المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

شرح سنن النسائي المسَمَّى ذخيرة العقبى في شرح المجتبى لجامعة الفقير إلى مولاه الغني - ذخيرة العقبى في شرح المجتبى - جـ ٣٦

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

شرح

سنن النسائي

المسَمَّى

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى

لجامعة الفقير إلى مولاه الغني القدير

محمد ابن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى الأتيوبي الوَلَّوِي

المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة

عفا الله عنه وعن والديه آمين

الجُزْءُ السادس والثلاثون

ص: 1

جميع الحقوق محفوظة

الطبعة الأولى

1424 هـ - 2003 م

دَار آل بروم للنشر والتوزيع

المملكة العربية السعودية - مكة المكرمة - المكتب الرئيسي التنعيم

صَ بُ: 4145 - (تلفاكس 5211576 - جوال 055541026)

ص: 2

شرح

سنن النسائيّ

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 4

‌7 - (تَأْوِيلُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}

[المائدة: 42]

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قَالَ الإِمام ابن كثير رحمه الله تعالى فِي "تفسيره" 2/ 62 - : ما حاصله: قَالَ الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَإِنْ جَاءُوكَ} : أي يتحاكمون إليك {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا} : أي فلا عليك أن لا تحكم بينهم؛ لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق، بل ما يوافق أهواءهم، قَالَ ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والسدي، وزيد بن أسلم، وعطاء الخرساني، والحسن، وغير واحد: هي منسوخة بقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}: أي بالحق والعدل، وإن كانوا ظَلَمَةً خارجين عن طريق العدل {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42]، ثم قَالَ تعالى، منكرا عليهم آرائهم الفاسدة، ومَقاصدهم الزائغة، فِي تركهم ما يعتقدون صحته منْ الكتاب الذي بأيديهم، الذي يزعمون أنهم مأمورن بالتمسك به أبدا، ثم خرجوا عن حكمه، وعدلوا إلى غيره، مما يعتقدون فِي نفس الأمر بطلانه، وعدم لزومه لهم، فَقَالَ:{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة: 43]، ثم مدح التوراة التي أنزلها عَلَى عبده ورسوله موسى ابن عمران عليه السلام، فَقَالَ:{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} : أي لا يخرجون عن حكمها، ولا يبدلونها، ولا يحرفونها {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ}: أي وكذلك الربانيون، وهم العلماء العباد، والأحبار وهم العلماء {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ}: أي بما استودعوا منْ كتاب الله، الذي أُمروا أن يُظهروه، ويعملوا به {وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا}: أي لا تخافوا منهم، وخافوا مني {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]. انتهى "تفسير ابن كثير 2/ 62.

‌8 - (ذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى عِكْرِمَةَ فِي ذَلِكَ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وجه الاختلاف المذكور أن سماك بن حرب روى قصّة قريظة والنضير أنه إذا قَتَل قُرَظيّ نضريّا يُقتصّ منه، وإذا قتل نضيريّ قُرظيّا دفع

ص: 5

لأوليائه مائة وسق، وخالفه داود بن الحصين فروى القصّة فِي الدية أنها تكون كاملة للنضير، ونصفًا لقريظة، ولكن الظاهر أنه لا اختلاف بين الروايتين، وإنما روى كلّ منهما بعض القصّة، وسكت عن بعضها، فلا تعارض، وحاصله أن النضير كانوا يفضّلون عَلَى قريظة، فِي كلّ منْ القصاص، والدية، فأمر الله عز وجل نبيّه صلى الله عليه وسلم إذا تحاكموا إليه أن يحكم بينهم بالتسوية، فَقَالَ: تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} الآية، وأنزل الله سبحانه وتعالى إنكارًا عليهم، وتوبيخًا، وتقريعًا لهم:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} الآية [المائدة: 50]. والله تعالى أعلم.

4734 -

(أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَلِيٌّ، وَهُوَ ابْنُ صَالِحٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ، وَكَانَ النَّضِيرُ أَشْرَفَ مِنْ قُرَيْظَةَ، وَكَانَ إِذَا قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْظَةَ، رَجُلاً مِنَ النَّضِيرِ، قُتِلَ بِهِ، وَإِذَا قَتَلَ رَجُلٌ مِنَ النَّضِيرِ، رَجُلاً مِنْ قُرَيْظَةَ، أَدَّى مِائَةَ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، قَتَلَ رَجُلٌ مِنَ النَّضِيرِ، رَجُلاً مِنْ قُرَيْظَةَ، فَقَالُوا: ادْفَعُوهُ إِلَيْنَا نَقْتُلْهُ، فَقَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَوْهُ، فَنَزَلَتْ: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} وَالْقِسْطُ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، ثُمَّ نَزَلَتْ: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة: 50]).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(القاسم بن زكريّا بن دينار) أبو محمد الكوفيّ الطحّان، وربّما نُسب لجده، ثقة [11] 8/ 410.

2 -

(عبيد الله بن موسى) بن أبي المختار باذام العبسيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقة، كَانَ يتشيّع [9] 72/ 1326.

3 -

(عليّ بن صالح) بن صالح بن حيّ الهمدانيّ، أبو محمد الكوفيّ، أخو حسن، ثقة عابد [7] 192/ 307.

4 -

(سماك) بن حرب بن أوس بن خالد الذهليّ البكري، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوق، وروايته عن عكرمة خاصّة مضطربة، وَقَدْ تغيّر بآخره، فكان ربما يُلقّن [4] 2/ 325.

5 -

(عكرمة) مولى ابن عبّاس، أبو عبد الله الْبَربريّ، ثقة ثبت، عالم بالتفسير [3] 2/ 325.

6 -

(ابن عباس) عبد الله رضي الله تعالى عنهما 27/ 31. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين إلى سماك، والباقيان مدنيان.

ص: 6

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: كَانَ قُرَيْظَةُ) بصيغة التصغير (وَالنَّضِيرُ) بفتح النون، بوزن أمير. وخبر "كَانَ" محذوف: أي فِي المدينة، أو بينهما فرقٌ فِي الشرف، ونحو ذلك. قاله السنديّ.

وَقَالَ ابن منظور: بنو قُريظة: حيّ منْ يهود خيبر، وهم والنضير قبيلتان منْ يهود خيبر، وَقَدْ دخلوا فِي العرب عَلَى نَسَبهم إلى هارون أخي موسى، عليهما السلام، منهم محمد بن كعب الْقُرَظيّ، قَالَ: فأما بنو قُريظة، فإنهم أُبيروا؛ لنقضهم العهد، ومُظاهرتهم المشركين عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أَمر بقتل مقاتلهم، وسَبْي ذراريهّم، واستفاءة أموالهم. وأما بنو النضير، فإنهم أُجْلُوا إلى الشام، وفيهم نزلت "سورة الحشر". انتهى (وَكَانَ النَّضِيرُ أَشْرَفَ مِنْ قُرَيْظَةَ، وَكَانَ) اسمها ضمير الشأن، وهو ما تفسّره الجملة التي بعده، وهي قوله:(إِذَا قَتَلَ) بالبناء للفاعل (رَجُلٌ مِنْ قُرَيْظَةَ رَجُلاً مِنَ النَّضِيرِ، قُتِلَ بِهِ) بالبناء للمفعول (وَإِذَا قَتَلَ رَجُلٌ مِنَ النَّضِيرِ، رَجُلاً مِنْ قُرَيْظَةَ، أَدَّى) بفتح الهمزة، مبنيّا للفاعل: أي دفع لأولياء المقتول (مِائَةَ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ) بفتح الواو، وسكون السين المهملة، وكسر الواو لغةٌ: وهو ستّون صاعًا (فَلَمَّا بُعِثَ) بالبناء للمفعول (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، قَتَلَ رَجُلٌ مِنَ النَّضِيرِ، رَجُلاً مِنْ قُرَيْظَةَ، فَقَالُوا) أي قالت قريظة (ادْفَعُوهُ إِلَيْنَا) أي القاتل (نَقْتُلْهُ) بالجزم عَلَى أنه جواب الأمر، ويجوز رفعه عَلَى الاستئناف (فَقَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أي قالت بنو قريظة لَمّا أبى النضير دفع القاتل إليهم، جريًا عَلَى العادة السالفة (فَأَتَوْهُ) أي أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ ليحكم بينهم فِي هذه القضيّة الجائرة (فَنَزَلَتْ:{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42]) بكسر، فسكون: أي العدل، والمراد به هنا، ما بيّنه بقوله (وَالْقِسْطُ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ) أي قتل النفس بسبب قتلها النفس (ثُمَّ نَزَلَتْ:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة: 50]) أي الحكم الذي سبق بيانه آنفًا، منْ كون النضير يقتصّون منْ قريظة، ولا تقتصّ قريظة منهم، بل يدفعون لها وسق تمر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح.

ص: 7

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده سماك بن حرب، وهو مضطرب فِي حديث عكرمة؟.

[قلت]: إنما صحّ بالحديث الذي بعده.

[فإن قلت]: فيه أيضًا داود بن حُصين، وَقَدْ تكلّموا فِي حديثه عن عكرمة أيضًا.

[قلت]: الإسنادان يشدّ أحدهما الآخر، فيصحّان. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -7/ 4734 و4735 - وفي "الكبرى" 7/ 6934 و6935. وأخرجه (د) فِي "الديات" 4494. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان تأويل الآية، وهو واضحٌ. (ومنها): بيان ما كَانَ عليه اليهود منْ الظلم العريق حَتَّى بين أبناء جنسهم، فقد بيّن الله سبحانه وتعالى فِي كتابه العزيز، كيف كَانَ يظلم كبيرهم صغيرهم، ويبخسونهم حقهم، وَقَدْ حرّم الله سبحانه وتعالى ذلك عليهم فيما أنزله منْ التوراة، ولكنهم قوم مجرمون، فما يقع منهم منْ ظلم المسلمين فِي كل عصر ومصر غير مستنكر؛ لأنه ديدنهم عَلَى مدى العصور، والتواريخ القديمة، اللَّهم اكف المسلمين شرّهم، وردّ كيدهم عَلَى نحورهم، فلا حول ولا قوّة إلا بك، إنك عَلَى كلّ شيء قدير. (ومنها): أن الله تعالى خيّر نبيّه صلى الله عليه وسلم بين أن يحكم بينهم، أو يُعرض عنهم، وَقَدْ اختلف العلماء فِي ذلك، وسنبيّنه، فِي المسألة التالية إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي قوله عز وجل: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} :

قَالَ أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله تعالى فِي "تفسيره" 6/ 184: قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} : هَذَا تخيير منْ الله تعالى، ذكره القشيري، وتقدم معناه أنهم كانوا أهل موادعة، لا أهل ذمة، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا قدم المدينة وادع اليهود، ولا يجب علينا الحكم بين الكفار، إذا لم يكونوا أهل ذمة، بل يجوز الحكم إن أردنا، فأما أهل الذمة، فهل يجب علينا الحكم بينهم، إذا ترافعوا إلينا، قولان للشافعي، وإن ارتبطت الخصومة بمسلم يجب الحكم، قَالَ المهدوي: أجمع العلماء عَلَى أن عَلَى الحاكم أن يحكم بين المسلم والذمي، واختلفوا فِي الذميين، فذهب بعضهم إلى أن الآية محكمة، وأن الحاكم مخير، رُوي ذلك عن النخعي، والشعبي، وغيرهما، وهو مذهب مالك، والشافعي، وغيرهما، سوى ما رُوي عن مالك فِي ترك إقامة الحد عَلَى

ص: 8

أهل الكتاب فِي الزنى، فإنه إن زنى المسلم بالكتابية حُدَّ، ولا حَدَّ عليها، فإن كَانَ الزانيان ذميين، فلا حد عليهما، وهو مذهب أبي حنيفة، ومحمد بن الحسن، وغيرهما. وَقَدْ رُوي عن أبي حنيفة أيضا أنه قَالَ: يجلدان، ولا يرجمان. وَقَالَ الشافعيّ، وأبو يوسف، وأبو ثور، وغيرهم: عليهما الحد، إن أتيا راضيين بحكمنا، قَالَ ابن خُويزمنداد: ولا يرسل الإِمام إليهم، إذا استَعْدَى بعضهم عَلَى بعض، ولا يُحضر الخصم مجلسه، إلا أن يكون فيما يتعلق بالمظالم التي ينتشر منها الفساد، كالقتل، ونهب المنازل، وأشباه ذلك، فأما الديون، والطلاق، وسائر المعاملات فلا يحكم بينهم، إلا بعد التراضي، والاختيارُ له ألا يحكم، ويَرُدَّهم إلى حكامهم، فإن حكم بينهم حكم بحكم الإِسلام، وأما إجبارهم عَلَى حكم المسلمين، فيما ينتشر منه الفساد، فليس عَلَى الفساد عاهدناهم، وواجب قطع الفساد عنهم منهم، ومن غيرهم؛ لأن فِي ذلك حفظ أموالهم ودمائهم، ولعل فِي دينهم استباحة ذلك، فينتشر منه الفساد بيننا، ولذلك منعناهم أن يبيعوا الخمر جهارًا، وأن يظهروا الزنى، وغير ذلك منْ القاذورات؛ لئلا يَفسُد بهم سفهاء المسلمين.

وأما الحكم فيما يختص به دينهم، منْ الطلاق، والزنى، وغيره، فليس يلزمهم أن يتدينوا بديننا، وفي الحكم بينهم بذلك إضرار بحكامهم، وتغيير ملتهم، وليس كذلك الديون، والمعاملات؛ لأن فيها وجها منْ المظالم، وقطع الفساد. والله أعلم.

وفي الآية قول ثان: وهو ما رُوي عن عمر بن عبد العزيز، والنخعي أيضا: أن التخيير المذكور فِي الآية منسوخ، بقوله تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، وأن عَلَى الحاكم أن يحكم بينهم، وهو مذهب عطاء الخراساني، وأبي حنيفة، وأصحابه، وغيرهم. وروي عن عكرمة أنه قَالَ:{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} نسختها آية أخرى، {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}. وَقَالَ مجاهد: لم يُنسخ منْ المائدة إلا آيتان: قوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} ، نسختها:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، وقوله:{لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} نسختها: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} . وَقَالَ الزهريّ: مضت السنة أن يُرَدّ أهل الكتاب فِي حقوقهم ومواريثهم، إلى أهل دينهم، إلا أن يأتوا راغبين فِي حكم الله، فيحكم بينهم بكتاب الله، قَالَ السمرقندي: وهذا القول يوافق قول أبي حنيفة: إنه لا يحكم بينهم ما لم يتراضوا بحكمنا. وَقَالَ النحاس فِي "الناسخ والمنسوخ" له: قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} منسوخ؛ لأنه إنما نزل أول ما قَدِمَ النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، واليهود فيها يومئذ كثير، وكان الأدعى لهم، والأصلح أن يُرَدُّوا إلى أحكامهم، فلما قَوِي الإِسلام، أنزل الله عز

ص: 9

وجل: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، وقاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والزهري، وعمر بن عبد العزيز، والسُّدِّيّ، وهو الصحيح منْ قول الشافعيّ، قَالَ فِي "كتاب الجزية": ولا خيار له إذا تحاكموا إليه؛ لقوله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} ، قَالَ النحاس: وهذا منْ أصح الاحتجاجات؛ لأنه إذا كَانَ معنى قوله: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أن تجرى عليهم أحكام المسلمين، وجب ألا يُرَدُّوا إلى أحكامهم، فإذا وجب هَذَا، فالآية منسوخة، وهو أيضا قول الكوفيين: أبي حنيفة، وزفر، وأبي يوسف، ومحمد، لا اختلاف بينهم إذا تحاكم أهل الكتاب إلى الإِمام، أنه ليس له أن يُعرِض عنهم، غير أن أبا حنيفة قَالَ: إذا جاءت المرأة والزوج، فعليه أن يحكم بينهما بالعدل، وإذا جاءت المرأة وحدها، ولم يرض الزوج لم يحكم. وَقَالَ الباقون: يحكم، فثبت أن قول أكثر العلماء، أن الآية منسوخة، مع ما ثبت فيها منْ توقيف ابن عباس، ولو لم يأت الْحَدِيث عن ابن عباس، لكان النظر يوجب أنها منسوخة؛ لأنهم قد أجمعوا، أن أهل الكتاب إذا تحاكموا إلى الإِمام، فله أن ينظر بينهم، وأنه إذا نظر بينهم مصيب عند الجماعة، وألا يعرض عنهم، فيكون عند بعض العلماء تاركا فرضا، فاعلا ما لا يحل له، ولا يسعه. قَالَ النحاس: ولمن قَالَ بأنها منسوخة منْ الكوفيين، قول آخر: منهم منْ يقول: عَلَى الإِمام إذا علم منْ أهل الكتاب حَدًّا منْ حدود الله عز وجل، أن يقيمه، وإن لم يتحاكموا إليه، ويحتج بأن قول الله عز وجل:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ} يحتمل أمرين: [أحدهما]: وأن احكم بينهم إذا تحاكموا إليك، والآخر وأن احكم بينهم، وإن لم يتحاكموا إليك، إذا علمت ذلك منهم، قالوا: فوجدنا فِي كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يوجب إقامة الحق عليهم، وإن لم يتحاكموا إلينا، فأما ما فِي كتاب الله، فقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} الآية [النِّساء: 135]، وأما ما فِي السنة، فحديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما، قَالَ: مُرَّ عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي، قد جُلِد، وحُمِّمَ، فَقَالَ:"أهكذا حد الزاني عندكم؟ "، فقالوا: نعم، فدعا رجلا منْ علمائهم، فَقَالَ:"سألتك بالله، أهكذا حد الزاني فيكم؟ "، فَقَالَ: لا، الْحَدِيث.

قَالَ النحاس: فاحتجوا بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم حكم بينهم، ولم يتحاكموا إليه فِي هَذَا الْحَدِيث.

[فإن قَالَ قائل]: ففي حديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن اليهود أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم. [قيل لهم]: ليس فِي حديث مالك أيضا، أن الذين زنيا رضيا بالحكم، وَقَدْ رجمهما النبيّ صلى الله عليه وسلم.

ص: 10

قَالَ أبو عمر بن عبد البر: لو تدبر منْ احتج بحديث البراء، لم يحتج؛ لأن فِي دَرْج الْحَدِيث تفسير قوله عز وجل:{إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} ، يقول: إن أفتاكم بالجلد والتحميم فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، دليل عَلَى أنهم حَكَّمُوه، وذلك بَيِّنٌ فِي حديث ابن عمر وغيره.

[فإن قَالَ قائل]: ليس فِي حديث ابن عمر، أن الزانيين حَكَّما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا رضيا بحكمه.

[قيل له]: حَدُّ الزاني حَقّ منْ حقوق الله تعالى، عَلَى الحاكم إقامته، ومعلوم أن اليهود كَانَ لهم حاكم يحكم بينهم، ويقيم حدودهم عليهم، وهو الذي حَكَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. انتهى "الجامع لأحكام القرآن" 6/ 184 - 187.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن القول بوجوب الحكم بينهم إذا جاءوا هو الأرجح؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كَانَ إذا جاءوا إليه يحكم، ولم يثبت أنه ألزمهم بالترافع إليه دائمًا، بل كانوا يتحاكمون فيما بينهم، والنبيّ صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، ولم يأمره الله تعالى بنقض ذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4735 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنِي دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ الآيَاتِ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ، الَّتِي قَالَهَا اللَّهُ عز وجل: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} إِلَى {الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الدِّيَةِ بَيْنَ النَّضِيرِ وَبَيْنَ قُرَيْظَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ قَتْلَى النَّضِيرِ، كَانَ لَهُمْ شَرَفٌ، يُودَوْنَ الدِّيَةَ كَامِلَةً، وَأَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ كَانُوا يُودَوْنَ نِصْفَ الدِّيَةِ، فَتَحَاكَمُوا فِي ذَلِكَ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل ذَلِكَ فِيهِمْ، فَحَمَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْحَقِّ فِي ذَلِكَ، فَجَعَلَ الدِّيَةَ سَوَاءً).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.

و"عبيد الله بن سعد": هو الزهريّ، أبو الفضل البغداديّ، قاضي أصبهان، ثقة [11] 17/ 480. و"عمه": هو يعقوب بن إبراهيم الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة فاضل، منْ صغار [9] 196/ 314. و"أبوه": هو إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة حجة [8] 196/ 314. و"ابن إسحاق": هو محمد أبو بكر المطّلبي إمام المغازي، المدنيّ، نزيل العراق، صدوقٌ، يدلّس، ورُمي بالتشيّع والقدر، منْ صغار [5] 5/ 480. و"داود بن الحصين": هو الأمويّ مولاهم، أبو سليمان المدنيّ، ثقة، إلا فِي عكرمة،

ص: 11

ورُمي برأي الخوارج [6] 20/ 1226.

وقوله: "يُودَون" بضم أوله، وفتح ثالثه، مبنيّا للمفعول، منْ الدية: أي يُعطَون كامل الدية. وقوله: "فحملهم الخ": أي ألزمهم العمل بالحقّ فِي هَذَا الأمر. وقوله: "فجعل الدية سواءً": بيان لمعنى حمله صلى الله عليه وسلم.

والحديث صحيحٌ، وَقَدْ سبق تمام البحث فيه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌9 - (بَابُ الْقَوَدِ بَيْنَ الأَحْرَارِ، وَالْمَمَالِيكِ فِي النَّفْسِ)

4736 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ، قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَالأَشْتَرُ إِلَى عَلِيٍّ رضى الله عنه، فَقُلْنَا: هَلْ عَهِدَ إِلَيْكَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا، لَمْ يَعْهَدْهُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً؟، قَالَ: لَا، إِلاَّ مَا كَانَ فِي كِتَابِي هَذَا، فَأَخْرَجَ كِتَابًا مِنْ قِرَابِ سَيْفِهِ، فَإِذَا فِيهِ: "الْمُؤْمِنُونَ تَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، أَلَا لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ بِعَهْدِهِ، مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَعَلَى نَفْسِهِ، أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ").

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن المثنّى) بن عبيد، أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ المعروف بالزمِن، ثقة ثبت [10] 64/ 80.

2 -

(يحيى بن سعيد) القطّان البصريّ الإِمام الحجة الثبت [9] 4/ 4.

3 -

(سعيد) بن أبي عروبة مِهْران، أبو النضر البصريّ، ثقة حافظ، كثير التدليس، واختلط، وكان منْ أثبت النَّاس فِي قتادة [6] 34/ 38.

4 -

(قتادة) بن دعامة السدوسيّ البصريّ، ثقة ثبت يدلس [4] 30/ 34.

5 -

(الحسن) بن أبي الحسن يسار البصريّ الإِمام الحجة الثبت الفقيه، لكنه يدلس

ص: 12

ويرسل [3] 32/ 36.

6 -

(قيس بن عُباد) -بضمّ العين المهملة، وتخفيف الموحّدة الضُّبَعيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقة مخضرم [2] 23/ 808.

7 -

(علي) بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه 74/ 91. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه ثلاثة منْ التابعين البصريين يروي بعضهم عن بعض: قتادة، عن الحسن، عن قيس. (ومنها): أن صحابيه أحد الخلفاء الأربعة، والعشرة المبشرين بالجنة، وزوج فاطمة الكبرى رضي الله تعالى عنهما. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ) الضُّبَعي البصريّ المتوفَّى بعد الثمانين، ووهم منْ عدّه فِي الصحابة، أنه (قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَالْأَشْتَرُ) -بالمعجمة الساكنة، والمثنّاة المفتوحة، اسمه مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلمة بن ربيعة بن الحارث بن جُذيمة بن سعْد بن مالك بن النَّخَع النخعيّ المخضرم، نزل الكوفة، بعد أن شَهِد اليرموك وغيرها، وولّاه عليّ رضي الله عنه مصر، فمات قبل أن يدخلها، سنة (87 هـ).

وفي "تهذيب التهذيب" 4/ 9 - 10: أدرك الجاهلية، وروى عن عمر، وعلي، وخالد ابن الوليد، وأبي ذر، وأم ذر. وعنه ابنه إبراهيم، وأبو حسان الأعرج، وكنانة مولى صفية، وعبد الرحمن بن يزيد، وعلقمة بن قيس، ومخرمة بن ربيعة النخعيون، وعمرو بن غالب الهمداني. وذكره ابن سعد فِي الطبقة الأولى منْ تابعيّ أهل الكوفة، قَالَ: وكان منْ أصحاب علي رضي الله عنه، وشهد معه الْجَمَل، وصِفِّين، ومشاهده كلها، قَالَ: وولاه عَلَى مصر، فلما كَانَ بالْقُلْزُم شرب شربة عسل فمات. وَقَالَ العجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، قَالَ: شَهِدَ اليرموك، فذهبت عينه يومئذ، وكان رئيس قومه، وكان ممن يسعى فِي الفتنة، وألبّ عَلَى عثمان، وشهد حصره. قَالَ ابن يونس: ولاه علي مصر، بعد قيس بن سعد بن عبادة، فسار حَتَّى بلغ القلزم فمات بها، يقال: مسموما فِي شهر رَجَب، سنة سبع وثلاثين، ورُوي أن عليا نعاه إلى قومه، وأثنى عليه ثناءً حسنا. وَقَالَ مُهَنا: سألت أحمد عن الأشتر يُروَى عنه الْحَدِيث؟ قَالَ: لا. انتهى. قَالَ الحافظ: ولم يرد أحمد بذاك تضعيفه، وإنما نفى أن تكون له رواية،

ص: 13

وَقَدْ وقع له ذكر فِي ضمن أثر علقه البخاريّ فِي "صلاة الخوف"، قَالَ: قَالَ الوليد: ذكرت للأوزاعي صلاة شُرَحبيل بن السِّمْط، وأصحابه عَلَى ظهر الدابة، فَقَالَ كذلك الأمر عندنا، إذا تخوف الفوت. انتهى. وهنا الأثر رواه عمرو بن أبي سلمة، عن الأوزاعي، قَالَ: قَالَ شرحبيل بن السمط لأصحابه: لا تصلوا صلاة الصبح إلا عَلَى ظهر، فنزل الأشتر فصلى عَلَى الأرض، فأنكر عليه شرحبيل، وكان الأوزاعي يأخذ بهذا فِي طلب العدو. انتهى. تفرّد المصنّف

(1)

بذكره فِي هَذَا الموضع فقط.

(إِلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه، فَقُلْنَا: هَلْ عَهِدَ) بكسر الهاء، يقال: عَهِد إليه يَعْهَد، منْ باب تعِب: إذا أوصاه: أي هل أوصى (إِلَيْكَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا، لَمْ يَعْهَدْهُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً؟) وَقَدْ سأله هذه المسألة أبو جحيفة رضي الله عنه فقد أخرج المصنّف، كما سيأتي بعد ثلاثة أبواب بسنده عن الشعبيّ، قَالَ: سمعت أبا جحيفة رضي الله عنه يقول: سألنا عليّا رضي الله عنه، فقلنا: هل عندكم منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء سوى القرآن، فَقَالَ: لا، والذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة، إلا أن يُعطي الله عز وجل عبدًا فهما فِي كتابه، أو ما فِي هذه الصحيفة .... " الْحَدِيث.

قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: الخطاب لعليّ رضي الله عنه، والجمع إما لإرادته مع بقيّة أهل البيت، أو للتعظيم.

وإنما سأله أبو جحيفة رضي الله عنه عن ذلك؛ لأن جماعة منْ الشيعة، كانوا يزعمون أن لأهل البيت لاسيما علي رضي الله عنه أشياء، خصّهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بها، لم يُطلع غيرهم عليها.

وَقَالَ الشوكانيّ: والظاهر أن المسؤول عنه هنا، ما يتعلق بالأحكام الشرعية، منْ الوحي الشامل للكتاب والسنة، فإن الله سبحانه سماها وحيا، إذا فُسِّر قوله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] بما هو أعم منْ القرآن، ويدل عَلَى ذلك قوله:"وما فِي هذه الصحيفة"، فإن المذكور فيها ليس منْ القرآن، بل منْ أحكام السنة.

قَالَ: فلا يلزم منه نفي ما ينسب إلى علي رضي الله عنه، منْ علم الجفر ونحوه، أو يقال: هو مندرج تحت قوله: "إلا فهما يعطيه الله تعالى رجلا فِي القرآن"، فإنه ينسب إلى كثير ممن فتح الله عليه بأنواع العلوم، أنه يستنبط ذلك منْ القرآن.

ومما يدل عَلَى اختصاص علي بشيء منْ الأسرار، دون غيره: حديث الْمُخْدَج المقتول منْ الخوارج يوم النَّهْرَوان، كما فِي "صحيح مسلم"، و"سنن أبي داود"، فإنه قَالَ يومئذ:"التمسوا فيهم المخدج"، يعني فِي القتلى، فلم يجدوه، فقام الإِمام علي بنفسه حَتَّى أتى أناسا، قد قُتل بعضهم عَلَى بعض، فَقَالَ: "أخرجوهم، فوجدوه مما يلي الأرض، فكبر، وَقَالَ: صدق الله، وبلغ رسوله صلى الله عليه وسلم، فقام إليه عَبِيدة السلماني،

(1)

وكذا ذكره البخاريّ فِي "صلاة الخوف" كما مر آنفًا.

ص: 14

فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، والله الذي لا إله إلا هو، فقد سمعت هَذَا منْ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟، قَالَ: إي والله الذي لا إله إلا هو، حَتَّى استحلفه ثلاثا، وهو يحلف.

والمخدج المذكور: هو ذو الثُّدَيّة، وكان فِي يده مثل ثدي المرأة، عَلَى رأسه حلمة، مثل حلمة الثدي، عليه شعرات، مثل سبالة السِّنَّور. انتهى كلام الشوكانيّ.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: دعوى علم الجفر لعليّ رضي الله عنه، كما هو ظاهر سياق الشوكانيّ، فيه نظر لا يخفى، فإنه مما لا دليل عليه، وكذا قوله: ومما يدلّ عَلَى اختصاص عليّ رضي الله عنه الخ فيه نظر، فإن هَذَا قد وُجد لغيره أيضًا، فقد خصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حُذيفة بكثير منْ الأسرار، كالعلم بأسماء المنافقين، وغيره، فقد كَانَ رضي الله عنه أعلم بهذا منْ عليّ رضي الله عنه، ومن غيره، منْ الصحابة، كما لا يخفى ذلك عَلَى منْ يطالع كتب السنّة المطهّرة. والله تعالى أعلم.

(قَالَ) عليّ رضي الله عنه (لَا) أي لم يعهد إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا لم يعهده إلى عامّة النَّاس. وفي حديث أبي جُحيفة المذكور: "لا والذي فَلَقَ الحبّة، وبرَأَ النسَمَة"(إِلَّا مَا كَانَ فِي كِتَابِي هَذَا) قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: لا يخفى أن ما فِي كتابه ما كَانَ منْ الأمور المخصوصة به، فالاستثناء إما بملاحظة الكتاب، فكأنه صلى الله عليه وسلم خصّ عليّا بأن أمره أن يكتُب دون غيره، أو لبيان نفي الاختصاص بأبلغ وجه: أي لو كَانَ شيء خصّنا به لكان ما فِي كتابي، لكن الذي فِي كتابي ليس مما خصّنا به، فما خصّنا بشيء، والله تعالى أعلم. انتهى "شرح السنديّ" 7/ 19.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الثاني هو الأظهر، فمراد عليّ رضي الله عنه بهذا الكلام نفي كونه صلى الله عليه وسلم خصّه، وأهل بيته بشيء منْ الأسرار، كما تزعمه الشيعة، فأتى لإفادة نفي هَذَا الزعم الباطل بهذه العبارة عَلَى وجه المبالغة. والله تعالى أعلم.

وفي حديث أبي جحيفة رضي الله عنه عند البخاريّ: "إلا كتاب الله، أو فهمٌ أُعطيه رجلٌ مسلم، أو ما فِي هذه الصحيفة".

قَالَ فِي "الفتح" 14/ 276: قوله: "إلا كتاب الله" بالرفع، وَقَالَ ابن المنيّر: فيه دليلٌ عَلَى أنه كَانَ عنده أشياء مكتوبة منْ الفقه المستنبط منْ كتاب الله، وهي المرادة بقوله:"أو فهم أُعطيه رجلٌ"؛ لأنه ذكر بالرفع، فلو كَانَ الاستثناء منْ غير الجنس لكان منصوبًا. قَالَ الحافظ: كذا قَالَ، والظاهر أن الاستثناء فيه منقطع، والمراد بذكر الفهم إثبات إمكان الزيادة عَلَى ما فِي الكتاب. وَقَدْ رواه البخاريّ فِي "الديات" بلفظ:"ما عندنا إلا فِي القرآن، إلا فهمًا يُعطى رجلٌ منْ الكتاب"، فالاستثناء الأول مفرّغٌ، والثاني

ص: 15

منقطعٌ، معناه لكن إن أَعطى الله رجلاً فهمًا فِي كتابه، فهو يقدر عَلَى الاستنباط، فتحصل عنده الزيادة بذلك الاعتبار. وَقَدْ روى أحمد بإسناد حسن، منْ طريق طارق بن شهاب، قَالَ: شهِدتُ عليًّا عَلَى المنبر، وهو يقول:"والله ما عندنا كتاب نقرأه عليكم إلا كتاب الله، وهذه الصحيفة"، وهو يؤيّد ما قلناه: إنه لم يُرد بالفهم شيئًا مكتوبًا. انتهى كلام الحافظ.

وسيأتي للمصنّف بعد ثلاثة أبواب عن أبي حسّان الأعرج، عن الأشتر، أنه قَالَ لعليّ رضي الله عنه: إن النَّاس قد تفشّغ

(1)

بهم ما يسمعون، فإن كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليك عهدًا، فحدّثنا به، قَالَ: ما عهد إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدًا، لم يعهده إلى النَّاس .. الْحَدِيث.

(فَأَخْرَجَ كِتَابًا مِنْ قِرَابِ سَيْفِهِ) بكسر القاف، وتخفيف الراء: هو وعاء يكون فيه السيف بغِمْده، وحمائله (فَإِذَا) هي "إذا" الفُجائيّة (فِيهِ:"الْمُؤْمِنُونَ تَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ) أي تتساوى دماؤهم فِي القصاص، والديات، والكفء: النظير، والمساوي، ومنه الكفاءة فِي النكاح، والمراد أنه لا فرق بين الشريف والوضيع فِي الدم، بخلاف ما كَانَ عليه الجاهليّة، منْ المفاضلة، وعدم المساواة. قاله فِي "النيل" 7/ 14.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا محلّ الترجمة، فقد أخذ منه المصنّف رحمه الله تعالى أن الحرّ يُقتل بالعبد؛ لمساواة الدماء، وفيه خلاف بين العلماء، سيأتي تحقيقه قريبًا، إن شاء الله تعالى.

(وَهُمْ يَدٌ) أي قوّة (عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ) أي هم مجتمعون عَلَى أعدائهم، لا يسعهم التخاذل، بل يُعاون بعضهم بعضًا عَلَى جميع الأديان والملل، كأنه جعل أيديهم يدًا واحدةً، وفعلَهم فعلاً واحدًا. قاله فِي "النهاية" 5/ 293.

وَقَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: "وهم يد": أي اللائق بحالهم أن يكونوا كيد واحدة فِي التعاون، والتعاضد عَلَى الأعداء، فكما أن اليد الواحدة لا يمكن أن يميل بعضها إلى جانب، وبعضها إلى آخر، فكذلك اللائق بشأن المؤمنين. انتهى "شرح السنديّ" 7/ 20.

(وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ) قَالَ فِي "النهاية" 2/ 168 - : الذمّة، والذّمام: بمعنى: العهد، والأمان، والضمان، والحرمة، والحق: أي إذا أعطى أحدٌ لجيش العدوّ أمانًا جاز ذلك عَلَى جميع المسلمين، وليس لهم أن يُخْفِرُوه، ولا أن ينقضوا عليه عهده. انتهى.

(1)

أي فشا، وانتشر فيهم.

ص: 16

وَقَالَ السنديّ: أي ذمّتهم فِي يد أقلّهم عددًا، وهو الواحد، أو أسفلهم رُتْبةً، وهو العبد، يمشي به، يَعقده لمن يرى منْ الكفرة، فإذا عقد حصل له الذمّة منْ الكلّ انتهى.

ودخل فِي قوله: "أدناهم": كلّ وضيع بالنصّ، وكلّ شريف بالفحوى، فدخل فِي أدناهم المرأة، والعبد، والصبيّ، والمجنون. قاله فِي "الفتح" 6/ 410.

وَقَالَ الشوكانيّ: يعني أنه إذا أمن المسلم حربيّا، كَانَ أمانه أمانًا منْ جميع المسلمين، ولو كَانَ ذلك المسلم امرأةً، بشرط أن يكون مكلّفًا، فيحرم النكث منْ أحدهم بعد أمانه. "نيل الأوطار" 7/ 14. وسيأتي بيان اختلاف العلماء فِي أمان المرأة، والعبد، ونحوهما قريبًا، إن شاء الله تعالى.

(أَلَا) أداة استفتاح، وتنبيه (لَا يُقْتَلُ) بالبناء للمفعول (مُؤْمِنٌ بكَافِرٍ) أي إذا قتل مؤمن كافرًا فلا قصاص عليه. قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: ظاهره العموم، ومن لا يقول به يخصّه بغير الذمّيّ؛ جمعًا بينه وبين ما ثبت منْ أن لهم ما لنا، وعليهم ما علينا. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بالعموم هو الحقّ، وسيأتي تحقيق الخلاف بين العلماء فيه قريبًا، إن شاء الله تعالى.

(وَلَا ذُو عَهْدٍ بِعَهْدِهِ) الباء بمعنى "فِي"، كما بُيّن فِي الرواية التالية، أي لا يُقتل صاحب العهد منْ الكفرة، كالذميّ، والمستأمن فِي وقت عهده بسبب قتله الكافر الحربيّ.

(مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا) -بفتحتين-: قَالَ ابن الأثير: الحدث: الأمر الحادث المنكر، الذي ليس بمعتاد، ولا معروف فِي السنّة. انتهى. والمعنى هنا: أنّ منْ فعل فعلاً يوجب عقوبة (فَعَلَى نَفْسِهِ) أي عقوبة ذنبه عَلَى نفسه فقط، لا يتعدّاه إلى غيره منْ أقاربه، وأرحامه (أَوْ آوَى مُحْدِثًا) قَالَ ابن الأثير: يروى بكسر الدال، وفتحها، عَلَى الفاعل، والمفعول، فمعنى الكسر: منْ نصر جانيًا، أو آواه، وأجاره منْ خصمه، وحال بينه وبين أن يقتصّ منه. والفتح: هو الأمر المبتَدَع نفسه، ويكون معنى الإيواء فيه الرضا به، والصبر عليه، فإنه إذا رضي بالبدعة، وأقرّ فاعلها، ولم يُنكر عليه، فقد آواه. انتهى "النهاية" 1/ 351.

(فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ) أي طرده منْ رحمته، يقال: لعنه لَعْنًا، منْ باب نفع: طرده، وأبعده، أو سبّه، فهو لعينٌ، وملعون. قاله الفيّوميّ (وَالْمَلَائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي عليه دعاؤهم بلعنته، أي إنهم يدعون عليه أن يطرده الله تعالى عن رحمته.

[تنبيه]: أخرج البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" 6/ 2482 حديث عليّ

ص: 17

-رضي الله عنه هَذَا منْ طريق إبراهيم التيمي، عن أبيه، قَالَ: قَالَ علي رضي الله عنه: ما عندنا كتاب نقرؤه، إلا كتاب الله، غير هذه الصحيفة، قَالَ: فأخرجها، فإذا فيها أشياء منْ الجراحات، وأسنان الإبل، قَالَ: وفيها: "المدينةُ حرم ما بين عَيْرٍ إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثا، أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه يوم القيامة صرف، ولا عدل، ومن والى قوما بغير إذن مواليه، فعليه لعنة الله، والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل، وذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما، فعليه لعنة الله، والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل". انتهى.

قَالَ فِي "الفتح" 13/ 532: الذي تضمّنه هَذَا الْحَدِيث مما فِي الصحيفة المذكورة أربعة أشياء: [أحدها]: الجراحات، وأسنان الإبل. [ثانيها]:"المدينة حرم". [ثالثها]: ومن والى قومًا بغير إذن مواليهم". [رابعها]: وذمّة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم". انتهى مختصرًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عليّ رضي الله عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -9/ 4736 و4737 و13/ 4746 و4747 و4748 - وفي "الكبرى" 8/ 6936 و12/ 6946 و6937 و6947 و6948. وأخرجه (خ) فِي "العلم" 111 و"الحج" 1870 و"الجهاد" 3047 و"الجزية" 3180 و"الفرائض" 6755 و"الديات" 6903 و6915 و"الاعتصام بالكتاب والسنة" 7300 (م) فِي "الحج" 1370 (د) فِي "المناسك" 2034 و"الديات" 4530 (ت) فِي "الديات" 1412 و"الولاء" 2127 (ق) فِي "الديات" 2658 و (أحمد) فِي "مسند العشرة" 600 و616 و784 و962 و1040 (الدارمي) فِي "الديات" 2250. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان ثبوت القصاص بين الأحرار والعبيد فِي النفس، وهو الصحيح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"المؤمنون تتكافؤ دماؤهم"، وسيأتي بيان الخلاف فِي المسألة التالية، إن شاء الله تعالى. (ومنها): تفنيد عليّ رضي الله عنه مزاعم أهل الضلال الذين يقولون عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم زورًا، وبُهتانًا أنه خصّ عليّا رضي الله عنه-

ص: 18

بأسرار، لم يُطلعها غيره، وغير أهل بيته، فلا أقوى لدحض آرائهم الباطلة، وضلالاتهم الكاسدة منْ إبطاله هو، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32]. (ومنها): أن منْ واجب المسلمين التعاون، والتعاضد، وكونهم يدًا واحدةً عَلَى أعدائهم. (ومنها): أن ذمّة المسلمين واحدة، يستحقّها الأدنى، كما يستحقّها الأعلى، فأي مسلم سعى فِي أمان كافر نفذ أمانه، وحرم نقضه، وسيأتي تفاصيل أقوال العلماء فِي ذلك قريبًا، إن شاء الله تعالى. (ومنها): عدم ثبوت القصاص بين المسلم والكافر، ولا بين المعاهد والحربيّ، وفيه خلاف بين العلماء، سيأتي تحقيقه قريبًا أيضًا، إن شاء الله تعالى. (ومنها): أن منْ أجرم، فجرمه عَلَى نفسه، ولا يتعداه، {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18]. (ومنها): تحريم إيواء المجرم، وأن منْ آواه، فعليه لعنة الله تعالى، والملائكة، والناس أجمعين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي ثبوت القصاص بين الحرّ والعبد:

ذهبت طائفة إلى أن الحر يُقتل بالعبد، رُوي ذلك عن سعيد بن المسيّب، والنخعيّ، وقتادة، والثوريّ، أصحاب الرأي، وهو مذهب المصنّف رحمه الله تعالى، كما هو ظاهر ترجمته؛ لعموم الآيات، والأخبار، ولقوله صلى الله عليه وسلم فِي حديث الباب:"والمؤمنون تتكافؤ دماؤهم"، ولأنه آدميّ معصوم، فأشبه الحرّ.

وذهبت طائفة إلى أنه لا يقتل حرّ بعبد، وروي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعليّ، وزيد، وابن الزبير رضي الله عنهم، وبه قَالَ الحسن، وعطاء، وعمر بن بن عبد العزيز، وعكرمة، وعمرو بن دينار، ومالكٌ، والشافعيّ، وإسحاق، وأحمد، وأبو ثور، وروي عن الشعبيّ؛ لما رواه أحمد فِي "مسنده" عن عليّ رضي الله عنه أنه قَالَ:"منْ السنّة أن لا يُقتل حرّ بعبد". وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لا يقتل حرّ بعبد". رواه الدارقطنيّ. ولأنه لا يُقطع طرَفه بطرَفه مع التساوي فِي السلامة، فلا يُقتل به، كالأب مع ابنه، ولأن العبد منقوص بالرقّ، فلم يُقتل به الحرّ، كالمكاتب إذا ملك ما يؤدّي، والعمومات مخصوصات بهذا، فنقيس عليه. أفاده فِي "المغني" 11/ 473.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه الأولون منْ ثبوت القصاص بين الحرّ والعبد هو الأرجح عندي؛ لقوة دليله، وأما ما احتجّ به هؤلاء، فلا يصلح للاحتجاج به؛ لضعفه، فإن حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما فِي إسناده جويبر بن سعيد أحد المتروكين، والراوي عنه عثمان البرّيّ ضعيف معتزليّ، أحاديثه مناكير، وحديث عليّ رضي الله عنه فِي إسناده جابر الجعفيّ ضعيف جدًّا. فثبت بهذا أن حججهم غير مقبولة. فتبصّر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 19

(المسألة الخامسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي أمان العبد، والمرأة، والصبيّ، والمجنون:

ذهب أكثر أهل العلم إلى أنه إذا أعطى أحد منْ المسلمين الأمان لأهل الحرب صحّ، فلا يجوز التعرّض لأنفسهم، وأموالهم، وأن ذلك يصح منْ كل مسلم، بالغ، عاقل، مختار، ذكرا كَانَ أو أنثى، حرا كَانَ أو عبدا، وبهذا قَالَ الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وابن القاسم، ورُوي ذلك عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه.

وذهب أبو حنيفة، وأبو يوسف، إلى أنه لا يصح أمان العبد، إلا أن يكون مأذونا له فِي القتال؛ لأنه لا يجب عليه الجهاد، فلا يصح أمانه كالصبي، ولأنه مجلوب منْ دار الكفر، فلا يؤمن أن ينظر لهم تقديم مصلحتهم.

واحتجّ الأولون بحديث الباب، فإنه صلى الله عليه وسلم قَالَ:"ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف، ولا عدل"، رواه البخاريّ، ورَوَى فضيل بن يزيد الرقاشي، قَالَ: جَهَّز عمر بن الخطاب جيشا، فكنت فيه، فحضرنا موضعا، فرأينا أنا سنفتحها اليوم، وجعلنا نقبل، ونروح، فبقي عبد منا، فراطنهم وراطنوه، فكتب لهم الأمان فِي صحيفة، وشَدَّها عَلَى سهم، ورمى بها إليهم، فأخذوها، وخرجوا، فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب، فَقَالَ: العبد المسلم رجل منْ المسلمين، ذمته ذمتهم، رواه سعيد بن منصور، فِي "سننه"، وعبد الرزاق فِي "مصنّفه"، وابن أبي شيبة فِي "مصنّفه".

ولأنه مسلم مكلف، فصح أمانه، كالحر، وما ذكروه منْ التهمة يبطل بما إذا أُذن له فِي القتال، فإنه يصح أمانه، وبالمرأة فإنها أمانها يصح فِي قولهم جميعا، قالت عائشة: إن كانت المرأة لتجير عَلَى المسلمين، فيجوز. وعن أم هانىء، أنها قالت: يا رسول الله، إني أجرت أحمائي، وأغلقت عليهم، وإن ابن أمي أراد قتلهم، فَقَالَ لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قد أجرنا منْ أجرت يا أم هانىء، إنما يجير عَلَى المسلمين أدناهم"، رواهما سعيد، وأجارت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبا العاص بن الربيع، فأمضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما الصبي المميز، فَقَالَ الموفّق فِي مذهب أحمد فيه روايتان:

[إحداهما]: لا يصح أمانه، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي؛ لأنه غير مكلف، ولا يلزمه بقوله حكم، فلا يلزم غيره، كالمجنون.

[والثانية]: يصح أمانه، وهو قول مالك، وقيل: يصح أمانه رواية واحدة، وحُمِل

ص: 20

رواية المنع عَلَى غير المميز، واحتج بعموم الْحَدِيث؛ ولأنه مسلم مميز، فصح أمانه، كالبالغ، وفارق المجنون، فإنه لا قول له أصلا. أفاده فِي "المغني" 13/ 75 - 76.

وَقَالَ فِي "الفتح" 6/ 410 - : قَالَ ابن المنذر: أجمع أهل العلم عَلَى جواز أمان المرأة، إلا شيئا ذكره عبد الملك -يعني ابن الماجشون، صاحب مالك- لا أحفظ ذلك عن غيره، قَالَ: إن أمر الأمان إلى الإِمام، وتأول ما ورد مما يخالف ذلك، عَلَى قضايا خاصة، قَالَ ابن المنذر: وفي قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "يسعى بذمتهم أدناهم" دلالة عَلَى إغفال هَذَا القائل. انتهى. وجاء عن سحنون مثل قول ابن الماجشون، فَقَالَ: هو إلى الإِمام، إن أجازه جاز، وأن رده رد.

وأما العبد، فأجاز الجمهور أمانه، قاتل أو لم يقاتل. وَقَالَ أبو حنيفة: إن قاتل جاز أمانه، وإلا فلا. وَقَالَ سحنون: إذا أذن له سيده فِي القتال صح أمانه، وإلا فلا.

وأما الصبي، فَقَالَ ابن المنذر: أجمع أهل العلم عَلَى أن أمان الصبي غير جائز. قَالَ الحافظ: وكلام غيره يشعر بالتفرقة بين المراهق وغيره، وكذلك المميز الذي يعقل، والخلاف عن المالكية والحنابلة.

وأما المجنون، فلا يصح أمانه بلا خلاف، كالكافر، لكن قَالَ الأوزاعي: إن غزا الذمي مع المسلمين، فأمّن أحدًا، فإن شاء الإِمام أمضاه، وإلا فليرده إلى مأمنه. وحكى ابن المنذر عن الثوري، أنه استثنى منْ الرجال الأحرارِ الأسيرَ فِي أرض الحرب، فَقَالَ: لا ينفذ أمانه، وكذلك الأجير. انتهى "الفتح" 6/ 410 - 411.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح عندي جواز الأمان مطلقًا، منْ المرأة، والعبد، والصبيّ المميّز؛ لعموم النصّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4737 -

(أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَوَارِيرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَامِرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ، عَنْ عَلِيٍّ رضى الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: قَالَ: "الْمُؤْمِنُونَ تَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو بكر بن عليّ": هو أحمد بن عليّ بن سعيد بن إبراهيم المروزيّ القاضي، ثقة حافظ [12] 1/ 2094 منْ أفراد المصنّف. و"القواريريّ": هو عبيد الله بن عمر بن ميسرة، أبو سعيد البصريّ، نزيل بغداد، ثقة ثبت [10] 59/ 2311.

و"محمد بن عبد الواحد" بن أبي حَزْم الْقُطَعيّ -بضم القاف، وفتح المهملة- البصريّ صدوقٌ [8].

ص: 21

روى عن عمر بن عامر البصريّ، ويحيى بن إسحاق الحضرميّ، ويونس بن عُبيد، وعثمان بن سعد الكاتب. وروى عنه إسماعيل بن سيف البصريّ، وعبيد الله بن عمر القواريريّ. ذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ ابن شاهين فِي "الثقات": محمد بن عبد الواحد بن أبي حزم، قَالَ يحيى بن معين: كَانَ صاحب سنّة، وكان حمّاد بن زيد يُقدّمه. تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.

و"عمر بن عامر" السلميّ، أبو حفص البصريّ، قاضيها، صدوقٌ له أوهام [6].

وفي "تهذيب التهذيب" 3/ 235 - 236: رَوَى عن قتادة، وعمرو بن دينار، وأيوب السختياني، ويحيى بن أبي كثير، وغيرهم، وأرسل عن حطان بن عبد الله الرقاشي. وروى عنه سعيد بن أبي عروبة، وسالم بن نوح، ومحمد بن عبد الواحد بن أبي حَزْم، ومعتمر بن سليمان، وعباد بن العوام، ويزيد بن أبي زريع، وآخرون.

قَالَ ابن المديني: سألت يحيى بن سعيد، حملت عنه أشياء؟، قَالَ، لا، ولا حرف. وَقَالَ صالح بن أحمد، عن أبيه: كَانَ يحيى بن سعيد لا يرضاه، وكذا قَالَ أبو طالب، عن أحمد، وزاد: روى أحاديث أنكرها. وَقَالَ عبد الله بن أحمد، عن أبيه: كَانَ شعبة لا يستمريه. وَقَالَ ابن معين: ليس به بأس، زاد بعضهم عن ابن معين: ثقة.

وَقَالَ ابن الدورقي، عن بن معين: عمر بن عامر بجلي، كوفيّ ضعيف، تركه حفص ابن غياث.

قَالَ الحافظ: وينبغي أن يحرر هَذَا الذي حكاه ابن الدورقي، عن ابن معين، فإني أظن أنه فِي رجل آخر، غير صاحب الترجمة، يدل عليه كونه نسبه بجليا كوفيا، وصاحب الترجمة سلمي بصري. انتهى.

وَقَالَ يعقوب بن شيبة: سمعت ابن المديني يقول: عمر بن عامر، شيخ صالح، كَانَ عَلَى قضاء البصرة، مات فَجْأَة، قَالَ علي: قَالَ أبو عبيدة: لم يمت قاض فجأة غيره. وَقَالَ أبو زرعة: مات وهو ساجد. وَقَالَ أبو حاتم: سعيد، وهشام أحب إلى منه، وهو يجري مع همام. وَقَالَ عمرو بن علي: عمر بن عامر، ويحيى بن محمد بن قيس، ليسا بَمَترُوكِي الْحَدِيث. وَقَالَ الآجري، عن أبي داود: ضعيف، وأبو هلال فوقه، وعمران القطّان عندي فوقه، وكان قاضي البصرة. وَقَالَ النسائيّ: ضعيف، وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: مات سنة خمس وثلاثين ومائة. وقيل: سنة تسع. وَقَالَ الساجي: هو منْ الشيوخ، صدوق، ليس بالقوي، فيه ضعف، قَالَ: وَقَالَ أحمد: كَانَ عبد الصمد ابن عبد الوارث، يروي عنه عن قتادة مناكير. وَقَالَ العقيلي: ثنا عبد الله بن أحمد، سمعت أبي، يقول: عمر بن عامر ثقة، ثبث فِي الْحَدِيث، إلا أنه كَانَ مرجئا. وَقَالَ

ص: 22

العجليّ: ثقة. تفرّد به مسلم، والمصنّف، وليس له عند المصنّف غير هَذَا الموضع.

و"قتادة": هو ابن دعامة البصريّ.

و"أبو حسّان": هو مسلم بن عبد الله الأعرج الأجرد البصريّ، مشهور بكنيته، صدوقٌ رُمي برأي الخوارج [4] 14/ 473.

وقوله: "تكافؤ" هو بحذف إحدى التاءين، وأصله: تتكافؤ.

والحديث صحيح، تقدّم شرحه، وبيان مسائله فِي الْحَدِيث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌10 - (الْقَوَدُ مِنَ السَّيِّدِ لِلْمَوْلَى)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: أراد رحمه الله تعالى بالمولى الأسفلَ، وهو العبد. والله تعالى أعلم بالصواب.

4738 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، هُوَ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ، وَمَنْ جَدَعَهُ جَدَعْنَاهُ، وَمَنْ أَخْصَاهُ أَخْصَيْنَاهُ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(محمود بن غيلان) أبو أحمد المروزيّ، نزيل بغداد، ثقة [10] 33/ 37.

2 -

(أبو داود) سليمان بن داود بن الجارود البصريّ، ثقة حافظ [9] 13/ 343.

3 -

(هشام) بن أبي عبد الله سنبر الدستوائيّ البصريّ، ثقة ثبت، منْ كبار [7] 30/ 34.

4 -

(سمرة) بن جندب بن هلال الصحابيّ المشهور رضي الله تعالى عنه 25/ 393. والباقيان تقدما فِي الباب الماضي. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير أن فِي سماع الحسن منْ سمرة رضي الله عنه لغير حديث العقيقة كلامًا،

ص: 23

كما سيأتي بيانه. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فمروزي، ثم بغداديّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ سَمُرَةَ) بن جندب رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ) قَالَ السنديّ: اتّفق الأئمة عَلَى أن السيّد لا يُقتل بعبده، وقالوا: الْحَدِيث وارد عَلَى الزجر، والردع؛ ليرتدعوا، ولا يُقدموا عَلَى ذلك. وقيل: ورد فِي عبد أعتقه سيّده، فسُمّي عبده باعتبار ما كَانَ. وقيل: منسوخٌ. قَالَ: حاصل الوجه الأول أن المراد بقوله: "قتلناه"، وأمثاله: عاقبناه، وجازيناه عَلَى سوء صنيعه، إلا أنه عبّر بلفظ القتل، ونحوه للمشاكلة، كما فِي قوله تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} الآية، وفائدة هَذَا التعبير الزجر، والردع، وليس المراد أنه تكلّم بهذه الكلمة لمجرّد الزجر، منْ غير أن يُريد به معنًى، أو أنه أراد حقيقته؛ لقصد الزجر، فإن الأول يقتضي أن تكون هذه الكلمة مهملة، والثاني يؤدّي إلى الكذب؛ لمصلحة الزجر، وكلُّ ذلك لا يجوز، وكذا كلُّ ما جاء فِي كلامهم، منْ نحو قولهم: هَذَا واردٌ عَلَى سبيل التغليظ والتشديد، فمرادهم أن اللفظ يُحمل عَلَى معنًى مجازيّ، مناسبِ للمقام. قَالَ: وهذه الفائدة تنفعك فِي مواضع، فاحفظها.

وأما قولهم: ورد فِي عبد أعتقه، فمبنيّ عَلَى أن "منْ" موصولة، لا شرطيّةٌ، والكلام إخبارٌ عن واقعة بعينها. والله تعالى أعلم. انتهى "شرح السنديّ" 7/ 20 - 21.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن هذه التأويلات غير صحيحة؛ لكونها منافية لأسلوب النصّ، فلو كَانَ الْحَدِيث صحيحًا لما جاز تأويله بهذه التأويلات الباردة، بل يكون عَلَى ظاهره منْ أن السيّد يُقتل إذا قتل عبده، كما هو مذهب بعض السلف، كإبراهيم النخعيّ، عَلَى ما يأتي قريبًا، وأما قولهم: ورد فِي عبد الخ فأبعد التأويلات المذكورة، فتبصّر، ولا تتحيّر. والله تعالى أعلم.

(وَمَنْ جَدَعَهُ) بالتخفيف: أي قطع أنفه، أو نحوه، يقال: جدعتُ الأنف جَدْعًا، منْ باب نفع: قطعته، وكذا الأذن، واليد، والشفة، وجَدِعَت الشاة جَدَعًا، منْ باب تعِبَ: قُطعت أذنها منْ أصلها، فهي جدعاء، وجُدِع الرجلُ: قُطع أنفه وأذنه، فهو أجدع، والأنثى جَدْعَاءُ. قاله الفيّوميّ. وَقَالَ فِي "اللسان": وقيل: لا يقال: جَدِعَ، ولكن جُدِعَ منْ المجدوع

(1)

. انتهى. وَقَالَ السنديّ: والتشديدُ للتكثير، لا يناسب المقام.

(1)

قَالَ الزمخشريّ: ولا يقال: جَدِعَ بالبناء للفاعل -ولكن جُدِعَ بالبناء للمفعول- كما لا يقال: فِي الأقطع: قَطِعَ، ولكن قُطع. انتهى منْ هامش "المصباح المنير" 1/ 93.

ص: 24

انتهى (جَدَعْنَاهُ) أي عاقبناه بمثل ما فعل (وَمَنْ أَخْصَاهُ أَخْصَيْنَاهُ) هكذا رواية المصنّف "أخصاه" بالهمزة، وفي رواية أبي داود:"ومن خصا خصيناه"، وهو الذي فِي كتب اللغة، يقال: خصيت العبدَ أَخصيه خِصَاءً بالكسر والمدّ: سَلَلتُ خَصْييه، فهو خصيّ، فَعِيلٌ بمعنى مفعول، مثلُ جَريح، وقَتِيلِ، والجمع خِصْيانٌ، وخَصَيتُ الفرس: قطعت ذكره، فهو مخصيّ، يجوز استعمال فَعِيل، ومفعول فيهما. قاله الفيّوميّ. وفي "القاموس": الْخُصيُ، والخُصية بضمّهما، وكسرهما: منْ أعضاء التناسل، وهاتان خُصْيتان، وخُصيَان، جمعه خُصًى، وخَصَاه: سَلَّ خُصييه، فهو خصيّ، ومَخْصيّ. انتهى.

والمعنى هنا: أن منْ اعتدى عَلَى عبده، فخصاه، نعاقبه بمثل ما اعتدى، فنخصيه، كما خصاه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث سمرة رضي الله عنه هَذَا ضعيف؛ للكلام فِي سماع الحسن منه، غير حديث العقيقة.

وَقَالَ المصنّف رحمه الله تعالى فِي "الكبرى" 4/ 218 رقم 6939 - : ما نصّه: قَالَ أبو عبد الرحمن: الحسن عن سمرة، قيل: إنه منْ الصحيفة

(1)

، غير مسموعة، إلا حديث العقيقة، فإنه قيل للحسن: ممن سمعت حديث العقيقة؟ قَالَ: قَالَ

(2)

: منْ سمرة، وليس كلُّ أهل العلم يُصحّح هذه الرواية: قوله: قلت للحسن: ممن سمعت حديث العقيقة؟. انتهى.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -10/ 4738 و4739 و4740 و16/ 4755 و4756 - وفي "الكبرى" 9/ 6938 و6939 و6940 و15/ 6955 و6956. وأخرجه (د) فِي "الديات" 4515 (ت) فِي "الديات" 1414 (ق) فِي "الديات" 2663 (أحمد) فِي "مسند البصريين" 19598 و19614 و27708 و19685 و1970 (الدارمي) فِي "الديات" 2252. والله تعالى أعلم.

(1)

هكذا النسخة "الصحيفة" بالتعريف، والظاهر أن الأولى "صحيفة" بالتنكير، كما لا يخفى، والله تعالى أعلم.

(2)

هكذا النسخة بتكرار "قَالَ"، والظاهر أن الأولى إسقاط أحدهما.

ص: 25

(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي قتل السيّد بعبده:

قَالَ الإِمام الترمذيّ رحمه الله تعالى بعد أن أخرج الْحَدِيث: قد ذهب بعض أهل العلم منْ التابعين، منهم إبراهيم النخعيّ إلى هَذَا، وَقَالَ بعض أهل العلم، منهم الحسن البصريّ، وعطاء بن أبي رباح: ليس بين الحرّ والعبد قصاص فِي النفس، ولا فِي دون النفس، وهو قول أحمد، وإسحاق. وَقَالَ بعضهم: إذا قتل عبده لا يُقل به، وإذا قتل عبد غيره قُتل به، وهو قول سفيان الثوريّ. انتهى.

وَقَالَ فِي "المغني": ما حاصله: ذهب أكثر أهل العلم إلى أنه لا يقتل السيد بعبده، وحُكي عن النخعي، وداود: أنه يقتل به؛ لما روى قتادة، عن الحسن، عن سمرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"منْ قتل عبده قتلناه، ومن جدعه جدعناه"، رواه سعيد، والإمام أحمد، والترمذي، وَقَالَ: حديث حسن غريب، مع العمومات.

واحتجّ الأولون بما رُوي عن عمر رضي الله عنه، أنه قَالَ: لو لم أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:"لا يقاد المملوك منْ مولاه، والولد منْ والده"، لأقدته منك، رواه النسائيّ

(1)

. وعن علي رضي الله عنه أن رجلا قتل عبده، فجلده النبيّ صلى الله عليه وسلم مائة جلدة، ونفاه عاما، ومحا اسمه منْ المسلمين، رواه سعيد، والخلال، وَقَالَ أحمد: ليس بشيء منْ قبل إسحاق بن أبي فروة، ورواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن أبي بكر وعمر، أنهما قالا:"منْ قتل عبده جلد مائة، وحرم سهمه مع المسلمين".

فأما حديث سمرة، فلم يثبت، قَالَ أحمد: الحسن لم يسمع منْ سمرة، إنما هي صحيفة، وَقَالَ عنه أحمد: إنما سمع الحسن منْ سمرة ثلاثة أحاديث، ليس هَذَا منها، ولأن الحسن أفتى بخلافه، فإنه يقول لا يقتل الحر بالعبد، وَقَالَ: إذا قتل السيد عبده يضرب، ومخالفته له تدل عَلَى ضعفه. قاله فِي "المغني" 11/ 474 - 475.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن قول منْ قَالَ بثبوت القصاص إذا قتل السيّد عبده هو الأرجح؛ لعموم الأدلّة الموجبة له، وأما الأحاديث التي احتج بها الموجبون، والنافون، فإنها ضعاف، فحديث سمرة قد عرفت آنفًا ضعفه، وحديث عمر رضي الله عنه تفرّد به عمر بن عيسى، كما قَالَ البيهقي، وذكر عن البخاريّ أنه قَالَ: منكر الْحَدِيث. وحديث عليّ رضي الله عنه فِي سنده جابر الجعفيّ، وهو ضعيف.

والحاصل أن هذه الأحاديث لا تصلح للاحتجاج بها، وإنما الحجة هي الأدلة العامة التي توجب القصاص مطلقًا بشروطه، فإخراج السيّد عنها يحتاج إلى دليل قويّ، ولم

(1)

يحتاج إلى التأكّد منْ عزوه إلى النسائيّ، والله تعالى أعلم.

ص: 26

يوجد، فيبقى العمل بها ثابتًا، لاسيّما وَقَدْ عرفت أن بعض أهل العلم منْ السلف قَالَ بثبوت القصاص المذكور، فتبصّر، ولا تتحيّر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4740 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ، وَمَنْ جَدَعَ عَبْدَهُ جَدَعْنَاهُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو عوانة": هو الوضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ. والحديث ضعيف، وَقَدْ سبق بيانه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌11 - (قَتْلُ الْمَرْأَةِ بِالْمَرْأَةِ)

4741 -

(أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ طَاوُسًا، يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ رضى الله عنه، أَنَّهُ نَشَدَ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ، فَقَامَ حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ، فَقَالَ: كُنْتُ بَيْنَ حُجْرَتَي امْرَأَتَيْنِ، فَضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِمِسْطَحٍ، فَقَتَلَتْهَا، وَجَنِينَهَا، فَقَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي جَنِينِهَا بِغُرَّةٍ، وَأَنْ تُقْتَلَ بِهَا).

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(يوسف بن سعيد) المصّيصيّ ثقة حافظ [11] 131/ 198.

2 -

(حجاج بن محمد) الأعور المصّيصيّ، ثقة ثبت، اختلط فِي آخره [9] 28/ 32.

3 -

(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم المكيّ، ثقة فقيه فاضل، يدلّس ويرسل [6] 28/ 32.

4 -

(عمرو بن دينار) الجمحي مولاهم، أبو محمد الأثرم المكيّ، ثقة ثبت [4] 112/ 154.

5 -

(طاوس) بن كيسان الحميري مولاهم، أبو عبد الرحمن اليماني، ثقة ثبت فقيه [3] 27/ 31.

6 -

(ابن عباس) عبد الله رضي الله تعالى عنهما 27/ 31.

ص: 27

7 -

(حَمَلُ بنُ مالك) بن النَّابِغَة الهُذَلي، أبو نَضْلَة الصحابيّ رضي الله عنه تأتي ترجمته قريبًا. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمكيين، منْ ابن جريج، وأما شيخه، وحجاج، فمصّيصيّان. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وصحابيّ، عن صحابيّ. (ومنها): أن صحابيه منْ المقلين منْ الرواية، فليس إلا هَذَا الْحَدِيث عند أصحاب السنن إلا الترمذيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما (عَنْ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنه، أَنَّهُ نَشَدَ) أي طلب، أو سأل مقسمًا بالله تعالى، يقال: نشدتُ الضالّة نَشْدًا، منْ باب قتل: إذا طلبتها، وكذا إذا عرّفتها، والاسم نِشْدة، ونِشْدانٌ، بكسرهما، وأنشدتها بالألف: عرّفتها، ونشدتك الله، وبالله، أنشُدُك: ذكّرتك به، واستعطفتك، أو سألتك به مقسمًا عليك. قاله الفيّوميّ.

وفي رواية أبي داود منْ طريق ابن عيينة، عن عمرو:"قام عمر رضي الله عنه عَلَى المنبر"، فذكر معناه.

(قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بنصب "قضاء" عَلَى أنه مفعول "نشَدَ"(فِي ذَلِكَ) ولفظ أبي داود: "عن عمر أنه سأل عن قضيّة النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي ذلك" زاد فِي رواية ابن ماجه: "يعني فِي الجنين"(فَقَامَ حَمَلُ) بفتح الحاء المهملة، والميم (ابْنُ مَالِكٍ) بن النابغة -بالموحّدة المكسورة، والغين المعجمة- الْهُذَليّ، أبو نَضْلَة الصحابيّ، نزيل البصرة، روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْحَدِيث فقط، وروى عنه ابن عبّاس. وذكر أبو ذرّ الهرَويّ فِي "مستدركه" أن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه روى عنه أيضًا. وروى أبو موسى فِي "الذيل" فِي ترجمة عامر بن مُرَقّش أن حملاً هَذَا قُتل فِي عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ الحافظ: وهو منْ الأوهام؛ لأن فِي حديثه هَذَا أنه قام إلى عمر لَمّا خطب، فحدّثه. انتهى روى له المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه هَذَا الْحَدِيث فقط (فَقَالَ: كُنْتُ بَيْنَ حُجْرَتَيِ امْرَأَتَيْنِ) بضمّ الحاء المهملة، وسكون الجيم-: الْغُرْفة، وجمعها حُجَرٌ، كغرفة وغُرَف، وحُجُرُ بضمتين، وحجَرَات بفتح الجيم، وسكونها. أفاده فِي "القاموس". وفي رواية أبي داود:"كنت بين امرأتين"، وزاد فِي رواية ابن ماجه:"لي"(فَضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) وفي الرواية الآتية فِي 40/ 4830 - عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ اسم إحداهما مُليكة، والأخرى أُمّ غُطَيف". انتهى (بِمِسْطَحٍ) بكسر الميم،

ص: 28

وسكون السين، وفتح الطاء المهملتين: أي عُود منْ أعواد الخباء. ذكره أبو داود فِي "سننه" عن أبي عبيد، ونقل عن النضر بن شُميل أنه قَالَ: الْمِسْطح: هو الصّوْبَج. وهو كما فِي "القاموس": بفتح الصاد، وتضمّ: الذي يُخبَز به، معرّب (فَقَتَلَتْهَا، وَجَنِينَهَا) بالنصب عطفًا عَلَى الضمير المنصوب، و"الجنين" -بفتح الجيم، وكسر النون-: الولد ما دام فِي بطن أمه، والجمع أَجِنَّة، كدليل وأدلّة، قيل: سُمّي بذلك؛ لاستتاره، فإذا وُلد، فهو منفوسٌ. قاله الفيّوميّ.

وفي الرواية الآتية 40/ 4830 - منْ طريق سماك، عن عكرمة، عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، قَالَ:"فأسقطت غلامًا قد نبت شعره، ميتًا، وماتت المرأة، فقضى عَلَى العاقلة الدية، فَقَالَ عمّها: إنها قد أسقطت يا نبيّ الله غلامًا قد نبت شعره، فَقَالَ أبو القاتلة: إنه كاذبٌ، إنه والله ما استهلّ، ولا شرب، ولا أكل، فمثله يُطلّ، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أسجع الجاهليّة، وكهانتها؟ إنّ فِي الصبيّ غرّةً".

(فَقَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي جَنِينِهَا بِغُرَّةٍ) وفي رواية لأبي داود منْ طريق ابن عيينة، عن عمرو ابن دينار:"بغرّة: عبد، أو أمة". و"الغرّة" -بضم الغين المعجمة، وتشديد الراء-: العبد، أو الأمة، وأصل الغرّة: البياض الذي يكون فِي وجه الفرس، وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: الْغُرّة عبد أبيض، أو أمة بيضاء، وسُمّي غرّة لبياضه، فلا يُقبل فِي الدية عبدٌ أسود، ولا جاريةٌ سوداء، لكن هَذَا ليس شرطًا عند جمهور الفقهاء، وإنما الغرّة عندهم ما بلغ ثمنه نصف عشر الدية، منْ العبيد، والإماء. قاله ابن الأثير فِي "النهاية" 3/ 353، وسيأتي تمام البحث فِي ذلك فِي موضعه 39/ 4815 - "باب دية جنين المرأة"، إن شاء الله تعالى (وَأَنْ تُقْتَلَ بِهَا) قَالَ المنذريّ رحمه الله تعالى: قوله: "وأن تُقتل بها" لم يُذكر فِي غير هذه الرواية. وَقَدْ رُوي عن ابن دينار أنه شكّ فِي قتل المرأة بالمرأة. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أن هذه الزيادة لا تثبت؛ لمخالفة ابن جريج سفيان بن عيينة بزيادتها، وسفيان أثبت فِي عمرو بن دينار منْ ابن جريج، كما هو مشهور فِي ترجمته، ولكون عمرو بن دينار شكّ فِي قتل المرأة بالمرأة، فلو كانت ثابتة فِي الرواية لما شكّ فيه، ولأن هَذَا الْحَدِيث مرويّ منْ طرق كثيرة فِي "الصحيحين"، وفي غيرهما، ولم تذكر هذه الزيادة فِي شيء منْ الروايات أصلاً، وسأعود إلى البحث أيضًا فِي 40/ 4824 - باب "صفة شبه العمد"، إن شاء الله تعالى.

وزاد فِي رواية ابن عيينة المذكورة: "فَقَالَ عمر رضي الله عنه: الله أكبر، لو لم أسمع بهذا لقضينا بغير هَذَا". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 29

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث حمل بن مالك رضي الله عنه عنه هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -11/ 4741 و39/ 4818 - وفي "الكبرى" 10/ 6941 و38/ 7020. وأخرجه (د) فِي "الديات" 4572 (ق) فِي "الديات" 2641. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان مشروعيّة قتل المرأة إذا قتلت امرأة عمدًا، ولا خلاف بين العلماء فِي ذلك، لكن فِي استدلال المصنّف بهذا الْحَدِيث نظر؛ لأن زيادة:"وأن تُقتل بها" غير ثابتة، كما أشرت إليه آنفًا. (ومنها): أن فيه بيان شدّة الغيرة بين الضرائر، بحيث يؤديهنّ إلى قتل بعضهنّ بعضًا. (ومنها): وجوب الغرّة: عبد، أو أمة فِي إسقاط الجنين إذا خرج ميتًا، وأما إذا خرج حيّا ثم مات ففيه الدية كاملة، وسيأتي تمام البحث فِي ذلك فِي بابه، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌12 - (الْقَوَدُ مِنَ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ)

4742 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدَةُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، رضى الله عنه، أَنَّ يَهُودِيًّا قَتَلَ جَارِيَةً، عَلَى أَوْضَاحٍ لَهَا، فَأَقَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهَا).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.

و"إسحاق بن إبراهيم": هو ابن راهويه. و"عبدة": هو ابن سليمان الكلابيّ. و"سعيد": هو ابن أبي عروبة.

وقوله: "عَلَى أوضاح": جمع وَضَحٍ بحاء مهملة: هي نوعٌ منْ الحليّ، يُعمل منْ الفضّة، سُمّيت بها لبياضها.

وقوله: "فأقاده بها": أي أمر أن يُقتل بسبب قتلها.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي 9/ 4046 - وسبق شرحه، وبيان مسائله هناك،

ص: 30

وَقَدْ بقي البحث فيما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، فأقول:

(مسألة): فِي اختلاف أهل العلم فِي قتل الرجل بالمرأة:

ذهب عامّة أهل العلم إلى أنه يُقتل الذكر بالأنثى، والأنثى بالذكر، وممن رُوي عنه النخعي، والشعبي، والزهري، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، وأهل المدينة، والشافعي، وأحمد؛ وإسحاق، وأصحاب الرأي، وغيرهم.

ورُوي عن علي رضي الله عنه، أنه قَالَ: يُقتل الرجل بالمرأة، ويُعطَى أولياؤه نصف الدية، أخرجه سعيد بن منصور، وابن جرير فِي تفسيره، وروي مثل هَذَا عن أحمد، وحُكي ذلك عن الحسن، وعطاء، وحُكي عنهما مثل قول الجماعة، قَالَ الموفّق: ولعل منْ ذهب إلى القول الثاني، يَحتَجّ بقول علي رضي الله عنه؛ ولأن عقلها نصف عقله، فإذا قُتل بها بقي له بقية، فاستوفيت ممن قتله.

واحتجّ الجمهور بقوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، وقوله تعالى:{الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178]، مع عموم سائر النصوص، وَقَدْ ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَتَل يهوديا رَضّ رأس جارية منْ الأنصار، متّفقٌ عليه، ورَوَى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتب إلى أهل اليمن بكتاب، فيه الفرائض، والأسنان، وأن الرجل، يُقتل بالمرأة، وسيأتي للنسائيّ فِي 46/ 4855 - وهو كتاب مشهور، عند أهل العلم، مُتَلَقًّى بالقبول عندهم؛ ولأنهما شخصان يُحد كل واحد منهما بقذف صاحبه، فقُتل كل واحد منهما بالآخر، كالرجلين، ولا يجب مع القصاص شيء؛ لأنه قصاص واجب، فلم يجب معه شيء عَلَى المقتص، كسائر القصاص، واختلاف الأبدال لا عبرة به فِي القصاص، بدليل أن الجماعة يُقتلون بالواحد، والنصراني يؤخذ بالمجوسي، مع اختلاف ديتيهما، ويؤخذ العبد بالعبد مع اختلاف قيمتيهما. أفاده فِي "المغني" 11/ 500 - 501.

وَقَالَ الإِمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" 6/ 2524:

"باب القصاص بين الرجال والنساء فِي الجراحات"، وَقَالَ أهل العلم: يقتل الرجل بالمرأة، ويُذكر عن عمر تقاد المرأة منْ الرجل، فِي كل عمد يبلغ نفسه، فما دونها منْ الْجِرَاح، وبه قَالَ عمر بن عبد العزيز، وإبراهيم، وأبو الزناد عن أصحابه، وجَرَحت أخت الربيع إنسانا، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"القصاص". انتهى.

وَقَالَ فِي "الفتح": قَالَ ابن المنذر: أجمعوا عَلَى أن الرجل يقتل بالمرأة، والمرأة بالرجل، إلا رواية عن علي، وعن الحسن، وعطاء، وخالف الحنفية فيما دون النفس، واحتج بعضهم بأن اليد الصحيحة لا تقطع باليد الشلاء، بخلاف النفس، فإن النفس

ص: 31

الصحيحة تقاد بالمريضة اتفاقا.

وأجاب ابن القصار بأن اليد الشلاء، فِي حكم الميتة، والحي لا يقاد بالميت. وَقَالَ ابن المنذر: لما أجمعوا عَلَى القصاص فِي النفس، واختلفوا فيما دونها، وجب رَدُّ المختلف إلى المتفق. انتهى "فتح" 14/ 200.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن ما ذهب إليه الجمهور منْ وجوب قتل الرجل بالمرأة هو الحقّ؛ لوضوح أدلّته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4743 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ يَهُودِيًّا أَخَذَ أَوْضَاحًا، مِنْ جَارِيَةٍ، ثُمَّ رَضَخَ رَأْسَهَا بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَأَدْرَكُوهَا وَبِهَا رَمَقٌ، فَجَعَلُوا يَتَّبِعُونَ بِهَا النَّاسَ، هُوَ هَذَا، هُوَ هَذَا، قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرُضِخَ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

و"محمد بن عبد الله بن المبارك": هو الْمُخَرِّميّ، أبو جعفر البغداديّ، ثقة حافظ [11] 43/ 50. و"أبو هشام": هو المغيرة بن سلمة المخزوميّ البصريّ، ثقة ثبتٌ، منْ صغار [9] 28/ 815. و"أبان بن يزيد": هو العطّار، أبو يزيد البصريّ، ثقة له أفراد [7] 9/ 787.

وقوله: "ثم رضخ رأسها" -بضاد، وخاء معجمتين، مبنيّا للفاعل-: أي كسره.

وقوله: "وبها رَمَقٌ" -بفتح الراء، والميم: أي بقيّة روح. وقوله: "فجعلوا يتبّعون": قَالَ فِي "الصحاح": تتبّعت الشيء تَتَبُّعًا: أي تطلّبته، وكذلك تبّعته تتبيعًا، فهذا يحتمل أن يكون منْ التتبّع، لكن بالعدول إلى تشديد التاء المثنّاة، أو منْ التتبيع، والباء الموحّدة عَلَى الوجهين مشدّدة، والمراد يبحثون عندها عن النَّاس، ويذكرونهم. قاله السنديّ.

وقوله: "قالت: نعم": أي حين ذكروا القاتل، قالت: نعم بالإشارة، وكانت قبل ذلك تقول: لا، بالإشارة.

وقوله: "فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخ": أي بعد أن حضر، وأقرّ بذلك، كما جاء ذلك صريحًا فِي الرواية التي بعد هذه، وإلا فلا عبرة بقول المقتول، فضلاً عن إيمائه. والله تعالى أعلم.

وقوله: "فرُضخ" بالبناء للمفعول.

ص: 32

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق بيانه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4744 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: خَرَجَتْ جَارِيَةٌ عَلَيْهَا أَوْضَاحٌ، فَأَخَذَهَا يَهُودِيٌّ، فَرَضَخَ رَأْسَهَا، وَأَخَذَ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْحُلِيِّ، فَأُدْرِكَتْ وَبِهَا رَمَقٌ، فَأُتِيَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "مَنْ قَتَلَكِ، فُلَانٌ؟ "، قَالَتْ بِرَأْسِهَا: لَا، قَالَ: "فُلَانٌ؟ "، قَالَ: حَتَّى سَمَّى الْيَهُودِيَّ، قَالَتْ: بِرَأْسِهَا: نَعَمْ، فَأُخِذَ، فَاعْتَرَفَ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرُضِخَ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

و"همّام": هو ابن يحيى العوذيّ.

وقوله: "فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم" ببناء الفعل للمفعول. وقوله: "فلان" خبر لمحذوف: أي هو فلان.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق بيانه قبل حديث. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌13 - (سُقُوطُ الْقَوَدِ مِنَ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: أشار بهذه الترجمة إلى الردّ عَلَى منْ أثبت القصاص عَلَى المسلم بقتله كافرًا، وهذا مذهب الجمهور، وهو الحقّ وسيأتي البحث فيه مُسْتَوْفًى فِي المسألة الرابعة منْ شرح الْحَدِيث الثاني إن شاء الله تعالى.

4745 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ، أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَحِلُّ قَتْلُ مُسْلِمٍ، إِلاَّ فِي إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: زَانٍ مُحْصَنٍ، فَيُرْجَمُ، وَرَجُلٌ يَقْتُلُ مُسْلِمًا مُتَعَمِّدًا، وَرَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ الإِسْلَامِ، فَيُحَارِبُ اللَّهَ

ص: 33

عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولَهُ، فَيُقْتَلُ، أَوْ يُصَلَّبُ، أَوْ يُنْفَى مِنَ الأَرْضِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.

و"أحمد بن حفص": هو السلميّ، أبو عليّ بن أبي عمرو النيسابوريّ، صدوقٌ [11] 7/ 409. و"أبوه": هو حفص بن عبد الله بن راشد السلميّ، أبو عمرو النيسابوريّ، قاضيها، صدوقٌ [9] 7/ 409. و"إبراهيم": هو ابن طهمان أبو سعيد الخراسانيّ، سكن نيسابور، ثم مكة، ثقة يُغْرِب، وتُكُلّم فيه بالإرجاء، ويقال: رجع عنه [7] 7/ 409. و"عبد العزيز بن رُفيع": هو أبو عبد الله المكيّ، نزيل الكوفة، ثقة [4] 190/ 2997. و"عُبيد بن عُمير": هو ابن قتادة الليثيّ، أبو عاصم المكيّ، وُلد عَلَى عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما قاله مسلم، وعدّه غيره فِي كبار التابعين، وكان قاصّ أهل مكّة، مجمعٌ عَلَى ثقته [2] 12/ 416.

وقوله: "لا يحلّ قتل مسلم إلا فِي إحدى ثلاث خصال الخ": قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: استدلّ بالحصر عَلَى أنه لا يُقتل مسلم بكافر، وأنت خبير أن الحصر يحتاج إلى تأويل؛ لأن المرتدّ يُقتل، وإن لم يُحارب بقطع الطريق، وكذلك غيره، وَقَدْ ذُكر تأويل الحصر فيما تقدّم، فلا يستقيم الاستدلال بهذا الْحَدِيث عَلَى مراده عَلَى أنه جاء فِي بعض رواياته:"النفس بالنفس"، فليُتأمّل. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن استدلاله صحيح؛ إذ ليس الاستدلال بهذا الْحَدِيث بمجرّده، بل بضمه إلى ما بعده منْ الأحاديث، فإنها صريحة فِي ذلك، فإذا ضمّ إليها ظاهر الحصر المذكور حصل المقصود، وهذا ظاهر لمن تأمّله. والله تعالى أعلم.

والحديث صحيح، وَقَدْ تقدّم فِي 5/ 4018 و4048 ومضى شرحه، وتمام البحث فيه هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4746 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ، يَقُولُ: سَأَلْنَا عَلِيًّا، فَقُلْنَا: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ، سِوَى الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: لَا، وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِلاَّ أَنْ يُعْطِىَ اللَّهُ عز وجل عَبْدًا، فَهْمًا فِي كِتَابِهِ، أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قُلْتُ: وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: فِيهَا الْعَقْلُ، وَفِكَاكُ الأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن منصور) الْجَوّاز المكيّ، ثقة [10] 20/ 21.

ص: 34

2 -

(سفيان) بن عيينة الإِمام الحجة الثبت المكيّ [8] 1/ 1.

3 -

(مُطَرِّف بن طَرِيف) أبو بكر، أو أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقة فاضلٌ، منْ صغار [6] 2/ 327.

4 -

(الشعبيّ) عامر بن شَرَاحيل الْهَمْدانيّ الكوفيّ الإِمام الحجة الفقيه الفاضل المشهور [3] 66/ 82.

5 -

(أبو جُحيفة) وهب بن عبد الله السُّوائيّ، الصحابيّ المشهور، ويقال له: وهب الخير، وصحب عليّا رضي الله عنه، ومات رضي الله عنه سنة (74) 103/ 137.

6 -

(عليّ) بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه 74/ 91. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير شيخه، فإنه مكيّ، وأما سفيان، فكوفيّ، ثم مكيّ. (ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ الشَّعْبِيِّ) عامر بن شَرَاحيل، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ) وهب بن عبد الله رضي الله عنه (يَقُولُ: سَأَلْنَا عَلِيًّا) أي ابن أبي طالب رضي الله عنه (فَقُلْنَا: هَلْ عِنْدَكُمْ) الخطاب لعليّ رضي الله عنه، والجمع إما لإرادته مع بقيّة أهل البيت، أو للتعظيم. قاله فِي "الفتح"(مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ، سِوَى الْقُرْآنِ؟) أي شيء مكتوب، وإلا فلا شكّ أنه كَانَ عنده أكثر مما ذُكر (فَقَالَ: لَا، وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِلاَّ أَنْ يُعْطِيَ اللَّهُ عز وجل قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: كأنه استثناء بتقدير مضاف: أي إلا أثر إعطاء الله الخ، وكأنه كتب بعدُ آثار ما أعطاه الله تعالى منْ الفهم، وعَدَّه مما عنده منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، إما لأنه عرضه عليه صلى الله عليه وسلم، فقرّره، أو لأنه لَمّا استخرجه منْ كلامه صلى الله عليه وسلم عدّه مما عنده منه صلى الله عليه وسلم، ولا يخفى أن قوله:"أن يُعطي الله" عَلَى ما ذكرنا لا يُحمل عَلَى الاستقبال، فليُتأمّل، وعلى ما ذُكر ظهر عطف قوله:"أو ما فِي هذه الصحيفة"، عَلَى قوله:"أن يُعطي"، وظهر وجه كون الاستثناء فِي الموضعين متّصلاً. انتهى.

وفي رواية البخاريّ: "قلت لعليّ: هل عندكم كتاب؟ قَالَ: لا، إلا كتاب الله، أو فهمٌ أعطيه رجلٌ مسلم" الْحَدِيث.

قَالَ فِي "الفتح": قوله: "كتابٌ": أي مكتوب، أخذتموه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما

ص: 35

أُوحِيَ إليه، ويدل عَلَى ذلك رواية البخاريّ فِي "الجهاد":"هل عندكم شيء منْ الوحي، إلا ما فِي كتاب الله"، وله فِي "الديات":"هل عندكم شيء مما ليس فِي القرآن، وفي "مسند إسحاق بن راهويه" عن جرير، عن مطرف: "هل علمتَ شيئا منْ الوحي؟، وإنما سأله أبو جحيفة عن ذلك؛ لأن جماعة منْ الشيعة، كانوا يزعمون أن عند أهل البيت، لاسيما عليا رضي الله عنه، أشياء منْ الوحي، خصهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بها، لم يُطلِع غيرهم عليها، وَقَدْ سأل عليا رضي الله عنه عن هذه المسألة أيضا قَيسَ بن عُبَاد، وهو بضم المهملة وتخفيف الموحدة، والأشتر النخعي، وحديثهما فِي "سنن النسائيّ".

وقوله: "إلا كتاب الله": هو بالرفع، وَقَالَ ابن المنير: فيه دليل عَلَى أنه كَانَ عنده أشياء مكتوبة، منْ الفقه المستنبط، منْ كتاب الله، وهي المراد بقوله:"أو فهم أعطيه رجل"؛ لأنه ذكره بالرفع، فلو كَانَ الاستثناء منْ غير الجنس، لكان منصوبا. قَالَ الحافظ: كذا قَالَ، والظاهر أن الاستثناء فيه منقطع، والمراد بذكر الفهم إثبات إمكان الزيادة، عَلَى ما فِي الكتاب، وَقَدْ رواه البخاريّ فِي "الديات" بلفظ:"ما عندنا إلا ما فِي القرآن، إلا فهما يُعْطَى رجلٌ فِي الكتاب"، فالاستثناء الأول مفرغ، والثاني منقطع، معناه: لكن إن أَعطَى الله رجلاً فهمًا فِي كتابه، فهو يقدر عَلَى الاستنباط، فتحصل عنده الزيادة بذلك الاعتبار. وَقَدْ روى أحمد بإسناد حسن، منْ طريق طارق بن شهاب، قَالَ: شهدت عليا رضي الله عنه عَلَى المنبر، وهو يقول: والله ما عندنا كتاب نقرأه عليكم، إلا كتاب الله، وهذه الصحيفة"، وهو يزيد ما قلناه أنه لم يرد بالفهم شيئا مكتوبا. انتهى ما فِي "الفتح" 1/ 276 - 277.

