْ باع عبدا، وله مال"، فأضاف المال إليه بلام التمليك.
واحتجّ الأولون بقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} الآية [النحل: 75]، ولأن سيده يَملِك عينه ومنافعه، فما حصل بذلك يجب أن يكون لسيده كبهيمته، قَالَ الموفّق: فأما إن ملكه سيده شيئا، ففيه روايتان:
[إحداهما]: لا يملكه، وهو ظاهر قول الخرقي، فإنه قَالَ: والسيد يُزَكّي عما فِي يد عبده؛ لأنه ملكه، وَقَالَ: والعبد لا يرث، ولا مال له، فيورث عنه، وهو اختيار أبي بكر، وقولُ أبي حنيفة، والثوري، وإسحاق، والشافعي فِي الجديد؛ لأنه مملوك، فلم يملك كالبهيمة. [والثانية]: يملك، قَالَ الموفّق: وهي أصح عندي، وهو قول مالك، والشافعي فِي القديم؛ للآية، والخبر، ولأنه آدمي حيّ، فملك كالحر، ولأنه يملك فِي النكاح، فملك فِي المال كالحر، ولأنه يصح الإقرار له، فأشبه الحر، وما ذكروه تعليل بالمانع، ولا يثبت اعتباره، إلا أن يوجد المقتضي فِي الأصل، ولم يوجد فِي البهيمة ما يقتضي ثبوت الملك لها، وإنما انتفى ملكها لعدم المقتضي له، لا لكونها مملوكة، وكونها مملوكة عديم الأثر، فإن سائر البهائم التي ليست مملوكة، منْ الصيود والوحوش، لا تملك، وكذلك الجمادات، وإذا بطل كون ما ذكروه مانعا، وَقَدْ تحقق المقتضي، لزم ثبوت حكمه. والله أعلم. انتهى كلام الموفّق رحمه الله تعالى، "المغني" 6/ 259 - 260. وهو تحقيقٌ حسنٌ جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
***
77 - (الْبَيْعُ يَكُونُ فِيهِ الشَّرْطُ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ وَالشَّرْطُ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: المراد بالشرط هنا الشرط الصحيح، بدليل قوله فِي الترجمة التالية:"البيع يكون فيه الشرط الفاسد، فيصحّ البيع، ويبطل الشرط، فمعنى كلامه هنا: أن البيع إذا شُرط فيه شرط صحيح، مثل اشتراط الرهن، أو الضمين، أو مثل ركوب الدابّة إلى مسافة معلومة، كما وقع لجابر رضي الله عنه، صحّ البيع، ولزم الشرط معًا، وهكذا جزم رحمه الله تعالى بصحة البيع والشرط معًا، مع أن المسألة فيها خلاف؛ لرجحان دليله عنده، ونحوه صنيع الإِمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه"، حيث قَالَ: "بابٌ إذا اشترط البائع ظهر الدابة، إلى مكان مسمى جاز": قَالَ فِي "الفتح": هكذا جزم بهذا الحكم لصحة دليله عنده، وهو مما اختُلِف فيه، وفيما يشبهه، كاشتراط سكنى الدار، وخدمة العبد، فذهب الجمهور إلى بطلان البيع؛ لأن الشرط المذكور ينافي مقتضى العقد، وَقَالَ الأوزاعي، وابن شبرمة، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وطائفة، يصح البيع، ويتنزل فيه الشرط منزلة الاستثناء؛ لأن المشروط إذا كَانَ قدره معلوما، صار كما لو باعه بألف إلا خمسين درهما مثلا، ووافقهم مالك فِي الزمن اليسير، دون الكثير، وقيل: حده عنده ثلاثة أيام، وحجتهم حديث الباب، وَقَدْ رجح البخاريّ فيه الاشتراط، كما سيأتي آخر كلامه.
وأجاب عنه الجمهور، بأن ألفاظه أختلفت، فمنهم: منْ ذكر فيه الشرط، ومنهم منْ ذكر فيه ما يدل عليه، ومنهم منْ ذكر ما يدل عَلَى أنه كَانَ بطريق الهبة، وهي واقعة عين، يطرُقها الاحتمال، وَقَدْ عارضه حديث عائشة، فِي قصة بريرة، ففيه بطلان الشرط المخالف لمقتضى العقد، كما تقدم بسطه فِي آخر العتق، وصح منْ حديث جابر أيضا: النهي عن بيع الثنيا، أخرجه أصحاب "السنن"، وإسناده صحيح، وورد النهي عن بيع وشرط. وأجيب بأن الذي ينافي مقصود البيع، ما إذا اشترط مثلا فِي بيع الجارية أن لا يطأها، وفي الدار أن لا يسكنها، وفي العبد أن لا يستخدمه، وفي الدابة أن لا يركبها، أما إذا اشترط شيئا معلوما لوقت معلوم، فلا بأس به. وأما حديث النهي عن الثنيا، ففي نفس الْحَدِيث "إلا أن تعلم"، فعُلم أن المراد أن النهي إنما وقع عما كَانَ مجهولا. وأما حديث النهي عن بيع وشرط، ففي إسناده مقال، وهو قابل للتأويل، وسيأتي مزيد بسط لذلك فِي آخر الكلام عَلَى هَذَا الْحَدِيث إن شاء الله تعالى. انتهى ما فِي "الفتح" 5/ 657.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الحاصل أن ما ذهب إليه المصنّف، والبخاريّ، وهو مذهب الأوزاعيّ، وابن شبرمة، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وطائفة منْ أن الشرط الصحيح فِي البيع يصحّ البيع معه هو الحقّ؛ لقوّة دليله، فتأمل. والله تعالى أعلم بالصواب.
4639 -
(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سَعْدَانُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَأَعْيَا جَمَلِي، فَأَرَدْتُ أَنْ أُسَيِّبَهُ، فَلَحِقَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَدَعَا لَهُ، فَضَرَبَهُ، فَسَارَ سَيْرًا لَمْ يَسِرْ مِثْلَهُ، فَقَالَ: "بِعْنِيهِ بِوُقِيَّةٍ"، قُلْتُ: لَا، قَالَ: "بِعْنِيهِ"، فَبِعْتُهُ بِوُقِيَّةٍ، وَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلَانَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا بَلَغْنَا الْمَدِينَةَ، أَتَيْتُهُ بِالْجَمَلِ، وَابْتَغَيْتُ ثَمَنَهُ، ثُمَّ رَجَعْتُ، فَأَرْسَلَ إِلَيَّ، فَقَالَ: "أَتُرَانِي إِنَّمَا مَاكَسْتُكَ لآخُذَ جَمَلَكَ، خُذْ جَمَلَكَ، وَدَرَاهِمَكَ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(عليّ بن حجر) السعديّ المروزي، ثقة حافظ، منْ صغار [9] 13/ 13.
2 -
(سعدان بن يحيى) هو سعيد بن يحيى بن صالح اللَّخْميّ، أبو يحيى الكوفيّ، نزيل دمشق، و"سعدان" لقبه، صدوقٌ وسطٌ [9].
رَوَى عن أبيه، وإسماعيل بن أبي خالد، وهشام بن عروة، والأعمش، وموسى بن عُبيدة الرَّبَذِيّ، وإسرائيل، وزكرياء بن أبي زائدة، وجعفر بن بُرْقان، وصدقة بن أبي عمران، وعبد الحميد بن جعفر، وابن إسحاق، ومحمد بن أبي حفصة، ومحمد بن عمرو بن علقمة، ويونس بن يزيد الأيلي، وشعبة، وحماد بن سلمة، وابن جريج، وأبي هلال الراسبي، وورقاء، وهمام، وغيرهم. وعنه أبو النضر الْفَرَادِيسِيّ، وسليمان بن عبد الرحمن، وعلي بن حجر، وهشام بن عمار، وغيرهم.
قَالَ عثمان الدارمي، عن دُحَيم: ما هو عندي ممن يُتَّهم بالكذب. وَقَالَ أبو حاتم: محله الصدق. وَقَالَ ابن حبّان: ثقة، مأمون، مستقيم الأمر فِي الْحَدِيث. وَقَالَ الدارقطنيّ: ليس بذاك. روى له البخاريّ، والمصنّف، وابن ماجه، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط، قَالَ الحافظ: وله فِي "صحيح البخاريّ" حديث واحد، فِي غزوة الفتح، رواه عن سليمان بن عبد الرحمن، عنه، عن محمد بن أبي حفصة، عن الزهريّ، وأصل الْحَدِيث عنده، منْ طريق أخرى عن الزهريّ.
[تنبيه]: وقع فِي النسخ المطبوعة منْ "المجتبى"، و"الكبرى" فِي هَذَا الاسم تصحيف، ونصّه:"قَالَ: أنبأنا سعدٌ أنّ ابن يحيى الخ"، وهو غلط فاحش، والصواب ما هنا:"سعدان بن يحيى"، كما هو فِي النسخة "الهنديّة"، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
3 -
(زكريّا) بن أبي زائدة خالد، ويقال: هبيرة بن ميمون بن فيروز الهمدانيّ الوادعيّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقة، يدلس [6] 93/ 115.
4 -
(عامر) بن شراحيل الشعبيّ، أبو عمرو الكوفيّ، ثقة فقيه فاضل [3] 66/ 82.
5 -
(جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السلميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ 31/ 35. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فمروزيّ، وجابر رضي الله عنه، فمدنيّ. (ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1540) منْ الْحَدِيث. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ) كذا أبهم السفر، ولم يعيّنه، وكذا وقع فِي رواية للبخاريّ منْ طريق أبي المتوكل، عن جابر رضي الله عنه، بلفظ:"فِي بعض أسفاره"، قَالَ فِي "الفتح": وكذا أبهمه أكثر الرواة عن جابر، ومنهم منْ قَالَ:"كنت فِي سفر"، ومنهم منْ قَالَ:"كنت فِي غزوة تبوك"، ولا منافاة بينهما، وفي رواية أبي المتوكل فِي "الجهاد":"لا أدري غزوة، أو عمرة"، ويؤيد كونه كَانَ فِي غزوة، قوله فِي آخر رواية أبي عوانة، عن مغيرة:"فأعطاني الجمل وثمنه، وسهمي مع القوم"، لكن جزم ابن إسحاق، عن وهب بن كيسان، بأن ذلك كَانَ فِي غزوة ذات الرقاع، منْ نخل، وكذا أخرجه الواقدي، منْ طريق عطية بن عبد الله بن أنيس، عن جابر، قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: وهي الراجحة فِي نظري؛ لأن أهل المغازي أضبط لذلك، منْ غيرهم، وأيضا فقد وقع فِي رواية الطحاوي: أن ذلك وقع فِي رجوعهم منْ طريق مكة إلى المدينة، وليست طريقُ تبوك ملاقية لطريق مكة، بخلاف طريق غزوة ذات الرقاع، وأيضا فإن فِي كثير منْ طرقه: أنه صلى الله عليه وسلم سأله فِي تلك القصة: "هل تزوجت؟ "، قَالَ: نعم، قَالَ:"أتزوجت بكرا، أم ثيبا؟ "، الْحَدِيث، وفيه اعتذاره بتزوجه الثيب، بأن أباه استُشهِد بأحد، وترك أخواته، فتزوج ثيبا لتمشطهن، وتقوم عليهن، فأشعر بأن ذلك كَانَ بالقرب منْ وفاة أبيه، فيكون وقوع القصة فِي ذات الرقاع أظهر، منْ وقوعها فِي تبوك؛ لأن ذات الرقاع كانت بعد أحد بسنة واحدة، عَلَى الصحيح، وتبوك كانت بعدها بسبع سنين، والله أعلم، لا جرم جزم البيهقي فِي
"الدلائل" بما قَالَ ابن إسحاق. انتهى "فتح" 5/ 664 - 665.
(فَأَعْيَا جَمَلِي) أي تعب، وعجز عن السير، قَالَ الفيّوميّ: عَيِيَ بالأمر، وعن حُجّته يَعْيَا، منْ باب تَعِب عِيّا: عجز عنه، وَقَدْ يُدغم الماضي، فيقال: عَيَّ، فالرجل عَيٌّ، وعَيِيٌّ، عَلَى فَعْلٍ، وفَعِيلٍ، وعَيِيَ لم يَهتد لوجهه، وأعياني كذا بالألف: أتعبني، فأعييت، يُستعمل لازمًا، ومتعدِّيًا، وأعيا فِي مشيه، فهو مُعْيٍ، منقوص. انتهى.
(فَأَرَدْتُ أَنْ أُسَيِّبَهُ) بضم الهمزة، وتشديد الياء، منْ التسييب: أي أطلقه، وأتركه فِي مكان، وليس المراد أن يجعله سائبة، لا يركبه أحد، كما كانوا يفعلون فِي الجاهلية؛ لأنه لا يجوز فِي الإِسلام، ففي أول رواية مغيرة، عن الشعبي عند البخاريّ فِي "الجهاد":"غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلاحق بي، وتحتي ناضح لي، قد أعيا، فلا يكاد يسير": والناضح -بنون، ومعجمة، ثم مهملة-: هو الجمل الذي يُستقي عليه سُمّي بذلك لنضحه بالماء، حال سقيه. ووقع عند البزار، منْ طريق أبي المتوكل، عن جابر رضي الله عنه: أن الجمل كَانَ أحمر. قاله فِي "الفتح" 5/ 658.
(فَلَحِقَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَدَعَا لَهُ، فَضَرَبَهُ) وفي رواية مغيرة، عن الشعبيّ التالية لهذه الرواية:"فأُزحِف الجملُ، فزجره النبيّ صلى الله عليه وسلم، فانتشط، حَتَّى كَانَ أمام الجيش"، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: يا جابر، ما أرى جملك إلا قد انتشط، قلت: ببركتك يا رسول الله"، وفي رواية البخاريّ: "فمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فضربه، فدعا له"، قَالَ فِي "الفتح": كذا فيه بالفاء فيهما، كأنه عقب الدعاء له بضربه، ولمسلم، وأحمد منْ هَذَا الوجه: "فضربه برجله، ودعا له"، وفي رواية يونس بن بكير، عن زكريا عند الإسماعيلي: "فضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا له، فمشا مِشْيَةً، ما مشى قبل ذلك مثلها"، وفي رواية مغيرة: "فزجره، ودعا له"، وفي رواية عطاء وغيره، عن جابر، عند البخاريّ فِي "الوكالة": "فمرّ بي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: منْ هَذَا؟ قلت: جابر بن عبد الله، قَالَ: مالك؟ قلت: إني عَلَى جمل ثِفَال، قَالَ: أمعك قضيب؟ قلت: نعم، قَالَ:"أعطنيه، فأعطيته، فضربه، فزجره، فكان منْ ذلك المكان منْ أول القوم"، وفي رواية وهب بن كيسان، عن جابر، عند البخاريّ فِي "البيوع":"فتخلف، فنزل، فحجنه بِمِحْجَنِهِ، ثم قَالَ: اركب، فركبت، فقد رأيته أكفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم". وعند أحمد منْ هَذَا الوجه: "فقلت: يا رسول الله، أبطأ بي جملي هَذَا، قَالَ: أَنِخْهُ، وأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قَالَ: أعطني هذه العصا، أو اقطع لي عصا منْ شجرة، ففعلت، فأخذها، فنخسه بها نخسات، فَقَالَ: اركب، فركبت"، وللطبراني منْ رواية زيد بن أسلم، عن جابر، فأبطأ عليّ، حَتَّى ذهب النَّاس، فجعلت أرقبه، ويهمني شأنه، فإذا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أجابر، قلت:
نعم، قَالَ: ما شأنك؟ قلت: أبطأ علي جملي، فنَفَث فيها، أي العصا، ثم مَجَّ منْ الماء فِي نحره، ثم ضربه بالعصا، فوثب"، ولابن سعد منْ هَذَا الوجه: "ونضح ماء فِي وجهه، ودبره، وضربه بعُصية، فانبعث، فما كدت أمسكه"، وفي رواية أبي الزبير، عن جابر، عند مسلم: "فكنت بعد ذلك أحبس خطامه؛ لأسمع حديثه"، وله منْ طريق أبي نضرة، عن جابر: "فنخسه، ثم قَالَ: اركب بسم الله"، زاد فِي رواية مغيرة المذكورة: "فَقَالَ: كيف ترى بعيرك؟ قلت: بخير، قد أصابته بركتك". أفاده فِي "الفتح" 5/ 658.
(فَسَارَ سَيْرًا لَمْ يَسِرْ مِثْلَهُ) أي فِي الإسراع (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (بِعْنِيهِ بِوُقِيَّةٍ، قُلْتُ: لَا) وفي رواية مغيرة التالية: "وكانت لي إليه حاجة شديدة"، وفي رواية أحمد:"فكرهت أن أبيعه"، وفي رواية للبخاريّ:"قَالَ: أتبيعنيه؟، فاستحييت، ولم يكن لنا ناضح غيره، فقلت: نعم"، ولأحمد منْ رواية نُبَيح وهو بالنون والموحدة والمهملة، مصغرًا- وفي رواية أبي الزبير الآتية:"قَالَ: ما فَعَل جملك؟ بعنيه، قلت: لا، بل هو لك يا رسول الله، قَالَ: لا، بل بعنيه، قلت: لا، بل هو لك يا رسول الله، قَالَ: لا، بل بعنيه، قد أخذته بوقيّة"، وفي رواية أبي الزبير أيضًا التي بعدها:"تبيعنيه يا جابر؟ قلت: لا، بل هو لك يا رسول الله، قَالَ: اللَّهم اغفر له، اللَّهم ارحمه، قد أخذته بكذا وكذا"، وفي رواية أبي نضرة، عن جابر الأخيرة:"أتبيعنيه بكذا وكذا، والله يغفر لك، قلت: نعم، هو لك يا نبيّ الله، قَالَ: أتبيعنيه بكذا وكذا، والله يغفر لك، قلت: نعم، هو لك يا نبيّ الله، قَالَ: أتبيعنيه بكذا وكذا؟ والله يغفر لك، قلت: نعم، قَالَ أبو نضرة: وكانت كلمة يقولها المسلمون افعل كذا وكذا، والله يغفر لك"، ولأحمد: قَالَ سليمان -يعني بعض رواته- فلا أدري كم منْ مرة -يعني قَالَ له: والله يغفر لك، وللمصنّف فِي "المناقب" رقم 8248 - منْ طريق أبي الزبير، عن جابر:"استغفر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة البعير، خمسا وعشرين مرة"، وفي رواية وهب بن كيسان، عن جابر، عند أحمد:"أتبيعني جملك هَذَا يا جابر؟ قلت: بل أهبه لك، قَالَ: لا، ولكن بعنيه". قَالَ الحافظ: وفي كل ذلك رَدّ لقول ابن التين: إن قوله: "لا"، ليس بمحفوظ فِي هذه القصة انتهى.
(قَالَ: "بِعْنِيهِ"، فَبِعْتُهُ بِوُقِيَّةٍ) وفي رواية سالم بن أبي الجعد، عن جابر الآتية فِي هَذَا الباب:"قد أخذته بوقية"، ولابن سعد، وأبي عوانة، منْ هَذَا الوجه:"فلما أكثر علي قلت: إن لرجل عليّ أوقية منْ ذهب، هو لك بها، قَالَ: نعم".
و"الوقيّة" بضم الواو، لغة فِي "الأُوقيّة" بضم الهمزة، قَالَ الفيّوميّ:"الأُوقيّة" بضمّ الهمزة، وبالتشديد، وهي عند العرب: أربعون درهمًا، وهي فِي تقدير أُفْعُولةٍ،
كالأُعْجُوبة، والأُحْدُوثة، والجمع الأَوَاقييُّ بالتشديد، وبالتخفيف للتخفيف، وَقَالَ ثَعْلَبٌ فِي باب المضموم أوّلُهُ: وهي الأوقيّة، والْوُقِيّة، لغة، وهي بضمّ الواو، هكذا هي مضبوطة فِي كتاب ابن السّكّيت، وَقَالَ الأزهريّ: قَالَ الليث: الوقيّة: سبعة مثاقيل، وهي مضبوطة بالضمّ أيضًا، قَالَ الْمُطَرَّزيّ: وهكذا هي مضبوطة فِي "شرح السنّة" فِي عدّة مواضع، وجرى عَلَى ألسنة النَّاس بالفتح، وهي لغة حكاها بعضهم، وجمعها وَقَايَا، مثلُ عطيّة وعَطَايَا.
وَقَالَ فِي "الفتح": والْوُقِيّة منْ الفضة كانت فِي عرف ذلك الزمان أربعين درهما، وفي عرف النَّاس بعد ذلك عشرة دراهم، وفي عرف أهل مصر اليوم اثنا عشر درهما، وسيأتي بيان الاختلاف فِي قدر الثمن فِي آخر الكلام عَلَى هَذَا الْحَدِيث، إن شاء الله تعالى.
(وَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلَانَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ) الحُمْلان -بضم الحاء المهملة، وسكون الميم-، والمفعول محذوف: أي استثنيتُ حمله إياي، وَقَدْ رواه الإسماعيلي بلفظ:"واستثنيت ظهره إلى أن نَقْدَم"، ولأحمد منْ طريق شريك، عن مغيرة:"اشترى مني بعيرًا، عَلَى أن يُفْقِرَني ظهره سفري ذلك"، وَقَدْ ذكر البخاريّ رحمه الله تعالى الاختلاف فِي ألفاظه عن جابر، وسيأتي بيانه قريبًا، إن شاء الله تعالى.
وَقَالَ السنديّ: وبظاهره أخذ أحمد، اشتراط ركوب الدابّة فِي بيعها مطلقًا، وَقَالَ مالك: بجوازه، إن كانت المسافة قريبة، كما كانت فِي قضيّة جابر، ومن لا يجوّز ذلك مطلقًا يقول: ما كَانَ ذلك شرطا فِي العقد، بل أعطاه النبيّ صلى الله عليه وسلم تكرّمًا، وسمّاه بعض الرواة شرطًا، وبعض روايات الْحَدِيث يفيد أنه كَانَ إعارة. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: جواز الاشتراط هو الحقّ، كما سبق، ويأتي تمام البحث فيه قريبًا، إن شاء الله تعالى.
(فَلَمَّا بَلَغْنَا الْمَدِينَةَ) وفي رواية البخاريّ: "فلما قَدِمنا" زاد مغيرة عن الشعبي فِي الرواية الآتية: "فلما قضينا غزاتنا، ودنونا، استأذنته بالتعجيل، فقلت: يا رسول الله، إني حديث عهد بعُرْس، قَالَ: أبكرا تزوجت، أم ثيبا؟ قلت: بل ثيبا يا رسول الله، إن عبد الله بن عمرو أصيب، وترك جواري أبكارًا، فكرهت أن آتيهن بمثلهن، فتزوجت ثيبا، تُعَلِّمهن، وتؤدبهن، فأذن لي، وَقَالَ لي: ائت أهلك عِشاء، فلما قَدِمت أخبرت خالي ببيعي الجمل، فلامني". ووقع عند أحمد، منْ رواية نُبَيح:"فأتيت عمتي بالمدينة، فقلت لها: ألم تري أني بعت ناضحنا، فما رأيتها أعجبها ذلك"، وجزم بعضهم بأن اسم خاله جَدّ بفتح الجيم، وتشديد الدال- ابن قيس، وأما عمته فاسمها
هند بنت عمرو، ويحتمل أنهما جميعا لم يعجبهما بيعه؛ لما تقدم منْ أنه لم يكن عنده ناضح غيره. وفي رواية للبخاريّ فِي "الجهاد":"ثم قَالَ: ائت أهلك، فتقدمت النَّاس إلى المدينة"، وفي رواية وهب بن كيسان فِي أوائل "البيوع":"وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قبلي، وقَدِمت بالغداة، فجئت إلى المسجد، فوجدته، فَقَالَ: الآن قدمت؟، قلت: نعم، قَالَ: فَدَعِ الجمل، وادخل، فَصَلّ ركعتين".
قَالَ الحافظ: وظاهرهما التناقض؛ لأن فِي إحداهما أنه تقدم النَّاس إلى المدينة، وفي الأخرى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قدم قبله، فيحتمل فِي الجمع بينهما، أن يقال: إنه لا يلزم منْ قوله: فتقدمت النَّاس، أن يستمر سبقه لهم؛ لاحتمال أن يكونوا لحقوه بعد أن تقدمهم، إما لنزوله لراحة، أو نوم، أو غير ذلك، ولعله امتثل أمره صلى الله عليه وسلم، أن لا يدخل ليلا، فبات دون المدينة، واستمر النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أن دخلها سحرًا، ولم يدخلها جابر حَتَّى طلع النهار، والعلم عند الله تعالى. انتهى.
(أَتَيْتُهُ بِالْجَمَلِ) وفي رواية مغيرة الآتية: "فلما قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم، غدوت بالجمل"، وللبخاريّ فِي "الجهاد" منْ طريق أبي المتوكل، عن جابر رضي الله عنه:"فدخلت -يعني المسجد- إليه، وعقلت الجمل، فقلت: هَذَا جملك، فخرج، فجعل يُطيف بالجمل، ويقول: جملنا فبعث إليّ أواق منْ ذهب، ثم قَالَ: استوفيتَ الثمن؟ قلت: نعم".
(وَابْتَغَيْتُ ثَمَنَهُ) أي طلبت أن يوفيني ثمن الجمل، فأوفاني (ثُمَّ رَجَعْتُ) وفي رواية للبخاريّ:"ونقدني ثمنه، ثم انصرفت"، وفي رواية مغيرة الآتية:"فأعطاني ثمن الجمل، والجمل، وسهمًا مع النَّاس"، وفي روايته عند البخاريّ فِي "الجهاد":"فأعطاني ثمنه، ورَدّه عليّ".
وكلّها -كما قَالَ الحافظ- بطريق المجاز؛ لأن العطية إنما وقعت له بواسطة بلال رضي الله عنه، كما سيأتي فِي رواية سالم بن أبي الجعد، عن جابر:"فلما قدمت المدينة، جئته به، فَقَالَ لبلال: يا بلال، زن له أوقية، وزده قيراطًا، قلت: هَذَا شيء زادني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يفارقني، فجعلته فِي كيس، فلم يزل عندي، حَتَّى جاء أهل الشام يوم الْحَرّة، فأخذوا منّا ما أخذوا"، الْحَدِيث، ولأحمد، وأبي عوانة، منْ طريق وهب ابن كيسان:"فوالله ما زال يَنمِي، ويزيد عندنا، ونرى مكانه منْ بيتنا، حَتَّى أُصيب أمس فيما أصيب للناس يوم الحرة"، وفي رواية أبي الزبير، عن جابر، فِي هَذَا الباب:"فَقَالَ: يا بلال، أعطه ثمنه، فلما أدبرت دعاني، فخِفْتُ أن يرده عليّ، فَقَالَ: هو لك"، وفي رواية وهب بن كيسان، عند البخاريّ فِي "النكاح": "فأمر بلالا أن يزن لي أوقية، فوزن بلال، وأرجح لي فِي الميزان، فانطلقت حَتَّى وليت، فَقَالَ: ادع جابرا،
فقلت: الآن يَرُدّ عليّ الجمل، ولم يكن شيء أبغض إليّ منه، فَقَالَ: خذ جملك، ولك ثمنه".
قَالَ فِي "الفتح": وهذه الرواية مشكلة، مع قوله المتقدم:"ولم يكن لنا ناضح غيره"، وقوله:"وكانت لي إليه حاجة شديدة، ولكني استحييت منه"، ومع تنديم خاله له عَلَى بيعه.
ويمكن الجمع بأن ذلك كَانَ فِي أول الحال، وكان الثمن أوفر منْ قيمته، وعَرَفَ أنه يمكن أن يشتري به أحسن منه، ويبقى له بعض الثمن، فلذلك صار يكره رَدّه عليه.
ولأحمد منْ طريق أبي هبيرة، عن جابر:"فلما أتيته دفع إلى البعير، وَقَالَ هو لك، فمررت برجل منْ اليهود، فأخبرته، فجعل يعجب، ويقول اشترى منك البعير، ودفع إليك الثمن، ثم وهبه لك؟ قلت: نعم".
(فَأَرْسَلَ إِلَيَّ، فَقَالَ: "أَتُرَانِي) بضم حرف المضارعة، والهمزة للاستفهام: أي أتظنني (إِنَّمَا مَا كَسْتُكَ) أي ناقصتك فِي الثمن، وهو مفاعلة منْ الْمَكْس، يقال: مَكَسَ فِي البيع مَكْسًا، منْ باب ضرب: نقص الثمن، وماكس مماكسةً، ومِكَاسًا مثله. قاله الفيّوميّ، وأشار بالمماكسة إلى ما وقع بينهما منْ المساومة عند البيع، كما تقدم.
(لآخُذَ جَمَلَكَ) اللام للتعليل، متعلّقة بـ"ماكستك"، وبعدها همزة ممدودة (خُذْ جَمَلَكَ، وَدَرَاهِمَكَ") وفي رواية لأحمد، عن يحيى القطّان، عن زكريا، بلفظ:"قَالَ: أظننت حين ما كستك، أذهب بجملك؟، خذ جملك وثمنه، فهما لك".
قَالَ ابن الجوزي رحمه الله تعالى: هَذَا منْ أحسن التكرم، لأن منْ باع شيئا، فهو فِي الغالب محتاج لثمنه، فإذا تعوض منْ الثمن، بقي فِي قلبه منْ المبيع أَسَفٌ عَلَى فراقه، كما قيل [منْ الطويل]:
وَقَدْ تَخْرُجُ الْحَاجَاتُ يَا أُمَّ مَالِكٍ
…
نَفَائِسَ مِنْ رَبِّ بهِنَّ ضَنِينِ
فإذا رُدّ عليه المبيع مع ثمنه، ذهب الهم عنه، وثبت فرحه، وقُضيت حاجته، فكيف مع ما انضم إلى ذلك منْ الزيادة فِي الثمن؟. ذكره فِي "الفتح" 5/ 660 - 661. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -77/ 4639 و4640 و4641 و4642 و4643 وتقدّم فِي 53/ 4592
و4593 مختصرًا- وفي "الكبرى" 78/ 6233 و6234 و6235 و6236 و6237. وأخرجه (خ) فِي "الصلاة" 443 و"البيوع" 2097 و"الوكالة" 2309 و"الهبة" 2604 (م) فِي "البيوع" 3885 و3886 و3887 و3888 و3890 (د) فِي "البيوع" 3347 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 12780 (الدارمي) فِي "البيوع" 2471. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان أنه إذا باع بشرط لا يتنافى مع مقصود العقد، جاز البيع والشرط. (ومنها): جواز المساومة لمن يُعَرِّض سلعته للبيع. (ومنها): جواز المماكسة فِي المبيع قبل استقرار العقد، وابتداء المشتري بذكر الثمن. (ومنها): أن القبض ليس شرطا فِي صحة البيع. (ومنها): أن إجابة الكبير بقول "لا" جائز فِي الأمر الجائز. (ومنها): جواز التحدث بالعمل الصالح؛ للإتيان بالقصة عَلَى وجهها، لا عَلَى وجه تزكية النفس، وإرادة الفخر. (ومنها): أن فيه تفقدَ الإِمام، والكبير لأصحابه، وسؤاله عما ينزل بهم، وإعانتهم بما تيسر منْ حال، أو مال، أو دعاء. (ومنها): تواضعه صلى الله عليه وسلم. (ومنها): جواز ضرب الدابة للسير، وإن كانت غير مكلفة، ومحله ما إذا لم يتحقق أن ذلك منها، منْ فَرْط تعب، وإعياء. (ومنها): أن فيه توقيرَ التابع لرئيسه. (ومنها): أن فيه الوكالةَ فِي وفاء الديون، والوزن عَلَى المشتري، والشراء بالنسيئة. (ومنها): أن فيه ردَّ العطية قبل القبض؛ لقول جابر: هو لك، قَالَ:"لا، بل بعنيه". (ومنها): أن فيه جوازَ إدخال الدوابّ، والأمتعة إلى رحاب المسجد، وحواليه. (ومنها): أنه استدلّ به بعضهم عَلَى طهارة أبوال الإبل، وتعقّبه الحافظ بأنه لا حجة فيه، وَقَدْ تقدّم فِي "الطهارة" أن الحقّ طهارة أبوال الإبل، وغيرها، فراجعه تستفد.
(ومنها): أن فيه المحافظة عَلَى ما يُتبرك به؛ لقول جابر رضي الله عنه: "لا تفارقني الزيادة". (ومنها): أن فيه جوازَ الزيادة فِي الثمن، عند الأداء، والرجحان فِي الوزن، لكن برضى المالك، وهي هبة مستأنفة، حَتَّى لو رُدّت السلعة بعيب مثلا، لم يجب ردها، أو هي تابعة للثمن، حَتَّى ترد، فيه أحتمال، والأظهر الأول. (ومنها): أن فيه فضيلةً لجابر رضي الله عنه حيث ترك حظ نفسه، وامتثل أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم له ببيع جمله، مع احتياجه إليه. (ومنها): أن فيه معجزةً ظاهرةً للنبي صلى الله عليه وسلم. (ومنها): جواز إضافة الشيء إلى منْ كَانَ مالكه قبل ذلك، باعتبار ما كَانَ. (ومنها): أنه استدَلّ به بعضهم عَلَى صحة البيع بغير تصريح بإيجاب، ولا قبول؛ لقوله فيه:"قَالَ بعنيه بأوقية، فبعته"، ولم يذكر صيغة.
وتعقّبه فِي "الفتح"، بأنه لا حجة فيه؛ لأن عدم الذكر لا يستلزم عدم الوقوع، وَقَدْ وقع فِي رواية عطاء عند البخاريّ فِي "الوكالة":"قَالَ: بعنيه، قَالَ: قد أخذته بأربعة دنانير"، قَالَ: فهذا فيه القبول، ولا إيجاب فيه، وفي رواية له فِي "الجهاد":"قَالَ: بل بعنيه، قلت: لرجل عليّ أوقية ذهب، فهو لك بها، قَالَ: قد أخذته"، ففيه الإيجاب والقبول معا، وأبين منها رواية ابن إسحاق، عن وهب بن كيسان، عند أحمد:"قلت: قد رضيت، قَالَ: نعم، قلت: فهو لك بها، قَالَ: قد أخذته، فيستدل بها عَلَى الاكتفاء فِي صيغ العقود بالكنايات. انتهى. "فتح" 5/ 666.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: اشتراط الإيجاب والقبول قول لا دليل عليه، لا منْ الكتاب، ولا منْ السنّة، ولا منْ الإجماع، فالحقّ أن البيع ينعقد بكلّ ما تعارفه النَّاس، منْ الأقوال، أو الأفعال، كالمعاطاة، وَقَدْ تقدّم تحقيق ذلك فِي أوائل "البيوع"، فراجعه تستفد. والله تعالى وليّ التوفيق.
[تكميل]: قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: آل أمرُ جمل جابر رضي الله عنه هَذَا؛ لِمَا تقدم له منْ بركة النبيّ صلى الله عليه وسلم، إلى مآل حسن، فرأيت فِي ترجمة جابر رضي الله عنه منْ "تاريخ ابن عساكر"، بسنده إلى أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، قَالَ: فأقام الجمل عندي زمانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، فعجز، فأتيت به عمر رضي الله عنه، فعرف قصته، فَقَالَ: اجعله فِي إبل الصدقة، وفي أطيب المراعي، ففعل به ذلك، إلى أن مات. انتهى "فتح" 5/ 666. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي بيان اختلاف الروايات فِي وقوع الاشتراط فِي قصّة بيع جمل جابر رضي الله عنه المذكورة:
قَالَ البخاريّ رحمه الله تعالى: الاشتراط أكثر وأصح عندي: أي أكثر طرقا، وأصح مخرجا، وأشار بذلك إلى أن الرواة اختلفوا عن جابر، فِي هذه الواقعة، هل وقع الشرط فِي العقد عند البيع، أو كَانَ ركوبه للجمل بعد بيعه إباحةً منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد شرائه، عَلَى طريق العارية، وأصرح ما وقع فِي ذلك رواية النسائيّ منْ طريق ابن عُيينة، عن أيوب، بلفظ: وَقَدْ أعرتك ظهره إلى المدينة"، لكن اختلف فيها حماد بن زيد، وسفيان ابن عيينة، وحماد أعرف بحديث أيوب، منْ سفيان.
والحاصل أن الذين ذكروه بصيغة الاشتراط أكثر عددا، منْ الذين خالفوهم، وهذا وجه منْ وجوه الترجيح، فيكون أصح، ويترجح أيضا بأن الذين رووه بصيغة الاشتراط، معهم زيادة، وهم حفاظ، فتكون حجة، وليست رواية منْ لم يذكر الاشتراط، منافية لرواية منْ ذكره؛ لأن قوله:"لك ظهره، وأفقرناك ظهره، وتبلغ عليه"، لا يمنع وقوع
الاشتراط قبل ذلك. وَقَدْ رواه عن جابر بمعنى الاشتراط أيضا أبو المتوكل، عند أحمد، ولفظه:"فبعني، ولك ظهره إلى المدينة"، لكن أخرجه البخاريّ فِي "الجهاد" منْ طريق أخرى، عن أبي المتوكل، فلم يتعرض للشرط إثباتا ولا نفيا، ورواه أحمد منْ هَذَا الوجه، بلفظ:"أتبيعني جملك؟ قلت: نعم، قَالَ: أقدم عليه المدينة". ورواه أحمد منْ طريق أبي هبيرة، عن جابر، بلفظ:"فاشترى مني بعيرا، فجعل لي ظهره حَتَّى أقدم المدينة". ورواه ابن ماجه، وغيره، منْ طريق أبي نضرة، عن جابر، بلفظ:"فقلت: يا رسول الله، هو ناضحك، إذا أتيت المدينة". ورواه أيضا عن جابر نُبَيحٌ الْعَنَزِيّ، عند أحمد، فلم يذكر الشرط، ولفظه:"قد أخذته بوقية، قَالَ: فنزلت إلى الأرض، فَقَالَ: مالك؟ قلت: جملك، قَالَ: اركب، فركبت حَتَّى أتيت المدينة". ورواه أيضا منْ طريق وهب بن كيسان، عن جابر، فلم يذكر الشرط، قَالَ فيه: "حَتَّى بلغ أوقية، قلت: قد رضيتَ؟ قَالَ: نعم، قلت: فهو لك، قَالَ: قد أخذته، ثم قَالَ يا جابر: هل تزوجت؟، الْحَدِيث.
قَالَ الحافظ: وما جنح إليه البخاريّ، منْ ترجيح رواية الاشتراط، هو الجاري عَلَى طريقة المحققين، منْ أهل الْحَدِيث؛ لأنهم لا يتوقفون عن تصحيح المتن، إذا وقع فيه الاختلاف، إلا إذا تكافأت الروايات، وهو شرط الاضطراب، الذي يُرَدُّ به الخبر، وهو مفقود هنا، مع إمكان الترجيح.
قَالَ ابن دقيق العيد: إذا اختلفت الروايات، وكانت الحجة ببعضها دون بعض، تَوَقَّف الاحتجاجُ بشرط تعادل الروايات، أما إذا وقع الترجيح لبعضها، بأن تكون رُواتُها أكثر عددا، أو أتقن حفظا، فيتعين العمل بالراجح، إذ الأضعف لا يكون مانعا منْ العمل بالأقوى، والمرجوحُ لا يمنع التمسك بالراجح.
وَقَدْ جنح الطحاوي إلى تصحيح الاشتراط، لكن تأوله بأن البيع المذكور، لم يكن عَلَى الحقيقة؛ لقوله فِي آخره:"أتُراني ما كستك الخ"، قَالَ: فإنه يُشعر بأن القول المتقدم، لم يكن عَلَى التبايع حقيقة. ورده القرطبيّ بأنه دعوى مجردة، وتغيير، وتحريف، لا تأويل، قَالَ: وكيف يَصنَع قائله فِي قوله: "بعته منك بأوقية"، بعد المساومة، وقوله:"قد أخذته"، وغير ذلك منْ الألفاظ المنصوصة فِي ذلك.
واحتج بعضهم بأن الركوب، إن كَانَ منْ مال المشتري، فالبيع فاسد؛ لأنه شَرَطَ لنفسه ما قد ملكه المشتري، وإن كَانَ منْ ماله ففاسد؛ لأن المشتري لم يملك المنافع بعد البيع منْ جهة البائع، وإنما ملكها؛ لأنها طرأت فِي ملكه.
وتُعُقّب بأن المنفعة المذكورة، قُدَّرت بقدر منْ ثمن المبيع، ووقع البيع بما عداها،
ونظيره مَن باع نخلا، قد أُبرت، واستثنى ثمرتها، والممتنع إنما هو استثناء شيء مجهول للبائع والمشتري، أما لو علماه معا، فلا مانع، فيحمل ما وقع فِي هذه القصة عَلَى ذلك.
وأغرب ابن حزم، فزعم أنه يؤخذ منْ الْحَدِيث أن البيع لم يتم؛ لأن البائع بعد عقد البيع، غير قبل التفرق، فلما قَالَ فِي آخره:"أتُراني ما كستك"، دَلّ عَلَى أنه كَانَ اختار ترك الأخذ، وإنما اشترط لجابر ركوب جمل نفسه، فليس فيه حجة، لمن أجاز الشرط فِي البيع. قَالَ الحافظ: ولا يخفى ما فِي هَذَا التأويل منْ التكلف.
وَقَالَ الإسماعيلي: قوله "ولك ظهره"، وَعْدٌ قام مقام الشرط؛ لأن وعده لا خلف فيه، وهبته لا رجوع فيها؛ لتنزيه الله تعالى له عن دناءة الأخلاق، فلذلك ساغ لبعض الرواة أن يعبر عنه بالشرط، ولا يلزم أن يجوز ذلك فِي حق غيره.
وحاصله أن الشرط لم يقع فِي نفس العقد، وإنما وقع سابقا، أو لاحقا، فتبرع بمنفعته أولا، كما تبرع برقبته أخرا.
ووقع فِي كلام القاضي أبي الطيب الطبري، منْ الشافعيّة: أن فِي بعض طرق هَذَا الخبر، فلما نقدني الثمن شرطت حُمْلاني إلى المدينة، واستُدل بها عَلَى أن الشرط تأخر عن العقد. قَالَ الحافظ: لكن لم أقف عَلَى الرواية المذكورة، وإن ثبتت، فيتعين تأويلها عَلَى أن معنى "نقدني الثمن": أي قرره لي، واتفقنا عَلَى تعيينه؛ لأن الروايات الصحيحة صريحة، فِي أن قبضه الثمن إنما كَانَ بالمدينة، وكذلك يتعين تأويل رواية الطحاوي:"أتبيعني جملك هَذَا؟ إذا قدمنا المدينة بدينار"، الْحَدِيث، فالمعنى: أتبيعنى بدينار أوفيكه، إذا قدمنا المدينة.
وَقَالَ المهلب: ينبغي تأويل ما وقع فِي بعض الروايات، منْ ذكر الشرط، عَلَى أنه شرط تفضل، لا شرط فِي أصل البيع؛ ليوافق رواية منْ رَوَى:"أفقرناك ظهره"، و"أعرتك ظهره"، وغير ذلك مما تقدم، قَالَ: ويؤيده أن القصة جرت كلها عَلَى وجه التفضل والرفق بجابر، ويؤيده أيضا قول جابر:"هو لك، قَالَ: لا، بل بعنيه"، فلم يقبل منه إلا بثمن؛ رفقا به، وسبق الإسماعيلي إلى نحو ذلك، وزعم أن النكتة فِي ذكر البيع، أنه صلى الله عليه وسلم، أراد أن يَبَرّ جابرا عَلَى وجه، لا يحصل لغيره طمع فِي مثله، فبايعه فِي جمله، عَلَى اسم البيع؛ ليتوفر عليه بره، ويبقى البعير قائما عَلَى ملكه، فيكون ذلك أهنأ لمعروفه، قَالَ: وعلى هَذَا المعنى أَمْرُهُ بلالا، أن يزيده عَلَى الثمن، زيادة مبهمة فِي الظاهر، فإنه قصد بذلك زيادة الإحسان إليه، منْ غير أن يحصل لغيره تأميل فِي نظير ذلك.
وتُعُقّب بأنه لو كَانَ المعنى ما ذكر، لكان الحال باقيا فِي التأميل المذكور، عند رده عليه البعير المذكور، والثمن معا.
وأجيب بأن حالة السفر غالبا تقتضي قلة الشيء، بخلاف حالة الحضر، فلا مبالاة عند التوسعة منْ طمع الآمل.
قَالَ الحافظ: وأقوى هذه الوجوه فِي نظري، ما تقدم نقله عن الإسماعيلي، منْ أنه وَعْدٌ حَلَّ محل الشرط.
وأبدى السُّهَيلي فِي قصة جابر رضي الله عنه مناسبة لطيفة، غير ما ذكره الإسماعيلي، مُلَخَّصها: أنه صلى الله عليه وسلم، لَمّا أخبر جابرا بعد قتل أبيه بأحد، أن الله أحياه، وَقَالَ: ما تشتهي فأزيدك؟، أكد صلى الله عليه وسلم الخبر بما يشتهيه، فاشترى منه الجمل، وهو مطيته بثمن معلوم، ثم وَفّر عليه الجمل والثمن، وزاده عَلَى الثمن، كما اشترى الله منْ المؤمنين أنفسهم، بثمن هو الجنة، ثم رَدَّ عليهم أنفسهم، وزادهم، كما قَالَ الله تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]. انتهى ملخّصًا منْ "الفتح" 5/ 661 - 663. وهو بحث نفيس جدًّا، وحاصله ترجيح الاشتراط لجابر رضي الله عنه ليركب جمله إلى المدينة، كما صنع ذلك إمام أهل هذه الصناعة البخاريّ رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): فِي بيان اختلاف الروايات فِي مقدار ثمن الجمل:
قد أشار البخاريّ أيضًا فِي كلامه السابق إلى هَذَا الاختلاف، وحاصل الاختلاف عنده: أوقية، وهي رواية الأكثر، كما أشار إليه البخاريّ، وأربعة دنانير، وهي لا تخالفها كما تقدم، وأوقية الذهب، وأربع أواق، وخمس أواق، ومائتا درهم، وعشرون دينارا، هَذَا ما ذكر البخاريّ.
ووقع عند أحمد، والبزار، منْ رواية علي بن زيد، عن أبي المتوكل: ثلاثة عشر دينارا، وَقَدْ جمع عياض وغيره، بين هذه الروايات، فَقَالَ: سبب الاختلاف أنهم رووا بالمعنى، والمراد أوقيةُ الذهب، والأربعُ أواق، والخمسُ بقدر ثمن الأوقية الذهب، والأربعة دنانير، مع العشرين دينارا، محمولة عَلَى اختلاف الوزن والعدد، وكذلك رواية الأربعين درهما، مع المائتي درهم، قَالَ: وكأن الإخبار بالفضة عما وقع عليه العقد، وبالذهب عما حصل به الوفاء، أو بالعكس. انتهى، ملخصًا.
وَقَالَ الداودي: المراد أوقية ذهب، ويُحمَل عليها قول منْ أطلق، ومن قَالَ: خمس أواق، أو أربع، أراد منْ فضة، وقيمتها يومئذ أوقية ذهب، قَالَ: ويحتمل أن يكون سبب الاختلاف، ما وقع منْ الزيادة عَلَى الأوقية، قَالَ الحافظ: ولا يخفى ما فيه منْ
التعسف. وَقَالَ القرطبيّ: اختلفوا فِي ثمن الجمل، اختلافا لا يقبل التلفيق، وتَكَلُّفُ ذلك بعيد عن التحقيق، وهو مبني عَلَى أمر، لم يصح نقله، ولا استقام ضبطه، مع أنه لا يتعلق بتحقيق ذلك حكم، وإنما تحصل منْ مجموع الروايات، أنه باعه البعير، بثمن معلوم بينهما، وزاده عند الوفاء، زيادة معلومة، ولا يضر عدم العلم بتحقيق ذلك.
قَالَ الإسماعيلي: ليس اختلافهم فِي قدر الثمن بضارّ؛ لأن الغرض الذي سيق الْحَدِيث لأجله، بيان كرمه صلى الله عليه وسلم، وتواضعه، وحُنُوّه عَلَى أصحابه، وبركة دعائه، وغير ذلك، ولا يلزم منْ وَهم بعضهم فِي قدر الثمن، توهينه لأصل الْحَدِيث.
قَالَ الحافظ: وما جنح إليه البخاريّ منْ الترجيح أقعد، وبالرجوع إلى التحقيق أسعد، فليعتمد ذلك، وبالله التوفيق. انتهى ملخّصًا منْ "الفتح"، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا، وحاصله ترجيح منْ قَالَ بأن الثمن كَانَ أوقيّة، كما مرّ بيانه آنفًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم الشرط فِي البيع:
قد تكلّم الموفّق رحمه الله تعالى فِي "المغني" فِي هذه المسألة، وفصّلها تفصيلاً حسنًا، أحببتُ إيراده هنا ملخّصًا؛ تتميمًا للفائدة، ونشرًا للعائدة:
قَالَ رحمه الله تعالى: ما خلاصته: ثبت عن أحمد رحمه الله، أنه قَالَ: الشرط الواحد لا بأس به، إنما نهُي عن الشرطين فِي البيع، ذهب أحمد إلى ما رَوَى عبد الله بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:"لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان فِي بيع، ولا تبع ما ليس عندك" أخرجه أبو داود، والنسائيّ، والترمذي، وَقَالَ: حديث حسن صحيح. قَالَ الأثرم: قيل لأبي عبد الله: إن هؤلاء يكرهون الشرط فِي البيع؟، فنفض يده، وَقَالَ الشرط الواحد، لا بأس به فِي البيع، إنما نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرطين فِي البيع، وحديث جابر رضي الله عنه يدل عَلَى إباحة الشرط، حين باعه جمله، وشرط ظهره إلى المدينة، واختلف فِي تفسير الشرطين المنهي عنهما، فرُوي عن أحمد أنهما شرطان صحيحان، ليسا منْ مصلحة العقد، فحكى ابن المنذر عنه، وعن إسحاق فيمن اشترى ثوبا، واشترط عَلَى البائع خياطته، وقصارته، أو طعاما، واشترط طحنه وحمله، إن اشترط أحد هذه الأشياء، فالبيع جائز، وإن اشترط شرطين فالبيع باطل، وكذلك فسر القاضي فِي "شرحه" الشرطين المبطلين بنحو منْ هَذَا التفسير. وروى الأثرم عن أحمد تفسير الشرطين أن يشتريها عَلَى أنه لا يبيعها منْ أحد، وأنه يطؤها، ففسره بشرطين فاسدين. وروى عنه إسماعيل بن سعيد فِي الشرطين فِي البيع: أن يقول إذا بعتكها، فأنا أحق بها بالثمن، وأن تخدُمني سنة.
وظاهر كلام أحمد، أن الشرطين المنهي عنهما، ما كَانَ منْ هَذَا النحو، فأما إن شرط شرطين، أو أكثر منْ مقتضى العقد، أو مصلحته، مثل أن يبيعه بشرط الخيار، والتأجيل، والرهن، والضمين، أو بشرط أن يُسَلِّم إليه المبيع، أو الثمن، فهذا لا يؤثر فِي العقد، وإن كثر.
وَقَالَ القاضي فِي "المجرد": ظاهر كلام أحمد أنه متى شرط فِي العقد شرطين بطل، سواء كانا صحيحين، أو فاسدين، لمصلحة العقد، أو لغير مصلحته؛ أخذا منْ ظاهر الْحَدِيث، وعملا بعمومه، ولم يفرق الشافعيّ، وأصحاب الرأي، بين الشرط والشرطين، ورووا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عن بيع وشرط؛ ولأن الصحيح لا يؤثر فِي البيع وإن كثر، والفاسد يؤثر فيه وإن اتحد، والحديث الذي رويناه يدل عَلَى الفرق، ولأن الغرر اليسير إذا احتمل فِي العقد، لا يلزم منه احتمال الكثير، وحديثهم لم يصح، وليس له أصل، وَقَدْ أنكره أحمد، ولا نعرفه مرويا فِي مسند، ولا يعول عليه، وقول القاضي: إن النهي يبقى عَلَى عمومه فِي كل شرطين، بعيد أيضا، فإن شرط ما يقتضيه العقد، لا يؤثر فيه بغير خلاف، وشرط ما هو منْ مصلحة العقد، كالأجل، والخيار، والرهن، والضمين، وشرط صفة فِي المبيع، كالكتابة، والصناعة، فيه مصلحة العقد، فلا ينبغي أن يؤثر أيضا فِي بطلانه، قَلَّت، أو كثرت، ولم يذكر أحمد فِي هذه المسألة شيئا منْ هَذَا القسم، فالظاهر أنه غير مراد له.
قَالَ: والشروط تنقسم إلى أربعة أقسام:
[أحدها]: ما هو منْ مقتضى العقد، كاشتراط التسليم، وخيار المجلس، والتقابض فِي الحال، فهذا وجوده كعدمه، لا يفيد حكما، ولا يؤثر فِي العقد.
[الثاني]: تتعلق به مصلحة العاقدين، كالأجل، والخيار، والرهن، والضمين، والشهادة، أو اشتراط صفة مقصودة فِي المبيع، كالصناعة، والكتابة، ونحوها، فهذا شرط جائز، يلزم الوفاء به، ولا نعلم فِي صحة هذين القسمين خلافا.
[الثالث]: ما ليس منْ مقتضاه، ولا منْ مصلحته، ولا ينافي مقتضاه، وهو نوعان: أحدهما: اشتراط منفعة البائع فِي المبيع، فهذا قد مضى ذكره. الثاني: أن يشترط عقدا فِي عقد، نحو أن يبيعه شيئا بشرط أن يبيعه شيئا آخر، أو يشتري منه، أو يُؤَجّره، أو يزوجه، أو يُسلفه، أو يصرف له الثمن أو غيره، فهذا شرط فاسد، يفسد به البيع، سواء اشترطه البائع، أو المشتري.
[الرابع]: اشتراط ما ينافي مقتضى البيع، وهو عَلَى ضربين:
[أحدهما]: اشتراط ما بني عَلَى التغليب والسراية، مثل أن يشترط البائع عَلَى
المشتري عتق العبد، فهل يصح عَلَى روايتين: إحداهما: يصح، وهو مذهب مالك، وظاهر مذهب الشافعيّ؛ لأن عائشة رضي الله عنها، اشترت بريرة، وشَرَط أهلها عليها عتقها، وولاءها، فأنكر النبيّ صلى الله عليه وسلم شرط الولاء، دون العتق. والثانية: الشرط فاسد، وهو مذهب أبي حنيفة؛ لأنه شرط ينافي مقتضى العقد؛ لأنه شرط عليه إزالة ملكه عنه، فأشبه ما لو شرط أن لا يبيعه، وليس فِي حديث عائشة، أنها شرطت لهم العتق، وإنما أخبرتهم بإرادتها لذلك منْ غير شرط، فاشترطوا الولاء.
[الضرب الثاني]: أن يشترط غير العتق، مثل أن يشترط أن لا يبيع، ولا يهب، ولا يُعتق، ولا يطأ، أو يشترط عليه أن يبيعه، أو يقفه، أو متى نفق المبيع، وإلا رده، أو إن غصبه غاصب رجع عليه بالثمن، وإن أعتقه فالولاء له، فهذه وما أشبهها شروط فاسدة، وهل يفسد بها البيع عَلَى روايتين:
قَالَ القاضي المنصوص عن أحمد: أن البيع صحيح، وهو ظاهر كلام الخرقي هاهنا، وهو قول الحسن، والشعبي، والنخعي، وابن أبي ليلى، وأبي ثور. والثانية: البيع فاسد، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيع وشرط، ولأنه شرط فاسد، فأفسد البيع، كما لو شرط فيه عقدا آخر، ولأن الشرط إذا فسد وجب الرجوع بما نقصه الشرط منْ الثمن، وذلك مجهول، فيصير الثمن مجهولا، ولأن البائع إنما رضي بزوال ملكه عن المبيع بشرطه، والمشتري كذلك، إذا كَانَ الشرط له، فلو صح البيع بدونه لزال ملكه بغير رضاه، والبيع منْ شرطه التراضي.
قَالَ: ولنا ما روت عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: جاءتني بريرة، فقالت: كاتبت أهلي عَلَى تسع أواق، فِي كل عام أوقية، فأعينيني، فقلت: إن أحب أهلك، أن أَعُدَّها لهم عَدَّةً واحدة، ويكون لي ولاؤك فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها، فقالت لهم: فأبوا عليها، فجاءت منْ عندهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فقالت: إني عرضت عليهم، فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فسمع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبرت عائشة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"خذيها، واشترطي الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق"، ففعلت عائشة، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي النَّاس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قَالَ:"أما بعدما بال رجال، يشترطون شروطا ليست فِي كتاب الله، ما كَانَ منْ شرط ليس فِي كتاب الله، فهو باطل، وإن كَانَ مائة شرط، قضاء الله أحقّ، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق"، متَّفقٌ عليه، فأبطل الشرط، ولم يبطل العقد، قَالَ ابن المنذر: خبر بريرة ثابت، ولا نعلم خبرا يعارضه، فالقول به يجب.
[فإن قيل]: المراد بقوله: "اشترطي لهم الولاء": أي عليهم، بدليل أنه أمرها به،
ولا يأمرها بفاسد.
[قلنا]: لا يصح هَذَا التأويل لوجهين: [أحدهما]: أن الولاء لها بإعتاقها، فلا حاجة إلى اشتراطه. [الثاني]: أنهم أبوا البيع، إلا أن يشترط الولاء لهم، فكيف يأمرها بما يعلم أنهم لا يقبلونه منها، وأما أمره بذلك، فليس هو أمرا عَلَى الحقيقة، وإنما هو صفة الأمر، بمعنى التسوية بين الاشتراط وتركه، كقوله تعالى:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية [التوبة: 80]، وقوله:{فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا} الآية [الطور: 16]، والتقدير: واشترطي لهم الولاء، أو لا تشترطي، ولهذا قَالَ عقيبه:"فإنما الولاء لمن أعتق"، وحديثهم لا أصل له، عَلَى ما ذكرنا، وما ذكروه منْ المعنى فِي مقابلة النص، غير مقبول. انتهى كلام الموفّق رحمه الله تعالى "المغني" 6/ 321 - 326. وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، وَقَدْ تقدّم بأطول مما هنا فِي بحث الإِمام ابن القيّم رحمه الله تعالى فِي 60/ 4613، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4640 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ الطَّبَّاعِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَلَى نَاضِحٍ لَنَا، ثُمَّ ذَكَرْتُ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامًا مَعْنَاهُ: فَأُزْحِفَ الْجَمَلُ، فَزَجَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَانْتَشَطَ حَتَّى كَانَ أَمَامَ الْجَيْشِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَا جَابِرُ مَا أَرَى جَمَلَكَ إِلاَّ قَدِ انْتَشَطَ"، قُلْتُ: بِبَرَكَتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "بِعْنِيهِ، وَلَكَ ظَهْرُهُ حَتَّى تَقْدَمَ"، فَبِعْتُهُ، وَكَانَتْ لِي إِلَيْهِ حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، وَلَكِنِّي اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ، فَلَمَّا قَضَيْنَا غَزَاتَنَا، وَدَنَوْنَا اسْتَأْذَنْتُهُ بِالتَّعْجِيلِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، قَالَ: "أَبِكْرًا تَزَوَّجْتَ أَمْ ثَيِّبًا؟ " قُلْتُ: بَلْ ثَيِّبًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، أُصِيبَ، وَتَرَكَ جَوَارِيَ أَبْكَارًا، فَكَرِهْتُ أَنْ آتِيَهُنَّ بِمِثْلِهِنَّ، فَتَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا، تُعَلِّمُهُنَّ، وَتُؤَدِّبُهُنَّ، فَأَذِنَ لِي، وَقَالَ لِي: "ائْتِ أَهْلَكَ عِشَاءً"، فَلَمَّا قَدِمْتُ أَخْبَرْتُ خَالِي بِبَيْعِيَ الْجَمَلَ، فَلَامَنِي، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، غَدَوْتُ بِالْجَمَلِ، فَأَعْطَانِي ثَمَنَ الْجَمَلِ، وَالْجَمَلَ وَسَهْمًا مَعَ النَّاسِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.
و"محمد بن يحيى بن عبد الله": هو الذُّهْليّ النيسابوريّ الإِمام الحافظ [11]. و"محمد بن عيسى بن الطبّاع": هو البغداديّ، نزيل أَذَنَةَ، ثقة فقيه، أعلم النَّاس بحديث هُشيم [10]. و"أبو عَوَانة": هو الوضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ. و"مغيرة": هو ابن مِقْسَم الضبيّ الكوفيّ. و"الشعبيّ": هو عامر بن شَرَاحيل المذكور فِي السند الماضي.
وقوله: "عَلَى ناضح لنا": الناضح: اسم فاعل منْ نضَح البعير الماءَ، منْ بابي
ضرب، ونَفَع: إذا حمله منْ نهر، أو بئر؛ ليسقي الزرع، فهو ناضح، والأُنثى ناضحةٌ بالهاء، سُمّي ناضحًا؛ لأنه ينضح العطشَ: أي يبُلُّهُ بالماء الذي يحمله، هَذَا أصله، ثم استُعمل الناضح فِي كلّ بعير، وإن لم يحمل الماء. أفاده الفيّوميّ.
وقوله: "ثم ذكر الْحَدِيث بطوله": الظاهر كون الفاعل ضمير شيخ المصنّف، ويحتمل أن يكون لغيره. ووقع فِي النسخ المطبوعة، "ثم ذكرت الْحَدِيث بطوله" بضمير المتكلّم، وهو غلط، والصواب ما هنا، كما هو فِي النسخة "الهنديّة"، ولا توجد هذه الجملة فِي "الكبرى"، بل فيه قوله:"وذكر كلامًا: معناه فأُزحف الخ".
وقوله: "فأُزحف الجمل": بزاي، وحاء مهملة، وفاء: أي أعيا، ووقف. قَالَ الخطّابيّ: المحدثون يقولونه مفتوح الألف، أي علي بناء الفاعل، والأجود ضمّ الألف، أي علي بناء المفعول، يقال: زحف البعير: إذا قام منْ الإعياء، وأزحفه السير. انتهى. وَقَالَ فِي "المصباح": وزَحَفَ البعيرُ: إذا أَعْيَا فَجَرَّ فِرْسِنَهُ، فهو زَاحِفَةٌ، الهاء للمبالغة، والجمع زَوَاحِفُ، وأزْحَفَ بالألف لغة. انتهى.
قَالَ الجامع: يتبين بهذا أن ما قاله المحدثون منْ فتح ألف أَزْحَفَ هو الذي أثبته اللغويون أيضًا، فلا وجه لما قاله الخطّابيّ، فتبصر، والله تعالى أعلم.
وقوله: "فانتشط": افتعل، منْ النشاط، يقال: نشِطَ فِي عمله ينشَط، منْ باب تعب نَشَاطًا: خفّ، وأسرع. ووقع فِي "الكبرى" فِي الموضعين بلفظ "انبسط"، والمعنى متقارب.
وقوله: "حَتَّى تقدَم" بفتح الدال، منْ باب تعِبَ: أي إلى أن تدخل المدينة.
وقوله: "استأذنته بالتعجيل": أي طلبت منه أن يأذن لي فِي التعجّل إلى المدينة، فالباء بمعنى "فِي"، يقال: أذنت له فِي كذا، منْ باب تعب: إذا أطلقت له فعله، وأما أذن بكذا بالباء، فمعناه: علم به، يقال: أذِنت بالشيء: علمت به، ولا يناسب هنا.
وقوله: "حديث عهد بعرس": العرس بضم، فسكون: الزِّفَاف، ويذكّر، ويؤنّث، فيقال: هو العُرْس، والجمع أَعراس، مثلُ قُفل وأقفال، وهي العرس، والجمع عُرُسات، ومنهم منْ يقتصر عَلَى إيراد التأنيث. قاله الفيّوميّ.
وقوله: "وترك جواري أبكارًا": أي بنات صغارًا.
وقوله: "ائت أهلك عِشاء": المراد فِي آخر النهار، وليس المراد أنه يأتيهم ليلاً.
وقوله: "وسهمًا مع النَّاس"، ولفظ "الكبرى":"وسهمي مع النَّاس".
والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه فِي الْحَدِيث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4641 -
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ سَالِمِ
بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، وَكُنْتُ عَلَى جَمَلٍ، فَقَالَ:"مَا لَكَ فِي آخِرِ النَّاسِ؟ " قُلْتُ: أَعْيَا بَعِيرِي، فَأَخَذَ بِذَنَبِهِ، ثُمَّ زَجَرَهُ، فَإِنْ كُنْتُ إِنَّمَا أَنَا فِي أَوَّلِ النَّاسِ، يُهِمُّنِي رَأْسُهُ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، قَالَ:"مَا فَعَلَ الْجَمَلُ؟ بِعْنِيهِ"، قُلْتُ: لَا، بَلْ هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:"لَا، بَلْ بِعْنِيهِ"، قُلْتُ: لَا، بَلْ هُوَ لَكَ، قَالَ:"لَا، بَلْ بِعْنِيهِ، قَدْ أَخَذْتُهُ بِوُقِيَّةٍ، ارْكَبْهُ، فَإِذَا قَدِمْتَ الْمَدِينَةَ فَائْتِنَا بِهِ"، فَلَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ جِئْتُهُ بِهِ، فَقَالَ لِبِلَالٍ:"يَا بِلَالُ زِنْ لَهُ أُوقِيَّةً، وَزِدْهُ قِيرَاطًا"، قُلْتُ: هَذَا شَيْءٌ زَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يُفَارِقْنِي، فَجَعَلْتُهُ فِي كِيسٍ، فَلَمْ يَزَلْ عِنْدِي، حَتَّى جَاءَ أَهْلُ الشَّامِ يَوْمَ الْحَرَّةِ، فَأَخَذُوا مِنَّا مَا أَخَذُوا).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.
و"أبو معاوية": هو محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، أحفظ منْ روى عن الأعمش. و"سالم بن أبي الجعد": هو الأشجعيّ الغطفانيّ الكوفيّ الثقة، واسم أبيه رافع. والسند مسلسل بثقات الكوفيين، وفيه محمد بن العلاء أحد مشايخ الأئمة الستّة بلا واسطة، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
وقوله: "فإن كنت إنما أنا فِي أول النَّاس": أي فإن الشأن كنت الخ. وقوله: "يُهمّني رأسه" بضم حرف المضارعة: أي أخاف أن يتقدّم رأسه عَلَى جمال النَّاس، لشدة إسراعه، فيُهمّني ذلك، وإنما أهمه؛ خوفًا أن لا يتقدّم عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما بينته الروايات الأخرى.
وقوله: "فلم يفارقني"، وفي رواية مسلم: "فقلت: لا تفارقني زيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: "حَتَّى جاء أهل الشام الخ"، وفي رواية مسلم:"فأخذه أهل الشام يوم الحرّة": يعني حرّة المدينة، أي يوم حارب أهل الشام أهل المدينة فِي الحرّة بفتح الحاء المهملة، وتشديد الراء: موضع بالمدينة، فيه حجارة سُودٌ، ويُطلق عَلَى كلّ أرض، ذات حجارة سُود، والمعنى أن تلك الزيادة أخذها أهل الشام فِي ذلك اليوم الذي كَانَ فيه هناك قتالٌ، ونهبٌ، منهم، وذلك سنة (63) منْ الهجرة.
والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4642 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: أَدْرَكَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكُنْتُ عَلَى نَاضِحٍ لَنَا، سَوْءٍ، فَقُلْتُ: لَا يَزَالُ لَنَا نَاضِحُ سَوْءٍ، يَا لَهْفَاهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"تَبِيعُنِيهِ يَا جَابِرُ"، قُلْتُ: بَلْ هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، قَدْ أَخَذْتُهُ بِكَذَا وَكَذَا، وَقَدْ أَعَرْتُكَ ظَهْرَهُ إِلَى
الْمَدِينَةِ"، فَلَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ هَيَّأْتُهُ، فَذَهَبْتُ بِهِ إِلَيْهِ، فَقَالَ: "يَا بِلَالُ أَعْطِهِ ثَمَنَهُ"، فَلَمَّا أَدْبَرْتُ دَعَانِي، فَخِفْتُ أَنْ يَرُدَّهُ، فَقَالَ: "هُوَ لَكَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، سوى شيخه وهو الجوّاز المكيّ، وهو ثقة. و"سفيان": هو ابن عيينة. والسند منْ رباعيّات المصنّف، وهو (227) منْ رباعيات الكتاب، وهو مسلسلٌ بثقات المكيين.
وقوله: "ناضح سوء" بفتح السين، وسكون الواو، أو بضم، فسكون، قَالَ الفيّوميّ: وهو رجلُ سوء بالفتح، والإضافة، وعَمَلُ سَوْءِ، فإن عرّفت الأول قلت: الرجلُ السَّوْءُ عَلَى النعت. انتهى. وَقَالَ المجد فِي "القاموس": ساءه سَوْءًا، وسَواءً، وسَواءَةً، وسَوَايَةً، وسَوَائيةً، ومساءَةً، ومَسَائِيَةً، مقلوبًا، وأصله مَسَاوِئَةً، ومَسَايةً، ومَسَاءً، ومَسَاءيةً: فَعَل به ما يُكرَه، فاستاء هو، والسُّوءُ بالضم الاسم منه، قَالَ: ولا خير فِي قول السوء بالفتح والضمّ، إذا فتحت فمعناه: فِي قول قبيح، وإذا ضممت فمعناه: فِي أن تقول سُوءًا، وقُرىء:{عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} بالوجهين: أي الهزيمة، والشرّ، والرَّدَى، والفساد، وكذا:{أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} ، أو المضموم الضرر، والمفتوح الفساد، ومنه قوله تعالى:{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} فِي قراءة، ورجلُ سَوْءٍ، ورجل السوء بالفتح، والإضافة. انتهى.
وقوله: "يا لهفاه": قَالَ المجد: لَهِفَ، كفرِحَ: حزِن، وتحسّر، كتلهّف عليه، ويا لهفه: كلمة يُتحسّر بها عَلَى فائت، ويقال: يا لَهْفي عليك، ويا لَهْفَ، ويا لَهْفَا، ويا لَهْفَ أرضي وسَمَئي عليك، ويا لَهْفاهُ، ويا لَهْفتاه، ويا لَهْفَتِياه. انتهى "قاموس".
وقوله: "هيّأته": أي أعددت ذلك الناضح لأذهب به إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق الكلام فيه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4643 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كُنَّا نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَا عَلَى نَاضِحٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتَبِيعُنِيهِ بِكَذَا وَكَذَا، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَكَ"، قُلْتُ: نَعَمْ هُوَ لَكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَالَ: "أَتَبِيعُنِيهِ بِكَذَا وَكَذَا، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَكَ"، قُلْتُ: نَعَمْ هُوَ لَكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ: قَالَ: "أَتَبِيعُنِيهِ بِكَذَا وَكَذَا، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَكَ"، قُلْتُ: نَعَمْ هُوَ لَكَ، قَالَ أَبُو نَضْرَةَ: وَكَانَتْ كَلِمَةً يَقُولُهَا الْمُسْلِمُونَ، افْعَلْ كَذَا وَكَذَا، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَكَ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة.
و"أبو المعتمر": هو سليمان بن طَرْخان التيميّ البصريّ الثقة العابد [4].
و"أبو نضرة": هو المنذر بن مالك بن قُطَعَةَ البصريّ الثقة [3]. والسند مسلسلٌ بثقات البصريين، وفيه رواية الابن، عن أبيه، ورواية تابعيّ، عن تابعيّ.
وقوله: "وكانت كلمة الخ": أي قوله صلى الله عليه وسلم: "والله يغفر لك كلمة اعتاد المسلمون قولها عند ما يأمر بعضهم بعضًا، فالكلمة المراد بها الكلام، كما قَالَ ابن مالك:
وَكِلْمَةٌ بِهَا كَلَامٌ قَدْ يُؤَمْ
والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
78 - (الْبَيْعِ يَكُونُ فِيهِ الشَّرْطُ الْفَاسِدُ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ، وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ)
4644 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتِ: اشْتَرَيْتُ بَرِيرَةَ، فَاشْتَرَطَ أَهْلُهَا وَلَاءَهَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "أَعْتِقِيهَا، فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْطَى الْوَرِقَ"، قَالَتْ: فَأَعْتَقْتُهَا، قَالَتْ: فَدَعَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَيَّرَهَا مِنْ زَوْجِهَا، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا، وَكَانَ زَوْجُهَا حُرًّا).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة.
و"جرير": هو ابن عبد الحميد. و"منصور": هو ابن المعتمر. و"إبراهيم": هو ابن يزيد النخعيّ. و"الأسود": هو ابن يزيد النخعيّ، خال إبراهيم. والسند مسلسل بثقات الكوفيين، غير شيخه، فإنه بَغْلانيّ، وفيه ثلاثة منْ التابعين يروي بعضهم عن بعض: منصورٌ، عن إبراهيم، عن الأسود، وفيه رواية الراوي عن خاله، إبراهيم، عن الأسود.
وقولها: "اشتريت بريرة": أي أردت شراءها، بدليل الراوية التالية.
وقوله: "فإن الولاء لمن أعطى الورِق" الفاء للتعليل، والورق: بفتح، فكسر: الفضّة، والمراد به هنا الثمن، سواء كَانَ فضّةً، أو غيره.
وقولها: "فخيّرها": أي فِي زوجها، وفيه تخيير الأمة إذا أُعتقت، وإن كَانَ زوجها حرًّا، وهو الصحيح؛ لهذا الْحَدِيث، وَقَالَ الحنفية: لا تُخيّر إلا إذا كَانَ زوجها عبدًا، وَقَدْ تقدّم البحث فِي هَذَا مستوفًى فِي "كتاب الطلاق"، فراجعه تستفد.
والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدم فِي "كتاب الزكاة" 99/ 2614 وفي "كتاب الطلاق" 29/ 3474. وتقدم شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه، تستفد، واستدلال المصنّف عَلَى ما ترجم له واضح؛ لأن البيع صححه النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أنهم اشترطوا شرطًا باطلاً، فدلّ أن الشرط الباطل لا يبطل البيع، بل يبطل هو بنفسه، فإنه صلى الله عليه وسلم أبطل شرطهم، مع تصحيحه العقد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4645 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ، قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ، يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ لِلْعِتْقِ، وَأَنَّهُمُ اشْتَرَطُوا وَلَاءَهَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اشْتَرِيهَا فَأَعْتِقِيهَا، فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ"، وَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِلَحْمٍ، فَقِيلَ: هَذَا تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ: "هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ"، وَخُيِّرَتْ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.
والسند مسلسل بثقات البصريين إلى شعبة، والباقون مدنيون، وفيه رواية الراوي عن أبيه، عن عمّته، وفيه القاسم أحد الفقهاء السبعة، وفيه شيخ المصنّف أحد مشايخ الستّة بلا واسطة. و"محمد": هو ابن جعفر غُندر.
وقوله: "هو لها صدقة الخ": يشير إلى أن تبدّل الأسماء يبدّل الأحكام، فإنه لما كَانَ فِي يدها كَانَ صدقة، فحرم عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل بيته، فلما أهدته إليهم، فصار هديّة، تغير حكمه، فصار حلالاً لهم.
وقولها: "وخُيّرت": أي خيّرها النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي البقاء مع زوجها، أو فراقها له.
والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه فيما قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4646 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ عَائِشَةَ أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ جَارِيَةً تَعْتِقُهَا، فَقَالَ أَهْلُهَا: نَبِيعُكِهَا عَلَى أَنَّ الْوَلَاءَ لَنَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "لَا يَمْنَعُكِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.
و"مالك": هو ابن أنس الإِمام المدنيّ. والسند منْ رباعيّات المصنّف، وهو (228) منْ رباعيات الكتاب، وهو أصح أسانيد ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أو أصحّ الأسانيد مطلقًا، عَلَى ما نُقل عن البخاريّ رحمه الله تعالى.
والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
79 - (بَيْعُ الْمَغَانِمِ قَبْلَ أَنْ تُقْسَمَ)
4647 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْمَغَانِمِ، حَتَّى تُقْسَمَ، وَعَنِ الْحَبَالَى أَنْ يُوطَأْنَ، حَتَّى يَضَعْنَ مَا فِي بُطُونِهِنَّ، وَعَنْ لَحْمِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ").
رجال هَذَا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أحمد بن حفص بن عبد الله) السلميّ النيسابوريّ، أبو عليّ بن أبي عمرو، صدوق [11] 7/ 409.
2 -
(أبوه) حفص بن عبد الله بن راشد السلميّ، أبو عمر النيسابوريّ، قاضيها، صدوقٌ [9] 7/ 409.
3 -
(إبراهيم) بن طهمان الخراسانيّ، أبو سعيد، سكن بيسابور، ثم مكة، ثقة يُغْرب، وتُكلّم فيه للإرجاء، ويقال: رجع عنه [7] 7/ 409.
4 -
(يحيى بن سعيد) بن قيس الأنصاريّ، أبو سعيد المدنيّ القاضي، ثقة ثبت [5] 22/ 23.
5 -
(عمرو بن شعيب) بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص المدنيّ، أو الطائفيّ، صدوق [5] 105/ 140.
6 -
(عبد الله بن أبي نَجيح) أبو يسار الثقفيّ مولاهم المكيّ، واسم أبيه يسار، ثقة رُمي بالقدر، وربما دلّس [6] 112/ 155.
7 -
(مجاهد) بن جبر، أبو الحجاج المخزومي المكيّ الإمام الثقة المشهور [3] 27/ 31.
8 -
(ابن عباس) عبد الله البحر الحبر رضي الله تعالى عنهما 27/ 31. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ ثمانيات المصنّف رحمه الله تعالى فهو منْ الأسانيد النازلة. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير عمرو بن شعيب، فمن رجال الأربعة. (ومنها): أن رواية عمرو بن شعيب عن عبد الله بن أبي نجيح منْ رواية الأكابر عن الأصاغر؛ لأن عمرًا منْ التابعين منْ الطبقة الخامسة، وعبد الله منْ تابعيّ التابعين منْ الطبقة السادسة، ورواية يحيى عن عمرو منْ رواية الأقران؛ لأنهما منْ الطبقة الخامسة. (ومنها): أن فيه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما منْ العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْمَغَانِمِ) بفتح الميم: جمع مغنم بفتح، فسكون: بمعنى الغنيمة، وهي ما نِيل منْ أهل الشرك عَنْوةً، والحرب قائمةٌ، والفيء: ما نِيل منهم بعد أن تضع الحرب أوزارها. قاله الفيّوميّ (حَتَّى تُقْسَمَ) بالبناء للمفعول، وإنما نهى عن بيعها؛ لعدم تمام ملك صاحبها قبل القسمة، إذ لا يدري كلّ غانم قبل القسمة ما يدخل فِي سهمه، فلو باع سهمه قبل ذلك، فقد باع المجهول (وَعَنِ الْحَبَالَى) بفتح الحاء المهملة، وتخفيف الموحّدة: جمع حُبْلى بضم، فسكون، يقال: حَبِلت المرأة حَبَلاً، منْ باب تعِب: إذا حَمَلت بالولد، فهي حُبْلَى، والجمع حُبْلَياتٌ، وحَبَالَى (أَنْ يُوطَأْنَ، حَتَّى يَضَعْنَ مَا فِي بُطُونهِنَّ) فيه تحريم وطأ المرأة المسبيّة، ونحوها إذا كانت حاملاً حَتَّى تلد، وَقَدْ أخرج أبو داود بإسناد صحيح، منْ طريق حنش الصنعانيّ، عن رويفع ابن ثابت الأنصاريّ، قَالَ: قام فينا خطيبا، قَالَ: أما إني لا أقول لكم إلا ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: يوم حنين، قَالَ:"لا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يسقي ماءه زرع غيره يعني إتيان الحبالى- ولا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يقع عَلَى امرأة منْ السبي، حَتَّى يستبرئها، ولا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يبيع مَغْنَمًا حَتَّى يقسم".
وأخرج الترمذيّ، منْ طريق بسر بن عبيد الله، عن رويفع بن ثابت، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"منْ كَانَ يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يِسقِ ماءه ولد غيره".
قَالَ أبو عيسى: هَذَا حديث حسن، وَقَدْ رُوي منْ غير وجه، عن رويفع بن ثابت، والعمل عَلَى هَذَا، عند أهل العلم، لا يرون للرجل إذا اشترى جارية، وهي حامل أن يطأها حَتَّى تضع.
(وَعَنْ لَحْمِ كُلِّ ذِي نَابٍ) الناب السنّ الذي خلف الرباعية (مِنَ السَّبَاعِ) كالأسد، والذئب، والفهد، وأمثالها، مما يعدو عَلَى النَّاس بأنيابه، وَقَدْ تقدم البحث فِي هَذَا مستوفًى فِي "كتاب الصيد والذبائح" 28/ 4326 - فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
والحديث صحيح، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -79/ 4647 - وفي "الكبرى" 80/ 6241. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
…
80 - (بَيْعُ الْمُشَاعِ)
4648 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شِرْكٍ: رَبْعَةٍ، أَوْ حَائِطٍ، لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ، فَإِنْ بَاعَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يُؤْذِنَهُ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(عمرو بن زُرارة) بن واقد الكلابيّ، أبو محمد النيسابوريّ ثقة ثبت [10] 7/ 368.
2 -
(إسماعيل) بن إبراهيم بن مقسم المعروف بابن عُليّة البصريّ، ثقة ثبت [8] 18/ 19.
3 -
(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم المكيّ، ثقة فقيه فاضل، يدلس [6] 28/ 32.
4 -
(أبو الزبير) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، صدوق، يدلّس [4] 31/ 35.
5 -
(جابر) بن عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله تعالى عنهما 31/ 35. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمكيين منْ ابن جريج، وشيخُهُ، نيسابوريّ، وإسماعيلُ بصريّ. (ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله عنه منْ المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شِرْكٍ) جملة منْ مبتدإ وخبر، و"الشفعة": بضم الشين المعجمة، وسكون الفاء، وغلط منْ حرّكها: لغةً مأخوذة منْ الشَّفْع، وهو الزوج، وقيل: منْ الزيادة، وقيل: منْ الإعانة، وشرعًا: انتقال حصّة شريك إلى شريك، كانت انتقلت إلى أجنبيّ بمثل العوض المسمّى، ولم يختلف العلماء فِي مشروعيّتها، إلا ما نقل عن أبي بكر الأصمّ منْ إنكارها. قاله فِي "الفتح" 5/ 192. وقوله:"فِي كلّ شرك" بكسر أوله، وسكون الراء: أي مشترَك، وقوله (رَبْعَةٍ) بالجرّ بدلٌ منْ "شرك"، و"الربعة": بفتح، فسكون: المسكن، والدار. وَقَالَ القرطبيّ: الربعة تأنيث الرَّبْع، وهو المنزل، وإنما قيل للمنزل: رَبْعٌ؛ لأن الإنسان يربع فيه: أي يقيم، يقال: هذه ربع، وهذه ربعة، كما يقال: دارٌ، ودارةٌ. انتهى "المفهم" 4/ 524.
(أَوْ حَائِطٍ) أي بستان النخل (لَا يَصْلُحُ) بضم اللام، وفتحها، منْ باب كرُم، ونفع، وفي الرواية الآتية فِي 108/ 4703 - :"لا يحلّ له أن يبيعه حَتَّى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك"(لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ) بضم حرف المضارعة، منْ الإيذان، وهو الإعلام: أي حَتَّى يُعلمه، قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: هو محمول عَلَى الإرشاد إلى الأولى، بدليل قوله:"فإن باع، ولم يؤذنه الخ"، ولو كَانَ ذلك عَلَى التحريم لذمّ البائع، ولفسخ البيع، لكنه أجازه، وصححه، ولم يذمّ الفاعل، فدلّ عَلَى ما قلناه، وَقَدْ قَالَ بعض شيوخنا: إن ذلك يجب عليه. انتهى "المفهم" 4/ 527.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قاله بعض المشايخ هو الحقّ، فيجب عليه أن يعلمه، ولا يستلزم ترك الواجب عَلَى بطلان البيع، كما مرّ تقريره فِي بيع المصرَّاة، وتلقّي الجلب، فلا تغفل. والله تعالى أعلم.
(شَرِيكَهُ) قَالَ القرطبيّ: هو عموم فِي المسلم، والذميّ، وهو قول مالك، والشافعيّ، وأبي حنيفة، وحكي عن الشعبيّ، والثوريّ: أنه لا شفعة للذميّ؛ لأنه صاغرٌ، وهو قول أحمد، والصواب الأول؛ للعموم، ولأنه حقّ جرى بسببه، فيترتّب عليه حكمه منْ استحقاق طلبه، وأخذه، كالدين، وأرش الجناية. انتهى.
(فَإِنْ بَاعَ) أي منْ غير أن يُعلمه (فَهُوَ) أي الشريك (أَحَقُّ بِهِ) يعني أن الشريك أحقّ بأخذ المبيع بالثمن الذي اشتراه به المشتري، منْ عين، أو عَرض، نقدًا، أو إلى أجل، وهو قول مالك، وأصحابه. وذهب أبو حنيفة، والشافعيّ: إلى أنه لا يشفع إلى الأجل، وأنه إن شاء شفع بالنقد، وإن شاء صبر إلى الأجل، فيشفع عنده. قاله فِي "المفهم" 4/ 528.
(حَتَّى يُؤْذِنَهُ) الظاهر أن الضمير المرفوع للشريك، والمنصوب للبائع، أي حَتَّى يُعلم الشريك البائع بتركه، يعني أنه أحق بالشفعة، إلى أن يعلن بالترك، فإذا ترك، فالبيع ثابت للمشتري. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث جابر رضي الله عنه هَذَا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -80/ 4648 و107/ 4702 و108/ 4703 و109/ 4707 - وفي "الكبرى" 81/ 6242 و109/ 6299 و110/ 6300 و111/ 6304. وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 2214 و"الشفعة" 2257 و"الشركة" 2495 و2496 و"الحيل" 6976 (م) فِي "البيوع" 1608 (د) فِي "البيوع" 3512 و3514 (ت) فِي "الأحكام" 1370 (ق) فِي "الأحكام" 2499 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 13742 و13841 و13915 و13929 و13994 و14440 و14581 و14675 (الدارمي) فِي "البيوع" 2514. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم بيع المشاع، وهو أنه يجب عَلَى الشريك إذا أراد أن يبيع نصيبه استئذان شريكه، فإن باع بدون استئذان، فلشريكه أن يأخذه بالعوض المسمّى. (ومنها): ثبوت الشفعة للشريك، وهذا مما لا خلاف فيه، إلا قولاً شاذًّا، كما تقدّم. (ومنها): مراعاة الشرع حقوق المسلمين، وحرمتهم، فجعل للشريك عَلَى شريكه حقّا فِي ملكه، بحيث لا يحلّ له بيعه إلا بإذنه؛ لأن فيه إدخال ضرر عليه إذا باعه ممن لا يراعي حقوق الجوار. وسيأتي البحث عن أحكام الشفعة فِي بابها مستوفًى، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
***
81 - (التَّسْهِيلُ فِي تَرْكِ الإِشْهَادِ عَلَى الْبَيْعِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وجه استدلال المصنّف رحمه الله تعالى بحديث الباب عَلَى الترجمة، منْ حيث أنه صلى الله عليه وسلم اشترى منْ ذلك الأعرابيّ فرسه، ولم يُشهد عَلَى ذلك، ولذا لما جحده البيع، طالبه بالإشهاد، لظنه أنه لا يجد منْ يشهد له عَلَى ذلك؛ لعدم إشهاده حال البيع، وسيأتي تحقيق الخلاف فِي وجوب الإشهاد فِي المسألة الرابعة، إن شاء الله تعالى.
4649 -
(أَخْبَرَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ مَرْوَانَ بْنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عِمْرَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى -وَهُوَ ابْنُ حَمْزَةَ- عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، أَنَّ الزُّهْرِيَّ أَخْبَرَهُ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ، أَنَّ عَمَّهُ حَدَّثَهُ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، ابْتَاعَ فَرَسًا مِنْ أَعْرَابِيٍّ، وَاسْتَتْبَعَهُ لِيَقْبِضَ ثَمَنَ فَرَسِهِ، فَأَسْرَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبْطَأَ الأَعْرَابِيُّ، وَطَفِقَ الرِّجَالُ يَتَعَرَّضُونَ لِلأَعْرَابِيِّ، فَيَسُومُونَهُ بِالْفَرَسِ، وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ابْتَاعَهُ، حَتَّى زَادَ بَعْضُهُمْ فِي السَّوْمِ عَلَى مَا ابْتَاعَهُ بِهِ مِنْهُ، فَنَادَى الأَعْرَابِيُّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ مُبْتَاعًا هَذَا الْفَرَسَ، وَإِلاَّ بِعْتُهُ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، حِينَ سَمِعَ نِدَاءَهُ، فَقَالَ: "أَلَيْسَ قَدِ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ؟ "، قَالَ: لَا، وَاللَّهِ مَا بِعْتُكَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "قَدِ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ"، فَطَفِقَ النَّاسُ يَلُوذُونَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَبِالأَعْرَابِيِّ، وَهُمَا يَتَرَاجَعَانِ، وَطَفِقَ الأَعْرَابِيُّ يَقُولُ: هَلُمَّ شَاهِدًا يَشْهَدُ أَنِّي قَدْ بِعْتُكَهُ، قَالَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بِعْتَهُ، قَالَ: فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى خُزَيْمَةَ، فَقَالَ: "لِمَ تَشْهَدُ؟ " قَالَ: بِتَصْدِيقِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ، شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ).
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(الهيثم بن مروان بن الهيثم) العنسيّ، أبو الحكم الدمشقيّ، مقبول [11] 3/ 3722 منْ أفراد المصنّف.
2 -
(محمد بن بكّار) أبو عبد الله الدمشقيّ القاضي، صدوقٌ [9] 3/ 3722.
3 -
(يحيى بن حمزة) أبو عبد الرحمن الدمشقيّ القاضي، ثقة رمي بالقدر [8] 60/ 1768.
4 -
(الزُّبيديّ) محمد بن الوليد، أبو الهذيل الحمصيّ القاضي، ثقة ثبت حافظ، منْ أثبت أصحاب الزهريّ [7] 45/ 56.
5 -
(الزهريّ) محمد بن مسلم الإِمام الحجة الثبت المدنيّ [4] 1/ 1.
6 -
(عمارة بن خزيمة) بن ثابت الأنصاريّ الأوسيّ، أبو عبد الله، أو أبو محمد المدنيّ، ثقة [3]، مات سنة (105) وهو ابن (75) سنة، تقدّم فِي 16/ 16.
7 -
(عمه) رضي الله تعالى عنه، سيأتي الكلام عليه قريبًا. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالشاميين إلى الزبيديّ، وبالمدنيين بعده. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ) الأنصاريّ رحمه الله تعالى (أَنَّ عَمَّهُ حَدَّثَهُ) قَالَ ابن سعد رحمه الله تعالى فِي "الطبقات": لم يسم لنا أخو خزيمة بن ثابت، الذي رَوَى هَذَا الْحَدِيث، وكان له أخوان، يقال لأحدهما: وَحْوَح، وللآخر عبد الله انتهى (وَهُوَ) أي عمه الذي حدّثه (مِنْ أَصْحَاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ابتاع) أي اشترى (فرسا منْ أعرابي) اسمه سواء بن قيس المحاربي، واسم الفرس الْمُرْتَجِز، قَالَ ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، سألت محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة، عن المرتجز؟ فَقَالَ: هو الفرس الذي اشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم منْ الأعرابيّ، الذي شهد فيه خزيمة بن ثابت، وكان الأعرابيّ منْ بني مرة. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: محمد بن عمر هو الواقديّ، وهو ضعيف.
وَقَالَ الحافظ المنذري رحمه الله تعالى: وهذا الأعرابيّ: هو سواء بن الحارث، وقيل: سواء بن قيس المحاربي، ذكره غير واحد فِي الصحابة. وقيل: إنه جحد البيع بأمر بعض المنافقين. وقيل: إن هَذَا الفرس هو المرتجز المذكور، فِي أفراس رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى كلام المنذري.
قَالَ فِي "القاموس": فِي باب الزاي، وفصل الراء: الْمُرْتَجِز بن الْمُلاءَة: فرس للنبي صلى الله عليه وسلم، سُمي به لحسن صَهِيله، اشتراه منْ سَوَاء بن الحارث بن ظالم. انتهى.
(وَاسْتَتْبَعَهُ) ولأبي داود: "فاستتبعه" بالفاء: أي طلب النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ ذلك الأعرابيّ أن يتبعه إلى بيته (لِيَقْبِضَ ثَمَنَ فَرَسِهِ) ويحتمل أن يكون الفاعل ضمير الأعرابيّ، والمفعول ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم: يعني أن ذلك الأعرابيّ طلب منه صلى الله عليه وسلم أن يتبعه إلى بيته حَتَّى يقبض منه ثمن ذلك الفرس، والأول أقرب (فَأَسْرَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أي فِي المشي (وَأَبْطَأَ الْأَعْرَابِيُّ) أي تأخّر عنه، وهذا هو السبب فِي مساومة الرجال فرسه، حيث لم يروا النبيّ صلى الله عليه وسلم معه، ولم
يعلموا بشرائه منه (وَطَفِقَ) بكسر الفاء، وفتحها، منْ بابي فرِحَ، وضرب، يقال: طفق يفعل كذا طَفْقًا، وطُفُوقًا: إذا واصل الفعل، خاصّ بالإثبات، فلا يقال: ما طفق، وطفق بمراده: ظفِر به، وأطفقه الله به، وطفق الموضعَ، كفرح: لزمه. قاله فِي "القاموس"، والمعنى هنا: أخذ، وشرع (الرِّجَالُ) ولأبي داود:"رجال" بالتنكير (يَتَعَرَّضُونَ لِلْأَعْرَابِيِّ) أي يتصدّون له، يقال: تعرّض للمعروف، وتعرّضه، يتعدّى بنفسه، وبالحرف: إذا تصدّى له، وطلبه. قاله فِي "المصباح"(فَيَسُومُونَهُ بالْفَرَسِ) أي يطلبون أن يبيعه لهم، قَالَ الفيّوميّ: وسام البائع السلعةَ سَوْمًا، منْ باب قَالَ: عرَضَها للبيع، وسامها المشتري، واستامها: طلب بيعها، قَالَ: وَقَدْ تزاد الباء فِي المفعول، فيقال: سُمْتُ به. انتهى. ولفظ أبي داود: "فيساومونه بالفرس"(وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) أي لا يعلمون (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ابْتَاعَهُ) أي اشترى ذلك الفرس، منْ الأعرابيّ، ولذا ساوموه (حَتَّى زَادَ بَعْضُهُمْ فِي السَّوْمِ عَلَى مَا ابْتَاعَهُ بِهِ مِنْهُ) أي عَلَى الثمن الذي اشترى به رسول الله صلى الله عليه وسلم الفرس منْ الأعرابيّ (فَنَادَى الأَعْرَابِيُّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) يعني أنه لما وجد منْ زاده فِي الثمن ناداه صلى الله عليه وسلم، كأنه سامه قبل هَذَا، ولم يشتره منه (فَقَالَ) الأعرابيّ (إِنْ كُنْتَ مُبْتَاعًا) أي مريدًا أن تشتري (هَذَا الْفَرَسَ) وجواب "إن" محذوف، دلّ عليه السياق: أي فعجّل بالشراء (وَإِلَّا بِعْتُهُ) أي منْ غيرك (فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، حِينَ سَمِعَ نِدَاءَهُ، فَقَالَ: "أَلَيْسَ قَدِ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ؟ ") ولفظ أبي داود: "أو ليس قد ابتعته منك"(قَالَ) الأعرابيّ (لَا، وَاللَّهِ مَا بِعْتُكَهُ) أي لم أبعه منك قبل هَذَا (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "قَدِ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ") ولأبي داود: "بلى قد ابتعته منك"(فَطَفِقَ النَّاسُ يَلُوذُونَ) أي يتعلّقون (بالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَبِالْأَعْرَابِيِّ) ليسمعوا مكالمتهما (وَهُمَا يَتَرَاجَعَانِ، وَطَفِقَ الْأَعْرَابِيُّ يَقُولُ: هَلُمَّ) أي هات، وأحضر (شَاهِدًا، يَشْهَدُ أَنِّي قَدْ بِعْتُكَهُ) وزاد ابن سعد: "فمن جاء منْ المسلمين قَالَ للأعرابيّ: ويلك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ليقول إلا حقًّا"(قَالَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِت) بن الفاكه بن ثعلبة بن ساعدة الأنصاريّ الْخَطْميّ، أبو عمارة المذنيّ، ذو الشهادتين، قَالَ ابن سعد: كَانَ هو وعُمير بن عدىّ بن خَرَشَة يكسران أصنام بني خَطْمة. وَقَالَ أبو معشر المدنيّ، عن محمد بن عُمارة بن خُزيمة بن ثابت: ما زال جدّي كافًّا سلاحه يوم صِفّين حَتَّى قُتل عمّار رضي الله عنه، فسلّ سيفه، وقاتل حَتَّى قُتل، وذلك سنة (37). وذكر ابن عبد البرّ، والترمذيّ قبله، واللالكائيّ أنه شهد بدرًا، وأما أصحاب المغازي، فلم يذكروه فِي البدريين، وَقَالَ العسكريّ: وأهل المغازي لا يُثبتون أنه شهد أحدًا، وشهد المشاهد بعدها (أَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بِعْتَهُ) أي بعت الفرس للنبيّ صلى الله عليه وسلم (قَالَ: فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى خُزَيْمَةَ، فَقَالَ:"لِمَ تَشْهَدُ؟) ولأبي داود: "بم تشهد؟ "، وزاد ابن سعد: "ولم تكن معنا"
(قَالَ) خزيمة رضي الله عنه (بِتَصْدِيقِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) أي بمعرفتي أنك صادق فِي كلّ ما تقول، أو بسبب أني صدّقتك فِي أنك رسول، ومعلومٌ منْ حال الرسول عدم الكذب فيما يُخبر، ولاسيّما فِي أمر الدنيا الحقيرة. وزاد ابن سعد:"أنا أصدّقك بخبر السماء، ولا أصدّقك بما تقول؟ "، وفي لفظ:"أعلم أنك لا تقول إلا حقّا، قد آمناك عَلَى أفضل منْ ذلك عَلَى ديننا".