(عَبْدًا فَهْمًا فِي كِتَابِهِ)"عبدًا" مفعول أول لـ"يُعطي"، و"فهمًا" مفعوله الثاني، و"فِي "كتابه" متعلّقٌ بـ"فهمًا" (أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ) أي الورقة المكتوبة، وفي رواية الأشتر التالية لهذه الرواية: "ما عهد إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون النَّاس، إلا فِي صحيفة فِي قراب سيفي، فلم يزالوا به، حَتَّى أخرج الصحيفة، فإذا فيها: المؤمنون تكافأ دماؤهم" الْحَدِيث (قُلْتُ: وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ؟، قَالَ: فِيهَا الْعَقْلُ) أي الدية، وإنما سُمِّيت به؛ لأنهم كانوا يُعطون فيها الإبل، ويَربِطونها بفناء دار المقتول بالعِقَال، وهو الحبل، ووقع فِي رواية ابن ماجه بدل العقل: "الديات"، والمراد أحكامها، ومقاديرها، وأصنافها.

(وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ) -بكسر الفاء، وفتحها، وَقَالَ الفراء: الفتح أفصح، والمعنى: أن فيها حكم تخليص الأسير منْ يد العدو، والترغيب فِي ذلك.

(وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بكَافِرٍ) وهذا هو محلّ الترجمة، فقد نصّ عَلَى أنه لا يشرع قتل مسلم بسبب قتله كافرًا مطلقًا، وهذا هو الذي عليه الجمهور، وهو الحقّ، كما سيأتي

ص: 36

تحقيقه فِي المسألة الرابعة، إن شاء الله تعالى.

قَالَ فِي "الفتح": ووقع للبخاريّ ومسلم، منْ طريق يزيد التميمي، عن عليّ رضي الله عنه، قَالَ: ما عندنا شيء نقرأه، إلا كتاب الله، وهذه الصحيفة، فإذا فيها: المدينة حرم .. الْحَدِيث. ولمسلم، عن أبي الطفيل، عن علي رضي الله عنه:"ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، لم يَعُمَّ به النَّاس كافة، إلا ما فِي قراب سيفي هَذَا، وأخرج صحيفة، مكتوبة، فيها: "لعن الله منْ ذبح لغير الله .. الْحَدِيث. وللنسائي منْ طريق الأشتر وغيره، عن علي رضي الله عنه:"فإذا فيها المؤمنون تكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم .. " الْحَدِيث. ولأحمد منْ طريق طارق بن شهاب: فيها فرائض الصدقة.

والجمع بين هذه الأحاديث، أن الصحيفة كانت واحدة، وكان جميع ذلك مكتوبا فيها، فنقل كل واحد منْ الرواة عنه، ما حفظه، والله أعلم، وَقَدْ بَيَّنَ ذلك قتادة فِي روايته لهذا الْحَدِيث، عن أبي حسان، عن علي، وبَيَّنَ أيضا السبب فِي سؤالهم لعلي رضي الله عنه عن ذلك، أخرجه أحمد، والبيهقي فِي "الدلائل"، منْ طريق أبي حسان: أن عليا رضي الله عنه، كَانَ يأمر بالأمر، فيقال: قد فعلناه، فيقول: صدق الله ورسوله، فَقَالَ له الأشتر: هَذَا الذي تقول، أهو شيء عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، دون النَّاس، فذكره بطوله. "فتح" 1/ 277. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عليّ رضي الله عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -13/ 4746 - وفي "الكبرى" 12/ 6946. وأخرجه (خ) فِي "العلم" 111 و"الجهاد" 3047 و"الديات" 6903 (ت) فِي "الديات" 1412 (ق) فِي "الديات" 2658. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان سقوط القصاص عن المسلم إذا قتل كافرًا عمدًا، وسيأتي تحقيق الخلاف بين العلماء فِي ذلك فِي المسألة التالية، إن شاء الله تعالى. (ومنها): إبطال ما تزعمه الشيعة منْ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خصّ عليّا بعلم أشياء لا يعلمها غيره منْ الصحابة رضي الله عنهم. (ومنها): جواز كتابة العلم، وَقَدْ كَانَ فيه اختلاف بين السلف، عملا وتركا، إلا أنه استقر الإجماع بعد ذلك عَلَى جواز كتابة

ص: 37

العلم، بل عَلَى استحبابه، بل لا يبعد وجوبه عَلَى منْ خَشِي النسيان، ممن يتعين عليه تبليغ العلم. كما قاله فِي "الفتح" 1/ 276.

وَقَدْ أشار الحافظ السيوطيّ رحمه الله تعالى إلى ذلك فِي "ألفيّة الأثر"، فَقَالَ:

كِتَابَةُ الْحَدِيثِ فِيهِ اخْتُلِفَا

ثُمَّ الْجَوَازُ بَعْدُ إِجْمَاعًا وَفَى

مُسْتَنَدُ الْمَنْعِ حَدِيثُ مُسْلِمِ

"لَا تَكْتُبُوا عَنِّيَ" فَالْخُلْفُ نُمِي

فَبَعْضُهُمْ أَعَلَّهُ بِالْوَقْفِ

وَآخَرُونَ عَلَّلُوا بِالْخَوْفِ

مِنِ اخْتِلَاطِ بِالْقُرَانِ فَانْتَسَخْ

لأَمْنِهِ وَقِيلَ ذَا لِمَنْ نَسَخْ

الْكُلَّ فِي صَحِيفَةِ وَقِيلَ بَلْ

وَقِيلَ بَلْ لآمِنٍ نِسْيَانَهُ لَا ذِي خَلَلْ

وَقَدْ قلت فِي "شافية الْغُلَل":

كِتَابَةُ الْحَدِيثِ فِيهِ اخْتُلِفَا

كَرِهَهَا قَوْمٌ سَرَاةٌ حُنَفَا

فَمِنْهُمُ زَيْدٌ أَبُو هُرَيْرَةِ

كَذَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَحَبْرُ الأُمَّةِ

كَذَا أَبُو مُوسَى وَنَجْلُ عُمَرَا

كَذَلِكَ الْخُدْرِيْ وَغَيْرُهُمْ جَرَى

وَجَوَّزَتْ طَائِفَةٌ كَعُمَرِ

وَأَنَسٍ مَعَ ابْنِ عَمْرو جَابِرِ

كَذَا عَلِيٌّ وَابْنُهُ الْبَرُّ الْحَسَنْ

وَابْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنْ

وَأَكثَرُ الصِّحَابِ أَيْضًا ذَهَبُوا

وَأَكْثَرُ الأَتْبَاعِ نِعْمَ الْمَذْهَبُ

وَفِرْقَةٌ ثَالِثَةٌ قَدْ جَوَّزَتْ

لِلْحِفْظِ ثُمَّ الْمَحْوَ بَعْدُ أَلْزَمَتْ

أَمَّا دَلِيلُ مَنْ أَبَاحَ "فَاكْتُبُوا"

أَمَّا لِعَكْسِهِ فَجَا "لَا تَكْتُبُوا"

وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَمْعِ قِيلَ الإِذْنُ

لِخَائِفِ النِّسْيَانِ نِعْمَ الأَمْنُ

وَقِيلَ نَهْيُهُ لِئَلَّا يِخْتَلِطْ

مَعَ الْقُرَانِ ثُمَّ زَالَ إِذْ ضُبِطْ

وَقِيلَ نَهْيُهُ لِمَنْ كَتَبَ فِي

صَحِيفَةٍ وَاحِدَةٍ فَلْتَعْرِفِ

وَبَعْضُهُمْ أَعَلَّهُ بِالْوَقْفِ

وَمُسْلِمٌ رَاهُ رَفْعًا يَكْفِي

ثُمَّ أَتَى الإِجْمَاعُ بَعْدُ وَانْتَفَى

الْخُلْفُ فَاكْتُبَنْ تَنَلْ خَيْرًا وَفَا

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي وجوب القصاص إذا قَتَلَ المسلمُ الكافرَ:

ص: 38

ذهب أكثر أهل العلم إلى أنه لا يجب القصاص عَلَى مسلم بقتل كافر، أَيَّ كافر كَانَ، رُوي ذلك عن عمر، وعثمان، وعلي، وزيد بن ثابت، ومعاوية رضي الله عنهم، وبه قَالَ عمر بن عبد العزيز، وعطاء، والحسن، وعكرمة، والزهري، وابن شبرمة، ومالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وابن المنذر. وَقَالَ النخعي، والشعبي، وأصحاب الرأي: يقتل المسلم بالذمي خاصة، قَالَ الإِمام أحمد: الشعبي، والنخعي، قالا: دية المجوسي، واليهودي، والنصراني، مثل دية المسلم، وإن قتله يُقتَل به، هَذَا عَجَبٌ، يصير المجوسي مثل المسلم، سبحان الله، ما هَذَا القول، واستبشعه، وَقَالَ: النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقتل مسلم بكافر"، وهو يقول: يقتل بكافر، فأي شيء أشدُّ منْ هَذَا؟.

وحجة هؤلاء عمومات النصوص، كقوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الآية [البقرة: 178]، وقوله:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية [المائدة: 45]، وقوله:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} الآية [البقرة: 179]، وكقوله صلى الله عليه وسلم:"منْ قُتل له قتيل، فهو بخير النظرين، إما أن يُنل، وإما أن يُفدى" الْحَدِيث، متّفقٌ عليه. واحتجّوا أيضًا بما رَوَى ابن البيلماني: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أقاد مسلما بذمي، وَقَالَ:"أنا حق منْ وفي بذمته"، ولأنه معصوم عصمة مؤبدة، فيقتل به قاتله كالمسلم.

واحتجّ الأولون بقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يقتل مؤمن بكافر"، رواه الإِمام أحمد، وأبو داود، والنسائيّ، وفي لفظ:"لا يقتل مسلم بكافر"، رواه البخاريّ، وأبو داود. ولأنه منقوص بالكفر، فلا يقتل به المسلم، كالمستأمن، وأما العمومات التي احتجّوا بها، فهي مخصوصات بهذا الْحَدِيث، وأما حديث البيلماني، فليس له إسناد، قاله أحمد، وَقَالَ الدارقطنيّ: يرويه ابن البيلماني، وهو ضعيف إذا أسند، فكيف إذا أرسل؟.

وأما المستأمن، فوافق أبو حنيفة الجماعة، فِي أن المسلم لا يقاد به، وهو المشهور عن أبي يوسف، وعنه يقتل به؛ لما سبق فِي الذمي. والصحيح الأول؛ لما ذكرنا. أفاده فِي "المغني" 11/ 465 - 467.

وَقَالَ فِي "الفتح" 14/ 259 - : وأما ترك قتل المسلم بالكافر، فأخذ به الجمهور، إلا أنه يلزم منْ قول مالك فِي قاطع الطريق، ومن فِي معناه: إذا قتل غيلة أن يقتل، ولو كَانَ المقتول ذميا، استثناء هذه الصورة، منْ منع قتل المسلم بالكافر، وهي لا تستثني فِي الحقيقة، لأن فيه معنى آخر، وهو الفساد فِي الأرض. وخالف الحنفية، فقالوا: يقتل المسلم بالذمي، إذا قتله بغير استحقاق، ولا يقتل بالمستأمن. وعن الشعبي، والنخعي: يُقتل باليهودي والنصراني، دون المجوسي، واحتجوا بما وقع عند أبي داود، منْ طريق

ص: 39

الحسن، عن قيس بن عُبَاد، عن علي رضي الله عنه، بلفظ:"لا يُقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد فِي عهده"، وأخرجه أيضا منْ رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وأخرجه ابن ماجه، منْ حديث ابن عباس، والبيهقي عن عائشة، ومعقل بن يسار، وطرقه كلها ضعيفة، إلا طريق الأولى، والثانية، فإن سند كل منهما حسن، وعلى تقدير قبوله، فقالوا: وجه الاستدلال منه، أن تقديره: ولا يقتل ذو عهد فِي عهده بكافر، قالوا: وهو منْ عطف الخاص عَلَى العام، فيقتضى تخصيصه؛ لان الكافر الذي يُقتل به ذو العهد هو الحربي، دون المساوي له، والأعلى، فلا يبقى منْ يُقتل بالمعاهد إلا الحربي، فيجب أن يكون الكافر الذي لا يُقتل به المسلم هو الحربي، تسويةً بين المعطوف والمعطوف عليه. قَالَ الطحاوي: ولو كانت فيه دلالة عَلَى نفي قتل المسلم بالذمي، لكان وجه الكلام أن يقول: ولا ذي عهد فِي عهده، وإلا لكان لحنا، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يلحن، فلما لم يكن كذلك، علمنا أن ذا العهد، هو المَعْنِيُّ بالقصاص، فصار التقدير: لا يقتل مؤمن، ولا ذو عهد فِي عهده بكافر، قَالَ: ومثله فِي القرآن: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} الآية [الطلاق: 4]، فإن التقدير: واللائى يئسن منْ المحيض، واللائى لم يحضن.

وتُعُقِّب بأن الأصل عدم التقدير، والكلام مستقيم بغيره، إذا جعلنا الجملة مستأنفةً، ويؤيده اقتصار الْحَدِيث الصحيح، عَلَى الجملة الأولى، ولو سُلِّم أنها للعطف، فالمشاركة فِي أصل النفي، لا منْ كل وجه، وهو كقول القائل: مررت بزيد منطلقا، وعمرو، فإنه لا يوجب أن يكون بعمرو منطلقا أيضا، بل المشاركة فِي أصل المرور.

وَقَالَ الطحاوي أيضا: لا يصح حمله عَلَى الجملة المستأنفة؛ لأن سياق الْحَدِيث، فيما يتعلق بالدماء التي يسقط بعضها ببعض؛ لأن فِي بعض طرقه:"المسلمون تتكافأ دماؤهم".

وتُعُقّب بأن هَذَا الحصر مردود، فإن فِي الْحَدِيث أحكامًا كثيرة غير هذه.

وَقَدْ أبدى الشافعيّ له مناسبة، فَقَالَ: يشبه أن يكون، لما أعلمهم أن لا قود بينهم وبين الكفار، أعلمهم أن دماء أهل الذمة والعهد، محرمة عليهم بغير حق، فَقَالَ:"لا يقتل مسلم بكافر، ولا يقتل ذو عهد فِي عهده"، ومعنى الْحَدِيث: لا يقتل مسلم بكافر قصاصا، ولا يقتل منْ له عهد ما دام عهده باقيا.

وَقَالَ ابن السمعاني: وأما حملهم الْحَدِيث عَلَى المستأمن، فلا يصح؛ لأن العبرة بعموم اللفظ، حَتَّى يقوم دليل عَلَى التخصيص، ومن حيث المعنى أن الحكم الذي يبنى فِي الشرع عَلَى الإِسلام والكفر، إنما هو لشرف الإِسلام، أو لنقص الكفر، أو لهما

ص: 40

جميعا، فإن الإِسلام ينبوع الكرامة، والكفر ينبوع الهوان، وأيضا إباحة دم الذمي شبهة قائمة؛ لوجود الكفر المبيح للدم، والذمة إنما هي عهد عارض، منع القتل مع بقاء العلة، فمن الوفاء بالعهد أن لا يقتل المسلم ذميا، فان اتفق القتل لم يتجه القول بالقود؛ لأن الشبهة المبيحة لقتله موجودة، ومع قيام الشبهة لا يتجه القود.

قَالَ الحافظ: وذكر أبو عبيد بسند صحيح، عن زفر، أنه رجع عن قول أصحابه، فأسند عن عبد الواحد بن زياد، قَالَ: قلت لزفر: إنكم تقولون: تدرأ الحدود بالشبهات، فجئتم إلى أعظم الشبهات، فأقدتم عليها المسلم يُقتل بالكافر، قَالَ: فاشهد عَلَى أني رجعت عن هَذَا.

وذكر ابن العربي أن بعض الحنفية، سأل الشاشي عن دليل ترك قتل المسلم بالكافر، قَالَ. وأراد أن يستدل بالعموم، فيقول: أخصه بالحربي، فعدل الشاشي عن ذلك، فَقَالَ: وجه دليلي السنة، والتعليل؛ لأن ذكر الصفة فِي الحكم، يقتضي التعليل، فمعنى:"لا يقتل المسلم بالكافر": تفضيل المسلم بالإِسلام، فأسكته.

ومما احتج به الحنفية: ما أخرجه الدارقطنيّ، منْ طريق عمار بن مطر، عن إبراهيم ابن أبي يحيى، عن ربيعة، عن ابن البيلماني، عن ابن عمر، قَالَ: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما بكافر، وَقَالَ:"أنا أولى مَنْ وفي بذمته"، قَالَ الدارقطنيّ: إبراهيم ضعيف، ولم يروه موصولا غيره، والمشهور عن ابن البيلماني، مرسلاً، وَقَالَ البيهقي: أخطأ راويه عمار بن مطر عَلَى إبراهيم، فِي سنده، وإنما يرويه إبراهيم، عن محمد بن المنكدر، عن عبد الرحمن بن البيلماني، هَذَا هو الأصل فِي هَذَا الباب، وهو منقطع، وراويه غير ثقة، كذلك أخرجه الشافعيّ، وأبو عبيد جميعا، عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى.

قَالَ الحافظ: لم ينفرد به إبراهيم، كما يوهمه كلامه، فقد أخرجه أبو داود فِي "المراسيل"، والطحاوي منْ طريق سليمان بن بلال، عن ربيعة، عن ابن البيلماني، وابن البيلماني ضعفه جماعة، ووُثِّق، فلا يحتج بما ينفرد به إذا وصل، فكيف إذا أرسل؟ فكيف إذا خالف؟ قاله الدارقطنيّ. وَقَدْ ذكر أبو عبيد، بعد أن حدث به عن إبراهيم: بلغني أن إبراهيم قَالَ: أنا حدثت به ربيعة، عن ابن المنكدر، عن ابن البيلماني، فرجع الْحَدِيث عَلَى هَذَا إلى إبراهيم، وإبراهيم ضعيف أيضا، قَالَ أبو عبيد: وبمثل هَذَا السند لا تسفك دماء المسلمين.

قَالَ الحافظ: وتبين أن عمار بن مطر خبط فِي سنده. وذكر الشافعيّ فِي "الأم" كلاما: حاصله أن فِي حديث ابن البيلماني أن ذلك كَانَ فِي قصة المستأمن، الذي قتله عمرو بن أمية، قَالَ: فعلى هَذَا لو ثبت لكان منسوخا؛ لأن حديث: "لا يقتل مسلم

ص: 41

بكافر"، خطب به النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، كما فِي رواية عمرو بن شعيب، وقصة عمرو بن أمية متقدمة عَلَى ذلك بزمان.

قَالَ الحافظ: ومن هنا يتجه صحة التأويل الذي تقدم عن الشافعيّ، فان خطبة يوم الفتح، كانت بسبب القتيل الذي قتلته خزاعة، وكان له عهد، فخطب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"لو قتلت مؤمنا بكافر، لقتلته به"، وَقَالَ:"لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد فِي عهد"، فأشار بحكم الأول، إلى ترك اقتصاصه منْ الخزاعي، بالمعاهد الذي قتله، وبالحكم الثاني إلى النهي عن الإقدام عَلَى ما فعله القاتل المذكور. والله أعلم.

ومن حججهم: قطع المسلم بسرقته مال الذمي، قالوا: والنفس أعظم حرمة. وأجاب ابن بطال: بأنه قياس حسن، لولا النص. وأجاب غيره: بأن القطع حق لله، ومن ثم لو أعيدت السرقة بعينها، لم يسقط الحد ولو عفا، والقتل بخلاف ذلك، وأيضا القصاص يشعر بالمساواة، ولا مساواة للكافر والمسلم، والقطع لا تُشتَرط فيه المساواة. انتهى "الفتح" 14/ 259 - 260.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما ذُكر أن قول الجمهور بعدم ثبوت القصاص بقتل المسلم الكافر مطلقًا هو الحقُّ؛ لقوة أدلّته، كما مرّ توضيحه آنفًا، ومما يؤيده كما قَالَ الشوكانيّ- قوله تعالى:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النِّساء: 141]، ولو كَانَ للكافر أن يقتص منْ المسلم، لكان فِي ذلك أعظم سبيل، وَقَدْ نفى الله تعالى أن يكون له عليه السبيل نفيا مؤكدًا، وقوله تعالى:{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20]، ووجهه أن الفعل الواقع فِي سياق النفي، يتضمن النكرة فهو فِي قوة: لا استواء، فيعم كل أمر منْ الأمور إلا ما خص.

ويؤيد ذلك أيضا قصة اليهودي، الذي لطمه المسلم، لَمّا قَالَ: لا، والذي اصطفى موسى عَلَى البشر، فلطمه المسلم، فإن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، لم يثبت له الاقتصاص، كما فِي "الصحيح"، وهو حجة عَلَى الكوفيين؛ لأنهم يثبتون القصاص باللطمة، ومن ذلك حديث:"الإِسلام يعلو، ولا يُعلَى عليه"، وهو وإن كَانَ فيه مقال، لكنه قد علقه البخاريّ فِي "صحيحه". انظر "نيل الأوطار" 7/ 14.

والحاصل أن مذهب الجمهور هو الحقّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4747 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ، قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: مَا عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَىْءٍ، دُونَ

ص: 42

النَّاسِ إِلاَّ فِي صَحِيفَةٍ فِي قِرَابِ سَيْفِي، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ، حَتَّى أَخْرَجَ الصَّحِيفَةَ، فَإِذَا فِيهَا:"الْمُؤْمِنُونَ تَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا.

و"همّام": هو ابن يحيى الْعَوْذيّ البصريّ. و"أبو حَسّان": هو مسلم بن عبد الله الأعرج الأجرد البصريّ، صدوق رُمي برأي الخوارج [4] 14/ 473.

وقوله: "ما عَهِدَ": بفتح العين المهملة، وكسر الهاء: أي ما أوصى إليّ، وما أمرني بشيء.

وقوله: "قراب سيفي": بكسر القاف: هو وعاء يكون فيه السيف بغِمْده، وحمائله.

وقوله: "تكافأ" بحذف إحدى التاءين، وأصله: تتكافأ: أي تتماثل، وتتشابه.

والحديث صحيحٌ، وَقَدْ تقدّم تمام شرحه، وبيان مسائله فِي 9/ 4736 فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4748 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ الأَعْرَجِ، عَنِ الأَشْتَرِ، أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ تَفَشَّغَ بِهِمْ مَا يَسْمَعُونَ، فَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَهِدَ إِلَيْكَ عَهْدًا، فَحَدِّثْنَا بِهِ، قَالَ: مَا عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَهْدًا لَمْ يَعْهَدْهُ إِلَى النَّاسِ، غَيْرَ أَنَّ فِي قِرَابِ سَيْفِي صَحِيفَةً، فَإِذَا فِيهَا: "الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ"، مُخْتَصَرٌ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الإسناد تقدّم أول الباب، إلى "الحجّاج بن الحجّاج": وهو الباهليّ البصريّ الأحول، ثقة [6] 53/ 614. و"الأشتر": هو مالك بن الحارث النخعيّ الكوفيّ المخضرم [2] 9/ 4734.

وقوله: "قد تفشّغ بهم": بفاء وشين، وغين معجمتين: أي فشا، وانتشر فيهم ما يسمعون، أي منك، منْ كثرة "سبحان الله، صدق الله ورسوله"، فإنه رضي الله عنه كَانَ يُكثر ذلك، فزعم النَّاس أن عنده علمًا مخصوصًا به. قاله السنديّ.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ويحتمل أن يكون معنى قوله: "ما يسمعون": أي مما يتحدّث النَّاس بأن عند عليّ رضي الله عنه علمًا خصّه به النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويؤيّد الأول ما أخرجه أحمد فِي "مسنده" منْ طريق علي بن زيد، عن الحسن، عن قيس بن عُبَاد، قَالَ: كنا مع علي رضي الله عنه، فكان إذا شهد مشهدا، أو أشرف عَلَى أَكَمَة، أو هبط واديا،

ص: 43

قَالَ: سبحان الله، صدق الله ورسوله، فقلت لرجل منْ بني يشكر: انطلق بنا إلى أمير المؤمنين، حَتَّى نسأله عن قوله: صدق الله ورسوله، قَالَ: فانطلقنا إليه، فقلنا: يا أمير المؤمنين، رأيناك إذا شهدت مشهدا، أو هبطت واديا، أو أشرفت عَلَى أكمة، قلت: صدق الله ورسوله، فهل عهد رسول الله إليك شيئا فِي ذلك؟ قَالَ: فأعرض عنا، وألححنا عليه، فلما رأى ذلك، قَالَ: والله ما عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عهدا إلا شيئا عهده إلى النَّاس، ولكن النَّاس وقعوا عَلَى عثمان رضي الله عنه، فقتلوه، فكان غيري فيه أسوأ حالا وفعلا مني، ثم إني رأيت أني أحقهم بهذا الأمر، فوثبت عليه، فالله أعلم أصبنا، أم أخطأنا؟.

وفي إسناده علي بن زيد بن جُدْعان، والأكثرون عَلَى تضعيفه. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: ضبط السيوطيّ رحمه الله تعالى فِي "شرحه" قوله: "تَفَشَّغَ" بأنه بالقاف، والشين المعجمة، والعين المهملة: أي تصدّع، وأقلع. انتهى. وردّه عليه السنديّ، ونصّه: وَقَدْ ذكر السيوطي هاهنا ما لا يناسب المقام، فليُتنبّه لذلك. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه اللفظة اختلفت فيها النسخ، ففي معظم نسخ "المجتبى":"تفشّغ"، بتقديم الفاء، وآخره غين معجمة، وفي بعضها:"تقشّع" بتقديم القاف، وآخره عين مهملة، كما هو عند السيوطيّ، وفي "الكبرى":"تشفّغ" بتقديم الشين عَلَى الفاء، وآخره غين معجمة.

والظاهر أن ما فِي معظم النسخ هو الصواب، كما أشار إليه السنديّ، فإنه الذي فِي "مسند أحمد"، كما سيأتي قريبًا، وأما ما وقع فِي "الكبرى" فالظاهر أنه تصحيف؛ لأني لم أجد مادة "شفغ" فِي "القاموس"، ولا فِي غيره منْ كتب اللغة التي بين يديّ، وغاية ما هنالك أنه يوجد فِي "اللسان""شفشغ" بالتكرار، ومعناه: أدخل الشيء، وأخرجه، أو بمعنى حرك اللجام فِي الفم، ولا يناسب هنا. والله تعالى أعلم.

وقوله: "مختصرٌ": أي هَذَا الْحَدِيث مختصر منْ الْحَدِيث الطويل، وَقَدْ ساقه الإِمام أحمد رحمه الله تعالى مطوّلاً فِي "مسنده"، فَقَالَ:

962 -

حدثنا بهز، حدثنا همام، أنبأنا قتادة، عن أبي حسان، أن عليا رضي الله عنه، كَانَ يأمر بالأمر، فيؤتى، فيقال: قد فعلنا كذا وكذا، فيقول: صدق الله ورسوله، قَالَ: فَقَالَ له الأشتر: إن هَذَا الذي تقول: قد تفشغ فِي النَّاس، أفشيء عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ علي رضي الله عنه: ما عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، خاصة دون النَّاس، إلا شيء سمعته منه، فهو فِي صحيفة، فِي قراب سيفي، قَالَ: فلم يزالوا به، حَتَّى أخرج الصحيفة، قَالَ: فإذا فيها: "منْ أحدث حدثا، أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله،

ص: 44

والملائكة، والناس أجمعين، لا يُقبَل منه صرف ولا عدل"، قَالَ: وإذا فيها: "إن إبراهيم حَرَّمَ مكة، وإني أحرم المدينة، حرام ما بين حرتيها، وحماها كله، لا يختلى خلاها، ولا يُنَفَّر صيدها، ولا تلتقط لقطتها، إلا لمن أشار بها، ولا تقطع منها شجرة، إلا أن يعلف رجل بعيره، ولا يُحمَل فيها السلاح لقتال"، قَالَ: وإذا فيها: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد عَلَى منْ سواهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد فِي عهده".

والحديث صحيح، وَقَدْ سبق القول فيه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌14 - (تَعْظِيمُ قَتْلِ الْمُعَاهِدِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "المعاهد" بفتح الهاء، وكسرها: الذميّ، قَالَ الفيّوميّ رحمه الله تعالى: العهد: الأمان، والْمَوْثِقُ، والذمّة، ومنه قيل للحربيّ، يدخل بالأمان: ذو عهد، ومعاهد أيضًا بالبناء للفاعل والمفعول؛ لأن الفعل منْ اثنين، فكلّ واحد يفعل بصاحبه مثل ما يفعله صاحبه به، فكلّ واحد فِي المعنى فاعلٌ، ومفعولٌ، وهذا كما يقال: مكاتِبٌ، ومكاتَبٌ، ومضارِبٌ، ومضارَبٌ، وما أشبه ذلك، والمعاهدة: المعاقدة، والمحالفة. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.

4749 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عُيَيْنَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَتَلَ مُعَاهِدًا، فِي غَيْرِ كُنْهِهِ، حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) أبو مسعود الْجَحْدريّ البصريّ، ثقة [10] 42/ 47.

2 -

(خالد) بن الحارث الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقة ثبتٌ [8] 42/ 47.

3 -

(عُيينة) -بضم العين المهملة، مصغّرًا-: هو ابن عبد الرحمن بن جَوْشن الْغَطَفَانيّ البصريّ، صدوقٌ [7] 44/ 1912.

ص: 45

4 -

(أبوه) عبد الرحمن بن جَوْشَن -بفتح الجيم، والشين المعجمة، وسكون الواو- الْغَطَفانيّ -بفتح المعجمة، والطاء المهملة، والفاء- البصريّ، ثقة [3] 44/ 1912.

5 -

(أَبُو بَكْرَةَ) نُفيع بن الحارث بن كَلَدَة -بفتحتين- بن عمرو الثقفيّ الصحابيّ المشهور بكنيته، وقيل: اسمه مَسْرُوح بمهملات- أسلم بالطائف، ثم نزل البصرة، ومات رضي الله عنه بها سنة (1) أو (52 هـ) وتقدمت ترجمته فِي 41/ 836. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه أبا بكرة ممن لُقّب بصورة الكنية، وكنيته أبو عبد الرحمن، وإنما لُقب بأبي بكرة؛ لكونه تدلّى منْ حصن الطائف ببكرة البئر، فأسلم، فكُنِيَ بذلك. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عُيَيْنَةَ) بن عبد الرحمن الغطفانيّ، أنه (قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي) عبد الرحمن بن جَوْشَن الغطفانيّ (قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرَةَ) نُفَيع بن الحارث رضي الله تعالى عنه (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ) صلى الله عليه وسلم (مَنْ) شرطيّة مبتدأ، جوابها قوله:"حرّم الله الخ"، وهو الخبر عَلَى الأصحّ (قَتَلَ) بالبناء للفاعل (مُعَاهِدًا) قَالَ فِي "النهاية" 3/ 325 - : يجوز أن يكون بكسر الهاء، وفتحها، عَلَى الفاعل والمفعول، وهو فِي الْحَدِيث بالفتح أشهر وأكثر، والمعاهد منْ كَانَ بينك وبينه عهدٌ، وأكثر ما يُطلق فِي الْحَدِيث عَلَى أهل الذّمّة، وَقَدْ يُطلق عَلَى غيرهم، منْ الكفّار إذا صولحوا عَلَى ترك الحرب مدّةً مّا. انتهى.

وَقَالَ فِي "الفتح" 14/ 257 - المراد بالمعاهد منْ له عهد مع المسلمين، سواء كَانَ بعقد جزية، أو هُدْنة، منْ سلطان، أو أمان منْ مسلم. انتهى.

(فِي غَيْرِ كُنْهِهِ) بضم الكاف، وسكون النون: قَالَ فِي "النهاية" 4/ 206 - : كُنْهُ الأمرِ: حقيقته، وقيل: وقته وقدره. وقيل: غايته- يعني منْ قتله فِي غير وقته، أو غاية أمره الذي يجوز فيه قتله. انتهى. وَقَالَ فِي "اللسان" 13/ 536 - 537 - : كُنْهُ كلّ شيء: قدرُهُ، ونهايته، وغايته، يقال: أعرِفه كُنْهَ المعرِفَةِ. قَالَ: تقول: بلغت كنه هَذَا الأمر: أي غايته، وفعلتُ كذا فِي غير كنهه: أي وقته، قَالَ الشاعر [منْ الطويل]:

وَإِنَّ كَلَامَ الْمَرْءِ فِي غَيْرِ كُنْهِهِ

لَكَالنَّبْلِ تَهْوِي لَيْسَ فِيهَا نِصَالُهَا

قَالَ الجوهريّ: لا يُشتقّ منه فعلٌ، وقولهم: لا يَكْتنهه الوصف، بمعنى لا يبلُغُ

ص: 46

كُنهه، كلامٌ مولّدٌ. انتهى. وَقَالَ الأزهريّ: اكتنهتُ الأمر اكتناهًا: إذا بلغتَ كنهه. انتهى.

وفي الرواية التالية: "منْ قتل نفسًا مُعاهدةً بغير حِلِّها". وللبيهقي منْ رواية صفوان بن سليم، عن ثلاثين منْ أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن آبائهم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ:"منْ قتل معاهدا، له ذمة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم".

(حَرَّمَ) بتشديد الراء، منْ التحريم (اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) أي منعه منْ دخولها أوّلاً، أو بالاستحقاق. أفاده السنديّ. وَقَالَ فِي "العون" 7/ 313 - : أي لا يدخلها مع أول منْ يدخلها منْ المسلمين الذين لم يقترفوا الكبائر.

وَقَالَ الحافظ فِي "الفتح" 14/ 257 - : والمراد بهذا النفي، وإن كَانَ عاما التخصيص بزمانٍ مّا؛ لِمَا تعاضدت الأدلة العقلية والنقلية، أن منْ مات مسلما، ولو كَانَ منْ أهل الكبائر، فهو محكوم بإسلامه، غير مخلد فِي النار، ومآله إلى الجنة، ولو عُذِّبَ قبل ذلك. انتهى.

وَقَالَ الشوكانيّ: وأما قاتل المعاهد، فالحديثان مصرّحان بأنه لا يجد رائحة الجنة، وذلك مستلزم لعدم دخولها أبدًا، وهذان الحديثان، وأمثالهما ينبغي أن يُخصّص بهما عموم الأحاديث القاضية بخروج الموحّدين منْ النار، ودخولهم الجنة بعد ذلك. انتهى "نيل الأوطار" 7/ 15.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: دعوى الشوكانيّ تخصيص العمومات بهذا الْحَدِيث، فيه نظرٌ لا يخفى، فالأولى ما عليه الجمهور، كما تقدّم آنفًا عن الحافظ، فتبصّر. والله تعالى أعلم.

وفي الرواية التالية: "حرّم الله عليه الجنّة أن يشُمّ ريحها". وفي حديث القاسم بن مُخيمِرة، عن رجل منْ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم الآتي بعد حديث:"منْ قتل رجلاً منْ أهل الذمّة لم يجد ريح الجنّة، وإن ريحها ليوجد منْ مسيرة سبعين عامًا". وفي حديث عبد الله بن عمرو الآتي فِي هَذَا الباب أيضًا: "منْ قتل قتيلاً منْ أهل الذّمّة لم يجد ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد منْ مسيرة أربعين عامًا". وسيأتي الجمع بين هذه الروايات فِي الْحَدِيث الثالث، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي بكرة رضي الله عنه هَذَا صحيح.

ص: 47

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -14/ 4749 و4750 - وفي "الكبرى" 13/ 6949 و6950. وأخرجه (د) فِي "الجهاد" 2760 (أحمد) فِي "مسند البصريين" 19864 و19884 و27533 و19993 و20000 (الدارمي) فِي "السير" 2392. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان تعظيم قتل المعاهد. (ومنها): جواز معاهدة الكفّار، وعقد الذّمّة لهم. (ومنها): بيان عظمة الإِسلام، ورفعة مكانته، حيث إنه يُراعي حقوق كلّ النَّاس، ولو كانوا غير مسلمين، ما داموا مسالمين لأهل الإِسلام، واعتباره الاعتداء عليهم جريمة كبرى، بحيث يستحقّ به المسلم، إذا ارتكبه حرمان الجنّة التي ثبتت له بإسلامه، فلما اعتدى فِي الإِسلام، ولم يحترم حدوده عاقبه الله تعالى بمنعه عن مقامه الرفيع، الذي نوّه الله تعالى بأنه منْ مقام الفوز الأكبر، حيث قَالَ عز وجل:{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} الآية [آل عمران: 185]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4750 -

(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ الأَعْرَجِ، عَنِ الأَشْعَثِ بْنِ ثُرْمُلَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهِدَةً، بِغَيْرِ حِلِّهَا، حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، أَنْ يَشُمَّ رِيحَهَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الحسين بن حُريث": هو الْخُزاعيّ مولاهم، أبو عمّار المروزيّ، ثقة [10] 44/ 52. و"إسماعيل": هو ابن عُليّة. و"يونس": هو ابن عُبيد، أبو عبيد البصريّ، الثقة الثبت الفاضل الورع [5] 88/ 109.

و"الحكّم بن الأعرج": هو ابن عبد الله بن إسحاق بن الأعرج البصريّ، ثقة، ربّما وَهِم [3].

روى عن ابن عبّاس، وابن عمر، وعمران بن حُصين، ومعقِل بن يسار، وأبي بكرة، وأبي هريرة. وعنه ابن أخيه أبو خُشَينة، حاجب بن عُمر، وخالد الحذّاء، وسعيد الجريريّ، ومعاوية بن عمرو بن غلَاب، ويونس بن عُبيد، وعليّ بن زيد بن جُدعان، وغيرهم.

قَالَ أحمد: ثقة. وَقَالَ أبو زرعة: ثقة، وَقَالَ مرّة: فيه لين. وَقَالَ العجليّ: بصريّ تابعيّ ثقة. وَقَالَ ابن سعد: كَانَ قليل الْحَدِيث. وَقَالَ يعقوب بن سُفيان: لا بأس به. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". روى له مسلم، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، له

ص: 48

عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.

و"الأشعث بن ثُرْمُلَة" -بضمّ الثاء المثلّثة، بعدها راء ساكنة، ثم ميم مضمومة، ثم لام مفتوحة خفيفة- البصريّ ثقة [3].

روى عن أبي بكرة رضي الله عنه: "منْ قتل نفسًا معاهدة". وعنه الحكم بن الأعرج، ويونس بن عُبيد. قَالَ ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة مشهور. وَقَالَ البزّار: قديمٌ، لم يرو غير هَذَا الْحَدِيث. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وصحح حديثه هو والحاكم. تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.

وقوله: "معاهدة" تقدّم أنه يجوز ضبطه بفتح الهاء وكسرها. وقوله: "بغير حلّها": أي بغير سبب يُحلُّ قتلها، منْ نقض عهد، أو غير ذلك. وقوله:"أن يشمّ ريحها""أن" مصدريّة، وهو فِي تأويل المصدر بدل منْ "الجنّة" بدل اشتمال.

والحديث صحيح، وَقَدْ تقدّم الكلام عليه فِي الذي قبله.

[تنبيه]: أخرج المصنّف رحمه الله تعالى هَذَا الْحَدِيث فِي "السير" منْ "الكبرى" عن إبراهيم بن يعقوب، عن حجاج بن منهال، عن حمّاد بن سلمة، عن يونس، عن الحسن، عن أبي بكرة به، وَقَالَ: هَذَا خطأ، والصواب حديث ابن عليّة -يعني الإسناد الذي فِي هَذَا الباب- قَالَ: وابن عُليّة أثبت منْ حمّاد. انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4751 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يِسَافٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ قَتَلَ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، لَمْ يَجِدْ رِيحَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ سَبْعِينَ عَامًا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "النضر": هو ابن شُمَيل المازنيّ، أبو الحسن البصريّ، نزيل مرو، ثقة، ثبتٌ، منْ كبار [9] 41/ 45. و"منصور": هو ابن المعتمر. و"هلال بن يساف" -بكسر التحتانيّة، ثم مهملة، ثم فاء، ويقال: إساف، الأشجعيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة [3] 39/ 43. و"القاسم بن مُخَيمِرَة" -مصغّرًا-: هو أبو عروة الْهَمْدانيّ الكوفيّ، نزيل الشام، ثقة فاضلٌ [3] 99/ 128.

وقوله: "منْ أهل الذّمّة": أي العهد، ويقال للمعاهد الذمي نسبة إلى الذمة، ومنه:"ذمة المسلمين واحدة". قاله فِي "الفتح".

(1)

راجع "تحفة الأشراف" 9/ 37 و42.

ص: 49

وقوله سبعين عاما" وفي حديث عبد الله بن عمرو الآتي بعده: "وإن ريحها ليوجد منْ مسيرة أربعين عامًا". وكذا هو فِي "صحيح البخاريّ"، قَالَ فِي "الفتح": كذا وقع للجميع، وخالفهم عمرو بن عبد الغفار، عن الحسن بن عمرو، عند الإسماعيلي، فَقَالَ: "سبعين عاما"، ومثله فِي حديث أبي هريرة، عند الترمذيّ، منْ طريق محمد بن عجلان، عن أبيه، عنه، ولفظه: "وإن ريحها ليوجد منْ مسيرة سبعين خريفا"، ومثله فِي رواية صفوان بن سليم، المشار إليها، ونحوه لأحمد، منْ طريق هلال بن يساف، عن رجل، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "سيكون قوم لهم عهد، فمن قَتَل منهم رجلا، لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد منْ مسيرة سبعين عاما"، وعند الطبراني فِي "الأوسط"، منْ طريق محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، بلفظ: "منْ مسيرة مائة عام"، وفي الطبراني عن أبي بكرة: "خمسمائة عام"، ووقع فِي "الموطإ" فِي حديث آخر: "إن ريحها يوجد منْ مسيرة خمسمائة عام"، وأخرجه الطبراني فِي "المعجم الصغير" منْ حديث أبي هريرة، وفي حديث لجابر ذكره صاحب "الفردوس": "إن ريح الجنة يُدرك منْ مسيرة ألف عام".

قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: وهذا اختلاف شديد، وَقَدْ تكلم ابن بطال عَلَى ذلك، فَقَالَ: الأربعون هي الأشَدُّ، فمن بلغها زاد عمله ويقينه وندمه، فكأنه وجد ريح الجنة التي تبعثه عَلَى الطاعة، قَالَ: والسبعون آخر المعترك، ويَعرِض عندها الندم، وخشية هجوم الأجل، فتزداد الطاعة، بتوفيق الله، فيجد ريحها منْ المدة المذكورة، وذكر فِي الخمسمائة كلاما متكلفا، حاصله أنها مدة الفترة التي بين كل نبي ونبي، فمن جاء فِي آخرها، وآمن بالنبيين، يكون أفضل منْ غيره، فيجد ريح الجنة.

وَقَالَ الكرماني: يحتمل أن لا يكون العدد بخصوصه مقصودا، بل المقصود المبالغة، فِي التكثير، ولهذا خص الأربعين، والسبعين؛ لأن الأربعين يشتمل عَلَى جميع أنواع العدد؛ لأن فيه الأحاد، وأحاده عشرة، والمائة عشرات، والألف مئات، والسبع عدد فوق العدد الكامل، وهو ستة، إذ أجزاؤه بقدره، وهي النصف، والثلث، والسدس، بغير زيادة ولا نقصان، وأما الخمسمائة فهي ما بين السماء والأرض.

قَالَ الحافظ: والذي يظهر لي فِي الجمع، أن يقال: إن الأربعين أقل زمن يُدرِك به ريحَ الجنة مَنْ فِي الموقف، والسبعين فوق ذلك، أو ذكرت للمبالغة، والخمسمائة، ثم الألف أكثر منْ ذلك، ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص، والأعمال، فمن أدركه منْ المسافة البعدى، أفضل ممن أدركه منْ المسافة القربى، وبين ذلك، وَقَدْ أشار إلى ذلك شيخنا -يعني الحافظ العراقيّ- فِي "شرح الترمذيّ"، فَقَالَ: الجمع بين هذه الروايات،

ص: 50

أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، بتفاوت منازلهم، ودرجاتهم. ثم رأيت نحوه فِي كلام ابن العربي، فَقَالَ: ريح الجنة لا يُدرك بطبيعة، ولا عادة، إنما يدرك بما يخلق الله منْ إدراكه، فتارة يدركه منْ شاء الله منْ مسيرة سبعين، وتارة منْ مسيرة خمسمائة.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الحافظ العراقيّ رحمه الله تعالى عندي أظهر. والله تعالى أعلم.

ونقل ابن بطال، أن المهلب احتج بهذا الْحَدِيث عَلَى أن المسلم، إذا قَتَل الذمي، أو المعاهد، لا يقتل به، للاقتصار فِي أمره عَلَى الوعيد الأخروي، دون الدنيوي. وَقَدْ تقدّم البحث فِي هَذَا الحكم مستوفى فِي الباب الذي قبل هَذَا، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

والحديث صحيح، تفرّد به المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -14/ 4751 - وفي "الكبرى" 13/ 6951. وأخرجه (أحمد) فِي "مسند الشاميين" 17606 و"مسند الأنصار" 22618. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4752 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، دُحَيْمٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ -وَهُوَ ابْنُ عَمْرٍو- عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً، مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، لَمْ يَجِدْ رِيحَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.

و"عبد الرحمن بن إبراهيم": هو العثمانيّ مولاهم، أبو سعيد الدمشقيّ، لقبه دُحَيم -بمهملتين، مصغّرًا - ابن اليتيم، ثقة حافظ متقنٌ [10] 45/ 56. و"مروان": هو ابن معاوية بن الحارث بن أسماء الفزاريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل مكة، ثم دمشق، ثقة حافظ، وكان يدلّس أسماء الشيوخ [8] 50/ 850.

[تنبيه]: وقع فِي نسخ "المجتبى" هارون" بدل "مروان"، وهو تصحيف فاحشٌ، والصواب "مروان"، كما هو فِي "الكبرى" 4/ 221 ولفظه: "حدّثنا مروان، وهو ابن معاوية". وكذا هو فِي "تحفة الأشراف" 6/ 285، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

و"الحسن بن عمرو": هو الْفُقَيميّ -بضمّ الفاء، وفتح القاف- التيميّ الكوفيّ، ثقة ثبتٌ [6].

وفي "تهذيب التهذيب" 1/ 409 - 410: رَوَى عن مجاهد، وسعيد بن جبير، والحكم بن عتيبة، وأبي الزبير، ومنذر الثوري، وأخيه الفضل بن عمرو الفقيمي،

ص: 51

ومحارب بن دثار، وإبراهيم النخعي، وغيرهم. وعنه الثوري، وابن المبارك، وابن حي، وحفص بن غياث، وعبد الواحد بن زياد، وابن أخيه عمرو بن عبد الغفار بن عمرو، وأبو معاوية، وأبو بكر بن عياش، ومحمد بن فضيل، وعدة. قَالَ ابن المديني: قلت ليحيى بن سعيد: أيما أعجب إليك الحسن بن عبيد، أو الحسن بن عمرو؟ قَالَ: ابن عمرو أثبتهما، وَقَالَ أحمد، وابن معين، والنسائي: ثقة، وزاد ابن أبي مريم، عن ابن معين: حجة. وَقَالَ أبو حاتم: لا بأس به، صالح. قَالَ ابن سعد: توفي فِي أول خلافة أبي جعفر. وَقَالَ الحاكم، عن الدارقطنيّ: لا بأس به. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". روى له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، وله عند المصنّف حديثان فقط: هَذَا، وفي "كتاب الأشربة" 57/ 5749 - حديث إبراهيم:"كانوا يرون أن منْ شرب شرابًا، فسكِر منه لم يصلح له أن يعود إليه".

و"مجاهد": هو ابن جبر، أبو الحجاج المخزوميّ، المكيّ الإِمام المفسّر.

و"جُنادة" -بضم الجيم، ثم نون- ابن أبي أُميّة الأزدي، ثم الزهراني، ويقال: الدوسي، أبو عبد الله الشاميّ، ويقال: اسم أبي أمية كثير، مختلف فِي صحبته.

وفي "تهذيب التهذيب 1/ 317: رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عمر، وعلي، ومعاذ، وأبي الدرداء، وعبد الله بن عمرو، وعبادة بن الصامت، وبُسر بن أبي أرطاة. وعنه ابنه سليمان، وعُمير بن هانىء، وعُبادة بن نُسَيّ، وبسر بن سعيد، وشُيَيم بن بَيْتان، وغيرهم. قَالَ ابن يونس: كَانَ منْ الصحابة، شهد فتح مصر، وولي البحرين لمعاوية. وَقَالَ العجليّ: شاميّ تابعيّ ثقة، منْ كبار التابعين، سكن الأُرْدُنَّ. وذكره ابن سعد فِي الطبقة الأولى، منْ تابعيّ أهل الشام. قَالَ الحافظ: وممن أثبت صحبته يحيى بن معين، ففي سؤالات إبراهيم بن الجنيد عنه: جنادة بن أبي أمية الأزدي، الذي روى عنه مجاهد، له صحبة؟ قَالَ: نعم، قلت: الذي روى عن عبادة؟ قَالَ: هو هو. وذكره ابن حبّان، فِي ثقات التابعين، وَقَالَ: قيل إن له صحبةً، وليس ذلك بصحيح. قَالَ الحافظ: الحقّ أنهما اثنان: أحدهما صحابي، والآخر تابعيّ، وَقَدْ بينت ذلك بأدلته فِي "معرفة الصحابة".

قَالَ الواقدي، وخليفة، وغيرهما: مات سنة (80) زاد الواقدي: وكان ثقة، صاحب غزو. وقيل: مات سنة (86)، وقيل: سنة (75). روى له الجماعة، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب حديثان فقط: هَذَا، وفي "كتاب قطع السارق" 16/ 4981 - حديث بسر ابن أرطاة رضي الله عنه قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تُقطع الأيدي فِي السفر". والله تعالى أعلم.

ص: 52

و"عبد الله بن عمرو": هو ابن العاص رضي الله تعالى عنهما.

[تنبيه]: تفرّد مروان بن معاوية بإدخال "جنادة بن أُميّة" بين مجاهد وعبد الله بن عمرو، وَقَدْ خالفه غيره، فجعلوه: عن مجاهد، عن عبد الله، فقد أخرج الْحَدِيث البخاريّ فِي "صحيحه" منْ طريق عبد الواحد بن زياد، عن الحسن بن عمرو، قَالَ: حدّثنا مجاهدٌ، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، فلم يذكر جنادة.

قَالَ فِي "الفتح": قوله: "مجاهد، عن عبد الله بن عمرو": أي بن العاص كذا قَالَ عبد الواحد، عن الحسن بن عمرو، وتابعه أبو معاوية، عند ابن ماجه، وعمرو بن عبد الغفار الفُقَيمي، عند الإسماعيلي، فهؤلاء ثلاثة، رووه هكذا، وخالفهم مروان بن معاوية، فرواه عن الحسن بن عمرو، فزاد فيه رجلا بين مجاهد وعبد الله بن عمرو، وهو جُنادة بن أبي أمية، أخرجه منْ طريقه النسائيّ، ورجح الدارقطنيّ رواية مروان؛ لأجل هذه الزيادة، لكن سماع مجاهد منْ عبد الله بن عمرو ثابت، وليس بمُدَلِّس، فيحتمل أن يكون مجاهد سمعه أَوّلاً منْ جنادة، ثم لَقِي عبد الله بن عمرو، أو سمعاه معا، وثَبَّته فيه جنادة، فحدث به عن عبد الله بن عمرو تارة، وحدث به عن جُنادة أخرى، ولعل السر فِي ذلك ما وقع بينهما منْ زيادة، أو اختلاف لفظ، فإن لفظ النسائيّ منْ طريقه:"منْ قتل قتيلا، منْ أهل الذمة، لم يجد ريح الجنة"، فَقَالَ:"منْ أهل الذمة"، ولم يقل:"مُعاهدًا"، وهو بالمعنى، ووقع فِي رواية أبي معاوية:"بغير حق"، كما تقدم ووقع فِي رواية الجميع:"أربعين عاما"، إلا عمرو بن عبد الغفار، فَقَالَ:"سبعين"، ووقع مثله فِي حديث أبي هريرة، عند الترمذيّ. انتهى "فتح" 6/ 406. والله تعالى أعلم.

(تنبيه آخر): قَالَ فِي "الفتح" أيضًا: اتفقت النسخ- يعني نسخ "صحيح البخاريّ" عَلَى أن الْحَدِيث منْ مسند عبد الله بن عمرو بن العاص، إلا ما رواه الأصيلي، عن الجرجاني، عن الفربري، فَقَالَ: عبد الله بن عُمَر -بضم العين، بغير واو- وهو تصحيف، نَبَّه عليه الجيّانيّ. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.

وقوله: "لم يجد ريح الجنّة": وفي رواية البخاريّ: "لم يرح رائحة الجنّة": وهو -بفتح الياء والراء- وأصله يَرَاح، منْ راح يَرَاح: أي وجد الريح. وحكى ابن التين ضم أوله، وكسر الراء، قَالَ: والأول أجود، وعليه الأكثر. وحكى ابن الجوزي ثالثة، وهي فتح أوله، وكسر ثانيه، منْ راح يَرِيح. قاله فِي "الفتح" 6/ 406.

وَقَالَ الفيّوميّ: راح زيدٌ الريح يَرَاحها رَوْحًا، منْ باب خاف: اشتمّها، وراحها رَيْحًا، منْ باب سار، وأراحها بالألف كذلك، وفي الْحَدِيث:"لم يرح رائحة الجنّة"

ص: 53

مرويّ باللغات الثلاث. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما هَذَا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -14/ 4752 - وفي "الكبرى" 13/ 6952. وأخرجه (خ) فِي "الجزية والموادعة" 3166 و"الديات" 6914 (ق) فِي "الديات" 2686. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌15 - (سُقُوطُ الْقَوَدِ بَيْنَ الْمَمَالِيكِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: فِي ترجمة المصنّف رحمه الله تعالى هذه إشارة إلى أن المراد بالغلام فِي الْحَدِيث هو العبد، وبهذا يقول أبو داود، فقد ترجم فِي "سننه" بقوله:"باب جناية العبد، يكون للفقراء".

وفيها إشارة أيضًا إلى أن قطع العبد أذن العبد كَانَ عمدًا، وإنما لم يجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم لهم شيئًا: أي قصاصا، أو غيره؛ لعدم مشروعيّة القصاص بين العبيد فيما دون النفس، وهذا مذهب طائفة منْ العلماء، وسيأتي تحقيقه قريبًا، إن شاء الله تعالى.

وَقَدْ مال الخطّابيّ رحمه الله تعالى إلى أن الغلام الجاني كَانَ حرّا، وكانت جنايته خطأ، وأن عاقلته كانت فقراء، وإنما تواسي العاقلة عن وُجْد، وسَعَةٍ، ولا شيء عَلَى الفقير منهم. قَالَ: ويُشبه أن يكون الغلام المجنيّ عليه أيضًا كَانَ حرّا؛ لأنه لو كَانَ عبدًا لم يكن لاعتذار أهله بالفقر معنًى؛ لأن العاقلة لا تحَمِل عبدًا، كما لا تحمِل عمدًا، ولا اعترافًا، وذلك فِي قول أكثر أهل العلم. فأما الغلام المملوك إذا جنى عَلَى عبد، أو حرّ، فجنايته فِي رقبته، فِي قول عامّة أهل العلم. انتهى "معالم السنن" 6/ 381 - 382.

ص: 54

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه المصنّف رحمه الله تعالى هو الأظهر، والله تعالى أعلم.

4753 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ غُلَامًا لأُنَاسٍ فُقَرَاءَ، قَطَعَ أُذُنَ غُلَامٍ لأُنَاسٍ أَغْنِيَاءَ، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ شَيْئًا).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) بن راهويه الإِمام الحافظ الحجة [10] 2/ 2.

2 -

(معاذ بن هشام) الدستوائيّ البصريّ، صدوقٌ ربما وهم [9] 30/ 34.

3 -

(أبوه) هشام بن أبي عبد الله/ سَنْبَر، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبتٌ، وَقَدْ رمي بالقدر، منْ كبار [7] 30/ 34.

4 -

(قتادة) بن دعامة السدوسي البصريّ، ثقة ثبت يدلس [4] 30/ 34.

5 -

(أبو نضرة) المنذر بن مالك بن قُطَعَة العبديّ الْعَوَقيّ البصريّ، ثقة [3] 21/ 538.

6 -

(عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْن) بن عُبيد بن خَلَف، أبو نُجيد الخزاعيّ، الصحابيّ المشهور، أسلم عام خيبر، وصحب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان فاضلاً، وقضى بالكوفة، ومات رضي الله عنه بالبصرة سنة (52 هـ) وتقدّمت ترجمته فِي 201/ 321. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فمروزيّ، ثم نيسابوريّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْن) بن عُبيد الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ غُلَامًا) بضم الغين المعجمة، هو الأصل الابن الصغير، وجمعه فِي القلّة غِلْمة، بكسر، فسكون، وفي الكثرة غِلمان بكسر، فسكون أيضًا، ويُطلق عَلَى الرجل مجازًا، باعتبار ما كَانَ عليه، وهو المراد هنا، كما يقال: للصغير شيخٌ مجازًا باعتبار ما يئول إليه، وجاء فِي الشعر غلامة بالهاء، وَقَالَ الأزهريّ: سمعت العرب تقول للمولود، حين يولد ذكرًا: غلامٌ، وسمعتهم يقولون للكهل: غلام، وهو فاش فِي كلامهم. أفاده الفيّوميّ.

[فائدة]: قد نظمت الأسماء التي تُطلق عَلَى الإنسان:

ص: 55

اعْلَمْ هَدَاكَ اللَّهُ أَنَّ الْوَلَدَا

دَعَوْهُ بِالْجَنِينِ حَتَّى يُولَدَا

ثُمَّ صَبِيًّا لِلْفِطَامِ يُدْعَى

ثُمَّ إِلَى سَبْعٍ غُلَامًا يُرْعَى

وَيَافِعٌ لِعَشرَةٍ حَزَوَّرُ

لِخَمْسَ عَشْرَةَ أَتَاكَ الْخَبَرُ

وَقُمُدٌ لِلْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ ثُمَّ

عَنْطْنَطًا إِلَى ثَلَاِثِينَ تَضُمُّ

ثُمَّ لأَرْبَعِينَ قُلْ مُمِلُّ

ثُمَّ إِلَى خَمْسِينَ قَالُوا كَهْلُ

إِلَى ثَمَانِينَ بِشَيخٍ يُدْعَى

ثُمَّ إِذَا زَادَ بِهمِّ يُرْعَى

أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ فِي "الْفَتْحِ" كَذَا

فَاَحْفَظْ حَمَاكَ اللَّهُ مِنْ كُلِّ أَذَى

(لأنَاسٍ) بضمّ الهمزة لغة فِي النَّاس (فُقَرَاءَ قَطَعَ أُذُنَ غُلَامٍ لأُنَاسٍ أَغْنِيَاءَ، فَأَتَوُا) أي أولياء المقطوع أذنه، وهم الأغنياء (النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية أبي داود:"فأتى أهله النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله إنا ناسٌ فقراء"، وعلى هَذَا فالذين أتوا هم أهل القاطع (فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ شَيْئًا) أي لم يجعل لهؤلاء الأغنياء مقابل قطع أذن عبدهم شيئًا، وفي رواية أبي داود:"فلم يجعل عليهم شيئًا": يعني أنه صلى الله عليه وسلم لم يجعل عَلَى الأناس الفقراء الذين جنى غلامهم بقطع الأذن شيئًا يدفعونه لأولياء المقطوع أذنه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح الإسناد

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -15/ 4753 - وفي "الكبرى" 14/ 6953. وأخرجه (د) فِي "الديات" 4590 (الدارمي) فِي "الديات" 2262.

(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي وجوب القصاص بين العبيد فِي النفس، أو فيما دونها:

أما فِي النفس، فذهب أكثر أهل العلم إلى أنه يجري القصاص بين العبيد فِي النفس، رُوي ذلك عن عمر بن عبد العزيز، وسالم، والنخعي، والشعبي، والزهري، وقتادة، والثوري، ومالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد.

ورُوي عن أحمد رواية أخرى: أن منْ شرط القصاص تساوي قيمتهم، وإن اختلفت قيمتهم، لم يجر بينهم قصاص، قَالَ الموفّق: وينبغي أن يختص هَذَا بما إذا كانت قيمة القاتل أكثر، فإن كانت أقل فلا، وهذا قول عطاء.

ص: 56

وذهب ابن عباس إلى أنه ليس بين العبيد قصاص فِي نفس، ولا جرح؛ لأنهم أموال.

واحتجّ الأولون بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} الآية [البقرة: 178] وهذا نص منْ الكتاب، فلا يجوز خلافه، ولأن تفاوت القيمة كتفاوت الديةِ والفضائلِ، فلا يمنع القصاص، كالعلم، والشرف، والذكورية، والأنوثية.

وأما فيما دون النفس، فقد ذهبت طائفة إلى أنه أيضًا يجري القصاص بينهم فيها، وبه قَالَ عمر بن عبد العزيز، وسالم، والزهري، وقتادة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأبو ثور، وابن المنذر.

وذهبت طائفة إلى أنه لا يجري القصاص بينهم فيما دون النفس، وهو قول الشعبي، والنخعي، والثوري، وأبي حنيفة، وهي رواية عن أحمد؛ لأن الأطراف مال، فلا يجري القصاص فيها، كالبهائم، ولأن التساوي فِي الأطراف معتبر فِي جريان القصاص، بدليل أَنّا لا نأخذ الصحيحة بالشلاء، ولا كاملة الأصابع بالناقصة، وأطراف العبيد لا تتساوى.

واحتجّ الأولون بقول الله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} الآية [المائدة: 45]؛ ولأنه أحد نوعي القصاص، فجرى بين العبيد، كالقصاص فِي النفس. أفاده فِي "المغني" 11/ 475 - 476.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه الجمهور، منْ وجوب القصاص بين العبيد فِي النفس، وفيما دونها هو الأرجح عندي؛ لما ذُكر منْ النصّوص. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌16 - (الْقِصَاصُ فِي السِّنِّ)

4754 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو خَالِدٍ، سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَضَى بِالْقِصَاصِ فِي السِّنِّ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.

و"أبو خالد، سليمان بن حيّان": هو الأزديّ الأحمر الكوفيّ، صدوقٌ يُخطىء [8]

ص: 57

30/ 921. و"حُميد": هو ابن أبي حميد الطويل البصريّ. والسند منْ رباعيّات المصنّف، وهو (232) منْ رباعيات الكتاب، وهو مسلسلٌ بالبصريين، غير شيخه، فمروزيّ، ثم نيسابوريّ.

والحديث صحيح، وهو بهذا السياق منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -16/ 4754 - وفي "الكبرى" 15/ 6954. وشرحه يأتي بعد حديثين، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4755 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ، وَمَنْ جَدَعَ عَبْدَهُ جَدَعْنَاهُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وجه إيراد المصنّف رحمه الله تعالى هَذَا الْحَدِيث فِي هَذَا الباب أن قوله: "ومن جدع عبده" يشمل قلع السنّ؛ لأن معنى الجدع فِي اللغة: القطع،، وقيل: هو القع البائن فِي الأنف، والأذن، والشفة، واليد، ونحوها، قاله فِي "اللسان"، فيدخل فيه قلع السنّ. والله تعالى أعلم.

والحديث ضعيف للكلام فِي سماع الحسن عن سمُرة، وعلى تقدير سماعه، ففيه عنعنته، وهو مدلّس، وَقَدْ تقدّم فِي 10/ 4738 - فراجعه هناك تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4756 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ خَصَى عَبْدَهُ خَصَيْنَاهُ، وَمَنْ جَدَعَ عَبْدَهُ جَدَعْنَاهُ"، وَاللَّفْظُ لاِبْنِ بَشَّارٍ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "معاذ بن هشام": هو الدستوائيّ، والحديث ضعيف، وَقَدْ سبق القول فيه فيما قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4757 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ أُخْتَ الرُّبَيِّعِ، أُمَّ حَارِثَةَ، جَرَحَتْ إِنْسَانًا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْقِصَاصَ الْقِصَاصَ"، فَقَالَتْ أُمُّ الرُّبَيِّعِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُقْتَصُّ مِنْ فُلَانَةَ، لَا وَاللَّهِ، لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا أَبَدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "سُبْحَانَ اللَّهِ، يَا أُمَّ الرُّبَيِّعِ الْقِصَاصُ كِتَابُ اللَّهِ"، قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا أَبَدًا، فَمَا زَالَتْ حَتَّى قَبِلُوا الدِّيَةَ، قَالَ: "إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّه").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(أحمد بن سليمان) أبو الحسين الرُّهاويّ الثقة الحافظ [11] 38/ 42.

ص: 58

2 -

(عفّان) بن مسلم الصفّار البصريّ ثقة ثبت، منْ كبار [10] 21/ 427.

3 -

(حماد بن سلمة) بن دينار، أبو سلمة الصريّ، ثقة عابد، أثبت النَّاس فِي ثابت [8] 181/ 288.

3 -

(ثابتٌ) بن أسلم البنانيّ البصريّ، ثقة عابد [4] 45/ 53.

5 -

(أنس) بن مالك رضي الله تعالى عنه 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه أيضًا، فإنه رُهاويّ. (ومنها): أن فيه أنس بن مالك رضي الله عنه منْ المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر منْ مات منْ الصحابة بالبصرة، مات سنة (2) أو (93) وَقَدْ جاوز مائة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَنَس) بن مالك رضي الله عنه (أَنَّ أُخْتَ الرُّبَيِّعِ) بضم الراء، وتشديد المثنّاة التحتانيّة، بصيغة التصغير (أُمَّ حَارِثَةَ) بالنصب بدل منْ "أُخْتَ" (جَرَحَتْ إِنْسَانًا) قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: كذا وقع هَذَا اللفظ فِي كتاب مسلم، قَالَ القاضي عياض: المعروف أن الرُّبَيِّع هي صاحبة القصّة، وكذا جاء مفسّرًا فِي البخاريّ، فِي الروايات الصحيحة أنها الرُّبيّع بنت النضر، وأُخت أنس بن النضر، وعمّة أنس بن مالك، وأن الذي أقسم هو أخوها أنس بن النضر، وكذا فِي المصنّفات، وجاء مفسّرًا عند البخاريّ وغيره: أنها لطمت جاريةً، فكسرت ثنيّتها. ورواية البخاريّ هذه تدلّ عَلَى أن الإنسان المجروح المذكور فِي رواية مسلم هو جاريةٌ، فلا يكون فيه حجةٌ لمن ظنّ أنه رجلٌ، فاستدلّ به عَلَى أن القصاص جارٍ بين الذكر والأنثى فيما دون النفس، والصحيح أن الإنسان يطلق عَلَى الذكر والأنثى، وهو منْ أسماء الأجناس، وهي تعمّ الذكر والأنثى، كالفرس، يعمّ الذكر والأنثى. انتهى "المفهم" 5/ 34 - 35.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رواية البخاريّ التي أشار إليها القاضي هي الآتية فِي الباب التالي، وحال الاختلاف بينها وبين هذه الرواية منْ وجهين:

[أحدهما]: أن الجارية فِي هذه الرواية هي أخت الرُّبَيِّع، وفي الرواية الآتية أنها الرُّبَيّع نفسها. [والثاني]: أن الحالف فِي هذه الرواية أن لا تكسر ثنيتها هي أم الرَّبِيع -بفتح الراء- وفي الرواية الآتية هو أنس بن النضر رضي الله عنه.

ص: 59

قَالَ النوويّ: قَالَ العلماء المعروف فِي الروايات رواية البخاريّ -يعني الرواية الآتية فِي الباب التالي- وَقَدْ ذكرها البخاريّ منْ طرقه الصحيحة، وكذا رواه أصحاب "كتب السنن".

قَالَ: إنهما قضيتان: أما الرُّبَيِّع الجارحة فِي رواية البخاريّ، وأخت الجارحة فِي رواية مسلم، فهي بضم الراء، وفتح الباء، وتشديد الياء، وأما أم الرَّبِيع الحالفة فِي رواية مسلم، فبفتح الراء، وكسر الباء، وتخفيف الياء. انتهى "شرح مسلم" 11/ 164 - 165.

وَقَالَ الحافظ فِي "الفتح" 14/ 201 - : جزم ابن حزم بأنهما قصتان صحيحتان، وقعتا لامرأة واحدة:[إحداهما]: أنها جرحت إنسانا، فقضي عليها بالضمان، والأخرى أنها كسرت ثنية جارية، فقضي عليها بالقصاص، وحلفت أمها فِي الأولى، وأخوها فِي الثانية. وَقَالَ البيهقي -بعد أن أورد الروايتين-: ظاهر الخبرين يدل عَلَى أنهما قصتان، فإن قُبِل هَذَا الجمع، وإلا فثابت أحفظ منْ حميد.

قَالَ الحافظ: فِي القصتين مغايرات: منها: هل الجانية الرُّبَيِّع، أو أختها، وهل الجناية كسر الثنية، أو الجراحة، وهل الحالف أم الرَّبِيع، أو أخوها أنس بن النضر، وأما ما وقع فِي أول "الجنايات" عند البيهقي منْ وجه آخر، عن حميد، عن أنس، قَالَ: لطمت الرُّبَيِّعُ بنت مُعَوَّذ جارية، فكسرت ثنيتها، فهو غلط فِي ذكر أبيها، والمحفوظ أنها بنت النضر، عمة أنس رضي الله عنه كما وقع التصريح به، فِي صحيح البخاريّ. انتهى "فتح" 14/ 201.

(فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْقِصَاصَ الْقِصَاصَ) قَالَ النوويّ: هما منصوبان: أي أَدُّوا القصاص، وسَلِّموه إلى مستحقه. انتهى. وَقَالَ القرطبيّ: الرواية بنصب "القصاص" فِي اللفظين، ولا يجوز غيره، وهو منصوب بفعل مضمر، لا يجوز إظهاره، تقديره: ألزمكم القصاص، أو أقيموا القصاص، غير أن هَذَا الفعل لا تظهره العرب قطّ؛ لأنهم استغنوا عنه بتكرار اللفظ، كما قالوا: الجدارَ الجدارَ، والصبيَّ الصبيَّ. انتهى.

(فَقَالَتْ أُمُّ الرَّبِيعِ) بفتح الراء، وكسر الموحّدة، وتخفيف الياء (يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُقْتَصُّ مِنْ فُلَانَةَ، لَا وَاللهِ، لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا أَبَدًا) هَذَا إخبارٌ منها بأن الكسر لا يتحقّق، وليس ردّا للحكم. وَقَالَ النوويّ: هَذَا ليس معناه ردّ حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم، بل المراد به الرغبة إلى مستحقّ القصاص أن يعفو، وإلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي الشفاعة إليهم فِي العفو، وإنما حلفت ثقة بهم أن لا يُحَنِّثُوها، أو ثقة بفضل الله، ولطفه أن لا يحنثها بل يلهمهم العفو. انتهى.

ص: 60

وَقَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: ما حاصله: ولَمّا فهِم أنس بن النضر -عَلَى ما فِي الرواية الآتية، أو أم الربيع عَلَى فِي هذه الرواية- لزوم القصاص، عظم عليه أن تكسر ثنية الجانية، فبذلوا الأرش، فلم يرضَ أولياء المجنيّ عليها به، فكُلِّم أهلها فِي ذلك، فأَبَوا، فلما رأى امتناعهم منْ ذلك، وأن القصاص قد تعيّن، قَالَ:"أيُقتصّ منْ فلانة؟، والله لا يُقتصّ منها"، ثقةً منه بفضل الله تعالى، وتعويلاً عليه فِي كشف تلك الكربة، لا أنه ردَّ حكم الله تعالى، وعانده، بل هو منزّهٌ عن ذلك؛ لما عُلم منْ فضله، وعظيم قدره، وبشهادة النبيّ صلى الله عليه وسلم بما له عند الله تعالى منْ المنزلة، وهذا التأويل أولى منْ تأويل منْ قَالَ: إن ذلك القسم كَانَ منه عَلَى جهة الرغبة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، أو للأولياء؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أنكر ذلك عليه بقوله:"سبحان الله، كتاب الله القصاص"، ولو كَانَ رغبةً لَمَا أنكره، وأيضًا فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد سمّاه قَسَمًا، وأخبر أنه قسمٌ عَلَى الله، وأن الله تعالى قد أبرّه فيه؛ لَمَّا قَالَ:"إن منْ عباد الله منْ لو أقسم عَلَى الله لأبرّه". انتهى "المفهم" 5/ 36.

(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "سُبْحَانَ اللَّهِ) تعجبًّا منْ تأكيد نفيها القصاص بالحلف، ولفظ "أبدًا" (يَا أُمَّ الرَّبِيعِ الْقِصَاصُ كِتَابُ اللَّهِ) وفي الرواية الآتية:"يا أنس كتاب القصاص"، قَالَ فِي "الفتح":

اختلف فِي ضبط: "كتاب الله القصاص": فالمشهور أنهما مرفوعان، عَلَى أنهما مبتدأ وخبر، وقيل: منصوبان عَلَى أنه مما وضع فيه المصدر موضع الفعل: أي كَتَبَ اللَّهُ القصاصَ، أو نصب "كتاب الله" عَلَى الإغراء، و"القصاصَ" بدل منه، فينصب، أو ينصب بفعل محذوف، ويجوز رفعه، بأن يكون خبر مبتدأ محذوف.

واختُلف أيضا فِي المعنى، فقيل: المراد حُكم كتاب الله القصاص، فهو عَلَى تقدير حذف مضاف، وقيل: المراد بالكتاب الحكم: أي حكم الله القصاص، وقيل: أشار به إلى قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]، وقيل: إلى قوله: {فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]، وقيل: إلى قوله: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} فِي قوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} [المائدة: 45]، بناءً عَلَى أن شرع منْ قبلنا شرع لنا، ما لم يرد فِي شرعنا ما يرفعه. انتهى.

(قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا أَبَدًا، فَمَا زَالَتْ) أي فِي ترديد كلامها المذكور مرّةً بعد أخرى (حَتَّى قَبِلُوا) بكسر الباء الموحّدة (الدِّيَةَ، قَالَ) أي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية مسلم: "فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم (إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ) أي متوكّلاً عليه فِي حصول المحلوف عليه (لَأَبَرَّهُ) أي: لا يحنثه فِي يمينه؛ لكرامته عليه. والله تعالى أعلم

ص: 61

بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أنس رضي الله عنه هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -16/ 4757 - وفي "الكبرى" 15/ 6957. وأخرجه (م) فِي "القسامة" 1675. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان وجوب القصاص فِي السنّ، قَالَ النوويّ:(ومنها): وهو مجمع عليه، إذا قلعها كلها، فإن كسر بعضها، ففيه، وفي كسر سائر العظام خلاف مشهور للعلماء، والأكثرون عَلَى أنه لا قصاص. انتهى "شرح مسلم" 11/ 165. وسيأتي بيان اختلاف العلماء فيه فِي المسألة التالية، إن شاء الله تعالى.

(ومنها): جواز الحلف فيما يظنه الإنسان. (ومنها): جواز الثناء عَلَى منْ لا يخاف الفتنة بذلك. (ومنها): استحباب العفو عن القصاص. (ومنها): استحباب الشفاعة فِي العفو. (ومنها): أن الخِيَرَة فِي القصاص والدية إلى مستحقه، لا إلى المستَحَقّ عليه. (ومنها): إثبات القصاص بين الرجل والمرأة، وفيه ثلاثة مذاهب:[أحدها]: مذهب عطاء والحسن: أنه لا قصاص بينهما فِي نفس، ولا طرف، بل تتعين دية الجناية؛ تعلقا بقوله تعالى:{وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة: 178]. [الثاني]: وهو مذهب جماهير العلماء منْ الصحابة والتابعين، فمن بعدهم ثبوت القصاص بينهما فِي النفس، وفيما دونها، مما يقبل القصاص، واحتجوا بقوله تعالى:{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية [المائدة: 45]، وهذا وإن كَانَ شرعًا لمن قبلنا، وفي الاحتجاج به خلاف مشهور للأصوليين، فإنما الخلاف إذا لم يَرِد شرعنا بتقريره، وموافقته، فإن ورد كَانَ شرعًا لنا بلا خلاف، وَقَدْ ورد شرعنا بتقريره فِي حديث أنس رضي الله عنه هَذَا. والله أعلم. [والثالث]: وهو مذهب أبي حنيفة، وأصحابه: يجب القصاص بين الرجال والنساء فِي النفس، ولا يجب فيما دونها. (ومنها): أن فيه إثبات كرامات الأولياء. (ومنها): إثبات القصاص بين النِّساء فِي الجرحات، وفي الأسنان. (ومنها): جواز الصلح عَلَى الدية، وجريان القصاص فِي كسر السن، ومحله فيما إذا أمكن التماثل، بأن يكون المكسور مضبوطا، فيبرد منْ سن الجاني ما يقابله بالْمِبْرَد مثلا، قَالَ أبو داود فِي "السنن": قلت لأحمد: كيف؟ فَقَالَ:

ص: 62

يُبرد، ومنهم منْ حمل الكسر فِي هَذَا الْحَدِيث عَلَى القلع، وهو بعيد منْ هَذَا السياق. قاله فِي "الفتح" 14/ 214. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي أقوال أهل العلم فِي القصاص بالسنّ:

قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: أجمع أهل العلم عَلَى القصاص فِي السن؛ للآية، وحديث الرُّبَيِّع، ولأن القصاص فيها ممكن؛ لأنها محدودة فِي نفسها، فوجب فيها القصاص، كالعين، وتؤخذ الصحيحة بالصحيحة، وتؤخذ المكسورة بالصحيحة؛ لأنه يأخذ بعض حقه، وهل يأخذ مع القصاص أرش الباقي فيه وجهان.

قَالَ: ولا يُقتَصّ إلا منْ سنّ منْ أَثْغَر: أي سقطت رَوَاضعه، ثم نبتت، يقال لمن سقطت رواضعه: ثُغِرَ، فهو مثغور، فإذا نبتت قيل: أَثْغَر، واثَّغَرَ، لغتان، وإن قُلِع سن منْ لم يُثغِر، لم يُقتَصَّ منْ الجاني فِي الحال، وهذا قول مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي؛ لأنها تعود بحكم العادة، فلا يقتص منها، كالشعر، ثم إن عاد بدل السن فِي محلها مثلها، عَلَى صفتها، فلا شيء عَلَى الجاني، كما لو قلع شعرة، ثم نبتت، وإن عادت مائلة عن محلها، أو متغيرة عن صفتها، كَانَ عليه حكومة؛ لأنها لو لم تَعُد ضمن السن، فإذا عادت ناقصة، ضمن ما نقص منها بالحساب، ففي ثلثها ثلث ديتها، وفي ربعها ربعها، وعلى هَذَا، وإن عادت والدم يسيل، ففيها حكومة؛ لأنه نقصٌ حصل بفعله، وإن مضى زمن عودها، ولم تعد سئل أهل العلم بالطب، فإن قالوا: قد يُئِس منْ عودها، فالمجني عليه بالخيار بين القصاص أو دية السن، فإن مات المجني عليه قبل الإياس منْ عودها، فلا قصاص؛ لأن الاستحقاق له غير متحقق، فيكون ذلك شبهة فِي درئه، وتجب الدية؛ لأن القلع موجود، والعود مشكوك فيه. ويحتمل أنه إذا مات قبل مجيء وقت عودها، أن لا يجب شيء؛ لأن العادة عودها، فأشبه ما لو حلق شعره، فمات قبل نباته.

فأما إن قلع سن منْ قد أثغر وجب القصاص له فِي الحال؛ لأن الظاهر عدم عودها، وهذا قول بعض أصحاب الشافعيّ، وَقَالَ القاضي: يسأل أهل الخبرة، فإن قالوا: لا تعود فله القصاص فِي الحال، وإن قالوا يُرجى عودها إلى وقت ذكروه، لم يقتص حَتَّى يأتي ذلك الوقت، وهذا قول بعض أصحاب الشافعيّ؛ لأنها تحتمل العود، فأشبهت سن منْ لم يُثغر. انتهى "المغني" 11/ 552 - 554.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبين بما سبق أن وجوب القصاص فِي السنّ مجمع عليه بين أهل العلم؛ للآية المذكورة، وحديث الباب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 63

(المسألة الخامسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي القصاص فِي سائر عظام الجسد:

قَالَ ابن بطّال رحمه الله تعالى: أجمع العلماء عَلَى أن هذه الآية- يعني قوله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} الآية [المائدة: 45] فِي العمد، فمن أصاب سنّ أحد عمدًا، ففيه القصاص عَلَى حديث أنس رضي الله عنه، واختلف العلماء فِي سائر عظام الجسد إذا كسرت عمدًا، فَقَالَ مالك: عظام الجسد كلّها فيها القود، إذا كُسرت عمدًا: الذراعان، والعضدان، والساقان، والقدمان، والكعبان، والأصابع إلا ما كَانَ مجوّفًا، مثل الفخذ، وشبهه، كالمأمومة، والمنقّلة، والهاشمة، والصلب، ففي ذلك الدية.

وَقَالَ الكوفيّون: لا قصاص فِي عظم يُكسر إلا السنّ؛ لقوله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} الآية [المائدة: 45]، وهو قول الليث، والشافعيّ. واحتجّ الشافعيّ، فَقَالَ: إن دون العظم حائلاً منْ جلد، ولحم، وعَصَب، فلو استيقنّا أنا نكسر عظمة كما كسر عظمة، لا يزيد، ولا ينقص فعلناه، ولكنا لا نصل إلى العظم حَتَّى ننال منه ما دونه، مما ذكرنا أنا لا نعرف قدره، مما أقلّ، أو أكثر مما نال غيره، وأيضًا فإنا لا نقدر أن يكون كسر ككسر أبدًا، فهو ممنوع. وَقَالَ الطحاويّ: اتفقوا عَلَى أنه لا قصاص فِي عظم الرأس، فكذلك سائر العظام.

والحجة لمالك حديث أنس رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي سنّ الربيّع: "كتاب الله القصاص"، فلمّا جاز القصاص فِي السنّ إذا كُسرت، وهي عظم، فكذلك سائر العظام، إلا عظمًا أجمعوا أنه لا قصاص فيه؛ لخوف ذهاب النفس منه، وأنه لا يقدر عَلَى الوصول فيه إلى مثل الجناية بالسواء، فلا يجوز أن يُفعل ما يؤدّي فِي الأغلب إلى التلف، إذا كَانَ الجارح الأول لم يؤد فعله إلى التلف.

وَقَالَ ابن المنذر: ومن قَالَ: لا قصاص فِي عظم، فهو مخالفٌ للحديث، والخروج إلى النظر غير جائز مع وجود الخبر. انتهى "شرح صحيح البخاريّ" لابن بطال 8/ 522 - 523.

وَقَالَ فِي "الفتح": اختلفوا فِي سائر عظام الجسد، فَقَالَ مالك: فيها القود، إلا ما كَانَ مجوفا، أو كَانَ كالمأمومة، والمنقلة، والهاشمة، ففيها الدية، واحتج بالآية، ووجه الدلالة منها أن شرع منْ قبلنا شرع لنا، إذا ورد عَلَى لسان نبينا صلى الله عليه وسلم بغير إنكار، وَقَدْ دل قوله:{وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} عَلَى إجراء القصاص فِي العظم؛ لأن السن عظم، إلا ما أجمعوا عَلَى أن لا قصاص فيه، إما لخوف ذهاب النفس، وإما لعدم الاقتدار عَلَى المماثلة فيه. وَقَالَ الشافعيّ، والليث، والحنفية: لا قصاص فِي العظم، غير السن؛ لأن دون العظم حائلا منْ جلد، ولحم، وعصب، يتعذر معه المماثلة، فلو أمكنت

ص: 64

لحكمنا بالقصاص، ولكنه لا يصل إلى العظم حَتَّى ينال ما دونه، مما لا يعرف قدره.

وَقَالَ الطحاوي: اتفقوا عَلَى أنه لا قصاص فِي عظم الرأس، فليلتحق بها سائر العظام. وتُعُقب بأنه قياس مع وجود النص، فإن فِي حديث الباب أنها كَسَرت الثنية، فأُمرت بالقصاص، مع أن الكسر لا تطرد فيه المماثلة. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الإِمام مالك رحمه الله تعالى منْ وجوب القصاص فِي العظام التي يمكن مماثلتها هو الحقّ؛ لآية: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]، ولحديث الباب، حيث إنه صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي كسر السنّ، وهو منْ العظام:"كتاب الله القصاص"، فبينّ الحكم العامّ فيه، وفي أمثاله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌17 - (الْقِصَاصِ مِنَ الثَّنِيَّةِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الثنيّة": بفتح المثلّثة، وكسر النون، وتشديد التحتانيّة-: واحدة الثنايا، قَالَ فِي "المحكم": الثنيّة منْ الأضراس أول ما فِي الفم، وَقَالَ غيره: وثنايا الإنسان فِي فمه الأربع التي فِي مقدّم فيه: ثنتان منْ فوقُ، وثنتان منْ أسفلُ. وَقَالَ ابن سِيدَه: وللإنسان، والْخُفّ، والسبع ثنيّتان منْ فوق، وثنيّتان منْ أسفل. قاله فِي "اللسان". والله تعالى أعلم بالصواب.

4758 -

(أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، عَنْ حُمَيْدٍ، قَالَ: ذَكَرَ أَنَسٌ، أَنَّ عَمَّتَهُ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَقَضَى نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ أَخُوهَا، أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ فُلَانَةَ؟ لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّةُ فُلَانَةَ، قَالَ: وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ سَأَلُوا أَهْلَهَا الْعَفْوَ وَالأَرْشَ، فَلَمَّا حَلَفَ أَخُوهَا، وَهُوَ عَمُّ أَنَسٍ، وَهُوَ الشَّهِيدُ يَوْمَ أُحُدٍ، رَضِيَ الْقَوْمُ بِالْعَفْوِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(حميد بن مسعدة) بن المبارك السامي الباهلي البصريّ، صدوق [10] 5/ 5.

2 -

(إسماعيل بن مسعود) الجحدريّ، أبو مسعود البصريّ، ثقة [10] 42/ 47.

ص: 65

3 -

(بشر) بن المفضّل بن لاحق، أبو إسماعيل البصريّ ثقة ثبت عابد [8] 66/ 82.

4 -

(حُميد) بن أبي حُميد الطويل، أبو عبيدة البصريّ [5] 87/ 108.

5 -

(أنس) بن مالك رضي الله عنه المذكور فِي الباب الماضي. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (233) منْ رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات البصريين، وفيه أنس رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، وآخر منْ مات بالبصرة منْ الصحابة رضي الله عنهم. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ حُمَيْدٍ) الطويل، وفي رواية للبخاريّ فِي "التفسير":"حدّثنا حُميد، أن أنسًا حدّثه"(قَالَ: ذَكَرَ أَنَسٌ) بن مالك رضي الله عنه (أَنَّ عَمَّتَهُ) هي الربّيّع بصيغة التصغير، كما بُيّنت فِي الرواية التالية، وفي رواية للبخاريّ:"أن ابنة النضر"، وفي رواية له:"كسرت الربيّع عمة أنس"، ولأبي داود:"كسرت الربيّع، أخت أنس بن النضر"(كَسَرَتْ) بالبناء للفاعل (ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ) وفي الرواية التالية: "كسرت الربيّع ثنيّة جارية"، وفي رواية للبخاريّ:"لطمت جارية، فكسرت ثنيّتها"، وفي رواية له:"جارية منْ الأنصار"، وفي رواية:"امرأة" بدل جارية، وهو يوضّح أن المراد بالجارية المرأة الشابّة، لا الأمة الرقيقة. قاله فِي "الفتح" 14/ 213 (فَقَضَى نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْقِصَاصِ) وفي الرواية التالية:"فطلبوا إليهم العفو، فأبوا، فعُرض عليه الأرش، فأبوا، فأتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأمر بالقصاص"(فَقَالَ أَخُوهَا، أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ) بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غَنْم بن عديّ بن النجّار الأنصاريّ الخزرجي، عم أنس بن مالك، خادمِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، روى البخاريّ فِي "صحيحه" منْ طريق حميد، عن أنس: أن عمه أنس بن النضر، غاب عن قتال بدر، فَقَالَ: يا رسول الله، غِبتُ عن أول قتال قاتلت فيه المشركين، والله لئن أشهدني الله قتال المشركين، لَيَرَيَنَّ الله ما أصنع، فلما كَانَ يومُ أحد، انكشف المسلمون، فَقَالَ: اللَّهم إني اعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، يعني المشركين، ثم تقدم، فاستقبله سعد بن معاذ، فَقَالَ: أي سعد، هذه الجنة، ورب أنس إنىِ أجد ريحها، دون أحد، قَالَ: سعد، فما استطعت ما صنع، فقُتِل يومئذ، فذكر الْحَدِيث، وهو عند البخاريّ منْ طريق ثُمامة، عن أنس أيضا، وأخرجه ابن منده منْ طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه. انتهى

ص: 66

"الإصابة" 1/ 117 - 118.

(أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ فُلَانَةَ؟) يعني أخته الرُّبيّع التي كسرت أخت الجارية، قضى عليها النبيّ صلى الله عليه وسلم بالقصاص (لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقَّ، لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّةُ فُلَانَةَ، قَالَ) أنس رضي الله عنه (وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ سَأَلُوا أَهْلَهَا) أي أهل الجارية المجنيّ عليها (الْعَفْوَ) أي أن يسامحوها عن القصاص (وَالْأَرْشَ) أي وعرضوا عليهم قبول الأرش، وهو بفتح الهمزة، وسكون الراء: دية الجراحة، جمعه أُرُوشٌ، مثلُ فلس وفلوس، وأصله الفساد، يقال: أَرَّشْتُ بين القوم تأريشًا: إذا أفسدتَ، ثم استُعمل فِي نُقصان الأعيان؛ لأنه فساد فيها، ويقال: أصله هَرَّشَ. قاله الفيّوميّ.

وَقَالَ فِي "النهاية" 1/ 39 - : قد تكرّر فِي الْحَدِيث ذكرُ الأرش المشروع فِي الحكومات، وهو الذي يأخذه المشتري منْ البائع، إذا اطّلع عَلَى عيب فِي المبيع، وأُرُوش الجنايات والجراحات منْ ذلك؛ لأنها جابرةٌ لها عمّا حصل فيها منْ النقص، وسُمّي أَرْشًا؛ لأنه منْ أسباب النزاع، يقال: أَرّشتُ بين القوم: إذا أوقعت بينهم. انتهى.

(فَلَمَّا حَلَفَ أَخُوهَا) أنس بن النضر رضي الله عنه (وَهُوَ عَمُّ أَنَس) أي بن مالك رضي الله عنه (وَهُوَ الشَّهِيدُ يَوْمَ أُحُدٍ) كما سبق آنفًا قصّة استشهاده (رَضِيَ الْقَوْمُ بِالْعَفْوِ) أي مع أخذ الأرش.

ووقع فِي رواية "الفزاري فرضي القوم، فقبلوا الارش"، وفي رواية معتمر "فرضوا بأرش أخذوه". قَالَ فِي "الفتح": وفي رواية مروان بن معاوية، عن حميد، عند الإسماعيلي:"فرضي أهل المرأة بأرش أخذوه، فعفوا"، فعرف أن قوله:"فعفوا": أي عَلَى الدية.

(فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ) وفي رواية معتمر: "فعجب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: "إن منْ عباد الله" (مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ) أي لأبر قسمه. ووقع فِي رواية خالد الطحان، عن حميد، عن أنس، فِي هَذَا الْحَدِيث، عند بن أبي عاصم: "كم منْ رجل، لو أقسم عَلَى الله لأبره".

ووجه تعجبه صلى الله عليه وسلم: أن أنس بن النضر، أقسم عَلَى نفي فعل غيره، مع إصرار ذلك الغير عَلَى إيقاع ذلك الفعل، فكان قضية ذلك فِي العادة، أن يحنث فِي يمينه، فألهم الله الغير العفو، فَبَرَّ قسم أنس، وأشار بقوله:"إن منْ عباد الله" إلى أن هَذَا الاتفاق، إنما وقع إكراما منْ الله لأنس؛ ليبر يمينه، وأنه منْ جملة عباد الله الذين يجيب دعاءهم، ويعطيهم أَرَبُهم.

وَقَدْ استُشكِل إنكار أنس بن النضر كسر سن الربيّع، مع سماعه منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم الأمر بالقصاص، ثم قَالَ:"أتكسر سن الربيّع"، ثم أقسم أنها لا تكسر.

ص: 67

وأجيب بأنه أشار بذلك إلى التأكيد عَلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فِي طلب الشفاعة إليهم، أن يعفوا عنها، وقيل: كَانَ حلفه قبل أن يَعلم أن القصاص حتم، فظن أنه عَلَى التخيير بينه وبين الدية، أو العفو، وقيل: لم يرد الإنكار المحض والردّ، بل قاله توقُّعًا، ورجاء منْ فضل الله أن يُلهِم الخصوم الرضا، حَتَّى يعفوا، أو يقبلوا الأرش، وبهذا جزم الطيبي، فَقَالَ: لم يقله ردّا للحكم، بل نفَى وقوعه؛ لما كَانَ له عند الله منْ اللطف به فِي أموره، والثقة بفضله، أن لا يُخَيِّبه فيما حَلَف به، ولا يخيب ظنه فيما أراده، بأن يلهمهم العفو، وَقَدْ وقع الأمر عَلَى ما أراد. قاله فِي "الفتح" 14/ 213 - 214. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أنسٍ رضي الله عنه هَذَا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -17/ 4758 و4759 - وفي "الكبرى" 16/ 6958 و6959. وأخرجه (خ) فِي "الصلح" 2703 و"الجهاد" 2806 و"التفسير" 4499 و4500 و4611 و"الديات" 6894 و (د) فِي "الديات" 4595 (ق) فِي "الديات" 2649 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 12293 و13614. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4759 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَسَرَتِ الرُّبَيِّعُ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَطَلَبُوا إِلَيْهِمُ الْعَفْوَ، فَأَبَوْا، فَعُرِضَ عَلَيْهِمُ الأَرْشُ، فَأَبَوْا، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ بِالْقِصَاصِ، قَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ؟، لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ، قَالَ: "يَا أَنَسُ، كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ"، فَرَضِيَ الْقَوْمُ، وَعَفَوْا، فَقَالَ: "إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير مرّة.

و"خالد": هو ابن الحارث الْهُجَيميّ البصريّ الثقة الثبت. و"حميد": هو الطويل. والسند منْ رباعيات المصنّف، وهو (234) منْ رباعيات الكتاب، وهو مسلسل بثقات البصريين، كسابقه.

وقوله: "تُكسر ثنيّة الربيّع" بتقدير أداة الاستفهام، مبنيّا للمفعول. وقوله:"لا تُكسر" بالرفع إخبار منه بأن ثنيتها لا تُكسر؛ لأنهم سيعفون عنها، بإذن الله تعالى.

ص: 68

وقوله: "كتاب الله القصاص" تقدّم إعرابه، ومعناه فِي الباب الماضي.

وقوله: "فطلبوا إليهم العفو، فأبوا، فعرضوا عليهم الارش، فأبوا": أي طلب أهل الرُّبَيِّع إلى أهل التي كُسِرت ثنيتها أن يعفوا عن الكسر المذكور مجانًا، أو عَلَى مال، فامتنعوا، وزاد فِي رواية للبخاريّ فِي "الصلح":"فأبوا إلا القصاص".

والحديث سبق شرحه، وتخريجه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌18 - (الْقَوَدُ مِنَ الْعَضَّةِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أنه أراد أنه لا قصاص فِي العضّة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يجعل القصاص للمعضوض، بل رفع عنه القصاص فِي سقوط ثنيّة العاضّ بنزعه؛ لكونه مدافعًا عن نفسه، فلو كَانَ القصاص بالعضّ واجبا لحكم له به، ولعلّ ذلك لعدم إمكان المماثلة، وأما قوله صلى الله عليه وسلم فِي رواية ابن سيرين الآتية:"إن شئت فادفع إليه يدك الخ"، فليس لإيجاب القصاص، عَلَى ما سيأتي بيانه قريبًا، إن شاء الله تعالى.

وهذا هو المذهب الصحيح، وسيأتي بيان اختلاف العلماء فِي ذلك فِي المسألة الرابعة، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم.

و"العَضّة" -بفتح العين المهملة، وتشديد الضاد المعجمة-: المرّة منْ العضّ، يقال: عضّ اللُّقمة، وبها، وعليها عضّا: أَمْسَكَهَا بالأسنان، وهو منْ باب تَعِبَ فِي الأكثر، لكن المصدر ساكنٌ، ومن باب نفع لغةٌ قليلةٌ. وفي "أفعال ابن القَطّاع" منْ باب قَتَل: وعضّ الفرسُ عَلَى لجامه، فهو عَضُوضٌ، مثلُ رسول، والاسم العضض، والْعِضَاض بالكسر، ويقال: ليس فِي الأمر مَعَضٌّ: أي مُستَمْسكٌ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"عليكم بسنّتي، وسنّة الخلفاء الراشدين منْ بعدي، عَضُّوا عليها": أي الزموها، واستمسكوا بها. قاله الفيّوميّ. والله تعالى أعلم بالصواب

وقوله: (وَذِكْرُ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ النَّاقِلِينَ لِخَبَرِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنِ) رضي الله تعالى عنهما (فِي ذَلِكَ) أي فِي القود منْ العضّة.

وجه الاختلاف الذي أشار إليه أن فِي رواية ابن سيرين، عن عمران رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ

ص: 69

للمعضوض: "إن شئت فادفع إليه يدك حَتَّى يقضمها، ثم انتزعها"، ففيه أنه إن شاء يقتصّ منه بمثل ما فعل به، وليس هَذَا فِي رواية زرارة بن أوفى، فإنه لم يذكر إلا إبطالها، وفي رواية:"لا دية له"، وفي أخرى:"لا دية لك".

والذي يظهر لي أنه لا اختلاف بين الروايتين؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "إن شئت فادفع إليه الخ" ليس لإيجاب القصاص له، وإنما المراد -والله أعلم- الإنكار عليه فِي طلب ذلك مع أنه المعتدي، بدليل قوله:"لا دية له"، وفي لفظ:"لا دية لك"، وفي رواية:"فأبطلها"، وفي لفظ:"فأطلّها": أي أبطلها، وفي لفظ:"فأهدرها"، وفي رواية:"فأبطله، وَقَالَ أردت أن تأكل لحمه"، وفي حديث سلمة: ثم يأتي يطلب العقل، لا عقل لها، فابطلها".

والحاصل أنه ليس المراد بالأمر بدفع يده ليعضها إثبات القصاص بالعضّ، وإنما معناه الإنكار عليه، فكأنه قَالَ: إنك لا تدع يدك فِي فيه يعضها، فكيف تنكر عليه أن ينتزع يده منْ فيك، وتطالبه بما جنى فِي جذبه لذلك. والله تعالى أعلم.

4760 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ، أَبُو الْجَوْزَاءِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا قُرَيْشُ بْنُ أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ رَجُلاً عَضَّ يَدَ رَجُلٍ، فَانْتَزَعَ يَدَهُ، فَسَقَطَتْ ثَنِيَّتُهُ، أَوْ قَالَ: ثَنَايَاهُ، فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا تَأْمُرُنِي؟ تَأْمُرُنِي أَنْ آمُرَهُ أَنْ يَدَعَ يَدَهُ، فِي فِيكَ تَقْضَمُهَا، كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ، إِنْ شِئْتَ فَادْفَعْ إِلَيْهِ يَدَكَ، حَتَّى يَقْضَمَهَا، ثُمَّ انْتَزِعْهَا إِنْ شِئْتَ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(أحمد بن عثمان) النوفليّ، أبو عثمان البصريّ، يلقب أبا الْجَوْزاء -بالجيم، والزاي- ثقة [11] 12/ 2124.

2 -

(قُريش بن أنس) الأنصاريّ، ويقال: الأمويّ، أبو أنس البصريّ، صدوقٌ تغيّر بآخره قدر ستّ سنين [9] 5/ 4221.

3 -

(ابن عون) هو: عبد الله بن عون بن أَرْطبان، أبو عون البصريّ، ثقة ثبت فاضل، منْ أقران أيوب فِي العلم والعمل، والسنّ [5

(1)

] 29/ 33.

4 -

(ابن سيرين) هو محمد الإِمام الحجة الثبت المشهور [3] 46/ 57.

5 -

(عمران حصين) رضي الله تعالى عنهما المذكور قبل بابين. والله تعالى أعلم.

(1)

جعله فِي "التقريب" منْ السادسة، والظاهر أنه منْ الخامسة، مثل أيوب؛ لأنه رأى أنسًا رضي الله عنه، فتأمل.

ص: 70

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنِ) رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ رَجُلاً عَضَّ يَدَ رَجُلٍ) أي أخذها بأسنانه.

[تنبيه]: قَالَ فِي "الفتح": ما حاصله: فِي رواية محمد بن جعفر، عن شعبة عن زُرارة، عن عمران عند مسلم، والنسائيّ 4762 - "قَالَ: قاتل يعلي بن أمية رجلا، فعض أحدهما صاحبه" .. الْحَدِيث، قَالَ شعبة: وعن قتادة عن عطاء وهو ابن أبي رباح عن ابن يعلى، يعني صفوان، عن يعلي بن أمية، قَالَ مثله، وكذا أخرجه النسائيّ 20/ 4772 - منْ طريق عبد الله بن المبارك عن شعبة بهذا السند، فَقَالَ فِي روايته: بمثل الذي عضّ، فندرت ثنيّته .. الْحَدِيث. ولشعبة فيه سند آخر إلى يعلى، أخرجه النسائيّ 19/ 4765 - منْ طريق ابن أبي عدي، و19/ 4766 - عن عبيد بن عقيل كلاهما عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن يعلى. ووقع فِي رواية عُبيد بن عُقيل: "أن رجلا منْ بني تميم، قاتل رجلا، فعضّ يده"، ويستفاد منْ هذه الرواية، تعيين أحد الرجلين المبهمين، وأنه يعلي بن أمية، وَقَدْ روى يعلى هذه القصة، فبَيَّنَ فِي بعض طرقه، أن أحدهما كَانَ أجيرا له، ولفظه 20/ 47670 - "غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فذكر الْحَدِيث، وفيه: "فاستجرت أجيرا، فقاتل أجيري رجلا، فعضّ الآخر"، فعُرف أن الرجلين المبهمين، يعلى وأجيره، وأن يعلى أبهم نفسه، لكن عينه عمران بن حصين.

قَالَ الحافظ: ولم أقف عَلَى تسمية أجيره، وأما تمييز العاضّ منْ المعضوض، فوقع بيانه عند البخاريّ فِي "غزوة تبوك" منْ "المغازي" منْ طريق محمد بن بكر، عن ابن جريج، فِي حديث يعلى، قَالَ عطاء: فلقد أخبرني صفوان بن يعلى، أيّهما عض الآخر، فنسيته، فظن أنه مستمر عَلَى الإبهام، ولكن وقع عند مسلم، والنسائي 20/ 4771 - منْ طريق بديل بن ميسرة، عن عطاء، بلفظ: أن أجيرا ليعلي بن منية، عض آخر ذراعه"، وأخرجه النسائيّ أيضا 20/ 4770 - عن إسحاق بن إبراهيم، عن سفيان، بلفظ. "فقاتل أجيري رجلا، فعضه الآخر"، ويؤيده ما أخرجه النسائيّ 20/ 4767 - منْ طريق صفوان بن عبد الله، عن عميه: سلمة بن أمية، ويعلي بن أمية، قالا: خرجنا مع

ص: 71

رسول الله صلى الله عليه وسلم، فِي غزوة تبوك، ومعنا صاحب لنا، فقاتل رجلا منْ المسلمين، فعض الرجل ذراعه"، ويؤيده أيضا رواية عُبيد بن عُقيل عند النسائيّ 19/ 4766 - بلفظ: أن رجلا منْ بني تميم، قاتل رجلاً، فعضّ يده"، فإن يعلى تميمي. وأما أجيره فإنه لم يقع التصريح بأنه تميمي، وأخرج النسائيّ أيضا 20/ 4774 - منْ رواية محمد بن مسلم الزهريّ، عن صفوان بن يعلى، عن أبيه، نحو رواية سلمة، ولفظه:"فقاتل رجلاً، فعض الرجل ذراعه، فلما أوجعه نترها"، وعرف بهذا أن العاضَّ هو يعلي بن أمية، ولعل هَذَا هو السر فِي إبهامه نفسه.

وَقَدْ أنكر القرطبيّ أن يكون يعلى هو العاضَّ، فَقَالَ: يظهر منْ هذه الرواية أن يعلى هو الذي قاتل الأجير، وفي الرواية الأخرى: أن أجيرا ليعلى عضَّ يد رجل، وهذا هو الأولى، والأليق؛ إذ لا يليق ذلك الفعل بيعلى، مع جلالته وفضله.

قَالَ الحافظ: لم يقع فِي شيء منْ الطريق أن الأجير هو العاضّ، وإنما التبس عليه أن فِي بعض طرقه عند مسلم -كما بينته-:"أن أجيرا ليعلى عض رجل ذراعه"، فجوز أن يكون العاضّ، غير يعلى، وأما استبعاد أن يقع ذلك منْ يعلى مع جلالته، فلا معنى له، مع ثبوت التصريح به فِي الخبر الصحيح، فيحتمل أن يكون ذلك صدر منه فِي أوائل إسلامه، فلا استبعاد.

وَقَالَ النوويّ: وأما قوله -يعني فِي الرواية الأولى-: "أن يعلى هو المعضوض"، وفي الرواية الثانية، والثالثة:"المعضوض هو أجير يعلى، لا يعلى"، فَقَالَ الحفاظ: الصحيح المعروف أن المعضوض أجير يعلى، لا يعلى، قَالَ: ويحتمل أنهما قضيتان جرتا ليعلى، ولأجيره فِي وقت، أو وقتين، وتعقبه شيخنا -يعني الحافظ العراقيّ- فِي "شرح الترمذيّ" بأنه ليس فِي رواية مسلم، ولا رواية غيره، فِي الكتب الستة، ولا غيرها: أن يعلى هو المعضوض، لا صريحا، ولا إشارة، وَقَالَ شيخنا: فيتعين عَلَى هَذَا أن يعلى هو العاضّ. والله أعلم.

قَالَ الحافظ: وإنما تردد عياض، وغيره فِي العاض، هل هو يعلى، أو آخر أجنبي كما قدمته، منْ كلام القرطبيّ، والله أعلم. انتهى "الفتح" 14/ 207 - 208. (فَانْتَزَعَ يَدَهُ) زاد فِي رواية زُرارة التالية:"منْ فيه": أي اجتذبها منْ فمه، وفي رواية هشام، عن عروة، عند مسلم:"عَضّ ذراع رجل، فجذبه"، وفي حديث يعلى الآتي فِي 4771 - "فعض أحدهما إصبع صاحبه فانتزع إصبعه".

قَالَ الحافظ: وفي الجمع بين الذراع، والإصبع عسر، ويبعد العمل عَلَى تعدد القصة؛ لاتحاد المخرج؛ لأن مدارها عَلَى عطاء، عن صفوان بن يعلى، عن أبيه، فوقع

ص: 72

فِي رواية إسماعيل ابن علية، عن ابن جريج، عنه:"إصبعه"، وهذه فِي البخاريّ، ولم يسق مسلم لفظها، وفي رواية بديل بن ميسرة، عن عطاء عند مسلم، والنسائيّ 20/ 4773 - وكذا فِي رواية الزهريّ، عن صفوان، عند النسائيّ 20/ 4774 - : فعضّ الرجل ذراعه"، ووافقه سفيان بن عيينة، عن ابن جريج، فِي رواية إسحاق بن راهويه، عنه، فالذي يترجح الذراع، وَقَدْ وقع أيضا فِي حديث سلمة بن أمية، عند النسائيّ 20/ 4767 - مثل ذلك، وانفرد ابن علية، عن ابن جريج بلفظ الإِصبع، فلا يقاوم هذه الروايات المتعاضدة، عَلَى الذراع. والله أعلم. انتهى "فتح" 14/ 208 - 209.

(فَسَقَطَتْ ثَنِيَّتُهُ) بالإفراد (أَوْ) للشكّ منْ الراوي (قَالَ: ثَنَايَاهُ) بالجمع، وأكثر الروايات بالإفراد، وفي رواية البخاريّ:"فوقعت ثنيتاه"، قَالَ فِي "الفتح": كذا للأكثر بالتثنية، وللكشميهني:"ثناياه"، بصيغة الجمع، وفي رواية هشام المذكورة فسقطت "ثنيته" بالإفراد، وكذا له فِي رواية ابن سيرين، عن عمران، وكذا فِي رواية سلمة بن أمية، بلفظ:"فجذب صاحبه يده، فطُرِح ثنيته"، وَقَدْ تترجح رواية التثنية؛ لأنه يمكن حمل الرواية التي بصيغة الجمع عليها، عَلَى رأي منْ يجيز فِي الاثنين صيغة الجمع، ورَدُّ الرواية التي بالإفراد إليها، عَلَى إرادة الجنس، لكن وقع فِي رواية محمد بن بكر، عن ابن جريج عند البخاريّ فِي "المغازي":"فانتزع إحدى ثنيتيه"، فهذه أصرح فِي الوحدة، وقول منْ يقول فِي هَذَا: بالحمل عَلَى التعدد بعيد أيضا؛ لاتحاد المخرج. انتهى "فتح" 14/ 209.

ووقع فِي رواية زرارة، عن عمران بلفظ:"فندرت ثنيته"، وفي رواية الزهريّ، عن صفوان 20/ 4774 - بلفظ:"فأندر ثنيته".

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأولى ترجيح رواية: "ثنيته" بالإفراد؛ فإنه لم يقع فِي روايات المصنّف مع كثرتها، إلا بلفظ الإفراد، سوى ما فِي هذه الرواية منْ الشكّ، ويؤيّد هَذَا أيضًا التصريح بها فِي رواية محمد بن بكر، حيث قَالَ:"فانتزع إحدى ثنيّتيه"، كما مرّ آنفًا، فتأمّل. والله تعالى أعلم.

(فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي طلب منه أي يُعينه عَلَى استيفاء حقّه، يقال: استعديتُ الأمير عَلَى الظالم: طلبت منه النُّصرة، فأعداني عليه: أي أعانني، ونصرني، فالاستعداء: طلب التقوية، والنُّصْرة، والاسم الْعَدْوى -بالفتح- قَالَ ابن فارس: الْعَدْوَى: طلبك إلى وال ليُعْدِيك عَلَى منْ ظلمك: أي ينتقم منه باعتدائه عليه، والفقهاء يقولون: مسافة الْعَدْوى، وكأنهم استعاروها منْ هذه الْعَدْوَى؛ لأن صاحبها يَصِلُ فيها الذهابَ والعودَ بعدو واحدٍ؛ لما فيه منْ القوّة، والجَلادة. ذكره الفيّوميّ.

ص: 73

(فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا تَأْمُرُنِي؟) أي أيّ شيء تأمرني أن أفعله فِي هَذَا الرجل، وهو استفهام إنكار (تَأْمُرُنِي أَنْ آمُرَهُ أَنْ يَدَعَ يَدَهُ) أي يتركها (فِي فِيكَ) أي فمك (تَقْضَمُهَا) بفتح الضّاد، وتكسر، قَالَ الفيّومي: قَضَمت الدابّةُ الشعيرَ تقضَمُهُ، منْ باب تَعِب: كسرته بأطراف الأسنان، وقَضَمَت قَضْمًا، منْ باب ضرب لغةٌ، ومنه يقال عَلَى الاستعارة: قَضَمتُ يده: إذا عضضتها. انتهى.

وَقَالَ فِي "الفتح": "يقضمها" -بسكون القاف، وفتح الضاد المعجمة، عَلَى الأفصح، منْ القضم، وهو الأكل بأطراف الأسنان، والْخَضْم -بالخاء المعجمة، بدل القاف-: الأكل بأقصاها، وبأدنى الأضراس، ويطلق عَلَى الدَّقّ، والكسر، ولا يكون إلا فِي الشيء الصّلب، حكاه صاحب "الراعي" فِي اللغة. انتهى.

وفي "اللسان": القضم: الأكل بأطراف الأسنان، والأضراس، وقيل: هو أكل الشيء اليابس، والخَضْمُ: الأكل بجميع الفم، وقيل: هو أكل الشيء الرطب، والقضم دون ذلك، وقولهم: يُبْلغ الخَضْمُ بالقضم: أي أن الشَّبْعَة قد تُبْلغ بالأكل بأطراف الفم، ومعناه: أن الغاية البعيدة قد تُدرَك بالرفق، قَالَ الشاعر [منْ الطويل]:

تَبَلَّغْ بِأَخْلَاقِ الثِّيَابِ جَدِيدَهَا

وبِالْقَضْمِ حَتَّى تُدْرِكَ الْخَضْمَ بِالْقَضْمِ

(كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ) وفي رواية سلمة الآتية: "كعضيض الفحل": أي الذكر منْ الإبل، ويطلق عَلَى غيره، منْ ذكور الدواب، وفيه الإشارة إلى علّة إهدار ثنيّته.

[تنبيه]: حَكَى الكرماني رحمه الله تعالى أنه رأى مَن صَحَّف قوله: "كما يقضم الفحل"، إلى "الفجل" بالجيم بدل الحاء المهملة، وحمله عَلَى البقل المعروف، وهو تصحيف قبيح. ذكره فِي "الفتح" 14/ 212.

(إِنْ شِئْتَ فَادْفَعْ إِلَيْهِ يَدَكَ، حَتَّى يَقْضَمَهَا، ثُمَّ انْتَزِعْهَا إِنْ شِئْتَ) زاد فِي رواية زاراة الآتية: "لا دية له"، فِي لفظ:"لا دية لك"، وفي رواية:"فأبطلها"، وفي لفظ:"فأطلّها": أي أبطلها، وفي لفظ:"فأهدرها"، وفي رواية:"فأبطله، وَقَالَ أردت أن تأكل لحمه"، وفي حديث سلمة:"ثم يأتي يطلب العقل، لا عقل لها، فابطلها". وبهذه الزيادات يتبيّن أن أمره صلى الله عليه وسلم له بدفع يده إليه؛ ليقضمها، ثم انتزاعها منه ليس أمرًا بثبوت القصاص، وإنما هو إنكارٌ منه صلى الله عليه وسلم لطلبه ذلك، مع أنه المعتدي.

قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى- عند قوله: "ادفع يدك حَتَّى يعضها، ثم انتزعها": ما نصّه: ليس المراد بهذا أمره بدفع يده ليعضها، وإنما معناه الإنكار عليه: أي أنك لا تدع يدك فِي فيه يعضها، فكيف تنكر عليه أن ينتزع يده منْ فيك، وتطالبه بما جنى فِي جذبه لذلك. انتهى "شرح مسلم" 11/ 163.

ص: 74

وَقَالَ السنديّ فِي "شرحه": قوله: "إن شئت الخ" إشارة إلى أنه لو فُرض هناك قصاص لكان ذاك بهذا الوجه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عمران بن حُصين رضي الله تعالى عنهما هَذَا أخرجه مسلم، وَقَدْ طعن فيه الدارقطنيّ بأن ابن سيرين لم يسمع منْ عمران رضي الله عنه، وسيأتي الجواب عنه فِي التنبيه الآتي فِي المسألة التالية، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -18/ 4760 و4761 و4762 و4763 و4764 - وفي "الكبرى" 17/ 6960 و6961 و6962 و6963 و6964. وأخرجه (خ) منْ طريق زرارة بن أوفى عن عمران رضي الله عنه فِي "الديات" 6892 (م) فِي "القسامة" 1673 (ت) فِي "الديات" 1416 (ق) فِي "الديات" 2657 (أحمد) فِي "مسند البصريين" 19328 و19342 و19399 (الدارمي) فِي "الديات" 2270. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قَالَ القاضي عياضٌ رحمه الله تعالى: وهذا الباب مما تتبعه الدارقطنيّ عَلَى مسلم؛ لأنه ذكر أوّلاً حديث شعبة، عن قتادة، عن زرارة، عن عمران بن حصين، قَالَ: قاتل يعلى .. وذكر مثله عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، ثم عن شعبة، عن قتادة، عن عطاء، عن ابن يعلى، ثم عن همام، عن عطاء، عن ابن يعلى، ثم حديث ابن جريح، عن عطاء، عن ابن يعلى، ثم حديث معاذ، عن أبيه، عن قتادة، عن بديل، عن عطاء بن صفوان بن يعلى، وهذا اختلاف عَلَى عطاء، وذكر أيضا حديث قريش بن يونس، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن عمران، ولم يذكر فيه سماعا منه، ولا منْ ابن سيرين منْ عمران، ولم يخرج البخاريّ لابن سيرين عن عمران شيئا. والله أعلم.

والجواب عن هَذَا الإنكار بوجهين: [أحدهما]: أنه لا يلزم منْ الإختلاف عَلَى عطاء ضعف الْحَدِيث، ولا منْ كون ابن سيرين لم يصرح بالسماع منْ عمران، ولا رَوَى له البخاريّ عنه شيئا، أن لا يكون سمع منه، بل هو معدود فيمن سمع منه.

[والثاني]: لو ثبت ضعف هَذَا الطريق، لم يلزم منه ضعف المتن، فإنه صحيح بالطرق الباقية، التي ذكرها مسلم، وَقَدْ سبق مرات أن مسلما يذكر فِي المتابعات منْ هو دون شرط الصحيح. والله تعالى أعلم. أفاده النوويّ فِي "شرح مسلم" 11/ 163.

ص: 75

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم القصاص فِي العضّة، وَقَدْ تقدّم وجه استدلال المصنّف بهذا الْحَدِيث عَلَى ذلك، أول الباب.

(ومنها): التحذير منْ الغضب، وأن منْ وقع له، ينبغي له أن يَكْظِمه ما استطاع؛ لأنه أَدَّى إلى سقوط ثنية الغضبان؛ لأن يعلى غضب منْ أجيره، فضربه، فدافع الأجير عن نفسه، فعضه يعلى، فنزع يده، فسقطت ثنية العاضّ، ولولا الاسترسال مع الغضب، لسلم منْ ذلك. (ومنها): جواز استئجار الحر للخدمة، وكفاية مؤنة العمل فِي الغزو، لا ليقاتل عنه، كما تقدم تقريره فِي الجهاد. (ومنها): رفع الجناية إلى الحاكم، منْ أجل الفصل، وأن المرء لا يقتص لنفسه، وأن المعتدي بالجناية يَسقُط ما ثبت له قبلها منْ جناية، إذا ترتبت الثانية عَلَى الأولى. (ومنها): جواز تشبيه فعل الآدمي بفعل البهيمة، إذا وقع فِي مقام التنفير عن مثل ذلك الفعل. (ومنها): جواز دفع الصائل، وأنه إذا لم يمكن الخلاص منه، إلا بجناية عَلَى نفسه، أو عَلَى بعض أعضائه، ففعل به ذلك، كَانَ هدرا، وللعلماء فِي ذلك اختلاف، وتفصيل معروف، سيأتي بعضه إن شاء الله تعالى. (ومنها): أن منْ وقع له أمرٌ يَأنفُه، أو يحتشم منْ نسبته إليه، إذا حكاه كنى عن نفسه، بأن يقول: فعل رجل، أو إنسان، أو نحو ذلك كذا وكذا، كما وقع ليعلى رضي الله عنه فِي هذه القصة، وكما وقع لعائشة رضي الله عنها، حيث قالت:"قَبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم، امرأةً منْ نسائه، فَقَالَ لها عروة: هل هي إلا أنت، فتبسمت". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فيمن عضّ يد شخصٍ، فانتزع المعضوض يده منْ فِي العاضّ، فقلع سنّا منْ أسنان العاضّ:

ذهبت طائفة إلى أنه لا ضمان عليه، رُوي ذلك عن أبي بكر الصّدّيق، وشُريح، وهو قول الكوفيين، والشافعيّ، قالوا: ولو جرحه المعضوض فِي موضع آخر، فعليه ضمانه.

وذهب ابن أبي ليلى، ومالكٌ إلى أنه ضامن لدية يده. وَقَالَ عثمان الْبَتِّيُّ: إن كَانَ انتزعها منْ ألم، ووجع أصابه، فلا شيء عليه، وإن كَانَ انتزعها منْ غير ألم، فعليه الدية.

واحتجّ الكوفيّون، والشافعيّ بحديث الباب، وقالوا: ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم: "أيدع يده فِي فيه، فيعضّه كما يعضّ الفحل؟، لا دية له"، وهذا لا يجوز خلافه؛ لصحّة مجيئه،

ص: 76

وأنه لا شيء يُخالفه مما رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. قالوا: ولا يختلفون أن منْ شهر سلاحًا، وأومأ إلى قتله، وهو صحيح العقل، فقتله المشهور عليه، دافعًا له عن نفسه، أنه لا ضمان عليه، فإذا لم يضمن نفسه بدفعه إياه عن نفسه، فكذلك لا يضمن سنّه بدفعه إياه عن عضّه. أفاده ابن بطّال فِي "شرح البخاريّ" 8/ 521.

وَقَالَ فِي "الفتح": قد أخذ بظاهر هذه القصة الجمهور، فقالوا: لا يلزم المعضوض قصاص، ولا دية؛ لأنه فِي حكم الصائل، واحتجوا أيضا بالإجماع، بأن منْ شهر عَلَى آخر سلاحا ليقتله، فدفع عن نفسه، فقَتَلَ الشاهرَ، أنه لا شيء عليه، فكذا لا يضمن سنه بدفعه إياه عنها، قالوا: ولو جرحه المعضوض فِي موضع آخر، لم يلزمه شيء.

وشرط الاهدار أن يتألم المعضوض، وأن لا يمكنه تخليص يده بغير ذلك، منْ ضرب فِي شدقيه، أو فَكّ لحيته؛ ليرسلها، ومهما أمكن التخليص بدون ذلك، فعدل عنه إلى الأثقل لم يهدر، وعند الشافعيّة وجه آخر: أنه يهدر عَلَى الإطلاق، ووجه أنه لو دفعه بغير ذلك ضمن.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الوجه الأخير للشافعيّة منْ إهداره مطلقًا هو الأظهر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل حينما أهدر ثنيّة العاض، وإنما قَالَ:"لا دية لك"، فلم يسأله كيف نزع يده، وهل كَانَ يمكن أن يدفعه بأقلّ منْ ذلك. والله تعالى أعلم.

قَالَ: وعن مالك روايتان: أشهرهما يجب الضمان، وأجابوا عن هَذَا الْحَدِيث باحتمال أن يكون سبب الإندار شدة العض، لا النزع، فيكون سقوط ثنية العاض بفعله، لا بفعل المعضوض، إذ لو كَانَ منْ فعل صاحب اليد، لأمكنه أن يخلص يده منْ غير قلع، ولا يجوز الدفع بالأثقل، مع إمكان الأخف. وَقَالَ بعض المالكية: العاض قصد العضو نفسه، والذي استحق فِي إتلاف ذلك العضو، غير ما فعل به، فوجب أن يكون كل منهما ضامنا ما جناه عَلَى الآخر، كمن قلع عين رجل، فقطع الآخر يده.

وتُعُقّب بأنه قياس فِي مقابل النص، فهو فاسد. وَقَالَ بعضهم: لعل أسنانه كانت تتحرك، فسقطت عقب النزع، وسياق هَذَا الْحَدِيث يدفع هَذَا الاحتمال. وتمسك بعضهم بأنها واقعة عين، ولا عموم لها.

وتعقب بأن البخاريّ أخرج فِي "الإجارة" عقب حديث يعلى هَذَا، منْ طريق أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أنه وقع عنده مثل ما وقع عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقضى فيه بمثله.

قَالَ الحافظ: وما تقدم منْ التقييد ليس فِي الْحَدِيث، وإنما أُخذ منْ القواعد الكلية، وكذا إلحاق عضو آخر غير الفم به، فإن النص إنما ورد فِي صورة مخصوصة، نبه عَلَى ذلك ابن دقيق العيد.

ص: 77

وَقَدْ قَالَ يحيى بن عمر: لو بلغ مالكا هَذَا الْحَدِيث لما خالفه، وكذا قَالَ ابن بطال: لم يقع هَذَا الْحَدِيث لمالك، وإلا لما خالفه. وَقَالَ الداودي: لم يروه مالك؛ لأنه منْ رواية أهل العراق. وَقَالَ أبو عبد الملك: كأنه لم يصح الْحَدِيث عنده؛ لأنه أتى منْ قبل المشرق.

قَالَ الحافظ: وهو مُسَلَّم فِي حديث عمران رضي الله عنه، وأما طريق يعلي بن أمية، فرواها أهل الحجاز، وحملها عنهم أهل العراق. واعتذر بعض المالكية بفساد الزمان، ونقل القرطبيّ عن بعض أصحابهم: إسقاط الضمان، وَقَالَ: وضَمَّنه الشافعيّ، وهو مشهور مذهب مالك. وتُعُقّب بأن المعروف عن الشافعيّ: أنه لا ضمان، وكأنه انعكس عَلَى القرطبيّ. انتهى "فتح" 14/ 211.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما سبق أن الصواب هو ما ذهب إليه الجمهور منْ أنه لا يلزم المعضوض قصاص، ولا دية؛ لصريح النصّ، والقياس فِي مقابلة النصّ باطلٌ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4761 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ رَجُلاً عَضَّ آخَرَ عَلَى ذِرَاعِهِ، فَاجْتَذَبَهَا، فَانْتَزَعَتْ ثَنِيَّتَهُ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَبْطَلَهَا، وَقَالَ: "أَرَدْتَ أَنْ تَقْضَمَ لَحْمَ أَخِيكَ، كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ؟ ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.

و"عمرو بن عليّ": هو الفلّاس. و"يزيد": هو ابن زريع. و"زُرارة" -بضم الزاي المعجمة، ثم مهملتين، الأولى خفيفة، بينهما ألف، بغير همز- ابن أوفى: هو العامريّ الْحَرَشيّ -بمهملة، وراء مفتوحتين، ثم معجمة- أبو حاجب البصريّ، قاضيها، الثقة العابد [3] 27/ 917.

[تنبيه]: وقع عند الإسماعيلي، فِي رواية علي بن الجعد، عن شعبة: أخبرني قتادة، أنه سمع زرارة. قاله فِي "الفتح" 14/ 207. والسند مسلسلٌ بالبصريين، وفيه أن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة، وَقَدْ مرّ غير مرّة، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ. وقوله: "فانتُزِعَت ثنيّتُه" بالبناء للمفعول: أي قُلِعت.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق شرحه، وبيان مسائله فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4762 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ،

ص: 78

عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: قَاتَلَ يَعْلَى رَجُلاً، فَعَضَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ، فَنَدَرَتْ ثَنِيَّتُهُ، فَاخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"يَعَضُّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، كَمَا يَعَضُّ الْفَحْلُ، لَا دِيَةَ لَهُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح وشيخه هو أحد مشايخ الستة، كسابقه، و"محمد بن جعفر": هو غندر، والكلام فِي السند مرّ فيما قبله.

وقوله: "قاتل يعلى الخ": أي ضاربه.

وقوله: "فندرت ثنيّته" بفتح النون والدال المهملة: أي سقطت. قَالَ الفيّوميّ رحمه الله تعالى: نَدَرَ الشيءُ نُدُورًا، منْ باب قعد: سقط، أو خرج منْ غيره، ومنه نادر الجبل، وهو ما يخرُج منه، ويبرُزُ، وندر فلانٌ منْ قومه: خرج، وندر العظم منْ موضعه: زال، ويتعدّى بالهمزة، والاسم النَّدْرة بالفتح، والضمّ لغةٌ. انتهى.

وقوله: "يعض أحدكم": هو بتقدير همزة الاستفهام، والأصل: أيعضّ، والاستفهام للإنكار.

و"يَعَضُّ" -بفتح أوله، والعين المهملة، بعدها ضاد معجمة ثقيلة- وفي رواية مسلم:"يَعْمِدُ أحدكم إلى أخيه، فيعضه"، وأصلُ عَضَّ عَضِضَ، بكسر الأولى، يَعضَضُ، بفتحها، فأدغمت. قاله فِي "الفتح".

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4763 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ يَعْلَى قَالَ: فِي الَّذِي عَضَّ، فَنَدَرَتْ ثَنِيَّتُهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَا دِيَةَ لَكَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه سُويد بن نصر، فإنه منْ أفراده هو والترمذيّ، وهو مروزيّ ثقة، لقبه الشاه، رواية ابن المبارك. و"عبد الله": هو ابن المبارك.

[تنبيه]: هكذا ساق فِي "المجتبى" نصّ هَذَا الْحَدِيث، وظاهره أنه منْ مسند يعلى رضي الله عنه، لا منْ مسند عمران رضي الله عنه، وهو مخالف لما فِي "الكبرى"، ولفظه:"أخبرنا سويد بن نصر المروزيّ، قَالَ: أنبأنا عبد الله، عن شعبة، عن قتادة، عن زُرارة، عن عمران بن حصين، أن رجلاً عضّ ذراع رجل، فانتزع ثنيّته، فانطلقا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فَقَالَ: "أردت أن تقضَم ذراع أخيك، كما يقضم الفحل، فأبطلها".

ص: 79

فهذا ظاهر فِي كونه منْ مسند عمران رضي الله عنه، وهو الذي يقتضيه صنيع الحافظ أبي الحجّاج المزيّ رحمه الله تعالى فِي "تحفة الأشراف" حيث أورد الْحَدِيث فِي مسند عمران بن حُصين، فِي ترجمة زُرارة بن أوفى، عن عمران بن حصين.

والظاهر أن ما فِي "الكبرى" هو الصواب؛ لأن رواية شعبة التي قبله تؤيّده، فإنها صريحة فِي كونه منْ مسند عمران رضي الله عنه، وهي التي أخرجها مسلم فِي "صحيحه"، والله تعالى أعلم.

والحديث تقدّم الكلام عليه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4764 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ رَجُلاً عَضَّ ذِرَاعَ رَجُلٍ، فَانْتَزَعَ ثَنِيَّتَهُ، فَانْطَلَقَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: "أَرَدْتَ أَنْ تَقْضَمَ ذِرَاعَ أَخِيكَ، كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ، فَأَبْطَلَهَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح.

و"محمد بن عبد الله بن المبارك": هو الْمُخَرِّميّ، أبو جعفر البغداديّ، الثقة الحافظ [11] 43/ 50. و"أبو هشام": هو المغيرة بن سَلَمة المخزوميّ البصريّ، ثقة ثبتٌ، منْ صغار [9] 28/ 815. و"أبان": هو ابن يزيد العطّار، أبو يزيد البصريّ، ثقة له أفراد [7] 9/ 787.

وقوله: "فأبطلها": أي أبطل ديتها.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌19 - (بَابُ الرَّجُلِ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "يدفع" بفتح حرف المضارعة، مبنيّا للفاعل، منْ باب نفع: أي يدفع ظلم المعتدي عن نفسه. والله تعالى أعلم بالصواب.

4765 -

(أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ الْخَلِيلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ

ص: 80

الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ يَعْلَى ابْنِ مُنْيَةَ، أَنَّهُ قَاتَلَ رَجُلاً، فَعَضَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ، فَقَلَعَ ثَنِيَّتَهُ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "يَعَضُّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، كَمَا يَعَضُّ الْبَكْرُ فَأَبْطَلَهَا).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه مالك بن الخليل الأزديّ، أبي غسّان البصريّ، فإنه منْ أفراده، وهو صدوقٌ، منْ كبار [11] 226/ 3071. و"ابنُ أبي عديّ": هو محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، نُسب لجدّه، وقيل: هو إبراهيم، أبو عمرو البصريّ الثقة الحافظ [9] 122/ 175. و"الحكم": هو ابن عُتيبة، أبو محمد الكنديّ الكوفيّ، ثقة ثبتٌ فقيهٌ، ربما دلّس [5] 86/ 104. و"مجاهد": هو ابن جبر، أبو الحجاج المخزوميّ مولاهم المكيّ الإِمام الحجة الثبت [3] 27/ 31. و"يعلى ابن مُنية" -بضمّ الميم، وسكون النون، بعدها تحتانيّة مفتوحةٌ- بنت جابر، وهي أمه، وقيل: جدته، والأول المعتمد، وهي عمة عتبة ابن غزوان، وقيل: أخته.

وأبو يعلى: أُميّة بن أبي عبيدة بن همام بن الحارث التميمي الحنظلي، أسلم يوم الفتح، وشَهِد مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ما بعدها، كحنين، والطائف، وتبوك.

[تنبيه]: ذكر القاضي عياض رحمه الله تعالى أن بعض رواة مسلم صَحّف "منية" هذه، فَقَالَ:"مُنَبّه" -بفتح النون، وتشديد الموحدة، وهو تصحيف، وأغرب ابن وَضّاح، فَقَالَ: مُنَية -بسكون النون-: أمه، وبفتحها، ثم موحدة أبوه، ولم يوافقه أحد عَلَى ذلك. قاله فِي "الفتح" 14/ 210.

وقوله: "كما يعضّ البكر" -بفتح الباء الموحّدة، وسكون الكاف، آخره راء-: هو الْفَتِيُّ منْ الإبل، بمنزلة الغلام منْ الإنسان. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث يعلي بن منية رضي الله عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -19/ 4765 و4766 و20/ 4767 و4768 و4769 و4771 و4770 و4771 و4772 و4773 و4774 - وفي "الكبرى" 18/ 6965 و6966 و19/ 6967 و6968 و6969 و6970 و6971 و6972 و6973 و6974. وأخرجه (خ) فِي "الإجارة" 2266 و"الجهاد" 2973 و"المغازي" 4417 و"الديات" 6893 (م)

ص: 81

فِي "القسامة" 4343 و4345 و4347 و4348 (د) فِي "الديات" 4584 (ق) فِي "الديات" 2656 (أحمد) فِي "مسند الشاميين" 17489 و17505. وفوائد الْحَدِيث، وبقيّة مسائله تقدّمت فِي الباب الماضي. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: كتب الشيخ الألباني رحمه الله تعالى فِي "صحيح النسائيّ" عَلَى هَذَا الْحَدِيث: ما نصّه: صحيح الإسناد. انتهى. وهذا مما لا ينبغي، فإن الْحَدِيث متّفق عليه كما علمت آنفًا، فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4766 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَقِيلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَدِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ يَعْلَى ابْنِ مُنْيَةَ، أَنَّ رَجُلاً مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، قَاتَلَ رَجُلاً، فَعَضَّ يَدَهُ، فَانْتَزَعَهَا، فَأَلْقَى ثَنِيَّتَهُ، فَاخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "يَعَضُّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، كَمَا يَعَضُّ الْبَكْرُ"، فَأَطَلَّهَا: أَيْ أَبْطَلَهَا).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن عبد الله بن عُبيد بن عَقِيل -بفتح العين المهملة- بن صَبيح الهلاليّ، أبو مسعود البصريّ، صدوق [11].

قَالَ النسائيّ: لا بأس به. وَقَالَ مسلمة: ثقة. روى عنه المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، له عند المصنّف ثلاثة أحاديث: هَذَا، وفي "كتاب قطع السارق" 15/ 4980 حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: "جيء بسارق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

الْحَدِيث، وفي "كتاب الزينة" 104/ 5334 حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، مرفوعًا:"إن الله عز وجل لا ينظر إلى مسبل الإزار".

و"جدّه": هو عُبيد بن عَقيل بن صَبِيح الهلاليّ، أبو عمرو البصريّ الضرير المعلّم، صدوقٌ، منْ صغار [9].

قَالَ أبو حاتم: صدوقٌ. وَقَالَ الآجريّ، عن أبي داود: هو فِي الْحَدِيث لا بأس به، وذُكر بشيء منْ أمر العينة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: مات فِي شعبان سنة (207) وكذا قَالَ ابن قانع. روى له المصنّف، وأبو داود، وله عند المصنّف ثلاثة أحاديث، وهي التي مرّت فِي ترجمة حفيده المذكور قبله.

وقوله: "أن رجلاً منْ بني تميم": هو يعلى نفسه، فإنه منْ بني تميم، كما تقدّم توضيح ذلك.

وقوله: "فأطلّها": بتشديد اللام: أي أبطلها، كما فُسر فِي الْحَدِيث، يقال: طَلّ السلطان الدمَ طلّاً، منْ باب قتل: أهدره، وَقَالَ الكسائيّ، وأبو عُبيد: ويُستعمل لازمًا أيضًا، فيقال: طَلَّ الدمُ، منْ باب قتل، ومن باب تَعِب لغةٌ، وأنكره أبو زيد، وَقَالَ: لا يُستعمل إلا متعدّيًا، فيقال: طلّه السلطانُ: إذا أبطله، وأطلّه بالألف أيضًا، فَطُلَّ هو،

ص: 82

وأُطِلَّ مبنيين للمفعول. قاله الفيّوميّ. والتفسير المذكور منْ أحد الرواة. والله أعلم.

والحديث متَّفقٌ عليه، كما سبق بيانه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌20 - (ذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى عَطَاءٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وجه الاختلاف المذكور أن محمد بن إسحاق رواه عن عطاء، عن صفوان بن عبد الله، عن عميه سلمة، ويعلى ابني أمية، ورواه ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، وابن جريج كلاهما عن عطاء، عن صفوان بن يعلى، عن أبيه، ورواه ابن عيينة أيضًا عن عمرو، وابنِ جريج كلاهما عن عطاء، عن صفوان، عن يعلى، وتابعه ابن علية، عن ابن جريج، لكنه رواه بلفظ:"فعضّ أحدهما إصبع صاحبه الخ"، وَقَدْ تقدّم أن المحفوظ بلفظ اليد، لا بلفظ الإِصبع، ورواه شعبة عن قتادة، عن عطاء، عن ابن يعلى، عن أبيه، وخالف هشام الدستوائيّ، فرواه عن قتادة، عن بُدَيل بن ميسرة، عن عطاء، عن صفوان بن يعلى ابن مُنية، أن أجيرًا ليعلى ابن مُنْية عضّ آخرُ ذراعَهُ، فانتزعها منْ فيه الخ.

فخالف شعبة فِي شيئين:

[أحدهما]: أنه أدخل بين عطاء، وصفوان بُديلَ بن ميسرة.

[والثاني]: أنه جعله مرسلاً؛ لأن صفوان حكى قصّة لم يحضرها، ومن حكى قصّة لم يحضرها كانت حكايته منقطعة، والأرجح فِي هَذَا رواية شعبة؛ لأمرين:

[أحدهما]: أنه مقدّم عَلَى هشام فِي قتيبة وغيره؛ إذ أحفظ منه، فقد قَالَ أبو بكر البرديجيّ رحمه الله تعالى: أصحّ النَّاس روايةً عن قتادة شعبةُ، كَانَ يوقّف قتادة عَلَى الْحَدِيث

(1)

، وَقَالَ أيضًا: إذا خالف هشام شعبة فالقول قول شعبة، ذكره الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى فِي "شرح علل الترمذيّ"

(2)

.

(1)

أي يسأله عن كون الْحَدِيث متّصلا، فكان لا يكتب عنه إلا ما صرّح فيه بسماعه منْ شيخه.

(2)

انظر "شرح علل الترمذيّ" ص 283 بتحقيق صبحي السامرّائي.

ص: 83

[الثاني]: موافقة روايته لرواية الجماعة الذي ذكرناهم قبلُ، فإنهم رووه عن قتادة، عن عطاء، عن صفوان بن يعلى، عن أبيه، فلم يدخلوا بينهما بديلاً، وجعلوه متّصلاً بذكر يعلى. والله تعالى أعلم بالصواب.

4767 -

(أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَمَّيْهِ: سَلَمَةَ، وَيَعْلَى: ابْنَيْ أُمَيَّةَ، قَالَا: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَمَعَنَا صَاحِبٌ لَنَا، فَقَاتَلَ رَجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَعَضَّ الرَّجُلُ ذِرَاعَهُ، فَجَذَبَهَا مِنْ فِيهِ، فَطَرَحَ ثَنِيَّتَهُ، فَأَتَى الرَّجُلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَلْتَمِسُ الْعَقْلَ، فَقَالَ: "يَنْطَلِقُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ، فَيَعَضُّهُ كَعَضِيضِ الْفَحْلِ، ثُمَّ يَأْتِي يَطْلُبُ الْعَقْلَ؟ لَا عَقْلَ لَهَا"، فَأَبْطَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمران بن بكّار": هو الكلابيّ البرّاد الحمصيّ المؤذّن، ثقة [11] 17/ 1541 منْ أفراد المصنّف. و"أحمد بن خالد": هو الْوَهْبِيّ الكنديّ، أبو سعيد، صدوقٌ [9] 56/ 2300. و"محمد": هو ابن إسحاق بن يسار المطّلبيّ، إمام المغازي المشهور. و"صفوان بن عبد الله": هو ابن صفوان بن أميّة القرشيّ، ثقة [3] 46/ 2255. و"سلمة بن أميّة" التميميّ الكوفيّ، أخو يعلى، صحابيّ، روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه ابن أخيه صفوان بن عبد الله.

قَالَ ابن عبد البرّ: لا يوجد له سوى حديث واحد، عند ابن إسحاق -يعني هَذَا الْحَدِيث- وذكره البخاريّ، وَقَالَ: يُخالف فيه -يعني ابن إسحاق. تفرّد به المصنّف، وابن ماجه بهذا الْحَدِيث فقط.

وقوله: "فِي غزوة تبوك": وفي رواية ابن علية الآتية فِي 4771 - : "غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش العسرة"، قَالَ الحافظ: وبه جزم غير واحد منْ الشراح، وتعقبه بعض منْ لقيناه، بأن فِي "باب منْ أحرم جاهلا، وعليه قميص"، منْ "كتاب الحج" فِي البخاريّ، منْ حديث يعلى: "كنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأتاه رجل عليه جبة بها أثر صفرة

" فذكر الْحَدِيث، وفيه: "فَقَالَ اصنع فِي عمرتك ما تصنع فِي حجتك، وعَضَّ رجل يد رجل، فانتزع ثنيته، فأبطله النبيّ صلى الله عليه وسلم"، فهذا يقتضي أن يكون ذلك فِي سفر، كَانَ فيه الإحرام بالعمرة. قَالَ الحافظ: وليس ذلك صريحا فِي هَذَا الْحَدِيث، بل هو محمول عَلَى أن الراوي سمع الحديثين، فأوردهما معًا، عاطفا لأحدهما عَلَى الآخر، بالواو التي لا تقتضي الترتيب، وعجيب ممن يتكلم عن الْحَدِيث، فَيَرُدُّ ما فيه صريحًا، بالأمر المحتمل، وما سبب ذلك، إلا إيثار الراحة، بترك تتبع طرق الْحَدِيث، فإنها طريق توصل إلى الوقوف عَلَى المراد غالبا. انتهى "فتح" 14/ 210 - 211.

ص: 84

[تنبيه]: "غزوة تبوك": هي الغزوة التي غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي شهر رَجَب، سنة تسع منْ الهجرة، فصالح أهلها عَلَى الجزية، منْ غير قتال، و"تبوك": موضع منْ بادية الشام، قريبٌ منْ مدين الذين بعث الله تعالى إليهم شُعيبًا عليه السلام، وأصل تبوك مضارع باكت الناقة تبوك بَوْكًا: إذا سَمِنت، فهي بائك بغير هاء، قيل: سمّيت الغزوة بذلك؛ لخلوها عن البؤس، فأشبهت الناقة التي ليس بها هُزال، ثم سُمّيت البقعة بذلك. أفاده الفيّوميّ.

وقوله: "ومعنا صاحبٌ لنا": هو أجير يعلى، كما سبق.

وقوله: "فعضّ الرجل ذراعه": الرجل هو يعلى نفسه، كما سبق.

وقوله: "يلتمس العقل": أي دية ثنيّته. وقوله: "عَضِيض الفحل": بفتح العين المهملة، وكسر الضاد المعجمة: بمعن العَضّ، يقال: عَضِضْتُهُ، وعَضِضْتُ عليه، كسَمِعَ، عَضّا، وعَضيضًا: إذا أمسكتُه بأسناني، أو بلساني، وعضضتُ بصاحبي عَضِيضًا: لزمته. أفاده فِي "القاموس".

والحديث، وإن كَانَ فيه ابن إسحاق، وهو مدلّسٌ، وَقَدْ عنعنه، لكنه صحيحٌ بما بعده، أخرجه المصنّف هنا -2/ 4767 - وفي "الكبرى" 19/ 6967. وأخرجه (ق) فِي "الديات" 2656. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4768 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَجُلاً عَضَّ يَدَ رَجُلٍ، فَانْتُزِعَتْ ثَنِيَّتُهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَهْدَرَهَا).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.

و"عبد الجبّار بن العلاء بن عبد الجبّار": هو العطّار، أبو بكر البصريّ، نزيل مكة، لا بأس به، منْ صغار [10] 132/ 199. و"سفيان": هو ابن عيينة. و"عمرو": هو ابن دينار. و"عطاء": هو ابن أبي رباح. و"صفوان بن يعلى": هو ابن أميّة التميميّ المكيّ، ثقة [3] 7/ 407.

وقوله: "عن عطاء": هو ابن أبي رباح، عن صفوان بن يعلى، وفي رواية ابن علية الآتية 4771 - :"أخبرني عطاء"، وفي رواية للبخاريّ، منْ طريق محمد بن أبي بكر، فِي "المغازي":"سمعت عطاء، أخبرني صفوان بن يعلي بن أمية"، وكذا لمسلم منْ طريق أبي أسامة عن ابن جريج.

وقوله: "عن أبيه"، وفي رواية ابن علية:"عن يعلي بن أمية"، وفي رواية حجاج بن

ص: 85

محمد، عند أبي نعيم فِي "المستخرج":"أخبرني صفوان بن يعلي بن أمية، أنه سمع يعلى، وسيأتي -4772 - منْ طريق شعبة، عن قتادة، عن عطاء، عن ابن يعلى، عن أبيه، و-4773 - منْ طريق هشام الدستوائي، عن قتادة، وفيها مخالفة لرواية شعبة منْ وجهين: [أحدهما]: أنه أدخل بين قتادة وعطاء بُدَيلَ بنَ ميسرة. [والآخر]: أنه أرسله، ولفظه: "عن صفوان بن يعلى، أن أجيرا ليعلي بن منية، عض آخرُ ذراعَهُ.

وَقَدْ اعترض الدارقطنيّ عَلَى مسلم، فِي تخريجه هذه الطريق، وتخريجه طريق محمد ابن سيرين، المتقدّمة قبل باب 18/ 4760 - عن عمران، وهو لم يسمع منه.

وأجاب النوويّ بما حاصله إن المتابعات يُغتفر فيها ما لا يُغتفر فِي الأصول، قَالَ الحافظ: وهو كما قَالَ. قاله فِي "الفتح" 14/ 210.

وقوله: "أن رجلاً": هو يعلى نفسه. وقوله: "فانتُزعت" بالبناء للمفعول. وقوله: "فأهدرها": أي أبطلها، يقال: هَدَر الدم هَدْرًا، منْ باب ضرب، وقَتَل: بطَلَ، وأهدر بالألف لغةٌ، وهدرته، منْ باب قتل، وأهدرته: أبطلته، يُستعملان متعدّيين أيضًا، والهَدَرُ بفتحتين اسم منه، وذهب دمه هَدْرًا بالسكون، والتحريك: أي باطلاً، لا قَوَدَ فيه. قاله الفيّوميّ.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4769 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ مَرَّةً أُخْرَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى، عَنْ يَعْلَى، وَابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى، عَنْ يَعْلَى، أَنَّهُ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا، فَقَاتَلَ رَجُلاً، فَعَضَّ يَدَهُ، فَانْتُزِعَتْ ثَنِيَّتُهُ، فَخَاصَمَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "أَيَدَعُهَا يَقْضِمُهَا، كَقَضْمِ الْفَحْلِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "مرّة أُخرى": أي حدثنا أوّلاً عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن أبي رباح، عن صفوان بن يعلى، عن يعلي بن أميّة رضي الله عنه، ثم حدّثنا بالحديث مرةً ثانيةً عن سفيان، عن عمرو، عن عطاء، عن صفوان، وعن ابن جريج، عن عطاء، عن صفوان، فزاد الطريق الثانية، فقوله:"وابن جريج" بالجرّ عطفًا عَلَى عمرو، فسفيان يروي عن كلّ منْ عمرو، وابن جريج. والله تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4770 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ،

ص: 86

فَاسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا، فَقَاتَلَ أَجِيرِي رَجُلاً، فَعَضَّ الآخَرُ، فَسَقَطَتْ ثَنِيَّتُهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَأَهْدَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "إسحاق بن إبراهيم": هو ابن راهويه. و"سفيان": هو ابن عُيينة.

وقوله: "غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي غزوة تبوك": هكذا الرواية عند المصنّف هنا "فِي غزوة تبوك" بزيادة "فِي"، والظاهر أنه ضمّن "غزوت" معنى "خرجت"، كما فِي الرواية الأخرى. والله تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4771 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى، عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَيْشَ الْعُسْرَةِ، وَكَانَ أَوْثَقَ عَمَلٍ لِي، فِي نَفْسِي، وَكَانَ لِي أَجِيرٌ، فَقَاتَلَ إِنْسَانًا، فَعَضَّ أَحَدُهُمَا أُصْبَعَ صَاحِبِهِ، فَانْتَزَعَ إِصْبَعَهُ، فَأَنْدَرَ ثَنِيَّتَهُ، فَسَقَطَتْ، فَانْطَلَقَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَهْدَرَ ثَنِيَّتَهُ، وَقَالَ: "أَفَيَدَعُ يَدَهُ فِي فِيكَ تَقْضَمُهَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "يعقوب بن إبراهيم": هو الدورقيّ.

وقوله: "جيش العسرة": هو جيش غزوة تبوك المذكورة فِي الرواية الماضية، وسمي بذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ندب النَّاس إلى الغزو فِي شدّة القيظ -أي الحرّ- وكان وَقْت إيناع الثمرة، وطيب الظلال، فعَسُرَ ذلك عليهم، وشقّ، والعسرُ: ضدّ اليُسر، وهو الضيق، والشّدّة، والصعوبة. قاله فِي "النهاية" 3/ 235.

وقوله: "وكان أوثق عَمَلٍ لي" يعني أن خروجه فِي غزوة تبوك منْ أفضل أعماله التي عملها فِي الإِسلام، وذلك لما فِي الجهاد فِي سبيل الله منْ الفضل عمومًا، ولما فِي هذه الغزوة خصوصًا، حيث أثني الله تعالى فِي كتابه العزيز عَلَى أهلها، فَقَالَ:{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} الآية [التوبة: 117].

وقوله: "إصبع صاحبه" بكسر الهمزة، وفتح الباء الموحّدة، أفصح لغاتها، إذ فيها عشر لغات، وهي تثليث الهمزة، مع تثليث الموحّدة، والعاشرة أُصْبُوع، كعُصْفُورٍ، وأشهرها ما ذكرته أوّلاً، وهي التي ارتضاها الفصحاء. وهي مؤنّثة، وكذلك سائر أسمائها، مثل الخِنْصِر، والْبِنْصِرِ، وفي كلام ابن فارس ما يدلّ عَلَى تذكير الإِصبع، فإنه قَالَ: الأجود فِي إصبع الإنسان التأنيث. وَقَالَ الصغانيّ أيضًا: يُذَكَّر، ويؤنّثُ، والغالب التأنيث. أفاده الفيّوميّ.

ص: 87

وقوله: "فأندر ثنيّته": أي نزعها منْ موضعها، فسقطت إلى الأرض.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4772 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ يَعْلَى، عَنْ أَبِيهِ، بِمِثْلِ الَّذِي عَضَّ، فَنَدَرَتْ ثَنِيَّتُهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَا دِيَةَ لَكَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: تقدّم هَذَا الْحَدِيث سندًا، ومتنًا، فِي الباب الماضي، إلا أنه كَانَ هناك منْ مسند عمران بن حُصين رضي الله تعالى عنهما، وشيخ قتادة هو زُرارة بن أوفى.

وقوله: "فِي حديث عبد الله بن المبارك": أي حدّثنا هَذَا الْحَدِيث مع جملة الأحاديث التي حدّثناها عن عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى.

وقوله: "بمثل الذي عَضَّ" يعني بمثل الْحَدِيث الماضي فِي الباب السابق، ولفظه:"أن يعلى قَالَ فِي الذي عضّ، فندرت ثنيّته أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لا دية لك".

والحديث متّفقٌ عليه، كما مرّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4773 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ بُدَيْلِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى ابْنِ مُنْيَةَ، أَنَّ أَجِيرًا لِيَعْلَى ابْنِ مُنْيَةَ، عَضَّ آخَرُ ذِرَاعَهُ، فَانْتَزَعَهَا مِنْ فِيهِ، فَرَفَعَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ سَقَطَتْ ثَنِيَّتُهُ، فَأَبْطَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: "أَيَدَعُهَا فِي فِيكَ تَقْضَمُهَا، كَقَضْمِ الْفَحْلِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "إسحاق": هو ابن راهويه. "وأبو معاذ": هو هشام الدستوائيّ. و"بُديل -بضم أوله، مصغّرًا

(1)

- ابن ميسرة": هو الْعُقيليّ البصريّ، ثقة [5] 55/ 859.

وقوله: "ابن منية": هي أم يعلى، كما سبق، كَانَ تارة يُنسب إلى أبيه أُميّة، وتارة إلى أمه مُنية، وإذا نُسب إليها تكتب همزة الوصل فِي كلمة "ابن"؛ لأن القاعدة أن لفظة "ابن" إذا وقعت بين علمين، وكان الثاني غير أبيه، كأمه كتبت الهمزة، وثبت التنوين فِي الاسم الأول، كمحمدٍ ابن الحنفيّة، فتنبّه.

وقوله: "فرفع ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يحتمل بناء "رفع" للفاعل، أو للمفعول.

والحديث مرسلٌ؛ لأن صفوان لم يحضر القصّة، فإنه تابعيّ، وإذا حكى القصة منْ

(1)

وقع فِي النسخة المطبوعة بفتح الموحّدة، وكسر الدال المهملة، مكبّرًا، وهو تصحيف فاحش، فتنبّه.

ص: 88

لم يحضرها كَانَ منقطعًا، كما قَالَ فِي "ألفيّة الأثر":

وَكُلُّ مَنْ أَدْرَكَ مَا لَهُ رَوَى

مُتَّصِلٌ وَغَيْرُهُ قَطْعًا حَوَى

وَقَدْ تقدّم أن الدارقطنيّ رحمه الله تعالى انتقد عَلَى مسلم إخراجه لهذه الطريق، ولكن أجيب عنه بأنه أوردها متابعةً، واستشهادًا، فلا يضرّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4774 -

(أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْجَوَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمَّارٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى، أَنَّ أَبَاهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَاسْتَأْجَرَ أَجِيرًا، فَقَاتَلَ رَجُلاً، فَعَضَّ الرَّجُلُ ذِرَاعَهُ، فَلَمَّا أَوْجَعَهُ نَتَرَهَا، فَأَنْدَرَ ثَنِيَّتَهُ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ، فَيَعَضُّ أَخَاهُ، كَمَا يَعَضُّ الْفَحْلُ"، فَأَبْطَلَ ثَنِيَّتَهُ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو بكر بن إسحاق": هو محمد بن إسحاق الصاغاني، نزيل بغداد، ثقة ثبتٌ [11] 13/ 347. و"أبو الْجَوَّاب" -بفتح الجيم، وتشديد الواو-: الأحوص بن الْجَوّاب الضّبّيّ الكوفيّ، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [9] 102/ 135. و"عَمَار": هو ابن رُزَيق الضبيّ، أو التميميّ، أبو الأحوص الكوفيّ، لا بأس به [8] 102/ 135. و"محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى": هو الأنصاريّ الكوفيّ القاضي، أبو عبد الرحمن، صدوقٌ، سيّء الحفظ جدًّا [7] 19/ 2149. و"الحكم": هو ابن عُتيبة. و"محمد بن مسلم": هو ابن شهاب الزهريّ الإِمام الحجة المشهور.

وقوله: "نترها" -بفتح النون، والتاء المثناة الفوقيّة، بعدها راء-: أي جذبها بقوّة، يقال: نترته نَتْرًا، منْ باب قتل: جذبته فِي شِدّة. قاله فِي "المصباح". وقوله: "فأندر ثنيّته": أي أسقطها. وقوله: "فرفع ذلك الخ" يحتمل أن يكون مبنيّا للفاعل، وللمفعول.

وقوله: "يَعْمِد أحدكم الخ": -بفتح أوله، وكسر الميم-: أي يقصد، يقال: عمَدتُ للشيء، عَمْدًا، وعمَدت إليه، منْ باب ضرب: قصدته، وتعمّدته: قصدته أيضًا. قاله الفيّوميّ.

والحديث أيضًا مرسلٌ، وفيه ابن أبي ليلى متكلّم فيه، لكنه صحيحٌ بما سبق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 89

‌21 - (الْقَوَدُ فِي الطَّعْنَةِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الطَّعْنَةُ" بفتح الطاء، وسكون العين المهملتين-: المرّة منْ الطعن، يقال: طعنه بالرمح طَعْنًا، كمنعه، ونصره: ضربه، ووخَزَه، فهو مطعونٌ، وطَعِينٌ. قاله فِي "القاموس". والله تعالى أعلم بالصواب.

4775 -

(أَخْبَرَنَا وَهْبُ بْنُ بَيَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبِيدَةَ بْنِ مُسَافِعٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقْسِمُ شَيْئًا، أَقْبَلَ رَجُلٌ، فَأَكَبَّ عَلَيْهِ، فَطَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِعُرْجُونٍ كَانَ مَعَهُ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَعَالَ، فَاسْتَقِدْ"، قَالَ: بَلْ قَدْ عَفَوْتُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(وهب بن بيان) أبو عبد الله الواسطيّ، نزيل مصر، ثقة عابدٌ [10] 20/ 1399.

2 -

(ابن وهب) عبد الله المصريّ ثقة ثبت عابد [9] 9/ 9.

3 -

(عمرو بن الحارث) أبو أيوب المصريّ ثقة ثبت [7] 63/ 79.

4 -

(بُكير بن عبد الله) بن الأشجّ المدنيّ، نزيل مصر ثقة [5] 135/ 211.

5 -

(عَبِيدة -بفتح العين المهملة، وكسر الباء الموحّدة- ابن مسافع) -بضم الميم، بعدها مهملة، ثم فاء- الديليّ المدنيّ، مقبول [4].

روى عن أبي سعيد الخدريّ حديث الباب، وعنه ابنه مالك، وبُكير بن عبد الله بن الأشجّ. قَالَ ابن المدينيّ: مجهولٌ، ولا أدري سمع منْ أبي سعيد، أم لا؟. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". تفرّد به المصنّف، وأبو داود بهذا الْحَدِيث فقط.

6 -

(أبو سعيد الخدريّ) سعد بن مالك رضي الله تعالى عنهما 169/ 262. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) سعد بن مالك رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: بَيْنَا) هي "بين" الظرفيّة، أُشبعت فتحتها، فتولّدت منها الألف، ومثلها "بينما"، ويدخلان عَلَى الجملة، وجوّز الأصمعيّ إضافة "بينا" إلى مفرد، إذا صلح فِي موضعها "بين"، كقول الشاعر:

ص: 90

بَيْنَا تَعَنُّفِهِ الْكُمَاةَ وَرَوْغِهِ

يَوْمًا أُتِيحَ لَهُ جَرِيءٌ سَلْفَعُ

(1)

أفاده المجد فِي "القاموس"(رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقْسِمُ) بفتح أوله منْ القَسْم ثلاثيّا (شَيْئًا، أَقْبَلَ رَجُلٌ، فَأَكَبَّ عَلَيْهِ) أي سقط عليه؛ لينال شيئًا بالاستعجال، ولم يَصبِر (فَطَعَنَهُ) أي ضربه، ووخَزَه تأديبًا له (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعُرْجُونٍ) بضم العين المهملة، وسكون الراء، وضم الجيم: عودٌ أصفر فيه شَماريخ الْعِذْق، سمّي بذلك؛ لانعراجه، وانعطافه، ونونه زائدة، يقال: انعرج الشيء: إذا انعطف، ومُنعرج الوادي: اسم فاعل، حيث يميل يمنةً ويسرة. أفاده فِي "المصباح"(كَانَ مَعَهُ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ) هكذا فِي رواية المصنّف، أي خرج منْ موضع القسم؛ خجلاً وحياء منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لتألّمه منْ الطعنة، ويؤيّده ما فِي الرواية التالية، بلفظ:"فصاح الرجل"، وفي رواية أبي داود:"فجُرح بوجهه"(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَعَالَ) بفتح اللام، أمر منْ تعالى يتعالى، منْ العلوّ، وهو الارتفاع، وأصله أن الرجل العالي كَانَ ينادي السافل، فيقول: تعالَ، ثم كثُر فِي كلامهم حَتَّى استُعمل بمعنى "هَلُمَّ" مطلقًا، سواء كَانَ موضع المدعوّ أعلى، أو أسفل، أو مساويًا، فهو فِي الأصل لمعنًى خاصّ، ثم استُعمل فِي معنًى عامّ، وتتّصل به الضمائر باقيًا عَلَى فتحه، فيقال: تعالَوا، تعاليا، تعالَينَ، وربّما ضُمّت اللام مع جمع المذكّر السالم، وكُسرت مع المؤنّث، وبه قرأ الحسن البصريّ فِي قوله تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا} الآية [آل عمران: 64]؛ لمجانسة الواو. قاله الفيّوميّ (فَاسْتَقِدْ") وفي نسخة: "فاستقده": أي خذ القصاص منّي (قَالَ) الرجل (بَلْ قَدْ عَفَوْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ) أي تركت القصاص، يقال: عفوتُ عن الحقّ: إذا أسقطته، كأنك محوته عن الذي هو عليه، وعافاه الله: محا عنه الأسقام. أفاده الفيّومىّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هَذَا ضعيفٌ لجهالة عَبيدة بن مسافع، كما سبق عن ابن المدينيّ رحمه الله تعالى.

(1)

"السلفع": كجعفر: الجريء الشجاع الواسع الصدر. اهـ "قاموس".

ص: 91

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -21/ 4773 - وفي "الكبرى" 20/ 6975. وأخرجه (د) فِي "الديات" 4536. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان ثبوت القصاص فِي الطعنة، وَقَدْ عرفت أن الْحَدِيث ضعيف، لكن الأصحّ ثبوت القصاص؛ لما سيأتي فِي المسألة التالية، إن شاء الله تعالى. (ومنها): بيان ما كَانَ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ التواضع، وحسن العشرة مع النَّاس، حيث طلب منْ الذي طعنه تأديبًا، أن يقتصّ منه صلى الله عليه وسلم. (ومنها): تواضعه صلى الله عليه وسلم أيضًا حيث كَانَ يتولّى القسمة بين النَّاس بنفسه، مع كون الصحابة رضي الله عنهم مستعدّين لتنفيذ ما يأمرهم به، عَلَى الوجه المطلوب، إلا أنه آثر نفسه بذلك تحقيقًا لمعنى قوله صلى الله عليه وسلم:"إنما أنا قاسم، والله يعطي"، متّفق عليه. (ومنها): مشروعية منْ أساء الأدب، لكن بغير الضرب، كالتعنيف، ونحوه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي القصاص منْ الطعنة، ونحوها:

وَقَدْ حقّق هذه المسألة الإِمام ابن قيّم الجوزيّة رحمه الله تعالى فِي "تهذيب السنن"، بما لا تجده عند غيره منْ المحقّقين، أحببت إيراده بطوله؛ تتميمًا للفائدة، وتكميلًا للعائدة، قَالَ رحمه الله تعالى:

قد اختلف النَّاس فِي هذه المسألة، وهي القصاص فِي اللطمة، والضربة، ونحوهما، مما لا يمكن المقتصّ أن يفعل بخصمه مثل ما فعله به منْ كلّ وجه، هل يسوغ القصاص فِي ذلك، أو يُعدل إلى عقوبته بجنس آخر، وهو التعزير؟ عَلَى قولين:

[أصحّهما]: أنه شُرع فيه القصاص، وهو مذهب الخلفاء الراشدين، ثبت ذلك عنهم، حكاه عنهم أحمد، وأبو إسحاق الْجُوزجانيّ فِي "المترجم"، ونصّ عليه الإِمام أحمد فِي رواية الشالنجيّ، وغيره، قَالَ شيخنا -يعني ابن تيميّة-: وهو قول جمهور السلف.

[القول الثاني]: أنه لا يُشرع فيه القصاص، وهو المنقول الشافعيّ، ومالك، وأبي حنيفة، وقول المتأخّرين منْ أصحاب أحمد، حَتَّى حكى بعضهم الإجماع عَلَى أنه لا قصاص فيه، وليس كما زَعَم، بل حكاية إجماع الصحابة عَلَى القصاص أقرب منْ حكاية الإجماع عَلَى منعه، فإنه ثبت عن الخلفاء الراشدين، ولا يُعلم لهم مخالف فيه.

ص: 92

ومأخذ القولين أن الله تعالى أمر بالعدل فِي ذلك، فبقي النظر فِي أَيُّ الأمرين أقرب إلى العدل؟.

فَقَالَ المانعون: المماثلة لا تمكن هنا، فكان العدل يقتضي العدول إلى جنس آخر، وهو التعزير، فإن القصاص لا يكون إلا مع المماثلة، ولهذا لا يجب فِي الجرح حَتَّى ينتهي إلى حدّ، ولا فِي القطع إلا منْ منفصل؛ لتمكن الماثلة، فإذا تعذّرت فِي القطع، والجرح صرنا إلى الدية، فكذا فِي اللطمة، ونحوها لَمّا تعذّرت صرنا إلى التعزير.

قَالَ المجوّزون: القصاص فِي ذلك أقرب إلى الكتاب، والسنّة، والقياس، والعدل منْ التعزير.

وأما الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى قَالَ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} الآية [الشورى: 40]، وَقَالَ:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الآية [البقرة: 194]، ومعلوم أن المماثلة مطلوبةٌ بحسب الإمكان، واللطمة أشدّ مماثلة للّطمة، والضربة للضربة منْ التعزير لها، فإنه ضرب فِي غير الموضع، غير مماثل، لا فِي الصورة، ولا فِي المحلّ، ولا فِي القدر، فأنتم فررتم منْ تفاوت لا يمكن الاحتراز منه بين اللطمتين، فصرتم إلى أعظم تفاوتًا منه، بلا نصّ، ولا قياس.

قالوا: وأما السنّة، فما ذُكِر منْ الأحاديث فِي هَذَا الباب، ولو لم يكن فِي الباب إلا سنّة الخلفاء الراشدين، لكفى بها دليلاً، وحجةً. قالوا: فالتعزير لا يُعتبر فيه جنس الجناية، ولا قدرها، بل قد يُعزّر بالسوط والعصا، ويكون إنما ضربه بيده، أو رجله، فكانت العقوبة بحسب الإمكان فِي ذلك أقرب إلى العدل الذي أنزل الله به كُتُبه، وأرسل به رُسُله. قالوا: وَقَدْ دلّ الكتاب والسنّة فِي أكثر منْ مائة موضع عَلَى أن الجزاء منْ جنس العمل فِي الخير والشرّ، كما قَالَ تعالى:{جَزَاءً وِفَاقًا} : أي وفق أعمالهم، وهذا ثابتٌ شرعًا، وقدرًا، أما الشرع، فلقوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} الآية [المائدة: 45]، فأخبر سبحانه وتعالى أن الجروح قصاص، مع أن الجارح قد يشتدّ عذابه إذا فُعل به كما فَعَل، حَتَّى يُستوفَى منه. وَقَدْ ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أنه رضخ رأس اليهوديّ"، كما رضخ رأس الجارية، وهذا القتل قصاص؛ لأنه لو كَانَ لنقض العهد، أو للحرابة لكان بالسيف، ولا يُرضخ الرأس. ولهذا كَانَ أصح الأقوال أنه يُفعل بالجاني مثلُ ما فعل بالمجنيّ عليه، ما لم يكن محرّمًا لحقّ الله، كالقتل باللواطة، وتجريع الخمر، ونحوه، فيُحَرَّق كما حرّق، وُيلقى منْ شاهق كما فَعَل،

ص: 93

ويُخنق كما خَنَق؛ لأن هَذَا أقرب إلى العدل، وحصولِ مُسمّى القصاص، وإدراك الثأر، والزجر المطلوب منْ القصاص، وهذا مذهب مالك، والشافعيّ، وإحدى الروايتين عن أحمد.

قالوا: وأما كون القصاص لا يجب فِي الجرح حَتَّى ينتهي إلى حدّ، ولا فِي الطرّف حَتَّى ينتهي إلى مَفصل؛ لتحقّق المماثلة، فهذا إنما اشتُرط؛ لئلا يزيد المقتصّ عَلَى مقدار الجناية، فيصير المجنيّ عليه مظلومًا بذهاب ذلك الجزء، فتعذّرت المماثلة، فصرنا إلى الدية، وهذا بخلاف اللطمة، والضربة، فإنه لو قدّر تعدّي المقتصّ فيها لم يكن ذلك بذهاب جزء، بل بزيادة ألم، وهذا لا يمكن الاحتراز منه، ولهذا توجبون التعزير، مع أن ألمه يكون أضعاف ألم اللطمة، والبرد منْ سنّ الجاني مقدار ما كسر منْ سنّ المجنيّ عليه، مع شدّة الألم، وكذلك قلع سنّه، وعينه، أو نحو ذلك، لابدّ فيه منْ زيادة ألم ليصل المجنيّ عليه إلى استيفاء حقّه، فهلاّ اعتبرتم هَذَا الألم المقدّرة زيادته فِي اللطمة، والضربة، كما اعتبرتموه فيما ذكرنا منْ الصور، وغيرها؟.

قَالَ المانعون: كما عدلنا فِي الإتلاف الماليّ إلى القيمة، عند تعذّر المماثلة، فكذلك هاهنا، بل أولى لحرمة البشرة، وتأكّدها عَلَى حرمة المال.

قَالَ المجوّزون: هَذَا قياس فاسدٌ منْ وجهين: [أحدهما]: أنكم لا تقولون بالمماثلة فِي إتلاف المال، فإنه إذا أتلف عليه ثوبًا لم تجوّزوا أن يُتلف عليه مثله منْ كلّ وجه، ولو قطع يده، وقتله لقطعت يده، وقُتل به، فعلم الفرق بين الأموال والأبشار، ودلّ عَلَى أن الجناية عَلَى النفوس والأطراف يُطلب فيها الْمُقاصّة بما لا يُطلب فِي الأموال.

[والثاني]: منْ هو الذي سلّم لكم أن غير المكيل والموزون يُضمن بالقيمة، لا بالنظير، ولا إجماع فِي المسألة، ولا نصّ؟، بل الصحيح أنه يجب المثل فِي الحيوان وغيره بحسب الإمكان، كما ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم فِي جزاء الصيد أنهم قضوا فيه بمثله منْ النعم، بحسب الإمكان، فقضوا فِي النعامة ببدنة، وفي بقرة الوحش ببقرة، وفي الظبي بشاة، إلى غير ذلك.

قَالَ المانعون: هَذَا عَلَى خلاف القياس، فيصار إليه؛ اتّباعًا للصحابة، ولهذا منعه أبو حنيفة، وقدّم القياس عليه، وأوجب القيمة.

قَالَ المجوّزون: قولكم: إن هَذَا عَلَى خلاف القياس، فرع عَلَى صحّة الدليل الدّالّ عَلَى أن المعتبر فِي ذلك هو القيمة، دون النظير، وأنتم لم تذكروا عَلَى ذلك دليلاً، منْ كتاب، ولا سنّة، ولا إجماع، حتّى يكون قضاء الصحابة بخلافه، عَلَى خلاف القياس، فأين الدليل؟.

ص: 94

قَالَ المانعون: الدليل عَلَى اعتبار القيمة فِي إتلاف الحيوان، دون المثل، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ضمّن معتق الشَّقص إذا كَانَ موسرًا بقيمته، ولم يضمّنه نصيب الشريك بمثله، فدلّ عَلَى أن الأصل هو القيمة فِي غير المكيل والموزون.

قَالَ المجوّزون: هَذَا أصل ما بنيتم عليه اعتبار القيمة فِي هذه المسائل وغيرها، ولكنه بناء عَلَى غير أساس، فإن هَذَا ليس مما نحن فيه فِي شيء، فإن هَذَا ليس منْ باب ضمان المتلفات بالقيمة، بل هو منْ باب تملّك مال الغير بالقيمة، كتملّك الشقص المشفوع بثمنه، فإن نصيب الشريك يقدّر دخوله فِي ملك المعتِقِ، ثم يَعتِق عليه بعد ذلك، والقائلون بالسراية متّفقون عَلَى أنه يَعتِق كله عَلَى ملك المعتِقِ، والولاء له، دون الشريك. واختلفوا، هل يسري العتق عقب إعتاقه، أو لا يَعتق حَتَّى يؤدّي الثمن؟ عَلَى قولين للشافعيّ، وهما فِي مذهب أحمد، قَالَ شيخنا -يعني ابن تيميّة-: والصحيح أنه لا يَعتق إلا بالأداء.

وعلى هَذَا ينبني ما إذا أعتق الشريك نصيبه بعد عتق الأول، وقبل وزن القيمة، فعلى الأول لا يعتق عليه، وعلى الثاني يعتق عليه، ويكون الولاء بينهما.

وعلى هَذَا أيضًا ينبني ما إذا قَالَ أحدهما: إذا أعتقت نصيبك، فنصيبي حرّ، فعلى القول الأول لا يصحّ هَذَا التعليق، ويَعتق كله فِي مال المعتِقِ، وعلى القول الثاني يصحّ التعليق، ويَعتق نصيب الشريك منْ ماله.

فظهر بهذا أن استدلالكم بالعتق استدلالٌ باطلٌ، بل إنما يكون إتلافًا إذا قتله، فلو ثبت لكم بالنصّ أنه ضمن قاتل العبد بالقيمة دون المثل، كَانَ حجةً، وأنَّى لكم بذلك؟.

قالوا: وأيضًا فالفرق واضحٌ بين أن يكون الْمُتْلَفُ عينًا كاملةً، أو بعضَ عين، فلو سلّمنا أن التضمين كَانَ تضمين إتلافٍ لم يجب مثله فِي العين الكاملة، والفرق بينهما أن حقّ الشريك فِي العين التي لا يمكن قسمتها فِي نصف القيمة مثلاً، أو ثلثها، فالواجب له منْ القيمة بنسبة ملكه، ولهذا يُجبر شريكه عَلَى البيع إذا طلبه ليتوصّل إلى حقّه منْ القيمة، والنبيّ صلى الله عليه وسلم راعى ذلك، وقوّم عليه العبد قيمةً كاملةً، ثم أعطاه حقّه منْ القيمة، ولم يقوّم عليه الشقص وحده، فيعطيه قيمته، فدلّ عَلَى أن حق الشريك فِي نصف قيمته، فإذا كَانَ كذلك، فلو ضمّنّا المعتق نصيب الشريك بمثله منْ عبد آخر لم نُجبره عَلَى البيع إذا طلبه شريكه؛ لأنه إذا لم يكن له حقّ فِي القيمة، بل حقّه فِي نفس العين، فحقّه باقٍ منها.

قالوا: فظهر أنه ليس معكم أصلٌ تقيسون عليه، لا منْ كتاب، ولا سنّة، ولا إجماع. وَقَدْ ثبت فِي "الصحيح": أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اقترض بَكْرًا، وقضى خيرًا منه، واحتجّ به منْ

ص: 95

يُجوّز قرض الحيوان، مع أن الواجب فِي القرض ردّ المثل، وهذا يدلّ عَلَى أن الحيون مثليّ.

ومن العجب أن يقال: إذا اقترض حيوانًا ردّ قيمته، ويقال: ذلك عَلَى الإتلاف، والغصب، فيُترك موجَب النصّ الصحيح؛ لقياس لم يثبت أصله بنصّ، ولا إجماع، ونصوص أحمد: أن الحيون فِي القرض يُضمن بمثله. وَقَالَ بعض أصحابه: بل بالقيمة؛ طردًا للقياس عَلَى الغصب. واختلف أصحابه فِي موجَب الضمان فِي الغصب، والإتلاف عَلَى ثلاثة أوجه:

[أحدها]: أن الواجب القيمة فِي غير المكيل والموزون. [والثاني]: الواجب المثل فِي الجميع. [والثالث]: الواجب المثل فِي غير الحيوان، ونصّ عليه أحمد فِي الثوب، والقصعة، ونحوهما، ونصّ عليه الشافعيّ فِي الجدار المهدوم ظلمًا يُعاد مثله، وأقول النَّاس بالقيمة أبو حنيفة، ومع هَذَا فعنده إذا أتلف ثوبًا ثبت فِي ذمّته مثله، لا قيمته، ولهذا يجوز الصلح عنه بأكثر منْ قيمته، ولو كَانَ الثابت فِي الذّمّة القيمة لما جاز الصلح عنها بأكثر منها.

فظهر أن منْ لم يعتبر المثل، فلابدّ منْ تناقضه، أو مناقضته للنّصّ الصريح، وهذا ما لا مخلص منه.

وأصل هَذَا كلّه هو الحكومة التي حكم فيها داود وسليمان عليهما السلام، وقصّها الله تعالى علينا فِي كتابه، وكانت فِي الحرث، وهو البستان، وقيل: إنها كانت أشجار عنب، فنفشت فيها الغنم -والنفش إنما يكون ليلاً- فقضى داود عليه السلام لأصحاب البستان بالغنم؛ لأنه اعتبر قيمة ما أفسدته، فوجده يساوي الغنم، فأعطاهم إياها، وأما سليمان عليه السلام فقضى عَلَى أصحاب الغنم بالمثل، وهو أن يعمّروا البستان كما كَانَ، ثم رأى أن مغله إلى حين عوده يفوت عليهم، ورأى أن مغل الغنم يساويه، فأعطاهم الغنم يستغلّونها حَتَّى يعود بستانهم كما كَانَ، فإذا عاد ردّوا إليهم غنمهم.

فاختلف العلماء فِي مثل هذه القضيّة عَلَى أربعة أقوال:

[أحدها]: القول بالحكم السليمانيّ فِي أصل الضمان، وكيفيّته، وهو أصحّ الأقوال، وأشدّها مطابقة لأصول الشرع، والقياس، كما قد بيّنّا ذلك فِي كتاب مفرد فِي الاجتهاد، وهذا أحد القولين فِي مذهب أحمد، نصّ عليه فِي غير موضع، ويُذكر وجهًا فِي مذهب مالك، والشافعيّ.

[والثاني]: موافقته فِي النفش، دون المثل، وهذا هو المشهور منْ مذهب الشافعيّ، ومالك، وأحمد.

ص: 96

[والثالث]: عكسه، وهو موافقته فِي المثل، دون النفش، وهو قول داود، وغيره، فإنهم يقولون: إذا أتلف البستان بتفريطه ضمنه بمثله، وأما إذا انفلتت الغنم ليلاً لم يضمن صاحبها ما أتلفته.