(قَالَ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ، شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ) قَالَ السنديّ: أي فحكم بذلك، وشرع فِي حقّه، إما بوحي جديد، أو بتفويض مثل هذه الأمور إليه منه تعالى، والمشهور أنه ردّ الفرس بعد ذلك عَلَى الأعرابيّ، فمات منْ ليلته عنده. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: مات منْ ليلته، هَذَا يخالف ما تقدّم فِي كلام المنذريّ، وغيره منْ أنه قيل: إنه هو المرتجز الفرس المعروف فِي أفراس رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم.
وَقَالَ الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى: قد حصل لذلك تأثير فِي مُهِمّ ديني، وقع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وذلك فيما رَوَى ابن أبي شيبة فِي "المصاحف" عن الليث بن سعد، قَالَ: أول منْ جمع القرآن أبو بكر، وكتبه زيد بن ثابت، وكان النَّاس يأتون زيد بن ثابت، فكان لا يكتب آية، إلا بشاهدي عدل، وإن آخر سورة براءة، لم توجد إلا مع خزيمة بن ثابت، فَقَالَ: اكتبوها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل شهادته بشهادة رجلين، فكَتَبَ، وإن عمر أَتَى بآية الرجم، فلم يكتبها؛ لأنه كَانَ وحده. انتهى.
وَقَالَ الخطّابيّ رحمه الله تعالى: هَذَا حديث يضعفه كثير منْ النَّاس غيرَ موضعه، وَقَدْ تَذَرَعّ به قوم منْ أهل البدع، إلى استحلال الشهادة، لمن عرف عنده بالصدق، عَلَى كل شيء ادعاه، وإنما وجه الْحَدِيث، ومعناه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، إنما حكم عَلَى الأعرابيّ بعلمه، إذ كَانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم صادقًا بارا فِي قوله، وجرت شهادة خزيمة فِي ذلك، مجرى التوكيد لقوله، والاستظهار بها عَلَى خصمه، فصارت فِي التقدير شهادته له، وتصديقه إياه عَلَى قوله، كشهادة رجلين فِي سائر القضايا. انتهى.
قَالَ صاحب "العون": شهادة خزيمة، قد جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهادتين، دون غيره ممن هو أفضل منه، وهذا لِمُخَصِّص اقتضاه، وهو مبادرته، دون منْ حضره منْ الصحابة، إلى الشهادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ قَبِل الخلفاء الراشدون شهادته وحده، وهي خاصة له. انتهى.
وَقَالَ العلّامة ابن القيّم رحمه الله تعالى: وَقَدْ احتجّ بحديث خزيمة منْ يرى أن للحاكم أن يحكم بعلمه، قَالَ: وجرت شهادة خزيمة فِي ذلك مجرى التوكيد،
والاستظهار، ولهذا لم يكن معها يمين. وهذا القول باطلٌ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم إنما أمضى البيع بشهادة خزيمة، وجعلها بمنزلة شاهدين؛ لأن شهادة خزيمة عَلَى البيع، ولم يره، استندت إلى أمر هو أقوى منْ الرؤية، وهو تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراهين الدّالّة عَلَى صدقه، وأن كلّ ما يُخبر به حقّ، وصدقٌ قطعًا، فلما كَانَ منْ المستقرّ عنده أنه الصادق فِي خبره، البارّ فِي كلامه، وأنه يستحيل عليه غير ذلك البتّة، كَانَ هَذَا منْ أقوى التحمّلات، فجزم بأنه بايعه، كما يجزم لو رآه، وسمعه، بل هذه الشهادة مستندة إلى محض الإيمان، وهي منْ لوازمه، ومقتضاه، ويجب عَلَى كلّ مسلم أن يشهد بما شهد به خزيمة، فلما تميّزت عن شهادة الرؤية والحسّ التي يشترك فيها العدول وغيره، أقامها النبيّ صلى الله عليه وسلم مقام شهادة رجلين. انتهى "تهذيب السنن" 5/ 223 - 224.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله ابن القيّم رحمه الله تعالى هو عين التحقيق، وحاصله أن شهادة خزيمة رضي الله عنه شهادة حقيقيّة، أقامها الشارع مقام شهادة رجلين، لتوفّر شروطها عَلَى الوجه الأكمل، فليس حكمه صلى الله عليه وسلم بثبوت هَذَا البيع لمجرّد علمه، بل لوجود الشهادة المعتبرة التي طلبها منه خصمه اللدود. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عم عمارة بن خزيمة رضي الله عنه هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -81/ 4649 - وفي "الكبرى" 82/ 6243. وأخرجه (د) فِي "الأقضية" 2607. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان التسهيل فِي ترك الشهادة عَلَى البيع التي أمر الله تعالى بها فِي كتابه العزيز بقوله:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} الآية، [البقرة: 282] فإنه أمر بالإشهاد، والأمر يقتضي الوجوب، فأراد المصنّف رحمه الله تعالى أن هَذَا الْحَدِيث يصرفه عن الوجوب إلى الاستحباب، حيث إن النبيّ صلى الله عليه وسلم اشترى منْ هَذَا الأعرابيّ الفرس بغير إشهاد، ولذلك طالبه أن يُشهد عَلَى البيع، حيث تأكّد أنه لم يُشهد عليه، إلا أن خزيمة رضي الله عنه بادر بنصره، وتعزيره؛ أداءا لما أوجب الله تعالى عليه، بقوله:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 8، 9]، وَقَالَ سبحانه
وتعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157].
(ومنها): أن فيه منقبة عظيمة لخزيمة بن ثابت رضي الله عنه، حيث عدلت شهادته وحده بشهادة رجلين منْ المسلمين، وليس ذلك لأحد غيره منْ الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فضلاً عن غيرهم منْ الأنام، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .
(ومنها): ما كَانَ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ مزاولة أمور الدنيا بنفسه الشريفة، مع أن أصحابه يتسابقون فِي قضائها، ولكنه لا يريد ذلك، بل يتولاها بنفسه، تواضعًا، وتشريعًا لأمته صلى الله عليه وسلم.
(ومنها): تأدّب الصحابة رضي الله عنهم مع علمهم بأنه صلى الله عليه وسلم قد اشتراه حقّا، إلا أنهم ما أقدموا عَلَى الشهادة له؛ لما يعلمون منْ أن الشهادة يشترط فيها حضور الشاهد القضيّة التي يشهد بها، معاينة، لا علمًا، وهذا هو الأصل، إلا أن خزيمة رضي الله عنه أُلهم ما هو أفضل منْ ذلك، وهو أن تصديقه بما قَالَ صلى الله عليه وسلم، أشدّ ثبوتًا، وتحقّقًا مما يشاهده هو بنفسه، فكان الحقّ معه رضي الله عنهم جميعًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي وجوب الإشهاد عَلَى البيع:
قَالَ أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله تعالى فِي "تفسيره": ما حاصله: اختلف النَّاس هل الإشهاد عَلَى البيع عَلَى الوجوب، أو الندب، فَقَالَ أبو موسى الأشعري، وابن عمر، والضحاك، وسعيد بن المسيب، وجابر بن زيد، ومجاهد، وداود بن علي، وابنه أبو بكر: هو عَلَى الوجوب، ومن أشدهم فِي ذلك عطاء، قَالَ: أَشْهِد إذا بعت، وإذا اشتريت بدرهم، أو نصف درهم، أو ثلث درهم، أو أقل منْ ذلك، فإن الله عز وجل، يقول:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} ، وعن إبراهيم قَالَ: أَشهِد إذا بعت، واشتريت، ولو دَسْتَجَة
(1)
بَقْل، وممن كَانَ يذهب إلى هَذَا، ويرجحه الطبري، وَقَالَ: لا يحل لمسلم إذا باع، وإذا اشترى، إلا أن يُشهد، وإلا كَانَ مخالفا كتاب الله عز وجل، وكذا إن كَانَ إلى أجل، فعليه أن يكتب، ويشهد إن وجد كاتبا. وذهب الشعبي، والحسن، إلى أن ذلك عَلَى الندب والإرشاد، لا عَلَى الحتم، ويحكى أن هَذَا قول مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي، وزعم ابن العربي: أن هَذَا قول الكافة، قَالَ: وهو الصحيح، ولم يُحكَ عن أحد، ممن قَالَ بالوجوب، إلا الضحاك، قَالَ: وَقَدْ باع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكتب، قَالَ: ونسخةُ كتابه: "بسم الله الرحمن الرحيم، هَذَا ما اشترى العَدّاء بن خالد بن هَوْذَة
(1)
"الدستجة بفتح، فسكون، ففتح: الْحُزْمة معرّب جمعه الدَّسَاتيج. اهـ "القاموس".
منْ محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، اشترى منه عبدا، أو أمة، لا داء، ولا غائلة، ولا خِبْثة، بيع المسلم المسلمَ". وَقَدْ باع، ولم يُشهد، واشترى، ورَهَن درعه عند يهودي، ولم يُشهِد، ولو كَانَ الإشهاد أمرا واجبا، لوجب مع الرهن؛ لخوف المنازعة.
قَالَ القرطبيّ: قد ذكرنا الوجوب عن غير الضحاك، وحديثُ العَدّاء هَذَا، أخرجه الدارقطنيّ، وأبو داود، وكان إسلامه بعد الفتح وحنين، وهو القائل: قاتلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فلم يظهرنا الله، ولم ينصرنا، ثم أسلم، فحسن إسلامه، ذكره أبو عمر، وذكر حديثه هَذَا، وَقَالَ فِي آخره: قَالَ الأصمعي: سألت سعيد بن أبي عروبة، عن الغائلة؟ فَقَالَ: الإباق، والسرقة، والزنا، وسألته عن الخبثة؟ فَقَالَ: بيع أهل عهد المسلمين. وَقَالَ الإِمام أبو محمد بن عطية: والوجوب فِي ذلك قَلِقٌ، أما فِي الدقائق، فصعب شاقّ، وأما ما كثر، فربما يقصد التاجر الاستئلاف بترك الإشهاد، وَقَدْ يكون عادة فِي بعض البلاد، وَقَدْ يستحيي منْ العالم، والرجل الكبير الموقر، فلا يُشهد عليه، فيدخل ذلك كله فِي الائتمان، ويبقي الأمر بالإشهاد ندبا؛ لما فيه منْ المصلحة فِي الأغلب، ما لم يقع عذر، يمنع منه كما ذكرنا. وحكى المهدوي، والنحاس، ومكي، عن قوم: أنهم قالوا: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} الآية [البقرة: 282] منسوخ بقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} الآية [البقرة: 283]، وأسنده النحاس عن أبي سعيد الخدريّ، وأنه تلا:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} ، إلى قوله:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} ، قَالَ: نسخت هذه الآية ما قبلها، قَالَ النحاس: وهذا قول الحسن، والحكم، وعبد الرحمن بن زيد، قَالَ الطبري: وهذا لا معنى له؛ لأن هَذَا حكم غير الأول، وإنما هَذَا حكم منْ لم يجد كاتبا، قَالَ الله عز وجل:{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} : أي فلم يطالبه برهن، فليؤد الذي ائتمن أمانته، قَالَ: ولو جاز أن يكون هَذَا ناسخا للأول، لجاز أن يكون قوله عز وجل:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} الآية ناسخا لقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} الآية، ولجاز أن يكون قوله عز وجل:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} ناسخا لقوله عز وجل: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} . وَقَالَ بعض العلماء: إن قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} لم يتبين تأخر نزوله عن صدر الآية، المشتملة عَلَى الأمر بالإشهاد، بل وردا معا، ولا يجوز أن يرد الناسخ والمنسوخ معا جميعا فِي حالة واحدة، قَالَ: وَقَدْ روي عن ابن عباس، أنه قَالَ، لما قيل له: إن آية الدين منسوخة قَالَ: لا والله، إن آية الدين محكمة، ليس فيها نسخ، قَالَ: والإشهاد إنما جعل للطمأنينة، وذلك أن الله تعالى
جعل لتوثيق الدين طرقا: منها الكتاب، ومنها الرهن، ومنها الإشهاد، ولا خلاف بين علماء الأمصار، أن الرهن مشروع، بطريق الندب، لا بطريق الوجوب، فيُعلم منْ ذلك مثله فِي الإشهاد، وما زال النَّاس يتبايعون حضرا وسفرا، وبرا وبحرا، وسهلا وجبلا، منْ غير إشهاد، مع علم النَّاس بذلك، منْ غير نكير، ولو وجب الإشهاد، ما تركوا النكير عَلَى تاركه.
قَالَ القرطبيّ: هَذَا كله استدلال حسن، وأحسن منه ما جاء منْ صريح السنة، فِي ترك الإستشهاد، وهو ما خرّجه الدارقطنيّ
(1)
، عن طارق بن عبد الله المحاربي، قَالَ: أقبلنا فِي ركب منْ الرَّبَذَة، وجنوب الربذة، حَتَّى نزلنا قريبا منْ المدينة، ومعنا ظعينة لنا، فبينا نحن قعود، إذ أتانا رجل عليه ثوبان أبيضان، فسلم، فرددنا عليه، فَقَالَ منْ أين أقبل القوم؟ فقلنا: منْ الربذة، وجنوب الربذة، قَالَ: ومعنا جمل أحمر، فَقَالَ تبيعوني جملكم هَذَا؟ فقلنا: نعم، قَالَ بكم؟ قلنا بكذا وكذا صاعا منْ تمر، قَالَ: فما
(1)
ونصّ الدارقطنيّ رحمه الله تعالى فِي "كتاب البيوع" منْ "سننه" 3/ 44 - 45: 186 - حدثنا أبو عبيد القاسم بن إسماعيل، نا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطّان، نا ابن نمير، عن يزيد ابن زياد بن أبي الجعد، نا أبو صخرة، جامع بن شداد، عن طارق بن عبد الله المحاربي، قَالَ: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة بسوق ذي المجاز، وأنا فِي تباعة لي -هكذا قَالَ- أبيعها، فمر وعليه حلة حمراء، وهو ينادي بأعلى صوته:"يا أيها النَّاس، قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا"، ورجل يتبعه بالحجارة، وَقَدْ أدمى كعبيه، وعرقوبيه، وهو يقول: يا أيها النَّاس لا تطيعوه، فإنه كذاب، قلت: منْ هَذَا؟ فقالوا: هَذَا غلام بني عبد المطلب، قلت: منْ هَذَا الذي يتبعه يرميه؟ قالوا: هَذَا عمه عبد العزى، وهو أبو لهب، فلما ظهر الإِسلام، وقدم المدينة، أقبلنا فِي ركب منْ الربذة، وجنوب الربذة، حَتَّى نزلنا قريبا منْ المدينة، ومعنا ظعينة لنا، قَالَ فبينا نحن قعود، إذ أتانا رجل عليه ثوبان أبيضان، فسلم، فرددنا عليه، فَقَالَ:"منْ أين أقبل القوم؟ " قلنا: منْ الربذة، وجنوب الربذة، قَالَ: ومعنا جمل أحمر، قَالَ: تبيعوني جملكم، قلنا: نعم، قَالَ:"بكم؟ " قلنا: بكذا وكذا صاعا منْ تمر، قَالَ: فما استوضعنا شيئا، وَقَالَ:"قد أخذته"، ثم أخذ برأس الجمل، حَتَّى دخل المدينة، فتوارى عنا، فتلاومنا بيننا، وقلنا: أعطيتم جملكم منْ لا تعرفونه، فقالت الظعينة: لا تلاوموا، فقد رأيت وجه رجل، ما كَانَ ليحقركم، ما رأيت وجه رجل، أشبه بالقمر ليلة البدر منْ وجهه، فلما كَانَ العشاء، أتانا رجل، فَقَالَ: السلام عليكم، أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، وأنه أمركم أن تأكلوا منْ هَذَا حَتَّى تشبعوا، وتكتالوا حَتَّى تستوفوا، قَالَ: فأكلنا حَتَّى شبعنا، واكتلنا حَتَّى استوفينا، فلما كَانَ منْ الغد، دخلنا المدينة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قائم عَلَى المنبر، يخطب النَّاس، وهو يقول:"يد المعطي العليا، وابدأ بمن تعول، أمك، وأباك، وأختك، وأخاك، وأدناك أدناك"، فقام رجل منْ الأنصار، فَقَالَ: يا رسول الله، هؤلاء بنو ثعلبة بن يربوع، الذين قتلوا فلانا فِي الجاهلية، فخذ لنا بثأرنا، فرفع يديه حَتَّى رأينا بياض إبطيه، فَقَالَ:"ألا لا يجني والد عَلَى ولده". انتهى. ورجال هَذَا الإسناد كلهم ثقات، كما قَالَ صاحب "التعليق المغني عَلَى الدارقطنيّ" 3/ 44.
استوضعنا شيئا، وَقَالَ قد أخذته، ثم أخذ برأس الجمل، حَتَّى دخل المدينة، فتوارى عنا، فتلاومنا بيننا، وقلنا أعطيتم جملكم منْ لا تعرفونه، فقالت الظعينة: لا تَلاوموا، فقد رأيت وجه رجل، ما كَانَ ليُخفِركم
(1)
ما رأيت، وجه رجل أشبه بالقمر ليلة البدر، منْ وجهه، فلما كَانَ العشاء أتانا رجل، فَقَالَ: السلام عليكم أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، وإنه أمركم أن تأكلوا منْ هَذَا، حَتَّى تشبعوا، وتكتالوا حَتَّى تستوفوا، قَالَ: فأكلنا حَتَّى شبعنا، واكتلنا حَتَّى استوفينا. وذكر الْحَدِيث الزهريّ عن عمارة بن خزيمة، أن عمه حدثه، وهو منْ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسا منْ أعرابي، الْحَدِيث، وفيه: فطفق الأعرابيّ يقول: هلم شاهدا يشهد أني بعتك، قَالَ خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنك قد بعته، فأقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى خزيمة، فَقَالَ بم تشهد؟ فَقَالَ: بتصديقك يا رسول الله، قَالَ: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين". أخرجه النسائيّ وغيره. انتهى "الجامع لأحكام القرآن" 3/ 402 - 405.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الأرجح قول منْ حمل الأمر فِي الآية عَلَى الاستحباب؛ للأدلّة المذكورة فِي استدلال القرطبيّ رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
…
82 - (اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي الثَّمَنِ)
4650 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِي عُمَيْسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الأَشْعَثِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "إِذَا اخْتَلَفَ الْبَيِّعَانِ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ، فَهُوَ مَا يَقُولُ رَبُّ السِّلْعَةِ، أَوْ يَتْرُكَا").
رجال هَذَا الإسناد: ثمانية:
1 -
(محمد بن إدريس) أبو حاتم الرازيّ الإِمام الحافظ الحجة الكبير الناقد البصير، إمام الجرح والتعديل [11] 112/ 2879.
2 -
(عمر بن حفص بن غياث) أبو حفص الكوفيّ، ثقة، ربما وهم [10] 5/ 501.
(1)
ولفظ "سنن الدارقطنيّ" 3/ 45: "ليحقركم".
3 -
(أبوه) حفص بن غياث، أبو عمر النخعيّ الكوفيّ القاضي، ثقة فقيه، تغيّر حفظه قليلاً فِي الآخر [8] 86/ 105.
4 -
(أبو عميس) عتبة بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الهذليّ المسعوديّ الكوفيّ، ثقة [7] 40/ 684.
5 -
(عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث) كذا وقع نسبه عند المصنّف، ووقع عند يعقوب بن سفيان:"عبد الرحمن بن محمد بن قيس بن محمد بن الأشعث"، ووقع فِي "سنن أبي داود":"عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الأشعث بن قيس"، وكذا ذكره ابن أبي حاتم، قَالَ فِي "تهذيب التهذيب": وهو الصواب. قيل: إن الحجاج قتله بعد سنة (90).
وَقَالَ فِي "التقريب": عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الأشعث بن قيس، الكنديّ الكوفيّ، مجهول الحال [6]. روى له المصنّف، وأبو داود هَذَا الْحَدِيث فقط.
6 -
(أبوه) قيس بن محمد بن الأشعث الكنديّ الكوفيّ، مقبول [6].
رَوى عن جدّه الأشعث، وأبيه محمد، وعديّ بن حاتم، وكثير بن شهاب. وعنه ابناه: عبد الرحمن، وعثمان، وأبو إسحاق الشيباني. ذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ الهيثم بن عَديّ: كَانَ ضرير البصر، وكان يتنسّك. روى له المصنّف، وأبو داود هَذَا الْحَدِيث فقط.
7 -
(جدّه) محمد بن الأشعث بن قيس الكنديّ، أبو القاسم الكوفيّ، مقبول [2]، ووهم منْ ذكره فِي الصحابة.
وفي "تهذيب التهذيب": أمه أخت أبى بكر الصديق، روى عن أبيه، وعمر، وعثمان، وابن مسعود، وعائشة، روى عنه ابنه قيس، والشعبي، ومجاهد، والزهري، وغيرهم، قَالَ ابن سعد: أمه فَرْوة بنت أبي قُحافة، أخت أبي بكر، وأما ابن منده، فذكر أنه وُلد عَلَى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يصح؛ لأن الأشعث، إنما تزوج أم فروة فِي خلافة أبي بكر، وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: قتله المختار سنة (66)، وَقَالَ خليفة: قُتل سنة (7) مع مصعب بن الزبير أيام المختار، وله عند أبي داود حديث فِي عبد الرحمن بن قيس، وعند النسائيّ
(1)
آخر، يتعلق بالصائم. قَالَ الحافظ: وفي سنة سبع أرخه عامة أهل التاريخ، وكذا هو فِي النسخة التي وقفت عليها منْ "ثقات ابن حبّان". انتهى. وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.
(1)
أي فِي "الكبرى".
8 -
(عبد الله) بن مسعود رضي الله تعالى عنه 35/ 39. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ ثمانيات المصنّف رحمه الله تعالى وهو سند نازل. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، عن جدّه. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي عُمَيْسٍ) عتبة بن عبد الله، أنه (قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن قيس (بْنُ مُحَمَّدِ ابْنِ الْأَشْعَثِ، عَنْ أَبِيهِ) قيس بن محمد (عَنْ جَدِّهِ) محمد الأشعث بن قيس، أنه قَالَ (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "إِذَا اخْتَلَفَ الْبَيِّعَانِ) بتشديد الياء: أي البائع والمشتري، ولم يذكر الأمر الذي فيه الاختلاف، وحذف المتعلّق مشعر بالتعميم فِي مثل هَذَا المقام، عَلَى ما تقرّر فِي علم المعاني، فيعمّ الاختلاف فِي المبيع، والثمن، وفي كلّ أمر يرجع إليهما، وفي سائر الشروط المعتبرة، والتصريح بالاختلاف فِي الثمن فِي بعض الروايات، لا ينافي هَذَا العموم المستفاد منْ الحذف. قاله فِي "نيل الأوطار" 5/ 238 (وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ) جملة فِي محلّ نصب عَلَى الحال (فَهُوَ مَا يَقُولُ رَبُّ السِّلْعَةِ) أي صاحب السلعة، وهو البائع (أَوْ يَتْرُكَا) أي يتفاسخان العقد. قاله الخطّابيّ.
وفي الْحَدِيث قصّة، ساقها أبو داود فِي "سننه":
3511 -
حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي، عن أبي عميس، أخبرني عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الأشعث، عن أبيه، عن جده، قَالَ: اشترى الأشعث رقيقا منْ رقيق الخمس، منْ عبد الله، بعشرين ألفا، فأرسل عبد الله إليه فِي ثمنهم، فَقَالَ: إنما أخذتهم بعشرة آلاف، فَقَالَ عبد الله: فاختر رجلا يكون بيني وبينك، قَالَ الأشعث: أنت بيني وبين نفسك، قَالَ عبد الله: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا اختلف البيعان، وليس بينهما بينة، فهو ما يقول رب السلعة، أو يتتاركان". و"عبد الله": هو ابن مسعود رضي الله عنه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيحٌ بمجموع طرقه.
[تنبيه]: هَذَا الْحَدِيث روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه منْ طرق بألفاظ، فقد أخرجه أيضا الشافعيّ، منْ طريق سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن إسماعيل بن
أمية، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي عبيدة، عن أبيه، عبد الله بن مسعود، وَقَدْ اختلف فيه عَلَى إسماعيل بن أمية، ثم عَلَى ابن جريج، وَقَدْ اختُلف فِي صحة سماع أبي عبيدة، منْ أبيه، ورواه منْ طريق أبي عبيدة أحمد، والنسائي، والدارقطني، وَقَدْ صححه الحاكم، وابن السكن.
ورواه أيضا الشافعيّ منْ طريق سفيان عن ابن عجلان، عن عون بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود، عن ابن مسعود، وفيه أيضا انقطاع لأن عونا لم يدرك ابن مسعود. ورواه الدارقطنيّ، منْ طريق القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، عن جده، وفيه إسماعيل بن عياش، عن موسى بن عقبة.
ورواه أبو داود منْ طريق عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الأشعث بن قيس، عن أبيه، عن جده، عن ابن مسعود. وأخرجه أبو داود أيضا منْ طريق محمد بن أبي ليلى، عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، عن ابن مسعود، ومحمد ابن أبي ليلى لا يحتج به، وعبد الرحمن لم يسمع منْ أبيه، ورواه ابن ماجه، والترمذي منْ طريق عون بن عبد الله أيضا، عن ابن مسعود، وَقَدْ سبق أنه منقطع، قَالَ البيهقي: وأصح إسناد رُوي فِي هَذَا الباب، رواية أبي العميس، عن عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الأشعث بن قيس، عن أبيه، عن جده -يعني التي أخرجها النسائيّ هنا-. ورواه أيضا الدارقطنيّ، منْ طريق القاسم بن عبد الرحمن، قَالَ الحافظ: ورجاله ثقات، إلا أن عبد الرحمن اختلف فِي سماعه منْ أبيه.
قَالَ الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: قد أثبت سماعه منه إمام الأئمة البخاريّ، والمثبت مقدّم عَلَى النافي، ومن علم حجة عَلَى منْ لم يعلم، لاسيما إذا كَانَ مثل البخاريّ. انتهى. "إرواء الغليل" 5/ 167.
ورواية الترادّ -يعني قول: "أو يترادّان البيع"- رواها أيضا مالك بلاغا، والترمذي، وابن ماجه بإسناد منقطع.
وَقَالَ الطبراني فِي "الكبير": نا محمد بن هشام المستملي، نا عبد الرحمن بن صالح، نا فضيل ابن عياض، نا منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود، مرفوعًا:"البيعان إذا اختلفا فِي البيع ترادا"، قَالَ قَالَ الحافظ: رواته ثقات، لكن اختلف فِي عبد الرحمن بن صالح، وما أظنه حفظه، فقد جزم الشافعيّ: أن طرق هَذَا الْحَدِيث، عن ابن مسعود، ليس فيها شيء موصول، وذكره الدارقطنيّ فِي "عللَّه"، فلم يُعرّج عَلَى هذه الطريق.
ورواه أيضا النسائيّ، والحاكم، والبيهقي، منْ طريق عبد الرحمن بن قيس بالإسناد
الذي رواه عنه أبو داود كما سلف وصححه منْ هَذَا الوجه الحاكم، وحسنه البيهقي.
ورواه عبد الله بن أحمد، فِي "زيادات المسند" منْ طريق القاسم بن عبد الرحمن، عن جده بلفظ:"إذا اختلف المتبايعان، والسلعة قائمة، ولا بينة لأحدهما تحالفا"، ورواه منْ هَذَا الوجه الطبراني، والدارمي، وَقَدْ انفرد بقوله:"والسلعة قائمة" محمد بن أبي ليلى، وهو ضعيفٌ سيّء الحفظ.
قَالَ الخطّابيّ: إن هذه اللفظة -يعني والسلعة قائمة- لا تصح منْ طريق النقل، مع احتمال أن يكون ذكرها منْ التغليب؛ لأن أكثر ما يَعرِض النزاع حال قيام السلعة، كقوله تعالى:{فِي حُجُورِكُمْ} الآية [سورة النِّساء: 23]، ولم يفرق أكثر الفقهاء فِي البيوع الفاسدة بين القائم والتالف انتهى.
وأما قوله فيه: "تحالفا"، فَقَالَ الحافظ: لم يقع عند أحد منهم، وإنما عندهم:"والقول قول البائع، أو يترادان البيع". انتهى.
قَالَ ابن عبد البرّ: إن هَذَا الْحَدِيث منقطع، إلا أنه مشهور الأصل عند جماعة، تلقوه بالقبول، وبنوا عليه كثيرا منْ فروعه، وأعله ابن حزم بالانقطاع، وتابعه عبد الحق، وأعله هو وابن القطّان بالجهالة، فِي عبد الرحمن، وأبيه، وجده.
وَقَالَ الخطّابيّ: هَذَا حديث قد اصطلح الفقهاء عَلَى قبوله، وذلك يدل عَلَى أن له أصلا، وإن كَانَ فِي إسناده مقال، كما اصطلحوا عَلَى قبول:"لا وصية لوارث"، وإسناده فيه ما فيه. انتهى.
قَالَ الشوكانيّ رحمه الله تعالى: وَقَدْ استدل بالحديث منْ قَالَ: إن القول قول البائع، إذا وقع الاختلاف بينه وبين المشتري، فِي أمر منْ الأمور المتعلقة بالعقد، ولكن مع يمينه، كما وقع فِي الرواية الآخرة، وهذا إذا لم يقع التراضي بينهما عَلَى التراد، فإن تراضيا عَلَى ذلك جاز بلا خلاف، فلا يكون لهما خلاص عن النزاع، إلا التفاسخ، أو حلف البائع، والظاهر عدم الفرق بين بقاء المبيع وتلفه؛ لما عرفت منْ عدم انتهاض الرواية المصرح فيها باشتراط بقاء المبيع للاحتجاج، والترادُّ مع التلف ممكن، بأن يرجع كل واحد منهما بمثل المثليّ، وقيمة القيميّ.
إذا تقرر لك ما يدل عليه هَذَا الْحَدِيث، منْ كون القول قول البائع منْ غير فرق، فاعلم أنه لم يذهب إلى العمل به، فِي جميع صور الاختلاف أحد، فيما أعلم، بل اختلفوا فِي ذلك اختلافا طويلا، عَلَى حسب ما هو مبسوط فِي الفروع، ووقع الاتفاق فِي بعض الصور، والاختلاف فِي بعض، وسبب الاختلاف فِي ذلك، ما سيأتي منْ قوله صلى الله عليه وآله وسلم:"البينة عَلَى المدعِي، واليمين عَلَى المدعَى عليه"؛ لأنه يدل
بعمومه عَلَى أن اليمين عَلَى المدعَى عليه، والبينة عَلَى المدعِي، منْ غير فرق بين أن يكون أحدهما بائعا، والآخر مشتريا، أو لا، وحديث الباب يدل عَلَى أن القول قول البائع مع يمينه، والبينة عَلَى المشتري، منْ غير فرق بين أن يكون البائع مدعيا، أو مُدّعًى عليه، فبين الحديثين عموم وخصوص منْ وجه، فيتعارضان باعتبار مادة الاتفاق، وهي حيث يكون البائع مدعيا، فينبغي أن يرجع فِي الترجيح إلى الأمور الخارجية، وحديث:"اليمين عَلَى المدعى عليه"، متّفقٌ عليه.
وأخرجه الطبراني بلفظ: "البينة عَلَى المدعي، واليمين عَلَى المدعى عليه"، وأخرجه الإسماعيلي بلفظ:"ولكن البينة عَلَى الطالب، واليمين عَلَى المطلوب"، وأخرجه البيهقي بلفظ:"لو يُعطى النَّاس بدعواهم، لادّعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة عَلَى المدعي، واليمين عَلَى منْ أنكر"، وهذه الألفاظ كلها فِي حديث ابن عباس، فمن رام الترجيح بين الحديثين، لم يصعب عليه ذلك، بعد هَذَا البيان، ومن أمكنه الجمع بوجه مقبول فهو المتعين. انتهى كلام الشوكاني "نيل الأوطار" 5/ 237 - 239.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث: "اليمين عَلَى المدّعى عليه" سيأتي للمصنّف رحمه الله تعالى فِي "كتاب آداب القضاء" 36/ 5427 - وسأستوفي البحث عنه هناك، إن شاء الله تعالى.
وخلاصة حديث الباب أنه حديث صحيح بمجموع طرقه، كما تبيّن منْ التفصيل المذكور. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -82/ 4650 و4651 - وفي "الكبرى" 83/ 6244 و6245. وأخرجه (د) فِي "البيوع" 2511 (ت) فِي "البيوع" 1270 (الدارمي) فِي "البيوع" 2436. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم اختلاف المتبايعين فِي الثمن، وهو أنه إذا لم يكن لهم بينة فالقول قول البائع، إن رضي المشتري، أو يفسخان العقد، وسيأتي فِي المسألة التالية اختلاف العلماء فيه، إن شاء الله تعالى. (ومنها): أن ظاهر الْحَدِيث تعميم الاختلاف فِي كلّ شيء، ليس الثمن فقط؛ لأن المتعلّق محذوف. (ومنها): أن الرواية التالية تدلّ عَلَى أن اختيار المشتري بين الأخذ والترك بعد أن يحلف البائع، لا قبله، وَقَدْ سبق أن لفظة "تحالفا" لا تثبت رواية. والله
تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي اختلاف المتبايعين:
قَالَ الإِمام الخطّابيّ رحمه الله تعالى: اختلف أهل العلم فِي هذه المسألة، فَقَالَ مالك، والشافعيّ: يقال للبائع: احلف بالله ما بعتَ سلعتك إلا بما قلت، فإن حلف البائع قيل: إما أن تأخذ السلعة بما قَالَ البائع، وإما أن تحلف ما اشتريتها إلا بما قلت، فإن حلف برىء، ورُدّت السلعة عَلَى البائع، وسواء عند الشافعيّ كانت السلعة قائمة، أو تالفة، فإنهما يتحالفان، ويتردّان، وكذلك قَالَ محمد بن الحسن. ومعنى "يترادّان": أي قيمة السلعة عن الاستهلاك.
وَقَالَ النخعيّ، والثوريّ، وأبو حنيفة، وأبو يوسف: القول قول المشتري مع يمينه بعد الاستهلاك، وقول مالك قريب منْ قولهم بعد الاستهلاك فِي أشهر الروايتين عنه. واحتُجّ لهم بأنه قد روي فِي بعض الأخبار:"إذا اختلف المتبايعان، والسلعة قائمة، فالقول ما يقول البائع، أو يترادّان"، قالوا: فدلّ اشتراطه قيام السلعة عَلَى أن الحكم عند استهلاكها بخلاف ذلك. قَالَ الخطّابىّ: وهذه اللفظة لا تصحّ منْ طريق النقل، إنما جاء بها ابن أبي ليلى، وقيل: إنها منْ قول بعض الرواة. وَقَدْ يحتمل أن يكون إنما ذكر قيام السلعة بمعنى التغليب، لا منْ أجل التفريق؛ لأن أكثر ما يَعرِض فيه النزاع، ويجب معه التحالف، هو حال قيام السلعة، وهذا كقوله تعالى:{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} الآية [النِّساء: 23]، فذكره الحجور ليس بشرط يتغيّر به الحكم، ولكنه غالب الحال، وكقوله تعالى:{إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} الآية [البقرة: 229]، ولم يجر ذكر الخوف منْ مذهب أكثر الفقهاء للفرق، ولكن لأنه الغالب، ولم يفرّقوا فِي البيوع الفاسدة بين القائم والتالف منها فيما يجب منْ ردّ السلعة، إن كانت قائمةً، والقيمة إن كانت تالفة، وهذا البيع مصيره إلى الفساد؛ لأنا نرفعه منْ أصله إذا تحالفا، ونجعله كأنه لم يقع، ولسنا نُثبته، ثم نفسخه، ولو كنا فعلنا ذلك لكان فِي ذلك تكذيب أحد الحالفين، ولا معنى لتكذيبه مع إمكان تصديقه، ويخرّج ذلك عَلَى وجه يُعذر فيه، مثل أن يُحمل أمره عَلَى الوهم، وغلبة الظنّ، ونحو ذلك.
واحتجّوا فيه أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم: "اليمين عَلَى المدّعَى عليه"، وهذا لا يخالف حديث التحالف؛ لأن كلّ واحد منهما مُدّع منْ وجه، ومدّعًى عليه منْ وجه آخر، وليس اقتضاء أحد الحكمين منه بأولى منْ الآخر.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: فِي دعواه مخالفته للحديث المذكور نظرٌ لا يخفى.
والله تعالى أعلم.
قَالَ: وَقَدْ يُجمع بين الخبرين أيضًا بأن يُجعل اليمين عَلَى المدّعى عليه، إذا كانت يمين نفي، وهذه يمين فيها إثبات. قَالَ: وأبو حنيفة لا يرى اليمين فِي الإثبات، وَقَدْ قَالَ به هنا مع قيام السلعة.
وَقَدْ خالف أبو ثور جماعة الفقهاء فِي هذه المسألة، فَقَالَ: القول قول المشتري مع قيام السلعة. ويقال: إن هَذَا خلاف الإجماع، مع مخالفته الْحَدِيث. والله أعلم. وَقَدْ اعتذر له بعضهم بأن فِي إسناد الْحَدِيث مقالاً، فمن أجل ذلك عدل عنه. قَالَ الخطابيّ: هَذَا حديث قد اصطلح الفقهاء عَلَى قبوله، وذلك يدلّ عَلَى أن له أصلاً، كما اصطلحوا عَلَى قبول قوله صلى الله عليه وسلم:"لا وصيّة لوارث"، وفي إسناده مقال.
قَالَ: وسواء عند الشافعيّ كَانَ اختلافهما فِي الثمن، أو فِي الأجل، أو فِي خيار الشرط، أو فِي الرهن، أو فِي الضمين، فإنهما يتحالفان، قولاً بعموم الخبر، وظاهره، إذ ليس فيه ذكر حال منْ الاختلاف، دون حال.
وعند أصحاب الرأي لا يتحالفان إلا عند الاختلاف فِي الثمن. انتهى كلام الخطابيّ "معالم السنن" 5/ 162 - 165.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدّم أن زيادة التحالف فِي الْحَدِيث لا تثبت، وإنما الثابت أن القول قول البائع، أو يترادّان البيع، كما أن زيادة "والسلعة قائمة" غير ثابتة، فالحقّ أن القول قول البائع، إن رضي المشتري، وإلا يفسخ العقد؛ وأيضًا أن العمل بالتحالف معارض للحديث المتّفق عليه أن اليمين عَلَى المدعى عليه، لا عَلَى المدّعي، فتأمّل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4651 -
(أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، وَيُوسُفُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، وَاللَّفْظُ لإِبْرَاهِيمَ، قَالُوا: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ: حَضَرْنَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَتَاهُ رَجُلَانِ تَبَايَعَا سِلْعَةً، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَخَذْتُهَا بِكَذَا وَبِكَذَا، وَقَالَ هَذَا: بِعْتُهَا بِكَذَا وَكَذَا، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أُتِيَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي مِثْلِ هَذَا، فَقَالَ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أُتِيَ بِمِثْلِ هَذَا، فَأَمَرَ الْبَائِعَ أَنْ يَسْتَحْلِفَ، ثُمَّ يَخْتَارَ الْمُبْتَاعُ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ").
رجال هَذَا الإسناد: تسعة:
1 -
(إبراهيم بن الحسن) أبو إسحاق المصّيصيّ الثقة [11] 51/ 64.
2 -
(يوسف بن سعيد) المصّيصيّ الثقة الحافظ [11] 131/ 198 منْ أفراد المصنّف.
3 -
(عبد الرحمن بن خالد) الواسطيّ، ثم الرَّقّيّ، صدوق [11] 7/ 753.
4 -
(حجّاج) بن محمد الأعور المصيصيّ، ثقة ثبت، اختلط فِي آخره [9] 28/ 32.
5 -
(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكيّ، ثقة فقيه فاضل، يدلس [6] 28/ 32.
6 -
(إسماعيل بن أُميّة) الأمويّ الثقة الثبت [6] 16/ 2468.
7 -
(عبد الملك بن عُبيد) أو ابن عبيدة، روى عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، وخُرَينق بنت حُصين أخت عمران. وعنه إسماعيل بن أُميّة، ويزيد بن عياض بن جُعْدُبة، وفي "التقريب": مجهول الحال [5]. تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.
8 -
(أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود) مشهور بكنيته، والأشهر أنه لا اسم له غيرها، ويقال: اسمه عامر، كوفيّ ثقة، منْ كبار [3]، والراجح أنه لا يصحّ سماعه منْ أبيه، مات سنة (80) 55/ 622.
9 -
(ابن مسعود) عبد الله رضي الله تعالى عنه 35/ 39. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُبَيْدٍ) أنه (قَالَ: حَضَرْنَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَتَاهُ رَجُلَانِ) جملة فِي محلّ نصب عَلَى الحال، أي حال كونه قد أتاه رجلان (تَبَايَعَا سِلْعَةً) بكسر، فسكون: أي متاعًا، والجملة فِي محل رفع صفة لـ"رجلان" (فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَخَذْتُهَا بكَذَا وَبِكَذَا، وَقَالَ هَذَا) الآخر (بِعْتُهَا بِكَذَا وَكَذَا، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أُتِيَ ابْنُ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه ببناء الفعل للمفعول (فِي مِثْلِ هَذَا) الأمر منْ الاختلاف فِي الثمن (فَقَالَ) ابن مسعود رضي الله عنه (حضَرْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، أُتِيَ) بالبناء للمفعول أيضًا (بِمِثْلِ هَذَا، فَأَمَرَ الْبَائِعَ أَنْ يَسْتَحْلِفَ) بالبناء للفاعل، والسين والتاء زائدتان: أي أمره أن يحلف عَلَى أنه ما باع هَذَا الشيء إلا بالثمن الذي ادّعاه (ثُمَّ يَخْتَارَ الْمُبْتَاعُ) أي المشتري (فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ) أي بما حلف عليه البائع منْ الثمن (وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ) أي فسخ العقد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
والحديث صحيح بمجموع طرقه، كما سبق تمام البحث فيه فِي الْحَدِيث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
***
83 - (مُبَايَعَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ)
4652 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتِ: "اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا بِنَسِيئَةٍ، وَأَعْطَاهُ دِرْعًا لَهُ رَهْنًا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أحمد بن حرب": هو الطائيّ الموصليّ، صدوقٌ [10] منْ أفراد المصنّف، والباقون كلهم منْ رجال الصحيح، و"أبو معاوية": هو محمد بن خازم الضرير. والسند مسلسل بثقات الكوفيين، سوى شيخه، وفيه ثلاثة منْ التابعين يروي بعضهم عن بعض.
والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق فِي 58/ 4611 - وسبق شرحه، وبيان مسائله، واستدلال المصنّف رحمه الله تعالى به عَلَى الترجمة واضح، حيث إن النبيّ صلى الله عليه وسلم بايع رجلاً يهوديًّا، فدلّ عَلَى جواز التعامل مع اليهود والنصارى، وإن كانت أموالهم يكثر فيها الحرام، حيث إنهم يأكلون الربا، ويتعاملون بالباطل، إلا أن الشرع جوز التعامل معهم تيسيرًا عَلَى المسلمين، وتسهيلاً لهم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4653 -
(أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ حَبِيبٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ، بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ لأَهْلِهِ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(يوسف بن حمّاد) الْمَعْنيّ، أبو يعقوب البصريّ ثقة [10] 25/ 1783.
2 -
(سفيان بن حبيب) البزّاز، أبو محمد البصريّ، ثقة [9] 67/ 82.
3 -
(هشام) بن حسَان القردوسيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقة [6] 188/ 300.
4 -
(عكرمة) مولى ابن عباس المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 2/ 325.
5 -
(ابن عباس) عبد الله البحر الحبر رضي الله تعالى عنهما 27/ 31.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، سوى سفيان بن حبيب، فمن رجال الأربعة. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَ) للحال (دِرْعُهُ) بكسر، فسكون، قَالَ الفيّوميّ: دِرْع الحديد مؤنّثة فِي الأكثر، وتُصغّر عَلَى دُرَيع بغير هاء، عَلَى غير قياس، وجاز أن يكون التصغير عَلَى لغة منْ ذكّر، وربّما قيل: دُرَيعةٌ بالهاء، وجمعها أَدْرُعٌ، ودُرُوعٌ، وأَدْراعٌ، قَالَ ابن الأثير: وهي الزَّرَدِيّة، ودِرعُ المرأة: قميصها، مذكّرٌ. انتهى (مَرْهُونَةٌ) أي محبوسة بسبب الدين، يقال: رهنته المتاعَ بالدين: إذا حبسته به، فهو مرهون، والأصل مرهون بالدين، فحُذف للعلم به، وأرهنته بالدين بالألف لغة قليلة، ومنعها الأكثر. قاله الفيّوميّ (عِنْدَ يَهُودِيٍّ) وتقدّم أن هَذَا اليهوديّ هو أبو الشحم، رجل منْ بني ظَفَر، بطن منْ الأوس، وكان حليفًا لهم (بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ لِأَهْلِهِ) أي بسبب أنه صلى الله عليه وسلم أخذ منه ثلاثين صاعا منْ شعير لأجل أن ينفقه عَلَى أهل بيته، وفيه ما كَانَ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ التقلّل منْ الدنيا، وإيثار الآخرة، مع أن الله تعالى خيّره أن يجعل له الجبال ذهبًا، فأبى ذلك؛ لعلمه بحقارة الدنيا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -83/ 4653 - وفي "الكبرى" 84/ 6247. وأخرجه (ت) فِي "البيوع" 1214 (ق) فِي "الأحكام" 2439 (أحمد) فِي "مسند بني هاشم" 2110 و2719 و2738 و3399 (الدارمي) فِي "البيوع" 2469. وفوائد الْحَدِيث تقدّمت فِي 58/ 4611 - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
84 - (بَيْعُ الْمُدَبَّرِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "المدبّر": اسم مفعول، منْ دبَر الرجل عبده تدبيرًا: إذا أعتقه بعد موته، ويقال: أعتق عبده عن دُبُر: أي بعد دُبُر، أي فِي آخر أمره. وَقَالَ
فِي "الفتح": المدبّر: هو الذي علّق مالكه عتقه بموته، سُمّي بذلك لأن الموت دُبُر الحياة، أو لأن فاعله دَبّر أمر دنياه وآخرته، أما دنياه، فباستمراره عَلَى الانتفاع بخدمة عبده، وأما آخرته فبتحصيل ثواب العتق، وهو راجع إلى الأول؛ لأن تدبير الأمر مأخوذ منْ النظر فِي العاقبة، فيرجع إلى دبر الأمر، وهو آخره. انتهى "فتح" 5/ 172 - 173. والله تعالى أعلم بالصواب.
4654 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ، عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "أَلَكَ مَالٌ غَيْرُهُ؟ "، قَالَ: لَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟ "، فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيُّ، بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَجَاءَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "ابْدَأْ بِنَفْسِكَ، فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلأَهْلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ، فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ، فَهَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا"، يَقُولُ: بَيْنَ يَدَيْكَ، وَعَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِكَ).
رجال هَذَا الإسناد: أربعة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.
2 -
(الليث) بن سعد الإِمام الحجة الثبت المصريّ [7] 31/ 35.
3 -
(أبو الزبير) محمد بن مسلم بن تدرس المكيّ، صدوق [4] 31/ 35.
4 -
(جابر) بن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما 31/ 35. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (229) منْ رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بمصريين، فمكيين. (ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله عنه منْ المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ جَابِر) بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ) بضم العين المهملة، وسكون الذال المعجمة، بعدها راء: نسبة إلى قبيلة منْ قُضاعة، وَقَدْ سبق بيانه فِي 60/ 2546 منْ "كتاب الزكاة"، وفي رواية أيوب التالية:"أن رجلاً منْ الأنصار، يقال له: أبو مذكور، أعتق غلامًا له عن دبر، يقال له: يعقوب"(عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ) بضمتين: أي بعد موته (فَبَلَغَ ذَلِكَ) أي عتقه المذكور (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ)
-صلى الله عليه وسلم (أَلَكَ مَالٌ غَيْرُهُ؟، قَالَ: لَا) أي ليس لي مالٌ غير هَذَا العبد، وفيه بيان سبب بيع العبد، وهو كونه لا يملك غيره، وقيل: سببه الدين، وقيل: سببه الدين والحاجة معًا، وتقدم بيان ذلك مفصّلاً فِي الباب المذكور (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي) فيه جواز بيع المدبّر، وهو محل الترجمة هنا، وفيه خلاف بين العلماء، سيأتي تحقيقه قريبًا، إن شاء الله تعالى (فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيُّ) هو نعيم بن عبد الله بن أَسيد بن عَبد بن عوف بن عَبيد بن عَويج بن عَدي بن كعب بن لؤي، وأَسيد وعَبيد وعَويج فِي نسبه مفتوحٌ أول كل منها، قرشي، عدوي، أسلم قديمًا قبل عمر، فكتم إسلامه، وأراد الهجرة، فسأله بنو عدي أن يُقيم عَلَى أي دين شاء؛ لأنه كَانَ يُنفق عَلَى أراملهم وأيتامهم، ففعل، ثم هاجر عام الحديبية، ومعه أربعون منْ أهل بيته، واستُشهد فِي فتوح الشام، زمنَ أبي بكر، أو عمر، وروى الحارث فِي "مسنده" بإسناد حسن: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سماه صالحا، وكان اسمه الذي يعرف به نُعيما.
وكان يُعرف بـ"النحام" بالنون والحاء المهملة الثقيلة، عند الجمهور، وضبطه ابن الكلبي بضم النون، وتخفيف الحاء، ومنعه الصغاني، وهو لقب نُعيم، وظاهر الرواية أنه لقب أبيه، قَالَ النوويّ: وهو غلط؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "دخلت الجنة فسمعت فيها نَحْمَةً منْ نعيم". انتهى، وكذا قَالَ ابن العربي، وعياض، وغير واحد، قَالَ الحافظ رحمه الله: لكن الْحَدِيث المذكور منْ رواية الواقدي، وهو ضعيف، ولا تُرَدُّ الروايات الصحيحة بمثل هَذَا، فلعل أباه أيضا، كَانَ يقال له: النحام، و"النَّحْمَة" -بفتح النون، وإسكان المهملة-: الصوت، وقيل: السَّعْلَة، وقيل: النحنحة. قاله فِي "الفتح" 5/ 471.
(بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ) قَالَ فِي "الفتح": اتفقت الطرق عَلَى أن ثمنه ثمانمائة درهم، إلا ما أخرجه أبو داود، منْ طريق هشيم، عن إسماعيل، قَالَ:"سبعمائة، أو تسعمائة". انتهى.
(فَجَاءَ بِهَا) أي جاء نعيم بتلك الدراهم (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ) أي دفع صلى الله عليه وسلم تلك الدراهم إلى صاحب المدبّر المذكور (ثُمَّ قَالَ: "ابْدَأْ بِنَفْسِكَ، فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا) وفي رواية: "إذا كَانَ أحدكم فقيرًا فليبدأ بنفسه". وفي رواية لأَبي داود: "أنت أحقّ بثمنه، والله أغنى عنه"(فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلأَهْلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ، فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ، فَهَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا") أي تتصدّق به فِي وجوه الخير (يَقُولُ: بَيْنَ يَدَيْكَ، وَعَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِكَ) هَذَا تفسير منْ بعض الرواة.
[تنبيه]: قَالَ فِي "الفتح": ما حاصله: اتفقت الروايات عَلَى أن بيع المدبر كَانَ فِي
حياة الذي دبره، إلا ما رواه شريك، عن سلمة بن كهيل، عن عطاء، عن جابر:"أن رجلا مات، وترك مدبرا، ودينا، فأمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فباعه فِي دينه بثمانمائة درهم"، أخرجه الدارقطنيّ، ونقل عن شيخه أبي بكر النيسابوري، أن شريكا أخطأ فيه، والصحيح ما رواه الأعمش وغيره، عن سلمة، وفيه:"ودفع ثمنه إليه"، وفي رواية النسائيّ منْ وجه آخر، عن إسماعيل بن أبي خالد:"ودفع ثمنه إلى مولاه"، وَقَدْ رواه أحمد، عن أسود بن عامر، عن شريك بلفظ:"أن رجلا دبر عبدا له، وعليه دين، فباعه النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي دين مولاه"، وهذا شبيه برواية الأعمش، وليس فيه للموت ذكر، وشريك كَانَ تغير حفظه، لَمّا ولي القضاء، وسماع منْ حمله عنه قبل ذلك أصح، ومنهم أسود المذكور. انتهى "فتح" 5/ 173 - 174 "باب بيع المدبّر" منْ "كتاب البيوع" رقم 2230.
وَقَالَ أيضًا فِي "كتاب العتق""باب بيع المدبّر": ما حاصله: وَقَدْ اتفقت طرق رواية عمرو بن دينار، عن جابر أيضًا عَلَى أن البيع وقع فِي حياة السيد، إلا ما أخرجه الترمذيّ، منْ طريق ابن عيينة عنه، بلفظ:"أن رجلا منْ الأنصار دَبّر غلاما له، فمات، ولم يترك مالا غيره" الْحَدِيث، وَقَدْ أعله الشافعيّ بأنه سمعه منْ ابن عيينة مرارا، لم يذكر قوله:"فمات"، وكذلك رواه الأئمة: أحمد، وإسحاق، وابن المديني، والحميدي، وابن أبي شيبة، عن ابن عيينة، ووَجَّهَ البيهقي الرواية المذكورة، بأن أصلها: أن رجلا منْ الأنصار، أعتق مملوكه، إن حدث به حادث فمات، فدعا به النبيّ صلى الله عليه وسلم، فباعه منْ نعيم، كذلك رواه مَطَرٌ الوراق، عن عمرو، قَالَ البيهقي: فقوله: "فمات" منْ بقية الشرط: أي فمات منْ ذلك الحدث، وليس إخبارا عن أن المدبر مات، فحذف منْ رواية ابن عيينة قوله:"إن حدث به حدث"، فوقع الغلط بسبب ذلك. والله أعلم. انتهى. "فتح" 5/ 472 "باب بيع المدبّر" منْ "كتاب العتق" رقم 2534.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث جابر رضي الله تعالى عنه هَذَا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -84/ 4654 و4655 و4656 - وتقدّم فِي "الزكاة" 60/ 2546 - وفي "الكبرى" 85/ 6248 و6249. وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 1997 (م) فِي "الزكاة" 1663 وفي "الأيمان" 3155 (د) فِي "العتق" 3445 و3446 (ت) فِي "البيوع" 1140 (ق) فِي "الأحكام" 2504 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 13619. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز بيع المدبّر، وهو مذهب الشافعيّ، وأهل الْحَدِيث، وهو الحقّ، وسيأتي تحقيق الخلاف فِي ذلك فِي المسألة التالية، إن شاء الله تعالى. (ومنها): مشروعيّة تدبير المملوك، قَالَ القرطبيّ وغيره: اتفقوا عَلَى مشروعية التدبير، واتفقوا عَلَى أنه منْ الثلث، غير الليث، وزفر، فإنهما قالا: منْ رأس المال، واختلفوا هل هو عقد جائز، أو لازم، فمن قَالَ: لازم منع التصرف فيه، إلا بالعتق، ومن قَالَ: جائز أجاز، وبالأول قَالَ مالك، والأوزاعي، والكوفيون، وبالثاني قَالَ الشافعيّ، وأهل الْحَدِيث، وحجتهم حديث الباب، ولأنه تعليق للعتق بصفة، انفرد السيد بها، فيتمكن منْ بيعه، كمن علق عتقه بدخول الدار مثلا، ولأن منْ أوصى بعتق شخص، جاز له بيعه باتفاق، فيلحق به جواز بيع المدبر؛ لأنه فِي معنى الوصية، وقيد الليث الجواز بالحاجة، وإلا فيكره، وأجاب الأول بأنها قضية عين، لا عموم لها، فيحمل عَلَى بعض الصور، وهو اختصاص الجواز بما إذا كَانَ عليه دين، وهو مشهور مذهب أحمد، والخلاف فِي مذهب مالك أيضا، وأجاب بعض المالكية عن الْحَدِيث، بأنه صلى الله عليه وسلم، رَدَّ تصرف هَذَا الرجل؛ لكونه لم يكن له مال غيره، فيستدل به عَلَى رد تصرف منْ تصدق بجميع ماله، وادعى بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم، إنما باع خدمة المدبر، لا رقبته، واحتَجَّ بما رواه ابن فضيل، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن جابر: أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لا بأس ببيع خدمة المدبر"، أخرجه الدارقطنيّ، ورجال إسناده ثقات، إلا أنه اختُلف فِي وصله وإرساله، ولو صح لم يكن فيه حجة، إذ لا دليل فيه عَلَى أن البيع الذي وقع فِي قصة المدبر، الذي اشتراه نعيم بن النحام، كَانَ فِي منفعته، دون رقبته. قاله فِي "الفتح" 5/ 174 - 175. وسيأتي تمام البحث فِي المسألة التالية، إن شاء الله تعالى.
(ومنها): أنّ الحقوق إذا تزاحمت قُدّم الأوكد، فالأوكد (ومنها): أن الأفضل فِي صدقة التطوّع أن ينوّعها فِي جهات الخير، ووجوه البرّ، بحسب المصلحة، ولا ينحصر فِي جهة بعينها. (ومنها): أن الدين مقدّم عَلَى التبرّع بالتدبير (ومنها): أن للإمام أن يبيع أموال النَّاس بسبب ديونهم. (ومنها): أنه يُحجر عَلَى السفيه، ويُردّ عليه تصرّفه، وَقَدْ اختلف العلماء فِي ذلك، وَقَدْ تقدم تمام البحث فيه فِي شرح 12/ 4486 "حديث الرجل الذي كَانَ يُخدَع فِي البيع"، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي بيع المدبّر:
قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: ظاهر كلام الخرقي أنه يباع فِي الدين، وَقَدْ أومأ إليه أحمد. وَقَالَ مالك: لا يباع إلا فِي دين، يغلب رقبة العبد، فإذا كَانَ العبد يساوي ألفا، فكان عليه خمسمائة لم يبع العبد. وروي عن أحمد أنه قَالَ: أنا أرى بيع المدبر فِي الدين، وإذا كَانَ فقيرا لا يملك شيئا، رأيت أن أبيعه؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قد باع المدبر لَمّا علم أن صاحبه لا يملك شيئا غيره، باعه النبيّ صلى الله عليه وسلم، لما علم حاجته. وهذا قول إسحاق، وأبي أيوب، وأبي خيثمة
(1)
، وقالا: إن باعه منْ غير حاجة أجزأناه. ونقل جماعة عن أحمد، جواز بيع المدبر مطلقا، فِي الدين وغيره، مع الحاجة وعدمها، قَالَ إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عن بيع المدبر، إذا كَانَ بالرجل حاجة إلى ثمنه؟ قَالَ: له أن يبيعه محتاجا كَانَ إلى ذلك، أو غير محتاج، وهذا هو الصحيح، وروي مثل هَذَا عن عائشة، وعمر بن عبد العزيز، وطاوس، ومجاهد، وهو قول الشافعيّ.
وكره بيعه ابن عمر، وسعيد بن المسيب، والشعبي، والنخعي، وابن سيرين، والزهري، والثوري، والأوزاعي، والحسن بن صالح، وأصحاب الرأي، ومالك؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما، رَوَى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لا يباع المدبر، ولا يُشترى"
(2)
، ولأنه استحق العتق بموت سيده، فأشبه أم الولد.
قَالَ: ولنا ما روى جابر رضي الله عنه: أن رجلا أعتق مملوكا له عن دبر، فاحتاج، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"منْ يشتريه مني"، فباعه منْ نعيم بن عبد الله، بثمانمائة درهم، فدفعها إليه، وَقَالَ:"أنت أحوج منه"، متَّفقٌ عليه، قَالَ جابر: عبد قبطي مات عام أول، فِي إمارة ابن الزبير. وَقَالَ أبو إسحاق الْجُوزجاني: صحت أحاديث بيع المدبر، باستقامة الطرق، والخبر إذا ثبت، استغني به عن غيره، منْ رأي النَّاس. ولأنه عتق بصفة، ثبت بقول المعتق، فلم يمنع البيع، كما لو قَالَ: إن دخلت الدار فأنت حر، ولأنه تبرع بمال بعد الموت، فلم يمنع البيع فِي الحياة كالوصية، قَالَ أحمد: هم يقولون: منْ قَالَ غلامي حر رأسَ الشهر، فله بيعه قبل رأس الشهر، وإن قَالَ: غدا فله بيعه اليوم، وإن قَالَ: إذا مت قَالَ: لا يبيعه، فالموت أكثر منْ الأجل، ليس هَذَا قياسا، إن جاز يبيعه قبل رأس الشهر، فله أن يبيعه قبل مجيء الموت، وهم يقولون فيمن قَالَ: إن مت منْ مرضي هَذَا، فعبدي حر، ثم لم يمت منْ مرضه ذلك، فليس بشيء، وإن قَالَ: إن مت فهو حر، لا يباع، هَذَا متناقض، إنما أصله الوصية منْ الثلث، فله أن يغير وصيته، ما دام حيا، فأما خبرهم فلم يصح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، إنما هو منْ قول ابن عمر،
(1)
هكذا بعض نسخ "المغني"، وفي نسخة "وأبي ثور، وأبي حنيفة". فليحرر.
(2)
أخرجه الدارقطنيّ 4/ 138 والبيهقيّ فِي "السنن الكبرى" 10/ 314 وهو حديث واه، بل قَالَ بوضعه بعض العلماء، انظر "إرواء الغليل" للشيخ الألباني رحمه الله تعالى 6/ 177.
وَقَالَ الطحاوي: هو عن ابن عمر، وهو ليس بمسند عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أنه أراد بعد الموت، أو عَلَى الاستحباب. انتهى "المغني" 14/ 419 - 421.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث: "لا يباع المدبر، ولا يُشترى" أخرجه الدارقطنيّ فِي "سننه" 4/ 138، والبيهقي فِي "السنن الكبرى" 10/ 314، وهو حديث واه، بل حكم الشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى بوضعه، راجع "الإرواء" 6/ 177. والله تعالى أعلم.
وَقَالَ فِي "الفتح": ما حاصله: مذهب الشافعيّ، وأهل الْحَدِيث جواز بيع المدبّر، وَقَدْ نقله البيهقي فِي "المعرفة" عن أكثر الفقهاء، وحكى النوويّ عن الجمهور مقابله، وعن الحنفية، والمالكية أيضا تخصيص المنع بمن دبر تدبيرا مطلقا، أما إذا قيده، كأن يقول إن متُّ منْ مرضي هَذَا ففلان حر، فإنه يجوز بيعه؛ لأنها كالوصية، فيجوز الرجوع فيها. وعن أحمد يمتنع بيع المدبرة دون المدبر. وعن الليث يجوز بيعه إن شَرَط عَلَى المشتري عتقه، وعن ابن سيرين: لا يجوز بيعه، إلا منْ نفسه.
ومال ابن دقيق العيد إلى تقييد الجواز بالحاجة، فَقَالَ: منْ منع بيعه مطلقا، كَانَ الْحَدِيث حجة عليه؛ لأن المنع الكلي يناقضه الجواز الجزئي، ومن أجازه فِي بعض الصور، فله أن يقول: قلت بالحديث فِي الصورة التي ورد فيها، فلا يلزمه القول به فِي غير ذلك منْ الصور. وأجاب منْ أجازه مطلقا، بأن قوله:"وكان محتاجا"، لا مدخل له فِي الحكم، وإنما ذُكر لبيان السبب فِي المبادرة لبيعه؛ ليتبين للسيد جواز البيع، ولولا الحاجة لكان عدم البيع أولى، وأما منْ ادعى أنه إنما باع خدمته، فقد أجيب عنه بأنه لا تعارض بين الحديثين، وبأن المخالفين لا يقولون بجواز بيع خدمة المدبر. أفاده فِي "الفتح" 5/ 471 - 472.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قاله ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى هو الأرجح، وحاصله جواز بيعه للحاجة؛ عملاً بظاهر الْحَدِيث، قَالَ الشوكانيّ رحمه الله تعالى -بعد أن أذكر الخلاف المذكور-: ولا يخفى أن فِي الْحَدِيث إيماءً إلى المقتضي لجواز البيع بقوله: "فاحتاج"، وبقوله:"اقض دينك، وأنفق عَلَى عيالك"، لا يقال: الأصل جواز البيع، والمنع منه يحتاج إلى دليل، ولا يصلح لذلك حديث الباب؛ لأن غايته أن البيع فيه وقع للحاجة، ولا دليل عَلَى اعتبارها فِي غيره، بل مجرّد ذلك الأصل كاف فِي الجواز؛ لأنا نقول: قد عارض ذلك الأصل إيقاع العتق المعلّق، فصار الدليل بعده عَلَى مدّعي الجواز، ولم يَرِد الدليل إلا فِي صورة الحاجة، فيبقى ما عداها عَلَى أصل المنع. انتهى "نيل الأوطار" 6/ 96 - 97. وهو كلام نفيسٌ جدًّا.
والحاصل أن الحقّ جواز بيع المدبّر عند حاجة صاحبه، وأما بدونها فلا؛ لما عرفت منْ الحجة الواضحة، فتبصّر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4655 -
(أَخْبَرَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ، يُقَالُ لَهُ: أَبُو مَذْكُورٍ، أَعْتَقَ غُلامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، يُقَالُ لَهُ: يَعْقُوبُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَدَعَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "مَنْ يَشْتَرِيهِ؟ "، فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، وَقَالَ: "إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فَقِيرًا، فَلْيَبْدَأْ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ فَضْلاً، فَعَلَى عِيَالِهِ، فَإِنْ كَانَ فَضْلاً، فَعَلَى قَرَابَتِهِ"، أَوْ "عَلَى ذِي رَحِمِهِ، فَإِنْ كَانَ فَضْلاً، فَهَاهُنَا وَهَاهُنَا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.
و"إسماعيل": هو ابن عليّة. و"أيوب": هو السختياني.
وقوله: "فإن كَانَ فضلاً الخ": هكذا النسخ كلها، وهو صحيح، فيكون اسم "كَانَ" ضميرًا يعود إلى المال المفهوم منْ المقام، و"فضلاً" بمعنى فاضلاً: والمعنى: فإن كَانَ المال فاضلاً: أي زائدًا عَلَى حاجة نفسه، فلينفقه عَلَى عياله، إلى آخره.
والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق شرحه، وتخريجه فِي الْحَدِيث الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4656 -
(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، وَابْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَاعَ الْمُدَبَّرَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.
و"سفيان": هو الثوريّ. و"ابن أبي خالد": هو إسماعيل. و"عطاء": هو ابن أبي رباح. وفي الإسناد ثلاثة منْ التابعين فِي نسق: إسماعيل، وسلمة، وعطاء، فإسماعيل وسلمة قرينان، منْ صغار التابعين، وعطاء منْ أوساطهم. والله تعالى أعلم.
وقوله: "باع المدبّر": هكذا رواه بهذا السند مختصرًا، وكذا أورده البخاريّ أيضًا، مختصرًا، ولفظه:"باع النبيّ صلى الله عليه وسلم المدبر"، قَالَ فِي "الفتح": هكذا أورده مختصرا، وأخرجه ابن ماجه منْ طريق وكيع كذلك، وأخرجه أحمد عن وكيع كذلك، لكن زاد عن سفيان، وإسماعيل جميعا عن سلمة، وأخرجه الإسماعيلي، منْ طريق أبي بكر بن خالد، عن وكيع، ولفظه: "فِي رجل أعتق غلاما له عن دبر، وعليه دين، فباعه رسول
الله صلى الله عليه وسلم، بثمانمائة درهم"، وَقَدْ أخرجه البخاريّ فِي "الأحكام" عن ابن نمير شيخه فيه هنا، لكن قَالَ، عن محمد بن بشر، بدل وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، ولفظه: "بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم، أن رجلا منْ أصحابه، أعتق غلاما له عن دبر، لم يكن له مال غيره، فباعه بثمانمائة درهم، ثم أرسل بثمنه إليه"، وترجم عليه: "بيع الإِمام عَلَى النَّاس أموالهم"، وَقَالَ فِي الترجمة: "وَقَدْ باع النبيّ صلى الله عليه وسلم مدبرا، منْ نعيم بن النحام، وأشار بذلك إلى ما أخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائي منْ طريق أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر:"أن رجلا منْ الأنصار، يقال له: أبو مذكور، أعتق غلاما له، يقال له: يعقوب عن دبر، لم يكن له مال غيره، فدعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "منْ يشتريه؟ "، فاشتراه نعيم بن عبد الله النحام، بثمانمائة درهم، فدفعها إليه" الْحَدِيث، وعند البخاريّ فِي "باب بيع المزايدة" منْ وجه آخر، عن عطاء بلفظ:"أن رجلا أعتق غلاما له عن دبر، فاحتاج، فأخذه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: منْ يشتريه مني؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله"، فأفاد فِي هذه الرواية سبب بيعه، وهو الاحتياج إلى ثمنه، وفي رواية ابن خلاد زيادة فِي تفسير الحاجة، وهو الدين، فقد ترجم له فِي "الاستقراض""منْ باع مال المفلس، فقسمه بين الغرماء، أو أعطاه حَتَّى ينفق عَلَى نفسه"، وكأنه أشار بالأول إلى ما تقدم منْ رواية وكيع، عند الإسماعيلي، فِي قوله:"وعليه دين"، وإلى ما أخرجه النسائيّ، منْ طريق الأعمش، عن سلمة بن كهيل، بلفظ:"أن رجلا منْ الأنصار أعتق غلاما له عن دبر، وكان محتاجا، وكان عليه دين، فباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بثمانمائة درهم، وأعطاه، وَقَالَ: اقض دينك"، وبالثاني إلى ما أخرجه مسلم، والنسائي، منْ طريق الليث، عن أبي الزبير، عن جابر، قَالَ:"أعتق رجل منْ بني عُذرة عبدا له عن دبر، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: ألك مال غيره، فَقَالَ لا"، الْحَدِيث، وفيه:"فدفعها إليه، ثم قَالَ: ابدأ بنفسك، فتصدق عليها"، الْحَدِيث، وفي رواية أيوب المذكورة نحوه، ولفظه:"إذا كَانَ أحدكم فقيرا، فليبدأ بنفسه، فإن كَانَ فضل فعلى عياله" الْحَدِيث. انتهى "فتح" 5/ 173.
والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق شرحه، وتخريجه قبل حديث. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
***
85 - (بَيْعُ الْمُكَاتَبِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "المُكَاتَبُ" بفتح المثنّاة الفوقيّة: اسم مفعول، منْ كاتب، قَالَ الأزهريّ: الكتاب، والمكاتبة: أن يُكاتب الرجل عبده، أو أمته عَلَى مال مُنَجَّم، ويَكتُب العبد عليه أنه يَعتِقُ إذا أدّى النجوم، وَقَالَ غيره: بمعناه، وتكاتبا كذلك، فالعبد مُكاتَبٌ بالفتح، اسم مفعول، وبالكسر اسم فاعل؛ لأنه كاتب سيّده، فالفعل منهما، والأصل فِي باب المفاعلة أن يكون منْ اثنين، فصاعدًا، يفعل أحدهما بصاحبه ما يَفعل هو به، وحينئذ، فكلّ واحد فاعل ومفعول منْ حيث المعنى. قاله الفيّوميّ.
وَقَالَ فِي "الفتح": المكاتب بالفتح: منْ تقع له الكتابة، وبالكسر منْ تقع منه، وكاف الكتابة تكسر، وتفتح، كعين العتاقة، قَالَ الراغب: اشتقاقها منْ كتب بمعنى أوجب، ومنه قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النِّساء: 103]، أو بمعنى جَمَعَ، وضَمَّ، ومنه كتبت الخط، وعلى الأول تكون مأخوذة منْ معنى الالتزام، وعلى الثاني تكون مأخوذة منْ الخط؛ لوجوده عند عقدها غالبا، قَالَ الروياني: الكتابة إسلامية، ولم تكن تُعرَف فِي الجاهلية، كذا قَالَ، وكلام غيره يأباه، ومنه قول ابن التين: كانت الكتابة متعارفة قبل الإِسلام، فأقرها النبيّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ ابن خزيمة فِي كلامه عَلَى حديث بريرة: قيل: إن بَرِيرة أول مُكاتبة فِي الإِسلام، وَقَدْ كانوا يكاتبون فِي الجاهلية بالمدينة، وأول منْ كوتب منْ الرجال فِي الإِسلام سلمان رضي الله عنه. وحكى ابن التين أن أول منْ كوتب أبو المؤمل، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أعينوه"، وأول منْ كوتب منْ النِّساء بريرة، وأول منْ كوتب بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم، أبو أمية مولى عمر رضي الله عنه، ثم سيرين مولى أنس رضي الله عنه.
واختلف فِي تعريف الكتابة، وأحسنه: تعليق عتقٍ بصفة، عَلَى معاوضة مخصوصة. والكتابة خارجة عن القياس، عند منْ يقول: إن العبد لا يملك، وهي لازمة منْ جهة السيد، إلا إن عجز العبد، وجائزة له عَلَى الراجح منْ أقوال العلماء فيها. انتهى "فتح" 5/ 493.
وَقَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: الكتابة إعتاق السيد عبده عَلَى مال فِي ذمته، يُؤَدَّى مؤجلا، سميت كتابة؛ لأن السيد يكتب بينه وبينه كتابا، بما اتفقا عليه، وقيل: سميت كتابة منْ الكَتْب، وهو الضم؛ لأن المكاتب يضم بعض النجوم إلى بعض، ومنه سمي الْخَرْزُ كتابا لأنه يضم أحد الطرفين إلى الآخر بِخَرْزِة، وَقَالَ الحريري [منْ البسيط]:
وَكَاتِبِينَ وَمَا خَطَّتْ أَنَامِلُهُمْ
…
حَرْفًا وَلَا قَرَؤُوا مَا خُطَّ فِي الْكُتُبِ
وَقَالَ ذو الرُّمَّة فِي ذلك المعنى [منْ البسيط أيضًا]:
وَفْرَاءَ غَرْفِيَّةٍ أَثْأَى خَوَارِزُهَا
…
مُشَلْشَلٌ ضَيَّعَتهُ بَيْنَهَا الْكُتَبُ
(1)
يصف قِربة يَسيل الماء منْ بين خرزها، وسميت الكتيبة كتيبة لانضمام بعضها إلى بعض، والمكاتب يضم بعض نجومه إلى بعض، والنجوم هنا الأوقات المختلفة؛ لأن العرب كانت لا تعرف الحساب، وإنما تعرف الأوقات بطلوع النجوم، كما قَالَ بعضهم [منْ الرجز]:
إِذَا سُهَيْلٌ أَوَّلَ اللَّيْلِ طَلَعْ
…
فَابْنُ اللَّبُونِ الْحِقُّ وَالْحِقُّ جَذَعْ
فسميت الأوقات نجوما، والأصل فِي الكتابة: الكتابُ والسنة، والإجماع: أما الكتاب فقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} الآية [النور: 33]، وأما السنة: فما رَوَى سعيد، عن سفيان، عن الزهريّ، عن نبهان مولى أم سلمة، عن أم سلمة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"إذا كَانَ لإحداكن مكاتب، فملك ما يؤدي، فلتحتجب منه"
(2)
، ورَوَى سهل بن حُنيف رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "منْ أعان غارما، أو غازيا، أو مكاتبا فِي كتابته، أظله الله يوم لا ظل إلا ظله"
(3)
، أخرجه أحمد فِي "مسنده" 3/ 487 والبيهقيّ فِي "السنن الكبرى" 10/ 320 فِي أحاديث كثيرة سواهما، وأجمعت الأمة عَلَى مشروعية الكتابة. انتهى "المغني" 14/ 441. والله تعالى أعلم بالصواب.
4657 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَخْبَرَتْهُ أَنَّ بَرِيرَةَ، جَاءَتْ عَائِشَةَ، تَسْتَعِينُهَا فِي كِتَابَتِهَا شَيْئًا، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: ارْجِعِي إِلَى أَهْلِكِ، فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ أَقْضِيَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ، وَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لِي فَعَلْتُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ بَرِيرَةُ لأَهْلِهَا، فَأَبَوْا، وَقَالُوا: إِنْ شَاءَتْ أَنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْكِ، فَلْتَفْعَلْ، وَيَكُونَ لَنَا وَلَاؤُكِ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"ابْتَاعِي، وَأَعْتِقِي، فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا، لَيْسَتْ
(1)
الوفراء: الواسعة، "غرفية": دبغت بالغرف، وهو شجر. أثأى خوارزها: الثأيُ أن تلتقي الخرزتان، فتصيرا واحدة، والمشلشل: الذي يكاد يتّصل قطره. والْكُتَب: الْخُرَزُ. وَقَالَ فِي "اللسان": الوفراء: الوافرة، والغَرْفيّة: المدبوغة بالْغَرْف، وهو شجر يُدبغ به، وأثأى: أفسد، والخوارز: جمع خارزة. انتهى.
(2)
حديث ضعيف أخرجه أبو داود فِي "سننه" برقم (3928).
(3)
حديث ضعيف، راجع "ضعيف الجامع الصغير" للشيخ الألباني رحمه الله تعالي ص 786. رقم 5447.
فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَمَنِ اشْتَرَطَ شَيْئًا، لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَلَيْسَ لَهُ، وَإِنِ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.
والسند مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، فبغلانيّ، والليث بن سعد، فمصريّ، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، ورواية الراوي عن خالته، وفيه عائشة رضي الله تعالى عنها منْ المكثرين السبعة، وَقَدْ تقدّم هَذَا غير مرّة.
قوله: "بريرة" بفتح الموحّدة، وكسر الراء: بنت صفوان مولاة عائشة رضي الله تعالى عنهما.
وقولها: "أن أقضي عنك كتابتك": أي أشتريك، وأُعتقك، وسُمي ذلك قضاء للكتابة مجازًا، ثم فيه بيع المكاتب، ومن لا يراه يحمله عَلَى أنه كَانَ بعد فسخ الكتابة، وتعجيزها برضا الطرفين، والصواب الأول، كما سيأتي تحقيقه فِي المسألة الثانية، إن شاء الله تعالى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث متّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق فِي "الزكاة" 2614 و"الطلاق" 3447 و3451 ومضى شرحه مستوفى هناك، وكذا بيان مسائله، وَقَدْ بقي البحث هنا فيما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، فأقول: فيه مسألتان:
(المسألة الأولى): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم الكتابة:
ذهب عامّة أهل عامة أهل العلم إلى أن الكتابة مستحبّة، إذا سأل العبد سيده مكاتبته، وعلم مولاه فيه خيرًا، وممن قَالَ بهذا: الحسن، والشعبي، ومالك، والثوري، والشافعي، وأصحاب الرأي.
وعن أحمد أنها واجبة، إذا دعا العبد المكتسب الصدوق سيده إليها، فعليه إجابته، وهو قول عطاء، والضحاك، وعمرو بن دينار، وداود، وَقَالَ إسحاق أخشى: أن يأثم إن لم يفعل، ولا يُجبر عليه، ووجه ذلك قول الله تعالى:{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، وظاهر الأمر الوجوب، وروي أن سيرين أبا محمد بن سيرين، كَانَ عبدا لأنس بن مالك رضي الله عنه، فسأله أن يكاتبه فأبى، فأخبر سيرين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بذلك، فرفع الدَّرَّة عَلَى أنس، وقرأ عليه: رضي الله عنه {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} ، فكاتبه أنس رضي الله عنه.
واحتجّ الأولون بأنه إعتاق بعوض، فلم يجب كالاستسعاء، والآية محمولة عَلَى الندب، وقول عمر رضي الله عنه يخالف فعل أنس.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي هو القول بوجوب الكتابة، إذا طلب العبد ذلك؛ لظاهر الآية، حيث إن الأمر للوجوب، إذا لم يوجد له صارف، ولم يذكروا هنا صارفًا مقنعًا. والله تعالى أعلم.
قَالَ: ولا خلاف بينهم فِي أن منْ لا خير فيه، لا تجب إجابته. قَالَ أحمد: الخير صدق، وصلاح، ووفاء بمال الكتابة، ونحوَ هَذَا قَالَ إبراهيم، وعمرو بن دينار، وغيرهما، وعبارتهم فِي ذلك مختلفة. قَالَ ابن عباس: غَنَاءٌ، وإعطاء للمال. وَقَالَ مجاهد: غَناءٌ، وأداء. وَقَالَ النخعي: صدق، ووفاء. وَقَالَ عمرو بن دينار: مال وصلاح، وَقَالَ الشافعيّ: قوة عَلَى الكسب، وأمانة.
وهل تكره كتابة منْ لا كسب له، أو لا؟ قَالَ القاضي: ظاهر كلام أحمد كراهيته، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يكرهه، وهو قول مسروق، والأوزاعي. وعن أحمد رواية أخرى: أنه لا يكره، ولم يكرهه الشافعيّ، وإسحاق، وابن المنذر، وطائفة منْ أهل العلم؛ لأن جويرية بنت الحارث، كاتبها ثابت بن قيس بن شماس الأنصاريّ، فأتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، تستعينه فِي كتابتها، فأَدَّى عنها كتابتها، وتزوجها.
واحتج ابن المنذر بأن بريرة، كاتبت ولا حرفة لها، ولم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قَالَ الموفّق: وينبغي أن ينظر فِي المكاتب، فإن كَانَ ممن يتضرر بالكتابة، ويضيع لعجزه عن الإنفاق عَلَى نفسه، ولا يجد منْ يُنفق عليه، كرهت كتابته، وإن كَانَ يجد منْ يكفيه مؤنته، لم تكره كتابته؛ لحصول النفع بالحرية منْ غير ضرر.
فأما جويرية، فإنها كانت ذات أهل ومال، وكانت ابنة سيد قومه، فإذا عتقت رجعت إلى أهلها، فأخلف الله لها خيرا منْ أهلها، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصارت إحدى أمهات المؤمنين، وأعتق النَّاس ما كَانَ بأيديهم منْ قومها، حين بلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها، وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يُرَ امرأةٌ أعظم بركة عَلَى قومها منها.
وأما بريرة، فإن كتابتها تدل عَلَى إباحة ذلك، وأنه ليس بمنكر، ولا خلاف فيه، وإنما الخلاف فِي كراهته. وَقَالَ مسروق: إذا سأل العبد مولاه المكاتبة، فإن كَانَ له مكسبة، أو كَانَ له مال، فليكاتبه، وإن لم يكن له مال، ولا مكسبة، فليحسن ملكته، ولا يكلفه إلا طاقته. ذكره فِي "المغني" 14/ 442 - 444.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أنَّ القول بعدم كراهة كتابة العبد الذي لا كسب له، إذا كَانَ بطلب منه هو الأرجح؛ لظاهر حديث بريرة، وجويرية رضي الله تعالى عنهما. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم بيع المكاتب:
قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: ما حاصله: ذهب عطاء، والنخعي، والليث، وابن المنذر، إلى جواز بيع المكاتب، وهو قديم قولي الشافعيّ، قَالَ: لا وجه لقول منْ قَالَ: لا يجوز.
وحكى أبو الخطاب عن أحمد، رواية أخرى: أنه لا يجوز بيعه، وهو قول مالك، وأصحاب الرأي، والجديد منْ قولي الشافعيّ؛ لأنه عقد يَمنَع استحقاقَ كسبه، فَمَنَع بيعَه، كبيعه وعتقه.
وَقَالَ الزهريّ، وأبو الزناد: يجوز بيعه برضاه، ولا يجوز، إذا لم يرض. وحكي ذلك عن أبي يوسف؛ لأن بريرة، إنما بيعت برضاها وطلبها، ولأن لسيده استيفاء منافعه برضاه، ولا يجوز بغير رضاه، كذلك بيعه.
وحجة الأولين ما رَوَى عروة عن عائشة: أنها قالت: جاءت بريرة إلى، فقالت: يا عائشة إني كاتبت أهلي عَلَى تسع أواق، فِي كل عام أوقية، فأعينني، ولم تكن قضت منْ كتابتها شيئا، فقالت لها عائشة، ونَفِسَت
(1)
فيها: ارجعي إلى أهلك، إن أحبوا أن أعطيهم ذلك جميعا فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها، فعرضت عليهم ذلك، فأبوا، وقالوا: إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل، ويكون ولاؤك لنا، فذكرت ذلك عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"لا يمنعك ذلك منها، ابتاعي، وأعتقي، إنما الولاء لمن أعتق"، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي النَّاس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قَالَ:"ما بال ناس، يشترطون شروطا ليست فِي كتاب الله، ومن اشترط شرطا ليس فِي كتاب الله، فهو باطل، وإن كَانَ مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرطه أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق"، مُتَّفقٌ عليه.
قَالَ ابن المنذر: بيعت بريرة بعلم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي مكاتبة، ولم ينكر ذلك، ففي ذلك أبين البيان، أن بيعه جائز، ولا أعلم خبرا يعارضه، ولا أعلم فِي شيء منْ الأخبار دليلا عَلَى عجزها، وتأوله الشافعيّ عَلَى أنها كانت قد عجزت، وكان بيعها فسخا لكتابتها، وهذا التأويل بعيد، يحتاج إلى دليل، فِي غاية القوة، وليس فِي الخبر ما يدل عليه، بل قولها:"أعينيني عَلَى كتابتي" دليلٌ عَلَى بقائها عَلَى الكتابة، ولأنها أخبرتها أن نجومها فِي كل عام أوقية، فالعجز إنما يكون بمضي عامين، عند منْ لا يرى العجز إلا بحلول نجمين، أو بمضي عام عند الآخرين، والظاهر أن شراء عائشة لها كَانَ فِي أول كتابتها، ولا يصح قياسه عَلَى أم الولد؛ لأن سبب حريتها مستقر، عَلَى وجه لا يمكن
(1)
"نفست" كرغِبت وزنًا ومعنًى.
فسخه بحال، فأشبه الوقف، والمكاتبُ يجوز رده إلى الرق، وفسخ كتابته إذا عجز فافترقا. قَالَ ابن أبي موسى: وهل للسيد أن يبيع المكاتب بأكثر مما عليه عَلَى روايتين، ولأن المكاتب عبد مملوك لسيده، لم يتحتم عتقه فجاز بيعه، كالمعلق عتقه بصفة.
والدليل عَلَى أنه مملوك، قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"المكاتب عبد ما بقي عليه درهم"
(1)
، وأن مولاته لا يلزمها أن تحتجب منه، بدليل قوله عليه السلام:"إذا كَانَ لإحداكن مكاتب، فملك ما يؤدي فلتحتجب منه"
(2)
، فيدل عَلَى أنها لا تحتجب قبل ذلك، وَقَدْ روينا فِي هَذَا عن نبهان مولى أم سلمة، أنه قَالَ: قالت لي أم سلمة: يا نبهان هل عندك ما تؤدي؟ قلت: نعم، فأرخت الحجاب بيني وبينها، وروت هَذَا الْحَدِيث، قَالَ: فقلت: لا والله ما عندي ما أؤدي، ولا أنا بمؤدّ، وإنما سقط الحجاب عنها منه؛ لكونه مملوكها، ولأنه يصح عتقه، ولا يصح عتق منْ ليس بمملوك، ويرجع عند العجز إلى كونه قنّا، ولو صار حرّا ما عاد إلى الرق، ويفارق إعتاقه؛ لأنه يزيل الرق بالكلية، وليس بعقد، وإنما هو إسقاط للملك فيه، وأما بيعه فلا يمنع مالكه بيعه، وأما البائع فلم يبق له فيه ملك بخلاف مسألتنا. انتهى كلام الموفّق رحمه الله تعالى "المغني" 14/ 535 - 537.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح عندي قول منْ قَالَ بجواز بيع المكاتب بشرط رضاه بذلك، كما هو واقعة بريرة رضي الله تعالى عنها، وهو الذي رجحه الإِمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه"، حيث قَالَ:"باب بيع المكاتب، إذا رضي". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والماب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
(1)
حديث صحيحٌ، أخرجه أبو داود 3926، والبيهقيّ فِي "السنن الكبرى" 10/ 327 وعبد الرزاق فِي "مصنّفه" 8/ 409.
(2)
حديث ضعيف، أخرجه أبو داود 3928 فِي سنده نبهان مولى أم سلمة رضي الله تعالى عنها مجهول. انظر "الإرواء" 6/ 182 - 183.
86 - (الْمُكَاتَبُ يُبَاعُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَنْ كِتَابَتِهِ شَيْئًا)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ظاهر هذه الترجمة أن المصنّف يرى أن جواز بيع المكاتب مشروط بعدم أدائه شيئًا منْ بدل الكتابة، وإلا فلا يجوز، فكأنه يريد تقييد إطلاق الباب الماضي، لكن الظاهر أن هَذَا ليس بشرط؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما أجاز بيع بريرة لم يذكر أيَّ قيدٍ، ولا أيَّ شرط، فدلّ عَلَى جوازه مطلقًا. والله تعالى أعلم بالصواب.
4658 -
(أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ يُونُسُ، وَاللَّيْثُ، أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ، أَخْبَرَهُمْ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَتْ بَرِيرَةُ إِلَيَّ، فَقَالَتْ: يَا عَائِشَةُ، إِنِّي كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ، فَأَعِينِينِي، وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: وَنَفِسَتْ فِيهَا: ارْجِعِي إِلَى أَهْلِكِ، فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ أُعْطِيَهُمْ ذَلِكَ جَمِيعًا، وَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لِي فَعَلْتُ، فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا، فَعَرَضَتْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَبَوْا، وَقَالُوا: إِنْ شَاءَتْ أَنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْكِ فَلْتَفْعَلْ، وَيَكُونَ ذَلِكَ لَنَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "لَا يَمْنَعُكِ ذَلِكَ مِنْهَا، ابْتَاعِي، وَأَعْتِقِي، فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ"، فَفَعَلَتْ، وَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ، فَمَا بَالُ النَّاسِ، يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.
والسند مسلسلٌ بثقات المصريين إلى ابن شهاب، ومنه بالمدنيين.
وقوله: "ونفست" بكسر الفاء، كرغبت وزنًا ومعنى، والجملة فِي محلّ نصب عَلَى الحال، منْ فاعل "قالت".
وقوله: "أن تحتسب": أي تطلب الأجر منْ الله تعالى، يقال: احتسب الأجر عَلَى الله: ادّخره عنده، لا يرجو ثواب الدنيا. قاله الفيّوميّ.
والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق تمام البحث فيه فِي الباب الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
87 - (بَيْعُ الْوَلَاءِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الوَلاء": بفتح الواو: النصرة، لكنه خُصّ فِي الشرع بولاء العتق. والولاية بالفتح، والكسر: النُّصرة، واستولى غلب عليه، وتمكّن منه، والمولى: ابنُ العمّ، والمولى: العَصَبةُ، والمولى: الناصر، والمولى: الحليف، وهو الذي يقال له: مولى الموالاة، والمولى: المعتِقُ، وهو مَوْلَى النعمة، والمولى: العَتِيقُ، وهم موالي بني هاشم: أي عُتَقاؤهم. أفاده الفيّوميّ. والله تعالى أعلم بالصواب.
4659 -
(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضى الله عنه: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ، وَعَنْ هِبَتِهِ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(إسماعيل بن مسعود) الْجَحْدريّ، أبو مسعود البصريّ، ثقة [10] 42/ 47 منْ أفراد المصنّف.
2 -
(خالد) بن الحارث الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.
3 -
(عبيد الله) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمريّ المدنيّ، ثقة ثبت [5] 15/ 15.
4 -
(عبد الله بن دينار) العدويّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، مولى ابن عمر، ثقة [4] 167/ 260.
5 -
(عبد الله) بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وخالد، فبصريان. (ومنها). أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّن، وفيه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة روى (2630) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما. وفي رواية الإسماعيلي،
منْ طريق أحمد بن سنان، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة وسفيان، عن ابن دينار، سمعت ابن عمر، وفي مسند الطيالسي، عن شعبة، قلت لعبد الله بن دينار: أنت سمعت هَذَا منْ ابن عمر؟ قَالَ: نعم سأله ابنه عنه، وذكره أبو عوانة عن بهز بن أسد، عن شعبة، قلت لابن دينار: أنت سمعته منْ ابن عمر؟، قَالَ: نعم وسأله ابنه حمزة عنه، وكذا وقع فِي رواية عفان، عن شعبة، عند أبي نعيم. وأخرجه منْ وجه آخر، أن شعبة قَالَ: قلت لابن دينار: آللَّهِ لقد سمعت ابن عمر يقول هَذَا؟ فيحلف له، وقيل لابن عيينة: إن شعبة يستحلف عبد الله بن دينار، قَالَ: لكنا لم نستحلفه، سمعته منه مرارا، رواه الحميدي فِي مسنده عن سفيان، وأخرجه الدارقطنيّ فِي "غرائب مالك" منْ طريق الحسن بن زياد اللؤلؤي، عن مالك، عن ابن دينار، عن حمزة بن عبد الله بن عمر، أنه سأل أباه عن شراء الولاء؟ فذكر الْحَدِيث، فهذا ظاهره أن ابن دينار لم يسمعه منْ ابن عمر، وليس كذلك. قاله فِي "الفتح" 12/ 44 - 45.
(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ بَيْع الْوَلَاءِ، وَعَنْ هِبَتِهِ) قَالَ الخطّابيّ رحمه الله تعالى: قَالَ ابن الأعرابيّ، محمد بن زياد
(1)
: كانت العرب تبيع ولاء مواليها:
فَبَاعُوهُ مَمْلُوكًا وَبَاعُهُ مُعْتَقًا
…
فَلَيْسَ لَهُ حَتَّى الْمَمَاتِ خَلَاصُ
فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وهذا كالإجماع منْ أهل العلم، إلا أنه قد رُوي عن ميمونة رضي الله عنها أنه كانت وهبت ولاء مواليها منْ العبّاس، أو منْ ابن عباس رضي الله عنهم. قَالَ: وسمعت أبا الوليد حسّان بن محمد يذكر أن الذي وهبته ميمونة منْ الولاء، كَانَ ولاء سابية، وولاء السابية قد اختلف فيه أهل العلم. انتهى "معالم السنن" 4/ 187.
وَقَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: ليس المراد به المال بعد موت المعتّق بالفتح، وانتقاله إلى المعتق بالكسر، بل المراد هو السبب الذي بين المعتَق، والمعتَق الذي هو سبب لانتقال هَذَا المال. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -87/ 4659 و4660 و4661 - وفي "الكبرى" 88/ 6253 و6254 و6255. وأخرجه (خ) فِي "العتق" 2535 (م) فِي "العتق" 1506 (د) فِي "الفرائض"
(1)
قوله: "محمد بن زياد" بدل منْ "ابن الأعرابيّ" لأنه اسمه.
2919 (ت) فِي "البيوع" 1236 و"الولاء والهبة" 2126 (ق) فِي "الفرائض" 2747 و2748 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 4546 و5472 (الموطأ) فِي "العتق" 1522 (الدارمي) فِي "البيوع" 2459 و"الفرائض"3026. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم المصنّف له، وهو بيان حكم بيع الولاء، وهو المنع، قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: فيه تحريم بيع الولاء وهبته، وأنهما لا يصحّان، وأنه لا ينتقل الولاء عن مستحقّه، بل هو لحمة كلحمة النسب، وبهذا قَالَ جماهير العلماء منْ السلف، والخلف، وأجاز بعض السلف نقله، ولعلهم لم يبلغهم الْحَدِيث. انتهى "شرح مسلم" 10/ 387.
(ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله تعالى: أجمع العلماء عَلَى أنه لا يجوز تحويل النسب، فإذا كَانَ حكم الولاء حكم النسب فكما لا ينتقل النسب لا ينتقل الولاء وكانوا فِي الجاهلية ينقلون الولاء بالبيع وغيره فنهى الشرع عن ذلك. ذكره فِي "الفتح" 13/ 45.
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى: إنما لم يجز بيع الولاء، ولا هبته؛ للنهي عن ذلك، ولأنه أمر وجوديّ لا يتأتّى الانفكاك عنه كالنسب، ولذلك قَالَ صلى الله عليه وسلم:"الولاء لُحمة كلُحمة النسب"
(1)
، فكما لا تنتقل الأبوّة، والجدودة، كذلك لا ينتقل الولاء، قَالَ: غير أنه يصحّ فِي الولاء جرّ ما يترتّب عليه الميراث، ومثاله أن يتزوّج عبدٌ مُعتقةً، فيولد له منها ولدٌ، فيكون حرًّا بحرّية أمه، ويكون ولاؤه لمواليها، ما دام أبوه عبدًا، فلو أعتقه سيّده عاد ولاؤه لمعتق أبيه بالاتفاق. انتهى "المفهم" 4/ 339.
قَالَ الحافظ بعد أن ذكر كلام القرطبيّ هَذَا: ما نصّه: وهذا لا يقدح فِي الأصل المذكور: أن الولاء لحمة كلحمة النسب؛ لأن التشبيه لا يستلزم التسوية منْ كل وجه. انتهى "فتح" 13/ 46.
[تنبيه]: قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: للولاء أحكام خاصّة ثبتت بالسنّة: [منها]: أنه لا يرث به إلا العصبات الذكور، ولا مدخل للنساء فيه، إلا فيما أعتقن، أو أعتق منْ أعتقن. [ومنها]: أن لا يُورث إلا بالكبر، فلا يستحق البطن الثاني منه شيئًا ما بقي منْ البطن الأول شيء، وتفصيل ذلك فِي الفروع. وَقَدْ حُكي عن بعض السلف أن الولاء ينتقل، ولعله إنما يعني به الجرّ. انتهى "المفهم" 4/ 339. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فيما قاله أهل العلم فِي هَذَا الْحَدِيث:
(1)
حديث صحيح أخرجه الحاكم، والبيهقي منْ حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، والطبرانيّ منْ حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه.
قَالَ فِي "الفتح": وَقَدْ اشتهر هَذَا الْحَدِيث عن عبد الله بن دينار، حَتَّى قَالَ مسلم لما أخرجه فِي "صحيحه": النَّاس فِي هَذَا الْحَدِيث عيال عليه. وَقَالَ الترمذيّ بعد تخريجه: حسن صحيح، لا نعرفه إلا منْ حديث عبد الله بن دينار، رواه عنه سعيد، وسفيان، ومالك، ويروى عن شعبة أنه قَالَ: وددت أن عبد الله بن دينار، لما حدث بهذا الْحَدِيث، أذن لي حَتَّى كنت أقوم إليه، فأقبل رأسه، قَالَ الترمذيّ: وروى يحيى بن سليم، عن عبيد الله بن عمر، عن عبد الله بن دينار.
قَالَ الحافظ: وصل رواية يحيى بن سليم ابن ماجه، ولم ينفرد به يحيى بن سليم، فقد تابعه أبو ضمرة، أنس بن عياض، ويحيى بن سعيد الأموي، كلاهما عن عبيد الله ابن عمر، أخرجه أبو عوانة، فِي "صحيحه" منْ طريقهما، لكن قرن كل منهما نافعا بعبد الله بن دينار، وأخرجه ابن حبّان فِي "الثقات" فِي ترجمة أحمد بن أبي أوفى، وساقه منْ طريقه عن شعبة، عن عبد الله بن دينار، وعمرو بن دينار جميعا، عن ابن عمر، وَقَالَ: عمرو بن دينار غريب. وَقَدْ اعتنى أبو نعيم الأصبهاني، بجمع طرقه، عن عبد الله بن دينار، فأورده عن خمسة وثلاثين نفسا، ممن حدث به عن عبد الله بن دينار، منهم منْ الأكابر: يحيى بن سعيد الأنصاريّ، وموسى بن عقبة، ويزيد بن الهاد، وعبيد الله العمري، وهؤلاء منْ صغار التابعين، وممن دونهم: مسعر، والحسن بن صالح بن حي، وورقاء، وأيوب بن موسى، وعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، وعبد العزيز بن مسلم، وأبو أويس، وممن لم يقع له ابن جريج، وهو عند أبي عوانة، وسليمان بن بلال، وهو عند مسلم، وأحمد بن حازم المغافري، فِي "جزء الهروي" منْ طريق الطبراني.
وَقَالَ ابن العربي فِي "شرح الترمذيّ": تفرد بهذا الْحَدِيث عبد الله بن دينار، وهو منْ الدرجة الثانية منْ الخبر؛ لأنه لم يذكر لفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكأنه نقل معنى قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنما الولاء لمن أعتق".
قَالَ الحافظ: ويؤيده أن ابن عمر روى هَذَا الْحَدِيث عن عائشة، فِي قصة بريرة، كما مضى فِي "العتق"، لكن جاءت عنه صيغة الْحَدِيث منْ وجه آخر، أخرجه النسائيّ، وأبو عوانة، منْ طريق الليث، عن يحيى بن أيوب، عن مالك، ولفظه:"سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم، ينهى عن بيع الولاء، وعن هبته".
ووقع فِي رواية محمد بن أبي سليمان، بلفظ:"الولاء لا يباع، ولا يوهب"، وفي رواية عتبان بن عبيد، عن شعبة مثله، ذكره أبو نعيم، وزاد محمد بن سليمان فِي السند:"عن ابن عمر، عن عمر"، فوَهِمَ، أخرجه الدارقطنيّ أيضا، وضعفه.
واتّفق جميع منْ ذكرنا عَلَى هَذَا اللفظ، وخالفهم أبو يوسف القاضي، فرواه عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، بلفظ:"الولاء لحمة كلحمة النسب"، أخرجه الشافعيّ، ومن طريقه الحاكم، ثم البيهقي، وأدخل بشر بن الوليد بين أبي يوسف، وبين ابن دينار عبيد الله بن عمر، أخرجه أبو يعلى فِي "مسنده" عنه، وأخرجه ابن حبّان فِي "صحيحه" عن أبي يعلى، وأخرجه أبو نعيم منْ طريق عبد الله بن جعفر بن أعين، عن بشر، فزاد فِي المتن:"لا يباع، ولا يوهب"، ومن طريق عبد الله بن نافع، عن عبد الله بن دينار:"إنما الولاء نسب، لا يصح بيعه، ولا هبته"، والمحفوظ فِي هَذَا ما أخرجه عبد الرزاق، عن الثوري، عن داود ابن أبي هند، عن سعيد بن المسيب، موقوفا عليه:"الولاء لحمة كلحمة النسب"، وكذا ما أخرجه البزار، والطبراني، منْ طريق سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن جده، رفعه:"الولاء ليس بمنتقل، ولا متحول"، وفي سنده المغيرة بن جميل، وهو مجهول، نعم عن ابن عباس، منْ قوله:"الولاء لمن أعتق، لا يجوز بيعه، ولا هبته". انتهى "فتح" 12/ 45. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم بيع الولاء:
قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: ولا يصح بيع الولاء، ولا هبته، ولا أن يأذن لمولاه، فيوالي منْ شاء، روي ذلك عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم، وبه قَالَ سعيد بن المسيب، وطاوس، وإياس بن معاوية، والزهري، ومالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأصحابه، وكَرِه جابر بن عبد الله بيع الولاء، قَالَ سعيد: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، قَالَ: قَالَ عبد الله: "إنما الولاء كالنسب، أفيبيع الرجل نسبه؟ ". وَقَالَ: حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار: أن ميمونة وهبت ولاء سليمان بن يسار لابن عباس، وكان مكاتبا، وروي أن ميمونة وهبت ولاء مواليها للعباس، وولاؤهم اليوم لهم، وأن عروة ابتاع ولاء طهمان، لورثة مصعب بن الزبير. وَقَالَ ابن جريج: قلت لعطاء: أذنتُ لمولاي أن يوالي منْ شاء، فيجوز؟ قَالَ: نعم.
واحتجّ الأولون بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء، وعن وهبته، وَقَالَ:"الولاء لُحْمة كلحمة النسب"، وَقَالَ:"لعن الله منْ تولى غير مواليه"، ولأنه معنى يورث به فلا ينتقل كالقرابة، وفعل هؤلاء شاذ يخالف قول الجمهور، وترده السنة، فلا يعول عليه.
قَالَ: ولا ينتقل الولاء عن المعتق بموته، ولا يرثه ورثته، وإنما يرثون المال به، مع بقائه للمعتق، هَذَا قول الجمهور، ورُوي نحو ذلك عن عمر، وعلي، وزيد، وابن
مسعود، وأُبيّ بن كعب، وابن عمر، وأبي مسعود البدري، وأسامة بن زيد، وبه قَالَ عطاء، وطاوس، وسالم بن عبد الله، والحسن، وابن سيرين، والشعبيّ، والزهري، والنخعي، وقتادة، وأبو الزناد، وابن نشيط، ومالك، والثوري، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وداود، وشذَّ شُرَيح، وَقَالَ: الولاء كالمال يورث عن المعتق، فمن ملك شيئا حياته، فهو لورثته. ورواه حنبل، ومحمد بن الحكم، عن أحمد، وغَلَّطهما أبو بكر، وهو كما قَالَ، فإن رواية الجماعة عن أحمد، مثل قول الجماعة، وذلك لقوله عليه السلام:"الولاء للمعتق"، وقوله:"الولاء لحمة كلحمة النسب"، والنسب لا يورث، وإنما يورث به، ولأنه معنى يورث به، فلا ينتقل كسائر الأسباب. والله تعالى أعلم. انتهى "المغني" 9/ 219 - 220.
وَقَالَ فِي "الفتح": قَالَ ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى: اتفق الجماعة عَلَى العمل بهذا الْحَدِيث، إلا ما رُوي عن ميمونة رضي الله تعالى عنها أنها وهبت ولاء سليمان بن يسار لابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج، عن عطاء: يجوز للسيد أن يأذن لعبده أن يوالي منْ شاء.
وَقَالَ ابن بطال وغيره: جاء عن عثمان جواز بيع الولاء، وكذا عن عروة، وجاء عن ميمونة جواز هبة الولاء، وكذا عن ابن عباس، ولعلهم لم يبلغهم الْحَدِيث.
قَالَ الحافظ: قد أنكر ذلك ابن مسعود فِي زمن عثمان، فأخرج عبد الرزاق عنه: أنه كَانَ يقول: أيبيع أحدكم نسبه، ومن طريق علي: الولاء شعبة منْ النسب. ومن طريق جابر أنه أنكر بيع الولاء وهبته. ومن طريق عطاء أن ابن عمر كَانَ ينكره. ومن طريق عطاء، عن ابن عباس: لا يجوز، وسنده صحيح، ومن ثَمّ فَصّلوا فِي النقل عن ابن عباس بين البيع والهبة.
وَقَالَ ابن العربي معنى: "الولاء لحمة كلحمة النسب": أن الله أخرجه بالحرمة إلى النسب
(1)
حكما، كما أن الأب أخرجه بالنطفة إلى الوجود حسا، لأن العبد كَانَ كالمعدوم فِي حق الأحكام، لا يَقضي ولا يَلي ولا يَشهد، فأخرجه سيده بالحرية إلى وجود هذه الأحكام منْ عدمها، فلما شابه حكم النسب أُنيط بالمعتق، فلذلك جاء:"إنما الولاء لمن أعتق"، وأُلحق برتبة النسب، فنُهِي عن بيعه وهبته. انتهى "الفتح" 13/ 45 - 46.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما تقدّم منْ الحجج أن الصواب هو ما عليه
(1)
هكذا نسخة "الفتح" التي عندي، والظاهر أن صواب العبارة هكذا:"أن السيد أخرجه بالحرّيّة إلى النسب حكما الخ". والله تعالى أعلم.
الجمهور، منْ أنه لا يجوز بيع الولاء، ولا هبته، وأنه لا ينتقل عن المعتق بموته إلى غيره؛ للأدلّة الصحيحة التي تقدّم بيانها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4660 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ، وَعَنْ هِبَتِهِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة.
والسند منْ رباعيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (230) منْ رباعيات الكتاب، وهو أصحّ أسانيد ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.
والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق شرحه، وبيان مسائله فِي الْحَدِيث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4661 -
(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ، وَعَنْ هِبَتِهِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدموا غير مرّة.
و"إسماعيل بن إبراهيم": هو ابن عُليّة. والحديث سبق البحث فيه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقى إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
88 - (بَيْعُ الْمَاءِ)
4662 -
(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى السِّيْنَانِيُّ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَاءِ").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(الحسين بن حُريث) الخزاعيّ مولاهم، أبو عمّار المروزيّ، ثقة [10] 8/ 2116.
2 -
(الفضل بن موسى) السينانيّ -بكسر السين المهملة- أبو عبد الله المروزيّ، ثقة
ثبتٌ، ربما أغرب، منْ كبار [9] 83/ 100.
3 -
(حسين بن واقد) أبو عبد الله المروزيّ القاضي، ثقة له أوهام [7] 5/ 463.
4 -
(أيوب السختياني) ابن أبي تميمة كيسان البصريّ، ثقة ثبت فقيه عابد [5] 42/ 48.
5 -
(عطاء) بن أبي رباح الإِمام الحجة الثبت المكيّ [3] 112/ 154.
6 -
(جابر) بن عبد الله بن عمرو بن حرام السَّلَمي الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما 31/ 35. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن نصف الأول مسلسل بالمراوزة، وأيوب بصري، وعطاء مكي، والصحابي مدنيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه جابر رضي الله تعالى عنه منْ المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ جَابِرٍ) بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَاءِ) وفي الرواية الآتية فِي الباب التالي "عن بيع فضل الماء"، وهو الفاضل عن حاجته، وحاجة عياله، وماشيته، وزرعه. قَالَ فِي "النهاية" 3/ 455 - : هو أن يسقي الرجل أرضه، ثم يبقى منْ الماء بقيّة، لا يحتاج إليها، فلا يجوز له أن يبيعها، ولا يمنع منها أحدًا ينتفع بها، إذا لم يكن الماء ملكه، أو عَلَى قول منْ يرى أن الماء لا يُملك. انتهى.
وَقَالَ فِي "نيل الأوطار": والظاهر أنه لا فرق بين الماء الكائن فِي أرض مباحة، أو فِي أرض مملوكة، وسواء كَانَ للشرب، أو لغيره، وسواء كَانَ لحاجة الماشية، أو الزرع، وسواء كَانَ فِي فلاة، أو فِي غيرها. وَقَالَ القرطبيّ: ظاهر هَذَا اللفظ النهي عن نفس بيع الماء الفاضل، الذي يشرب، فإنه السابق إلى الفهم. وَقَالَ النوويّ حاكياً عن أصحاب الشافعيّ: إنه يجب بذل الماء فِي الفلاة، بشروط:[أحدها]: أن لا يكون ماء آخر يُستغنَى به. [الثاني]: أن يكون البذل لحاجة الماشية، لا لسقي الزرع. [الثالث]: أن لا يكون مالكه محتاجا إليه، ويؤيد ما ذكرنا منْ دلالة الحديثين عَلَى المنع، منْ بيع الماء عَلَى العموم، حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الشيخين، مرفوعا، بلفظ:"لا يُمنَعُ فضل الماء؛ ليُمنَع به فضل الكلأ"، وذكره صاحب "جامع الأصول" بلفظ:"لا يباع فضل الماء"، وهو لفظ مسلم، ويؤيد المنع منْ البيع أيضا: حديث: "النَّاس شركاء فِي ثلاث: فِي الماء، والكلإ، والنار".
وَقَدْ حمل الماء المذكور فِي حديثي الباب، عَلَى ماء الفحل، وهو مع كونه خلاف الظاهر مردود بما فِي حديث جابر رضي الله عنه فِي "صحيح مسلم" بلفظ:"نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع فضل الماء، وعن منع ضراب الفحل"، وسيأتي نحوه للنسائيّ بعد خمسة أبواب.
وَقَدْ خُصَّص منْ عموم حديثي المنع منْ البيع للماء، ما كَانَ منه مُحرزًا فِي الآنية، فإنه يجوز بيعه قياسا عَلَى جواز بيع الحطب، إذا أَحرزه الحاطب؛ لحديث الذي أمره صلى الله عليه وآله وسلم بالاحتطاب؛ ليستغني به عن المسألة، وهو متَّفقٌ عليه، منْ حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وَقَدْ تقدم فِي "كتاب الزكاة"، وهذا القياس بعد تسليم صحته، إنما يصح عَلَى مذهب منْ جَوَّز التخصيص بالقياس، والخلاف فِي ذلك معروف فِي الأصول، ولكنه يُشكل عَلَى النهي عن بيع الماء عَلَى الإطلاق، ما ثبت فِي الْحَدِيث الصحيح منْ أن عثمان رضي الله عنه اشترى بئر رومة، منْ اليهودي، وسَبّلها للمسلمين، بعد أن سمع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، يقول:"منْ يشتري بئر رومة، فيوسع بها عَلَى المسلمين، وله الجنة"، وكان اليهودي يبيع ماءها، الْحَدِيث، فإنه كما يدل عَلَى جواز بيع البئر نفسها، وكذلك العين بالقياس عليها، يدل عَلَى جواز بيع الماء؛ لتقريره صلى الله عليه وآله وسلم لليهودي عَلَى البيع.
ويجاب بأن هَذَا كَانَ فِي صدر الإِسلام، وكانت شوكة اليهود فِي ذلك الوقت قوية، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم صالحهم، فِي بادىء الأمر عَلَى ما كانوا عليه، ثم استقرت الأحكام، وشَرَع لأمته تحريم بيع الماء، فلا يعارضه ذلك التقرير، وأيضا الماء هنا دخل لبيع البئر، ولا نزاع فِي جواز ذلك. انتهى ما فِي "النيل" 5/ 155. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث جابر رضي الله عنه هَذَا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -88/ 4662 - و94/ 4672 - وفي 89/ 6256 و95/ 6266. وأخرجه (م) فِي "البيوع" 1565 (ق) فِي "الأحكام" 2477 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 14229 و14234. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم بيع الماء، وهو
المنع. (ومنها): وجوب بذل الماء مجّانًا، منْ غير طلب عوض، وبه قَالَ الجمهور، وحكى الخطابيّ عن قوم أنه تجب له القيمة مع وجوب ذلك، وهو مذهب ضعيف، والصواب الأول.
(منها): ما قاله وليّ الدين رحمه الله تعالى أن لوجوب بذل الماء شروطًا مأخوذة منْ الْحَدِيث: [أحدها]: أن يكون ذلك الماء فاضلاً عن حاجته، وهو صريح الْحَدِيث، فإن المنهيّ عنه منع الفضل، لا منع الأصل، ولذلك بوّب عليه البخاريّ فِي "صحيحه"، فَقَالَ:"منْ قَالَ: إن صاحب الماء أحقّ بالماء حَتَّى يَرْوَى؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا يُمنع فضل الماء". [الثاني]: أن يكون البذل للماشية، وسائر البهائم، ولا يجب عليه بذل الفاضل عن حاجته لزرع غيره عَلَى الصحيح عند الشافعيّة، وبه قَالَ أبو حنيفة، وأصحابه، وسفيان الثوريّ. وعن أحمد روايتان، وَقَالَ مالك: يجب عليه بذله للزرع أيضًا، إذا خشي عليه الهلاك، ولم يضرّ ذلك بصاحب الماء، واختلف أصحابه فِي أنه يستحقّ عَلَى ذلك عوضًا، أم لا؟ وحديث أبي هريرة رضي الله عنه: "لا يمنع فضل الماء ليُمنَع به الكلأ" حجة للأولين، فإنه لا يلزم منْ منع سقي الزرع به منع الكلإ، وهو المعنى الذي عُلّل به الْحَدِيث، وإنما يلزم ذلك فِي منع البهائم، ويدلّ لمالك، ومن وافقه حديث جابر رضي الله عنه المذكور فِي هَذَا الباب، فإنه منع عن بيع فضل الماء، ولم يقيّده بمنع فضل الكلإ، لكنه عند غيره محمول عَلَى الْحَدِيث الآخر. [الثالث]: أن لا يجد صاحب الماشية ماء مباحًا، ويدلّ لهذا قوله فِي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "ليُمنع به الكلأ"، فإنه متى وجد ذلك لا يلزم منْ منع الماء منع الكلإ؛ للاستغناء عنه بذلك الماء المباح. [الرابع]: أن يكون هناك كلأ يُرعى، فلو خلت تلك الأرض عن الكلإ فله المنع؛ لانتفاء العلّة المعتبرة فِي الْحَدِيث. انتهى "طرح التثريب" 6/ 180 - 181.
(ومنها): أنه استدلّ ابن حبيب المالكيّ عَلَى أن البئر إذا تهايأ فيها مالكاها لهذا يوم، ولهذا يومٌ، فاستغنى صاحب النوبة عن الماء فِي ذلك اليوم، إما بعد أن سقى زرعه، أو لم يسق؛ لعدم احتياجه لذلك، فلشريكه أن يستقي فِي غير نوبته؛ لأن هَذَا ماء قد فضل عنه، وَقَدْ نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن منع فضل الماء. وخالفه فِي ذلك الأكثرون منْ المالكيّة وغيرهم، وقالوا: الأصل المنع منْ مال الغير بغير إذنه، إلا ما خرج بدليل، وهذه الصورة ليست الصورة التي ورد فيها الْحَدِيث المخصّص. انتهى "طرح" 6/ 182.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الأكثرون هو الظاهر عندي؛ لظهور حجته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): أخرج الشيخان، والمصنّف فِي "الكبرى"، منْ طريق مالك، عن
أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لا يُمنَعُ فضل الماء؛ لِيُمنَعَ به الكلأ"، ومن طريق ابن شهاب، عن ابن المسيب، وأبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"لا تمنعوا فضل الماء؛ لتمنعوا به فضل الكلاء".
قَالَ فِي "الفتح". قوله: "لا يمنع" بضم أوله، عَلَى البناء للمجهول، وبالرفع عَلَى أنه خبر، والمراد به مع ذلك النهي.
والمراد بالفضل، ما زاد عَلَى الحاجة، ولأحمد منْ طريق عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة:"لا يُمنَع فضلُ ماء، بعد أن يُستغنَى عنه"، وهو محمول عند الجمهور عَلَى ماء البئر المحفورة فِي الأرض المملوكة، وكذلك فِي الموات، إذا كَانَ بقصد التملك، والصحيح عند الشافعيّة، ونَصَّ عليه فِي القديم، وحرملة: أن الحافر يملك ماءها، وأما البئر المحفورة فِي الموات؛ لقصد الارتفاق، لا التملكِ، فإن الحافر لا يملك ماءها، بل يكون أحق به إلى أن يرتحل، وفي الصورتين يجب عليه بذل ما يَفضُل عن حاجته، والمراد حاجة نفسه، وعياله، وزرعه، وماشيته، هَذَا هو الصحيح عند الشافعيّة.
وخص المالكية هَذَا الحكم بالموات، وقالوا فِي البئر التي فِي الملك: لا يجب عليه بذل فضلها، وأما الماء المحرز فِي الإناء، فلا يجب بذل فضله لغير المضطر عَلَى الصحيح.
وقوله: قوله: "فضل الماء": فيه جواز بيع الماء لأن المنهي عنه منع الفضل، لا منع الأصل، وفيه أن محل النهي ما إذا لم يجد المأمور بالبذل له ماء غيره، والمراد تمكين أصحاب الماشية منْ الماء، ولم يقل أحد: إنه يجب عَلَى صاحب الماء مباشرة سقي ماشية غيره، مع قدرة المالك.
وقوله: "ليمنع به الكلأ": بفتح الكاف واللام، بعدها همزة، مقصورًا: هو النبات، رطبه ويابسه، والمعنى: أن يكون حول البئر كلأ، ليس عنده ماء غيره، ولا يمكن أصحاب المواشي رعيه، إلا إذا تمكنوا منْ سقي بهائمهم منْ تلك البئر؛ لئلا يتضرروا بالعطش بعد الرعي، فيستلزم منعُهم منْ الماء، منعهم منْ الرعي، وإلى هَذَا التفسير ذهب الجمهور، وعلى هَذَا يختص البذل بمن له ماشية، ويلتحق به الرعاة، إذا احتاجوا إلى الشرب لأنهم إذا مُنعوا منْ الشرب، امتنعوا منْ الرعي هناك.
ويحتمل أن يقال: يمكنهم حمل الماء لأنفسهم؛ لقلة ما يحتاجون إليه منه، بخلاف البهائم، والصحيح الأول، ويلتحق بذلك الزرع عند مالك، والصحيح عند الشافعيّة، وبه قَالَ الحنفية: الاختصاص بالماشية، وفرق الشافعيّ فيما حكاه المزني عنه، بين المواشي، والزرع بأن الماشية ذات أرواح، يُخشى منْ عطشها موتها، بخلاف الزرع،
وبهذا أجاب النوويّ وغيره.
واستُدلَّ لمالك بحديث جابر رضي الله عنه فِي الباب بلفظ: "نَهَى عن بيع فضل الماء"، لكنه مطلق، فيُحمل عَلَى المقيد فِي حديث أبي هريرة رضي الله عنه وعلى هَذَا لو لم يكن هناك كلأ يُرعَى فلا مانع منْ المنع؛ لانتفاء العلة.
قَالَ الخطّابيّ: والنهي عند الجمهور للتنزيه، فيحتاج إلى دليل يوجب صرفه عن ظاهره، وظاهر الْحَدِيث أيضا وجوب بذله مجانا، وبه قَالَ الجمهور، وقيل: لصاحبه طلب القيمة منْ المحتاج إليه، كما فِي إطعام المضطر.
وتُعُقّب بأنه يلزم منه جواز المنع، حالة امتناع المحتاج منْ بذل القيمة، ورُدَّ بمنع الملازمة، فيجوز أن يقال: يجب عليه البذل، وتترتب له القيمة فِي ذمة المبذول له، حَتَّى يكون له أخذ القيمة منه متى أمكن ذلك، نعم فِي رواية لمسلم، منْ طريق هلال بن أبي ميمونة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة:"لا يباع فضل الماء"، فلو وجب له العوض، لجاز له البيع. والله أعلم.
واستَدَلّ ابن حبيب منْ المالكية، عَلَى أن البئر، إذا كانت بين مالكين، فيها ماء، فاستغنى أحدهما فِي نوبته، كَانَ للآخر أن يسقى منها؛ لأنه ماء فضل عن حاجة صاحبه، وعموم الْحَدِيث يشهد له، وإن خالفه الجمهور.
واستدل به بعض المالكية، للقول بسد الذرائع؛ لأنه نَهَى عن منع الماء؛ لئلا يتذرع به إلى منع الكلأ، لكن ورد التصريح فِي بعض طرق حديث أبي هريرة بالنهي عن منع الكلإ، صححه ابن حبّان منْ رواية أبي سعيد مولى بني غفار، عن أبي هريرة، بلفظ:"لا تمنعوا فضل الماء، ولا تمنعوا الكلأ، فيُهْزَلَ المالُ، وتجوع العيال".
والمراد بالكلإ هنا النابت فِي الموات، فإن النَّاس فيه سواء.
وروى ابن ماجه، منْ طريق سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعا:"ثلاثة لا يُمنَعنَ: الماء، والكلأ، والنار"، وإسناده صحيح، قَالَ الخطّابيّ: معناه: الكلأ ينبت فِي موات الأرض، والماء الذي يجري فِي المواضع التي لا تختص بأحد، قيل: والمراد بالنار الحجارة التي تُورى النارَ، وَقَالَ غيره: المراد النار حقيقة، والمعنى: لا يُمنَعُ منْ يستصبح منها مصباحا، أو يُدنِي منها ما يُشعله منها، وقيل: المراد ما إذا أَضرَم نارا فِي حطب مباح بالصحراء، فليس له منع منْ ينتفع بها، بخلاف ما إذا أضرم فِي حطب يملكه نارا، فله المنع. انتهى "فتح" 5/ 303 - 305. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4663 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَا: حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْمِنْهَالِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ إِيَاسَ بْنَ عُمَرَ، وَقَالَ مَرَّةً: ابْنَ عَبْدٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَنْهَى عَنْ بَيْعِ الْمَاءِ. قَالَ قُتَيْبَةُ: لَمْ أَفْقَهْ عَنْهُ بَعْضَ حُرُوفِ أَبِي الْمِنْهَالِ، كَمَا أَرَدْتُ).
قَالَ فِي "الكبرى": "واللفظ لعبد الله". انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة، غير الصحابيّ.
و"عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن": هو ابن المسور بن مَخرَمة الزهريّ البصريّ، صدوقٌ، منْ صغار [10] 42/ 48.
"وسفيان": هو ابن عيينة. و"أبو المنهال": هو عبد الرحمن بن مُطعِم الْبُنانيّ البصريّ، نزيل مكة، ثقة [3] 49/ 4575.
و"إياس بن عبد" بغير إضافة المزنيّ، له صحبة، كنيته أبو عوف، يُعدّ فِي الحجازيين، وَقَالَ فِي "الإصابة": ويقال: كنيته أبو الفرات، نزل الكوفة. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْحَدِيث فقط، وروى عنه أبو المنهال، قَالَ البغويّ فِي "المعجم": لا أعلمه روى حديثًا مسندًا غيره، ورُوي عنه حديث موقوف، وهو جدّ عبد الله بن معقِل ابن مُقرِّن لأمه، قاله ابن المدينيّ عن سفيان. وَقَالَ الأزديّ، وابن عبد البرّ: تفرّد بالرواية عنه عبد الرحمن بن مُطعم. روى له الأربعة، له عندهم هَذَا الْحَدِيث فقط.
[تنبيه] قوله: "إياس بن عمر" لم أره منسوبا إلى عمر لغير المصنّف، فكلّ منْ ترجمه إنما قالوا:"إياس بن عبد". والله تعالى أعلم.
وقوله: "وَقَالَ مرّة: ابن عبد" يعني أن أبا المنهال حدّث به عمرو بن دينار غير مرّة، فَقَالَ له مرّة: سمعت إياس بن عبد، بدل ابن عمر.
وقوله: "لم أفقه عنه بعض حروف أبي المنهال كما أردت" يعني أن لفظ "أبي المنهال" لم يتبيّن لقتيبة حينما حدّثه به سفيان، ولعله كَانَ هناك زحام، أو نحوه. والله تعالى أعلم.
والحديث صحيح، وتقدّم شرحه فِي الْحَدِيث الماضي، وفيه مسألتان:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث إياس بن عبد رضي الله عنه هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -88/ 4663 و89/ 4664 و4665 - وفي "الكبرى" 89/ 6257 و90/ 6258 و6259. وأخرجه (د) فِي "البيوع" 3478 (ت) فِي "البيوع" 1271 (ق) فِي "الأحكام" 2476 (أحمد) فِي "مسند المكيين" 15108 و"مسند الشاميين" 16785
(الدارمي) فِي "البيوع"2498. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
…
89 - (بَيْعُ فَضْلِ الْمَاءِ)
4664 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ، عَنْ إِيَاسٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ، وَبَاعَ قَيِّمُ الْوَهْطِ، فَضْلَ مَاءِ الْوَهْطِ، فَكَرِهَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "داود": هو ابن عبد الرحمن العطّار، أبو سليمان المكيّ، ثقة، لم يثبت أن ابن معين تكلّم فيه [8] 29/ 442. و"عمرو": هو ابن دينار. و"أبو المنهال": هو عبد الرحمن بن مطعِم المذكور فِي السند الماضي.
وقوله: "عن بيع فضل الماء": هو ما فضل عن حاجته، وحاجة عياله، وماشيته، وزرعه، وَقَدْ تقدّم تمام البحث فيه فِي الذي قبله.
وقوله: "قيّم الْوَهْط": أي القائم بتدبير شأنها.
وقوله: "ماء الْوَهْط": بفتح، فسكون، عَلَى ما هو ظاهر عبارة "القاموس"، و"اللسان"، وَقَالَ السنديّ: ضُبط بفتحتين، ولم أره لغيره: وهو مال كَانَ لعمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه بالطائف، وقيل: قرية بالطائف، كَانَ كَرْمٌ له، وأصله الموضع المطمئنّ، أفاده فِي "النهاية" 5/ 232.
وذكر المجد فِي "القاموس": أن الوَهْطَ بُستان، ومالٌ كَانَ لعمرو بن العاص بالطائف، عَلَى ثلاثة أميال منْ وَجّ، وهو كَرْمُ موصوف، كَانَ يُعَرَّشُ عَلَى ألف ألف خشبة، شراءُ كلّ خشبة درهم، قيل: دخله بعض الخلفاء، فأعجبه، وَقَالَ: يا له منْ مال، لولا هذه الحرة التي فِي وسطه، فقالوا: هَذَا الزبيب انتهى "القاموس، مع شرحه التاج" 5/ 234
…
وَقَالَ فِي "اللسان": الوَهْطُ: المكان المطمئِنّ منْ الأرض المستوي، يَنبُتُ فيه العضاه، والسَّمُرُ، والطَّلْحُ، والْعُرْفُطُ، وخصّ بعضهم مَنْبِتَ الْعُرْفُط، والجمعُ أوهاطٌ، ووِهاطٌ، قَالَ: وبه سمّي الوَهْطُ مال كَانَ لعمرو بن العاص، وقيل: لعبد الله بن عمرو ابن العاص بالطائف. انتهى باختصار 7/ 434.
والحديث صحيح، وَقَدْ سبق البحث عنه مستوفًى فِي الباب الماضي. والله تعالى
أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4665 -
(أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ حَجَّاجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، أَنَّ أَبَا الْمِنْهَالِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ إِيَاسَ بْنَ عَبْدٍ، صَاحِبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَبِيعُوا فَضْلَ الْمَاءِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "إبراهيم بن الحسن": هو الْمِصّيصيّ، ثقة [11]. و"حجّاجٌ": هو ابن محمد الأعور.
والحديث صحيح، كما سبق بيانه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
90 - (بَيْعُ الْخَمْرِ)
4666 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ وَعْلَةَ الْمِصْرِيِّ، أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ، عَمَّا يُعْصَرُ مِنَ الْعِنَبِ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَهْدَى رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، رَاوِيَةَ خَمْرٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، "هَلْ عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل حَرَّمَهَا؟ "، فَسَارَّ، وَلَمْ أَفْهَمْ مَا سَارَّ كَمَا أَرَدْتُ، فَسَأَلْتُ إِنْسَانًا إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "بِمَ سَارَرْتَهُ؟ " قَالَ: أَمَرْتُهُ أَنْ يَبِيعَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا، حَرَّمَ بَيْعَهَا"، فَفَتَحَ الْمَزَادَتَيْنِ حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهِمَا).
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.
2 -
(مالك) بن أنس، إمام دار الهجرة الثقة الثبت الحجة [7] 7/ 7.
3 -
(زيد بن أسلم) العدويّ مولاهم المدنيّ، ثقة عالم يرسل [3] 64/ 80.
4 -
(ابن وعلة) -بفتح الواو، وسكون المهملة- هو عبد الرحمن بن وَعْلة السَّبَئيّ المصريّ، صدوقٌ [4] 4/ 4242.
5 -
(ابن عباس) عبد الله البحر الحبر رضي الله تعالى عنهما 27/ 31. والله تعالي أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَن) عبد الرحمن (ابْنِ وَعْلَةَ الْمِصْرِيِّ، أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما (عَمَّا يُعْصَرُ مِنَ الْعِنَبِ؟) أي عن حكم الشراب الذي يُعصر منْ العنب، هل هو حلال، أم لا؟.
وفي رواية الإِمام أحمد رحمه الله تعالى فِي "مسنده" 1/ 244 - منْ طريق فُليح بن سُليمان، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن وَعْلَة، قَالَ: سألت ابن عباس، فقلت: إنا بأرض لنا بها الكُرُوم، وإن أكثر غَلَّاتها الخمر، فَقَالَ: قدم رجل منْ دَوْس عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، براوية خمر، أهداها له، فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل علمت أن الله حرمها بعدك، فأقبل صاحب الراوية، عَلَى إنسان معه فأمره، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "بماذا أمرته؟ "، قَالَ: ببيعها، قَالَ: "هل علمت أن الذي حرم شربها، حرم بيعها، وأكل ثمنها؟ "، قَالَ: فأمر بالمزادة، فأهريقت.
و1/ 230 - منْ طريق محمد بن إسحاق، عن القعقاع بن حكيم، عن عبد الرحمن ابن وَعْلة، قَالَ: سألت ابن عباس، عن بيع الخمر، فَقَالَ: كَانَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديق منْ ثقيف، أو منْ دوس، فلقيه بمكة عام الفتح براوية خمر، يُهدِيها إليه، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أبا فلان أما علمت أن الله حرمها؟ " فأقبل الرجل عَلَى غلامه، فَقَالَ: اذهب فبعها، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أبا فلان، بماذا أمرته؟ " قَالَ: أمرته أن يبيعها، قَالَ:"إن الذي حرم شربها حرم بيعها"، فأمر بها، فأفرغت فِي البطحاء.
و1/ 323 - 324 - منْ طريق عبد الرحمن بن إسحاق، عن زيد بن أسلم، عن ابن وعلة، عن ابن عباس: أن رجلا خرج والخمر حلال، فأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر، فأقبل بها يقتادها عَلَى بعير، حَتَّى وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا، فَقَالَ:"ما هَذَا معك؟ " قَالَ: راوية خمر أهديتها لك، الْحَدِيث، وفيه: قَالَ: فأمر بعَزَالي المزادة ففتحت، فخرجت فِي التراب، فنظرت إليها فِي البطحاء ما فيها شيء.
(قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما (أَهْدَى رَجُلٌ) تقدّم فِي رواية أحمد المذكورة أنه رجل منْ دوس، وفي رواية:"كَانَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديقٌ منْ ثقيف، أو منْ دوس"، وسيأتي فِي رواية أبي حنيفة أنه يكنى أبا عامر. والله تعالى أعلم (لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، رَاوِيَةَ
خَمْرٍ) الراوية هنا معناها: الْمَزَادة، قَالَ فِي "القاموس": الراوية: المزادة فيها الماء، والبعير، والبغل، والحمار، يُستقى عليه. انتهى. وَقَالَ فِي "اللسان": قَالَ ابن سِيده: والراوية هو البعير، أو البغل، أو الحمار الذي يُستقى عليه الماء، والرجل المستقي أيضًا، قَالَ: والعامة تسمّي المزادة راويةً، وذلك جائز عَلَى الاستعارة، والأصل الأول، قَالَ أبو الجم [منْ الرجز]:
تَمْشِي مِنَ الرِّدَّةِ مَشْيَ الْحُفَّلِ
…
مَشْيَ الرَّوَايَا بِالْمَزَادِ الأَثْقَلِ
قَالَ ابن بَرّيّ: شاهد الرواية البعير قول أبي طالب [منْ الطويل]:
وَيَنْهَضُ قَوْمٌ فِي الْحَدِيدِ إِلَيْكُمُ
…
نُهُوضَ الرَّوَايَا تَحْتَ ذَاتِ الصَّلَاصِلِ
فالروايا جمع راوية للبعير، وشاهد الراوية للمزادة قول عَمرو بن مِلْقَط:
ذَاكَ سِنَانٌ مُخلِبٌ نَصْرُهُ
…
كالْجَمَلِ الأَوْطَفِ بِالرَّاوِيَهْ
انتهى. (فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ عَلِمْتَ أَنَّ اللهَ عز وجل حَرَّمَهَا؟ ") زاد فِي رواية مسلم: "قَالَ: لا"، قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: لعلّ السؤال كَانَ ليعرف حاله، فإن كَانَ عالمًا بتحريمها، أنكر عليه هديّتها، وإمساكها، وحملها، وعزّره عَلَى ذلك، فلما أخبره أنه كَانَ جاهلاً بذلك عَذَرَه، والظاهر أن هذه القضيّة كانت عَلَى قرب تحريم الخمر، قبل اشتهار ذلك. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: يدلّ عَلَى ذلك ما تقدّم فِي رواية أحمد: "هل علمت أن الله حرمها بعدك"، وفي رواية:"أن رجلاً خرج والخمر حلال". والله تعالى أعلم.
وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: ثم إن النبيّ صلى الله عليه وسلم بيّن له الحكم، ولم يوبّخه، ولم يذمّه؛ لأن الرجل كَانَ متمسّكًا بالإباحة المتقدّمة، ولم يبلغه الناسخ، فكان دليلاً عَلَى أن الحكم لا يرتفع بوجود الناسخ، بل ببلوغه، كما قرّرناه فِي الأصول. انتهى "المفهم" 4/ 457.
(فَسَارَّ) منْ السّرّ الذي هو بمعنى الكلام الخفيّ، ومفعوله قوله الآتي:"إنسانًا"، قَالَ النوويّ: المسارِرُ الذي خاطبه النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الرجل الذي أهدى الراوية، كذا جاء مبيّنًا فِي غير هذه الرواية، وأنه رجلٌ منْ دوس، قَالَ القاضي: وغَلِط بعض الشارحين، فظنّ أنه رجلٌ آخر. انتهى "شرح مسلم" 11/ 7.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: تقدّم فِي روايات أحمد "أنه أقبل عَلَى غلامه، فَقَالَ: اذهب بها، فبعها"، وفي رواية:"فأقبل صاحب الراوية، عَلَى إنسان معه، فأمره" الْحَدِيث، وفي رواية:"فدعا رجلاً، فسارّه" الْحَدِيث. فتبيّن بهذا كله أن الذي سارّ هو المهدي.
لكن ذكر محمد مرتضى الزبيديّ فِي "عقود الجواهر المنيفة فِي أدلة مذهب الإِمام أبي حنيفة" ص 225: عن أبي حنيفة، عن محمد بن قيس: أن رجلاً منْ ثقيف، يكنى أبا عامر، كَانَ يُهدي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي كلّ عام راوية منْ خمر، فأهدى إليه فِي العام الذي حُرّمت الخمر راوية خمر، كما كَانَ يُهديها، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أبا عامر إن الله تعالى حرّم الخمر، فلا حاجة لنا فِي خمرك"، فَقَالَ رجلٌ: خذها، وبعها، واستعن بثمنها عَلَى حاجتك، قَالَ:"إن الله تعالى حرّم شربها، وحرّم بيعها، وأكل ثمنها"، كذا رواه الحسن بن زياد عنه. انتهى.
فإن صحّ هَذَا، يحتمل أن يكون فِي واقعة أخرى، أو يُحمل عَلَى أن الرجل أمره ببيعها، ثم سارّ هو غلامه بذلك، فنهاه النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه. والله تعالى أعلم.
وقوله (وَلَمْ أَفْهَمْ مَا سَارَّ) هكذا فِي نسخ "المجتبى"، ولفظ "الكبرى":"وكلمة معناها: فسارّ"،، والظاهر أن "ما" هنا مصحّفة منْ الفاء، والصواب "ولم أفهم فسارّ": أي لم أفهم لفظة "فسارّ"(كَمَا أَرَدْتُ) أي كما أحبّ أن أحفظه بالتحقيق والتأكّد، بل التبس عليّ، ولعلّ ذلك لكثرة الزحام، أو نحوه. والله تعالى أعلم. (فَسَأَلْتُ) أي سألت بعض الحاضرين عن هذه اللفظة، فأخبرني بها.
وهذا الكلام يحتمل أن يكون منْ المصنّف، ويحتمل أن يكون ممن فوقه، والظاهر الأول؛ لأنه لا يوجد عند غيره مع كثرة طرقه، فقد أخرجه مسلم، وأحمد، والدارميّ، بطرق مختلفة، ولم يُذكر فِي شيء منها. والله تعالى أعلم
وقوله (إِنْسَانًا إِلَى جَنْبِهِ) مفعول به لـ"سارّ"(فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "بِمَ سَارَرْتَهُ؟) أي بأيّ شيء تحدّثت معه سرّا؟ (قَالَ) أي صاحب الراوية الذي سارّ ذلك الرجل (أَمَرْتُهُ أَنْ يَبِيعَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا) قَالَ القرطبيّ: "الذي" هنا كناية عن اسم الله تعالى، فكأنه قَالَ: إن الله حرّم شربها، وحرّم بيعها. ويحتمل أن يكون معناه: إن الذي اقتضى تحريم شربها، اقتضى تحريم بيعها، إذ لا تُراد إلا للشرب، فإذا حرّم الشرب لم يجز البيع؛ لأنه يكون منْ أكل المال بالباطل. وَقَدْ دلّ عَلَى صحة هَذَا قوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله إذا حرّم عَلَى قوم شيئًا حرّم عليهم ثمنه"، يعني شيئًا يؤكل، أو يشرب؛ لأن ذلك هو السبب الذي خرج عليه الْحَدِيث، ويُلحق به كلّ محرّم نجس، لا منفعة فيه، واختُلف فِي جواز بيع ما فيه منفعة منها، كالأزبال، والعذرة، فحرّم ذلك الشافعيّ، ومالك، وجلّ أصحابه، وأجاز ذلك الكوفيّون، والطبريّ، وذهب آخرون إلى إجازة ذلك للمشتري، دون البائع، ورأوا أن المشتري أعذر منْ البائع؛ لأنه مضطرّ إلى ذلك، روي ذلك عن بعض المالكيّة، وهي قولة عن الشافعيّ. انتهى "المفهم" 4/ 457 - 458.
(حَرَّمَ بَيْعَهَا، فَفَتَحَ الْمَزَادَتَيْنِ) هكذا فِي رواية المصنّف بالتثنية، مع أنه تقدّم فِي أول الْحَدِيث بلفظ "راوية خمر" بالإفراد، ولفظ مسلم:"ففتح المزاد"، وفي بعض النسخ:"ففتح المزادة"، وهو الذي تقدّم فِي روايات أحمد فِي "المسند"، وهو الظاهر، لكن يمكن أن يوجّه ما هنا بأنه أراد بالمزادتين الْعَزْلاوين، فإن لكلّ مزادة عَزلاوين، ويؤيّده ما تقدم فِي رواية لأحمد، بلفظ:"فأمر بعزالي المزادة، ففُتحت"، وغايته أنه أطلق المزادتين عَلَى العزلاوين، مجازًا مرسلاً، منْ إطلاق الكلّ، وإرادة الجزء، كما فِي قوله تعالى:{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} الآية [البقرة: 19].
والمزادة: هي الراوية التي ذكرها فِي أول الْحَدِيث، قَالَ أبو عبيد: هما بمعنى، وَقَالَ ابن السّكّيت: إنما يقال لها: مزادة، وأما الراوية، قاسم للبعير خاصّة. قَالَ النوويّ: والمختار قول أبي عُبيد، وهذا الْحَدِيث يدلّ لأبي عُبيد، فإنه سمّاها راوية، ومزادة، قالوا: سُمّيت راويةً؛ لأنها تُروي صاحبها، ومن معه، ومزادةً؛ لأنه يتزوّد فيها الماء فِي السفر وغيره، وقيل: لأنه يزاد فيها جلد ليتّسع. انتهى "شرح مسلم" 11/ 7.
و"العزلاوان": تثنية عَزْلاء، وزان حمراء، وَقَالَ ابن منظور: هو: مَصَبّ الماء منْ الراوية، والقِربة فِي أسفلها، حيث يُستفرَغ ما فيها منْ الماء؛ سُمّيت عزلاء؛ لأنها فِي أحد خُصْمي المزادة، لا فِي وسطها، ولا كفمها الذي منه يُستقى فيها، والجمع العزالِي بكسر اللام، وإن شئت فتحتها، مثل الصحارِي، والصحارَى، والعَذَارِي، والعَذَارَى. انتهى "لسان العرب" 11/ 442.
(حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهِمَا) غاية للفتح، أي ففتح، وصبّ حَتَّى فرغ ما فِي المزادتين منْ الخمر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما هَذَا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -90/ 4666 - وفي "الكبرى" 91/ 6260. وأخرجه (م) فِي "البيوع" 1579 (أحمد) فِي "مسند بني هاشم" 2042 و2191 و2971 و3363 (الموطأ) فِي "الأشربة" 1598 (الدارمي) فِي "الأشربة" 2011. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم بيع الخمر، وهو
التحريم، وهو مجمع عليه. (ومنها): أن الإنسان إذا رأى منْ يفعل المنكر ينبغي له أن يسأله قبل الإنكار عليه، هل هو يعلم حكمه، أم لا؟. (ومنها): أن منْ ارتكب معصيةً جاهلاً تحريمها لا إثم عليه، ولا تعزير. (ومنها): أن فيه دليلاً عَلَى جواز سؤال الإنسان عن بعض أسرار الإنسان، فإن كَانَ مما يجب كتمانه كتمه، وإلا فيذكره. قاله النوويّ رحمه الله تعالى. وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: فيه دليلٌ عَلَى أن العالم إذا خاف عَلَى أحد الوقوع فيما لا يجوز وجب عليه أن يستكشف عن ذلك الشيء حَتَّى يتبيّن له وجهه، ولا يكون هَذَا منْ باب التجسّس، بل منْ باب النصحية، والإرشاد. (ومنها): ما قاله النوويّ: إن فيه دليلاً لمذهب الشافعيّ، والجمهور أن أواني الخمر لا تُكسر، ولا تُشقّ، بل يراق ما فيها. وعن مالك روايتان:[إحداهما]: كالجمهور. [والثانية]: يُكسر الإناء، ويُشقّ السقاء، وهذا ضعيفٌ، لا أصل له، وأما حديث أبي طلحة رضي الله عنه أنهم كسروا الدَّنَانَ، فإنما فعلوا ذلك بأنفسهم، منْ غير أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى "شرح مسلم" 11/ 7 - 8. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4667 -
(حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "لَمَّا نَزَلَتْ آيَاتُ الرِّبَا، قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى الْمِنْبَرِ فَتَلَاهُنَّ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ حَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ").
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(محمود بن غيلان) العَدوي مولاهم، أبو أحمد المروزيّ، نزيل بغداد، ثقة [10] 33/ 37.
2 -
(وكيع) بن الجرّاح بن مليح الرُّؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقة ثبت حافظ [9] 23/ 25.
3 -
(سفيان) بن سعيد الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة ثبت حجة [7] 33/ 37.
4 -
(منصور) بن المعتمر، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقة ثبت حافظ [6] 2/ 2.
5 -
(أبو الضُّحَى) مسلم بن صُبيح الهمداني الكوفيّ العطار، ثقة فاضل [4] 96/ 123.
6 -
(مسروق) بن الأجدع بن مالك الهمدانيّ الوادعيّ، أبو عائشة الكوفيّ، ثقة فقيه عابد مخضرم [2] 90/ 112.
7 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها 5/ 5. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فمروزيّ، ثم بغداديّ، وعائشة رضي الله تعالى عنها، فمدنيّة. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم. (ومنها): أن فيه عائشة رضي الله تعالى عنها منْ المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله تعالى عنها، أنها (قَالَتْ:"لَمَّا نَزَلَتْ آيَاتُ الرِّبَا) أي منْ أول آية الربا إلى آية الدين، وفي رواية لمسلم: "لَمّا أُنزلت الآيات منْ آخر سورة البقرة فِي الربا" (قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، فَتَلَاهُنَّ عَلَى النَّاسِ) وفي رواية لمسلم: "فاقترأهنّ عَلَى النَّاس" (ثُمَّ حَرَّمَ التَّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ) أي تنبيهًا عَلَى أَنهما فِي الحرمة سواء. وَقَالَ السيوطيّ فِي "حاشية أبي داود": جاء عن عائشة فِي بعض الروايات لَمّا نزلت سورة البقرة، نزل تحريم الخمر، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فهذا يدلّ عَلَى أنه كَانَ فِي الآيات المذكورة تحريم ذلك، وكأنه نُسخت تلاوته. ذكره السنديّ فِي "شرحه" 7/ 308.
وَقَالَ النوويّ فِي "شرح مسلم": قَالَ القاضي عياض، وغيره: تحريم الخمر هو فِي سورة المائدة، وهي نزلت قبل آية الربا بمدّة طويلة، فإن آية الربا آخر ما نزل، أو منْ آخر ما نزل، فيحتمل أن يكون هَذَا النهي عن التجارة متأخّرًا عن تحريمها، ويحتمل أنه أخبر بتحريم التجارة حين حُرّمت الخمر، ثم أخبر به مرّةً أخرى بعد نزول آية الربا توكيدًا، ومبالغة فِي إشاعته، ولعله حضر المجلس منْ لم يكن بلغه تحريم التجارة فيها قبل ذلك. انتهى "شرح مسلم" 11/ 8. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هَذَا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -90/ 4667 - وفي "الكبرى" 91/ 6261. وأخرجه (خ) فِي "الصلاة" 459 (م) فِي "البيوع" 1580 (د) فِي "البيوع" 3490 (ق) فِي "الأشربة" 3382 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 23673 (الدارمي) فِي "البيوع" 2456 و2457، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم بيع الخمر. (ومنها): التشديد فِي التجارة بالخمر، حيث قرنه الشارع بالربا المتوعّد عليه بقوله تعالى:{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [البقرة: 279]. (ومنها): اهتمام الشارع بشأن الربا، والخمر حيث أشاعه فِي المسجد عَلَى المنبر تأكيدًا، وتشديدًا فِي تحريمه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
91 - (بَابُ بَيْعِ الْكَلْبِ)
4668 -
(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا مَسْعُودٍ، عُقْبَةَ بْنَ عَمْرٍو، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة.
وقوله: "عن ثمن الكلب" ظاهره حرمة بيعه، وعليه الجمهور، وهو الحقّ، ولعل منْ لا يقول به يحمله عَلَى أنه كَانَ حين كَانَ الأمر بقتله، وَقَدْ عُلم نسخه.
وقوله: "ومهر البغيّ" هو ما تأخذه الزانية عَلَى الزنا، سُمي مهرًا؛ لكونه عَلَى صورته، والبغيّ: الزانية، وأصله بَغُويٌ عَلَى وزن صَبُور، فلذلك استوى فيه المذكّر والمؤنّث.
وقوله: "حُلوان الكاهن": بضم الحاء المهملة، وسكون اللام: مصدر حَلَوته: إذا أعطيته، والمراد ما يُعطى عَلَى كهانته، وأصله منْ الحلاوة، شُبّه ما يُعطى الكاهن بشيء حلو؛ لأخذه إياه بسهولة، دون كلفة، يقال: حلوت الرجل: إذا أطعمته الحلو، ويقال للرشوة: حلوان.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم سندًا ومتنًا فِي "كتاب الصيد والذبائح" 15/ 4294 - وتقدّم تمام شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو
حسبنا، ونعم الوكيل.
4669 -
(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي أَشْيَاءَ حَرَّمَهَا: "وَثَمَنِ الْكَلْبِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه فإنه منْ أفراده، وهو مصريّ ثقة [11]. و"سعيد بن عيسى": هو ابن الرُّعينيّ الْقِتْبَاني، ثقة فقيه، منْ قدماء [10] منْ أفراد البخاريّ، والمصنّف. و"الْمُفضّل بن فَضَالة" بفتح الفاء: هو القِتبانيّ المصريّ القاضي، ثقة فاضل عابد [8].
والسند مسلسلٌ بثقات المصريين إلى ابن جريج، ومنه مكيّون.
وقوله: "فِي أشياء حرّمها" متعلّق بـ"قَالَ"، أو بحال محذوف منْ قوله:"وثمن الكلب": أي قَالَ: "وثمن الكلب"، حال كونه معدودًا فِي جملة أشياء حرّمها صلى الله عليه وسلم.
وقوله: "وثمن الكلب" مقول القول، وهو بالجرّ عَلَى الحكاية.
والحديث صحيح، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -91/ 4669 - وفي "الكبرى" 92/ 6263. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
92 - (مَا اسْتُثْنِيَ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "استُثْنِيَ" بالبناء للمفعول: أي ما أُخرج منْ تحريم بيع الكلب، فجاز بيعه، وهو كلب الصيد، لكن حديث الباب لا يصحّ، فلا استثناء، وعليه الجمهور، وهو الحقّ، كما تقدّم، والله تعالى أعلم بالصواب.
4670 -
(أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَالسِّنَّوْرِ، إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ"، قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا مُنْكَرٌ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه وهو مصّيصيّ ثقة.
وقوله" والسّنّور" بكسر السين المهملة، وفتح النون المشددة: الهرّ.
والحديث ضعيف، كما بيّنه المصنّف؛ لتفرّد حماد بن سلمة بذكر الاستثناء، فقد أخرج الْحَدِيث مسلم فِي "صحيحه" منْ طريق مَعقِل بن عُبيد الله، عن أبي الزبير، بلفظ:"سألت جابرًا عن ثمن الكلب، والسنّور؟ قَالَ: زجر النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك"، ولم يذكر الاستثناء، وأخرجه أبو داود، والترمذيّ منْ طريق الأعمش، عن أبي سُفيان، عن جابر رضي الله عنه بدون ذكر الاستثناء أيضًا، فدلّ عَلَى أن الاستثناء غير محفوظ.
والحديث تقدّم سندًا ومتنًا فِي "كتاب الصيد والذبائح" 16/ 4298 - وتقدّم البحث فيه مستوفًى، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
93 - (بَيْعُ الْخَمْرِ)
4671 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ، عَامَ الْفَتْحِ، وَهُوَ بِمَكَّةَ: "إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالأَصْنَامِ"، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ، فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدَّهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: "لَا هُوَ حَرَامٌ"، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عِنْدَ ذَلِكَ: "قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللَّهَ عز وجل لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا، جَمَّلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"الليث": هو ابن سعد الإِمام المصريّ المشهور.
وقوله: "حرّم": قَالَ القرطبيّ: كذا صحّت الرواية، مسندًا إلى ضمير الواحد، وكان أصله حَرَّمَا، لأنه تقدم اثنان، لكن تأدّب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يجمع بينه وبين اسم الله تعالى فِي ضمير الاثنين؛ لأن هَذَا منْ نوع ما ردّه عَلَى الخطيب الذي قَالَ:"ومن يعصهما، فقد غوى"، فَقَالَ له:"بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله" انتهى "المفهم" 4/ 461.
وتعقّبه فِي "الفتح" بأنه وقع فِي بعض طرقه بلفظ "حرّما"، قَالَ: والتحقيق جواز الإفراد فِي مثل هَذَا، ووجهه الإشارة إلى أن أمره صلى الله عليه وسلم ناشىء عن أمر الله تعالى، وَقَدْ
تقدّم تمام البحث فِي هَذَا فِي "كتاب الفرَع والعتيرة" فراجعه تستفد.
وقوله: "لا هو حرام": معناه لا تبيعوها، فإن بيعها حرام، والضمير فِي "هو" يعود إلى البيع، لا إلى الانتفاع، هَذَا هو الصحيح، عند الشافعيّ، وأصحابه، أنه يجوز الانتفاع بشحم الميتة، فِي طلى السُّفُن، والاستصباح بها، وغير ذلك، مما ليس بأكل، ولا فِي بدن الآدمي، وبهذا قَالَ أيضا عطاء بن أبي رباح، ومحمد بن جرير الطبري.
وَقَالَ الجمهور: لا يجوز الانتفاع به فِي شيء أصلا؛ لعموم النهي عن الانتفاع بالميتة، إلا ما خُصّ، وهو الجلد المدبوغ.
وأما الزيت، والسمن، ونحوهما، منْ الأدهان التي أصابتها نجاسة، فهل يجوز الاستصباح بها، ونحوه منْ الاستعمال فِي غير الأكل وغير البدن، أو يُجعل منْ الزيت صابون، أو يطعم العسل المتنجس للنحل، أو يطعم الميتة لكلابه، أو يطعم الطعام النجس لدوابه، فيه خلاف بين السلف، الصحيح منْ مذهب الشافعيّ جواز جميع ذلك، ونقله القاضي عياض عن مالك، وكثير منْ الصحابة، والشافعي، والثوري، وأبي حنيفة وأصحابه، والليث بن سعد، قَالَ: وروى نحوه عن علي، وابن عمر، وأبي موسى، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، قَالَ: وأجاز أبو حنيفة، وأصحابه، والليث، وغيرهم، بيع الزيت النجس إذا بينه. وَقَالَ عبد الملك بن الماجشون، وأحمد ابن حنبل، وأحمد بن صالح: لا يجوز الانتفاع بشئ منْ ذلك كله، فِي شيء منْ الأشياء. والله أعلم.
قَالَ العلماء: وفي عموم تحريم بيع الميتة، أنه يحرم بيع جثة الكافر، إذا قتلناه، وطلب الكفار شراءه، أو دفع عوض عنه، وَقَدْ جاء فِي الْحَدِيث: أن نوفل بن عبد الله المخزومي، قتله المسلمون يوم الخندق، فبذل الكفار فِي جسده عشرة آلاف درهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يأخذها، ودفعه إليهم، وذكر الترمذيّ حديثا نحو هَذَا.
قَالَ الشافعيّة: العلة فِي منع بيع الميتة، والخمر، والخنزير النجاسة، فيتعدى إلى كل نجاسة، والعلة فِي الأصنام كونها ليس فيها منفعة مباحة، فإن كانت بحيث إذا كُسرت، ينتفع برضاضها، ففي صحة بيعها خلاف مشهور لأصحاب الشافعيّ، منهم منْ منعه؛ لظاهر النهى، وإطلاقه، ومنهم منْ جَوّزه؛ اعتمادا عَلَى الانتفاع، وتأول الْحَدِيث عَلَى ما لم ينتفع برضاضه، أو عَلَى كراهة التنزيه فِي الأصنام خاصة.
وأما الميتة، والخمر، والخنزير: فأجمع المسلمون عَلَى تحريم بيع كل واحد منها. والله أعلم.
قَالَ القاضي عياض: تضمن هَذَا الْحَدِيث أن ما لا يحل أكله، والانتفاع به لا يجوز
بيعه، ولا يحل أكل ثمنه، كما فِي الشحوم المذكورة فِي الْحَدِيث، فاعترض بعض اليهود، والملاحدة بأن الابن إذا ورث منْ أبيه جارية كَانَ الأب وطئها، فإنها تحرم عَلَى الابن، ويحل له بيعها بالإجماع، وأكل ثمنها.
قَالَ القاضي: وهذا تمويه عَلَى منْ لا علم عنده؛ لأن جارية الأب، لم يحرم عَلَى الابن منها غير الإستمتاع عَلَى هَذَا الولد، دون غيره منْ النَّاس، ويحل لهذا الابن الانتفاع بها، فِي جميع الأشياء، سوى الاستمتاع، ويحل لغيره الاستمتاع وغيره، بخلاف الشحوم، فإنها محرمة المقصود منها، وهو الأكل منها عَلَى جميع اليهود، وكذلك شحوم الميتة محرمة الأكل عَلَى كل أحد، وكان ما عدا الأكل تابعا له، بخلاف موطوأة الأب. والله أعلم. قاله النوويّ رحمه الله تعالى فِي "شرح مسلم" 11/ 8 - 11.
وَقَالَ فِي "الفتح": قَالَ جمهور العلماء: العلة فِي منع بيع الميتة، والخمر، والخنزير، النجاسة، فيتعدى ذلك إلى كل نجاسة، ولكن المشهور عند مالك طهارة الخنزير.
والعلة فِي منع بيع الأصنام عدم المنفعة المباحة، فعلى هَذَا إن كانت بحيث إذا كُسرت ينتفع برُضَاضها، جاز بيعها، عند بعض العلماء، منْ الشافعيّة وغيرهم، والأكثر عَلَى المنع؛ حملا للنهي عَلَى ظاهره، والظاهر أن النهي عن بيعها للمبالغة فِي التنفير عنها، ويلتحق بها فِي الحكم الصُّلْبان التي تُعَظَّمها النصارى، ويحرم نَحْتُ جميع ذلك وصنعته.
وأجمعوا عَلَى تحريم بيع الميتة، والخمر، والخنزير، ورخص بعض العلماء فِي القليل منْ شعر الخنزير للخَرْز، حكاه ابن المنذر عن الأوزاعي، وأبي يوسف، وبعض المالكية، فعلى هَذَا يجوز بيعه، ويستثنى منْ الميتة عند بعض العلماء، ما لا تُحَلُّه الحياة، كالشعر، والصوف، والوبر، فإنه طاهر، فيجوز بيعه، وهو قول أكثر المالكية، والحنفية، وزاد بعضهم العظم، والسن، والقرن، والظِّلْف، وَقَالَ بنجاسة الشعور الحسن، والليث، والأوزاعي، ولكنها تطهر عندهم بالغسل، وكأنها متنجسة عندهم، بما يتعلق بها منْ رطوبات الميتة، لا نجسة العين، ونحوه قول ابن القاسم فِي عظم الفيل: إنه يطهر إذا سُلِق بالماء. انتهى "فتح" ببعض تصرّف 5/ 178 - 179.
وقوله: "جَمَلُوه" بفتح الجيم، والميم، يقال: جَمَل الشحم، منْ باب نصر: أذابه، ويقال: أجمله بالألف، واجتمله، أفاده فِي "القاموس".
والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي "كتاب الفرَع والعتيرة" 8/ 4158 - وتقدّم تمام شرحه، وبيان مسائله، فراجعه هناك تستفد والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
94 - (بَيْعُ ضِرَابِ الْجَمَلِ)
4672 -
(أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ حَجَّاجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا، يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ بَيْعِ ضِرَابِ الْجَمَلِ، وَعَنْ بَيْعِ الْمَاءِ، وَبَيْعِ الأَرْضِ لِلْحَرْثِ، يَبِيعُ الرَّجُلُ أَرْضَهُ وَمَاءَهُ، فَعَنْ ذَلِكَ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ) بن الهَيثم الخثعميّ، أبو إسحاق المصّيصيّ المِقْسميّ، ثقة [11] 51/ 64.
2 -
(حجّاج) بن محمد المصّيصيّ الأعور، أبو محمد ترمذيّ الأصل، نزيل بغداد، ثم المصّيصة، ثقة ثبت، لكنه اختلط فِي آخره لَمّا قدِم بغداد [9] 28/ 32.
3 -
(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم المكيّ، ثقة فقيه فاضل، لكنه يدلس ويرسل [6] 28/ 32.
4 -
(أبو الزبير) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوق، يدلّس [4] 31/ 35.
5 -
(جابر) بن عبد الله بن عمرو بن حرام السلمي رضي الله تعالى عهما 31/ 35. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده، وأبي داود، وابن ماجه فِي "التفسير"
…
(ومنها): أنه مسلسل بالمكيين، غير شيخه، وحجاج، فمصّيصيّان. (ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله تعالى عنه منْ المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
عن أبي الزبير رحمه الله تعالى (أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا) هو ابن عبد الله رضي الله تعالى
عنهما (يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ بَيْعِ ضِرَابِ الْجَمَلِ) بكسر الضاد المعجمة، أي عن أخذ الكراء عَلَى ضِرابه، بل ينبغى لصاحب الفحل إعارته بلا كراء، فإن فِي المنع قطع النسل.
وَقَالَ ابن الأثير: ضراب الجمل: نَزْوه عَلَى الأنثى، والمراد بالنهي ما يؤخذ عليه منْ الأجرة، لا عن نفس الضِّراب، وتقديره: نهى عن ثمن ضراب الجمل، كنهيه عن عَسْبِ الفحل: أي عن ثمنه، يقال: ضَرَبَ الجملُ الناقةَ يَضرِبها: إذا نزا عليها، وأضرب فلانٌ ناقته: أي أنزى الفحل عليها. انتهى "النهاية" 3/ 79.
(وَعَنْ بَيْعِ الْمَاءِ) تقدّم البحث عنه مُسْتَوْفًى قبل خمسة أبواب (وَبَيْعِ الأَرْضِ لِلْحَرْثِ) أي كراء الأرض للزرع، وقوله (يَبِيعُ الرَّجُلُ أَرْضَهُ وَمَاءَهُ) تفسيرٌ لبيع الأرض، يعني أنه يؤاجر الأرض والماء لمن يزرعها، قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: معناه نهى عن إجارتها للزرع، قَالَ: والجمهور يجوّزن إجارتها بالدراهم، والثياب، ونحوها، ويتأوّلون النهي تأويلين:[أحدهما]: أنه نهي تنزيه؛ ليعتادوا إعارتها، وإرفاق بعضهم بعضًا. [والثاني]: أنه محمول عَلَى إجارتها عَلَى أن يكون لمالكها قطعة معيّنة منْ الزرع، وحمله القائلون بمنع المزارعة عَلَى إجارتها بجزءٍ مما يخرج منها. انتهى "شرح مسلم" 10/ 473 - 474.
وَقَدْ تقدّم تفصيل ما ذُكر كلّه فِي "كتاب المزارعة" مستوفًى، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق. وقوله (فَعَنْ ذَلِكَ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) تأكيدٌ لما سبق منْ النهي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث أخرجه مسلم، وَقَدْ تقدّم تخريجه فِي باب "بيع الماء" قبل خمسة أبواب، وأتكلّم هنا عَلَى ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو حكم بيع ضراب الجمل، فأقول:
[مسألة]: فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم بيع ضراب الفحل:
قَالَ النوويّ فِي "شرح مسلم": اختلف العلماء فِي إجارة الفحل وغيره منْ الدواب؛ للضراب، فَقَالَ الشافعيّ، وأبو حنيفة، وأبو ثور، وآخرون: استئجاره لذلك باطل، وحرام، ولا يُستَحَقُّ فيه عِوَضٌ، ولو أنزاه المستأجر لا يلزمه المسمى منْ أجره، ولا أجرة مثل، ولا شيء منْ الأموال، قالوا: لأنه غرر مجهول، وغير مقدور عَلَى تسليمه.
وَقَالَ جماعة منْ الصحابة، والتابعين، ومالك، وآخرون: يجوز استئجاره لضرب مدة معلومة، أو لضربات معلومة؛ لأن الحاجة تدعو إليه، وهي منفعة مقصودة، وحملوا
النهى عَلَى التنزيه، والحثِّ عَلَى مكارم الأخلاق، كما حملوا عليه ما قرنه به منْ النهى عن إجارة الأرض. والله أعلم. انتهى "شرح مسلم"10474.
وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: ما حاصله: بيع ماء الفحل لا يُختلف فِي فساده إذا وقع بلفظ البيع، وأريد تحصيل العوض الذي هو حصول ماء الفحل فِي محلّ الرحم، وعَقُوق الأنثى
(1)
فإنه غررٌ، ومجهولٌ، وأما عَلَى معنى إجارة الفحل للطَّرْق أعوامًا معلومةً، أو إلى مدّة معلومة، فأجازه مالكٌ؛ لكمال شروط الإجارة، مع أن أخذ الأجرة عَلَى ذلك ليس منْ مكارم الأخلاق، ولا يفعله غالبًا إلا أولو الدناءة، ويكون هَذَا كله كالحجامة. وَقَدْ ذهب أبو حنيفة، والشافعيّ، وأبو ثور إلى منع ذلك جملةً، والأرجح إن شاء الله تعالى ما صار إليه مالك؛ لما ذكرناه، وبأنه قول جماعة منْ الصحابة، والتابعين عَلَى ما حكاه القاضي عياض. انتهى "المفهم" 4/ 442 - 443.
وَقَالَ الموفّق رحمه الله تعالى فِي "المغني": إجارة الفحل للضراب حرام، وبه قَالَ أبو حنيفة، والشافعي، وحُكي عن مالك جوازه. قَالَ ابن عقيل: ويحتمل عندي الجواز؛ لأنه عقد عَلَى منافع الفحل ونزوه، وهذه منفعة مقصودة، والماء تابع، والغالب حصوله عقيب نزوه، فيكون كالعقد عَلَى الظئر؛ ليحصل اللبن فِي بطن الصبي.
وحجة الأولين ما رَوَى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع عسب الفحل"، رواه البخاريّ، وعن جابر رضي الله عنه قَالَ:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ضراب الجمل"، رواه مسلم، ولأنه مما لا يُقدر عَلَى تسليمه، فأشبه إجارة الآبق، ولأن ذلك متعلق باختيار الفحل وشهوته، ولأن المقصود هو الماء، وهو مما لا يجوز إفراده بالعقد، وهو مجهول، وإجارة الظئر خولف فيه الأصل؛ لمصلحة بقاء الآدمي، فلا يقاس عليه ما ليس مثله، فعلى هَذَا إذا أعطى أجرة لعسب الفحل، فهو حرام عَلَى الآخذ؛ لما ذكرناه، ولا يحرم عَلَى المعطى؛ لأنه بذل ماله لتحصيل مباح، يحتاج إليه، ولا يمتنع هَذَا كما فِي كسب الحجام، فإنه خبيث، وَقَدْ أعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي حجمه، وكذلك أجرة الكسح
(2)
، والصحابة أباحوا شراء المصاحف، وكرهوا بيعها، وإن أَعطى صاحب الفحل هدية، أو أكرمه منْ غير إجارة جاز، وبه قَالَ الشافعيّ؛ لما روى أنس رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قَالَ:"إذا كَانَ إكراما فلا بأس"
(3)
، ولأنه سبب مباح، فجاز
(1)
فِي "اللسان": العَقُوق منْ البهائم أي بفتح فضم: الحامل. اهـ.
(2)
"الكسح": هو الكنس.
(3)
حديث صحيح أخرجه المصنّف، والترمذيّ، وسيأتي قريبًا، إن شاء الله تعالى.
أخذ الهدية عليه، كالحجامة. وَقَالَ أحمد فِي رواية ابن القاسم: لا يأخذ، فقيل له: ألا يكون مثل الحجام، يُعطَى، وإن كَانَ منهيا عنه؟ فَقَالَ: لم يبلغنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أعطى فِي مثل هَذَا شيئا، كما بلغنا فِي الحجام. ووجهه أن ما منع أخذ الأجرة عليه منع قبول الهدية، كمهر البغي، وحلوان الكاهن، قَالَ القاضي: هَذَا مقتضى النظر، لكن تُرك مقتضاه فِي الحجام، فيبقى فيما عداه عَلَى مقتضى القياس، والذي ذكرناه أرفق بالناس، وأوفق للقياس، وكلام أحمد يحمل عَلَى الورع، لا عَلَى التحريم. انتهى "المغني" 6/ 302 - 304.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الجمهور منْ تحريم بيع ضراب الفحل، هو الصواب؛ لظهور أدلّته، وأما لو أُكرم صاحب الفحل بهديّة منْ غير مشارطة، فلا مانع؛ لما أخرجه الترمذيّ، والمصنّف، واللفظ للترمذيّ بإسناد صحيح منْ حديث أنس رضي الله عنه:"أن رجلا منْ كلاب، سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، عن عَسْب الفحل؟ فنهاه، فَقَالَ: يا رسول الله، إنا نُطرِق الفحل فنُكرَم، فرخص له فِي الكرامة". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4673 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ ح وَأَنْبَأَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ").
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه الحنظليّ المروزي، ثقة ثبت حجة [10] 2/ 2.
2 -
(حميد بن مسعدة) بن المبارك الساميّ الباهلي البصريّ، صدوق [10] 5/ 5.
3 -
(إسماعيل بن إبراهيم) ابن عليّة، أبو بشر البصريّ، ثقة ثبت حافظ [8] 18/ 19.
4 -
(عبد الوارث) بن سعيد بن ذكوان العنبري مولاهم، أبو عبيدة التّنّوريّ البصريّ، ثقة ثبت [8] 6/ 6.
5 -
(عليّ بن الحكم) البُنانيّ، أبو الحكم البصريّ، ثقة، ضعّفه الأزديّ بلا حجة [5] 33/ 4350.
[تنبيه]: قَالَ فِي "الفتح" -5/ 225 - : علي بن الحكم هو الْبُنانيّ بضمّ الموحّدة، بعدها نون خفيفة، بصريّ ثقة عند الجميع، وليّنه أبو الفتح الأزديّ بلا مُستَنَد، وليس له فِي البخاريّ سوى هَذَا الْحَدِيث، وَقَدْ أخرج الحاكم فِي "المستدرك" هَذَا الْحَدِيث، عن مسدّد، شيخ البخاريّ فيه، وَقَالَ: عليّ بن الحكم ثقة، منْ أعزّ البصريين حديثًا. انتهى. وَقَدْ وَهِمَ فِي استدراكه، وهو فِي البخاريّ كما ترى -يعني فِي "الإجارة"- وكأنه
لَمّا لم يره فِي "البيوع" توهّم أن البخاريّ لم يُخرجه. انتهى.
6 -
(نافع) العدوي مولاهم، أبو عبد الله المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 12/ 12.
7 -
(ابن عمر) عبد الله رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه الأول، فمروزيّ، ونافع وابن عمر، فمدنيان. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما منْ العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ:"نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ") -بفتح العين، وإسكان السين المهملتين، وفي آخره موحدة- ويقال له: العسيب أيضا، والفحل الذكر منْ كل حيوان، فرسا كَانَ، أو جملا، أو تيسا، أو غير ذلك. وَقَدْ رَوَى النسائيّ منْ حديث أبي هريرة "نهى عن عسب التيس". قاله فِي "الفتح".
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي عزاه فِي "الفتح" إلى النسائيّ بلفظ "التيس" لم أره فِي نسخ "المجتبى"، ولا فِي "الكبرى"، ولعله وقع هكذا فِي بعض النسخ، والله تعالى أعلم.
واختُلف فِي معنى "عسب الفحل"، فقيل: هو ثمن ماء الفحل، وقيل أجرة الجماعِ. قَالَ الحافظ: وعلى الأخير جرى البخاريّ، ويؤيد الأول حديث جابر رضي الله عنه:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ضِرَاب الجمل"، وليس بصريح فِي عدم الحمل عَلَى الإجارة؛ لأن الإجارة بيع منفعة، ويؤيد الحمل عَلَى الإجارة، لا الثمن ما نقل عن قتادة: أنهم كانوا يكرهون أجر ضراب الجمل. وَقَالَ صاحب "الأفعال": أعسب الرجل عَسِيبا: اكترى منه فَحْلا يُنزيه.
وعلى كل تقدير فبيعه، وإجارته حرام؛ لأنه غير مُتَقَوَّم، ولا معلوم، ولا مقدور عَلَى تسليمه، وفي وجه للشافعية، والحنابلة: تجوز الإجارة مدة معلومة، وهو قول الحسن، وابن سيرين، ورواية عن مالك، قَوّاها الأبهري وغيره، وحَمَلَ النهي عَلَى ما إذا وقع لأمد مجهول، وأما إذا استأجره مدة معلومة، فلا بأس كما يجوز الاستئجار لتلقيح النخل. وتعقب بالفرق؛ لأن المقصود هنا ماء الفحل، وصاحبه عاجز عن تسلميه، بخلاف التلقيح، ثم النهي عن الشراء والكراء، إنما صدر لما فيه منْ الغرر، وأما عارية
ذلك فلا خلاف فِي جوازه.
فإن أهدى للمعير هدية منْ المستعير، بغير شرط جاز، وللترمذي منْ حديث أنس:"أن رجلا منْ كلاب، سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، عن عَسْب الفحل، فنهاه، فَقَالَ: يا رسول الله، إنا نُطرِق الفحل، فنكرم، فرخص له فِي الكرامة". ولابن حبّان فِي "صحيحه" منْ حديث أبي كبشة، مرفوعا: "منْ أطرق فرسا فأعقب، كَانَ له كأجر سبعين فرسا
(1)
". انتهى "فتح" 5/ 224 - 225.
وَقَدْ تقدّم تمام البحث فِي هَذَا فِي الْحَدِيث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا أخرجه البخاريّ.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -94/ 4673 - وفي "الكبرى" 95/ 6267. وأخرجه (خ) فِي "الإجارة" 2284 (د) فِي "البيوع" 1273 (ت) فِي "البيوع" 3429 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 4616. وأما فوائد الْحَدِيث، ومذاهب العلماء، فقد تقدّمت فِي الْحَدِيث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4674 -
(أَخْبَرَنَا عِصْمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حُمَيْدٍ الرُّؤَاسِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الصَّعْقِ، أَحَدِ بَنِي كِلَابٍ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ؟ فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّا نُكْرَمُ عَلَى ذَلِكَ").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(عصمة بن الفضل) النُّميريّ، أبو الفضل النيسابوريّ، نزيل بغداد، ثقة [11]
(1)
أخرجه ابن حبّان فِي "صحيحه" بإسناد صحيح، برقم (4679) منْ طريق كثير بن عبيد، عن محمد بن حرب، عن محمد بن الوليد الزُّبيدي، عن راشد بن سعد، عن أبي عامر الهوزنيّ، عن أبي كبشة الأنماري، أنه أتاه، فَقَالَ: أطرِقني فرسك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"منْ أطرق فرسًا، فعقب له الفرسُ، كَانَ كأجر سبعين فرسًا، حُمل عليها فِي سبيل الله، وإن لم تُعقب، كَانَ له كأجر فرس حُمل عليه فِي سبيل الله". وأخرجه أحمد 4/ 231 أو الطبرانيّ 22/ 853 منْ طريقين عن محمد بن حرب بهذا الإسناد، قَالَ الهيثمي فِي "المجمع" 5/ 266: ورجالهما ثقات.
9/ 1617.
2 -
(يحيى بن آدم) بن سُليمان الكوفيّ، أبو زكريّا، مولى بني أُميّة، ثقة حافظ فاضل، منْ كبار [9] 1/ 451.
3 -
(إبراهيم بن حُميد) بن عبد الرحمن، الرُّؤَاسيّ -بضمّ الراء، بعدها همزة- أبو إسحاق الكوفيّ، ثقة [8].
قَالَ ابن معين، ثقة، ولم أدركه. وَقَالَ أبو حاتم، والنسائيّ: ثقة. ووثقه أحمد، وأبو داود، والعجليّ، وابن حبّان. مات سنة (178) روى له البخاريّ، ومسلم، وأبو داود فِي "المراسيل"، والمصنّف، وله عنده فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.
4 -
(هشام بن عروة) بن الزبير الأسدي، أبو المنذر المدنيّ، ثقة فقيه، ربما دلّس [5] 49/ 61.
5 -
(محمد بن إبراهيم بن الحارث) بن خالد التيميّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقة له أفراد [4] 60/ 75.
6 -
(أنس بن مالك) الأنصاريّ الصحابيّ الشهير رضي الله تعالى عنه 6/ 6. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به هو، وابن ماجه. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، ثم بغدادي، ويحيى، وإبراهيم، فكوفيان. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، هشام، عن محمد بن إبراهيم، وهو منْ رواية الأقران، فكلاهما منْ الطبقة الخامسة، وفيه أنس رضي الله تعالى عنه منْ المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر منْ مات منْ الصحابة رضي الله تعالى عنهم بالبصرة، مات سنة (2) أو (93) وَقَدْ جاوز المائة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ:"جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الصَّعِقِ) قَالَ المجد: الصَّعِقُ، ككتِفٍ لقب خُويلد بت نُفيل، منْ بني كلاب، ويقال فيه الصِّعِقُ، كإِبِلٍ، والنسبة صَعَقيّ، محرّكةَ، وصِعَقِيّ، كعِنَبيّ، عَلَى غير قياس، لُقّب به لأن تميمًا أصابوا رأسه بضربة، فكان إذا سمع صوتًا صَعِقَ، أو لأنه اتّخذ طعامًا، فَكَفَأت الريحُ قُدُوره، فلعنها، فأرسل الله تعالى عليه صاعقةً. انتهى "القاموس، وشرحه" (أَحَدِ بَنِي كِلَابٍ) بكسر الكاف، وتخفيف اللام، اسم لعدّة قبائل منْ العرب، منها: كلاب بن مرّة بن
كعب بن لُؤيّ بن غالب، جدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أبو قُصيّ، وزُهْرة ابني كلاب، ومنها: كلاب بن عامر بن صعصعة، قاله فِي "اللباب" 3/ 122، و"الأنساب" 5/ 116 - 117 (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ؟) بفتح، فسكون: أي مائه، والمراد ما يؤخذ عليه منْ العوض، فهو عَلَى حذف مضاف، وقيل: بل يطلق العسب عَلَى الأجرة نفسها، وتقدّم بأتمّ منْ هَذَا فِي الْحَدِيث الماضي (فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ) أي عن أخذ العوض عليه (فَقَالَ: إِنَّا نُكْرِمُ عَلَى ذَلِكَ) ببناء الفعل للفاعل: أي نكرم صاحب الفحل، عَلَى ضِرَاب فحله، ويحتمل أن يكون بالبناء للمفعول: أي يكرمنا النَّاس عَلَى ضِراب فحلنا لهم، ويؤيده ظاهر سياق الترمذيّ منْ هَذَا الوجه، ولفظه:"إنا نُطرق الفحل، فنُكرم، فرّخص له فِي الكرامة". فقوله: "نُطرق الفحل": أي نُعيره للضراب، قَالَ فِي "النهاية": ومنه الْحَدِيث: "ومن حقّها إطراق فحلها": أي إعارته للضراب. وقوله: "نكرم" بالبناء للمفعول: أي يعطينا صاحب الأنثى شيئًا بطريق الهديّة.
[تنبيه]: رواية المصنّف فيها اختصار، حيث لم يُذكَر فيها جوابُ النبيّ صلى الله عليه وسلم لقوله:"إنا نكرم إلخ" وَقَدْ جاء فِي رواية الترمذيّ المذكورة، وهو قوله:"فرخص له فِي الكرامة". والله تعالى أعلم.
قَالَ الإِمام الترمذيّ رحمه الله تعالى بعد أن أخرج حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما الماضي: ما نصّه: والعمل عَلَى هَذَا الْحَدِيث عند بعض أهل العلم، وَقَدْ رخّص قومٌ فِي قبول الكرامة عَلَى ذلك، ثم أورد حديث أنس رضي الله عنه هَذَا مستدلا لهم.
وَقَالَ فِي "تحفة الأحوذيّ" 4/ 405 - : وفيه دليل عَلَى أن المعير إذا أهدى إليه المستعير هديّةً بغير شرط، حلّت له. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أنس رضي الله عنه هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -94/ 4674 - وفي "الكبرى" 95/ 6268. وأخرجه (ت) فِي "البيوع" 1274. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4675 -
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي نُعْمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ كَسْبِ الْحَجَّامِ، وَعَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَعَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.
و"محمد": هو ابن جعفر، غُندر. و"المغيرة": هو ابن مِقسَم الضبيّ مولاهم، أبو هشام الكوفيّ الأعمى، ثقة متقنٌ، إلا أنه يدلّس، ولاسيّما عن إبراهيم [6] 188/ 301.
و"ابن أبي نعم" بضم النون، وسكون المهملة-: هو عبد الرحمن بن أبي نُعْم البجليّ، أبو الحكم الكوفيّ العابد، صدوق [3] 79/ 2578.
وقوله: "عن كسب الحجّام": أي عن أخذ الأجرة عَلَى الحجامة، وَقَدْ تقدّم تمام البحث فيه، وأن الأرجح أنه جائز، والنهي محمول عَلَى التنزيه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم احتجم، وأعطى الحجام أجره. وباق الْحَدِيث شرحه مرّ قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -94/ 4675 - وفي "الكبرى" 95/ 6269. وأخرجه (ق) فِي "التجارات" 2160 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 7916 و8189 و9109 و10111 (الدارمي) فِي "البيوع" 2509 و2510. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4676 -
(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن عليّ بن ميمون"، أبو العبّاس العطّار الرّقّيّ، ثقة [11] 14/ 418 منْ أفراد المصنّف. و"محمد": هو ابن يوسف الفريابيّ الثقة الفاضل [9]. و"سفيان": هو الثوريّ. و"هشام": هو ابن عائذ بن نَصيب الأسديّ، صدوقٌ [6].
وثقه أحمد، وابن معين، وأبو داود، والعجليّ. وَقَالَ أبو حاتم: شيخٌ. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". روايته عن ابن عمر مرسلة. تفرّد به المصنّف بحديثين: هَذَا، وفي "كتاب الأشربة" حديثه 55/ 5735 - قَالَ: سألت إبراهيم عن العصير؟، قَالَ: اشربه حَتَّى يَغلَى، ما لم يتغيّر.
والحديث صحيح، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -94/ 4676 - وفي "الكبرى" 95/ 6270 وذكر فِي "تحفة الأشراف" أنه أخرجه فِي "الحدود"
منْ "الكبرى" عن محمد بن حاتم بن أبي نُعْم، عن حِبّان بن موسى، عن عبد الله بن المبارك، عن سفيان به. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4677 -
(أَخْبَرَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَعَسْبِ الْفَحْلِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "واصل بن عبد الأعلى": هو الأسديّ الكوفيّ، ثقة [10] 39/ 831. و"ابن فُضيل": هو محمد بن فُضيل بن غزوان الكوفيّ. و"أبو حازم": هو سلمان الأشجعيّ الكوفيّ.
[تنبيه]: وقع هَذَا الْحَدِيث فِي النسخ التي بين يديّ منْ "المجتبى"، و"الكبرى" مرسلاً بحذف أبي هريرة، ولكن أشار الحافظ أبو الحجّاج المزيّ فِي "تحفة الأشراف" 10/ 84 - إلى أنه موصول بذكر أبي هريرة رضي الله عنه، حيث أورده فِي ترجمة أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأشار إلى أن النسائيّ أخرجه موصولاً فِي "البيوع"
(1)
عن عليّ بن ميمون
(2)
، وواصل بن عبد الأعلى، كلاهما عن ابن فُضيل، عن الأعمش به، أي بسند أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وأشار أيضًا إلى أنه أخرجه فِي "الحدود"
(3)
والظاهر أنه فِي "الكبرى" عن محمد بن الحسن، عن محمد بن أبي عُبيدة، عن الأعمش نحوه. انتهى.
والحديث أخرجه ابن ماجه فِي "كتاب التجارات" -2160 - عن عليّ بن محمد الطنافسيّ، ومحمد بن طريف، كلاهما عن ابن فُضيل، عن الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ:"نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، وعَسْب الفحل". وذكره الترمذيّ تعليقًا عقب رواية الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر 1279 - بلفظ: "وروى ابن فُضيل، عن الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ غير هَذَا الوجه. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن النسخ التي بين يديّ وقع فيها نقصٌ، والصواب زيادة "عن أبي هريرة"، لما ذُكِرَ آنفًا منْ أنه ثابت عند الترمذيّ، وابن ماجه، بنفس السند، ولجزم الحافظ المزّيّ رحمه الله تعالى بعزوه موصولاً إلى المصنّف، فتأمّل.
(1)
الصواب فِي المزارعة.
(2)
روايته عن عليّ بن ميمون لم أجدها، والله تعالى أعلم.
(3)
الصواب فِي المزارعة.
والحاصل أن الْحَدِيث موصول صحيح. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
95 - (الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الْبَيْعَ، فَيُفْلِسُ، وَيُوجَدُ الْمَتَاعُ بِعَيْنِهِ)
أي هَذَا باب ذكر الأحاديث الدّالّة عَلَى حكم منْ اشترى شيئًا، ثم أفلس، قبل التصرّف فِي الشيء المشترى.
فقوله: "يبتاع" بالبناء للفاعل: أي يَشتري. وقوله: "البيع": بمعنى المبيع، منْ إطلاق المصدر، وإرادة اسم المفعول. وقوله:"فيُفلس" بضمّ الياء، منْ الإفلاس، قَالَ الفيّوميّ: أفلس الرجل: كأنه صار إلى حالٍ ليس له فلوسٌ، كما يقال: أقهر: إذا صار إلى حال يُقْهَر عليه، وبعضهم يقول: صار ذا فُلُوس، بعد أن كَانَ ذا دراهم، فهو مُفلسٌ، والجمع مَفَاليسُ، وحقيقته الانتقال منْ حالة الْيُسْر إلى حالة الْعُسْر. وفَلّسه القاضي تفليسًا: نادَى عليه، وشَهَرَه بين النَّاس بأنه صار مُفْلسًا. والفَلْسُ: الذي يُتعامل به، جمعه فِي القلّة أَفْلُس، وفي الكثرة فُلُوس. انتهى.
وَقَالَ فِي "الفتح": المفلس شرعا: منْ تزيد ديونه عَلَى موجوده، سُمّي مُفلِسا؛ لأنه صار ذا فلوس، بعد أن كَانَ ذا دراهم ودنانير، إشارة إلى أنه صار لا يملك إلا أدنى الأموال، وهي الفلوس، أو سُمي بذلك؛ لأنه يُمنَع التصرف، إلا فِي الشيء التافه، كالفلوس؛ لأنهم ما كانوا يتعاملون بها إلا فِي الأشياء الحقيرة، أو لأنه صار إلى حالة، لا يملك فيها فَلْسًا، فعلى هَذَا فالهمزة فِي أفلس للسلب. انتهى.
وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "أفلس الرجل": فِي اللغة: صار ذا فلوس، بعد أن كَانَ ذا دنانير، كما يقال: أخبث الرجل: أي صار أصحابه خُبَثاء، وأقطف الرجل: إذا صارت دابّته قَطُوفًا. والمفلس فِي عرف العرب: منْ لا مال له عينًا، ولا عَرَضًا، ولا غيره، ولذلك قَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم:"أتدرون منْ المفلس؟ "، قالوا: ما هو المعروف عندهم، فأجابوه بقولهم: منْ لا درهم له، ولا متاع. رواه
مسلم. وهو فِي عرف الشرع: عبارة عن مِدْيان، قصر ما بيده عن وفاء ما عليه منْ الديون، فطلب الغرماء أخذ ما بيده، وإذا كَانَ كذلك، فللحاكم أن يَحجُر عليه، ويمنعه منْ التصرّف فيما بيده، ويُحصِّلُهُ، ويجمع الغرماء، فيقسمه عليهم، وهذا مذهب الجمهور، منْ الصحابة، وغيرهم. انتهى "المفهم" 4/ 430 - 431.
وَقَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: المفلس هو الذي لا مال له، ولا ما يدفع به حاجته، ولهذا لما قَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"أتدرون منْ المفلس؟ " قالوا: يا رسول الله، المفلس فينا منْ لا دراهم له، ولا متاع، قَالَ:"ليس ذلك المفلس، ولكن المفلس منْ يأتي يوم القيامة بحسنات، أمثال الجبال، ويأتي وَقَدْ ظلم هَذَا، ولطم هَذَا، وأخذ منْ عرض هَذَا، فيأخذ هَذَا منْ حسناته، وهذا منْ حسناته، فإن بقي عليه شيء أخذ منْ سيئاتهم، فرد عليه، ثم صُكّ له صَكّ إلى النار"، أخرجه مسلم بمعناه، فقولهم ذلك إخبار عن حقيقة المفلس، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ليس ذلك المفلس"، تجوز لم يرد به نفي الحقيقة، بل أراد أن فلس الآخرة أشد وأعظم، بحيث يصير مفلس الدنيا، بالنسبة إليه كالغني، ونحو هَذَا قوله صلى الله عليه وسلم:"ليس الشديد بالصُّرَعَةِ، ولكن الشديد الذي يغلب نفسه عند الغضب"، متّفقٌ عليه، وقوله:"ليس السابق منْ سبق بعيره، وإنما السابق منْ غُفر له"
(1)
، وقوله:"ليس الغنى عن كثرة الغرض، إنما الغنى غنى النفس"، متّفقٌ عليه، ومنه قول الشاعر [منْ الخفيف]:
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ
…
إِنَّمَا الْمَيْتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ
وإنما سمي هَذَا مفلسا؛ لأنه لا مال له إلا الفلوس، وهي أدنى أنواع المال، والمفلس فِي عرف الفقهاء: منْ دينه أكثر منْ ماله، وخَرْجُهُ أكثر منْ دَخْلِه، وسَمَّوه مُفلسا، وإن كَانَ ذا مال؛ لأن ماله مُسْتَحَقُّ الصرف فِي جهة دينه، فكأنه معدوم، وَقَدْ دل عليه تفسير النبيّ صلى الله عليه وسلم، مفلس الآخرة، فإنه أخبر أن له حسنات، أمثال الجبال، لكنها كانت دون ما عليه، فقُسمت بين الغرماء، وبقي لا شيء له، ويجوز أن يكون سمي بذلك لما يؤول إليه، منْ عدم ماله بعد وفاء دينه، ويجوز أن يكون سمي بذلك؛ لأنه يمنع منْ التصرف فِي ماله، إلا الشيء التافه، الذي لا يعيش إلا به، كالفلوس ونحوها. انتهى "المغني" 6/ 536 - 537. وسيأتي بيان مذهب العلماء فِي المسائل قريبًا إن شاء الله تعالى.
[تنبيه]: ترجم الإِمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" بقوله: "باب إذا وجد
(1)
لم أجده. والله تعالى أعلم.
ماله عند مُفلس فِي البيع، والقرض، والوديعة، فهو أحقّ به"، وَقَالَ الحسن: إذا أفلس، وتبيّن، لم يجز عتقه، ولا بيعه، ولا شراؤه". انتهى.
قَالَ فِي "الفتح": قوله: "فِي البيع": إشارة إلى ما ورد فِي بعض طرقه نصا.
وقوله: "والقرض": هو بالقياس عليه، أو لدخوله فِي عموم الخبر، وهو قول الشافعيّ فِي آخرين، والمشهور عن المالكية التفرقة بين القرض والبيع.
وقوله: "والوديعة": هو بالإجماع، وَقَالَ ابن المنير: أدخل هذه الثلاثة، إما لأن الْحَدِيث مطلق، وإما لأنه وارد فِي البيع، والآخران أولى؛ لأن ملك الوديعة لم ينتقل، والمحافظة عَلَى وفاء منْ اصطنع بالقرض معروفا مطلوب.
وقوله: "وَقَالَ الحسن: إذا أفلس الخ": أما قوله: "وتبين"، فإشارة إلى أنه لا يمنع التصرف قبل حكم الحاكم، وأما العتق فمحله ما إذا أحاط الدين بماله، فلا ينفذ عتقه، ولا هبته، ولا سائر تبرعاته، وأما البيع والشراء، فالصحيح منْ قولي العلماء أنهما لا ينفذان أيضا، إلا إذا وقع منه البيع لوفاء دين. وَقَالَ بعضهم: يوقف، وهو قول الشافعيّ. واختلف فِي إقراره، فالجمهور عَلَى قبوله، وكأن البخاريّ أشار بأثر الحسن إلى معارضة قول إبراهيم النخعي: بيع المحجور وابتياعه جائز.
وقوله: "وَقَالَ سعيد بن المسيب: قضى عثمان الخ": أي ابن عفان الخ، وصله أبو عبيد فِي "كتاب الأموال"، والبيهقي بإسناد صحيح إلى سعيد، ولفظه:"أفلس مولى لأم حبيبة، فاختصم فيه إلى عثمان، فقضى"، فذكره، وَقَالَ فيه:"قبل أن يَبِين إفلاسُهُ" بدل قوله: "قبل أن يُفلس"، والباقي سواء. انتهى "فتح" 342 - 343. والله تعالى أعلم بالصواب.
4678 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "أَيُّمَا امْرِىءٍ أَفْلَسَ، ثُمَّ وَجَدَ رَجُلٌ عِنْدَهُ سِلْعَتَهُ بِعَيْنِهَا، فَهُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِ").
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.
2 -
(الليث) بن سعد الإِمام المصريّ الثقة الثبت الحجة [7] 31/ 35.
3 -
(يحيى) بن سعيد بن قيس الأنصاريّ القاضي المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [5] 22/ 23.
4 -
(أبو بكر بن حزم) هو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم الأنصاريّ النجّاريّ المدنيّ القاضي، ثقة، منْ كبار [7] 54/ 2748.
5 -
(عمر بن عبد العزيز) بن مروان بن الحكم الأمويّ الخليفة الراشد المدنيّ الثقة العابد الفاضل [4] 122/ 171.
6 -
(أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام) المخزوميّ المدنيّ، قيل: اسمه محمد، وقيل: غيره، وقيل: اسمه كنيته، ثقة فقيه عابدٌ [3] 51/ 963.