[والرابع]: أن النفش لا يوجب الضمان، ولو أوجبه لم يكن بالمثل، بل بالقيمة، فلم يوافقه لا فِي النفش، ولا فِي المثل، وهو مذهب أبي حنيفة، وهذا منْ اجتهادهم فِي القياس، والعدل هو الذي أوجبه الله.

فكلّ طائفة رأت العدل هو قولَها، وإن كانت النصوص، والقياس، وأصول الشرع تشهد بحكم سليمان عليه السلام، كما أن الله سبحانه وتعالى أثنى عليه به، وأخبر أنه فهّمه إياه.

وذِكرُ مأخذ هذه الأقوال، وأدلّتها، وترجيح الراجح منها، له موضعٌ غير هَذَا، أليق به منْ هَذَا.

والمقصود أن القياس، والنصّ يدلّان عَلَى أنه يُفْعَل به كما فَعَل، وَقَدْ تقدّم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم: رضّ رأس اليهوديّ، كما رضّ رأس الجارية، وأن ذلك لم يكن لنقض العهد، ولا للحرابة؛ لأن الواجب فِي ذلك القتلُ بالسيف، وعن أحمد فِي ذلك أربع روايات:

[إحداهنّ]: أنه لا يُستوفى القود إلا بالسيف فِي العنق، وهذا مذهب أبي حنيفة.

[والثانية]: أنه يُفعَلُ به كما فَعَلَ، إذا لم يكن محرّمًا لحقّ الله تعالى، وهذا مذهب مالك، والشافعيّ.

[والثالثة]: إن كَانَ الفعلُ، أو الجرح مُرهقًا فُعِل به نظيرُهُ، وإلا فلا.

[والرابعة]: إن كَانَ الجرح، أو القطع موجبًا للقود لو انفرد فُعِل به نظيره، وإلا فلا. وعلى الأقوال كلّها إن لم يمت بذلك قُتل. وَقَدْ أباح الله تعالى للمسلمين أن يَمثُلُوا بالكفّار إذا مَثَلُوا بهم، وإن كانت المُثْلة منهيّا عنها، فَقَالَ تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} الآية [النحل: 126]، وهذا دليلٌ عَلَى أن العقوبة بجدع الأنف، وقطع الأذن، وبَقْرِ البطن، ونحو ذلك هي عقوبةٌ بالمثل، ليست بعُدوان، والمثلُ هو العدل.

وأما كون المثلة منهيًّا عنها؛ فلِمَا روى أحمد فِي "مسنده" منْ حديث سمرة بن جندب، وعمران بن حصين رضي الله عنهم، قالا:"ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبةً، إلا أمرنا بالصدقة، ونهانا عن المثلة".

[فإن قيل]: هو لم يمُت إذا فُعل به نظير ما فعل، فأنتم تقتلونه، وذلك زيادة عَلَى ما فعل، فأين المماثلة؟.

ص: 97

[قيل]: هَذَا يُنتقض بالقتل بالسيف، فإنه لو ضربه فِي العنق، ولم يوجبه، كَانَ لنا أن نضربه ثانيةً، وثالثةً، حَتَّى يوجبه اتفاقًا، وإن كَانَ الأول إنما ضربه ضربة واحدة، واعتبار المماثلة له طريقان:

[إحداهما]: اعتبار الشيء بنظيره ومثله، وهو قياس العلّة الذي يُلحق فيه الشيء بنظيره.

[والثاني]: قياس الدلالة الذي يكون الجمع فيه بين الأصل والفرع بدليل العلّة، ولازمها، فإن انضاف إلى واحد منْ هذين عموم لفظيّ كَانَ منْ أقوى الأدلّة؛ لاجتماع العمومين: اللفظيّ، والمعنويّ، وتضافر الدليلين: السمعيّ، والاعتباريّ.

فيكون موجَبُ الكتاب، والميزان، والقصاص فِي مسألتنا هو منْ هَذَا الباب، كما تقدّم تقريره، وهذا واضحٌ، لا خفاء به، ولله الحمد، والمنّة. انتهى كلام الإِمام ابن القيّم رحمه الله تعالى "تهذيب السنن" 12/ 175 - 180. منْ هامش "عون المعبود".

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لقد أعطى الإِمام ابن القيّم رحمه الله تعالى هذه المسألة حقّها منْ التحقيق، والاستقصاء فِي الاستدلال، فأجاد، وأفاد، وأسهب، وأعاد، فجزاه الله تعالى خيرًا.

وخلاصة البحث أن الصواب وجوب القصاص فِي الطعنة، واللطمة، والجبذة، ونحوها؛ لعموم الأدلّة، والأحاديث التي أوردها المصنّف رحمه الله تعالى فِي هذه الأبواب الثلاثة، مستدلّا بها عَلَى ما ترجم له فيها، وإن كَانَ فيها مقالٌ، إلا أن عموم الأدلّة يشهد لها، فيصحّ الاستدلال بها، فتبصّر لذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4776 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الرِّبَاطِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، أَنْبَأَنَا أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى، يُحَدِّثُ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبِيدَةَ بْنِ مُسَافِعٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقْسِمُ شَيْئًا، إِذْ أَكَبَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ، فَطَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِعُرْجُونٍ كَانَ مَعَهُ، فَصَاحَ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَعَالَ فَاسْتَقِدْ"، قَالَ: بَلْ عَفَوْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أحمد بن سعيد الرباطيّ": هو الأشقر، أبو عبد الله المروزيّ، ثقة حافظ [11] 90/ 1030. و"وهب بن جرير": هو الأزديّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقة [9] 196/ 1178. و"أبوه": هو جرير بن حازم بن زيد الأزديّ، أبو النضر البصريّ، ثقة، إلا فِي قتادة، وله أوهامٌ إذا حدّث منْ حفظه [6] 172/ 1141. و"يحيى": هو ابن أيوب الغافقيّ، أبو العبّاس المصريّ، صدوقٌ ربّما أخطأ [7] 60/ 1771.

ص: 98

والحديث ضعيف، كما سبق بيانه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌22 - (الْقَوَدُ مِنَ اللَّطْمَةِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الَّلطْمَةُ" بفتح اللام، وسكون الطاء المهملة: المرة منْ اللطم، وهو مصدر لطم، يقال: لطمَت المرأة وجهها لَطْمًا، منْ باب ضرب: ضربته بباطن كفّها. قاله الفيّوميّ. والله تعالى أعلم بالصواب.

4777 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَجُلاً وَقَعَ فِي أَبٍ، كَانَ لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَطَمَهُ الْعَبَّاسُ، فَجَاءَ قَوْمُهُ، فَقَالُوا: لَيَلْطِمَنَّهُ كَمَا لَطَمَهُ، فَلَبِسُوا السِّلَاحَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّ أَهْلِ الأَرْضِ تَعْلَمُونَ، أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ عز وجل؟ "، فَقَالُوا: أَنْتَ، فَقَالَ: "إِنَّ الْعَبَّاسَ مِنِّي، وَأَنَا مِنْهُ، لَا تَسُبُّوا مَوْتَانَا، فَتُؤْذُوا أَحْيَاءَنَا"، فَجَاءَ الْقَوْمُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِكَ، اسْتَغْفِرْ لَنَا).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(أحمد بن سليمان) الرُّهاويّ ثقة حافظ [11] منْ أفراد المصنّف.

2 -

(عُبيد الله) بن موسى بن أبي المختار باذام العبسيّ الكوفيّ ثقة، كَانَ يتشيّع، قَالَ أبو حاتم: كَانَ أثبت النَّاس فِي إسرائيل منْ أبي نعيم، واستصغر فِي الثوريّ [9] 72/ 1326.

3 -

(إسرائيل) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعيّ الكوفيّ ثقة حجة [7] 75/ 509.

4 -

(عبد الأعلى) بن عامر الثعلبيّ الكوفيّ، ضعيف

(1)

[6] 85/ 2009.

5 -

(سعيد بن جبير) الأسدي مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 28/ 436.

(1)

فِي "التقريب": صدوقٌ يهم اهـ. والصواب أنه ضعيف، راجع ترجمته فِي "تهذيب التهذيب" 2/ 464 - 465.

ص: 99

6 -

(ابن عباس) عبد الله رضي الله تعالى عنهما 27/ 31. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى) بن عامر الثعلبيّ (أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ رَجُلاً وَقَعَ فِي أَبٍ كَانَ لَهُ) أي لابن عبّاس (فِي الْجَاهِلِيَّةِ) أي منْ مشركي الجاهليّة (فَلَطَمَهُ الْعَبَّاسُ) أي ضربه بباطن كفّه (فَجَاءَ قَوْمُهُ) أي قوم ذلك الملطوم (فَقَالُوا: لَيَلْطِمَنَّهُ كَمَا لَطَمَهُ) أي قصاصًا للطمه (فَلَبِسُوا السِّلَاحَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ) بكسر العين المهملة، منْ باب تعب: أي رقيه؛ ليكلّم القوم فِي شأن العبّاس رضي الله عنه، وفيه أن الإِمام يطلب العفو فِي القود، إذا رأى فيه مصلحةً (فَقَالَ:"أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّ أَهْلِ الْأَرْضِ تَعْلَمُونَ، أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ عز وجل؟ ") "أيُّ أهل الأرض": اسم استفهام، مبتدأ، خبره "أكرم عَلَى الله عز وجل"، و"تعلمون" ملغاة؛ لتوسّطها، ويجوز إعمالها، فيكون "أيّ أهل الأرض" بالنصب مفعولها الأول، و"أكرم" بالنصب مفعولها الثاني، كما قَالَ ابن مالك فِي "الخلاصة":

وَجَوِّزِ الإِلْغَاءَ لَا فِي الابْتِدَا

(فَقَالُوا: أَنْتَ) أي أنت أكرم أهل الأرض كلّهم عَلَى الله عز وجل (فَقَالَ: "إِنَّ الْعَبَّاسَ مِنِّي، وَأَنَا مِنْهُ) أي فلا ينبغي لكم أن تؤذوه؛ أي لأنه يكون إيذاءً له صلى الله عليه وسلم، ومن آذاه، فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه"

(1)

(لَا تَسُبُّوا مَوْتَانَا) أي لا تعيّرهم، ولا تجهروا بلعنهم عند أقاربهم المسلمين (فَتُؤْذُوا أَحْيَاءَنَا) بسبب ما فيهم منْ الحنان والشفقة النسبيّة، قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: فيه أن السباب مؤذٍ، فإذا بدأ بالسبّ، وعاد إليه شيء منْ الأذى بسببه، فلا ينبغي له أن يطلب فيه القود؛ لأنه جاءه كالجزاء لعمله. انتهى (فَجَاءَ الْقَوْمُ) أي قوم الرجل الذي لطمه العبّاس، وطلبوا منه القصاص له (فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِكَ) أي لأنه سبب لغضب الله

(1)

أخرج أحمد فِي "مسنده"، والترمذيّ فِي "جامعه" بسند فيه مجهولٌ، منْ حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله الله فِي أصحابي، الله الله فِي أصحابي، لا تتخذوهم غَرَضًا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه"، قَالَ أبو عيسى: هَذَا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا منْ هَذَا الوجه. لكن قد عرفت أن فِي سنده مجهولاً، وهو عبد الرحمن بن زياد، فتحسينه مما لا يستحسن. والله تعالى أعلم.

ص: 100

سبحانه وتعالى (اسْتَغْفِرْ لَنَا) اطلب لنا منْ الله سبحانه وتعالى أن يكفّر عنّا ما أخطأنا فِي حقّ العبّاس رضي الله عنه، حيث طلبنا القصاص منه لصاحبنا؛ جهلاً منّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما هَذَا ضعيف؛ لضعف عبد الأعلى الثعلبيّ.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -22/ 4777 - وفي "الكبرى" 21/ 6977. وأخرجه (ت) فِي "المناقب" 3768 مختصرًا، وَقَالَ: حديث حسنٌ صحيح غريب، وفيه نظرٌ؛ لما عرفته آنفًا (أحمد) فِي "مسند بني هاشم" 2729.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان مشروعيّة القصاص منْ اللطمة، وَقَدْ عرفت أن الْحَدِيث ضعيف، لكن تقدّم أن الصحيح ثبوت القصاص بها؛ للأدلّة الكثيرة الصحيحة، فارجع إلى ما كتبته فِي المسألة الرابعة منْ حديث الباب الماضي. (ومنها): أن فيه فضل العبّاس رضي الله عنه، ومكانته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ومنها): مشروعيّة الشفاعة للإمام إلى منْ له القصاص، أن يتنازل عن حقّه، ويعفو عن الجاني. (ومنها): احترام أهل الفضل والشرف، وعدم مؤاخذتهم فيما يصدر عنهم، منْ السيئات ما لم تبلغ الحدود، فقد أخرج أحمد، والبخاريّ فِي "الأدب المفرد"، وأبو داود فِي "سننه" منْ حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، مرفوعًا:"أقيلوا ذوي الهيئات عثَرَاتهم، إلا الحدود"، وهو حديث صحيح. (ومنها): ما كَانَ عليه الصحابة منْ تأدّبهم، واستجابتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث زال غضبهم بعد أن لبسوا السلاح، حين سمعوا قوله صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 101

‌23 - (الْقَوَدُ مِنَ الْجَبْذَةِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الْجَبْذَةُ": بفتح الجيم، وسكون الباء الموحّدة، بعدها ذالٌ معجمة-: المرة منْ الجبذ، وهو لغة فِي الجذب، يقال: جبذه جَبْذًا، منْ باب ضرب، مثل جذبه جَذْبًا، قيل: مقلوب منه، لغةٌ تميميّةٌ، وأنكره ابن السّرّاج، وَقَالَ: ليس أحدهما مأخوذًا منْ الآخر؛ لأن كلّ واحد متصرّف فِي نفسه. قاله الفيّوميّ.

4778 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْقَعْنَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ هِلَالٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كُنَّا نَقْعُدُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ، فَإِذَا قَامَ قُمْنَا، فَقَامَ يَوْمًا، وَقُمْنَا مَعَهُ، حَتَّى لَمَّا بَلَغَ وَسَطَ الْمَسْجِدِ، أَدْرَكَهُ رَجُلٌ، فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ مِنْ وَرَائِهِ، وَكَانَ رِدَاؤُهُ خَشِنًا، فَحَمَّرَ رَقَبَتَهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ احْمِلْ لِي عَلَى بَعِيرَيَّ هَذَيْنِ، فَإِنَّكَ لَا تَحْمِلُ مِنْ مَالِكَ، وَلَا مِنْ مَالِ أَبِيكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، لَا أَحْمِلُ لَكَ حَتَّى تُقِيدَنِي مِمَّا جَبَذْتَ بِرَقَبَتِي"، فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: لَا وَاللَّهِ لَا أُقِيدُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: لَا وَاللَّهِ لَا أُقِيدُكَ. فَلَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَ الأَعْرَابِيِّ، أَقْبَلْنَا إِلَيْهِ سِرَاعًا، فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "عَزَمْتُ عَلَى مَنْ سَمِعَ كَلَامِي، أَنْ لَا يَبْرَحَ مَقَامَهُ حَتَّى آذَنَ لَهُ"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِرَجُلٍ مِنَ الْقَوْمِ: "يَا فُلَانُ احْمِلْ لَهُ عَلَى بَعِيرٍ شَعِيرًا، وَعَلَى بَعِيرٍ تَمْرًا"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "انْصَرِفُوا").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن عليّ بن ميمون) الرقّيّ، أبو العبّاس العطّار، ثقة [11] 14/ 418 منْ أفراد المصنّف.

2 -

(القَعْنبيّ) عبد الله بن مسلمة بن قعنب الحارثيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، أصله منْ المدينة، وسكنها مدّةً، ثقة عابد، كَانَ ابن معين، وابن المدينيّ لا يقدّمان عليه فِي "الموطإ" أحدًا، منْ صغار [9] 78/ 2577.

3 -

(محمد بن هلال) بن أبي هلال المدنيّ، مولى بني كعب، صدوقٌ [6].

قَالَ أبو طالب: سألت أحمد عن محمد بن هلال المدنيّ؟ فَقَالَ: ثقة. وَقَالَ عبد الله ابن أحمد، عن أبيه: ليس به بأس. وكذا قَالَ النسائيّ. وَقَالَ أبو حاتم: صالح، وأبوه ليس بمشهور. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". مات سنة (162) ذكره ابن مردويه فِي "كتاب أولاد المحدّثين". وغفل ابن حزم، فَقَالَ: مجهول. روى له البخاريّ فِي

ص: 102

"الأدب المفرد"، وأبو داود، والمصنّف، وابن ماجه، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب حديث الباب فقط.

4 -

(أبوه) هلال بن أبي هلال، المدنيّ، مولى بني كعب، ويقال: بني مَذْحِج، مقبول [4].

روى عن أبيه، وأبي هريرة، وميمونة بنت سعد، خادمة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابنه محمد، ذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَدْ ذكر الخطيب فِي "المتّفق" أنه روى عنه أيضًا خالد بن سعيد بن أبي مريم، وساق منْ طريقه حديثًا عنه، وَقَالَ فِي وصفه: مولى بني كعب المذحجيّ. وَقَالَ الذهبيّ: لا يُعرف. روى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، وأبو داود، والمصنّف، وابن ماجه، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب حديث الباب فقط.

5 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كُنَّا نَقْعُدُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ) وفي رواية أبي داود: "كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس معنا فِي المسجد، يحدّثنا، فإذا قام قمنا قيامًا حَتَّى نراه قد دخل بعض بيوت أزواجه، فحدّثنا يومًا، فقمنا حين قام

" الْحَدِيث.

قَالَ فِي "العون": ولعهم كانوا ينتظرون رجاء أن يظهر له حاجةٌ إلى أحد معهم، أو يَعرِضَ له رجوع إلى الجلوس معهم، فإذا أيسوا تفرّقوا، ولم يقعُدوا؛ لعدم حلاوة الجلوس بعده صلى الله عليه وسلم. انتهى.

(فَإِذَا قَامَ قُمْنَا) قَالَ فِي "عون المعبود" 13/ 132 - : أي لانفضاض المجلس، لا للتعظيم؛ لأنهم ما كانوا يقومون له مُقبلاً، فكيف يقومون له مدبرًا. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ظاهر سياق الْحَدِيث يدلّ عَلَى خلاف ما قاله فِي "العون"، لكن الْحَدِيث ضعيف، فليُتنبّه. والله تعالى أعلم.

(فَقَامَ يَوْمًا، وَقُمْنَا مَعَهُ، حَتَّى لَمَّا بَلَغَ وَسَطَ الْمَسْجِدِ) بفتح السين المهملة، ويجوز تسكينها، قَالَ المجد فِي "قاموسه": وسَطُ الشيءِ، محرّكةً: ما بين طرفيه، كأوسطه، فإذا سُكّنت كانت ظرفًا، أو هما فيما هو مُصْمَتٌ، كالْحَلْقَة، فإذا كانت أجزؤه متباينةً، فبالإسكان فقط، أو كلُّ موضع صلَح فيه "بَيْنَ" فهو بالتسكين، وإلا فبالتحريك. انتهى (أَدْرَكَهُ رَجُلٌ) وفي رواية أبي داود:"فنظرنا إلى أعرابيّ، قد أدركه"(فَجَبَذَ) أي مدّه (بِرِدَائِهِ) أي بردا النبيّ صلى الله عليه وسلم (مِنْ وَرَائِهِ) أي منْ خلفه (وَكَانَ رِدَاؤُهُ خَشِنًا) بفتح، فكسر: صفة مشبّهة منْ خَشُن الشيء بالضمّ، ككرُم خُشْنةً، وخُشُونةً: خلافُ نَعُم. قاله فِي "المصباح"(فَحَمَّرَ رَقَبَتَهُ) بتشديد الميم، منْ التحمير: أي جعلها حمراء منْ تأثير الرداء

ص: 103

(فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ احْمِلْ لِي عَلَى بَعِيرَيَّ) بتشديد الياء، عَلَى صيغة التثنية (هَذَيْنِ، فَإِنَّكَ لَا تَحْمِلُ مِنْ مَالِكَ، وَلَا مِنْ مَالِ أَبِيكَ) هذه منْ عادة جُفاة الأعراب، وخشونتهم، وعدم تهذيبهم أخلاقهم، كما وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله:{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} الآية [التوبة: 97]. وقيل: لعله كَانَ منْ المؤلّفة، ولهذا قَالَ ما قَالَ.

(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا) أي لا أحمل لك منْ مالي، ولا منْ مال أبي (وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ) أي إن كَانَ الأمر عَلَى خلاف ذلك. قَالَ السيوطيّ رحمه الله تعالى فِي "مرقاة الصعود": وهذا منْ حسن العبارة؛ لأن حذف الواو يوهم نفي الاستغفار. وَقَالَ الفخر الرازيّ: روي عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه أنه دخل السوق، فَقَالَ لبيّاع: أتبيع هَذَا الثوب؟، فَقَالَ: لا، عافاك الله، قَالَ له أبو بكر: لو علمتم، قل: لا، وعافاك الله. وهذا منْ لطائف النحو؛ لأنه عند حذفها يوهم كونه دعاء عليه، وعند ذكر الواو لا يبقى ذلك الاحتمال. انتهى. نقله فِي "عون المعبود" 13/ 132 - 134.

(لَا أَحْمِلُ لَكَ حَتَّى تُقِيدَنِي) بضمّ أوله، منْ الإقادة: أي حتّى تمكّنني منْ نفسك حَتَّى أقتصّ (مِمَّا جَبَذْتَ بِرَقَبَتِي)"ما" مصدريّة: أي منْ جذبك رقبتي. ولعلّ المراد -كما قَالَ السنديّ- الإخبار أنه لا يستحقّ أن يُحمل له بلا أخذ القود منه، وإلا فقد حمل له بلا قود، وفيه دلالة عَلَى شرع القود منْ الجبذة، وهو محلّ استدلال المصنّف رحمه الله تعالى عَلَى الترجمة، وَقَدْ تقدّم قبل باب أن هَذَا هو القول الراجح فِي المسألة، فلا تغفُل.

(فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: لَا وَاللهِ لَا أُقِيدُكَ) أي لا أمكّنك منْ القود، وهذا دليل جفوته الأعرابيّة، ويحتمل أنه أراد لكمال كرمه صلى الله عليه وسلم أنه يعفو عنه البتّة، والأول أظهر (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: لَا وَاللَّهِ لَا أُقِيدُكَ، فَلَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَ الأَعْرَابِيِّ، أَقْبَلْنَا إِلَيْهِ سِرَاعًا) أي مسرعين، وإنما قاموا سراعًا؛ غضبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث اعتدى عليه ذلك الأعرابيّ، فارادوا تأديبه (فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "عَزَمْتُ عَلَى مَنْ سَمِعَ كَلَامِي) أي أقسمت عليه، يقال: عزم عَلَى الرجل، منْ باب ضرب: أقسم عليه، أفاده فِي "القاموس"(أَنْ لَا يَبْرَحَ) بفتح الراء، منْ باب تَعِبَ: أي لا يَزَالَ (مَقَامَهُ) بفتح الميم، أي مكانه، ويجوز ضمّها، منْ الإقامة (حَتَّى آذَنَ لَهُ) بالمدّ، منْ الإذن: يعني أنه لا يترك أحد مكانه إلا بإذني، يثبت فيه، كأنه صلى الله عليه وسلم أراد بذلك إظهار ما أعطاه الله تعالى منْ كمال شرح الصدر، وسعة الخلُق؛ ليقتدوا به فِي ذلك بقدر وُسعهم، وطاقتهم. والله تعالى أعلم (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لِرَجُلٍ مِنَ الْقَوْمِ: "يَا فُلَانُ احْمِلْ لَهُ عَلَى بَعِيرٍ شَعِيرًا، وَعَلَى بَعِيرٍ تَمْرًا"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "انْصَرِفُوا) أي

ص: 104

ارجعوا إلى جهة حوائجكم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هَذَا ضعيف، لجهالة هلال بن أبي هلال، كما تقدم، قَالَ المنذري رحمه الله تعالى فِي "مختصر السنن" 7/ 162 - : قَالَ الدارقطنيّ: تفرّد به محمد بن هلال، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وسئل الإِمام أحمد عن محمد بن هلال الذي روى عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: ثقة، وَقَالَ مرّةً: ليس به بأس، قيل: أبوه؟ قَالَ: لا أعرفه. وسئل أبو حاتم الرازيّ، عن محمد بن هلال؟ قَالَ: صالحٌ، وأبوه ليس بمشهور. انتهى. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -23/ 4779 - وفي "الكبرى" 22/ 6978. وأخرجه (د) فِي "الأدب" 4775. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان ثبوت القصاص فِي الجبذة، إلا أن الْحَدِيث ضعيف، كما سبق آنفًا، لكن تقدّم قبل باب أن الحقّ ثبوته، للأدلّة الكثيرة، فلا تنس. (ومنها): ما كَانَ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ كريم الأخلاق، ومحاسن الشيم، فكان كما وصفه الله سبحانه وتعالى بقوله:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. (ومنها): أنه كَانَ لا ينتقم لنفسه، بل يعفو، ويصفح، كما أمره الله عز وجل بقوله:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. (ومنها): أن ما جاء فِي هذه الأحاديث، وأمثالها دليلٌ عَلَى أنه صلى الله عليه وسلم لو لم تكن له معجزات إلا هذه الأخلاق الكريمة لكفى ذلك شاهدًا عَلَى نبوّته، بأبي هو وأمّي صلّى الله تعالى عليه، وعلى آله، وصحبه أجمعين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 105

‌24 - (الْقِصَاصُ مِنَ السَّلَاطِينِ)

4779 -

(أَخْبَرَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ، سَعِيدُ بْنُ إِيَاسٍ الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي فِرَاسٍ: أَنَّ عُمَرَ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقِصُّ مِنْ نَفْسِهِ).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(مؤمّل بن هشام) اليشكريّ، أبو هشام البصريّ، ثقة [10] 24/ 26.

2 -

(إسماعيل بن إبراهيم) بن مقسم ابن عُليّة، أبو بشر البصريّ، ثقة ثبت [8] 18/ 19.

3 -

(أبو مَسْعُودٍ، سَعِيدُ بْنُ إِيَاسٍ الْجُرَيْرِيُّ) البصريّ، ثقة اختلط قبل موته بثلاث سنين [5] 32/ 672.

4 -

(أبو نضرة) المنذر بن مالك بن قُطَعَة -بضم القاف، وفتح الطاء المهملة- العبديّ الْعَوَقيّ، ثقة [3] 21/ 538.

5 -

(أبو فراس) النَّهْديّ، قيل: اسمه الربيع بن زياد، مقبول [2].

وفي "تهذيب التهذيب" 4/ 572: أبو فراس النهدي، عن عمر:"رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم أَقَصَّ منْ نفسه"، وفيه قصة، وعنه أبو نضرة العبدي، قَالَ البخاريّ: نسبه هشيم -يعني نهديا- وَقَالَ أبو زرعة: لا أعرفه. وَقَالَ إسحاق بن راهويه، عن أبي سلمة المخزومي، عن وهب بن جرير، عن أبي نضرة، عن أبي فراس، واسمه الربيع بن زياد الحارثي، وَقَالَ الحاكم أبو أحمد: لا أبعِد أن يكون إسحاق سماه منْ ذات نفسه، فاشتبه عليه، فإني لا أعرف أن أبا نضرة، روى عن الربيع بن زياد الحارثي شيئا، وإنما روى عن الربيع أبو مِجْلَز، وقتادة، والشعبي، وأبو فراس الذي روى عنه أبو نضرة، هو النهدي آخر، عَلَى ما ذكره البخاريّ، أما الحارثي فكناه خليفة أبا عبد الرحمن.

قَالَ الحافظ: ما المانع أن يكون اسم أبي فراس النهدي أيضا الربيع بن زياد، وقول إسحاق فيه: الحارثي وَهَمٌ، وإنما هو النهدي، فالله تعالى أعلم. انتهى. تفرّد به أبو داود، والمصنّف، بهذا الْحَدِيث فقط.

6 -

(عمر) بن الخطاب رضي الله تعالى عنه 60/ 75. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي فِرَاسٍ) النهديّ (أَنَّ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنه (قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،

ص: 106

يُقِصُّ مِنْ نَفْسِهِ) بضمّ حرف المضارعة، منْ الإقصاص، يقال: أقصّ السلطان فلانًا إقصاصًا: قتله قَوَدًا، وأقصّه منْ فلان: جرحه مثل جرحه، واستقصّه: سأله أن يُقصّه. قاله الفيّوميّ.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رواية المصنّف هذه مختصرة منْ حديث طويل، ساقه بطوله الإِمام أحمد فِي "مسنده":

288 -

حدثنا إسماعيل، أنبأنا الجريري، سعيد عن أبي نضرة، عن أبي فراس، قَالَ: خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فَقَالَ: يا أيها النَّاس، ألا إنا إنما كنا نعرفكم، إذ بين ظهرينا النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإذ ينزل الوحي، وإذ ينبئنا الله منْ أخباركم، ألا وإن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قد انطلق، وَقَدْ انقطع الوحي، وإنما نعرفكم بما نقول لكم: مَنْ أظهر منكم خيرا، ظننا به خيرا، وأحببناه عليه، ومن أظهر منكم لنا شرا، ظننا به شرا، وأبغضناه عليه، سرائركم بينكم وبين ربكم، ألا إنه قد أَتَى عليّ حينٌ، وأنا أحسب أن منْ قرأ القرآن يريد الله، وما عنده، فقد خُيِّل إليَّ بآخرة، ألا إن رجالا قد قرءوه، يريدون به ما عند النَّاس، فأَرِيدوا الله بقراءتكم، وأَرِيدوه بأعمالكم، ألا إني والله ما أُرسل عمالي إليكم؛ ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم؛ ليُعَلِّموكم دينكم، وسنتكم، فمن فُعِل به شيء سوى ذلك، فليرفعه إليّ، فوالذي نفسي بيده إذن لأُقِصَّنَّه منه، فوَثَبَ عمرو بن العاص، فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، أَوَرَأَيتَ إن كَانَ رجل منْ المسلمين عَلَى رعيّةٍ، فأَدَّب بعض رعيته أئنك لمقتصه منه؟ قَالَ: إي والذي نفس عمر بيده، إذن لأقصنه منه، وَقَدْ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقِصّ منْ نفسه، ألا لا تضربوا المسلمين، فتُذلّوهم، ولا تُجَمِّرُوهم، فتفتنوهم

(1)

، ولا تمنعوهم حقوقهم، فتكفروهم، ولا تنزلوهم الغياض، فتضيعوهم. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عمر رضي الله عنه هَذَا ضعيفٌ؛ لجهالة أبي فِراس، كما سبق آنفًا.

(1)

قَالَ ابن الأثير رحمه الله تعالى: وفي حديث عمر رضي الله تعالى عنه: "لا تجمِّرُوا الجيش، فتفتنوهم": تجمير الجيش: جمعُهُم فِي الثغور، وحبسهم عن العود إلى أهلهم. انتهى "النهاية" 1/ 292.

ص: 107

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -24/ 4779 - وفي "الكبرى" 23/ 6979. وأخرجه (د) فِي "الديات" 4537 (أحمد) فِي "مسند العشرة" 288. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌25 - (السُّلْطَانُ يُصَابُ عَلَى يَدِهِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: المراد أَن يُصَابَ أحدٌ منْ النَّاس بأذًى منْ السُّلطان، فـ"يصاب" بالبناء للمفعول، ونائب فاعله الجارّ والمجرور، يعني أنه إذا أَصاب السلطان أحدًا منْ النَّاس بما يقتضي القصاص، فهل يقتصّ منه، أم لا؟، وَقَدْ ترجم الإِمام أبو داود رحمه الله تعالى فِي "سننه" بقوله:"باب العامل يُصاب عَلَى يديه خطأ"، والمراد عامل الصدقة، ووجه مطابقة ترجمة المصنّف للحديث أنه لَمّا ثبت القصاص منْ عامل السلطان، يُستدلّ به عَلَى ثبوتها عَلَى السلطان.

قَالَ الخطّابيّ رحمه الله تعالى فِي "المعالم" 6/ 333: فِي هَذَا الْحَدِيث منْ الفقه وجوب الإقادة منْ الوالي، والعامل، إذا تناول دمًا بغير حقّه، كوجوبها عَلَى منْ ليس بوالٍ. انتهى. والله تعالى أعلم.

4780 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، بَعَثَ أَبَا جَهْمِ بْنَ حُذَيْفَةَ مُصَدِّقًا، فَلَاحَّهُ رَجُلٌ فِي صَدَقَتِهِ، فَضَرَبَهُ أَبُو جَهْمٍ، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: الْقَوَدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: "لَكُمْ كَذَا وَكَذَا"، فَلَمْ يَرْضَوْا بِهِ، فَقَالَ: "لَكُمْ كَذَا وَكَذَا"، فَرَضُوا بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، "إِنِّي خَاطِبٌ عَلَى النَّاسِ، وَمُخْبِرُهُمْ بِرِضَاكُمْ"، قَالُوا: نَعَمْ، فَخَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "إِنَّ هَؤُلَاءِ أَتَوْنِي يُرِيدُونَ الْقَوَدَ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِمْ كَذَا وَكَذَا فَرَضُوا"، قَالُوا: لَا، فَهَمَّ الْمُهَاجِرُونَ بِهِمْ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكُفُّوا، فَكَفُّوا، ثُمَّ دَعَاهُمْ، قَالَ: "أَرَضِيتُمْ؟ "، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: "فَإِنِّي خَاطِبٌ عَلَى النَّاسِ، وَمُخْبِرُهُمْ بِرِضَاكُمْ"، قَالُوا: نَعَمْ، فَخَطَبَ النَّاسَ، ثُمَّ قَالَ: "أَرَضِيتُمْ؟ "، قَالُوا: نَعَمْ).

ص: 108

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن رافع) القشيريّ، أبو عبد الله النيسابوري، ثقة عابد [11] 92/ 114.

2 -

(عبد الرزاق) بن همام بن نافع الحميريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقة حافظ شهير، عمي فِي آخر عمره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9] 61/ 77.

3 -

(معمر) بن راشد الأزدي مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن ثقة ثبت فاضل، منْ كبار [7] 10/ 10.

4 -

(الزهريّ) محمد بن مسلم الإِمام الحجة المشهور المدنيّ [4] 1/ 1.

5 -

(عروة) بن الزبير بن العوّام المدنيّ الفقيه ثقة ثبت [3] 40/ 44.

6 -

(عائشة) أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها 5/ 5. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين منْ الزهريّ، وشيخه نيسابوريّ، وعبد الرزاق صنعاني، ومعمر بصري، ثم يمنيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، ورواية الراوي عن خالته. (ومنها): أن فيه أحد الفقهاء السبعة، عروة، وفيه عائشة رضي الله تعالى عنها، منْ المكثرين السبعة، روت (2210) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، بَعَثَ أَبَا جَهْمِ بْنَ حُذَيْفَةَ) بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب القرشي العدوي، قَالَ البخاريّ، وجماعة: اسمه عامر، وقيل: اسمه عُبيد -بالضم- قاله الزبير ابن بكار، وابن سعد، وقالا: إنه منْ مسلمة الفتح، وَقَالَ البغوي، عن مصعب: كَانَ منْ مُعَمَّرِي قريش، ومن مَشْيَخَتهم. وحكى ابن منده أن أبا عاصم، فرق بين أبي جهم ابن حذيفة، وعُبيد بن حذيفة، قَالَ الزبير: كَانَ منْ مشيخة قريش، وهو أحد الأربعة الذين كانت قريش تأخذ عنهم النسب، قَالَ: وَقَالَ عمي: كَانَ منْ المعمرين، حضر بناء الكعبة مرتين، حين بنتها قريش، وحين بناها ابن الزبير، وهو أحد الأربعة الذين تَوَلَّوا دفن عثمان رضي الله عنه. وأخرج البغوي منْ طريق حفص بن غياث، عن هشام بن عروة، عن

ص: 109

أبيه، قَالَ: لَمّا أُصيب عثمان أرادوا الصلاة عليه، فمُنِعوا، فَقَالَ أبو الجهم: دعوه، فقد صلى الله عليه ورسوله. وأخرج ابن أبي عاصم فِي "كتاب الحكماء" منْ طريق عبد الله ابن الوليد، عن أبي بكر بن عبيد الله بن أبي الجهم، قَالَ: سمعت أبا الجهم يقول: لقد تَركتُ الخمر فِي الجاهلية، وما تركتها إلا خشية عَلَى عقلي، وما فيها منْ الفساد. وثبت ذكره فِي "الصحيحين" منْ طريق عروة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي خميصة لها أعلام، فَقَالَ:"اذهبوا بخميصتي هذه، إلى أبي جهم، وائتوني بأنبجانية أبي جهم، فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي". وذكر الزبير منْ وجه آخر مرسلا: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أُتى بخميصتين سوداوين، فلبس إحداهما، وبعث الأخرى إلى أبي جهم، ثم إنه أرسل إلى أبي جهم فِي تلك الخميصة، وبعث إليه التي لبسها هو، ولبس هو التي كانت عند أبي جهم، بعد أن لبسها أبو جهم لبسات". وثبت ذكره فِي حديث فاطمة بنت قيس، لَمّا قالت: إن معاوية وأبا جهم خطباني: "أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه"، وقالوا: إنه كَانَ ضرابًا للنساء. وَقَالَ ابن سعد: كَانَ شديد العارضة، وكان عمر يمنعه حَتَّى كَفّ منْ لسانه. وأخرج ابن المبارك فِي "الزهد" منْ طريق عمر بن سعيد بن أبي حسين، حدثني ابن سابط وغيره: أن أبا جهم بن حذيفة، قَالَ: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عمي، ومعي شَنَّة منْ ماء

فذكر القصة. قَالَ ابن سعد: مات فِي آخر خلافة معاوية.

قَالَ الحافظ: وما تقدم عن الزبير، أنه حضر بناء الكعبة، إن ثبت يدل عَلَى أنه تأخر إلى أول خلافة ابن الزبير، ويؤيده ما رواه ابن أخي الأصمعي فِي "النوادر" عن عمه، عن عيسى بن عمر، قَالَ: وفد أبو جهم عَلَى معاوية، ثم عَلَى يزيد، ثم ذكر قصة له مع ابن الزبير. انتهى منْ "الإصابة فِي تمييز الصحابة" 11/ 66 - 67.

(مُصَدِّقًا) -بتخفيف الصاد، وتشديد الدال المهملتين-: اسم فاعل منْ "صَدَّق": إذا أخذ الصدقة، وأما الْمُصَّدِّق -بتشديد الصاد، والدال-: فهو معطي الصدقة، كما فِي قوله تعالى:{إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} الآية، وأصله متصدِّقُ، فأدغمت التاء فِي الصاد. والمعنى هنا: أنه صلى الله عليه وسلم أرسل أبا جهم آخذًا منْ النَّاس صدقاتهم (فَلَاحاهُ رَجُلٌ) بالحاء المهملة، معتلّ الأخير، منْ الملاحاة، وهو المخاصمة، والمنازعة.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وهذا الذي ذكرته منْ ضبط "فلاحاه" هو الذي فِي النسخة "الهنديّة"، وكذا فِي نسخة "مختصر المنذريّ" لأبي داود 6/ 333 - و"معالم السنن" للخطّابيّ 6/ 334، وَقَالَ: معناه: نازعه، وخاصمه، انتهى.

ص: 110

وَقَالَ ابن منظور فِي مادّة "لَحَا": ما نصّه: ولاحَى الرجلَ مُلاحاةً، ولِحاءً: شاتمه، وفي المثل: منْ لاحاك فقد عاداك، قَالَ الشاعر [منْ الوافر]:

وَلَوْلَا أَنْ يَنَالَ أَبَا طَرِيفٍ

إِسَارٌ مِنْ مَلِيكٍ أَوْ لِحَاءُ

وتلاحى الرجلان: تشاتما، ولاحى فلانٌ فلانًا مُلاحاةً، ولِحاءً: إذا استقصى عليه. ويُحكى عن الأصمعيّ أنه قَالَ: الْمُلاحاةُ: الْمُلاومة، والْمُبَاغضة، ثم كثُر ذلك حَتَّى جُعلت كلُّ ممانعة، ومُدافعة مُلاحاةً، وأنشد:

وَلَاحَتِ الرَّاعِيَ مِنْ دُرُورِهَا

مَخَاضَهَا إِلَّا صَفَايَا خُورِهَا

انتهى "لسان العرب" 15/ 242.

ووقع فِي بعض النسخ: "فلاجّه" -بتشديد الجيم- منْ الملاجّة، وهي المخاصمة، والمنازعة: أي نازعه، وخاصمه، قَالَ فِي "اللسان": لَجَّ فِي الأمر: تمادى عليه، وأبى أن ينصرف عنه، قَالَ: والْمُلاجّة: التمادي فِي الخصومة. انتهى.

وأما ما وقع فِي بعض نسخ المجتبى"، و"الكبرى" بلفظ: "فلاحّه"، وضبطه السنديّ بتشديد الحاء المهملة- وَقَالَ: قريبٌ منه، أي منْ معنى الأول، فالظاهر أنه مصحّفٌ، منْ "فلاجّه" بالجيم، أو منْ "فلاحاه"، وليس معنى الإلحاح هنا مناسبًا.

والحاصل أن الصواب: "فلاحاه" -بتخفيف الحاء، معتلّ الأخير، منْ الملاحاة، أو "فلاجّه" بالجيم، ومعناهما: المنازعة، والمخاصمة، كما سبق، فتأمّل. والله تعالى أعلم.

(فِي صَدَقَتِهِ، فَضَرَبَهُ أَبُو جَهْمٍ، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: الْقَوَدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ) يحتمل أن يكون بنصب "القود"، مفعولاً لفعل مقدّر: أي نطلب القودَ، ويحتمل أن يكون برفعه، خبرًا لمحذوف: أي مطلوبنا القودُ (فَقَالَ: "لَكُمْ كَذَا وَكَذَا) أي منْ المال، والمعنى: اتركوا القصاص، واعفوا عنه، فأنا أُعطيكم فِي مقابلة ترككم مبلغًا منْ المال (فَلَمْ يَرْضَوْا بِهِ) أي استقلالاً له (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَكُمْ كَذَا وَكَذَا) أي أكثر منْ المبلغ الأول (فَرَضُوا بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي خَاطِبٌ عَلَى النَّاسِ) منْ الخُطْبة بالضمّ، يقال: خطب القوم، وعليهم، منْ باب قتل خُطبةً: إذا وعظهم، وذكّرهم. وفي رواية أبي داود:"إني خاطب العشيّةَ عَلَى النَّاس"(وَمُخْبِرُهُمْ بِرِضَاكُمْ"، قَالُوا: نَعَمْ، فَخَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "إِنَّ هَؤُلَاءِ) مشيرًا إلى خصماء أبي جهم (أَتَوْنِي يُرِيدُونَ الْقَوَدَ) أي استيفاء القصاص منْ أبي جهم (فَعَرَضْتُ عَلَيْهِمْ كَذَا وَكَذَا فَرَضُوا"، قَالُوا: لَا) أي تراجعوا عن رضاهم، وأنكروا موافقتهم عَلَى المبلغ الثاني الذي عرَضه النبيّ صلى الله عليه وسلم عليهم، وهذا منهم

ص: 111

عَلَى عادة الأعراب، وجفائهم منْ الحياء، واحترام جانب الرسول صلى الله عليه وسلم، كما تقدّم قبل باب (فَهَمَّ الْمُهَاجِرُونَ بهِمْ) أي قصدوا زجرهم، وإيقاع التأديب عليهم (فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكُفُّوا، فَكَفُّوا) أي أمرهم صلى الله عليه وسلم بأن يتركوا ما قصدوه، فتركوه (ثُمَّ دَعَاهُمْ) أي دعا القوم (قَالَ:"أَرَضِيتُمْ) أي بعد أن زادهم منْ المال، وفي رواية أبي داود: "ثم دعاهم، فزادهم، فَقَالَ: أرضيتم" (قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَإِنَّي خَاطِبٌ عَلَى النَّاسِ، وَمُخْبِرُهُمْ بِرِضَاكُمْ"، قَالُوا: نَعَمْ، فَخَطَبَ النَّاسَ، ثُمَّ قَالَ:"أَرَضِيتُمْ؟ "، قَالُوا: نَعَمْ) أي رضينا بالزيادة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -25/ 4780 - وفي "الكبرى" 24/ 6980. وأخرجه (د) فِي "الديات" 4534 (ق) فِي "الديات" 2638. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان ثبوت القصاص منْ السلطان إذا حصل منه ما يوجبه، ووجه الاستدلال بحديث الباب، أنه صلى الله عليه وسلم لَمّا جاؤوه طالبين القود ما أنكر ذلك عليهم، وإنما طلب منهم أخذ العوض شفاعةً، فدلّ ذلك عَلَى أنه يُقتصّ منْ السلطان. (ومنها): جواز إرضاء المشجوج بأكثر منْ دية الشّجّة إذا طلب المشجوج القصاص. قاله الخطّابيّ. (ومنها): أن القول فِي الصدقة قول ربّ المال، وأنه ليس للساعي ضربه، وإكراهه عَلَى ما لم يُظهر له منْ ماله. قاله الخطّابيّ أيضًا. (ومنها): ما كَانَ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ الصبر عَلَى جفاء الأعراب، وسوء أدبهم. (ومنها): ما كَانَ عليه الأعراب منْ الجفاء، والغلظة، والجهل بحقوق النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث أنكروا ما كانوا وعدوه منْ موافقتهم عَلَى الرضى بما طلب منهم منْ أخذ العوض عَلَى القود. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 112

‌26 - (الْقَوَدُ بِغَيْرِ حَدِيدَةٍ)

4781 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ يَهُودِيًّا رَأَى عَلَى جَارِيَةٍ أَوْضَاحًا، فَقَتَلَهَا بِحَجَرٍ، فَأُتِيَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَبِهَا رَمَقٌ، فَقَالَ: "أَقَتَلَكِ فُلَانٌ؟ "، فَأَشَارَ شُعْبَةُ بِرَأْسِهِ يَحْكِيهَا، أَنْ لَا، فَقَالَ: "أَقَتَلَكِ فُلَانٌ؟ "، فَأَشَارَ شُعْبَةُ بِرَأْسِهِ يَحْكِيهَا أَنْ لَا، قَالَ: "أَقَتَلَكِ فُلَانٌ؟ "، فَأَشَارَ شُعْبَةُ بِرَأْسِهِ يَحْكِيهَا، أَنْ نَعَمْ، فَدَعَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَتَلَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ).

قَالَ الجامع عفا الله تَعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده، وهو ثقة. و"خالد": هو ابن الحارث الْهُجيميّ. و"هشام بن زيد" بن أنس: هو حفيد أنس بن مالك رضي الله عنه. والسند مسلسلٌ بثقات البصريين.

وقوله: "أوضاحًا": بالفتح جمع وَضَحٍ بفتحتين: نوع منْ الْحُليّ، يُعمل منْ الفضّة، سمي به لبياضه.

وقوله: "فأُتي بها النبيّ صلى الله عليه وسلم" بالبناء للمفعول. وقوله: "رَمَقٌ" -بفتحتين-: أي بقيّة رُوح. وقوله: "أن لا": أي لم يقتلني فلان. وقوله: "أن نعم""أن" هنا تفسيريّة بمعنى "أَيْ". وقوله: "فقتله بين حجرين": أي وضع رأسه عَلَى حجر، وضربه بآخر.

والحديث متّفقٌ عليه، وتقدّم فِي "كتاب تحريم الدم" 9/ 4045 وتقدم شرحه، وبيان مسائله هناك، وبقي الكلام فيما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو جواز القصاص بغير سيف، فنقول:

[مسألة]: فِي اختلاف أهل العلم فِي صفة القصاص:

قَالَ العلاّمة محمد بن رُشد رحمه الله تعالى فِي كتابه "بداية المجتهد": اختلفوا فِي صفة القصاص فِي النفس، فمنهم منْ قَالَ: يُقتصّ منْ القاتل عَلَى الصفة التي قَتَل، فمن قتل تغريقًا قُتل تغريقًا، ومن قتل بضرب بحجر قُتل بمثل ذلك، وبه قَالَ مالكٌ، والشافعيّ، قالوا: إلا أن يطول تعذيبه بذلك، فيكون السيف له أروح. واختلف أصحاب مالك فيمن حرّق آخر، هل يُحرّق؟ مع موافقتهم لمالك فِي احتذائه صورة القتل، وكذلك فيمن قتل بالسهم.

وَقَالَ أبو حنيفة، وأصحابه: بأيّ وجه قتله لم يُقتل إلا بالسيف، وعمدتهم ما رَوى الحسن عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:"لا قود إلا بحديدة".

وعمدة الفريق الأول حديث أنس رضي الله عنه أن يهوديّا رضخ رأس امرأة بحجر، فرضخ

ص: 113

النبيّ صلى الله عليه وسلم رأسه بحجر"، أو قَالَ: "بين حجرين"، وقوله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الآية [البقرة: 178]، والقصاص يقتضى المماثلة. انتهى "بداية المجتهد، ونهاية المقتصد" 2/ 404.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح ما قاله الأولون، وهو الذي مال إليه المصنّف، حيث قَالَ:"القود بغير حديدة"، إشارة إلى ضعف حديث:"لا قود إلا بالسيف".

والحاصل أن الحقّ كون القصاص بمثل ما قتل به القاتل، إذا أمكن؛ لحديث الباب المتّفق عليه، ولظاهر الآية الكريمة:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} الآية، وأما الْحَدِيث الذي استدل به الفريق الثاني، فإنه منْ مرسل الحسن البصريّ، وَقَدْ روي متصلاً منْ طرق لا تثبت، والصحيح أنه منْ مرسله، وهو ضعيف، وَقَدْ أجاد الشيخ الألباني رحمه الله تعالى فِي تخريجه فِي كتابه "إرواء الغليل" 7/ 285 - 289 رقم الْحَدِيث 2228، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4782 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بَعَثَ سَرِيَّةً إِلَى قَوْمٍ مِنْ خَثْعَمٍ، فَاسْتَعْصَمُوا بِالسُّجُودِ، فَقُتِلُوا، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنِصْفِ الْعَقْلِ، وَقَالَ: "إِنِّي بَرِىءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، "أَلَا لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: إيراد المصنّف لهذا الْحَدِيث فِي هَذَا الباب محلّ نظر؛ إذ لا مطابقة بينهما، فالله تعالى أعلم.

ورجال هَذَا الإسناد: أربعة:

1 -

(محمد بن العلاء) الهمدنيّ، أبو كريب الكوفيّ، ثقة ثبت [10] 95/ 117.

2 -

(أبو خالد) هو سليمان بن حيّان الأزديّ الأحمر الكوفيّ، صدوقٌ يخطىء [8] 30/ 921.

3 -

(إسماعيل) بن أبي خالد البجلي الأحمسي مولاهم، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة [4] 13/ 471.

4 -

(قيس) بن أبي حازم البجلي، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة مخضرم [2] 46/ 954. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى، إلا أنه مرسل. (ومنها): أن

ص: 114

رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. (ومنها): أن قيسًا هو الذي يقال: إنه اجتمع له أن يروي عن العشرة المبشرين بالجنة كلهم عَلَى خلاف فِي عبد الرحمن بن عوف، والصحيح أنه روى عنه، ولا يوجد هَذَا لتابعي سواه. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ قَيْس) بن أبي حازم رحمه الله تعالى (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بَعَثَ سَرِيَّةً) بفتح السين المهملة، وتشديد الياء التحتانيّة: هي القطعة منْ الجيش، فَعِيلةٌ بمعنى فاعلة، سُمّيت بذلك؛ لأنها تَسرِي فِي خُفية، والجمع سَرَايا، وسَرِيّات، مثلُ عطيّة، وعطايا، وعطيّات (إِلَى قَوْمٍ مِنْ خَثْعَمَ) بفتح الخاء المعجمة، وسكون المثلّثة، وفتح المهملة، آخره ميم: هو خثعم بن أنمار، أبو قبيلة منْ مَعَدّ. قاله فِي "القاموس" (فَاسْتَعْصَمُوا بِالسُّجُودِ) بالبناء للفاعل: أي طلبوا لأنفسهم العصمة بإظهار السجود (فَقُتِلُوا) بالبناء للمفعول: أي قتلهم المسلمون خطأ؛ لظنّهم أنهم مشركون. وفي رواية أبي داود: "فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل، قَالَ: فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأمر لهم بنصف العقل"(فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بعد علمه بإسلامهم، وأنهم قُتلوا خطأ (بِنِصْفِ الْعَقْلِ) أي نصف الدية، وإنما قضى لهم بنصف العقل، ولم يكمل لهم الدية، بعد علمه بإسلامهم؛ لأنهم قد أعانوا عَلَى أنفسهم بمُقامهم بين ظهراني الكفّار، فكانوا كمن هلك بجناية نفسه، وجناية غيره، فسقط حصّة جنايته منْ الدية.

وأما اعتصامهم بالسجود، فإنه لا يُمحّص الدلالة عَلَى قبول الدِّين؛ لأن ذلك قد يكون منهم فِي تعظيم السادة، والرؤساء، فعُذروا؛ لوجود الشبة. قاله الخطّابيّ رحمه الله تعالى فِي "معالم السنن" 3/ 436.

وَقَالَ ابن القيّم رحمه الله تعالى: قَالَ بعض أهل العلم: إنما أمر لهم بنصف العقل، ثم ذكر ما تقدّم فِي كلام الخطّابيّ إلى قوله: فكانوا كمن هلك بجناية نفسه، وجناية غيره. ثم قَالَ: وهذا حسنٌ جدًّا. انتهى "تهذيب السنن" 3/ 436.

(وَقَالَ: "إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ) أي يعيش معهم، ولا يفارقهم، ولفظ أبي داود:"أنا برىء منْ كلّ مسلم يُقيم بين أظهر المشركين، قالوا: يا رسول الله لم؟، قَالَ: لا تراءى ناراهما"(ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلَا) أداة استفتاح وتنبيه (لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا) أصله لا تتراءى، حُذفت منه إحدى التاءين، وهو منْ الترائي، وهو تفاعلٌ، منْ الرؤية، ومنه قوله تعالى:{فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} الآية [الشعراء: 61]: أي لا ينبغي للمسلم أن ينزل بقرب الكافر، بحيث يقابل نار كلّ منهما نار صاحبه، حَتَّى كأنّ نار كلّ

ص: 115

منهما ترى نار صاحبه.

وَقَالَ العلامة ابن الأثير رحمه الله تعالى فِي "النهاية" 2/ 177 - : أي يلزم المسلم، ويجب عليه أن يباعد منزله عن منزل المشرك، ولا ينزل بالموضع الذي إذا أُوقدت فيه ناره تلوح، وتظهر لنار المشرك، إذا أوقدها فِي منزله، ولكنه ينزل مع المسلمين فِي دارهم. وإنما كره مُجاورة المشركين؛ لأنهم لا عهد لهم، ولا أمان، وحث المسلمين عَلَى الهجرة. والترائي تفاعلٌ منْ الرؤية، يقال: تراءى القوم: إذا رأى بعضهم بعضًا، وتراءى لي الشيء: أي ظهر حَتَّى رأيته، وإسناد الترائي إلى النارين مجازٌ، منْ قولهم: داري تنظر إلى دار فلان: أي تقابلها، يقول: ناراهما مختلفتان، هذه تدعو إلى الله، وهذه تدعوا إلى الشيطان، فكيف يتّفقان. والأصل فِي تراءى تتراءى، فحُذفت إحدى التاءين؛ تخفيفًا. انتهى كلام ابن الأثير.

وَقَالَ الإِمام الخطّابيّ رحمه الله تعالى فِي "معالم السنن" 3/ 436 - 438 - : وقوله: "لا تتراءى ناراهما" فيه وجوه:

[أحدها]: معناه: لا يستوي حكماهما، قاله بعض أهل العلم. وَقَالَ بعضهم: معناه: أن الله تعالى قد فرق بين دار الإِسلام والكفر، فلا يجوز لمسلم أن يُساكن الكفّار فِي بلادهم، حَتَّى إذا أوقدوا نارًا كَانَ منهم بحيث يراها.

[وفيه وجه ثالث]: ذكره بعض أهل اللغة، قَالَ: معناه: لا يتّسم بسِمَة المشرك، ولا يتشبّه به فِي هديه، وشكله، والعرب تقول:"ما نار بعيرك؟ ": أي ما سيمته، ومن هَذَا قولهم:"نارها نجاها": يريدون: أن مِيسَمَها يدلّ عَلَى كومها، وعُتُقها، ومنه قول الشاعر:

حَتَّى سَقَوْا آبَالَهُمْ بِالنَّارِ

وَالنَّارُ قَدْ تَشْفَى مِنَ الأُوَارِ

يريدون أنهم يعرفون الكرام منها بسماتها، فيُقدّمونها فِي السقي عَلَى اللئام. انتهى كلام الخطّابيّ.

وَقَالَ العلامة ابن القيّم رحمه الله تعالى فِي "تهذيب السنن" 3/ 436 - 437: والذي يظهر لي منْ معنى الْحَدِيث: أن النار هي شعار القوم عند النزول، وعلامتهم، وهي تدعوا إليهم، والطارق يأنس بها، فإذا ألمّ بها، جاور أهلها، وسالمهم، فنار المشركين تدعوا إلى الشيطان، وإلى نار الآخرة، فإنها إنما توقد فِي معصية الله، ونار المؤمنين تدعوا إلى الله، وإلى طاعته، وإعزاز دينه، فكيف تتّفق الناران، وهذا شأنهما؟. وهذا منْ أفصح الكلام، وأجزله، المشتمل عَلَى المعنى الكثير الجليل بأوجز عبارة. وَقَدْ روى النسائيّ 73/ 2568 بإسناد صحيح، منْ حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن

ص: 116

جده، قَالَ: قلت: يا نبي الله ما أتيتك، حَتَّى حلفت أكثر منْ عددهن لأصابع يديه، ألا آتيك، ولا آتي دينك، وإني كنت امرأ، لا أعقل شيئا، إلا ما علمني الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإني أسألك بوجه الله عز وجل، بما بعثك ربك إلينا؟ قَالَ:"بالإِسلام"، قَالَ: قلت: وما آيات الإِسلام؟ قَالَ: "أن تقول: أسلمت وجهي إلى الله عز وجل، وتخليت، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، كل مسلم عَلَى مسلم محرم، أخوان نصيران، لا يقبل الله عز وجل منْ مشرك، بعدما أسلم عملا، أو يفارق المشركين إلى المسلمين".

وَقَدْ ذكر أبو داود منْ حديث سمرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"منْ جامع المشرك، وسكن معه، فإنه مثله"، وسنده ضعيف. وفي "المراسيل" لأبي داود، عن مكحول، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا تتركوا الذّرّيّة إزاء العدو". انتهى كلام ابن القيّم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث قيس بن أبي حازم رحمه الله تعالى هَذَا صحيح.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وهو مرسلٌ؛ لأن قيسًا تابعيّ؟.

[قلت]: الْحَدِيث روي متّصلاً، ومرسلاً، فقد أخرجه أبو داود، والترمذيّ، وغيرهما منْ طريق أبي معاوية، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله البجليّ رضي الله عنه، لكن خالف أبا معاوية هشيمٌ، وخالدًا الواسطيّ، وجماعةٌ فلم يذكروا جريرًا، لذا رجّح كثير منْ الحفّاظ إرسالهم عَلَى وصله.

لكن حصل له شواهد، فيصحّ بها، فقد أخرج المصنّف فِي "كتاب البيعة" 17/ 4177 بسند صحيح، عن أبي نُخَيلة البجلي، قَالَ: قَالَ جرير رضي الله عنه: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يبايع، فقلت: يا رسول الله ابسط يدك، حَتَّى أبايعك، واشترط عليّ، فأنت أعلم، قَالَ:"أبايعك عَلَى أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين".

وأبو نُخيلة بالخاء المعجمة، مصغّرًا، وقيل: بالمهملة، جزم غير واحد بصحبته، كما بينه الحافظ فِي "الإصابة"

وله أيضًا شاهد آخر عند المصنّف 73/ 2568 بإسناد صحيح، منْ حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه مطوّلاً، وفيه:"لا يقبل الله عز وجل منْ مشرك، بعدما أسلم عملاً، أو يفارق المشركين إلى المسلمين"، وَقَدْ تقدّم قريبًا بطوله.

ص: 117

وله شاهد آخر عن أعرابيّ معه كتاب كتبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيه:"إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وفارقتم المشركين، وأعطيتم منْ الغنائم الخمس، وسهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، والصفيّ"، وربما قَالَ:"وصفيّه، فأنتم آمنون بأمان الله، وأمان رسوله". أخرجه البيهقيّ 6/ 303 و9/ 13 وأحمد 5/ 78 بسند صحيح عنه، وجهالة الصحابيّ لا تضرّ.

والحاصل أن الْحَدِيث صحيح؛ لهذه الشواهد.

وَقَدْ أجاد الشيخ الألباني رحمه الله تعالى البحث فيه فِي كتابه "إرواء الغليل" 5/ 29 - 33 - فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -26/ 4782 - وفي "الكبرى" 25/ 6982. وأخرجه (د) فِي "الجهاد" 2645 (ت) فِي "السير" 1604. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): تحريم قتل منْ أظهر الإِسلام، وإن كَانَ بين الكفّار. (ومنها): أن منْ مات بفعل نفسه، وفعل غيره يعطى نصف الدية؛ لموته بجناية نفسه، وغيره. (ومنها): تحريم الإقامة فِي دار الحرب؛ إلا للضرورة. (ومنها): ما قاله الخطّابيّ رحمه الله تعالى: فيه دليلٌ عَلَى أنه إذا كَانَ أسيرًا فِي أيدي الكفّار، فأمكنه الخلاص، والانفلات منهم لم يحلّ له الْمُقام معهم، وإن حلّفوه، فحلف لهم أن لا يخرُج، كَانَ الواجب أن يخرج، إلا أنه إن كَانَ مُكرها عَلَى اليمين لم تلزمه الكفّارة، وإن كَانَ غير مكره، كانت عليه الكفّارة عن يمينه، وعلى الوجهين جميعًا، فعليه الاحتيال للخلاص، وَقَدْ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"منْ حلف عَلَى يمين، فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذي هو خيرٌ، وليُكفّر عن يمينه". انتهى "معالم السنن" 3/ 436.

(ومنها): ما قاله بعضهم: فيه دلالة عَلَى كراهة دخول المسلم دار الحرب للتجارة، والمقام فيها أكثر منْ مدّة أربعة أيام. ذكره فِي "المعالم" 3/ 437.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: والظاهر أخذ التقدير بأربعة أيام منْ حديث السائب بن يزيد، عن العلاء بن الحضرميّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا" متّفقٌ عليه، واللفظ لمسلم، ولفظ البخاريّ:"ثلاث للمهاجر بعد الصدر"، وتقدّم للمصنّف فِي "الصلاة" 4/ 1455. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 118

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌27 - (تَأْوِيلُ قَوْلِهِ عز وجل: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}

[البقرة: 178]

4783 -

(قَالَ الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقِصَاصُ، وَلَمْ تَكُنْ فِيهِمُ الدِّيَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} إِلَى قَوْلِهِ {فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}، فَالْعَفْوُ أَنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ، {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ}: يَقُولُ يَتَّبِعُ هَذَا بِالْمَعْرُوفِ، {وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}: وَيُؤَدِّي هَذَا بِإِحْسَانٍ، {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ}، مِمَّا كُتِبَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، إِنَّمَا هُوَ الْقِصَاصُ، لَيْسَ الدِّيَةَ).

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(الحارث بن مسكين) بن محمد الأموي مولاهم، أبو عمرو المصريّ القاضي، ثقة فقيه [10] 9/ 9.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإِمام الحجة الثبت [8] 1/ 1.

3 -

(عمرو) بن دينار الجمحي مولاهم المكيّ، ثقة ثبت [4] 112/ 154.

4 -

(مجاهد) بن جبر المخزومي مولاهم، أبو الحجاج المكيّ، ثقة فقيه إمام [3] 27/ 31.

5 -

(ابن عباس) عبد الله رضي الله تعالى عنهما 27/ 31. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات المكيين، سوى شيخه، فإنه مصريّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما حبر الأمة، وبحرها، وترجمان القرآن، وأحد

ص: 119

العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى (1696) منْ الأحاديث. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما، وفي رواية البخاريّ فِي "التفسير" التصريح بالسماع، ولفظه: "حدّثنا الحميديّ، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو، قَالَ: سمعت مجاهدًا، قَالَ: سمعت ابن عبّاس رضي الله عنهما، يقول كَانَ فِي بني إسرائيل

الْحَدِيث. قَالَ الحافظ: هكذا وصله ابن عُيينة، عن عمرو بن دينار، وهو منْ أثبت النَّاس فِي عمرو، ورواه ورقاء بن عمر، عن عمرو، فلم يذكر فيه ابن عبّاس، أخرجه النسائيّ. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رواية ورقاء بن عمر هي التالية لهذه الرواية (قَالَ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقِصَاصُ، وَلَمْ تَكُنْ فِيهِمُ الدِّيَةُ) أي لم يكن لهم الخيار بين القصاص، وأخذ الدية بدله، وإنما الواجب لهم القصاص فقط (فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل أي رحمة لهذه الأمة المرحومة، وفي رواية البخاريّ: "فَقَالَ لهذه الأمة" ({كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ})[البقرة: 178] أي فُرِض، وأُثبت، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة [منْ الخفيف]:

كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ عَلَيْنَا

وَعَلَى الْغَانِيَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ

وَقَدْ قيل: إن كُتِب هنا إخبار عما كُتب فِي اللوح المحفوظ، وسبق به القضاء. والقصاصُ: مأخوذ منْ قَصَّ الأثرَ، وهو اتّباعه، ومنه القاصّ؛ لأنه يتبع الآثار، والأخبار، وقَصُّ الشعر: اتّباع أثره، فكأن القاتل سلك طريقا منْ القتل، فقُصَّ أثرُه فيها، ومشى عَلَى سبيله فِي ذلك، ومنه:{فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف: 64]، وقيل: القَصُّ: القطع، يقال: قصصت ما بينهما، ومنه أخذ القصاص؛ لأنه يجرحه مثل جرحه، أو يقتله به، يقال أقص الحاكم فلانا منْ فلان، وأباءه به، فَأَمْثَلَهُ، فامتثل منه: أي اقتصّ منه.

(فِي الْقَتْلَى) أي فُرض عليكم اعتبار المماثلة بين القتلى. والقتلى جمع قتيل، لفظ مؤنث، تأنيث الجماعة، وهو مما يَدخُل عَلَى النَّاس كرها، فلذلك جاء عَلَى هَذَا البناء، كجَرحى، وزَمنى، وحَمقَى، وصَرعى، وغَرقى، وشبههن. قاله القرطبيّ.

(الْحُرُّ بِالْحُرِّ) مبتدأ وخبرٌ: أي الحرّ مأخوذ، أو مقتول بالحرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى قَالَ القرطبيّ: اختُلف فِي تأويلها، فقالت طائفة: جاءت الآية، مبينة لحكم النوع، إذا قتل نوعه، فبينت حكم الحر، إذا قتل حرا، والعبد إذا قتل عبدا، والأنثى إذا

ص: 120

قتلت أنثى، ولم تتعرض لأحد النوعين، إذا قتل الآخر، فالآية محكمة، وفيها إجمال، يبينه قوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية [المائدة: 45]، وبينه النبيّ صلى الله عليه وسلم بسنته، لَمّا قتل اليهودي بالمرأة، قاله مجاهد، وذكره أبو عبيد، عن ابن عباس. ورُوي عن ابن عباس أيضا: أنها منسوخة بآية المائدة، وهو قول أهل العراق.

قَالَ: وَقَالَ الكوفيون، والثوري: يقتل الحر بالعبد، والمسلم بالذمي، واحتجوا بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]، فعمّ، وقوله:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، قالوا: والذمي مع المسلم متساويان فِي الحرمة التي تكفي فِي القصاص، وهي حرمة الدم الثابتة عَلَى التأبيد، فإن الذمي محقون الدم عَلَى التأبيد، والمسلم كذلك، وكلاهما قد صار منْ أهل دار الإِسلام، والذي يحقق ذلك أن المسلم يقطع بسرقة مال الذمي، وهذا يدل عَلَى أن مال الذمي، قد ساوى مال المسلم، فدل عَلَى مساواته لدمه، إذ المال إنما يحرم بحرمة مالكه.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد سبقّ أن الحقّ هو قول الجمهور، وهو أنه لا يقتل المسلم بالكافر مطلقًا، ذميًّا كَانَ، أو حربيًّا؛ لحديث عليّ رضي الله عنه المتّفق عليه، مرفوعًا:"ولا يقتل مسلم بكافر"، وَقَدْ تقدّم تحقيقه فِي بابه، فلا تغفل. والله تعالى أعلم.

(إِلَى قَوْلِهِ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178]، فَالْعَفْوُ أَنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ، {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ}: يَقُولُ: يَتَّبعُ هَذَا بالْمَعْرُوفِ) أي يتّبع وليّ المقتول الذي عفا القاتلَ، ويطلب منه الدية بالمعروف: أي بالوجه اللائق أن يطلب ({وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}: وَيُؤَدَّي هَذَا بإِحْسَانٍ) أي يؤدّي القاتل بأحسن وجه، فإن وليّ المقتول قد أحسن إليه، حيث ترك دمه بالمال، فينبغي له أن يؤدّي إليه بأحسن وجه.

وَقَالَ النسفيّ رحمه الله تعالى فِي "تفسيره": قالوا: العفو ضدّ العقوبة، يقال: عفوت عن فلان: إذا صَفَحتَ عنه، وأعرضت عن أن تعاقبه، وهو يتعدّى بـ"عن" إلى الجاني، وإلى الجناية، {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ} ، {وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} ، وإذا اجتمعا عُدّي إلى الأول باللام،، فتقول: عفوت له عن ذنبه، ومنه الْحَدِيث:"عفوت لكم عن صدقة الخيل، والرقيق". وَقَالَ الزجّاج: منْ عُفي له: أي منْ تُرِك له القتل بالدية. وَقَالَ الأزهريّ: العفو فِي اللغة: الفضل، ومنه:{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} الآية [البقرة: 219]، ويقال: عفوت لفلان بمال: إذا أفضلت له، وأعطيته، وعفوت له عما لي عليه: إذا تركته، ومعنى الآية عند الجمهور: فمن عُفي له منْ جهة أخيه شيء منْ العفو، عَلَى أن الفعل مسند إلى المصدر، كما فِي سِير بزيد بعضُ السير، والأخُ وليّ

ص: 121

المقتول، وذُكر بلفظ الأخوّة بعثًا له عَلَى العطف؛ لما بينهما منْ الجنسيّة، والإِسلام، و"منْ" هو القاتل المعفوّ له عما جنى، وتُرك المفعول الآخر؛ استغناءً عنه. وقيل: أُقيم "له" مُقام "عنه"، والضمير فِي "له"، و"أخيه" لـ"منْ"، وفي "إليه" للأخ، أو للمتّبع الدّالّ عليه {فَاتِّبَاعٌ}؛ لأن المعنى: فليتّبع الطالبُ القاتلَ بالمعروف، بأن يُطالبه مطالبةً جميلةً، ولْيؤدّ إليه المطلوب: أي القاتل بدلَ الدم بإحسان، بأن لا يُمطله، ولا يبخسه. وإنما قيل: شيء منْ العفو؛ ليُعلم أنه إذا عفا عن بعض الدم، أو عفا عنه بعض الورثة، تمّ العفو، وسقط القصاص. ومن فسّر "عُفي" بتُرك، جَعَل "شيءٌ" مفعولاً به، وكذا منْ فسّره بأُعطي، يعني أن الوليّ إذا أُعطي له شيءٌ منْ مال أخيه، يعني القاتل بطريق الصلح، فليأخذه بمعروف، منْ غير تعنيف، وليؤدّه القاتل إليه بلا تسويف.

وارتفاع "اتّباعٌ" بأنه خبر مبتدإٍ مضمر: أي فالواجب اتباع. انتهى "مدارك التنزيل" 1/ 91/ 92. وقيل: "اتّباعٌ": مبتدأ خبره محذوفٌ: أي فعليه اتّباعٌ بالمعروف.

وَقَالَ أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله تعالى: اختلف العلماء فِي تأويل: "منْ" و"عُفِي" عَلَى تأويلات خمس:

[أحدها]: أن "منْ" يرد بها القاتل، و"عُفي" تتضمن عافيا، هو ولي الدم، و"الأخ": هو المقتول، و"شيء": هو الدم الذي يُعْفَى عنه، ويُرجَع إلى أخذ الدية، هَذَا قول ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، وجماعة منْ العلماء، والعفو فِي هَذَا القول عَلَى بابه، الذي هو الترك، والمعنى: أن القاتل إذا عفا عنه ولي المقتول، عن دم مقتوله، وأسقط القصاص، فإنه يأخذ الدية، ويتبع بالمعروف، ويؤدي إليه القاتل بإحسان.

[الثاني]: وهو قول مالك، أن "منْ" يراد به الولي، و"عفي" يُسِّرَ، لا عَلَى بابها فِي العفو، و"الأخ": يراد به القاتل، و"شيء": هو الدية: أي أن الولي إذا جنح إلى العفو عن القصاص، عَلَى أخذ الدية، فإن القاتل مخير بين أن يعطيها، أو يُسَلِّم نفسه، فمرةً تيسر، ومرةً لا تيسر، وغير مالك، يقول: إذا رضي الأولياء بالدية، فلا خيار للقاتل، بل تلزمه. وَقَدْ روي عن مالك هَذَا القول، ورجحه كثير منْ أصحابه. إلى آخر ما ذكر القرطبيّ رحمه الله تعالى، فراجع "الجامع لأحكام القرآن" 2/ 253 - 255.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح هو القول الأول؛ لأنه الذي أخرجه البخاريّ، والمصنّف عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، الذي هو ترجمان القرآن، ولاسيما وَقَدْ قَالَ به كثير منْ أهل العلم. والله تعالى أعلم بالصواب.

وقوله: ({ذَلِكَ) أي الحكم المذكور منْ العفو، وأخذ الدية (تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ}، مِمَّا كُتِبَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) أي علي بني إسرائيل (إِنَّما هُوَ الْقِصَاصُ،

ص: 122

لَيْسَ الدِّيَةَ) ظاهر هَذَا أنه ليس علي بني إسرائيل إلا القصاص، قَالَ ابن بطّال: فيه إشارة إلى أن أخذ الدية لم يكن فِي بني إسرائيل، بل كَانَ القصاص متحتّمًا، فخفّف عن هذه الأمة بمشروعيّة أخذ الدية، إذا رضي أولياء المقتول. انتهى.

وَقَالَ القرطبيّ فِي "تفسيره": قوله تعالى: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} ؛ لأن أهل التوراة كَانَ لهم القتل، ولم يكن غير ذلك، وأهل الإنجيل كَانَ لهم العفو، ولم يكن لهم قَوَدٌ، ولا ديةٌ، فجعل الله تعالى ذلك تخفيفًا لهذه الأمة، فمن شاء قتل، ومن شاء أخذ الدية، ومن شاء عفا. انتهى.

[تنبيه]: قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : أي منْ تجاوز بعد ذلك التخفيف ما شُرِع له، منْ قتل غير القاتل، أو القتل بعد أخذ الدية، فله نوعٌ منْ العذاب شديد الألم فِي الآخرة. انتهى "تفسير النسفي" 1/ 92.

وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى فِي "تفسيره" 2/ 253 - 254: قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ} : شرط وجوابه: أي قَتَلَ بعد أخذ الدية، وسقوط الدم قاتلَ وَلِيِّه فله عذاب أليم. قَالَ الحسن: كَانَ الرجل فِي الجاهلية، إذا قَتَل قَتيلا فَرَّ إلى قومه، فيجىء قومه، فيصالحون بالدية، فيقول ولي المقتول: إني أقبل الدية حَتَّى يأمن القاتل، ويخرج، فيقتُلُه، ثم يرمي إليهم بالدية.

واختلف العلياء فيمن قتل بعد أخذ الدية، فَقَالَ جماعة منْ العلماء، منهم: مالك، والشافعي: هو كمن قَتَل ابتداء، إن شاء الولي قتله، وإن شاء عفا، وعذابه فِي الآخرة. وَقَالَ قتادة، وعكرمة، والسُّدِّي، وغيرهم: عذابه أن يُقتَل البتة، ولا يُمَكِّن الحاكم الوليَّ منْ العفو. ورَوَى أبو داود، عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أُعْفِي منْ قتل بعد أخذ الدية". وَقَالَ الحسن: عذابه أن يَرُدَّ الديةَ فقط، ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة. وَقَالَ عمر بن عبد العزيز: أمره إلى الإِمام، يصنع فيه ما يرى. وفي سنن الدارقطنيّ، عن أبي شُرَيح الخزاعي، قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "منْ أصيب بدم، أو خَبْل

(1)

-فهو بالخيار بين إحدى ثلاث، فإن أراد الرابعة، فخذوا عَلَى يديه: بين أن يقتص، أو يعفو، أو يأخذ العقل، فإن قبل شيئا منْ ذلك، ثم عدا بعد ذلك، فله النار خالدا فيها مخلدا". انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أبي داود المذكور ضعيف؛ لأن فِي سنده

(1)

الخبل بفتح، فسكون: هو فساد الأعضاء.

ص: 123

انقطاعًا، وحديث أبي شُريح أخرجه أبو داود 4496 وابن ماجه 2623 وأحمد 4/ 31 وغيرهم منْ طريق محمد بن إسحاق، عن الحارث بن فضيل، عن سفيان بن أبي العوجاء، عنه، وسفيان ضعيف، وابن إسحاق مدلّس، وَقَدْ عنعنه

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب.

[تنبيه آخر]: قَالَ أبو عبيد: ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلى أن هذه الآية ليست منسوخة بآية [المائدة: 45]: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، بل هما محكمتان، وكأنه رأى أن آية المائدة مفسرة لآية البقرة، وأن المراد بالنفس نفس الأحرار، ذكورهم وإناثهم، دون الأرقاء، فان أنفسهم متساوية، دون الأحرار. وَقَالَ إسماعيل: المراد بالنفسِ النفسُ المكافئة للأخرى فِي الحدود؛ لأن الحر لو قذف عبدا لم يجلد اتفاقا، والقتل قصاصا منْ جملة الحدود، قَالَ وبَيَّنَه قوله فِي الآية:{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} ، فمن هنا يَخرُج العبد والكافر؛ لأن العبد ليس له أن يتصدق بدمه، ولا بجرحه، ولأن الكافر لا يسمى متصدقا، ولا مُكَفَّرا عنه.

قَالَ الحافظ: محصل كلام ابن عباس يدل عَلَى أن قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} أي علي بني إسرائيل فِي التوراة: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} مطلقا، فخفف عن هذه الأمة بمشروعية الدية، بدلا عن القتل لمن عفا منْ الأولياء عن القصاص، وبتخصيصه بالحر فِي الحر، فحينئذ لا حجة فِي آية المائدة، لمن تمسك بها فِي قتل الحر بالعبد، والمسلم بالكافر؛ لأن شرع منْ قبلنا إنما يتمسك منه بما لم يَرِد فِي شرعنا ما يخالفه. وَقَدْ قيل: إن شريعة عيسى لم يكن فيها قصاص، وإنه كَانَ فيها الدية فقط، فإن ثبت ذلك امتازت شريعة الإِسلام، بأنها جمعت الأمرين، فكانت وسطى، لا إفراط ولا تفريط. انتهى "فتح" 14/ 193 - 194. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما هَذَا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -27/ 4783 - وفي "الكبرى" 26/ 6983. وأخرجه (خ) فِي "التفسير" 4498 و"الديات" 6881.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(1)

راجع "إرواء الغليل" 7/ 278 رقم الْحَدِيث 2220.

ص: 124

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان معنى الآية الكريمة، وذلك أن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما بين معنى العفو بأنه قبول الدية فِي العمد، ومعنى الاتباع بالمعروف، والأداء بالإحسان، وبيّن بأن هَذَا تخفيف منْ الله تعالى، مما كتبه عَلَى الأمم السابقين منْ وجوب القصاص، دون الدية، وهو أولى التفاسير للآية الكريمة، كما أسلفته.

(ومنها): بيان عظمة فضل الله سبحانه وتعالى عَلَى هذه الأمة، حيث جعلها محلّ تخفيف، ورحمة، بسبب نبيّها صلى الله عليه وسلم، الذي هو رحمة مهداة للخلق، كما قَالَ عز وجل:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى فِي "تفسيره" 2/ 255: هذه الآية حَضّ منْ الله تعالى عَلَى حسن الاقتضاء منْ الطالب، وحسن القضاء منْ المؤدي، وهل ذلك عَلَى الوجوب، أو الندب، فقراءة الرفع تدل عَلَى الوجوب؛ لأن المعنى: فعليه اتباع بالمعروف. قَالَ النحاس: {فمن عفى له} : شرط، والجواب:{فاتباع} ، وهو رفع بالابتداء، والتقدير: فعليه اتباع بالمعروف، ويجوز فِي غير القرآن: فاتباعًا، وأداءً، بجعلهما مصدرين، قَالَ ابن عطية: وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة: "فاتباعًا" بالنصب، والرفعٌ سبيل للواجبات، كقوله تعالى:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} ، وأما المندوب إليه، فيأتي منصوبا، كقوله:{فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [سورة محمد صلى الله عليه وسلم: 4]. انتهى.

(ومنها): ما قاله النسفيّ رحمه الله تعالى فِي "تفسيره" 1/ 92 - : أن الآية تدلّ عَلَى أن صاحب الكبيرة مؤمن؛ للوصف بالإيمان بعد وجود القتل، ولبقاء الأخوّة الثابتة بالإيمان، ولاستحقاق التخفيف والرحمة. انتهى.

(ومنها): ما قاله فِي "الفتح" 14/ 194: استُدِلّ بالآية عَلَى أن الواجب فِي قتل العمد القود، والدية بدل منه، وقيل: الواجب الخيار، وهما قولان للعلماء، وكذا فِي مذهب الشافعيّ، أصحهما الأول. انتهى.

(ومنها): قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: قد استدل الإِمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى بهذه الآية، عَلَى قوله: لا تُقتل الجماعة بالواحد، قَالَ: لأن الله سبحانه، شرط المساواة، ولا مساواة بين الجماعة والواحد، وَقَدْ قَالَ تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45]. وسيأتي تحقيق الخلاف فِي ذلك قريبًا، إن شاء الله تعالى.

(ومنها): أنه اختُلِف فِي سبب نزول الآية، فقيل: نزلت فِي حَيَّيْن منْ العرب، كَانَ لأحدهما طَوْلٌ عَلَى الآخر فِي الشرف، فكانوا يتزوجون منْ نسائهم بغير مهر، وإذا قُتل

ص: 125

منهم عبد قَتلوا به حرا، أو امرأةٌ قتلوا بها رجلا، أخرجه الطبري عن الشعبي. وَقَدْ تقدّم حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما فِي قصّة قريظة والنضير مطوّلاً فِي 7/ 4734، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي معنى القصاص:

قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: صورة القصاص، هو أن القاتل فَرْضٌ عليه، إذا أراد الولي القتل الإستسلام لأمر الله، والإنقياد لقصاصه المشروع، وأن الولي فَرْضٌ عليه الوقوف عند قاتل وليه، وترك التعدي عَلَى غيره، كما كانت العرب تتعدى، فتقتل غير القاتل، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "إن منْ أعتى النَّاس عَلَى الله يوم القيامة ثلاثة: رجل قتل غير قاتله، ورجل قتل فِي الحرم، ورجل أخذ بذُحُول

(1)

الجاهلية"

(2)

.

قَالَ الشعبي، وقتادة، وغيرهما: إن أهل الجاهلية كَانَ فيهم بغي، وطاعة للشيطان، فكان الحي إذا كَانَ فيه عِزٌّ، ومَنَعَةٌ، فقُتل لهم عبد، قتله عبد قوم آخرين، قالوا: لا نقتل به إلا حرا، وإذا قُتلت منهم امرأة، قالوا: لا نقتل بها إلا رجلا، وإذا قُتل لهم وضيع، قالوا: لا نقتل به إلا شريفا، ويقولون:"القتل أوفى للقتل"، بالواو والفاء، ويروى:"أبقى" بالباء والقاف، ويروى "أنفى" بالنون والفاء، فنهاهم الله عن البغي، فَقَالَ:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} الآية [البقرة: 178]، وَقَالَ:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} الآية [البقرة: 179]، وبين الكلامين فِي الفصاحة والجزل بَوْنٌ عظيم. "الجامع لأحكام القرآن" 2/ 245. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي قتل الجماعة بالواحد:

ذهب الجمهور إلى أن الجماعة إذا قتلوا واحدا، فعلى كل واحد منهم القصاص، إذا كَانَ كل واحد منهم لو انفرد بفعله وجب عليه القصاص، رُوي ذلك عن عمر، وعلي، والمغيرة بن شعبة، وابن عباس، وبه قَالَ سعيد بن المسيب، والحسن، وأبو سلمة، وعطاء، وقتادة، وهو مذهب مالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وأصحاب الرأي.

وذهبت طائفة إلى أنهم لا يقتلون به، بل تجب عليهم الدية، وهذا قول ابن الزبير،

(1)

الذُحول بالضمّ جمع ذَحْ بفتح، فسكون: قيل: هو العداوة والحقد. وقيل: الثأر، وطلب المكافأة بجناية جُنيت عليه منْ قتل، أو جرح، ونحو ذلك.

(2)

أخرجه أحمد فِي "مسنده"، وفي سنده مسلم بن يزيد الحجازيّ، وثقه ابن حبّان، وَقَالَ عنه فِي "التقريب": مقبول.

ص: 126

والزهري، وابن سيرين، وحبيب بن أبي ثابت، وعبد الملك، وربيعة، وداود، وابن المنذر، ورواية عن أحمد، وحكاه بعضهم عن ابن عباس.

ورُوي عن معاذ بن جبل، وابن الزبير، وابن سيرين، والزهري، أنه يقتل منهم واحد، ويؤخذ منْ الباقين حصصهم منْ الدية؛ لأن كل واحد منهم مكافىء له، فلا تستوفى أبدال بمبدل واحد، كما لا تجب ديات لمقتول واحد، ولأن الله تعالى قَالَ:{الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178]، وَقَالَ:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، فمقتضاه أنه لا يؤخذ بالنفس أكثر منْ نفس واحدة، ولأن التفاوت فِي الأوصاف يمنع، بدليل أن الحر لا يؤخذ بالعبد، والتفاوت فِي العدد أولى، قَالَ ابن المنذر: لا حجة مع منْ أوجب قتل جماعة بواحد.

واحتجّ الأولون بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، رُوى سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قَتل سبعة منْ أهل صنعاء، قتلوا رجلا، وَقَالَ: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا. وعن علي رضي الله عنه: أنه قَتل ثلاثة قتلوا رجلا. وعن ابن عباس: أنه قتل جماعة بواحد، ولم يعرف لهم فِي عصرهم مخالف، فكان إجماعا، ولأنها عقوبة تجب للواحد عَلَى الواحد، فوجبت للواحد عَلَى الجماعة، كحد القذف، ويفارق الدية، فإنها تتبعض، والقصاص لا يتبعض، ولأن القصاص لو سقط بالاشتراك أدّى إلى التسارع إلى القتل به، فيؤدي إلى إسقاط حكمة الردع والزجر. قاله فِي "المغني" 11/ 490 - 491.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: دعوى الإجماع مع هذه الخلافات غير صحيح، والذي يظهر لي أن ما ذهب إليه الجمهور هو الحقّ، وذلك لفعل عمر رضي الله عنه، فإنه ثبت بسند صحيح، أخرجه ابن أبي شيبة -كما قَالَ فِي "الفتح"- وفعله بمحضر منْ الصحابة رضي الله عنهم حجّة قويّة، مع ظواهر أدلّة وجوب القصاص مطلقًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): قَالَ أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله تعالى: لا خلاف أن القصاص فِي القتل، لا يقيمه إلا أولو الأمر، فرض عليهم النهوض بالقصاص، وإقامة الحدود، وغير ذلك؛ لأن الله سبحانه خاطب جميع المؤمنين بالقصاص، ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعا، أن يجتمعوا عَلَى القصاص، فأقاموا السلطان مقام أنفسهم فِي إقامة القصاص وغيره منْ الحدود، وليس القصاص بلازم، وإنما اللازم ألا يتجاوز القصاص، وغيره منْ الحدود إلى الإعتداء، فأما إذا وقع الرضا بدون القصاص، منْ دية أو عفو فذلك مباح، كما هو منصوص الآية الكريمة المذكورة فِي الباب.

[فإن قيل]: فإن قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} : معناه فُرض، وأُلزم، فكيف يكون

ص: 127

القصاص غير واجب؟.

[قيل له]: معناه إذا أردتم، فأَعلَم أن القصاص هو الغاية عند التشاح. انتهى "الجامع لأحكام القرآن" 2/ 245 - 246. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة) فِي اختلاف أهل العلم فِي أخذ الدية منْ قاتل العمد:

ذهبت طائفة إلى أن ولي المقتول بالخيار، إن شاء اقتصّ، وإن شاء أخذ الدية، وإن لم يَرْض القاتل، يُروي هَذَا عن سعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن، ورواه أشهب عن مالك، وبه قَالَ الليث، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وحجتهم ما أخرجه أبو داود بإسناد صحيح، منْ طريق سعيد بن أبي سعيد المقبريّ، قَالَ: سمعت أبا شريح الكعبي، يقول: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إنكم يا معشر خزاعة، قتلتم هَذَا القتيل منْ هذيل، وإني عاقله، فمن قُتل له بعد مقالتي هذه قتيل، فأهله بين خيرتين، أن يأخذوا العقل، أو يقتلوا"، وما كَانَ فِي معناه، وهو نص فِي موضع الخلاف، وأيضا منْ طريق النظر، فإنما لزمته الدية بغير رضاه؛ لأن فرضا عليه إحياء نفسه، وَقَدْ قَالَ الله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ، وقوله:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} : أي ترك له دمه فِي أحد التأويلات، ورضي منه بالدية، فاتباع بالمعروف: أي فعلى صاحب الدم اتباع بالمعروف فِي المطالبة بالدين، وعلى القاتل أداء إليه بإحسان: أي منْ غير مماطلة، وتأخير عن الوقت، {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ}: أي أن منْ كَانَ قبلنا لم يَفرض الله عليهم غير النفس بالنفس، فتفضل الله عَلَى هذه الأمة بالدية، إذا رضي بها ولي الدم، عَلَى ما تقدّم بيانه.