7 -
(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات المدنيين، غير قتيبة، فبغلانيّ، والليث، فمصريّ. (ومنها): أن فيه أربعة منْ التابعين المدنيين الأثبات يروي بعضهم عن بعض: يحيى، وأبو بكر بن حزم، وعمر بن عبد العزيز، وأبو بكر بن عبد الرحمن، قَالَ فِي "الفتح" 5/ 343 - 344: وكلهم قد وَلِيَ القضاءَ، وكلهم سوى أبي بكر بن عبد الرحمن منْ طبقة واحدة. انتهى.
(ومنها): أن فيه راويين اشتهرا بالكنية، ويقال: ليس لهما اسم غير الكنية: أبو بكر بن حزم، وأبو بكر بن عبد الرحمن. (ومنها): أن فيه أبا بكر بن عبد الرحمن أحد الفقهاء السبعة، عَلَى بعض الأقوال. (ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه منْ المكثرين السبعة، وَقَدْ تقدّم هَذَا كلّه غير مرّة، وإنما أعدته تذكيرًا، وتنبيهًا لطول العهد به. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: أَيُّمَا امْرِىءٍ) كلمة "ما" زائدة؛ لزيادة الإبهام، و"امرىء" مجرور بالإضافة (أَفْلَسَ) أي تبيّن إفلاسه، يقال: أفلس الرجل: إذا صار إلى حال لا فلوس له، أو صار ذا فلس، بعد أن كَانَ ذا دنانير، ودراهم، وحقيقته: الانتقال منْ اليسر إلى العسر، وقيل: المفلس: منْ لا عين له، ولا عَرَضَ، وشرعا: منْ قصر ما بيده عما عليه منْ الديون. وَقَدْ تقدّم بأتمّ منْ هَذَا فِي شرح الترجمة، فلا تنس (ثُمَّ وَجَدَ رَجُلٌ) أي بعد أن باعها منه، ولم يَقبِض منْ ثمنها شيئًا، كما فِي رواية "الموطّإ" عند مالك (عِنْدَهُ) أي عند المفلس (سِلْعَتَهُ) بكسر، فسكون: أي متاعه (بِعَيْنِهَا) قَالَ فِي "الفتح" 5/ 344 - : استُدِلَّ به عَلَى أن شرط استحقاق صاحب المال، دون غيره أن يجد ماله بعينه، لم يتغير، ولم يتبدل، وإلا فإن تغيرت العين فِي ذاتها، بالنقص مثلا، أو فِي صفة منْ صفاتها، فهو أسوة للغرماء، وأصرح منه رواية بن أبي حسين، عن أبي بكر بن محمد، بسند حديث الباب، عند مسلم، بلفظ: "إذا وَجَدَ عنده المتاع، ولم
يفرقه".
ووقع فِي رواية مالك، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، مرسلا:"أيما رجل باع متاعا، فأفلس الذي ابتاعه، ولم يقبض البائع منْ ثمنه شيئا، فوجده بعينه، فهو أحق به"، فمفهومه أنه إذا قَبَضَ منْ ثمنه شيئا، كَانَ أسوة الغرماء، وبه صرح ابن شهاب فيما رواه عبد الرزاق، عن معمر عنه، وهذا وإن كَانَ مرسلا، فقد وصله عبد الرزاق، فِي "مصنفه" عن مالك، لكن المشهور عن مالك إرساله، وكذا عن الزهريّ، وَقَدْ وصله الزُّبَيْدِيُّ، عن الزهريّ، أخرجه أبو داود، وابن خزيمة، وابن الجارود، ولابن أبي شيبة، عن عمر بن عبد العزيز، أحد رواة هَذَا الْحَدِيث، قَالَ:"قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه أحق به منْ الغرماء، إلا أن يكون اقتضى منْ ماله شيئا، فهو أسوة الغرماء"، وإليه يشير اختيار البخاريّ؛ لاستشهاده بأثر عثمان رضي الله عنه، حيث قَالَ: وَقَالَ ابن المسيّب: قضى عثمان منْ اقتضى منْ حقّه قبل أن يُفلس، فهو له، ومن عَرَف متاعه بعينه، فهو أحقّ به، وكذلك رواه عبد الرزاق، عن طاوس، وعطاء صحيحا، وبذلك قَالَ جمهور منْ أخذ بعموم حديث الباب، إلا أن للشافعي قولاً، هو الراجح فِي مذهبه: أن لا فرق بين تغير السلعة أو بقائها، ولا بين قبض بعض ثمنها، أو عدم قبض شيء منه، عَلَى التفاصيل المشروحة فِي كتب الفروع. انتهى "فتح" 5/ 344.
(فَهُوَ أَوْلَى بِهِ) أي بذلك الموجود عند المفلس، وذكّره مع كون مرجع الضمير السلعةَ؛ لتأويها بالموجود، كما قدّرته آنفًا (مِنْ غَيْرِهِ) أي منْ سائر الغرماء، قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: أي يجوز له أن يأخذه بعينه، ولا يكون مشتركًا بينه وبين سائر الغرماء، وبهذا يقول الجمهور، خلافًا للحنفيّة، فقالوا: إنه كالغرماء؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} الآية [البقرة: 280]. ويحملون الْحَدِيث عَلَى ما إذا أخذه عَلَى سوم الشراء مثلاً، أو عَلَى البيع بشرط الخيار للبائع، أي إذا كَانَ الخيار للبائع، والمشتري مُفلسٌ، فالأنسب أن يختار الفسخ، وهو تأويل بعيد. وقولهم: إن الله تعالى لم يشرع للدائن عند الإفلاس إلا الانتظار. فجوابه أن الانتظار فيما لا يوجد عند المفلس، ولا كلام فيه، وإنما الكلام فيما وُجد عند المفلس، ولابُدّ أن الدائنين يأخذون ذلك الموجود عنده، والحديث يُبيّن أن الذي يأخذ هَذَا الموجود هو صاحب المتاع، ولا يُجعل مقسومًا بين تمام الدائنين، وهذا لا يُخالف القرآن، ولا يقتضي القرآن خلافه. والله تعالى أعلم. انتهى "شرح السنديّ" 7/ 311 - 312.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا منْ السنديّ رحمه الله تعالي غاية الإنصاف، حيث لم يتكلّف فِي ترجيح مذهبه بما فيه تعسّفٌ، كما يفعل جُلّ الحنفيّة، ولاسيّما
المتأخّرون، ويا ليت الحنفيّة كلهم كانوا مثله رحمه الله تعالى فِي نصرة الأحاديث، وترك التعصّب لمذهبهم، فالله تعالى المستعان عَلَى منْ خالف منهج السلف فِي نصر السنّة، وترك الآراء. نسأل الله تعالى أن يسلك بنا مسلكهم، إنه قريبٌ مجيب.
وَقَالَ فِي "الفتح": قوله: "فهو أحقّ به منْ غيره": أي كائنا منْ كَانَ، وارثا، وغريما، وبهذا قَالَ جمهور العلماء، وخالف الحنفية، فتأولوه لكونه خبر واحد، خالف الأصول؛ لأن السلعة صارت بالبيع ملكا للمشتري، ومن ضمانه، واستحقاقُ البائع أخذَهَا منه نقض لملكه، وحملوا الْحَدِيث عَلَى صورة، وهي ما إذا كَانَ المتاع وديعة، أو عارية، أو لقطة.
وتعقب بأنه لو كَانَ كذلك، لم يقيد بالفلس، ولا جعل أحق بها؛ لما يقتضيه صيغة أفعل منْ الاشتراك، وأيضا فما ذكروه ينتقض بالشفعة، وأيضا فقد ورد التنصيص فِي حديث الباب، عَلَى أنه فِي صورة المبيع، وذلك فيما رواه سفيان الثوري، فِي "جامعه"، وأخرجه منْ طريقه ابن خزيمة، وابن حبّان، وغيرهما، عن يحيى بن سعيد بهذا الإسناد، بلفظ:"إذا ابتاع الرجل سلعة، ثم أفلس، وهي عنده بعينها، فهو أحق بها منْ الغرماء"، ولابن حبّان منْ طريق هشام بن يحيى المخزومي، عن أبي هريرة، بلفظ:"إذا أفلس الرجل، فوجد البائع سلعته"، والباقي مثله، ولمسلم فِي رواية ابن أبي حسين المشار إليها قبلُ:"إذا وجد عنده المتاع، ولم يفرّقه أنه لصاحبه، الذي باعه"، وفي مرسل ابن أبي مليكة، عند عبد الرزاق:"منْ باع سلعة منْ رجل لم ينقده، ثم أفلس الرجل، فوجدها بعينها، فليأخذها منْ بين الغرماء"، وفي مرسل مالك المشار إليه:"أيما رجل باع متاعا"، وكذا هو عند منْ قدمنا أنه وصله، فظهر أن الْحَدِيث وارد فِي صورة البيع، ويلتحق به القرض، وسائر ما ذكر منْ باب الأولى. انتهى "فتح" 5/ 344 - 345. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هَذَا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -95/ 4678 و4679 - وفي "الكبرى" 96/ 6272 و6273. وأخرجه (خ) فِي "الاستقراض" 2402 (م) فِي "البيوع" 1559 (د) فِي "البيوع" 3519 (ت) فِي "البيوع" 1262 (ت) فِي "الأحكام" 2358 و2359 و2360 و2361 (أحمد) فِي "باقي
مسند المكثرين" 7084 و7325 و7455 و8361 (الموطأ) فِي "البيوع" 1382. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم الرجل الذي اشترى سلعة، ثم أفلس، فوجد البائع متاعه بعينه، لم يتغيّر فإنه أولى به منْ الغرماء الآخرين، وهو مذهب الجمهور، وهو الحقّ، كما سنحقّقه فِي المسألة التالية، إن شاء الله تعالى. (ومنها): أنه استُدِلّ به عَلَى حلول الدين المؤجل بالفلس، منْ حيث إن صاحب الدين، أدرك متاعه بعينه، فيكون أحق به، ومن لوازم ذلك أن يجوز له المطالبة بالمؤجل، وهو قول الجمهور، لكن الراجح عند الشافعيّة، أن المؤجل لا يَحِلُّ بذلك؛ لأن الأجل حق مقصود له، فلا يفوت.
(ومنها): أنه استُدِلّ به أيضًا عَلَى أن لصاحب المتاع أن يأخذه، وهو الأصح منْ قولي العلماء، والقول الآخر يتوقف عَلَى حكم الحاكم، كما يتوقف ثبوت الفلس. والأول أرجح.
(ومنها): أنه استُدِلّ به أيضًا عَلَى فسخ البيع إذا امتنع المشتري منْ أداء الثمن، مع قدرته بمطل، أو هرب، قياسا عَلَى الفلس، بجامع تعذر الوصول إليه حالا، والأصح منْ قولي العلماء، أنه لا يُفسخ.
(ومنها): أنه استدل به عَلَى أن الرجوع، إنما يقع فِي عين المتاع، دون زوائده المنفصلة؛ لأنها حدثت عَلَى ملك المشتري، وليست بمتاع البائع.
(ومنها): ما قالوا: إن منْ فروع المسألة: ما إذا أراد الغرماء، أو الورثة إعطاء صاحب السلعة الثمن، فَقَالَ مالك: يلزمه القبول، وَقَالَ الشافعيّ، وأحمد: لا يلزمه ذلك؛ لما فيه منْ المنة، ولأنه ربما ظهر غريم آخر، فزاحمه فيما أخذ، وأغرب ابن التين، فحكى عن الشافعيّ أنه قَالَ: لا يجوز له ذلك، وليس له إلا سلعته. ويلتحق بالمبيع المؤجر، فيرجع مكتري الدابة، أو الدار، إلى عين دابته وداره، ونحو ذلك، وهذا هو الصحيح عند الشافعيّة، والمالكية، وإدراج الإجارة فِي هَذَا الحكم، متوقف عَلَى أن المنافع يُطلق عليها اسم المتاع، أو المال، أو يقال: اقتضى الْحَدِيث أن يكون أحق بالعين، ومن لوازم ذلك الرجوع فِي المنافع، فثبت بطريق اللزوم. قاله فِي "الفتح" 5/ 346. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فيمن وجد متاعه بعينه عند رجل أفلس: قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: اختلف العلماء فيمن اشترى سلعةً، فأفلس، أو مات
قبل أن يؤدّي ثمنها، ولا وفاء عنده، وكانت السلعة باقيةً بحالها، فَقَالَ الشافعيّ، وطائفة: بائعها بالخيار، إن شاء تركها، وضارب مع الغرماء بثمنها، وإن شاء رجع فيها بعينها فِي صورة الإفلاس، والموت.
وَقَالَ أبو حنيفة: لا يجوز له الرجوع فيها، بل تتعيّن المضاربة. وَقَالَ مالك: يرجع فِي صورة الإفلاس، ويُضارب فِي الموت.
واحتجّ الشافعيّ بهذه الأحاديث مع حديثه فِي الموت فِي "سنن أبي داود"، وغيره، وتأوّلها أبو حنيفة تأويلات مردودة، وتعلّق بشيء يُروَى عن عليّ، وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما، وليس بثابت عنهما. انتهى "شرح مسلم" 10/ 466.
وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: وَقَدْ اختلف العلماء فِي مُشتري السلعة إذا أفلس، أو مات، ولا وفاء عنده بثمنها، ووُجِدت، فَقَالَ الشافعيّ: صاحبها أحقّ بها فِي الفَلَس
(1)
، والموت. وَقَالَ أبو حنيفة: صاحبها أسوة الغرماء فيها. وَقَالَ مالك: هو أحقّ بها فِي الْفَلَس، دون الموت. وسبب الخلاف معارضة الأصل الكلّيّ للأحاديث، وذلك أن الأصل أن الدين فِي ذمّة المفلس، والميت، وما بأيديهما محلٌّ للوفاء، فيشترك جميع الغرماء فيه بقدر رؤوس أموالهم، ولا فرق فِي هَذَا منْ أن تكون أعيان السِّلَع موجودةً، أو لا، إذ قد خرجت عن ملك بائعها، ووجبت أثمانها لهم فِي الذمّة بالإجماع، فلا يكون لهم إلا أثمانها، إن وُجدت، أو ما وُجد منها، فتمسّك أبو حنيفة بهذا، وردّ الأخبار بناءً عَلَى أصله فِي ردّ أخبار الآحاد عند معارضة القياس.
وأما الشافعيّ، ومالكٌ، فتمسّكا بالأخبار الواردة فِي الباب، وخصّصا بها تلك القاعدة، غير أن الشافعيّ تمسّك فِي التسوية بين الموت، والْفَلَس، بما رواه أبو داود منْ حديث أبي المعتمر، عن عمر بن خَلْدَةَ، قَالَ: أتينا أبا هريرة رضي الله عنه فِي صاحب لنا، قد أفلس، فَقَالَ: لأقضينّ فيكم بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منْ أفلس، أو مات، فوَجَد رجلٌ متاعه بعينه، فهو أحقّ به"
(2)
، وبإلحاق الموت بالفلس؛ لأنه فِي معناه، ولم ينقدح بينهما فرقٌ مؤثّرٌ عنده. وأما مالكٌ، فإنه فرّق بينهما، لما رواه عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أيّما رجل باع متاعًا، فأفلس الذي ابتاعه، ولم يَقبِض منْ ثمنه شيئًا، فوجده بعينه، فهو أحقّ به، فإن مات الذي ابتاعه، فصاحب المتاع أسوة الغرماء". وهذا مرسلٌ صحيحٌ، وَقَدْ أسنده أبو داود منْ حديث أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو طريقٌ صحيح، وفيه زيادة
(1)
"الفلس" محرّكة: عدم النيل. اهـ "قاموس".
(2)
حديث ضعيف؛ لأن فِي سنده أبا المعتمر، وهو مجهول الحال.
ألفاظ، نذكرها بعدُ إن شاء الله تعالى- ومذهب مالك أولى؛ لأن حديثه أصحّ منْ حديث الشافعيّ؛ لأن أبا المعتمر مجهولٌ عَلَى ما ذكره أبو داود، وللفرق بين الْفَلَس والموت، وذلك أن ذمّة المفلس باقيةٌ، غير أنها انعابت
(1)
، ويُمكن أن يزول ذلك العيب بالإيسار، فيجد الغرماء الذين لم يأخذوا منْ السلعة شيئًا، ما يرجعون عليه، وليس كذلك فِي الموت، فإن ذمّة الميت قد انعدمت، فلا يرتجعون شيئًا، فافترقا. والله تعالى أعلم.
وَقَدْ تعسّف بعض الحنفيّة فِي تأويل أحاديث الإفلاس تأويلات، لا تقوم عَلَى أساس، ولا تتمشّى عَلَى لغة، ولا قياس، فلنُضرِبْ عن ذكرها؛ لوضوح فسادها. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى "المفهم" 4/ 432 - 433.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي حقّقه القرطبيّ رحمه الله تعالى حسنٌ جدًّا، وحاصله أن الحقّ هو ما ذهب إليه مالك، والشافعيّ رحمهما الله تعالى منْ أن مشتري السلعة إذا أفلس، ووُجدت السلعة بعينها، فالبائع أحقّ بها منْ سائر الغرماء؛ لصحّة حديث الباب، وأما ما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله منْ كونه أسوة للغرماء، فمجرّد قياس، فِي مقابلة النصّ، فيكون باطلاً، ثم إن ما ذهب إليه مالك منْ الفرق بين الإفلاس، والموت، فيكون فِي الإفلاس أحقّ منْ سائر الغرماء، وفي الموت أسوة لهم هو الأرجح؛ وذلك للفرق الذي ذكر فِي الْحَدِيث الذي احتجّ به مالك، وهو حديث متّصلٌ صحيح، وأما الْحَدِيث الذي تمسّك به الشافعيّ فِي التسوية بين الإفلاس والموت، فلم يصحّ، كما تقدّم. والله تعالى أعلم.
وَقَالَ فِي "الفتح": وحمله بعض الحنفية، عَلَى ما إذا أفلس المشتري، قبل أن يقبض السلعة. وتُعُقّب بقوله فِي حديث الباب:"عند رجل"، ولابن حبّان منْ طريق سفيان الثوري، عن يحيى بن سعيد:"ثم أفلس، وهي عنده"، وللبيهقي منْ طريق ابن شهاب، عن يحيى:"إذا أفلس الرجل، وعنده متاع"، فلو كَانَ لم يقبضه ما نَصَّ فِي الخبر عَلَى أنه عنده، واعتذارهم بكونه خبر واحد فيه نظر، فإنه مشهور منْ غير هَذَا الوجه، أخرجه ابن حبّان منْ حديث ابن عمر، وإسناده صحيح، وأخرجه أحمد، وأبو داود منْ حديث سمرة، وإسناده حسن، وقضى به عثمان، وعمر بن عبد العزيز، كما مضى، وبدون هَذَا يخرج الخبر عن كونه فردا غريبا.
قَالَ ابن المنذر: لا نعرف لعثمان رضي الله عنه فِي هَذَا مخالفا منْ الصحابة. وتُعُقّب بما
(1)
أي حصل لها عيب.
رَوَى ابن أبي شيبة، عن علي رضي الله عنه أنه أسوة الغرماء. وأجيب بأنه اختُلِف عَلَى علي فِي ذلك، بخلاف عثمان رضي الله عنه.
وَقَالَ القرطبيّ فِي "المفهم": تعسف بعض الحنفية فِي تأويل هَذَا الْحَدِيث بتأويلات لا تقوم عَلَى أساس. وَقَالَ النوويّ: تأولوه بتأويلات ضعيفة مردودة. انتهى.
واختلف القائلون فِي صورة، وهي: ما إذا مات، ووجدت السلعة، فَقَالَ الشافعيّ: الحكم كذلك، وصاحب السلعة أحق بها منْ غيره، وَقَالَ مالك، وأحمد: هو أسوة الغرماء، واحتجا بما فِي مرسل مالك:"وإن مات الذي ابتاعه، فصاحب المتاع فيه أسوة الغرماء"، وفرقوا بين الفلس والموت، بأن الميت خربت ذمته، فليس للغرماء محل يرجعون إليه، فاستووا فِي ذلك، بخلاف المفلس. واحتج الشافعيّ بما رواه منْ طريق عُمَر بن خَلْدَة، قاضي المدينة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ:"قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أَيُّما رجل مات، أو أفلس، فصاحب المتاع أحق بمتاعه، إذا وجده بعينه"، وهو حديث حسن، يحتج بمثله، أخرجه أيضا أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وصححه الحاكم، وزاد بعضهم فِي آخره:"إلا أن يترك صاحبه وفاء"، ورجحه الشافعيّ عَلَى المرسل، وَقَالَ: يحتمل أن يكون آخره منْ رأي أبي بكر بن عبد الرحمن؛ لأن الذين وصلوه عنه، لم يذكروا قضية الموت، وكذلك الذين رووا عن أبي هريرة وغيره، لم يذكروا ذلك، بل صرح ابن خلدة، عن أبي هريرة بالتسوية بين الإفلاس والموت، فتعين المصير إليه؛ لأنها زيادة منْ ثقة.
وجزم ابن العربي المالكي بأن الزيادة التي فِي مرسل مالك، منْ قول الراوي، وجمع الشافعيّ أيضا بين الحديثين، بحمل حديث ابن خلدة عَلَى ما إذا مات مفلسا، وحديث أبي بكر بن عبد الرحمن، عَلَى ما إذا مات مليئا. والله أعلم. انتهى "فتح" 5/ 345 - 346.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: فِي كلام الحافظ هَذَا نظر لا يخفى، فإن تحسينه حديث الشافعيّ، وترجيحه عَلَى حديث مالك ليس كما ينبغي؛ فإنه ضعيف، لأن فِي إسناده أبا المعتمر، وهو مجهول الحال، كما نصّ هو عليه فِي "التقريب"، وأما حديث مالك، وإن رواه هو فِي "الموطإ" مرسلاً، لكنه روي متّصلاً فِي غيره، ولقد أجاد ابن القيّم رحمه الله تعالى فِي "تهذيب السنن" فِي هَذَا البحث، ودونك نصّه:
وَقَدْ أعله الشافعيّ بأنه كالمدرج فِي حديث أبي هريرة رضي الله عنه يعني قوله: "فإن كَانَ قضى منْ ثمنها شيئًا- إلى آخره. قَالَ الشافعيّ فِي جواب منْ سأله لم لم تأخذ بحديث أبي بكر بن عبد الرحمن هَذَا -يعني المرسل- فَقَالَ: الذي أخذت به أولى منْ قبل أن ما
أخذت به موصولٌ يجمع فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم بين الموت والإفلاس، وحديث ابن شهاب منقطع، ولو لم يخالفه غيره لم يكن مما يُثبته أهل الْحَدِيث، ولو لم يكن فِي تركه حجة إلا هَذَا انتفى لمن عرف الْحَدِيث تركه منْ الوجهين، مع أن أبا بكر بن عبد الرحمن يروي عن أبي هريرة حديثه، ليس فيما روى ابن شهاب عنه مرسلاً، إن كَانَ رواه كله، ولا أدري عمن رواه، ولعله روى أول الْحَدِيث، وَقَالَ برأيه آخره، وموجود فِي حديث أبي بكر، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: أنه انتهى فيه إلى قوله، فهو أحقّ به، وأشبه أن يكون ما زاد عَلَى هَذَا قولاً منْ أبي بكر، لا رواية، تمّ كلامه.
وَقَدْ روى الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن محمد بن حزم، عن عمر بن عبد العزيز، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، يرفعه:"أيّما رجل أفلس، ثم وجد رجلٌ سلعته عنده بعينها، فهو أولى بها منْ غيره"، قَالَ الليث: بلغنا أن ابن شهاب قَالَ: "أما منْ مات ممن أفلس، ثم وجد رجلٌ سلعته بعينها، فإنه أُسوةٌ الغرماء"، يحدّث بذلك عن أبي بكر بن عبد الرحمن. قَالَ البيهقيّ: هكذا وجدته غير مرفوع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي آخره، وفي ذلك كالدلالة عَلَى صحّة ما قَالَ الشافعيّ. وَقَالَ غيره: هَذَا الْحَدِيث قد رواه عبد الرزّاق، عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي بكر ابن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عبد البرّ. وَقَدْ رواه إسماعيل بن عيّاش، عن الزبيديّ، عن الزهريّ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه. ومن هذه الطريق أخرجه أبو داود، والزُّبيديّ: هو محمد بن الوليد، شاميّ حمصيّ. وَقَدْ قَالَ الإِمام أحمد، ويحيى بن معين، وغيرهما: حديث إسماعيل ابن عيّاش، عن الشاميين صحيح. فهذا الْحَدِيث عَلَى هَذَا صحيح، وَقَدْ رواه موسى بن عُقبة، عن الزهريّ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ذكره ابن عبد البرّ. فهؤلاء ثلاثةٌ وصلوه عن الزهريّ: مالك، فِي رواية عبد الرزّاق، وموسى بن عقبة، ومحمد بن الوليد، وكونه مدرجًا لا يثبت إلا بحجة، فإن الراوي لم يقل: قَالَ فلان بعد ذكره المرفوع، وإنما هو ظنّ. وأما قول الليث: بلغنا أن ابن شهاب قَالَ: "أما منْ مات" إلى آخره، فهو مع انقطاعه ليس بصريح فِي الإدراج، فإنه فسّر قوله بأنه رواية عن أبي بكر، لا رأي منه، ولم يقل: إن أبا بكر قاله منْ عنده، وإنما قَالَ: يحدّث بذلك عن أبي بكر، والحديث صالح للرأي، والرواية، ولعله فِي الرواية أظهر.
وبالجملة فالإدراج بمثل هَذَا لا يثبت، ولا يُعلّل به الْحَدِيث، والله أعلم. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله تعالى "تهذيب السنن" منْ هامش "عون المعبود" 9/ 434 - 436.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله ابن القيّم منْ تصحيح الْحَدِيث الذي فيه الفرق بين الإفلاس والموت، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"أيما رجل باع متاعًا، فأفلس الذي ابتاعه، ولم يقبض الذي باعه منْ ثمنه شيئًا، فوجد متاعه بعينه، فهو أحقّ به، وإن مات المشتري، فصاحب المتاع أسوة الغرماء"، هو الحقّ، فيُستفاد منه أن ما ذهب إليه مالك رحمه الله تعالى منْ التفرقة بين الإفلاس والموت هو الصواب، فتبصّر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: ذكر الموفّق رحمه الله تعالى أن استحقاق الرجوع فِي السلعة بخمس شرائط: [أحدها]: أن تكون السلعة باقية بعينها، فلو تغيرت بأن تلف بعضها، لم يكن له الرجوع. [الثاني]: أن لا يكون المبيع زاد زيادة متّصلةً، كالسمن، والكبر، وتعلم الصناعة، وإلا ففي الرجوع خلافٌ. [الثالث]: أن لا يكون البائع قبض منْ ثمنها شيئًا، وإلا فلا رجوع؛ لقوله فِي الْحَدِيث:"ولم يكن قبض منْ ثمنها شيئًا". [الرابع]: أن لا يتعلّق بها حقّ الغير، فإن رهنها المشتري، ثم أفلس، أو وهبها، لم يكن له الرجوع. [الرابع]: أن يكون المفلس حيًّا، فإن مات فالبائع أسوة الغرماء. وَقَدْ ذكر الموفّق رحمه الله تعالى تفاصيل هذه الشروط، فمن أراد الاطلاع عليها، فليرجع إلى كتاب "المغني" 6/ 543 - 591. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): فِي اختلاف أهل العلم فيما إذا تغيّرت السلعة:
قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: ما حاصله: أحدها إنما يستحقّ الرجوع فِي السلعة إذا كانت باقية بعينها، لم يَتلَف بعضها، فإن تلف جزء منها، كبعض أطراف العبد، أو ذهبت عينه، أو تلف بعض الثوب، أو انهدم بعض الدار، أو اشترى شجرا مثمرا، لم تظهر ثمرته، فتلفت الثمرة، أو نحو هَذَا لم يكن للبائع الرجوع، وكان أسوة الغرماء، وبهذا قَالَ إسحاق، وَقَالَ مالك، والأوزاعي، والشافعي، والعنبري: له الرجوع فِي الباقي، ويضرب مع الغرماء بحصة التالف؛ لأنها عين يملك الرجوع فِي جميعها، فملك الرجوع فِي بعضها، كالذي له الخيار، وكالأب فيما وهب لولده.
قَالَ: ولنا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "منْ أدرك متاعه بعينه عند إنسان، قد أفلس، فهو أحق به"، فشرط أن يجده بعينه، ولم يجده بعينه، ولأنه إذا أدركه بعينه، حصل له بالرجوع فصل الخصومة، وانقطاع ما بينهما منْ المعاملة، بخلاف ما إذا وجد بعضه، ولا فرق بين أن يرضى بالموجود بجميع الثمن، أو يأخذه بقسطه منْ الثمن؛ لأنه فات شرط الرجوع. انتهى "المغني" باختصار 6/ 543.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما مالَ إليه الحنبليّة، منْ عدم استحقاق
الرجوع فِي حالة تغيّر شيء منْ السلعة هو الأرجح؛ عملاً بظاهر قوله: "بعينه". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم الحجر عَلَى المفلس:
قَالَ فِي "الفتح": ما حاصله: ذهب الجمهور إلى أن منْ ظهر فَلَسُهُ، فعلى الحاكم الحجر عليه فِي ماله، حتّى يبيعه عليه، ويَقسمه بين غرمائه عَلَى نسبة ديونهم. وخالف الحنفية، واحتجّوا بقصّة جابر رضي الله عنه، حيث قَالَ فِي دين أبيه:"فلم يُعطهم الحائط، ولم يكسره لهم"، ولا حجة فيه؛ لأنه أخّر القسمة ليحضر، فتحصل البركة فِي الثمر بحضوره، فيحصل الخير للفريقين، وكذلك كَانَ. انتهى "فتح" 5/ 347.
وَقَالَ فِي "المفهم": ما حاصله: إذا قصر ما بيده عن وفاء ما عليه منْ الديون، فللحاكم أن يحجر عليه، ويمنعه منْ التصرّف فيما بيده، ويُحصّله، ويجمع الغرماء، فيقسّمه عليهم، وهذا مذهب الجمهور، منْ الصحابة، وغيرهم، كعمر، وعثمان، وعليّ، وابن مسعود، وعروة بن الزبير، والأوزاعيّ، ومالك، والشافعيّ، وأحمد. وَقَالَ النخعيّ، والحسن البصريّ، وأبو حنيفة: للحاكم أن يحجر عليه، ولا يمنعه منْ التصرّف فِي ماله، لكن يحبسه ليوفي ما عليه، وهو يبيع ما عنده، والحجة للجمهور عَلَى هؤلاء حديث تفليس معاذ رضي الله عنه الآتي، وَقَدْ قَالَ الزهريّ: ادّان معاذ، فباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله حَتَّى قضى دينه
(1)
، وكذلك فعل عمر بن الخطّاب رضي الله عنه بالجهنيّ الذي قَالَ فيه:"ألا إن أُسيفع جهينة رضي لدينه وأمانته أن يقال: سبق الحاجّ، ثم ادّان معرضًا، فمن كَانَ له عليه دينٌ فليحضر، فإنا نبيع ماله"
(2)
، ولم يخالفه أحدٌ، ثم يباع عليه كلّ ماله، وعقاره. وَقَالَ أبو حنيفة: لا يباع عليه عقاره، وقوله مخالفٌ للأدلّة التي ذكرناها، فإنها عامّة لجميع الأموال، ولأن الدين حقّ ماليّ فِي ذمّته، فيباع عليه فيه عقاره، كما يباع فِي نفقة الزوجات، ولأن الْفَلَسَ معنى طارىء يوجب قسمة المال، فيباع فيه العقار كالموت. انتهى "المفهم" 4/ 431 - 432.
وَقَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: ومتى لزم الإنسان ديون حالّة، لا يفي ماله بها، فسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه، لزمته إجابتهم، ويُستحب أن يظهر الحجر عليه؛ لتُجتنب معاملته، فإذا حُجر عليه ثبت بذلك أربعة أحكام:[أحدها]: تعلق حقوق الغرماء بعين ماله. [والثاني]: منع تصرفه فِي عين ماله. [والثالث]: أن منْ وجد عين ماله عنده، فهو أحق بها منْ سائر الغرماء، إذا وجدت الشروط. [الرابع]: أن للحاكم بيع ماله وإيفاء
(1)
أخرجه الحاكم فِي "مستدركه" 3/ 27 وَقَالَ: صحيح عَلَى شرط الشيخين.
(2)
رواه مالك فِي "الموطإ" 2/ 770.
الغرماء، والأصل فِي هَذَا ما رَوَى كعب بن مالك:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حجر عَلَى معاذ بن جبل، وباع ماله" رواه الخلال بإسناده. وعن عبد الرحمن بن كعب، قَالَ: كَانَ معاذ بن جبل رضي الله عنه منْ أفضل شباب قومه، ولم يكن يُمسك شيئا، فلم يزل يَدّانُ حَتَّى أَغرَق ماله فِي الدين، فكلم النبيّ صلى الله عليه وسلم غرماؤه، فلو تُرك أحد منْ أجل أحد، لتركوا معاذا منْ أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فباع لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله، حَتَّى قام معاذ بغير شيء. قَالَ بعض أهل العلم: إنما لم يترك الغرماء لمعاذ حين كلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا يهودا. انتهى "المغني" 6/ 537 - 538.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الجمهور منْ جواز حجر الحاكم عَلَى المفلس، إن طلب ذلك غرماؤه هو الأرجح؛ لظهور أدلّته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4679 -
(أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي حُسَيْنٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الرَّجُلِ يُعْدِمُ، إِذَا وُجِدَ عِنْدَهُ الْمَتَاعُ بِعَيْنِهِ، وَعَرَفَهُ أَنَّهُ لِصَاحِبِهِ الَّذِي بَاعَهُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عبد الرحمن بن خالد": هو القطّان الواسطيّ، ثم الرّقّيّ، صدوقٌ [11] 7/ 753. و"ابن أبي حُسين": هو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين بن الحارث بن عامر بن نوفل النوفليّ المكيّ، ثقة، عالم بالمناسك [5] 23/ 1871. والباقون تقدموا قريبًا.
وقوله: "عن الرجل": أي عن قضيّة الرجل، أو حكمه، وَقَالَ السنديّ: فِي الرجل، يعني أن "عن" بمعنى "فِي".
وقوله: "يُعدِم" بضمّ أوله منْ أعدم الرجل: إذا افتقر، والجملة صفة لـ"الرجل"؛ لأن تعريفه للجنس لا للعهد.
وقوله: "إذا وُجد" بالبناء للمفعول، و"المتاع" نائب فاعله.
وقوله: "وعرفه": أي عرف ذلك الرجل المعدِم ذلك المتاع بأنه لفلان، والمراد أنه اعترف للبائع أنه حقّه. ويحتمل أن يكون فاعل "عرف" لصاحب المتاع، وإن لم يجر له ذكر، أي أن صاحب المتاع عرف متاعه، ويطالب به.
وقوله: "إنه لصاحبه الخ" بكسر همزة "إن" والضمير لـ"المتاع"، والجملة جواب "إذا".
والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب،
وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4680 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: "أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا، وَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ"، فَتَصَدَّقُوا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"عياض بن عبد الله" هو: ابن سعد بن أبي سَرْح القرشي العامري المكيّ، ثقة؛ [3] 26/ 1048.
وقوله: "وليس لكم إلا ذلك" فيه وضع الجوائح، يعني أنه لا يؤخذ منه ما عجز عنه، وقيل فِي معناه غير ذلك، مما تقدّم بيانه مستوفى.
والحديث أخرجه مسلم، وتقدّم فِي 30/ 4532 - "وضع الجوائح"، ومضى شرحه، وبيان مسائله هناك، فارجع إليه تستفد، وبالله تعالى التوفيق، وهو أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
96 - (الرَّجُلُ يَبِيعُ السِّلْعَةَ، فَيَسْتَحِقُّهَا مُسْتَحِقٌّ)
4681 -
(أَخْبَرَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرِ بْنِ سِمَاكٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَضَى أَنَّهُ إِذَا وَجَدَهَا فِي يَدِ الرَّجُلِ، غَيْرِ الْمُتَّهَمِ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِمَا اشْتَرَاهَا، وَإِنْ شَاءَ اتَّبَعَ سَارِقَهُ، وَقَضَى بِذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح.
و"هارون بن عبد الله": هو أبو موسى الحمّال البغداديّ، ثقة [10] 50/ 62.
و"حماد بن مسعدة": هو التيميّ، أبو سعيد البصريّ، ثقة [9] 97/ 1040. والباقون يأتون فِي السند التالي.
[تنبيه]: وقع عند المصنّف فِي إسناد هَذَا الْحَدِيث قوله: "حدثني أُسيد بن حضير بن سماك"، وهو غلطٌ، والصواب "حدّثني أُسيد بن ظُهير"، وَقَدْ نبّه عَلَى هَذَا الحافظ أبو الحجّاج المزّيّ فِي "تهذيب الكمال" 3/ 253 - 254. وفي "تحفة الأشراف" 1/ 72 بعد أن ساقه بسند المصنّف: ما نصّه: قَالَ هارون: وَقَالَ أحمد بن حنبل: هو فِي كتابه -يعني ابن جريج- "أسيد بن ظُهير"، ولكن كذا حدّثهم بالبصرة، قَالَ: وقول أحمد بن حنبل هو الصواب؛ لأن أُسيد بن حُضير مات فِي زمن عمر رضي الله عنه، وصلّى عليه، ومن مات فِي زمن عمر لا يُدركه أيام معاوية. انتهى.
و"أُسيد بن ظهير" بن رافع بن عديّ بن زيد بن جُشم بن حارثة بن الحارث، أبو ثابت الأنصاريّ الحارثيّ، تقدّمت ترجمته فِي 44/ 3862 وهو منْ رجال الأربعة.
والحديث صحيح، ويأتي شرحه فِي الْحَدِيث التالي، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4682 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ ذُؤَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَلَقَدْ أَخْبَرَنِي عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ، أَنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ الأَنْصَارِيَّ، ثُمَّ أَحَدَ بَنِي حَارِثَةَ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ عَامِلاً عَلَى الْيَمَامَةِ، وَأَنَّ مَرْوَانَ كَتَبَ إِلَيْهِ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَيْهِ: أَنَّ أَيُّمَا رَجُلٍ سُرِقَ مِنْهُ سَرِقَةٌ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، حَيْثُ وَجَدَهَا، ثُمَّ كَتَبَ بِذَلِكَ مَرْوَانُ إِلَيَّ، فَكَتَبْتُ إِلَى مَرْوَانَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَضَى بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الَّذِي ابْتَاعَهَا مِنَ الَّذِي سَرَقَهَا، غَيْرُ مُتَّهَمٍ، يُخَيَّرُ سَيِّدُهَا، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الَّذِي سُرِقَ مِنْهُ بِثَمَنِهَا، وَإِنْ شَاءَ اتَّبَعَ سَارِقَهُ"، ثُمَّ قَضَى بِذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، فَبَعَثَ مَرْوَانُ بِكِتَابِي إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى مَرْوَانَ: إِنَّكَ لَسْتَ أَنْتَ، وَلَا أُسَيْدٌ تَقْضِيَانِ عَلَيَّ، وَلَكِنِّى أَقْضِي فِيمَا وُلِّيتُ عَلَيْكُمَا، فَأَنْفِذْ لِمَا أَمَرْتُكَ بِهِ، فَبَعَثَ مَرْوَانُ بِكِتَابِ مُعَاوِيَةَ، فَقُلْتُ: لَا أَقْضِي بِهِ مَا وُلِّيتُ بِمَا قَالَ مُعَاوِيَةُ).
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(عمرو بن منصور) أبو سعيد النسائيّ الثقة الثبت [11] 108/ 147 منْ أفراد المصنّف.
2 -
(سعيد بن ذُؤيب) أبو الحسن المروزيّ، نسائيّ الأصل، ثقة [10]
(1)
.
روى عن أبي ضمرة، وأبي أسامة، وابن عيينة، وعبد الرزّاق، ويزيد بن هارون، وعبد الصمد بن عبد الوارث، وغيرهم. وعنه النسائيّ فِي غير "السنن"، وروى له فِي "السنن" بواسطة عمرو بن منصور النسائيّ، وعنه أيضًا حاشد بن إسماعيل البخاريّ، والحسن بن سفيان، وعُبيد الله بن واصل البِيكنديّ. ذكره النسائيّ فِي "الكنى"، فَقَالَ:
(1)
جعله فِي "التقريب" منْ الحادية عشرة، والذي يظهر لي أنه منْ العاشرة، لأنه منْ أقران أحمد بن حنبل، فتأمّل.
ثقة مأمون، حدّث عنه محمد بن رافع. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: مات سنة (237). وَقَالَ أبو حاتم: مجهول. تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.
3 -
(عبد الرزاق) بن همّام بن نافع الحميري مولاهم، أبو بكر الصنعاني، ثقة حافظ منصف، مشهور، عمي فِي بآخر عمره فتغيرن وكان يتشيع [9] 61/ 77.
4 -
(ابن جريج) المذكور فِي الباب الماضي.
5 -
(عكرمة بن خالد) بن العاص بن هشام المخزوميّ المكيّ، ثقة [3] 37/ 940.
6 -
(أسيد بن حضير) رضي الله تعالى عنه، تقدّم أن صوابه "أُسيد بن ظُهير"، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، وشيخ شيخه، فإن هما منْ أفراده. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنِ) عبد الملك بن عبد العزيز (ابْنِ جُرَيْجٍ) الأمويّ مولاهم المكيّ، أنه قَالَ (وَلَقَدْ أَخْبَرَنِي عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ) المخزوميّ المكيّ (أَنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ الْأَنْصَارِيَّ) تقدم فِي الْحَدِيث الماضي أنه هَذَا غلط، والصواب "أن أسيد بن ظهير الأَنصاري"، ويدلّ عَلَى ذلك قوله (ثُمَّ أَحَدَ بَنِي حَارِثَةَ) لأن هَذَا نسب أسيد بن ظهير، وأما أُسيد بن حُضير، فإنه أشهليّ، كما يظهر ذلك منْ مراجعة ترجمته فِي كتب الرجال (أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ عَامِلاً عَلَى الْيَمَامَةِ) بفتح المثنّاة التحتيّة، وتخفيف الميم: بلدة منْ بلاد العوالي، وهي بلاد بني حنيفة، قيل: منْ عُرُوض اليمن، وقيل: منْ بادية الحجاز. قاله الفيّوميّ (وَأَنَّ مَرْوَانَ) أي ابن الحكم بن أبي العاص بن أمية، أبا عبد الملك الأمويّ المدنيّ (كَتَبَ إِلَيْهِ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ) بن أبي سفيان، صخر بن حرب بن أُميّة الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما (كَتَبَ إِلَيْهِ: أَنَّ أَيَّمَا رَجُلٍ سُرِقَ مِنْهُ سَرِقَةٌ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا) أي السرقة، بمعنى الأمتعة، أو الأموال المسروقة، وكذا المغصوبة (حَيْثُ وَجَدَهَا) أي فِي أيّ مكان وجد تلك السرقة (ثُمَّ كَتَبَ بِذَلِكَ) أي بما كتبه معاوية رضي الله عنه (مَرْوَانُ إِلَيَّ، فَكَتَبْتُ إِلَى مَرْوَانَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَضَى بِأَنَّهُ) الضمير للشأن: أي بأن الشأن (إِذَا كَانَ الَّذِي ابْتَاعَهَا) أي اشتراها (مِنِ الَّذِي سَرَقَهَا، غَيْرَ مُتَّهَمٍ) بمشاركته مع السارق بأن يتواطأ معه فِي أخذها ظلمًا (يُخَيَّرُ سَيَّدُهَا) أي صاحب السلعة المسروقة، والفعل مبنيّ للمفعول، و"سيّدها"
نائب فاعله: أي خيّره الشارع، ويحتمل أن يكون مبنيًّا للفاعل، و"سيدها" مرفوع عَلَى الفاعل: بمعنى: يختار سيّدها. والله تعالى أعلم (فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الَّذِي سُرِقَ مِنْهُ) ببناء الفعل للمفعول، وذكّر ضمير "منه" نظرًا للفظ "الذي": أي الشيء الذي سُرق منه، وأنثه فِي قوله (بِثَمَنِهَا) نظرًا إلى لفظ "السرقة"، ولفظ "الكبرى":"بثمنه"، وهو ظاهر (وَإِنْ شَاءَ اتَّبَعَ سَارِقَهُ) حَتَّى يضمّنه قيمتها. والمعنى أن المسروق منه بالخيار بين شيئين: أحدهما أن يأخذ متاعه المسروق منْ المشتري، بعد دفع ثمنه؛ لئلا يتضرّر منْ غير تقصير منه، والثاني: أن يتّبع السارق، فيضمّنه قيمة المتاع؛ لأنه المعتدي عليه بأخذ متاعه.
قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: ولا يخفى ما بين هَذَا الْحَدِيث، وبين حديث سمرة رضي الله عنه الآتي منْ المعاضة، لكن إن ثبت أن الخلفاء قضوا بهذا الْحَدِيث، فينبغي أن يكون العمل به أرجح، إلا أن كثيرًا منْ العلماء مال إلى خلافه، والله تعالى أعلم. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: سيأتي أن حديث سمرة رضي الله عنه ضعيف، فلا يعارضُ هَذَا الْحَدِيث، فتنبّه. والله تعالى اعلم.
(ثُمَّ قَضَى بِذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه (وَعُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه (وَعُثْمَانُ) بن عفّان رضي الله عنه (فَبَعَثَ مَرْوَانُ بِكِتَابِي إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى مَرْوَانَ: إنَّكَ لَسْتَ أَنْتَ، وَلَا أُسَيْدٌ تَقْضِيَانِ عَلَيَّ) أي تلزماني بشيء لا أراه صوابًا، والظاهر أن معاوية رضي الله عنه يرى العمل بحديث سمرة رضي الله عنه الآتي، لكن هَذَا الْحَدِيث أصحّ منه، فالعمل به متعيّنٌ، فنعتذر لمعاوية رضي الله عنه بأنه اجتهاد منه، والاجتهاد يصيب، ويُخطىء (وَلَكِنِّي أَقْضِي فِيمَا وُلِّيتُ عَلَيْكُمَا، فَأَنْفِذْ لِمَا أَمَرْتُكَ بِهِ) أي منْ أن المسروق منه أحقّ بماله، بلا خيار (فَبَعَثَ مَرْوَانُ بِكِتَابِ مُعَاوِيَةَ) رضي الله عنه (فَقُلْتُ: لَا أَقْضِي بِهِ) أي بما قَالَ معاوية رضي الله عنه (مَا وُلِّيتُ)"ما" مصدريّة ظرفيّة، والفعل مبنيّ للمفعول: أَي مدّة ولايتي، وقوله (بِمَا قَالَ مُعَاوِيَةُ) بدل منْ قوله:"به"، فيه ما كَانَ عليه الصحابة رضي الله عنهم منْ التمسّك بالنصّ، وإن خالفوا فيه ولاة الأمور؛ عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم:"إنما الطاعة فِي المعروف"، متَّفقٌ عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أُسيد بن ظهير رضي الله عنه هَذَا صحيح، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -96/ 4681 و4682 - وفي "الكبرى" 97/ 6275 و6276. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4683 -
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ مُوسَى بْنِ السَّائِبِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الرَّجُلُ أَحَقُّ بِعَيْنِ مَالِهِ، إِذَا وَجَدَهُ، وَيَتْبَعُ الْبَائِعُ مَنْ بَاعَهُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن داود": هو أبو جعفر الْمِصَّيصيّ، ثقة فاضلٌ [11] 112/ 2879. و"عمرو بن عون": هو أبو عثمان البزار البصريّ، ثقة ثبت [10] 77/ 1332. و"هُشيم": هو ابن بشير الواسطيّ الثقة الثبت.
و"موسى بن السائب"، أبو سَعْدة البصريّ، ويقال: الواسطيّ، صدوقٌ [7].
قَالَ أحمد: ثقة. وَقَالَ ابن معين: صالح. وَقَالَ أبو داود: لا بأس به. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". تفرّد به المصنّف، وأبو داود بهذا الْحَدِيث فقط.
و"الحسن": هو ابن أبي الحسن/ يسار البصريّ. و"سمرة": هو ابن جندب رضي الله عنه.
وقوله: "الرجل أحقّ بعين ماله الخ" قَالَ الخطّابيّ: هَذَا فِي المغصوب، والمسروق، ونحوهما، إذا وجد ماله المغصوب، والمسروق عند رجل، كَانَ له أن يُخاصمه فيه، ويأخذ عين ماله منه، ويرجع المأخوذ منه عَلَى منْ باعه إيّاه. انتهى "معالم السنن" 5/ 184.
وقوله: "ويتبع البائع"، يحتمل أن يكون بفتح أوله، وسكون ثانيه، منْ تبع ثلاثيًّا، منْ باب تَعِبَ، ويحتمل أن يكون بتشديد ثانيه، أمر منْ اتَّبَع خماسيّا، والمراد بـ"البائع" هنا المشتري؛ لأن البيع يُطلق لغة عَلَى الشراء، كما يُطلق عَلَى البيع، ولفظ "الكبرى":"ويتبع البيّع منْ باعه": وهو بفتح الموحّدة، وتشديد الياء، ومعناه: المشتري.
والحديث دليل عَلَى أن المسروق منه إذا وجد متاعه عند المشتري، فهو أحقّ به، دون خيار، وفيه مخالفة للحديث السابق، إلا أنه ضعيف، فلا يعارض الصحيح، كما سبق بيانه، فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه هَذَا ضعيف؛ أما عَلَى قول منْ يقول بعدم سماع الحسن عن سمرة غير حديث العقيقة، فظاهرٌ، وأما عَلَى القول بسماعه غيره، فلعنعنته، وعنعنة قتادة، وهما مدلّسان. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -96/ 4683 - وفي "الكبرى" 97/ 6277. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4684 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ، فَهِيَ لِلأَوَّلِ
مِنْهُمَا، وَمَنْ بَاعَ بَيْعًا مِنْ رَجُلَيْنِ، فَهُوَ لِلأَوَّلِ مِنْهُمَا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث لا يُطابق هَذَا الباب، فكان الأولى للمصنّف رحمه الله تعالى أن يترجم له ترجمة مستقلّة، كما صنع فِي "الكبرى"، حيث ترجم بقوله:"باب الرجل يبيع السلعة منْ رجل، ثم يبيعها بعينها". والله تعالى أعلم.
ورجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.
و"غُندر": هو محمد بن جعفر. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ سَمُرَةَ) بن جندب رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "أَيُّمَا امْرَأَةِ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ) أي لرجلين (فَهِيَ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا) أي للناكح الأول منْ الناكحين، أو للوليّ الأول، منْ الوليّين، يَنفُذ فيها تصرّفه، دون تصرّف الثاني. وَقَالَ فِي "تحفة الأحوذيّ" 4/ 187 - :"فهي للأول منهما": أي للسابق منهما ببيّنة، أو تصادق، فإن وقعا معًا، أو جُهل السابق منهما بطلا معًا. انتهى.
وَقَالَ الشوكانيّ رحمه الله تعالى: فيه دليلٌ عَلَى أن المرأة إذا عقد لها وليّان لزوجين، كانت لمن عقد له أولُ الوليين، منْ الزوجين، وبه قَالَ الجمهور، وسواء كَانَ قد دخل بها الثاني، أم لا، وخالف فِي ذلك مالك، وطاوسٌ، والزهريّ، وروي عن عمر، فقالوا: إنها للثاني إذا كَانَ قد دخل بها؛ لأن الدخول أقوى. انتهى. "نيل الأوطار" 5/ 166.
(وَمَنْ بَاعَ بَيْعًا) أي مبيعًا، فهو منْ إطلاق المصدر، وإرادة اسم المفعول، ويحتمل أن يكون باقيًا عَلَى مصدريّته، ويكون مفعولا مطلقا لـ"باع" أي منْ عقد عقدًا (مِنْ رَجُلَيْنِ، فَهُوَ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا) فيه دليل عَلَى أن منْ باع شيئًا منْ رجل، ثم باعه منْ آخر لم يكن للبيع الثاني حكم، بل هو باطلٌ؛ لأنه باع غير ما يملك، إذ قد صار فِي ملك المشتري الأول، ولا فرق بين أن يكون البيع الثاني فِي مدّة الخيار، أو بعد انقراضها؛ لأن المبيع قد خرج عن ملكه بمجرّد البيع. قاله فِي "نيل الأوطار" 5/ 166.
[تنبيه]: زاد فِي "الكبرى" سندًا آخر للحديث، ونصّه: أخبرني قَطَنُ بن إبراهيم، قَالَ: حدثنا حفصٌ، قَالَ: ثنا إبراهيم بن سعد، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن عُقبة بن عامر، وسمرة بن جندب، قالا: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثله، سواء. انتهى.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث ضعيف؛ لما سبق فِي الْحَدِيث الماضي.
قَالَ الحافظ المنذري رحمه الله تعالى: وَقَدْ قيل: إن الحسن لم يسمع منْ سمرة شيئا، وقيل: سمع منه حديثا فِي العقيقة. انتهى. وَقَالَ الحافظ فِي "التلخيص": حسنه الترمذيّ، وصححه أبو زرعة، وأبو حاتم، والحاكم فِي "المستدرك"، قَالَ الحافظ: وصحته متوقفة عَلَى ثبوت سماع الحسن منْ سمرة، فإن رجاله ثقات، لكن اختلف فيه عَلَى الحسن، ورواه الشافعيّ، وأحمد، والنسائي منْ طريق قتادة أيضا، عن الحسن، عن عقبة بن عامر، قَالَ الترمذيّ: الحسن عن سمرة فِي هَذَا أصح. وَقَالَ ابن المديني: لم يسمع الحسن منْ عقبة شيئا. وأخرجه ابن ماجه منْ طريق شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة أو عقبة بن عامر. انتهى "تحفة الأحوذي" 4/ 209.
والحاصل أن الْحَدِيث لم يثبت اتّصاله منْ وجه يصحّ، فتبصّر. والله تعالى أعلم بالصواب.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -96/ 4684 - وفي "الكبرى" 98/ 6278 و6279. وأخرجه (د) فِي "النكاح" 2088 (ت) فِي "النكاح" 1110 (ق) فِي "التجارات" 2190 (أحمد) فِي "مسند البصريين" 19581 و19609 و19628 و19694 (الدارمي) فِي "النكاح" 2097. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي العمل بهذا الْحَدِيث:
قَالَ الإِمام الترمذيّ رحمه الله تعالى فِي "جامعه" بعد تخريج الْحَدِيث: ما نصّه: والعمل عَلَى هَذَا، عند أهل العلم، لا نعلم بينهم فِي ذلك اختلافا، إذا زوج أحد الوليين قبل الآخر، فنكاح الأول جائز، ونكاح الآخر مفسوخ، وإذا زوجا جميعا، فنكاحهما جميعا مفسوخ، وهو قول الثوري، وأحمد، وإسحاق. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله الترمذيّ منْ أنه لا خلاف بين أهل العلم فِي هذه المسألة، أثبت غيره الخلاف فيه، فَقَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: إن كَانَ للمرأة وليان، فأذنت لكل واحد منهما فِي تزويجها جاز، سواء أذنت فِي رجل معين، أو مطلقا، فقالت: قد أذنت لكل واحد منْ أوليائي، فِي تزويجي منْ أراد، فإذا زوجها الوليان لرجلين، وعُلم السابق منهما فالنكاح له دخل بها الثاني، أو لم يدخل، وهذا قول الحسن، والزهري، وقتادة، وابن سيرين، والأوزاعي، والثوري، والشافعي، وأبي عبيد، وأصحاب الرأي، وبه قَالَ عطاء، ومالك، ما لم يدخل بها الثاني، فإن دخل بها الثاني، صار أولى؛ لقول عمر: إذا أنكح الوليان فالأول أحق، ما لم يدخل بها
الثاني، ولأن الثاني اتصل بعقده القبض، فكان أحق.
قَالَ: ولنا ما روى سمرة وعقبة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قَالَ:"أيما امرأة زوجها وليان، فهي للأول منهما"، أخرج حديث سمرة أبو داود، والترمذي، وأخرجه النسائيّ عنه، وعن عقبة، وروي نحو ذلك عن علي، وشريح، ولأن الثاني تزوج امرأة فِي عصمة زوج، فكان باطلا كما لو عَلِمَ أن لها زوجا، ولأنه نكاح باطل، لو عري عن الدخول، فكان باطلا، وإن دخل كنكاح المعتدة والمرتد، وكما لو علم، فأما حديث عمر رضي الله عنه فلم يصححه أصحاب الْحَدِيث، وَقَدْ خالفه قول علي رضي الله عنه، وجاء عَلَى خلاف حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم، وما ذكروه منْ القبض لا معنى له، فإن النكاح يصح بغير قبض، عَلَى أنه لا أصل له، فيقاس عليه، ثم يبطل بسائر الأنكحة الفاسدة. انتهى "المغني" 9/ 428 - 430.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث سمرة، وعقبة رضي الله تعالى عنهما أيضًا غير ثابت، كما سبق بيانه، فتنبّه.
والذي يترجّح عندي المذهب الأول، وهو ما دلّ عليه حديث الباب، وهو وإن لم يصحّ، لكنه مذهب جلّ أهل العلم، حَتَّى ادّعى الترمذيّ الإجماع عليه كما سبق بيانه، وإن لم يسلّم له ذلك، فتأمل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
97 - (الاسْتِقْرَاضُ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هو طلب القرض، قَالَ فِي "اللسان": القرضُ، والقِرض -أي بفتح القاف، وكسرها-: ما يَتَجَازى به النَّاس بينهم، ويتقاضَونه، وجمعُه قُرُوض، وهو ما أسلفته منْ إحسان، ومن إساءة، وهو عَلَى التشبيه، قَالَ أميّة بن أبي الصَّلْتِ [منْ البسيط]:
كُلُّ امْرِى سَوْفَ يُجْزَى قَرْضَهُ حَسَنًا
…
أَوْ سَيِّئًا أَوْ مَدِينًا مِثْلَ مَا دَانَا
وَقَالَ تعالى: {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} الآية. ويقال: أقرضتُ فلانًا، وهو ما تُعطيه لِيَقضيكه، قَالَ الجوهريّ: والقَرْضُ: ما يُعطيه منْ المال ليُقضاهُ، والقِرْضُ -بالكسر- لغةٌ فيه، حكاها الكسائيّ. وَقَالَ ثعلبٌ: القَرْض -بالفتح-: المصدر، والقِرض -بالكسر- الاسم. وَقَالَ ابن سِيدَه: لا يُعجبني. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.
4685 -
(حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: اسْتَقْرَضَ مِنِّي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَجَاءَهُ مَالٌ، فَدَفَعَهُ إِلَيَّ، وَقَالَ: "بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، إِنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ الْحَمْدُ وَالأَدَاءُ").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(عمرو بن عليّ) الفلّاس الصيرفيّ، أبو حفص البصريّ، ثقة ثبت [10] 4/ 4.
2 -
(عبد الرحمن) بن مهديّ بن حسّان العنبري مولاهم، أبو سعيد البصريّ الإِمام الثقة الثبت الحجة [9] 42/ 49.
3 -
(سفيان) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ الإِمام الحجة الثبت [7] 33/ 37.
4 -
(إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الله بن أبي ربيعة) هو إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزوميّ المدنيّ، ثقة
(1)
[6].
روى عن أبيه، ومحمد بن كعب الْقُرظيّ. وعنه الثوريّ، وفُضيل بن سليمان النُّميريّ، ووكيع، وغيرهم. قَالَ أبو حاتم: شيخ. وَقَالَ أبو داود: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات" فِي التابعين، ثم أعاده فِي أتباع التابعين، وَقَالَ: مات فِي آخر ولاية المهديّ سنة (169). تفرّد به المصنّف، وابن ماجه بحديث الباب فقط.
5 -
(أبوه) إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزوميّ المدنيّ، أمه أم كلثوم بنت أبي بكر الصّدّيق، مقبول [3].
روى عن جده عبد الله بن أبي ربيعة، وخالته عائشة، وأمه، وجابر. وعنه ابنه إسماعيل، وأبو حازم المدنيّ، والزهريّ، وغيرهم. ذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ ابن القطّان. لا يُعرف له حال. روى له البخاريّ، والمصنّف، وابن ماجه.
[تنبيه]: قد تقدّم الكلام فِي إبراهيم هَذَا فِي "كتاب النكاح" 8/ 3225 حيث ذكره المصنّف بلفظ "ابن عبد الله بن ربيعة"، وتقدّم بيان الاختلاف فيه، ورجّحت تبعًا للإمام محمد بن يحيى الذُّهْليّ أنه هو، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
6 -
(جدّه) هو عبد الله بن أبي ربيعة، واسمه عمرو بن المغيرة بن عبد الله بن عمر ابن مخزوم، المخزومي، أبو عبد الرحمن المكيّ، والد عمر الشاعر، له صحبة، كَانَ
(1)
قَالَ فِي "التقريب": مقبول، والظاهر أنه غلطٌ، فإنه لم يتكلّم فيه أحد، مع أنه روى عنه جماعة، ووثقه جماعة، فتنبّه.
اسمه بَحِيرًا، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، وولاه الْجَنَد
(1)
، ومخاليفها
(2)
، فلم يزل عليها حَتَّى قُتل عمر، وأقره عثمان، فجاء لينصره، فوقع عن راحلته، فمات قرب مكة، حديثه عند حفيده إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة، عن أبيه، عن جده: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، استسلف منه.
وحكى ابن عبد البرّ، عن بعض أهل النسب، أنه هو الذي استجار بأم هانىء، يوم الفتح، قَالَ: ويقولون: لم يرو عنه غير إبراهيم -يعني ابن ابنه- وَقَالَ البخاريّ: إبراهيم لا أدري سمع منه، أم لا. تفرّد به المصنّف، وابن ماجه بحديث الباب فقط. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير إسماعيل، وجده، فقد تفرّد بهما هو، وابن ماجه. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين منْ إسماعيل، وسفيان كوفيّ، وعمرو، وعبد الرحمن بصريان. (ومنها): أن فيه رواية الراوي عن أبيه، عن جدّه. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) بن عبد الرحمن (بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِيهِ) إبراهيم (عَنْ جَدِّهِ) أي جدّ إبراهيم، وهو عبد الله بن أبي ربيعة رضي الله عنه، أنه (قَالَ: اسْتَقْرَضَ مِنِّي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ أَلْفًا) أي طلب أن أعطيه قرضًا حَتَّى يردّ عليّ بدله (فَجَاءَهُ مَالٌ، فَدَفَعَهُ إِلَيَّ) هَذَا معطوف عَلَى محذوف، أي فأعطيته ما طلبه منّي، فجاءه بعد ذلك مال، فدفعه إليّ بدل قرضي (وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ) إنما دعا له مكافأة عَلَى إحسانه؛ لأن القرض إحسان يستحقّ المكافأة بالدعاء، كما أشار إليه بقوله (إِنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ) أي القرض (الْحَمْدُ) أي الثناء بجميل إحسانه (وَالْأَدَاءُ) أي أداء بدله منْ غير مماطلة، ولا تغليظ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
(1)
"الْجَنَدُ" -بفتحتين-: بلد باليمن. قاله فِي "المصباح المنير".
(2)
قَالَ فِي "المصباح": "الْمِخلاف" بكسر الميم بلغة اليمن: الْكُورة، والجمع المخاليف، واستُعمِلَ عَلَى مَخاليف الطائف: أي نواحيه. وقيل: فِي كل بلد مِخْلافٌ: أي ناحية. انتهى.
حديث عبد الله بن أبي ربيعة رضي الله عنه هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -97/ 4685 - وفي "الكبرى" 99/ 6280. (ق) فِي "الأحكام" 2424. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم الاستقراض، وهو الجواز. (ومنها): ما كَانَ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ الاهتمام بشأن صحابته، فإن هَذَا المبلغ الكثير إنما يقترضه ليُعين به أهل الفاقة، ويجهّز به فِي سبيل الله عز وجل، ونحو ذلك منْ وجوه الخير. (ومنها): استحباب الدعاء للمقرض ببركة أهله وماله، مكافأة عَلَى إحسانه. (ومنها): أن مما يتعيّن عَلَى المستقرض أن يقوم بالثناء عَلَى المقرض، ويشكره عَلَى معروفه، ويؤدّي إليه بدل قرضه، منْ غير مماطلة، ولا تطاول، ولا تثاقل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
98 - (التَّغْلِيظُ فِي الدَّيْنِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الدّين" بالفتح يحتمل أن يكون بمعناه المصدريّ: أي فِي الاستدانة، ويحتمل أن يكون بمعنى المال المأخوذ بأجل: أي فِي شأن الدين. قَالَ المجد فِي "القاموس": الدَّين: ماله أجل، كالدّينة بالكسر، وما لا أجل له، فقرض، والموت، وكلُّ ما ليس حاضرًا، جمعه أَدْيُنٌ، ودُيونٌ. انتهى. وَقَالَ الفيّومي: دان الرجل يَدين دَينًا، منْ المدينة. قَالَ ابن قُتيبة: لا يُستعمل إلا لازما فيمن يأخذ الدَّينَ. وَقَالَ ابن السِّكِّيت أيضًا: دان الرجلُ: إذا استقرض، فهو دائنٌ، وكذلك قَالَ ثَعْلَبٌ، ونقله الأزهريّ أيضًا، وعلى هَذَا، فلا يقال منه: مَدِينٌ، ولا مَدْيونٌ؛ لأن اسم المفعول إنما يكون منْ فعل متعدّ، وهذا لازمٌ، فإذا أردت التعدّي قلت: أدنته، وداينته، قاله أبو زيد الأنصاريّ، وابن السّكِّيت، وابن قُتيبة، وثَعْلبٌ، وَقَالَ جماعة: يُستعمل لازمًا ومتعدّيًا، فيقال: دِنتُهُ: إذا أقرضته، فهو مدِينٌ، ومديونٌ، واسم الفاعل دائنٌ، فيكون الدائن منْ يأخذ الدين عَلَى اللزوم، ومن يُعطيه عَلَى التعدّي. وَقَالَ ابن القطّاع أيضًا: دِنته:
أقرضته، ودِنته استقرضت منه. وقوله تعالى:{إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} الآية [البقرة: 282]: أي إذا تعاملتم بدين، منْ سَلَم، وغيره، فثبت بالآية، وبما تقدّم أن الدين لغةً: هو القرض، وثمن المبيع، فالصداق، ونحوه ليس بدين لغةً، بل شرعًا، عَلَى التشبيه؛ لثبوته، واستقراره فِي الذّمّة. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.
4686 -
(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ، عَنْ أَبِي كَثِيرٍ، مَوْلَى مُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ وَضَعَ رَاحَتَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: "سُبْحَانَ اللَّهِ، مَاذَا نُزِّلَ مِنَ التَّشْدِيدِ؟ "، فَسَكَتْنَا، وَفَزِعْنَا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ، سَأَلْتُهُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا التَّشْدِيدُ الَّذِي نُزِّلَ؟ فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ رَجُلاً قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ، ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، مَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(عليّ بن حُجر) السعديّ المروزيّ، ثقة حافظ، منْ صغار [9] 13/ 13.
2 -
(إسماعيل) بن جعفر بن أبي كثير الأنصاريّ الزرقيّ، أبو إسحاق القارىء المدنيّ ثقة ثبت [8] 16/ 17.
3 -
(العلاء) بن عبد الرحمن بن يعقوب الْحُرقيّ المدنيّ، صدوقٌ، ربّما وَهِمَ [5] 107/ 143.
4 -
(أبو كثير مولى محمد بن جحش) ويقال: مولى آل جحش، ويقال: مولى الليثيّين، مقبول [2].
حجازيّ، ويقال: له صحبة، ومنهم منْ ضبطه بالموحّدة، والتأنيث.
روى عن سعد بن أبي وقّاص، ومحمد بن عبد الله بن جحش. وعنه العلاء بن عبد الرحمن، ومحمد بن عَمرو بن علقمة، ومحمد بن أبي يحيى الأسلميّ، وصفوان بن سُليم. قَالَ العسكريّ: وُلد فِي حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم. تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.
[تنبيه]: قولي فِي أبي كثير هَذَا إنه مقبول هو الظاهر، وَقَالَ فِي "التقريب": ثقة، وفيه نظر لا يخفى؛ لأنه وإن روى عنه جماعة إلا أنه لم يوثقه أحد مع قلة روايته، كما سبق آنفًا فِي ترجمته فالأولى ما قلته، فَلْيُتَأَمَّلْ. والله تعالى أعلم.
5 -
(محمد بن جحش) محمد بن عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي، أمه فاطمة بنت أبي حبيش، مختلف فِي صحبته، روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عمتيه حمنة، وزينب، وعن عائشة، روى عنه ابنه إبراهيم، ومولاه أبو كثير، والمعلي بن عرفان، قَالَ البخاريّ فِي "التاريخ" قتل أبوه يوم أحد، ويقال: عن ابن إسحاق، حليف بني أمية، هاجر مع
أبيه، وعمه أبي أحمد، وَقَالَ فِي "الصحيح"، ويُرْوَى عن ابن عباس، وجرهد، ومحمد ابن جحش، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"الفخذ عورة".
وَقَالَ ابن حبان: سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ البخاريّ: له صحبة، وَقَالَ الزبير بن بكار: حدثنا أبو ضمرة، عن محمد بن أبي يحيى، حدثني أبو كثير، سمعت محمد بن عبد الله ابن جحش، وكانت له صحبة. وَقَالَ ابن عبد البرّ: هاجر مع أبيه وعمه إلى الحبشة، وكان مولده قبل الهجرة إلى المدينة، بخمس سنين قاله الواقدي.
علّق عنه البخاريّ، وأخرج له المصنّف، وابن ماجه، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير أبي كثير، فإنه منْ أفراد المصنّف، ومحمد بن جحش، فإنه تفرد به هو وابن ماجه، وعلّق عنه البخاريّ. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فإنه مروزيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ مُحَمَّدِ) بن عبد الله (بْنِ جَحْشٍ) الأسديّ رضي الله عنه، أنه (قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا) جمع جالس (عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَفَعَ) صلى الله عليه وسلم (رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ وَضَعَ رَاحَتَهُ) هو بطن الكفّ، جمعه رَاحٌ، وراحاتٌ (عَلَى جَبْهَتِهِ، ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (سُبْحَانَ اللَّهِ) تعجّبًا مما نزل (مَاذَا نُزِّلَ)"ما" استفهاميّة، و"نُزِّل" بتشديد الزاي، مبنيّا للمفعول، ويحتمل أن يكون بتخفيفها، مبنيّا للفاعل، والاستفهام للتعظيم، والتهويل (مِنَ التَّشْدِيدِ؟) بيان لـ"ما نُزِّلَ"(فَسَكَتْنَا) تأدّبًا معه صلى الله عليه وسلم، عملاً بقوله عز وجل:{لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [الحجرات: 1](وَفَزِعْنَا) بكسر الزاي، منْ باب تَعِب: أي خِفنا أن ينزل مكروه (فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ، سَأَلْتُهُ) صلى الله عليه وسلم، قائلاً (يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا التَّشْدِيدُ الَّذِي نُزِّلَ؟) بالضبطين السابقين (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) فيه إثبات اليد لله تعالى عَلَى ما يليق بجلاله (لَوْ أَنَّ رَجُلاً قُتِلَ) بالبناء للمفعول، وكذا الأفعال التي بعده (فِي سَبيلِ اللَّهِ) أي لإعلاء كلمة الله تعالى (ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ، ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ) جملة فِي محلّ نصب عَلَى الحال، منْ نائب الفاعل (مَا دَخَلَ) بالبناء للفاعل (الْجَنَّةَ، حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ) يحتمل أن يكون مبنيّا للفاعل، أي حَتَّى يقضي هو دينه بنفسه، بالقصاص الذي يقع فِي الآخرة، ويحتمل أن يكون مبنيّا للمفعول: أي حَتَّى يقضي أحد منْ ورثته، أو غيرهم دينه عنه،
وهذا لا ينافي أن يحصل له رضا خصمه عنه فِي الدنيا، أو فِي الآخرة؛ لأنه فِي معنى القضاء. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث محمد بن جحش رضي الله عنه حسنٌ منْ أجل أبي كثير، كما سبق فِي ترجمته، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -98/ 4686 - وفي "الكبرى" 100/ 6281. وأخرجه (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 21987. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان تغليظ الوعيد فِي الدين. (ومنها): ما كَانَ عليه الصحابة رضي الله عنهم منْ التأدّب معه صلى الله عليه وسلم، عملاً بتأديب الله سبحانه وتعالى لهم، بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [الحجرات: 1]. (ومنها): شدّة عناية الشارع بحقّ المؤمن، حيث شدّد الوعيد فيه، فينبغي للمسلم أن يتخلّص منْ هَذَا الخطر العظيم قبل أن يأتيه عذاب يوم أليم، وَقَدْ أخرج الإِمام مسلم رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" منْ طريق إسماعيل بن جعفر، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"أتدرون ما المفلس؟، قالوا: المفلس فينا، منْ لا درهم له، ولا متاع، فَقَالَ: "إن المفلس منْ أمتي يأتي يوم القيامة، بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هَذَا، وقذف هَذَا، وأكل مال هَذَا، وسفك دم هَذَا، وضرب هَذَا، فيُعطَى هَذَا منْ حسناته، وهذا منْ حسناته، فإن فَنِيَت حسناته، قبل أن يُقضَى ما عليه، أُخذ منْ خطاياهم، فطُرِحت عليه، ثم طرح فِي النار".
اللَّهم إن لك عليّ حقوقًا كثيرةً فيما بيني وبينك، وحقوقًا كثيرةً فيما بيني وبين خلقك، اللَّهمّ ما كَانَ لك منها، فاغفره لي، وما كَانَ منها لخلقك، فأرضهم عني بفضلك، وجودك، وكرمك، يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين، آمين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4687 -
(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ سَمْعَانَ، عَنْ سَمُرَةَ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فِي جَنَازَةٍ، فَقَالَ:"أَهَاهُنَا مِنْ بَنِي فُلَانٍ أَحَدٌ؟ "، ثَلَاثًا فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا مَنَعَكَ فِي الْمَرَّتَيْنِ الأُولَيَيْنِ، أَنْ لَا تَكُونَ أَجَبْتَنِي؟ أَمَا إِنِّي لَمْ أُنَوِّهْ بِكَ، إِلاَّ بِخَيْرٍ، إِنَّ فُلَانًا -لِرَجُلٍ
مِنْهُمْ مَاتَ- مَأْسُورًا بِدَيْنِهِ").
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(محمود بن غيلان) أبو أحمد المروزي، نزيل بغداد، ثقة [10] 33/ 37.
2 -
(عبد الرزاق) بن همام المذكور قبل باب.
3 -
(الثوري) سفيان بن سعيد المذكور فِي الباب الماضي.
4 -
(أبوه) سعيد بن مسروق بن حبيب الثوري الكوفيّ، ثقة [6] 153/ 1121.
5 -
(الشعبيّ) عامر بن شَرَاحيل الهمدني، أبو عمرو الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 66/ 82.
6 -
(سمعان) بن مُشَنَّج -بمعجمة، ونون ثقيلة، ثم جيم- وقيل: مُشَمْرَج، الْعَمْريّ، ويقال: العبديّ الكوفيّ، صدُوقٌ [3].
روى عن سمرة بن جندب، وعنه الشعبيّ. قَالَ البخاريّ: لا نعرف لسَمْعان سماعًا منْ سمُرة، ولا للشعبيّ سماعًا منه. وَقَالَ العجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات" وَقَالَ ابن ماكولا: ثقة، ليس له غير حديث واحد، رواه له أبو داود، والنسائيّ، وهو أن الميت مأسور بدينه. وَقَالَ الخطيب فِي "رافع الارتياب": وهم فيه الجَرّاح، أو وكيعٌ، فَقَالَ: المشنج بن سمعان. انتهى. تفردّ به المصنّف، وأبو داود بهذا الْحَدِيث فقط.
7 -
(سمرة) بن جندب بن هلال الفزاري، حليف الأنصار الصحابيّ المشهور، مات بالبصرة سنة (58) وتقدمت ترجمته فِي 25/ 393. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ سَمُرَةَ) بن جندب رضي الله عنه، أنه (قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي جِنَازَةٍ) أي فِي الصلاة عليها، أو تشييعها، أو فِي حال دفنها (فَقَالَ صلى الله عليه وسلم "أَهَاهُنَا مِنْ بَنِي فُلَانٍ أَحَدٌ؟) وعند أبي بكر بن أبي شيبة، منْ رواية عفّان، عن أبي عوانة، عن فراس، عن الشعبيّ، عن سمرة رضي الله عنه:"هل هاهنا أحدٌ منْ بني النجّار"(ثَلَاثًا) أي قالها ثلاث مرّات، وفي رواية أبي داود منْ طريق أبي الأحوص، عن سعيد بن مسروق:"خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "هاهنا أحد منْ بني فلان؟ "، فلم يجبه أحدٌ، ثم قَالَ: "هاهنا منْ بني فلان أحد؟ "، فلم يُجبه أحد، ثم قَالَ: "هاهنا أحد منْ بني فلان؟ " (فَقَامَ رَجُلٌ) زاد فِي رواية أبي داود المذكورة: "فَقَالَ: أنا يا رسول الله" (فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا مَنَعَكَ فِي الْمَرَّتَيْنِ الأُولَيَيْنِ، أَنْ لَا تَكُونَ أَجَبْتَنِي؟، أَمَا) بفتح الهمزة،
وتخفيف الميم: أداة استفتاح، مثل "ألا"(إِنَّي لَمْ أُنَوِّهْ بِكَ) و"أُنوّه" بضم أوله، وتشديد ثالثه، مضارع نوّه تنويهًا، قَالَ فِي "القاموس": نَوّهّهُ، وبه: دعاه، ورفعه. انتهى. فالمعنى هنا: لم أدعك، ولم أرفع بذكرك (إِلَّا بِخَيْرٍ) إلا بسبب أمر خير، وهو التنبيه عَلَى تخليص هَذَا الميت المأسور بالدين منْ أسره، بأداء دينه، وفي رواية أبي داود:"أما إني لم أنوّه بكم إلا خيرًا"(إِنَّ فُلَانًا، لِرَجُلٍ مِنْهُمْ مَاتَ) اللام فِي "لرجل" للبيان، و"مات" صفة لرجل، وهو معترض بين اسم "إن" وخبرها، وهو قوله (مَأْسُورٌ بِدَيْنِهِ) بالرفع، كما فِي النسخة "الهنديّة"، ووقع فِي النسخ المطبوعة، و"الكبرى":"مأسورًا" بالنصب، وله وجه، وهو أن يُجعل مفعولاً لفعل مقدّر، والجملة خبر "إنّ": أي رأيته مأسورًا. و"الأسر": فِي اللغة: الشَّدّ: أي إنه مشدود، ومحبوس بسبب دينه عن دخول الجنّة، أو الاستراحة بها، وأراد صلى الله عليه وسلم بذلك الحثّ عَلَى الاستعجال بأداء دينه، وَقَدْ حصل ذلك، فقد زاد فِي رواية أبي داود المذكورة: ما نصّه: "فقد رأيته أدّى عنه حَتَّى ما بقي أحدٌ يطلبه بشيء". وهذا منْ مقول سمرة رضي الله عنه، يقول: فلقد رأيت ذلك الرجل الذي خاطبه النبيّ صلى الله عليه وسلم بشأن ذلك الميت، منْ أسره بدينه، أدّى عنه جميع ديونه التي بسببها حُبس فِي قبره.
[تنبيه]: زاد فِي "الكبرى" 4/ 58: ما نصّه: وَقَدْ رواه غير واحد عن الشعبيّ، عن سمرة. وَقَدْ رُوي عن الشعبيّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلاً. ولا نعلم أحدًا قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيث عن "سمعان" غير سعيد بن مسروق. انتهى.
وزاد فِي "تحفة الأشراف" 4/ 78 - 79 - بعد هَذَا: ما نصّه: رواه وكيعٌ، عن سفيان، ولم يذكر فيه "سمعان". وَقَالَ فراس: عن الشعبيّ، عن سمرة: هل هاهنا أحد منْ بني النجّار؟. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث سمرة رضي الله عنه هَذَا صحيح، إن ثبت سماع سمعان منْ سمرة رضي الله عنه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -98/ 4687 وفي "الكبرى" 100/ 6282. (د) فِي "البيوع" 3341.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان التغليظ فِي شأن الدين.
(ومنها): ما كَانَ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ شدّة الاهتمام بشأن أمته. (ومنها): أن فيه علمًا منْ أعلام النبوّة، حيث إنه صلى الله عليه وسلم يُخبر بما وقع لأصحاب القبور، منْ العقاب، وغيره. (ومنها): استحباب تذكير الإِمام لأهل الميت بأن يهتمّوا بدينه أكثر منْ غيره؛ لأن فِي أداء دينه راحته، وفكّ أسره، فينبغي لهم أن يسارعوا إلى ذلك، وما أشدّ غفلة أكثر النَّاس عن هَذَا، فإن جلّ اهتمامهم إذا مات لهم ميّت غير هَذَا، بل لا تسمع أحدًا منهم إلا منْ شاء الله يهتمّ بهذا الأمر الخطير، بل يتحدّثون عن كيفيّة قسمة تركته، وعن التصدّق عنه، إن هَذَا لهو العجب العُجاب، فإنا لله، وإنا إليه راجعون. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
99 - (التَّسْهِيلُ فِيهِ)
4688 -
(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُذَيْفَةَ، قَالَ: كَانَتْ مَيْمُونَةُ تَدَّانُ، وَتُكْثِرُ، فَقَالَ لَهَا أَهْلُهَا فِي ذَلِكَ، وَلَامُوهَا، وَوَجَدُوا عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: لَا أَتْرُكُ الدَّيْنَ، وَقَدْ سَمِعْتُ خَلِيلِي، وَصَفِيِّي صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "مَا مِنْ أَحَدٍ يَدَّانُ دَيْنًا، فَعَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يُرِيدُ قَضَاءَهُ، إِلاَّ أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن قُدامة) بن أعين الهاشمي مولاهم المِصّيصيّ، ثقة [10] 137/ 214.
2 -
(جرير) بن عبد الحميد بن قرط الضبّيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة [8] 2/ 2.
3 -
(منصور) بن المعتمر، أبو عتاب الكوفيّ، ثقة ثبت [6] 2/ 2.
4 -
(زياد بن عمرو بن هِند) الْجَمَليّ، مقبول [4].
روى عن عمران بن حُذيفة. وعنه منصور بن المعتمر، ذكره ابن حبّان فِي "الثقات". تفرّد به المصنّف، وابن ماجه بحديث الباب فقط.
5 -
(عمران بن حُذيفة)، مقبول [3].
روى عن ميمونة، وعنه زياد بن عمرو الجمَليّ. ذكره مسلم فِي الطبقة الثانية منْ أهل الكوفة، وذكره ابن حبّان فِي ثقات التابعين، وأخرج حديثه فِي "صحيحه"، وكذا الحاكم. وَقَالَ الذهبيّ: لا يعرف. وَقَالَ فِي "تهذيب التهذيب": عمران بن حذيفة أحد المجاهيل. انتهى. تفرّد به المصنّف، وابن ماجه بحديث الباب فقط.
6 -
(مَيْمُونَةُ) بنت الحارث الهلاليّة، أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، تزوّجها النبيّ صلى الله عليه وسلم بسَرِف سنة سبع، وماتت بها، ودفنت هناك سنة (51) عَلَى الصحيح. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُذَيْفَةَ) أنه (قَالَ: كَانَتْ مَيْمُونَةُ) بنت الحارث، أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها (تَدَّانُ) بتشديد الدال، افتعال، منْ الدين، يقال: ادّان فلانٌ: إذا استقرض (وَتُكْثِرُ) بضمّ أوله، منْ الإكثار، أي كانت مكثرةً منْ الاستدانة، وذلك لتصل به رحمها، وتنفقه عَلَى المساكين، كما وصفتها بذلك عائشة رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج ابن سعد بسند صحيح، عن يزيد بن الأصمّ -وهو ابن أختها- قَالَ تلقّيت عائشة منْ مكة أنا، وابن لطلحة منْ أختها، وَقَدْ كنّا وقفنا عَلَى حائط منْ حيطان المدينة، فأصبنا منه، فبلغها ذلك، فأقبلت عَلَى ابن أختها تلومه، ثم أقبلت عليّ، فوعظتني موعظةً بليغةً، ثم قالت: أما علِمتَ أن الله ساقك، حيث جعلك منْ بيوت نبيّه صلى الله عليه وسلم، ذهبت والله ميمونة، ورمي بحبلك عَلَى غاربك، أما إنها كانت منْ أتقانا لله، وأوصلنا للرحم. ذكره فِي "الإصابة" 13/ 140.
(فَقَالَ لَهَا أهْلُهَا فِي ذَلِكَ) أي كلّموها فِي أن لا تُكثر منْ الدين (وَلَامُوهَا) أي عابوها (وَوَجَدُوا عَلَيْهَا) أي غضبوا عليها منْ أجل إكثارها الاستدانة، وفي الرواية التالية:"فقيل لها: يا أمّ المؤمنين، تستدينين، وليس عندك وفاء؟ "(فَقَالَتْ: لَا أَتْرُكُ الدَّيْنَ) أي الاستدانة، فالدين هنا عَلَى معناه المصدريّ (وَقَدْ سَمِعْتُ خَلِيلِي، وَصَفِيِّي، صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "مَا مِنْ أَحَدٍ يَدَّانُ دَيْنًا) أي يستقرض، يقال: ادّان، واستدان، وأدان: إذا استقرض، وأخذ بدين، فادّان: افتعل، ومنه قول عمر رضي الله عنه:"فادّان مُعرِضًا": أي استدان، وهو الذي يَعترض النَّاس، ويستدين ممن أمكنه. ومنه قوله الآخر عن أُسيفع جُهينة، كما تقدّم:"فادّان مُعرِضًا": أي استدان معرضًا عن الوفاء. قاله فِي "اللسان"(فَعَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يُرِيدُ قَضَاءَهُ) أي قضاء ذلك الدين (إِلَّا أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا) يعني أنه سبحانه وتعالى يسهّل له، ويُيسّر عليه أسباب قضائه، فيتخلّص منْ المؤاخذة به.
وَقَالَ الإِمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه": "باب منْ أخذ أموال النَّاس يُريد أداءها، أو إتلافها".
ثم أخرج حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"منْ أخذ أموال النَّاس يُريد أداءها، أدّى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله".
فَقَالَ فِي "الفتح" 5/ 332 - 333: قوله: "باب منْ أخذ أموال النَّاس، يريد أداءها، أو إتلافها": حذف الجواب؛ اغتناءً بما وقع فِي الْحَدِيث، قَالَ ابن المنير: هذه الترجمة تشعر، بأن التي قبلها مُقَيَّدةٌ بالعلم بالقدرة عَلَى الوفاء، قَالَ: لأنه إذا عَلِمَ منْ نفسه العجز، فقد أخذ لا يريد الوفاء، إلا بطريق التمني، والتمني خلاف الإرادة.
قَالَ الحافظ: وفيه نظر؛ لأنه إذا نَوَى الوفاء، مما سيفتحه الله عليه، فقد نطق الْحَدِيث بأن الله يؤدي عنه، إما بأن يفتح عليه فِي الدنيا، وإما بأن يتكفل عنه فِي الآخرة، فلم يتعين التقييد بالقدرة فِي الْحَدِيث، ولو سُلِّم ما قَالَ، فهناك مرتبة ثالثة، وهو أن لا يعلم، هل يقدر، أو يعجز. انتهى.
وَقَالَ عند شرح قوله: "أدّى الله عنه": وظاهره يحل المسألة المشهورة، فيمن مات قبل الوفاء، بغير تقصير منه، كأن يعسر مثلا، أو يفجأه الموت، وله مال مخبوء، وكانت نيته وفاء دينه، ولم يوف عنه فِي الدنيا، ويمكن حمل الْحَدِيث عَلَى الغالب، والظاهر أنه لا تبعة عليه، والحالة هذه فِي الآخرة، بحيث يؤخذ منْ حسناته لصاحب الدين، بل يتكفل الله عنه لصاحب الدين، كما دل عليه حديث الباب، وإن خالف فِي ذلك ابن عبد السلام.
وقوله: "أتلفه الله": ظاهره أن الإتلاف يقع له فِي الدنيا، وذلك فِي معاشه، أو فِي نفسه، وهو علم منْ أعلام النبوة؛ لما نراه بالمشاهدة، ممن يتعاطى شيئا منْ الأمرين. وقيل: المراد بالإتلاف عذاب الآخرة. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث ميمونة رضي الله تعالى عنها هَذَا صحيح.
[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه زياد بن عمرو، وعمران بن حذيفة، وهما مجهولان؟.
[قلت]: إنما صحّ لأن له طرقًا، فقد رواه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة فِي السند التالي، قَالَ الشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى فِي "الصحيحة" 3/ 26 رقم 1029 بعد أن
ذكره برواية المصنّف الآتية: ما حاصله: وأخرجه أبو نعيم فِي "أخبار أصبهان" 2/ 238 منْ طريق عبد الله أبي بكر الْعَتَليّ، ثنا جرير بن حازم به، وهو إسناد صحيح عَلَى شرط الشيخين، إذا كَانَ عبيد الله بن عبد الله سمعه منْ ميمونة، فإن المعروف أنه يروي عنها بواسطة عبد الله بن عبّاس. وله طريق آخر فِي "المسند" 6/ 332 ورجاله ثقات، إلا أن فيه انقطاعًا بين سالم بن أبي الجعد، وميمونة، وبالجملة فالحديث صحيح بمجموع طرقه. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وأيضًا يشهد له حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور آنفًا عن "صحيح البخاريّ". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -99/ 4688 و4689 - وفي "الكبرى" 101/ 6285 و6286. وأخرجه (ق) فِي "الأحكام" 2408.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده، وفوائد حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا؛ لأنه بمعناه:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان التسهيل فِي الاستدانة لمن كانت نيّته صالحة، وذلك أن يريد عند أخذه الدين أنه يردّه إلى صاحبه إذا طلبه منه، دون مماطلة، ولا مغاضبة. (ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله تعال: فيه الحض عَلَى ترك استئكال أموال النَّاس، والترغيب فِي حسن التأدية إليهم عند المداينة، وأن الجزاء قد يكون منْ جنس العمل. (ومنها): ما قاله الداودي رحمه الله تعالى: فيه أن منْ عليه دين لا يُعتِق، ولا يتصدق، وإن فعل رُدّ انتهى. وتعقّبه الحافظ: فَقَالَ: فِي أخذ هَذَا منْ هَذَا بُعد كثير. (ومنها): أن فيه الترغيب فِي تحسين النية، والترهيب منْ ضد ذلك، وأن مدار الأعمال عليها. (ومنها): أن فيه الترغيب فِي الدين لمن ينوي الوفاء، وَقَدْ أخذ بذلك عبد الله بن جعفر، فيما رواه ابن ماجه والحاكم، منْ رواية محمد بن علي عنه: أنه كَانَ يَستدين، فسئل؟ فَقَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:"إن الله مع الدائن حَتَّى يقضي دينه"، قَالَ الحافظ: إسناده حسن، لكن اختلف فيه عَلَى محمد بن علي، فرواه الحاكم أيضا منْ طريق القاسم بن الفضل عنه، عن عائشة، بلفظ:"ما منْ عبد كانت له نية، فِي وفاء دينه، إلا كَانَ له منْ الله عون"، قالت: فأنا ألتمس ذلك العون، وساق له شاهدا منْ وجه آخر، عن القاسم عن عائشة. (ومنها): أن منْ اشترى شيئا بدين، وتصرف فيه، وأظهر أنه قادر عَلَى الوفاء، ثم تبين الأمر بخلافه، أن البيع لا يُرَدّ، بل يُنتظر به حلول الأجل؛ لاقتصاره صلى الله عليه وسلم عَلَى الدعاء عليه، ولم يُلزِمه برد البيع. قاله ابن المنير. ذكره فِي "الفتح" 5/ 333.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وفي استنباط ابن المنيّر المذكور بُعدٌ لا يخفى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4689 -
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، اسْتَدَانَتْ، فَقِيلَ لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، تَسْتَدِينِينَ، وَلَيْسَ عِنْدَكِ وَفَاءٌ؟ قَالَتْ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "مَنْ أَخَذَ دَيْنًا، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ، أَعَانَهُ اللَّهُ عز وجل").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير مرّة.
و"والد وهب": هو جرير بن حازم. والسند مسلسل بالبصريين إلى جرير، والأعمش، وحصين كوفيّان، والباقيان مدنيّان، وفيه ثلاثة منْ التابعين يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن حُصين، عن عبيد الله.
والحديث صحيح، وَقَدْ سبق شرحه، وبيان مسائله فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
100 - (مَطْلُ الْغَنِيِّ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الْمَطْلُ" بفتح الميم، وسكون الطاء المهملة: أي تسويفه بوعد الوفاء، يقال: مَطَلَهُ بدينه مَطْلاً، منْ باب نصر: إذا سوّفه بوعد الوفاء مرّةً بعد أخرى، وماطله مِطالاً، منْ باب قاتل، والفاعل منْ الثلاثيّ ماطلٌ، ومَطُولٌ مبالغة، كمطّال، ومن الرباعيّ مماطلٌ. وأصل "المطل": المدّ، يقال: مَطَلْت الحديدَ مَطْلاً: مددتها، وطوّلتها، وكلّ ممدود ممطول. والله تعالى أعلم بالصواب.
4690 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ، وَالظُّلْمُ مَطْلُ الْغَنِيِّ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(قتيبة بن سعيد) المذكور قريبًا.
2 -
(سفيان) بن عيينة الإِمام الحجة الثبت [8] 1/ 1.
3 -
(عبد الله بن ذكوان) أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقة فقيه [5] 7/ 7.
4 -
(الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز، أبو داود المدنيّ، ثقة ثبت [3] 7/ 7.
5 -
(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ، وسفيان، فمكيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه منْ المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، قَالَ فِي "الفتح": قد رواه همام، عن أبي هريرة، ورواه ابن عمر، وجابر، مع أبي هريرة رضي الله عنهم (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "إِذَا أُتْبعَ) بضم، فسكون، فكسر مخففًا: أي أُحيل (أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ) بالهمز، ككريم، أو هو كغنيّ لفظًا ومعنًى، والأول هو الأصل، لكن قد اشتهر الثاني عَلَى الألسنة (فَلْيَتْبَعْ) بإسكان الفوقيّة عَلَى المشهور، منْ تَبعَ: أي فليقبل الحوالة. وقيل: بتشديدها. قاله السنديّ.
وَقَالَ فِي "الفتح" 5/ 230 - : المشهور فِي الرواية واللغة، كما قَالَ النوويّ، إسكان المثناة فِي "أُتْبعَ"، وفي "فَلْيَتْبَعْ"، وهو عَلَى البناء للمجهول، مثل إذا أُعلِم فليَعْلَم، تقول: تَبِعت الرجل بحقي أتبعه تِبَاعًا، بالفتح: إذا طلبته.
وَقَالَ القرطبيّ: أما "أُتْبع": فبضم الهمزة، وسكون التاء، مبنيا لما لم يُسَمَّ فاعله، عند الجميع، وأما "فليتبع": فالأكثر عَلَى التخفيف، وقيده بعضهم بالتشديد، والأول أجود. انتهى.
قَالَ الحافظ: وما ادّعاه منْ الاتفاق عَلَى "أُتْبعَ" يرده قول الخطّابيّ: إن أكثر المحدثين يقولونه بتشديد التاء، والصواب التخفيف.
ومعنى قوله: أتبع، فليتبع: أي أُحيل فَلْيَحتَل، وَقَدْ رواه بهذا اللفظ أحمد، عن وكيع، عن سفيان الثوري، عن أبي الزناد، وأخرج البيهقي مثله، منْ طريق يعلى بن
منصور، عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، وأشار إلى تفرد يعلى بذلك، ولم يتفرد به كما تراه. ورواه ابن ماجه، منْ حديث ابن عمر، بلفظ:"فإذا أحلت عَلَى مليء فاتبعه"، وهذا بتشديد التاء، بلا خلاف.
والمليء بالهمز: مأخوذ منْ الْمَلاء، يقال: مَلُؤ الرجل، بضم اللام: أي صار مَلِيا، وَقَالَ الكرماني: الْمَليّ، كالغنيّ لفظا ومعنى، فاقتضى أنه بغير همز، وليس كذلك، فقد قَالَ الخطّابيّ: إنه فِي الأصل بالهمز، ومن رواه بتركها، فقد سهله.
وَقَالَ فِي "المغني" -7/ 62 - 63: ما حاصله: المليء هو القادر عَلَى الوفاء، غير الجاحد، ولا المماطل، جاء فِي الْحَدِيث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قَالَ:"إن الله تعالى يقول، منْ يُقرض المليء، غير الْمُعْدِمِ"، رواه مسلم
(1)
، وَقَالَ الشاعر [منْ الطويل]:
تُطِيلِينَ لَيَّانِي وَأَنْتِ مَلِيئَةٌ
…
وَأُحْسِنُ يَا ذَاتَ الْوِشَاحِ التَّقَاضِيَا
يعني قادرة عَلَى وفائي. وَقَالَ أحمد فِي تفسير المليء: كأن المليء عنده أن يكون مليا بماله، وقوله، وبدنه، ونحو هَذَا. انتهى.
(وَالظُّلْمُ مَطْلُ الْغَنِيِّ) جملة منْ مبتدإ وخبره: أي إن مطل الغنيّ منْ الظلم، وأطلق ذلك للمبالغة فِي التنفير عن المطل. والمشهور فِي الرواية:"مطلُ الغنيّ ظلم"، وَقَدْ رواه الجوزقي منْ طريق همام، عن أبي هريرة، بلفظ:"إن منْ الظلم مَطْلَ الغني"، وهو يفسر رواية المصنّف.