وذهب آخرون إلى أنه ليس لولي المقتول، إلا القصاص، ولا يأخذ الدية، إلا إذا رضي القاتل، رواه ابن القاسم عن مالك، وهو المشهور عنه، وبه قَالَ الثوري، والكوفيون، واحتجوا بحديث أنس، فِي قصة الرُّبَيّع حين كَسَرت ثنية المرأة، رواه الأئمة، قالوا: فلما حَكَم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص، وَقَالَ:"القصاص كتاب الله، القصاص كتاب الله"، ولم يخير المجني عليه بين القصاص والدية، ثبت بذلك أن الذي يجب بكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فِي العمد هو القصاص. قَالَ القرطبيّ: والأول أصح لحديث أبي شريح المذكور.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي صححه القرطبيّ رحمه الله تعالى منْ أن الخيرة لوليّ المقتول هو الحقّ؛ لحديث أبي شريح رضي الله عنه المذكور، فإنه نصّ صريح فِي ذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: رَوى الربيع، عن الشافعيّ، قَالَ: أخبرني أبو حنيفة بن سماك بن الفضل

ص: 128

الشهابي، قَالَ: وحدثني ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي شريح الكعبي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ عام الفتح:"منْ قُتل له قتيل فهو بخير النظرين، إن أحب أخذ العقل، وإن أحب فله القود"، فَقَالَ أبو حنيفة: فقلت لأبن أبي ذئب: أتأخذ بهذا يا أبا الحارث، فضرب صدري، وصاح عليّ صياحًا كثيرا، ونال مني، وَقَالَ أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: تأخذ به، نعم آخذ به، وذلك الفرض عليّ، وعلى منْ سمعه: إن الله عز وجل ثناؤه اختار محمدا صلى الله عليه وسلم منْ النَّاس، فهداهم به، وعلى يديه، واختار لهم ما اختاره له، وعلى لسانه، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين، أو داخرين، لا مَخْرَج لمسلم منْ ذلك، قَالَ: وما سكت عني حَتَّى تمنيت أن يسكت. ذكره القرطبيّ فِي "الجامع لأحكام القرآن" 2/ 252 - 253. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4784 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} قَالَ: كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِمُ الْقِصَاصُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمُ الدِّيَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل عَلَيْهِمُ الدِّيَةَ، فَجَعَلَهَا عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ، تَخْفِيفًا عَلَى مَا كَانَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن إسماعيل بن إبراهيم": هو المعروف أبوه بابن عُليّة البصريّ، نزيل دمشق، وقاضيها، ثقة [11]، منْ أفراد المصنّف.

و"عليّ بن حفص" المدائنيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ [9].

قَالَ المرّوذيّ عن أحمد: علي بن حفص أحبّ إليّ منْ شَبَابة. وَقَالَ ابن المنادي: حدّثنا عليّ بن حفص، وكان أحمد يُحبّه حبّا شديدًا. وَقَالَ ابن الجنيد، عن ابن معين: شبابة، وعليّ بن حفص ثقتان. وَقَالَ عثمان بن سعيد، عن ابن معين: ليس به بأس، وكذا قَالَ النسائيّ. وَقَالَ ابن المدينيّ، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو داود: ثقة. وَقَالَ ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه؟ فَقَالَ: صالح الْحَدِيث، يُكتب حديثه، ولا يُحتجّ به. روى له مسلم، وأبو داود، والمصنّف، والترمذيّ، والمصنّف، وله عنده هَذَا الْحَدِيث فقط.

و"ورقاء بن عُمَر": هو اليشكريّ، أبو بشر الكوفيّ، نزيل المدائن، صدوقٌ فِي حديثه عن منصور لينٌ [7] 60/ 866. و"عمرو"، و"مجاهد" هما المذكوران فِي السند الماضي.

والحديث منْ أفراد المصنّف، وهو منْ مرسل مجاهد، وَقَدْ تقدّم فِي الرواية السابقة أن ابن عيينة وصله بذكر ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، وهو أثبت أصحاب عمرو

ص: 129

ابن دينار، فروايته هي المحفوظة، فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌28 - (الأَمْرُ بِالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ)

7485 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، وَهُوَ ابْنُ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي قِصَاصٍ، فَأَمَرَ فِيهِ بِالْعَفْوِ).

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) هو ابن راهويه الحنظليّ الروزي، ثقة ثبت حجة [10] 2/ 2.

2 -

(عبد الرحمن) بن مهديّ العنبري مولاهم البصريّ، ثقة ثبت إمام [9] 42/ 49.

3 -

(عبد الله بن بكر عبد الله المزنيّ) البصريّ، صدوقٌ [7].

قَالَ ابن معين: صالح. وَقَالَ ابن معين فِي رواية عنه، والنسائيّ: ليس به بأس. وَقَالَ الدارقطنيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". روى له أبو داود، والمصنّف، وابن ماجه، وله عندهم هَذَا الْحَدِيث فقط.

4 -

(عطاء بن أبي ميمونة) البصريّ، أبو معاذ، واسم أبي ميمونة مَنِيع، ثقة رُمي بالقدر [4] 41/ 45.

5 -

(أنس) بن مالك رضي الله تعالى عنه 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير عبد الله بن بكر، فقد تفرد به المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، وهو صدوق. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فمروزيّ. (ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه منْ المكثرين السبعة، وآخر منْ مات منْ الصحابة بالبصرة. والله تعالى أعلم.

ص: 130

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: أُتِيَ) بالبناء للمفعول (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي قِصَاصٍ، فَأَمَرَ فِيهِ بِالْعَفْوِ) أَي أمر شفاعة، لا أمر حتم، وقضاء. وفي الرواية التالية:"ما أتي النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي شيء فيه قصاصٌ، إلا أمر فيه بالعفو". قَالَ فِي "النيل": والترغيب فِي العفو ثابتٌ بالأحاديث الصحيحية، ونصوص القرآن الكريم، ولا خلاف فِي مشروعيّة العفو فِي الجملة، وإنما وقع الخلاف فيما هو الأَوْلَى للمظلوم، هل العفو عن ظالمه، أو ترك العفو. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لا شكّ أن العفو هو الأولى؛ لنصوص الكتاب، والسنة، قَالَ الله تعالى:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} الآية [الشورى: 40]، وَقَالَ سبحانه وتعالى:{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43]، وَقَالَ عز وجل:{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} الآية [النِّساء: 128]، وَقَدْ أخرج مسلم رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" منْ حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:"ما نقصت صدقة منْ مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أنس رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -28/ 4785 و4786 - وفي "الكبرى" 27/ 6985 و6986.

وأخرجه (د) فِي "الديات" 4497 (ق) فِي "الديات" 2692 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 1280 و13232. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4786 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، وَبَهْزُ بْنُ أَسَدٍ، وَعَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ الْمُزَنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ، وَلَا أَعْلَمُهُ إِلاَّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: "مَا أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فِي شَيْءٍ فِيهِ قِصَاصٌ، إِلاَّ أَمَرَ فِيهِ بِالْعَفْوِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير عبد الله بن بكر كما سبق فِي ترجمته فِي السند الماضي.

ص: 131

وقوله: "ولا أعلمه إلا عن أنس الخ" هَذَا الشكّ فِي هذه الرواية لا يضرّ بصحّة الْحَدِيث، فقد تقدم عن إسحاق بن راهويه منْ دون شكّ، وتابعه موسى بن إسماعيل التبوذكي عند أبي داود - 4486 - عن عبد الله بن بكر، فرواه بالجزم، فتنبّه.

والحديث صحيح، وَقَدْ سبق بيانه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌29 - (هَلْ يُؤْخَذُ مِنْ قَاتِلِ الْعَمْدِ الدِّيَةُ، إِذَا عَفَا وَلِيُّ الْمَقْتُولِ عَنِ الْقَوَدِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "الدية" بالرفع نائب فاعل "يؤخذ": أي هل يشرع أخذ ولي المقتول الدية إذا عفا عن القصاص، والجواب: نعم يؤخذ؛ لحديث الباب. والله تعالى أعلم بالصواب.

4787 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَشْعَثَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَمَاعَةَ- قَالَ: أَنْبَأَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ أَخْبَرَنِي يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُقَادَ، وَإِمَّا أَنْ يُفْدَى").

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن عبد الرحمن بن الأشعث) بن نافع بن عبد الله الرَّبَعيّ العجليّ، أبو بكر الدمشقيّ، إمام الجامع، ثقة [11].

قَالَ النسائيّ، ومسلمة: ثقة. وَقَالَ أبو سليمان بن زَبر، عن ابن ملاس: تُوفّي سنة (266 هـ) تفرّد به المصنّف، وله عنده فِي هَذَا الكتاب حديثان فقط: هَذَا، وفي "كتاب الزينة" 16/ 5081 - حديث أبي ذرّ رضي الله عنه، مرفوعًا:"إن أحسن ما غيّرتم به الشيب الحنّاء، والكتَم".

2 -

(أبو مُسهِر) عبد الأعلي بن مُسهر، الغَسّانيّ الدمشقيّ، ثقة فاضلٌ، منْ كبار [10] 5/ 460.

ص: 132

3 -

(إسماعيل بن عبد الله بن سَمَاعة) العدَويّ، مولى آل عمر الرمليّ، ثقة [8] 134/ 201.

4 -

(الأوزاعيّ) عبد الرحمن بن عمرو، أبو عمرو ثقة جليل فقيه [7] 45/ 56.

5 -

(يحيى) بن أبي كَثير اليماميّ، أبو نصر البصريّ الثقة الثبت [5] 23/ 24.

6 -

(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ الثقة الثبت الفقيه [3] 1/ 1.

7 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالشاميين إلى يحيى، وهو بصري، والباقيان مدنيان. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، فيه أبو هريرة رضي الله عنه أكثر منْ روى الْحَدِيث فِي دهره، روى (5374) منْ الأحاديث، وفيه أبو سلمة أحد الفقهاء السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ) ببناء الفعل للمفعول: أي منْ قتل له قريبٌ، كَانَ حيّا، فصار قتيلاً بذلك القتل (فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ) أي هو مخيّر بين النظرين، يختار منهما ما يشاء، ويرى خيرًا له.

ووقع عند البخاريّ فِي "كتاب العلم" بلفظ: "ومن قُتِلَ فهو بخير النظرين"، قَالَ فِي "الفتح": وهو مختصر، ولا يمكن حمله عَلَى ظاهره؛ لأن المقتول لا اختيار له، وإنما الاختيار لوليه، وَقَدْ أشار إلى نحو ذلك الخطّابيّ. ووقع فِي رواية الترمذيّ:"فإما أن يعفو، وإما أن يقتل"، والمراد العفو عَلَى الدية، جمعا بين الروايتين، ويؤيده أن عنده فِي حديث أبي شريح:"فمن قُتِل له قتيل بعد اليوم، فأهله بين خِيرتين: إما أن يقتلوا، أو يأخذوا الدية"، ولأبي داود، وابن ماجه، وعلّقه الترمذيّ منْ وجه آخر، عن أبي شريح، بلفظ:"فإنه يختار إحدى ثلاث: إما أن يَقتَصَّ، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية، فإن أراد الرابعة فخذوا عَلَى يديه"

(1)

: أي إن أراد زيادة عَلَى القصاص، أو الدية.

(إِمَّا أَنْ يُقَادَ) بالبناء للمفعول: أي يُقتل القاتل لأجله (وَإِمَّا أَنْ يُفْدَى) بالبناء للمفعول أيضًا: أي يعطى الفدية، وهي الدية. ولفظ البخاريّ:"إما أن يُودَى" -بسكون الواو-: أي يُعطِي القاتل، أو أولياؤُه لأولياء المقتول الديةَ. ووقع فِي رواية عنده فِي "العلم"

(1)

تقدم أن حديث أبي شريح هَذَا ضعيف، فلا تغفل.

ص: 133

بلفظ: "إما أن يُعقل" بدل "إما أن يودي"، وهو بمعناه، والعقل الدية.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث اختصره المصنّف رحمه الله تعالى هنا، وَقَدْ ساقه مطوّلاً فِي "كتاب العلم" منْ "الكبرى" 3/ 434 - 434 رقم 5855 - فَقَالَ:

أنبأنا العبّاس بن الوليد بن مزيد، قَالَ: أخبرني أبي، قَالَ: حدثنا الأوزاعيّ.

وأنبأنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَشْعَثَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -وَهُوَ ابْنِ سَمَاعَةَ- قَالَ: حدثنا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ حدّثني يَحْيَى بن أبي كثير، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمّا فُتحت مكة، قتلت هُذيلٌ رجلاً، منْ بني ليث بقتيل لهم منْ الجاهلية، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام، فَقَالَ:"إن الله حبس عن مكة الفيل، وسَلّط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لم تحل لأحد قبلي، ولن تحل لأحد بعدي، وإنما أُحلت لي ساعة منْ نهار، وإنها ساعتي هذه حرام، لا يُعضَد شجرها، ولا يُختلى شوكها، ولا يَلتَقِط ساقِطَتها إلا منشد، ومن قُتل له قتيل، فهو بخير النظرين: إما أن يُقاد، وإما يُفدَى"، فقام رجل منْ أهل اليمن، يقال له: أبو شاه، فَقَالَ: يا رسول الله اكتبوا لي، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اكتبوا لأبي شاه"، ثم قام العبّاس، فَقَالَ: يا رسول الله إلا الإذخر، فإنما نجعله فِي مساكننا وقبورنا، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إلا الإذخر".

وبنحوه ساقه البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "كتاب الديات" منْ "صحيحه"، فَقَالَ:

حدثنا أبو نعيم، حدثنا شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن خزاعة قتلوا رجلاً -وَقَالَ عبد الله بن رجاء- حدثنا حرب، عن يحيى، حدثنا أبو سلمة، حدثنا أبو هريرة، أنه عام فتح مكة، قتلت خزاعة رجلاً، منْ بني ليث بقتيل لهم فِي الجاهلية، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"إن الله حبس عن مكة الفيل، وسَلّط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، ألا وإنما أحلت لي ساعة منْ نهار، ألا وإنها ساعتي هذه حرام، لا يُختَلى شوكها، ولا يُعضَد شجرها، ولا يَلتَقِط ساقِطَتها إلا منشد، ومن قُتل له قتيل، فهو بخير النظرين: إما يُودَى، وإما يُقاد"، فقام رجل منْ أهل اليمن، يقال له: أبو شاه، فَقَالَ: اكتب لي يا رسول الله، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اكتبوا لأبي شاه"، ثم قام رجل منْ قريش، فَقَالَ: يا رسول الله إلا الإذخر، فإنما نجعله فِي بيوتنا وقبورنا، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إلا الإذخر". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

ص: 134

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -29/ 4787 و4788 و4789 - وفي "الكبرى" 28/ 6987 و6988 و6989. وأخرجه (خ) فِي "العلم" 112 و"اللقطة" 2424 و"الديات" 6880 (م) فِي "الحج" 1355 (د) فِي "الديات" 4505 (ت) فِي "الديات" 1405 (ق) فِي "الديات" 2624 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 7201. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده

(1)

:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان مشروعيّة أخذ الدية منْ قاتل العمد إذا عفا وليّ الدم عن القصاص. (ومنها): أن ولي الدم يُخَيَّر بين القصاص والدية، واختلف إذا اختار الدية، هل يجب عَلَى القاتل إجابته، فذهب الأكثر إلى ذلك، وعن مالك: لا يجب إلا برضى القاتل. (ومنها): أنه استدل بقوله: "منْ قُتِل له قتيل" عَلَى أن الحق يتعلق بورثة المقتول، فلو كَانَ بعضهم غائبا، أو طفلاً، لم يكن للباقين القصاص، حَتَّى يبلغ الطفل، ويقدم الغائب. (ومنها): أنه استُدِلَّ به عَلَى أن المخير فِي القود، أو أخذ الدية هو الولي، وهو قول الجمهور، وقرره الخطّابيّ بأن العفو فِي آية:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} الآية [البقرة: 178]، يحتاج إلى بيان؛ لأن ظاهر القصاص أن لا تبعة لأحدهما عَلَى الآخر، لكن المعنى: أن منْ عُفي عنه منْ القصاص إلى الدية، فعلى مستحق الدية الاتباع بالمعروف، وهو المطالبة، وعلى القاتل الأداء، وهو دفع الدية بإحسان.

وذهب مالك، والثوري، وأبو حنيفة، إلى أن الخيار فِي القصاص، أو الدية للقاتل، قَالَ الطحاوي: والحجة لهم حديث أنس رضي الله عنه فِي قصة الرُّبيع عمته، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"كتاب الله القصاص"، فإنه حكم بالقصاص، ولم يخير، ولو كَانَ الخيار للولي لأعلمهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، إذ لا يجوز للحاكم أن يتحكم بمن ثبت له أحد شيئين بأحدهما، منْ قبل أن يُعلمه بأن الحق له فِي أحدهما، فلما حكم بالقصاص، وجب أن يُحمَل عليه قوله:"فهو بخير النظرين": أي ولي المقتول مخير، بشرط أن يرضى الجاني أن يغرم الدية.

وتعقب بأن قوله صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله القصاص"، إنما وقع عند طلب أولياء المجني عليه فِي العمد القود، فأعلم أن كتاب الله نزل عَلَى أن المجني عليه، إذا طَلب القود أجيب

(1)

ليس المراد فوائد سياق المصنّف، فحسبُ، بل فوائد الْحَدِيث بطوله، كما أوردته منْ "صحيح البخاريّ"، فتنبّه.

ص: 135

إليه، وليس فيه ما ادعاه منْ تأخير البيان.

واحتج الطحاوي أيضا بأنهم أجمعوا عَلَى أن الولي لو قَالَ للقاتل: رضيتُ أن تعطيني كذا عَلَى أن لا أقتلك، إن القاتل لا يجبر عَلَى ذلك، ولا يؤخذ منه كُرها، وإن كَانَ يجب عليه أن يَحقِن دم نفسه. وَقَدْ تقدّم البحث بأتمّ منْ هَذَا فِي المسألة السابعة منْ المسائل المذكورة فِي حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قبل باب، فارجع إليه تزدد علما.

(ومنها): ما قاله المهلب وغيره: يستفاد منْ قوله: "فهو بخير النظرين" أن الولي إذا سئل فِي العفو عَلَى مال، إن شاء قَبِل ذلك، وإن شاء اقتص، وعلى الولي اتباع الأَوْلَى فِي ذلك، وليس فيه ما يدل عَلَى إكراه القاتل عَلَى بذل الدية.

(ومنها): أنه استَدَلَّ به الجمهور عَلَى جواز أخذ الدية فِي قتل العمد، ولو كَانَ غِيلَة، وهو أن يَخدَع شخصا حَتَّى يصير به إلى موضع خَفِي فيقتله، خلافا للمالكية، وألحقه مالك بالمحارب، فإن الأمر فيه إلى السلطان، وليس للأولياء العفو عنه، وهذا عَلَى أصله فِي أن حد المحارب القتل، إذا رآه الإِمام، وأن "أو" فِي قوله عز وجل:{أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} الآية [المائدة: 33] للتخيير، لا للتنويع.

(ومنها): أن منْ قتل متأوَّلاً كَانَ حكمه حكم منْ قتل خطأ، فِي وجوب الدية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"فإني عاقله"، ووجه ذلك أنه صلى الله عليه وسلم إنما قَالَ هَذَا فيمن قتل منْ خزاعة رجلا منْ بني ليث، وإنما قتله متأولا جواز ذلك، حيث قتل منهم فِي الجاهلية قتيلاً.

(ومنها): أنه استَدَلَّ به بعض المالكية عَلَى قتل منْ التجأ إلى الحرم، بعد أن يَقتُل عمدًا، خلافا لمن قَالَ: لا يُقتل فِي الحرم، بل يُلجأ إلى الخروج منه، ووجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم، قاله فِي قصة قتيل خزاعة، المقتول فِي الحرم. (ومنها): أن القَوَد مشروع فيمن قتل عمدًا، ولا يعارضه ما ذكر منْ حرمة الحرم، فإن المراد به تعظيمه لتحريم ما حرم الله، وإقامةُ الحد عَلَى الجاني به منْ جملة تعظيم حرمات الله

(1)

. وَقَدْ تقدم شيء منْ هَذَا فِي "كتاب الحج"، فِي 110/ 2874 - باب "حرمة مكة"، و-111/ 2875 - باب "تحريم القتال فيه". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4788 -

(أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ مَزْيَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا

(1)

راجع "الفتح" 14/ 188 - 195.

ص: 136

الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُقَادَ، وَإِمَّا أَنْ يُفْدَى").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "العبّاس بن الوليد بن مزيد" -بفتح الميم، وسكون الزاي، وفتح التحتانيّة-: هو البيروتيّ، صدوقٌ عابدٌ [11] 40/ 1711. و"أبوه": هو الوليد بن مَزْيد الْعُذْريّ، أبو العبّاس البيروتيّ، ثقة ثبتٌ، قَالَ النسائيّ: كَانَ لا يُخطىء، ولا يُدلّس [8] 40/ 1711.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق تمام البحث فيه فِي الْحَدِيث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4789 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ عَائِذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى -هُوَ ابْنُ حَمْزَةَ- قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ"، مُرْسَلٌ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أحمد بن إبراهيم بن محمد": هو ابن عبد الله بن بكّار بن عبد الملك بن الوليد بن بُسْر بن أرطاة، أبو عبد الملك الْبُسْريّ، صدوقٌ [11] 71/ 2377 منْ أفراد المصنّف. و"ابن عائذ": هو محمد بن عائذ الدمشقيّ، أبو أحمد، صاحب المغازي، صدوقٌ رُمي بالقدر [10] 71/ 2377. و"يحيى بن حمزة": هو أبو عبد الرحمن الحضرميّ الدمشقيّ القاضي، ثقة رُمي بالقدر [8] 60/ 1768.

وقوله: "مرسلٌ": خبر مبتدإ محذوف: أي هَذَا الْحَدِيث مرسلٌ؛ لكونه لم يُذكر فيه أبو هريرة رضي الله عنه، لكن هذه الرواية شاذّة، كما قاله فِي "الفتح" -14/ 189 - ولفظه قوله:"عن أبي هريرة": كذا للأكثر، ممن رواه عن يحيى بن أبي كثير، فِي "الصحيحين"، وغيرهما، ووقع فِي رواية النسائيّ، مرسلاً، وهو منْ رواية يحيى بن حمزة، عن الأوزاعيّ، وهي شاذّة. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بهذا أن الأكثرين عَلَى وصل الْحَدِيث، فقد اتّفق إسماعيل بن عبد الله بن سماعة، والوليد بن مزيد عند المصنّف فِي الإسنادين الماضيين، والوليد بن مسلم عند الشيخين، ثلاثتهم عن الأوزاعيّ، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، فخالفهم يحيى بن حمزة، فرواه عن الزهريّ، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مرسلاً.

والحاصل أن مخالفة يحيى بن حمزة لهؤلاء الأثبات لا يضرّ بصحّة الْحَدِيث، ولذا اتّفق الشيخان عَلَى تخريجه، فتبصّر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 137

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌30 - (عَفْوُ النِّسَاءِ عَنِ الدَّمِ)

4790 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي حِصْنٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ ح وَأَنْبَأَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي حِصْنٌ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَمَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "وَعَلَى الْمُقْتَتِلِينَ أَنْ يَنْحَجِزُوا، الأَوَّلَ، فَالأَوَّلَ، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةٌ").

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه المذكور قبل باب.

2 -

(الحسين بن حُريث) الخزاعي، أبو عمّار المروزيّ، ثقة [10] 44/ 52.

3 -

(الوليد) بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقة، لكنه كثير التدليس والتسوية [8] 5/ 454.

4 -

(حِصن) -بكسر الحاء، وسكون الصاد المهملتين، ثم نون- ابن عبد الرحمن، ويقال: ابن مِحصَن التَّرَاغِميّ -بفتح المثناة، ثم راء، ثم معجمة مكسورة، ثم ميم خَفيفة- أبو حذيفة الدمشقيّ، مقبولٌ [7].

قَالَ فِي "تهذيب التهذيب" 1/ 440: رَوَى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وعنه الأوزاعي، قَالَ أبو حاتم، ويعقوب بن سفيان: لا أعلم أحدا رَوَى عنه غير الأوزاعي، وَقَالَ أبو حاتم: لا أعلم أحدا نسبه. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: هو حصن ابن عبد الرحمن، جَدُّ سَلَمَة بن الْعَيَّار. وَقَالَ إسماعيل بن إسحاق القاضي، عن ابن المديني: هو حصن بن مِحْصَن. وَقَالَ الدارقطنيّ: شيخ يعتبر به. وَقَالَ ابن القطّان لا يعرف حاله. تفرّد به المصنّف، وأبو داود بهذا الْحَدِيث فقط.

[تنبيه]: هَذَا الذي ذكرته منْ ضبط "حِصْن" مكبّرًا هو الصواب، كما فِي "تحفة الأشراف" 12/ 345، وهو الذي فِي "سنن أبي داود" رقم 4527.

ووقع فِي جميع نسخ "المجتبى"، و"الكبرى" التي بين يديّ بدله:"حُصين" مصغّرًا، وهو غلطٌ، فتنبّه.

ص: 138

5 -

(عائشة) رضي الله تعالى عنها 5/ 5. والباقيان تقدّما فِي الباب الماضي. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وَعَلَى الْمُقْتَتِلِينَ) بكسر التاء الثانية، اسم فاعل منْ اقتتل، أراد بهم أولياء القتيل، والقاتل، وسمّاهم مقتتلين لما ذكره الخطابيّ، فَقَالَ: يُشبه أن يكون معنى المقتتلين هاهنا أن يطلُب أولياء القتيل القَوَدَ، فيمتنع الْقَتَلَة، فينشأ بينهم الحرب والقتال؛ لأجل ذلك، فهو جمع مُقْتَتِلٍ، اسم فاعل منْ اقْتَتَلَ فجعلهم مقتتلين لما ذكرنا.

قَالَ: ويحتمل أن يكون الرواية بنصب التاءين، عَلَى المفعول، يقال: اقتُتِلَ، فهو مُقَتَتَلٌ، غير أن هَذَا يُستعمل أكثره فيمن قتله الحبّ. انتهى.

(أَنْ يَنْحَجِزُوا) بحاء مهملة، ثم جيم، ثم زاي: أي يمتنعوا، ويكفّوا عن القود بعفو أحدهم. وَقَالَ فِي "النهاية" -1/ 345 - : معنى "أن ينحجزوا: أي يكُفّوا عن القَوَد، وكلُّ منْ ترك شيئًا، فقد انحجز عنه، والانحجاز مطاوع حجزه: إذا منعه، والمعنى: أن لورثة القتيل أن يعفو عن دمه، رجالُهم ونساؤُهم، أيهم عفا -وإن كانت امرأة- سقط القود، واستحقّوا الدية. انتهى.

وَقَالَ أبو داود فِي "سننه" بعد ذكر الْحَدِيث: ما نصّه: قَالَ أبو داود: "ينحجزوا": يكفّوا عن القوَد. وفي نسخة: قَالَ أبو داود: يعني أن عفو النِّساء فِي القتل جائز، إذا كانت إحدى الأولياء، وبلغني عن أبي عُبيد، قَالَ:"ينحجزوا": يكفّوا عن القتل. انتهى.

(الْأَوَّلَ، فَالْأَوَّلَ) أي الأقرب، فالأقرب، قَالَ فِي "النهاية" 1/ 345 - : وبعض الفقهاء يقول: إنما العفو والقَوَدُ إلى الأولياء منْ الورثة، لا إلى جميع الورثة، ممن ليسوا بأولياء. انتهى.

(وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةٌ) كلمة "إن" وصليّة. قَالَ الخطّابيّ: تفسيره: أن يقتل رجلٌ، وله ورثة، رجالٌ ونساء، فأيهم عفا، وإن كَانَ امرأة، سقط القود، وصار دِيَة. انتهى.

وَقَالَ العلّامة ابن القيّم رحمه الله تعالى: وَقَدْ رُوي "الأول، فالأول"، ورُوي:"الأَوْلَى، فالأَوْلَى" -بفتح الهمزة: أي الأقرب، فالأقرب، وهو أولى، وبه يتبيّن معنى الْحَدِيث، وأصل الحجز: المنع، ومنه الحاجز بين الشيئين، و"ينحجزوا": مطاوع حجزته، فانحجز، وهو يدلّ عَلَى حاجز بينهم، وهو عفو منْ له الدم، فإنه إذا عفا وجب عليهم أن ينحجزوا؛ لأن صاحب الدم قد عفا، وهذا العفو لحقّ يستحقّه الأَوْلَى،

ص: 139

فالأَوْلَى منْ المقتول، وإن كَانَ امرأةً، فإذا عفت، وهي أولى بالمقتول، فقد حجز عفوها بينهم، ولا يجوز للرجال الأباعد بعد ذلك الطلب بدمه، وَقَدْ عفا عنه الأدنى منهم، فقد اتّضح بحمد الله- وجهه، وأسفر صبح معناه.

وعلى هَذَا، فيكون "الأولى، فالأولى" فاعل فعلٍ دلّ عليه المذكور: أي يَحجُز بينهم الأولى، فالأولى، وإن كانت امرأة، وترجمة أبي داود تُشعر بهذا. انتهى "تهذيب السنن" 6/ 343 - 344.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ترجمة أبي داود، هي نفس ترجمة المصنّف رحمهما الله تعالى، ونصّها:"باب عفو النِّساء عن الدم". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هَذَا ضعيف؛ لجهالة حِصْن، كما سبق آنفًا فِي ترجمته.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -30/ 4789 - وفي "الكبرى" 29/ 6990. وأخرجه (د) فِي "الديات" 4538.

(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي جواز عفو النِّساء عن القصاص:

قَالَ الإِمام الخطّابيّ رحمه الله تعالى: قد اختلف النَّاس فِي عفو النِّساء، فَقَالَ أكثر أهل العلم: عفو النِّساء عن الدم جائز، كعفو الرجال. وَقَالَ الأوزاعيّ، وابن شُبْرُمة: ليس للنساء عفوٌ. وعن الحسن، وإبراهيم النخعيّ: ليس للزوج، ولا للمرأة عفو فِي الدم. انتهى "معالم السنن" 6/ 344.

وَقَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: أجمع أهل العلم عَلَى إجازة العفو عن القصاص، وأنه أفضل، والأصل فيه الكتاب، والسنة، أما الكتاب: فقول الله تعالى، فِي سياق قوله:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} -: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178]، وَقَالَ تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} - إلى قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45].

قيل فِي تفسيره: فهو كفارة للجاني، يعفو صاحب الحق عنه. وقيل: فهو كفارة للعافي بصدقته.

وأما السنة: فإن أنس بن مالك رضي الله عنه، قَالَ: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رُفع إليه شيء

ص: 140

فيه قصاص، إلا أمر فيه بالعفو"، رواه أبو داود، والنسائيّ، وَقَدْ تقدم قبل باب أنه حديث صحيح. وفي حديثه فِي قصة الرُّبَيِّع بنت النضر، حين كسرت سن جارية، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالقصاص، فعفا القوم.

إذا ثبت هَذَا فالقصاص حق لجميع الورثة، منْ ذوي الأنساب والأسباب، والرجال والنساء، والصغار والكبار، فمن عفا منهم صح عفوه، وسقط القصاص، ولم يبق لأحد إليه سبيل.

وهذا قول أكثر أهل العلم، منهم: عطاء، والنخعي، والحَكَم، وحماد، والثوري، وأبو حنيفة، والشافعي، ورُوي معنى ذلك عن عمر، وطاوس، والشعبي.

وَقَالَ الحسن، وقتادة، والزهري، وابن شُبْرمة، والليث، والأوزاعي: ليس للنساء عفو، والمشهور عن مالك: أنه موروث للعصبات خاصة، وهو وجه لأصحاب الشافعيّ؛ لأنه ثبت لدفع العار، فاختص به العصبات، كولاية النكاح، ولهم وجه ثالث، أنه لذوي الأنساب، دون الزوجين؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"منْ قُتِل له قتيل، فأهله بين خِيرَتين بين أن يقتلوا، أو يأخذوا العقل"، وأهله ذوو رحمه.

وذهب بعض أهل المدينة إلى أن القصاص، لا يسقط بعفو بعض الشركاء، وقيل: هو رواية عن مالك؛ لأن حق غير العافي لا يرضى بإسقاطه، وَقَدْ تؤخذ النفس ببعض النفس، بدليل قتل الجماعة بالواحد.

واحتجّ الأولون بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "فأهله بين خيرتين"، وهذا عامّ فِي جميع أهله، والمرأة منْ أهله، بدليل قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"منْ يَعذُرُني منْ رجل يبلغني أذاه فِي أهلي، وما علمت عَلَى أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كَانَ يدخل عَلَى أهلي إلا معي"، يريد عائشة رضي الله تعالى عنها، وَقَالَ له أسامة: يا رسول الله أهلك، ولا نعلم إلا خيرا، متّفقٌ عليه.

وروى زيد بن وهب أن عمر رضي الله عنه أُتي برجل قتل قتيلا، فجاء ورثة المقتول ليقتلوه، فقالت امرأة المقتول، وهي أخت القاتل: قد عفوت عن حقي، فَقَالَ عمر: الله أكبر عَتَقَ القتيلُ، رواه أبو داود

(1)

.

وفي رواية عن زيد، قَالَ: "دخل رجل عَلَى امرأته، فوجد عندها رجلا، فقتلها،

(1)

هو حديث صحيح، وأما عزوه إلى أبي داود، فمحلّ نظر، وَقَدْ قَالَ الحافظ فِي "التلخيص" 4/ 20 رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن الأعمش، عن زيد بن وهب به، ورواه البيهقيّ منْ حديث زيد بن وهب، وزاد:"فأمر عمر لسائرهم بالدية". انظر "إرواء الغليل" 7/ 279 - 280.

ص: 141

فاستعدى إخوتها عمر رضي الله عنه، فَقَالَ بعض إخوتها: قد تصدقت، فقضى لسائرهم بالدية"

(1)

.

ورَوَى قتادة: "أن عمر رضي الله عنه رُفع إليه رجل قتل رجلا، فجاء أولاد المقتول، وَقَدْ عفا بعضهم، فَقَالَ عمر لابن مسعود: ما تِقول؟ قَالَ: إنه قد أُحْرِزَ منْ القتل، فضَرَب عَلَى كتفه، وَقَالَ كُنَيْفٌ

(2)

ملىء علما

(3)

"، انتهى "المغني" 11/ 580 - 582.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الأرجح ما ذهب إليه الجمهور، منْ أن العفو عن القصاص يصحّ، منْ النِّساء، كما يصحّ منْ الرجال؛ لوضوح أدلّته، كما سبق توضيحه آنفًا، فإذا حصل العفو منْ بعض الورثة ولو كانت امرأة فقد سقط القصاص، وثبتت الدية. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌31 - (بَابُ مَنْ قُتِلَ بِحَجَرٍ، أَوْ سَوْطٍ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "قُتِلَ" بالبناء للمفعول: أي باب ذكر الْحَدِيث الدّالّ عَلَى حكم المقتول بحجر، أو سوط. والله تعالى أعلم بالصواب.

4791 -

(أَخْبَرَنَا هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ هِلَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، "مَنْ قُتِلَ فِي عِمِّيَا، أَوْ رِمِّيَا، تَكُونُ بَيْنَهُمْ بِحَجَرٍ، أَوْ سَوْطٍ، أَوْ بِعَصًا، فَعَقْلُهُ عَقْلُ خَطَإٍ، وَمَنْ قَتَلَ عَمْدًا فَقَوَدُ يَدِهِ، فَمَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ، وَلَا عَدْلٌ").

(1)

وهو صحيح أيضًا، أخرجه البيهقيّ 8/ 59 انظر "الإرواء" 7/ 281.

(2)

تصغير كِنْف بكسر، فسكون: وعاء أداة الراعي، أو وعاء أَسْقَاط التاجر. أفاده فِي "القاموس".

(3)

أخرجه الطبرانيّ فِي "المعجم الكبير" 3/ 45/ 4 وهو ضعيف؛ لانقطاعه، فإن قتادة لم يدرك عمر، ولا ابن مسعود رضي الله تعالى عنهما.

ص: 142

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(هلال بن العلاء بن هلال) بن عمرو، أبو عمرو الباهليّ مولاهم الرَّقّيّ، وهو صدوق [11] 10/ 1199، منْ أفراد المصنّف.

2 -

(سعيد بن سُليمان) الضبّيّ، أبو عثمان الواسطيّ، نزيل بغداد البزّار، لقبه سعدويه، ثقة حافظ، منْ كبار [10] 15/ 1854.

3 -

(سليمان بن كثير) العبديّ البصريّ، أبو داود، أو أبو محمد، لا بأس به فِي غير الزهريّ [7] 58/ 3553.

4 -

(عمرو بن دينار) الجمحي مولاهم المكيّ، ثقة ثبت [4] 112/ 154.

5 -

(طاوس) بن كيسان اليماني، ثقة ثبت فاضل [3] 27/ 31.

6 -

(ابن عباس) عبد الله رضي الله تعالى عنهما 27/ 31. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه كما سبق آنفًا. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما حبر الأمة، وبحرها، أحد العبادلة، وأحد المكثرين السبعة، كما تقدّم غير مرّة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قُتِلَ) بالبناء للمفعول (فِي عِمِّيَّا) -بكسر العين المهملة، وتشديد الميم، والتحتانيّة، والقصر-: فِعَّيلَى، منْ العَمَى، كالرِّمِّيّا، منْ الرمي، والْخِصِّيصَى، منْ التخصيص، وهي مصادرُ، والمعنى: أن يوجد بينهم قَتيل يَعْمَى أمره، ولا يتبيّن قاتله. أفاده ابن الأثير فِي "النهاية" -3/ 305. وَقَالَ السنديّ: قوله: "فِي عِمّيّا" بكسر عين، فتشديد ميم، مقصور، ومثله "رِمّيّا" وزنًا: أي فِي حالةٍ غير مبيّنة، لا يُدرى فيه القاتل، ولا حال قتله، أو فِي ترام جرى بينهم، فوُجد بينهم قتيل. انتهى.

(أَوْ رِمِّيَّا) تقدم ضبطه آنفًا: أي فِي ترام (تَكُونُ بَيْنَهُمْ) أي بين القوم (بِحَجَرٍ، أَوْ سَوْطٍ، أَوْ بِعَصًا، فَعَقْلُهُ) أي ديته، يقال: عقلت القتيلَ عَقْلاً، منْ باب ضرب: إذا أدّيت ديته. قَالَ الأصمعيّ: سُمّيت الدية عَقْلاً؛ تسميةً بالمصدر؛ لأن الإبل كانت تُعقل بفِناء وليّ القتيل، ثم كثُر الاستعمال حَتَّى أُطلق العَقْلُ عَلَى الدية، إبلاً كانت، أو نَقْدًا. قاله الفيّوميّ (عَقْلُ خَطَإٍ) أي يكون حكم ديته حكم دية المقتول خطأً. وفي رواية أبي داود:

ص: 143

"فهو خطأ": أي فحكمه حكم قتل الخطإ، فتجب الدية، دون القصاص (وَمَنْ قَتَلَ) بالبناء للفاعل (عَمْدًا فَقَوَدُ يَدِهِ) أَيْ فعليه قودُ نفسه، أو فحكمُ قتله قودُ نفسه، وعبّر باليد عن النفس مجازًا، أو المعنى: فعليه قود عمل يده الذي هو القتل، فأُضيف القود إلى اليد مجازًا (فَمَنْ حَالَ بَيْنَهُ) أي بين القاتل (وَبَيْنَهُ) أي بين القود بمنع أولياء المقتول عن قتله، بعد طلبهم ذلك، وليس المراد به طلب العفو عن القصاص، فإنه جائز، فقد تقدّم قبل بابين حديث أنس رضي الله عنه:"ما أُتي النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي شيء فيه قصاص، إلا أمر فيه بالعفو"(فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ) أي طرده منْ رحمته (وَالْمَلَائِكَةِ) أي دعاؤهم عليه بأن يطرده الله تعالى عن رحمته (وَالنَّاسِ) أي دعاؤهم عليه أيضًا بالطرد. والمعنى أنه يستحقّ ذلك، إن لم يعفو الله تعالى عنه. وقوله (أَجْمَعِينَ) تأكيد للملائكة، والناس.

(لَا يُقْبَلُ) بالبناء للمفعول (مِنْهُ صَرْفٌ) قيل: معناه: توبة؛ لما فيها منْ صرف الإنسان نفسه منْ حال المعصية إلى حال الطاعة (وَلَا عَدْلٌ) أي فداء، مأخوذ منْ التعادل، وهو التساوي؛ لأن فداء الأسير يساويه، والمراد التغليظ، والتشديد فيمن حال بين الحدود، وأمثالها. قاله السنديّ.

وَقَالَ الخطّابيّ: فسّروا العدل بالفريضة، والصرف بالتطوّع. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -31/ 4791 و4792 - وفي "الكبرى" 30/ 6992 و6993. وأخرجه (د) فِي "الديات" 4539 (ق) فِي "الديات" 2635. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم المقتول بحجر، أو سوط، أو نحو ذلك، فِي حال الترامي بالحجارة، ولم يعرف القاتل، وهو كونه فِي حكم الخطإ، فتجب الدية، دون القصاص. (ومنها): بيان حكم منْ قَتَلَ عمدًا، وهو وجوب الدية عليه. (ومنها): تحريم الحيلولة بين أولياء القتيل، والقاتل لئلا يقتصّوا منه. (ومنها): أن منْ فعل ذلك يستحقّ لعنة الله تعالى، والملائكة، والناس أجمعين، وأن الله تعالى منه لا يَقبل عمله؛ لقبح صنيعه هَذَا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 144

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فيما إذا اقتتل فئتان فتفرقوا عن قتيل منْ إحداهما:

قَالَ الإمام الخطّابيّ رحمه الله تعالى: اختلفوا فيمن تلزمه دية هَذَا القاتل، فَقَالَ مالك ابن أنس: ديته عَلَى الذين نازعوهم. وَقَالَ أحمد بن حنبل: ديته عَلَى عواقل الآخرين، إلا أن يدّعوا عَلَى رجل بعينه، فيكون قسامة، وكذلك قَالَ إسحاق. وَقَالَ ابن أبي ليلى، وأبو يوسف: ديته عَلَى عاقلة الفريقين الذين اقتتلوا معا. وَقَالَ الأوزاعي: عقله عَلَى الفريقين جميعا، إلا أن تقوم بينة منْ غير الفريقين أن فلانا قتله، فعليه القصاص. وَقَالَ الشافعيّ: هو قسامة، إن ادّعوه عَلَى رجل بعينه، أو طائفة بعينها، وإلا فلا عقل، ولا قود. وَقَالَ أبو حنيفة: هو عَلَى عاقلة القبيلة التي وُجد فيهم، إن لم يدّع أولياء القتيل عَلَى غيرهم. انتهى "معالم السنن" 6/ 345.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قاله أحمد، وإسحاق أقرب؛ لأن الظاهر أن الآخرين هم الذين قتلوه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4792 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، يَرْفَعُهُ، قَالَ: "مَنْ قُتِلَ فِي عِمِّيَّةٍ، أَوْ رِمِّيَّةٍ بِحَجَرٍ، أَوْ سَوْطٍ، أَوْ عَصًا، فَعَقْلُهُ عَقْلُ الْخَطَإِ، وَمَنْ قُتِلَ عَمْدًا فَهُوَ قَوَدٌ، وَمَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلاً").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"محمد بن معمر": هو القيسيّ البحراني البصريّ، صدوق، منْ كبار [11] 5/ 1829 منْ مشايخ الأئمة الستة، دون واسطة.

و"محمد بن كثير" العبديّ أبو عبد الله البصريّ، ثقة، لم يصب منْ ضعفه، منْ كبار [10].

وفي "تهذيب التهذيب " 3/ 683: رَوَى عن أخيه سليمان، وكان أكبر منه بخمسين سنة، وعن الثوري، وشعبة، وإبراهيم بن نافع المكيّ، وهمام، وإسرائيل، وجعفر بن سليمان الضبعي، وغيرهم. ورَوَى عنه البخاريّ، وأبو داود، وروى له الباقون بواسطة الدارمي، وعبد بن حُميد، والذُّهْلي، والحسين بن محمد البلخي، ومحمد بن معمر الْبَحْراني، وأحمد بن محمد بن المعلى الَادمي، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وعلي بن المديني، ويعقوب بن شيبة، وأبو مسلم الكجي، ومعاذ بن المثنى، ويوسف بن يعقوب

ص: 145

القاضي، وغيرهم. قَالَ ابن معين: لم يكن ثقة. وَقَالَ أبو حاتم: صدوق. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: حدثنا عنه الفضل بن الحباب، مات سنة ثلاث وعشرين ومائتين، وكان له يوم مات تسعون سنة، وكان تقيا فاضلا، وكذا أرخه البخاريّ، وأبو داود، وابن أبي عاصم، وابن قانع، وزاد فِي جمادى الأولى، وَقَالَ: إنه ضعيف. وَقَالَ أحمد بن حنبل: ثقة لقد مات عَلَى سُنّة، وَقَالَ مسلمة بن قاسم: لا بأس به. وَقَالَ ابن الجنيد، غن ابن معين: كَانَ فِي حديثه ألفاظ، كأنه ضعفه، ثم سألت عنه؟ فَقَالَ: لم يكن لسائل أن يكتب عنه. وفي "الزهرة": روى عنه البخاريّ ثلاثة وستين حديثا. روى له الجماعة، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.

وقوله: "يرفعه": أي يرفع ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الْحَدِيث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذه الصيغة منْ صيغ الرفع حكمًا، قَالَ فِي "ألفية الأثر" فِي تعداد صيغ الرفع حكمًا:

وَهَكّذَا "يَرْفَعُهُ "يَنْمِيهِ"

"رِوَايَةً""يَبْلُغْ بِه""يَرْوِيهِ"

وقوله: "فِي عِمَيّة" بكسر العين المهملة، وتشديد الميم، بعدها ياء مشدّدة: أي فِي حالة غير متّضحة، حيث لا يُدرى القاتل، ولا حالة القتل. وقوله:"أو رِمّيّة" هي فِي الوزن كعمّيّة، ومعناها: الترامي بالحجارة، ونحوها.

والحديث صحيح، وَقَدْ سبق بيانه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌32 - (كَمْ دِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ، وَذِكْرِ الاِخْتِلَافِ عَلَى أَيُّوبَ فِي حَدِيثِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ فِيهِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وجه الاختلاف المذكور: أن شعبة رواه عن أيوب، عن القاسم، عن عبد الله بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، متّصلاً، وخالفه حماد بن سلمة، فرواه عن أيوب، عن القاسم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خطب يوم الفتح، فأرسله، ثم هَذَا الاختلاف لا يضرّ بصحّة الْحَدِيث، فإن الحكم فِي مثله لمن وصل، فشعبة إمام حافظ

ص: 146

ثبت، لا يضره مخالفة غيره له، ولاسيما مثل حماد بن سلمة، فالحديث متّصل صحيح. والله تعالى أعلم بالصواب.

4793 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "قَتِيلُ الْخَطَإِ، شِبْهِ الْعَمْدِ بِالسَّوْطِ، أَوِ الْعَصَا، مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ، أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن بشار) بندار، أبو بكر البصريّ، ثقة حافظ [10] 24/ 27.

2 -

(عبد الرحمن) بن مهديّ المذكور قبل بابين.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام المشهور تقدم قريبًا.

4 -

(أيوب السختياني) ابن أبي تميمة كيسان البصريّ، ثقة ثبت فقيه [5] 42/ 48.

5 -

(القاسم بن ربيعة) بن جَوْشَن -بجيم، فواو ساكنة، فمعجمة مفتوحة، وزان جعفر- الْغَطَفانيّ -بفتح الغين المعجمة، والطاء المهملة، بعدها فاء- الجوشني البصريّ، ثقة، عارف بالنسب [3].

وَقَالَ فِي "تهذيب التهذيب" 3/ 409 - : رَوَى عن عمر، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي بكرة، وابن عمر، وابن عمرو، وعقبة بن أوس، ويقال: يعقوب بن أوس. ورَوَى عنه ابن عمه عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن، وقتادة، وأيوب، وخالد الحذاء، وحميد الطويل، وعلي بن زيد بن جُدْعان. روى البخاريّ: أن الحسن كَانَ إذا سئل عن شيء منْ النسب، قَالَ: سلوا القاسم بن ربيعة. وَقَالَ علي بن المديني، وأبو داود: ثقة. وَقَالَ خليفة، عن أبي اليقظان: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة اجمع مَنْ قِبَلَك، فشاورهم فِي إياس بن معاوية، والقاسم بن ربيعة، واستقض أحدهما، قَالَ: فحلف له القاسم أن إياسا أعلم منه وأصلح، فولاه. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". روى له أبو داود، والمصنف، وابن ماجه، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط، كرره عشر مرّات.

6 -

(عبد الله بن عمرو بن العاص) رضي الله تعالى عنهما 89/ 111. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه اللَّه تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم

ص: 147

رجال الصحيح، غير القاسم كما سبق آنفاً. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين. (ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستّة دون واسطة، كما سبق غير مرّة (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه القاسم بن ربيعة هَذَا أول محلّ ذكره. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو) بن العاص رضي والله تعالى ضهما (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: قَتِيلُ الْخَطَإِ) مبتدأٌ، أي دية قتل الخطإ، فهو عَلَى حذف مضاف (شِبْهِ الْعَمْدِ) بالجرّ صفة "الخطإ"، و"الشبه"، كـ"المثل" بكسر، فسكون، أو بفتحتين (بِالسَّوْطِ) متعلّقٌ بـ"قتيل"(أَوِ الْعَصَا)، وقوله (مِائَةٌ مِنَ الإبِلِ) خبر المبتدإِ (أَرْبَعُونَ مِنْهَا) أَي منْ الإبل المائة (فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا) يعني أنها حوامل.

وفي رواية: "أربعون منها خَلِفَة": والخلفة الحامل، وقَلَّما تحمل إلا ثنية، وهي التي لها خمس سنين، ودخلت فِي السادسة، وأيُّ ناقة حملت فهي خلفة، تجزىء فِي الدية. وَقَدْ قيل: لا تجزىء إلا ثنية؛ لأن فِي بعض ألفاظ الْحَدِيث: "أربعون خَلِفَة، ما بين ثنية عامها إلى بازل"، ولأن سائر أنواع الإبل مقدرة السن، فكذلك الخلفة، قيل: الأول هو الأولى؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أطلق الخلفة، والخلفة هي الحامل، فيقتضي أن تجزىء كل حامل.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: بل الثاني هو الأولى، فلا تجزىء إلا ثنية حامل؛ لتصريح النصّ بذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -32/ 4793 و4794 و33/ 4795 و4796 و4797 و4798 و4799 و4800 و4802 - وفي "الكبرى" 31/ 6994 و6995 و32/ 6996 و6997 و6998 و6999 و7000 و7001 و7003. وأخرجه (د) فِي "الديات" 4547 (ق) فِي "الديات" 2627 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 7028 (الدارمي) فِي "الديات" 2277.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

ص: 148

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان مقدار دية شبه العمد، وهو مائة منْ الإبل، منها أربعون حوامل. (ومنها): أن فيه إثبات قتل شبه العمد، قَالَ الخطّابيّ: وَقَدْ زعم بعض أهل العلم أن ليس القتل إلا العمد المحض، أو الخطأ المحض. انتهى، وسيأتي بيان اختلاف العلماء فِي ذلك المسألة التالية، إن شاء الله تعالى. (ومنها): أن دية شبه العمد مغلّظة عَلَى العاقلة. (ومنها): ما قاله الخطّابيّ رحمه اللَّه تعالى: أنه قد يُستدلّ به عَلَى جواز السلم فِي الحيوان إلى مدّة معلومة، وذلك لأن الإبل عَلَى العاقلة، مضمونة فِي ثلاث سنين. انتهى. (ومنها): أن فيه دلالةً عَلَى أن الحمل فِي الحيوان صفة تُضبط، وتُحصر. قاله الخطابيّ أيضا.

(ومنها): أنه أخذ بظاهر هَذَا الْحَدِيث عطاء، والشافعي، وإليه ذهب محمد بن الحسن، فقالوا: دية شبه العمد أثلاثٌ. وقالى أبو حنيفة، وأبو يوسف، وأحمد، وإسحاق: هي أرباع. وَقَالَ أبو ثور: دية شبه العمد أخماس. (ومنها): أن فيه الردّ عَلَى مالك بن أنس، حيث يقول: ليس فِي كتاب الله عز وجل، إلا الخطأ والعمد، وأما شبه العمد فلا نعرفه، فقد أثبته النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْحَدِيث الصحيح، فلا كلام بعد ثبوته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف اْهل العلم فِي ثبوت قتل شبه العمد:

ذهب أكثر أهل العلم إلى أن القتل ينقسم إلى ثلاثة أقسام: عمدٌ، وشبه عمد، وخطأ، رُوي ذلك عن عمر، وعلي، وبه قالى الشعبي، والنخعي، وقتادة، وحماد، وأهل العراق، والثوري، والشافعي، وأحمد، وأصحاب الرأي.

وأنكر مالك شبه العمد، وقال: ليس فِي كتاب والله إلا العمد والخطأ، فأما شبه العمد فلا يعمل به عندنا، وجعله منْ قسم العمد، وحكي عنه مثل قول الجماعة، وهو الصواب؛ لحديث عبد والله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما المذكور فِي الباب، فإنه نصّ يقدم عَلَى ما ذكره.

وزاد بعضهم قسما رابعا، وهو ما أجري مُجرى الخطإ، نحو أن ينقلب نائم عَلَى شخص، فيقتله، أو يقع عليه منْ علو، وكالقتل بالسبب، كحفر البئر، ونصب السكين، وقتل غير المكلف، لكن هذه الصُّوَر كلها عند الأكثرين منْ قسم الخطإ، فإن صاحبها لم يتعمد الفعل، أو تعمده ولكنه ليس هو منْ أهل القصد الصحيح، لكونه غير مكلّف، فسموه خطأ، فأعطوه حكمه. أفاده فِي "المغني" 11/ 444 - 445.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبين بما ذُكر أن الأصحّ هو ما ذهب إليه الجمهور منْ إثبات شبه العمد؛ لصحّة دليله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 149

(المسألة الخامسة): فِي تفسير العمد، وحكمه:

القتل العمد هو أن يضربه بمحدد، كالسيف، ونحوه، مما يقطع، ويدخل فِي البدن، فهذا لا خلاف بين العلماء فِي كونه عمدا، أو يضربه بغير محدد، لكنه مما يغلب عَلَى الظن قتله به، فهذا عمد أيضًا عند الأكثرين.

وحكمه: أنه يجب به القود، بلا خلاف بين أهل العلم فِي ذلك إذا اجتمع عليه الاْولياء، وكان المقتول حرًّا، مسلما، قَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى: أجمع العلماء عَلَى أن القود لا يجب إلا بالعمد، ولا نعلم بينهم فِي وجوبه بالقتل العمد، إذا اجتمعت شروطه خلافا، وَقَدْ دلت عليه الآيات، والأخبار بعمومها، فَقَالَ الله تعالى:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33]، وَقَالَ تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]، وَقَالَ تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]: يريد -والله أعلم- أن وجوب القصاص يمنع منْ يريد القتل منه، شفقةً عَلَى نفسه منْ القتل، فتبقى الحياة فيمن أريد قتله، وقيل: إن القاتل تنعقد العداوة بينه وبين قبيلة المقتول، فيريد قتلهم خوفا منهم، ويريدون قتله، وقتل قبيلته، استيفاءً، ففي الاقتصاص منه بحكم الشرع قطع لسبب الهلاك بين القبيلتين. وَقَالَ الله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، وَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"منْ قُتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يُقتَل، وإما أن يُفدَى"، متَّفقٌ عليه، وروى أبو شُريح الخزاعي رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسول والله صلى الله عليه وسلم: "منْ أصيب بدم، أو خَبْل، فهو بالخيار بين إحدى ثلاث: فإن أراد الرابعة فخذوا عَلَى يديه، أن يَقتُل، أو يعفو، أو يأخذ الدية"، رواه أبو داود

(1)

، وفي لفظ:"فمن قُتل له بعد مقالتي قتيل، فأهله بين خِيرتين: أن يأخذوا الدية، أو يقتلوا"، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"العمد قود، إلا أن يعفو ولي المقتول"، وفي لفظ:"منْ قتل عامدا فهو قود"، رواه أبو داود، وفي لفظ رواه ابن ماجه:"منْ قتل عامدا فهو قود، ومن حال بينه وبينه، فعليه لعنة والله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل". راجع "المغني" 11/ 445 - 459.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبين بما ذُكر أن أهل العدم مُجمعون على وجوب القصاص فِي القتل العمد، إذا اجتمعت شروطه، وهو أنه إذا كَانَ للمقتول أولياء يستحقّون القصاص أن يجتمعوا عَلَى طلبه، فإن عفا بعضهم سقط كله، وصار ديةً، وأن يكون القتيل حرًّا مسلمًا؛ لهذه النصوص الصحيحة الصريحة فيه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

تقدم أنه حديث ضعيف فلا تغفل.

ص: 150

(المسألة السادسة): فِي تفسير شبه العمد، وحكمه:

شبه العمد: هو أن يقصد ضربه بما لا يقتل غالبا، إما لقصد العدوان عليه، أو لقصد التأديب له، فيسرف فيه، كالضرب بالسوط، والعصا، والحجر الصغير، والوكز باليد، وسائر ما لا يقتل غالبا، إذا قَتَل فهو شبه عمد؛ لأنه قصد الضرب دون القتل، ويسمى عمد الخطأ، وخطإ العمد؛ لاجتماع العمد والخطإ فيه، فإنه عَمَدَ الفعلَ، وأخطأ فِي القتل.

وحكمه: أنه لا قود فيه، والدية عَلَى العاقلة، فِي قول أكثر أهل العلم، وجعله مالك عمدا، موجبا للقصاص، ولأنه ليس فِي كتاب الله إلا العمد والخطأ، فمن زاد قسما ثالثا زاد عَلَى النص، ولأنه قتله بفعل عَمَدَهُ فكان عمدا، كما لو غرزه بإبرة فقتله، وَقَالَ بعض الحنابلة: تجب الدية فِي مال القاتل، وهو قول ابن شبرمة؛ لأنه مُوجَبُ فِعلٍ عمدٍ، فكان فِي مال القاتل كسائر الجنايات.

وحجة الجمهور ما أخرجه الشيخان، والمصنف، وغيرهم، منْ حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: اقتتلت امرأتان منْ هُذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، وما فِي بطنها، فقضى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها عبد، أو وليدة، وقضى بدية المرأة عَلَى عاقلتها". فقد أوجب ديتها عَلَى العاقلة، والعاقلة لا تحمل عمدا، وأيضا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ألا إن فِي قتيل خطإ العمد، قتيلِ السوط، والعصا، والحجر مائة منْ الإبل"، وفي لفظ: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "عقل شبه العمد مغلظ، مئل عقل العمد، ولا يُقتل صاحبه"، رواه أبو داود، وهذا نص فِي المسألة.

وأما قوله هَذَا قسم ثالث، فجوابه: نعم هو كذلك ثبت بالسنة، والقسمان الأولان ثبتا بالكتاب، ولأنه قتل لا يوجب القَوَدَ، فكانت ديته عَلَى العاقلة، كقتل الخطأ. أفاده فِي "المغني" 11/ 462 - 463.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الحق ما ذهب إليه الجمهور منْ إثبات شبه العمد، وهو أن يقصد ضربه بما لا يقتل غالبا، كالسوط، والعصا، والحجر الصغير، وأنه لا قود فيه، وأن الدية واجبة عَلَى العاقلة؛ لما ذُكر منْ الأدلّة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): فِي تفسير الخطإ، وحكمه:

الخطأ عَلَى ضربين: [أحدهما]: أن يفعل فعلا، لا يريد به إصابة المقتول، فيصيبه ويقتله، مثل أن يرمي صيدا، أو هدفا، فيصيب إنسانا فيقتله، قَالَ ابن المنذر رحمه والله تعالى: أجمع كل منْ نَحفَظ عنه منْ أهل العلم، أن القتل الخطأ: أن يرمي الرامي شيئا،

ص: 151

فيصيب غيره، لا أعلمهم يختلفون فيه، هَذَا قول عمر بن عبد العزيز، وقتادة، والنخعي، والزهري، وابن شبرمة، والثوري، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأصحاب الرأي.

فحكم هَذَا الضرب منْ الخطإ أنه تجب به الدية عَلَى العاقلة، والكفارة فِي مال القاتل، بغير حلاف نعلمه.

والأصل فِي وجوب الدية والكفارة، قول الله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} الآية [النِّساء: 92] وسواء كَانَ المقتول مسلما، أو كافرا له عهد؛ لقول والله تعالى:{وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} الآية [النِّساء: 92] ، ولا قصاص فِي شيء منْ هَذَا؛ لأن والله تعالى أوجب به الدية، ولم يذكر قصاصا، وَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"رُفِع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه"

(1)

، ولأنه لم يوجب القصاص فِي عمد الخطأ، ففي الخطأ أولى.

[الضرب الثاني منْ الخطأ]: هو أن يقتل فِي أرض الحرب منْ يظنه كافرا، ويكون مسلما، ولا خلاف فِي أن هَذَا خطأ، لا يوجب قصاصا؛ لأنه لم يقصد قتل مسلم، فأشبه ما لو ظنه صيدا، فبان آدميا، إلا اْن هَذَا لا تجب به دية أيضا، ولا يجب إلا الكفارة، ورُوي هَذَا عن ابن عباس، وبه قَالَ عطاء، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والأوزاعي، والثوري، وأبو ثور، وأبو حنيفة، وأحمد.

وَقَالَ مالك، والشافعي: تجب به الدية والكفارة، وهو رواية عن أحمد؛ لقول والله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"ألا إن فِي قتيل خطأ العمد، قتيل السوط والعصا، مائة منْ الإبل"، ولأنه قتل مسلما خطأ، فوجبت ديته، كما لو كَانَ فِي دار الإسلام.

واحتجّ الأولون بقول والله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} الآية، ولم يذكر دية، وتركه ذكرها فِي هَذَا القسم، مع ذكرها فِي الذي قبله وبعده، ظاهر فِي أنها غير واجبة، وذكره لهذا قسما مفردا، يدل عَلَى أنه لم يدخل فِي عموم الآية التي احتجوا بها، ويخص بها عموم الخبر الذي رووه. أفاده فِي "المغني" 11/ 464 - 465.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يترجّح عنده هو ما قاله الأولون منْ وجوب

(1)

حديث صحيح بلفظ: "وُضع عن أمتي الخ"، أخرجه الطبرانيّ منْ حديث ثوبان رضي الله عنه.

ص: 152

الكفّارة، دون الدية؛ للآية المذكورة؛ والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): فِي اختلاف أهل العلم فِي مقدار دية القتل العمد:

قَالَ فِي "المغني": ما ملخّصه: أجمع أهل العلم عَلَى أن دية العمد تجب فِي مال القاتل، لا تحملها العاقلة، وهي تجب حالّة، وبهذا قَالَ مالك، والشافعي، وأحمد. وَقَالَ أبو حنيفة: تجب فِي ثلاثة سنين؛ لأنها دية آدمي فكانت مؤجلة، كدية شبه العمد. وحجة الأولين أن ما وجب بالعمد المحض كَانَ حالا، كالقصاص، وأرش أطرف العبد، ولا يشبه شبه العمد؛ لأن القاتل معذور؛ لكونه لم يقصد القتل، وإنما أفضى إليه منْ غير اختيار منه، فأشبه الخطإ، ولهذا تحمله العاقلة، ولأن القصد التخفيف عَلَى العاقلة الذين لم تصدر منهم جناية، وحُمِّلوا أداء مال مواساة، فالأرفق بحالهم التخفيف عنهم، وهذا موجود فِي الخطأ، وشبه العمد عَلَى السواء، وأما العمد فإنما يحمله الجاني فِي غير حال العذر، فوجب أن يكون ملحقا ببدل سائر المتلفات.

واختلفوا فِي مقدارها، فقيل: إنها أرباع، وبه قَالَ الزهريّ، وربيعة، ومالك، وسليمان بن يسار، وأبو حنيفة، وأحمد، ورُوي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه.

وقيل: إنها ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة فِي بطونها أولادها، وبهذا قَالَ عطاء، ومحمد بن الحسن، والشافعي، وروي ذلك عن عمر، وزيد، وأبي موسى، والمغيرة؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"منْ قتل متعمدا دُفع إلى أولياء المقتول، فإن شاؤوا قتلوه، وإن شاؤوا أخذوا الدية، وهي ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خَلِفة، وما صولحوا عليه فهو لهم، وذلك لتشديد القتل"، رواه الترمذيّ، وَقَالَ: هو حديث حسن غريب، وعن عبد الله ابن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ألا إن فِي قتيل عمد الخطإ، قتيلِ السوط والعصا، مائة منْ الإبل، منها أربعون خلفة، فِي بطونها أولادها"، رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائيّ، وغيرهم، وعن عمرو بن شعيب:"أن رجلا يقال له: قتادة حَذَف ابنه بالسيف فقتله، فأخذ عمر منه الدية ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة" رواه مالك فِي "موطئه".

وحجة الأولين ما روى الزهريّ، عن السائب بن يزيد، قَالَ: كانت الدية عَلَى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباعا: خمسا وعشرين جذعة، وخمسا وعشرين حقة، وخمسا وعشرين بنت لبون، وخمسا وعشرين بنت مخاض"، ولأنه قول ابن مسعود رضي الله عنه، ولأنه حق يتعلق بجنس الحيوان، فلا يعتبر فيه الحمل، كالزكاة، والأضحية. أفاده فِي

ص: 153

"المغني" 12/ 12/ 15.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندى الأرجح ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني؛ لصحة الأحاديث به، فإن حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جدّه الأول حسنٌ، كما قَالَ الترمذيّ، والثاني صحيح، كما سبق فِي تخريج حديث الباب، وكذلك أثر عمر رضي الله عنه صحيح، وأما حديث الزهريّ عن السائب بن يزيد، فضعيفٌ، لا يعارض الأحاديث الصحيحة، فتبصر، ولا تتحيّر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة التاسعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي دية شبه العمد:

(اعلم): أن الخلاف فِي أسنان دية شبه العمد، كالخلاف فِي دية العمد، وَقَدْ سبق الكلام فِي ذلك فِي المسألة الماضية، واخلفوا هنا فِي أمرين:

[أحدهما]: أنه ذهب طائفة إلى أنها عَلَى العاقلة، وبه قَالَ الشعبي، والنخعي، والحكم، والشافعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وابن المنذر.

وذهبت طائفة إلى أنها عَلَى القاتل فِي ماله، وبه قَالَ ابن سيرين، والزهري، والحارث العكلي، وابن شُبْرُمة، وقتادة، وأبو ثور؛ لأنها مُوجَبُ فعلٍ قَصدَه، فلم تحمله العاقلة، كالعمد المحض، ولأنها دية مغلظة، فأشبهت دية العمد، وهكذا يجب أن يكون مذهب مالك؛ لأن شبه العمد عنده منْ باب العمد.

واحتجّ الأولون بحديث أبي هريرة رضي الله عنه المتّفق عليه، قَالَ:"اقتتلت امرأتان منْ هذيل، فرَمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما فِي بطنها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة عَلَى عاقلتها".

ولأنه نوع قتل لا يوجب قصاصا فوجبت ديته عَلَى العاقلة كالخطإ، ويخالف العمد المحض؛ لأنه يُغَلَّظ منْ كل وجه؛ لقصده الفعل، وإرادته القتل، وعمدُ الخطإ يغلظ منْ وجه، وهو قصده الفعل، ويُخَفَّف منْ وجه، وهو كونه لم يُرد القتل، فاقتضى تغليظها منْ وجه، وهو الأسنان، وتخفيفها منْ وجه، وهو حمل العاقلة لها، وتأجيلها، قَالَ ابن قُدامة: ولا أعلم فِي أنها تجب مؤجلة خلافا بين أهل العلم، ورُوي ذلك عن عمر، وعلي، وابن عباس رضي والله عنهم، وبه قَالَ الشعبي، والنخعي، وقتادة، وأبو هاشم، وعُبيد الله بن عمر، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر، وَقَدْ حُكي عن قوم منْ الخوارج، أنهم قالوا: الدية حالّة؛ لأنها بدل متلف، ولم ينقل إلينا ذلك عمن يُعَدُّ خلافه خلافا. أفاده فِي "المغني" 12/ 15 - 16.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد اتّضح بما ذُكر أن الحقّ وجوب الدية عَلَى

ص: 154

العاقلة؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه، وقول المخالف: إنها موجب فعل قصده الخ قياس فِي مقابلة النصّ، فيكون باطلاً، كما سبق تحقيقه غير مرّة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة العاشرة): فِي اختلاف أهل العلم فِي دية الخطإ:

ذهبت طائفة إلى أن القتل إذا كَانَ خطأ، كَانَ عَلَى العاقلة، مائة منْ الإبل، تؤخذ فِي ثلاث سنين أخماسا: عشرون بنات مخاض، وعشرون بنو مخاض، وعشرون بنات لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة، وبهذا قَالَ ابن مسعود، والنخعي، وأحمد، وأصحاب الرأي، وابن المنذر.

وَقَالَ عمر بن عبد العزيز، وسليمان بن يسار، والزهري، والليث، وربيعة، ومالك، والشافعي: هي أخماس، إلا أنهم جعلوا مكان بني مخاض بني لبون، وهكذا رواه سعيد بن منصور فِي "سننه" عن النخعي، عن ابن مسعود رضي الله عنه.

وَقَالَ الخطّابيّ: رُوي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وَدَى الذي قُتل بخيبر بمائة منْ إبل الصدقة

(1)

، وليس فِي أسنان الصدقة ابن مخاض.

ورُوِي عن علي، والحسن، والشعبي، والحارث العكلي، وإسحاق. أنها أرباع، كدية العمد سواء.

وعن زيد: أنها ثلاثون حقة، وثلاثون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون بنت مخاض.

وَقَالَ طاوس: ثلاثون حقة، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون بنت مخاض، وعشرون بني لبون ذكور؛ لما رَوَى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قضى أن منْ قُتِل خطأ، فديته منْ الإبل ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشر بني لبون ذكور"، رواه أبو داود، وابن ماجه.

وَقَالَ أبو ثور: الديات كلها أخماس، كدية الخطإ؛ لأنها بدل متلف، فلا تختلف بالعمد والخطإ، كسائر المتلفات، وحُكي عنه أن دية العمد مغلظة، ودية شبه العمد والخطإ أخماس؛ لأن شبه العمد تحمله العاقلة، فكان أخماسا كدية الخطإ.

وَقَالَ ابن قدامة: ولنا -يعني أصحاب القول الأول- ما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فِي دية الخطإ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون بني مخاض"، رواه أبو داود،

(1)

متَّفقٌ عليه، وتقدم للمصنّف 3/ 4712.

ص: 155

والنسائي، وابن ماجه، ولأن ابن لبون يجب عَلَى طريق البدل، عن ابنة مخاض، فِي الزكاة، إذا لم يجدها، فلا يُجمع البدل والمبدل فِي واجب، ولأن موجبهما واحد، فيصير كأنه أوجب أربعين ابنة مخاض، ولأن ما قَالَ به الأولون هو الأقل، فالزيادة عليه لا تثبت إلا بتوقيف، يجب عَلَى منْ ادعاه الدليل، فأما دية قتيل خيبر فلا حجة لهم فيه؛ لأنهم لم يَدَّعُوا عَلَى أهل خيبر قتله إلا عمدا، فتكون ديته دية العمد، وهي منْ أسنان الصدقة، والخلاف فِي دية الخطإ، وقول أبي ثور يخالف الآثار المروية التي ذكرناها، فلا يعول عليه. قاله فِي "المغني" 12/ 19 - 21.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الحقّ هو ما ذهب إليه طاوسٌ منْ أنها أرباع: ثلاثون حقّة، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون بنت مخاض، وعشر بني لبون؛ لصحّة حديث عمرو شعيب، عن أبيه، عن جدّه، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن منْ قُتل خطأ، فديته منْ الإبل ثلاثون بنت مخاض

" الْحَدِيث. وأما ما احتج به ابن قدامة للحنابلة، ومن قَالَ بقولهم: إنها أخماسٌ، منْ حديث ابن مسعود رضي الله عنه، فإنه ضعيف؛ لأن فِي سنده حجاج بن أرطاة، وهو ضعيف، كما سيأتي بيانه فِي الباب الثالث، فتبصّر، ولا تتحيّر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: لا خلاف بين أهل العلم فِي أن دية الخطإ عَلَى العاقلة، قَالَ ابن المنذر: أجمع عَلَى هَذَا كل منْ نَحفَظ عنه منْ أهل العلم، وَقَدْ ثبت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قضى بدية الخطإ عَلَى العاقلة، وأجمع أهل العلم عَلَى القول به، وَقَدْ جعل النبيّ صلى الله عليه وسلم دية عمد الخطإ عَلَى العاقلة، بما قد رويناه منْ الأحاديث، وفيه تنبيه عَلَى أن العاقلة تحمل دية الخطأ.

والحكمة فِي ذلك أن جنايات الخطإ تكثر، ودية الآدمي كثيرة، فإيجابها عَلَى الجاني فِي ماله يجحف به، فاقتضت الحكمة إيجابها عَلَى العاقلة، عَلَى سبيل المواساة للقاتل، والإعانة له تحفيفا عنه، إذ كَانَ معذورا فِي فعله، وينفرد هو بالكفارة. أفاده فِي "المغني" 12/ 21. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه آخر]: لا خلاف بينهم فِي أنها مؤجلة فِي ثلاث سنين، فإن عمر، وعليا رضي الله عنه، جعلا دية الخطإ عَلَى العاقلة فِي ثلاث سنين، ولا يُعرف لهما فِي الصحابة مخالفٌ، فاتّبعهم عَلَى ذلك أهل العلم، ولأنه مال يجب عَلَى سبيل المواساة، فلم يجب حالا كالزكاة، وكل دية تحملها العاقلة تجب مؤجلة؛ لما ذكرنا، وما لا تحمله العاقلة يجب حالا؛ لأنه بدل مُتلَف، فلزم المتلف حالا كقيم المتلفات، وفارق الذي تحمله العاقلة فإنه يجب مواساة، فألزم التأجيل تخفيفا عَلَى متحمله، وعُدل به عن الأصل فِي التأجيل،

ص: 156

كما عدل به عن الأصل فِي إلزامه غير الجاني. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الحادية عشرة): فِي اختلاف أهل العلم فِي وجوب دية الخطإ عَلَى القاتل:

ذهب مالك، والشافعي، وأحمد إلى أنه لا يلزم القاتل شيء منْ الدية. وَقَالَ أبو حنيفة: هو كواحد منْ العاقلة؛ لأنها وجبت عليهم إعانة له، فلا يزيدون عليه فيها.

واحتجّ الأولون بالحديث المتفق عليه منْ حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى بدية المرأة عَلَى عاقلتها"، وهذا يقتضي أنه قضى بجميعها عليهم، ولأنه قاتل لم تلزمه الدية، فلم يلزمه بعضها، كما لو أمره الإمام بقتل رجل، فقتله يعتقد أنه بحق، فبان مظلوما، ولأن الكفارة تلزم القاتل فِي ماله، وذلك يعدل قسطه منْ الدية، وأكثر منه، فلا حاجة إلى إيجاب شيء منْ الدية عليه. قاله فِي "المغني" 12/ 22.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه الأولون هو الأرجح؛ لظاهر الْحَدِيث المذكور. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية عشرة): فِي اختلاف أهل العلم فِي تغليظ الدية:

قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: ذكر أصحابنا أن الدية تغلظ بثلاثة أشياء، إذا قتل فِي الحرم، والشهور الحرم، وإذا قتل مُحرِما، وَقَدْ نص أحمد رحمه الله عَلَى التغليظ عَلَى منْ قَتل محرما فِي الحرم، وفي الشهر الحرام، فأما إن قتل ذا رحم محرم، فَقَالَ أبو بكر تغلظ ديته، وَقَالَ القاضي: ظاهر كلام أحمد أنها لا تغلظ، وَقَالَ أصحاب الشافعيّ: تغلظ بالحرم، والأشهر الحرم، وذي الرحم المحرم، وفي التغليظ بالإحرام وجهان، وممن رُوي عنه التغليظ: عثمان، وابن عباس، والسعيدان، وعطاء، وطاوس، والشعبي، ومجاهد، وسليمان بن يسار، وجابر بن زيد، وقتادة، والأوزاعي، ومالك، والشافعي، وإسحاق.

واختلف القائلون بالتغليظ فِي صفته، فَقَالَ أصحابنا: تغلظ لكل واحد منْ الحرمات ثلث الدية، فإذا اجتمعت الحرمات الثلاث وجبت ديتان، قَالَ أحمد، فِي رواية ابن منصور، فيمن قتل مُحرما فِي الحرم، وفي الشهر الحرام: فعليه أربعة وعشرون ألفا، وهذا قول التابعين القائلين بالتغليظ. وَقَالَ أصحاب الشافعيّ: صفة التغليظ إيجاب دية العمد فِي الخطإ، لا غير، ولا يتصور التغليظ فِي غير الخطإ، ولا يجمع بين تغليظين، وهذا قول مالك، إلا أنه يُغَلِّظ فِي العمد، فإذا قتل ذا رحم محرم عمدا، فعليه ثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، وتغليظها فِي الذهب والورق، أن ينظر قيمة أسنان الإبل، غير مغلظة، وقيمتها مغلظة، ثم يحكم بزيادة ما بينهما، كأن قيمتها مخففة ستمائة، وفي

ص: 157

العمد ثمانمائة، وذلك ثلث الدية المخففة. وعند مالك تُغَلَّظ عَلَى الأب، والأم، والجد دون غيرهم، واحتجا على صفة التغليظ، بما رُوي عن عمر رضي الله عنه، أنه أخذ منْ قتادة المدلجي دية ابنه حين حذفه بالسيف، ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة، ولم يزد عليه فِي العدد شيئا، وهذه قصة اشتهرت، فلم تُنكَر، فكانت إجماعا، ولأن ما أوجب التغليظ أوجبه فِي الأسنان، دون القدر، كالضمان، ولا يجمع بين تغليظين؛ لأن ما أوجب التغليظ بالضمان إذا اجتمع سببان تداخلا، كالحرم والإحرام فِي قتل الصيد، وعلى أنه لا يغلظ بالإحرام، أن الشرع لم يرد بتغليظه.

واحتج أصحابنا بما رَوَى ابن أبىِ نجيح، أن امرأة وُطِئت فِي الطواف، فقضى عثمان رضي الله عنه فيها بستة آلاف، وألفين تغليظا للحرم، وعن ابن عمر أنه قَالَ: منْ قَتَل فِي الحرم، أو ذا رحم، أو فِي الشهر الحرام، فعليه دية وثلث، وعن ابن عباس: أن رجلا قتل رجلا فِي الشهر الحرام، وفي البلد الحرام، فَقَالَ: ديته اثنا عشر ألفا، وللشهر الحرام أربعة آلاف، وللبلد الحرام أربعة آلاف، وهذا مما يظهر، وينتشر ولم يُنكر، فيثبت إجماعا، وهذا فيه الجمع بين تغليظات ثلاث، ولأنه قول التابعين القائلين بالتغليظ، واحتجوا عَلَى التغليظ فِي العمد، أنه إذا غُلظ الخطأ مع العذر فيه، ففي العمد مع عدم العذر أولى، وكل منْ غَلَّظ الدية أوجب التغليظ فِي بدل الطرف، بهذه الأسباب؛ لأن ما أوجب تغليظ دية النفس، أوجب تغليظ دية الطرف، كالعمد.

وظاهر كلام الخرقي أن الدية لا تغلظ بشيء منْ ذلك، وهو قول الحسن، والشعبي، والنخعي، وأبي حنيفة، والجوزجاني، وابن المنذر، وروي ذلك عن الفقهاء السبعة، وعمر بن عبد العزيز؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"فِي النفس المؤمنة مائة منْ الإبل"، لم يزد عَلَى ذلك، "وعلى أهل الذهب ألف مثقال"، وفي حديث أبي شريح رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وأنتم يا خزاعة قد قتلتم هَذَا القتيل منْ هذيل، وأنا والله عاقله، منْ قتل له قتيل بعد ذلك، فأهله بين خِيرتين: إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا الدية"، وهذا القتل كَانَ بمكة، فِي حرم والله تعالى، فلم يزد النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الدية، ولم يفرق بين الحرم وغيره، وقولُ الله عز وجل:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النِّساء: 92]، يقتضي أن الدية واحدة، فِي كل مكان، وفي كل حال، ولأن عمر رضي الله عنه، أخذ منْ قتادة المدلجي دية ابنه، ولم يزد عَلَى مائة، ورَوَى الجوزجاني بإسناده، عن أبي الزناد، أن عمر بن عبد العزيز، كَانَ يجمع الفقهاء، فكان مما أحيى منْ تلك السنن بقول فقهاء المدينة السبعة، ونظرائهم أن ناسا كانوا يقولون: إن الدية تغلظ فِي الشهر الحرام أربعة آلاف، فتكون ستة عشر ألف درهم،

ص: 158

فألغى عمر رحمه الله ذلك بقول الفقهاء، وأثبتها اثني عشر ألف درهم، فِي الشهر الحرام، والبلد الحرام، وغيرهما، قَالَ ابن المنذر: وليس بثابت ما رُوي عن الصحابة فِي هَذَا، ولو صح فقول عمر يخالفه، وقوله أولى منْ قول منْ خالفه، وهو أصح فِي الرواية، مع موافقته الكتاب والسنة والقياس. انتهى "المغني" 12/ 23 - 26.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الحقّ هو ما ذهب إليه القائلون بعدم مشروعيّة التغليظ، لا فِي المكان، ولا فِي الزمان، وفي الأشخاص؛ لعدم ثبوت ذلك بالأدلة الصحيحة، فليس فِي الكتاب، ولا فِي الأحاديث الصحاح ما يؤيّد ذلك، ولا يوجد هناك إجماعٌ حَتَّى يُتَمَسَّكَ به، فالحق عدم التغليظ، فتبصر بالإنصاف، ولا تَتَهَوَّر بالتقليد والاعتساف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4794 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، خَطَبَ يَوْمَ الْفَتْحِ

مُرْسَلٌ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن إسماعيل": هو المعروف أبوه بابن علية، ثقة حافظ، منْ أفراد المصنّف. و"يونس": هو ابن محمد بن مسلم البغداديّ، أبو محمد المؤدّب، ثقة ثبتٌ، منْ صغار [9] 15/ 1632. و"حماد": هو ابن سلمة.

وقوله: "مرسلٌ": خبر لمحذوف: أي هَذَا الْحَدِيث منْ هَذَا الطريق مرسلٌ، وَقَدْ تقدم أن وصله هو المحفوظ؛ لأنه منْ رواية شعبة، فالحديث صحيحَ، فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌33 - (ذِكْرِ الاِخْتِلَافِ عَلَى خَالِدٍ الْحَذَّاءِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وجه الاختلاف عَلَى خالد أن حماد بن زيد رواه عنه، عن القاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس، عن عبد والله رضي الله عنه، ولم ينسبه إدى

ص: 159

أبيه، وخالفه هشيم، فرواه عنه، عن القاسم، عن عقبة، عن رجل منْ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأبهمه، وخالفهما ابن أبي عديّ، فرواه عنه، عن القاسم، عن عقبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسله، وخالفهم بشر بن المفضل، ويزيد بن زيع، فروياه عنه، عن القاسم، عن يعقوب بن أوس، عن رجل منْ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسميا شيخ القاسم يعقوب، وأبهما الصحابيّ أيضا، ولكن يعقوب هَذَا هو عقبة بن أوس، فيكون الاختلاف فِي الاسم.

هَذَا وَقَدْ وقع فيه خلاف آخر عَلَى القاسم، فرواه عليّ بن زيد بن جُدعان، عنه، عن ابن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهما، ورواه حميد، عن القاسم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسله.

والحقّ أن هَذَا الاختلاف، لا يضر بصحّة الْحَدِيث؛ لإمكان الجمع:

فأما رواية خالد الحذّاء، فيحتمل أن يكون القاسم بن ربيعة سمعه منْ عبد والله بن عمرو، رضي الله تعالى عنهما، ومن عقبة بن أوس، وهو يعقوب بن أوس، عن عبد الله رضي الله عنه، فكان يحدّث به تارةً عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما وتارة عن عقبة، عن عبد الله بن عمرو.

وأما اختلاف الصحابيّ، فلا يضر أيضًا، إذ يحتمل أن يكون القاسم بن ربيعة سمعه منْ كلّ منْ: عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، فرواه عن هَذَا مرّة، وعن هَذَا مرّة. أفاده الحافظ المنذريّ رحمه الله تعالى فِي "مختصر السنن" 6/ 355 - 356.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا عَلَى تقدير صحة الرواية عن ابن عمر، فإن الراوي هو علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، فتكون روايته منكرة، فلا حاجة إلى الجمع، فتنبه. والله تعالى أعلم بالصواب.

4795 -

(أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حَمَّادٌ، عَنْ خَالِدٍ -يَعْنِي الْحَذَّاءَ- عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "أَلَا وَإِنَّ قَتِيلَ الْخَطَإِ، شِبْهِ الْعَمْدِ، مَا كَانَ بِالسَّوْطِ، وَالْعَصَا، مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ، أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"حمّاد": هو ابن زيد.

و"عقبة بن أوس" السَّدُوسيّ البصريّ، ويقال فيه: يعقوب، وقيل: هما أخوان، صدوقٌ [4].

وَقَالَ فِي "تهذيب التهذيب" 3/ 121: رَوَى عن ابن عمرو بن العاص، فِي خطبة يوم

ص: 160

الفتح، وقيل: عن ابن عمر، رَوَى عنه القاسم بن ربيعة، ومحمد بن سيرين، وعلي بن زيد بن جدعان، قَالَ الدوري، عن ابن معين: عقبة بن أوس، هو يعقوب بن أوس. وَقَالَ العجليّ: بصري تابعيّ ثقة. وَقَالَ ابن سعد: كَانَ ثقة، قليل الْحَدِيث. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وزعم خليفة بن خياط: أن عقبة، ويعقوب أَخَوَانِ، ووقع عند ابن أبي خيثمة: عن يعقوب بن أوس، رجل منْ الصحابة، قَالَ: خطب

فذكره، وتعقبه بأن قَالَ: كذا وقع، وليس ليعقوب صحبة، وإنما رواه عن ابن عمرو.

روى له المصنّف، والترمذيّ، وابن ماجه، أخرجوا له هَذَا الْحَدِيث الواحد فقط، واختُلف فيه عَلَى القاسم بن ربيعة، كما بينه المصنّف رحمه الله تعالى فِي هَذَا الباب. والسند مسلسلٌ بثقات البصريين، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

وقوله: "ألا": أداة استفتاح، وتنبيه. وقوله:"إن قتيل الخطإ" عَلَى حذف مضاف: أي إن دية قتيل الخطإ الخ"، ولفظ أبي داود: "ألا إن دية الخطإ، شبه العمد الخ". وقوله:"شبهِ العمد" بالجر عطف بيان لـ"الخطإ"، أو بدل منه. وقوله:"ما كَانَ بالسوط والعصا" خبر لمحذوف: أي هو ما كَانَ الخ، ويحتمل أن يكون بدلاً منْ "الخطإ". وقوله:"مائةٌ منْ الإبل" خبر "إن".

والحديث أخرجه أبو داود فِي "سننه" 4/ 195، فَقَالَ:

4588 -

حدثنا سليمان بن حرب، ومسدد المعمى، قالا: ثنا حماد، عن خالد، عن القاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

قَالَ مسدد: خطب يوم الفتح، ثم اتفقا، فَقَالَ:"ألا إن مَأْثَرَة كانت فِي الجاهلية، منْ دم، أو مال، تُذكُر، وَتُدَّعَى تحت قدميَّ، إلا ما كَانَ منْ سِقاية الحاج، وسِدَانة البيت"، ثم قَالَ:"ألا إن دية الخطإ، شبه العمد، ما كَانَ بالسوط، والعصا، مائة منْ الإبل، منها أربعون فِي بطونها أولادها".

والحديث صحيح، وقدم تقدّم تمام شرحه، وبيان مسائله فِي الباب الماضي، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4796 -

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَامِلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ خَالِدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَقَالَ: "أَلَا وَإِنَّ قَتِيلَ الْخَطَإِ، شِبْهِ الْعَمْدِ، بِالسَّوْطِ، وَالْعَصَا، وَالْحَجَرِ، مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ، فِيهَا أَرْبَعُونَ ثَنِيَّةً، إِلَى بَازِلِ عَامِهَا، كُلُّهُنَّ خَلِفَةٌ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن كامل": هو المروزيّ، ثقة، منْ صغار

ص: 161

[10]

188/ 301 منْ أفراد المصنّف، وأبي داود. و"هُشيم": هو ابن بَشِير الواسطيّ. و"خالد" هو الحذّاء.