وأصل المطل: المدّ، قَالَ ابن فارس: مَطَلتُ الحديدةَ أَمطلُها مَطْلاً: إذا مددتها؛ لتطول، وَقَالَ الأزهري: المطل: المدافعة.
والمراد بالمطل هنا: تأخير ما استُحِق أداؤه بغير عذر، والغنيُّ مختلف فِي تفسيره، ولكن المراد به هنا مَن قَدَر عَلَى الأداء، فأخّره، ولو قَالَ فقيرا، كما سيأتي البحث فيه، وهل يَتَّصِف بالمطل، منْ ليس القدر الذي استُحق عليه حاضرا عنده، لكنه قادر عَلَى تحصيله بالتكسب مثلا؟ أطلق أكثر الشافعيّة عدم الوجوب، وصرح بعضهم بالوجوب مطلقا، وفَصَّل آخرون بين أن يكون أصل الدين، وجب بسبب يعصي به، فيجب، وإلا فلا.
وقوله: "مطلُ الغني": هو منْ إضافة المصدر للفاعل عند الجمهور، والمعنى أنه يحرم عَلَى الغني القادر أن يمطل بالدين، بعد استحقاقه، بخلاف العاجز. وقيل: هو منْ إضافة المصدر للمفعول، والمعنى: أنه يجب وفاء الدين، ولو كَانَ مستحقه غنيا،
(1)
لفظ مسلم: "منْ يقرض غير عدوم، ولا ظلوم"، وفي لفظ:"منْ يقرض غير ظلوم، ولا عدوم".
ولا يكون غناه سببا لتأخير حقه عنه، وإذا كَانَ كذلك فِي حق الغني، فهو فِي حق الفقير أولي، قَالَ الحافظ: ولا يخفى بعد هَذَا التأويل.
[تنبيه]: رواية المصنّف هنا هكذا بلفظ: "إذا أتبع أحدكم عَلَى مليء فليتبع، والظلم مطل الغنيّ"، بتقديم جملة الاتباع، وفي الرواية الآتية فِي الباب التالي، منْ طريق مالك، عن أبي الزناد، بلفظ:"مطلُ الغنيّ ظلم، وإذا أُتبع أحدكم عَلَى مليء فليتبع" بتقديم جملة المطل، وعطف الجملة الثانية بالواو، وهكذا هو عند البخاريّ، إلا أن العطف عنده بالفاء.
قَالَ الحافظ: ادّعى الرافعي أن الأشهر فِي الروايات: "وإذا أتبع" -يعني بالواو- وأنهما جملتان، لا تعلق لإحداهما بالأخرى، وزعم بعض المتأخرين أنه لم يرد إلا بالواو، وغفل عما فِي "صحيح البخاريّ"، فإنه بالفاء فِي جميع الروايات، وهو كالتوطئة، والعلة لقبول الحوالة: أي إذا كَانَ المطل ظلما، فليقبل منْ يُحتال بدَينه عليه، فإن المؤمن منْ شأنه أن يحترز عن الظلم، فلا يمطل، نعم رواه مسلم بالواو، وكذا البخاريّ فِي الباب الذي بعده، لكن قَالَ:"ومن أتبع". ومناسبة الجملة للتي قبلها، أنه لما دَلّ عَلَى أن مطل الغني ظلم، عَقَّبَه بأنه ينبغي قبول الحوالة عَلَى المليء؛ لما فِي قبولها منْ دفع الظلم الحاصل بالمطل، فإنه قد تكون مطالبة المحال عليه سهلة عَلَى المحتال، دون المحيل، ففي قبول الحوالة إعانة عَلَى كفّه عن الظلم. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هَذَا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -100/ 4690 و101/ 4693 - وفي "الكبرى" 102/ 6287 و103/ 6290. وأخرجه (خ) فِي "الحوالة" 2287 و2288 و"الاستقراض" 2400 (م) فِي "البيوع" 1564 (د) فِي "البيوع" 3345 (ت) فِي "البيوع" 1308 (ق) فِي "الأحكام" 2403 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 7291 و27778 و7488 و27392 (الموطأ) فِي "البيوع" 1379. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم مَطْلِ الغنيّ، وهو التحريم.
(ومنها): أن فيه الزجرَ عن المطل، واختُلِف هل يُعَدُّ فعله عمدا كبيرة، أم لا؟، فالجمهور عَلَى أن فاعله يَفسُقُ، لكن هل يثبت فسقه بمطلة مرة واحدة، أم لا؟ قَالَ النوويّ: مقتضى مذهبنا اشتراط التكرار، ورده السبكي فِي "شرح المنهاج" بأن مقتضى مذهبنا عدمه. واستَدلَّ بأن منع الحق بعد طلبه، وابتغاء العذر عن أدائه، كالغصب، والغصب كبيرة، وتسميته ظلما يُشعر بكونه كبيرة، والكبيرة لا يشترط فيها التكرر، نعم لا يحكم عليه بذلك، إلا بعد أن يظهر عدم عذره. انتهى.
واختلفوا هل يفسق بالتأخير، مع القدرة قبل الطلب، أم لا؟، فالذي يُشعر به حديث الباب التوقف عَلَى الطلب؛ لأن المطل يُشعر به، ويدخل فِي المطل كُلُّ منْ لزمه حقّ، كالزوج لزوجته، والسيد لعبده، والحاكم لرعيته، وبالعكس.
(ومنها): أنه استُدِلّ به عَلَى أن العاجز عن الأداء، لا يدخل فِي الظلم، وهو بطريق المفهوم؛ لأن تعليق الحكم بصفة منْ صفات الذات، يدل عَلَى نفى الحكم عن الذات، عند انتفاء تلك الصفة، ومن لم يقل بالمفهوم، أجاب بأن العاجز لا يسمى ماطلا. (ومنها): أن الغني الذي ماله غائب عنه، لا يدخل فِي الظلم، وهل هو مخصوص منْ عموم الغني، أو ليس هو فِي الحكم بغنيّ؟ الأظهر الثاني؛ لأنه فِي تلك الحالة يجوز إعطاؤه منْ سهم الفقراء، منْ الزكاة، فلو كَانَ فِي الحكم غنيا، لم يجز ذلك.
(ومنها): أنه استُنبط منه أن المعسر لا يحبس، ولا يطالب حَتَّى يوسر، قَالَ الشافعيّ: لو جازت مؤاخذته، لكان ظالما، والفرض أنه ليس بظالم؛ لعجزه، وَقَالَ بعض العلماء: له أن يحبسه، وَقَالَ آخرون: له أن يلازمه.
(ومنها): أنه استُدلّ به عَلَى أن الحوالة إذا صحت، ثم تعذر القبض بحدوث حادث، كموت، أو فَلَس، لم يكن للمحتال الرجوع عَلَى المحيل؛ لأنه لو كَانَ له الرجوع، لم يكن لاشتراط الغنى فائدة، فلما شُرطت عُلم أنه انتقل انتقالا، لا رجوع له، كما لو عَوّضه عن دينه بعوض، ثم تلف العوض فِي يد صاحب الدين، فليس له رجوع. وَقَالَ الحنفية: يرجع عند التعذر، وشبهوه بالضمان.
(ومنها): أنه استُدلَ به عَلَى ملازمة المماطل، وإلزامه بدفع الدين، والتوصل إليه بكل طريق، وأخذه منه قهرا. (ومنها): أنه استدل به عَلَى اعتبار رضى المحيل والمحتال دون المحال عليه؛ لكونه لم يُذكر فِي الْحَدِيث، وبه قَالَ الجمهور، وعن الحنفية: يشترط أيضا، وبه قَالَ الإصطخري منْ الشافعيّة. (ومنها): أن فيه الإرشادَ إلى ترك الأسباب القاطعة لاجتماع القلوب؛ لأنه زَجَرَ عن المماطلة، وهي تؤدى إلى ذلك. ذكره فِي "الفتح" 5/ 230 - 231.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: سيأتي تمام البحث فِي مسألة الحوالة فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4691 -
(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ وَبْرِ بْنِ أَبِي دُلَيْلَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ، وَعُقُوبَتَهُ").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن آدم) الْجُهنيّ المصِّيصيّ، صدوقٌ [10] 93/ 115.
2 -
(ابن المبارك) عبد الله الإِمام الحجة الثبت المشهور [8] 32/ 36.
3 -
(وَبْرُ بن أبي دُليلة) -"وَبْرَة"- بفتح أوله، وسكون الموحّدة، بعدها راء -وابن أبي دُليلَة- بالتصغير، واسمه مسلم الطائفيّ، ثقة [7].
روى عن محمد بن عبد الله بن ميمون بن مُسيكة، وعليّ بن عبد الله البارقيّ، وسُلَيم أبي عبيد الله المكيّ، مولى أم عليّ. وعنه الثوريّ، وابن المبارك، ووكيع، وسعد بن الصلت، وأبو مالك النخعيّ، وأبو عاصم. قَالَ إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وذكر الطبرانيّ أن النعمان بن عبد السلام روى حديثه عن الثوريّ بفتح دال دليلة، والصواب ضمّها. روى له أبو داود، والمصنّف، وابن ماجه، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط، وأعاده بعده.
4 -
(محمد بن ميمون) محمد بن عبد الله بن ميمون بن مُسيكة -بمهملة، مصغّرًا- الطائفيّ، نُسب لجدّه، مقبول [6].
روى عن عمرو بن الشَّرِيد، ويعقوب بن عاصم الثقفيين، وعنه وَبْرُ بن أبي دُليلة الطائفيّ، وأثنى عليه خيرًا، كما يأتي للمصنّف فِي السند التالي. وَقَالَ أبو حاتم: روى عنه الطائفيّون. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ ابن المدينيّ: مجهول، لم يرو عنه غير وَبْر. وَقَالَ الذهبيّ: ما روى عنه غير وَبْر. روى له المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه هَذَا الْحَدِيث فقط. ووقع ذكره فِي سند حديث علّقه البخاريّ فِي "كتاب القرض".
5 -
(عَمْرُو بْنُ الشَّرِيدِ) -بفتح الشين المعجمة- الثقفيّ، أبو الوليد الطائفيّ، ثقة [3] تقدم فِي 19/ 4184.
6 -
(أبوه) الشريد -بوزن الطَّويل- ابن سُويد، مصغّرًا- الثقفيّ الصحابيّ رضي الله عنه ،
شهد بيعة الرضوان، قيل: كَانَ اسمه مالكًا، تقدّم فِي 8/ 3680. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أنه مسلسل بالطائفيين، غير شيخه، فمصّيصيّ. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ) بفتح الشين المعجمة- الثقفيّ (عَنْ أَبِيهِ) الشريد رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيُّ الْوَاجِدِ) بفتح اللام، وتشديد الياء: أي مطله، يقال: لواه بدينه يَلْويه لَيّا، منْ باب رمَى، ولَيّانًا: إذا مَطَلَه. وأصل لَيٍّ، ولَيّانٍ: لَيِّ، ولَوْيَانٌ، فأُدغمت الواو فِي الياء، كما قَالَ فِي "الخلاصة":
إِنْ يَسْكُنِ السَّابِقُ مِنْ وَاوٍ وَيَا
…
وَاتَّصَلَا وَمِنْ عُرُوضٍ عَرِيَا
فَيَاءً الْوَاوَ اقْلِبَنَّ مُدْغِمَا
…
وَشَذَّ مُعْطَى غَيْرَ مَا قَدْ رُسِمَا
و"الواجد": -بالجيم-: الموسر (يُحِلُّ) بضمّ أوله، منْ الإحلال: أي يُبيح للدائن (عِرْضَهُ، وَعُقُوبَتَهُ") بالنصب فيهما عَلَى المفعوليّة، و"العِرْض": -بكسر، فسكون-: هو جانب الرجل الذي يصونه منْ نفسه، وحَسَبه أن يُنتَقَصَ، ويُثْلَبَ، أو سَوَاءٌ كَانَ فِي نفسه، أو سَلَفه، أو منْ يلزمه أمره، أو موضع المدح والذّمّ منه، أو ما يَفْتخِر به منْ حسَب وشَرَف، وَقَدْ يُراد به الآباء، والأجداد. قاله المجد فِي "القاموس".
والمعنى: أنه إذا مطل الغني عن قضاء دينه يحلّ للدائن أن يُغلّظ القول عليه، ويُشدّد فِي هتك عرضه، وحرمته، وكذا للقاضي أن يغلّظ عليه، ويحبسه تأديبًا له؛ لأنه ظالم، والظلم حرام، وإن قلّ. أفاده فِي "عون المعبود" 10/ 56.
وَقَالَ أبو داود: قَالَ ابن المبارك: "يُحلّ عِرضه" يُغَلَّظ له، و"عقوبته" يُحبس له. انتهى. وَقَالَ النوويّ: قَالَ العلماء: يحلّ عرضه بأن يقول: ظلمني، مطلني، و"عُقُوبته" الحبس، والتعزير. انتهى. وَقَالَ ابن منظور: أي لصاحب الدين أن يذُمّ عرضه، ويَصِفه بسوء القضاء؛ لأنه ظالم له بعدما كَانَ محرّمًا منه، لا يحلّ له اقتراضه، والطعن عليه. وقيل: عِرضه أن يُغْلِظَ له، وعُقُوبته: الحبس. وقيل: معناه: أنه يحلّ له شكايته منه. وقيل: معناه أن يقول: يا ظالم أنصِفني؛ لأنه إذا مَطَله، وهو غنيّ، فقد ظلمه. انتهى "لسان العرب" 7/ 171. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث الشريد بن سُويد رضي الله عنه هَذَا حسنٌ منْ أجل محمد بن ميمون، فإنه لم يرو عنه غير وَبْرٍ، وَقَدْ أثني عليه خيرًا، ووثقه ابن حبّان، فهو حسن الْحَدِيث. والله تعالي أعلم بالصواب.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -100/ 4691 و4692 - وفي "الكبرى" 102/ 6288 و6289. وأخرجه (ت) فِي "الأقضية" 3628 (ق) فِي "الأحكام" 2427 (أحمد) فِي "مسند الكوفيين" 18962. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم مطل الموسر فِي أداء دينه، وهو التحريم. (ومنها): أن الظلم يُحلّ هتك عِرض الظالم، الذي كَانَ محرّما بنصّ الْحَدِيث المتّفق عليه فِي قوله صلى الله عليه وسلم:"فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، عليكم حرام، كحرمة يومكم هَذَا، فِي بلدكم هَذَا، فِي شهركم هَذَا" الْحَدِيث. (ومنها): ما قاله الخطّابي: فيه دليلٌ عَلَى أن المعسر لا حبس عليه؛ لأنه أباح له حبسه إذا كَانَ واجدًا، والْمُعْدِم غير واجد، فلا حبس عليه، وَقَدْ اختلف النَّاس فِي هَذَا، فكان شُريحٌ يرى حبس المليء والْمُعدِم، وإلى هَذَا ذهب أصحاب الرأي. وَقَالَ مالك: لا حبس عَلَى معسر، إنما حظّه الإنظار. ومذهب الشافعيّ أن منْ كَانَ ظاهر حاله الإعسار، فلا يُحبس، ومن كَانَ ظاهره اليسار حُبس، إذا امتنع منْ أداء الحقّ. انتهى "معالم السنن" 5/ 236 - 237.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: سيأتي تحقيق هَذَا الخلاف فِي المسألة التالية، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم، فِي حبس المعسر بدينه:
قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: منْ وجب عليه دين حالّ، فطولب به، ولم يؤده، نظر الحاكم، فإن كَانَ فِي يده مال ظاهر، أمره بالقضاء، فإن ذكر أنه لغيره، فسيأتي حكمه فِي المسألة التالية، وإن لم يجد له مالا ظاهرا، فادعى الإعسار فصدقه غريمه، لم يحبس، ووجب إنظاره، ولم تجز ملازمته؛ لقول الله تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، ولقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لغرماء الذي كثر دينه:"خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك"، أخرجه مسلم، ولأن الحبس: إما أن يكون لإثبات عسرته، أو لقضاء دينه، وعسرته ثابتة، والقضاء متعذر، فلا فائدة فِي الحبس، وإن
كَذَّبه غريمه فلا يخلو: إما أن يكون عُرف له مال، أو لم يُعرف، فإن عرف له مال، لكون الدين ثبت عن معاوضة، كالقرض، والبيع، أو عُرف له أصل مال سوى هَذَا، فالقول قول غريمه مع يمينه، فإذا حلف أنه ذو مال حبس، حَتَّى تشهد البينة بإعساره.
قَالَ ابن المنذر: أكثر منْ نحفظ عنه منْ علماء الأمصار، وقضاتهم، يرون الحبس فِي الدين، منهم: مالك، والشافعي، وأبو عبيد، والنعمان، وسَوّار، وعبيد الله بن الحسن، وروي عن شريح، والشعبي، وكان عمر بن عبد العزيز، يقول: يُقسَم ماله بين الغرماء، ولا يحبس، وبه قَالَ عبد الله بن جعفر، والليث بن سعد.
وحجة الأولين: أن الظاهر قول الغريم، فكان القول قولَهُ كسائر الدعاوى. انتهى "المغني" 6/ 585 - 586.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الأولون هو الأرجح؛ لوضوح أدلّته، كما مرّ بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي ملازمة الدائن لمدينه المعسر:
قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: متى ثبت إعساره عند الحاكم، لم يكن لأحد مطالبته، وملازمته، وبهذا قَالَ الشافعيّ، وَقَالَ أبو حنيفة: لغرمائه ملازمته، منْ غير أن يمنعوه منْ الكسب، فإذا رجع إلى بيته، فأذن لهم فِي الدخول دخلوا معه، وإلا منعوه منْ الدخول؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لصاحب الحق اليد واللسان"
(1)
.
قَالَ: ولنا إن منْ ليس لصاحب الحق مطالبته، لم يكن له ملازمته، كما لو كَانَ دينه مؤجلاً، وقول الله تعالى:{فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} الآية [البقرة: 280]، ومن وجب إنظاره حرمت ملازمته، كمن دينه مؤجل، والحديث فيه مقال، قاله ابن المنذر.
ثم عَلَى تقدير صحته نحمله عَلَى الموسر، بدليل ما ذكرنا، فقد ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ لغرماء الذي أصيب فِي ثمار ابتاعها، فكثر دينه:"خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك"، رواه مسلم، وغيره.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: القول الأول هو الأرجح عندي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيث المذكور: "وليس لكم إلا ذلك". والله تعالى أعلم.
قَالَ: وإن فُكّ الحجر عنه لم يكن لأحد مطالبته، ولا ملازمته حَتَّى يملك مالا، فإن جاء الغرماء عَقِبَ فك الحجر عنه، فادّعوا أن له مالا، لم يُلتفت إلى قولهم حَتَّى يُثبتوا سببه، فإن جاؤوا بعد مدة، فادعوا أن فِي يده مالاً، أو ادعوا ذلك عَقِبَ فك الحجر،
(1)
أخرجه الدارقطنيّ فِي "سننه" 4/ 232.
وبينوا سببه أحضره الحاكم وسأله، فإن أنكر فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه ما فك الحجر عنه حَتَّى لم يبق له شيء، وإن أقر، وَقَالَ هو لفلان، وأنا وكيله، أو مضار به، وكان الْمُقَرُّ له حاضرا، سأله الحاكم، فإن صَدَّقه فهو له، ويستحلفه الحاكم؛ لجواز أن يكونا تواطآ عَلَى ذلك؛ ليدفع المطالبة عن المفلس، وإن قَالَ: ما هو لي، عرفنا كذب المفلس، فيصير كأنه قَالَ: المال لي، فيعاد الحجر عليه، إن طلب الغرماء ذلك، وإن أقر لغائب، أُقِرَّ فِي يديه، حَتَّى يحضر الغائب، ثم يسأل كما حكمنا فِي الحاضر، ومتى أعيد الحجر عليه لديون، تجددت عليه شارك غرماء الحجر الأول، غرماء الحجر الثاني، إلا أن الأولين يضربون ببقية ديونهم، والآخرون يضربون بجميعها، وبهذا قَالَ الشافعيّ، وَقَالَ مالك: لا يدخل غرماء الحجر الأول، عَلَى هؤلاء الذين تجددت حقوقهم، حَتَّى يستوفوا، إلا أن تكون له فائدة منْ ميراث، أو تُجْنَى عليه جنايةٌ، فيتحاص الغرماء فيه.
قَالَ: ولنا أنهم تساووا فِي ثبوت حقوقهم فِي ذمته، فتساووا فِي الاستحقاق، كالذين تثبت حقوقهم فِي حجر واحد، وكتساويهم فِي الميراث، وأرش الجناية، ولأن مكسبه مال له، فتساووا فيه كالميراث. انتهى "المغني" 6/ 584 - 585.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بتساوي الجميع فِي الاستحقاق كما ذهب إليه الشافعيّ، وأحمد رحمهما الله تعالى هو الأشبه؛ لتساويهم فِي ثبوت الدين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4692 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَبْرُ بْنُ أَبِي دُلَيْلَةَ الطَّائِفِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَيْمُونِ بْنِ مُسَيْكَةَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا، عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ، وَعُقُوبَتَهُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "إسحاق بن إبراهيم": هو ابن راهويه. و"وكيع": هو ابن الجرّاح. و"محمد بن ميمون": هو محمد بن عبد الله بن ميمون المذكور فِي السند الماضي.
وقوله: "وأثني عليه خيرًا": أي أثنى وَبْرُ بن أبي دُليلة عَلَى محمد بن ميمون شيخه، ومدحه بخير.
والحديث حسنٌ، وَقَدْ سبق شرحه، وبيان مسائله فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
***
101 - (الْحَوَالَةُ)
4693 -
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، سوى شيخه الحارث، فقد تفرد به هو وأبو داود، وهو مصريّ ثقة حافظ. و"ابن القاسم": هو عبد الرحمن الْعُتقيّ الفقيه. والسند نصفه الأول مصريّون، ونصفه الثاني مدنيّون.
والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم شرحه، وتخريجه فِي الباب الماضي، وبقي الكلام عَلَى ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو البحث عن الحوالة، وفيه مسائل:
(المسألة الأولى): فِي معنى الحوالة، واشتقاقها:
قَالَ فِي "الفتح": "الْحَوالة" -بفتح الحاء، وَقَدْ تُكسر-: مشتقة منْ التحويل، أو منْ الْحُئُول: تقول حال عن العهد: إذا انتقل عنه حُئُولا، وهي عند الفقهاء نقل دين منْ ذمة إلى ذمة. واختلفوا هل هي بيع دين بدين، رُخِّص فيه، فاستُثني منْ النهي عن بيع الدين بالدين، أو هي استيفاء. وقيل: هي عقد إرفاق مستقل، ويشترط فِي صحتها رضا المحيل، بلا خلاف، والمحتال عند الأكثر، والمحال عليه، عند بعض منْ شذّ، ويشترط أيضا تماثل الحقين فِي الصفات، وأن يكون فِي شيء معلوم، ومنهم منْ خصها بالنقدين، ومنعها فِي الطعام؛ لأنه بيع طعام قبل أن يُسْتَوفَى. انتهى" فتح" 5/ 228.
وَقَالَ فِي "المغني": الحوالة ثابتة بالسنة والإجماع، أما السنة، فما رَوَى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"مطلُ الغنى ظلم، وإذا أتبع أحدكم عَلَى مليء فليتبع" متَّفقٌ عليه، وفي لفظ:"منْ أُحيل بحقه عَلَى مليء، فليحتل"، وأجمع أهل العلم عَلَى جواز الحوالة فِي الجملة. واشتقاقها منْ تحويل الحق منْ ذمة إلى ذمة، وَقَدْ قيل: إنها بيع، فإن المحيل يشتري ما فِي ذمته بما له فِي ذمة المحال عليه، وجاز تأخير القبض رخصةً، لأنه موضوع عَلَى الرفق، فيدخلها خيار المجلس لذلك، والصحيح أنها عَقْدُ إرفاق، منفرد بنفسه، ليس بمحمول عَلَى غيره؛ لأنها لو كانت بيعا، لما جازت؛ لكونها بيع دين بدين، ولما جاز التفرق قبل القبض؛ لأنه بيع مال الربا بجنسه، ولجازت بلفظ البيع، ولجازت بين جنسين، كالبيع كله، ولأن لفظها يشعر بالتحول، لا بالبيع، فعلى هَذَا لا
يدخلها خيار، وتلزم بمجرد العقد، وهذا أشبه بكلام أحمد وأصوله.
ولابد فيها منْ محيل، ومحتال عليه، ويشترط فِي صحتها رضي المحيل بلا خوف، فإن الحق عليه، ولا يتعين عليه جهة قضائه، وأما المحتال، والمحال عليه، فلا يعتبر رضاهما عَلَى ما سنذكره إن شاء الله تعالى. انتهى "المغني" 7/ 56. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): فِي شروط الحوالة:
(اعلم): أنهم ذكروا لصحّة الحوالة شروطًا أربعة، قد ذكرها الموفّق رحمه الله تعالى، وفصّلها تفصيلا حسنًا فِي كتابه الممتع "المغني"، أحببت تلخيصه فيما يلي:
(أحدها): تماثل الحقين؛ لأنها تحويل للحق، ونقل له، فينقل عَلَى صفته، ويعتبر تماثلهما فِي أمور ثلاثة:[أحدها]: الجنس، فيحيل منْ عليه ذهبٌ بذهب، ومن عليه فضة بفضة، ولو أحال منْ عليه ذهب بفضة، أو منْ عليه فضة بذهب لم يصح. [الثاني]: الصفة، فلو أحال منْ عليه صحاح بمكسرة، أو منْ عليه مصرية بأميرية لم يصح. [الثالث]: الحلول والتأجيل، ويعتبر اتفاق أجل المؤجلين، فإن كَانَ أحدهما حالّاً، والآخر مؤجلا، أو أجل أحدهما إلى شهر، والآخر إلى شهرين لم تصح الحوالة.
(الشرط الثاني): أن تكون عَلَى دين مستقر، ولا يعتبر أن يحيل بدين غير مستقر، إلا أن السلم لا تصح الحوالة به، ولا عليه؛ لأن دين السلم ليس بمستقر؛ لكونه بِعَرْض الفسخ لانقطاع المسلم فيه، ولا تصح الحوالة به؛ لأنها لم تصح إلا فيما يجوز أخذ العوض عنه، والسلم لا يجوز أخذ العوض عنه؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"منْ أسلم فِي شيء، فلا يصرفه إلى غيره"، رواه أبو داود، ولا تصح الحوالة عَلَى المكاتب بمال الكتابة؛ لأنه غير مستقر، فإن له أن يمتنع منْ أدائه، ويسقط بعجزه، وتصح الحوالة عليه بدين، غير دين الكتابة؛ لأن حكمه حكم الأحرار فِي المداينات، وإن أحال المكاتب سيده بنجم قد حل عليه صح، وبرئت ذمة المكاتب بالحوالة، ويكون ذلك بمنزلة القبض.
(الشرط الثالث): أن تكون بمال معلوم؛ لأنها إن كانت بيعًا، فلا تصحّ فِي مجهول، وإن كانت تَحَوُّلَ الحق، فيعتبر فيها التسليم، والجهالة تمنع منه، فتصح بكل ما يثبت مثله فِي الذمة بالإتلاف، منْ الأثمان، والحبوب، والأدهان، ولا تصح فيما لا يصح السلم فيه؛ لأنه لا يثبت فِي الذمة.
(الشرط الرابع): أن يحيل برضائه؛ لأن الحق عليه، فلا يلزمه أداؤه منْ جهة الدين الذي عَلَى المحال عليه، ولا خلاف فِي هَذَا، فإذا اجتمعت شروط الحوالة، وصحت
برئت ذمة المحيل فِي قول عامة الفقهاء، وسيأتي تمام البحث فِي هَذَا فِي المسألة التالية، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي الأمر فِي قوله صلى الله عليه وسلم: "فليتبع"، هل هو للوجوب، أم للاستحباب؟:
قَالَ فِي "الفتح" 5/ 230 - : ما حاصله: ذهب الجمهور إلى أنه للاستحاب، وَوَهِمَ منْ نقل فيه الإجماع. وقيل: هو أمر إباحة وإرشاد، وهو شاذّ، وحمله أكثر الحنابلة، وأبو ثور، وابن جرير، وأهل الظاهر عَلَى ظاهره، وعبارة الخرقي: ومن أُحيل بحقه عَلَى مليء، فواجب عليه أن يحتال. انتهى.
وَقَالَ الموفّق رحمه الله تعالى عند شرح قول الخرقيّ المذكور: ما حاصله: والظاهر أن الخرقيّ أراد بالمليء هاهنا القادر عَلَى الوفاء، غير الجاحد، ولا المماطل، قَالَ: فإذا أحيل عَلَى منْ هذه صفته، لزم المحتال، والمحال عليه القبول، ولم يعتبر رضاهما. وَقَالَ أبو حنيفة: يعتبر رضاهما؛ لأنها معاوضة، فيعتبر الرضا منْ المتعاقدين. وَقَالَ مالك، والشافعي: يعتبر رضي المحتال؛ لأن حقه فِي ذمة المحيل، فلا يجوز نقله إلى غيرها بغير رضاه، كما لا يجوز أن يجبره عَلَى أن يأخذ بالدين عرضا، فأما المحال عليه، فَقَالَ مالك: لا يعتبر رضاه، إلا أن يكون المحتال عدوه. وللشافعي فِي اعتبار رضائه قولان: أحدهما: يعتبر، وهو يحكى عن الزهريّ؛ لأنه أحد منْ تتم به الحوالة، فأشبه المحيل. والثاني: لا يعتبر؛ لأنه أقامه فِي القبض مقام نفسه، فلم يفتقر إلى رضي منْ عليه الحق، كالتوكيل.
قَالَ: ولنا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إذا أتبع أحدكم عَلَى مليء فليتبع"، ولأن للمحيل أن يوفي الحق الذي عليه بنفسه، وبوكيله، وَقَدْ أقام المحال عليه مقام نفسه فِي التقبيض، فلزم المحال القبول، كما لو وكل رجلا فِي إيفائه، وفارق ما إذا أراد أن يعطيه عما فِي ذمته عرضا؛ لأنه يعطيه غير ما وجب له، فلم يلزمه قبوله. انتهى "المغني" 7/ 62/ 63.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قاله الحنابلة، وأبو ثور، وابن جرير، وأهل الظاهر منْ كون الأمر للوجوب، وأنه يجب عَلَى المحال قبول، إذا توفّرت الشروط هو الأرجح؛ لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك، والأصل فِي الأمر الوجوب، إلا لصارف، ولا يوجد هنا صارف، منْ نصّ، ولا إجماع، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتحيّر بالاعتساف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم، هل يرجع المحتال عَلَى المحيل بعد الحوالة، أم لا؟:
قَالَ فِي "الفتح": ما حاصله: سئل قتادة، والحسن، عن رجل احتال عَلَى رجل، فأفلس؟ قالا: إن كَانَ مليا يوم احتال عليه، فليس له أن يرجع، وقيده أحمد بما إذا لم يعلم المحتال بإفلاس المحال عليه، وعن الحكم لا يرجع، إلا إذا مات المحال عليه، وعن الثوري يرجع بالموت، وأما بالفَلَس، فلا يرجع إلا بمحضر المحيل والمحال عليه. وَقَالَ أبو حنيفة: يرجع بالفلس مطلقا، سواء عاش، أو مات، ولا يرجع بغير الفلس. وَقَالَ مالك: لا يرجع إلا إن غره، كأن علم فَلَس المحال عليه، ولم يُعلمه بذلك. وَقَالَ الحسن، وشريح، وزفر: الحوالة كالكفالة، فيرجع عَلَى أيهما شاء، وبه يشعر إدخال البخاريّ أبواب الكفالة، فِي كتاب الحوالة.
وذهب الجمهور إلى عدم الرجوع مطلقا، واحتج الشافعيّ بأن معنى قول الرجل أحلته، وأبرأني، حَوَّلت حقه عني، وأثبته عَلَى غيري، وذَكَر أن محمد بن الحسن احتج لقوله، بحديث عثمان: أنه قَالَ فِي الحوالة، أو الكفالة: يرجع صاحبها، لا توى: أي لا هلاك عَلَى مسلم، قَالَ فسألته عن إسناده، فذكره عن رجل مجهول، عن آخر معروف، لكنه منقطع بينه وبين عثمان، فبطل الاحتجاج به منْ أوجه، قَالَ البيهقيّ: أشار الشافعيّ بذلك، إلى ما رواه شعبة، عن خُليد بن جعفر، عن معاوية بن قرة، عن عثمان، فالمجهول خليد، والانقطاع بين معاوية بن قرة وعثمان، وليس الْحَدِيث مع ذلك مرفوعا، وَقَدْ شك راويه، هل هو فِي الحوالة، أو الكفالة. انتهى "الفتح" 5/ 228 - 229.
وَقَالَ الموفّق رحمه الله تعالى -بعد أن ذكر الشروط الماضية-: فإذا اجتمعت شروط الحوالة، برِئت ذمّة المحيل فِي قول عامّة الفقهاء، إلا ما يروى عن الحسن، أنه كَانَ لا يرى الحوالة براءة، إلا أن يبرئه، وعن زفر أنه قَالَ: لا تَنْقُلُ الحقَّ، وأجراها مجرى الضمان، وليس بصحيح؛ لأن الحوالة مشتقة منْ تحويل الحق، بخلاف الضمان، فإنه مشتق منْ ضم ذمة إلى ذمة، فعُلِّقَ عَلَى كل واحد مقتضاه، وما دل عليه لفظه.
إذا ثبت أن الحق انتقل، فمتى رضي بها المحتال، ولم يشترط اليسار، لم يعد الحق إلى المحيل أبدا، سواء أمكن استيفاء الحق، أو تعذر لمطل، أو فلس، أو موت، أو غير ذلك، هَذَا ظاهر كلام الخرقي، وبه قَالَ الليث، والشافعي، وأبو عبيد، وابن المنذر، وعن أحمد ما يدل عَلَى أنه إذا كَانَ المحال عليه مفلسا، ولم يعلم المحتال بذلك فله الرجوع، إلا أن يرضى بعد العلم، وبه قَالَ جماعة منْ أصحابنا، ونحوه قول مالك؛ لأن الفلس عيب فِي المحال عليه، فكان له الرجوع، كما لو اشترى سلعة فوجدها معيبة، ولأن المحيل غره، فكان له الرجوع، كما لو دلس المبيع، وَقَالَ
شريح، والشعبي، والنخعي: متى أفلس، أو مات رجع عَلَى صاحبه. وَقَالَ أبو حنيفة: يرجع عليه فِي حالين: إذا مات المحال عليه مفلسا، وإذا جحده، وحلف عليه عند الحاكم. وَقَالَ أبو يوسف ومحمد: يرجع عليه فِي هاتين الحالتين، وإذا حُجر عليه لفلس؛ لأنه رُوي عن عثمان أنه سئل عن رجل أحيل، فمات المحال عليه مفلسا يرجع بحقه، لا توى عَلَى مال امرئ مسلم، ولأنه عقد معاوضة، لم يسلم العوض فيه لأحد المتعاوضين، فكان له الفسخ، كما لو اعتاض بثوب فلم يسلم إليه.
قَالَ: ولنا إن حَزْنًا جد سعيد بن المسيب، كَانَ له عَلَى علي رضي الله عنه دين، فأحاله به، فمات المحال عليه، فأخبره، فَقَالَ: اخترت علينا أبعدك الله، فأبعده بمجرد احتياله، ولم يخبره أن له الرجوع، ولأنها براءة منْ دين، ليس فيها قبض ممن عليه، ولا ممن يدفع عنه، فلم يكن فيها رجوع، كما لو برأه منْ الدين، وحديث عثمان لم يصح، يرويه خالد بن جعفر، عن معاوية بن قرة، عن عثمان، ولم يصح سماعه منه، وَقَدْ روي أنه قَالَ فِي حوالة، أو كفالة، وهذا يوجب التوقف، ولا يصح، ولو صح كَانَ قول علي مخالفا له. وقولهم: إنه معاوضة، لا يصح؛ لأنه يفضي إلى بيع الدين بالدين، وهو منهي عنه، ويفارق المعاوضة بالثوب؛ لأَنَّ فِي ذلك قبضا يقف استقرار العقد عليه، وهاهنا الحوالة بمنزلة القبض، وإلا كَانَ بيع دين بدين. انتهى "المغني" 7/ 60/ 61.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه عامّة الفقهاء، وهو أن المحيل يبرأ بالحوالة، إذا وُجدت الشروط المذكورة سابقًا هو الأرجح؛ لظهور أدلّته، كما سبق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
102 - (الْكَفَالَةُ بِالدَّيْنِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الكفالة" بالفتح: اسم منْ كَفَلتُ بالمال والنفس كَفْلاً، منْ باب قتل، وكُفُولاً أيضًا. وحكى أبو زيد سماعًا منْ العرب منْ بابي تَعِبَ، وقَرُبَ. وحكى ابن القطّاع: كفلته، وكفلت به، وعنه: إذا تحمّلت به، ويتعدّ إلى مفعول ثان بالتضعيف، والهمزة، فتَحذِف الحرف فيهما، وَقَدْ ثبت مع المثقّل، قَالَ ابن الأنباريّ: تكفّلتُ بالمال: التزمت به، وألزمته نفسي، وَقَالَ أبو زيد: تحملت به.
وَقَالَ فِي "المجمع": كفَلت به كفالةً، وكفلت عنه بالمال لغريمه، ففرَق بينهما، وكفلت الرجل، والصغير، منْ باب قتل كفالةً أيضًا: عُلْتُهُ، وقمتُ به، ويتعدّى بالتضعيف إلى مفعول ثانٍ، فيقال: كفلتُ زيدًا الصغيرَ، والفاعل منْ كفالة المال كفيلٌ به للرجل والمرأة، وَقَالَ ابن الأعرابيّ: وكافل أيضًا، مثلُ ضَمِين، وضامنٍ. وفَرَقَ الليث بينهما، فَقَالَ: الكفيلُ: الضامن، والكافل: هو الذي يَعُول إنسانًا، ويُنفق عليه. انتهى. "المصباح المنير" 2/ 536.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الكَفِيل، والضَمِين، والقَبِيل، والحَمِيل، والزَعِيم، والصَبِير، كلها بمعنى واحد.
قَالَ فِي "المغني": الضمان: ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه، فِي التزام الحق، فيثبت فِي ذمتهما جميعا، ولصاحب الحق مطالبة منْ شاء منهما، واشتقاقه منْ الضم، وَقَالَ القاضي: هو مشتق منْ الضمين؛ لأن ذمة الضامن تتضمن الحق.
والأصل فِي جوازه الكتاب، والسنة، والإجماع: أما الكتاب، فقول الله تعالى:{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72]، وَقَالَ ابن عباس: الزعيم الكفيل، وأما السنة فما رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قَالَ:"الزعيم غارم"، رواه أبو داود، والترمذي، وَقَالَ حديث حسن، وروى البخاريّ منْ حديث سلمة بن الأكوع، رضي الله تعالى عنه، قَالَ: كنا جلوسا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، إذ أُتي بجنازة، فقالوا: صَلِّ عليها، فَقَالَ:"هل عليه دين؟ "، قالوا: لا، قَالَ:"فهل ترك شيئا؟ "، قالوا: لا، فصلى عليه، ثم أتي بجنازة أخرى، فقالوا: يا رسول الله، صل عليها، قَالَ:"هل عليه دين؟ " قيل: نعم، قَالَ:"فهل ترك شيئا؟ " قالوا: ثلاثة دنانير، فصلى عليها، ثم أتي بالثالثة، فقالوا: صل عليها، قَالَ:"هل ترك شيئا؟ " قالوا: لا، قَالَ:"فهل عليه دين؟ " قالوا: ثلاثة دنانير، قَالَ:"صلوا عَلَى صاحبكم"، قَالَ أبو قتادة: صل عليه، يا رسول الله، وعليّ دينه، فصلى عليه". وفي رواية ابن ماجه:"فَقَالَ أبو قتادة: وأنا أتكفّل به".
وأجمع المسلمون عَلَى جواز الضمان فِي الجملة، وإنما اختلفوا فِي فروع، نذكر أهمّها، إن شاء الله تعالى.
قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: ولابد فِي الضمان منْ ضامن، ومضمون عنه، ومضمون له، ولابد منْ رضي الضامن، فإن أُكره عَلَى الضمان لم يصح، ولا يعتبر رضي المضمون عنه، لا نعلم فيه خلافا؛ لأنه لو قضى الدين عنه بغير إذنه ورضاه صح، فكذلك إذا ضمن عنه، ولا يعتبر رضي المضمون له. وَقَالَ أبو حنيفة ومحمد: يعتبر؛ لأنه إثبات مال لآدمي، فلم يثبت إلا برضاه، أو رضي منْ ينوب عنه، كالبيع
والشراء، وعن أصحاب الشافعيّ كالمذهبين.
قَالَ: ولنا أَنَّ أبا قتادة ضمن، منْ غير رضى المضمون عنه، فأجازه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذلك رُوي عن علي رضي الله عنه، ولأنها وثيقة، لا يعتبر فيها قبض، فأشبهت الشهادة، ولأنه ضمان دين، فأشبه ضمان بعض الورثة دين الميت للغائب، وَقَدْ سلموه. انتهى "المغني" 7/ 71/72. وهو بحث نفيس جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب.
4694 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ، أُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: "إِنَّ عَلَى صَاحِبِكُمْ دَيْنًا"، فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: أَنَا أَتَكَفَّلُ بِهِ، قَالَ: "بِالْوَفَاءِ؟ "، قَالَ: بِالْوَفَاءِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.
و"محمد بن عبد الأعلى": هو الصنعانيّ البصريّ. و"خالد": هو ابن الحارث الْهُجَيميّ البصريّ. و"عثمان بن عبد الله بن موهَب": هو المدنيّ الأعرج، ثقة [4] 5/ 468.
[تنبيه]: وقع فِي نسخ "المجتبى" فِي هَذَا السند: "حدثنا سعيد" بل شعبة، وهو غلطٌ، والصواب:"حدّثنا شعبة"، كما فِي "تحفة الأشراف" 9/ 250 - وهو الذي فِي "جامع الترمذيّ" رقم 1069 - و"سنن ابن ماجه" رقم 2407 - وَقَدْ تقدّم للمصنّف فِي "الجنائز" 67/ 1960 - عَلَى الصواب، فتنبّه.
[تنبيه آخر]: منْ الغريب أنه سقط منْ "الكبرى" أصلاً، فليس فيها لا "سعيد"، ولا "شعبة"، بل فيه:"حدّثنا خالد، عن عثمان بن عبد الله بن موهَب"، وألحق محققها منْ "المجتبى": بين قوسين [حدثنا سعيد] وهو غلط كما عرفت. فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقوله: "بالوفاء": أي أتتكفّل بوفاء دينه لصاحبه؟.
والحديث صحيحٌ، وَقَدْ تقدّم فِي "الجنائز" شرحه، وبيان مسائله، ولنتكلّم هنا عَلَى ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو البحث عن الكفالة، ففيه مسائل:
(المسألة الأولى): فِي اختلاف أهل العلم فِي الكفالة بالمجهول:
قد تقدّم أَنَّهُ أجمع المسلمون عَلَى جواز الكفالة فِي الجملة، وإنما اختلفوا فِي فروع، فمنها: صحة الكفالة بالمجهول، كأن يقول: أنا ضامن لك مالك عَلَى فلان، أو ما يُقضَى به عليه، أو ما تقوم به البينة، أو يقر به لك، فَقَالَ أبو حنيفة، ومالك، وأحمد: صحت الكفالة، وَقَالَ الثوري: والليث، وابن أبي ليلى، والشافعي، وابن المنذر: لا
تصح؛ لأنه التزام مال، فلم يصح مجهولا، كالثمن فِي المبيع.
واحتجّ الأولون بقول الله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72]، وحمل البعير غير معلوم؛ لأن حمل البعير يختلف باختلافه، وبعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"الزعيم غارم"، وهو حديث صحيح، ولأنه التزام حق فِي الذمة، منْ غير معاوضة، فصح فِي المجهول كالنذر، والإقرار، ولأنه يصح تعليقه بضرر وخطر، وهو ضمان العهدة. أفاده فِي "المغني" 7/ 72 - 73.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه الأولون، منْ جواز الكفالة بالمجهول هو الأرجح عندي؛ لوضوح أدلّته، كما سبق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): فِي اختلاف أهل العلم فِي جواز الكفالة عن الميت:
ذهب الجمهور إلى أنه يصحّ الضمان عن كل منْ وجب عليه حق، حيًّا كَانَ أو ميتا، مليئا أو مفلسا؛ لعموم النصّ، وَقَالَ أبو حنيفة: لا يصح ضمان دين الميت، إلا أن يَخلُف وفاء، فإن خلف بعض الوفاء صح ضمانه بقدر ما خلف؛ لأنه دين ساقط، فلم يصح ضمانه، كما لو سقط بالإبراء، ولأن ذمته قد خرجت خرابا، لا تُعمّر بعده، فلم يبق فيها دين، والضمان ضم ذمة إلى ذمة فِي التزامه.
واحتجّ الأولون بحديث أبي قتادة رضي الله عنه، المذكور فِي الباب، فإنه نصّ فِي المسألة، فإنه رضي الله عنه إنما ضمن دين ميت لم يخلف وفاء، والنبي صلى الله عليه وسلم حضهم عَلَى ضمانه، فضمن أبو قتادة رضي الله عنه.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه الجمهور منْ صحّة الكفالة عن الميت هو الحقّ؛ لوضوح دليله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فيمن يصح ضمانه ومن لا يصح:
قَالَ فِي "المغني": يصحّ ضمان كل جائز التصرف فِي ماله، سواء كَانَ رجلا أو امرأة؛ لأنه عقد يُقصد به المال، فصح منْ المرأة كالمبيع، ولا يصح منْ المجنون، ولا منْ صبي غير مميز، بغير خلاف؛ لأنه إيجاب مال بعقد، فلم يصح منهم، كالنذر، ولا يصح فِي السفيه المحجور عليه، ذكره أبو الخطاب، وهو قول الشافعيّ، وَقَالَ القاضي: يصح، ويتبع بعد فك الحجر عنه؛ لأن منْ أصلنا إن إقراره صحيح، يُتَّبع به منْ بعد فك الحجر عنه، فكذلك ضمانه، والأول أولى؛ لأنه إيجاب مال بعقد، فلم يصح منه، كالبيع والشراء، ولا يشبه الإقرار، لأنه إخبار بحق سابق. وأما الصبي المميز فلا يصح ضمانه فِي الصحيح منْ الوجهين، وهو قول الشافعيّ، وخرجه أصحابنا عَلَى
الروايتين فِي صحة إقراره وتصرفاته، بإذن وليه، ولا يصح هَذَا الجمع؛ لأن هَذَا التزام مال، لا فائدة له فيه، فلم يصح منه كالتبرع، والنذر، بخلاف البيع.
قَالَ: ولا يصح ضمان العبد بغير إذن سيده، سواء كَانَ مأذونا له فِي التجارة، أو غير مأذون له، وبهذا قَالَ ابن أبي ليلى، والثوري، وأبو حنيفة، ويحتمل أن يصح، ويتبع به بعد العتق، وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعيّ؛ لأنه منْ أهل التصرف فصح تصرفه بما لا ضرر عَلَى السيد فيه كالإقرار بالإتلاف، ووجه الأول أنه عقد تضمن إيجاب مال، فلم يصح بغير إذن، كالنكاح وَقَالَ أبو ثور: إن كَانَ منْ جهة التجارة جاز، وإن كَانَ منْ غير ذلك لم يجز، فإن ضمن بإذن سيده صح؛ لأن سيده لو أذن له فِي التصرف صح. انتهى "المغني" باختصار 7/ 79 - 80. وهو بحث نفيس جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم هل يبرأ المكفول عنه بنفس الكفالة أم لا؟:
ذهب الثوريّ، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وأصحاب الرأي إلى أن المكفول عنه لا يبرأ بنفس الضمان، كما يبرأ المحيل بنفس الحوالة قبل القبض، بل يثبت الحق فِي ذمة الضامن، مع بقائه فِي ذمة المضمون عنه، فلصاحب الحق مطالبة منْ شاء منهما فِي الحياة، وبعد الموت.
وذهب أبو ثور إلى أن الكفالة، والحوالة سواء، وكلاهما ينقل الحق عن ذمة المضمون عنه والمحيل، وحكي ذلك عن ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وداود، واحتجوا بما رَوَى أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه قَالَ: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي جنازة، فلما وُضعت، قَالَ:"هل عَلَى صاحبكم منْ دين؟ " قالوا: نعم درهمان، فَقَالَ:"صلوا عَلَى صاحبكم"، فَقَالَ علي رضي الله عنه: هما علي يا رسول الله، وأنا لهما ضامن، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى عليه، ثم أقبل عَلَى علي، فَقَالَ:"جزاك الله خيرا عن الإِسلام، وفَكَّ رهانك، كما فككت رهان أخيك"، فقيل: يا رسول الله هَذَا لعلي خاصة، أم للناس عامة؟ فَقَالَ:"للناس عامة"
(1)
، رواه الدارقطنيّ فِي "سننه" 3/ 47.
فدلّ عَلَى أن المضمون عنه برىء بالضمان، ورَوَى الإِمام أحمد فِي "المسند" عن جابر رضي الله عنه قَالَ: توفي صاحب لنا، فأتينا النبيّ صلى الله عليه وسلم، ليصلي عليه، فخطا خطوة، ثم قَالَ؛ "أعليه دين؟ " قلنا: ديناران، فانصرف، فتحملهما أبو قتادة، فَقَالَ: الديناران
(1)
رواه الدارقطنيّ فِي "سننه" 3/ 47، وفي إسناده عطاء بن عجلان البصريّ، متروك، والراوي عنه إسماعيل بن عيّاش، وهو إذا روى عن غير أهل بلده ضعيف الْحَدِيث، وهذا منه، فتنبّه.
علي، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وجب حق الغريم، وبرىء الميت منهما؟ " قَالَ: نعم، فصلى عليه، ثم قَالَ بعد ذلك:"ما فعل الديناران؟، قَالَ: إنما مات أمس، قَالَ: فعاد إليه منْ الغد، فَقَالَ: قد قضيتهما، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الآن بردت جلدته"
(1)
، وهذا صريح فِي براءة المضمون عنه؛ لقوله:"وبرىء الميت منهما"، ولأنه دين واحد، فإذا صار فِي ذمة ثانية برئت الأولى منه، كالمحال به، وذلك لأن الدين الواحد لا يحل فِي محلين.
ولنا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "نفس المؤمن معلقة بدينه، حَتَّى يُقضَى عنه"، وقوله فِي خبر أبي قتادة:"الآن بَرَّدتَّ جلدته"، حين أخبره أنه قضى دينه، ولأنهما وثيقة فلا تنقل الحق كالشهادة، وأما صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى المضمون عنه، فلأنه بالضمان صار له وفاء، وإنما كَانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، يمتنع منْ الصلاة عَلَى مدين، لم يَخلُف وفاء، وأما قوله لعلي رضي الله عنه:"فَك الله رهانك، كما فككت رهان أخيك"، فإنه كَانَ بحال لا يصلي عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما ضمنه فكه منْ ذلك، أو مما فِي معناه، وقوله:"برىء الميت منهما" صرت أنت المطالب بهما، وهذا عَلَى سبيل التأكيد؛ لثبوت الحق فِي ذمته، ووجوب الأداء عليه، بدليل قوله فِي سياق الْحَدِيث حين أخبره بالقضاء:"الآن بردت عليه جلدته"، ويفارق الضمان الحوالة، فإن الضمان مشتق منْ الضم، فيقضي الضم بين الذمتين، فِي تعلق الحق بهما، وثبوته فيهما، والحوالة منْ التحول، فتقتضي تحول الحق منْ محله إلى ذمة المحال عليه، وقولهم: إن الدين الواحد لا يَحُل فِي محلين، قلنا: يجوز تعلقه بمحلين عَلَى سبيل الاستيثاق، كتعلق دين الرهن به، وبذمة الراهن. انتهى "المغني" 7/ 84 - 86.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الأولون منْ أن المكفول عنه لا يبرأ بالكفالة، وأن لصحاب الحق مطالبة أيهما شاء هو الصواب؛ لما ذُكر منْ الأدلّة، وأما ما استدلّ به الآخرون منْ الحديثين فلا حجة فيه؛ لأنهما ضعيفان، فإن الأول فِي إسناده عطاء بن عجلان البصريّ، وهو متروك، والراوي عنه إسماعيل بن عيّاش، وهو إذا روى عن غير أهل بلده ضعيف الْحَدِيث، وهذا منه. والثاني فِي سنده عبد الله بن محمد بن عقيل مختلف فيه، وفي "التقريب": صدوق، فِي حديثه لين، ويقال: تغيّر بآخره. انتهى.
والحاصل أن المذهب الأول هو الحقّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
رواه أحمد فِي "مسنده" 3/ 330 وفي سنده عبد الله بن محمد بن عقيل مختلف فيه، وفي "التقريب": صدوق، فِي حديثه لين، ويقال: تغيّر بآخره. انتهى.
(المسألة الخامسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم الكفالة بالنفس:
ذهب أكثر أهل العلم إلى أن الكفالة بالنفس صحيحة، وهو مذهب شريح، ومالك، والثوري، والليث، وأبي حنيفة. وَقَالَ الشافعيّ فِي بعض أقواله: الكفالة بالبدن ضعيفة، واختلف أصحابه، فمنهم: منْ قَالَ: هي صحيحة قولا واحدا، وإنما أراد أنها ضعيفة فِي القياس، وإن كانت ثابتة بالإجماع والأثر، ومنهم: منْ قَالَ: فيها قولان: أحدهما: أنها غير صحيحة؛ لأنها كفالة بعين، فلم تصح، كالكفالة بالوجه، وبدن الشاهدين.
واحتجّ الأولون بقول الله تعالى: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} الآية [يوسف: 66]، ولأن ما وجب تسليمه بعقد، وجب تسليمه بعقد الكفالة كالمال.
إذا ثبت هَذَا، فإنه متى تعذر عَلَى الكفيل إحضار المكفول به مع حياته، وامتنع منْ إحضاره لزمه ما عليه، وَقَالَ أكثرهم: لا يغرم، والصحيح الأول؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"الزعيم غارم"، وهو حديث صحيح، كما تقدّم؛ ولأنها أحد نوعي الكفالة، فوجب بها الغرم، كالكفالة بالمال
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: اختلفوا فِي الكفالة ببدن منْ عليه حدٌّ، سواء كَانَ حقا لله تعالى، كحد الزنا، والسرقة، أو لآدمي، كحد القذف والقصاص، فذهب أحمد، إلى عدم صحته، قَالَ الموفّق: وهو قول أكثر أهل العلم، منهم: شريح، والحسن، وبه قَالَ إسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وبه قَالَ الشافعيّ فِي حدود الله تعالى، واختَلَف قوله فِي حدود الآدمي، فَقَالَ فِي موضع: لا كفالة فِي حدود الآدمي، ولا لعان، وَقَالَ فِي موضع: تجوز الكفالة بمن عليه حق، أو حدّ؛ لأنه حق لآدمي، فصحت الكفالة به كسائر حقوق الآدميين.
واحتجّ الأولون بما أخرجه البيهقيّ فِي "السنن الكبرى" عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قَالَ:"لا كفالة فِي حد"، ولأنه حد فلم تصح الكفالة فيه، كحدود الله تعالى؛ ولأن الكفالة استيثاق، والحدود مبناها عَلَى الإسقاط والدرء بالشبهات، فلا يدخل فيها الاستيثاق، ولأنه حق لا يجوز استيفاؤه منْ الكفيل، إذا تعذر عليه إحضار المكفول به، فلم تصح الكفالة بمن هو عليه كحد الزنا. قاله فِي "المغني" 7/ 98 - 99.
(1)
راجع "المغني" 7/ 96 - 97.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث: "لا كفالة فِي حدّ" ضعيف؛ لأن فِي سنده بقيّة بن الوليد، وشيخه عمر بن أبي عمر الكلاعيّ منْ مشايخ بقية المجهولين، وَقَالَ ابن عديّ: منكر الْحَدِيث
(1)
.
لكن الذي يظهر لي عدم صحة الكفالة فِي الحدود؛ لما ذكره ابن قدامة منْ أن مبنى الحدود عَلَى الإسقاط، والدرء بالشبهات، فالظاهر أنه لا يشرع فيها الاسيثاق بالكفالة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
103 - (التَّرْغِيبُ فِي حُسْنِ الْقَضَاءِ)
4695 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "خِيَارُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.
و"عليّ بن صالح": هو ابن صالح بن حيّ الهمدانيّ، أبو محمد الكوفيّ، أخو حسن، ثقة عابدٌ [7] 192/ 307. و"أبو سلمة": هو ابن عبد الرحمن بن عوف المدنيّ الفقيه.
والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ مضى شرحه، وبيان مسائله فِي 64/ 4620 باب "استسلاف الحيوان، واستقراضه"، ودلالته عَلَى ما ترجم له المصنّف واضحة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
(1)
راجع "إرواء الغليل" 5/ 247، 248.
104 - (حُسْنُ الْمُعَامَلَةِ، وَالرِّفِقِ فِي الْمُطَالَبَةِ)
4696 -
(أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِنَّ رَجُلاً لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، وَكَانَ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَيَقُولُ لِرَسُولِهِ: خُذْ مَا تَيَسَّرَ، وَاتْرُكْ مَا عَسُرَ، وَتَجَاوَزْ، لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَلَمَّا هَلَكَ، قَالَ اللَّهُ عز وجل لَهُ: هَلْ عَمِلْتَ خَيْرًا قَطُّ، قَالَ: لَا، إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ لِي غُلَامٌ، وَكُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا بَعَثْتُهُ لِيَتَقَاضَى، قُلْتُ لَهُ: خُذْ مَا تَيَسَّرَ، وَاتْرُكْ مَا عَسُرَ، وَتَجَاوَزْ، لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ تَجَاوَزْتُ عَنْكَ").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(عيسى بن حمّاد) بن مسلم التجيبي، أبو موسى المصريّ الملقّب بزُغْبة، ثقة [10] 135/ 211.
2 -
(الليث) بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي، أبو الحارث المصريّ، ثقة ثبت فقيه إمام مشهور [7] 31/ 35.
3 -
(ابن عجلان) هو محمد المدنيّ، صدوق، اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة [5] 36/ 4.
4 -
(زيد بن أسلم) العَدوي مولاهم المدنيّ، ثبت يرسل [3] 64/ 80.
5 -
(أبو صالح) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقة ثبت [3] 36/ 40.
6 -
(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وشيخ شيخه، فمصريّان. (ومنها): أن فيه ثلاثة منْ التابعين، يروي بعضهم عن بعض: ابن عجلان، عن زيد، عن أبي صالح. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "إِنَّ رَجُلاً لَمْ يَعْمَل خَيْرًا قَطُّ) أي فيما مضى منْ عمره (وَكَانَ يُدَايِنُ النَّاسَ) أي يتعامل معهم بالدين بأن يبيع لهم إلى أجل
(فَيَقُولُ لِرَسُولِهِ) الذي يرسله ليستوفي له الديون منْ النَّاس (خُذْ مَا تَيَسَّرَ) أي للمديون أدؤه (وَاتْرُكْ مَا عَسُرَ) بضم السين المهملة، وكسرها: أي ما صعُب عليه، يقال: عَسُر الأمر عُسْرًا، مثل قَرُب قُرْبًا، وعَسَارَةً بالفتح، فهو عسير: أي صَعْبٌ شديدٌ، ومنه قيل للفقر: عُسْرٌ، وعَسِرَ الأمر عَسَرًا، فهو عَسِرٌ، منْ باب تَعِبَ، وتعسّر، واستعسر كذلك. قاله فِي "المصباح" (وَتَجَاوَزْ) أي لا تتعرّض له بمطالبة ما يشقّ عليه (لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا) قَالَ السنديّ:"أن" زائدة دخلت فِي خبر "لعلّ" تشبيها لها بـ"عسى"(فَلَمَّا هَلَكَ) أي مات ذلك الرجل المذكور (قَالَ اللَّهُ عز وجل لَهُ: هَلْ عَمِلْتَ خَيْرًا قَطُّ؟) وفي حديث أبي مسعود رضي الله عنه عند مسلم رفعه: "حوسب رجل ممن كَانَ قبلكم، فلم يوجد له منْ الخير شيءٍ إلا أنه كَانَ يخالط، وكان موسرًا
…
" الْحَدِيث. وفي رواية عند مسلم أيضًا: "أُتي الله بعبد منْ عباده آتاه الله مالاً، فَقَالَ له: ما عملت فِي الدنيا؟ -قَالَ: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} - قَالَ: يا رب آتيتني مالك، فكنت أبايع النَّاس، وكان خلقي الجواز
…
" الْحَدِيث، وفي رواية: "فيقول: يا رب ما عملت لك شيئًا أرجو به كثيرًا، إلا أنك كنت أعطيتني فضلا منْ مال
…
" الْحَدِيث (قَالَ) الرجل (لَا) أي لم أعمل خيرًا قط. قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: هَذَا العموم مخصّصٌ قطعًا بأنه كَانَ مؤمنًا، ولولا ذلك لما تجاوز عنه، فـ:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النِّساء: 48]، وهل كَانَ قائما بفرائض دينه منْ الصلاة، والزكاة، وما أشبههما؟ هَذَا هو الأليق بحاله، فإن هَذَا الْحَدِيث يشهد بأنه كَانَ ممن وُقي شُحّ نفسه، وعلى هَذَا فيكون معنى هَذَا العموم أنه لم يوجد له شيء منْ النوافل إلا هَذَا.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "هَذَا هو الأليق بحاله" فيه نظر؛ لأنه ينافيه قوله: "لم يعمل خيرًا قط"، فالظاهر أن النفي عَلَى عمومه عدا الإيمان، فيكون المعنى أنه لم يعمل خيرًا زائدا عَلَى الإيمان. والله تعالى أعلم.
قَالَ: ويحتمل أن يكون له نوافل أُخَر، غير أن هَذَا كَانَ الأغلب عليه، فنودي به، وجُوزي عليه، ولم يذكر غيره اكتفاء بهذا.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الاحتمال أبعد منْ الذي قبله، فتأمّل. والله تعالى أعلم.
قَالَ: ويحتمل أن يكون المراد بالخير: المال، فيكون معناه أنه لم يوجد له فعل برّ فِي المال إلا ما ذُكر منْ إنظار المعسر. انتهى كلام القرطبيّ
(1)
.
(1)
"المفهم" 4/ 437.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الاحتمال أيضًا مثل سابقه؛ لأنه لا دليل عَلَى هَذَا التخصيص، فتأمل.
والحاصل أن الأظهر إجراؤه عَلَى عمومه. والله تعالى أعلم.
(إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لِي غُلَامٌ) أي خادم (وَكُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا بَعَثْتُهُ) أي الغلام (لِيَتَقَاضَى) أي ليقبض الدين (قُلْتُ لَهُ: خُذْ مَا تَيَسَّرَ) ولفظ "الكبرى": "ما يَسُرَ": أي ما قلّ، أو سَهُل، يقال: يسُر الشيءُ مثلُ قرُب: قَلَّ، فهو يسيرٌ، ويَسِرَ الأمرُ يَيْسَرُ يَسَرًا، منْ باب تَعِبَ، ويِسُرَ يُسْرًا، منْ باب قرب، فهو يسيرٌ: أي سَهْلٌ، ويسّره الله، فتيسّر، واستتير بمعنى. قاله الفيّوميّ
(1)
.
(وَاتْرُكْ مَا عَسُرَ) وفي نسخة: "ما تعسّر"(وَتَجَاوَزْ) قَالَ فِي "الفتح": ويدخل فِي لفظ التجاوز الإنظار، والوضيعة، وحسن التقاضي. انتهى
(2)
(لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ تَجَاوَزْتُ عَنْكَ) أي عفوت عن ذنوبك، وغفرتها لك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هَذَا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -104/ 4696 و4697 - وفي "الكبرى" 106/ 6293 و6294. وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 2078 و"أحاديث الأنبياء" 3480 (م) فِي "البيوع" 1562 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 7525. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حسن المعاملة، والرفق فِي المطالبة. (ومنها): بيان أن شريعة منْ قبلنا شريعة لنا، إذا لم يرد فِي شرعنا ما يردّه، وهذا هو الصحيح منْ قولي العلماء فِي المسألة، وهو مذهب المصنّف، والبخاري، ومسلم، وغيرهما، حيث أوردوا هَذَا الْحَدِيث مستدلين به عَلَى ما ترجموا له. (ومنها): فضل إنظار المعسر، والوضع عنه إما كل الدين، وإما بعضه. (ومنها): فضل المسامحة فِي الاقتضاء، والاستيفاء، سواء كَانَ منْ معسر أو موسر. (ومنها): فضل الوضع منْ
(1)
"المصباح المنير" 2/ 680.
(2)
"الفتح" 5/ 31.
الدين، وأنه لا يُحتقر شيء منْ أفعال الخير، فلعله سبب سعادة العبد، وسبب رحمة الله تعالى له. (ومنها): أن اليسير منْ الحسنات إذا كَانَ خالصًا لله، كفّر كثيرًا منْ السيّئات. (ومنها): جواز توكيل العبيد، والإذن لهم فِي التصرّف. (ومنها): أن الأجر يحصل لمن يأمر به، وإن لم يتولّ ذلك بنفسه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4697 -
(أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْدِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، وَكَانَ إِذَا رَأَى إِعْسَارَ الْمُعْسِرِ، قَالَ لِفَتَاهُ: تَجَاوَزْ عَنْهُ، لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَجَاوَزُ عَنَّا، فَلَقِيَ اللَّهَ، فَتَجَاوَزَ عَنْهُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة.
و"هشام بن عمار": هو الدمشقيّ الخطيب المقرىء، كبر، فصار يتقن، فحديثه القديم أصحّ، منْ كبار [10] 134/ 202. و"يحيى": هو ابن حمزة بن واقد أبو عبد الرحمن الدمشقي القاضي، ثقة رُمي بالقدر [8] 60/ 1768. و"الزبيدي": هو محمد بن الوليد، أبو الهذيل الحمصي الثقة الثبت [7]. و"عبيد الله بن عبد الله": هو ابن عتبة بن مسعود المدنيّ الثقة الفقيه [3].
وقوله: "لفتاه": أي لخادمه. وقوله: "تجاوز عنه": التجاوز والتجوّز معناهما: المسامحة فِي الاقتضاء، والاستيفاء، وقبول ما فيه نقص يسير.
والحديث متّفق عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4698 -
(أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ فَرُّوخَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَدْخَلَ اللَّهُ عز وجل رَجُلاً كَانَ سَهْلاً مُشْتَرِيًا، وَبَائِعًا، وَقَاضِيًا، وَمُقْتَضِيًا الْجَنَّةَ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ) الجزريّ، أبو عبد الرحمن الأَذْرَميّ -بفتح الهمزة، وسكون المعجمة، وفتح الراء- الموصليّ، ثقة [10] 6/ 503. منْ أفراد المصنّف وأبي داود.
2 -
(إسماعيل بن عُليّة) هو ابن إبراهيم البصريّ، ثقة ثبت [8] 18/ 19.
3 -
(يونس) بن عبيد بن دينار العبديّ، أبو عبيد البصريّ، ثقة ثبت فاضل ورعٌ [5]
88/ 109.
4 -
(عطاء بن فرّوخ) -بفتح الفاء، وتشديد الراء المضمومة، وآخره معجمة- المدنيّ، نزيل البصرة، مقبول [3].
روى عن عثمان بن عفان، وابن عمر، وابن عمرو. وعنه يونس بن عبيد، وعليّ بن زيد بن جُدعان. ذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: عداده فِي أهل المدينة، كَانَ انتقل إلى البصرة. وذكر ابن المدينيّ فِي "العلل" أنه لم يلق عثمان رضي الله عنه. تفرد به المصنّف، وابن ماجه، وله عندهما هَذَا الْحَدِيث فقط.
5 -
(عثمان بن عفّان) الخليفة الراشد رضي الله تعالى عنه 68/ 84. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَدْخَلَ اللَّهُ عز وجل رَجُلاً كَانَ سَهْلًا مُشْتَرِيًا) منصوب عَلَى الحال منْ اسم "كَانَ"، وكذا ما بعده. يعني أنه كَانَ ليّنًا فِي حال شرائه، بأن لا يشدّد فِي طلب الحط عن ثمنه، وأن لا يماطل فِي دفعه (وَبَائِعًا) أي وسهلًا لينا فِي حال بيعه بأن لا يبالغ فِي مدح السلعة حَتَّى يغرّ المشتري، وأن لا يُخفي ما فيها منْ العيوب، وإن كَانَ يسيرًا (وَقَاضِيًا) أي سهلاً ليّنًا فِي حال قضائه الدين، بأن لا يماطل، ولا ينتقص منْ عددها، أو صفتها (وَمُقْتَضِيًا) أي سهلاً لينا فِي حال استيفائه حقّه منْ غرمائه، بأن لا يغلظ لهم القول، ويشدّد فِي مطالبتهم. وقوله (الْجَنَّةَ) بالنصب مفعول ثان لأدخل.
[فائدة]: قد اختلف النحاة فِي المنصوب فِي نحو قولك: دخلت المسجد، وسكنت البيت، وذهبت الشام، فقيل: منصوب عَلَى التوسع بإسقاط الخافض، فهو منْ قبيل المفعول به عَلَى الاتساع بإسقاط "فِي"، والأصل دخلت فِي المسجد، وسكنت فِي البيت، وهو مذهب الفارسيّ، وطائفة، واختاره ابن مالك. وقيل: إنه منصوب عَلَى الظرفية تشبيها له بالمبهم، وهو مذهب الشلوبين، واختاره ابن الحاجب. وقيل: إنه مفعول به، وعليه الأخفش، وجماعة
(1)
.
وَقَالَ ابن منظور: ما حاصله: الصحيح فيه أن أصله دخلت إلى البيت، فحذف حرف الجرّ، وانتصب انتصاب المفعول به؛ وذلك لأن الأمكنة عَلَى ضربين: مبهم، ومحدود، فالمبهم نحو الجهات الستّ، خلف، وقُدّام، ويمين، وشمال، وفوق،
(1)
انظر "الكوكب الدرّيّة شرح المتمّمة الأجرومية" 2/ 20 - 21.
وتحت، وما جرى مجرى ذلك منْ أسماء الجهات، كأمام، ووراء، وأعلى وأسفل، ونحوها، فهذا وما أشبهه منْ الأمكنة يكون ظرفًا؛ لأنه غير محدود، ألا ترى أن خلفك قد يكون قدّاما لغيرك.
وأما المحدود الذي له أقطار تحويه، نحو الجبل، والوادي، والسوق، والمسجد، والدار، فلا يكون ظرفًا؛ لأنك لا تقول: قعدت الدار، ولا صلّيت المسجد، ولا نِمتُ الجبل، ولا قمت الوادي، وما جاء منْ ذلك، فإنما هو بحذف حرف الجرّ، نحو دخلت البيت، وصعدت الجبل، ونزلت الوادي. انتهى خلاصةُ ما قاله ابن منظور باختصار فِي مادة "دخل"
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عثمان بن عفّان رضي الله تعالى عنه هَذَا حسنٌ.
[فإن قلت]: كيف يكون حسنًا، وفيه عطاء بن فرّوخ، وَقَالَ عنه فِي "التقريب": مقبول، فيحتاج إلى متابع، وأيضًا تقدم عن ابن المديني ما يدلّ عَلَى أنه منقطع؟.
[قلت]: إنما كَانَ حسنًا؛ لشواهده، فقد أخرج البخاريّ فِي "صحيحه" منْ حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:"رحم الله رجلا سمحا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى". وأخرج الترمذيّ، والحاكم منْ حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"إن الله يحبّ سمح البيع، سمح الشراء، سمح القضاء،".
والحاصل أن حديث عثمان رضي الله عنه هَذَا حسن؛ لما ذكر. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -104/ 4698 - وفي "الكبرى" 106/ 6295. وأخرجه (ق) فِي "الأحكام" 2202. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حسن العاملة، والرفق فِي المطالبة. (ومنها): الحضّ عَلَى استعمال معالي الأخلاق، وترك المشاحّة. (ومنها): الحضّ عَلَى ترك التضييق عَلَى النَّاس فِي المطالبة، وأخذ العفو عنهم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
انظر "لسان العرب" 11/ 239 - 240.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
105 - (الشَّرِكَةُ بِغَيْرِ مَالٍ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الشركة" بفتح الشين المعجمة، وكسر الراء، وبكسر أوله، وسكون الراء، وَقَدْ تُحذف الهاء، وَقَدْ يُفتح أوّله مع ذلك، فتلك أربع لغات، وهي شرعًا: ما يَحدُث بالاختيار بين اثنين، فصاعدًا منْ الاختلاط لتحصيل الربح، وَقَدْ تحصل بغير قصد، كالإرث. قاله فِي "الفتح" 5/ 425.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى -أعني الشركة بغير مال- يسمّى عند الفقهاء شركة الأبدان، وهو -كما قَالَ فِي "المغني"-: أن يشترك اثنان، أو أكثر فيما يكتسبونه بأيديهم، كالصُّنَّاعِ، يشتركون عَلَى أن يعملوا فِي صناعاتهم، فما رزق الله تعالى فهو بينهم.
وَقَدْ اختلف أهل العلم فِي جواز شركة الأبدان، فجوّزها أحمد، ومالك، فِي المباح، والصنائع، وجوّزها أبو حنيفة فِي الصنائع فقط، وأبطلها الشافعيّ مطلقًا، قَالَ فِي "المغني": فإن اشتركوا فيما يكتسبون منْ المباح، كالحطب، والحشيش، والثمار المأخوذة منْ الجبال، والمعادن، والتلصص عَلَى دار الحرب، فهذا جائز، نص عليه أحمد فِي رواية أبي طالب، فَقَالَ: لا بأس أن يشترك القوم بأبدانهم، وليس لهم مال، مثل الصيادين، والنقالين، والحمالين، قد أشرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، بين عمار، وسعد، وابن مسعود رضي الله عنهم، فجاء سعد بأسيرين، ولم يجيئا بشيء.
وفسر أحمد صفة الشركة فِي الغنيمة، فَقَالَ: يشتركان فيما يصيبان، منْ سَلَب المقتول؛ لأن القاتل يختص به، منْ دون الغانمين، وبهذا قَالَ مالك. وَقَالَ أبو حنيفة: يصح فِي الصناعة، ولا يصح فِي اكتساب المباح، كالاحتشاش، والاغتنام؛ لأن الشركة مقتضاها الوكالة، ولا تصح الوكالة فِي هذه الأشياء؛ لأن منْ أخذها ملكها. وَقَالَ الشافعيّ: شركة الأبدان كلها فاسدة؛ لأنها شركة عَلَى غير مال، فلم تصح، كما لو اختلفت الصناعات.
واحتجّ الأولون بحديث ابن مسعود رضي الله عنه المذكور فِي الباب، قالوا: ومثل هَذَا لا يخفى عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ أقرهم عليه، وَقَالَ أحمد: أشرك بينهم النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لكن الْحَدِيث فيه انقطاع، إلا أن بعض أهل العلم كالترمذيّ، يصحّح، أو يُحسّن رواية أبي عبيدة، عن أبيه، والظاهر لكون الواسطة بينه وبين أبيه ثقات، كالأسود، وعلقمة، وعَبيدة السلمانيّ، ونحوهم، قَالَ الحافظ ابن رَجَب رحمه الله فِي "شرح علل الترمذيّ": قَالَ ابن المديني فِي حديث يرويه أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه: هو منقطع، وهو حديث ثبت. وَقَالَ يعقوب بن شيبة: إنما استجاز أصحابنا أن يدخلوا حديث أبي عبيدة عن أبيه فِي المسند -يعني فِي الْحَدِيث المتصل- لمعرفة أبي عبيدة بحديث أبيه وصحتها، وأنه لم يأت فيها بحديث منكر. انتهى
(1)
. والظاهر أن الإِمام أحمد رحمه الله ممن يرى صحة هَذَا السند؛ ولذا احتجّ بهذا الْحَدِيث عَلَى صحّة شركة الأبدان، والله تعالى أعلم.
[فإن قيل]: فالمغانم مشتركة بين الغانمين، بحكم الله تعالى، فكيف يصح اختصاص هؤلاء بالشركة فيها؟، وَقَالَ بعض الشافعيّة: غنائم بدر كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له أن يدفعها إلى منْ شاء، فَيَحتَمِل أن يكون فعل ذلك لهذا؟.
[قلنا]: أما الأول، فالجواب عنه أن غنائم بدر، كانت لمن أخذها منْ قبل أن يُشرّك الله تعالى بينهم، ولهذا نقل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"منْ أخذ شيئا فهو له"
(2)
، فكان ذلك منْ قبيل المباحات، منْ سبق إلى أخذ شيء فهو له، ويجوز أن يكون شرك بينهم فيما يصيبونه منْ الأَسلاب والنَّفَل، إلا أن الأول أصح؛ لقوله: جاء سعد بأسيرين، ولم أجىء أنا، وعمار بشيء.
وأما الثاني: فإن الله تعالى إنما جعل الغنيمة لنبيه عليه السلام، بعد أن غنموا، واختلفوا فِي الغنائم، فأنزل الله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [الأنفال: 1]، والشركة كانت قبل ذلك، ويدل عَلَى صحة هَذَا، أنها لو كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يخل إما أن يكون قد أباح لهم أخذها، فصارت كالمباحات، أو لم يبحها لهم، فكيف يشتركون فِي شيء لغيرهم؟، وفي هَذَا الخبر حجة عَلَى أبي حنيفة أيضًا، لأنهم اشتركوا فِي مباح، وفيما ليس بصناعة، وهو يمنع ذلك، ولأن العمل أحد جهتي المضاربة، فصحت الشركة عليه كالمال، وعلى أبي حنيفة
(3)
أنهما اشتركا فِي مكسب مباح فصح، كما لو اشتركا فِي الخياطة، والقصارة، ولا نسلم أن الوكالة لا تصح فِي المباحات، فإنه يصح أن يستنيب فِي تحصيلها بأجرة، فكذلك يصح بغير عوض، إذا تبرع أحدهما بذلك، كالتوكيل فِي بيع ماله. انتهى "المغني" 7/ 111 - 112. والله تعالى أعلم بالصواب.
(1)
"شرح علل الترمذيّ" ص 182 تحقيق صبحي السامرّائي.
(2)
انظر "السيرة النبويّة لابن هشام" 1/ 641 - 642، ويحتاج إلى البحث عن إسناده، فليُحرّر.
(3)
هكذا نسخة "المغني"، وفيها ركاكة، فليحرّر.
4699 -
(أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: اشْتَرَكْتُ أَنَا وَعَمَّارٌ، وَسَعْدٌ، يَوْمَ بَدْرٍ، فَجَاءَ سَعْدٌ بِأَسِيرَيْنِ، وَلَمْ أَجِىءْ أَنَا وَعَمَّارٌ بِشَىْءٍ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث فيه انقطاع، بين أبي عبيدة، وعبد الله مسعود رضي الله عنه، وَقَدْ تقدم فِي الْحَدِيث الماضي أنّ بعض أهل العلم يصححه، وَقَدْ تقدّم فِي "كتاب المزارعة" 3965 - و"يحيى": هو القطّان. و"سفيان": هو الثوريّ. و"أبو عبيدة": هو ابن عبد الله مسعود رضي الله عنه والمشهور أن اسمه كنيته، وقيل: عامر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4700 -
(أَخْبَرَنَا نُوحُ بْنُ حَبِيبٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، أُتِمَّ مَا بَقِيَ فِي مَالِهِ، إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: كَانَ الأولى للمصنّف رحمه الله أن يذكر هَذَا الْحَدِيث فِي الباب التالي؛ لأنه لا يناسب هَذَا الباب، وَقَدْ مضى له مثل هَذَا العمل غير مرّة، ونبّهت عليه كثيرًا، والله تعالى أعلم.
ورجال إسناده كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو، وأبو داود، وهو قُومَسيٌّ ثقة سُنّيّ [10] 79/ 1010.
وقوله: "منْ أعتق": أي ممن يلزم عتقه، فخرج الصبيّ، والمجنون. وقوله:"شركا له" بكسر الشين، وفتحها، مع كسر الراء، وسكونها: أي نصيبًا. وقوله: "أُتمّ" بالبناء للمفعول: يعني أن ذلك العبد يكون حرًّا، وعلى المعتق أن يدفع مما له ما بقي منْ قيمته لشريكه. والله تعالى أعلم.
والحديث متّفق عليه بنحوه، وسيأتي تمام شرحه، وبيان مسائله فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
106 - (الشَّرِكَةُ فِي الرَّقِيقِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الرقيق: المملوك، واحد وجمعٌ، فَعيلٌ بمعنى مفعول، وَقَدْ يُطلق عَلَى الجماعة، تقول منه: رَقّ العبدَ، وأرقّه، واسترقّه. قَالَ: وَقَالَ
أبو العبّاس: سمّي العبيدُ رقيقًا؛ لأنهم يخضعون لمالكهم، ويَذِلُّون، ويَخضَعُون. قاله فِي "اللسان".
وَقَالَ الفيّوميّ رحمه الله تعالى: الرِّقّ بالكسر: العُبُوديّة، وهو مصدر رَقَّ الشخصُ يَرِقُّ، منْ باب ضرب، فهو رَقِيقٌ، ويتعدَّى بالحركة، وبالهمزة، فيقالُ: رَققتُه أرُقّه، منْ باب قتل، وأرققته، فهو مرقوقٌ، ومُرَقٌّ، وأمةٌ مرقوقةٌ. قاله ابن السّكّيت. ويُطلق الرقيق عَلَى الذكر والأنثى، وجمعه أَرِقّاء، مثلُ شَحِيحٍ وأَشِحّاء، وَقَدْ يُطلق عَلَى الجمع أيضًا، فيقال: عَبِيدٌ رقِيقٌ، و"ليس فِي الرقيق صدقةٌ": أي فِي عبيد الخدمة. انتهى "المصباح المنير" 1/ 235. والله تعالى أعلم بالصواب.
4701 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -وَهُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْمَالِ، مَا يَبْلُغُ ثَمَنَهُ، بِقِيمَةِ الْعَبْدِ، فَهُوَ عَتِيقٌ مِنْ مَالِهِ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(عمرو بن عليّ) الْفَلّاس الصيرفيّ البصريّ، ثقة حافظ [10] 4/ 4.
2 -
(يزيد بن زريع) أبو معاوية البصريّ، ثقة ثبت [8] 5/ 5.
3 -
(أيوب) بن أبي تميمة كيسان السختيانيّ البصريّ، ثقة ثبت فقيه [5] 42/ 48.
4 -
(نافع) مولى ابن عمر المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 12/ 12.
5 -
(ابن عمر) عبد الله رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين إلى أيوب، والباقيان مدنيّان. (ومنها): أن شيخه هو أحد مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة، كما سبق غير مرّة. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه ابن عمر أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ) قَالَ فِي "الفتح": ظاهره العموم، لكنه مخصوص بالاتفاق، فلا يصح منْ المجنون، ولا منْ المحجور عليه؛ لسفه، وفي المحجور عليه بفَلَس، والعبد، والمريض مَرَضَ الموت، والكافر، تفاصيل للعلماء بحسب ما يظهر عندهم، منْ أدلة التخصيص، ولا
يقوم فِي مرض الموت عند الشافعيّة، إلا إذا وَسِعَه الثلث، وَقَالَ أحمد: لا يُقَوَّم فِي المرض مطلقا. وخرج بقوله: "أعتق" ما إذا عتق عليه، بأن وَرِث بعض منْ يَعتِق عليه بقرابة، فلا سراية عند الجمهور، وعن أحمد روايةٌ، وكذلك لو عجز المكاتب، بعد أن اشترى شقصا، يعتق عَلَى سيده، فإن الملك والعتق يحصلان بغير فعل السيد، فهو كالإرث، ويدخل فِي الاختيار، ما إذا أُكره بحقّ، ولو أوصى بعتق نصيبه منْ المشترك، أو بعتق جزء ممن له كله، لم يَسْرِ عند الجمهور أيضا؛ لأن المال ينتقل للوارث، ويصير الميت معسرا، وعن المالكية رواية، وحجة الجمهور مع مفهوم الخبر، أن السراية عَلَى خلاف القياس، فيختص بِمَوْرِدِ النص، ولان التقويم سبيله سبيل غرامة المتلفات، فيقتضي التخصيصَ بصدور أمر يجعله إتلافا.
ثم ظاهر قوله: "منْ أعتق" وقوع العتق مُنَجَّزًا، وأجرى الجمهور المعلق بصفة، إذا وجدت مجرى المنجز. انتهى "فتح" 5/ 454.
(شِرْكًا لَهُ) -بكسر الشين المعجمة، وسكون الراء- وفي رواية المصنّف فِي "الكبرى" فِي "كتاب العتق":"شِقْصًا" -بمعجمة، وقاف، ومهملة، وزن الأول- وفي رواية:"نصيبا": والكل بمعنى واحد، إلا أن ابن دُرَيدٍ قَالَ: هو القليل والكثير، وَقَالَ القزاز: لا يكون الشِّقص إلا كذلك، والشِّرك فِي الأصل مصدرٌ، أُطلق عَلَى مُتَعَلَّقِهِ، وهو العبد المشترك، ولابد فِي السياق منْ إضمار جزء، أو ما أشبه؛ لأن المشترك هو الجملة، أو الجزء المعين منها.
وظاهره العموم فِي كل رقيق، لكن يُستثنى الجاني، والمرهون، ففيه خلافٌ، والأصح فِي الرهن والجناية منع السراية؛ لأن فيها إبطال حق المرتهن، والمجنيّ عليه، فلو أَعتق مشتركا بعد أن كاتباه، فإن كَانَ لفظ العبد يتناول المكاتب، وقعت السراية، وإلا فلا، ولا يكفي ثبوت أحكام الرق عليه، فقد تثبت، ولا يستلزم استعمال لفظ العبد عليه، ومثله ما لو دبراه، لكن تناول لفظ العبد للمدبر، أقوى منْ المكاتب، فَيَسْرِي هنا عَلَى الأصح، فلو أعتق منْ أمة، ثبت كونها أم ولد لشريكه، فلا سراية؛ لأنها تستلزم النقل منْ مالك إلى مالك، وأم الولد لا تقبل ذلك، عند منْ لا يرى بيعها، وهو أصح قولي العلماء. قاله فِي "الفتح" 5/ 454.
(فِي مَمْلُوكٍ) متعلّق بـ"شركًا" ورواية المصنّف ظاهرة فِي كون الحكم يعم العبد والأمة، ففيه ردّ عَلَى إسحاق بن راهويه فِي تخصيصه بالذكور، وَقَدْ ترجم الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" بقوله:"باب إذا أعتق عبدًا بين اثنين، أو أمة، بين الشركاء"، فَقَالَ
ابن التين رحمه الله تعالى: أراد أن العبد كالامة، لاشتراكهما فِي الرق، قَالَ: وَقَدْ بُيِّن فِي حديث ابن عمر فِي آخر الباب، أنه كَانَ يفتي فيهما بذلك انتهى.
قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: وكأنه أشار إلى رد قول إسحاق بن راهويه: إن هَذَا الحكم مختص بالذكور، وهو خطأ.
وادَّعَى ابن حزم أن لفظ العبد فِي اللغة يتناول الأمة، وفيه نظر، ولعله أراد المملوك.
وَقَالَ القرطبيّ: العبد اسم للمملوك الذكر، بأصل وضعه، والأمة اسم لمؤنثه بغير لفظه، ومن ثم قَالَ إسحاق: إن هَذَا الحكم لا يتناول الأنثى، وخالفه الجمهور، فلم يفرقوا فِي الحكم بين الذكر والأنثى، إما لأن لفظ العبد يراد به الجنس، كقوله تعالى:{إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} الآية [مريم: 93]، فإنه يتناول الذكر والأنثى قطعا، وإما عَلَى طريق الإلحاق؛ لعدم الفارق، قَالَ: وحديث ابن عمر منْ طريق موسى بن عقبة، عن نافع، عنه: أنه كَانَ يفتي فِي العبد والأمة، يكون بين الشركاء الْحَدِيث، وَقَدْ قَالَ فِي آخره: يخبر ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فظاهره أن الجميع مرفوع.
وَقَدْ رواه الدارقطنيّ منْ طريق الزهريّ، عن نافع، عن ابن عمر، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منْ كَانَ له شرك فِي عبد، أو أمة" الْحَدِيث، قَالَ الحافظ: وهذا أصرح ما وجدته فِي ذلك، ومثله ما أخرجه الطحاوي، منْ طريق ابن إسحاق، عن نافع مثله، وَقَالَ فيه:"حُمِل عليه ما بقي فِي ماله، حَتَّى يَعتَق كلُّه".
وَقَدْ قَالَ إمام الحرمين: إدراك كون الأمة فِي هَذَا الحكم كالعبد، حاصل للسامع قبل التفطن، لوجه الجمع والفرق، والله أعلم.
قَالَ الحافظ: وَقَدْ فرق بينهما عثمان البَتَّيُّ بمأخذ آخر، فَقَالَ: ينفذ عتق الشريك فِي جميعه، ولا شيء عليه لشريكه، إلا أن تكون الأمة جميلة، تراد للوطء، فيضمن ما أدخل عَلَى شريكه فيها منْ الضرر.
قَالَ النوويّ: قول إسحاق شاذّ، وقول عثمان فاسد. انتهى.
وإنما قيد البخاريّ العبد باثنين، والأمة بالشركاء، اتّباعا للفظ الْحَدِيث الوارد فيهما، وإلا فالحكم فِي الجميع سواء. انتهى "فتح" 5/ 453.
(وَكَانَ لَهُ مِنَ الْمَالِ، مَا يَبْلُغُ) وَقَالَ فِي "الفتح": والتقييد بـ"يبلغ" يُخرج ما إذا كَانَ له مال، لكنه لا يبلغ قيمة النصيب، وظاهره أنه فِي هذه الصورة لا يُقَوَّم عليه مطلقا، لكن الأصح عند الشافعيّة، وهو مذهب مالك: أنه يَسرِي إلى القدر الذي هو موسر به، تنفيذا للعتق بحسب الإمكان. انتهى.
وفي رواية البخاريّ منْ طريق سالم، عن أبيه:"فإن كَانَ موسرًا قُوّم عليه": قَالَ فِي
"الفتح": ظاهره اعتبار ذلك حال العتق حَتَّى لو كَانَ معسرا، ثم أيسر بعد ذلك، لم يتغير الحكم، ومفهومه أنه إن كَانَ معسرا، لم يُقَوَّم، وَقَدْ أفصح بذلك فِي رواية مالك، حيث قَالَ فيها:"وإلا فقد عتق منه ما عتق"، ويبقى ما لم يُعتق عَلَى حكمه الأول، هَذَا الذي يفهم منْ هَذَا السياق، وهو السكوت عن الحكم بعد هَذَا الإبقاء.
وقوله: "قُوِّم عليه": بضم أوله، زاد مسلم، والنسائي فِي "الكبرى": فِي روايتهما منْ هَذَا الوجه: "فِي ماله قيمةَ عدل، لا وَكْسَ، ولا شَطَطَ"، والوَكْسُ بفتح الواو، وسكون الكاف، بعدها مهملة: النقص، والشطط: بمعجمة، ثم مهملة مكررة، والفتح: الْجَوْرُ. واتفق منْ قَالَ بذلك منْ العلماء عَلَى أنه يُباع عليه فِي حصة شريكه، جميع ما يباع عليه فِي الدين، عَلَى اختلاف عندهم فِي ذلك، ولو كَانَ عليه دين، بقدر ما يملكه، كَانَ فِي حكم الموسر، عَلَى أصح قولي العلماء، وهو كالخلاف فِي أن الدين، هل يمنع الزكاة، أم لا؟.
ووقع فِي رواية الشافعيّ، والحميدي:"فإنه يُقَوَّم عليه بأعلى القيمة، أو قيمة عدل"، وهو شك منْ سفيان، وَقَدْ رواه أكثر أصحابه عنه، بلفظ:"قُوِّم عليه قيمةَ عدل"، وهو الصواب.
(ثَمَنَهُ) أي ثمن العبد، والمراد ثمن بقية العبد؛ لأنه موسر بحصته، وَقَدْ أوضح ذلك النسائيّ فِي "الكبرى" 14/ 4951 - منْ طريق زيد بن أبي أنيسة، عن عمر بن نافع، وعبيد الله بن عمر، ومحمد بن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر، بلفظ:"أيما رجل، كَانَ له شرك فِي عبد، فأعتق نصيبه منه، وله مال، يبلغ قيمة أنصباء شركائه، فإنه يضمن لشركائه أنصباءهم، ويَعتِق العبد".
والمراد بالثمن هنا القيمة؛ لأن الثمن ما اشتريت به العين، واللازم هنا القسمة، لا الثمن، وَقَدْ تبين المراد فِي رواية زيد بن أبي أنيسة المذكورة.
(بِقِيمَةِ الْعَبْدِ) هكذا نسخ "المجتبى" التي بين يديّ، بلفظ "العبد"، وهو غلطٌ، والصواب ما فِي "الكبرى" بلفظ:"بقيمة العدل"، وهو الذي فِي "صحيح البخاريّ"، وغيره، ومعنى "قيمة العدل" يحتمل أن تكون الإضافة فيه بيانيّة: أي بقيمة، هي عدْلٌ ووسَطٌ، لا زيادة فيها، ولا نقص، فهو بمعنى رواية "الكبرى" المذكورة:"قيمة عدل، لا وَكْسَ، ولا شَطَط".
(فَهُوَ) أي ذلك العبد (عَتِيقٌ) بفتح أوله، وكسر ثانيه: أي مُعتَق بضم أوله وفتح المثناة (مِنْ مَالِهِ) أي منْ مال ذلك الشخص الذي أعتق نصيبه، ولفظ البخاريّ منْ طريق مالك، عن نافع: "منْ أعتق شركا له فِي عبد، فكان له مالٌ، يبلغ ثمن العبد، قُوِّم العبد عليه
قيمةَ عدل، فأَعْطَى شُركاءَه حِصَصَهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق".
وفي روية موسى بن عقبة، قَالَ: أخبرني نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه كَانَ يفتي فِي العبد، أو الأمة يكون بين شُركاء، فيُعتق أحدهم نصيبه منه، يقول: قد وجب عليه عتقه كلِّهِ، إذا كَانَ للذي أعتق منْ المال ما يبلُغُ يُقوَّم منْ ماله قيمة العدل، ويُدفَع إلى الشركاء أنصاؤهم، ويُخلَّى سَبيل المعتق، يُخبر بذلك ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ فِي "الفتح": قوله: "فأعطى شركاءه": كذا للأكثر عَلَى البناء للفاعل، وشركاءه بالنصب، ولبعضهم:"فأُعطي" عَلَى البناء للمفعول، و"شركاؤه" بالضم.
وقوله: "حصصهم": أي قيمة حصصهم: أي إن كَانَ له شركاء، فإن كَانَ له شريك أعطاه جميع الباقي، وهذا لا خلاف فيه، فلو كَانَ مشتركا بين الثلاثة، فأعتق أحدهم حصته، وهي الثلث، والثاني حصته، وهي السدس، فهل يُقَوَّم عليهما نصيب صاحب النصف بالسوية، أو عَلَى قدر الحصص، الجمهور عَلَى الثاني، وعند المالكية، والحنابلة خلاف، كالخلاف فِي الشفعة، إذا كانت لاثنين، هل يأخذان بالسوية، أو عَلَى قدر الملك. وقوله:"عتق منه ما عتق": قَالَ الداودي: هو بفتح العين منْ الأول، ويجوز الفتح والضم فِي الثاني، وتعقبه ابن التين بأنه لم يقله غيره، وإنما يقال عَتَقَ بالفتح، وأُعتِق بضم الهمزة، ولا يعرف عُتِق بضم أوله؛ لأن الفعل لازم، غير متعد.
ولفظ رواية عبيد الله بن عمر، عن نافع:"منْ أعتق شركًا له فِي مملوكه، فعليه عتقه كلّه، إن كَانَ له مال، يبلغ ثمنه، فإن لم يكن له مال يُقوّم عليه قيمة عَدلٍ عَلَى المعتِقِ، فأُعتق منه ما أعتق".
قَالَ فِي "الفتح": قوله: "فان لم يكن له مال يقوم عليه قيمة عدل عَلَى المعتق" هكذا فِي هَذَا الرواية، وظاهرها أن التقويم يشرع فِي حق منْ لم يكن له مال، وليس كذلك، بل قوله:"يُقَوَّم" ليس جوابا للشرط، بل هو صفةُ منْ له المال، والمعنى: أن منْ لا مال له، بحيث يقع عليه اسم التقويم، فإن العتق يقع فِي نصيبه خاصة، وجواب الشرط هو قوله:"فأُعتق منه ما أَعتق"، والتقدير: فقد أُعتق منه ما أَعتَق، وَقَدْ وقع فِي رواية أبي بكر، وعثمان ابني أبي شيبة، عن أبي أسامة، عند الإسماعيلي، بلفظ:"فإن لم يكن له مال، يقوم عليه قيمة عدل، عَتَقَ منه ما عتق".
وأوضح منْ ذلك رواية خالد بن الحارث، عن عبيد الله، عند النسائيّ فِي "الكبرى" 14/ 4947 - بلفظ:"فإن كَانَ له مال، قُوِّم عليه قيمةَ عدل فِي ماله، فإن لم يكن له مال، عَتَق منه ما عَتَق".
وقع عند البخاريّ، منْ رواية حماد بن زيد، عن أيوب:"قَالَ نافع: وإلا فقد عتق منه ما عتق، قَالَ أيوب: لا أدري، أشيء قاله نافع، أو شيء منْ الْحَدِيث؟ ".
قَالَ فِي "الفتح": قوله: "قَالَ: أيوب لا أدري أشيء، قاله نافع، أو شيء فِي الْحَدِيث؟ ": هَذَا شك منْ أيوب فِي هذه الزيادة، المتعلقة بحكم المعسر، هل هي موصولة مرفوعة، أو منقطعة مقطوعة، وَقَدْ رواه عبد الوهاب، عن أيوب، فَقَالَ فِي آخره:"وربما قَالَ: وإن لم يكن له مال، فقد عَتَق منه ما عَتَق، وربما لم يقله، وأكثر ظني أنه شيء يقوله نافع منْ قبله"، أخرجه النسائيّ فِي "الكبرى" 14/ 4955.
وَقَدْ وافق أيوب عَلَى الشك فِي رفع هذه الزيادة، يحيى بن سعيد، عن نافع، أخرجه مسلم، والنسائي، ولفظ النسائيّ -14/ 4960 - وكان نافع يقول -قَالَ يحيى: لا أدري أشيء كَانَ منْ قبله يقوله، أم شيء فِي الْحَدِيث؟ - فإن لم يكن عنده، فقد جاز ما صنع. ورواها منْ وجه آخر عن يحيى، فجزم بأنها عن نافع، وأدرجها فِي المرفوع منْ وجه آخر، وجزم مسلم بأن أيوب ويحيى قالا: لا ندري أهو فِي الْحَدِيث، أو شيء قاله نافع منْ قبله؟ ولم يُختَلَف عن مالك فِي وصلها، ولا عن عبيد الله بن عمر، لكن اختلف عليه فِي إثباتها وحذفها، كما تقدم والذين أثبتوها حفاظ، فاثباتها عن عبيد الله مقدم، وأثبتها أيضا جرير بن حازم، عند البخاريّ، وإسماعيل بن أمية عند الدارقطنيّ، وَقَدْ رجح الأئمة رواية منْ أثبت هذه الزيادة مرفوعة، قَالَ الشافعيّ: لا أحسب عالما بالحديث يشك فِي أن مالكا أحفظ لحديث نافع، منْ أيوب؛ لأنه كَانَ ألزم له منه، حَتَّى ولو استويا، فشك أحدهما فِي شيء، لم يشك فيه صاحبه، كانت الحجة مع منْ لم يشك، ويؤيد ذلك قول عثمان الدارمي: قلت لابن معين: مالك فِي نافع، أحب إليك أو أيوب؟ قَالَ: مالك. قاله فِي "الفتح" 5/ 457.
وسيأتي بيان ثمرة الخلاف فِي رفع هذه الزيادة أو وقفها فِي الكلام عَلَى حديث أبي هريرة فِي المسألة الرابعة، إن شاء الله تعالى.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث.
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -106/ 46701 وفي الباب الماضي 105/ 46700 - وفي "الكبرى" 108/ 6297 وفي الباب الماضي 107/ 6296. وأخرجه (خ) فِي "الشركة" 2491
و2503 و"العتق" 2522 و2523 و2524 و2525 و2553 (م) فِي "العتق" 1501 (د) فِي "العتق" 3940 و3943 و3946 و3947 (ت) فِي "الأحكام" 1346 و1347 (ق) فِي "الأحكام" 2528 (أحمد) فِي "مسند العشرة" 399 و4621 و4883 و5128 و2727 (الموطأ) فِي "العتق، والولاء"1504. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز الشركة فِي الرقيق. (ومنها): أن فيه دليلاً عَلَى أن الموسر إذا أعتق نصيبه، منْ مملوك عتق كله، قَالَ ابن عبد البر: لا خلاف فِي أن التقويم، لا يكون إلا عَلَى الموسر، ثم اختلفوا فِي وقت العتق، فَقَالَ الجمهور، والشافعي فِي الأصح، وبعض المالكية: إنه يَعتق فِي الحال، وَقَالَ بعض الشافعيّة: لو أعتق الشريكُ نصيبه بالتقويم، كَانَ لغوًا، ويَغرَم المعتق حصة نصيبه بالتقويم، وحجتهم رواية أيوب، فِي الباب، حيث قَالَ:"منْ أعتق نصيبا، وكان له منْ المال ما يبلغ قيمته، فهو عتيق"، وأوضح منْ ذلك رواية النسائيّ، وابن حبّان، وغيرهما، منْ طريق سليمان بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر، بلفظ:"منْ أعتق عبدا، وله فيه شركاء، وله وفاءٌ، فهو حر، ويضمن نصيب شركائه بقيمته"، وللطحاوي منْ طريق ابن أبي ذئب، عن نافع:"فكان للذي يُعتق نصيبه ما يبلغ ثمنه، فهو عتيق كله، حَتَّى لو أَعسَر الموسر المعتِق بعد ذلك، استمر العتق، وبقي ذلك دينا فِي ذمته، ولو مات أُخذ منْ تركته، فإن لم يخلُف شيئا، لم يكن للشريك شيء، واستمر العتق، والمشهور عند المالكية: أنه لا يَعتِق إلا بدفع القيمة، فلو أعتق الشريك قبل أخذ القيمة نفذ عتقه، وهو أحد أقوال الشافعيّ، وحجتهم رواية سالم عند البخاريّ، حيث قَالَ: "فإن كَانَ موسرا، قُوّم عليه، ثم يَعتِق".
والجواب أنه لا يلزم منْ ترتيب العتق عَلَى التقويم، ترتيبه عَلَى أداء القيمة، فإن التقويم يفيد معرفة القيمة، وأما الدفع فقدر زائد عَلَى ذلك.
وأما رواية مالك التي فيها: "فأعطَى شركاءَهُ حصصهم، وعتق عليه العبد"، فلا تقتضي ترتيبا؛ لسياقها بالواو.
(ومنها): أن فيه حجةً عَلَى ابن سيرين، حيث قَالَ: يَعتِق كله، ويكون نصيب منْ لم يُعتِق فِي بيت المال؛ لتصريح الْحَدِيث بالتقويم عَلَى المعتق.
وعلى ربيعة، حيث: قَالَ: لا يَنفُذ عتق الجزء منْ موسر، ولا معسر، وكأنه لم يثبت عنده الْحَدِيث، وعلى بُكير بن الأشج، حيث قَالَ: إن التقويم يكون عند إرادة العتق، لا بعد صدوره.
وعلى أبي حنيفة، حيث قَالَ: يتخير الشريك، بين أن يُقوّم نصيبه عَلَى المعتق، أو يُعتِق نصيبه، أو يُستسعَى العبدُ فِي نصيب الشريك، ويقال: إنه لم يُسبَق إلى ذلك، ولم يتابعه عليه أحد، حَتَّى ولا صاحباه، وطرد قوله فِي ذلك، فيما لو أعتق بعضَ عبده، فالجمهور، قالوا: يعتق كله، وَقَالَ هو: يُستسعَى العبدُ فِي قيمة نفسه لمولاه، واستثنى الحنفية، ما إذا أذن الشريك، فَقَالَ لشريكه: أعتق نصيبك، قالوا: فلا ضمان فيه.
(ومنها): أنه استُدِلَّ به عَلَى أن منْ أتلف شيئا منْ الحيوان، فعليه قيمته، لا مثله، ويلتحق بذلك ما لا يكال، ولا يوزن، عند الجمهور.
[تنبيه]: قَالَ ابن بطال رحمه الله تعالى: قيل: الحكمة فِي التقويم عَلَى الموسر، أن تكمل حرية العبد؛ لتتم شهادته وحدوده، قَالَ: والصواب أنها لاستكمال إنقاذ الْمُعتِق منْ النار. قَالَ الحافظ: وليس القول المذكور مردودا، بل هو محتمل أيضا، ولعل ذلك أيضا هو الحكمة فِي مشروعية الاستسعاء. ذكره فِي "الفتح" 5/ 458. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي اختلاف العلماء فِي الجمع بين حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي أخرجه المصنّف فِي "كتاب العتق" منْ "الكبرى" بطرق، وألفاظ مختلفة، وأخرجه الشيخان، وغيرهم.
قَالَ الإِمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه": 2/ 893: "باب إذا أعتق نصيبا فِي عبد، وليس له مال استُسعي العبد، غير مشقوق عليه، عَلَى نحو الكتابة":
حدثنا أحمد بن أبي رجاء، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا جرير بن حازم، سمعت قتادة، قَالَ: حدثني النضر بن أنس بن مالك، عن بَشِير بن نَهِيك، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "منْ أعتق شقيصا منْ عبد".
حدثنا مسدد، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بَشِير بن نهِيك، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"منْ أعتق نصيبا، أو شقيصا فِي مملوك، فخلاصه عليه فِي ماله، إن كَانَ له مال، وإلا قُوّم عليه، فاستُسعيَ به، غير مشقوق عليه".
تابعه حجاج بن حجاج، وأبان وموسى بن خلف، عن قتادة اختصره شعبة. انتهى.
قَالَ فِي "الفتح": قوله: "باب إذا أعتق نصيبا فِي عبد الخ": أشار البخاريّ بهذه الترجمة إلى أن المراد بقوله، فِي حديث ابن عمر:"وإلا فقد عَتَق منه ما عَتَق": أي وإلا فإن كَانَ المعتق لا مال له، يبلغ قيمة بقية العبد، فقد تنجز عتق الجزء الذي كَانَ يملكه، وبقي الجزء الذي لشريكه عَلَى ما كَانَ عليه أولا، إلى أن يستسعى العبد فِي تحصيل القدر
الذي يخلص به باقيه منْ الرِّقّ، إن قوي عَلَى ذلك، فإن عَجَّز نفسه، استمرت حصة الشريك موقوفة، وهو مصير منه إلى القول بصحة الحديثين جميعا، والحكم برفع الزيادتين معا، وهما قوله فِي حديث ابن عمر:"وإلا فقد عتق منه ما عتق"، وَقَدْ تقدم بيان منْ جزم بأنها منْ جملة الْحَدِيث، وبيان منْ توقف فيها، أو جزم بأنها منْ قول نافع، وقوله فِي حديث أبي هريرة:"فاستُسْعِيَ به، غير مشقوق عليه"، وسيأتي بيان منْ جزم بأنها منْ جملة الْحَدِيث، ومن توقف فيها، أو جزم بأنها منْ قول قتادة، قَالَ الحافظ: وَقَدْ بينت ذلك فِي كتابي "المدرج" بأبسط مما هنا، وَقَدْ استبعد الإسماعيلي إمكان الجمع بين حديثي ابن عمر وأبي هريرة، ومنع الحكم بصحتهما معا، وجزم بأنهما متدافعان، وَقَدْ جمع غيره بينهما بأوجه أخر، يأتي بيانها فِي أواخر الباب، إن شاء الله تعالى.
وقوله: "منْ أعتق شقيصا منْ عبد"، وللإسماعيلي منْ طريق بشر بن السري، ويحيى بن بكير جميعا، عن جرير بن حازم، بلفظ:"منْ أعتق شقصا منْ غلام، وكان للذي أعتقه منْ المال، ما يبلغ قيمة العبد، أُعتق فِي ماله، وإن لم يكن له مال، استُسْعِي العبدُ، غير مشقوق عليه".
وقوله: "غير مشقوق عليه": قَالَ ابن التين: معناه لا يُستَغْلَى عليه فِي الثمن، وقيل: معناه غير مكاتب، وهو بعيدٌ جدًّا، وفي ثبوت الاستسعاء حجة عَلَى ابن سيرين، حيث قَالَ: يعتق نصيب الشريك الذي لم يُعتِق منْ بيت المال.
وَقَالَ عند قوله: "تابعه حجاج بن حجاج، وأبان وموسى بن خلف، عن قتادة، واختصره شعبة": ما حاصله: أراد البخاريّ بهذا الردَّ عَلَى منْ زعم أن الاستسعاء فِي هَذَا الْحَدِيث غير محفوظ، وأن سعيد بن أبي عروبة تفرد به، فاستظهر له برواية جرير بن حازم بموافقته، ثم ذكر ثلاثة تابعوهما عَلَى ذكرها:
فأما رواية حجاج، فهو فِي نسخة حجاج بن حجاج، عن قتادة، منْ رواية أحمد بن حفص، أحد شيوخ البخاريّ، عن أبيه، عن إبراهيم بن طهمان، عن حجاج، وفيها ذكر السعاية، ورواه عن قتادة أيضا حجاج بن أرطاة، أخرجه الطحاوي.
وأما رواية أبان، فأخرجها أبو داود، والنسائي منْ طريقه، قَالَ: حدثنا قتادة، أخبرنا النضر بن أنس، ولفظه:"فإنّ عليه أن يُعتِق بقيته، إن كَانَ له مال، وإلا استُسعي العبد"، الْحَدِيث، ولأبي داود:"فعليه أن يعتقه كله"، والباقي سواء.
وأما رواية موسى بن خلف، فوصلها الخطيب فِي كتاب "الفصل والوصل" منْ طريق أبي ظَفَر، عبد السلام بن مطهّر عنه، عن قتادة، عن النضر، ولفظه: "منْ أعتق شِقْصًا له فِي مملوك، فعليه خلاصه، إن كَانَ له مال، فإن لم يكن له، مال استُسعي، غير مشقوق
عليه". وأما رواية شعبة، فأخرجها مسلم، والنسائي، منْ طريق غندر عنه، عن قتادة بإسناده، ولفظه: "عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فِي المملوك بين الرجلين، فيعتق أحدهما نصيبه، قَالَ: يضمن"، ومن طريق معاذ، عن شعبة، بلفظ: "منْ أعتق شقصا منْ مملوك، فهو حر منْ ماله"، وكذا أخرجه أبو عوانة، منْ طريق الطيالسي، عن شعبة، وأبو داود منْ طريق رَوْح عن شعبة، بلفظ: "منْ أعتق مملوكا، بينه وبين آخر، فعليه خلاصه"، وَقَدْ اختصر ذكر السعاية أيضا هشام الدستوائي، عن قتادة، إلا أنه اختُلف عليه فِي إسناده، فمنهم منْ ذكر فيه النضر بن أنس، ومنهم منْ لم يذكره، وأخرجه أبو داود، والنسائي بالوجهين، ولفظ أبي داود، والنسائي، جميعا منْ طريق معاذ بن هشام، عن أبيه: "منْ أعتق نصيبا له فِي مملوك، عتق منْ ماله، إن كَانَ له مال"، ولم يُختَلف عَلَى هشام فِي هَذَا القدر منْ المتن. وغفل عبد الحق، فزعم أن هشاما وشعبة ذكرا الاستسعاء، فوصلاه، وتَعَقّب ذلك عليه ابن الْمَوّاق، فأجاد.
وبالغ ابن العربي، فَقَالَ: اتفقوا عَلَى أن ذكر الاستسعاء، ليس منْ قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما هو منْ قول قتادة. ونقل الخلال فِي "العلل" عن أحمد أنه ضعف رواية سعيد، فِي الاستسعاء، وضعفها أيضا الأثرم، عن سليمان بن حرب، واستند إلى أن فائدة الاستسعاء، أن لا يدخل الضرر عَلَى الشريك، قَالَ: فلو كَانَ الاستسعاء مشروعا، للزم أنه لو أعطاه مثلا، كل شهر درهمين، أنه يجوز ذلك، وفي ذلك غاية الضرر عَلَى الشريك. انتهى.
وبمثل هَذَا لا ترد الأحاديث "الصحيحة" قَالَ النسائيّ: بلغني أن هماما رواه، فجعل هَذَا الكلام، أي الاستسعاء منْ قول قتادة.
وَقَالَ الإسماعيلي: قوله: "ثم استُسْعِيَ العبد"، ليس فِي الخبر مسندا، وإنما هو قول قتادة، مدرج فِي الخبر، عَلَى ما رواه همام.
وَقَالَ ابن المنذر، والخطابي: هَذَا الكلام الأخير منْ فتيا قتادة، ليس فِي المتن.
قَالَ الحافظ: ورواية همام قد أخرجها أبو داود، عن محمد بن كثير عنه، عن قتادة، لكنه لم يذكر الاستسعاء أصلا، ولفظه:"أن رجلا أعتق شقصا منْ غلام، فأجاز النبيّ صلى الله عليه وسلم عتقه، وغَرَّمه بقية ثمنه"، نعم رواه عبد الله بن يزيد المقرىء، عن همام، فذكر فيه السعاية، وفصلها منْ الْحَدِيث المرفوع، أخرجه الإسماعيلي، وابن المنذر، والدارقطني، والخطابي، والحاكم، فِي "علوم الْحَدِيث"، والبيهقي، والخطيب فِي "الفصل والوصل"، كلهم منْ طريقه، ولفظُهُ مثل رواية محمد بن كثير سواء، وزاد: قَالَ: فكان قتادة يقول: إن لم يكن له مال، استُسْعِيَ العبد". قَالَ الدارقطنيّ: سمعت
أبا بكر النيسابوري يقول: ما أحسن ما رواه همام ضبطه، وفصل بين قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبين قول قتادة.
قَالَ الحافظ: هكذا جزم هؤلاء بأنه مدرج، وأَبىَ ذلك آخرون، منهم: صاحبا "الصحيح"، فصححا كون الجميع مرفوعا، وهو الذي رجحه ابن دقيق العيد، وجماعة؛ لأن سعيد بن أبي عروبة، أعرف بحديث قتادة؛ لكثرة ملازمته له، وكثرة أخذه عنه، منْ همام وغيره، وهشام، وشعبة، وإن كانا أحفظ منْ سعيد، لكنهما لم ينافيا ما رواه، وإنما اقتصرا منْ الْحَدِيث عَلَى بعضه، وليس المجلس متحدا، حَتَّى يتوقف فِي زيادة سعيد، فإن ملازمة سعيد لقتادة، كانت أكثر منهما، فسمع منه ما لم يسمعه غيره، وهذا كله لو انفرد، وسعيد لم ينفرد، وَقَدْ قَالَ النسائيّ فِي حديث قتادة، عن أبي المليح، فِي هَذَا الباب، بعد أن ساق الاختلاف فيه عَلَى قتادة: هشام، وسعيد أثبت فِي قتادة، منْ همام. وما أُعل به حديث سعيد، منْ كونه اختلط، أو تفرد به مردود، لأنه فِي "الصحيحين"، وغيرهما منْ رواية منْ سمع منه قبل الاختلاط، كيزيد بن زريع، ووافقه عليه أربعة تقدم ذكرهم، وآخرون معهم، لا نطيل بذكرهم، وهمام هو الذي انفرد بالتفصيل، وهو الذي خالف الجميع، فِي القدر المتفق عَلَى رفعه، فإنه جعله واقعة عين، وهم جعلوه حكما عاما، فدل عَلَى أنه لم يضبطه، كما ينبغي، والعجب ممن طعن فِي رفع الاستسعاء، يكون همام جعله منْ قول قتادة، ولم يطعن فيما يدل عَلَى ترك الاستسعاء، وهو قوله، فِي حديث ابن عمر، فِي الباب الماضي:"وإلا فقد عَتَق منه ما عَتَق"، يكون أيوب جعله منْ قول نافع، كما تقدم شرحه، ففصل قول نافع منْ الْحَدِيث، وميزه كما صنع همام سواء، فلم يجعلوه مدرجا، كما جعلوا حديث همام مدرجا، مع كون يحيى بن سعيد وافق أيوب فِي ذلك، وهمام لم يوافقه أحد، وَقَدْ جزم بكون حديث نافع مدرجا محمد بن وضاح وآخرون، والذي يظهر أن الحديثين صحيحان مرفوعان؛ وفاقا لعمل صاحبي "الصحيح".
وَقَالَ بن المواق: والإنصاف أن لا نُوَهِّم الجماعة بقول واحد، مع احتمال أن يكون سمع قتادة يفتي به، فليس بين تحديثه به مرة، وفتياه به أخرى منافاة. قَالَ الحافظ: ويؤيد ذلك أن البيهقي، أخرج منْ طريق الأوزاعي، عن قتادة أنه أفتى بذلك.
والجمع بين حديثي ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم ممكن، بخلاف ما جزم به الإسماعيلي، قَالَ ابن دقيق العيد: حسبك بما اتفق عليه الشيخان، فإنه أعلى درجات الصحيح، والذين لم يقولوا بالاستسعاء، تعللوا فِي تضعيفه بتعليلات، لا يمكنهم الوفاء بمثلها، فِي المواضع التي يحتاجون إلى الاستدلال فيها، بأحاديث يَرُدُّ عليها مثل تلك
التعليلات، وكأن البخاريّ خشي منْ الطعن فِي رواية سعيد بن أبي عروبة، فأشار إلى ثبوتها، بإشارات خفية كعادته، فإنه أخرجه منْ رواية يزيد بن زريع عنه، وهو منْ أثبت النَّاس فيه، وسمع منه قبل الاختلاط، ثم استظهر له برواية جرير بن حازم بمتابعته؛ لينفي عنه التفرد، ثم أشار إلى أن غيرهما تابعهما، ثم قَالَ: اختصره شعبة، وكأنه جواب عن سؤال مقدر، وهو أن شعبة: أحفظ النَّاس لحديث قتادة، فكيف لم يذكر الاستسعاء؟ فأجاب بأن هَذَا لا يؤثر فيه ضعفا؛ لأنه أورده مختصرا، وغيره ساقه بتمامه، والعدد الكثير أولى بالحفظ منْ الواحد. والله أعلم.
وَقَدْ وقع ذكر الاستسعاء فِي غير حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه الطبراني منْ حديث جابر رضي الله عنه، وأخرجه البيهقي منْ طريق خالد بن أبي قلابة، عن رجل منْ بني عُذْرة، وعمدة منْ ضعف حديث الاستسعاء فِي حديث ابن عمر قوله:"وإلا فقد عتق منه ما عتق"، وَقَدْ تقدم أنه فِي حق المعسر، وأن المفهوم منْ ذلك أن الجزء الذي لشريك المعتق باق عَلَى حُكْمِهِ الأول، وليس فيه التصريح بأن يستمر رقيقا، ولا فيه التصريح بأنه يعتق كله، وَقَدْ احتج بعض منْ ضَعَّف رفع الاستسعاء، بزيادة وقعت فِي الدارقطنيّ وغيره، منْ طريق إسماعيل بن أمية وغيره، عن نافع، عن ابن عمر، قَالَ فِي آخره:"ورَقَّ منه ما بقي"، وفي إسناده إسماعيل بن مرزوق الكعبي، وليس بالمشهور، عن يحيى بن أيوب، وفي حفظه شيء عنهم، وعلى تقدير صحتها، فليس فيها أنه يستمر رقيقا، بل هي مقتضى المفهوم منْ رواية غيره، وحديث الاستسعاء فيه بيان الحكم بعد ذلك، فللذي صحح رفعه أن يقول: معنى الحديثين: أن المعسر إذا أعتق حصته، لم يسر العتق فِي حصة شريكه، بل تبقى حصة شريكه عَلَى حالها، وهي الرق، ثم يستسعى فِي عتق بقيته، فيحصل ثمن الجزء الذي لشريك سيده، ويدفعه إليه، ويعتق، وجعلوه فِي ذلك كالمكاتب، وهو الذي جزم به البخاريّ، والذي يظهر أنه فِي ذلك باختياره؛ لقوله:"غير مشقوق عليه"، فلو كَانَ ذلك عَلَى سبيل اللزوم، بأن يكلف العبد الاكتساب والطلب، حَتَّى يحصل ذلك، لحصل له بذلك غاية المشقة، وهو لا يُلزَم فِي الكتابة بذلك، عند الجمهور؛ لأنها غير واجبة، فهذه مثلها، وإلى هَذَا الجمع مال البيهقي، وَقَالَ: لا يبقى بين الحديثين معارضة أصلا، وهو كما قَالَ، إلا أنه يلزم منه أن يبقى الرق فِي حصة الشريك، إذا لم يختر العبد الاستسعاء، فيعارضه حديث أبي المليح، عن أبيه: أن رجلا أعتق شقصا له منْ غلام، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"ليس لله شريك"، وفي رواية:"فأجاز عتقه"، أخرجه أبو داود، والنسائي، بإسناد قوي، وأخرجه أحمد بإسناد حسن، منْ حديث سمرة رضي الله عنه: أن رجلا أعتق شقصا له
فِي مملوك، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"هو كله فليس لله شريك"، ويمكن حمله عَلَى ما إذا كَانَ المعتق غنيا، أو عَلَى ما إذا كَانَ جميعه له، فأعتق بعضه، فقد رَوَى أبو داود منْ طريق مِلْقَام بن التَّلِبّ
(1)
، عن أبيه: أن رجلا أعتق نصيبه منْ مملوك، فلم يضمنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإسناده حسن، وهو محمول عَلَى المعسر، وإلا لتعارضا.
وجمع بعضهم بطريق أخرى، فَقَالَ أبو عبد الملك: المراد بالاستسعاء، أن العبد يستمر فِي حصة الذي لم يُعتق رقيقا، فيسعى فِي خدمته بقدر ما له فيه منْ الرق، قالوا: ومعنى قوله: "غير مشقوق عليه"، أي منْ وجه سيده المذكور، فلا يكلفه منْ الخدمة، فوق حصة الرق، لكن يَرُدُّ عَلَى هَذَا الجمع قوله، فِي الرواية المتقدمة:"واستسعي فِي قيمته لصاحبه".
واحتج منْ أبطل الاستسعاء، بحديث عمران بن حصين، عند مسلم:"أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجزهم أثلاثا، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة".
ووجه الدلالة منه، أن الاستسعاء لو كَانَ مشروعا، لنجز منْ كل واحد منهم عتق ثلثه، وأمره بالاستسعاء فِي بقية قيمته لورثة الميت.
وأجاب منْ أثبت الاستسعاء، بأنها واقعة عين، فيحتمل أن يكون قبل مشروعية الاستسعاء، ويحتمل أن يكون الاستسعاء مشروعا إلا فِي هذه الصورة، وهي ما إذا أعتق جميع ما ليس له أن يعتقه، وَقَدْ أخرج عبد الرزاق بإسناد، رجاله ثقات، عن أبي قلابة، عن رجل منْ عُذْرة:"أن رجلا منهم أعتق مملوكا له عند موته، وليس له مال غيره، فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلثه، وأمره أن يسعى فِي الثلثين"، وهذا يعارض حديث عمران، وطريق الجمع بينهما ممكن.
واحتجوا أيضا بما رواه النسائيّ فِي "الكبرى" 14/ 4961 - منْ طريق سليمان بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر، بلفظ:"منْ أعتق عبدا، وله فيه شركاء، وله وفاء، فهو حر، ويضمن نصيب شركائه بقيمته، لما أساء منْ مشاركتهم، وليس عَلَى العبد شيء".
والجواب مع تسليم صحته، أنه مختص بصورة اليسار؛ لقوله فيه: وله وفاء، والاستسعاء إنما هو فِي صورة الإعسار، كما تقدم، فلا حجة فيه.
(1)
"ملقام" بكسر أوله، وسكون اللام،، ثم قاف، ويقال: بالهاء بدل الميم، "ابن التلبّ" بفتح المثنّاة، وكسر اللام، وتشديد الموحّدة، التميميّ العنبريّ، مستور، منْ الخامسة. انتهى "تقريب".
وَقَدْ ذهب إلى الأخذ بالاستسعاء، إذا كَانَ المعتق معسرا، أبو حنيفة، وصاحباه، والأوزاعي، والثوري، وإسحاق، وأحمد فِي رواية، وآخرون، ثم اختلفوا، فَقَالَ الأكثر: يعتق جميعه فِي الحال، ويستسعى العبد فِي تحصيل قيمة نصيب الشريك، وزاد ابن أبي ليلى، فَقَالَ: ثم يرجع العبد المعتق عَلَى الأول بما أداه للشريك، وَقَالَ أبو حنيفة وحده: يتخير الشريك بين الاستسعاء، وبين عتق نصيبه، وهذا يدل عَلَى أنه لا يعتق عنده ابتداء، إلا النصيب الأول فقط، وهو موافق لما جنح إليه البخاريّ، منْ أنه يصير كالمكاتب، وَقَدْ تقدم توجيهه، وعن عطاء: يتخير الشريك بين ذلك، وبين إبقاء حصته فِي الرق، وخالف الجميع زفر، فَقَالَ: يعتق كله، وتُقَوَّم حصة الشريك، فتؤخذ، إن كَانَ المعتق موسرا، وترتب فِي ذمته إن كَانَ معسرا. انتهى ملخّصًا منْ "الفتح" 5/ 458 - 463. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
107 - (الشَّرِكةُ فِي النَّخِيلِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "النخيل" -بفتح النون، وكسر الخاء المعجمة- لغة فِي النَّخْل -بفتح، فسكون-، قَالَ فِي "القاموس": النخلُ معروف، كالنخيل، ويذكّر، واحدته نّخلة. انتهى. وَقَالَ الفيّوميّ: النخل اسم جمع، الواحدة نخلةٌ، وكل جمع بينه وبين واحده الهاء، قَالَ ابن السِّكِّيت: فأهل الحجاز يؤنّثون أكثره، فيقولون: هي التمر، وهي البرّ، وهي النخل، وهي البقر، وأهل نجدٍ، وتميم يُذكّرون، فيقون: نخلٌ كريم وكريمة، وكرائم، وفي التنزيل:{أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20]، و {نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7]، وأما النخيل بالياء، فمؤنثةٌ، قَالَ أبو حاتم: لا اختلاف فِي ذلك. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.
4702 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ " أَيُّكُمْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ أَوْ نَخْلٌ فَلَا يَبِعْهَا حَتَّى يَعْرِضَهَا عَلَى شَرِيكِهِ ".
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا
غير مرّة.
و"سفيان": هو ابن عيينة. والسند منْ رباعيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو
(231)
منْ رباعيات الكتاب.
والحديث أخرجه مسلم، وَقَدْ تقدّم فِي 80/ 4648 وسبق شرحه، وبيان مسائله هناك، واستدلال المصنّف عَلَى ما ترجم له به واضح. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب"،
…
108 - (الشَّرِكَةُ فِي الرِّبَاعِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الرَّبَاع": -بكسر الراء، وتخفيف الموحّدة: جمع رَبْع- بفتح، فسكون، كسِهام وسَهْم: وهي محلّة القوم، ومنزلهم، وَقَدْ يُطلق عَلَى القوم مجازًا، ويُجمع أيضًا عَلَى أَرباع، وأربُع، ورُبُوع، مثل فُلُوس. أفاده الفيّوميّ. والله تعالى أعلم. بالصواب.
4703 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: "قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ، فِي كُلِّ شَرِكَةٍ، لَمْ تُقْسَمْ: رَبْعَةٍ، وَحَائِطٍ، لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ، حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَإِنْ بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) أبو كريب الهمداني الكوفيّ، ثقة حافظ [10] 95/ 117.
2 -
(ابن إدريس) عبد الله الأوديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقة فقيه عابد [8] 85/ 102.
3 -
(ابن جُريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأمويّ مولاهم، المكيّ، ثقة فقيه فاضل يدلس ويرسل [6] 28/ 32.
4 -
(أبو الزبير) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، صدوق يدلس [4] 31/ 35.
5 -
(جابر) بن عبد الله بن عمرو بن حرام الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما 31/ 35. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمكيين، غير شيخه، وشيخ شيخه، فكوفيان.
(ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الستة بلا واسطة (ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله تعالى عنه منْ المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ جَابِر) بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي حكم، وألزم (بِالشُّفْعَةِ) بضمّ، فسكون: هي فِي اللغة الضمّ، والجمع، وشرعًا: أخذ الشريك الجزء الذي باعه شريكه منْ المشتري بما اشتراه به، وسيأتي تمام البحث فِي ذلك فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى (فِي كُلِّ شَرِكَةٍ) أي فِي كلّ شيء مشترك، ولفظ مسلم، وأبي داود:"فِي كل شِرْك" وهو -بكسر الشين المعجمة، وإسكان الراء- منْ أشركته فِي البيع: إذا جعلته لك شريكا، ثم خفف المصدر بكسر الأول، وسكون الثاني، فيقال: شِرْك وشِرْكة، كما يقال: كِلْم وكِلْمة. قاله فِي "النيل" 5/ 357.
وَقَالَ القرطبيّ: الشَّرِيكُ: النصيب المشترك، قَالَ: وهذا يدلّ عَلَى أن الشفعة إنما تُستَحقّ بالاشتراك فِي رقبة الملك، لا باستحقاق منفعة فِي الملك، كممرّ طريق، ومسيل ماء، واستحقاق سُكنى؛ لأن كلّ ذلك ليس بشرك. انتهى (لَمْ تُقْسَمْ) هَذَا يفيد أن الشفعة لا تجب إلا بالجزء المشاع الذي يتأتّى منه إفرازه بالقسمة، فلا تجب فيما لا ينقسم، كالحمّام، والرحا، وفحل الخل، والبئر، ونحو ذلك، مما لو قُسم لبطلت المنفعة المقصودة منه قبل القسمة. وقيل: تجري فِي ذلك، والأول أظهر، كما قَالَ القرطبيّ، وسيأتي تمام البحث فيه فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى.
(رَبْعَةٍ، وَحَائِط) زاد فِي رواية مسلم: "أو أرض"، قَالَ القرطبيّ: الرواية الصحيحة فيه بخفض "ربعة، وما بعده، عَلَى البدل، منْ "كل شركة"، فهو تفسير له، وتقييد.
و"الرَّبْعَة" بفتح الراء،، وسكون الموحّدة-: تأنيث الرَّبْع: وهو المنزل. ويُجمع عَلَى رُبوع، وإنما قيل للمنزل رَبْعٌ؛ لأن الإنسان يربع فيه: أي يُقيم، يقال: هذه رَبْعٌ، وهذه رَبْعَةٌ، كما يقال: دارٌ، ودارة، ثم سُمّي به الدار، والمسكن.
و"الحائط": بستان النخل. و"الأرض": يعني بها البَرَاح الذي لا سَكَنَ فيها، ولا شجر، وإنما هي مُعَدَّةٌ للزراعة. قاله فِي "المفهم" 4/ 524.
(لَا يَحِلُّ لَهُ) أي لمالك ما تقدّم منْ الربعة، والحائط، والأرض المشتركة (أَنْ يَبِيعَهُ) أي يبيع المذكور (حَتَّى يُؤْذِنَ) منْ الإيذان، وهو الإعلام، أي حَتَّى يُعلم (شَرِيكَهُ) قَالَ القرطبيّ: هَذَا محمول عَلَى الإرشاد إلى الأولى، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"فإذا باع، ولم يؤذنه، فهو أحقّ به"، ولو كَانَ ذلك عَلَى التحريم لذمّ البائع، ولفسخ البيع، لكنه أجازه، وصححه، ولم يذمّ الفاعل عَلَى ما قلناه، وَقَدْ قَالَ بعض شيوخنا: إن ذلك
يجب عليه. انتهى.
وَقَالَ الشوكانيّ: قوله: "لا يحل له أن يبيع الخ: ظاهره أنه يجب عَلَى الشريك، إذا أراد البيع أن يؤذن شريكه، وَقَدْ حكى مثل ذلك القرطبيّ عن بعض مشايخه، وَقَالَ فِي "شرح الإرشاد": الْحَدِيث يقتضي أنه يحرم البيع قبل العرض عَلَى الشريك، قَالَ ابن الرفعة: ولم أظفر به عن أحد منْ أصحابنا، ولا محيد عنه، وَقَدْ قَالَ الشافعيّ: إذا صح الْحَدِيث، فاضربوا بقولي عرض الحائط، وَقَالَ الزركشي: إنه صرح به الفارقي، وَقَالَ الأذرعي: إنه الذي يقتضيه نص الشافعيّ، وحمله الجمهور منْ الشافعيّة وغيرهم عَلَى الندب، وكراهة ترك الإعلام، قالوا: لأنه يصدق عَلَى المكروه أنه ليس بحلال، وهذا إنما يتم إذا كَانَ اسم الحلال مختصا بما كَانَ مباحا، أو مندوبا، أو واجبا، وهو ممنوع، فإن المكروه منْ أقسام الحلال، كما تقرر فِي الأصول. انتهى "نيل الأوطار" 5/ 357 - 358.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الوجوب هو الحقّ؛ لأن لفظ: "لا يحلّ" ظاهر فِي التحريم، ولا ينافي ذلك عدم فساد البيع؛ إذ لا يستلزم، كما سبق فِي النهي عن النجش، وبيع المصرّاة، وتلقّي الجلب، فكلها محرّمة، ولم يفسد البيع، بل خُيّر المشتري فيه. والله تعالى أعلم. (فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ) يعني أن الشريك إن شاء أخذ المبيع بما أعطى المشتري منْ الثمن؛ لأنه أحق به بعد البيع، وإن شاء ترك (وَإِنْ بَاعَ) أي باع مالكُ ما ذُكر منْ الربعة، وغيره (وَلَمْ يُؤْذِنْهُ) أي لم يُعلم شريكه بالبيع (فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ) أي فالشريك أولى بالمبيع منْ المشتري، يأخذه بالثمن الذي اشتراه به، منْ عين، أو عَرَض، نقدًا، أو إلى أجل، وهو قول مالك، وأصحابه، وذهب أبو حنيفة، والشافعيّ إلى أنه لا يشفع إلى الأجل، بل إنه إن شاء شفع بالنقد، وإن شاء صبر إلى الأجل، فيشفه عنده. قاله فِي "المفهم" 4/ 528.
وَقَالَ الشوكانيّ: فيه دليل عَلَى ثبوت الشفعة للشريك الذي لم يؤذنه شريكه بالبيع، وأما إذا أعلمه الشريك بالبيع، فأذن فيه فباع، ثم أراد الشريك أن يأخذه بالشفعة، فَقَالَ مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، والهادوية، وابن أبي ليلى، والْبَتِّي، وجمهور أهل العلم: إن له أن يأخذه بالشفعة، ولا يكون مجرد الإذن، مبطلا لها، وَقَالَ الثوري، والحكم، وأبو عبيد، وطائفة منْ أهل الْحَدِيث: ليس له أن يأخذه بالشفعة، بعد وقوع الإذن منه بالبيع، وعن أحمد روايتان، كالمذهبين. ودليل الآخِرِين مفهوم الشرط، فإنه يقتضي عدم ثبوت الشفعة مع الإيذان منْ البائع، ودليل الأولين الأحاديث الواردة فِي شفعة الشريك والجار، منْ غير تقييد، وهي منطوقات، لا يقاومها ذلك المفهوم.
ويجاب بأن المفهوم المذكور صالح لتقييد تلك المطلقات، عند منْ عمل بمفهوم الشرط منْ أهل العلم، والترجيح إنما يصار إليه عند تعذر الجمع، وَقَدْ أمكن هاهنا يحمل المطلق عَلَى المقيد. انتهى "نيل الأوطار" 5/ 358.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول الثاني، وهو عدم ثبوت الشفعة بعد الإذن هو الأرجح، وهو الذي مال إليه البخاريّ، حيث ترجم فِي "صحيحه" بقوله:"باب عرض الشفعة عَلَى صاحبها قبل البيع"، وَقَالَ الحكم: إذا أذن له قبل البيع، فلا شُفعة له. وَقَالَ الشعبيّ: منْ بِيعت شفعته، وهو شاهدٌ، لا يُغيّرها، فلا شفعة له". انتهى.
والحاصل أن حمل المطلق الذي احتجّ به القائلون بثبوت الشفعة بعد الإذن عَلَى المقيّد بمفهوم هَذَا الْحَدِيث أولى، كما أشار إليه الشوكانيّ فِي كلامه المذكور آنفًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
والحديث أخرجه مسلم، وتقدّم تخريجه، وبيان سائر المسائل المتعلّقة به فِي 80/ 4648 - فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
109 - (ذِكْرُ الشُّفْعَةِ، وَأَحْكَامِهَا)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الشُّفعة" بضمّ المعجمة، وسكون الفاء، وغلط منْ حرّكها، مأخوذة منْ الشفع، وهو الزوج، وقيل: منْ الزيادة، وقيل: منْ الإعان. قاله فِي "الفتح" 5/ 192.
وَقَالَ الفيّوميّ: شفَعت الشيءَ شَفْعًا، منْ باب نفع: ضممتُهُ إلى الفرد، وشفعتُ الركعة: جعلتها ثنتين، ومن هنا اشتُقّت الشُّفْعة، وهي مثالُ غُرْفة؛ لأن صاحبها يشفع ماله بها، وهي اسم للملك المشفوع، مثلُ اللُّقْمَة، اسم للشيء الملقوم، وتُستعمل بمعنى التملّك لذلك الملك، ومنه قولهم: منْ ثبتَ له شُفْعة، فأخّر الطلب بغير عذر، بطلت شفعته، ففي هَذَا المثال بَيِّنُ المعنيين، فإن الأولى للمال، والثانية للتملّك، ولا يُعرف لها فعلٌ. انتهى.
وَقَالَ فِي "الفتح" -بعد أن ذكر المعاني اللغوية الماضية-: وفي الشرع: انتقال حصّة شريك إلى شريك، كانت انتقلت إلى أجنبيّ، بمثل العوض المسمّى، ولم يختلف العلماء فِي مشروعيّتها، إلا ما نُقل عن أبي بكر الأصمّ منْ إنكارها. انتهى.
وَقَالَ القرطبيّ: الشفعة فِي اللغة: هي الضمّ، والجمع، وفي عرف الشرع: أخذ الشريك الجزء الذي باعه شريكه منْ المشتري بما اشتراه به، وهي حقّ للشريك عَلَى المشتري، فيجب عليه أن يُشفِعَه، ولا يحلّ له الامتناع منْ ذلك. انتهى "المفهم" 4/ 523.
وَقَالَ فِي "المغني": الشفعة: هي استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه، المنتقلة عنه، منْ يد منْ انتقلت إليه، وهي ثابتة بالسنة، والإجماع:
أما السنة فما رُوي عن جابر رضي الله عنه، قَالَ:"قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة، فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة"، متَّفقٌ عليه، ولمسلم قَالَ:"قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالشفعة فِي كل شرك لم يقسم، رَبْعَة، أو حائط، لا يحل له أن يبيع حَتَّى يستأذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، فإن باع ولم يستأذنه، فهو أحق به"، وللبخاري:"إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة، فيما لم يُقسَم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق، فلا شفعة".
وأما الإجماع، فَقَالَ ابن المنذر: أجمع أهل العلم عَلَى إثبات الشفعة، للشريك الذي لم يقاسم، فيما بيع منْ أرض، أو دار، أو حائط، والمعنى فِي ذلك أن أحد الشريكين، إذا أراد أن يبيع نصيبه، وتمكن منْ بيعه لشريكه، وتخليصه مما كَانَ بصدده، منْ توقع الخلاص والاستخلاص، فالذي يقتضيه حسن العشرة، أن يبيعه منه؛ ليصل إلى غرضه، منْ بيع نصيبه، وتخليصه شريكه منْ الضرر، فإذا لم يفعل ذلك، وباعه لأجنبي، سلط الشرع الشريك عَلَى صرف ذلك إلى نفسه، ولا نعلم أحدا خالف هَذَا، إلا الأصم، فإنه قَالَ: لا تثبت الشفعة؛ لأن فِي ذلك إضرارا بأرباب الأملاك، فإن المشتري إذا علم أنه يؤخذ منه، إذا ابتاعه لم يبتعه، ويتقاعد الشريك عن الشراء، فيستضر المالك، وهذا ليس بشيء؛ لمخالفته الآثار الثابتة، والإجماع المنعقد قبله، والجواب عما ذكره منْ وجهين:
[أحدهما]: أنا نشاهد الشركاء يبيعون، ولا يعدم منْ يشتري منهم، غير شركائهم، ولم يمنعهم استحقاقه الشفعة منْ الشراء.
[الثاني]: أنه يمكنه إذا لحقته بذلك مشقة أن يقاسم، فيسقط استحقاق الشفعة.
واشتقاق الشفعة: منْ الشفع، وهو الزوج، فإن الشفيع كَانَ نصيبه منفردا فِي ملكه، فبالشفعة يضم المبيع إلى ملكه، فيشفعه به. وقيل: اشتقاقها منْ الزيادة؛ لأن الشفيع يزيد المبيع فِي ملكه. انتهى "المغني" 7/ 435 - 436. والله تعالى أعلم بالصواب.
4704 -
(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(علي بن حُجْر) السعد المروزي، ثقة حافظ، منْ صغار [9] 13/ 13.
2 -
(سفيان) بن عيينة الإِمام الحجة الثبت المكيّ [8] 1/ 1.
3 -
(إبراهيم بن ميسرة) الطائفيّ، نزيل مكة، ثقة حافظ [7] 11/ 469.
4 -
(عمرو بن الشَّرِيد) -بفتح المعجمة، وكسر الراء-: هو الثقفيّ، أبو الوليد الطائفيّ، ثقة [3] 19/ 4184.
5 -
(أبو رافع) القبطيّ، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمه إبراهيم، وقيل: أسلم، وقيل: ثابت، وقيل: هُرْمُز، مات رضي الله عنه فِي خلافة عليّ رضي الله عنه عَلَى الصحيح، وتقدّم فِي 58/ 862. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخه مروزيّ، وسفيان مكي، وإبراهيم طائفيّ، ثم مكيّ، وعمرو بن الشريد طائفي، والصحابيّ مدنيّ. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عن عمرو بن الشريد) وفي رواية للبخاريّ، فِي "ترك الحيل":"عن إبراهيم بن ميسرة، سمعت عمرو بن الشريد"(عَنْ أَبِي رَافِعٍ) القبطي، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله تعالى عنه.
[تنبيه]: سيأتي فِي الرواية التالية أن عمرو بن الشريد رواه عن أبيه، قَالَ فِي "الفتح" 5/ 194: فيحتمل أن يكون سمعه منْ أبيه، ومن أبي رافع، قَالَ الترمذيّ: سمعت محمدا -يعني البخاريّ- يقول: كلا الحديثين عندي صحيح. انتهى.
(قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ) جملة منْ مبتدإ وخبره، و"السقب" -بفتحتين-: القرب، وباء بـ"سقبه" صلة "أحقّ"، لا للسبب، أي الجار أحقّ بالدار السَّاقِبَةِ، أي القريبة، ومن لا يقول بشفعة الجار، يحمِل الجار عَلَى الشريك، فإنه يسمّى جارًا، أو يَحمِل الباء عَلَى السببية: أي أحقّ بالبرّ والمعونة، بسبب قربه منْ جاره، ولا يخفى أنه لا معنى لقولنا: الشريك أحقّ بالدار القريبة، كما هو مؤدّى التأويل الأول، والظاهر أن الرواية الآتية تردّ التأويلين، فليُتأمّل. قاله السنديّ.
وَقَالَ فِي "الفتح" 5/ 194 - : قوله: "بسقبه" -بفتح المهملة والقاف، بعدها
موحدة- وهو بالسين المهملة، وبالصاد أيضا، ويجوز فتح القاف، واسكانها: القرب، والملاصقة، ووقع فِي حديث جابر رضي الله عنه، عند الترمذيّ:"الجار أحق بسقبه، يُنتظَر به إذا كَانَ غائبا، إذا كَانَ طريقهما واحدا". انتهى.
وفي الْحَدِيث قصّة، ساقها البخاريّ فِي "صحيحه" 2/ 787 فَقَالَ:
حدثنا المكيّ بن إبراهيم، أخبرنا ابن جريج، أخبرني إبراهيم بن ميسرة، عن عمرو بن الشريد، قَالَ، وقفت عَلَى سعد بن أبي وقاص، فجاء الْمِسْوَر بن مخرمة، فوضع يده عَلَى إحدى منكبي، إذ جاء أبو رافع، مولى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يا سعد ابتع مني بَيْتَيَّ فِي دارك، فَقَالَ سعد: والله ما أبتاعهما، فَقَالَ المسور: والله لتبتاعنهما، فَقَالَ سعد: والله لا أزيدك عَلَى أربعة آلاف، منجمة، أو مقطعة، قَالَ أبو رافع: لقد أُعطيت بها خمسمائة دينار، ولولا أني سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم، يقول:"الجار أحق بسقبه"، ما أعطيتكها بأربعة آلاف، وأنا أعطى بها خمسمائة دينار، فأعطاها إياه. انتهى.
قَالَ ابن بطال رحمه الله تعالى: استدل به أبو حنيفة وأصحابه عَلَى إثبات الشفعة للجار، وأوله غيرهم عَلَى أن المراد به الشريك؛ بناء عَلَى أن أبا رافع، كَانَ شريك سعد فِي البيتين، ولذلك دعاه إلى الشراء منه، قَالَ: وأما قولهم: إنه ليس فِي اللغة ما يقتضي تسمية الشريك جارا، فمردود فإن كل شيء قارب شيئا، قيل له: جار، وَقَدْ قالوا لا مرأة الرجل: جارة؛ لما بينهما منْ المخالطة. انتهى.
وتعقبه ابن المنير بأن ظاهر الْحَدِيث أن أبا رافع كَانَ يملك بيتين، منْ جملة دار سعد، لا شقصا شائعا منْ منزل سعد، وذكر عمر بن شَبَّة أن سعدا كَانَ اتخذ دارين بالبلاط، متقابلتين بينهما عشرة أذرع، وكانت التي عن يمين المسجد منهما لأبي رافع، فاشتراها سعد منه، ثم ساق حديث الباب، فاقتضى كلامه أن سعدا كَانَ جارا لأبي رافع، قبل أن يشتري منه داره، لا شريكا.
وَقَالَ بعض الحنفية: يلزم الشافعيّة القائلين بحمل اللفظ عَلَى حقيقته ومجازه، أن يقولوا بشفعة الجار؛ لأن الجار حقيقة فِي المجاور، مجاز فِي الشريك.
وأجيب بأن محل ذلك عند التجرد، وَقَدْ قامت القرينة هنا عَلَى المجاز فاعتبر؛ للجمع بين حديثي جابر وأبي رافع، فحديث جابر صريح فِي اختصاص الشفعة بالشريك، وحديث أبي رافع مصروف الظاهر اتفاقا؛ لأنه يقتضي أن يكون الجار أحق منْ كل أحد، حَتَّى منْ الشريك، والذين قالوا بشفعة الجار، قدموا الشريك مطلقا، ثم المشارك فِي الطريق، ثم الجار عَلَى منْ ليس بمجاور، فعلى هَذَا، فيتعين تأويل قوله:"أحق" بالحمل عَلَى الفضل، أو التعهد، ونحو ذلك.
واحتج منْ لم يقل بشفعة الجوار أيضا، بأن الشفعة ثبتت عَلَى خلاف الأصل؛ لمعنى معدوم فِي الجار، وهو أن الشريك، ربما دخل عليه شريكه، فتأذى به، فدعت الحاجة إلى مقاسمته، فيدخل عليه الضرر بنقص قيمة ملكه، وهذا لا يوجد فِي المقسوم. والله أعلم. قاله فِي "الفتح" 5/ 194 - 195. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي رافع رضي الله عنه هَذَا أخرجه البخاريّ.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -109/ 4704 وفي "الكبرى" 111/ 6301. وأخرجه (خ) فِي "الشفعة" 2258 (د) فِي "البيوع" 2516 (ق) فِي "الأحكام" 2495 (أحمد) فِي "مسند القبائل" 26639. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم الشفعة، وهو أنها مشروعة، وَقَدْ سبق أن جوازها مجمع عليه، إلا ما شذّ به أبو بكر الأصمّ، حيث أنكرها. (ومنها): عناية الشارع بتأكيد أمر الجوار، حيث أثبت للجار الأحقيّة عَلَى غيره فِي ملك جاره. (ومنها): أنه قد استدلّ به القائلون بثبوت الشفعة للجار، وأجاب المانعون بأنه ليس فيه ذكر الشفعة، فيحتمل أن يكون المراد به الشفعة، ويحتمل أن يكون أحقّ بالبرّ والمعونة، قاله البغويّ. قَالَ الشوكانيّ: ولا يخفى بعد هَذَا الحمل، لاسيّما بعد قوله فِي الْحَدِيث:"ليس لأحد فيها شرك"، والأولى أن يجاب بحمل هَذَا المطلق عَلَى المقيّد، كحديث جابر رضي الله عنه:"الجار أحقّ بشفعة جاره، يُنتظر بها، وإن كَانَ غائبًا، إذا كَانَ طريقهما واحدًا"، رواه أحمد، وأصحاب السنن، إلا النسائيّ. لا يقال: إن نفي الشرك فيها يدلّ عَلَى اتحاد الطريق، فلا يصحّ تقييده بالحديث المذكور؛ لأنا نقول: إنما نفى الشرك عن الأرض، لا عن طريقها، ولو سُلِّم عدم صحّة التقييد باتحاد الطريق، فأحاديث إثبات الشفعة بالجوار تُخَصِّصُهُ بما سلف، ولو فُرض عدم صحة التخصيص للتصريح بنفي الشركة، فهي مع ما فيها منْ المقال، لا تنتهض لمعارضة الأحاديث القاضية بنفي شفعة الجار الذي ليس بمشارك. انتهى "نيل الأوطار" 5/ 359 وهو بحث نفيس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي أحكام الشفعة:
قد تقدّم أنهم مجمعون عَلَى مشروعية الشفعة فِي الجملة، إلا أبا بكر الأصمّ، وَقَدْ اختلفوا فِي أشياء، قد فصّلها الموفّق رحمه الله تعالى فِي كتابه الممتِع "المغني"، وأنا ألخّص ما تيسّر منه؛ تتميمًا للفائدة، وتكميلاً للعائدة:
قَالَ رحمه الله تعالى عند قول الخرقيّ رحمه الله تعالى: ولا تجب الشفعة، إلا للشريك المقاسم، فإذا وقت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة: ما حاصله:
وجملة ذلك: أن الشفعة تثبت عَلَى خلاف الأصل، إذ هي انتزاع ملك المشتري بغير رضاء منه، وإجبار له عَلَى المعاوضة، مع ما ذكره الأصم، لكن أثبتها الشرع لمصلحة راجحة، فلا تثبت إلا بشروط أربعة:
[أحدها]: أن يكون الملك مشاعا، غير مقسوم، فأما الجار، فلا شفعة له، وبه قَالَ عمر، وعثمان، وعمر بن عبد العزيز، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، والزهري، ويحيى الأنصاريّ، وأبو الزناد، وربيعة، والمغيرة بن عبد الرحمن، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر.
وَقَالَ ابن شبرمة، والثوري، وابن أبي ليلى، وأصحاب الرأي: الشفعة بالشركة، ثم بالشركة فِي الطريق، ثم بالجوار.
وَقَالَ أبو حنيفة: يقدم الشريك، فإن لم يكن، وكان الطريق مشتركا، كدرب لا ينفذ، تثبت الشفعة لجميع أهل الدرب، والأقرب، فالأقرب، فإن لم يأخذوا، ثبتت للملاصق منْ درب آخر خاصة.
وَقَالَ العنبري، وسوار: تثبت بالشركة فِي المال، وبالشركة فِي الطريق، واحتجوا بما رَوَى أبو رافع رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجار أحق بصقبه"، رواه البخاريُّ، وأبو داود، والنسائيّ، ورَوَى الحسن، عن سمرة رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"جار الدار أحق بالدار"، رواه الترمذيّ، وَقَالَ: حديث حسن صحيح، ورَوَى الترمذيّ فِي حديث جابر رضي الله عنه:"الجار أحق بداره، بشفعته، يُنتظر به إذا كَانَ غائبا، إذا كَانَ طريقهما واحدًا"، وَقَالَ: حديث حسن، ولأنه اتصال ملك يدوم ويتأبد، فتثبت الشفعة به كالشركة.
واحتجّ الأولون بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الشفعة فيما لم يُقسَم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة"، متّفقٌ عليه، ورَوَى ابن جريج، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيب، أو عن أبي سلمة، أو عنهما: قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قُسِمَت الأرضُ وحُدَّت، فلا شفعة فيها"، رواه أبو داود، ولأن الشفعة ثبتت فِي موضع الوفاق، عَلَى خلاف الأصل؛ لمعنى معدوم فِي محل النزاع، فلا ثبتت فيه، وبيان انتفاء المعنى: هو
أن الشريك ربما دخل عليه شريك، فيتأذى به، فتدعوه الحاجة إلى مقاسمته، أو يطالب الداخل المقاسمة، فيدخل الضرر عَلَى الشريك، بنقص قيمة ملكه، وما يحتاج إلى إحداثه منْ المرافق، وهذا لا يوجد فِي المقسوم.
فأما حديث أبي رافع رضي الله عنه، فليس بصريح فِي الشفعة، فإن الصَّقَب: القرب، يقال: بالسين، والصاد، قَالَ الشاعر:
كُوفِيَّةٌ نَازِخٌ مَحِلَّتُهَا
…
لَا أَمَمٌ دَارُهَا وَلَا صَقَبُ
فيحتمل أنه أراد به الإحسان بجاره، وصلته، وعيادته، ونحو ذلك، وخبرنا صريح صحيح، فيُقَدَّم، وبقية الأحاديث فِي أسانيدها مقال، فحديث سمرة رضي الله عنه يرويه عنه الحسن، ولم يسمع منه إلا حديث العقيقة، قاله أصحاب الْحَدِيث، قَالَ ابن المنذر: الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث جابر رضي الله عنه الذي رويناه، وما عداه منْ الأحاديث، فيها مقال، عَلَى أنه يحتمل أنه أراد بالجار الشريك، فإنه جارٌ أيضا، ويسمى كل واحد منْ الزوجين جارًا، قَالَ الشاعر:
أَجَارَتَنَا بِينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ
…
كَذَاكَ أُمُورُ النَّاسِ غَادٍ وَطَارِقَهْ
قاله الأعشى، وتُسمَّى الضرّتان جارتين؛ لاشتراكهما فِي الزوج، قَالَ حمل بن مالك رضي الله عنه: كنت بين جارتين لي، فضربت إحداهما الأخرى، بِمِسْطَح، فقتلتها وجنينها، وهذا يمكن فِي تأويل حديث أبي رافع أيضا. انتهى "المغني" 7/ 436 - 439.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول بعدم ثبوت الشفعة للجار، وإنما هي قاصرة عَلَى الشريك فقط، هو الحقّ؛ لقوّة أدلّته، كما تقدّم بيانه آنفًا، وسيأتي مزيد تحقيق لذلك فِي شرح حديث أبي سلمة الآتي، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب.
(الشرط الثاني): أن يكون المبيع أرضا؛ لأنها التي تبقى عَلَى الدوام، ويدوم ضررها، وأما غيرها، فينقسم قسمين:[أحدهما]: تثبت فيه الشفعة تبعا للأرض، وهو البناء، والغراس، يباع مع الأرض، فإنه يؤخذ بالشفعة، تبعا للأرض، قَالَ ابن قُدامة: ولا نعرف فيه بين منْ أثبت الشفعة خلافا، وَقَدْ دل عليه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقضاؤه بالشفعة فِي كل شِرْك، لم يُقسَم: رَبْعَةٍ، أو حائط، وهذا يدخل فيه البناء، والأشجار. [القسم الثاني]: ما لا تثبت فيه الشفعة تبعا، ولا مفردا، وهو الزرع، والثمرة الظاهرة، تباع مع الأرض، فإنه لا يؤخذ بالشفعة مع الأصل، وبهذا قَالَ الشافعيّ. وَقَالَ أبو حنيفة، ومالك: يؤخذ ذلك بالشفعة مع أصوله؛ لأنه متصل بما فيه الشفعة، فيثبت فيه الشفعة؛ تبعا كالبناء والغراس.
وحجة الأولين أنه لا يدخل فِي البيع تبعا، فلا يؤخذ بالشفعة، كقماش الدار، وعكسه البناء والغراس، وتحقيقه أن الشفعة بيع فِي الحقيقة، لكن الشارع جعل له سلطان الأخذ بغير رضي المشتري، فَإِنْ بِيعَ الشجر وفيه ثمرة غير ظاهرة، كالطلع غير المؤبر، دخل فِي الشفعة؛ لأنها تتبع فِي البيع، فأشبهت الغراس فِي الأرض، وأما ما بيع مفردا منْ الأرض، فلا شفعة فيه، سواء كَانَ مما ينقل، كالحيوان، والثياب، والسفن، والحجارة، والزرع، والثمار، أو لا ينقل، كالبناء، والغراس، إذا بيع مفردا، وبهذا قَالَ الشافعيّ، وأصحاب الرأي، ورُوي عن الحسن، والثوري، والأوزاعي، والعنبري، وقتادة، وربيعة، وإسحاق: لا شفعة فِي المنقولات. واختلف عن مالك، وعطاء، فقالا مرة: كذلك، ومرة قالا: الشفعة فِي كل شيء، حَتَّى فِي الثوب، قَالَ ابن أبي موسى: وَقَدْ روي عن أحمد رواية أخرى: أن الشفعة واجبة فيما لا ينقسم، كالحجارة، والسيف، والحيوان، وما فِي معنى ذلك، قَالَ أبو الخطاب: وعن أحمد رواية أخرى: أن الشفعة تجب فِي البناء، والغراس، وإن بيع مفردا، وهو قول مالك؛ لعموم قوله عليه السلام:"الشفعة فيما لم يقسم"، ولأن الشفعة، وُضعت لدفع الضرر، وحصولُ الضرر بالشركة فيما لا ينقسم، أبلغ منه فيما ينقسم، ولأن ابن أبي مليكة، رَوَى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"الشفعة فِي كل شيء".
قَالَ: ولنا أن قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة"، لا يتناول إلا ما ذكرناه، وإنما أراد ما لا ينقسم منْ الأرض، بدليل قوله:"فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق"، ولأن هَذَا مما لا يتباقى عَلَى الدوام، فلا تجب فيه الشفعة، كصبرة الطعام، وحديثُ ابن أبي مليكة مرسل، لم يرد فِي الكتب الموثوق بها. انتهى "المغني" 7/ 439 - 441.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي ترجيح القول بثبوت الشفعة فِي كلّ شيء؛ فقد أخرج الطحاويّ، فِي "شرح معاني الآثار" 4/ 125 - 126 - ، قَالَ: حدثنا ابن أبي داود، قَالَ: ثنا نعيم، قَالَ: ثنا الفضل بن موسى، عن أبي حمزة السّكّريّ، عن عبد العزيز بن رُفيع، عن ابن أبي مُليكة، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشريك شفيع، والشفعة فِي كلّ شيء". ورجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح.
قَالَ: حدثنا محمد بن خزيمة، قَالَ: ثنا يوسف بن عديّ، قَالَ: ثنا ابن إدريس، عن ابن جريج، عن عطاء، عن جابر رضي الله عنه، قَالَ: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فِي كلّ شيء". انتهى. ورجاله أيضًا رجال الصحيح.
فقول صاحب "المغني": إن حديث ابن أبي مليكة مرسل لم يرد فِي الكتب الموثوق بها غير صحيح، فقد ثبت مرفوعًا متّصلاً عند الطحاويّ، كما علمت.
والحاصل أن القول بتعميم الشفعة فِي كلّ شيء هو الحقّ، فتبصّر. والله تعالى أعلم بالصواب.
(الشرط الثالث): أن يكون المبيع مما يمكن قسمته، فأما ما لا يمكن قسمته منْ العقار، كالحمّام الصغير، والرَّحَى الصغيرة، والعضادة، والطريق الضيقة، والعراص الضيقة، فعن أحمد فيها روايتان:[إحداهما]: لا شفعة فيه، وبه قَالَ يحيى بن سعيد، وربيعة، والشافعي. [والثانية]: فيها الشفعة، وهو قول أبي حنيفة، والثوري، وابن سريج، وعن مالك كالروايتين، ووجه هَذَا، عموم قوله عليه السلام:"الشفعة فيما لم يقسم"، وسائر الألفاظ العامة، ولأن الشفعة ثبتت لإزالة ضرر المشاركة، والضرر فِي هَذَا النوع أكثر؛ لأنه يتأبد ضرره.
قَالَ: والأول ظاهر المذهب؛ لما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قَالَ:"لا شفعة فِي فناء، ولا طريق، ولا منقبة"، والمنقبة الطريق الضيق، رواه أبو الخطاب فِي "رؤوس المسائل".
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول بثبوت الشفعة فيما لا يمكن قسمته هو الأرجح؛ لعموم الأدلّة، وأما ما رواه أبو الخطّاب، فإنه يحتاج إلى النظر فِي إسناده، وَقَدْ أخرجه عبد الرزاق فِي "مصنّفه" -8/ 87 مرسلاً، فتأمّل، والظاهر أنه لا يصلح للاحتجاج به. والله تعالى أعلم بالصواب.
(الشرط الرابع): أن يكون الشقص منتقلاً بعوض، وأما المنتقل بغير عوض، كالهبة بغير ثواب، والصدقة، والوصية، والإرث، فلا شفعة فيه، فِي قول عامة أهل العلم، منهم: مالك، والشافعيّ، وأصحاب الرأي، وحُكي عن مالك رواية أخرى فِي المنتقل بهبة، أو صدقة أن فيه الشفعةَ، ويأخذه الشفيع بقيمته، وحُكي ذلك عن ابن أبي ليلى؛ لأن الشفعة ثبتت لإزالة ضرر الشركة، وهذا موجود فِي الشركة كيفما كَانَ، والضرر اللاحق بالمتَّهِب، دون ضرر المشتري؛ لأن إقدام المشتري عَلَى شراء الشَّقْص، وبذلِهِ ماله فيه، دليل حاجته إليه، فانتزاعه منه أعظم ضررًا منْ أخذه ممن لم يوجد منه دليل الحاجة إليه.
واحتجّ الأولون بأنه انتقل بغير عوض، فأشبه الميراث، ولأن محلّ الوِفاق، هو البيع، والخبر ورد فيه، وليس غيره فِي معناه؛ لأن الشفيع يأخذه منْ المشتري بمثل السبب الذي انتقل به إليه، ولا يُمكن هَذَا فِي غيره، ولأن الشفيع يأخذ الشِّقْصَ بثمنه،
لا بقيمته، وفي غيره يأخذه بقيمته، فافترقا.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الأولون منْ أنه لا شفعة فِي المُنتَقِلِ بغير عوض هو الأظهر عندي. والله تعالى أعلم.
فأما المنتقل بعوض، فينقسم قسمين:[أحدهما]: ما عِوَضه المال، كالبيع، فهذا فيه الشفعة بغير خلاف، وهو فِي حديث جابر رضي الله عنه:"فإن باع، ولم يؤذنه، فهو أحقّ به"، وكذلك كلّ عقد جرى مجرى البيع، كالصلح بمعنى البيع، والصلح عن الجنايات الموجبة للمال، والهبة المشروط فيها ثوابٌ معلومٌ؛ لأن ذلك بيع ثبتت فيه أحكام البيع، وهذا منها، وبه يقول مالكٌ، والشافعيّ، وأصحاب الرأي، إلا أن أبا حنيفة، وأصحابه قالوا: لا تثبت الشفعة فِي الهبة المشروط فيها ثوابٌ، حَتَّى يتقابضا؛ لأن الهبة لا تثبتُ إلا بالقبض، فأشبهت البيع بشرط الخيار.
وحجة الأولين أنه يملكها بعوض، هو مالٌ، فلم يفتقر إلى القبض فِي استحقاق الشفعة، كالبيع، ولا يصحّ ما قالوه منْ اعتبار لفظ الهبة؛ لأن العوض صَرَفَ اللفظ عن مقتضاه، وجعله عبارةً عن البيع، خاصّةً عندهم، فإنه ينعقد بها النكاح الذي لا تصحّ الهبة فيه بالاتفاق.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن المذهب الأول هو الأرجح؛ لظهور متمسّكه. والله تعالى أعلم بالصواب.
[القسم الثاني]: ما انتقل بعوض، غير المال، نحو أن يَجعل الشَّقص مهرًا، أو عِوَضًا فِي الخلع، أو فِي الصلح عن دم العمد، فقيل: لا شفعة فيه، وبه قَالَ الحسن، والشعبيّ، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، حكاه عنهم ابن المنذر، واختاره؛ لأنه مملوك بغير مال، فأشبه الموهوب، والموروث. وقيل: تجب فيه الشفعة، وبه قَالَ ابن شُبْرُمة، والحارث العكليّ، ومالك، وابن أبي ليلى، والشافعيّ، واحتجوا بأنه مملوك بعقد معاوضة، فأشبه البيع
(1)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول الأول هو الأظهر؛ لظهور مُتَمَسَّكِهِ أيضًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4705 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرْضِي لَيْسَ لأَحَدٍ فِيهَا شَرِكَةٌ، وَلَا قِسْمَةٌ، إِلاَّ الْجُوَارَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ").
(1)
راجع "المغني" لابن قُدامة رحمه الله تعالى 7/ 436 - 445.
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) المعروف بابن راهويه الحنظلي المروزي، ثقة ثبت [10] 2/ 2.
2 -
(عيسى بن يونس) بن أبي إسحاق السبيعي الهمدانيّ الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقة مأمون [8] 8/ 8.
3 -
(حسين المعلّم) ابن ذكوان البصريّ، ثقة ربما وهم [6] 122/ 174.
4 -
(عمرو بن شعيب) بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص المدنيّ، صدوق [5] 105/ 140.
5 -
(عَمْرُو بْنُ الشَّرِيدِ) المذكور فِي السند الماضي.
6 -
(أبوه) الشريد الثقفيّ صحابي شهد بيعة الرضوان، قيل: كَانَ اسمه مالكًا رضي الله تعالى عنه، تقدم فِي 8/ 3680، والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير عمرو بن شُعيب، وهو ثقة. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ) منْ أوساط التابعين، ووهم منْ ذكره فِي الصحابة، قاله فِي "الفتح"(عَنْ أَبِيهِ) الشَّريد -بفتح المعجمة، وزان طويل- ابن سُويد الثقفيّ الصحابيّ الشهير، رضي الله عنه (أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرْضِي) مبتدأ خبره (لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا شَرِكَةٌ) أي اشتراك مع أحد منْ النَّاس (وَلَا قِسْمَةٌ، إِلَّا الْجِوَارَ) بكسر الجيم، وضمّها، فالمكسور مصدر جاور، والمضموم اسم منه. كما تفيده عبارة "المصباح" (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ) أي أولى بالدار الساقبة أي القريبة منه، وَقَدْ تقدّم أن الجمهور حملوه عَلَى الشريك؛ لأنه يُسمّى فِي اللغة جارًا، فلا يعارض حديث: "الشفعة فِي كلّ ما لم يُقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطُّرُق، فلا شفعة". قَالَ الفيّوميّ: وحكى ثعلب عن ابن الأعرابيّ: الجار الذي يُجاورك بَيْتَ بَيْتَ، والجار الشريك فِي العقار، مقاسمًا كَانَ، أو غير مقاسم، والجار الْخَفِير، والجار الذي يُجير غيره، أي يُؤْمِنُه مما يَخاف، والجار المستجير أيضًا، وهو الذي يطلب الأمان، والجار: الحليف، والجار: الناصر، والجار: الزوج، والجار أيضًا: الزوجة، ويقال
فيها: أيضًا جارة، والجار: الضّرّة، قيل لها: جارة؛ استكراهًا للفظ الضّرّة. قَالَ الأزهريّ: ولما كَانَ الجار فِي اللغة مُحتملاً لمعان مختلفة، وجب طلب دليل لقوله صلى الله عليه وسلم:"الجار أحقّ بصقبه"، فإنه يدلّ عَلَى أن المراد الجار الملاصق، فبيّنه حديث آخر أن المراد الجار الذي يُقاسم، فلم يُجِز أن يَجعَلَ المقاسم مثل الشريك. انتهى كلام الفيّومي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث الشريد رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -109/ 4705 - وفي "الكبرى" 111/ 6302. وأخرجه (ق) فِي "الأحكام" 2496. وفوائد الْحَدِيث تقدمت قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4706 -
(أَخْبَرَنَا هِلَالُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ مَالٍ لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ، وَعُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(هلال بن بشر) بن محبوب المزنيّ، أبو الحسن البصريّ إمام مسجد يونس الأحدب، ثقة [10] 14/ 1482.
2 -
(صفوان بنُ عيسى) أبو محمد الزهريّ القسّام البصريّ، ثقة [9] 37/ 1272.
3 -
(معمر) بن راشد، أبو عروة الصنعانيّ ثقة ثبت [7] 10/ 10.
4 -
(الزهريّ) محمد بن مسلم الإِمام الحجة الثبت [4] 1/ 1.
5 -
(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ الفقيه الثقة الثبت [3] 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح
(1)
، غير شيخه فتفرد به هو وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى معمر، وهو بصري صنعاني، والباقيان مدنيان. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن
(1)
لكنه مرسل، وسيأتي تمام البحث فيه قريبًا.
تابعيّ. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) هكذا رواية المصنّف مرسلاً، وَقَدْ وقع عند البخاريّ منْ طريق عبد الواحد بن زياد موصولاً بذكر جابر رضي الله عنه قَالَ فِي "الفتح": اختُلف عَلَى الزهريّ فِي هَذَا الإسناد، فَقَالَ مالك عنه: عن أبي سلمة، وابن المسيب مرسلاً، كذا رواه الشافعيّ وغيره، ورواه أبو عاصم، والماجشون عنه، فوصله بذكر أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البيهقي، ورواه ابن جريج، عن الزهريّ كذلك، لكن قَالَ: عنهما، أو عن أحدهما، أخرجه أبو داود، والمحفوظ روايته عن أبي سلمة، عن جابر موصولا، وعن ابن المسيب، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلا، وما سوى ذلك شذوذ، ممن رواه، ويُقَوِّى طريقه عن أبي سلمة، عن جابر رضي الله عنه متابعة يحيى بن أبي كثير له، عن أبي سلمة، عن جابر، ثم ساقه كذلك. انتهى "فتح" 5/ 193.
(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ مَالٍ لَمْ يُقْسَمْ) وفي رواية عند البخاريّ: "فِي كلّ ما لم يُقسم"، واللفظ الثاني يشعر باختصاص الشفعة، بما يكون قابلا للقسمة، بخلاف الأول (فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ) أي حصلت قسمة الحدود فِي المبيع، واتّضحت بالقسمة مواضعها (وَعُرِفَتِ الطُّرُقُ) وفي رواية البخاريّ:"وصُرفت الطرق": وهو بضمّ الصاد، وتخفيف الراء المكسورة، وقيل: بتشديدها: أي بينت مصارف الطرق، وشوارعها، كأنه منْ التصرف، أو منْ التصريف، وَقَالَ ابن مالك: معناه خلصت، وبانت، وهو مشتق منْ الصِّرْف -بكسر المهملة-: الخالص منْ كل شيء، سُمّي بذلك؛ لأنه صُرف عنه الخلط، فعلى هَذَا "صُرِف" مخفّف الراء، وعلى الأول: أي التصرف والتصريف مشدّد. أفاده فِي "نيل الأوطار" 5/ 355.
(فَلَا شُفْعَةَ) قَالَ الشوكانيّ رحمه الله تعالى: استَدَلَّ به منْ قَالَ: إن الشفعة لا تثبت إلا بالخلطة، لا بالجوار، وَقَدْ حَكَى فِي البحر هَذَا القول، عن علي، وعمر، وعثمان، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعمر بن عبد العزيز، وربيعة، ومالك، والشافعي، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وعبيد الله بن الحسن، والإمامية.
وحكى فِي البحر أيضا عن العترة، وأبي حنيفة، وأصحابه، والثوري، وابن أبي ليلى، وابن سيرين، ثبوت الشفعة بالجوار، وأجابوا عن حديث جابر بما قاله أبو حاتم: إن قوله: "إذا وقعت الحدود الخ" مدرج منْ قول جابر، ورُدَّ ذلك بأن الأصل أن كل ما ذُكر فِي الْحَدِيث، فهو منه، حَتَّى يثبت الإدراج بدليل، وورود ذلك فِي حديث غيره مشعر بعدم الإدراج، كما فِي حديث أبي هريرة المذكور فِي هَذَا الباب.
واستَدَلَّ فِي "ضوء النهار" عَلَى الإدراج بعدم إخراج مسلم لتلك الزيادة. ويجاب عنه بأنه قد يَقتَصِر بعض الأئمة عَلَى ذكر بعض الْحَدِيث، والحكم للزيادة، لاسيما وَقَدْ أخرجها مثل البخاريّ، عَلَى أن معنى هذه الزيادة، التي ادعى أهل القول الثاني إدراجها، هو معنى قوله:"فِي كُلِّ ما لم يقسم"، ولا تفاوت إلا بكون دلالة أحدهما عَلَى هَذَا المعنى بالمنطوق، والآخر بالمفهوم.
واحتج أهل القول الثاني بالأحاديث الواردة، فِي إثبات الشفعة بالجوار، كحديث سمرة، والشريد بن سويد، وأبي رافع، وجابر رضي الله عنهم.
وأما الأحاديث القاضية بثبوت الشفعة لمطلق الشريك، كما فِي حديث جابر المذكور فِي قوله:"فِي كل شركة"، وكما فِي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة بين الشركاء فِي الأرضين، والدور"، رواه عبد الله بن أحمد فِي "المسند"، فلا تصلح للاحتجاج بها عَلَى ثبوت الشفعة للجار، إذ لا شركة بعد القسمة.
وَقَدْ أجاب أهل القول الأول، عن الأحاديث القاضية بثبوت الشفعة للجار، بأن المراد بها الجار الأخص، وهو الشريك المخالط؛ لأن كل شيء قارب شيئا، يقال له: جار، كما قيل لامرأة الرجل جارة؛ لما بينهما منْ المخالطة، وبهذا يندفع ما قيل: إنه ليس فِي اللغة ما يقتضي تسمية الشريك جارا. قَالَ ابن المنير: ظاهر حديث أبي رافع يعني المتقدّم منْ عند البخاريّ بقصّته مع سعد بن أبي وقّاص- أنه كَانَ يملك بيتين منْ جملة دار سعد، لا شِقْصًا شائعا منْ منزل سعد، ويدل عَلَى ذلك ما ذكره عمر بن شبة، أن سعدا كَانَ اتخذ دارين بالبلاط، متقابلتين، بينهما عشرة أذرع، وكانت التي عن يمين المسجد منهما لأبي رافع، فاشتراها سعد منه، ثم ساق الْحَدِيث الماضي، فاقتضى كلامه، أن سعدا كَانَ جارا لأبي رافع، قبل أن يشتري منه داره، لا شريكا كذا قَالَ الحافظ، وَقَالَ أيضا: إنه ذكر بعض الحنفية، أنه يلزم الشافعيّة القائلين بحمل اللفظ عَلَى حقيقته ومجازه، أن يقولوا بشفعة الجار؛ لأن الجار حقيقة فِي المجاور، مجاز فِي الشريك.
وأجيب بأن محل ذلك عند التجرد، وَقَدْ قامت القرينة هنا عَلَى المجاز، فاعتبر الجمع بين حديثي جابر وأبي رافع، فحديث جابر صريح فِي اختصاص الشفعة بالشريك، وحديث أبي رافع مصروف الظاهر اتفاقا؛ لأنه يقتضي أن يكون الجار أحق منْ كل أحد، حَتَّى منْ الشريك، والذين قالوا بشفعة الجوار، قَدَّموا الشريك مطلقا، ثم المشارك فِي الشِّرْب، ثم المشارك فِي الطريق، ثم الجار عَلَى منْ ليس بمجاور.
وأجيب بأن المفضل عليه مقدر: أي الجار أحق منْ المشتري الذي لا جوار له، قَالَ فِي القاموس: الجار: المجاور، والذي أجرته، منْ أن يظلم، والمجير، والمستجير،
والشريك فِي التجارة، وزوج المرأة، وما قرُب منْ المنازل، والمقاسم، والحليف، والناصر. انتهى. والحاصل أن الجار المذكور فِي الأحاديث المذكورة، إن كَانَ يُطلق عَلَى الشريك فِي الشيء، والمجاور له بغير شركة، كانت مقتضية بعمومها لثبوت الشفعة لهما جمعا، وحديث جابر، وأبي هريرة، المذكوران، يدلان عَلَى عدم ثبوت الشفعة للجار، الذي لا شركة له، فيُخَصَّصان عموم أحاديث الجار.
ولكنه يشكل عَلَى هَذَا حديث الشريد بن سويد رضي الله عنه، فإن قوله:"ليس لأحد فيها شرك، ولا قسم، إلا الجوار"، مشعر بثبوت الشفعة لمجرد الجوار، وكذلك حديث سمرة؛ لقوله فيه:"جار الدار أحق بالدار"، فإن ظاهره أن الجوار المذكور جوار، لا شركة فيه.
ويجاب بأن هذين الحديثين، لا يصلحان لمعارضة ما فِي الصحيح، عَلَى أنه يمكن الجمع بما فِي حديث جابر السابق، بلفظ:"إذا كَانَ طريقهما واحدا"، فإنه يدل عَلَى أن الجوار، لا يكون مقتضيا للشفعة، إلا مع اتحاد الطريق، لا بمجرده، ولا عذر لمن قَالَ بحمل المطلق عَلَى المقيد، منْ هَذَا إن قَالَ بصحة هَذَا الْحَدِيث، وَقَدْ قَالَ بهذا -أعني ثبوت الشفعة للجار، مع اتحاد الطريق- بعض الشافعيّة، ويؤيده أن شرعية الشفعة، إنما هي لدفع الضرر، وهو إنما يحصل فِي الأغلب، مع المخالطة فِي الشيء المملوك، أو فِي طريقه، ولا ضرر عَلَى جار لم يشارك فِي أصل، ولا طريق إلا نادرا، واعتبار هَذَا النادر، يستلزم ثبوت الشفعة للجار، مع عدم الملاصقة؛ لأن حصول الضرر له، قد يقع فِي نادر الحالات، كحجب الشمس، والإطلاع عَلَى العورات، ونحوهما، كالروائح الكريهة، التي يتأذى بها، ورفع الأصوات، وسماع بعض المنكرات، ولا قائل بثبوت الشفعة لمن كَانَ كذلك، والضرر النادر غير معتبر؛ لأن الشارع علق الأحكام بالأمور الغالبة، فعلى فرض أن الجار لغة لا يطلق إلا عَلَى منْ كَانَ ملاصقا، غير مشارك، ينبغي تقييد الجوار باتحاد الطريق، ومقتضاه أن لا تثبت الشفعة بمجرد الجوار، وهو الحق، وَقَدْ زعم صاحب "المنار" أن الأحاديث تقتضي ثبوت الشفعة للجار، والشريك، ولا منافاة بينها، ووَجَّهَ حديث جابر بتوجيه بارد، والصواب ما حررناه. انتهى كلام الشوكاني "نيل الأوطار" 5/ 356 - 357.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي حرّره الشوكانيّ رحمه الله تعالى، منْ ترجيح القول بأن الشفعة إنما هي للشريك، لا للمجاور، هو الأرجح عندي؛ لوضوح
أدلّته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي سلمة رحمه الله تعالى هَذَا صحيح.
[فإن قلت]: يصحّ، وهو منْ مرسل أبي سلمة التابعيّ؟.
[قلت]: إنما إرساله فِي رواية المصنّف، فقد تقدّم أن البخاريّ رحمه الله تعالى أخرجه فِي "صحيحه" منْ طريق عبد الواحد بن زياد، عن معمر، موصولاً بذكر جابر رضي الله عنه، فتبصّر. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -109/ 4706 - وفي "الكبرى" 111/ 6303. وأخرجه (د) فِي "البيوع" 3514 و3515 (ت) فِي "الأحكام" 1370 (ق) فِي "الأحكام" 2497 و2499 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 13743 و14581 (الموطأ) فِي "الشفعة" 1420. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان مشروعية الشفعة، قَالَ فِي "الفتح": وهذا الْحَدِيث أصل فِي ثبوت الشفعة، وَقَدْ أخرجه مسلم، منْ طريق أبي الزبير، عن جابر، بلفظ:"قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة، فِي كل شِرْك، لم يُقسَم، رَبْعَة، أو حائط، لا يحل له أن يبيع حَتَّى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، فإذا باع ولم يؤذنه، فهو أحق به"، وَقَدْ تضمّن هَذَا الْحَدِيث ثبوت الشفعة فِي المشاع، وصدره يُشعر بثبوتها فِي المنقولات، وسياقه يُشعر باختصاصها بالعقار، وبما فيه العقار، وَقَدْ أخذ بعمومها فِي كل شيء مالك، فِي رواية، وهو قول عطاء، وعن أحمد تثبت فِي الحيوانات، دون غيرها منْ المنقولات. ورَوَى البيهقي منْ حديث ابن عباس، مرفوعا:"الشفعة فِي كل شيء"، ورجاله ثقات، إلا أنه أعل بالإرسال، وأخرج الطحاوي له شاهدا، منْ حديث جابر رضي الله عنه بإسناد لا بأس برواته، قَالَ عياض: لو اقتصر فِي الْحَدِيث عَلَى القطعة الأولى، لكانت فيه دلالة عَلَى سقوط شفعة الجوار، ولكن أضاف إليها صرف الطرق، والمترتب عَلَى أمرين، لا يلزم منه ترتبه عَلَى أحدهما.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بعموم الشفعة فِي العقار، وغيره منْ المنقولات، هو الأرجح، كما سبق بيانه، فلا تنس. والله تعالى أعلم.
(ومنها): أنه استُدِلَّ به عَلَى عدم دخول الشفعة، فيما لا يقبل القسمة، وعلى ثوبتها لكل شريك، وعن أحمد: لا شفعة لذمي، وعن الشعبي لا شفعة لمن لم يسكن المصر. قاله فِي "الفتح".
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: أن القول بعموم الشفعة لكلّ شريك مسلمًا كَانَ، أو ذميّا هو الأرجح؛ عملاً بعموم النصّ، قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى -بعد أن ذكر الخلاف المذكور-: ما نصّه، والصواب الأول -يعني القول بعمومه فِي المسلم، والذمّيّ- للعموم، ولأنه حقّ جرى بسببه، فيترتّب عليه حكمه، منْ استحقاق طلبه، وأخذه، كالدين، وأرش الجناية. انتهى "المفهم" 4/ 528. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4707 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رِزْمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنْ حُسَيْنٍ -وَهُوَ ابْنُ وَاقِدٍ- عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: "قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ، وَالْجِوَارِ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(محمد بن عبد العزيز بن أبي رِزْمة) -بكسر الراء، وسكون الزاي-: أبو عمرو المروزيّ، ثقة [10].
2 -
(الفضل بن موسى) السِّينانيّ، أبو عبد الله المروزيّ، ثقة ثبت، ربما أغرب، منْ كبار [9] 83/ 100.
3 -
(حسين بن واقد) أبو عبد الله القاضي المروزيّ، ثقة، له أوهام [7] 5/ 463.
4 -
(أبو الزبير) محمد بن مسلم بن تدرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ، يُدلّس [4] 31/ 35.
5 -
(جابر) بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمروزيين، غير أبي الزبير فمكيّ، وجابر رضي الله عنه، فمدنيّ، وفيه جابر رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ:"قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي حكم، وألزم (بِالشُّفْعَةِ) أي بثبوت الشفعة عند بيع الشريك نصيبه، فيأخذه الشريك بما أخذه به المشتري، كما سبق تفصيله قريبًا (وَالْجِوَارِ") -بكسر الجيم، وضمها-: أي قضى بمراعاة حقّ الجوار، وهذا لا دليل فيه لا لمثبت الشفعة بالجوار، ولا لنافيها، كما لا يخفى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث صحيحٌ بما سبق منْ أحاديث جابر رضي الله عنه، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -109/ 4707 - وفي "الكبرى" 111/ 6304. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب"(1).
…
44 - (كِتَابُ الْقَسَامَةِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا العنوان ثبت فِي بعض نسخ "المجتبى"، وفي بعضها:"ذكر القسامة التي كانت فِي الجاهليّة".
قَالَ فِي "الفتح" 7/ 543 - : "الْقَسَامَةُ" -بفتح القاف، وتخفيف المهملة-: اليمين، وهي فِي عرف الشرع: حَلِفٌ معيّنٌ عند التهمة بالقتل عَلَى الإثبات، أو النفي. وقيل: مأخوذةٌ منْ قِسْمة الأيمان عَلَى الحالفين. انتهى. وَقَالَ فِي موضع آخر 14/ 221 - : هي الأيمان تُقسم عَلَى أولياء القتيل، إذا ادّعوا الدم، أو عَلَى المدّعى عليهم الدم، وخُصَّ القسم عَلَى الدم بلفظ القسامة. وَقَالَ إمام الحرمين: القسامة عند أهل اللغة اسم للقوم الذين يُقسمون، وعند الفقهاء اسم للأيمان. وَقَالَ فِي "المحكم": القسامة: الجماعة يُقسمون عَلَى الشيء، أو يَشهدون به، ويمين القسامة منسوب إليهم، ثم أُطلق عَلَى الأيمان نفسها.
وَقَالَ الفيّوميّ رحمه الله تعالى: القسامة -بالفتح-: الأيمان، تُقسَم عَلَى أولياء القتيل، إذا ادّعَوا الدم، يقال: قُتِل فلانٌ بالقسامة: إذا اجتمع جماعةٌ منْ أولياء القتيل، فادَّعَوا عَلَى رجل أنه قتل صاحبهم، ومعهم دليلٌ دون البيّنة، فحَلَفوا خمسين يمينًا أنّ المدّعَى عليه قَتَل صاحبهم، فهؤلاء الذين يُقسمون عَلَى دعواهم، يُسَمَّون قَسَامَةٌ. انتهى "المصباح المنير" 2/ 503.
وَقَالَ ابن الأثير رحمه الله تعالى: القَسَامة -بالفتح-: اليمين، كالقَسَم، وحقيقتها أن يُقسِم منْ أولياء الدم خمسون نفرًا عَلَى استحقاقهم دم صاحبهم، إذا وَجدوه قتيلاً بين قوم، ولم يُعرف قاتله، فإن لم يكونوا خمسين، أقسم الموجودون خمسين يمينًا، ولا يكون فيهم صبيّ، ولا امرأة، ولا مجنون، ولا عبدٌ، أو يُقسم بها المتّهمون عَلَى نفي القتل عنهم، فإن حلف المدّعون استحقّوا الدية، وإن حلف المتّهمون لم تلزمهم الدية، وَقَدْ أقسم يُقسم قَسَمًا، وقَسَامةً، وَقَدْ جاء علي بناء الْغَرَامَة، والْحَمَالَة،؛ لأنها تلزم أهل الموضع الذي يوجد فيه القتيل، ومنه حديث عمر رضي الله عنه:"القَسَامةُ توجب العقل": أي توجب الدية، لا الْقَوَدَ، وفي حديث الحسن:"القسامة جاهليّةٌ": أي كَانَ أهل الجاهليّة يدِينون بها، وَقَدْ قرّرها الإِسلام، وفي رواية:"القتلُ بالقسامة جاهليّةٌ": أي أن أهل الجاهليّة كانوا يقتُلُون بها، أو أن القتل بها منْ أعمال الجاهليّه، كأنه إنكار لذلك، واستعظام. انتهى "النهاية" 4/ 62.
وَقَالَ ابن منظور رحمه الله تعالى: تفسير القسامة فِي الدم أن يُقتل رجلٌ، فلا تَشهَد عَلَى قتل القاتل إياه بيّنة عادلة كاملةٌ، فيجيء أولياء المقتول، فيدّعون قِبَلَ رجل أنه قتله، ويُدْلُون بِلَوْثٍ منْ البيّنة، غير كاملة، وذلك أن يوجد الْمُدّعَى عليه، مُتلطّخًا بدم القتيل فِي الحال التي وُجد فيها، ولم يَشهد رجل عدلٌ، أو امرأة ثقةٌ أن فلانًا قتله، أو يُوجَدَ القتيلُ فِي دار القاتل، وَقَدْ كانت بينهما عداوة ظاهرةٌ قبل ذلك، فإذا قامت دلالة منْ هذه الدلالات، سبَقَ إلى قلب منْ سمعه أن دعوى الأولياء صحيحةٌ، فيُستَحلَف أولياء القتيل خمسين يمينًا أن فلانًا الذي ادّعَوا قتله انفرد بقتل صاحبهم، ما شَرِكَه فِي دمه أحدٌ، فإذا حلفوا خمسين يمينًا، استحقّوا دية قتيلهم، فإن أبوا أن يحلفوا مع اللَّوْث الذي أَدْلَوا به، حلف الْمُدَّعَى عليه، وبَرِىء، وإن نكَلَ المدّعَى عليه عن اليمين، خُيَّر ورثة القتيل بين قتله، أو أخذ الدية منْ مال المدَّعَى عليه. وهذا جميعه قول الشافعيّ رحمه الله تعالى. انتهى "لسان العرب" 12/ 481.
وَقَالَ فِي "المغني" -12/ 188 - : القسامة: مصدر أقسم قَسَمًا، وقَسَامة، ومعناه: حَلَف حَلِفًا، والمراد بالقسامة هاهنا: الأيمان المكررة فِي دعوى القتل، قَالَ القاضي:
هي الأيمان إذا كثرت عَلَى وجه المبالغة، قَالَ: وأهل اللغة يذهبون إلى أنها القوم الذين يحلفون، سُمُّوا باسم المصدر، كما يقال: رجلٌ زُورٌ، وعدلٌ، ورِضًا، وأيُّ الأمرين كَانَ، فهو منْ القسم، الذي هو الحلف.
والأصل فِي القسامة: ما رَوَى يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن بَشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة، ورافع بن خَدِيج: أن مُحَيِّصة بن مسعود، وعبد الله بن سهل، انطلقا إلى خيبر، فتفرقا فِي النخيل، فقُتِل عبد الله بن سهل، فاتَّهموا اليهود، فجاء أخوه عبد الرحمن، وابنا عمه حُوَيِّصة ومحيصة، إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتكلم عبد الرحمن، فِي أمر أخيه، وهو أصغرهم، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"كبر، كبر"، أو قَالَ:"ليبدأ الأكبر"، فتكلما فِي أمر صاحبهما، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"يُقسِم خمسون منكم عَلَى رجل منهم، فيُدْفَعُ إليكم بِرُمَّته"، فقالوا: أمرٌ لم نشهده، كيف نَحلِف؟ قَالَ:"فتبرئكم يهود، بأيمان خمسين منهم"، قالوا: يا رسول الله، قوم كفار، ضلال، قَالَ: فَوَداه رسول الله صلى الله عليه وسلم منْ قبله، قَالَ سهل: فدخلت مِرْبَدًا لهم، فركضتني ناقة، منْ تلك الإبل، متَّفقٌ عليه. والله تعالى أعلم بالصواب.
…
1 - (ذِكْرِ الْقَسَامَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الجاهليّة": زَمَنُ الْفَتْرَة قبل الإِسلام، وقالوا: كَانَ ذلك فِي الجاهليّة الْجَهْلاء، توكيدًا للأول، اشتُقّ له منْ اسمه ما يؤكّد به، كما يقال: وَتِدٌ واتِدٌ، وهَمَجٌ هَامِجٌ، وليلةٌ لَيْلاءُ، ويومٌ أَيْوَمُ، وفي الْحَدِيث:"إنك امرؤ، فيك جاهليّةٌ"، وهي الحال التي كانت عليها العرب قبل الإسلام، منْ الجهل بالله سبحانه وتعالي، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وشَرائع الدين، والمفاخرة بالأنساب، والكِبر، والتجبّر، وغير ذلك. أفاده فِي "لسان العرب" 11/ 130. والله تعالى أعلم بالصواب.
4708 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَطَنٌ، أَبُو الْهَيْثَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو يَزِيدَ الْمَدَنِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَوَّلُ قَسَامَةٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، اسْتَأْجَرَ رَجُلاً، مِنْ قُرَيْشٍ، مِنْ فَخِذِ أَحَدِهِمْ، قَالَ: فَانْطَلَقَ مَعَهُ فِي إِبِلِهِ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ، مِنْ بَنِي هَاشِمٍ قَدِ
انْقَطَعَتْ عُرْوَةُ جُوَالِقِهِ، فَقَالَ: أَغِثْنِى بِعِقَالٍ، أَشُدُّ بِهِ عُرْوَةَ جُوَالِقِي، لَا تَنْفِرُ الإِبِلُ، فَأَعْطَاهُ عِقَالاً، يَشُدُّ بِهِ عُرْوَةَ جُوَالِقِهِ، فَلَمَّا نَزَلُوا، وَعُقِلَتِ الإِبِلُ، إِلاَّ بَعِيرًا وَاحِدًا، فَقَالَ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ: مَا شَأْنُ هَذَا الْبَعِيرِ، لَمْ يُعْقَلْ مِنْ بَيْنِ الإِبِلِ؟ قَالَ: لَيْسَ لَهُ عِقَالٌ، قَالَ: فَأَيْنَ عِقَالُهُ، قَالَ: مَرَّ بِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، قَدِ انْقَطَعَتْ عُرْوَةَ جُوَالِقِهِ، فَاسْتَغَاثَنِي، فَقَالَ: أَغِثْنِي بِعِقَالٍ، أَشُدُّ بِهِ عُرْوَةَ جُوَالِقِي، لَا تَنْفِرُ الإِبِلُ، فَأَعْطَيْتُهُ عِقَالاً، فَحَذَفَهُ بِعَصًا، كَانَ فِيهَا أَجَلُهُ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ: أَتَشْهَدُ الْمَوْسِمَ؟ قَالَ، مَا أَشْهَدُ، وَرُبَّمَا شَهِدْتُ، قَالَ: هَلْ أَنْتَ مُبَلِّغٌ عَنِّي رِسَالَةً، مَرَّةً مِنَ الدَّهْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إِذَا شَهِدْتَ الْمَوْسِمَ، فَنَادِ، يَا آلَ قُرَيْشٍ، فَإِذَا أَجَابُوكَ، فَنَادِ، يَا آلَ هَاشِمٍ، فَإِذَا أَجَابُوكَ، فَسَلْ عَنْ أَبِي طَالِبٍ، فَأَخْبِرْهُ أَنَّ فُلَانًا قَتَلَنِي، فِي عِقَالٍ، وَمَاتَ الْمُسْتَأْجَرُ، فَلَمَّا قَدِمَ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ، أَتَاهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ: مَا فَعَلَ صَاحِبُنَا؟ قَالَ: مَرِضَ، فَأَحْسَنْتُ الْقِيَامَ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَاتَ، فَنَزَلْتُ، فَدَفَنْتُهُ، فَقَالَ: كَانَ ذَا أَهْلَ ذَاكَ مِنْكَ، فَمَكُثَ حِينًا، ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَ الْيَمَانِيَّ، الَّذِي كَانَ أَوْصَى إِلَيْهِ أَنْ يُبَلِّغَ عَنْهُ، وَافَى الْمَوْسِمَ، قَالَ: يَا آلَ قُرَيْشٍ، قَالُوا: هَذِهِ قُرَيْشٌ، قَالَ: يَا آلَ بَنِي هَاشِمٍ، قَالُوا: هَذِهِ بَنُو هَاشِمٍ، قَالَ: أَيْنَ أَبُو طَالِبٍ، قَالَ: هَذَا أَبُو طَالِبٍ، قَالَ: أَمَرَنِي فُلَانٌ، أَنْ أُبَلِّغَكَ رِسَالَةً، أَنَّ فُلَانًا قَتَلَهُ فِي عِقَالٍ، فَأَتَاهُ أَبُو طَالِبٍ، فَقَالَ: اخْتَرْ مِنَّا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تُؤَدِّيَ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، فَإِنَّكَ قَتَلْتَ صَاحِبَنَا خَطَأً، وَإِنْ شِئْتَ يَحْلِفُ خَمْسُونَ مِنْ قَوْمِكَ، أَنَّكَ لَمْ تَقْتُلْهُ، فَإِنْ أَبَيْتَ قَتَلْنَاكَ بِهِ، فَأَتَى قَوْمَهُ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَقَالُوا: نَحْلِفُ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، كَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْهُمْ، قَدْ وَلَدَتْ لَهُ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أُحِبُّ أَنْ تُجِيزَ ابْنِي هَذَا، بِرَجُلٍ مِنَ الْخَمْسِينَ، وَلَا تُصْبِرْ يَمِينَهُ، فَفَعَلَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَقَالَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَرَدْتَ خَمْسِينَ رَجُلاً، أَنْ يَحْلِفُوا مَكَانَ مِائَةٍ مِنَ الإِبِلِ، يُصِيبُ كُلُّ رَجُلٍ بَعِيرَانِ، فَهَذَانِ بَعِيرَانِ، فَاقْبَلْهُمَا عَنِّي، وَلَا تُصْبِرْ يَمِينِي، حَيْثُ تُصْبَرُ الأَيْمَانُ، فَقَبِلَهُمَا وَجَاءَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلاً حَلَفُوا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا حَالَ الْحَوْلُ، وَمِنَ الثَّمَانِيَةِ وَالأَرْبَعِينَ عَيْنٌ تَطْرِفُ).