وقوله "فيها أربعون ثنيّةً" -بفتح المثلّثة، وكسر النون، وتشديد التحتانيّة-: هي الناقة التي دخلت فِي السنة السادسة. قَالَ الفيّوميّ: الثنيّ منْ الأسنان: جمعها ثنايا، وثَنِيات، وفي الفم أربعٌ، والثنيّ: الجمل يدخل فِي السنة السادسة، والناقة ثنيّة، والثّنيّ أيضًا الذي يُلقي ثنيّته، يكون منْ ذوات الظِّلْف، والحافر فِي السنة الثالثة، ومن ذوات الْخُفّ فِي السنة السادسة، وهو بعد الجذع، والجمع ثِنَاء بالكسر، والمدّ. انتهى.

وقوله: "إلى بازل عامها": متعلقٌ بـ"ثنيّة"، وذلك فِي ابتداء السنة التاسعة، وليس بعده اسم، بل يقال: بازل عام، وبازل عامين. قاله السنديّ. وَقَالَ ابن الأثير: البازل منْ الإبل: الذي أتمّ ثمان سنين، ودخل فِي التاسعة، وحينئذ يطلُع نابه، وتكمل قوّته، ثم يقال له بعد ذلك: بازل عام، وبازل عامين. انتهى "النهاية" 1/ 125.

وَقَالَ فِي "اللسان": يقال للبعير إذا استكمل السنة الثامنة، وطعن فِي التاسعة، وفَطَرَ نابه، فهو حينئذ بازلٌ، وكذلك الأنثى بغير هاء، وهو أقصى أسنان البعير، سُمّي بازلاً منْ البَزْل، وهو الشقّ، وذلك أن نابه إذا طلع يقال له: بازلٌ؛ لشقّه اللحمَ عن مَنبِته شَقّا. قَالَ: والبازل أيضًا اسم السنّ التي تطلع فِي وقت البُزُول، والجمع بوازل، قَالَ القطاميّ [منْ الوافر]:

تَسَمَّعُ مِنْ بَوَازِلِهَا صَرِيفًا

كَمَا صَاحَتْ عَلَى الْخَرِبِ الصِّقَارُ

قَالَ: وَقَدْ يقال: رجل بازلٌ عَلَى التشبيه بالبعير، وربما قالوا ذلك يعنون به كماله فِي عقله، وتجربته، قَالَ الشاعر [منْ الرجز]:

مَا تُنْكِرُ الْحَرْبُ الْعَوَانُ مِنِّي

بَازِلُ عَامَينِ حَدِيثٌ سِنِّي

أي مستجمع الشباب، ومستكمل القوّة. انتهى بتصرّف.

وقوله: "خلِفَة" -بفتح، فكسر: هي الناقة الحاملة إلى نصف أجلها، ثم هي عِشَارٌ. وَقَالَ الفيّوميّ: الْخَلِفة بكسر اللام: هي الحامل منْ النوق، وجمعها مَخَاضٌ، منْ غير لفظها، كما تُجمع المرأة عَلَى النِّساء منْ غير لفظها، وهي اسم فاعل، يقال: خَلِفَتِ خَلَفَا، منْ باب تعب: إذا حمَلَت، فهي خَلِفَةٌ، مثلُ تَعِبَةٍ، وربّما جُمعت عَلَى لفظها، فقيل: خَلِفَاتٌ، وتُحذف الهاء أيضًا، فقيل: خَلِفٌ. انتهى.

وقوله: "مغلّظة": أي ديةٌ مغلّظة، وإنما قَالَ: مغلّظة؛ لأن دية الخطإ مخفّفة، حيث إنها تجب ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقّة، وعشرة بني لبون، كما سيأتي فِي حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، فِي آخر الباب، إن شاء الله تعالى.

ص: 162

والحديث صحيح، وَقَدْ سبق القول فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4797 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ خَالِدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ أَوْسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَلَا إِنَّ قَتِيلَ الْخَطَإِ، قَتِيلَ السَّوْطِ وَالْعَصَا، فِيهِ مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ، مُغَلَّظَةٌ، أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "ابن أبي عديّ": هو محمد بن إبراهيم. و"خالد": هو الحذّاء.

وقوله: "قتيل الخطإ" عَلَى حذف مضاف: أي دية قتيل الخطإ.

والحديث مرسلٌ، وَقَدْ تقدّم أن الموصول أصحّ منه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4798 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ، قَالَ: "أَلَا وَإِنَّ كُلَّ قَتِيلِ خَطَإِ الْعَمْدِ، أَوْ شِبْهِ الْعَمْدِ، قَتِيلِ السَّوْطِ وَالْعَصَا، مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "يعقوب بن أوس": هو عقبة بن أوس المذكور فِي الأسانيد الماضية.

وقوله: "ألا وان كلَّ قتيل خطإ العمد" الواو فيه للعطف، عَلَى مقدّر، فإن الرواية عنده المصنّف مختصرة، وَقَدْ تقدّم مطوّلاً منْ رواية أبي داود التي سبق ذكرها، فقد ذكر فيها قبلها أشياء، فتنبّه.

وقوله: "خطإ العمد" هو بتقدير مضاف: أي خطإ شبه العمد.

وقوله: "أو شبه العمد""أو" فيه للشكّ منْ الراوي.

وقوله: "منها أربعون الخ" فيه تقدير، تدلّ عليه الروايات الماضية: أي مائة منْ الإبل، منها أربعون الخ، ومثل هَذَا فِي الروايتين التاليتين، فلا تغفُل.

والحديث صحيح، كما سبق بيانه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4799 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ أَوْسٍ، أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ، عَامَ الْفَتْحِ قَالَ: "أَلَا وَإِنَّ قَتِيلَ الْخَطَإِ الْعَمْدِ، قَتِيلَ السَّوْطِ وَالْعَصَا، مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا").

ص: 163

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن عبد والله بن بزيع" -بفتح الموحدة، وكسر الزاي-: هو البصريّ الثقة [10] 43/ 588. و"يزيد": هو ابن زُريع البصريّ الثقة الثبت [8] 5/ 5. و"خالد": هو الحذّاء.

والحديث صحيح، كما سبق البحث عنه مستوفًى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4800 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا يَزِيدُ، عَنْ خَالِدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ أَوْسٍ، أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ، قَالَ: "أَلَا وَإِنَّ قَتِيلَ الْخَطَإِ الْعَمْدِ، قَتِيلَ السَّوْطِ وَالْعَصَا، مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه الرواية هي الرواية السابقة سندًا ومتنًا، ولا يظهر فيها فرقٌ كبير، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4801 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُدْعَانَ، سَمِعَهُ مِنَ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، عَلَى دَرَجَةِ الْكَعْبَةِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ، أَلَا إِنَّ قَتِيلَ الْعَمْدِ الْخَطَإِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا، شِبْهِ الْعَمْدِ، فِيهِ مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ، مُغَلَّظَةٌ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ خَلِفَةٌ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن منصور": هو الْجَوّاز المكيّ الثقة [10] منْ أفراد المصنف. و"سفيان": هو ابن عُيينة. و"ابن جُدْعان": هو عليّ بن زيد بن عبد الله بن زُهير بن عبد والله بن جُدعان التيميّ البصريّ، حجازيّ الأصل، وهو المعروف بعليّ بن زيد بن جُدعان، يُنسب أبوه إلى جد جدّه، ضعيف [4] 41/ 3877.

وقوله: "عَلَى دَرَجة الكعبة": قَالَ فِي "اللسان": دَرَجُ البناءِ -أي بفتحتين-، ودُرَّجُهُ -بالتثقيل: أي بضمّ أوله، وتشديد ثانيه-: مراتب بعضها فوق بعض، واحدتها دَرَجَةٌ -أي بفتحات- ودُرَجة، مثلُ هُمزة -أي بضم، ففتح-. انتهى.

وقوله: "فحمد الله، وأثنى عليه"، وفي رواية لأبي داود:"فكبّر ثلاثًا". وقوله: "وَقَالَ: الحمد لله وحده الخ" وفي رواية أبي داود: "ثم قَالَ: لا إله إلا والله وحده الخ".

وقوله: "وهزم الأحزاب": هم الذين تجمّعوا لحرب المسلمين يوم الخندق، ويحتمل أن يكون المراد أحزاب الكفّار، فِي أيّ دهر، وفي أيّ مصر. وقوله:"وحد": أي منْ غير قتال أحد منْ النَّاس، بل أرسل عليهم ريحًا، وجنودًا، لم يرها النَّاس.

وقوله: "ألا إن قتيل العمد الخطإ بالسوط والعصا شبه العمد" هكذا هو فِي هذه

ص: 164

الرواية بتقديم "العمد"، وله وجه، وذلك أن هَذَا القتل وُصف بالوصفين، فإنه بالنظر إلى القصد عمدٌ؛ حيث رماه قاصدًا إياه، وبالنظر إلى الآلة خطأٌ، حيث إنها لا يُقصد بها القتل غالبًا، فإن السوط، والعصا ليست مما يقتل فِي العادة، وإنما يُقصد بها التأديب، ونحوه، فصحّ وصفه بهما باعتبارين. ولفظ ابن ماجه:"ألا إن قتيل الخطإ، قتيلَ السوط والعصا، فيه مائة منْ الإبل"، وهي واضحة.

وقوله: "شبه العمد" بالجرّ بدل منْ "العمد الخطإ".

[تنبيه]: رواية المصنّف رحمه الله تعالى هذه مختصرة، وَقَدْ ساقها الإمام ابن ماجه رحمه الله تعالى فِي "سننه" مطوّلاً، فَقَالَ: 2628 - حدثنا عبد الله بن محمد الزهريّ، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن جدعان، سمعه منْ القاسم بن ربيعة، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام يوم فتح مكة، وهو عَلَى درج الكعبة، فحمد الله، وأثنى عليه، فَقَالَ:"الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا إن قتيل الخطإ، قتيلَ السوط والعصا، فيه مائة منْ الإبل، منها أربعون خَلِفة، فِي بطونها أولادها، ألا إن كل مَأْثَرة كانت فِي الجاهلية، ودَمٍ تحت قدميَّ هاتين، إلا ما كَانَ منْ سِدَانة البيت، وسِقَاية الحاجّ، ألا إني قد أمضيتهما لأهلهما كما كانا".

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا أخرجه المصنّف هنا -33/ 4801 - وفي "الكبرى" 32/ 7002. وأخرجه (ق) فِي "الديات" 2628.

وهو بهذا الإسناد ضعيف؛ لتفرد ابن جُدْعان به، ومخالفته أيوب السختيانيّ، وخالدا الحذّاء، وهما إمامان مشهوران بالحفظ والإتقان، وهو مشهور بالضعف، فتكون روايته منكرة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4802 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "الْخَطَأُ شِبْهُ الْعَمْدِ -يَعْنِي بِالْعَصَا وَالسَّوْطِ- مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "سهل بن يوسف" الأنماطيّ، أبو عبد الرحمن ويقال أبو عبد الله البصريّ، ثقة رُمي بالقدر، منْ كبار [9].

وَقَالَ فِي "تهذيب التهذيب" 2/ 127: رَوَى عن ابن عون، وعبيد والله بن عمر، وعوف الأعرابيّ، وحميد الطويل، وسعيد بن أبي عروبة، وسليمان التيمي، والعوام بن حَوْشَب، وشعبة، والمثنى بن سعيد الطائي، وغيرهم. وعنه أحمد بن حنبل، ويحيى

ص: 165

ابن معين، وبندار، وأبو موسى، وأبو بكر بن أبي شيبة، وقتيبة، ونصر بن علي الجهضمي، والعباس بن يزيد البحراني، وغيرهم. قَالَ الدوري، عن ابن معين: ثقة. وَقَالَ أبو حاتم: لا بأس به. وَقَالَ النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". قَالَ البخاريّ: قَالَ أحمد: سمعت منه سنة مائة وتسعين، ولم أسمع بعدُ منه شيئا، أراه كَانَ قد مات. وفيها أرخه ابن حبّان، وَقَالَ الساجي: صدوق، والذي وَضَعَ منه القَدَرُ. وَقَالَ الدارقطنيّ: ثقة. وَقَالَ الطحاوي، عن إبراهيم بن أبي داود: بصري ثقة. روى له البخاريّ، والأربعة، وله عند المصنّف هَذَا الْحَدِيث فقط.

و"حُميد": هو الطويل.

وقوله: "الخطأ" عَلَى حذف مضاف: أي دية قتل الخطإ. وقوله: "شبه العمد" بالرفع بدل منْ "الخطإ".

والحديث مرسلٌ، وَقَدْ تقدّم موصولاً صحيحًا، فلا تغفُل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4803 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ قُتِلَ خَطَأً، فَدِيَتُهُ مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ: ثَلَاثُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَثَلَاثُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَعَشْرَةٌ بَنِي لَبُونٍ، ذُكُورٍ"، قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُقَوِّمُهَا عَلَى أَهْلِ الْقُرَى، أَرْبَعَمِائَةَ دِينَارٍ، أَوْ عِدْلَهَا مِنَ الْوَرِقِ، وَيُقَوِّمُهَا عَلَى أَهْلِ الإِبِلِ، إِذَا غَلَتْ رَفَعَ فِي قِيمَتِهَا، وَإِذَا هَانَتْ نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا، عَلَى نَحْوِ الزَّمَانِ، مَا كَانَ، فَبَلَغَ قِيمَتُهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَا بَيْنَ الأَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ، إِلَى ثَمَانَمِائَةِ دِينَارٍ، أَوْ عِدْلَهَا مِنَ الْوَرِقِ، قَالَ: وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ مَنْ كَانَ عَقْلُهُ فِي الْبَقَرِ، عَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ، مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وَمَنْ كَانَ عَقْلُهُ فِي الشَّاةِ، أَلْفَيْ شَاةٍ، وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ الْعَقْلَ مِيرَاثٌ بَيْنَ وَرَثَةِ الْقَتِيلِ، عَلَى فَرَائِضِهِمْ، فَمَا فَضَلَ فَلِلْعَصَبَةِ، وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يَعْقِلَ عَلَى الْمَرْأَةِ عَصَبَتُهَا مَنْ كَانُوا، وَلَا يَرِثُونَ مِنْهُ شَيْئًا، إِلاَّ مَا فَضَلَ عَنْ وَرَثَتِهَا، وَإِنْ قُتِلَتْ فَعَقْلُهَا بَيْنَ وَرَثَتِهَا، وَهُمْ يَقْتُلُونَ قَاتِلَهَا).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث ليس مطابقا لهذا الباب، إذ ليس فيه بيان دية شبه العمد، وإنما فيه بيان دية الخطإ، فكان الأولى للمصنّف رحمه الله تعالى أن يذكره تحت الترجمة التالية، لكن جرت له عادة غريبة، وذلك أنه يذكر فِي نهاية بعض الأبواب حديثًا منْ أحاديث الباب الذي يليه، وهذا تقدم له غير مرّة، وَقَدْ نبّهت عليه فِي مواضعه، ولعله يريد بذلك الربط بين البابين، والله تعالى أعلم.

ص: 166

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(أحمد بن سليمان) أبو الحسين الرُّهاويّ الحافظ الثقة [11] 38/ 42 منْ أفراد المصنّف.

2 -

(يزيد بن هارون) أبو خالد الواسطيّ، ثقة متقنٌ عابدٌ [9] 153/ 244.

3 -

(محمد بن راشد) المكحوليّ الْخُزاعيّ، أبو عبد الله، ويقال: أبو يحيى الدمشقيّ، نزيل البصرة، صدوقٌ يهم، ورُمي بالقدر [7].

رَوَى عن مكحول الشاميّ، وليث بن أبي رُقَية، وسليمان بن موسى، وعبد الله بن محمد بن عَقِيل، وعوف الأعرابيّ، ويحيى بن يحيى الغساني، وعمرو بن عبيد، وعبدة ابن أبي لبابة، وعدة.

وعنه الثوري، وشعبة، وهما منْ أقرانه، وابن المبارك، وابن مهدي، والقطان، وزيد بن أبي الزرقاء، والوليد بن مسلم، وبقية بن الوليد، ويزيد بن هارون، ويحيى بن حسان، وحَبّان بن هلال، وخالد بن يزيد السلمي، ومحمد بن بكار بن بلال العاملي، وحفص بن عمر الحوضي، ومسلم بن إبراهيم، وشيبان بن فروخ، وآخرون.

قَالَ ابن المبارك: صدوق اللسان، وأراه اتُّهِم بالقدر. وَقَالَ أحمد، عن أبي النضر، عن شعبة: أما إنه صدوق، ولكنه شيعي، أو قدري، شك أحمد. وَقَالَ أحمد بن أبي ثابت: سُئل عنه أحمد بن حنبل؟ فَقَالَ: ثقة ثقة. قَالَ: قَالَ لنا عبد الرزاق: ما رأيت أحدا أروع فِي الْحَدِيث منه. وَقَالَ أبو طالب، عن أحمد: ثقة سمع منْ مكحول. وَقَالَ إبراهيم بن الجنيد، عن ابن معين: ثقة صدوق. وَقَالَ غير واحد، عن ابن معين: ثقة. وَقَالَ إبراهيم الجوزجاني: كَانَ مشتملا عَلَى غير بدعة، وكان فيما سمعت متحريا للصدق فِي حديثه. وَقَالَ يعقوب بن شيبة: صدوق. وَقَالَ يعقوب بن سفيان: سألت عبد الرحمن بن إبراهيم عنه؟ فَقَالَ: كَانَ يُذكَر بالقدر، إلا أنه مستقيم الْحَدِيث. وَقَالَ أبو حاتم: كَانَ صدوقا، حسن الْحَدِيث. وَقَالَ النسائيّ: ثقة. وَقَالَ فِي موضع آخر: لا بأس به. وَقَالَ فِي موضع آخر: ليس بالقوي. وَقَالَ ابن حبّان: كَانَ منْ أهل الورع، والنسك، ولم يكن الْحَدِيث منْ صنعته، وكثر المناكير فِي روايته، فاستحق الترك. وَقَالَ الدارقطنيّ: يعتبر به. وَقَالَ ابن عدي: يروي عن مكحول أحاديث، وليس برواياته بأس، هاذا حدث عنه بقية، فحديثه مستقيم. وَقَالَ أبو زرعة الدمشقي: بلغني عن أبي مسهر، قَالَ: كَانَ يرى الخروج عَلَى الأئمة. قَالَ أبو زرعة: وحدثني محمد بن العلاء، قَالَ: مات محمد بن راشد بعد سنة ستين ومائة. وَقَالَ ابن الجنيد، عن ابن معين: لم يكن به بأس، وكان يقول بالقدر. وَقَالَ أبو زرعة الدمشقي أيضا: قلت لدحيم يعني

ص: 167

عبد الرحمن بن إبراهيم- ومحمد بن عثمان بن أبي الجماهر: ما تقولان فِي المكحوليّ، فقالا: ثقة، زاد ابن عثمان: وَقَدْ كَانَ يميل إلى هوى، قلت: فأين هو منْ سعيد بن بشير؟ فقدما سعيدا عليه. وَقَالَ محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن ابن المديني: ثقة. وَقَالَ الساجي: صدوق، إنما تكلموا فيه لموضع القدر، لا غير. وَقَالَ ابن خراش: ضعيف الْحَدِيث.

روى له الأربعة، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب حديثان فقط: هَذَا، والحديث الآتي بعد ثلاثة أبواب -37/ 4808 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، مرفوعًا:"عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين، وهم اليهود والنصارى".

4 -

(سُليمان بن موسى) الأمويّ مولاهم، الدمشقيّ الأشدق، صدوقٌ فقيهٌ، فِي حديثه بعض لين، وخُولط قبل موته بقليل [5] 7/ 504.

5 -

(عمرو بن شعيب) بن محمد المدنيّ، أو الطائفي، صدوق [5] 105/ 140.

6 -

(أبوه) شعيب بن محمد بن عبد الله الطائفي، صدوق [3] 105/ 140.

7 -

(جده) عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما 89/ 111. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم موثقون. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، عن جدّه، وتابعي عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ) بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص (عَنْ أَبيهِ) الضمير هنا لعمرو، وأبوه: هو شعيب بن محمد (عَنْ جَدِّهِ) الضمير هنا لشعيب، لا لعمرو، وجدّه: هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ قُتل) بالبناء للمفعول (خَطَأً، فَدِيَتُهُ مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ: ثَلَاثُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ) بنصب "بنت" عَلَى التمييز، وهي التي طعنت فِي الثانية، سُميت بذلك لأن أمها صارت ذات مَخاض بأخرى. قَالَ الفيّوميّ: المخاض بفتح الميم، والكسرُ لغةٌ: وَجَعُ الولادة، ومَخِضت المرأة، وكلُّ حاملٍ، منْ باب تَعِبَ: دنا ولادُها، وأخذها الطلق، فهي ماخضٌ، بغير هاء، وشاة ماخضٌ، ونُوقٌ مُخَّضٌ، ومَوَاخض، فإن أردتَ أنها حاملٌ، قلتَ: نُوقٌ مَخَاضٌ بالفتح، الواحدة خَلِفَةٌ منْ غير لفظها، كما قيل لواحدة الإبل: ناقةٌ،

ص: 168

منْ غير لفظها، وابنُ مخاض: ولدُ الناقة، يأخذ فِي السنة الثانية، والأنثى بنتُ مخاض، والجمع فيهما بنات مخاض، وَقَدْ يقال: ابن المخاض بزيادة اللام، سُمّي بذلك؛ لأن أمه قد ضربها الفحل، فحملت، ولَحِقت بالمخاض، وهن الحوامل، ولا يزال ابن مخاض، حتّى يستكمل السنة الثانية، فإذا دخل فِي الثالثة، فهو ابن لَبُون. انتهى "المصباح المنير".

(وَثَلَاثُونَ بِنْتَ لَبُونٍ) بالنصب، كسابقه، وهي بفتح اللام وهي التي طعنت فِي السنة الثالثة، سُمّيت بذلك؛ لأن أمها ولدت غيرها، فصار لها لبن، والذكر ابن لبون، وجمعهما: بنات لبون (وَثَلَاثُونَ حِقَّةً) بكسر الحاء المهملة، وتشديد القاف: هي التي طعنت فِي السنة الرابعة، وحُقَّ لها أن تُركب، وتُحمل، وجمع الحقّة حِقَقٌ، مثلُ سِدْرة وسِدَر، والذكر حِقٌّ، والجمع حِقاق بالكسر (وَعَشَرَةُ بَنِي لَبُونٍ) بجرّ "بني" بالإضافة؛ لأن تميز العشرة، فما دونها يجب جرّه بالإضافة، كما قَالَ فِي "الخلاصة":

ثَلَاَثةً بِالتَّاءِ قُلْ لِلْعَشَرَة

فِي عَدِّ مَا آحَادُه مُذَكَّرَهْ

فِي الضِّدِّ جَرِّدْ وَالمُمَيِّزَ اجْرُرْ

جَمْعًا بِلَفْظِ قِلَّةٍ فِي الأكْثَرِ

وقوله (ذُكُورٍ) بالجرّ صفة لـ"لبون".

(قَالَ) الراوي، والظاهر أنه عبد الله رضي الله عنه (وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يُقَوِّمُهَا) بتشديد الواو المكسورة، منْ التقويم: أي يجعل قيمة دية الخطإ، يقال: قومت المتاعَ تقويمًا: جعلت له قيمةً معلومةً. قاله الفيّوميّ (عَلَى أَهْلِ الْقُرَى) بالضمّ جمع قرية، وهي الضيعة، وَقَالَ فِي "كفاية المتحفِّظ": القرية كلّ مكان اتّصلت به الأبنية، واتُّخِذ قَرَارًا، وتقع عَلَى المدن وغيرها، والجمع قُرَى عَلَى غير قياس، قَالَ بعضهم؛ لأن ما كَانَ عَلَى فَعْلَة منْ المعتلّ، فبابه أن يُجمع عَلَى فِعَالٍ بالكسر، مثلُ ظبية وظِباء، ورَكْوة ورِكَاء، والنسبة إليها قَرَويّ بفتح الراء، عَلَى غير قياس. انتهى (أَرْبَعَمِائَةَ دِينَارٍ، أَوْ عِدْلَهَا) بفتح العين، وكسرها، قيل: فِي هذه الرواية للأكثر بالفتح: أي مثلها فِي القيمة، قَالَ فِي "القاموس": العدل -أي بفتح، فسكون: المثل، والنظير، كالعدل -أي بكسر، فسكون-، والعَدِيل، جمعه أَعْدالٌ، وعُدلاءُ. انتهى. وَقَالَ فِي "المصباح": عِدل الشيءِ بالكسر مثله منْ جنسه، أو مقدارِهِ، قَالَ ابن فارس: والعِدل: الذي يُعادل فِي الوزن والقدر، وعَدْلُهُ: ما يقوم مقامه منْ غير جنسه، ومنه قوله تعالى:{أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95]، وهو مصدر فِي الأصل، يقال: عدَلتُ بهذا عَدْلاً، منْ باب ضرب: إذا جعلته مثله، قائما مقامه. انتهى (مِنَ الْوَرِقِ) بفتح، فكسر: أي الفضة، وَقَالَ الفيّوميّ: الورق بكسر الراء، والإسكانُ للتخفيف: النُّقرة -أي الفضة- المضروبة، ومنهم منْ

ص: 169

يقول: النُّقْرةُ، مضروبةً كانت، أو غير مضروبةٍ. قَالَ الفارابيّ: الوَرِق: المال، منْ الدراهم، ويُجمع عَلَى أوراق، والرِّقَة، مثلُ عِدَة: مثلُ الورِقِ. انتهى (وَيقَوِّمُهَا) أي يقوّم دية الخطإ (عَلَى أَهْلِ الإبِلِ، إِذَا غَلَتْ) أي الإبل، يعني ارتفع ثمنها، وزاد (رَفَعَ) أي زاد (فِي قِيمَتِهَا، وَإِذَا هَانَتْ) أي رخصت (نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا، عَلَى نَحْوِ الزَّمَانِ) أي عَلَى قيمة الوقت (مَا كَانَ) أي أيّ قدر كَانَ، زائدًا، أو ناقصًا. قَالَ السنديّ: وهذا أن أهل الإبل تؤخذ منهم الإبل بقيمتها فِي ذلك الزمان، وأما أهل القرى، فعليهم مقدارٌ معيّنٌ منْ النقد، يؤخذ عنهم فِي مقابلة الإبل. انتهى (فَبَلَغَ قِيمَتُهَا) أي قيمة إبل الدية (عَلَى عَهْدِ رَسُول صلى الله عليه وسلم، مَا بَيْنَ الْأَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ) هكذا النسخ بإدخال "أل" عَلَى الجزء الأول، وهذا خلاف القاعدة التي ذكرها النحاة، منْ أنه إذا كَانَ العدد مضافًا عرّف المضاف إليه، لا المضاف، فتقول: مائة الدرهم، وألف الدينار، وخمسمائة الألف، وخمسمائة ألف الدينار، وأجاز الكوفيّون تعريف الجزأين، فتقول: الألف الدينار، وإن كَانَ العدد مركبًا عرّفت الأول، فتقول: الأحد عشر درهمًا، وأجاز الأخفش، والكوفيّون تعريف الجزأين أيضًا، فتقول: الأحد العشر درهمًا، وإذا كَانَ معطوفًا عرّفت الجزأين معًا، فتقول: الأحد والعشرون درهمًا، وإلى هذه القاعدة أشار العلامة الأجهوريّ بقوله:

وَعَدّدًا تُرِيدُ أَنْ تُعَرِّفَا

فَـ"ألْ" بِجُزْأَيْهِ صِلَنْ إِنْ عُطِفَا

وإنْ يَكُنْ مَرَكَّبًا فَالأَوَّلُ

وَفِى مُضَافٍ عَكْسُ هَذَا يُفْعَلُ

وَخَالَفَ الْكُوفِيُّ فِي الأَخِيرِ

فَعَرَّفَ الجُزْأَيْنِ يَا سَمِيرِي

قَالَ المحقّق الصبّان: والمراد بالأخير غير الأول، فيشمل الثاني، وهو المركب؛ لأن الكوفيّ خالف فيه أيضًا، وكان الأحسن أن يقول بدل الأخير:

وَخَالَفَ الْكُوفِيُّ فِي هَذَيْنِ

فَفِيهِمَا قَد عَرَّفَ الْجُزْأَيْنِ

ووقع فِي "صحيح البخاريّ" فِي "باب الكفالة فِي القرض والديون": ما نصه: "ثم قَدِمَ الذي كَانَ أسلفه، وأتى بالألف دينار"، فأوله الدَّمَامينيّ بتقدير مضاف، مبدل منْ الْمُعَرَّفِ: أي بالألف، ألف دينار، قَالَ: ولا يقال: إن "أل" زائدة؛ لأن ذلك لا ينقاس. انتهى "شرح الأشموني عَلَى ألفية ابن مالك"، مع "حاشية الصبّان" عليه 1/ 195 - 196.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي وقع فِي رواية المصنّف هنا نظير ما وقع فِي "صحيح البخاريّ"، فيؤوّل بتأويله، فنقول تقديره: ما بين الأربعمائة، أربعمائة دينار". والله تعالى أعلم.

ص: 170

(إِلَى ثَمَانَمِائَةِ دِينَارٍ) يعني أن قيمتها فِي زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تختلف منْ وقت لآخر، إلى أن بلغ تفاوت قيمها منْ أربعمائة دينار، إلى ثمانمائة (أَوْ عِدْلَهَا مِنَ الْوَرِقِ) أي ما يُعادلها منْ الفضة. قَالَ الطيبيّ: وهذا يدلّ عَلَى أن الأصل فِي الدية هو الإبل، فإن أعوزت وجبت قيمتها، بالغةً ما بلغت، كما قاله الشافعيّ فِي الجديد، وأوَّلَ ما رُوي منْ تقدير دراهم ودنانير بأنه تقويم، وتعديل باعتبار ما كَانَ فِي ذلك الزمن، لا مطلقًا. انتهى "المرقاة شرح المشكاة" 7/ 65.

(قَالَ: وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ مَنْ كَانَ عَقْلُهُ فِي الْبَقَرِ) الظاهر أن خبر "أنّ" محذوفٌ: أي يؤدّي منها، يعني أن منْ ليست له إبلٌ، وكانت له بقرٌ، فإنه يؤدّي العقل منْ بقره، وقوله:(عَلَى أَهْلِ البَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ) جملة مستأنفة، أتى بها لبيان مقدار البقر التي تدفع فِي العقل، ثم الرواية بنصب "مائتي بقرة"، والظاهر أنه مفعول لفعل مقدر مع "أن"، تقديره: أن يعطوا مائتي بقرة، وهو فِي تأويل المصدر مبتدأ، خبره الجار والمجرور قبله: تقديره: إعطاء مائتي بقرة كائن عَلَى أهل البقر. والله تعالى أعلم (وَمَنْ كَانَ عَقْلُهُ فِي الشَّاةِ) هكذا النسخ عند المصنّف "فِي الشاة" بالهاء فِي آخره، والظاهر أنه تصحيف منْ "الشاء" بهمز آخر، كما هو فِي "سنن أبي داود"؛ لأن "الشاة" بالهاء للواحدة، وأما الجنس فهو الشاء بالهمز، وهو المناسب هنا، فتنبّه، والله تعالى أعلم (أَلْفَيْ شَاةٍ) بالنصب أيضاً، مفعولٌ لفعل مقدّر: أي أعطى ألفي شاة، ويكون المقدّر جوابًا لـ"منْ"، إن كانت شرطيّة، أو خبرًا لها، إن كانت موصولة.

وحاصل المعنى: أنه صلى الله عليه وسلم وسّع عَلَى القاتل، وأوليائه، حيث لم يُلزمهم بدفع العقل منْ الإبل فقط، بل جوز العقل فِي البقر، والشاء، فمن لم يكن له إبل، وكانت له بقر، أدّى العقل منها، وهي مائتا بقرة، ومن لم يكن له إبلٌ، وكانت له شاء، أدّى العقل منها، ومقدارها ألفا شاة. والله تعالى أعلم.

(وَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ الْعَقْلَ) أي الدية (مِيرَاثٌ) أي موروث (بَيْنَ وَرَثَةِ الْقَتِيلِ) أي المقتول (عَلَى فَرَائِضِهِم) أي عَلَى مقدار أنصبائهم التي قدّرها، وحدّدها لهم الله عز وجل فِي كتابه الكريم (فَمَا فَضَلَ) بفتح الضاد المعجمة، منْ باب قتل: أي بقي، وفي لغة فَضِلَ يفضَلُ، منْ باب تَعِب، وفَضِلَ بالكسر يَفْضُلُ بالضمّ، لغةٌ، ليست بالأصل، ولكنها منْ تداخل اللغتين. قاله فِي "المصباح". والمعنى: أن ما بقي بعد أنصباء أهل الفروض منْ المال (فَـ) هو (لِلْعَصَبَةِ) أي للقرابة الذين ليست لهم فريضة مسمّاة، قَالَ فِي "اللسان" 1/ 605 - : كلّ منْ لم تكن له فريضة مسمّاة، فهو عصبة، إن بقي شيء بعد الفرائض أخذ. قَالَ الأزهريّ: عصبة الرجل أولياؤه الذكور، منْ ورثته، سُمّوا عصبةً؛

ص: 171

لأنهم عَصَبُوا بنسبه: أي استكفّوا به، فالأب طَرَفٌ، والابن طرف، والعمّ جانبٌ، والأخ جانبٌ، والجمع العصبات، والعرب تُسمّي قرابات الرجل: أطرافه، ولَمّا أحاطت به هذه القرابات، وعَصَبَت بنسبه سُمُّوا عَصبَةً، وكلّ شيء استدار بشيء، فقد عصب به. انتهى.

وَقَالَ الفيّوميّ: العَصَبة: القرابة الذكور الذين يُدلون بالذكور، هَذَا معنى ما قاله أهل اللغة، وهو جمع عاصب، مثلُ كفَرَة، جمع كافر، وَقَدْ استعمل الفقهاء العَصَبَة فِي الواحد، إذا لم يكن غيره؛ لأنه قام مقام الجماعة فِي إحراز جميع المال، والشرعُ جعل الأنثى عَصبَةً فِي مسألة الإعتاق، وفي مسألةٍ، منْ المواريث، فقلنا بمقتضاه فِي مورد النصّ، وقلنا فِي غيره: لا تكون المرأة عَصبَةً، لا لغةً، وشرْعًا. انتهى. (وَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يَعْقِلَ) بفتح أوله، وكسر القاف، منْ باب ضرب: أي يدفع الدية (عَلَى الْمَرْأَةِ) الظاهر أن "عَلَى" بمعنى "عن"(عَصَبَتُهَا) فاعل "يعقل": والمعنى أن عصبة المرأة يتحمّلون عنها الدية الواجبة عليها بسبب جنايتها. وقوله: (مَنْ كَانُوا) أي عصبة كانوا، قريبين لها، أو بعيدين عنها (وَلَا يَرِثُونَ مِنْهُا شَيْئًا) أي لا يرث عصبة المرأة التي تحمّلوا عنها العقل منْ مالها شيئًا (إِلَّا مَا فَضَلَ عَنْ وَرَثَتِهَا) المراد بهم أصحاب الفروض.

وحاصل المعنى: أن المرأة إذا جنت بالقتل، فتحمّل عصبتها عقل جنايتها، فدفعوه إلى أولياء منْ قتلته، ثم ماتت القاتلة، فإن عصبتها لا يرثون شيئًا منْ مالها، إلا ما فضل عن أصحاب الفروض، كما كانوا يأخذونه قبل تحمّل الدية.

وإنما بينّ النبيّ صلى الله عليه وسلم هَذَا؛ لأنه ربما يُتوهّم أن العصبة لَمّا تحمّلوا الدية عنها، أنهم الوارثون لمالها؛ لكون دفعوا عنها دية جنايتها، فبيّن صلى الله عليه وسلم أنهم لا يرثون بسبب هَذَا، وإنما الإرث لأصحاب الفروض، فإن بقي بعد فروضهم شيء أخذه العصبة، فهم كحالهم قبل تحمّل الدية، منْ غير فرق. والله تعالى أعلم.

ووقع فِي بعض النسخ بلفظ "ولا يرثون منه شيئا" بضمير المذكّر، والظاهر أن "منها" هو الصواب، وهو الذي وقع فِي النسخة الهنديّة، وذلك لأنه إذا كَانَ بضمير المذكّر يرجع إلى ما سبق إلى العقل الذي دفعوه، وهذا معنى باطل، وإنما المعنى الصحيح أن العصبة لا يرثون منْ مال المرأة التي أدّوا العقل عن جنايتها إذا ماتت بعد ذلك إلا ما فضل منْ ذوي الفروض، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

(وَإِنْ قُتِلَتْ) بالبناء للمجهول: أي قُتلت المرأة خطأ، فوجب لذلك دية (فَعَقْلُهَا) أي ديتها التي وجبت للورثة بسبب قتلها (بَيْنَ وَرَثتِهَا) أي أصحاب الفروض عَلَى قدر ميراثهم، فإن فضل فلعصبتها (وَهُمْ) أي ورثتها (يَقْتُلُونَ قَاتِلَهَا) أي إذا كَانَ عمدًا،

ص: 172

والمعنى أنها إذا قُتلت عمدًا فالورثة هم الذين يستحقّون القصاص، دون العصبة.

[تنبيه]: هَذَا الْحَدِيث ساقه الإمام أحمد فِي "مسنده" مطوّلاً بسند آخر، فَقَالَ:

6994 -

حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، فذكر حديثا، قَالَ ابن إسحاق: وذكر عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن أبيه، عن جده، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منْ قَتَل مؤمنا متعمدا، فإنه يُدفع إلى أولياء القتيل، فإن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا أخذوا الدية، وهي ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، فذلك عقل العمد، وما صالحوا عليه منْ شيء فهو لهم، وذلك شديد العقل، وعقل شبه العمد مغلظة، مثل عقل العمد، ولا يُقتل صاحبه، وذلك أن يَنْزَغَ الشيطانُ بين النَّاس، فتكون دماء، فِي غير ضغينة، ولا حمل سلاح، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ -يعني-: "منْ حمل علينا السلاح فليس منا"، ولا رصد بطريق، فمن قتل عَلَى غير ذلك، فهو شبه العمد، وعقله مغلظة، ولا يقتل صاحبه، وهو بالشهر الحرام، وللحرمة وللجار، ومن قتل خطأ فديته مائة منْ الإبل، ثلاثون ابنة مخاض، وثلاثون ابنة لبون، وثلاثون حقة، وعشر بَكارة بني لبون ذكور، قَالَ: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيمها عَلَى أهل القرى، أربعمائة دينار، أو عدلها منْ الورق، وكان يقيمها عَلَى أثمان الإبل، فإذا غَلَت رفع فِي قيمتها، وإذا هانت نقص منْ قيمتها، عَلَى عهد الزمان ما كَانَ، فبلغت عَلَى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما بين أربعمائة دينار إلى ثمانمائة دينار، وعدلها منْ الورق، ثمانية آلاف درهم، وقضىِ أن منْ كَانَ عقله عَلَى أهل البقر، فِي البقر مائتي بقرة، وقضى أن منْ كَانَ عقله عَلَى أهل الشاء، فألفي شاة، وقضى فِي الأنف إذا جُدع كله بالعقل كاملا، وإذا جدعت أرنبته فنصف العقل، وقضى فِي العين نصف العقل، خمسين منْ الإبل، أو عدلها ذهبا، أو ورقا، أو مائة بقرة، أو ألف شاة، والرجل نصف العقل، واليد نصف العقل، والمأمومة ثلث العقل، ثلاث وثلاثون منْ الإبل، أو قيمتها منْ الذهب، أو الورق، أو البقر، أو الشاء، والجائفة ثلث العقل، والمنقلة خمس عشرة منْ الإبل، والموضحة خمس منْ الإبل، والأسنان خمس منْ الإبل.

قَالَ: وذكر عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قَالَ: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فِي رجل طعن رجلا بقرن فِي رجله، فَقَالَ: يا رسول الله أقدني، فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تعجل حَتَّى يبرأ جرحك"، قَالَ فأبى الرجل إلا أن يستقيد، فأقاده رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، قَالَ: فعَرِج المستقيد، وبرأ المستقاد منه، فأَتَى المستقيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ له: يا رسول الله عَرِجت، وبرأ صاحبي، فَقَالَ له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ألم آمرك ألا تستقيد، حَتَّى يبرأ جرحك، فعصيتني، فأبعدك الله، وبطل جرحك"، ثم أمر

ص: 173

رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد الرجل الذي عرج، منْ كَانَ به جرح، أن لا يستقيد حَتَّى تبرأ جراحته، فإذا برئت جراحته استقاد. انتهى.

وفي إسناده محمد بن إسحاق، وهو مدلّسٌ، ولم يُصرّح بالتحديث، لكن تابعه ببعضه سليمان بن موسى الأشدق عند المصنّف فِي هَذَا الباب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبد الله عمرو رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيحٌ.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وَقَدْ صرح المصنّف بأنه منكر، فَقَالَ فِي "الكبرى" 4/ 234 رقم 7004 - : قَالَ أبو عبد الرحمن: هَذَا حديث منكر، وسليمان بن موسى ليس بالقويّ فِي الْحَدِيث، ولا محمد بن راشد. انتهى.

[قلت]: سليمان بن موسى، ومحمد بن راشد قد وثقهما، وأثنى عليهما كثير منْ الأئمة، بل المصنّف نفسه وثّق محمد بن راشد فِي رواية أخرى، كما سيأتي قريباً، ودونك بعض أقوال الأئمة فيهما:

فأما سليمان بن موسى، فقد وثّقه ابن معين، ودُحيم، وَقَالَ ابن معين ليحيى بن أكثم: سليمان بن موسى ثقة، وحديثه صحيح عندنا. ووقال ابن سعد: كَانَ ثقة، أثنى عليه ابن جريج. وَقَالَ الدارقطنيّ فِي "العلل" منْ الثقات، أثني عليه عطاء، والزهريّ. وَقَالَ أبو حاتم: محله الصدف، وفي حديثه بعض الاضطراب، ولا أعلم أحدًا منْ أصحاب مكحول أفقه منه، ولا أثبت منه. وَقَالَ ابن عديّ: فقيه راو، حدّث عنه الثقات، وهو أحد علماء أهل الشام، وَقَدْ روى أحاديث ينفرد بها، لا يرويها غيره، وهو عندي ثَبْتٌ صدوقٌ. انظر ترجمته فِي "تهذيب التهذيب" 2/ 111 - 112.

وأما محمد بن راشد، فإنما تكلموا فيه للقدر، والتشيّع، وَقَدْ وثقه أحمد، وابن معين، وابن المدينيّ، والنسائيّ فِي رواية عنه، وفي رواية: لا بأس به، وضعّفه هنا، وَقَالَ أبو حاتم: كَانَ صدوقًا، حسن الْحَدِيث. وعن ابن المبارك: صدوق اللسان، اتُّهم بالقدر. وَقَالَ أحمد: ثقة ثقة، قَالَ لنا عبد الرزاق: ما رأيت أحدًا أورع فِي الْحَدِيث منه. وَقَالَ الجوزجاني: وكان فيما سمعت متحرّيا للصدق فِي حديثه. وَقَالَ ابن عديّ: ليس برواياته بأسٌ، وإذا حدّث عنه ثقة، فحديثه مستقيم. وَقَالَ دُحيم: كَانَ يُذكر بالقدر، إلا أنه مستقيم الْحَدِيث. وغير هؤلاء، راجع ترجمته فِي "تهذيب التهذيب" 3/ 559 - 560.

ص: 174

إذا تبيّن لك هَذَا، فاعلم أنهما ثقتان، لا يضرّهما كلام المصنّف هَذَا؛ لمخالفته لأقوال الجمهور، ولاسيما وَقَدْ تابع سليمان محمد بن إسحاق، كما سبق فِي رواية أحمد.

والحاصل أن الْحَدِيث صحيح، وَقَدْ حسنه الشيخ الألباني، والظاهر أنه بسبب الكلام فِي عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، لكن سبق لنا غير مرّة أن هذه الترجمة صحيحة عَلَى الراجح، كما قاله غير واحد منْ المحققين، فالحقّ أن الْحَدِيث صحيح. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -33/ 4803 - وفي "الكبرى" 32/ 7004. وأخرجه (د) فِي "الديات" 4541 و4564 (ق) فِي "الديات" 2630 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 7048. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): بيان مقدار دية قتل الخطإ، وهو مائة منْ الإبل، أرباعًا، كما فُصّل فِي الْحَدِيث، وبهذا قَالَ طاوس، وهو أرجح الأقوال فِي المسألة، وأما قول الخطّابيّ: لا أعلم أحدًا قَالَ بهذا الْحَدِيث منْ الفقهاء، فلعله أراد المتأخرين، وإلا فقد ثبت عن طاوس القول به، كما ذكره ابن قدامة فِي "المغني" 12/ 20 - فتنبّه، وَقَدْ تقدّم البحث عن اختلاف العلماء فِي ذلك مستوفًى فِي الباب الماضي، فلا تغفُل. (ومنها): أن الأصل فِي الدية الإبل، لكن إذا لم توجد، جاز دفع قيمتها، وهي تتفاوت غلاءً، ورخصة، فأقلها أربعمائة دينار، أو عدلها منْ الورق. (ومنها): أن الدية فِي البقر مائتا بقرة، وفي الشاء ألفا شاة. (ومنها): أن الدية موروث لورثة القتيل، كسائر أمواله التي ملكها فِي حياته، فيكون لأصحاب الفروض، ومنهم الزوجان، ثم إذا فضل منه شيء، فللعصبة. (ومنها): أن العصبة هم الذين يتحمّلون العقل، وأنهم لا يستحقّون الإرث بسبب هَذَا التحمل، بل حالهم بعده كحالهم قبله، يرثون ما يبقى بعد أصحاب الفروض. (ومنها): أن القصاص حقّ للورثة، فإن شاءوا اقتصّوا، وإن شاءوا عفوا، ولا حق لغيرهم منْ الأقارب، كالعصبات، إلا إذا فُقد الورثة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 175

‌34 - (ذِكْرِ أَسْنَانِ دِيَةِ الْخَطَإِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الأسنان" -بفتح الهمزة-: جمع سِنّ -بكسر السين المهملة، وتشديد النون-: أي مقدار عمر الإبل التي يجوز أن تُدفع فِي دية قتل الخطإ. والله تعالى أعلم بالصواب

4804 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ خِشْفِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ، يَقُولُ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، دِيَةَ الْخَطَإِ، عِشْرِينَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرِينَ ابْنَ مَخَاضٍ، ذُكُورًا، وَعِشْرِينَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرِينَ جَذَعَةً، وَعِشْرِينَ حِقَّةً).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(عليّ بن سعيد بن مسورق) الكنديّ، أبو الحسن الكوفيّ، صدوقٌ [10].

رَوَى عن حفص بن غياث، وابن المبارك، وعبد الرحيم بن سليمان، ويحيى بن أبي زائدة، وأبي المحياة، يحيى بن يعلى التيمي، وعيسى بن يونس، ومروان بن معاوية، وعلي بن مسهر، وعبد الله بن إدريس، وعدة. رَوَى عنه الترمذيّ، والنسائي، وأبو حاتم، ويعقوب بن سفيان، وابن خزيمة، والحكيم الترمذيّ، وعلي بن العبّاس المعانقي، وأحمد بن يحيى بن زهير، والباغندي، وإسحاق بن إبراهيم بن جميل، وأحمد بن إسحاق بن بهلول التنوخي، وآخرون. قَالَ أبو حاتم: صدوق. وَقَالَ النسائيّ: ثقة، وفي موضع آخر: لا بأس به. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ محمد بن عبد الله الحضرميّ: ثقة، مات فِي جمادى الأولى، سنة (249).

تفرد به المصنّف، والترمذي، وله فِي هَذَا الكتاب ستة أحاديث، هَذَا و40/ 4826 - حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قَالَ: "ضربت امرأة منْ بني لحيان ضرّتها

الْحَدِيث، وفي "كتاب قطع السارق" 2/ 4878 - حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس رجلا بتهمة، ثم خلّى سبيله"، وفيه 6/ 4899 - حديث عائشة رضي الله تعالى عنها:"أن امرأة سرقت عَلَى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .. الْحَدِيث، وفي "كتاب القضاء" 36/ 5427 - حديث ابن أبي مليكة، قَالَ: كانت جاريتان تحرُزان

الْحَدِيث، وفيه 10/ 5561 - حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قَالَ: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خليط التمر، والزبيب، وعن التمر والبسر".

2 -

(يحيى بن زكريّا بن أبي زائدة) الهمدانيّ، أبو سعيد الكوفيّ، ثقة متقنٌ، منْ كبار

ص: 176

[9]

144/ 226.

3 -

(حجّاج) بن أرطاة بن هُبيرة النخعيّ، أبو أرطاة الكوفيّ القاضي، أحد الفقهاء، صدوقٌ، كثير الخطأ، والتدليس [7] 13/ 2127.

4 -

(زيد بن جُبير) بن حرمل -بفتح المهملة، وسكون الراء- الطائيّ الكوفيّ، منْ بني جشم بن معاوية، ثقة [4].

رَوَى عن ابن عمر، وخِشْف بن مالك، وأبي يزيد الضبي، وأبي البختري. وعنه شعبة، والثوري، وزهير بن معاوية، وإسرائيل، وحجاج بن أرطاة، وأبو عوانة. قَالَ أحمد: صالح الْحَدِيث. وَقَالَ إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة. وَقَالَ الدوري: قلت لابن معين: أليس فِي حديثه شيء؟ قَالَ: لا والله، قلت: هو أخو حكيم بن جبير؟ قَالَ: لا والله، ما بينهما قرابة. وَقَالَ ابن أبي مريم، عن ابن معين: ثقة، يروي ستة أحاديث، أو سبعة. وَقَالَ العجليّ: ثقة ليس بتابعي، فِي عداد الشيوخ. وَقَالَ النسائيّ: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات" فِي التابعين. وَقَالَ ابن شاهين فِي "الثقات": قَالَ أحمد: زيد، وحكيم ليسا بأخوين، زيد جُشَمي، وهو أحب إلي منْ آدم بن علي. وَقَالَ ابن أبي حاتم، عن أبيه: صدوق، وفي نسخة: ثقة صدوق.

روى له الجماعة، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب ثلاثة أحاديث: هَذَا، وفي "كتاب الأشربة" 48/ 5698 حديث ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما: أن رجلاً سأل عن الأشربة

الْحَدِيث، و5699: سألت ابن عمر عن الأشربة

الْحَدِيث.

5 -

(خشف -بكسر الخاء، وسكون الشين المعجمتين، آخره فاء- ابن مالك) الطائيّ الكوفيّ، وثّقه النسائيّ والأكثرون عَلَى أنه مجهول [2].

روى عن أبيه، وعمر، وابن مسعود. وعنه زيد بن جُبير الْجُشَميّ. قَالَ النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ الدارقطنيّ فِي "السنن": مجهول، وتبعه البغويّ فِي "المصابيح". وَقَالَ الأزديّ: ليس بذاك. روى له الأربعة، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب حديث الباب فقط.

6 -

(ابن مسعود) عبد الله رضي الله تعالى عنه 35/ 39. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ خِشْفِ) بكسر، فسكون (ابْنِ مَالِكٍ) الطائي، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسعُودٍ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، دِيَةَ الخَطَإِ) أي دية القتل الخطإ (عِشْرِينَ بِنْتَ مَخَاضٍ) تقدم أنها التي أكملت السنة، ودخلت فِي السنة الثانية؛ سُميت بذلك؛ لكون أمها صارت مخاض بأخرى، والمخاض بفتح الميم، وكسرها: وجع الولادة (وَعِشْرِينَ

ص: 177

ابْنَ مَخَاضٍ، ذُكُورًا) صفة كاشفة (وَعِشْرِينَ بنْتَ لَبُونٍ) تقدّم أنها التي أتى عليها حولان، ودخلت فِي السنة الثالثة، سُميت بذلك؛ لكون أمها ذات لبن بأخرى (وَعِشْرِينَ جَذَعَةً) بفتحتين: هي التي طعنت فِي السنة الخامسة، وهي أكبر سنّ يؤخذ فِي الزكاة (وَعِشْرِينَ حِقَّةً) بكسر الحاء المهملة، وتشديد القاف: هي التي طعنت فِي السنة الرابعة، وحُقّ لها أن تُركب، ويُحمل. زاد أبو داود بعد ذكر الْحَدِيث: ما نصّه: "وهو قول عبد الله". يعني أن ابن مسعود رضي الله عنه يقول بهذا الْحَدِيث، وبه يقول أبو حنيفة، وذهب الليث، ومالك، والشافعيّ إلى أن دية الخطإ عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقّة، وعشرون جذعة. وَقَدْ تقدّم تحقيق الخلاف فِي هذه المسألة قبل باب، فلا تنس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن مسعود رضي الله عنه هَذَا ضعيف؛ لضعف حجاج بن أرطاة، قَالَ المصنّف رحمه الله تعالى فِي "الكبرى" 4/ 234 رقم 7005: قَالَ أبو عبد الرحمن: الحجّاج بن أرطاة ضعيفٌ، لا يُحتجّ به. انتهى.

وَقَالَ المنذري رحمه الله تعالى فِي "مختصر السنن" -6/ 349 - 351 - : وأخرجه الترمذيّ، والنسائي، وابن ماجه، وَقَالَ الترمذيّ: لا نعرفه مرفوعا إلا منْ هَذَا الوجه، وَقَدْ روي عن عبد الله موقوفًا. وَقَالَ أبو بكر البزار: وهذا الْحَدِيث لا نعلمه، روي عن عبد الله مرفوعا، إلا بهذا الإسناد، هَذَا آخر كلامه.

وذكر الخطّابيّ أن خِشْف بن مالك مجهول، لا يعرف إلا بهذا الْحَدِيث، وعدل الشافعيّ عن القول به؛ لما ذكرنا منْ العلة فِي رواته، ولأن فيه بني مخاض، ولا مدخل لبني مخاض فِي شيء منْ أسنان الصدقات. وَقَدْ رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي قصة القسامة، أنه وَدَى قتيل خيبر بمائة منْ إبل الصدقة، وليس فِي أسنان الصدقة ابن مخاض.

وَقَالَ الدارقطنيّ: هَذَا حديث ضعيف، غير ثابت عند أهل المعرفة بالحديث، وبسط الكلام فِي ذلك، وَقَالَ: لا نعلمه رواه إلا خِشف بن مالك، عن ابن مسعود، وهو رجل مجهول، لم يرو عنه إلا زيد بن جُبير، ثم قَالَ: لا نعلم أحدا رواه عن زيد بن جبير، إلا حجاج بن أرطاة، والحجاج رجل مشهور بالتدليس، وبأنه يحدث عن منْ لم يَلْقَهُ، ولم يسمع منه، ثم ذكر أنه قد اختُلِف فيه عَلَى الحجاج بن أرطاة.

وَقَالَ البيهقي: وخِشف بن مالك مجهول، واختُلف فيه عَلَى الحجاج بن أرطاة،

ص: 178

والحجاج غير محتج به. والله تعالى أعلم.

وَقَالَ الموصلي: خشف بن مالك ليس بذلك، وذكر له هَذَا الْحَدِيث، وخشف -بكسر الخاء، وسكون الشين المعجمة، وفاء-. انتهى كلام المنذري رحمه الله تعالى.

والحاصل أن الْحَدِيث ضعيفٌ؛ لما ذُكر. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -34/ 4804 - وفِي "الكبرى" 33/ 7005. وأخرجه (د) فِي "الديات" 4545 (ت) فِي "الديات" 1386 (ق) فِي "الديات" 2631 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 4291 (الدارمي) فِي "الديات" 2261.

(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي أسنان إبل الدية:

قَالَ أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله تعالى: اختلف الفقهاء فِي أسنان إبل الدية، فروى أبو داود، منْ حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قضى أن منْ قُتِل خطأ فديته مائة منْ الإبل: ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشر بني لبون.

قَالَ الخطّابيّ: هَذَا الْحَدِيث لا أعرف أحدا قَالَ به منْ الفقهاء، وإنما قَالَ أكثر العلماء: دية الخطإ أخماس، كذا قَالَ أصحاب الرأي، والثوري، وكذلك مالك، وابن سيرين، وأحمد بن حنبل، إلا أنهم اختلفوا فِي الأصناف، قَالَ أصحاب الرأي، وأحمد: خُمُسٌ بنو مخاض، وخُمُس بنات مخاض، وخُمُس بنات لبون، وخُمس حِقَاق، وخمس جِذاع. ورُوي هَذَا القول عن ابن مسعود.

وَقَالَ مالك، والشافعي: خُمُس حِقاق، وخمس جذاع، وخمس بنات لبون، وخمس بنات مخاض، وخمس بنو لبون، وحُكي هَذَا القول عن عمر بن عبد العزيز، وسليمان بن يسار، والزهري، وربيعة، والليث بن سعد.

قَالَ الخطّابيّ: ولأصحاب الرأي فيه أثر، إلا أن راويه عن عبد الله -يعني ابن مسعود- خِشْفُ بنُ مالك، وهو مجهول، لا يعرف إلا بهذا الْحَدِيث، وعَدَل الشافعيّ عن القول به؛ لما ذكرنا منْ العلة فِي راويه، ولأن فيه بني مخاض، ولا مدخل لبني مخاض فِي شيء منْ أسنان الصدقات، وَقَدْ رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي قصة القسامة، أنه وَدَى قتيل خيبر مائة منْ إبل الصدقة، وليس فِي أسنان الصدقة ابن مخاض.

قَالَ أبو عمر: وَقَدْ رَوَى زيد بن جُبير عن خِشْف بن مالك، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعل الدية فِي الخطإ أخماسا، إلا أن هَذَا لم يرفعه إلا خشف ابن مالك الكوفيّ الطائي، وهو مجهول؛ لأنه لم يروه عنه إلا زيد بن جبير بن حَرْمل

ص: 179

الطائي الْجُشَمي، منْ بني جُشَم بن معاوية، أحد ثقات الكوفيين.

قَالَ القرطبيّ: قد ذكر الدارقطنيّ فِي "سننه" حديث خشف بن مالك، منْ رواية حجاج بن أرطاة، عن زيد بن جُبير، عن خِشْف بن مالك، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قَالَ: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فِي دية الخطإ مائة منْ الإبل، منها عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات لبون، وعشرون بنات مخاض، وعشرون بنو مخاض، قَالَ الدارقطنيّ: هَذَا حديث ضعيف، غير ثابت، عند أهل المعرفة بالحديث، منْ وجوه عدة:[أحدها]: أنه مخالف لما رواه أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه بالسند الصحيح، عنه، الذي لا مطعن فيه، ولا تأويل عليه، وأبو عبيدة أعلم بحديث أبيه، وبمذهبه وفتياه، منْ خِشْف بن مالك، ونظرائه، وعبد الله بن مسعود أتقى لربه، وأشح عَلَى دينه، منْ أن يَروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه يقضي بقضاء، ويفتي هو بخلافه، هَذَا لا يتوهم مثله عَلَى عبد الله بن مسعود، وهو القائل فِي مسألةِ وردت عليه، لم يسمع فيها منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، ولم يبلغه عنه فيها قول: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله ورسوله، وإن يكن خطأ فمني، ثم بلغه بعد ذلك أن فتياه فيها وافق قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي مثلها، فرآه أصحابه عند ذلك فرح فرحا شديدا، لم يروه فرح مثله؛ لموافقة فتياه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن كانت هذه صفته، وهذا حاله، فكيف يصح عنه أن يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، ويخالفه.

[ووجه آخر]: وهو أن الخبر المرفوع الذي فيه ذكر بني المخاض، لا نعلمه رواه إلا خشف بن مالك، عن ابن مسعود، وهو رجل مجهول، لم يروه عنه إلا زيد بن جبير بن حرمل الجشمي، وأهل العلم بالحديث، لا يحتجون بخبر ينفرد بروايته رجل غبر معروف، وإنما يثبت العلم عندهم بالخبر، إذا كَانَ راويه عدلا مشهورا، أو رجلا قد ارتفع عنه اسم الجهالة، وارتفاع اسم الجهالة عنه أن يروى عنه رجلان فصاعدا، فإذا كانت هذه صفته، ارتفع عنه حينئذ اسم الجهالة، وصار حينئذ معروفا، فأما منْ لم يرو عنه إلا رجل واحد، وانفرد بخبر، وجب التوقف عن خبره ذلك، حَتَّى يوافقه عليه غيره، والله أعلم.

[ووجه آخر]: وهو أن حديث خشف بن مالك، لا نعلم أحدا رواه عن زيد بن جبير عنه إلا الحجاج بن أرطاة، والحجاج رجل مشهور بالتدليس، وبأنه يحدث عمن لم يلقه، ولم يسمع منه، وترك الرواية عنه سفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد القطّان، وعيسى بن يونس، بعد أن جالسوه وخبروه، وكفاك بهم علما بالرجل ونبلا، وَقَالَ يحيى ابن معين: حجاج بن أرطاة لا يحتج بحديثه. وَقَالَ عبد الله بن إدريس: سمعت الحجاج

ص: 180

يقول: لا ينبل الرجل حَتَّى يدع الصلاة فِي الجماعة. وَقَالَ عيسى بن يونس: سمعت الحجاج يقول: أخرج إلى الصلاة يزاحمني الحمالون والبقالون. وَقَالَ جرير: سمعت الحجاج يقول: أهلكني حب المال والشرف.

وذكر أوجها أخر منها: أن جماعة منْ الثقات رووا هَذَا الْحَدِيث عن الحجاج بن أرطاة، فاختلفوا عليه فيه إلى غير ذلك مما يطول ذكره، وفيما ذكرناه مما ذكروه كفاية، ودلالة عَلَى ضعف ما ذهب إليه الكوفيون فِي الدية، وإن كَانَ ابن المنذر مع جلالته، قد اختاره عَلَى ما يأتي.

ورَوَى حماد بن سلمة، حدثنا سليمان التيمي، عن أبي مِجْلَز، عن أبي عبيدة، أن ابن مسعود قَالَ:"دية الخطإ خمسة أخماس: عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات مخاض، وعشرون بنات لبون، وعشرون بني لبون ذكور"، قَالَ الدارقطنيّ: هَذَا إسناد حسن، ورواته ثقات، وَقَدْ رُوي عن علقمة، عن عبد الله نحو هَذَا.

قَالَ القرطبيّ: وهذا هو مذهب مالك، والشافعي: أن الدية تكون مُخَمَّسة.

قَالَ الخطّابيّ: وَقَدْ رُوي عن نفر منْ العلماء، أنهم قالوا: دية الخطإ أرباع، وهم الشعبي، والنخعي، والحسن البصريّ، وإليه ذهب إسحاق بن راهويه، إلا أنهم قالوا: خمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون بنات لبون، وخمس وعشرون بنات مخاض، وَقَدْ رُوي ذلك عن علي بن أبي طالب.

قَالَ أبو عمر: أما قول مالك، والشافعي، فرُوي عن سليمان بن يسار، وليس فيه عن صحابي شيء، ولكن عليه عمل أهل المدينة، وكذلك حَكَى ابن جريج، عن ابن شهاب. قَالَ القرطبيّ: قد ذكرنا عن ابن مسعود ما يوافق ما صار إليه مالك، والشافعي.

قَالَ أبو عمر: وأسنان الإبل فِي الديات، لم تؤخذ قياسا، ولا نظرا، وإنما أخذت اتّباعا وتسليما، وما أُخذ منْ جهة الأثر، فلا مدخل فيه للنظر، فكلٌّ يقول بما قد صح عنده منْ سدفه رضي الله عنهم أجمعين.

قَالَ القرطبيّ: وأما ما حكاه الخطّابيّ، منْ أنه لا يعلم منْ قَالَ بحديث عمرو بن شعيب، فقد حكاه ابن المنذر، عن طاوس، ومجاهد، إلا أن مجاهدا جعل مكان بنت مخاض ثلاثين جذعة، قَالَ ابن المنذر وبالقول الأول أقول، يريد قول عبد الله، وأصحاب الرأي الذي ضعفه الدارقطنيّ، والخطابي، وابن عبد البر، قَالَ: لأنه الأقل مما قيل، وبحديث مرفوع رويناه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، يوافق هَذَا القول.

قَالَ القرطبيّ: واعجبًا لابن المنذر، مع نقده، واجتهاده، كيف قَالَ بحديث لم يوافقه أهل النقد طى صحته، لكن الذهول والنسيان، قد يعتري الإنسان، وإنما الكمال

ص: 181

لعزة ذي الجلال. انتهى "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 317 - 318.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أرجح الأقوال قول طاوس رحمه الله تعالى، وهو العمل بما دلّ عليه حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه رضي الله عنه، الذي سبق قبل هَذَا الْحَدِيث آخر الباب الماضي، فإنه حديث صحيح، كما سبق بيانه، فتبصّر، ولا تتحيّر.

وهذه المسألة تقدّمت بعينها فِي المسألة العاشرة منْ مسائل الْحَدِيث 4793 - وإنما أعدتها للزيادة والبسط، فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي وجوب دية الخطإ عَلَى العاقلة؟:

قَالَ أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله تعالى: ثبتت الأخبار، عن النبيّ المختار، محمد صلى الله عليه وسلم، أنه قضى بدية الخطإ عَلَى العاقلة، وأجمع أهل العلم عَلَى القول به، وفي إجماع أهل العلم أن الدية فِي الخطإ عَلَى العاقلة، دليل عَلَى أن المراد منْ قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي رِمثَةَ حيث دخل عليه، ومعه ابنه:"إنه لا يجني عليك، ولا تجني عليه"، العمد دون الخطإ.

وأجمعوا عَلَى أن ما زاد عَلَى ثلث الدية عَلَى العاقلة، واختلفوا فِي الثلث، والذي عليه جمهور العلماء أن العاقلة لا تحمل عمدا، ولا اعترافا، ولا صلحا، ولا تحمل منْ دية الخطإ إلا ما جاوز الثلث، وما دون الثلث فِي مال الجاني.

وقالت طائفة عقل الخطإ عَلَى عاقلة الجاني، قَلَّت الجناية أو كثرت؛ لأن منْ غَرِمَ الأكثر غرم الأقل، كما عُقِل العمدُ فِي مال الجاني قل أو كثر، هَذَا قول الشافعيّ. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول بتحميل العاقلة الدية مطلقا، قلت، أو كثُرت هو الأرجح؛ لإطلاق النصوص. والله تعالى أعلم بالصواب.

قَالَ: وحكمها أن تكون منجمة عَلَى العاقلة، والعاقلة العصبة، وليس ولد المرأة إذا كَانَ منْ غير عصبتها منْ العاقلة، ولا الإخوة منْ الأم بعصبة؛ لأخوتهم منْ الأب والأم، فلا يَعقلون عنهم شيئا، وكذلك الديوان لا يكون عاقلة، فِي قول جمهور أهل الحجاز، وَقَالَ الكوفيون يكون عاقلة، إن كَانَ منْ أهل الديوان، فتُنَجَّم الدية عَلَى العاقلة فِي ثلاثة أعوام، عَلَى ما قضاه عمر وعلي؛ لأن الإبل قد تكون حوامل، فتضُرّ به، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يعطيها دَفْعَة واحدة؛ لأغراض، منها: أنه كَانَ يعطيها صلحا وتسديدا، ومنها أنه كَانَ يُعجّلها تأليفا، فلما تمهد الإسلام قدرتها الصحابة عَلَى هَذَا النظام، قاله ابن العربي.

وَقَالَ أبو عمر: أجمع العلماء قديما وحديثا، أن الدية عَلَى العاقلة، لا تكون إلا فِي

ص: 182

ثلاث سنين، ولا تكون فِي أقل منها، وأجمعوا عَلَى أنها عَلَى البالغين منْ الرجال، وأجمع أهل السير والعدم، أن الدية كانت فِي الجاهلية تحملها العاقدة، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي الإسلام، وكانوا يتعاقلون بالنصرة، ثم جاء الإسلام فجرى الأمر عَلَى ذلك، حَتَّى جعل عمر الديوان، واتفق الفقهاء عَلَى رواية ذلك، والقول به، وأجمعوا أنه لم يكن فِي زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا زمن أبي بكر ديوان، وأن عمر جعل الديوان، وجمع بين النَّاس، وجعل أهل كل ناحية يدا، وجعل عليهم قتال منْ يليهم منْ العدو. انتهى "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 320 - 321.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه المسألة أيضا تقدّم البحث عنها، وإنما أعدتها لأجل الزيادة والإيضاح، فتنبه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} : الدية ما يعطى عوضا عن دم القتيل إلى وليه {مُسَلَّمَةٌ} : مدفوعة مؤداة، ولم يعين الله فِي كتابه ما يعطى فِي الدية، وإنما فِي الآية إيجاب الدية مطلقا، وليس فيها إيجابها عَلَى العاقلة، أو عَلَى القاتل، وإنما أُخذ ذلك منْ السنة، ولاشك أن إيجاب المواساة عَلَى العاقلة، خلاف قياس الأصول فِي الغرامات، وضمان المتلفات، والذي وجب عَلَى العاقلة، لم يجب تغليظا، ولا أن وزر القاتل عليهم، ولكنه مواساة محضة، واعتقد أبو حنيفة، أنها بإعتبار النصرة، فأوجبها عَلَى أهل ديوانه. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌35 - (ذِكْرُ الدِّيَةِ مِنَ الْوَرِقِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الوَرِق" -بفتح الواو، وكسر الراء، وتسكّن تخفيفًا-: هي النُّقر -أي الفضّة- المضروبة، وقيل: مطلقًا، أي سواء كانت مضروبةً، أو لا. وقيل: الورق: المال منْ الدراهم، والجمع أوراقٌ، والرِّقَة بالكسر، كالْعِدَة بمعنى الورق. أفاده الفيّوميّ. والله تعالى أعلم بالصواب.

4805 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ مُعَاذِ بْنِ هَانِىءٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ح وَأَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هَانِىءٍ،

ص: 183

قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، دِيَتَهُ اثْنَىْ عَشَرَ أَلْفًا، وَذَكَرَ قَوْلَهُ:{إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 74] فِي أَخْذِهِمُ الدِّيَةَ. وَاللَّفْظُ لأَبِى دَاوُدَ).

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن المثنّى) العنزيّ، أبو موسى الزمن البصريّ، ثقة حافظ [10] 64/ 80.

2 -

(أبو داود) سليمان بن سيف الطائي مولاهم الحراني، ثقة حافظ [11] 103/ 136 منْ أفراد المصنّف.

3 -

(معاذ بن هانىء) القيسيّ، أبو هانىء البصريّ، ثقة، منْ كبار [10] 3/ 4013.

4 -

(محمد بن مسلم) الطائفيّ، واسم جدّه سوس، وقيل: سوسن بزيادة نون فِي آخره، وقيل: بتحتانيّة، بدل الواو فيهما، وقيل: مثلُ حُنين، صدوق يُخطىء [8] 2/ 3948.

5 -

(عمرو بن دينار) الجمحي، أبو محمد المكيّ، ثقة ثبت [4] 112/ 154.

6 -

(عكرمة) مولى ابن عباس البربريّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقة ثبت [3] 2/ 325.

7 -

(ابن عباس) عبد الله رضي الله تعالى عنهما 27/ 31. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلاً) زاد أبو داود منْ طريق زيد بن الحباب، عن محمد بن مسلم:"منْ بني عديّ"(عَلَى عَهدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، دِيَتَهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا) أي منْ الدراهم. قَالَ السنديّ: هَذَا يؤيّد القول أن النقد كَانَ مختلفاً بحسب الأوقات، فإن قيمة الإبل مختلفة بحسب الأوقات. والله تعالى أعلم. انتهى.

وفيه دليل عَلَى أن الدية، منْ الفضة اثنا عشر ألف درهم، قَالَ الخطّابيّ: قَالَ مالك، وأحمد، وإسحاق: إن الدية، إذا كانت نقدا فمن الذهب ألف دينار، ومن الورق اثنا عشر ألفا، ورُوي ذلك عن الحسن البصريّ، وعروة بن الزبير، وعند أبي حنيفة: منْ الذهب ألف دينار، ومن الدراهم عشرة آلاف، وكذلك قَالَ سفيان الثوري، وحُكي ذلك عن ابن شبرمة. انتهى.

(وَذَكَرَ) أي ابن عباس رضي الله تعالى عِنهما (قَوْلَهُ: {إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ

ص: 184

فَضْلِهِ} فِي أَخْذِهِمُ الدِّيَةَ) ولفظ "الكبرى"، و"سنن ابن ماجه":{وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ} والمراد أن الله تعالى أغناهم بشرع الدية، فأخذوها.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي ذُكر فِي هَذَا الْحَدِيث منْ سبب نزول هذه الآية، قد ذكره الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى فِي "تفسيره"، فَقَالَ:

وقوله: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} ذُكر لنا أن المنافق الذي ذكر الله عنه أنه قَالَ كلمة الكفر، كَانَ فقيرا فأغناه والله، بأن قُتل له مولى، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته، فلما قَالَ ما قَالَ، قَالَ الله تعالى:{وَمَا نَقَمُوا} يقول: ما أنكروا عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، إلا أن أغناهم الله ورسوله منْ فضله.

ذِكرُ منْ قَالَ ذلك:

حدثنا ابن وكيع، قَالَ: ثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه:{وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} وكان الجلاس قُتل له مولى له، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته، فاستغنى، فذلك قوله:{وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} . قَالَ: ثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، قَالَ: قضى النبيّ صلى الله عليه وسلم بالدية اثني عشر ألفا، فِي مولى لبني عدي بن كعب، وفيه أنزلت هذه الآية:{وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} . حدثنا بشر، قَالَ: ثنا يزيد، قَالَ ثنا سعيد، عن قتادة:{وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} قَالَ: كانت لعبد الله بن أُبَيّ دية، فأخرجها رسول الله صلى الله عليه وسلم له. حدثني المثنى، قَالَ: ثنا إسحاق، قَالَ: ثنا عبد الله بن الزبير، عن سفيان، قَالَ: ثنا عمرو، قَالَ: سمعت عكرمة، أن مولى لبني عدي بن كعب، قَتل رجلا منْ الأنصار، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية اثني عشر ألفا، وفيه أنزلت:{وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} ، قَالَ عمرو: لم أسمع هَذَا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا منْ عكرمة -يعني الدية اثني عشر ألفا-. حدثنا صالح بن مسمار، قَالَ: ثنا محمد بن سنان الْعَوَفيّ، قَالَ: ثنا محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم جعل الدية اثني عشر ألفا، فذلك قوله:{وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} قَالَ: بأخذ الدية. انتهى "تفسير ابن جرير" 14/ 366 - 367.

وقوله: (وَاللَّفْظُ لِأَبِي دَاوُدَ) يعني أن لفظ الْحَدِيث المذكور لشيخه أبي داود الحرّانيّ، وأما محمد بن المثنّى، فرواه بمعناه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

ص: 185

حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ضعيف، قَالَ المصنّف رحمه الله تعالى فِي "الكبرى" 4/ 235 رقم 7007: قَالَ أبو عبد الرحمن: محمد بن مسلم ليس بالقويّ، والصواب مرسلٌ، وابن ميمون

(1)

ليس بالقويّ. انتهى.

وَقَالَ المنذري رحمه الله تعالى فِي "مختصر السنن" 6/ 351 - 353 - : وأخرجه الترمذيّ مرفوعا ومرسلا، وأخرجه النسائيّ، وابن ماجه مرفوعا، وَقَالَ الترمذيّ: ولا نعلم أحدا يَذكُر فِي هَذَا الْحَدِيث: "عن ابن عباس" غير محمد بن مسلم. هَذَا آخر كلامه. ومحمد بن مسلم هَذَا هو الطائفي، وَقَدْ أخرج له البخاريّ فِي المتابعة، ومسلم فِي الاستشهاد، وَقَالَ يحيى بن معين: ثقة، وَقَالَ مرة: إذا حدث منْ حفظه يخطىء، وإذا حدث منْ كتابه فليس به بأس. وضعفه الإمام أحمد بن حنبل، وذكر أبو داود أن ابن عيينة لم يذكر ابن عباس، وذكر الترمذيّ أنه لا يعلم أحدا ذكر ابن عباس فِي هَذَا الْحَدِيث، غير محمد بن مسلم، وَقَدْ أخرجه النسائيّ عن محمد بن ميمون، عن ابن عيينة، وَقَالَ فيه: سمعناه مرة يقول: "عن ابن عباس"، وأخرجه الدارقطنيّ فِي "سننه" عن أبي محمد بن صاعد، عن محمد بن ميمون، وَقَالَ فيه:"عن ابن عباس"، وَقَالَ الدارقطنيّ: قَالَ محمد بن ميمون: وإنما قَالَ لنا فيه: "عن ابن عباس" مرة واحدة، وأكثر ذلك كَانَ يقول:"عن عكرمة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم". وذكره البيهقي منْ حديث الطائفي موصولا، وَقَالَ: ورواه أيضا سفيان، عن عمرو بن دينار موصولا، ومحمد بن ميمون هَذَا: هو أبو عبد الله المكيّ الخياط، روى عن ابن عيينة وغيره، وَقَالَ النسائيّ: صالح، وَقَالَ أبو حاتم الرازي: كَانَ أميا، مُغَفَّلا، ذُكر لي أنه روى عن أبي سعيد، مولى بني هاشم، عن شعبة حديثا باطلا، وما أُبعِد أن يكون وُضِعَ للشيخ، فإنه كَانَ أميا. انتهى كلام المنذري.

والحاصل أن الْحَدِيث ضعيف؛ لأن الصحيح أنه منْ مرسل عكرمة، ليس فيه ذكر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -35/ 4805 و4806 - وفي "الكبرى" 34/ 7006 و7007. وأخرجه (د) فِي "الديات" 4546 (ت) فِي "الديات" 1388 (ق) فِي "الديات" 2632 و"اللباس" 2629 (الدارمي) فِي "الديات" 2257.

(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي الدية الواجبة عَلَى غير أهل الإبل:

(1)

يعني الأتي فِي السند التالي.

ص: 186

ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن الدية مائة منْ الإبل ووداها صلى الله عليه وسلم فِي عبد الله بن سهل، المقتول بخيبر لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن، فكان ذلك بيانا عَلَى لسان نبيه عليه السلام، لمجمل كتابه، وأجمع أهل العلم عَلَى أن عَلَى أهل الإبل مائةً منْ الإبل، واختلفوا فيما يجب عَلَى غير أهل الإبل، فقالت طائفة: عَلَى أهل الذهب ألف دينار، وهم أهل الشام، ومصر، والمغرب، هَذَا قول مالك، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي، والشافعي فِي أحد قوليه فِي القديم، ورُوي هَذَا عن عُمر، وعروة بن الزبير، وقتادة. وأما أهل الورق فاثنا عشر ألف درهم، وهم أهل العراق، وفارس، وخُرَاسان، هَذَا مذهب مالك، عَلَى ما بلغه عن عمر، أنه قَوّم الدية عَلَى أهل القرى، فجعلها عَلَى أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم، وَقَالَ المزني: قَالَ الشافعيّ: الدية الإبل، فإن أعوزت، فقيمتها بالدراهم والدنانير، عَلَى ما قَوَّمها عمر ألف دينار عَلَى أهل الذهب، واثنا عشر ألف درهم عَلَى أهل الورق.

وَقَالَ أبو حنيفة، وأصحابه، والثوري: الدية منْ الورق عشرة آلاف درهم، رواه الشعبي، عن عَبِيدة، عن عُمر أنه جعل الدية عَلَى أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألف شاة، وعلى أهل الإبل مائة منْ الإبل، وعلى أهل الْحُلَل مائتي حلة، قَالَ أبو عمر، فِي هَذَا الْحَدِيث ما يدل عَلَى أن الدنانير والدراهم صنف منْ أصناف الدية، لا عَلَى وجه البدل والقيمة، وهو الظاهر منْ الْحَدِيث، عن عثمان، وعلي، وابن عباس، وخالف أبو حنيفة ما رواه عن عمر فِي البقر، والشاء، والحلل، وبه قَالَ عطاء، وطاوس، وطائفة منْ التابعين، وهو قول الفقهاء السبعة المدنيين، قَالَ ابن المنذر: وقالت طائفة: دية الحر المسلم مائة منْ الإبل، لا دية غيرها، كما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، هَذَا قول الشافعيّ، وبه قَالَ طاوس، قَالَ ابن المنذر: دية الحر المسلم مائة منْ الإبل، فِي كل زمان، كما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلفت الروايات عن عمر رضي الله عنه، فِي أعداد الدراهم، وما منها شيء يصح عنه؛ لأنها مراسيل، وَقَدْ عرفتك مذهب الشافعيّ، وبه نقول. انتهى "تفسير القرطبيّ" 5/ 316.

وَقَالَ الموفّق فِي "المغني" 12/ 6 عند قول الْخِرَقيّ: "ودية الحرّ المسلم مائة منْ الإبل": ما نصّه: أجمع أهل العلم عَلَى أن الإبل أصل فِي الدية، وأن دية الحر المسلم مائة منْ الإبل، وَقَدْ دلت عليه الأحاديث الواردة، منها: حديث عمرو بن حزم، وحديث عبد الله بن عمرو فِي دية خطإ العمد، وحديث ابن مسعود فِي دية الخطإ. وظاهر كلام الخرقي أن الأصل فِي الدية الإبل، لا غير، وهذا إحدى الروايتين عن

ص: 187

أحمد رحمه الله، ذكر ذلك أبو الخطاب، وهو قول طاوس، والشافعي، وابن المنذر، وَقَالَ القاضي: لا يختلف المذهب أن أصول الدية الإبل، والذهب، والورق، والبقر، والغنم، فهذه خمسة، لا يختلف المذهب فيها، وهذا قول عمر، وعطاء، وطاوس، وفقهاء المدينة السبعة، وبه قَالَ الثوري، وابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد؛ لأن عمرو بن حزم رَوَى فِي كتابه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتب إلى أهل اليمن:"وأن فِي النفس المؤمنة مائةً منْ الإبل، وعلى أهل الورق ألف دينار"، رواه النسائيّ

(1)

. ورَوَى ابن عباس أن رجلا منْ بني عدي قُتِل، فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفا، رواه أبو داود، وابن ماجه. ورَوَى الشعبي أن عمر جعل عَلَى أهل الذهب ألف دينار

(2)

. وعن عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن عمر قام خطيبا، فَقَالَ: ألا إن الإبل قد غَلَت، فقَوَّم عَلَى أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفا، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الْحُلَل مائتي حلة، رواه أبو داود.

واحتجّ الأولون بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ألا إن فِي قتيل عمد الخطإ قتيلِ السوط، والعصا، مائة منْ الإبل"، ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فرق بين دية العمد والخطإ، فغلظ بعضها، وخفف بعضها، ولا يتحقق هَذَا فِي غير الإبل، ولأنه بدل مُتْلَفٍ حَقًّا لآدمي، فكان متعينا كعوض الأموال، وحديث ابن عباس يحتمل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أوجب الورق بدلا عن الإبل، والخلاف فِي كونها أصلاً، وحديث عمرو بن شعيب يدل عَلَى أن الأصل الإبل، فإن إيجابه لهذه المذكورات عَلَى سبيل التقويم لغلاء الإبل، ولو كانت أصولا بنفسها لم يكن إيجابها تقويما للإبل، ولا كَانَ لغلاء الإبل أثر فِي ذلك، ولا لذكره معنى، وَقَدْ رُوي أنه كَانَ يقوم الإبل قبل أن تغلو بثمانية آلاف درهم، ولذلك قيل إن دية الذمي أربعة آلاف درهم، وديته نصف الدية، فكان ذلك أربعة آلاف، حين كانت الدية ثمانية آلاف درهم. انتهى "المغني" 12/ 6 - 7.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه طاوس، والشافعيّ، وابن المنذر، وأحمد فِي إحدى الروايتين عنه منْ أن أصل الدية هي الإبل، وأما غيرها منْ الدنانير، والدراهيم، والبقر، وغيرها فمن باب البدل، إذا عزّت الإبل، أو لم توجد أصلا، فتقوّم بهذه الأشياء بالغة ما بلغت، هو الأرجح؛ لظهور أدلّته، كما سبق تقريره آنفاً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4806 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَيْمُونٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ،

(1)

حديث مشهور سيأتي للمصنف مطوّلاً فِي 46/ 4855 إن شاء الله تعالى.

(2)

الصحيح أنه منْ مرسل عكرمة، وليس فيه ذكر لابن عبّاس، فتنبّه.

ص: 188

سَمِعْنَاهُ مَرَّةً يَقُولُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَضَى بِاثْنَىْ عَشَرَ أَلْفًا -يَعْنِي فِي الدِّيَةِ-).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن ميمون" الخيّاط البزّاز، اْبو عبد الله المكيّ، بغداديّ الأصل، صدوقٌ، ربّما أخطأ [10].

وفي "تهذيب التهذيب": رَوَى عن ابن عيينة، وأبي سعيد مولى بني هاشم، والوليد ابن مسلم، ومعاذ، وشعيب بن حرب، وعبد المجيد بن أبي رَوّاد، ووهب بن جرير بن حازم، ومؤمل بن إسماعيل، وغيرهم. ورَوَى عنه الترمذيّ، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، والبحتري، وابن أبي عاصم، وأبو بشر الدولابي، وزكرياء الساجي، ومحمد بن علي الحكيم، وابن صاعد، والبغوي، وأبو عروبة، وآخرون. قَالَ أبو حاتم: كَانَ أميا مُغَفّلاً، ذُكر لي أنه رَوَى عن أبي سعيد مولى بني هاشم، عن شعبة، حديثا باطلا، وما أُبعِد أن يكون وُضع للشيخ، فإنه كَانَ أميا. وَقَالَ النسائيّ: ليس بالقوي، وَقَالَ فِي "مشيخته": أرجو أن لا يكون به بأس. وَقَالَ مسلمة فِي "الصلة": لا بأس به. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: ربما وهم، ذُكر أنه بغدادي، سكن مكة، قَالَ الدولابي: مات سنة اثنتين وخمسين ومائتين.

تفرّد المصنّف، والترمذي، وابن ماجه، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب حديثان فقط: هَذَا، وفي "كتاب الاستعاذ" 50/ 5515 - حديث أبى هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا: "عُوذوا بالله عز وجل منْ عذاب الله

" الْحَدِيث.

و"سفيان": هو ابن عُيينة. و"عمرو": هو ابن دينار. والحديث مرسل، وَقَدْ تقدّم تمام البحث فيه فِي الْحَدِيث الماضي، فلا تغفُل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌36 - (عَقْلُ الْمَرْأَةِ)

4807 -

(أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "عَقْلُ الْمَرْأَةِ مِثْلُ عَقْلِ الرَّجُلِ، حَتَّى يَبْلُغَ الثُّلُثَ مِنْ دِيَتِهَا").

ص: 189

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(عيسى بن يونس) الفاخوريّ، أبو موسى الرمْليّ، صدوقٌ، ربّما أخطأ [11]، 42/ 3177.

2 -

(ضمرة) بن ربيعة الفلسطينيّ، أبو عبد الله، دمشقيّ الأصل، صدوق، يَهِمُ قليلاً [9] 41/ 2688.

3 -

(إسماعيل بن عيّاش) بن سُليم الْعَنْسيّ -بالنون- أبو عُتبة الحمصيّ، صدوقٌ فِي روايته عن أهل بلده، مُخَلّطٌ فِي غيرهم [8].

رَوَى عن محمد بن زياد الألهاني، وصفوان بن عمرو، وضمضم بن زُرعة، وعبد الرحمن بن جبير بن نفير، والأوزاعي، وأبي وهب الكَلاعي، والزبيدي، وهشام بن الغاز، وأبي بكر بن أبي مريم، وشُرَحبيل بن مسلم، وهو أكبر شيوخه، وبَحِير بن سعد، وثور بن يزيد، وحبيب بن صالح، وعن زيد بن أسلم، ويحيى بن سعيد، وسهيل بن أبي صالح، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وموسى بن عقبة، وهشام بن عروة، وابن جريج، وحَجّاج بن أرطاة، وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم، وصالح بن كيسان، وأبي طُوالة، وخلق منْ أهل الشام، والحجاز، والعراق، وغيرهم.

رَوَى عنه محمد بن إسحاق، وهو أكبر منه، والثوري، والأعمش، وهما منْ شيوخه، والليث بن سعد، وبقية، والوليد بن مسلم، ومعتمر بن سليمان، وهم منْ أقرانه، وابن المبارك، وأبو داود الطيالسي، وحجاج الأعور، وشبابة بن سوار، وغيرهم منْ الكبار، وابنه محمد، وأبو الجماهير، ويحيى بن معين، وأبو عبيد، وعثمان بن أبي شيبة، ويحيى بن يحيى النيسابوري، والحسن بن عَرَفة العبدي، وجماعة.

قَالَ محمد بن مهاجر فِي قصة: كيف أريد أن أكون مثل هَذَا وهذا فقيه يعني إسماعيل- وَقَالَ يزيد بن هارون: رأيت شعبة عند الفَرَج بن فَضَالة يسأله، عن حديث إسماعيل بن عياش. وَقَالَ أبو اليمان: كَانَ يحيى الليل. وَقَالَ عثمان بن صالح السهمي: كَانَ أهل حمص يتنقصون علي بن أبي طالب، حَتَّى نشأ فيهم إسماعيل بن عياش، فحدثهم بفضائله، فَكَفُّوا. وَقَالَ عبد الله بن أحمد: قَالَ أبي لداود بن عمرو، وأنا أسمع: كم كَانَ يحفظ يعني إسماعيل-؟ قَالَ: شيئا كثيرا، قَالَ: كَانَ يحفظ عشرة آلاف، قَالَ: عشرة آلاف، وعشرة آلاف، وعشرة آلاف، فَقَالَ أبي: هَذَا كَانَ مثل وكيع. وَقَالَ الفضل بن زياد، عن أحمد: ليس أحد أروى لحديث الشاميين منْ إسماعيل بن عياش، والوليد بن مسلم. وَقَالَ ابن المديني: رجلان هما صاحبا حديث

ص: 190

بلدهما: إسماعيل بن عياش، وعبد الله بن لهيعة. وَقَالَ أبو اليمان: كَانَ أصحابنا لهم رغبة فِي العلم، وكانوا يقولون: نجهد، ونتعب، ونسافر، فإذا جئنا وجدنا كل ما كتبنا عند إسماعيل بن عياش. وَقَالَ يعقوب بن سفيان: تكلم قوم فِي إسماعيل، وإسماعيل ثقة، عدل، أعلم النَّاس بحديث الشام، وأكثر ما قالوا: يُغرِب عن ثقات المدنيين، والمكيين. وَقَالَ يزيد بن هارون: ما رأيت أحفظ منْ إسماعيل بن عياش، ما أدري ما سفيان الثوري؟ وَقَالَ أبو بكر بن أبي خيثمة: سئل يحيى بن معين عن إسماعيل بن عياش؟ فَقَالَ: ليس به فِي أهل الشام بأس، والعراقيون يكرهون حديثه، قيل ليحيى: أيما أثبت بقية، أو إسماعيل؟ قَالَ: صالحان. وَقَالَ عثمان الدارمي عنه: أرجو أن لا يكون به بأس. وَقَالَ محمد بن عثمان بن أبي شيبة عنه: ثقة فيما رَوَى عن الشاميين، وأما روايته عن أهل الحجاز، فإن كتابه ضاع، فخلط فِي حفظه عنهم. وَقَالَ مضر بن محمد الأسدي عنه: إذا حدث عن الشاميين، وذكر الخبر فحديثه مستقيم، وإذا حدث عن الحجازيين والعراقيين، خَلَّطَ ما شئت. وَقَالَ الدوري عنه: ثقة، وكان أحب إلى أهل الشام منْ بقية، وإسماعيل أحب إليّ منْ فَرَج بن فَضَالة. وَقَالَ عبد الله بن أحمد: سألت يحيى عنه؟ فَقَالَ: إذا حدث عن الثقات، مثل محمد بن زياد، وشُرَحبيل بن مسلم، قلت ليحيى: فيكتب عنه؟ فَقَالَ: نعم سمعت منه شيئا. وَقَالَ أبو بكر المروذي: سألته يعني أحمد؟ فحسن روايته عن الشاميين، وَقَالَ: هو فيهم أحسن حالا مما روى عن المدنيين، وغيرهم. وَقَالَ أبو داود عنه: ما حَدَّث عن مشائخهم، قلت: الشاميين؟ قَالَ: نعم، فأما ما حدث عن غيرهم، فعنده مناكير، وَقَالَ أحمد بن الحسن عنه: إسماعيل أصلح بَدَنًا

(1)

منْ بقية. وَقَالَ عبد الله بن أحمد: سئل أبي عنه؟ فَقَالَ: نظرت فِي كتابه، عن يحيى بن سعيد، أحاديث صحاح، وفي المصنّف يعني مصنف إسماعيل- أحاديث مضطربة، وَقَالَ محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن علي بن المديني: كَانَ يُوَثَّق فيما رَوَى عن أصحابه، أهل الشام، فأما ما روى عن غير أهل الشام، ففيه ضعف. وَقَالَ الفلّاس: نحو ذلك، وَقَالَ أيضا: كَانَ عبد الرحمن لا يحدث عنه، وَقَالَ عبد الله بن علي بن المديني، عن أبيه: ما كَانَ أحد أعدم بحديث أهل الشام منْ إسماعيل، لو ثبت عَلَى حديث أهل الشام، ولكنه خَلط فِي حديثه عن أهل العراق، وحدثنا عنه عبد الرحمن قديما وتركه. وَقَالَ دُحَيم: إسماعيل فِي الشاميين غاية، وخلط عن المدنيين، وكذا قَالَ البخاريّ، والدولابي، ويعقوب بن شيبة. وَقَالَ ابن عدي: إذا

(1)

هكذا عبارة "التهذيبين"، وهي غامضة المعنى، فليُنظر؟.

ص: 191

روى عن الحجازيين، فلا يخلو منْ غلط، إما أن يكون حديثا برأسه، أو مرسلا يوصله، أو موقوفا يرفعه، وحديثه عن الشاميين، إذا روى عنه ثقة، فهو مستقيم، وهو فِي الجملة ممن يكتب حديثه، ويحتج به فِي حديث الشاميين خاصة. وَقَالَ وكيع: أخذ مني أطرافا لإسماعيل بن أبي خالد، فرأيته يخلط فِي أخذه. وَقَالَ الجوزجاني: سألت أبا مسهر عن إسماعيل بن عياش وبقية؟ فَقَالَ كل: منهم كَانَ يأخذ عن غير ثقة، فإذا أخذت حديثهم عن الثقات، فهو ثقة، قَالَ الجوزجاني: أما إسماعيل فما أشبه حديثه بثياب نيسابور، يُرقّم عَلَى الثوب المائة وأقل، وشراءه دون عشرة، وكان أروى النَّاس عن الكذابين، وهو فِي حديث الثقات منْ الشاميين أحمد منه فِي حديث غيرهم. وَقَالَ أبو حاتم: لين يكتب حديثه، لا أعلم أحدا كَفَّ عنه، إلا أبو إسحاق الفزاري. وفي مقدمة "صحيح مسلم"، عن أبي إسحاف الفزاري: اكتُبْ عن بقية ما رَوَى عن المعروفين، ولا تكتب عنه ما رَوَى عن غير المعروفين، ولا تكتب عن إسماعيل ما روى عن المعروفين، ولا غيرهم. وفي كتاب العقيلي عن الفزاري: ذَكَر إسماعيل، فَقَالَ: ذاك رجل لا يدري ما يخرج منْ رأسه. وَقَالَ محمد بن المثنى: ما سمعت عبد الرحمن يحدث عن إسماعيل بن عياش قط. وَقَالَ النسائيّ: صالح فِي حديث أهل الشام. وَقَالَ عبد الله بن أحمد: عرضت عَلَى أبي حديثا حدثناه الفضل بن زياد، ثنا ابن عياش، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، مرفوعا:"لا تقرأ الحائض، ولا الجنب شيئا منْ القرآن"، فَقَالَ أبي: هَذَا باطل، وسئل أبي عن إسماعيل وبقية؟ فَقَالَ: بقية أحب إلي، وَقَالَ أحمد: فِي حديثه عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، مرفوعا: "منْ قاء، أو رَعَف، فأحدث فِي صلاته

" الْحَدِيث: صوابه مرسل. وَقَالَ ابن خزيمة: لا يحتج به. وَقَدْ صحح له الترمذيّ غير ما حديث، عن الشاميين. وَقَالَ ابن المبارك: لا أستحلي حديثه، وضعف روايته عن غير الشاميين أيضا النسائيّ، وأبو أحمد الحاكم، والْبَرْقي، والساجي، وذكره الفسوي فِي "باب منْ يُرغب عن الرواية عنهم"، وَقَالَ أبو داود: بقية أقل مناكير، وإسماعيل أحب إلي منْ فَرَج بن فَضَالة. وَقَالَ الحاكم: هو مع جلالته، إذا انفرد بحديث لم يقبل منه؛ لسوء حفظه. ورُوِي عن علي ابن حجر، أنه قَالَ: ابن عياش حجة، لولا كثرة وهمه. وَقَالَ ابن حبّان: كَانَ إسماعيل منْ الحفاظ المتقنين فِي حديثهم، فلما كبر تغير حفظه، فما حفظ فِي صباه وحداثته أتى به عَلَى جهته، وما حفظ عَلَى الكبر منْ حديث الغرباء، خلط فيه، وأدخل الإسناد فِي الإسناد، وألزق المتن بالمتن، وهو لا يعلم، فمن كَانَ هَذَا نعته، حَتَّى صار الخطأ فِي حديثه يكثر، خرج عن حد الاحتجاج به.

ص: 192

قَالَ محمد بن عون: كَانَ مولده سنة (102) وَقَالَ بقية: وُلد سنة (5) وَقَالَ زيد بن عبد ربه: وُلد سنة (6) وكذا قَالَ ابن عيينة، وأحمد بن حنبل، وَقَالَ أحمد، وجماعة: مات سنة (181) وَقَالَ محمد بن سعد، وخليفة، وأبو عبيد: مات سنة (82) روى له البخاريّ فِي "جزء رفع اليدين"، والأربعة، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط. قَالَ الحافظ: له فِي "البخاريّ" شيء مُعَلق منْ غير أن يصرح به، كقوله فِي "الأذان": ويُذكر عن بلال أنه جعل إصبعيه فِي أذنيه.

4 -

(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقة فقيه، فاضلٌ، إلا أنه يدلس، ويرسل [6] 28/ 32. والباقون تقدموا قبل بابين. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ) شعيب بن محمد بن عبد الله (عَنْ جَدِّهِ) عبد الله بن عمرو بن العاص رضيَ الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الل صلى الله عليه وسلم: "عَقْلُ الْمَرْأَةِ) بفتح العين المهملة، وسكون القاف: أي ديتها، إذا قُتلت خطأ (مِثْلُ عَقْلِ الرَّجُلِ حَتَّى يَبْلُغَ الثُّلُثَ مِنْ دِيَتِهَا) يعني أنها تساوي الرجل فِي الدية فيما إذا لم يبلغ إلى ثلث الدية، فإذا تجاوزت الثلث، وببغ النصفَ، صارت ديتها عَلَى النصف منْ دية الرجل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما هَذَا ضعيف؛ لأنه منْ رواية إسماعيل بن عيّاش، عن ابن جريج، وهو مكيّ، وإسماعيل إذا روى عن غير أهل بلده ضعيف، كما سبق إيضاحه فِي ترجمته آنفًا، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -36/ 4807 - وفي "الكبرى" 35/ 7008. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي أقوال أهل العلم فِي دية المرأة:

قَالَ فِي "المغني" 12/ 56 - : قَالَ ابن المنذر، وابن عبد البرّ رحمهما الله تعالى: أجمع أهل العلم عَلَى أن دية المرأة نصف دية الرجل، وحَكَى غيرهما عن ابن علية، والأصم أنهما قالا: ديتها كدية الرجل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فِي نفس المؤمنة مائة منْ الإبل"، وهذا قول شاذ، يخالف إجماع الصحابة، وسنة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن فِي كتاب عمرو بن حزم:"دية المرأة عَلَى النصف منْ دية الرجل"، وهي أخص مما ذكروه، وهما فِي كتاب

ص: 193

واحد، فيكون ما ذكرنا مُفَسِّرًا لما ذكروه، مُخَصِّصًا له، ودية نساء كل أهل دين عَلَى النصف منْ دية رجالهم. انتهى.

وَقَالَ أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله تعالى: قَالَ أبو عمر: إنما صارت ديتها -والله أعلم- عَلَى النصف منْ دية الرجل منْ أجل أن لها نصف ميراث الرجل، وشهادة امرأتين بشهادة رجل، وهذا إنما فِي دية الخطإ، وأما العمد ففيه القصاص بين الرجال والنساء؛ لقوله عز وجل:{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، وقوله:{الْحُرُّ بِالْحُرِّ} . انتهى "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 325 وهو بحث نفيس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي دية جراح المرأة:

قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: وتُساوي جراح المرأة جراح الرجل إلى ثلث الدية، فإن جاوز الثلث فعلى النصف، ورُوي هَذَا عن عمر، وابن عمر، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، وبه قَالَ سعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، وعروة بن الزبير، والزهري، وقتادة، والأعرج، وربيعة، ومالك. قَالَ ابن عبد البرّ: وهو قول فقهاء المدينة السبعة، وجمهور أهل المدينة، وحُكي عن الشافعيّ فِي القديم.

وَقَالَ الحسن: يستويان إلى النصف، ورُوي عن علي رضي الله عنه: أنها عَلَى النصف فيما قَلّ، وكثر، ورُوي ذلك عن ابن سيرين، وبه قَالَ الثوري، والليث، وابن أبي ليلى، وابن شُبْرُمة، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأبو ثور، والشافعي فِي ظاهر مذهبه، واختاره ابن المنذر؛ لأنهما شخصان تختلف ديتهما، فاختلف أرش أطرافهما، كالمسلم والكافر، ولأنها جناية لها أرش مُقَدَّر، فكان منْ المرأة عَلَى النصف منْ الرجُلِ، كاليد، ورُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قَالَ: تُعاقلُ المرأة الرجل إلى نصف عشر الدية، فإذا زاد عَلَى ذلك، فهي عَلَى النصف؛ لأنها تساويه فِي الموضحة.

واحتجّ الأولون بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه المذكور فِي هَذَا الباب، قَالَ الموفّق: وهو نص، يقدم عَلَى ما سواه.

وَقَالَ ربيعة: قلت لسعيد بن المسيب: كم فِي أصبع المرأة؟ قَالَ: عشر، قلت: ففي أصبعين؟ قَالَ: عشرون، قلت: ففي ثلاث أصابع؟ قَالَ: ثلاثون، قلت: ففي أربع؟ قَالَ: عشرون، قَالَ: قلت: لَمّا عَظُمت مصيبتها قَلَّ عقلها؟ قَالَ: هكذا السنة يا ابن أخي، وهذا مقتضى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه سعيد بن منصور، ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم، إذ لم ينقل عنهم خلاف ذلك، إلا عن علي، ولا نعلم ثبوت ذلك عنه، ولأن ما دون الثلث يستوي فيه الذكر والأنثى، بدليل الجنين، فإنه

ص: 194

يستوي فيه الذكر والأنثى، فأما الثلث نفسه، فهل يستويان فيه عَلَى روايتين، إحداهما: يستويان فيه؛ لأنه لم يعتبر حد القلة، ولهذا صحت الوصية به، وروي أنهما يختلفان فيه، وهو الصحيح؛ لقوله عليه السلام:"حَتَّى يبلغ الثلث"، و"حَتَّى" للغاية، فيجب أن تكون مخالفة لما قبلها؛ لقول الله تعالى:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29]، ولأن الثلث فِي حد الكثرة؛ لقوله عليه السلام:"الثلث، والثلث كثير". انتهى "المغني" 12/ 58.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول بأنها عَلَى النصف فيما قلّ، أو كثر أقرب، كما اختاره ابن المنذر رحمه الله تعالى؛ عملا بما ثبت فِي ديتهما فِي النفس، وأما ما احتجّ به الأولون منْ حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، فقد عرفت أنه لا يصلح؛ لضعفه، فلو كَانَ صحيحاً، لكان أقوى متمسّك فِي المسألة، لكن الحال كما وصفت، وأما دعوى إجماع الصحابة رضي الله عنهم، فغير صحيحة؛ إذ الخلاف قائم، كما عرفت. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌37 - (كَمْ دِيَةُ الْكَافِرِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: المراد بالكافر هنا هو اليهودي، والنصرانيّ، كما هو نص الْحَدِيث، وأما غيرهم منْ الكفّار، فسنذكر دياتهم فِي المسائل، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب.

4808 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، وَذَكَرَ كَلِمَةً، مَعْنَاهَا: عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "عَقْلُ أَهْلِ الذِّمَّةِ، نِصْفُ عَقْلِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمُ الْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمرو بن عليّ": هو الفلّاس. و"عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. ومحمد بن راشد، وسليمان بن موسى تقدّما قبل ثلاثة أبواب، والباقون تقدموا فِي الباب الماضي، وكذا لطائف الإسناد. والله تعالى أعلم.

ص: 195

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ) عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: عَقْلُ أَهْلِ الذِّمَّةِ) أي دية الكافر الذي بينه وبين المسلمين ذمّةٌ: أي عهد (نِصْفُ عَقْلِ المُسْلِمِينَ) أَي نصف ديتهم (وَهُمُ) أي الذمة (الْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى) يعني أن المراد بأهل الذمة هم اليهود والنصارى، وإنما خصّهم بالذكر لأن غيرهم منْ الكفرة تخالف ديتهم ديتهم، فدية المجوسيّ ثمانمائة درهم، وكذلك عبدة الأوثان، ونحوهم، كما سيأتي بيانه قريبًا، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيحٌ.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -37/ 4808 و4809 - وفي " الكبرى" 36/ 7009 و7010. وأخرجه (ق) فِي "الديات" 2644 (أحمد) فِي "مسند المكثرين 6677 و7052. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي دية الكتابيّ:

ذهب عمر بن عبد العزيز، وعروة، ومالك، وعمرو بن شعيب، وأحمد بن حنبل إلى أن دية الحر الكتابي نصف دية الحر المسلم، ونساؤهم عَلَى النصف منْ دياتهم.

وعن أحمد: أنها ثلث دية المسلم، إلا أنه رجع عنها، فإن صالحا رَوَى عنه، أنه قَالَ: كنت أقول: إن دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، وأنا اليوم أذهب إلى نصف دية المسلم، لحديث عمرو بن شعيب، وحديث عثمان الذي يرويه الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، وهذا صريح فِي الرجوع عنه.

ورُوي عن عمر، وعثمان أن ديته أربعة آلاف درهم، وبه قَالَ سعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن، وعكرمة، وعمرو بن دينار، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور؛ لما رَوَى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف"، ورُوي عن عمر رضي الله عنه أنه جعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، ودية المجوسي ثمانمائة درهم، وَقَالَ علقمة، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، والثوري، وأبو حنيفة: ديته كدية المسلم، ورُوي ذلك عن عمر، وعثمان، وابن مسعود، ومعاوية

ص: 196

رضي الله عنهم. وَقَالَ ابن عبد البرّ: هو قول سعيد بن المسيب، والزهري؛ لما رَوَى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "دية اليهودي والنصراني، مثل دية المسلم"، ولأن الله تعالى ذكر فِي كتابه دية المسلم، فَقَالَ:{فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النِّساء: 92]، وَقَالَ فِي الذمي مثل ذلك، ولم يفرق، فدل عَلَى أن ديتهما واحدة، ولأنه ذَكَرٌ حُرٌّ معصوم، فتكمل ديته كالمسلم.

واحتجّ الأولون بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده صلى الله عليه وسلم المذكور فِي هَذَا الباب، ورواه أحمد بلفظ:"دية المعاهد نصف دية المسلم"، وفي لفظ:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قضى أن عقل الكتابي نصف عقل المسلم"، وفي لفظ:"دية المعاهد نصف دية الحر".

قَالَ الخطّابيّ: ليس فِي دية أهل الكتاب شيء أثبت منْ هَذَا، ولا بأس بإسناده، وَقَدْ قَالَ به أحمد، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى.

قَالَ الموفّق: ولأنه نَقْصٌ مؤثر فِي الدية، فأثر فِي تنصيفها كالأنوثة، وأما حديث عبادة، فلم يذكره أهل السنن، والظاهر أنه ليس بصحيح، وأما حديث عمر، فإنما كَانَ ذلك حين كانت الدية ثمانية آلاف، فأوجب فيه نصفها أربعة آلاف، ودليل ذلك ما رَوَى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قَالَ:"كانت قيمة الدية عَلَى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار، وثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب يومئذ النصف"، فهذا بيان، وشرح مزيل للإشكال، ففيه جمع للأحاديث، فيكون دليلا لنا، ولو لم يكن كذلك لكان قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، مقدما عَلَى قول عمر وغيره، بغير إشكال، فقد كَانَ عمر رضي الله عنه إذا بلغه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم سنة، ترك قوله وعمل بها، فكيف يسوغ لأحد أن يحتج بقوله فِي ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما ما احتج به الآخرون، فإن الصحيح منْ حديث عمرو بن شعيب ما رويناه، أخرجه الأئمة فِي كتبهم، دون ما رووه، وأما ما رووه منْ أقوال الصحابة، فقد رُوي عنهم خلافه، فنحمل قولهم فِي إيجاب الدية كاملة عَلَى سبيل التغليظ، قَالَ أحمد: إنما غلظ عثمان الدية عليه؛ لأنه كَانَ عمدا فلما ترك القود، غَلظ عليه، وكذلك حديث معاوية، ومثل هَذَا ما رُوي عن عمر رضي الله عنه، حين انتحر رقيق حاطب ناقة لرجل مزني، فَقَالَ لحاطب: إني أراك تُجيعهم لأُغَرِّمنك غرما يشق عليك، فأغرمه مثلي قيمتها.

قَالَ: فأما ديات نسائهم، فعلى النصف منْ دياتهم، لا نعلم فِي هَذَا خلافا، قَالَ ابن المنذر: أجمع أهل العلم عَلَى أن دية المرأة نصف دية الرجل، ولأنه لما كَانَ دية نساء

ص: 197

المسلم عَلَى النصف منْ دياتهم، كذلك نساء أهل الكتاب عَلَى النصف منْ دياتهم. انتهى كلام الموفّق "المغني" 12/ 51 - 53.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد اتّضح بما ذُكر منْ الأدلّة أن أرجح الأقوال هو القول الأول، وهو أن دية الكتابيّ نصف دية المسلم؛ لصحّة حديث الباب الذي هو نصّ فِي الموضوع، فتبصّر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي دية الكافر غير الكتابيّ:

ذهب أكثر أهل العلم إلى أن دية المجوسي ثمانمائة درهم، ونساؤهم عَلَى النصف، قَالَ الإمام أحمد: ما أقل ما اختُلف فِي دية المجوسي، وممن قَالَ ذلك: عمر، وعثمان، وابن مسعود رضي الله عنهم، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعطاء، وعكرمة، والحسن، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.

ورُوي عن عمر بن عبد العزيز أنه قَالَ: ديته نصف دية المسلم، كدية الكتابي؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"سُنُّوا بهم سنة أهل الكتاب"

(1)

.

وَقَالَ النخعي، والشعبي، وأصحاب الرأي: ديته كدية المسلم؛ لأنه آدمي حر معصوم، فأشبه المسلم.

قَالَ الموفّق: ولنا قول منْ سمينا منْ الصحابة، ولم نَعرِف لهم فِي عصرهم مخالفا، فكان إجماعا، وقوله:"سُنُّوا بهم سنة أهل الكتاب"، يعني فِي أخذ جزيتهم، وحَقْن دمائهم، بدليل أن ذبائحهم، ونساءهم لا تحل لنا، ولا يجوز اعتباره بالمسلم، ولا الكتابي، لنقصان ديته وأحكامه عنهما، فينبغي أن تنقص ديته، كنقص المرأة عن دية الرجل، وسواء كَانَ المجوسي ذميا، أو مستأمنا؛ لأنه محقون الدم، ونساؤهم عَلَى النصف منْ دياتهم بإجماع، وجراح كل واحد معتبرة منْ ديته، وإن قتلوا عمدا أضعفت الدية عَلَى القاتل المسلم؛ لإزالة القود، نص عليه أحمد قياسا عَلَى الكتابي.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الأرجح هو القول الأول، وهو أن دية المجوسيّ ثمانمائة درهم؛ للدليل الذي ذكره الموفّق، وأما حديث:"سُنّوا بهم سنة أهل الكتاب"، فضعيفٌ؛ لأنه منْ رواية محمد بن عليّ الباقر، عن عمر رضي الله عنه، ولم يدركه، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

قَالَ: فأما عبدة الأوثان، وسائر منْ لا كتاب له، كالتُّرك، ومن عبد ما استحسن فلا

(1)

أخرجه مالك فِي "الموطإ" وهو ضعيف؛ للانقطاع فِي سنده. انظر "الإرواء" 5/ 88.

ص: 198

دية لهم، وإنما تحقن دماءهم بالأمان، فإذا قتل منْ له أمان منهم، فديته دية مجوسي؛ لأنها أقل الديات، فلا تنقص عنها، ولأنه كافر ذو عهد، لا تحل مناكحته فأشبه المجوسي.

قَالَ: ومن لم تبلغه الدعوة منْ الكفار، إن وجد لم يجز قتله، حَتَّى يُدعَى، فإن قُتل قبل الدعوة منْ غير أن يُعطَى أمانا، فلا ضمان فيه؛ لأنه لا عهد له، ولا إيمان فأشبه امرأة الحربي، وابنه الصغير، وإنما حرم قتله لتَبْلُغَهُ الدعوة، وهذا قول أبي حنيفة.

وَقَالَ أبو الخطاب: يُضمن بما يُضمن به أهل دينه، وهو مذهب الشافعيّ؛ لأنه محقون الدم، فأشبه منْ له أمان، والأول أولى، فإن هَذَا ينتقض بصبيان أهل الحرب، ومجانينهم، ولأنه كافر لا عهد له، فلم يضمن كالصبيان والمجانين، فأما إذا كَانَ له عهد، فله دية أهل دينه، فإن لم يعرف دينه، ففيه دية المجوسي؛ لأنه اليقين، وما زاد مشكوك فيه. انتهى كلام الموفق رحمه الله تعالى "المغني" 12/ 55 - 56.

وَقَالَ العلّامة الشوكانيّ رحمه الله تعالى بعد أن ذكر الخلاف فِي المسألة: ما حاصله: احتج منْ قَالَ: إن ديته ثلث دية المسلم بفعل عمر المذكور، منْ عدم رفع دية أهل الذمة، وأنها كانت فِي عصره أربعة آلاف درهم، ودية المسلم اثني عشر ألف درهم.

ويجاب عنه بأن فعل عمر ليس بحجة، عَلَى فرض عدم معارضته، لما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف وهو هنا معارض للثابت قولا وفعلا، وتمسكوا فِي جعل دية المجوسي ثلثي عشر دية المسلم بفعل عمر المذكور فِي الباب.

ويجاب عنه بما تقدم، ويمكن الاحتجاج لهم بحديث عقبة بن عامر الذي ذكرناه، فإنه موافق لفعل عمر؛ لأن ذلك المقدار هو ثلثا عشر الدية، إذ هي اثنا عشر ألف درهم، وعشرها اثنا عشر مائة، وثلثا عشرها ثمانمائة، ويجاب بأن إسناده ضعيف كما أسلفنا، فلا يقوم بمثله حجة، لا يقال: إن الرواية بلفظ: "قضى أن عقل أهل الكتابين الخ" مقيدة باليهود والنصارى، والرواية بلفظ:"عقل الكافر نصف دية المسلم" مطلقة، فيحمل المطلق عَلَى المقيد، ويكون المراد بالحديث دية اليهود والنصارى دون المجوس؛ لأنا نقول: لا نسلم صلاحية الرواية الأولى للتقييد، ولا للتخصيص؛ لأن ذلك منْ التنصيص عَلَى بعض أفراد المطلق، أو العام، وما كَانَ كذلك فلا يكون مقيدا لغيره، ولا مخصصا له، ويوضح ذلك أن غاية ما فِي قوله:"عقل أهل الكتابين" أن

ص: 199

يكون مَنْ عداهم بخلافهم؛ لمفهوم اللقب، وهو غير معمول به عند الجمهور، وهو الحق، فلا يصلح لتخصيص قوله صلى الله عليه وآله وسلم:"عقل الكافر نصف دية المسلم"، ولا لتقييده عَلَى فرض الإطلاق، ولاسيما ومخرج اللفظين واحد، والراوي واحد، فإن ذلك يفيد أن أحدهما منْ تصرف الراوي، واللازم الأخذ بما هو مشتمل عَلَى زيادة، فيكون المجوسي داخلا تحت ذلك العموم، وكذلك كل منْ له ذمة منْ الكفار، ولا يخرج عنه إلا منْ لا ذمة له، ولا أمان، ولا عهد منْ المسلمين؛ لأنه مباح الدم، ولو فُرض عدم دخول المجوسي تحت ذلك اللفظ، كَانَ حكمه حكم اليهود والنصارى، والجامع الذمة منْ المسلمين للجميع. ويؤيد ذلك حديث "سُنُّوا بهم سنة أهل الكتاب"

(1)

.

واحتج القائلون بأن دية الذمي كدية المسلم، بعموم قوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النِّساء: 92]، قالوا: وإطلاق الدية يفيد أنها الدية المعهودة، وهي دية المسلم.

ويجاب عنه أَوَّلاً بمنع كون المعهود ههنا هو دية المسلم، لم لا يجوز أن يكون المراد بالدية الدية المتعارفة بين المسلمين لأهل الذمة والمعاهدين، وثانيا بأن هَذَا الإطلاق مقيد بحديث الباب.

واستدلوا ثانيا بما أخرجه الترمذيّ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وَقَالَ: غريب: أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وَدَى العامريين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري، وكان لهما عهد منْ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، لم يشعر به عمرو بدية المسلمين، وبما أخرجه البيهقي عن الزهريّ: أنها كانت دية اليهودي والنصراني فِي زمن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، مثل دية المسلم، وفي زمن أبي بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم، فلما كَانَ معاوية أعطى أهل المقتول النصف، وألقى النصف فِي بيت المال، قَالَ: ثم قضى عمر بن عبد العزيز بالنصف، وألغى ما كَانَ جعل معاوية، وبما أخرجه أيضا عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قَالَ جعل: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دية العامريين دية الحر المسلم، وكان لهما عهد، وأخرج أيضا منْ وجه آخر: أنه صلى الله عليه وآله وسلم جعل دية

(1)

تقدّم أنه ضعيف؛ للانقطاع.

ص: 200

المعاهدين دية المسلم، وأخرج أيضا عن ابن عمر: أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وَدَى ذميا دية مسلم.

ويجاب عن حديث ابن عباس، بأن فِي إسناده أبا سعيد البَقّال، واسمه سعيد بن المَرْزُبان، ولا يحتج بحديثه، والراوي عنه أبو بكر بن عياش، وحديث الزهريّ مرسل، ومراسيله قبيحة؛ لأنه حافظ كبير، لا يرسل إلا لعلة، وحديث ابن عباس الآخر فِي إسناده أيضا أبو سعيد البقال المذكور، وله طريق أخرى فيها الحسن بن عُمارة، وهو متروك، وحديث ابن عمر فِي إسناده أبو كُرْز، وهو أيضا متروك، ومع هذه العلل، فهذه الأحاديث معارضة بحديث الباب، وهو أرجح منها، منْ جهة صحته، وكونه قولا، وهذه فعلٌ، والقول أرجح منْ الفعل.

ولو سلمنا صلاحيتها للاحتجاج، وجعلناها مخصصة لعموم حديث الباب، كَانَ غاية ما فيها إخراج المعاهد، ولا ضير فِي ذلك، فإن بين الذمي والمعاهد فرقا؛ لأن الذمي ذَلَّ، ورضى بما حكم به عليه منْ الذلة، بخلاف المعاهد، فلم يرض بما حكم عليه به منها، فوجب ضمان دمه وماله، الضمانَ الأصليَّ الذي كَانَ بين أهل الكفر، وهو الدية الكاملة التي ورد الإسلام بتقريرها.

ولكنه يعكُر عَلَى هَذَا ما وقع فِي رواية منْ حديث عمرو بن شعيب عند أبي داود، بلفظ:"دية المعاهد نصف دية الحر"، وتخلص عن هَذَا بعض المتأخرين، فَقَالَ: إن لفظ "المعاهد" يُطلق عَلَى الذمي، فيحمل ما وقع فِي حديث عمرو بن شعيب عليه؛ ليحصل الجمع بين الأحاديث، ولا يخفى ما فِي ذلك منْ التكلف، والراجح العمل بالحديث الصحيح، وطرح ما يقابله، مما لا أصل له فِي الصحة، وأما ما ذهب إليه أحمد منْ التفصيل باعتبار العمد والخطإ، فليس عليه دليل. انتهى "نيل الأوطار" 7/ 69 - 71.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن التنصيص الواقع فِي حديث الباب بقوله: "وهم اليهود والنصارى" بعد قوله: "عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين" واضح الدلالة عَلَى أن غير أهل الكتاب منْ الكفار يخالفهم فِي الدية، فحمل قوله فِي الْحَدِيث التالي:"عقل الكافر نصف عقل المؤمن" عَلَى أهل الكتاب هو الأولى، فالأرجح أن دية المجوسي وغيره منْ المعاهدين ثمانمائة درهم، كما أسلفت إيضاحه، فتأمل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4809 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي

ص: 201

أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"عَقْلُ الْكَافِرِ نِصْفُ عَقْلِ الْمُؤْمِنِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أسامة بن زيد": هو الليثيّ مولاهم المدنيّ، صدوقٌ يهم [7] 33/ 2177.

والحديث صحيح، كما سبق بيانه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌38 - (دِيَةُ الْمُكَاتَبِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: يجوز فتح تائه، وكسرها، قَالَ الأزهريّ: الكِتاب، والمكاتبة أن يُكاتب الرجل عبده، أو أمته عَلَى مال مُنَجَّمٍ، ويَكتُب العبد عليه أنه يَعتِقُ إذا أدّى النُّجُوم، وَقَالَ غيره: بمعناه، وتكاتبا كذلك، فالعبد مكاتب بالفتح، اسم مفعول، وبالكسر اسم فاعل لأنه كاتب سيّده، فالفعل منهما، والأصل فِي باب المفاعلة أن يكون منْ اثنين، فصاعدًا، يفعل أحدهما بصاحبه ما يَفعل هو به، وحينئذ فكلُّ واحد فاعل، ومفعولٌ منْ حيث المعنى. ذكر الفيّوميّ. والله تعالى أعلم بالصواب.

4810 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي الْمُكَاتَبِ يُقْتَلُ، بِدِيَةِ الْحُرِّ، عَلَى قَدْرِ مَا أَدَّى).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(وكيع) بن الحرّاح بن مَلِيح، أبو سفيان الرُّؤَاسي الكوفيّ، ثقة ثبت عابد [9] 23/ 25.

2 -

(عليّ بن المبارك) الْهُنَائيّ البصريّ، ثقة، كَانَ له عن يحيى بن أبي كثير كتابان: أحدهما: سماعٌ، والآخر إرسالٌ، فحديث الكوفيين عنه فيه شيءٌ، منْ كبار [7] 28/ 1411.

ص: 202

3 -

(يحيى) بن أبي كثير الطائي مولاهم، أبو نصر اليمامي، ثقة ثبت، لكنه يدلس ويرسل [5] 23/ 24. والباقون تقدموا قبل بابين، وكذا لطائف الإسناد. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: قَضَى) أي حكم (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فِي الْمُكَاتَبِ) تقدم أول الباب أنه يجوز فتح تائه، وكسرها، وقوله:(يُقْتَلُ) بالبناء للمفعول فِي محلّ نصب حال، منْ "المكاتب"، أو فِي محلّ جرّ صفة له، بناء عَلَى أن ما عُرّف بأل"الجنسية" فِي حكم النكرة، كما فِي قول الشاعر [منْ الكامل]:

وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي

فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لَا يَعْنِينِي

(بدِيَةِ الْحُرِّ) متعلّقٌ بـ"قضى"(عَلَى قَدْرِ مَا أَدَّى) بتشديد الدال: أي عَلَى مقدار ما دفعه لسيّده منْ بدل الكتابة.

والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم حكم للمكاتب إذا قُتِل أنه يُعطى دية الحر بقدر ما أدّى منْ مال الكتابة؛ لأنه حر بقدر ذلك، ويُعطى دية العبد بقدر ما بقي، فلو أدّى نصفه مثلاً، يعطى نصف دية الحرّ، ونصف دية العبد. وهذا هو القول الراجح؛ لصحة هَذَا الْحَدِيث فيه، كما سيأتي بيان ذلك فِي المسألة الثالثة، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح.

[فإن قلت]: تقدم الكلام فِي رواية عليّ بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير، إذا روى عنه الكوفيّون، ووكيع كوفيّ، فكيف يصحّ؟.

[قلت]: لم ينفرد عليّ به، بل تابعه عليه معاوية بن سلّام، وحجاج الصوّاف، كما سيأتي قريبًا، وهشام الدستوائيّ فِي "العتق" منْ "الكبرى"، وكذا عند أبي داود، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -38/ 4810 و4811 و4812 و4813 و4814 - وفي "الكبرى" 37/ 7011 و7012 و7013 و7014 و7015. وأخرجه (د) فِي "الديات" 4581 (ت) فِي "البيوع" 1259 (أحمد) فِي "مسند بني هاشم" 1945 و1985 و2352 و2655 و3413 و3479. والله تعالى أعلم.

ص: 203

(المسألة الثالثة): فِي أقوال أهل العلم فِي دية المكاتب:

قَالَ فِي "المغني": قَالَ الخطّابيّ: أجمع عوام الفقهاء، عَلَى أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، فِي جنايته، والجناية عليه، إلا إبراهيم النخعي، فإنه قَالَ فِي المكاتب يُؤدي بقدر ما أدى منْ كتابته دية الحر، وما بقي دية العبد، ورُوي فِي ذلك شيء عن علي رضي الله عنه، وَقَدْ رَوَى أبو داود فِي "سننه"، والإمام أحمد فِي "مسنده"، قَالَ: حدثنا محمد بن عبد الله، ثنا هشام بن أبي عبد الله، قَالَ: حدثني يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قَالَ: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي المكاتب، يُقتل أنه يُودَى

(1)

ما أدى منْ كتابته دية الحر، وما بقي دية العبد"، قَالَ الخطّابيّ: وإذا صح الْحَدِيث وجب القول به، إذا لم يكن منسوخًا، أو معارضا بما هو أولى منه. انتهى "المغني" 12/ 58 - 59.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد صحّ هَذَا الْحَدِيث، ولم يأت ما يُعارضه، ولا ينسخه، ولا أجمع أهل العلم عَلَى خلافه، فوجب القول به، فالحق ما قاله إبراهيم النخعيّ رحمه الله تعالى؛ لأنه المنصوص عديه فِي هَذَا الْحَدِيث الصحيح، فتبصّر، ولا تتحيّر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي دية العبد الذي لم يُكاتب:

قَالَ فِي "المغني": أجمع أهل العلم أن فِي العبد الذي لا تبلغ قيمته دية الحر قِيمَتَهُ، وإن بلغت قيمته ديةَ الحر، أو زادت عديها، فذهب أحمد رحمه الله إلى أن فيه قيمته بالغة ما بلغت، وإن بلغت ديان، عمدا كَانَ القتل، أو خطأ، سواء ضمن باليد، أو بالجناية، وهذا قول سعيد بن المسيب، والحسن، وابن سيرين، وعمر بن عبد العزيز، وإياس بن معاوية، والزهري، ومكحول، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، وأبي يوسف.

وَقَالَ النخعي، والشعبي، والثوري، وأبو حنيفة، ومحمد: لا تُبلغ به دية الحر. وَقَالَ أبو حنيفة: يُنقَص عن دية الحر دينارًا، أو عشرة دراهم، القدر الذي يقطع به السارق، وهذا إذا ضمن بالجناية، وإن ضمن باليد بأن يَغصِب عبدا، فيموت فِي يده، فإن قيمته تجب، وإن زادت عَلَى دية الحر.

واحتجوا بأنه ضمان آدمي، فلم يزد عَلَى دية الحر، كضمان الحر، وذلك لأن الله تعالى لَمّا أوجب فِي الحر دية، لا تزيد، وهو أشرف لخلوصه منْ نقيصة الرق، كَانَ تنبيها عَلَى دية العبد المنقوص، لا يزاد عليها، فنجعل مالية العبد مِعْيَارًا للقدر الواجب

(1)

قوله: "يودى" بالبناء للمفعول: أي يُعطَى الدية.

ص: 204

فيه، ما لم يزد عَلَى الدية، فإذا زاد علمنا خطأ ذلك، فنرده إلى دية الحر، كأرش ما دون الموضحة يجب فيه ما تخرجه الحكومة، ما لم يزد عَلَى أرش الموضحة، فنرده إليها.

وحجة القول الأول أنه مال مُتَقَوَّمٌ، فيُضمن بكمال قيمته، بالغة ما بلغت، كالفرس، أو مضمون بقيمته، فكانت جميع القيمة، كما لو ضمنه باليد، ويخالف الحر، فإنه ليس بمضمون بالقيمة، وإنما ضُمِن بما قدره الشرع، فلم يتجاوزه، ولأن ضمان الحر ليس بضمان مال، ولذلك لم يختلف باختلاف صفاته، وهذا ضمان مال، يزيد بزيادة المالية، وينقص بنقصانها فاختلفا. وَقَدْ حَكَى أبو الخطاب عن أحمد رحمه الله رواية أخرى، أنه لا يبلغ بالعبد دية الحر، والمذهب الأول. انتهى "المغني" 11/ 504 - 505.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: القول الأول، وهو وجوب القيمة، وإن زادت عَلَى دية الحرّ، هو الأرجح عندي؛ لظاهر حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما المذكور فِي الباب، حيث قضى صلى الله عليه وسلم أن يودَى ديّة الحرّ بقدر ما عتق، ودية العبد بقدر ما بقي، ولم يقيّده بأن لا يزيد عَلَى دية الحرّ، فدلّ عَلَى أنه يودَى بقيته بالغةً ما بلغت. ولأنه منْ باب ضمان الأموال المتلفة، وهي إنما تجب قيمتها بالغة ما بلغت، فكذا هَذَا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4811 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّرَائِفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَضَى فِي الْمُكَاتَبِ، أَنْ يُودَى بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهُ دِيَةَ الْحُرِّ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن عبيد الله بن يزيد": هو الشيبانيّ مولاهم، أبو جعفر الحرّانيّ القُرْدُوانيّ القاضي، صدوقٌ فيه لينٌ [11] 51/ 2272 منْ أفراد المصنّف. و"عثمان بن عبد الرحمن الطرائفيّ": هو الحرانيّ، صدوقٌ، أكثرَ الروايةَ عن الضعفاء، والمجاهيل، فضُعّف بسبب ذلك، حَتَّى نسبه ابن نُمير إلى الكذب، وَقَدْ وثّقه ابن معين [9] 51/ 2272.

[تنبيه]: وقع فِي النسخ التي بين يديّ كلها: "الطائفيّ"، وهو تصحيفٌ، والصواب:"الطرائفيّ"، كما فِي "تحفة الأشراف" 5/ 174 وكذا هو فِي كتب الرجال، كـ"التقريب"، و"التهذيب"، وغيرهما، بل ضبطه الخزرجي فِي "الخلاصة" ص 261، فَقَالَ:"الطرائفيّ" بالفاء؛ كَانَ يتبع طرائف الْحَدِيث. انتهى. والله تعالى أعلم.

و"معاوية": هو ابن سلام، أبو سلّام الدمشقيّ، وكان يسكن حمص، ثقة [7] 13/ 1479.

وقوله: "أن يودَى" بالبناء للمفعول: أي يعطى الديةَ. وقوله: "عَتَق" بفتح العين

ص: 205

المهملة، والتاء المثناة الفوقانية، منْ باب ضرب: أي صار حرًّا. وقوله: "ديةَ الحرّ" بالنصب عَلَى أنه مصدر للنوع، قاله السنديّ.

والحديث صحيح، وَقَدْ سبق بيان ذلك فِي الْحَدِيث الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4812 -

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْلَى، عَنِ الْحَجَّاجِ الصَّوَّافِ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي الْمُكَاتَبِ، يُودَى بِقَدْرِ مَا أَدَّى مِنْ مُكَاتَبَتِهِ دِيَةَ الْحُرِّ، وَمَا بَقِيَ دِيَةَ الْعَبْدِ").

قالَ الجامع عفاَ الله تعالى عنه: "محمد بن إسماعيل بن إبراهيم": هو المعروف أبوه بابن عُليّة البصريّ، نزيل دمشق، وقاضيها، ثقة [11] 22/ 489 منْ أفراد المصنّف. و"يعلى": هو ابن عُبيد الطنافسيّ، أبو يوسف الكوفيّ، ثقة، إلا فِي حديثه عن الثوريّ، ففيه لينٌ، منْ كبار [9] 105/ 140. و"الحجاج الصوّاف": هو الحجاج بن أبي عثمان/ ميسرة، أو سالم، أبو الصَّلْت الكِندي مولاهم البصريّ الثقة الحافظ [6] 12/ 790.

والحديث صحيح، وَقَدْ سبق القول فيه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4813 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ النَّقَّاشِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -يَعْنِي ابْنَ هَارُونَ- قَالَ: أَنْبَأَنَا حَمَّادٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ خِلَاسٍ، عَنْ عَلِيٍّ، وَعَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "الْمُكَاتَبُ يَعْتِقُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى، وَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهُ، وَيَرِثُ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن عيسى بن النّقّاش"، أبو جعفر البغداديّ، نزيل دمشق، مقبول [11].

رَوَى عن يزيد بن هارون، وشَبَابة بن سَوّار، ويحيى بن أبي كثير، وعبد الله بن أبي عِلاج، وداود بن مهران الدباغ، ومكي بن إبراهيم. ورَوَى عنه النسائيّ، والحسين بن عبد الله بن يزيد القطّان، وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الملك، وعبد الرحيم بن عمر المازني، والقاسم بن عيسى العصار

(1)

، ومحمد بن إدريس بن الحجاج أبي حماد. تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.

و"حمّاد": هو ابن سلمة. و"خِلاس" بكسر الخاء المعجمة، وتخفيف اللام-: هو ابن عمرو الْهَجَريّ البصريّ، ثقة يرسل، وكان عَلَى شرطة عليّ [2] 46/ 57.

وقوله: "وعن أيوب" -هو السختيانيّ- عطفٌ عَلَى قتادة، فحماد بن سلمة يروي

(1)

هكذا بالصاد المهملة، وفي نسخة "العطّار" بالطاء المهملمة.

ص: 206

الْحَدِيث عن قتادة، عن خلاس، عن عليّ رضي الله عنه، وعن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: طريق عليّ رضي الله عنه أيضاً مرفوع، فقد أخرجه الإمام أحمد رحمه الله تعالى فِي "مسنده"، فَقَالَ:

820 -

حدثنا عفّان، حدثنا وُهيب، حدثنا أيوب، عن عكرمة، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"يُودَى المكاتبُ بقدر ما أدى". انتهى.

وَقَالَ أبو داود فِي "سننه": رواه وُهيبٌ، عن عكرمة، عن عليّ رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأرسله حماد بن زيد، وإسماعيل، عن أيوب، عن عكرمة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وجعله إسماعيل ابن عُليّة قول عكرمة. انتهى.

وقوله: "ويرث بقدر ما عَتَق منه": يعني أنه إذا ثبت للمكاتب دية، أو ميراث، ثبت له منْ الدية، والميراث بحسب ما عتَقَ منه، كما لو أدّى نصف كتابته، ثم مات أبوه، وهو حرّ، ولم يخلُف غيره، فإنه يرث منه نصف ماله، أو كما إذا جُني عَلَى المكاتب جنايةٌ، وَقَدْ أدَّى بعض كتابته، فإن الجاني عليه يدفع إلى ورثته بقدر ما أدّى منْ كتابته دية حرّ، ويدفع إلى مولاه بقدر ما بقي منْ كتابته دية عبد، مثلاً إذا كاتبه عَلَى ألف، وقيمته مائة، فأدّى خمسمائة، ثم قُتل، فلورثة العبد خمسمائة منْ ألف، نصف دية حرّ، ولمولاه خمسون نصف قيمته. كذا فِي "المرقاة". ذكره فِي "عون المعبود" 12/ 259 - 210.

والحديث صحيح، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4814 -

(أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَعَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ مُكَاتَبًا قُتِلَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ أَنْ يُودَى مَا أَدَّى دِيَةَ الْحُرِّ، وَمَا لَا دِيَةَ الْمَمْلُوكِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "القاسم بن زكريا بن دينار": هو أبو محمد الكوفيّ الطحّان، وربما نسب إلى جدّه، ثقة [11] 8/ 410. و"سعيد بن عمرو الأشعثيّ": هو أبو عثمان الكوفيّ، ثقة [10] 54/ 2288.

والحديث صحيح، وَقَدْ سبق تمام البحث فيه قريبا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 207

‌39 - (بَابُ دِيَةِ جَنِينِ الْمَرْأَةِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الجنين" -بفتح الجيم، وكسر النون الأولى: هو الحمل ما دام فِي بطن أمه، والجمع أجنّة، مثلُ دليل وأدلّة، قيل: سُمّي بذلك لاستتاره، فإذا وُلد فهو منفوسٌ. قاله الفيّوميّ.

وَقَالَ فِي "الفتح": الجنين -بجيم، ونونين، وزن عظيم: حمل المرأة ما دام فِي بطنها، سُمي بذلك لاستتاره، فان خرج حيا فهو ولد، أو ميتا فهو سقط، وَقَدْ يطلق عليه جنين، قَالَ الباجي فِي "شرح رجال الموطإ": الجنين ما ألقته المرأة، مما يعرف أنه ولد، سواء كَانَ ذكرا، أو أنثى، ما لم يَستَهِلَّ صارخا. كذا قَالَ. انتهى.

قلت: قد تقدّم أن نظمت الأسماء التي يسمّى بها الإنسان قبل الولادة، وبعدها، فارجع إليها تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب.

4815 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ امْرَأَةً خَذَفَتِ امْرَأَةً، فَأَسْقَطَتْ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي وَلَدِهَا خَمْسِينَ شَاةً، وَنَهَى يَوْمَئِذٍ عَنِ الْخَذْفِ. أَرْسَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(يعقوب بن إبراهيم) الدَّوْرقيّ الحافظ الثقة، أحد مشايخ الأئمة الستّة بلا واسطة [10] 21/ 22.

[تنبيه]: هَذَا الذي ذكرته منْ ترجمة يعقوب المذكور هو عَلَى ما فِي نسخ "المجتبى"، ووقع فِي "الكبرى" بدله:"إبراهيم بن يعقوب"، وهو الذي فِي "تحفة الأشراف" 2/ 93 وهو أبو إسحاق الْجُوزجانيّ، نزيل دمشق، ثقة حافظ، رمي بالنصب [11] 122/ 174.

وكلّ منْ يعقوب، وإبراهيم منْ شيوخ المصنّف، ولعله يروي عنهما هَذَا الْحَدِيث، وكلاهما ثقتان، فلا يضر الاختلاف فيهما، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

2 -

(إبراهيم بن يونس بن محمد) البغداديّ، نزيل طَرَسوس، لقبه حَرَميّ، بلفظ النسبة إلى الحرم، صدوقٌ [11] 54/ 1753 منْ أفراد المصنّف.

3 -

(عبيد الله بن موسى) بن أبي المختار باذام العبسيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقة، يتشيع [9] 72/ 1326.

4 -

(يوسف بن صُهيب) الكنديّ الكوفيّ، ثقة [6] 13/ 13.

ص: 208

5 -

(عبد الله بن بُريدة) أبو سهل الأسلميّ المروزيّ قاضيها، ثقة [3] 25/ 393.

6 -

(أبوه) بُريدةُ بن الحُصيب -بمهملتين مصغّرًا- الأسلميّ الصحابيّ المشهور، أسلم قبل بدر، ومات رضي الله عنه سنة (63هـ) تقدّم 101/ 133. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ) بُريدة بن الْحُصيب رضي الله تعالى عنه (أَنَّ امْرَأَةً خَذَفَتِ امْرَأَةً) بالخاء، والذال المعَجمتين، يقال: خذفت الحصاة، ونحوَها خذْفًا، منْ باب ضرب: إذا رميتها بطرفي الإبهام والسبّابة، وقولهم: يأخذ حصى الخذف: معناه حصى الرمي، والمراد الحصى الصغار، لكنه أُطلق مجازًا. قاله الفيّوميّ. وروي:"حَذَفت" بالحاء المهملة، بدل المعجمة: أي رمتها، والمراد أنها رمتها بحجر (فَأسْقَطَتْ) أي وضعت المرأة المضروبة حملها بسبب الخذف، وفي الرواية التالية:"فأسقطت المخذوفة، فرُفع ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم"(فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فِي وَلَدِهَا) أي حملها الذي ألقته ميتا (خَمْسِينَ شَاةً) هكذا نسخ "المجتبى" بلفظ: "خمسين شاةً"، والذي فِي "الكبرى" 4/ 236 رقم 7016:"خمسائة شاة"، وهو الذي فِي "سنن أبي داود" رقم 4565 (وَنَهَى) صلى الله عليه وسلم (يَوْمَئِذٍ عَنِ الْخَذْفِ) أي الرمي بالحصاة، قَالَ ابن الأثير رحمه الله تعالى: الخذفُ: هو رَميُك حصاةً، أو نواةً، تأخذها بين سبّابتيك، وترمي بها، أو تتخذ مِخْذ منْ خشب، ثم ترمي بها الحصاة بين إبهامك والسبّابة. انتهى "النهاية" 2/ 16. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث بُريدة بن الحصيب رضي الله عنه هَذَا صحيح الإسناد، إلا أن الظاهر أن متنه لا يصح؛ لمخالفته الأحاديث الصحيحة التي فيها أنه صلى الله عليه وسلم قضى للجنين بغرة عبد أو أمة، كما سيأتي فِي الأحاديث المذكورة بعد هَذَا، والظاهر أن صنيع المصنّف يشير إلى هَذَا حيث أورد هَذَا الْحَدِيث أولاً ثم تلك الأحاديث بعده، كما هي عادته الغالبة فِي إيراد الأحاديث الْمُعَلَّة أولاً، ثم الصحيحة بعدها والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

ص: 209

أخرجه هنا -39/ 4814 و4815 - وفي "الكبرى" 38/ 7016 و7017. وأخرجه (د) فِي "الديات" 4578، وبقية مسائل الْحَدِيث ستأتي قريبًا، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله: (أَرْسَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ) يعني أن أبا نعيم الفضل بن دُكين روى هَذَا الْحَدِيث عن يوسف ابن صُهيب، عن عبد اللهَ بن بُريدة، مرسلاً، ولم يذكر أباه، ثم بيّن روايته بقوله:

4816 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ صُهَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ: أَنَّ امْرَأَةً خَذَفَتِ امْرَأَةً، فَأَسْقَطَتِ الْمَخْذُوفَةُ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ عَقْلَ وَلَدِهَا خَمْسَمِائَةٍ مِنَ الْغَنَم، وَنَهَى يَوْمَئِذٍ عَنِ الْخَذْفِ.

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا وَهْمٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مِائَةً مِنَ الْغَنَمِ.

وَقَدْ رُوِىَ النَّهْيُ عَنِ الْخَذْفِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أحمد بن يحيى": هو الأوديّ، أبو جعفر الكوفيّ العابد الثقة [11] 38/ 1274 منْ أفراد المصنّف. و"أبو نعيم": هو الفضل بن دُكين، وهو لقب أبيه، واسمه عمرو بن حمّاد بن زهير التيميّ الكوفيّ الحافظ الحجة الثقة الثبت [9] 11/ 516.

وقوله: "المخذوفة" بالخاء والذال المعجمتين، وروي بالحاء المهملة بدل الخاء المعجمة.

وقوله: "عقل ولدها": أي ديته.

وقوله: "منْ الغنم" هو الذي فِي "النسخة الهنديّة" و"الكبرى"، وهو الصواب، ووقع فِي بعض النسخ، بلفظ:"منْ الغرّ"، والظاهر أنه تصحيف، ولا يقال: "المراد الغرّة، لأن الغرّة بالهاء، ولا يُعرف بحذفها، فتنبّه.

وقوله: (قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أي النسائيّ رحمه الله تعالى (هَذَا وَهَمٌ) بفتحتين، كالغلط وزنًا ومعنًى، أو بفتح، فسكون، وهو بمعناه، كما أشار إليه المجد فِي "القاموس" (وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مِائَةً مِنَ الْغَنَمِ) يعني أن قوله:"خمسمائة منْ الغنم" غلطٌ، والصواب: مائة منْ الغنم، وهذا الذي قاله المصنّف قاله أبو داود أيضًا، فَقَالَ فِي "سننه" بعد أن أخرجه عن عبّاس بن عبد العظيم، عن عبيد والله بن موسى بسند المصنّف، بلفظ:"فجعل فِي ولدها خمسمائة شاة": ما نصه: قَالَ أبو داود: كذا الْحَدِيث خمسمائة شاة، والصواب مائة شاة، قَالَ أبو داود: هكذا قَالَ عباس، وهو وهم. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لكن قوله: "قَالَ عباس الخ" يوهم أن الوهم منْ شيخه عباس بن عبد العظيم، وليس كذلك، فإنه وقع عند المصنّف منْ رواية غيره

ص: 210

أيضًا، والظاهر أن الوهم منْ غيره، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

والحديث مرسلٌ، وَقَدْ تقدّم الكلام فيه فِي الْحَدِيث الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله: (وَقَدْ رُوِىَ النَّهْيُ عَنِ الْخَذْفِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ) يعني أنه ثبت النهي عن الخذف منْ رواية عبد الله بُريدة، عن عبد الله بن مُغَفَّل رضي الله عنه، كما بيّنه بقوله:

4817 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا كَهْمَسٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، أَنَّهُ رَأَى رَجُلاً يَخْذِفُ، فَقَالَ: لَا تَخْذِفْ، فَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَنْهَى عَنِ الْخَذْفِ، أَوْ يَكْرَهُ الْخَذْفَ، شَكَّ كَهْمَسُ).

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(أحمد بن سليمان) أبو الحسين الرُّهاويّ الثقة الحافظ [11] 38/ 42 منْ أفراد المصنّف.

2 -

(يزيد) بن هارون السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطي الحافظ الثبت العابد [9] 153/ 244.

3 -

(كهمس) بن الحسن التميميّ، أبو الحسن البصريّ، ثقة [5] 39/ 68.

4 -

(عبد بن بريدة) المذكور قبله.

5 -

(عبد الله بن مغفّل) بن عبيد بن نَهْم، أبو عبد الرحمن المزني الصحابيّ المشهور، بايع تحت الشجرة، ثم نزل البصرة، ومات سنة (57) وقيل: بعد ذلك، تقدمت ترجمته فِي 32/ 36. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ) رضي الله عنه (أَنَّهُ رَأَى رَجُلاً) لم يعرف اسمه، ووقع فِي رواية مسلم، منْ رواية معاذ بن معاذ، عن كهمس:"رأى رجلاً منْ أصحابه"، وله منْ رواية سعيد بن جبر، عن عبد الله بن مغفّل أنه قريبٌ لعبد الله بن مغفّل (يَخْذِفُ) بخاء معجمة، منْ باب يضرب: أي يرمي بحصاة، أو نواة بين سبابتيه، أو بين الإبهام

ص: 211

والسبابة، أو عَلَى ظاهر الوسطى، وباطن الإبهام. وَقَالَ ابن فارس: خذفت الحصاة: رميتها بين إصبعين. وقيل فِي حصى الخذف: أن يَجعل الحصاة بين السبابة منْ اليمني، والإبهام منْ اليسرى، ثم يَقذِفها بالسبابة منْ اليمين. وَقَالَ ابن سِيدَهْ: خَذَف بالشيء يَخذِف، فارسي وخَصّ بعضهم به الحصي، قالى: والْمِخْذَفة: التي يوضع فيها الحجر، ويُرمى بها الطير، ويطلق عَلَى الْمِقْلاع أيضا. قاله فِي "الصحاح".

(فَقَالَ) أي عبد الله بن مغفّل رضي الله عنه (لَا تَخْذِفْ)"لا" ناهية، والفعل بعدها مجزوم (فَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَنْهَى عَنِ الْخَذْفِ، أَوْ يَكرَهُ الْخَذْفَ)"أو" للشكّ منْ الراوي، وهو كهمس بن الحسن، كما بيّنه بقوله:(شَكَّ كَهْمَسٌ) يعني أن كهمسًا شك فِي روايته، هل هو بلفظ "نهى عن الخذف"، أو بلفظ:"يكره الخذف"، ولفظ البخاريّ:"أو كَانَ يكره الخذف". ووقع فِي رواية أحمد عن وكيع: "نهى عن الخذف"، بدون شك.

[تنبيه]: رواية المصنّف رحمه الله تعالى هذه مختصرة، وَقَدْ ساقه البخاريّ فِي "صحيحه": 5/ 2088 مطوّلاً، فَقَالَ: -حدثنا يوسف بن راشد، حدثنا وكيع، ويزيد ابن هارون -واللفظ ليزيد- عن كهمس بن الحسن، عن عبد الله بن بريدة، عن عبد الله ابن مغفل، أنه رأى رجلا يخذف، فقال له: لا تخذف، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نهى عن الخذف، أو كَانَ يكره الخذف، وَقَالَ:"إنه لا يُصاد به صيد، ولا يُنكى به عدوّ، ولكنها قد تكسر السن، وتَفقأ العين"، ثم رآه بعد ذلك يخذف، فقال له، أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه نهى عن الخذف، أو كره الخذف، وأنت تخذف، لا أكلمك كذا وكذا".

وقوله: أنه لا يصاد به صيد": قالى المهلب: أباح والله الصيد عَلَى صفة، فَقَالَ:{تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} ، وليس الرمي بالبندقة، ونحوها منْ ذلك، وإنما هو وَقِيذ، وأطلق الشارع أن الخذف لا يصاد به؛ لأنه ليس منْ الْمُجْهِزَات، وَقَدْ اتفق العلماء، إلا منْ شَذَّ منهم، عَلَى تحريم أكل ما قتلته البندقة والحجر. انتهى. وإنما كَانَ كذلك؛ لأنه يقتل الصيد بقوة راميه لا بحده.

موقوله: "ولا يُنكأ به عدو": قَالَ عياض: الرواية بفتح الكاف وبهمزة فِي آخره، وهي لغة، والاشهر بكسر الكاف، بغير همز، وقالى فِي "شرح مسلم": لا ينكأ بفتح الكاف مهموز، ورُوي "لا يَنكى" بكسر الكاف، وسكون التحتانية، وهو أوجه؛ لأن المهموز إنما هو منْ نكأت القُرْحة، وليس هَذَا موضعه، فإنه منْ النّكاية، لكن قَالَ فِي "العين": نكأت لغة فِي نكيت، فعلى هَذَا تتوجه هذه الرواية، قال: ومعناه: المبالغة فِي الأذى. وقال ابن سِيدَهْ: نكأ العدوَّ نكايةً: أصاب منه، ثم قَالَ: نكأت العدو أنكؤهم، لغة فِي نكيتهم، فظهر أن الرواية صحيحة المعنى، ولا معنى لتخطئتها. وأغرب ابن التين، فلم يُعَرِّج عَلَى الرواية التي بالهمز أصلا، بل شرحه عَلَى التي بكسر الكاف بغير

ص: 212

همز، ثم قَالَ: ونكأت القرحة بالهمز. قاله فِي "الفتح".

وقوله: "ولكنها قد تكسر السن": أي الرمية، وأطلق السن، فيشمل سن المرمي، وغيره منْ آدمي وغيره.

وقوله: "لا أكلمك كذا وكذا": فِي رواية معاذ، ومحمد بن جعفر:"لا اكلمك كلمةً كذا وكذا"، و"كلمةً" بالنصب والتنوين، كذا وكذا أبهم الزمان، ووقع فِي رواية سعيد بن جبير عند مسلم:"لا أُكلمك أبدا". انتهى "فتح" 11/ 30/ 31. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه هذ متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -39/ 4817 - وفي "الكبرى" 38/ 7019. وأخرجه (خ) فِي "التفسير" 4842 و"الذبائح والصيد" 5479 و"الأدب" 6220 (م) فِي "الذبائح" 1954 (د) فِي "الأدب" 5270 (ق) فِي "الصيد" 3227 (أحمد) فِي "مسند المدنيين" 16352 و20028 و20038 و"مسند البصريين" 20050 (الدارمي) فِي "المقدمة" 440 و441. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده

(1)

:

(منها): تحريم الخذف؛ لكونه ضررًا محضًا. (ومنها): جواز هجران منْ خالف السنة، وتركُ كلامِهِ، ولا يدخل ذلك فِي النهي عن الهجر فوق ثلاث، فإنه يتعلق بمن هجر لحظ نفسه. (ومنها): فيه تغيير المنكر. (ومنها): ما قاله فِي "الفتح": فيه منع الرمي بالبندقة، لأنه إذا نَفَى الشارع أنه لا يصيد، فلا معنى للرمي به، بل فيه تعريض للحيوان بالتلَف، لغير مالكه، وَقَدْ ورد النهي عن ذلك، نعم قد يُدرك ذكاة ما رَمَى بالبندقة، فيحل أكله، ومن ثم اختُلِف فِي جوازه، فصرّح مجلي فِي "الذخائر" بمنعه، وبه أفتي ابن عبد السلام، وجزم النوويّ بحله؛ لأنه طريق إلى الاصطياد، والتحقيق التفصيل، فإن كَانَ الأغلب منْ حال الرمي ما ذُكِر فِي الْحَدِيث امتنع، وإن كَانَ عكسه جاز، ولاسيما إن كَانَ المرميّ مما لا يصل إليه الرمي، إلا بذلك، ثم لا يقتله غالبا، وَقَدْ كره الحسن فِي الرمي بالبندقة فِي القرى والأمصار، ومفهومه أنه لا يكره فِي

(1)

المراد فوائد الْحَدِيث بطوله، لا خصوص سياق المصنّف، فتنبّه.

ص: 213

الفلاة، فجعل مدار النهي عَلَى خشية إدخال الضرر، عَلَى أحد منْ النَّاس. انتهى "الفتح" بتصرف 11/ 31. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4818 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ، أَنَّ عُمَرَ اسْتَشَارَ النَّاسَ فِي الْجَنِينِ، فَقَالَ حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْجَنِينِ غُرَّةً، قَالَ طَاوُسٌ: إِنَّ الْفَرَسَ غُرَّةٌ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "حماد": هو ابن زيد؛ لأنه إذا قَالَ قتيبة: حدثنا حماد، وسكت فهو ابن زيد، كما بينه السيوطيّ فِي "تدريب الراوي" 2/ 324، فاحفظه يفدك فِي مواضع كثيرة. والله تعالى ولي التوفيق.

و"عمرو": هو ابن دينار. و"حمل" -بفتحتين- ابن مالك بن النابغة الْهُذليّ، أبو نَضْلة الصحابيّ، نزيل البصرة رضي الله عنه.

وقوله: "بغرّة" بضمّ الغين المعجمة، وتشديد الراء، وأصلها البياض فِي وجه الفرس، والمراد هنا: العبد، أو الأمة، كما فُسّر فِي الروايات.

وقوله: "قَالَ طاوس: إن الفرس غُرّة" يعني أن طاوس بن كيسان الراوي للحديث قَالَ: إن الغرة التي قضى بها النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي الجنين يدخل فى معناها الفرس، وهو منْ قول طاوس، ولا يصحّ مرفوعًا.

قَالَ فِي "الفتح": وقع فِي حديث أبي هريرة منْ طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عنه:"قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي الجنين بغرة: عبد، أو أمة، أو فرس، أو بغل"، وكذا وقع عند عبد الرزاق، فِي رواية ابن طاوس، عن أبيه، عن عمر مرسلاً، فَقَالَ حمل بن النابغة:"قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية فِي المرأة، وفي الجنين غرة: عبد، أو أمة، أو فرس".

وأشار البيهقي أن ذكر الفرس فِي المرفوع وَهَمٌ، وأن ذلك أُدرج منْ بعض رواته عَلَى سبيل التفسير للغرة، وذكر أنه فِي رواية حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، بلفظ:"فقضى أن فِي الجنين غرة"، قَالَ طاوس: الفرس غرة. وكذا أخرج الإسماعيلي منْ طريق حماد بن زيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه:"قَالَ: الفرس غرة"، وكأنهما رأيا أن الفرس أحق بإطلاق لفظ الغرة منْ الآدمي.

ونقل ابن المنذر، والخطابي، عن طاوس، ومجاهد، وعروة بن الزبير: الغرة عبد، أو أمة، أو فرس، وتوسع داود، ومن تبعه منْ أهل الظاهر، فقالوا: يجزىء كل ما وقع عليه اسم غرة. والغرة فِي الأصل: البياض يكون فِي جبهة الفرس، وَقَدْ استعمل

ص: 214

للآدمي فِي الْحَدِيث المتقدم فِي "الوضوء": "إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا"، وتطلق الغرة عَلَى الشيء النفيس، آدميا كَانَ، أو غيره، ذكرا كَانَ أو أنثى، وقيل: أُطلق عَلَى الآدمي غرة؛ لأنه أشرف الحيوان، فإن محل الغرة الوجه، والوجه أشرف الأعضاء. انتهى"فتح" 14/ 242 - 244.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه. سيأتي تمام البحث فِي هَذَا قريبًا فِي المسائل، إن شاء الله تعالى.

والحديث صحيح، وَقَدْ تقدّم فِي 11/ 4741 شرحه، وبيان مسائله غير ما ترجم له المصنّف، فسيأتي فِي شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه قريبًا، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4819 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: "قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ، مِنْ بَنِي لِحْيَانَ، سَقَطَ مَيِّتًا، بِغُرَّةٍ عَبْدٍ، أَوْ أَمَةٍ، ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا بِالْغُرَّةِ، تُوُفِّيَتْ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِأَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا، وَأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى عَصَبَتِهَا").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(الليث) بن سعد الإمام الحجة الثبت المصريّ [7] 31/ 35.

3 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهريّ الإمام الحجة الفقيه [4] 1/ 1.

4 -

(ابن المسيب) سعيد الإمام الفقيه الحجة الثبت، منْ كبار [3] 9/ 9.

5 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ، والليث، فمصريّ. (ومنها): أنه منْ أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه ابن المسيّب أحد الفقهاء السبعة المعروفين بالمدينة. (ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ منْ روى الْحَدِيث فِي دهره، روى (5374) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَن) سعيد (ابْنِ الْمُسَيَّبِ) هكذا فِي رواية الليث، وفي رواية يونس

ص: 215

التالية 4820 - : "عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، وسعيد بن المسيب"، وفي رواية ابن وهب -4821 - :"عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن"، وفي رواية ابن القاسم -4822 - :"عن مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيّب"، مرسلاً، وكلها طرق صحيحة، ثابتة، لا تعارض بينهما.

قَالَ فِي "الفتح" فِي رواية مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: ما حاصله: كذا قَالَ عبد الله بن يوسف، عن مالك، وَقَالَ -كما فِي الباب الذي يليه- عن الليث، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وكلا القولين صواب، إلا أن مالكا كَانَ يرويه عن ابن شهاب، عن سعيد مرسلا، وعن أبي سلمة موصولاً، وَقَدْ مضى فِي "الطب" عن قتيبة، عن مالك بالوجهين، وهو عند الليث منْ رواية أبي سلمة أيضا، لكن بواسطة، كما تقدم فِي "الطب" أيضا، عن سعيد بن عُفَير، عن الليث، عن عبد الرحمن ابن خالد، عن ابن شهاب، ورواه يونس بن يزيد، عن ابن شهاب عنهما جميعا، كما فِي الباب الذي يليه أيضا، ورواه معمر، عن الزهريّ، عن اْبي سلمة وحده، أخرجه مسلم، وأخرجه أبو داود، والترمذي، منْ طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة. انتهى "الفتح" 14/ 241 - 242.

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ:"قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ، مِنْ بَنِي لِحْيَانَ) بكسر اللام، وسكون المهملة- ابن هُذيل بن مُدركة بن إلياس بن مُضَر. وفي رواية يونس التالية: "اقتتلت امرأتان، منْ هُذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر"، وفي رواية حمل بن مالك التي سبقت: "إحداهما لحيانيّة"، ولحيان بطن منْ هذيل، كما سبق آنفاً، وهاتان المرأتان كانتا ضرتين، وكانتا تحت حَمَل بن النابغة الْهُذَلي، فقد تقدّم فِي 11/ 4741 منْ طريق ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس، عن عمر رضي الله عنهم، أنه نشد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي ذلك، فقام حمل بن مالك، فَقَالَ: كنت بين حُجرتي امرأتين، وفي رواية أبي داود: بين امرأتين، فضربت إحداهما الأخرى

الْحَدِيث، هكذا رواه موصولا، وأخرجه الشافعيّ، عن سفيان بن عيينة:"عن عمر"، فلم يذكر "ابن عباس" فِي السند، ولفظه: أن عمر قَالَ: أُذكِّرُ اللهَ امرأ سمع منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي الجنين شيئا"، وكذا قَالَ عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه: "أن عمر استشار"، وأخرج الطبراني منْ طريق أبي الْمَلِيح بن أسامة بن عمير الهذلي، عن أبيه، قَالَ: كَانَ فينا رجل، يقال له: حَمَلُ بن مالك، له امرأتان: إحداهما: هذلية، والأخرى عامرية، فضربت الهذلية بطن العامرية، وأخرجه الحارث، منْ طريق أبي المليح، فأرسله، لم يقل: "عن أبيه"، ولفظه: أن حمل بن النابغة، كانت

ص: 216

له امرأتان: مُليكة، وأم عفيف، وأخرج الطبراني منْ طريق عون بن عويم، قَالَ: كانت أختي مليكة، وامرأة منا يقال لها: أم عفيف بنت مسروح، تحت حمل بن النابغة، فضربت أم عفيف مليكة، ووقع فِي رواية عكرمة، عن ابن عباس فِي آخر هذه القصة، قَالَ ابن عباس:"إحداهما مليكة، والأخرى أم غُطيف"، أخرجه أبو داود (4561) والنسائيّ (4830) وبالآخر جزم الخطيب فِي "المبهمات"، وزاد بعض شراح "العمدة": وقيل: أم مكلف، وقيل: أم مليكة. انتهى ما فِي "الفتح" بتصرف.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "أم عفيف" هكذا نسخة "الفتح"، والذي عند المصنّف، وأبي داود:"أم غُطيف"، بالغين المعجمة، وفي "الإصابة":"أم عفيف" ويقال: أم غطيف بنت مسروح الهذليّة، زوج حَمَل بن مالك الهُذليّ، تقدّم ذكرها فِي مليكة. انتهى. وسيأتي تمام البحث فيها فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى.

(سَقَطَ مَيِّتًا) أي بعد أن ضربتها، ففي رواية يونس التالية. "رمت إحداهما الأخرى بحجر"، وفي حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه الآتي:"ضربت ضرتها بعمود فُسطاط، فقتلتها"

(بِغُرَّةٍ عَبْدٍ، أَوْ أَمَةٍ) المشهور تنوين "غُرّة"، وما بعده بدل منه، أو عطف بيان، ورواه بعضهم بالإضافة، و"أو" للتقسيم، لا للشكّ، فإن كلّا فِي العبد، والأمة يقال له:"غُرّة"، إذ الغرّة اسم للإنسان المملوك، ويُطلق عَلَى معان أُخَر أيضًا. قاله السنديّ.

وَقَالَ فِي "المغني" 12/ 59 - : يقال: غُرَّةٌ، عبدٌ بالصفة، وغُرَّةُ عبدٍ بالإضافة، والصفة أحسن؛ لأن الغرة اسم للعبد نفسه، قَالَ مهلهل:

كُلُّ قَتِيلِ فِي كُلَيْبِ غُرَّه

حَتَّى يَنَال الْقَتْلُ آلَ مُرَّهْ

وَقَالَ النوويّ فِي "شرح مسلم": 1/ 175: قوله: "بغرّة عبد"، ضبطناه عَلَى شيوخنا فِي الْحَدِيث والفقه، "بغرة" بالتنوين، وهكذا قيده جماهير العلماء فِي كتبهم، وفي مصنفاتهم فِي هَذَا، وفي شروحهم، وَقَالَ القاضي عياض: الرواية فيه "بغرة" بالتنوين، وما بعده بدل منه، قَالَ: ورواه بعضهم بالإضافة، قَالَ: والأول أوجه وأقيس. وذكر صاحب "المطالع" الوجهين، ثم قَالَ: الصواب رواية التنوين، قلنا: ومما يؤيده، ويوضحه رواية البخاريّ فِي "صحيحه" فِي "كتاب الديات" فِي "باب دية جنين المرأة"، عن المغيرة بن شعبة، قَالَ: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغرة، عبدا، أو أمة"، وَقَدْ فَسَّر الغرة فِي الْحَدِيث بعبد، أو أمة.

قَالَ العلماء: و"أو" هنا للتقسيم، لا للشك، والمراد بالغرة عبد، أو أمة، وهو اسم لكل واحد منهما، قَالَ الجوهري: كأنه عبر بالغرة عن الجسم كله، كما قالوا: أعتق

ص: 217

رقبة، وأصل الغرة بياض فِي الوجه، ولهذا قَالَ أبو عَمرو -يعني ابن العلاء-: المراد بالغرة الأبيض منهما خاصة، قَالَ: ولا يجزي الأسود، قَالَ: ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد بالغرة معنى زائدا، عَلَى شخص العبد والأمة، لَمَا ذَكَرها، ولاقتصر عَلَى قوله:"عبد، أو أمة"، هَذَا قول أبي عمرو، وهو خلاف ما اتفق عليه الفقهاء: أنه تجزي فيها السوداء، ولا تتعين البيضاء، وإنما المعتبر عندهم أن تكون قيمتها عشر دية الأم، أو نصف عشر دية الأب، قَالَ أهل اللغة: الغرة عند العرب أنفس الشيء، وأُطلقت هنا عَلَى الإنسان؛ لأن الله تعالى خلقه فِي أحسن تقويم.

وأما ما جاء فِي بعض الروايات، فِي غير "الصحيح":"بغرة عبد، أو أمة، أو فرس، أو بغل"، فرواية باطلة، وَقَدْ أخذ بها بعض السلف، وحكى عن طاوس، وعطاء، ومجاهد: أنها عبد، أو أمة، أو فرس. وَقَالَ داود: كل ما وقع عليه اسم الغرة يُجزى. انتهى "شرح مسلم" للنووي 11/ 176.

وَقَالَ فِي "الفتح": قَالَ الإسماعيلي: قرأه العامة بالإضافة، وغيرهم بالتنوين، وحكى القاضي عياض الخلاف، وَقَالَ: التنوين أوجه؛ لأنه بيان للغرة ما هي؟ وتوجيه الآخر أن الشيء قد يضاف إلى نفسه، لكنه نادر. وَقَالَ الباجي: يحتمل أن تكون "أو" شكا منْ الراوي فِي تلك الواقعة المخصوصة، ويحتمل أن تكون للتنويع، وهو الأظهر، وقيل المرفوع منْ الْحَدِيث قوله:"بغرة"، وأما قوله:"عبد، أو أمة" فشك منْ الراوي فِي المراد بها، قَالَ: وَقَالَ مالك: الحمرانُ أولى منْ السودان فِي هَذَا، وعن أبي عمرو ابن العلاء قَالَ: الغرة عبد أبيض، أو أمة بيضاء، قَالَ: فلا يجزي فِي دية الجنين سوداء، إذ لو لم يكن فِي الغرة معنى زائد، لَمَا ذكرها، ولقال: عبد، أو أمة، ويقال: إنه انفرد بذلك، وسائر الفقهاء عَلَى الإجزاء، فيما لو أخرج سوداء، وأجابوا بأن المعنى الزائد كونه نفيسا، فلذلك فسره بعبد أو أمة؛ لأن الآدمي أشرف الحيوان، وعلى هَذَا فالذي وقع فِي رواية محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، منْ زيادة ذكر الفرس فِي هَذَا الْحَدِيث وهم، ولفظه:"غرة: عبد، أو أمة، أو فرس، أو بغل"، ويمكن إن كَانَ محفوظا أن الفرس هي الأصل فِي الغرة، كما تقدم. انتهى "فتح" 14/ 244.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن ما ذهب إليه الجمهور منْ إجزاء العبد الأسود هو الحقّ؛ لأن المراد بالغرّة هو الشيء النفيس. والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا بِالْغُرَّةِ تُوُفِّيَتْ) قَالَ النوويّ: قَالَ العلماء: هَذَا الكلام قد يوهم خلاف مراده، فالصواب أن المرأة التي ماتت هي المجْنِيّ عليها، أمُّ الجنين، لا الجانية، وَقَدْ صرح به فِي الْحَدِيث بعده بقوله:"فقتلتها، وما فِي بطنها"، فيكون

ص: 218

المراد بقوله: "التي قضى عليها بالغرة": أي التي قَضَى لها بالغرة، فعبر بـ"عليها" عن "لها". انتهى.

(فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِأَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا، وَأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى عَصَبَتِهَا) المراد عصبة القاتلة، وكأن تخصيص الميراث لبنيها وزوجها لكونهم هم الذين وُجدوا منْ الورثة فِي هذه الواقعة، وإلا فالظاهر أن ميراثها لورثتها أيّا كانوا، ويدلّ عَلَى ذلك ما فِي الرواية التالية بلفظ:"وورّثها ولدها، ومن معهم". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضمع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه: أخرجه هنا -39/ 4819 و4820 و4821 و4822 - وفي "الكبرى" 38/ 7021 و7022 و7023 و7024. وأخرجه (خ) فِي "الطبّ" 5758 و5760 و"الفرائض" 6740 و"الديات" 6904 و6909 و6910 (م) فِي "القسامة" 1681 و"الديات" 4576 و4579 (ت) فِي "الديات" 1410 (ق) فِي "الديات" 2639 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 10089 و10533 و10570 (الموطأ) فِي "العقول" 1608 (الدارمي) فِي "الديات" 2276. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان دية جنين المرأ إذا أسقطته ميتًا. (ومنها): بيان أن دية الجنين يُسمّى بالغرّة، ثم فُسّر فِي الْحَدِيث بأنه عبد أو أمة. (ومنها): ما قاله النوويّ: اتفق العلماء عَلَى أن دية الجنين هي الغرّة، سواء كَانَ الجنين ذكرًا، أو أُنثى، قالوا: وإنما كَانَ كذلك؛ لأنه قد يخفى، فيكثر فيه النزاع، فضبطه الشرع بضابط، يقطع النزاع، وسواء كَانَ خلقه كامل الأعضاء، أم ناقصها، أو كَانَ مضغة، تصور فيها خلق آدمي، ففي كل ذلك الغرة بالإجماع، ثم الغرة تكون لورثته عَلَى مواريثهم الشرعية، وهذا شخص يُورث ولا يَرِث، ولا يعرف له نظير، إلا منْ بعضه حُرّ، وبعضه رقيق، فإنه رقيق لا يرث عندنا، وهل يورث فيه قولان: أصحهما يورث.

وهذا مذهبنا، ومذهب الجماهير، وحكى القاضي عن بعض العلماء: أن الجنين كعضو منْ أعضاء الأم، فتكون ديته لها خاصة.

(واعلم): أن المراد بهذا كله، إذا انفصل الجنين ميتا، أما إذا انفصل حيا، ثم مات،

ص: 219

فيجب فيه كمال دية الكبير، فإن كَانَ ذكرا وجب مائة بعير، وإن كَانَ أنثى فخمسون، وهذا مجمع عليه، وسواء فِي هَذَا كله العمد والخطأ، ومتى وجبت الغرة فهي عَلَى العاقلة، لا عَلَى الجاني، هَذَا مذهب الشافعيّ، وأبي حنيفة، وسائر الكوفيين، رضي الله عنهم، وَقَالَ مالك، والبصريون: تجب عَلَى الجاني.

وَقَالَ الشافعيّ، وآخرون: يلزم الجاني الكفارة، وَقَالَ بعضهم: لا كفارة عليه، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، رضي الله عنهما. والله أعلم. انتهى كلام النوويّ فِي "شرح مسلم" 11/ 176 - 177.

(ومنها): ما استنبطه الجمهور منْ قوله: "غرّة" أن أقل ما يجزي منْ العبد، أو الأمة ما سلم منْ العيوب، التي يثبت بها الرد فِي البيع؛ لأن المعيب ليس منْ الخيار. (ومنها): أنه استنبط الشافعيّ منه أن يكون منتفعا به، فشرط أن لا ينقص عن سبع سنين؛ لأن منْ لم يبلغها لا يستقل غالبا بنفسه، فيحتاج الى التعهد بالتربية، فلا يجبر المستحق عَلَى أخذه. (ومنها): أن بعضهم أخذ منْ لفظ الغلام أن لا يزيد عَلَى خمس عشرة، ولا تزيد الجارية عَلَى عشرين، ومنهم منْ جعل الحد ما بين السبع والعشرين، والراجح كما قَالَ ابن دقيق العيد أنه يجزيء، ولو بلغ الستين وأكثر منها، ما لم يصل إلى عدم الاستقلال بالهرم. (ومنها): أنه استُدِلَّ به عَلَى عدم وجوب القصاص فِي القتل بالمثقل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر فيه بالقود، وانما أمر بالدية.

وأجاب منْ قَالَ به بأن عمود الفسطاط، يختلف بالكبر والصغر، بحيث يقتل بعضه غالبا، ولا يقتل بعضه غالبا، وطرد المماثلة فِي القصاص، إنما يشرع فيما إذا وقعت الجناية بما يقتل غالبا، وفي هَذَا الجواب نظر، فان الذي يظهر أنه انما لم يوجب فيه القود؛ لأنها لم يقصد مثلها، وشرط القود العمد، وهذا انما هو شبه العمد، فلا حجة فيه للقتل بالمثقل، ولا عكسه. قاله فِي "الفتح" 14/ 244. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي دية الجنين:

قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: ما حاصله أن قول أكثر أهل العلم: إن فِي جنين الحرة المسلمة غُرّةً، وممن رُوي ذلك عنه: عمر بن الخطاب، وعطاء، والشعبي، والنخعي، والزهري، ومالك، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وَقَدْ ثبت أنّ عمر رضي الله عنه، أنه استشار النَّاس فِي إملاص المرأة، فَقَالَ المغيرة بن شعبة: شهدت النبيّ صلى الله عليه وسلم، قضى فيه بغرة عبد، أو أمة، قَالَ: لتأتينّ بمن يشهد معك، فشهد له محمد بن مسلمة". متّفقٌ عليه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه،

ص: 220

قَالَ: اقتتلت امرأتان منْ هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، وما فِي بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن دية جنينها عبد أو أمة، وقضى بدية المرأة عَلَى عاقلتها، وورَّثها ولدها، ومن معهم"، متَّفقٌ عليه. والغرة: عبد، أو أمة، سُميا بذلك لأنهما منْ أنفس الأموال، والأصل فِي الغرة الخيار.

[فإن قيل]: فقد رُوي فِي هَذَا الخبر: "أو فرس، أو بغل"؟.

[قلنا]: هَذَا لا يثبت، رواه عيسى بن يونس، ووَهِمَ فيه، قاله أهل النقل، والحديث الصحيح المتفق عليه إنما فيه عبد أو أمة.

قَالَ: وإنما تجب الغرّة، إذا سقط منْ الضربة، ويعلم ذلك بأن يسقط عقيب الضرب، أو ببقائها متألمة إلى أن يسقط، ولو قتل حاملاً لم يسقط جنينها، أو ضَرَب مَن فِي جوفها حركة، أو انتفاخ، فسَكَّنَ الحركةَ، وأذهبهالم يضمن الجنين، وبهذا قَالَ مالك، وقتادة، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر.

وحُكي عن الزهريّ أن عليه الغرةَ؛ لأن الظاهر أنه قتل الجنين، فلزمته الغرة، كما لو أسقطت.

وحجة الأولين أنه لا يثبت حكم الولد، إلا بخروجه، ولذلك لا تصح له وصية، ولا ميراث، ولأن الحركة يجوز أن تكون لريح فِي البطن سكنت، ولا يجب الضمان بالشك، فأما إذا ألقته ميتا، فقد تحقق، والظاهر تلفه منْ الضربة، فيجب ضمانه، سواء ألقته فِي حياتها، أو بعد موتها، وبهذا قَالَ الشافعيّ، وأحمد؛ لأنه جنين تَلِف بجنايته، وعلم ذلك بخروجه، فوجب ضمانه، كما لو سقط فِي حياتها، ولأنه لو سقط حيا ضمنه، فكذلك إذا سقط ميتا، كما لو أسقطته فِي حياتها.

وَقَالَ مالك، وأبو حنيفة: إن ألقته بعد موتها لم يضمنه؛ لأنه يجري مجرى أعضائها، وبموتها سقط حكم أعضائها.

وتُعُقّب بأن هَذَا ليس بصحيح؛ لأنه لو كَانَ كذلك، لكان إذا سقط ميتا ثم ماتت، لم يضمنه كأعضائها، ولأنه آدمي موروث فلا يدخل فِي ضمان أمه، كما لو خرج حيا.

فأما إن ظهر بعضه منْ بطن أمه، ولم يخرج باقيه ففيه الغرة، وبه قَالَ الشافعيّ، وأحمد، لأنه قاتل لجنينها، فلزمته الغرة، كما لو ظهر جميعه، ويفارق ما لو لم يظهر منه شيء؛ لأنه لم يتيقن قتله، ولا وجوده.

وَقَالَ مالك، وابن المنذر: لا تجب الغرة حَتَّى تلقيه؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما أوجب الغرة فِي الجنين الذي ألقته المرأة، وهذه لم تلق شيئا، فأشبه ما لو لم يظهر منه شيء. انتهى "المغني" بتصرف، واختصار 12/ 60 - 63. والله تعالى أعلم

ص: 221

بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي المراد بالغرّة:

قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: ما ملخّصه: المراد بالغرة فِي قول أكثر أهل العلم: هو عبد، أو أمة. وَقَالَ عروة، وطاوس، ومجاهد: عبد، أو أمة، أو فرس؛ لأن الغرة اسم لذلك، وَقَدْ جاء فِي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ:"قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي الجنين بغرة: عبد، أو أمة، أو فرس، أو بغل"، وجعل ابن سيرين مكان الفرس مائة شاة، ونحوه، قَالَ الشعبي: لأنه رُوي فِي حديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه جعل فِي ولدها مائة شاة، رواه أبو داود.

ورُوي عن عبد الملك بن مروان، أنه قضى فِي الجنين، إذا أُمْلِص بعشرين دينارا، فإذا كَانَ مضغة فأربعين، فإذا كَانَ عظما فستين، فإذا كَانَ العظم قد كُسي لحما فثمانين، فإن تم خلقه، وكُسي شعره فمائة دينار، وَقَالَ قتادة: إذا كَانَ عَلَقَة فثلث غرة، وإذا كَانَ مضغة فثلثي غرة.

وحجة الأولين قضاءُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فِي إملاص المرأة بعبد، أو أمة، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضية عَلَى ما خالفها، وذكر الفرس والبغل فِي الْحَدِيث وَهَمٌ، انفرد به عيسى ابن يونس عن سائر الرواة، فالظاهر أنه وَهِمَ فيه، وهو متروك فِي البغل بغير خلاف، وكذلك فِي الفرس.