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(محمد بن يحيى) الإِمام الذُّهْليّ النيسابوريّ الثقة الحافظ الجليل [11] 196/ 314.
2 -
(أبو معمر) عبد الله بن عمرو المقعد الْمِنْقريّ، ثقة ثبتٌ، رُمي بالقدر [10] 69/ 2790.
3 -
(عبد الوارث) بن سعيد بن ذكوان العنبريّ مولاهم، أبو عبيدة التَّنُّوريّ البصريّ، ثقة ثبتٌ [8] 6/ 6.
4 -
(قَطَنٌ) -بفتح القاف، والمهملة، ثم نون- ابن كعب الْقُطَعيّ -بضمّ القاف أبو الْهَيْثم البصريّ، ثقة [6].
روى عن أبي يزيد المدنيّ، ومحمد بن سيرين، وعُقبة بن عبد الغافر، وأبي غالب، صاحب أبي أُمامة، وأيوب السَّخْتياني، وأمّ عُتبة. وعنه شعبة، وحماد بن زيد، وعبد الوارث بن سعيد، وأبو جَزْءٍ نصر بن طَرِيف، وجعفر بن سُليمان الضُّبعيّ، ومحمد بن بكر الْبُرسانيّ. قَالَ ابن معين، وأبو زرعة: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". روى له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود فِي "القدر". وليس له عند البخاريّ، والمصنّف إلا هَذَا الْحَدِيث.
5 -
(أبو يزيد المدنيّ) نزيل البصرة، ثقةٌ [4].
روى عن أبي هريرة، وابن عبّاس، وابن عمر، وغيرهم، وعنه أيوب، وأبو قطن بن كعب، وجرير بن حازم، وغيرهم. قَالَ ابن أبي حاتم، عن أبيه: شيخٌ، سُئل عنه مالك، فَقَالَ: لا أعرفه. وَقَالَ الآجريّ، عن أبي داود: سألت أحمد عنه؟ فَقَالَ: تسأل عن رجل روى عنه أيوب؟. وَقَالَ إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: ثقة. وَقَالَ أبو زُرعة: لا أعلم له اسمًا. وَقَالَ ابن أبي حاتم: يروي عن ابن عبّاس، وتارة يُدخل بينه وبين ابن عبّاس عكرمة، قَالَ: وسألت عنه أبي، فَقَالَ: يُكتب حديثه، قلت: ما اسمه؟ قَالَ: لا يُسمّى. تفرّد به البخاريّ، والمصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.
[تنبيه]: قَالَ فِي "التقريب" عن أبي يزيد هَذَا: مقبولٌ انتهى، وفيه نظرٌ لا يخفى، فقد روى عنه جماعة، وَقَالَ إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة، وَقَالَ عبّاس الدُّوريّ، عن ابن معين: أيوب سمع منْ أبي يزيد المدنيّ، وأبو يزيد ليس يُعرف بالمدينة، والبصريّون يروون عنه. (تاريخه: 2/ 732). وَقَالَ ابن مُحرز، عن يحيى: شيخٌ مشهورٌ، يروي عنه أيوب، وهؤلاء، قلت: ثقة؟ قَالَ: نعم، قلت: سمع منْ ابن عبّاس؟ قَالَ: نعم. (سؤالاته: الترجمة 471). وسأل أبو داود أحمد عنه؟ فَقَالَ: تسأل عن رجل روى عنه أيوب؟
(1)
، فتبيّن بما ذُكر أن قول "التقريب": مقبولٌ، غير مقبول، بل الصواب أنه ثقة، فتبصّر.
6 -
(عكرمة) مولى ابن عباس البربري الأصل، ثقة ثبت [3] 2/ 325.
7 -
(ابن عباس) عبد الله البحر الحبر رضي الله تعالى عنهما 27/ 31. والله تعالى أعلم.
(1)
راجه "تهذيب الكمال" مع هامشه 34/ 409 - 410 و"تهذيب التهذيب" 4/ 609.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فنيسابوريّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أحد العبادلة والمكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: أَوَّلُ قَسَامَةٍ) وفي رواية البخاريّ: "إن أول قسامة"، وتقدّم معنى القسامة قريبًا (كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) أي فِي الفترة التي كانت قبل الإسلام، زاد فِي رواية البخاريّ:"لَفينا بني هاشم": قَالَ فِي "الفتح": اللام للتأكيد، و"بني هاشم": مجرور عَلَى البدل منْ الضمير المجرور، ويحتمل أن يكون منصوبًا عَلَى التمييز، أو عَلَى النداء، بحذف الأداة.
وقوله: (كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ) خبر لـ"أول قسامة" عَلَى معنى: قسامة كانت فِي هذه القضيّة. قاله السنديّ. والرجل -كما فِي "الفتح"-: هو عمرو بن علقمة بن المطلب بن عبد مناف، جزم بذلك الزبير بن بكار، فِي هذه القصة، فكأنه نسب فِي هذه الرواية إلى بني هاشم مجازا؛ لما كَانَ بين بني هاشم، وبني المطلب، منْ المودة، والمؤاخاة، والمناصرة، وسماه ابن الكلبي عامرا.
(اسْتَأْجَرَ رَجُلاً، مِنْ قُرَيْشٍ) هكذا فِي رواية المصنّف، وهو مقلوب، والصواب:"استأجره رجلٌ منْ قريش"، وَقَدْ بيّن هَذَا الحافظ فِي "الفتح"، فَقَالَ عند قول البخاريّ:"استأجره رجل منْ قريش، منْ فخذ أخرى": كذا فِي رواية الأصيلي، وأبي ذر، وكذا أخرجه الفاكهي منْ وجه آخر عن أبي معمر، شيخ البخاريّ فيه، وفي رواية كريمة، وغيرها:"استأجر رجلا منْ قريش"، وهو مقلوب، والأول هو الصواب.
(مِنْ فَخِذِ أَحَدِهِمْ) أي منْ قبيلة بعضهم، والضمير لقريش، وفي رواية البخاريّ:"منْ فخذ أخرى"، و"الفخذ" -بفتح الفاء، وكسر المعجمة، وَقَدْ تسكن، مع فتح الفاء، وكسرها، أربع لغات-: هو دون القبيلة، وفوق البطن، وقيل: دون البطن، وفوق الفصيلة، وهو مذكّرٌ؛ لأنه بمعنى النفَر، والجمع أفخاذ. وجزم الزبير بن بكار: بأن المستأجر المذكور هو خِدَاش -بمعجمتين، ودال مهملة- ابن عبد الله بن أبي قيس العامري.
(قَالَ: فَانْطَلَقَ) أي ذهب الأجير الهاشميّ (مَعَهُ) أي مع المستأجر القرشيّ (فِي إِبلِهِ) أي لرعي إبل المستأجر (فَمَرَّ بِهِ) أي بالأجير (رَجُلٌ، مِنْ بَنِي هَاشِم) قَالَ الحافظ: لم
أقف عَلَى اسمه (قَدِ انْقَطَعَتْ عُرْوَةُ جُوَالِقِهِ) قَالَ فِي "القاموس": "الْجِوالق" بكسر الجيم، واللام، وبضمّ الجيم، وفتح اللام، وكسرها: وعاء معروف، جمعه جَوالِقُ، كصَحائفَ، وجَوَاليقُ، وجُوَالقات. انتهى. وَقَالَ فِي "الفتح": بضم الجيم، وفتح اللام-: الوعاء منْ جلود، وثياب، وغيرها، فارسي معرب، وأصله: كواله، وجمعه جَوَالِيق، وحكي جَوَالِق، بحذف التحتانية.
(فَقَالَ) ذلك الرجل الذي انقطعت عروة جوالقه (أَغِثْنِي) بالغين المعجمة، والثاء المثلّثة، منْ الإغاثة، وفي نسخة:"أعنّي" بالمهملة، منْ الإعانة (بِعِقَالٍ) بكسر العين المهملة، وتخفيف القاف-: أي بحبل، وجمعه عُقُل، ككتاب وكُتُبَ (أَشُدُّ) بضم الشين المعجمة، وكسرها، منْ بابي نصر، وضرب (بِهِ عُرْوَةَ جُوَالِقِي) وجملة "أشد الخ" فِي محل جرّ صفة لـ"عقال"(لَا تَنْفِرُ الإْبِلُ) بكسر الفاء، منْ باب ضرب، وهو مرفوع، و"الإبل" بالرفع فاعله،: أي إذا شددته بالعقال، لا تنفر الإبل بسبب سقوط الجوالق (فَأَعْطَاهُ عِقَالاً، يَشُدُّ بِهِ عُرْوَةَ جُوَالِقِهِ، فَلَمَّا نَزَلُوا، وَعُقِلَتِ الْإبِلُ) ببناء الفعل للمفعول، يقال: عَقَلْتُ البعيرَ عَقْلاً، منْ باب ضرب: إذا ثَنَيتَ وَظِيفه، مع ذراعه، فتشُدّهما جميعًا فِي وسَط الذراع بحبل، وذلك هو العقال. أفاده الفيّوميّ (إِلَّا بَعِيرًا وَاحِدًا، فَقَالَ) قَالَ السنديّ: الفاء زائدة فِي جواب "لَمّا"(الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ: مَا شَأْنُ هَذَا الْبَعِيرِ، لَمْ يُعْقَلْ) بالبناء للمفعول (مِنْ بَيْنِ الإْبِلِ؟ قَالَ) الأجير (لَيْسَ لَهُ عِقَالٌ، قَالَ) المستأجر (فَأَيْنَ عِقَالُهُ؟ قَالَ) الأجير (مَرَّ بِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي هَاشِمِ، قَدِ انْقَطَعَتْ عُرْوَةُ جُوَالِقِهِ، فَاسْتَغَاثَنِي) أي طلب منيّ الإغاثة (فَقَالَ: أَغِثْنِي بِعِقَالٍ، أَشُدُّ) بضم الشين، وكسرها، كما سبق (بِهِ عُرْوَةَ جُوَالِقِي، لَا تَنْفِرُ الْإبِلُ، فَأَعْطَيْتُهُ عِقَالاً، فَحَذَفَهُ) بحاء مهملة، وذال معجمة: أي رمى المستأجر أجيره لشدّة غضبه عَلَى ما فعل منْ إعطاء العقال للسائل (بِعَصًا، كَانَ فِيهَا) أي فِي تلك الرمية (أَجَلُهُ) أي موته لكونه أصاب مَقْتَله، والمراد أنه أشرف عَلَى الموت، لا أنه مات عَلَى الفور، بل عَلَى التراخي، بأن مرِضَ، ثم مات، بدليل قوله:(فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ) قَالَ الحافظ: لم أقف عَلَى اسم هَذَا المارّ أيضًا (فَقَالَ) الأجير المضروب بالعصا (أَتَشْهَدُ الْمَوْسِمَ؟) أي موسم الحجّ، يعني هل أنت معتاد أن تحجّ كلّ عام؟ (قَالَ) الرجل اليمنيّ (مَا أَشْهَدُ) أي ليس عادتي أن أشهد كلّ المواسم (وَ) لكن (رُبَّمَا شَهِدْتُ) أي فِي بعض الأعوام الماضية (قَالَ: هَلْ أَنْتَ مُبَلِّغٌ) منْ التبليغ، أو الإبلاغ (عَنِّي رِسَالَةً، مَرَّةً مِنَ الدَّهْرِ؟) أي وقتًا منْ الأوقات، أي فِي موسم منْ المواسم (قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إِذَا شَهِدْتَ الْمَوْسِمَ) وفي رواية البخاريّ: "فكتب: إذا أنت شهدتّ الموسم الخ"، قَالَ فِي "الفتح": قوله: "فكتب" بالمثناة، ثم الموحدة، ولغير أبي ذر،
والأصيليّ، بضم الكاف، وسكون النون، ثم المثناة، والأول أوجه، وفي رواية الزبير ابن بكار: "فكتب إلى أبي طالب، يُخبره بذلك، ومات منها، وفي ذلك يقول أبو طالب:
أَفِي فَضْلِ حَبْلِ لَا أَبَالَكَ ضَرْبُهُ
…
بِمِنْسَأَةٍ قَدْ جَاءَ حَبْلٌ أَوْ أَحْبُلُ
(فَنَادِ، يَا آلَ قُرَيْشٍ) بإضافة آل إلى قُريش، وفي بعض النسخ:"يا لَقُريش" بفتح اللام الداخلة عَلَى قريش، وهي لام الاستغاثة. وَقَالَ فِي "الفتح". قوله:"يا آل قريش" بإثبات الهمزة، وبحذفها عَلَى الاستغاثة. انتهى.
(فَإِذَا أَجَابُوكَ، فَنَادِ، يَا آلَ هَاشِمٍ، فَإِذَا أَجَابُوكَ، فَسَلْ عَنْ أَبي طَالِبٍ، فَأَخْبِرْهُ أَنَّ فُلَانًا قَتَلَنِي، فِي عِقَالٍ) أي بسبب عقال، فـ "فِي" سببيّة (وَمَاتَ الْمُسْتَأْجَرُ) بفتح الجيم: أي مات الأجير بعد أن أوصى إلى اليمنيّ بما أوصاه به (فَلَمَّا قَدِمَ) بكسر الدال (الَّذِي اسْتَأجَرَهُ، أَتَاهُ أَبُو طَالِبٍ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ صَاحِبُنَا؟) أي أيُّ شيء منعه منْ المجيء معك؟ (قَالَ) الذي استأجر (مَرِضَ) صاحبكم (فَأَحْسَنْتُ الْقِيَامِ عَلَيْهِ) أي أحسنت تمريضه، بمعالجته، وإحضار ما يحتاج إليه المريض (ثُمَّ مَاتَ، فنَزَلْتُ) أراد النزول فِي محلّ، وترك الرحيل؛ لأنه كَانَ راحلاً لطلب المرعى لإبله (فَدَفَنْتُهُ) وفي رواية البخاريّ:"فَوَلِيت دفنه" بكسر اللام، وفي رواية ابن الكلبي:"فَقَالَ: أصابه قدره، فصدّقوه، ولم يظنوا به غير ذلك".
(فَقَالَ) أبو طالب لَمّا سمع كلامه، وظنّ أنه صادق فِي ذلك (كَانَ ذَا أَهْلَ ذَاكَ مِنْكَ) أي كَانَ مستحقّا منك ما ذكرته منْ إحسان القيام بتمريضه، ودفنه بعد موته (فَمَكثَ) أي أقام، يقال: مَكَثَ مَكْثًا، منْ باب قتل: أي أقام، وتَلَبَّث، ومَكُثَ مُكْثًا، فهو مكيثٌ، مثلُ قرُب قربًا، فهو قريبٌ لغةٌ، وقرأ السبعة:{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} الآية [النمل: 22]، باللغتين، ويتعدّ بالهمز، فيقال: أمكثه، وتمكّث فِي أمره: إذا لم يَعْجَلْ فيه. قاله الفيّوميّ (حِينًا) أي وقتًا طويلاً (ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَ الْيَمَانِيَّ، الَّذِي كَانَ أَوْصَى إِلَيْهِ أَنْ يُبَلِّغَ) منْ الإبلاغ، أو التبليغ (عَنْهُ، وَافَى الْمَوْسِمَ) أي أتاه (قَالَ) وفي نسخة: "فَقَالَ" بالفاء (يَا آلَ قُرَيْشٍ، قَالُوا: هَذِهِ قُرَيْشٌ، قَالَ: يَا آلَ بَنِي هَاشِمٍ، قَالُوا: هَذِهِ بَنُو هَاشِمٍ، قَالَ: أَيْنَ أَبُو طَالِبٍ؟) وفي رواية البخاريّ: "منْ أبو طالب؟ "(قَالَ: هَذَا أَبُو طَالِبٍ) أي قَالَ قائلٌ: هَذَا أبو طالب، ويحتمل أن يكون القائل هو أبو طالب نفسه، وفي رواية البخاريّ:"قالوا: هَذَا أبو طالب"، وزاد ابن الكلبي:"فأخبره بالقصة، وخِدَاش يطوف بالبيت، لا يعلم بما كَانَ، فقام رجال منْ بني هاشم إلى خداش، فضربوه، وقالوا: قتلت صاحبنا، فجحد"(قَالَ) ذلك اليمني (أَمَرَنِي فُلَانٌ) يعني الرجل المقتول (أَنْ أُبَلِّغَكَ رِسَالَةً، أَنَّ
فُلَانًا) يعني المستأجر القاتل (قَتَلَهُ فِي عِقَالٍ) أي بسبب عقال (فَأَتَاهُ) أي الرجل القاتل (أَبُو طَالِبٍ، فَقَالَ: اخْتَرْ مِنَّا إِحْدَى ثَلَاثٍ) أي ثلاث خصال، قَالَ فِي "الفتح": يحتمل أن تكون هذه الثلاث، كانت معروفة بينهم، ويحتمل أن تكون شيئا، اخترعه أبو طالب. وَقَالَ ابن التين: لم يُنقل أنهم تشاوروا فِي ذلك، ولا تدافعوا، فدَلَّ عَلَى أنهم كانوا يعرفون القسامة قبل ذلك، كذا قَالَ، وفيه نظر؛ لقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، راوي الْحَدِيث:"إنها أول قسامة"، ويمكن أن يكون مراد ابن عباس الوقوع، وإن كانوا يعرفون الحكم قبل ذلك. وحكى الزبير بن بكار أنهم تحاكموا فِي ذلك، إلى الوليد بن المغيرة، فقضى أن يحلف خمسون رجلا، منْ بني عامر عند البيت، ما قتله خداش، وهذا يُشعر بالأوليّة مطلقًا (إِنْ شِئْتَ أَنْ تُؤَدِّيَ مِائَةً مِنَ الْإبِلِ) أي فافعل، وهذه هي أولى الخصال الثلاث. وقوله (فَإِنَّكَ قَتَلْتَ صَاحِبَنَا خَطَأً) الفاء فيه للتعليل؛ أي لأنك قتلت الخ (وَإِنْ شِئْتَ يَحْلِفْ خَمْسُونَ مِنْ قَوْمِكَ، أَنَّكَ لَمْ تَقْتُلْهُ) وهذه هي ثانية الخصال (فَإِنْ أَبَيْتَ) أي امتنعت منْ كلّ منْ إعطاء الدية، وحلف خمسين منْ قومك عَلَى عدم قتلك صاحبنا (قَتَلْنَاكَ بِهِ) أي لثبوت قتلك له بنكولكم عن الحلف (فَأَتَى) القاتل (قَوْمَهُ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمْ) أي ما عرض عليه أبو طالب منْ الخصال الثلاث (فَقَالُوا: نَحْلِفُ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ) هي زينب بنت علقمة، أخت المقتول، ونسبتها إلى بني هاشم مجازية (كَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْهُمْ) هو عبد العزى بن أبي قيس العامري، والتقدير: كانت زوجا لرجل منْ بني هاشم (قَدْ وَلَدَتْ لَهُ) اسم ولدها منه حُويطب -بمهملتين، مصغرًا- ذكر ذلك الزبير، وَقَدْ عاش حُويطب بعد هَذَا، دهرا طويلا، وله صحبة، ويحتمل أن يكون غير حويطب.
(فَقَالَتْ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أُحِبُّ أَنْ تُجِيزَ ابْنِي هَذَا) بالجيم، والزاي: أي تهبه ما يلزمه منْ اليمين (بِرَجُلٍ مِنَ الْخَمْسِينَ، وَلَا) ناهية (تُصْبِرْ يَمِينَهُ) ويحتمل أن تكون "لا" نافية، والفعل معطوف عَلَى "تُجيز": والمعني: لا تلزمه أن يحلف، يقال: صبر يمينه، منْ باب ضرب: إذ حلّفه، وصبر الحاكم فلانًا عَلَى يمين: أكرهه عليها، أنشد ثَعْلبٌ:
فَأَوْجِعِ الْجَنْبَ وَأَعْرِ الظَّهْرَا
…
أَوْ يُبْلِيَ اللَّهُ يَمِينًا صَبْرَا
ويمين الصبر: أن يحبس السلطان إنسانًا عَلَى اليمين حَتَّى يحلف، فلو حلف منْ غير إحلاف لا يقال له حلف صبرًا، وفي الْحَدِيث:"منْ حلف عَلَى يمين مصبورة كاذبًا"، وفي آخر:"عَلَى يمينِ صبرٍ": أي ألزِم بها، وحُبس عليها، وكانت لازمةً لصاحبها منْ جهة الْحَاكم، وقيل لها: مصبورة، وإن كَانَ صاحبها فِي الحقيقة هو المصبور؛ لأنه إنما صبر منْ أجلها، أي حُبس، فوُصفت بالصبر، وأُضيفت إليه مجازًا. أفاده فِي "اللسان".
وَقَالَ السنديّ: "ولا تصبر يمينه" علي بناء المفعول، أو الفاعل، منْ صبر، كنصر، وضرب، معطوفٌ عَلَى "تُجيزَ"، وروي عَلَى صيغة النهي. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لم أر فِي كتب اللغة ضبط صبر بمعنى حبس، كنصر، فالظاهر أنه خطأٌ، وإنما هو كضرب فقط، فتأمّل.
وَقَالَ فِي "الفتح": قولها: "ولا تُصبر يمينه" -بالمهملة، ثم الموحدة-: أصل الصبر الحبس والمنع، ومعناه فِي الأيمان: الإلزام، تقول: صبرته أي ألزمته أن يحلف بأعظم الأيمان حَتَّى لا يسعه أن لا يحلف، زاد فِي رواية البخاريّ:"حيث تُصبر الأيمان" ببناء الفعل للمفعول: أي لا تُلزمه أن يحلف فِي المكان الذي تُصبر فيه الأيمان، وهو بين الركن والمقام.
قَالَ ابن التين: ومن هنا استدلّ الشافعيّ عَلَى أنه لا يُحلّف بين الركن والمقام عَلَى أقلّ منْ عشرين دينارًا، نصاب الزكاة. قَالَ الحافظ: كذا قَالَ، ولا أدري كيف يستقيم هَذَا الاستدلال، ولم يذكر أحد منْ أصحاب الشافعيّ أن الشافعيّ استدلّ بهذه القصّة. انتهى.
(فَفَعَلَ) أي وافق أبو طالب عَلَى ما طلبت منه المرأة، منْ عدم تحليف ابنها (فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ) أي أتى أبا طالب رجل منْ قوم القاتل، قَالَ الحافظ: لم أقف عَلَى اسمه، ولا عَلَى اسم أحد منْ سائر الخمسين، إلا منْ تقدم، وزاد ابن الكلبي:"ثم حلفوا عند الركن أن خِداشا بريء منْ دم المقتول (فَقَالَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَرَدْتَ خَمْسِينَ رَجُلاً، أَنْ يَحْلِفُوا مَكَانَ مِائَةٍ مِنَ الإْبِلِ، يُصِيبُ كُلَّ رَجُلٍ) بالنصب عَلَى المفعولية (بَعِيرَانِ، فَهَذَانِ بَعِيرَانِ، فَاقْبَلْهُمَا عَنَّي، وَلَا) ناهية (تُصْبِرْ يَمِينِي) أي لا تُلزمني أن أَحْلِفَ معهم (حَيْثُ تُصْبَرُ الْأَيْمَانُ) تقدم أنه بين الركن والمقام (فَقَبِلَهُمَا) أي قبل أبو طالب البعيرين (وَجَاءَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلاً حَلَفُوا) وفي رواية البخاريّ: "فحلفوا" بالفاء، وهي أوضح (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما (فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) قَالَ ابن التين: كأن الذي أخبر ابن عباس بذلك جماعة، اطمأنت نفسه إلى صدقهم، حَتَّى وسعه أن يحلف عَلَى ذلك. قَالَ الحافظ: يعني أنه كَانَ حين القسامة لم يولد، ويحتمل أن يكون الذي أخبره بذلك هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو أمكن فِي دخول هَذَا الْحَدِيث فِي الصحيح. انتهى (مَا حَالَ الْحَوْلُ) أي منْ يوم حلفوا (وَمِنَ الثَّمَانِيَةِ) وفي رواية أبي ذرّ عند البخاريّ: "وفي الثمانية" (وَالأَرْبَعِينَ عَيْنٌ تَطْرِفُ) -بكسر الراء-: أي تتحرك، زاد ابن الكلبي: "وصارت رباع الجميع لحويطب"، فبذلك كَانَ أكثر منْ بمكة رِبَاعا، وروى الفاكهي منْ طريق ابن أبي نَجِيح، عن أبيه، قَالَ: "حلف ناس عند البيت قَسامة، عَلَى باطل، ثم خرجوا، فنزلوا
تحت صخرة، فانهدمت عليهم"، ومن طريق طاوس، قَالَ: "كَانَ أهل الجاهلية، لا يُصيبون فِي الحرم شيئا، إلا عُجِّلت لهم عقوبته"، ومن طريق حُويطب: "أن أمة فِي الجاهلية، عاذت بالبيت، فجاءتها سيدتها، فجبذتها، فشلت يدها"، ورَوينا فِي "كتاب مجابي الدعوة" لابن أبي الدنيا فِي قصة طويلة، فِي معنى سُرْعة الإجابة بالحرم للمظلوم فيمن ظلمه، قَالَ: فَقَالَ عمر: "كَانَ يُفعل بهم ذلك فِي الجاهلية؛ ليتناهوا عن الظلم؛ لأنهم كانوا لا يعرفون البعث، فلما جاء الإِسلام أُخر القصاص إلى يوم القيامة"، ورَوَى الفاكهي، منْ وجه آخر، عن طاوس، قَالَ: "يوشك أن لا يصيب أحد فِي الحرم شيئاً، إلا عُجِلت له العقوبة"، فكأنه أشار إلى أن ذلك يكون فِي آخر الزمان، عند قبض العلم، وتناسي أهل ذلك الزمان أمور الشريعة، فيعود الأمر غريبا كما بدأ. انتهى فتح 14/ 545. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما هَذَا أخرجه البخاريّ.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -1/ 4708 - وفي "الكبرى" وأخرجه (خ) فِي "المناقب"3845. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان أول القسامة التي كانت فِي الجاهليّة. (ومنها): أن ما أقرّه النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ أفعال الجاهليّة يكون شرعًا مستمرًّا بإقراره صلى الله عليه وسلم. (ومنها): بيان شؤم الأيمان الكاذبة. (ومنها): أن فيه تعظيم قتل النفس البريئة حَتَّى فِي أيام الجاهلية. (ومنها): بيان حرمة الحرم جاهليّة، وأن منْ اجترأ فيه بالمعاصي يعاجَل بالعقوبة، فلما جاء الإِسلام لم يزده إلا شدّةً، فقد قَالَ الله عز وجل:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].
ذكر الإِمام ابن كثير رحمه الله تعالى فِي "تفسيره" 3/ 215: أقوال المفسّرين لهذه الآية الكريمة، قَالَ: والأجود أنه ضمّن الفعل هاهنا معنى "يَهُمُّ"، ولهذا عدّاه بالباء، فَقَالَ:{بِظُلْمٍ} : أي عامدا، قاصدا أنه ظلم، ليس بمتأول، كما قَالَ ابن جريج، عن ابن عباس: هو التعمد، وَقَالَ علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:{بِظُلْمٍ} : بشرك. وَقَالَ مجاهد: أن يعبد فيه غير الله، وكذا قَالَ قتادة، وغير واحد، وَقَالَ العوفي، عن ابن عباس:{بِظُلْمٍ} : هو أن تستحلّ منْ الحرم ما حرم الله عليك، منْ إساءة، أو
قتل، فتظلم منْ لا يظلمك، وتقتل منْ لا يقتلك، فإذا فعل ذلك، فقد وجب له العذاب الأليم. وَقَالَ مجاهد:{بِظُلْمٍ} يعمل فيه عملا سيئا، وهذا منْ خصوصية الحرم، أنه يعاقب البادي فيه الشرَّ، إذا كَانَ عازما عليه، وإن لم يوقعه، كما قَالَ ابن أبي حاتم، فِي "تفسيره": حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا شعبة، عن السُّدِّيِّ، أنه سمع مُرَّةَ، يحدث عن عبد الله -يعني ابن مسعود- فِي قوله:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} قَالَ: "لو أن رجلا أراد فيه بإلحاد بظلم، وهو بِعَدَنِ أَبْيَن، لأذاقه الله منْ العذاب الأليم"، قَالَ شعبة: هو رفعه لنا، وأنا لا أرفعه لكم، قَالَ يزيد: هو قد رفعه، ورواه أحمد، عن يزيد بن هارون به.
قَالَ الإِمام ابن كثير: هَذَا الإسناد صحيح، عَلَى شرط البخاريّ، ووقفه أشبه منْ رفعه، ولهذا صمم شعبة عَلَى وقفه، منْ كلام ابن مسعود، وكذلك رواه أسباط، وسفيان الثوري عن السدي، عن مُرَّة، عن ابن مسعود موقوفا. والله أعلم.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لكن الظاهر أن الموقوف فِي مثل هَذَا له حكم الرفع؛ لأن ابن مسعود رضي الله عنه لا يروي الإسرائيليّات، وهذا مما لا مجال للرأي فيه. وَقَدْ ذُكِرَ أقولٌ أُخَر فِي معنى الآية، فراجع تفسير ابن كثير 3/ 225. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
2 - (الْقَسَامَةُ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: أشار المصنّف رحمه الله تعالى بهذه الترجمة إلى القسامة فِي الإِسلام، كما أنه صرّح فِي الترجمة السابقة بالقسامة فِي الجاهليّة. والله تعالى أعلم بالصواب.
4709 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، وَيُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو: قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مِنَ الأَنْصَارِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَقَرَّ الْقَسَامَةَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ).
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ) أبو الطاهر المصريّ، ثقة [10] 35/ 39.
2 -
(يونس بن عبد الأعلى) بن ميسرة الصدفيّ، أبو موسى المصريّ، ثقة، منْ صغار [10] 1/ 449.
3 -
(ابن وهب) عبد الله، أبو محمد المصريّ، ثقة حافظ عابد [9] 9/ 9.
4 -
(يونس) بن يزيد الأليلي، ثقة [9] 9/ 9.
5 -
(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهريّ المذكور قريبًا.
6 -
(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف المدنيّ، ثقة فقيه [3] 1/ 1.
7 -
(سليمان بن يسار) الهلالي مولاهم المدنيّ، ثقة فاضل فقيه، منْ كبار [3] 122/ 156. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمصريين إلى يونس، وهو وإن كَانَ أيليّا، إلا أنه نزل مصر، والباقون مدنيّون. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيين، وهما منْ الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ (قَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرو) بن السرح (قَالَ) أي ابن شهاب (أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ) المعنى: أن أحمد بن عمرو الشيخ الأول للمصنّف فِي هَذَا الإسناد قَالَ فِي روايته: قَالَ ابن شهاب: أخبرني الخ، يعني أنه صرّح بالإخبار، والظاهر أن رواية يونس بن عبد الأعلى بالعنعنة، و"أبو سلمة": هو ابن عبد الرحمن بن عوف، أحد الفقهاء السبعة عَلَى بعض الأقوال (وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ) زاد فِي رواية مسلم:"مولى ميمونة، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم (عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مِنَ الْأَنْصَارِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَقَرَّ الْقَسَامَةَ) أي أثبتها (عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) وزاد مسلم منْ رواية ابن جُريج، عن ابن شهاب بهذا الإسناد: "وقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ناس منْ الأنصار، فِي قتيل، ادَّعَوه عَلَى اليهود". يعني القصّة الآتية فِي الباب التالي، منْ حديث سهل بن أبي حَثْمَة رضي الله عنه.
قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: هَذَا الْحَدِيث حجة للجمهور عَلَى منْ أنكر العمل بالقسامة، فإن ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم وجد النَّاس عَلَى عمل، فلما أسلموا، واستقلّ
بتبليغ الأحكام، أقرّها عَلَى ما كانت عليه، فصار ذلك حكمًا شرعيّا، يُعمل عليه، ويُحكم به، لكن يجب أن يُبحث عن كيفيّة عملهم الذي كانوا يَعملونه فيها، وشروطهم التي اشترطوها، فيُعمل بها منْ جهة إقرار النبيّ صلى الله عليه وسلم، لا منْ جهة الاقتداء بالجاهليّة فيها. انتهى "المفهم" 5/ 18.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: سيأتي فِي الباب التالي بيان اختلاف العلماء فِي حكم القسامة، مفصّلاً، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث رجل منْ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منْ الأنصار رضي الله عنه هَذَا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -2/ 4707 و4708 - وفي "الكبرى" 2/ 6910 و6911. وأخرجه (م) فِي "القسامة" 1670 (أحمد) فِي "مسند المدنيين" 16162 و"باقي مسند الأنصار" 22676 و23156. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4710 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَاشِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ الْقَسَامَةَ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَقَرَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَضَى بِهَا بَيْنَ أُنَاسٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فِي قَتِيلٍ ادَّعَوْهُ عَلَى يَهُودِ خَيْبَرَ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن هاشم": هو ابن سعيد الْبَعْلَبَكّيّ القرشيّ، صدوقٌ، منْ صغار [10] 3/ 454 منْ أفراد المصنّف. و"الوليد": هو ابن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقة، لكنه كثير التدليس والتسوية [8] 5/ 454. و"الأوزاعيّ": هو عبد الرحمن بن عمرو الإمام المشهور. والحديث صحيح، وَقَدْ سبق تمام البحث فيه فِي الْحَدِيث الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله: (خَالَفَهُمَا مَعْمَرٌ) أي خالف يونسَ بنَ يزيد، والأوزاعيَّ فِي روايتهما عن الزهريّ، معمرُ بنُ راشد، فرواه عن الزهريّ، عن ابن المسيّب، مرسلاً، لكن مثل هَذَا الخلاف لا يضرّ فِي صحّة الْحَدِيث؛ لأنهما ثقتان حافظان، فيُقدّمان عليه، ولاسيّما، وَقَدْ تابعهما ابن جريج، وصالح بن كيسان، عند مسلم، فروياه موصولاً مثلهما، فلذا أخرجه الإِمام مسلم رحمه الله تعالى فِي "صحيحه"، منْ رواية يونس، وابن جريج،
وصالح، كلهم عن الزهريّ، بالإسناد المذكور، فتبصّر، ولا تتحيّر. ثم ذكر رواية معمر، فَقَالَ:
4711 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: كَانَتِ الْقَسَامَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ أَقَرَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي الأَنْصَارِيِّ الَّذِي وُجِدَ مَقْتُولاً، فِي جُبِّ الْيَهُودِ، فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: الْيَهُودُ قَتَلُوا صَاحِبَنَا).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.
وقوله: "فِي الأنصاريّ الذي وُجد مقتولاً": هو عبد الله بن سهل الآتي قصّته فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى.
وقوله: "فِي جُبّ اليهود": "الجبّ" بضمّ الجب، وتشديد الباء الموحّدة: هي البئر التي لم تُطْوَ، وهو مذكّرٌ، وَقَالَ الفرّاء: يُذكّر، ويؤنّث، والجمع أَجْبَابٌ، وجِبَابٌ، وجِبَبَةٌ، مثلُ عِنَبَة. قاله الفيّوميّ.
والحديث مرسلٌ صحيحٌ بما قبله، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -2/ 4711 - وفي "الكبرى" 2/ 6912. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
3 - (تَبْدِئَةُ أَهْلِ الدَّمِ فِي الْقَسَامَةِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "التبدئة": مصدر بدّأ بالتشديد
(1)
، يقال: بدأ الشيءَ، وبدأ بالشيء، وابتدأ به، وأبدأه، وابتدأه، وكلها بمعنى فعله ابتداءً، فمعنى تبدئة أهل الدم فِي القسامة: تقديم أولياء المقتول فِي اليمين عَلَى أولياء القاتل، وسيأتي اختلاف العلماء فِي ذلك، قريبًا، إن شاء الله تعالى.
4712 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي لَيْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّ سَهْلَ بْنَ أَبِي
(1)
لكن لم أجد منْ أهل اللغة منْ ضبط بدّأ بتشديد الدال، فليُنظَرْ.
حَثْمَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةَ، خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ، مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمَا، فَأُتِىَ مُحَيِّصَةُ، فَأُخْبِرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ، وَطُرِحَ فِي فَقِيرٍ، أَوْ عَيْنٍ، فَأَتَى يَهُودَ، فَقَالَ: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ، حَتَّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ، وَحُوَيِّصَةُ، وَهُوَ أَخُوهُ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"كَبِّرْ كَبِّرْ"، وَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ"، فَكَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ، فَكَتَبُوا: إِنَّا وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِحُوَيِّصَةَ، وَمُحَيِّصَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ:"تَحْلِفُونَ، وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ "، قَالُوا: لَا، قَالَ:"فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ؟ "، قَالُوا: لَيْسُوا مُسْلِمِينَ، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مِنْ عِنْدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بِمِائَةِ نَاقَةٍ، حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ، قَالَ سَهْلٌ: لَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ).
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(مالك بن أنس) إمام دار الهجرة الحجة الثبت [7] 7/ 7.
2 -
(أبو ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل الأنصاريّ) الحارثيّ المدنيّ، ويقال: اسمه عبد الله، ثقة [4].
وفي "تهذيب التهذيب" 4/ 578 - 579 - : روى عن سهل بن أبي حثمة، ورجال، وقيل: عن رجال منْ كبراء قومه، وعنه مالك بن أنس، وقيل: عن مالك، عن أبي ليلى، عبد الله بن سهل، قَالَ ابن سعد: أبو ليلى، اسمه عبد الله بن سهل بن عبد الرحمن بن سهل بن كعب، منْ بني عامر بن عدي بن جُشَم بن مَجْدَعَةَ بن الأوس، وهو الذي رَوَى عنه مالك، حديثَ القسامة. وَقَالَ البخاريّ: عبد الله بن سهل، سمع عائشة. ورَوَى محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن سهل بن عبد الرحمن بن سهل بن أبي حثمة، عن عائشة، وجابر، كذا نسبه. وقَالَ ابن حبّان فِي "الثقات": عبد الله بن سهل بن عبد الرحمن بن سهل، أحد بني حارثة، كنيته أبو ليلى، وكذا قَالَ مسلم، والنسائي، والدولابي، وغيرهم. وَقَالَ ابن أبي حاتم فِي "الكنى": سئل أبو زرعة عن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن الحارثي؟ فَقَالَ: أنصاريّ ثقة، وكان قد ذكر عبد الله بن سهل فِي الأسماء، وَقَالَ ابن عبد البرّ: أجمعوا عَلَى أنه ثقة.
أخرج له البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والمصنف، وابن ماجه، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث، وأعاده بعده.
3 -
(سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ) -بفتح المهملة، وسكون المثلثة- واسم أبي حثمة: عامر
ابن ساعدة بن عامر، ويقال: اسم أبيه عبد الله، فاشتهر هو بالنسبة إلى جده، وهو منْ بني حارثة، بطن منْ الأوس، الأنصاريّ الخزرجيّ المدنيّ، صحابيّ صغير، وُلد سنة ثلاث منْ الهجرة، ولأبيه صحبة أيضًا، وتقدمت ترجمة سهل رضي الله عنه فِي 5/ 748 - . والباقيان تقدّما قريبًا. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، منْ مالك، ومن قبله مصريان. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي لَيْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْصَارِيِّ) تقدّم أنه قيل: إن اسمه عبد الله بن سهل بن عبد الرحمن بن سهل (أَنَّ سَهْلَ بْنَ أَبِي حَثْمَةَ) رضي الله تعالى عنه (أَخْبَرَهُ) أي أخبر أبا ليلى (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةَ) -بضمّ الميم، وفتح الحاء المهملة، وتشديد التحتانيّة المكسورة فِي الأشهر، ويجوز تسكين الياء. وَقَالَ فِي "الفتح":"محيصة" -بضم الميم، وفتح المهملة، وتشديد التحتانية، مكسورة، بعدها صاد مهملة، وكذا ضَبْطُ أخيه حويصة، وحُكي التخفيف فِي الاسمين معا، ورجحه طائفة.
وهو ابن مسعود بن كعب بن عامر بن عديّ بن مَجْدَعَة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاريّ، شهد أحدًا، وسائر المشاهد.
(خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ، مِنْ جَهْدٍ) بفتح الجيم، وسكون الهاء: أي مشقّة بلغت الغايةَ (أَصَابَهُمَا، فَأُتِيَ مُحَيِّصَةُ، فَأُخْبِرَ) ببناء الفعلين للمفعول: أي أتاه آتٍ، فأخبره (أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ) بالبناء للمفعول أيضًا، وكذا قوله (وَطُرِحَ فِي فَقِيرٍ) بفتح الفاء، وكسر القاف، بلفظ الفقير المقابل للغنيّ: وهي الحفيرة، وفي "اللسان": فم القَناة. وَقَالَ فِي "النهاية" 3/ 463 - : الفقير: البئر، وقيل: هي القليلة الماء، والفقير أيضًا: فم القَنَاة، وفَقير النخلة: حُفرة تُحفر للفَسِيلة، إذا حُوِّلت لِتُغْرَسَ فيها، ويقال لها أيضًا الْفُقْرَة بضم، فسكون. انتهى بتصرّف (أَوْ عَيْنٍ)"أو" للشكّ منْ الراوي (فَأَتَى) مُحيّصة (يَهُودَ) بمنع الصرف للعلميّة ووزن الفعل، كما قاله الفيّوميّ (فَقَالَ: أَنْتُمْ وَاللهِ قَتَلْتُمُوهُ) أي عبد الله ابن سهل (فَقَالُوا: وَاللهِ مَا قَتَلْنَاهُ) وفي رواية سعيد بن عُبيد، عن بُشير الآتية:"فقالوا للذين وجدوه عندهم: قتلتم صاحبنا، قالوا: ما قتلناه، ولا علمنا له قاتلاً"(ثُمَّ أَقْبَلَ) محيّصة (حَتَّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ) أي قصّ عليه قصّة قتل
عبد الله بن سهل رضي الله عنه، فقوله (ثُمَّ أَقْبَلَ) الخ تفسير للجملة السابقة (هُوَ) أي محيّصة، وإنما أتى بالضمير المنفصل؛ ليمكنه عطف قوله (وَحُوَيِّصَةُ) لأن العطف عَلَى ضمير الرفع المتّصل بلا فاصل ضعيف، كما قَالَ ابن مالك:
وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ
…
عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ
أَوْ فَاصِلٍ مَا وَبِلَا فَصْلٍ يَرِدْ
…
فِي النَّظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ
و"حُوَيِّصَة": بضمّ الحاء المهملة، وفتح الواو، وتشديد التحتانيّة، وَقَدْ تُسكّن.
(وَهُوَ أَخُوهُ) أي حُوَيِّصة أخو مُحيِّصة، إذ هما ابنا مسعود بن كعب، وَقَدْ تقدّم قريبًا ذكر نسبهما.
وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "ثم أقبل هو وأخوه حويّصة": يعني به محيّصة، وهما ابنا مسعود بن زيد
(1)
، والمشهور فِي حويّصة، ومُحيّصة تخفيف الياء، وَقَدْ رويا بكسر الياء، وتشديدها، وعلى الوجهين، فهما مصغّران، والمقتول عبد الله بن سهل بن زيد، وأخوه عبد الرحمن بن سهل، فالأربعة بنو عمّ بعضهم لبعض، وإنما تقدّم محيّصة بالكلام؛ لكونه كَانَ بخيبر حين قُتل عبد الله، غير أنه كَانَ أصغر سنّا منْ حُوَيّصةَ، ولذلك قَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"كبّر كبّر": أي قدّم للكلام قبلك منْ هو أكبر سنّا منك، فتقدّم حويّصة، وكأنه كَانَ أكبر منه، ومن عبد الرحمن أخي المقتول. انتهى "المفهم" 5/ 8.
(أَكْبَرُ مِنْهُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ) أخو عبد الله بن سهل المقتول (فَذَهَبَ) أي شَرَعَ (مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ) أي ليذكر القضيّة، ويشرحها للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقوله (وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ) علّة لتقدّمه عليهما فِي الكلام، أي إنما ذهب ليتكلّم؛ لكونه هو الذي شهد الواقعة، حيث كَانَ مع المقتول فِي خيبر، فوجد عبد الله مقتولاً فيها (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"كَبِّرْ، كَبِّرْ") بتشديد الباء الموحدة: أمر بتقديم الأكبر عليه، وكرّره للتأكيد (وَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ) حيث كَانَ هو الأكبر منهما، وَقَدْ أخبره بتفاصيل القضيّة محيّصة، فهو عالم بها (ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ) حيث شهد القضيّة (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِمَّا أَنْ يَدُوا) مضارع وَدَى بحذف الواو، كما فِي يَفِي، والضمير لليهود (صَاحِبَكُمْ) أي يعطوا ديته، يقال: وَدَى القاتل القتيل دِيَةً: إذا أعطى وليَّه المالَ الذي هو بدل النفس (وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا) قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: الظاهر أنه بفتح الياء منْ الإذن، بمعنى العلم، مثله قوله تعالى:{فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ} الآية [البقرة: 279]، وضُبط علي بناء المفعول، منْ الإيذان، بمعنى الإعلام، وهو أقرب إلى الخطّ، والمراد أنهم يفعلون أحد الأمرين، إن
(1)
هكذا فِي "المفهم"، والمشهور أنهما ابنا مسعود بن كعب، كما مر آنفًا.
ثبت عليهم القتل، دم صاحبكم المقتول، أو دم صاحبكم القاتل، عَلَى مذهب منْ يرى القصاص بالقسامة. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ثبوت القصاص بالقسامة هو أرجح الأقوال؛ لظاهر النصّ، كما سيأتي تحقيقه فِي المسائل، إن شاء الله تعالى.
(بِحَرْبٍ) أي بمحاربة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
قَالَ القرطبيّ: هَذَا الكلام منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى جِهة التأنيس، والتسلية لأولياء المقتول، وعلى جهة الإخبار بالحكم عَلَى تقدير ثبوت القتل عليهم، لا أن ذلك كَانَ حكمًا منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى اليهود فِي حال غيبتهم، فإنه بعدُ لم يسمع منهم، ولا حضروا حَتَّى يسألهم، ولذلك كتب إليهم بعد أن صدر منه ذلك القول، ثم إن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أن سمع الدعوى لم يستحضر المدّعَى عليهم إليه. انتهى.
(فَكَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ) أي فِي شأن قتل عبد الله بن سهل رضي الله عنه (فَكَتَبُوا) أي اليهود إليه صلى الله عليه وسلم (إِنَّا وَاللهِ مَا قَتَلْنَاهُ) زاد فِي رواية: "وما علمنا له قاتلاً"(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لِحُوَيِّصَةَ، وَمُحَيَّصَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ) رضي الله عنهم (تَحْلِفُونَ) بتقدير همزة الاستفهام، وفي الرواية الآتية:"أتحلفون خمسين يمينًا". وهذا هو محلّ الترجمة، حيث بدأ النبيّ صلى الله عليه وسلم بأيمان أهل الدم فِي القسامة، وهو قول معظم القائلين بأن القسامة يُستوجَب بها الدم، وخالف فِي ذلك بعضهم، وسيأتي تمام البحث فيه قريبًا، إن شاء الله تعالى (وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟) وفي رواية:"فيُدفع إليكم برُمّته"، وهو نصّ فِي أن القسامة يُستحقّ بها الدم، وهو قول معظم الحجازيين، وسيأتي تحقيق الخلاف فِي ذلك قريبًا، إن شاء الله تعالى (قَالُوا) أي حويّصة، ومحيصة، وعبد الرحمن (لَا) وفي الرواية الآتية:"كيف نحلف، ولم نشهد، ولم نحضر؟ "(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ؟) أي فإذا امتنعتم منْ استحقاق الدم بحلفكم، فتحلف لكم يهود، وفي الرواية الآتية:"قَالَ: فتبرئكم اليهود بخمسين أنهم لم يقتلوه"(قَالُوا: لَيْسُوا مُسْلِمِينَ) وفي رواية سعيد بن عبيد الآتية: "لا نرضى بأيمان اليهود"، وفي رواية يحيى بن سعيد الآتية:"فتبرئكم يهود بخمسين يمينا": أي يخلصونكم منْ الأيمان، بأن يحلفوهم، فإذا حلفوا انتهت الخصومة، فلم يجب عليهم شيء، وخلصتم أنتم منْ الأيمان، "قالوا: كيف نقبل بأيمان قوم كفار"، وفي رواية: "نأخذ" بدل "نقبل"، وفي رواية: "ما يبالون أن يقتلونا أجمعين، ثم يحلفون".
قَالَ فِي "الفتح": ما حاصله: لم يذكر فِي رواية سعيد بن عبيد، عرض الأيمان عَلَى المدعين، كما لم يقع فِي رواية يحيى بن سعيد، طلب البينة أَوّلاً.
وطريق الجمع أن يقال: حفظ أحدهم ما لم يحفظ الآخر، فيحمل عَلَى أنه طلب البينة، أوّلاً، فلم تكن لهم بينة، فعَرَض عليهم الأيمان، فامتنعوا، فعرض عليهم تحليف
المدعَى عليهم، فأَبَوا.
وأما قول بعضهم: إن ذكر البينة وَهَمٌ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم، قد عَلِمَ أن خيبر حينئذ، لم يكن بها أحد منْ المسلمين، فدعوى نفي العلم مردودة، فإنه وإن سُلِّم أنه لم يسكن مع اليهود فيها أحد منْ المسلمين، لكن فِي نفس القصة، أن جماعة منْ المسلمين خرجوا يمتارون تمرا، فيجوز أن تكون طائفة أخرى خرجوا لمثل ذلك، وإن لم يكن فِي نفس الأمر كذلك، وَقَدْ وجدنا لطلب البينة، فِي هذه القصة شاهدا منْ وجه آخر، أخرجه النسائيّ 4/ 4722 - منْ طريق عبيد الله بن الأخنس، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده: أن ابن محيصة الأصغر أصبح قتيلا عَلَى أبواب خيبر، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أقم شاهدين عَلَى منْ قتله، أدفعه إليك برمته"، قَالَ: يا رسول الله، أَنَّى أُصيب شاهدين؟، وإنما أصبح قتيلا عَلَى أبوابهم، قَالَ:"فتحلف خمسين قسامة"، قَالَ: فكيف أحلف عَلَى ما لا أعلم؟، قَالَ:"تستحلف خمسين منهم"، قَالَ:"كيف وهم يهود؟ ".
قَالَ الحافظ: وهذا السند صحيح حسن، وهو نَصٌّ فِي الحمل الذي ذكرته، فتعين المصير إليه.
وَقَدْ أخرج أبو داود أيضا، منْ طريق عباية بن رفاعة، عن جده رافع بن خديج، قَالَ: أصبح رجل منْ الأنصار، بخيبر مقتولا، فانطلق أولياؤه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"شاهدان يشهدان عَلَى قتل صاحبكم"، قَالَ: لم يكن ثَمَّ أحد منْ المسلمين، وإنما هم اليهود، وَقَدْ يجترئون عَلَى أعظم منْ هَذَا. انتهى "فتح" 14/ 225.
(فَوَدَاهُ) أي أعطى ديته (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مِنْ عِنْدِهِ) وفي رواية: "منْ قِبَله" بكسر القاف، وفتح الموحّدة: أي منْ جهته. وفي رواية سعيد بن عُبيد الآتية: "فوداه مائة منْ إبل الصدقة".
قَالَ فِي "الفتح" -14/ 226 - : زعم بعضهم أنه غلط منْ سعيد بن عبيد؛ لتصريح يحيى ابن سعيد بقوله: "منْ عنده"، وجمع بعضهم بين الروايتين، باحتمال أن يكون اشتراها منْ إبل الصدقة، بمال دفعه منْ عنده، أو المراد بقوله:"منْ عنده": أي بيت المال الْمُرَصَّد للمصالح، وأَطلَقَ عليه صدقة، باعتبار الانتفاع به مجانا؛ لما فِي ذلك منْ قطع المنازعة، وإصلاح ذات البين، وَقَدْ حمله بعضهم عَلَى ظاهره، فحكى القاضي عياض، عن بعض العلماء، جواز صرف الزكاة فِي المصالح العامة، واستدل بهذا الْحَدِيث، وغيره، وتقدم شيء منْ ذلك فِي "كتاب الزكاة"، فِي الكلام عَلَى حديث أبي لاس رضي الله عنه، قَالَ:"حملنا النبيّ صلى الله عليه وسلم، عَلَى إبل منْ إبل الصدقة، فِي الحج"، وعلى هَذَا فالمراد بالعندية، كونها تحت أمره، وحكمه، وللاحتراز منْ جعل ديته عَلَى اليهود، أو غيرهم.
قَالَ القرطبيّ فِي "المفهم" 5/ 15 - 16 - : إنما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى مقتضى كرم خلقه، وحسن سياسته، وجلبًا للمصلحة، ودفعًا للمفسدة، وإطفاء للثائرة، وتأليفًا للأغراض المتنافرة، ولاسيما عند تعذر الوصول إلى إستيفاء الحق، ورواية منْ قَالَ:"منْ عنده" أصح منْ رواية منْ قَالَ: "منْ إبل الصدقة"، وَقَدْ قيل: إنها غلط، والأولى أن لا يُغَلَّط الراوي ما أمكن، فيحتمل أوجها، فذكر ما تقدم، وزاد أن يكون تَسَلَّفَ ذلك منْ إبل الصدقة؛ ليدفعه منْ مال الفيء، أو أن أولياء القتيل، كانوا مستحقين للصدقة، فأعطاهم، أو أعطاهم ذلك منْ سهم المؤلفة؛ استئلافا لهم، واستجلابا لليهود. انتهى.
(فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بِمِائَةِ نَاقَةٍ، حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ) أي أدخلت فِي دارهم (قَالَ سَهْلٌ) هو ابن أبي حثْمة رضي الله عنه الراوي لهذا الْحَدِيث (لَقَدْ رَكَضَتْنِي) أي ضربتني برجلها، قَالَ الفيّوميّ: رَكَضَ الرجلُ رَكْضًا، منْ باب قتل: إذا ضرب برجله، ويتعدّى إلى مفعول، فيقال: ركضتُ الفرس: إذا ضربته ليعدُوَ، ثم كثر، حَتَّى أُسند الفعل إلى الفرس، واستُعمل لازمًا، فقيل: رَكَضَ الفرسُ، قَالَ أبو زيد: يُستعمل لازمًا، ومتعدّيًا، فيقال: ركض الفرسُ، وركضته، ومنهم منْ منع استعماله لازمًا، ولا وجه للمنع بعد نقل العدل. وركض البعيرُ: ضرب برجله، مثلُ رمح. انتهى (مِنْهَا) أي منْ تلك الإبل (نَاقَةٌ حَمْرَاءُ) وفي رواية حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد:"أدركت ناقة منْ تلك الإبل، فدخلت مِرْبَدًا لهم، فركضتني برجلها"، وفي رواية شيبان بن بلال:"لقد ركضتني ناقة، منْ تلك الفرائض بالمربد"، وفي رواية محمد بن إسحاق:"فوالله ما أنسى ناقة بَكْرَة منها حمراء ضربتني، وأنا أَحُوزُها". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه هَذَا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -3/ 4712 و4713 و4/ 4714 و4715 و4716 و4717 و4718 و4719 و4720 و4721 - وفي "الكبرى" 3/ 6913 و6914 و4/ 6915 و6916 و6917 و6918 و6919 و6920 و6921. وأخرجه (خ) فِي "الصلح" 2702 و"الجزية، والموادعة" 3173 و"الأدب" 6142 و"الديات" 6898 و"الأحكام" 7192 (م) فِي "القسامة" 1669 (د) فِي "الديات" 4520 و4521 و4523 (ت) فِي "الديات" 1422 (أحمد) فِي "مسند المدنيين" 15664 (الموطأ) فِي "القسامة" 1630 (الدارمي)
فِي الديات" 2247. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان كون الابتداء فِي القسامة بأولياء المقتول.
(ومنها): مشروعية القسامة، وبه يقول جمهور أهل العلم، وسيأتي تحقيق الخلاف فِي ذلك فِي المسألة التالية، إن شاء الله تعالى.
(ومنها): أنه استُدِلّ به عَلَى تقديم الأسن فِي الأمر المهم، إذا كانت فيه أهلية ذلك، لا ما إذا كَانَ عَرِيّا عن ذلك، وعلى ذلك يحمل الأمر بتقديم الأكبر، فِي حديث الباب، إما لأن ولي الدم، لم يكن متأهلا، فأقام الحاكم قريبه مقامه فِي الدعوى، وإما لغير ذلك.
(ومنها): إنَّ فيه التأنيسَ، والتسليةَ لأولياء المقتول، وليس فيه أنه حكم عَلَى الغائبين؛ لأنه لم يتقدم صورة دعوى عَلَى غائب، وإنما وقع الإخبار بما وقع، فذكر لهم قصة الحكم عَلَى التقديرين، ومن ثم كتب إلى اليهود، بعد أن دار بينهم الكلام المذكور.
(ومنها): أنه يؤخذ منه أن مجرد الدعوى، لا توجب إحضار المدعى عليه؛ لأن فِي إِحضاره مشغلة عن أشغاله، وتضييعا لماله، منْ غير موجب ثابت لذلك، أما لو ظهر ما يُقَوِّي الدعوى، منْ شبهة ظاهرة، فهل يسوغ استحضار الخصم، أولا؟ محل نظر، والراجح أن ذلك يختلف بالقرب والبعد، وشدة الضرر، وخفته.
(ومنها): أن فيه الاكتفاءَ بالمكاتبة، وبخبر الواحد مع إمكان المشافهة. (ومنها): أن اليمين قبل توجيهها منْ الحاكم، لا أثر لها؛ لقول اليهود فِي جوابهم: والله ما قتلنا. (ومنها): أن فِي قولهم: لا نرضى بأيمان اليهود، استبعادًا لصدقهم، لما عرفوه منْ إقدامهم عَلَى الكذب، وجراءتهم عَلَى الأيمان الفاجرة.
(ومنها): أنه استُدِلّ به عَلَى أن الدعوى فِي القسامة، لابد فيها منْ عداوة، أو لَوْث، واختلف فِي سماع هذه الدعوى، ولو لم توجب القسامة، فعن أحمد روايتان، وبسماعها قَالَ الشافعيّ؛ لعموم حديث:"اليمينُ عَلَى المدعَى عليه"، بعد قوله:"لو يُعطَى النَّاس بدعواهم، لادعى قوم دماء رجال، وأموالهم"، ولأنها دعوى فِي حق آدمي، فتُسمع، ويستحلف، وَقَدْ يقر، فيثبت الحق فِي قتله، ولا يقبل رجوعه عنه، فلو نكل رُدَّت عَلَى المدعِي، واستحق القَوَد فِي العمد، والدية فِي الخطأ، وعن الحنفية: لا ترد اليمين، وهي رواية عن أحمد.
(ومنها): أنه استُدِلَّ به عَلَى أن المدعين، والمدعَى عليهم، إذا نَكَلوا عن اليمين، وجبت الدية فِي بيت المال، وسيأتي ما فيه قريبا، إن شاء الله تعالى.
(ومنها): أنه استدل به الحنفية عَلَى جواز سماع الدعوى فِي القتل، عَلَى غير معين؛ لان الأنصار ادعوا عَلَى اليهود، أنهم قتلوا صاحبهم، وسمع النبيّ صلى الله عليه وسلم دعواهم. ورُدّ بأن الذي ذكره الأنصار أوّلا، ليس عَلَى صورة الدعوى بين الخصمين؛ لأن منْ شرطها إذا لم يحضر المدعى عليه، أن يتعذر حضوره.
سلمنا، ولكن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قد بين لهم أن الدعوى، إنما تكون عَلَى واحد؛ لقوله:"تقسمون عَلَى رجل منهم، فيدفعَ إليكم برمته"؟.
(ومنها): أنه استُدِلّ بقوله: "عَلَى رجل منهم"، عَلَى أن القسامة إنما تكون عَلَى رجل واحد، وهو قول أحمد، ومشهور قول مالك، وَقَالَ الجمهور: يشترط أن تكون عَلَى معين، سواء كَانَ واحدا، أو أكثر، واختلفوا هل يختص القتل بواحد، أو يقتل الكل؟، وسيأتي البحث فيه. وَقَالَ أشهب: لهم أن يحلفوا عَلَى جماعة، ويختاروا واحدا للقتل، ويُسجن الباقون عامًا، ويضربون مائة مائة، وهو قول لم يسبق إليه.
(ومنها): أن الحلف فِي القسامة لا يكون إلا مع الجزم بالقاتل، والطريق إلى ذلك المشاهدة، وإخبار منْ يوثق به، مع القرينة الدالة عَلَى ذلك.
(ومنها): أن منْ توجهت عليه اليمين، فنكل عنها، لا يقضى عليه، حَتَّى يُرَدَّ اليمين عَلَى الآخر، وهو المشهور عند الجمهور، وعند أحمد، والحنفية: يقضى عليه، دون رد اليمين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم هل يُعمل بالقسامة، أم لا؟:
قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: الْحَدِيث كله حجة واضحة للجمهور منْ السلف، والخلف عَلَى منْ أنكر العمل بالقسامة، وهم: سالم بن عبد الله، وأبو قلابة، ومسلم بن خالد، وقتادة، وابن عُليّة، وبعض المكيّين، فنفوا الحكم بها شرعًا فِي العمد، والخطأ. وَقَدْ رُوي ذلك عن عمر بن عبد العزيز، والحكم بن عُتيبة. وَقَدْ رُوي عنهما العمل بها. وَقَدْ رُوي نفي العمل بها عن سليمان بن يسار، والصحيح عنه روايته المذكورة عنه هنا -يعني الْحَدِيث المذكور فِي الباب الماضي- حيث قَالَ، عن رجال منْ الأنصار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرّ القسامة عَلَى ما كانت عليه فِي الجاهليّة، وظاهر هَذَا: أنه يقول بها. انتهى "المفهم" 5/ 18.
وَقَالَ القاضي عياض رحمه الله تعالى: هَذَا الْحَدِيث أصل منْ أصول الشرع، وقاعدة منْ قواعد الأحكام، وركن منْ أركان مصالح العباد، وبه أخذ كافة الأئمة، والسلف منْ
الصحابة والتابعين، وعلماء الأمة، وفقهاء الأمصار، منْ الحجازيين، والشاميين، والكوفيين، وإن اختلفوا فِي صورة الأخذ به. وروي التوقف عن الأخذ به عن طائفة، فلم يَرَوا القسامة، ولا أثبتوا بها فِي الشرع حكما، وهذا مذهب الْحَكَم بن عتبة، وأبي قلابة، وسالم بن عبد الله، وسليمان بن يسار، وقتادة، ومسلم بن خالد، وإبراهيم ابن علية، وإليه ينحو البخاريّ، ورُوي عن عمر بن عبد العزيز باختلاف عنه.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: آخر كلام القاضي -كما قَالَ الحافظ- ينافي ما صَدَّر به كلامه، أن كافة الأئمة أخذوا بها، وَقَدْ نُقل أيضًا عن غير هؤلاء أيضًا.
قَالَ القاضي: واختلف قول مالك فِي مشروعية القسامة، فِي قتل الخطإ. قاله فِي "الفتح" 14/ 226.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن جمهور أهل العلم قائلون بالعمل بالقسامة، وهو الحقّ؛ لظهور أدلّته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): فِي اختلافهم فيمن يُبدأ فِي القسامة:
ذهب معظم القائلين بالقسامة إلى أنها تبدأ بالمدعين، ثم ترد إذا أبوا عَلَى المدعى عليهم، واحتجوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه:"البينة عَلَى المدعي، واليمين عَلَى المدعى عليه، إلا القسامة"، وبقول مالك: أجمعت الأئمة فِي القديم والحديث، عَلَى أن المدعين يبدأون فِي القسامة، ولأن جنبة المدعي إذا قريت
(1)
بشهادة أو شبهة، صارت اليمين له، وهاهنا الشبهة قوية، وقالوا: هذه سنة بحيالها، وأصل قائم برأسه؛ لحياة النَّاس، ورَدْع المعتدين، وخالفت الدعاوي فِي الأموال، فهي عَلَى ما ورد فيها، وكلٌّ أصلٌ، يتبع، ويستعمل، ولا تطرح سنة لسنة.
وأجابوا عن رواية سعيد بن عبيد -يعني المذكورة فِي الباب التالي- بقول أهل الْحَدِيث: إنه وَهَمٌ منْ روايه، أسقط منْ السباق تبرئة المدعين باليمين؛ لكونه لم يَذكُر فيه رد اليمين، واشتملت رواية يحيى بن سعيد عَلَى زيادة منْ ثقة حافظ، فوجب قبولها، وهي تقضي عَلَى منْ لم يعرفها.
وَقَالَ القرطبيّ: الْحَدِيث دليلٌ عَلَى أن القسامة يبدأ فيها المدّعون بالأيمان، وهو قول معظم القائلين بأن القسامة يُستوجب بها الدم، وَقَالَ مالك: الذي أجمعت عليه الأمة فِي القديم والحديث: أن المدّعين يبدؤون فِي القسامة.
(1)
هكذا نسخة "الفتح"، ولعل الصواب "قويت" بالواو. فالله تعالى أعلم.
وخالف فِي ذلك الكوفيّون، وكثير منْ أهل البصرة، والمدنيين، والأوزاعيّ، وروي عن الزهريّ، وعمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فقالوا: يُبدأ بالمدّعى عليهم، متمسّكين فِي ذلك بالأصل الذي دلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم للمدّعي:"شاهداك، أو يمينه"، وبأنه قد رُوي هَذَا الْحَدِيث منْ طرق، ذكرها أبو داود، والنسائيّ، ذكر فيها أنه صلى الله عليه وسلم طالب المدّعين بالبيّنة، فقالوا: ما لنا بيّنة، فَقَالَ:"فتحلف لكم يهود خمسين يمينًا"، وهذا هو الأصل المقطوع به فِي باب الدعاوي الذي نبّه الشرع عَلَى حكمته بقوله:"لو أُعطي النَّاس بدعاويهم لاستحلّ رجالٌ دماء رجال، وأموالهم، ولكن البيّنة عَلَى المدّعي، واليمين عَلَى منْ أنكر"، متّفقٌ عليه.
وأجاب الجمهور عن ذلك بأن الصحيح المشهور المعروف منْ حديث حويّصة، ومُحيّصة تبدئة المدّعين بالأيمان، وهي رواية الأئمة الحفّاظ بالطرق المسندة المستفيضة، وما ذكروه مما رواه أبو داود، والنسائيّ مراسيل، وغير معروفة عند المحدّثين، وليست مما تُعارض بها الطرق الصحاح، فيجب ردّها بذلك.
وأجابوا عن التمسّك بالأصل بأن هَذَا الحكم أصل بنفسه؛ لحرمة الدماء، ولتعذر إقامة البينة عَلَى القتل فيها غالبا، فإن المقاصد للقتل يقصد الخلوة، والْغِيلة، بخلاف سائر الحقوق، وبشهدات الروايات الصحيحة لهذا الأصل الخاصّ بهذا الحكم الخاصّ، وبقي ما عداه عَلَى ذلك الأصل الآخر، ثم ليس ذلك خروجًا عن ذلك الأصل بالكلّيّة، وذلك أن المدعَى عليه، إنما كَانَ القول قوله؛ لقوة جانبه بشهادة الأصل له بالبراءة مما ادُّعِيَ عليه، وذلك المعنى موجود هنا، فإنه إنما كَانَ القول قولَ المدّعين؛ لقوة جانبهم باللَّوث الذي يشهد لهم بصدقهم، فقد أعملنا ذلك الأصل، ولم نطرحه بالكليّة. انتهى "المفهم" 5/ 10 - 11.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الأرجح هو القول بأنه يُبدأ فِي القسامة بأيمان أولياء المقتول، ثم تردّ عَلَى أولياء القاتل، لقوّة حجته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي شرط ثبوت القسامة:
[اعلم]: اتفقوا كلهم عَلَى أنها لا تجب بمجرد دعوى الأولياء، حَتَّى يقترن بها شبهة، يغلب عَلَى الظن الحكم بها، واختلفوا فِي تصوير الشبهة عَلَى سبعة أمور، وَقَدْ ذكرها القرطبيّ، فِي "المفهم"، وملخّصها ما يلي:
[الأول]: أن يقول المريض: دَمِي عند فلان، أو ما أشبه ذلك، ولو لم يكن به أثر، أو جرح، فإن ذلك يوجب القسامة عند مالك، والليث، ولم يقل به غيرهما، واشترط
بعض المالكية الأثر، أو الجرح.
واحتُجَّ لمالك بقصة بقرة بني إسرائيل، قَالَ: ووجه الدلالة منها: أن الرجل حَيِي، فأخبر بقاتله، فاعتُمد عليه. وتُعُقِّب بخفاء الدلالة منها، وَقَدْ بالغ ابن حزم فِي رد ذلك. واحتجوا بأن القاتل يتطلب حالة غفلة النَّاس، فتَتَعذّر البينة، فلو لم يُعمَل بقول المضروب، لأدَّى ذلك إلى إهدار دمه، ولأنها حالة يُتَحَرَّى فيها اجتنابُ الكذب، ويُتَزَوَّد فيها منْ البر والتقوى، وهذا إنما يتأتَّى فِي حال المحتضر.
[الثانية]: أن يشهد منْ لا يكمل النصاب بشهادته، كالواحد، أو جماعة غير عدول، قَالَ بها المذكوران، ووافقهما الشافعيّ، ومن تبعه.
[الثالثة]: أن يشهد عدلان بالضرب، ثم يعيش بعده أياما، ثم يموت منه، منْ غير تخلل إفاقه، فَقَالَ المذكوران: تجب فيه القسامة، وَقَالَ الشافعيّ: بل يجب القصاص بتلك الشهادة.
[الرابعة]: أن يوجد مقتول، وعنده أو بالقرب منه منْ بيده آلة القتل، وعليه أثر الدم مثلاً، ولا يوجد غيره، فتشرع فيه القسامة عند مالك، والشافعي، ويلتحق به أن تتفرّق جماعة عن قتيل.
[الخامسة]: أن يقتتل طائفتان، فيوجد بينهما قتيل، ففيه القسامة عند الجمهور، وفي رواية عن مالك، تختص القسامة بالطائفة التي ليس هو منها، إلا إن كَانَ منْ غيرهما، فعلى الطائفتين.
[السادسة]: المقتول فِي مزاحمة النَّاس، قَالَ الشافعيّ: تجب بذلك القسامة، وتكون فيه الدية. وعند مالك: هو هَدَرٌ. وَقَالَ إسحاق، والثوريّ: ديته عَلَى بيت المال، ورُوي مثله عن عمر، وعليّ رضي الله عنهم. وَقَالَ الحسن، والزهريّ: ديته عَلَى منْ حضر.
[السابعة]: أن يوجد قتيل فِي محلة، أو قبيلة، فهذا يوجب القسامة عند الثوري، والأوزاعي، وأبي حنيفة، وأتباعهم، ولا يوجب القسامة عندهم سوى هذه الصورة، وشرطها عندهم، إلا الحنفية أن يوجد بالقتيل أثر، وَقَالَ داود: لا تجري القسامة، إلا فِي العمد عَلَى أهل مدينة، أو قرية كبيرة، وهم أعداء للمقتول. وذهب الجمهور إلى أنه لا قسامة فيه، بل هو هَدَرٌ؛ لأنه قد يُقتَل، ويُلْقَى فِي المحلة؛ ليُتَّهَمُوا، وبه قَالَ الشافعيّ، وهو رواية عن أحمد، إلا أن يكون فِي مثل القصة التي فِي حديث الباب، فيتجه فيها القسامة؛ لوجود العداوة، ولم تر الحنفية، ومن وافقهم لوثا يوجب القسامة، إلا هذه الصورة. وحجة الجمهور القياس عَلَى هذه الواقعة، والجامع أن يَقتَرِن بالدعوى شيء يدل عَلَى صدق المدعِي، فيقسم معه، ويستحق.
وَقَالَ ابن قدامة: ذهب الحنفية إلى أن القتيل، إذا وُجد فِي محل، فادَّعَى وليه عَلَى خمسين نفسا منْ موضع قتله، فحلفوا خمسين يمينا ما قتلناه، ولا علمنا له قاتلا، فان لم يجد خمسين، كرر الأيمان عَلَى منْ وجد، وتجب الدية عَلَى بقية أهل الخطة، ومن لم يحلف منْ المدعَى عليهم حُبس حَتَّى يَحلِف، أو يُقرَّ، واستدلوا بأثر عمر: أنه أحلف خمسين نفسا خمسين يمينا، وقضى بالدية عليهم. وتعقب باحتمال أن يكونوا أقروا بالخطإ، وأنكروا العمد، وبأن الحنفية لا يعملون بخبر الواحد، إذا خالف الأصول، ولو كَانَ مرفوعا، فكيف احتجوا بما خالف الأصول، بخبر واحد موقوف، وأوجبوا اليمين عَلَى غير المدعَى عليه. أفاده فِي "الفتح" 14/ 227 - 228، و"المفهم" 5/ 6 - 8. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي وجوب القود بالقسامة:
قَالَ القرطبّيّ رحمه الله تعالى: ما حاصله: ذهب معظم الحجازيين إلى أن القسامة، يُستَحقّ بها الدم، لقوله صلى الله عليه وسلم:"فتستحقّون دم صاحبكم"، وفي رواية:"فيُدفع إليكم برُمَّته"، وهو قولى الزهريّ، وربيعة، والليث، ومالك، وأصحابه، والأوزاعيّ، وأبي ثور، وأحمد، وإسحاق، وداود، وأحد قولي الشافعيّ، ورُوي ذلك عن ابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز رحمهم الله تعالى. قَالَ أبو الزناد: قتلنا بالقسامة، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، إني لأراهم ألف رجل، فما اختلف منهم فِي ذلك اثنان.
وذهب الكوفيّون، وإسحاق، والشافعيّ فِي قوله الآخر إلى أنه إنما تجب به الدية، وهو قول الحسن البصريّ، والحسن بن حيّ، والبَتِّيَ، والنخعيّ، والشعبيّ. وروي عن أبي بكر، وعمر، وابن عبّاس، ومعاوية رضي الله عنهم، قَالَ القرطبيّ: والحديث المتقدّم نصٌّ فِي موضع الخلاف، فلا ينبغي العدول عنه. انتهى "المفهم" 5/ 12.
وَقَالَ فِي "الفتح": ما حاصله: استدل بحديث الباب عَلَى ثبوت القود فِي القسامة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فتستحقون قاتلكم"، وفي الرواية الأخرى:"دم صاحبكم"، قَالَ ابن دقيق العيد: الاستدلال بالرواية التي فيها: "فيُدفَع بِرُمَّته"، أقوى منْ الاستدلال بقوله:"دم صاحبكم"؛ لان قوله: "يُدفَع برُمَّته" لفظ مستعمل فِي دفع القاتل للأولياء للقتل، ولو أن الواجب الدية لَبَعُد استعمال هَذَا اللفظ، وهو فِي استعماله فِي تسليم القاتل أظهر، والاستدلال بقوله:"دم صاحبكم"، أظهر منْ الاستدلال بقوله:"قاتلكم"، أو "صاحبكم"؛ لأن هَذَا اللفظ لابد فيه منْ إضمار، فيحتمل أن يُضمَر ديةَ صاحبكم، احتمالا ظاهرا، وأما بعد التصريح بالدم، فيحتاج إلى تأويل اللفظ بإضمار بدل دم صاحبكم، والإضمار عَلَى خلاف الأصل، ولو احتيج إلى إضمار، لكان حمله عَلَى ما
يقتضي إراقة الدم أقرب، وأما منْ قَالَ: يحتمل أن يكون قوله: "دم صاحبكم" هو القتيل، لا القاتل، فيرده قوله:"دم صاحبكم"، أو "قاتلكم".
وتُعُقّب بأن هذه القصة واحدة، اختلفت ألفاظ الرواة فيها، عَلَى ما تقدم بيانه، فلا يستقيم الاستدلال بلفظ منها؛ لعدم تحقق أنه اللفظ الصادر منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم.
واستَدَلَّ منْ قَالَ بالقود أيضا، بما أخرجه مسلم، والنسائي -2/ 4710 - منْ طريق الزهريّ، عن سليمان بن يسار، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أناس منْ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أن القسامة كانت فِي الجاهلية، وأقرها النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ما كانت عليه منْ الجاهلية، وقضى بها بين ناس منْ الأنصار، فِي قتيل ادَّعَوه عَلَى يهود خيبر".
وهذا يَتوقَّف عَلَى ثبوت أنهم كانوا فِي الجاهلية يقتلون فِي القسامة، وعند أبي داود، منْ طريق عبد الرحمن بن بُجيد -بموحدة، وجيم، مصغرًا- قَالَ: إن سهلا -يعني ابن أبي حثمة- وَهِمَ فِي الْحَدِيث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتب إلى يهود: إنه قد وجد بين أظهركم قتيل، فَدُوه، فكتبوا يحلفون ما قتلناه، ولا علمنا قاتلا، قَالَ: فوداه منْ عنده"، وهذا رده الشافعيّ، بأنه مرسل، ويعارض ذلك: ما أخرجه ابن مَنْدَهْ فِي "الصحابة" منْ طريق مكحول: حدثني عمرو بن أبي خزاعة، أنه قُتِل فيهم قتيل عَلَى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل القسامة عَلَى خُزاعة: بالله ما قتلنا، ولا علمنا قاتلا، فحلف كل منهم عن نفسه، وغَرِم الدية، وعمرو مختلف فِي صحبته. وأخرج ابن أبي شيبة بسند جيد إلى إبراهيم النخعي، قَالَ: كانت القسامة فِي الجاهلية، إذا وُجد القتيل بين ظهري قوم، أقسم منهم خمسون خمسين يمينا، ما قتلنا، ولا علمنا، فإن عجزت الأيمان، رُدّت عليهم، ثم عقلوا.
وتمسك منْ قَالَ: لا يجب فيها إلا الدية، بما أخرجه الثوري فِي "جامعه"، وابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور، بسند صحيح، إلى الشعبي، قَالَ: وُجد قتيل بين حيين منْ العرب، فَقَالَ عمر: قيسوا ما بينهما، فأيهما وجدتموه إليه أقرب، فأحلفوهم خمسين يمينا، وأغرموهم الدية. وأخرجه الشافعيّ، عن سفيان بن عيينة، عن منصور، عن الشعبي: "أن عمر كتب فِي قتيل، وُجد بين خيران ووادعة، أن يقاس ما بين القريتين، فإلى أيهما كَانَ أقرب، أُخرج إليهم
(1)
منهم خمسون رجلا، حَتَّى يوافوه مكة، فأدخلهم الحجر، فأحلفهم، ثم قضى عليهم الدية، فَقَالَ: حَقَنَت أيمانكم دماءكم، ولا يُطَلُّ دم رجل مسلم"، قَالَ الشافعيّ: إنما أخذه الشعبي، عن الحارث الأعور، والحارث غير
(1)
هكذا فِي "الفتح" 14/ 229 والظاهر أن الصواب "إليه" بإفراد الضمير: أي إلى عمر رضي الله عنه.
مقبول. انتهى.
قَالَ الحافظ: وله شاهد مرفوع، منْ حديث أبي سعيد رضي الله عنه عند أحمد:"أن قتيلا وُجد بين حيين، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقاس إلى أيهما أقرب، فألقى ديته عَلَى الأقرب"، ولكن سنده ضعيف.
وَقَالَ عبد الرزاق فِي "مصنفه": قلت لعبيد الله بن عمر العمري: أعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاد بالقسامة؟ قَالَ: لا، قلت: فأبو بكر؟ قَالَ: لا، قلت: فعمر؟، قَالَ: لا، قلت: فلم تجترئون عليها؟، فسكت. وأخرج البيهقي منْ طريق القاسم بن عبد الرحمن: أن عمر رضي الله عنه، قَالَ: القسامة توجب العقل، ولا تسقط الدم. أفاده فِي "الفتح" 14/ 228 - 229.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما سبق منْ احتجاج الفريقين عَلَى ثبوت القصاص بالقسامة، وعدمه، أن القول بثبوته هو الأرجح؛ لقوة أدلّته، كما سبق إيضاحه آنفًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثامنة): فِي اختلاف أهل العلم فِي عدد الحالفين فِي القسامة:
ذهب الأئمة: مالك، والليث، وربيعة، والثوريّ، والأوزاعيّ، وأحمد، وداود، وأهل الظاهر إلى وجوب كون العدد فِي القسامة خمسين، فلا يجزىء فيها أقلّ منهم، فإن كَانَ المستحقّون خمسين، حلف كلّ واحد منهم يمينًا واحدة، فإن كانوا أقلّ منْ ذلك، أو نَكَل منهم منْ لا يجوز عفوه، رُدّت الأيمان عليهم بحسب عددهم، ولا يحلف فِي العمد أقلّ منْ اثنين منْ الرجال، لا يحلف فيه الواحد منْ الرجال، ولا النساءُ، يحلف الأولياء، ومن يستعين بهم الأولياء منْ العصبة خمسين يمينًا. واختُلف عن مالك فيما إذا زاد الأولياء عَلَى الخمسين، هل يحلف كلهم يمينًا، يمينًا؟ أو يُقتصر منهم عَلَى خمسين؟، قَالَ القرطبيّ: وهذا أولى؛ لقوله: "يحلف خمسون منكم"، و"منْ" للتبعيض، والخطاب لجميع الأولياء، فأفاد ذلك أنهم إذا حلف منهم خمسون أجزأ. أفاده فِي "المفهم" 5/ 11 - 12.
وَقَالَ فِي "الفتح" 14/ 230 - : اختلف فِي عدد الحالفين، فَقَالَ الشافعيّ: لا يجب الحق حَتَّى يحلف الورثة خمسين يمينا، سواء قلوا، أم كثروا، فلو كَانَ بعدد الأيمان حلف كل واحد منهم يمينا، وإن كانوا أقل، أو نَكَل بعضهم، رُدَّت الأيمان عَلَى الباقين، فإن لم يكن إلا واحد، حلف خمسين يمينا واستحق، حَتَّى لو كَانَ منْ يرث بالفرض والتعصيب، أو بالنسب والولاء، حلف واستحق. وَقَالَ مالك: إن كَانَ ولي الدم واحدا، ضُمَّ إليه آخر منْ العصبة، ولا يستعان بغيرهم، وإن كَانَ الأولياء أكثر،
حلف منهم خمسون، قَالَ الليث: لم أسمع أحدا يقول: إنها تنزل عن ثلاثة أنفس. وَقَالَ الزهريّ، عن سعيد بن المسيب، أول منْ نقص القسامة عن خمسين معاوية، قَالَ الزهريّ: وقضى به عبد الملك، ثم رده عمر بن عبد العزيز إلى الأمر الأول. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بتعيّن عدد الخمسين هو الأرجح؛ عملاً بظاهر النصّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة التاسعة): فِي اختلاف أهل العلم فيمن يحلف فِي القسامة:
ذهبت طائفة إلى أنه لا يشترط أن يكون منْ يحلف فِي القسامة رجلاً، ولا بالغا؛ لإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم:"خمسين منكم"، وبه قَالَ ربيعة، والثوري، والليث، والأوزاعي، وأحمد.
وذهب مالك إلى أنه لا مدخل للنساء فِي القسامة؛ لأن المطلوب فِي القسامة القتل، ولا يسمع منْ النِّساء.
وذهب الشافعيّ إلى أنه لا يحلف فِي القسامة إلا الوارث البالغ؛ لأنها يمين، فِي دعوى حكمية، فكانت كسائر الأيمان، ولا فرق فِي ذلك بين الرجل والمرأة. أفاده فِي "الفتح" 14/ 230.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بعدم اشتراط الرجل والبالغ هو الأظهر؛ عملاً بإطلاق النصّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة العاشرة): فِي اختلاف أهل العلم هل القسامة معقولة المعنى، أم لا؟:
قَالَ فِي "الفتح" 14/ 230 - 231: واختلف فِي القسامة، هل هي معقولة المعنى، فيقاس عليها، أو لا؟، والتحقيق أنها معقولة المعنى، لكنه خفيّ، ومع ذلك، فلا يقاس عليها؛ لأنها لا نظير لها فِي الأحكام، وإذا قلنا أن المبدأ فيها يمين المدَّعِي، فقد خرجت عن سنن القياس، وشرط القياس أن لا يكون معدولا به عن سنن القياس، كشهادة خزيمة. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي القول أن الاختلاف فِي كون القسامة، هل هي معقولة المعنى، أم لا؟ مما لا جدوى تحته، فلا ينبغي الاشتغال بمثله؛ لأنه منْ فضول المسائل، فليُتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: ادَّعَى بعضهم أنّ قوله صلى الله عليه وسلم: "تحلفون، وتستحقون": استفهام إنكار، واستعظام للجمع بين الأمرين. وتُعُقِّب بأنهم لم يبدأوا بطلب اليمين، حَتَّى يصح الإنكار عليهم، وإنما هو استفهام تقرير، وتشريع. قاله فِي "الفتح" 14/ 231. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4713 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي لَيْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ: أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، وَرِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ، مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ، فَأُتِىَ مُحَيِّصَةُ، فَأُخْبِرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ، قَدْ قُتِلَ، وَطُرِحَ فِي فَقِيرٍ، أَوْ عَيْنٍ، فَأَتَى يَهُودَ، وَقَالَ: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ، قَالُوا: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَأَقْبَلَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ، فَذَكَرَ لَهُمْ، ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمُحَيِّصَةَ: "كَبِّرْ كَبِّرْ"، يُرِيدُ السِّنَّ، فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ"، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ، فَكَتَبُوا: إِنَّا وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحُوَيِّصَةَ، وَمُحَيِّصَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: "أَتَحْلِفُونَ، وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ " قَالُوا: لَا، قَالَ: "فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ؟ "، قَالُوا: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مِنْ عِنْدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بِمِائَةِ نَاقَةٍ، حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ، قَالَ سَهْلٌ: لَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح.
و"محمد بن سلمة": هو ابن أبي فاطمة المراديّ الْجَمَليّ، أبو الحارث المصريّ الثقة الثبت [11]. و"ابن القاسم": هو عبد الرحمن الْعُتَقيّ، أبو عبد الله المصريّ الثقة الفقيه، صاحب مالك، منْ كبار [10]، والباقون تقدّموا فِي السند الماضي.
والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ مضى شرحه، وبيان مسائله فِي الْحَدِيث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
4 - (ذِكْرُ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ النَّاقِلِينَ لِخَبَرِ سَهْلٍ رضي الله عنه فِيهِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الاختلاف الذي أشار إليه المصنّف رحمه الله تعالى عَلَى ثلاثة أوجه:
[أحدها]: الاختلاف عَلَى يحيى بن سعيد الأنصاريّ، فقد اتفق كلٌّ منْ الليث بن سعد، وحمّاد بن زيد، وبشر بن المفضّل، وعبد الوهّاب الثقفيّ، وسفيان بن عيينة، عَلَى أنه موصولٌ، عن يحيى، عن بُشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة، وخالفهم فِي ذلك مالك بن أنس، فرواه عن يحيى، عن بُشير بن يسار، أنه أخبره أن عبد الله بن سهل الأنصاريّ، فجعله مرسلاً، وَقَدْ سبق فِي الباب الماضي أن رواه مالك عن أبي ليلى الأنصاريّ، موصولاً، فترجّح هذه الرواية؛ لموافقتها لروايات الجماعة.
[الثاني]: أن سعيد بن عُبيد خالف رواية يحيى، وأبي ليلى، فذكر فِي روايته طلب النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ أولياء القتيل البيّنة، وترك طلبه صلى الله عليه وسلم منهم أن يحلفوا خمسين، فيستحقّوا دم صاحبهم.
[الثالث]: أنه وقع فِي رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، وذلك أنه جعل القتيل ابن محيّصة الأصغر، وفي روايات الجماعة أنه عبد الله بن سهل، وهو ابن عمّ محيّصة، لا ابنه، وأيضًا ذكره أنه صلى الله عليه وسلم قسم ديته عَلَى اليهود، وأعانهم بنصفها، والمحفوظ أنه صلى الله عليه وسلم دفع الدية منْ عنده كاملة.
لكن ذكر فِي "الفتح" ما يدل عَلَى الجمع بين هذه الروايات، فَقَالَ: ما حاصله: لم يُذكر فِي رواية سعيد بن عُبيد عرض الأيمان عَلَى المدّعين، كما لم يقع فِي رواية يحيى ابن سعيد طلب البيّنة أوّلاً.
وطريق الجمع أن يقال: حفظ أحدهم ما لم يحفظه الآخر، فيُحمل عَلَى أنه صلى الله عليه وسلم طلب البيّنة أوّلاً، فلم تكن لهم بيّنة، فعرض عليهم الأيمان، فامتنعوا، فعرض عليهم تحليف المدّعَى عليهم، فأبوا.
وأما قول بعضهم: إن ذكر البينة وَهَمٌ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم، قد عَلِمَ أن خيبر حينئذ، لم يكن بها أحد منْ المسلمين، فدعوى نفي العلم مردودة، فإنه وإن سُلِّم أنه لم يسكن مع اليهود فيها أحد منْ المسلمين، لكن فِي نفس القصة، أن جماعة منْ المسلمين خرجوا يمتارون تمرا، فيجوز أن تكون طائفة أخرى خرجوا لمثل ذلك، وإن لم يكن فِي نفس الأمر كذلك، وَقَدْ وجدنا لطلب البينة، فِي هذه القصة شاهدا منْ وجه آخر، أخرجه النسائيّ 4/ 4722 - منْ طريق عبيد الله بن الأخنس، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده: أن ابن محيصة الأصغر أصبح قتيلا عَلَى أبواب خيبر، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أقم شاهدين عَلَى منْ قتله، أدفعه إليك برمته"، قَالَ: يا رسول الله، إني أُصيب شاهدين؟، وإنما أصبح قتيلا عَلَى أبوابهم، قَالَ:"فتحلف خمسين قسامة"، قَالَ: فكيف أحلف عَلَى ما لا أعلم؟، قَالَ:"تستحلف خمسين منهم"، قَالَ: "كيف وهم يهود؟. قَالَ
الحافظ: وهذا السند صحيح حسن، وهو نَصٌّ فِي الحمل الذي ذكرته، فتعيين المصير إليه. وَقَدْ أخرج أبو داود أيضا، منْ طريق عباية بن رفاعة، عن جده رافع بن خديج، قَالَ: أصبح رجل منْ الأنصار، بخيبر مقتولا، فانطلق أولياؤه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"شاهدان يشهدان عَلَى قتل صاحبكم"، قَالَ: لم يكن ثَمَّ أحد منْ المسلمين، وإنما هم اليهود، وَقَدْ يجترئون عَلَى أعظم منْ هَذَا. انتهى "فتح" 14/ 225.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي ذكره الحافظ رحمه الله تعالى منْ وجه الجمع حسنٌ جدًّا، غير رواية عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدّه، فإن مخالفتها لا يقبل الجمع بهذا الطريق، إلا أن تحمل عَلَى تعدد الواقعة، فحينئذ لا مانع منْ أن نقول إنها محفوظة؛ لعدم المخالفة، فَلْيُتأمّل. والله تعالى أعلم بالصواب.
4714 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، قَالَ: وَحَسِبْتُ قَالَ: وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، أَنَّهُمَا قَالَا: خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلِ بْنِ زَيْدٍ، وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، حَتَّى إِذَا كَانَا بِخَيْبَرَ، تَفَرَّقَا فِي بَعْضِ مَا هُنَالِكَ، ثُمَّ إِذَا بِمُحَيِّصَةَ، يَجِدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَتِيلاً، فَدَفَنَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، هُوَ وَحُوَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، وَكَانَ أَصْغَرَ الْقَوْمِ، فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ قَبْلَ صَاحِبَيْهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كَبِّرِ الْكُبْرَ فِي السِّنِّ"، فَصَمَتَ، وَتَكَلَّمَ صَاحِبَاهُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مَعَهُمَا، فَذَكَرُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَقْتَلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ، فَقَالَ لَهُمْ: "أَتَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَتَسْتَحِقُّونَ صَاحِبَكُمْ"، أَوْ "قَاتِلَكُمْ"؟، قَالُوا: كَيْفَ نَحْلِفُ، وَلَمْ نَشْهَدْ؟ قَالَ: "فَتُبَرِّئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا؟ "، قَالُوا: وَكَيْفَ نَقْبَلُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ؟، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَعْطَاهُ عَقْلَهُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.
و"يحيى": هو ابن سعيد بن قيس الأنصاريّ. أبو سعيد المدنيّ القاضي، ثقة ثبت [5] 22/ 23. و"بُشَير -بضم الموحّدة، مصغّرًا- ابن يسار" الحارثيّ الأنصاريّ مولاهم المدنيّ، ثقة فقيه [3] 124/ 186.
وقوله: "وَقَالَ: وحسبت قَالَ الخ" فاعل "قَالَ" الأول ضمير "يحيى"، وفاعل "قَالَ" الثاني ضمير بُشير، والمعنى: أن يحيى بن سعيد قَالَ: وظننت أن بُشيرًا زاد فِي إسناد هَذَا الْحَدِيث مع سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه رافعَ بن خَديج رضي الله عنه.
وقوله: "ومحيصة" -بضم الميم، وفتح المهملة، وتشديد التحتانية، مكسورةً، بعدها صاد مهملة- وكذا ضَبْطُ أخيه حُوَيصَة، وحُكِي التخفيف فِي الاسمين معا،
ورجحه طائفة. قاله فِي "الفتح".
وقوله: "إذا بمحيصة الخ" الباء فيه زائدة.
وقوله: "فذهب عبد الرحمن يتكلم، قبل صاحبيه، فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر الكبر فِي السن، فصمت، وتكلم صاحباه، وتكلم معهما": قَالَ النوويّ: معنى هَذَا أن المقتول، هو عبد الله، وله أخ، اسمه عبد الرحمن، ولهما ابنا عم، وهما محيصة وحويصة، وهما أكبر سنا منْ عبد الرحمن، فلما أراد عبد الرحمن أخو القتيل أن يتكلم، قَالَ له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"كبر": أي يتكلم أكبر منك.
[واعلم]: أن حقيقة الدعوى إنما هي لأخيه عبد الرحمن، لا حَقَّ فيها لابني عمه، وإنما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتكلم الأكبر، وهو حويصة؛ لأنه لم يكن المراد بكلامه حقيقة الدعوى، بل سماع صورة القصة، وكيف جرت، فإذا أراد حقيقة الدعوى، تكلم صاحبها.
ويحتمل أن عبد الرحمن، وَكَّل حويصة فِي الدعوى، ومساعدته، أو أمر بتوكيله.
وفي هَذَا فضيلة السن عند التساوي فِي الفضائل، ولهذا نظائر، فإنه يقدم بها فِي الإمامة، وفي ولاية النكاح ندبًا، وغير ذلك. انتهى "شرح مسلم" 11/ 148 - 149.
وقوله: "كبّر" -بفتح الكاف، وتشديد الموحّدة، أمر منْ التكبير.
وقوله: "الكبرَ فِي السنّ" -بضمّ الكاف، وسكون الباء-: ومعناه: يريد الكبر فِي السنّ، فـ"الكبر" منصوب بإضمار "يريد"، ونحوها.
وقوله: "فتبرئكم يهود الخ": منْ التبرئة، أو منْ الإبراء: أي يرفعون ظنّكم، وتُهمتكم، أو دعوتكم عن أنفسهم. وَقَالَ النوويّ: أي تبرأ إليكم منْ دعواكم بخمسين يمينًا، وقيل: معناه: يُخلّصونكم منْ اليمين بأن يحلفوا، فإذا حلفوا انتهت الخصومة، ولم يثبت عليهم شيء، وخلصتم أنتم منْ اليمين. وفي هَذَا دليلٌ لصحّة يمين الكافر، والفاسق. و"يهود" مرفوع، غير منوّن، لا ينصرف؛ لأنه اسم للقبيلة والطائفة، ففيه التأنيث والعلميّة. انتهى "شرح مسلم" 11/ 149.
وقوله: "أتحلفون خمسين يمينا": قد يقال: كيف عُرضت اليمين عَلَى الثلاثة، وإنما يكون اليمين للوارث خاصة، والوارث هو عبد الرحمن خاصة، وهو أخو القتيل، وأما الآخران فابنا عم، لا ميراث لهما مع الأخ.
والجواب: أنه كَانَ معلوما عندهم، أن اليمين تختص بالوارث، فأطلق الخطاب لهم، والمراد منْ تختص به اليمين، واحتُمِل ذلك؛ لكونه معلوما للمخاطبين، كما سمع كلام الجميع فِي صورة قتله، وكيفيةِ ما جرى له، وإن كانت حقيقة الدعوى وقت الحاجة، مختصة بالورثة. قاله النوويّ.
وقوله: "فتستحقون قاتلكم"، أو "صاحبكم": معناه: يثبت حقكم عَلَى منْ حلفتم عليه، وهل ذلك الحق قصاص، أو دية فيه الخلاف السابق بين العلماء.
[واعلم]: أنهم إنما يجوز لهم الحلف، إذا علموا، أو ظنوا ذلك، وإنما عَرَض عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم اليمين، إن وُجد فيهم هَذَا الشرط، وليس المراد الإذن لهم فِي الحلف منْ غير ظن، ولهذا قالوا: كيف نحلف، ولم نشهد؟.
والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم تمام البحث فيه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4715 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حَمَّادٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ أَنَّ مُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ، أَتَيَا خَيْبَرَ فِي حَاجَةٍ لَهُمَا فَتَفَرَّقَا فِي النَّخْلِ فَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ فَجَاءَ أَخُوهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، وَحُوَيِّصَةُ، وَمُحَيِّصَةُ، ابْنَا عَمِّهِ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَكَلَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي أَمْرِ أَخِيهِ -وَهُوَ أَصْغَرُ مِنْهُمْ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْكُبْرَ لِيَبْدَأَ الأَكْبَرُ". فَتَكَلَّمَا فِي أَمْرِ صَاحِبِهِمَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَذَكَرَ كَلِمَةً مَعْنَاهَا "يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ". فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْرٌ لَمْ نَشْهَدْهُ كَيْفَ نَحْلِفُ قَالَ: "فَتُبَرِّئُكُمْ يَهُودُ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَوْمٌ كُفَّارٌ. فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قِبَلِهِ. قَالَ سَهْلٌ: فَدَخَلْتُ مِرْبَدًا لَهُمْ فَرَكَضَتْنِي نَاقَةٌ مِنْ تِلْكَ الإِبِلِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أحمد بن عَبْدَة": هو الضبيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقة، رُمي بالنصب [10] 3/ 3.
و"حمّاد": هو ابن زيد. والباقون سبقوا فِي الماضي.
وقوله: "كبر الْكُبْر" بضم، فسكون: منصوب بفعل مقدّر: أي قدّم الأكبر. وجملة قوله: "ليبدأ الأكبر" مؤكّد لما قبله.
وقوله: "فذكر كلمة الخ": الظاهر ضمير "ذكر" إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: "معناها": مبتدأ خبره "يقسم الخ" ولا يحتاج إلى رابط؛ لكونه بمعنى المبتدإ، كما قَالَ ابن مالك:
وَإِنْ تَكُنْ إِيَّاهُ مَعْنًى اكْتَفَى
…
بِهَا كَنُطْقِي اللَّهُ حَسْبِي وَكَفَى
وقوله: "فدخلت مربدا لهم، فركضتني ناقة منْ تلك الإبل": "المربد": بكسر الميم، وفتح الباء: هو الموضع الذي تُجمَعُ فيه الإبل، وتُحبَسُ، والرَّبْدُ: الحبس، ومعنى ركضتني: رَفَسَتني، وأراد بهذا الكلام، أنه ضبط الْحَدِيث، وحفظه حفظًا بليغًا. قاله النوويّ.
والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم تمام البحث فيه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4716 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ -وَهُوَ ابْنُ الْمُفَضَّلِ- قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّهُمَا أَتَيَا خَيْبَرَ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ، فَتَفَرَّقَا لِحَوَائِجِهِمَا، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ، وَهُوَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ قَتِيلاً، فَدَفَنَهُ، ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، وَحُوَيِّصَةُ، وَمُحَيِّصَةُ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ، وَهُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ سِنًّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كَبِّرِ الْكُبْرَ"، فَسَكَتَ، فَتَكَلَّمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتَحْلِفُونَ بِخَمْسِينَ يَمِينًا مِنْكُمْ، فَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ"، أَوْ "قَاتِلِكُمْ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نَحْلِفُ، وَلَمْ نَشْهَدْ، وَلَمْ نَرَ؟ قَالَ: "تُبَرِّئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا؟ "، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نَأْخُذُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ؟ فَعَقَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح و"عمرو بن عليّ": هو الفلاّس الصيرفيّ. و"بشر بن المفضَّل": هو الرَّقَاشِيُّ، أبو إسماعيل البصريّ الثقة الثبت العابد [8] 66/ 82.
وقوله: "وهي يومئذ صلح": أي كانت خيبر حينما قُتل فيها عبد الله سهل رضي الله عنه ذات صلح بين أهلها، وهم اليهود، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد أن ذلك وقع بعد فتحها، فإنها لَمّا فُتحت، أقرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أهلها عَلَى أن يعملوا فِي المزارع بشطر ما يخرج منها، كما تقدّم بيان ذلك مستوفًى فِي "كتاب المزارعة". والله تعالى أعلم.
وقوله: "وهو يتشحّط فِي دمه قتيلاً": أي يضطرب، فيتمرّغ فِي دمه.
وقوله: "كبّر الكبر": الأولى فعل أمر، والثانية بضم، فسكون: بمعنى الأكبر.
والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق تمام البحث فيه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4717 -
(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، قَالَ: انْطَلَقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ زَيْدٍ، إِلَى خَيْبَرَ، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ، فَتَفَرَّقَا فِي حَوَائِجِهِمَا، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ، وَهُوَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ قَتِيلاً، فَدَفَنَهُ، ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، وَحُوَيِّصَةُ، وَمُحَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"كَبِّرِ الْكُبْرَ"، وَهُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ، فَسَكَتَ، فَتَكَلَّمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَتَحْلِفُونَ بِخَمْسِينَ يَمِينًا مِنْكُمْ، وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ" أَوْ "صَاحِبَكُمْ؟ "، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نَحْلِفُ، وَلَمْ نَشْهَدْ، وَلَمْ نَرَ؟ فَقَالَ:"أَتُبَرِّئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ؟ "، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نَأْخُذُ
أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ، فَعَقَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح غير شيخه "إسماعيل بن مسعود": هو أبو مسعود الْجَحْدريّ البصريّ، ثقة [10] 42/ 47 فإنه منْ أفراده.
والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق القول فيه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4718 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنِي بُشَيْرُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ الأَنْصَارِيَّ، وَمُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ، خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ، فَتَفَرَّقَا فِي حَاجَتِهِمَا، فَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ الأَنْصَارِيُّ، فَجَاءَ مُحَيِّصَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، أَخُو الْمَقْتُولِ، وَحُوَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، حَتَّى أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "الْكُبْرَ الْكُبْرَ"، فَتَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ، فَذَكَرُوا شَأْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا، فَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ؟ " قَالُوا: كَيْفَ نَحْلِفُ، وَلَمْ نَشْهَدْ، وَلَمْ نَحْضُرْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَتُبَرِّئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا؟ "، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نَقْبَلُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ؟ قَالَ: فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ بُشَيْرٌ: قَالَ لِي سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ: لَقَدْ رَكَضَتْنِي فَرِيضَةٌ مِنْ تِلْكَ الْفَرَائِضِ، فِي مِرْبَدٍ لَنَا).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح و"عبد الوهّاب": هو ابن عبد المجيد الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقة، تغيّر قبل موته بثلاث سنين [8] 42/ 48.
وقوله: "لقد ركضتني فريضة، منْ تلك الفرائض": المراد بالفريضة هنا: الناقة منْ تلك النُّوق المفروضة فِي الدية، وتسمى المدفوعةُ فِي الزكاة، أو فِي الدية فريضة؛ لأنها مفروضة: أي مقدرة بالسن، والعدد، وأما قول المازري: إن المراد بالفريضة هنا: الناقة الْهَرِمَة، فقد غُلِّطَ فيه. والله تعالى أعلم. انتهى "شرح مسلم للنوويّ" 11/ 152.
وقوله: "فِي مربد لنا"، وتقدّم قريبًا قوله:"فدخلت مِربدًا لهم"، ولعل ذلك المربد كَانَ مشتركًا بينهم، فلذا جاز نسبته تارة إليهم، وتارة إلى قوم سهل بن أبي حثمة. ويحتمل أن يكون نسبه إلى قومه؛ لأنهم منْ قوم سهل بن أبي حثمة، كما سيأتي بيان ذلك فِي الْحَدِيث رقم -4721 - منْ رواية سعيد بن عُبيد، عن بُشير بن يسار، بلفظ:"أن رجلا منْ الأنصار، يقال له: سهل بن أبي حثمة أخبره أن نفرًا منْ قومه انطلقوا إلى خيبر"
…
الْحَدِيث. والله تعالى أعلم.
والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق تمام البحث فيه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب،
وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4719 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، قَالَ: وُجِدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ قَتِيلاً، فَجَاءَ أَخُوهُ، وَعَمَّاهُ: حُوَيِّصَةُ، وَمُحَيِّصَةُ، وَهُمَا عَمَّا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"الْكُبْرَ الْكُبْرَ"، قَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا وَجَدْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَتِيلاً، فِي قَلِيبٍ مِنْ بَعْضِ قُلُبِ خَيْبَرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ تَتَّهِمُونَ؟ "، قَالُوا: نَتَّهِمُ الْيَهُودَ. قَالَ: "أَفَتُقْسِمُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا، أَنَّ الْيَهُودَ قَتَلَتْهُ؟ "، قَالُوا: وَكَيْفَ نُقْسِمُ عَلَى مَا لَمْ نَرَ؟ قَالَ: "فَتُبَرِّئُكُمُ الْيَهُودُ بِخَمْسِينَ، أَنَّهُمْ لَمْ يَقْتُلُوهُ؟ "، قَالُوا: وَكَيْفَ نَرْضَى بِأَيْمَانِهِمْ، وَهُمْ مُشْرِكُونَ؟، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ.
أَرْسَلَهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح غير شيخه "محمد بن منصور" وهو الْجَوّاز المكيّ الثقةٌ [10] 20/ 21 فإنه منْ أفراده. و"سفيان": هو ابن عُيينة.
وقوله: "وهما عمّا عبد الله بن سهل": فيه تجوّز؛ لأنهما ابنا عمّه، فإنهما ابنا مسعود ابن زيد، وهو ابن سهل بن زيد، كما تقدّم بيانه.
وقوله: "فِي قليب" -بفتح القاف، وكسر اللام، جمعه قُلُبٌ، بضمّتين، مثلُ بَرِيد وبُرُد، قَالَ الأزهريّ: القَليب عند العرب: البئر العاديّة القديمة، مطويّةً كانت، أو غير مطويّة. انتهى "المصباح المنير" 2/ 512. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وقوله: (أَرْسَلَهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) أي روى هَذَا الْحَدِيث أنس بن مالك إمام دار الهجرة، عن يحيى بن سعيد، مرسلاً، دون ذكر سهل بن أبي حثمة، كما بيّن روايته بقوله:
4720 -
(قَالَ الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ الأَنْصَارِيَّ، وَمُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ، خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ، فَتَفَرَّقَا فِي حَوَائِجِهِمَا، فَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ، فَقَدِمَ مُحَيِّصَةُ، فَأَتَى هُوَ، وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لِيَتَكَلَّمَ، لِمَكَانِهِ مِنْ أَخِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كَبِّرْ، كَبِّرْ"، فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ، فَذَكَرُوا شَأْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ "، أَوْ "قَاتِلِكُمْ؟ "، قَالَ مَالِكٌ: قَالَ يَحْيَى: فَزَعَمَ بُشَيْرٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَدَاهُ مِنْ عِنْدِهِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الحارث بن مسكين": هو أبو عمرو المصريّ، قاضيها، ثقة فقيه [10] 9/ 9 منْ أفراد المصنّف، وأبي داود. و"ابن القاسم": هو عبد الرحمن.
وقوله: "لمكان أخيه": علّة لتقدّم عبد الرحمن فِي الكلام عَلَى صاحبيه، أي إنما تكلّم دونهما؛ لأنه أقرب منهما إليه، حيث كَانَ أخاه.
والحديث مرسل، صحيح بما سبق، وَقَدْ تقدّم فِي الباب الماضي أن مالكًا رحمه الله تعالى رواه موصولاً منْ رواية أبي ليلى الأنصاريّ، عن سهل بن أبي حثْمة رضي الله عنه.
وقوله: (خَالَفَهُمْ سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّائِيُّ) يعني أن سعيد بن عُبيد خالف منْ تقدّم ممن روى عن بشير بن يسار، ووجه مخالفته أنه ذكر طلب البيّنة عَلَى القاتل، ثم ذكر توجيه القسامة عَلَى اليهود فقط، بخلاف رواياتهم، فإنه ليس فيها ذكر البيّنة، بل عندهم توجيه القسامة إلى أولياء المقتول، ثم إلى اليهود، وَقَدْ بيّن رواية سعيد بقوله:
4721 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّائِيُّ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، زَعَمَ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ، يُقَالُ لَهُ: سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ، أَخْبَرَهُ أَنَّ نَفَرًا مِنْ قَوْمِهِ، انْطَلَقُوا إِلَى خَيْبَرَ، فَتَفَرَّقُوا فِيهَا، فَوَجَدُوا أَحَدَهُمْ قَتِيلاً، فَقَالُوا لِلَّذِينَ وَجَدُوهُ عِنْدَهُمْ: قَتَلْتُمْ صَاحِبَنَا، قَالُوا: مَا قَتَلْنَاهُ، وَلَا عَلِمْنَا قَاتِلاً، فَانْطَلَقُوا إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ، انْطَلَقْنَا إِلَى خَيْبَرَ، فَوَجَدْنَا أَحَدَنَا قَتِيلاً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْكُبْرَ الْكُبْرَ"، فَقَالَ لَهُمْ: "تَأْتُونَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ قَتَلَ؟ "، قَالُوا: مَا لَنَا بَيِّنَةٌ، قَالَ: "فَيَحْلِفُونَ لَكُمْ؟ "، قَالُوا: لَا نَرْضَى بِأَيْمَانِ الْيَهُودِ، وَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يَبْطُلَ دَمُهُ فَوَدَاهُ مِائَةً مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أحمد بن سليمان": هو أبو الحسين الرُّهاويّ الثقة الحافظ [11] 38/ 42 منْ أفراد المصنّف. و"أبو نُعيم": هو الفضل بن دُكين الحافظ الحجة الكوفيّ [9] 11/ 516.
و"سعيد بن عُبيد الطائيّ"، أبو الْهُذَيل الكوفيّ، ثقة [6].
قَالَ ابن المدينيّ، عن يحيى: ليس به بأس. وَقَالَ أحمد، وابن معين: ثقة. وَقَالَ أبو حاتم: يُكتب حديثه. وَقَالَ الآجريّ، عن أبي داود: كَانَ شعبة يتمنّى لقاءه. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". ووثقه العجليّ، ويعقوب بن سفيان، وابن نمير، وغيرهم. روى له الجماعة، سوى ابن ماجه، وله عند المصنّف هَذَا الْحَدِيث فقط.
[فائدة]: فِي طبقة سعيد بن عبيد هَذَا، سعيد بن عُبيد الْهُنائيّ بضم الهاء، وتخفيف النون، وهمزة، ومدّ- بصريّ، صدوقٌ، أخرج له المصنّف، والترمذيّ، وله فِي هَذَا الكتاب حديث واحد فقط، وتقدم فِي "كتاب صلاة الخوف" برقم 17/ 1544. والله تعالى أعلم.
وقوله: "زعم الخ": قَالَ فِي "الفتح" 14/ 223 - : لم يقع فِي رواية ابن نُمير "زعم"، بل عنده:"عن سهل بن أبي حثمة الأنصاريّ، أنه أخبره"، وكذا لأبي نُعيم فِي
"المستخرج" منْ وجه آخر، عن أبي نُعيم شيخ البخاريّ. انتهى.
وقوله: "أن نفرًا منْ قومه": قَالَ فِي "الفتح" 14/ 223 - : سَمَّى يحيى بن سعيد الأنصاريّ فِي روايته، عن بُشَير بن يسار منهم اثنين، فعند البخاريّ فِي "الجزية" منْ طريق بشر بن المفضل، عن يحيى بهذا السند:"انطلق عبد الله بن سهل، ومحيصة بن مسعود بن زيد"، وفي الأدب، منْ رواية حماد بن زيد، عن يحيى، عن بُشير عن سهل ابن أبي حثمة، ورافع بن خديج، أنهما حدثا أن عبد الله بن سهل، ومحيصة بن مسعود انطلقا، وعند مسلم منْ رواية الليث، عن يحيى، عن بشير، عن سهل، قَالَ يحيى: وحسبت أنه قَالَ، ورافع بن خديج، أنهما قالا: خرج عبد الله بن سهل بن زيد، ومحيصة بن مسعود بن زيد، ونحوه عنده منْ رواية هشيم، عن يحيى، لكن لم يذكر رافعا، ولفظه: عن بشير بن يسار، أن رجلا منْ الأنصار، منْ بني حارثة، يقال له: عبد الله بن سهل بن زيد، انطلق هو وابن عم له، يقال له: محيصة بن مسعود بن زيد، وأسنده فِي آخره، عن سهل بن أبي حثمة به، وثبت ذكر رافع بن خديج فِي هَذَا الْحَدِيث، غير مسمى عند أبي داود، منْ طريق أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل، عن سهل بن أبي حثمة، أنه أخبره هو ورجل منْ كبراء قومه، وعند أبي عاصم، منْ طريق إسماعيل بن عياش، عن يحيى، عن بُشير، عن سهل، ورافع، وسويد بن النعمان، أن القسامة كانت فيهم، فِي بني حارثة، فذكر بُشير عنهم أن عبد الله بن سهل خرج، فذكر الْحَدِيث.
وقوله: "انطلقوا إلى خيبر، فتفرقوا فيها": فِي رواية يحيى بن سعيد: "انطلقا إلى خيبر، فتفرقا"، وتحمل هذه الرواية عَلَى أنه كَانَ معهما تابع لهما، وَقَدْ وقع فِي رواية محمد بن إسحاق، عن بُشِير بن يسار، عن ابن أبي عاصم، خرج عبد الله بن سهل، فِي أصحاب له:"يمتارون تمرا"، زاد سليمان بن بلال عند مسلم، فِي روايته، عن يحيى بن سعيد:"فِي زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي يومئذ صلح، وأهلها يهود".
والمراد أن ذلك وقع بعد فتحها، فإنها لما فُتحت أقر النبيّ صلى الله عليه وسلم أهلها فيها، عَلَى أن يعملوا فِي المزارع بالشطر، مما يخرج منها، كما تقدم بيانه فِي "كتاب المزارعة".
وقوله: "فوجدوا أحدهم قتيلا": تقدّم أنه عبد الله بن سهل.
وقوله: فَقَالَ: "الكبر الكبر" -بضم الكاف، وسكون الموحدة، وبالنصب فيهما عَلَى الإغراء.
وقوله: "تأتون بالبينة عَلَى منْ قتل، قالوا: ما لنا بينة" قَالَ فِي "الفتح": كذا فِي رواية سعيد بن عبيد، ولم يقع فِي رواية يحيى بن سعيد الأنصاريّ، ولا فِي رواية أبي قلابة،
عند البخاريّ للبينة ذكر، وإنما قَالَ يحيى فِي رواية:"أتحلفون، وتستحقون قاتلكم"، أو "صاحبكم"، هذه رواية بشر بن المفضل عنه، وفي رواية حماد عنه:"أتستحقون قاتلكم"، أو "صاحبكم بأيمان خمسين منكم"، وفي رواية عند مسلم:"يُقسم خمسون منكم عَلَى رجل منهم، فيُدفع برُمّته"، وفي رواية سليمان بن بلال:"تحلفون خمسين يمينا، وتستحقون"، وفي رواية ابن عيينة، عن يحيى، عند أبي داود:"تبرئكم يهود بخمسين يمينا، تحلفون"، فبدأ بالمدعَى عليهم، لكن قَالَ أبو داود: إنه وَهَمٌ، كذا جزم بذلك، وَقَدْ قَالَ الشافعيّ: كَانَ ابن عيينة لا يثبت، أَقَدَّم النبيّ صلى الله عليه وسلم الأنصار فِي الأيمان، أو اليهود، فيقال له: إن فِي الْحَدِيث أنه قدم الأنصار، فيقول هو ذاك، وربما حدث به كذلك، ولم يشك، وفي رواية أبي ليلى:"فَقَالَ لحويصة، ومحيصة، وعبد الرحمن: أتحلفون، وتستحقون دم صاحبكم؟ فقالوا: لا"، وفي رواية أبي قلابة: "فأرسل إلى اليهود، فدعاهم، فَقَالَ: أنتم قتلتم هَذَا، فقالوا: لا، فَقَالَ: أترضون نَفْل خمسين منْ اليهود، ما قتلوا، ونَفْل بفتح النون، وسكون الفاء-: أي حلف خمسين منْ اليهود.
وقوله: وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه": هكذا رواية المصنّف "يبطل" منْ البطلان، وفي رواية البخاريّ: "أن يُطَلَّ" -بضم أوله، وفتح الطاء، وتشديد اللام-: أي يُهْدَر.
وقوله: "فوداه مائة": وعند البخاريّ فِي رواية الكشميهني: "بمائة"، ووقع فِي رواية أبي ليلى المتقدّمة:"فوداه منْ عنده"، وفي رواية يحيى بن سعيد السابقة:"فعقله النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ عنده": أي أعطى ديته، وفي رواية حماد بن زيد المتقدّمة أيضًا:"منْ قبله" -بكسر القاف، وفتح الموحدة-: أي منْ جهته، وفي رواية الليث:"فلما رأى ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم أعطى عقله".
وَقَالَ النوويّ فِي "شرح مسلم": إنما وداه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قطعا للنزاع، وإصلاحا لذات البين، فإن أهل القتيل لا يستحقون، إلا أن يحلفوا، أو يستحلفوا المدعَى عليهم، وَقَدْ امتنعوا منْ الأمرين، وهم مكسورون بقتل صاحبهم، فأراد صلى الله عليه وسلم جبرهم، وقطع المنازعة، وإصلاح ذات البين بدفع ديته منْ عنده.
وقوله: "فوداه منْ عنده": يحتمل أن يكون منْ خالص ماله، فِي بعض الأحوال، صادف ذلك عنده، ويحتمل أنه منْ مال بيت المال، ومصالح المسلمين.
وأما قوله: "منْ إبل الصدقة": فقد قَالَ بعض العلماء: إنها غلط منْ الرواة؛ لأن الصدقة المفروضة لا تصرف هَذَا المصرف، بل هي لأصناف سماهم الله تعالى، وَقَالَ الإِمام أبو إسحاق المروزي، منْ الشافعيّة: يجوز صرفها منْ إبل الزكاة؛ لهذا الْحَدِيث،
فأخذ بظاهره، وَقَالَ جمهور العلماء: معناه اشتراه منْ أهل الصدقات، بعد أن ملكوها، ثم دفعها تبرعا إلى أهل القتيل.
وحكى القاضي عن بعض العلماء: أنه يجوز صرف الزكاة فِي مصالح العامة، وتأول هَذَا الْحَدِيث عليه، وتأوله بعضهم عَلَى أن أولياء القتيل كانوا محتاجين، ممن تباح لهم الزكاة، وهذا تأويل باطل؛ لأن هَذَا قدر كثير، لا يدفع إلى الواحد الحامل منْ الزكاة، بخلاف أشراف القبائل، ولأنه سماه دية، وتأوله بعضهم عَلَى أنه دفعه منْ سهم المؤلفة، منْ الزكاة؛ استئلافا لليهود، لعلهم يسلمون، وهذا ضعيف؛ لأن الزكاة لا يجوز صرفها إلى كافر، فالمختار ما حكيناه عن الجمهور، أنه اشتراها منْ إبل الصدقة.
وفي هَذَا الْحَدِيث: أنه ينبغي للإمام مراعاة المصالح العامة، والاهتمام بإصلاح ذات البين، وفيه إثبات القسامة، وفيه الابتداء بيمين المدعي فِي القسامة، وفيه رد اليمين عَلَى المدعى عليه، إذا نكل المدعي فِي القسامة، وفيه جواز الحكم عَلَى الغائب، وسماع الدعوى فِي الدماء منْ غير حضور الخصم، وفيه جواز اليمين بالظن، وإن لم يتيقن، وفيه أن الحكم بين المسلم والكافر يكون بحكم الإِسلام. انتهى كلام النوويّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وقول: (خَالَفَهُمْ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ) يعني أن عمرو بن شعيب خالف الرواة السابقين فرواه عن أبيه عن جدّه، فذكر أن الذي قُتل هو ابن مُحيّصة، والذي فِي رواية الجماعة أنه عبد الله بن سهل، ابن عمّ محيّصة، لا ابنه، وذكر أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم قسم ديته عليهم، وأعانهم بنصفها، ورواية الجماعة أنه صلى الله عليه وسلم أعطاهم منْ عنده جميع الدية، فأرسل إليهم مائة ناقة. والله تعالى أعلم. ثم ساق رواية عمرو بقوله:
4722 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الأَخْنَسِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ ابْنَ مُحَيِّصَةَ الأَصْغَرَ أَصْبَحَ قَتِيلاً، عَلَى أَبْوَابِ خَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَقِمْ شَاهِدَيْنِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ، أَدْفَعْهُ إِلَيْكُمْ بِرُمَّتِهِ"، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمِنْ أَيْنَ أُصِيبُ شَاهِدَيْنِ؟، وَإِنَّمَا أَصْبَحَ قَتِيلاً عَلَى أَبْوَابِهِمْ، قَالَ: "فَتَحْلِفُ خَمْسِينَ قَسَامَةً"، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ أَحْلِفُ عَلَى مَا لَا أَعْلَمُ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَنَسْتَحْلِفُ مِنْهُمْ خَمْسِينَ قَسَامَةً"، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نَسْتَحْلِفُهُمْ، وَهُمُ الْيَهُودُ؟، فَقَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دِيَتَهُ عَلَيْهِمْ، وَأَعَانَهُمْ بِنِصْفِهَا).
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن معمر) القيسيّ البحرانيّ، صدوقٌ، منْ كبار [11] 5/ 1829.
2 -
(رَوح بن عُبادة) القيسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقة فاضل، له تصانيف [9] 25/ 1251.
3 -
(عبيد الله بن الأخنس) أبو مالك الْخَزَّاز، صدوقٌ [7] 32/ 1686.
4 -
(عمرو بن شعيب) بن محمد المدنيّ، أو الطائفيّ، صدوق [5] 105/ 140.
5 -
(أبوه) شعيب بن محمد بن عبد الله الطائفيّ، صدوق [3] 105/ 140.
6 -
(جده) عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي، الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما 89/ 111. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أن فيه رواية الراوي عن أبيه عن جده. (ومنها): أن فيه تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ) شعيب بن محمد (عَنْ جَدِّهِ) عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ ابْنَ مُحَيِّصَةَ الأَصْغَرَ أَصْبَحَ قَتِيلاً) هَذَا أوّل المخالفة، فإن المحفوظ أن المقتول هو عبد الله بن سهل (عَلَى أَبْوَابِ خَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) لوليّ القتيل (أَقِمْ شَاهِدَيْنِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ، أَدْفَعْهُ إِلَيكُمْ بِرُمَّتِهِ) -بضم الراء-: الحبل، والمراد هنا الحبل الذي يُربَط فِي رقبة القاتل، ويسلم فيه إلى ولي القتيل.
قَالَ النوويّ: وفي هَذَا دليل لمن قَالَ: إن القسامة يثبت فيها القصاص، وَقَدْ سبق بيان مذاهب العلماء فيه، وتأوله القائلون: لا قصاص، بأن المراد أن يُسَلَّم ليُستَوفَى منه الدية؛ لكونها ثبتت عليه. انتهى "شرح مسلم" 11/ 151.
(قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمِنْ أَيْنَ أُصِيبُ شَاهِدَيْنِ؟، وَإِنَّمَا أَصْبَحَ قَتِيلاً عَلَى أَبْوَابِهمْ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَتَحْلِفُ خَمْسِينَ قَسَامَةً) خطاب للوليّ بأن يحلف هو خمسين يمينًا (قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ أَحْلِفُ عَلَى مَا لَا أَعْلَمُ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَنَسْتَحْلِفُ مِنْهُمْ) أي منْ اليهود (خَمْسِينَ قَسَامَةً"، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نَسْتَحْلِفُهُمْ، وَهُمُ الْيَهُودُ) أي المعرفون بالكذب والبهتان (فَقَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دِيَتَهُ عَلَيْهِمْ، وَأَعَانَهُمْ بنِصْفِهَا) وهذا هو المخالفة الثانية؛ إذ المحفوظ فِي روايات الحفّاظ الأثبات كما سبق أنه صلى الله عليه وسلم دفع ديته كاملة منْ عنده، لا أنه حكم عليهم بشيء منه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما هَذَا ضعيف؛ لأنه مخالف للروايات الصحيحة، وذلك أن الذي ذكر فيها أن المقتول، هو عبد الله بن سهل، وليس هو ابن مُحيّصة الأصغر، وإنما هو ابن عمّه، وأيضًا فإن المحفوظ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دفع ديته كاملة منْ عنده، ولم يحكم عَلَى اليهود منه بشيء.
ومال الحافظ فِي "الفتح" إلى تصحيح هذه الرواية، حيث ردّ عَلَى ادّعاء بعضهم الوهم فِي ذكر البيّنة فِي رواية يحيى بن سعيد الماضية: ما نصّه:
وأما قول بعضهم: إن ذكر البينة وَهَمٌ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم، قد عَلِمَ أن خيبر حينئذ، لم يكن بها أحد منْ المسلمين، فدعوى نفي العلم مردودة، فإنه وإن سُلِّم أنه لم يسكن مع اليهود فيها أحد منْ المسلمين، لكن فِي نفس القصة، أن جماعة منْ المسلمين خرجوا يمتارون تمرا، فيجوز أن تكون طائفة أخرى خرجوا لمثل ذلك، وإن لم يكن فِي نفس الأمر كذلك، وَقَدْ وجدنا لطلب البينة، فِي هذه القصة شاهدا منْ وجه آخر، أخرجه النسائيّ 4/ 4722 - منْ طريق عبيد الله بن الأخنس، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده: أن ابن محيصة الأصغر أصبح قتيلا عَلَى أبواب خيبر، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أقم شاهدين عَلَى منْ قتله، أدفعه إليك برمته"، قَالَ: يا رسول الله، أَنَّى أُصيب شاهدين؟، وإنما أصبح قتيلا عَلَى أبوابهم، قَالَ:"فتحلف خمسين قسامة"، قَالَ: فكيف أحلف عَلَى ما لا أعلم؟، قَالَ:"تستحلف خمسين منهم"، قَالَ: "كيف وهم يهود؟. قَالَ الحافظ: وهذا السند صحيح حسن
(1)
، وهو نَصٌّ فِي الحمل الذي ذكرته، فتعيين المصير إليه. وَقَدْ أخرج أبو داود أيضا، منْ طريق عباية بن رفاعة، عن جده رافع بن خديج، قَالَ: أصبح رجل منْ الأنصار، بخيبر مقتولا، فانطلق أولياؤه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"شاهدان يشهدان عَلَى قتل صاحبكم"، قَالَ: لم يكن ثَمَّ أحد منْ المسلمين، وإنما هم اليهود، وَقَدْ يجترئون عَلَى أعظم منْ هَذَا. انتهى "فتح" 14/ 225.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: إنّ حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما هَذَا شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة فلا يصح. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -4/ 4722 - وفي "الكبرى" 4/ 6922. وأخرجه (ق) فِي "الديات" 2678. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
نعم السند صحيح، لكن المتن فيه نكارة، كما بيناه آنفًا.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
5 - (بَابُ الْقَوَدِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "القَوَدُ" -بفتحتين-: القصاص، وأقاد الأمير القاتل بالقتيل: قتله به قَوَدًا. قاله الفيّوميّ. وَقَالَ ابن منظور: القود: قتلُ النفس بالنفس، شاذّ، كالْحَوَكَة، والْخَوَنَة، واستقدت الحاكم، فأقادني: أي سألته أن يُقيد القاتلَ بالقتيل. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.
4723 -
(أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالتَّارِكُ دِينَهُ الْمُفَارِقُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"بشر بن خالد": هو العسكريّ، أبو محمد الفرائضيّ، نزيل البصرة، ثقة يُغرب [10] 26/ 812. و"محمد بن جعفر": هو غندر. و"سليمان": هو الأعمش. و"عبد الله": هو ابن مسعود رضي الله عنه.
وقوله: "النفس بالنفس": أي تقتل النفس فِي مقابلة قتل النفس، فالمراد به القصاص بشرطه، وَقَدْ يستدل به أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله فِي قولهم: يُقتل المسلم بالذمي، ويقتل الحر بالعبد، وجمهور العلماء عَلَى خلافه، منهم مالك، والشافعي، والليث، وأحمد. قاله النوويّ.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الجمهور هو الأرجح؛ لقوّة دليله، كما سيأتي بيانه فِي بابه، إن شاء الله تعالى.
وقوله: "والثيّب الزاني": فيه إثبات قتل الزاني المحصن، والمراد رجمه بالحجارة حَتَّى يموت، وهذا بإجماع المسلمين.
وقوله: "والتارك لدينه، المفارق": أي لجماعة المسلمين، وهو عام فِي كل مُرتدّ عن الإِسلام بأي رِدَّة كانت، فيجب قتله، إن لم يرجع إلى الإِسلام، قَالَ العلماء: ويتناول أيضا كل خارج عن الجماعة ببدعة، أو بغي، أو غيرهما، وكذا الخوارج. والله أعلم.
[واعلم]: أن هَذَا العامَّ يُخص منه الصائل، ونحوه فيباح قتله، فِي الدفع، وَقَدْ يجاب عن هَذَا بأنه داخل فِي المفارق للجماعة، أو يكون المراد لا يحل تعمد قتله قصدا، إلا فِي هذه الثلاثة، والله تعالى أعلم. قاله النوويّ فِي "شرح مسلم" 11/ 166 - 167.
والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدم فِي 5/ 4017 و4018 - ومضى تمام شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. وبالله تعالى التوفيق.
واستدلال المصنّف رحمه الله تعالى به عَلَى ما ترجم له واضح فِي قوله: "النفس بالنفس"، فإنه صريح فِي وجوب القصاص، وهو معنى القود. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4724 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، وَاللَّفْظُ لأَحْمَدَ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قُتِلَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرُفِعَ الْقَاتِلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَدَفَعَهُ إِلَى وَلِيِّ الْمَقْتُولِ، فَقَالَ الْقَاتِلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ قَتْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ: "أَمَا إِنَّهُ إِنْ كَانَ صَادِقًا، ثُمَّ قَتَلْتَهُ، دَخَلْتَ النَّارَ"، فَخَلَّى سَبِيلَهُ، قَالَ: وَكَانَ مَكْتُوفًا بِنِسْعَةٍ، فَخَرَجَ يَجُرُّ نِسْعَتَهُ، فَسُمِّيَ ذَا النِّسْعَةِ).
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن العلاء) الهمدنيّ، أبو كريب الكوفيّ، ثقة حافظ [10] 95/ 117.
2 -
(أحمد بن حرب) الطائيّ الموصليّ، صدوق [10] 102/ 135. منْ أفراد المصنّف.
3 -
(أبو معاوية) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقة أحفظ النَّاس لحديث الأعمش، وَقَدْ يَهِمُ فِي حديث غيره، منْ كبار [9] 26/ 30.
4 -
(الأعمش) سليمان بن مِهْرَان الكوفيّ، ثقة ثبت وَرعٌ، لكنه يدلس [5] 17/ 18.
5 -
(أبو صالح) ذكوان السمّان الزيات المدنيّ، ثقة ثبت [3] 36/ 40.
6 -
(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، كلهم، غير شيخه أحمد، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، إلى الأعمش، غير شيخه أحمد، فموصلي، والباقيان مدنيان. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه منْ المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قُتِلَ رَجُلٌ) يحتمل أن يكون ببناء الفعل للمفعول، أو الفاعل (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرُفِعَ) بالبناء للمفعول (الْقَاتِلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَدَفَعَهُ) أي النبيّ صلى الله عليه وسلم (إِلَى وَلِيِّ الْمَقْتُولِ) أي ليقتصّ منه (فَقَالَ الْقَاتِلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا، وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ قَتْلَهُ)"لا" نافية، "ما" مؤكّدة لها، وتوسط بينهما القسم: أي والله لم أُرد قتله عمدًا، وإنما وقع خطأ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ: "أمَا) أداة استفتاح، وتنبيه (إِنَّهُ) أي القاتل (إِنْ كَانَ صَادِقًا) فِي دعواه أنه لم يتعمّد قتله، بل وقع منه خطأً (ثُمَّ قَتَلْتَهُ، دَخَلْتَ النَّارَ) قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: يفيد أن ما كَانَ ظاهره العمد لا يسع فيه كلام القاتل: إنه ليس بعمد فِي الحكم، نعم ينبغي لوليّ المقتول أن لا يقتله؛ خوفًا منْ لحوق الإثم به، عَلَى تقدير صدق دعوى القاتل. انتهى.
(فَخَلَّى سَبِيلَهُ) أي أطلق أسره (قَالَ: وَكَانَ مَكْتُوفًا بِنِسْعَةٍ) بكسر النون، وسكون السين المهملة-: سَيْرٌ مضْفُورٌ، يُجعل زمامًا للبعير وغيره، وَقَدْ تُنسَج عريضةً. وَقَالَ فِي "القاموس":"النِّسْعُ": بالكسر: سَيْرٌ يُنسَج عَرِيضًا عَلَى هيئة أَعِنَّة النَّعَال، تُشَدُّ به الرِّحال، والقطعة منه نِسْعَةٌ، وسُمّيَ نِسْعًا لطوله، جمعه نُسْعٌ بالضمّ، ونِسَعٌ، كعِنَبٍ، وأَنْسَاعٌ، ونُسُوعٌ. انتهى. (فَخَرَجَ يَجُرُّ نِسْعَتَهُ، فَسُمِّيَ ذَا النِّسْعَةِ) أي صاحب النسعة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -5/ 4723 - وفي "الكبرى" 5/ 6924. وأخرجه (د) فِي "الديات" 4498 (ت) فِي "الديات" 1407 (ق) فِي "الديات" 2690.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان مشروعية القصاص، ووجه الاستدلال به أنه صلى الله عليه وسلم إنما دفع القاتل إلى وليّ المقتول ليقتصّ منه، وذلك يدلّ عَلَى ثبوت القصاص. (ومنها): أنه لا ينبغي لولي الدم أن يتسارع إلى القصاص، بل يعفو؛ فلعل ذلك القاتل إنما كَانَ قتله عن غير عمد، فيكون قد قتل منْ لا يجب عليه القتل. (ومنها): أنه يجوز تلقيب الشخص بما يظهر عليه منْ الحِرَف، أو نحوها، فإنهم سموا
هَذَا الرجل بذي النسعة، لَمّا رأوه يجرّها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4725 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، عَنْ عَوْفٍ الأَعْرَابِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جِيءَ بِالْقَاتِلِ الَّذِي قَتَلَ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، جَاءَ بِهِ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتَعْفُو؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ: "أَتَقْتُلُ؟ "، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "اذْهَبْ"، فَلَمَّا ذَهَبَ دَعَاهُ، قَالَ: "أَتَعْفُو؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ: "أَتَأْخُذُ الدِّيَةَ؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ: "أَتَقْتُلُ؟ "، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "اذْهَبْ"، فَلَمَّا ذَهَبَ، قَالَ: "أَمَا إِنَّكَ إِنْ عَفَوْتَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ يَبُوءُ بِإِثْمِكَ وَإِثْمِ صَاحِبِكَ"، فَعَفَا عَنْهُ، فَأَرْسَلَهُ، قَالَ فَرَأَيْتُهُ يَجُرُّ نِسْعَتَهُ).
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(محمد بن إسماعيل بن إبراهيم) المعروف أبوه بابن عُليّة، البصريّ، نزيل دمشق، وقاضيها، ثقة [11] 22/ 489 منْ أفراد المصنّف.
2 -
(إسحاق) بن يوسف بن مِرْداس الأزرق الواسطيّ، ثقة [9] 22/ 489.
3 -
(عوف الأعرابيّ) بن أبي جَمِيلة بَندَويه العبديّ البصريّ، ثقة رُمي بالقدر، وبالتشيّع [6] 46/ 57.
4 -
(علقمة بن وائل) بنِ حُجر الْحَضْرميّ الكوفيّ، صدوقٌ، سمع منْ أبيه [3] 9/ 887.
5 -
(وائل بن حُجر) -بضم المهملة، وسكون الجيم- ابن سعد بن مسروق الْحَضرميّ، الصحابيّ المشهور، وكان منْ ملوك اليمن، ثم سكن الكوفة، ومات رضي الله عنه فِي ولاية معاوية رضي الله عنه، وتقدمت ترجمته فِي 4/ 879. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ الْحَضْرَميِّ، عَنْ أَبِيه) وائل بن حُجْر رضي الله عنه.
[تنبيه]: علقمة بن وائل قد ثبت سماعه منْ أبيه، فقد ذكر الإمامان: البخاريّ فِي "تاريخه"، والترمذيّ فِي "جامعه" أنه سمع منْ أبيه، وإنما الذي لم يسمع منْ أبيه هو أخوه عبد الجبّار، وَقَدْ أخرج الْحَدِيث الإِمام مسلم فِي "صحيحه" 4363، والمصنّف فِي هَذَا الباب 4730 - ، منْ روايته عن أبيه، وفيه التصريح بالتحديث، ولفظ مسلم: "حدّثنا عُبيد الله بن معاذ العنبريّ، حدثنا أبي، حدّثنا أبو يونس -هو حاتم بن أبي صغيرة مسلم- عن سماك بن حرب، أن علقمة بن وائل حدّثه، أن أباه حدّثه، قَالَ: إني
لقاعد مع النبيّ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيث. ولفظ المصنّف: أخبرنا زكريا بن يحيى، قَالَ: حدثنا عُبيد الله بن معاذ الخ.
فما قاله فِي "تقريب التهذيب" منْ أنه لم يسمع منْ أبيه غير صحيح، فليُتنبّه. والله تعالى أعلم.
(قَالَ: جِيءَ بالْقَاتِلِ الَّذِي قَتَلَ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية الآتية: "شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين جيء بالقاتل يقوده ولي المقتول فِي نِسْعة"، وفي رواية:"كنت قاعدًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء رجل فِي عنقه نسعة"(جَاءَ بِهِ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ) وسيأتي أنه أخوه، ففي رواية سماك بن حرب، عن علقمة:"فَقَالَ: يا رسول الله، هَذَا قتل أخي، فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقتلته" (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتَعْفُو؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ: "أَتَقْتُلُ؟ "، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "اذْهَبْ"، فَلَمَّا ذَهَبَ دَعَاهُ، قَالَ: "أَتَعْفُو؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ: "أَتَأْخُذُ الدَّيَةَ؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ: "أَتَقْتُلُ؟ "، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "اذْهَبْ"، فَلَمَّا ذَهَبَ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَمَا إِنَّكَ إِنْ عَفَوْتَ عَنْهُ؟، فَإِنَّهُ يَبُوءُ) بهمزة، بعد الواو: أي ينقلب، ويرجع، قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: وأكثر ما يُستعمل باء بكذا فِي الشرّ، ومنه قوله تعالى: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة: 90] انتهى (بِإِثْمِكَ وَإِثْمِ صَاحِبِكَ) قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: يعني بذلك -والله تعالى أعلم- أن المقتول ظلمًا تُغفر ذنوبه عند قتل القاتل له، والوليّ يُغفر له عند عفوه عن القاتل، فصار ذهاب ذنوبهما بسبب القاتل، فلذلك قيل عنه: إنه باء بذنوب كلّ واحد منهما، هَذَا أحسن ما قيل فيه. والله تعالى أعلم. انتهى "المفهم" 5/ 58.
وَقَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: ظاهره أن الوليّ إذا عفا عن القاتل بلا مال يتحمّل القاتل إثم الوليّ والمقتول جميعًا، ولا يخلو عن إشكال، فإن أهل التفسير قد أوّلوا قوله تعالى:{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} الآية [المائدة: 29]، فضلاً عن إثم الوليّ، ولعل الوجه فِي هَذَا الْحَدِيث أن يقال: المراد برجوعه بإثمهما هو رجوعه متلبّسًا بزوال إثمهما عنهما.
ويحتمل أنه تعالى يرضى بعفو الوليّ، فيغفر له، ولمقتوله، فيرجع القاتل، وَقَدْ أُزيل عنهما إثمهما بالمغفرة.
والمشهور هي الرواية الآتية، وهي:"يبوء بإثمه، وإثم صاحبه": أي المقتول. وقيل: فِي تأويله: أي يرجع متلبّسًا بإثمه السابق، وبالإثم الحاصل له بقتل صاحبه، فأُضيف إلى الصاحب؛ لأدنى ملابسة، بخلاف ما لو قُتِلَ، فإن القتل يكون كفّارة له عن إثم القتل، وهذا المعنى لا يصلح للترغيب، إلا أن يقال: الترغيب باعتبار إيهام الكلام
بالمعنى الظاهر، ويجوز الترغيب بمثله توسّلاً به إلى العفو، وإصلاح ذات البين، كما يجوز التعريض فِي محلّه. والله تعالى أعلم. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن المعنى الأول، هو الأقرب، كما استحسنه القرطبيّ، فِي كلامه السابق، وحاصله أن القاتل تسبب فِي حصول المغفرة لكلّ منْ المقتول بقتله، والوليّ لَمّا عفا عنه، فصحّ نسبة ذهاب ذنوبهما إليه. والله تعالى أعلم.
(فَعَفَا عَنْهُ، فَأَرْسَلَهُ، قَالَ) وائل رضي الله عنه (فَرَأَيْتُهُ) أي القاتل الذي عُفي عنه (يَجُرُّ نِسْعَتَهُ) قَالَ القرطبيّ: هي ما ضُفّر منْ الأدم كالحبال، وجمعها أنساع، فإذا فُتل، ولم يُضفر، فهو الجديل، والْجَدْلُ: الفتل. وفيه منْ الفقه: العنف عَلَى الجاني، وتوثيقه، وأخذ النَّاس له، حَتَّى يُحضروه إلى الإِمام، ولو لم يُجعل ذلك للناس لفرّ الْجُناة، وفاتوا، ولتعذّر نصر المظلوم، وتغيير المنكر. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث وائل بن حجر رضي الله عنه هَذَا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -5/ 423 و6/ 4726 و4728 و4729 و4731 وفي "آداب القضاة" 5417 - وفي "الكبرى" 5/ 6925 و6/ 6929 و6928 و6929 و6931. وأخرجه (م) فِي "القسامة" 1680 (د) فِي "الديات" 4499 و4501 (الدارميّ" فِي "الديات" 2253. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده
(1)
:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان مشروعيّة القصاص فِي القتل العمد.
(ومنها): أن فيه الإغلاظَ عَلَى الْجُنَاة، وربطهم، وإحضارهم إلى ولي الأمر. (ومنها): أن فيه سؤالَ المدعَى عليه، عن جواب الدعوى، فلعله يُقِرُّ، فيستغني المدعي، والقاضي عن التعب فِي إحضار الشهود، وتعديلهم، ولأن الحكم بالإقرار حكم بيقين، وبالبينة حكم بالظن. (ومنها): سؤالُ الحاكم، وغيره الوليّ عن العفو عن
(1)
ليست هذه الفوائد مقتصرة عَلَى سياق المصنّف هنا، فقط، بل لجميع الروايات التي أشرت إليها فِي الشرح أيضًا، فتنبّه.
الجاني. (ومنها): أن فيه جوازَ العفو بعد بلوغ الأمر إلى الحاكم. (ومنها): جوازُ أخذ الدية فِي قتل العمد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم فِي تمام الْحَدِيث: "هل لك منْ شيء تؤديه عن نفسك؟ ". (ومنها): قبول الإقرار بقتل العمد. (ومنها): ما قَالَ القاضي عياض رحمه الله تعالى: فيه أن قتل القصاص لا يكفر ذنب القاتل بالكلية، وإن كفّرها بينه وبين الله تعالى، كما جاء فِي الْحَدِيث الآخر:"فهو كفارة له، ويبقى حق المقتول". (ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى: فِي قوله صلى الله عليه وسلم: "أتقتله؟ " منْ الفقه سماع دعوى المدّعِي فِي الدم قبل إثبات الموت، والولاية، ثم لا يثبت الحكم حَتَّى يثبُت كلُّ ذلك.
[فإن قيل]: فقد حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى القاتل فِي هَذَا الْحَدِيث منْ غير إثبات ولاية المدّعي؟.
[فالجواب]: أن ذلك كَانَ معلومًا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعند غيره، فاستغنى عن إثباته لشهرة ذلك.
(ومنها): استقرار المدّعى عليه بعد سماع الدعوى لإمكان إقراره، فتسقط وظيفة إقامة البيّنة عن المدّعَى، كما جرى فِي هَذَا الْحَدِيث. انتهى" المفهم" 5/ 52. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
6 - (ذِكْرُ اخْتِلَافِ النَّاقِلِينَ لِخَبَرِ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ فِيهِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "فيه" متعلق بـ"اختلاف"، والضمير للخبر، أي اختلافهم عليه فِي رواية خبره.
ووجه الاختلاف الذي أشار إليه أن رواية حمزة العائذي أنه صلى الله عليه وسلم خيّر ولي المقتول بين العفو وأخذ الدية، فلما أبى دفعه إليه ليقتصّ منه، وتابعه عليه جامع بن مطر فِي رواية يحيى القطّان عنه التي أشار إليها المصنّف بقوله:"بمثله"، وخالفه فِي رواية حفص بن عمر الحوضي عنه، فذكر العفو فقط، وخالفهما سماك بن حرب، فذكر دفع الدية فقط، حيث ذكر أنه صلى الله عليه وسلم سأل القاتل بقوله:"هل لك مال تؤدّيه عن نفسك؟ "، ثم قَالَ: "أتُرى
قومك يشترونك؟ "، وخالفهم إسماعيل بن سالم، فرواه عن علقمة، فلم يذكر العفو، ولا الدية، بل ذكره أنه صلى الله عليه وسلم دفع القاتل إلى ولي المقتول يقتله.
والظاهر أن هذه الاختلافات لا تضرّ بصحة الْحَدِيث؛ لإمكان حملها عَلَى أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظه الآخر، أو اختصره منْ الرواية. والله تعالى أعلم بالصواب.
4726 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَوْفِ بْنِ أَبِي جَمِيلَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَمْزَةُ، أَبُو عَمْرٍو الْعَائِذِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلْقَمَةُ بْنُ وَائِلٍ، عَنْ وَائِلٍ، قَالَ: شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حِينَ جِيءَ بِالْقَاتِلِ، يَقُودُهُ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ، فِي نِسْعَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ: "أَتَعْفُو؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ: "أَتَأْخُذُ الدِّيَةَ؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ: "فَتَقْتُلُهُ؟ "، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "اذْهَبْ بِهِ"، فَلَمَّا ذَهَبَ بِهِ، فَوَلَّى مِنْ عِنْدِهِ دَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ: "أَتَعْفُو؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ: "أَتَأْخُذُ الدِّيَةَ؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ: "فَتَقْتُلُهُ؟ "، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "اذْهَبْ بِهِ"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: "أَمَا إِنَّكَ إِنْ عَفَوْتَ عَنْهُ، يَبُوءُ بِإِثْمِهِ، وَإِثْمِ صَاحِبِكَ"، فَعَفَا عَنْهُ، وَتَرَكَهُ، فَأَنَا رَأَيْتُهُ يَجُرُّ نِسْعَتَهُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"يحيى بن سعيد": هو القطّان. و"حمزة": هو ابن عَمْرو أبو عُمَر العائذيّ الضبّيّ البصريّ، صدوقٌ [4] 3/ 498. وَقَالَ ابن حبّان: فِي "الثقات": وهِمَ منْ ضبطه بالجيم. انتهى.
[تنبيه]: فِي هَذَا الإسناد ذكر واسطة بين عوف الأعرابيّ وبين علقمة، وهو حمزة العائذيّ، بخلاف الإسناد الماضي، فإنه لم يُذكر فيها بينهما واسطة، والظاهر أن هذه الرواية أرجح؛ لأن يحيى القطّان أحفظ، وأتقن منْ إسحاق بن يوسف، ولاسيّما وَقَدْ صرّح بتحديث حمزة له، بخلاف رواية إسحاق، فقد عنعنها، فيحتمل أنه أسقط الواسطة، والله تعالى أعلم.
والحديث صحيح، وَقَدْ تقدّم شرحه، وبيان مسائله فِي الباب الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4727 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا جَامِعُ بْنُ مَطَرٍ الْحَبَطِيُّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، قَالَ يَحْيَى: وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "جامع بن مطر الْحَبَطيّ" -بفتح المهملة، والموحّدة، بعدها مهملةٌ- بصريّ، صدوقٌ [6].
روى عن علقمة بن وائل، وبُريد أبي مريم السلوليّ، ومعاوية بن قُرَّة، وغيرهم.
وعنه ابن مهديّ، والقطّان، وأبو عمر الحوضيّ، وبكر بن عيسى الراسبيّ، وأبو عُبيدة الحدّاد. قَالَ أحمد: ما أرى به بأسًا. وَقَالَ ابن معين: ثقة. وَقَالَ أبو حاتم: لا بأس به. وَقَالَ الآجريّ، عن أبي داود: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". روى له البخاريّ فِي "جزء رفع اليدين"، والمصنّف، وأبو داود، وله عندهما هَذَا الْحَدِيث، وله عند أبي داود حديث آخر أيضًا.
وقوله: "وهو أحسن منه": يعني -والله تعالى أعلم- أراد أن شيخه جامع بن مطر، أحسن حديثًا منْ شيخه عوف بن أبي جميلة، والظاهر أن ذلك لكون عوف مطعونًا ببدعة القدر، والتشيّع، فقد قَالَ ابن المبارك: والله ما رضي عوفٌ ببدعة واحدة، حَتَّى كانت فيه بدعتان، قدريّ شيعيّ. وَقَالَ بُندارٌ: لقد كَانَ عوفٌ قدّريّا، رافضيّا، شيطانًا. انظر ترجمته فِي "تهذيب التهذيب" 3/ 336. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4728 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، وَهُوَ الْحَوْضِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَامِعُ بْنُ مَطَرٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْتُ قَاعِدًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، جَاءَ رَجُلٌ فِي عُنُقِهِ نِسْعَةٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا وَأَخِي كَانَا فِي جُبٍّ يَحْفِرَانِهَا، فَرَفَعَ الْمِنْقَارَ، فَضَرَبَ بِهِ رَأْسَ صَاحِبِهِ، فَقَتَلَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اعْفُ عَنْهُ"، فَأَبَى، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا وَأَخِي كَانَا فِي جُبٍّ يَحْفِرَانِهَا، فَرَفَعَ الْمِنْقَارَ، فَضَرَبَ بِهِ رَأْسَ صَاحِبِهِ، فَقَتَلَهُ، فَقَالَ: "اعْفُ عَنْهُ"، فَأَبَى، ثُمَّ قَامَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا وَأَخِي كَانَا فِي جُبٍّ يَحْفِرَانِهَا، فَرَفَعَ الْمِنْقَارَ -أُرَاهُ قَالَ- فَضَرَبَ رَأْسَ صَاحِبِهِ، فَقَتَلَهُ، فَقَالَ: "اعْفُ عَنْهُ"، فَأَبَى، قَالَ: "اذْهَبْ، إِنْ قَتَلْتَهُ كُنْتَ مِثْلَهُ"، فَخَرَجَ بِهِ، حَتَّى جَاوَزَ، فَنَادَيْنَاهُ، أَمَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَجَعَ، فَقَالَ: إِنْ قَتَلْتُهُ كُنْتُ مِثْلَهُ؟، قَالَ: "نَعَمِ، اعْفُ، فَخَرَجَ يَجُرُّ نِسْعَتَهُ، حَتَّى خَفِيَ عَلَيْنَا).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمرو بن منصور": هو أبو سعيد النسائيّ، ثقة ثبت [11] 108/ 147 منْ أفراد المصنّف. و"حفص بن عُمر": هو أبو عُمَر الْحَوْضيّ، ثقة ثبت، منْ كبار [10] 2/ 2096.
وقوله: "فِي جُبّ" بضمّ الجب، وتشديد الموحّدة: هو البئر التي لم تُطوَ، جمعه أَجْبابٌ، وجِبابٌ، وجِبَبةٌ، كعِنَبة.
وقوله: "فرفع الْمِنْقَار" -بكسر الميم، وسكون النون، وفتح القاف-: قَالَ ابن منظور: هي حديدة كالفأس، مُشَكَّكَةٌ، مُستديرةٌ، لها خَلْفٌ، يُقطع به الحجارة، والأرض الصلبة، ونَقَره ينقره نَقْرًا -منْ باب نصر-: ضربه، والنَّقْرُ: ضربُ الرحَى،
والحجرِ، بالمنقار. وَقَالَ أيضًا: ونَقَرْتُ الشيءَ: ثقبته بالمنقار، والْمِنْقَر بكسر الميم: الْمِعْوَل، قَالَ ذُو الرّمّة:
كَأَرْحَاءِ رَقْدٍ زَلَّمَتْهَا الْمَنَاقِرُ
انتهى "لسان العرب" بتصرّف 5/ 227.
[تنبيه]: رواية جامع بن مطر هذه مخالفة لرواية سماك بن حرب التي بعدها، حيث إن فيها أنهما كانا يحتطبان منْ شجرة، ولكن لا تعارض بينهما؛ لاحتمال أن يكون أصل عملهما حفر البئر، ثم حصل لهما حاجة إلى الاحتطاب، فبدءا يجمعان الحطب، فحصل بينهما مخاصمة خلال الاحتطاب، فضربه بالفأس الذي كَانَ يحفر به. والله تعالى أعلم.
وقوله: "إن قتلته كنت مثله": قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: الصحيح فِي تأويله، أنه مثله فِي أنه لا فضل، ولا منة لأحدهما عَلَى الآخر؛ لأنه استوفى حقه منه، بخلاف ما لو عفى عنه، فإنه كَانَ له الفضل والمنة، وجزيل ثواب الآخرة، وجميل الثناء فِي الدنيا.
وقيل: فهو مثله فِي أنه قاتل، وإن اختلفا فِي التحريم والإباحة، لكنهما استويا فِي طاعتهما الغضب، ومتابعة الهوى، لاسيما وَقَدْ طلب النبيّ صلى الله عليه وسلم منه العفو، وإنما قَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ما قَالَ بهذا اللفظ الذي هو صادق فيه؛ للإيهام لمقصود صحيح، وهو أن الوليّ ربما خاف فعفا، والعفو مصلحة للوليّ والمقتول فِي ديتهما
(1)
لقوله صلى الله عليه وسلم: "يبوء بإثمك وإثم صاحبك"، وفيه مصلحة للجاني، وهو إنقاذه منْ القتل، فلما كَانَ العفو مصلحة، توصل إليه بالتعريض، وَقَدْ قَالَ الضمري
(2)
وغيره، منْ الشافعيّة، وغيرهم: يستحب للمفتى إذا رأى مصلحة فِي التعريض للمستفتي، أن يُعَرِّض تعريضا، يحصل به المقصود، مع أنه صادق فيه، قالوا: ومثاله أن يسأله إنسان عن القاتل: هل له توبة؟ ويظهر للمفتي بقرينة، أنه إن أفتى بأن له توبة، ترتب عليه مفسدة، وهي أن السائل يستهون القتل؛ لكونه يجد بعد ذلك منه مخرجا، فيقول المفتى فِي الحالة هذه: صح عن ابن عباس أنه قَالَ: لا توبة لقاتل، فهو صادق فِي أنه صح عن ابن عباس، وإن كَانَ المفتي لا يعتقد ذلك، ولا يوافق ابن عباس فِي هذه المسألة، لكن السائل إنما يفهم منها موافقته ابن عباس، فيكون سببا لزجره، فهكذا، وما أشبه ذلك، كمن يسأل عن الغيبة فِي الصوم، هل يفطر بها؟، فيقول: جاء فِي الْحَدِيث الغِيبة تُفَطِّر الصائم. والله أعلم. انتهى "شرح مسلم" 11/ 174.
(1)
هكذا النسخة "فِي ديتهما" بلفظ الدية بالدال، والظاهر أن "فِي ذنبهما" بالذال المعجمة، والنون.
(2)
هكذا النسخة بالضاد المعجمة، ولعله الصيمريّ بالصاد المهملة.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: التأويلان اللذان ذكرهما النوويّ فِي تأويل قوله صلى الله عليه وسلم: "إن قتلته كنت مثله"، نقلهما عنه المازريّ، والقاضي عياض، وأحسن منهما ما يأتي للقرطبيّ فِي الْحَدِيث التالي، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم.
وقوله: "قَالَ: نعم": أي قَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: نعم تكون مثله. وقوله: "أعف" بصيغة المضارع المسند لضمير المتكلّم: أي قَالَ ذلك الرجل الذي أراد أن يقتل ذلك القاتل، لما سمع منه صلى الله عليه وسلم أنه يكون مثله، إن قتله: أعف عنه، حَتَّى لا أكون مثله. والله تعالى أعلم.
والحديث صحيح، كما سبق البحث فيه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4729 -
(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، عَنْ سِمَاكٍ، ذَكَرَ أَنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ وَائِلٍ أَخْبَرَهُ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَ قَاعِدًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ يَقُودُ آخَرَ بِنِسْعَةٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَتَلَ هَذَا أَخِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَقَتَلْتَهُ"، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ أَقَمْتُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ، قَالَ: نَعَمْ قَتَلْتُهُ، قَالَ: "كَيْفَ قَتَلْتَهُ؟ "، قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَهُوَ نَحْتَطِبُ مِنْ شَجَرَةٍ، فَسَبَّنِي، فَأَغْضَبَنِي، فَضَرَبْتُ بِالْفَأْسِ عَلَى قَرْنِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ لَكَ مِنْ مَالٍ تُؤَدِّيهِ عَنْ نَفْسِكَ؟ "، قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَالِي إِلاَّ فَأْسِي وَكِسَائِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتُرَى قَوْمَكَ يَشْتَرُونَكَ؟ "، قَالَ: أَنَا أَهْوَنُ عَلَى قَوْمِي مِنْ ذَاكَ، فَرَمَى بِالنِّسْعَةِ إِلَى الرَّجُلِ، فَقَالَ: "دُونَكَ صَاحِبَكَ"، فَلَمَّا وَلَّى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ"، فَأَدْرَكُوا الرَّجُلَ، فَقَالُوا: وَيْلَكَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ"، فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حُدِّثْتُ أَنَّكَ قُلْتَ: "إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ"، وَهَلْ أَخَذْتُهُ إِلاَّ بِأَمْرِكَ؟ فَقَالَ: "مَا تُرِيدُ أَنْ يَبُوءَ بِإِثْمِكَ، وَإِثْمِ صَاحِبِكَ"، قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَإِنْ ذَاكَ، قَالَ: "ذَلِكَ كَذَلِكَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "إسماعيل بن مسعود": هو الْجَحْدريّ البصريّ. و"خالد": هو ابن الحارث الْهُجَيميّ. و"حاتم": هو ابن أبي صغيرة، أبو يونس البصريّ، وأبو صغيرة: اسمه مسلم، وهو جدّه لأمه، وقيل: زوج أمه، ثقة [6] 66/ 1800. و"سماك": هو ابن حرب بن أوس بن خالد الذهليّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوقٌ، تغير بآخره، فكان ربّما تلقّن [4] 2/ 325.
وقوله: "لو لم يعترف أقمت عليه البيّنة": قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: فيه بيان أن الأصل فِي ثبوت الدماء الإقرار، أو البيّنة، وأما القسامة فعلى خلاف الأصل، كما تقدّم. وفيه استقرار المحبوس، والمتهدّد، وأخذه بإقراره، وَقَدْ اختَلفَ فِي ذلك
العلماء، واضطرب مذهب مالك فِي إقراره بعد الحبس والتهديد، هل يُقبل جملةً، أو لا يقبل جملةً؟، والفرق، فيقبل إذا عيّن ما اعترف به، منْ قتل، أو سرقة، ولا يُقبل إذا لم يُعيّن، ثلاثة أقوال. انتهى "المفهم" 5/ 52 - 53.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بأخذه بالإقرار هو الظاهر؛ لهذا الْحَدِيث. والله تعالى أعلم.
وقوله: "كيف قتلته؟ ": سؤال استكشاف عن حال القتل؛ لإمكان أن يكون خطأً، أو عمدًا، ففيه منْ الفقه وجوب البحث عن تحقيق الأسباب التي تنبني عليها الأحكام، ولا يُكتفَى بالإطلاق، وهذا كما فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم مع ماعزٍ، حين اعترف عَلَى نفسه بالزنى. قاله القرطبيّ فِي "المفهم" 5/ 53.
وقوله: "نحتطب منْ شجرة": هكذا هو فِي رواية المصنّف بالحاء المهملة، منْ الاحتطاب، يقال: حَطَب الْحَطَب حَطْبًا، منْ باب ضربَ: إذا جمع الحطب، واحتطب مثله. والذي فِي رواية مسلم:"نختبط منْ شجرة" بالخاء المعجمة، منْ الاختباط افتعال منْ الْخَبَط: أي نجمع الخبَط، وهو ورق السَّمُر، بأن يضرب الشجر بالعصا، فيسقط ورقه، فيجمعه عَلَفًا. قاله النوويّ. وَقَالَ القرطبيّ:"نختبط" نفتعل منْ الخبط، وهو ضرب بالعصا ليقع يابس ورقها، فتأكله الماشية.
ولا تعارض بين الروايتين؛ لاحتمال أن يكونا يجمعان الحطب، والْخَبَط معًا. والله تعالى أعلم.
وقوله: "فضربته بالفأس عَلَى قَرْنه": قَالَ فِي "المفهم": قرن الرأس جانبه الأعلى، قَالَ الشاعر:
وَضَرَبْتُ قَرْنَيْ كَبْشِهَا فَتَجَدَّلَا
وقوله: "هل لك منْ مال تؤدّيه عن نفسك؟ ": قَالَ القرطبيّ: يدلّ عَلَى أنه صلى الله عليه وسلم قد ألزمه حكم إقراره، وأن قتله كَانَ عمدًا، إذ لو كَانَ خطأً لما طالبه بالدية، ولطولب بها العاقلة، ويدلّ عَلَى هَذَا أيضًا قوله:"أترى قومك يشترونك؟ "؛ لأنه لَمّا استحقّ أولياء المقتول نفسه بالقتل العمد، صاروا كالمالكين له، فلو دَفع أولياء القاتل عنه عِوَضًا، فقبله أولياء المقتول، لكان كالبيع، وهذا كله إنما عرضه النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى القاتل بناء منه عَلَى أنه إذا تيسّر له ما يؤدّي إلى أولياء المقتول، سألهم فِي العفو عنه، ففيه منْ الفقه السعي فِي الإصلاح بين النَّاس، وجواز الاستشفاع، وإن رُفعت حقوقهم للإمام، بخلاف حقوق الله تعالى، فإنه لا تجوز الشفاعة فيها، إذا بلغت الإِمام. انتهى.
وقوله: "ما لي إلا فأسي، وكسائي": فيه منْ الفقه أن المال يُقال كلّ ما يُتَمَوّل منْ
العروض وغيرها، وأن ذلك ليس مخصوصًا بالإبل، ولا بالعين. قاله فِي "المفهم".
وقوله: "فَقَالَ: دونك صاحبك": أي خذه، فاصنع به ما شئت، هَذَا إنما حكم به النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا تحقّق السبب، وتعذّر عليه الإصلاح، وبعد أن عرض عَلَى الوليّ العفو، فأبى، كما قاله ابن أشوع، وبعد أن علم أنه لا مُستحقّ للدم إلا ذلك الطالب خاصّةً، ولو كَانَ هناك مستحقّ آخر لتعيّن استعلام ما عنده منْ القصاص، أو العفو.
وفيه ما يدلّ عَلَى أن القاتل إذا تحقّق عليه السبب، وارتفعت الموانع لا يقتله الإِمام، بل يدفعه للوليّ يفعل به ما يشاء، منْ قتل، أو عفو، أو حبس، إلى أن يرى رأيه فيه، ولا يسترقّه بوجه؛ لأن الحرّ لا يُملَك، قَالَ القرطبيّ: ولا خلاف فيه فيما أعلمه. انتهى "المفهم" 5/ 54.
وقوله: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قتله فهو مثله": قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: ظاهره إن قتله كَانَ عليه منْ الإثم مثل ما عَلَى القاتل الأول، وَقَدْ صرّح بهذا فِي الرواية الأخرى التي قَالَ فيها:"القاتل والمقتول فِي النار"، وهذا فيه إشكالٌ عظيم، فإن القاتل الأول قتل عمدًا، والثاني قصاصًا، ولذلك لَمّا سمع الوليّ ذلك، قَالَ: يا رسول الله قلت: ذلك، وَقَدْ أخذته بأمرك؟، فاختلف العلماء فِي تأويل هَذَا عَلَى أقوال:
[الأول]: قَالَ الإِمام أبو عبد الله المازريّ: أمثل ما قيل فيه: أنهما استويا بانتفاء التباعة عن القاتل بالقصاص.
قَالَ القرطبيّ: وهذا كلام غير واضح، ويعني به -والله أعلم- أن القاتل إذا قُتل قصاصًا، لم يبق عليه تبعة منْ القتل، والمقتصّ لا تبعة عليه؛ لأنه استوفى حقّه، فاستوى الجاني والوليّ المقتصّ فِي أن كلّ واحد منهما لا تبعة عليه.
[الثاني]: قَالَ القاضي عياض: معنى قوله: "فهو مثله": أي قاتلٌ مثله، وإن اختلفا فِي الجواز والمنع، لكنهما اشتركا فِي طاعة الغضب، وشفاء النفس، لاسيّما مع رغبة النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي العفو، عَلَى ما جاء فِي الْحَدِيث.
قَالَ القرطبيّ: والعجيب منْ هذين الإمامين، كيف قنعا بهذين الخَيالين، ولم يتأمّلا مَساق الْحَدِيث، وكأنهما لم يسمعا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم حين انطلق به يجرّه ليقتله:"القاتل والمقتول فِي النار"، وهذه الرواية مفسّرة لقوله فِي الرواية المتقدّمة:"إن قتله فهو مثله"؛ لأنها ذُكرت بدلًا منها، فعلى مقتضى قوله:"فهو مثله": أي هو فِي النار مثله، ومن هنا عظُم الإشكال، ولا يُلتفت لقول منْ قَالَ: إن ذلك إنما قاله صلى الله عليه وسلم للوليّ لما علم منه منْ معصية يَستحقّ بها دخول النار؛ لأن المعصية المقدّرة إما أن يكون لها مدخلٌ فِي هذه القصّة، أو لا مدخل لها فيها، فإن كَانَ الأولُ، فينبغي لنا أن نبحث عنها حَتَّى
نتبيّنها، ونعرف وجه مناسبتها لهذا الوعيد الشديد، وإن لم يكن لها مدخلٌ فِي تلك القضيّة، لم يلِق بحكمة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا ببلاغته، ولا ببيانه أن يذكر وعيدًا شديدًا فِي قضيّةٍ ذات أحوال، وأوصاف متعدّدة، ويقرُن ذلك الوعيد بتلك القصّة، وهو يُريد أن ذلك الوعيد إنما هو لأجل شيء لم يذكره هو، ولا جرى له ذكرٌ منْ غيره، ثم إن المقول له ذلك، قد فَهِم أن ذلك إنما كَانَ لأمر جرى فِي تلك القصّة، ولذلك قَالَ للنبيّ صلى الله عليه وسلم: تقول ذلك، وَقَدْ أخذته بأمرك؟، ولو كَانَ كما قاله هَذَا القائل؛ لقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنما قلت ذلك للمعصية التي فعلتَ، أو الحالة التي أنت عليها، لا لهذا، ولَمَا كَانَ يسكت عن ذلك، ولبادر لبيانه فِي تلك الحال؛ لأن الحاجة له داعيةٌ، والنصيحة، والبيان واجبان عليه صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم.
[الثالث]: أن أبا داود روى هَذَا الْحَدِيث منْ طريق أبي هريرة رضي الله عنه وَقَالَ فيه: قُتل رجلٌ عَلَى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرُفع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدفعه إلى وليّ المقتول، فَقَالَ القاتل: يا رسول الله، والله ما أردت قتله، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم للوليّ:"أما إنه إن كَانَ صادقًا، ثم قتلته دخلت النار"، فحاصله أن هَذَا المعترف بالقتل زعم أنه لم يُرد قتله، وحَلَف عليه، فكان القتل خطأً، فكأن النبيّ صلى الله عليه وسلم خاف أن يكون القاتل صدق فيما حلّف عليه، وأن القاتل يَعلم ذلك، لكن سلّمه له بحكم إقراره بالعمد، ولا شاهد يشهد له بالخطإ، ومع ذلك، فتوقّع صدقه، فَقَالَ:"إن قتلته دخلت النار"، فكأنه قَالَ: إن كَانَ صادقًا، وعلمت أنت صدقه، ثم قتلته، فأنت فِي النار، وهذا عَلَى ما فيه منْ التكلّف يُبطله قوله:"القاتل، والمقتول فِي النار"، فسوّى بينهما فِي الوعيد، فلو كَانَ القاتل مخطئًا لما استحقّ بذلك النار، ولما باء بإثمه، وإثم صاحبه، فإن المخطىء لا يكون آثمًا، ولا يتحمّل إثم منْ أخطأ عليه.
[الرابع]: أن أبا داود روى هَذَا الْحَدِيث عن وائل بن حُجْرٍ رضي الله عنه، وذكر فيه ما يدلّ عَلَى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قصد تخليصه، فعَرَضَ الدية، أو العفوَ عَلَى الوليّ ثلاث مرّات، والوليّ فِي كلّ ذلك يأبى إلا القتل، معرضًا عن شفاعة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن حرصه عَلَى تخليص الجاني منْ القتل، فكأن الوليّ صدر منه جفاءٌ فِي حقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث ردّ متأكَّدَ شفاعته، وخالفه فِي مقصود، ويظهر هَذَا منْ مساق الْحَدِيث، وذلك أن وائل بن حُجْر رضي الله عنه قَالَ: كنت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، إذ جيء برجل قاتل، فِي عُنُقه نِسْعَةٌ، قَالَ: فدعا وليّ المقتول، فَقَالَ:"أتعفو؟ "، قَالَ: لا، فَقَالَ:"أتأخذ الدية؟ "، قَالَ: لا، قَالَ:"أتقتل؟ "، قَالَ: نعم، قَالَ:"اذهب به"، فلما ولّى، قَالَ:"أتعفو؟ "، قَالَ: لا، قَالَ:"أفتأخذ الدية؟ "، قَالَ: لا، قَالَ:"أفتقتل؟ "، قَالَ: نعم، قَالَ:"اذهب به"، فلما كَانَ فِي الرابعة، قَالَ: "أما إنك إن عفوت
عنه، يبوء بإثمه، وإثم صاحبه"، قَالَ: فعفا عنه، فهذا المساق يُفهم منه صحّة قصد النبيّ صلى الله عليه وسلم لتخليص ذلك القاتل، وتأكّد شفاعته له فِي العفو، أو قبول الدية، فلما لم يلتفت الوليّ إلى ذلك كلّه، صدرت منه صلى الله عليه وسلم تلك الأقوال الوعيديّة، مشروطةً باستمراره عَلَى لَجَاجه، ومُضيّه عَلَى جفائه، فلما سمع الوليّ ذلك القول عفا، وأحسن، فقُبل، وأُكرم، وهذا أقرب منْ تلك التأويلات، والله أعلم بالمشكلات، وهذا الذي أشار إليه ابن أشوع، حيث قَالَ: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم سأله أن يعفو، فأبى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قول ابن أشوع المذكور هو الآتي للمصنّف فِي الرواية التالية لهذه الرواية.
[تنبيه]: قَالَ القرطبيّ: إنما عظم الإشكال منْ جهة قوله صلى الله عليه وسلم: "القاتل والمقتول فِي النار"، ولَمّا كَانَ ذلك قَالَ بعض العلماء: إن هَذَا اللفظ -يعني قوله: "القاتل والمقتول فِي النار"-، إنما ذكره النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي حديث آخر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول فِي النار" متّفقٌ عليه. فوهم بعض الرواة، فضمّه إلى هَذَا الْحَدِيث الآخر.
قَالَ القرطبيّ: وهذا بعيدٌ، والله تعالى أعلم. انتهى "المفهم" 5/ 54 - 58.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا التحقيق الذي قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى فِي تأويل قوله صلى الله عليه وسلم: "إن قتله، فهو مثله" تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب.
وقوله: "حُدّثت أنك قلت" ببناء "حُدّثت" للمفعول.
وقوله: "ما تريد أن يبوء الخ" بتقدير الاستفهام، أي أما تريد أن يبوء بإثمك، وإثم صاحبك. قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: قيل معناه يتحمل إثم المقتول بإتلافه مهجته، وإثم الوليّ؛ لكونه فجعه فِي أخيه، ويكون قد أُوحي إليه صلى الله عليه وسلم بذلك، فِي هَذَا الرجل خاصة. ويحتمل أن معناه يكون عفوك عنه سببا لسقوط إثمك، وإثم أخيك المقتول، والمراد إثمهما السابق بمعاص لهما متقدمة، لا تعلق لها بهذا القاتل، فيكون معنى "يبوء" يُسقط، وأطلق هَذَا اللفظ عليه مجازا. انتهى "شرح مسلم" 11/ 175.
وقوله: "قَالَ: بلى": أي قَالَ وليّ المقتول: بلى أريد ذلك.
وقوله: "فإن ذاك": هَذَا أيضًا منْ كلام وليّ المقتول، و"إن" شرطيّةٌ، وجوابها محذوف: أي فإن كَانَ الأمر ذاك، أي الذي قلته منْ أنه يبوء بإثمه، وإثم صاحبي، فقد عفوت عنه.
وقوله: "قَالَ: ذلك كذلك": أي قَالَ صلى الله عليه وسلم: ذلك الذي ذكرته لك، كما ذكرته، أي إنه يبوء بإثمك، وإثم صاحبك.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي ذكرته منْ حلّ هَذَا الكلام هو الوجه، كما أشار إليه السنديّ، فما كُتب فِي هامش "صحيح النسائيّ" للشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى -3/ 981 - مما علّقه الشيخ، ومما كتبه الشيخ زُهير أيضًا، فمما لا يخفى بعده، فتأمّله بإنصاف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4730 -
(أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو يُونُسَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، أَنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ وَائِلٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، قَالَ: إِنِّي لَقَاعِدٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ، يَقُودُ آخَرَ، نَحْوَهُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح غير شيخه "زكريّا ابن يحيى" وهو السِّجْزيّ، نزيل دمشق، المعروف بخيّاط السنّة الثقة الحافظ [12] 189/ 1161 فإنه منْ أفراده. و"عبيد الله بن معاذ": هو العنبريّ، أبو عمرو البصريّ، ثقة حافظ [10].
و"أبو عبيد الله": هو معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان العنبريّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقة متقنٌ، منْ كبار [9] 34/ 38.
و"أبو يونس": هو حاتم بن أبي صغيرة المذكور فِي السند الماضي.
والحديث أخرجه مسلم، كما سبق بيانه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4731 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُمْ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أُتِيَ بِرَجُلٍ، قَدْ قَتَلَ رَجُلاً، فَدَفَعَهُ إِلَى وَلِيِّ الْمَقْتُولِ يَقْتُلُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِجُلَسَائِهِ: "الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ"، قَالَ: فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ، فَأَخْبَرَهُ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ تَرَكَهُ، قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَجُرُّ نِسْعَتَهُ، حِينَ تَرَكَهُ يَذْهَبُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِحَبِيبٍ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَشْوَعَ، قَالَ: وَذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَمَرَ الرَّجُلَ بِالْعَفْوِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح.
و"محمد بن معمر": هو القيسيّ الْبَحْرانيّ البصريّ، صدوقٌ، منْ كبار [11] 5/ 1829 أحد مشايخ الستّة بلا واسطة، كما تقدّم غير مرّة.
و"يحيى بن حمّاد": هو الشيبانيّ مولاهم البصريّ، ختن أبي عَوَانة، ثقة عابد، منْ صغار [9] 43/ 2225. و"أبو عوانة": هو الوضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ الثقة الثبت [7] 41/ 46.
و"إسماعيل بن سالم" الأسديّ، أبو يحيى الكوفيّ، نزيل بغداد، ثقة ثبتٌ [6].
وفي "تهذيب التهذيب" 1/ 153 - إسماعيل بن سالم الأسدي، أبو يحيى الكوفيّ، نزل بغداد قبل أن تُبْنَى، ويقال: إنه أخو محمد بن سالم. رَوَى عن الشعبي، وحبيب بن أبي ثابت، وعلقمة بن وائل، وأبي صالح السمان، وسعيد بن المسيب، وغيرهم. وعنه ابنه يحيى، والعلاء بن المسيب، وهشيم، وأبو عوانة، والثوري، وغيرهم. قَالَ ابن المديني: له نحو عشرة أحاديث، وَقَالَ ابن سعد: كَانَ ثقة ثبتا. وَقَالَ عبد الله بن أحمد، عن أبيه: فراس أقدم موتا منْ إسماعيل، وإسماعيل أوثق منه، فِرَاس فيه شيء منْ ضعف، وإسماعيل أحسن منه استقامةً، وأقدم سماعا، سمع منْ سعيد بن جبير، وكذا قَالَ مسلم، عن أحمد، وَقَالَ عبد الله، عن أبيه أيضا: ثقة ثقة، وَقَالَ أبو بكر الْمَرُّوذِيّ: قلت -يعني لأحمد بن حنبل-: كيف كَانَ إسماعيل بن سالم؟ فَقَالَ: ليس به بأس، قلت: إنه حُكي عن أبي عوانة، عن إسماعيل بن سالم أنه سمع زُبيدًا يقول، وذكر قصّةً لمعاوية، قَالَ: ومن سمع هَذَا منْ أبي عوانة؟ ثم قَالَ: قد كانت عنده أحاديث الشيعة، وَقَدْ نظر له شعبة فِي كتبه. وَقَالَ أبو داود: قلت لأحمد بن حنبل: إسماعيل بن سالم؟ قَالَ: بخ. قَالَ: وسمعت أحمد بن حنبل يقول: إسماعيل بن سالم صالح الْحَدِيث، قلت: هو أكبر، أو مُطرّفٌ؟ قَالَ: هو أكبر. وَقَالَ ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة، أوثق منْ أساطين مسجد الجامع، سمع منه هشيم، ولم يسمع منه شريك. وَقَالَ أحمد بن سعيد بن أبي مريم، وعثمان الدارميّ، عن ابن معين: ثقة، زاد ابن أبي مريم: حجة. وَقَالَ الدوري، عن ابن معين: سمع إسماعيل منْ أبي صالح ذكوان، وَقَدْ سمع منْ أبي صالح باذام. وَقَالَ أبو زرعة، وأبو حاتم، والنسائي، وابن خراش، والدارقطني: ثقة. وَقَالَ أبو حاتم أيضا: مستقيم الْحَدِيث. وَقَالَ ابن عدي: له أحاديث يحدث عنه قوم ثقات، وأرجو أنه لا بأس به.
قَالَ الحافظ: علق البخاريّ فِي تفسير {أرأيت} قولَ عكرمة: الماعونُ أعلاها الزكاة المفروضة، ووصله سعيد بن منصور، منْ طريق إسماعيل هَذَا، عن عكرمة، وقرأت بخط الذهبيّ فِي "الميزان": لم أسق ذكره إلا تبعا لابن عدي، ولم يقل فيه إلا أرجو أنه لا بأس به. انتهى، ولعله أراد أن ينقل ما تقدم أنه قيل: لأحمد عنه ما يشير به إلى التشيع، لكنه لم يفصح به. وَقَالَ يعقوب الفسوي: لا بأس به، كوفيّ ثقة. وَقَالَ أبو علي الحافظ: ثقة عَسِرٌ فِي الْحَدِيث. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". انتهى "تهذيب التهذيب" 1/ 153 - بزيادة منْ "تهذيب الكمال" 3/ 98 - 102.
روى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، ومسلم، والمصنّف، وأبو داود، له عند المصنّف هَذَا الْحَدِيث فقط.
وقوله: "القاتل والمقتول فِي النار": قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: ليس المراد به هذان، فكيف تصح إرادتهما، مع أنه إنما أخذه ليقتله بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، بل المراد غيرهما، وهو إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فِي المقاتلة المحرمة، كالقتال عصبية، ونحو ذلك، فالقاتل والمقتول فِي النار، والمراد به التعريض، كما ذكرناه، وسبب قوله: ما قدمناه؛ لكون الولي يفهم منه دخوله فِي معناه، ولهذا ترك قتله، فحصل المقصود. والله أعلم. انتهى "شرح مسلم" 11/ 175.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدّم فِي كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى قريبًا ما هو أقرب إلى تأويل الْحَدِيث، فلا تنس. والله تعالى وليّ التوفيق.
وقوله: "فذكرت ذلك لحبيب": القائل هو إسماعيل بن سالم، كما صرّح به مسلم فِي "صحيحه"، وحبيب: هو ابن أبي ثابت -كما صرّح به مسلم أيضًا- واسم أبيه: قيس، ويقال: هند بن دينار، الأسديّ مولاهم، أبو يحيى الكوفيّ، ثقة فقيه جليلٌ، كثير الإرسال والتدليس [3] 121/ 170.
وقوله: "فَقَالَ: حدّثني سعيد بن أشوع الخ": القائل: هو حبيب: أي قَالَ حبيب حدثني سعيد بن أشوع. وقوله: "قَالَ: وذكر الخ" القائل أيضًا هو حبيب: أي قَالَ حبيب: وذكر سعيد بن أشوع أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر الرجل بالعفو، أي فامتنع منه، كما بيّنه مسلم فِي "صحيحه"، ولفظه:"قَالَ إسماعيل بن سالم: فذكرت ذلك لحبيب بن أبي ثابتٍ، فَقَالَ: حدّثني ابن أشوع أن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما سأله أن يعفو عنه، فأبى" انتهى.
والمعنى: أن سبب قوله صلى الله عليه وسلم: "القاتل والمقتول فِي النار" هو امتناع الرجل عن العفو بعد أن ألحّ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم بطلبه.
والحديث أخرجه مسلم، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4732 -
(أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَوْذَبٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَجُلاً أَتَى بِقَاتِلِ وَلِيِّهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اعْفُ عَنْهُ"، فَأَبَى فَقَالَ: "خُذِ الدِّيَةَ"، فَأَبَى، قَالَ: "اذْهَبْ فَاقْتُلْهُ، فَإِنَّكَ مِثْلَهُ"، فَذَهَبَ، فَلُحِقَ الرَّجُلُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "اقْتُلْهُ، فَإِنَّكَ مِثْلَهُ"، فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَمَرَّ بِيَ الرَّجُلُ، وَهُوَ يَجُرُّ نِسْعَتَهُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عيسى بن يونس": هو الفاخُوريّ، أبو موسى الرَّمْليّ، صدوقٌ، ربّما أخطأ [11] 42/ 3177.
[تنبيه]: وقع فِي "الكبرى": "عيسى بن يوسف" بدل "ابن يونس"، وهو غلطٌ،
والصواب: "ابن يونس"، كما هنا، وهو الذي فِي "تحفة الأشراف" 1/ 145 وكذا هو فِي كتب الرجال، كنسخ "التقريب" المصححة، وغيرها، فما كتبه محقق "السنن الكبرى" منْ أن "ابن يونس"، والصواب ما فِي "الكبرى":"ابن يوسف" غلطٌ فاحش، منشؤه تقليد بعض نسخ "تقريب التهذيب" التي وقع فيها التصحيفات الكثيرة، فتنبّه، ولا تكن أسير التقليد، فإنه ملجأ البليد. والله تعالى أعلم.
و"ضَمْرة": هو ابن ربيعة الفلسطينيّ، أبو عبد الله، دمشقيّ الأصل، صدوقٌ يهم قليلاً [9] 41/ 2688. و"عبد الله بن شَوْذب": هو أبو عبد الرحمن الْخُرَاسانيّ، نزيل البصرة، ثم الشام، صدوقٌ عابدٌ [7] 2/ 3904.
وقوله: "فلُحلق الرجلُ" بضم اللام، وكسر الحاء المهملة، مبنيّا للمفعول، و"الرجل" نائب فاعله، والمراد به وليّ المقتول. وقوله:"فخلَّى سبيله" بالبناء للفاعل: أي أطلقه. وتمام شرح الْحَدِيث مضى فِي شرح حديث وائل بن حجر رضي الله عنه الماضي.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أنس رضي الله عنه عنه هَذَا صحيح، أخرجه المصنّف هنا -6/ 4732 - وفي "الكبرى" 6/ 6932. وأخرجه (ق) فِي "الديات" 2691. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4733 -
(أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ خِدَاشٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَتَلَ أَخِي، قَالَ: "اذْهَبْ فَاقْتُلْهُ، كَمَا قَتَلَ أَخَاكَ"، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: اتَّقِ اللَّهَ، وَاعْفُ عَنِّي، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لأَجْرِكَ، وَخَيْرٌ لَكَ وَلأَخِيكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ: فَخَلَّى عَنْهُ، قَالَ فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ لَهُ، قَالَ: فَأَعْنَفَهُ، "أَمَا إِنَّهُ كَانَ خَيْرًا مِمَّا هُوَ صَانِعٌ بِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ: يَا رَبِّ سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي؟ ").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(الحسن بن إسحاق المروزيّ) الليثيّ مولاهم، أبو عليّ الملقّب حسنويه، ثقة شاعر، صاحب حديث [11] 2/ 399 منْ أفراد البخاريّ، والمصنف.
2 -
(خالد بن خِداش) أبو الْهَيثم الْمُهَلَّبيّ مولاهم البصريّ، صدوقٌ يُخطىء [10] 2/ 399.
3 -
(حاتم بن إسماعيل) الحارثيّ، أبو إسماعيل المدنيّ، كوفيّ الأصل، صدوقٌ، صحيح الكتاب، يَهِمُ [8] 24/ 543.
4 -
(بشير بن المهاجر) الغَنَويّ الكوفيّ، صدوقٌ، ليّن الْحَدِيث، ورُمي بالإرجاء [5] 2/ 399.
5 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ) الأسلميّ، أبي سهل المروزيّ، قاضيها، ثقة [3] مات سنة (105) وقيل (115) وله مائة سنة، تقدم فِي 25/ 393.
6 -
(أبوه) بُريدة بن الْحُصَيب -بمهملتين، مصغّرًا- أبو عبد الله الأسلميّ، وقيل: غير ذلك فِي كنيته، صحابيّ أسلم قبل بدر، ومات رضي الله عنه سنة (63) وتقدم فِي 101/ 133. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، ورواية الابن عن أبيه. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ) بريدة بن الْحُصيب رضي الله تعالى عنه (أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَتَلَ أَخِي، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (اذْهَبْ فَاقْتُلْهُ) أي بعد أن اعترف، ويحتمل أنه أوحي إليه بذلك (كَمَا قَتَلَ أَخَاكَ"، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ) أي قَالَ الرجل القاتل لأخي المقتول (اتَّقِ اللَّهَ، وَاعْفُ عَنِّي، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِأَجْرِكَ) أي لأنه سبحانه وتعالى يقول: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} الآية [الشورى: 40](وَخَيْرٌ لَكَ) أي بسبب عفوك لي (وَلِأَخِيكَ) أي بسبب قتلي له؛ لأن منْ قُتل ظلمًا تكفّر خطاياه (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) منصوب عَلَى الظرفيّة، متعلّقٌ بـ"خير"، ويحتمل أن يتعلّق بـ"أعظم" أيضًا عَلَى سبيل التنازع (قَالَ) بريدة رضي الله عنه (فَخَلَّى عَنْهُ) أي تركه (قَالَ) بُريدة رضي الله عنه (فَأُخْبِرَ) بالبناء للمفعول (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ) أي سأل صلى الله عليه وسلم وليّ المقتول عن سبب تخليه عنه (فَأَخْبَرَهُ) الوليّ (بِمَا قَالَ لَهُ) القاتل، منْ ترغيبه له فِي العفو، وترك قتله (قَالَ) بُريدة (فَأَعْنَفَهُ) أي لام النبيّ صلى الله عليه وسلم القاتل، وعاتبه، قَالَ ابن منظور: التعنيف: التوبيخ، والتقريع، واللوم: يقال: أعنفه، وعنّفه. انتهى.
والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم لام ذلك القاتل فِي طلبه العفو منْ وليّ المقتول، وبيّن له أن قتله قصاصًا خير له منْ ذلك عند الله، كما أوضح ذلك بقوله (أَمَا) أداة استفتاح، وتنبيه (إِنَّهُ) أي إن قتله لك قصاصًا (كَانَ خَيْرًا مِمَّا هُوَ) أي المقتول (صَانِعٌ بكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) حيث (يَقُولُ: يَا رَبِّ سَلْ هَذَا) القاتل (فِيمَ قَتَلَنِي؟) أي بأيّ سبب قتلني، فـ "فِي" هنا سببيّة، كما فِي حديث:"دخلت امرأةٌ النار فِي هرّة حبستها" الْحَدِيث.
وهذا الْحَدِيث يدلّ عَلَى أن قتل القاتل قصاصًا خيرٌ له منْ العفو، قَالَ السنديّ رحمه
الله تعالى: وهذه قضيّة أخرى، غير قضيّة صاحب النِّسْعَة، ولعلّه صلى الله عليه وسلم عَلِم بوحي أن القتل فِي حقّ هَذَا القاتل خير بخلاف القاتل فِي الواقعة السابقة. والله تعالى أعلم. انتهى. "شرح السنديّ" 7/ 18. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث بُريدة رضي الله عنه هَذَا حسنٌ، وَقَدْ ضعفه بعضهم، والظاهر أنه بسبب الكلام فِي بشير بن المهاجر، كما سبق أنه ليّن الْحَدِيث، وعندي أن حديثه هَذَا حسنٌ، فقد وثّقه ابن معين، والعجليّ، وَقَالَ المصنّف: ليس به بأس، ويشهد لحديثه هَذَا ما سبق فِي باب "تحريم الدم"، فقد أخرج المصنّف 2/ 3998 - منْ طريق عمرو بن شُرَحبيل، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"يجيء الرجل آخذا بيد الرجل، فيقول: يا رب، هَذَا قتلني، فيقول الله له: لم قتلته؟، فيقول: قتلته لتكون العزة لك، فيقول: فإنها لي، ويجيء الرجل، آخذا بيد الرجل، فيقول: إن هَذَا قتلني، فيقول الله له: لم قتلته؟ فيقول: لتكون العزة لفلان، فيقول: إنها ليست لفلان، فيبوء بإثمه".
وأخرج فِي 4000 - منْ طريق سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنه سئل عمن قتل مؤمنا متعمدًا، ثم تاب، وآمن، وعمل صالحا، ثم اهتدى؟ فَقَالَ ابن عباس: وأَنّى له التوبة؟، سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم، يقول:"يجيء متعلقا بالقاتل، تشخب أوداجه دمًا، فيقول: أي رب سل هَذَا فيم قتلني؟ " الْحَدِيث.
والحاصل أن الْحَدِيث حسنٌ، فتأمّل بإنصاف.
وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -6/ 4733 - وفي "الكبرى" 6/ 6933. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
قَالَ الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير، محمد ابن الشيخ عليّ بن آدم بن موسى الإِتْيُوبيّ الولّويّ، نزيل مكة المكرّمة، عفا الله تعالى عنه وعن والديه ومشايخه آمين:
قد انتهيت منْ كتابة الجزء الخامس والثلاثين منْ شرح سنن الإِمام الحافظ الحجة أبي عبد الرحمن النسائيّ رحمه الله تعالى، المسمّى "ذخيرةَ العُقْبَى فِي شرح المجتبى"، أو "غاية المنى فِي شرح المجتنى".
وذلك بحيّ الزهراء، مخطّط الأمير طلال، فِي مكة المكرمة زادها الله تعالى تشريفًا
وتعظيمًا، وجعلني منْ خيار أهلها حيًّا وميتًا، وأَعْظِمْ به تكريمًا.
وأخر دعوانا {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} .
"اللَّهم صلّ عَلَى محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت عَلَى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللَّهم بارك عَلَى محمد، وعلى آل محمد، كما باركت عَلَى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
"السلام عليك أيها النبيّ، ورحمة الله، وبركاته".
ويليه -إن شاء الله تعالى- الجزء السادس والثلاثون مفتتحًا بالباب 7 - "تأويل قول الله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} الآية" الْحَدِيث رقم 4734.
"سبحانك اللَّهمّ، وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".
***