قَالَ الموفّق: وهذا الْحَدِيث الذي ذكرناه أصح ما رُوي فيه، وهو متَّفقٌ عليه، وَقَدْ قَالَ به أكثر أهل العلم، فلا يلتفت إلى ما خالفه، وقول عبد الملك بن مروان تَحكم بتقدير لم يَرِد به الشرع، وكذلك قتادة، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحق بالاتباع منْ قولهما. انتهى كلام الموفّق باختصار، وتصرّف "المغني" 12/ 64 - 65.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي ذكره الموفّق رحمه الله تعالى، منْ ترجيح قول الجمهور فِي المراد بالغرّة، وأن تقدير الشارع هو الأحقّ بالاتباع، هو الصواب؛ لوضوح أدلّته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): إذا ثبت ما تقدّم فإنه تلزمه الغرة، فإن أراد دفع بدلها، ورضي المدفوع إليه جاز؛ لأنه حق آدمي، فجاز ما تراضيا عليه، وأيهما امتنع منْ قبول البدل، فله ذلك؛ لأن الحق فيها، فلا يقبل بدلها إلا برضاهما، وتجب الغرة سالمة منْ العيوب، وإن قل العيب؛ لأنه حيوان وجب بالشرع فلم يقبل فيه المعيب، كالشاة فِي الزكاة؛ لأن الغرة الخيار؛ والمعيب ليس منْ الخيار، ولا يقبل فيها هَرِمة، ولا ضعيفة، ولا خُنثى، ولا خصي، وإن كثرت قيمته؛ لأن ذلك عيب، ولا يتقدر سنُّها عند أحمد، وأبي

ص: 222

حنيفة، وَقَالَ بعضهم: لا يقبل فيها منْ له دون سبع سنين، وهو مرويّ عن أصحاب الشافعيّ، وبعض الحنابلة؛ لأنه يحتاج إلى منْ يكفله له، ويحضنه، وليس منْ الخيار، وذكر بعض أصحاب الشافعيّ، أنه لا يقبل فيها غلام بلغ خمسة عِشر سنة؛ لأنه لا يدخل عَلَى النِّساء، ولا ابنة عشرين؛ لأنها تتغير، قَالَ الموفق: وهذا تَحَكُّم لم يرد الشرع به، فيجب أن لا يُقبَل، وما ذكروه منْ الحاجة إلى الكفالة باطل بمن له فوق السبع، ولأن بلوغه قيمة الكبير مع صغره، يدل عَلَى أنه خيار، ولم يشهد لما ذكروه نَصٌّ، ولا له نظير يقاس عليه، والشاب البالغ أكمل منْ الصبي عقلاً وبِنْيَةً، وأقدر عَلَى التصرف، وأنفع فِي الخدمة، وقضاء الحاجة، وكونُه لا يدخل عَلَى النِّساء، إن أريد به النِّساء الأجنبيات، فلا حاجة إلى دخوله عليهن، وإن أريد به سيدته فليس بصحيح؛ فإن الله تعالى قَالَ:{لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} إلى قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور: 58]، ثم لو لم يدخل عَلَى النِّساء لحصل منْ نفعه أضعاف ما يحصل منْ دخوله، وفوات شيء إلى ما هو أنفع منه لا يعد فواتا، كمن اشترى بدرهم ما يساوي عشرة، لا يعد فواتا، ولا خسرانا.

ولا يعتبر لون الغرة؛ ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قضى بعبد، أو أمة وأطلق، مع غلبة السواد عَلَى عبيدهم وإمائهم، ولأنه حيوان يجب ديةً فلم يعتبر لونه، كالإبل فِي الدية.

وذُكر عن أبي عمرو بن العلاء: أن الغرة لا تكون إلا بيضاء، ولا يقبل عبد أسود، ولا جارية سوداء. انتهى "المغني" بتصرّف، واختصار 12/ 64 - 66 وهو بحث نفيس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: ما حاصله: قيمة الغرة نصف عشر الدية، وهي خمس منْ الإبل، وروي ذلك عن عمر، وزيد رضي الله عنهما، وبه قَالَ النخعي، والشعبي، وربيعة، وقتادة، ومالك، والشافعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي، ولأن ذلك أقل ما قدره الشرع فِي الجنايات، وهو أرش الموضحة، ودية السن فرددناه إليه.

[فإن قيل]: فقد وجب فِي الأنملة ثلاثة أبعرة وثلث، وذلك دون ما ذكرتموه.

[قلنا]: الذي نص عليه صاحب الشريعة غرةً، قيمتها أرش الموضحة، وهو خمس منْ الإبل. انتهى "المغني" 12/ 66 باختصار. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم الغرة، هل يورث، أم لا؟:

ذهبت طائفة إلى أن الغرة موروثة عن الجنين، كأنه سقط حيا؛ لأنها دية له، وبدل

ص: 223

عنه، فيرثها ورثته كما لو قتل بعد الولادة، وبهذا قَالَ مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي.

وذهب الليث إلى أنه لا يورث، بل يكون بدلُهُ لأمه؛ لأنه كعضو منْ أعضائها، فأشبه يدها.

وحجة الأولين أنها دية آدمي حر، فوجب أن تكون موروثة عنه، كما لو ولدته حيا، ثم مات، وقوله: إنه عضو منْ أعضائها لا يصح؛ لأنه لو كَانَ عضوا لدخل بدلُهُ فِي دية أمه كيدها، ولَمَا مُنِع القصاص منْ أمه، وإقامة الحد عليها منْ أجله، ولما وجبت الكفارة بقتله، ولما صَحّ عتقه دونها، ولا عتقها دونه، ولا تَصَوُّرُ حياتِهِ بعد موتها، ولأن كل نفس تضمن بالدية، تورث كدية الحي. انتهى "المغني" 12/ 67 بتصرّف، واختصار. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة التاسعة): فيما قاله أهل العلم فيما إذا كَانَ الجنين أكثر منْ واحد:

قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: إذا ضرب بطن امرأة، فألقت أجنة، ففي كل واحدة غرة، وبهذا قَالَ الزهريّ، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر، قَالَ: ولا أحفظ عن غيرهم خلافهم، وذلك لأنه ضمان آدمي، فتعدد بتعدده كالديات، وإن ألقتهم أحياء، فِي وقت يعيشون فِي مثله، ثم ماتوا ففي كل واحدة دية كاملة، وإن كَانَ بعضهم حيا فمات، وبعضهم ميتا ففي الحي دية، وفي الميت غرة. قاله فِي "المغني" وهو بحث نفيس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة العاشرة): فِي اختلاف أهل العلم، هل تتحمل العاقلة دية الجنين، أم لا؟:

قَالَ الموفّق أيضًا: وتحمل العاقلة دية الجنين، إذا مات مع أمه، نَصَّ عليه أحمد، اذا كانت الجناية عليها خطأ، أو شبه عمد؛ لما رَوَى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قضى فِي الجنين بغرة عبد، أو أمة، على عصبة القاتلة"، وإن كَانَ قتل الأم عمدا، أو مات الجنين وحده لم تحمله العاقلة.

وَقَالَ الشافعيّ: تحمله العاقلة عَلَى كل حال، بناء عَلَى قوله: إن العاقلة تحمل القليل والكثير، والجناية عَلَى الجنين ليست تعمد؛ لأنه لا يتحقق وجوده، ليكون مقصودا بالضرب.

قَالَ: ولنا أن العاقلة لا تحمل ما دون الثلث، عَلَى ما ذكرناه، وهذا دون الثلث، وإذا مات وحده، أو منْ جناية عمد فدية أمه عَلَى قاتلها، فكذلك ديته؛ لأن الجناية لا يحمل بعض ديتها الجاني، وبعضها غيره، فيكون الجميع عَلَى القاتل، كما لو قطع عمدا، فسرت الجناية إلى النفس. انتهى.

ص: 224

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: أن ما ذهب إليه الشافعيّ أرجح؛ لظهور ما ذكره منْ الحجة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4820 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِحَجَرٍ -وَذَكَرَ كَلِمَةً مَعْنَاهَا- فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ عَبْدٌ، أَوْ وَلِيدَةٌ، وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا، وَوَرَّثَهَا وَلَدَهَا وَمَنْ مَعَهُمْ، فَقَالَ حَمَلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أُغَرَّمُ مَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلْ، وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلّ؟ فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ"، مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

وقوله: "فقتلتها، وما فِي بطنها"، وفي رواية للبخاريّ:"فأصاب بطنها، وهي حامل"، فِي رواية:"فخذفت، فأصاب قبلها"، ووقع فِي رواية حمل بن مالك:"فضربت إحداهما الأخرى بمسطح"، وفي رواية عُبيد بن نُضيلة، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه الآتي آخر الباب قَالَ:"أن امرأة ضربت ضرتها بعمود فُسطاط، وهي حبلى، فقتلتها"، وكذا فِي حديث أبي المليح بن أسامة، عن أبيه:"فضربت الْهُذلية بطن العامرية بعمود فسطاط، أو خباء"، وفي حديث عُوَيم:"ضربتها بمسطح بيتها، وهي حامل". أفاده فِي "الفتح" 14/ 242.

وَقَالَ النوويّ فِي "شرح مسلم": قوله: "ضربتها بعمود فُسطاط"، هَذَا محمول عَلَى حجر صغير، وعمود صغير، لا يُقصَد به القتل غالبا، فيكون شِبه عمد تجب فيه الدية عَلَى العاقلة، ولا يجب فيه قصاص، ولا دية عَلَى الجاني، وهذا مذهب الشافعيّ والجماهير. انتهى.

وقوله: "بحجر": ولعلها رمتها بحجر، وعمود جميعًا.

وقوله: "أو وليدة" -بفتح الواو، وكسر اللام-: هي الأمة، وجمعها وَلائد.

وقوله: "وقضى بدية المرأة" أي المقتولة. وقوله: "عَلَى عاقلتها": أي عاقلة القاتلة.

وَقَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "وقضى بدية المرأة عَلَى عاقلتها" فيه تلفيفٌ فِي الضمائر، أزالته الرواية الأخرى التي قَالَ فيها: "فجعل دية المقتولة عَلَى

ص: 225

عصبة القاتلة".

وَقَدْ احتجّ بظاهر الْحَدِيث منْ رأى أنه لا يُستقاد ممن قتل بمثقّل، وإنما عليه الدية، وهم الحنفية، ولا حجة لهم فِي ذلك؛ لما تقدّم منْ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أقاد ممن قتل بحجر، كما تقدّم فِي حديث اليهوديّ، ولقوله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، والمماثلة بالمثقّل ممكنة، ولإمكان كون هَذَا القتل خطأ، أو شبه العمد، فاندفع القصاص بذلك، ولو سُلّم أنه كَانَ عمدًا لكان ذلك برضا العصبة، وأولياء الدم، لا بالحكم، وكلّ ذلك محتملُ، فلا حجة لهم فيه.

وفيه ما يدلّ عَلَى أن العاقلة تحمل الدية، وَقَدْ أجمع المسلمون عَلَى أنها تحمل دية الخطإ، وما زاد عَلَى الثلث، واختلفوا فِي الثلث، فَقَالَ الزهريّ: الثلث، فدونه هو فِي مال الجاني، ولا تحمله العاقلة. وَقَالَ سعيد بن المسيب: الثلث فما زاد عَلَى العاقلة، وما دون الثلث فِي مال الجاني، وبه قَالَ مالك، وعطاء، وعبد العزيز بن أبي سلمة، وأما ما دون الثلث فلا تحمله العاقلة عند منْ ذُكر، ولا عند أحمد. وقالت طائفة: عقل الخطإ عَلَى عاقلة الجاني، قلّت الجناية، أو كثرت، وهو قول الشافعيّ.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الإمام الشافعيّ رحمه الله تعالى، منْ تحمل العاقلة عقل الخطإ مطلقًا هو الأرجح عندي؛ لإطلاق النصوص الواردة فِي ذلك. والله تعالى أعلم.

قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: [فإن قيل]: كيف ألزم العاقلة الدية، والقتل عمدٌ، والعاقلة لا تعقل عمدًا، ولا صلحًا، ولا اعترافًا؟.

[فالجواب]: أن هَذَا الْحَدِيث خرّجه النسائيّ 11/ 4741 - منْ حديث حمل بن مالك رضي الله عنه، وَقَالَ فيه:"قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي جنينها بغرّة، وأن تُقتل بها"، وهو طريقٌ صحيح، وهذا نص فِي أنه قضى بالقصاص منْ القاتلة، بخلاف الأحاديث المتقدّمة، فإن فيها: أنه قضى عَلَى العاقلة بالدية.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: فِي تصحيحه الْحَدِيث عَلَى الإطلاق، نظر، فإن هذه الزيادة، وهي قوله:"وأن تُقتل المرأة" غير صحيحة، كما سبق بيان ذلك فِي 11/ 4741 وسيأتي أيضا فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى.

ووجه التلفيق، وبه يحصل الجواب عَلَى التحقيق: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بقتل القاتلة أوّلاً، ثم إن العصبة، والألياء اصطلحوا، عن أن التزم العصبة الدية، ويعفو الألياء، فقضى النبيّ صلى الله عليه وسلم بالدية على العصبة، لَمّا التزموها. والله تعالى أعلم. انتهى "المفهم" 5/ 65 - 67.

ص: 226

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله القرطبيّ منْ كون قتل هذه المرأة عمدًا، وأن القصاص كَانَ واجبًا، إلا أن أنهم اصطلحوا عَلَى الدية، وهو مقتضى ما مشى عليه المصنّف فِي "باب قتل المرأة بالمرأة" 11/ 4741 حيث استدلّ بالحديث عَلَى مشروعيّة قتل المرأة إذا قتلت امرأة عمدًا، لكنه خالف ذلك فِي الباب التالي حيث استدلّ بالحديث عَلَى أن هَذَا منْ شبه العمد، وليس عمدًا، وأن الواجب فيه الدية عَلَى العاقلة، وهذا هو الحقّ؛ لأن زيادة "وأن تُقتل المرأة" غير صحيحة، وأحاديث أبي هريرة، والمغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنهما، عَلَى خلافها، كما سيأتي تمام البحث فيه هناك، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم.

وقوله: "وورّثها ولدها، ومن معهم"، وفي رواية:"وورّثها عصبتها، ومن معهم": قَالَ القرطبيّ: أعاد الضمير الأول عَلَى الدية، والثاني عَلَى المقتولة، وعَنَى بالعصبة: بنيها، وبمن معهم منْ الزوج، ولم يُختلف فِي أن الزوج يرث هنا منْ دية زوجته فرضه، وإن كانوا قد اختلفوا فيه، هل يرث منْ دية الجنين؟.

والدية موروثة عَلَى الفرائض، سواء كانت عن خطإ، أو عن عمد تعذّر فيه القوَد، والذي يبيّن الحقّ فِي هَذَا الباب حديثان خرّجهما الترمذيّ:

[أحدهما] 2110: عن سعيد بن المسيّب، قَالَ: قَالَ عمر رضي الله عنه: الدية عَلَى العاقلة، ولا ترث المرأة منْ زوجها شيئًا، فأخبره الضحّاك بن سفيان الكلابيّ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه: أن ورِّث امرأة أَشيم الضِّبابيّ منْ دية زوجها، وَقَالَ: هَذَا حديث حسن صحيح.

[وثانيهما] 2111: عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فِي جنين امرأة منْ بني لحيان، سقط ميتًا، بغرة: عبد، أو أمة، ثم إن المرأة التي قضى عليها بغرة توفّيت، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن عقلها عَلَى عصبتها".

ثم حيث وجبت الدية عَلَى العاقلة، فلا تؤخذ منهم حالّةً، بل منجّمةً فِي ثلاث سنين، وهو قول عامّة أهل العلم منْ السلف والخلف، وتوزَّعُ عَلَى الأحرار البالغين الأغنياء الذكور، فلا تؤخذ منْ عبد، ولا منْ صبيّ، ولا منْ امرأة، ولا منْ فقير بالإجماع، عَلَى ما حكاه ابن المنذر.

واختلفوا فِي قدر ما يُوزّع عَلَى منْ يُطالب بها، فَقَالَ الشافعيّ منْ كثر ماله أُخذ منه نصف دينار، ومن كَانَ دونه ربع دينار، لا ينقص منه، ولا يُزاد عليه. وحكَى أبو ثور عن مالك أنه قَالَ: عَلَى كلّ رجل ربع دينار، وبه قَالَ أبو ثور. وَقَالَ أحمد: يحملون

ص: 227

بقدر ما يُطيقون. وَقَالَ أصحاب الرأي: ثلاثة دراهم، أو أربعة.

قال القرطبيّ: والقول ما قاله أحمد، فإن التحديد يحتاج إلى شرع جديد. انتهى "المفهم" 5/ 67 - 68.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله القرطبيّ منْ ترجيح مذهب أحمد رحمهما الله تعالى فِي تحميل العاقلة بقدر الطاقة، هو الحق؛ لإطلاق النصوص. والله تعالى أعلم.

وقوله: "وورّثها ولدها": بتشديد الراء: قَالَ السنديّ: والظاهر أن الضمير للقاتلة، بناء عَلَى أنها ماتت بعد ذلك أيضاً. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله السنديّ غير بعيد منْ ظاهر السياق، لكن تقدّم فِي كلام النوويّ ما يدلّ عَلَى أن الصواب أن الضمير للمرأة المجنيّ عليها، لا للجانية، فتأمّل. والله تعالى أعلم.

وقوله: "فَقَالَ حمَلُ بن مالك الْهُذَليّ الخ": "حمل" -بفتح الحاء المهملة، والميم. وهو هذليّ منْ قبيلة القاتلة، ولحيان فخذ منْ هُذيل، ولذلك صدق أن يقالى عَلَى القاتلة أنها هذليّة، لحيانيّة، ولحيان يقالى: بفتح اللام، وكسرها. قاله فِي "المفهم" 5/ 65.

وقوله: "ولا استهلّ": أي ولا صاح عند الولادة؛ ليُعرف به أنه مات بعد أن كَانَ حيًّا.

وقوله: "فمثل ذلك يُطَلُّ": قال النوويّ رحمه الله تعالى: رُوى فِي "الصحيحين"، وغيرهما بوجهين:[أحدهما]: يُطل -بضم الياء المثناة، وتشديد اللام-: ومعناه: يهُدَر، ويُلغَى، ولا يُضمَن.

[والثاني]: "بَطَلَ" -بفتح الباء الموحدة، وتخفيف اللام- عَلَى أنه فعل ماض، منْ البطلان، وهو بمعنى الْمُلغَى أيضا، وأكثر نسخ بلادنا بالمثناة، ونقل القاضي أن جمهور الرواة فِي "صحيح مسلم" ضبطوه بالموحدة، قَالَ أهل اللغة: يقال: طُلَّ دمُهُ -بضم الطاء، وأُطِلّ: أي أهدر، وأطله الحاكم، وطَلَّه: أهدره، وجوز بعضهم طَلَّ دَمُهُ -بفتح الطاء فِي اللازم، وأباها الأكثرون.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما هَذَا منْ إخوان الكُهّان، منْ أجل سجعه الذي سجع"، وفي الرواية الأخرى:"سَجْعٌ كسجع الأعراب":

قال النوويّ: قَالَ العلماء: إنما ذم سجعه لوجهين: [أحدهما]: أنه عارض به حكم الشرع، ورام إبطاله. [والثاني]: أنه تكلفه فِي مخاطبته، وهذان الوجهان منْ السجع مذمومان، وأما السجع الذي كَانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم يقوله فِي بعض الأوقات، وهو مشهور فِي

ص: 228

الْحَدِيث، فليس منْ هَذَا؛ لأنه لا يعارض به حكم الشرع، ولا يتكلفه، فلا نهى فيه، بل هو حسن، ويؤيد ما ذكرنا منْ التأويل، قوله صلى الله عليه وسلم:"كسجع الأعراب"، فأشار إلى أن بعض السجع هو المذموم. والله أعلم. انتهى "شرح مسلم" 11/ 178.

وَقَالَ فِي "الفتح" -عند قوله: "فَقَالَ حمل بن النابغة الخ"-: وفي رواية عبد الرحمن ابن خالد: "فَقَالَ ولي المرأة التي غُرِّمت: كيف أغرم يا رسول الله، منْ لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يُطَلّ، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنما هَذَا منْ إخوان الكهان"، وفي مرسل سعيد بن المسيب عند مالك:"قضى فِي الجنين يُقتَل فِي بطن أمه، بغرة: عبد، أو وليدة"، وفي رواية الليث، منْ طريق سعيد، الموصولة نحوه عند الترمذيّ، ولكن قَالَ:"إن هَذَا ليقول بقول شاعر، بل فيه غرة"، وفيه:"ثم إن المرأة التي قضي عليها بالغرة توفيت، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل عَلَى عصبتها"، وفي رواية عكرمة، عن ابن عباس:"فَقَالَ عمها: إنها قد أسقطت غلاما، قد نبت شعره، فَقَالَ أبو القاتلة: إنه كاذب، إنه والله ما استهل، ولا شرب ولا أكل، فمثله يُطَلّ، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: أسجع كسجع الجاهلية، وكهانتها؟ "، وفي رواية عُبيد بن نُضَيلة، عن المغيرة رضي الله عنه:"فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة عَلَى عصبة القاتلة، وغرّةً لما فيه بطنها، فَقَالَ رجل منْ عصبة القاتلة: أنغرم منْ لا أكل"، وفي آخره:"أسجع كسجع الأعراب، وجعل عليهم الدية"، وفي حديث عويم، عند الطبراني:"فَقَالَ أخوها، العلاء بن مسروح: يا رسول الله، أنغرم منْ لا شرب، ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل هَذَا يطل، فَقَالَ: أسجع كسجع الجاهلية"، ونحوه عند أبي يعلى، منْ حديث جابر، لكن قَالَ:"فقالت عاقلة القاتلة"، وعند البيهقي، منْ حديث أسامة بن عمير:"فَقَالَ أبوها: إنما يعقلها بنوها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: الدية عَلَى العصبة، وفي الجنين غرة، فَقَالَ: ما وُضع فحل، ولا صاح فاستهل، فأبطله فمثله يطل".

قَالَ الحافظ: وبهذا يجمع الاختلاف، فيكون كل منْ أبيها وأخيها وزوجها قالوا ذلك؛ لأنهم كلهم منْ عصبتها، بخلاف المقتولة، فان فِي حديث أسامة بن عمير أن المقتولة عامرية، والقاتلة هذلية، ووقع فِي رواية أسامة، فَقَالَ:"دعني منْ أراجيز الأعراب"، وفي لفظ:"أسجاعة بك؟ "، وفي آخر:"أسجع كسجع الجاهلية؟، قيل: يا رسول الله، إنه شاعر"، وفي لفظ:"لسنا منْ أساجيع الجاهلية فِي شيء"، وفيه: فَقَالَ: إن لها ولدا هم سادة الحي، وهم أحق أن يعقلوا عن أمهم، قَالَ: بل أنت أحق أن تعقل عن أختك منْ ولدها، فَقَالَ مالي شيء: قَالَ حمل: وهو يومئذ عَلَى صدقات هذيل،

ص: 229

وهو زوج المرأة، وأبو الجنين، أقبض منْ صدقات هذيل"، أخرجه البيهقي، وفي رواية ابن أبي عاصم: "ما له عبد، أو أمة، قَالَ عشر منْ الإبل، قالوا: ما له منْ شيء، إلا أن تعينه منْ صدقة بني لحيان، فأعانه بها، فسعى حمل عليها حَتَّى استوفاها"، وفي حديثه عند الحارث بن أبي أسامة: "فقضى أن الدية عَلَى عاقلة القاتلة، وفي الجنين غرة: عبد، أو أمة، أوعشر منْ الإبل، أو مائة شاة". انتهى "فتح" 14/ 242 - 244.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق تمام البحث فيه فِي الْحَدِيث الماضي، فلا تغفل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4821 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ، فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، رَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى، فَطَرَحَتْ جَنِينَهَا، فَقَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِغُرَّةٍ: عَبْدٍ، أَوْ وَلِيدَةٍ").

قَالَ الجامع عفا والله تعالى عنه: الْحَدِيث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق شرحه، وبيان مسائله قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4822 -

(قَالَ الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَضَى فِي الْجَنِينِ، يُقْتَلُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، بِغُرَّةٍ: عَبْدٍ، أَوْ وَلِيدَةٍ، فَقَالَ الَّذِي قَضَى عَلَيْهِ: كَيْفَ أُغَرَّمُ مَنْ لَا شَرِبَ، وَلَا أَكَلَ، وَلَا اسْتَهَلّ، وَلَا نَطَقَ؟ فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا هَذَا مِنَ الْكُهَّانِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "ابن القاسم": هو عبد الرحمن الْعُتَقيّ الفقيه المصريّ. و"مالك": هو ابن أنس إمام دار الهجرة.

وقوله: "منْ الْكُهّان" -بضم الكاف، وتشديد الهاء-: جمع كاهن، اسم فاعل منْ كهن له، كمنع، ونصر، وكرُم، كَهَانة بالفتح، وتكهّن تكهُّنًا: قضى له بالغيب، فهو كاهنٌ، ويُجمع عَلَى كَهَنَة، وحرفته الكِهانة بالكسر. قاله فِي "القاموس".

وفي رواية: "إنما هَذَا منْ إخوان الْكُهّان"، قَالَ القرطبيّ: فسّره الراوي بقوله: "منْ أجل سجعه" يعني أنه تشبه بالكهّان، فسجع كما يسجعون، حين يُخبرون عن المغيّبات، كما قد ذكر ابن إسحاق منْ سجع شِقّ، وسَطيح، وغيرهما، وهي عادة مستمرّةٌ فِي الكهان. وقيل: إنما أنكر النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك السجع؛ لأنه جاء به فِي مقابلة حكم الله، مستبعدًا له، ولا يذمّ منْ حيث السجع؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد تكلّم بكلام يشبه السجع فِي غير ما موضع. وقيل: إنما أنكر عليه تكلّف الأسجاع عَلَى طرق الكهان،

ص: 230

وحُوشية

(1)

الأعراب، وليس بسجع فصحاء العرب، ولا عَلَى مقاطعها.

قَالَ القرطبيّ: وهذا القول الأخير إنما يصحّ أن يقال غلى قوله صلى الله عليه وسلم: "أسجع كسجع الأعراب؟ "، لا عَلَى قوله:"إنما هَذَا منْ إخوان الكهّان"، فتأمله. انتهى "المفهم" 5/ 64 - 65.

والحديث مرسل صحيحٌ بما سبقه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4823 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَلَفٌ -وَهُوَ ابْنُ تَمِيمٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ نُضَيْلَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: أَنَّ امْرَأَةً ضَرَبَتْ ضَرَّتَهَا بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ، فَقَتَلَتْهَا، وَهِىَ حُبْلَى، فَأُتِيَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ بِالدِّيَةِ، وَفِى الْجَنِينِ غُرَّةً، فَقَالَ عَصَبَتُهَا: أَدِى مَنْ لَا طَعِمَ، وَلَا شَرِبَ، وَلَا صَاحَ فَاسْتَهَلّ، فَمِثْلُ هَذَا يُطَلّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الأَعْرَابِ").

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(عليّ بن محمد بن عليّ) بن أبي الْمَضَاء الْمِصِّيصيّ القاضي، ثقة [11] 83/ 2415 منْ أفراد المصنّف.

2 -

(خلف بن تميم) بن أبي عتّاب أبو عبد الرحمن الكوفيّ، نزيل المِصّيصة، صدوقٌ عابدٌ [9] 83/ 2415 منْ أفراد المصنّف، وابن ماجه.

3 -

(زائدة) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصلت الكوفيّ، ثقة ثبتٌ، صاحب سنّة [7] 74/ 91.

4 -

(منصور) بن المعتمر أبو عتّاب الكوفيّ، ثقة ثبت [6] 2/ 2.

5 -

(إبراهيم) بن يزيد بن قيس النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقة فقيه، يرسل كثيرًا 29/ 33.

6 -

(عُبيد بن نُضَيلة) -بالتصغير فيهما-، ويقال: ابن نَضْلَة -بفتح النون، وسكون المعجمة- الْخُزاعيّ، أبو معاوية الكوفيّ المقرىء، ثقة [3].

رَوَى عن ابن مسعود، والمغيرة بن شعبة، وسليمان بن صرد، وقرأ القرآن عَلَى علقمة، ورَوَى عنه، وعن مسروق، وعَبِيدة السلماني. وعنه إبراهيم النخعي، وأشعث ابن سليم، والحسن الْعُرَني، وحمران بن أعين، وقرأ عليه. قَالَ العجليّ: كوفيّ تابعيّ

(1)

ذكر فِي "القاموس" منْ "معاني الحُوشي" بالضم: الغامض منْ الكلام، ولعله المراد هنا، والله تعالى أعلم ..

ص: 231

ثقة، كَانَ مُقرىء أهل الكوفة فِي زمانه. وَقَالَ النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وذكره أبو أحمد العسكري فِي "الصحابة"، ثم قَالَ: وليس يصح سماعه، وأكبر ظني أنه مرسل. وَقَالَ أبو نعيم الحافظ فِي "المعرفة": مختلف فِي صحبته. وذكره ابن سعد فِي الطبقة الأولى منْ أهل الكوفة، وَقَالَ: رَوَى عن علي فِي الفريضة، وقيل: إنه قرأ عَلَى عبد الله، ثم قرأ عَلَى علقمة. وذكره ابن حزم فِي "كتاب طبقات القراء" فِي الطبقة الأولى منْ أهل الكوفة، مع أبي عمرو الشيباني، وأبي عبد الرحمن السُّلَمي، وتميم بن حَذْلَم، وأبي ميسرة، عمرو بن شرحبيل، والحارث بن قيس، وهذيل بن شُرَحبيل، وَقَالَ: كل هؤلاء أخذ القراءة عن ابن مسعود، وأدركوا كلهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم لم يلقوه. وفي "كتاب الكني" للنسائي، عن ابن سيرين، قَالَ: ذكرت لأبي معاوية، عُبيد بن نُضيلة، وَقَالَ عاصم بن بهدلة: كَانَ والله قارئا للقرآن. وَقَالَ ابن حبّان فِي "الثقات": عُبيد بن نَضْلَة، وَقَدْ قيل: عُبيد بن نُضيلة، وَقَالَ: مات فِي ولاية بِشر بن مروان عَلَى العراق، سنة أربع وسبعين. وَقَالَ خليفة: مات فِي ولاية بشر بن مروان سنة (3) أو (74)، وَقَالَ ابن سعد: كَانَ ثقة، قليل الْحَدِيث.

روى له مسلم، والأربعة، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث، كرّره ست مرّات، برقم 4823 و4824 و4825 و4826 و4827 و4828. وَقَالَ فِي "التهذيب": له فِي الكتب حديثان.

7 -

(المغيرة بن شعبة) بن مسعود بن مُعَتِّب الثقفيّ الصحابيّ المشهور، أسلم رضي الله عنه قبل الحديبية، وولِيَ إِمْرة البصرة، ثم الكوفة، مات رضي الله عنه سنة (50 هـ) عَلَى الصحيح، تقدّمت ترجمته فِي 16/ 17. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخ المصنّف، فإنه منْ أفراده، وخلف بن تميم، فإنه منْ أفراده، وابن ماجه. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فمصّيصيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ) رضي الله تعالى عنه (أَنَّ امْرَأَةً ضَرَبَتْ ضَرَّتَهَا) بفتح الضاد المعجمة، وتشديد الراء: قَالَ أهل اللغة: كل واحدة منْ زوجتي الرجل ضَرَّةٌ للأخرى، سميت بذلك لحصول المُضَارَّة بينهما فِي العادة، تَضَرَّر كل واحدة بالأخرى. قاله

ص: 232

النوويّ فِي "شرح مسلم". وَقَالَ الفيّوميّ: ضرّة المرأة: امرأة زوجها، والجمع ضَرّات عَلَى القياس، وسُمع ضَرَائر، وكأنها جمع ضَرِيرة، مثلُ كَرِيمة وكرائم، ولا يكاد يوجد لها نَظير، ورجلٌ مُضِرّ: ذو ضَرَائر، وامرأة مُضِرّ أيضًا: لها ضرائر، وهو اسم فاعل منْ أضرّ: إذا تزوّج عَلَى ضَرّ. انتهى.

(بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ)"العَمُود" -بفتح العين-: الخشبة القائمة فِي وسط الخِباء، والجمع أَعمِدةٌ، وعُمُدٌ -بضمتين- والعَمَد -بفتحتين- اسم للجمع. أفاده فِي "اللسان". و"الفُسطاط" -بضمّ الفاء، وكسرها-: بيتٌ منْ الشَّعْر، والجمع فَسَاطيط. قاله فِي "المصباح".

وفي رواية أخرى: "بحجر"، ولا تعارض بينهما؛ إذ يَحتمل أن تكون جمعت ذلك عليها، فأخبر أحد الراويين بإحدى الآلتين، والثاني بلأخرى. قاله فِي "المفهم" 5/ 59 - 60 (فَقَتَلَتْهَا، وَهِيَ حُبْلَى) وفي رواية: "فقتلتها، وما فِي بطنها": قَالَ القرطبيّ: ظاهر العطف بالفاء أن القتل وقع عقب الضرب، وليس كذلك، لما فِي رواية سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فِي جنين امرأة، منْ بني لحيان، سقط ميتًا، بغرّة: عبد، أو وليدة، ثم إن المرأة تُوفّيت"، متَّفقٌ عليه، وتقدّم للمصنّف قبل ثلاثة أحاديث 4819.

قَالَ: وهذا فِي تأخّر موتها عن وقت الضرب، وفي هذه الرواية أيضًا بيان أن الجنين خرج ميتًا، والأولى محتملةٌ لأن يكون خرج، ولأن يكون لم يخرُج، لكنه مات، وبينهما فرقٌ، فإنه إذا مات فِي بطنها، ولم يخرج، فلا شيء فيه عند كافّة العلماء؛ لأنه لم تتحقّق حياته، ولأنه كالعضو منها، ولم ينفصل عنها، فلا شيء فيه. وأجمع أهل العلم عَلَى أن فِي الجنين الذي يسقط منْ ضرب أمه حيّا، ثم يموت الدية كاملةً فِي الخطإ، وفي العمد بعد القسامة، وقيل: بغير قسامة، لكن اختلفوا فيما به تُعلم حياته. وَقَدْ اتفقوا عَلَى أنه إذا استُهلّ صارخًا، أو ارتضع، أو تنفّس نفَسًا مُحقّقًا حيٌّ، فيه الدية كاملة. واختلفوا فيما إذا تحرّك، فَقَالَ الشافعيّ، وأبو حنيفة: حركته تدلّ عَلَى حياته. وَقَالَ مالك: لا، إلا أن يقارنها طول إقامة، وسببه اختلاف شهادة الحركة فِي الوجود للحياة. انتهى"المفهم" 5/ 60.

(فَأُتِيَ) بالبناء للمفعول (فِيهَا) أي بسببها (النَّبِيُّ) بالرفع عَلَى أنه نائب فاعل "أُتي"(صلى الله عليه وسلم، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ بِالدِّيَةِ، وَفِي الْجَنِينِ غُرَّةً) قَالَ القرطبيّ: وهذا نصّ فِي أن الغرّة تقوم بها العاقلة، وبه قَالَ الكوفيّون، والشافعيّ، وهو أحد قولي مالك. وقيل: عَلَى الجاني، وهو المشهور منْ قول مالك، وقاله أهل البصرة.

ص: 233

واختلفوا، هل تلزمه الكفّارة مع الغرّة، أم لا؟، قولان: الأول لمالك. انتهى. (فَقَالَ عَصَبَتُهَا: أَدِي) مضارع وَدَى القاتل القتيل، منْ باب ضرب: إذا أعطى وليّه المال الذي هو بدل النفس (مَنْ لَا طَعِمَ) بكسر العين المهملة، منْ باب تَعِب (وَلَا شَرِبَ) بكسر الراء، بوزن سابقه (وَلَا صَاحَ) أي رفع صوته عند الولادة (فَاسْتَهَلَّ) أي فيقال: إنه استهلّ، ولابُدّ منْ تقدير مثل ذلك، والاستهلال هو الصياح عند الولادة، فلا يصحّ أن يُعطف عليه بالفاء، فيُتأمّل. قاله السنديّ (فَمِثْلُ هَذَا يُطَلُّ) مبتدأ وخبر، أي مثل هَذَا الجنين الذي سقط ميتا يهُدر دمه، ولا يستحقّ الضمان (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الأَعْرَابِ) الهمزة للاستفهام الإنكاريّ، و"سجعٌ" بالرفع خبر لمقدّر: أي أي أهذا سجعٌ مثلُ سَجع الأعراب؟. والسجع -بفتح، فسكون: الكلام المقَفَّى، أو موالاة الكلام عَلَى رويّ، جمعه أَسجاعٌ، كالأسجوعة بالضمّ، جمعه أَساجيع، وكمنع: نطق بكلام له فواصل، فهو سجّاعةٌ، وسجعت الحمامة: ردّدت صوتها، فهي ساجعةٌ، وسجوعٌ. قاله فِي "القاموس".

[تنبيه]: أخرج الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه هَذَا فِي "صحيحه" منْ طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عنه، ولفظه فِي "الديات":

6509 -

حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وهيب، حدثنا هشام، عن أبيه، عن المغيرة بن شعبة، عن عمر رضي الله عنه: أنه استشارهم فِي إملاص المرأة، فَقَالَ المغيرة:"قضى النبيّ صلى الله عليه وسلم بالغرة، عبد: أو أمة، فشهد محمد بن مسلمة، أنه شهد النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى به".

6510 -

حدثنا عبيد الله بن موسى، عن هشام، عن أبيه، أن عمر نَشَدَ النَّاس، منْ سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم، قضى فِي السقط؟ فَقَالَ المغيرة: أنا سمعته قضى فيه بغرة: عبد، أو أمة، قَالَ: ائت بمن يشهد معك عَلَى هَذَا، فَقَالَ محمد بن مسلمة: أنا أشهد عَلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثل هَذَا.

ولفظه فِي "فِي كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة":

7317 -

حدثنا محمد أخبرنا أبو معاوية، حدثنا هشام، عن أبيه، عن المغيرة بن شعبة، قَالَ: سأل عمر بن الخطاب، عن إملاص المرأة، وهي التي يُضرب بطنها، فتُلقِي جنينا؟ فَقَالَ: أيكم سمع منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه شيئا؟ فقلت: أنا، فَقَالَ: ما هو؟ قلت: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "فيه غرة: عبدٌ، أو أمة"، فَقَالَ: لا تَبْرَح حَتَّى تجيئني بالمخرج فيما قلت، فخرجت، فوجدت محمد بن مسلمة، فجئت به، فشهد معي أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم، يقول:"فيه غرهّ: عبدٌ، أو أمةٌ".

ص: 234

قَالَ فِي "الفتح": قوله: "فِي إملاص المرأة" فِي رواية البخاريّ فِي "الاعتصام" منْ طريق أبي معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن المغيرة:"سأل عمر بن الخطاب فِي إملاص المرأة، وهي التي تُضرب بطنها، فتلقي جنينها، فَقَالَ: أيُّكم سمع منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه شيئا"، وهذا التفسير أخص، منْ قول أهل اللغة: إن الإملاص أن تُزلِقَه المرأة قبل الولادة، أي قبل حين الولادة، هكذا نقله أبو داود فِي "السنن" عن أبي عبيد، وهو كذلك فِي "الغريب" له، وَقَالَ الخليل: أملصت المرأة، والناقة: إذا رمت ولدها. وَقَالَ ابن القطاع: أملصت الحامل: ألقت ولدها. ووقع فِي بعض الروايات: "ملاص" بغير ألف، كأنه اسم فعل الولد، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، أو اسم لتلك الولادة، كالْخِدَاج. ووقع عند الإسماعيلي منْ رواية ابن جريج، عن هشام، قَالَ هشام: الملاص للجنين، وهذا يتخرج أيضا عَلَى الحذف، وَقَالَ صاحب "البارع": الإملاص: الإسقاط، وإذا قبضت عَلَى شيء، فسقط منْ يدك، تقول: أملص منْ يدي إملاصا، وملص ملصا.

وقوله: "فشهد محمد بن مسلمة، أنه شهد النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى به"، كذا فِي رواية وهيب مختصرا، وفي رواية ابن عيينة:"فَقَالَ عمر: منْ يشهد معك، فقام محمد، فشهد بذلك"، وفي رواية وكيع:"فَقَالَ ائثني بمن يشهد معك، فجاء محمد بن مسلمة، فشهد له"، وفي رواية أبي معاوية:"فَقَالَ: لا تبرح حَتَّى تجيء بالمخرج مما قلت، قَالَ: فخرجت، فوجدت محمد بن مسلمة، فجئت به، فشهد معي، أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم، قضى به". انتهى "فتح" 14/ 245 - 246. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه بهذا السياق متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -39/ 4823 و40/ 4824 و4825 و4826 و4827 و4828 و4829 - وفي "الكبرى" 38/ 7025 و39/ 7026 و7027 و7028 و7029 و7030 و7031. وأخرجه (خ) فِي "الديات" 6905 و6906 و6907 و"الاعتصام" 7317 (م) فِي "القسامة" 1682 و1683 (د) فِي "الديات" 4568 و4570 (ت) فِي "الديات" 1411 (ق) فِي "الديات" 2633 و2640 (أحمد) فِي "مسند الكوفيين" 17670 و17671 و17672 و17748 (الدارمي) فِي "المقدمة" 640 و"الديات" 2274. والله تعالى أعلم.

ص: 235

(المسألة الثالثة): فِي فوائده

(1)

:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان وجوب دية جنين المرأة، إذا سقط ميتًا.

قَالَ الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: الْحَدِيث أصل فِي إثبات دية الجنين، وأن الواجب فيه غرة، إما عبد، وإما أمة، وذلك إذا ألقته ميتا بسبب الجناية، وتَصَرَّف الفقهاءُ بالتقييد فِي سن الغرة، وليس ذلك منْ مقتضى الْحَدِيث، كما تقدم. (ومنها): أن فِي استشارة عمر رضي الله عنه فِي ذلك أصل فِي سؤال الإمام عن الحكم، إذا كَانَ لا يعلمه، أو كَانَ عنده شك، أو أراد الاستثبات. (ومنها): أن فيه أن الوقائع الخاصة قد تَخفَى عَلَى الأكابر، ويعلمها منْ دونهم، وفي ذلك رَد عَلَى المقلد، إذا استُدِلَّ عليه بخبر يخالفه، فيُجِيب لو كَانَ صحيحا لعلمه فلان مثلا، فان ذلك إذا جاز خفاؤه عن مثل عمر رضي الله عنه، فخفاؤه عن منْ بعده أجوز.

(ومنها): أنه قد تعلق بقول عمر رضي الله عنه لتأتين بمن يشهد معك، مَن يَرَى اعتبار العدد فِي الرواية، ويَشتَرِط أنه لا يُقبل أقل منْ اثنين، كما فِي غالب الشهادات، وهو ضعيف، كما قَالَ ابن دقيق العيد، فإنه قد ثبت قبول الفرد فِي عدة مواطن، وطلب العدد فِي صورة جزئية، لا يدل عَلَى اعتباره فِي كل واقعة؛ لجواز المانع الخاص بتلك الصورة، أو وجود سبب يقتضي التثبت، وزيادةَ الاستظهار، ولاسيما إذا قامت قرينة، وقريب منْ هَذَا قصة عمر رضي الله عنه مع أبي موسى رضي الله عنه فِي الاستئذان، وَقَدْ صرح عمر رضي الله عنه فِي قصة أبي موسى رضي الله عنه بأنه أراد الاستثبات.

(ومنها): أن قوله: "فِي إملاص المرأة" أصرح فِي وجوب الانفصال ميتا، منْ قوله فِي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"قضى فِي الجنين"، وَقَدْ شرط الفقهاء فِي وجوب الغرة انفصال الجنين ميتا بسبب الجناية، فلو انفصل حيا، ثم مات وجب فيه القوَدُ، أو الدية كاملة، ولو ماتت الأم، ولم ينفصل الجنين، لم يجب شيء عند الشافعيّة؛ لعدم تيقن وجود الجنين، وعلى هَذَا هل المعتبر نفس الانفصال، أو تحقق حصول الجنين، فيه وجهان: أصحهما الثاني، ويظهر أثره فيما لو قُدَّت نصفين، أو شق بطنها، فشوهد الجنين، وأما

(2)

إذا خرج رأس الجنين مثلا بعدما ضرب، وماتت الأم، ولم ينفصل.

قَالَ ابن دقيق العيد: ويحتاج منْ قَالَ ذلك إلى تأويل الرواية، وحملها عَلَى أنه

(1)

ليس المراد فوائد سياق المصنّف فقط، بل ما يعمّ الروايات التي أوردتها فِي الشرح، فتنبّه.

(2)

هكذا نسخة "الفتح"، والظاهر أنه معطوف عَلَى ما قبله، وأن نصه هكذا: أو خرج رأس الجنين الخ، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.

ص: 236

انفصل، وان لم يكن فِي اللفظ ما يدل عليه.

قَالَ الحافظ: وقع فِي حديث ابن عباس عند أبي داود: "فأسقطت غلاما، قد نبت شعره ميتا"، فهذا صريح فِي الانفصال، ووقع مجموع ذلك فِي حديث الزهريّ، ففي رواية عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الماضية فِي "الطب":"فأصاب بطنها، وهي حامل، فقتل ولدها فِي بطنها"، وفي رواية مالك فِي هَذَا الباب:"فطرحت جنينها".

(ومنها): أنه استُدلَّ به عَلَى أن الحكم المذكور خاص بولد الحرة؛ لأن القصة وردت فِي ذلك، وقوله:"فِي إملاص المرأة"، وان كَانَ فيه عموم، لكن الراوي ذكر أنه شهد واقعة مخصوصة، وَقَدْ تصرف الفقهاء فِي ذلك، فَقَالَ الشافعيّة: الواجب فِي جنين الأمة عشر قيمة أمه، كما أن الواجب فِي جنين الحرة عشر ديتها. (ومنها): أنه استُدلّ به أيضًا عَلَى أن الحكم المذكور خاص بمن يُحكَم بإسلامه، ولم يتعرض لجنين محكوم بتهوده، أو تنصره، ومن الفقهاء منْ قاسه عَلَى الجنين المحكوم بإسلامه تبعا، وليس هَذَا منْ الْحَدِيث.

(ومنها): أن فيه أن القتل المذكور لا يَجري مجرى العمد. (ومنها): أنه استُدِلّ به عَلَى ذم السجع فِي الكلام، ومحل الكراهة، إذا كَانَ ظاهر التكلف، وكذا لو كَانَ منسجما، لكنه فِي إبطال حق، أو تحقيق باطل، فأما لو كَانَ منسجما، وهو فِي حق، أو مباح، فلا كراهة، بل ربما كَانَ فِي بعضه ما يستحب، مثل أن يكون فيه إذعان مخالف للطاعة، كما وقع لمثل القاضي الفاضل

(1)

فِي بعض رسائله، أو إقلاعٌ عن معصية، كما وقع لمثل أبي الفرج ابن الجوزي، فِي بعض مواعظه، وعلى هَذَا يُحمل ما جاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذا منْ غيره منْ السلف الصالح.

قَالَ الحافظ: والذي يظهر لي، أن الذي جاء منْ ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، لم يكن عن قصد إلى التسجيع، وإنما جاء اتفاقا؛ لعظم بلاغته، وأما منْ بعده فقد يكون كذلك، وَقَدْ يكون عن قصد، وهو الغالب، ومراتبهم فِي ذلك متفاوتة جدا. ذكره فِي "الفتح" 14/ 246 - 247.

(ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله تعالى: لا يجوز للقاضي الحكم إلا بعد طلب حكم الحادثة منْ الكتاب، أو السنة، فإن عَدِمه رجع إلى الإجماع، فان لم يجده، نظر هل يصح الحمل عَلَى بعض الأحكام المقررة، لعلة تجمع بينهما، فإن وجد ذلك لزمه القياس عليها، إلا إن عارضتها علة أخرى، فيلزمه الترجيح، فإن لم يجد علة، استدل

(1)

لم أهتد لمعرفته، فالله تعالى أعلم.

ص: 237

بشواهد الأصول، وغلبة الاشتباه، فإن لم يتوجه له شيء منْ ذلك، رجع إلى حكم العقل، قَالَ: هَذَا قول ابن الطيب -يعني أبا بكر الباقلاني- ثم أشار إلى إنكار كلامه الأخير بقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} الآية: [الأنعام: 38]، وَقَدْ علم الجميع بأن النصوص، لم تحط بجميع الحوادث، فعرفنا أن الله قد أبان حكمها، بغير طريق النص، وهو القياس، ويؤيد ذلك قوله تعالى:{لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} الآية [النِّساء: 83]؛ لأن الاستنباط هو الاستخراج، وهو بالقياس؛ لأن النص ظاهر، ثم ذَكَر فِي الرد عَلَى منكري القياس، وألزمهم التناقض؛ لأن منْ أصلهم إذا لم يوجد النص الرجوع إلى الإجماع، قَالَ: فيلزمهم أن يأتوا بالإجماع عَلَى ترك القول بالقياس، ولا سبيل لهم إلى ذلك، فوضح أن القياس إنما ينكر، إذا استُعمل مع وجود النص، أو الإجماع، لا عند فقد النص والإجماع. وبالله التوفيق. ذكره فِي "الفتح" فِي "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة" 15/ 234 رقم 7317. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌40 - (صِفَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ، وَعَلَى مَنْ دِيَةُ الأَجِنَّةِ، وَشِبْهِ الْعَمْدِ؟)

أي هَذَا باب ذكر الأحاديث الدالة عَلَى صفة شبه العمد، وعلى أي شخص تجب دية الأجنّة، ودية شبه العمد.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ظاهر صنيع المصنّف رحمه الله تعالى هَذَا يقتضي أنه يرى أن قتل هذه المرأة، وجنينها المذكور فِي حديث الباب منْ قسم شبه العمد، لا منْ العمد، وهذا مخالف لما سبق له منْ الاحتجاج به عَلَى وجوب القصاص فِي باب "قتل المرأة بالمرأة" 11/ 4741 - والذي يظهر لي أن ما هنا هو الأصحّ؛ لأن زيادة:"وأن تُقتل بها" لم ترو إلا منْ رواية ابن جريج، عن عمرو بن دينار، وخالف سفيان بن عيينة، فلم يذكرها، قَالَ المنذري فِي "مختصر السنن": قوله: "وأن تُقتل" لم يُذكر فِي غير هذه الرواية، وَقَدْ روي عن ابن دينار أنه شكّ فِي قتل المرأة بالمرأة. انتهى.

ص: 238

والحاصل أن هذه الزيادة غير ثابتة؛ لأمور:

[أحدها]: أن ابن جريج خالف ابن عيينة فِي ذكرها، وابن عيينة أثبت منه، كما نصّ عَلَى ذلك أحمد، وابن معين، وابن المدينيّ، وأبو حاتم رحمهم والله تعالى، كما أوضح ذلك الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى فِي "شرح علل الترمذيّ" ص 274.

وَقَدْ أشرت إلى ذلك فِي "ألفية العلل"، حيث قلت:

وَابْنُ عُيَينَةَ بِعَمْرو أَعْلَمُ

كَمَا بِهِ جُلُّ الْوُعَاةِ حَكَمُوا

[ثانيها]: أنه اختلُف فيه عَلَى ابن جريج، فقد راوه بعضهم عنه، ولم يذكرها، كما ذكر ذلك ابن بطّال عن بعض شيوخه، فِي كلامه الآتي، إن شاء الله تعالى.

[ثالثها]: أن عمرو بن دينار كَانَ يشك فِي قتل المرأة بالمرأة، فلو كَانَ الرواية ثابتةً لما شك فيه.

[رابعها]: أن هذه القصّة رويت فِي "الصحيحين"، وفي غيرهما منْ طرق مختلفة، وليس فِي شيء منها ذكر قتل المرأة أصلاً، كما أشار إليه المنذري رحمه الله تعالى، فدلّ ذلك كله عَلَى أن الزيادة غير ثابتة.

فتبيّن بهذا أن الصواب أن قتل المرأة المذكورة فِي حديث الباب منْ نوع شبه العمد، لا منْ العمد، وأن استدلال المصنّف به عَلَى ما ترجم له هنا هو الصواب، بخلاف ما سبق له منْ الاحتجاج به عَلَى وجوب القصاص فِي قتل المرأة بالمرأة، وَقَدْ سبق بيان ذلك فِي 11/ 4741 - بحمد الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب.

وأما قوله: (وَذِكْرِ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ النَّاقِلِينَ لِخَبَرِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ نُضَيْلَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ رضي الله عنه).

فوجه ذلك أنه اختُلف عَلَى إبراهيم النخعيّ، فرواه منصور بن المعتمر عنه، عن عُبيد ابن نُضيلة، عن المغيرة رضي الله عنه موصولاً، وخالفه الأعمش، فرواه عنه، قَالَ: ضربت امرأة ضرّتها بحجر، وهي حبلى، فقتلتها، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فِي بطنها غرّة

الْحَدِيث، فجعله مرسلاً، ولكن هَذَا الاختلاف لا يضرّ فِي صحّة الْحَدِيث؛ لأن منصورًا ثقة ثبت حافظ، فترجح روايته عَلَى رواية الأعمش، ولهذا أخرجها مسلم فِي "صحيحه". والله تعالى أعلم بالصواب.

4824 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ نُضَيْلَةَ الْخُزَاعِيِّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: ضَرَبَتِ امْرَأَةٌ ضَرَّتَهَا بِعَمُودِ الْفُسْطَاطِ، وَهِيَ حُبْلَى، فَقَتَلَتْهَا، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، دِيَةَ الْمَقْتُولَةِ عَلَى عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ، وَغُرَّةً لِمَا فِي بَطْنِهَا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ: أَنَغْرَمُ دِيَةَ مَنْ لَا أَكَلْ، وَلَا شَرِبَ، وَلَا

ص: 239

اسْتَهَلّ، فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الأَعْرَابِ، فَجَعَلَ عَلَيْهِمُ الدِّيَةَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن قُدامة": هو ابن أعين الهاشميّ مولاهم الْمِصّيصيّ، ثقة [10] 19/ 528 منْ أفراد المصنّف، وأبي داود. و"جرير": هو ابن عبد الحميد. و"منصور": هو ابن العتمر. و"إبراهيم": هو ابن يزيد النخعيّ.

وقوله: "فَقَالَ رجل الخ": تقدّم فِي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه حمل بن مالك رضي الله عنه.

وقوله: "أنغرم" يحتمل أن يكون بفتح الراء، مضارع غَرِم، يقال: غَرِمتُ الدينَ، وغيره أغرَمُ، منْ باب تعِبَ، غُرْمًا بالضم، ومَغْرمًا بالفتح، وغَرامة بالفتح أيضًا: إذا أدّته، ويحتمل أن يكون بتشديدها، مبنيًّا للمفعول.

والحديث متّفقٌ عليه، وتقدّم شرحه، وبيان مسائله فِي الْحَدِيث الذي قبله، وَقَدْ سبق آنفاً أن استدلال المصنّف به عَلَى ما ترجم له هنا صحيح، بخلاف استدلاله به عَلَى سبق له فِي باب 11/ 4741 - "قتل المرأة بالمرأة"، وذلك أن الْحَدِيث فيه بيان صفة شبه العمد، وأن ديته، ودية الجنين عَلَى عصبة القاتلة.

قَالَ الإمام ابن بطّال رحمه الله تعالى فِي "شرح البخاريّ": وفي هَذَا الْحَدِيث حجة لمن أوجب دية شبه العمد عَلَى العاقلة، وهو قول الثوريّ، والكوفيين، والشافعيّ، قالوا: منْ قتل إنسانًا بعصًى، أو حجر، أو شبهه، مما يمكن أن يموت به القتيل، ويمكن ألا يموت، فمات منْ ذلك أن فيه الدية عَلَى عاقلة القاتل، كما حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا القضيّة بدية المرأة عَلَى عاقلة القاتلة، قالوا: وهذا شبه العمد، والدية مغلّظة، ولا قَوَد فيه.

وأنكر مالك، والليث شبه العمد، وَقَالَ مالك: هو باطلٌ، فكلّ ما عُمد به القتل، فهو عمدٌ، وفيه القوَد، والحجة لهم ما روى أبو عاصم النبيل، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عبّاس، عن عمر رضي الله عنهم: أنه نشد النَّاس ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي الجنين، فقام حمل بن مالك رضي الله عنه، فَقَالَ: كنت بين امرأتين، فضربت إحداهما الأخرى بمِسطَح، فقتلتها، وجنينها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي جنينها بغرّة، وأن تُقتل المرأة". قالوا: وهذا مذهب عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، روي عنه أنه قَالَ: يعمد أحدكم، فيضرب أخاه بمثل أكلة اللحم -قَالَ الحجاج-: يعني العصا، ثم يقول: لا قود عليّ، لا أوتى بأحد فعل ذلك، إلا أقدته.

قَالَ ابن بطّال: فسألت بعض شيوخي عن حديث ابن جريج، عن عمرو بن دينار،

ص: 240

فَقَالَ: الأحاديث التي أخرجها البخاريّ التي جاء فيها الدية عَلَى العاقلة أصحّ منه؛ لأن ابن عيينة قد رواه عن عمرو بن دينار، ولم يذكر فيه قتل المرأة الضاربة بالمسطح، وكذلك رواه الحميديّ عن هشام بن سليمان المخزوميّ، عن ابن جُريج، مثل رواية ابن عيينة، ولم يذكر فيه قتل المرأة، ورَوَى شعبة، عن قتادة، عن أبي المليح، عن حمَل بن مالك بن النابغة، قَالَ:"كانت لي امرأتان، فضربت إحداهما الأخرى بحجر، فأصابتها، فقتلتها، وهي حامل، فألقت جنينًا، وماتت، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية عَلَى العاقلة، وقضى فِي الجنين بغرّة: عبدٍ، أو أمة".

قَالَ الطحاويّ: فلما اضطرب حديث حمل بن مالك، كَانَ بمنزلة ما لم يرد فيه شيء، وثبت ما روى أبو هريرة، والمغيرة فيها، وهو نفي القصاص، ولَمّا ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم جعل دية المرأة عَلَى العاقلة، ثبت أن دية شبه العمد عَلَى العاقلة. وَقَدْ رُوي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قَالَ: شبه العمد بالعصا، والحجر الثقيل، وليس فيهما قَوَد.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي ادّعاه الطحاويّ منْ اضطراب حديث حمل ابن مالك رضي الله عنه فيه نظرٌ لا يخفى، فإن الْحَدِيث ليس فيه اضطراب يوجب اطّراحه، فإن شرط الاضطراب أن لا يمكن ترجيح بعض الروايات عَلَى بعضها، وإلا فيُؤخذ بالراجح، ويطرح المرجوح، وما هنا كذلك، فقد تقدّم أن زيادة "وأن تُقتل المرأة" ليست ثابتة؛ لما أسلفناه منْ الأدلة، وإنما الثابت أنه صلى الله عليه وسلم قضى عَلَى عصبة القاتلة بدية المرأة، وغرّة جنينها، كما هو الثابت فِي حديث أبي هريرة، والمغيرة بن شعبة، رضي الله تعالى عنهما، فتبصّر، ولا تتحيّر. والله تعالى أعلم.

قَالَ: وَقَدْ تأول الأصيليّ حديث أبي هريرة، والمغيرة رضي الله تعالى عنهما عَلَى مذهب مالك، فَقَالَ: يحتمل أن يكون لَمّا وجب قتل المرأة، تطوّع قومها عاقلتُها ببذل الدية لأولياء المقتولة، ثم ماتت القاتلة، فقبل أولياء المقتولة الدية، وَقَدْ يكون ذلك قبل موتها، فقضى عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بأداء ما تطوّعوا به إلى ألياء المقتولة. انتهى كلام ابن بطال فِي "شرح البخاريّ" 8/ 555 - 556.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: تأويل الأصيلي المذكور غير مقبول؛ لأنه خلاف ظواهر النصوص، فإنها واضحة فِي كونه صلى الله عليه وسلم قضى عليهم بالدية؛ لكونه شبه عمد، لا لكونه عمدًا، تطوّع العاقلة ببذله، وأيضا أنهم إذا تطوّعوا لا حاجة إلى قضائه صلى الله عليه وسلم عليهم، فتبصّر بالإنصاف، ولا تَتَهَوَّر بالاعتساف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 241

4825 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ نُضَيْلَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: أَنَّ ضَرَّتَيْنِ ضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ، فَقَتَلَتْهَا، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالدِّيَةِ، عَلَى عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ، وَقَضَى لِمَا فِي بَطْنِهَا بِغُرَّةٍ، فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: تُغَرِّمُنِي مَنْ لَا أَكَلْ، وَلَا شَرِبَ، وَلَا صَاحَ، فَاسْتَهَلّ، فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلّ، فَقَالَ: "سَجْعٌ كَسَجْعِ الْجَاهِلِيَّةِ؟ "، وَقَضَى لِمَا فِي بَطْنِهَا بِغُرَّةٍ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عبد الرحمن": هو ابن مهدي. و"سفيان": هو الثوريّ.

وقوله: "فَقَالَ الأعرابيّ": هو حمل بن مالك رضي الله عنه، وهو زوج المرأة، ولعله سماه

أعرابيّا لمشابهته الأعراب فِي مراجعته النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: "تُغرِّمني الخ"، فإن هَذَا منْ عادة الأعراب؛ لما فيهم منْ الجفاء، والبعد عن التعليم الإسلاميّ، كما وصفهم والله عز وجل بذلك، فِي قوله:{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} الآية [التوبة: 97]، وأما الصحابة رضي الله عنهم فإنهم أجلّ قدرًا، وأعظم منزلة منْ أن يعترضوا عدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي حكمه، وقضائه، بل كَانَ هديهم التسديم، والرضى، طاعةً، وانقيادًا، وتسليمًا لقوله سبحانه وتعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النِّساء: 65].

ويحتمل أن يكون الأعرابيّ، أباها، أو أخاها، أو عفها، كما سبق اختلاف الروايات فِي القائل، ففي بعضها أنه أبوها

(1)

، وفي بعضها أنه أخوها، وفي بعضها أنه زوجها، وهو حمل بن ابن مالك رضي الله عنه.

وقوله: ""تُغرِّمني" بتشديد الراء، مبنيّا للفاعل.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4826 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ نُضَيْلَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: ضَرَبَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي لِحْيَانَ، ضَرَّتَهَا بِعَمُودِ الْفُسْطَاطِ فَقَتَلَتْهَا، وَكَانَ بِالْمَقْتُولَةِ حَمْلٌ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ بِالدِّيَةِ، وَلِمَا فِي بَطْنِهَا بِغُرَّةٍ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عليّ بن سعيد بن مسروق": هو الكنديّ الكوفيّ، صدوق [10] 34/ 480. و"إسرائيل": هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعيّ الكوفيّ

(1)

وهو الآتي فِي حديث ابن عباس الآتي فِي هَذَا الباب.

ص: 242

الثقة الثبت.

وقوله: "وكان بالمقتولة حمل" -بفتح، فسكون-: أي كانت تلك المرأة المضروبة حاملاً، فخرج حملها ميتًا.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4827 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ نُضَيْلَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: أَنَّ امْرَأَتَيْنِ، كَانَتَا تَحْتَ رَجُلٍ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ، فَأَسْقَطَتْ فَاخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: كَيْفَ نَدِي مَنْ لَا صَاحَ وَلَا اسْتَهَلّ، وَلَا شَرِبَ وَلَا أَكَلْ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الأَعْرَابِ؟ "، فَقَضَى بِالْغُرَّةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَرْأَةِ).

قَالَ الجامع عفا اللَّهَ تعالى عنه: "عبد الله": هو ابن المبارك.

وقوله: "كانتا تحت رجل": هو حمَلُ بن مالك رضي الله عنه، كما سبق.

وقوله: "فقالوا": الضمير لعصبة القاتلة الذين قُضي عليهم بالدية.

والحديث متّفقٌ عليه. كما سبق، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4828 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ نُضَيْلَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: أَنَّ رَجُلاً مِنْ هُذَيْلٍ، كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى، بِعَمُودِ الْفُسْطَاطِ، فَأَسْقَطَتْ، فَقِيلَ: أَرَأَيْتَ مَنْ لَا أَكَلْ، وَلَا شَرِبَ، وَلَا صَاحَ فَاسْتَهَلّ؟، فَقَالَ: "أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الأَعْرَابِ؟ "، فَقَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِغُرَّةٍ: عَبْدٍ، أَوْ أَمَةٍ، وَجُعِلَتْ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَرْأَةِ: أَرْسَلَهُ الأَعْمَشُ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالي عنه: "أبو داود": هو الطيالسيّ، سليمان بن داود بن الجارود البصريّ الثقة الثبت.

وقوله: "أن رجلاً" تقدم أنه حمل بن مالك رضي الله عنه.

وقوله: "كَانَ له امرأتان": تقدم أن إحداهما هذليّة، والأخرى عامريّة، وفي حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: أن اسم إحداهما مُليكة، والأخرى أم غُطيف -بضم الغين المعجمة، وفتح الطاء المهملة-، وقيل: أم عَفيف -بفتح العين المهملة، وكسر الفاء، أفاده المنذريّ فِي "مختصر السنن" 6/ 368.

وقوله: "فرمت إحداهما الأخرى" تقدّم أن الضاربة هي الهذليّة، والمضروبة هى العامريّة.

ص: 243

وقوله: "وجُعلت عَلَى عاقلة المرأة" صريح فِي أن الغرّة تتحمّلها العاقلة، وهذا هو القول الراجح منْ أقوال العلماء فِي ذلك، كما سبق إيضاحه.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4829 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُصْعَبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ضَرَبَتِ امْرَأَةٌ ضَرَّتَهَا بِحَجَرٍ، وَهِىَ حُبْلَى، فَقَتَلَتْهَا، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا فِي بَطْنِهَا غُرَّةً، وَجَعَلَ عَقْلَهَا عَلَى عَصَبَتِهَا، فَقَالُوا: نُغَرَّمُ مَنْ لَا شَرِبَ، وَلَا أَكَلْ، وَلَا اسْتَهَلّ، فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلّ، فَقَالَ: "أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الأَعْرَابِ؟ هُوَ مَا أَقُولُ لَكُمْ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "مصعب": هو ابن المقدام الْخَثْعميّ مولاهم، أبو عبد الله الكوفيّ، صدوق، له أوهام [9] 49/ 2720. و"داود": هو ابن نُصير أبو سليمان الطائيّ الكوفيّ، ثقة فقيهٌ، زاهد [8] 74/ 1003.

وقوله: "وجعل ما فِي بطنها غُرّةٌ" هو عَلَى حذف مضاف: أي دية ما فِي بطنها. وقوله: "نُغرَّم" بتشديد الراء، مبنيًا للمفعول.

وقوله: "هو ما أقول لكم": أي الحكم ما ذكرته لكم، منْ كون غرّة الجنين عليكم.

والحديث مرسلٌ صحيح بما سبقه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4830 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَتِ امْرَأَتَانِ جَارَتَانِ، كَانَ بَيْنَهُمَا صَخَبٌ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِحَجَرٍ، فَأَسْقَطَتْ غُلَامًا، قَدْ نَبَتَ شَعْرُهُ مَيْتًا، وَمَاتَتِ الْمَرْأَةُ، فَقَضَى عَلَى الْعَاقِلَةِ الدِّيَةَ، فَقَالَ عَمُّهَا: إِنَّهَا قَدْ أَسْقَطَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ غُلَامًا، قَدْ نَبَتَ شَعْرُهُ، فَقَالَ أَبُو الْقَاتِلَةِ: إِنَّهُ كَاذِبٌ، إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا اسْتَهَلّ، وَلَا شَرِبَ، وَلَا أَكَلْ، فَمِثْلُهُ يُطَلّ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَكِهَانَتِهَا؟ إِنَّ فِي الصَّبِيِّ غُرَّةً"، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ إِحْدَاهُمَا مُلَيْكَةَ، وَالأُخْرَى أُمَّ غَطِيفٍ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أحمد بن عثمان بن حكيم": هو الأوديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة [11] 160/ 252. "عمرو": هو ابن محمد العَنقَزيّ -بفتح العين المهملة، والقاف، بينهما نون ساكنة، آخره زاي-، أبو سعيد الكوفيّ، ثقة [9] 60/ 1782. و"أسباط": هو ابن نَصْر الْهَمْدانيّ، أبو يوسف، أو أبو نصر الكوفيّ، صدوقٌ، كثير الخطإ، ويُغْرب [8] 14/ 409. و"سماك": هو ابن حرب بن أوس بن

ص: 244

خالد الذُّهْليّ البكريّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوقٌ، وروايته عن عكرمة خاصّة مضطربةٌ، وَقَدْ تغيّر بآخره، فكان ربما يُلقَّن [4] 2/ 325. و"عكرمة": هو مولى ابن عبّاس البربريّ المدنيّ، الثقة الثبت العالم بالتفسير [3] 2/ 325. والله تعالى أعلم.

وقوله: "جارتان": أي ضرّتان، قَالَ الفيّوميّ: والجارة: الضرّة، قيل لها: جارة؛ استكراهًا للفظ الضرة، وكان ابن عبّاس ينام بين جارتيه: أي زوجتيه. انتهى. وَقَالَ ابن منظور: الجارة: الضرّة، منْ المجاورة بينهما، وفي حديث أمّ زرع:"مِلء كسائها، وغَيْظُ جارتها": أي أنها ترى حُسنها، فتَغِيظها بذلك، ومنه الْحَدِيث:"كنتُ بين جارتين لي": أي ضرّتين، وحديث عمر رضي الله عنه عند البخاريّ، قَالَ لحفصة رضي الله تعالى عنها: لا يَغُرّنّكِ أن كانت جارتك هي أوسم منك": يعني عائشة رضي الله عنها. انتهى "لسان العرب" 4/ 153.

وقوله: "كَانَ بينهما صَخَبٌ" -بفتحتين: أي ارتفاع صوت، ومخاصمة. قَالَ الفيّوميّ: صَخِبَ صَخَبًا، منْ باب تَعِبَ، ورجلٌ صَخِبٌ، وصاخبٌ، وصَخّابٌ، وصَخْبَانُ: أي كثير اللَّغَط، والْجَلَبَة، والمرأة صَخْبَى، وبالهاء فِي الثاني، وإبدال الصاد سينًا لغةٌ، وسمعتُ اصطخاب الطير: أي أصواتها. انتهى.

وقوله: "وكهانتها" -بفتح الكاف: مصدر كَهَن، منْ باب فتح، ونصر، وكرم: إذا قضى له بالغيب، وبكسر الكاف: الصناعة.

وقوله: "كَانَ إحداهما مُليكة، والأخرى أم غُطيف": قَالَ المنذريّ فِي "مختصر السنن" 6/ 368: و"غُطيف" -بضمّ الغين المعجمة، وفتح الطاء المهملة، وسكون الياء آخر الحروف، وفاء-، ويقال: أم عَفِيف -بعين مهملة مفتوحة، وفاء مكسورة، وياء آخر الحروف، ساكنة، وفاء أخرى-. و"مُليكة" -بضم الميم، وفتح اللام، وسكون الياء آخر الحروف، وكاف مفتوحة، وتاء تأنيث. انتهى كلام المنذريّ.

وَقَالَ فِي "الإصابة" فِي حرف الميم: مُليكة بنت عُويمر الْهُذليّة، وقيل: بنت عُوَيم بغير راء، وتُكنى أم عَفيف، وقيل: أم غُطيف، والأول المعتمد، والثاني وقع فِي كلام أبي عمر، فهو تصحيفٌ.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: فِي دعواه التصحيف لما وقع عند أبي عمر نظرٌ، لا يخفى، لأنه هو الذي وقع فِي رواية النسائيّ هنا، وكذا عند أبي داود فِي "سننه" رقم 4574، فكيف يكون تصحيفًا؟ فتبصّر.

وَقَالَ فِي باب الكنى: أم عَفيف، ويقال: أم غُطيف بنت مسروح الهُذليّة، زوج حمَل ابن مالك الْهُذَليّ، تقدم ذكرها فِي مُليكة. ثم قَالَ فِي الغين المعجمة-: أم غطيف

ص: 245

الهذليّة، فِي أم عَفيف فِي العين المهملة. انتهى. "الإصابة" 13/ 135 و254.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي ذكره فِي "الإصابة" يدلّ عَلَى أن مليكة هي التي وقع الاختلاف فِي كنيتها، هل هي أم غطيف، أو أم عَفيف، وهذا بعيد جدًّا، فإن الاختلاف أنما هو فِي كنية المرأة الأخرى، لا فِي كنية مُليكة، فتبصر.

وَقَالَ السنديّ فِي "شرحه": وذكر القسطلاني فِي "الديات"، ورواية البيهقيّ، وأبي نعيم فِي "المعرفة" عن ابن عباس أن المرأة الأخرى أم غُطيف، وذكر أن الذي فِي "مسند أحمد"، والطبرانيّ أن الرامية أم عَفِيف. انتهى.

وَقَالَ السيوطيّ فِي "شرحه": المعروف أم عَفيف بنت مسروح، زوج حمل بن مالك، كذا فِي "مبهمات الخطيب"، و"أسد الغابة"، ولم يذكر فِي الصحابيّات منْ اسمها أم غُطيف. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا غريب منْ السيوطيّ، فإن أراد أم عطيف بالعين المهملة، فليس أحد قَالَ ذلك، حَتَّى يردّ عليه بما قاله، وإن أراد بالغين المعجمة، فقد ثبت عند المصنّف هنا، وكذا فِي "سنن أبي داود"،، وفي "الإصابة"، كما أسلفته، وفي "الاستيعاب" للحافظ ابن عبد البرّ 13/ 159 فِي ترجمة مُليكة بنت عويمر الهلاليّة. فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وتمام شرح الْحَدِيث سبق فِي شرح الأحاديث الماضية.

والحديث ضعيف؛ لأنه منْ رواية سماك عن عكرمة، وَقَدْ عرفت حالها قريبًا، وَقَدْ أخرجه المصنّف هنا -40/ 4835 - وفي "الكبرى" 39/ 7032. وأخرجه (د) فِي "الديات" 4574. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4831 -

(أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا، يَقُولُ: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى كُلِّ بَطْنٍ عُقُولَةً، وَلَا يَحِلُّ لِمَوْلًى أَنْ يَتَوَلَّى مُسْلِمًا بِغَيْرِ إِذْنِهِ).

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ) العنبريّ، أبو الفضل البصريّ، ثقة حافظ، منْ كبار [11] 96/ 119.

2 -

(الضحاك بن مَخْلَد) الشيبانيّ، أبو عاصم النبيل البصريّ، ثقة ثبت [9] 19/ 424.

3 -

(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج -نُسب لجده- الأموي مولاهم، أبو خالد، وأبو الوليد المكيّ، ثقة فقيه فاضل، لكنه يدلّس ويرسل [6] 28/ 32.

ص: 246

4 -

(أبو الزبير) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، صدوق، يدلّس [4] 31/ 35.

5 -

(جابر) بن عبد الله بن عمرو بن حرام السِّلَميّ الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما 31/ 35. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمكيين، سوى شيخه والضحاك، فبصريان، وجابر مدني مكيّ. (ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله تعالى عنه منْ المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، نُسب لجدّه، أنه (قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تدرُس المكيّ (أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا) هو ابن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ رضي الله تعالى عنهما (يَقُولُ: كَتَبَ) أي أثبت، وأوجب (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى كُلِّ بَطْنٍ) -بفتح الموحدة، وسكون الطاء المهملة، آخره نون-: هو دون القبيلة، مؤنّثة، وإن أُريد الحيّ، فمذكّر، والجمع بُطُون، وَأَبْطَنٌ. أفاده فِي "المصباح".

[فائدة]: قَالَ بعضهم: طبقات النسب سبع: الشَّعْبُ، والقبيلة، والعِمارة، والبطنُ، والفخذ، والفَصيلة، بوزن قَبيلة، والْعَشِيرة، وكلّ واحدة تدخل فيما قبلها، فالقبائل تحت الشُّعُوب، والعمائر تحت القبائل، والبطون تحت العمائر، والأفخاذ تحت البطون، والفصائل تحت الأفخاذ، والعشائر تحت الفصائل، فخُزَيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عِمارة، وقُصيّ بطنٌ، وعبد مناف فخذ، وبنو هاشم فَصِيلةٌ، والعبّاس عشيرة، وليس بعد العشيرة حيّ يُوصَف، وسُمي الشعب شَعبًا لتشعّب القبائل منه. ذكره سليمان ابن عمر المعروف بالجمل فِي "حاشيته عَلَى الجلالين" فِي تفسير "سورة الحجرات" 4/ 185.

وَقَالَ ابن منظور: قَالَ الشيخ ابن بَرّيّ: الصحيح فِي هَذَا ما رتّبه الزبير بن بكّار، وهو الشعب، ثم القبيلة، ثم العِمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة، قَالَ أبو أُسامة: هذه الطبقات عَلَى ترتيب خَلْق الإنسان، فالشَّعب أعظمها، مشتقّ منْ شَعْب الرأس، ثم القبيلة منْ قَبِيلة الرأس؛ لاجتماعها، ثم العِمارة، وهي الصدر، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة، وهي الساق. انتهى "لسان العرب" 1/ 500 - 501.

ص: 247

وَقَالَ أبو عبد الله القرطبيّ فِي "تفسيره": وحكى أبو عبيد، عن ابن الكلبيّ، عن أبيه: الشعب أكبر منْ القبيلة، ثم الفصيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ. وقيل: الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة، ثم العَشِيرة، وَقَدْ نظمها بعض الأدباء، فَقَالَ [منْ الخفيف]:

اقْصِدِ الشَّعْبَ فَهْوَ أَكْثَرُ حَيٍّ

عَدَدًا فِي الْحِوَاءِ ثُمَّ الْقَبِيلَهْ

ثُمَّ تَتْلُوهَا الْعِمَارَةُ ثُمَّ الـ

ـبَطنُ وَالْفَخْذُ بَعْدَهَا وَالْفَصِيلَهْ

ثُمَّ مِنْ بَعْدِهَا العَشِيرَةُ لَكِنْ

هِيَ فِي جَنْبِ مَا ذَكَرْنَاهُ قَلِيلَهْ

وَقَالَ آخر [منْ البسيط]:

قَبِيلَةٌ قَبْلَهَا شَعْبٌ وَبَعْدَهُمَا

عِمَارَةٌ ثُمَّ بَطْنٌ تِلْوُهُ فَخِذُ

وَلَيْسَ يُؤْوِي الْفَتَى إِلَّا فَصِيلَتُهُ

وَلَا سَدَادَ لِسَهْمٍ مَالَهُ قُذَذَ

(1)

انتهى "الجامع لأحكام القرآن" فِي تفسير "سورة الحجُرات" 16/ 345.

وقوله: (عُقُولَهُ) بالنصب مفعول "كتب"، والهاء ضمير البطن، والعُقُول -بضم العين المهملة-: الديات، واحدها عَقْل -بفتح، فسكون، كفلس وفُلوس، ومعناه: أن الدية فِي قتل الخطإ، وعمد الخطإ، وهو شبه العمد، تجب عَلَى العاقلة، وهم العصبات، سواء الآباء، والأبناء، وإن علوا، أو سفلوا. أفاده النوويّ رحمه الله تعالى فِي "شرح صحيح مسلم" 10/ 389 - 390.

[تنبيه]: قوله "عقوله" هكذا وقع فِي النسخة "الهنديّة" بإضافة "عقول" إلى الضمير الراجع إلى "بطن"، وهو الموافق لما فِي "صحيح مسلم"، كما أسلفت ما قاله النوويّ فِي "شرحه"، ووقع فِي النسخ المطبوعة، وكذا فِي "الكبرى" بلفظ:"عُقُولَةً" آخره تاء تأنيث، وليس ضميرًا، والظاهر أنه تصحيف، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

وَقَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: ما حاصله: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا هاجر إلى المدينة، واستقرّ أمره فيها، آخى بين المهاجرين والأنصار، وصالح منْ كَانَ فيها منْ اليهود، وميّز القبائل، بعضها منْ بعض، وضمّ البطون بعضها إلى بعض فيما ينوبهم منْ الحقوق، والغرامات، وكان بينهم دماء، ودياتٌ بسبب الحروب العظيمة التي كانت بينهم قبل الإسلام، فرفع تعالى كلَّ ذلك عنهم، وألّف بين قلوبهم ببركة الإسلام، وبركة

(1)

بضم القاف، وفتح الذال: جمع قُذّة: وهي ريش السهم.

ص: 248

النبيّ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى صاروا كما قَالَ الله تعالى:{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} الآية [آل عمران: 103] انتهى "المفهم" 4/ 340.

(وَلَا يَحِلُّ) بكسر الحاء المهملة، مضارع حلّ، منْ باب ضرب: ضدُّ حرُم (لِمَوْلًى) أي لمعتَق بفتح التاء؛ إذ المولى يُطلق عَلَى المعتِق بكسر التاء أيضًا، وليس مرادًا هنا (أَن يَتَوَلَّى مُسْلِمًا) أي يُنسب إلى غير معتقه، وفي رواية مسلم:"ولا يحلّ أن يتوالى مولى رجل مسلمٌ" برفع "مسلم" عَلَى أنه فاعل يتولى، قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: هَذَا يقتضي تحريم أن ينسُب أحدٌ مولى رجل لنفسه، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه

(1)

يقتضي تحريم نسبة المولى لغير مُعتقه، وكلاهما محرّم هنا، كما هو محرّم فِي النسب، وَقَدْ سوّى النبيّ صلى الله عليه وسلم بينهما فِي الردع، والوعيد، فَقَالَ:"منْ ادّعَى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه، فالجنّة عليه حرام". انتهى "المفهم" 4/ 340. (بغَيْرِ إِذْنِهِ) قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: يعني بغير إذن السادة، ودليل خطابه يدلّ علىَ أن السيّد إذا أذِن فِي ذلك جاز، كما قد ذهب إليه بعض النَّاس، وليس بصحيح، والجمهور عَلَى منع ذلك، وإن أذن السيّد؛ لأن السيّد إذا أذن فِي ذلك بعوض، فهو المبايعة للولاء المنهيّ عنها، أو ما فِي معناه، وإن كَانَ بغير عوض، فهي هبة الولاء، وما معناها، ولا يجوز واحد منهما، وإنما جرى ذكر الإذن فيه؛ لأن أكثر ما يقع منْ ذلك، إنما يكون بغير إذن السادة، فلا دليل خطاب لمثل هَذَا اللفظ، وَقَدْ بيّنا فِي أصول الفقه أن ما يدُلّ عَلَى جهة النطق مُرجّحٌ عَلَى ما يدلّ عَلَى جهة المفهوم. انتهى "المفهم" 4/ 341.

وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: ما معناه: قد احتجّ قوم بقوله: "بغير إذنه" عَلَى جواز التولّي بإذن مواليه، والصحيح الذي عليه الجمهور أنه لا يجوز، وإن أذنوا، كما لا يجوز الانتساب إلى غير أبيه، وإن أذن أبوه فيه، وحملوا التقييد فِي الْحَدِيث عَلَى الغالب؛ لأن غالب ما يقع هَذَا بغير إذن الموالي، فلا يكون له مفهوم يُعمل به، ونظيره قوله تعالى:{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} الآية [النِّساء: 23]، وقوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} الآية [الأنعام: 151] وغير ذلك منْ الآيات التي قُيد فيها للغالب، وليس لها مفهوم يُعمل به. انتهى "شرح مسلم" 10/ 389. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

هو ما أخرجه مسلم فِي "صحيحه" -1508 - منْ حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"منْ تولّى قومًا بغير إذ مواليه، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يُقبَل منه يوم القيامة صرفٌ ولا عدل".

ص: 249

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث جابر رضي الله عنه هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -40/ 4830 - وفي "الكبرى" 39/ 7533. وأخرجه (م) فِي "العتق" 1507 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 14036 و14760. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان وجوب الدية عَلَى العاقلة. (ومنها): تحريم موالاة غير الموالي؛ لأن الولاء لُحمة كلُحمة النسب، لا يجوز نقله منْ شخص إلى شخص آخر. (ومنها): أن الحكم لا يختلف لو أذن له المولى؛ لأن التقييد خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4832 -

(أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُصَفًّى، قَالَا: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَطَبَّبَ، وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ قَبْلَ ذَلِكَ، فَهُوَ ضَامِنٌ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: كَانَ الأولى للمصنّف رحمه الله تعالى أن يترجم لهذا الْحَدِيث ترجمة مستقلّة، كما فعل فِي "الكبرى" حيث ترجم له آخر "كتاب القسامة" 4/ 248 رقم 7068 بـ"تضمين المتطبّب"، مع أنه أورده فِي هَذَا الباب 4/ 241 رقم 7034 و7035 كما فعل هنا، وكما فعل أبو داود رحمه الله تعالى فِي "سننه"، حيث ترجم له بقوله:"باب فيمن تطبّب بغير علم"، ولعلّه أراد بإدخاله فِي هَذَا الباب بيان كونه منْ جملة شبه العمد، فيُضمن بالدية، وتتحملها العاقلة، وليس منْ نوع العمد الذي يجب به القصاص. والله تعالى أعلم.

ورجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(عمرو بن عثمان) بن سعيد بن كثير بن دينار القرشيّ مولاهم، أبو حفص الحمصيّ، صدوقٌ [10] 21/ 535.

2 -

(محمد بن مصفّى) بن بهلول القرشيّ الحمصيّ، صدوقٌ، له أوهام، وكان يدلّس [10] 3/ 3632.

3 -

(الوليد) بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقة، كثير التدليس

ص: 250

والتسوية [8] 5/ 454، وابن جريج سبق فِي السند الماضي، والباقون تقدّموا قبل بابين، وكذا لطائف الإسناد تعلم مما سبق. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ) شعيب (عَنْ جَدِّهِ) عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَطَبَّبَ) بتشديد الباء الموحّدة الأولى: أي تكلّف، وتعاطى علم الطبّ، وعالج مريضًا (وَلَمْ يُعْلَمْ) بالبناء للمفعول (مِنْهُ طِبٌّ) أي معالجة صحيحة غالبة عَلَى الخطإ (قَيْلَ ذَلِكَ) أي قبل أن يعالج منْ مات بسبب طبّه، ففي الكلام تقدير: أي فأخطأ فِي طبه، وتلف المريض الذي عالجه، أو شيء منه. والجملة الفعليّة فِي محلّ نصب عَلَى الحال، والحال أنه لا يُعرف كونه طبيبًا قبل أن يعالج هَذَا المريض الذي مات بسبب طبّه (فَهُوَ ضَامِنٌ) أي لما أتلفه بطبه، لأنه تولّد منْ فعله الهلاك، وهو متعدّ فيه؛ إذ لا يُعرف ذلك منه، فتكون جنايته مضمونة عَلَى عاقلته.

قَالَ الخطابيّ رحمه الله تعالى: لا أعلم خلافًا فِي أن المعالج إذا تعدّى، فتلف المريض كَانَ ضامنًا، والمتعاطي علمًا، أو عملاً لا يعرفه متعدّ، فإذا تولّد منْ فعله التلف ضمن الدية، وسقط القود عنه؛ لأنه لا يستبدّ بذلك، دون إذن المريض، وجناية الطبيب فِي قول عامّة الفقهاء عَلَى عاقلته. انتهى "معالم السنن" 6/ 378 - 379.

وأخرج أبو داود فِي "سننه" منْ طريق عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، قَالَ: حدّثني بعض الوفد الذين قَدِموا عَلَى أبي، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما طبيب تطبّب عَلَى قوم، لا يعرف له تطبّبٌ قبل ذلك، فأعنت، فهو ضامن"، قَالَ عبد العزيز: أما إنه ليس بالنعت، إنما هو قطع العُرُوق، والبطّ، والكيّ. انتهى. وقوله:"فأعنت": أي أضرّ بالمريض، وأفسده. وقوله:"البطّ": أي الشقّ. و"الكيّ": أي حرق الجلد بحديدة، ونحوها. ومراد عبد العزيز -والله أعلم- أن لفظ الطبيب الواقع فِي الْحَدِيث ليس المقصود منه معناه الوصفيّ العامّ الشامل لكلّ منْ يُعالج، بل المقصود منه قاطع العروق، والباطّ، والكاوي، ولكن أنت تعلم أن لفظ الطبيب فِي اللغة عامّ لكلّ منْ يعالج الجسم، فلابدّ للتخصيص ببعض الأنواع منْ دليل. انتهى "عون المعبود" 12/ 330 - 331.

وَقَالَ المنذريّ رحمه الله تعالى فِي "مختصر السنن" 6/ 381: بعض الوافدين مجهول، ولا يُعلم له صحبة، أم لا؟. انتهى. يعني أن الْحَدِيث ضعيف؛ للجهالة المذكورة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 251

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما هَذَا قَالَ الحاكم فِي "المستدرك" 4/ 212 - : صحيح الإسناد، ووافقه الذهبيّ، وفيه نظر؛ لأن فيه مدلّسين: الوليد، وابن جريج، وَقَدْ عنعناه، لكن الوليد، وإن عنعنه هنا، لكنه صرّح بالتحديث عند الدارقطنيّ، والحاكم، فقد زالت العلة عنه، وبقيت عنعنة ابن جريج، لكن يشهد للحديث ما تقدّم لأبي داود منْ رواية عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وَقَدْ تقدم أن بعض الوفد الذي روى عنه مجهول، وَقَدْ حسنه الشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى

(1)

بمجموع الطرقين، ولا يبعد ذلك. والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -40/ 4832 و4833 - وفي "الكبرى" 39/ 7034 و7035. وأخرجه (د) فِي "الديات" 4586 (ق) فِي "الطبّ" 3466. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان كون القتل بالطبّ منْ نوع شبه العمد، كما أسلفه فِي أول الباب. (ومنها): مشروعية التداوي بالطبّ، إذا كَانَ الطبيب معروفًا به. (ومنها): تحريم الطب عَلَى منْ لا يُتقنه، ولا يُحسنه؛ لأنه إلحاق ضرر بالمسلمين. (ومنها): وجوب الضمان عَلَى منْ تطبب بغير علم، فتلف به إنسان، أو شيء منه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فيما قاله أهل العلم فِي ضمان الطبيب، ونحوه:

قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: ما حاصله: لا يضمن المتطبّب، ولا الحجام، ولا الختّان، إذا فعلوا ما أُمروا به، بشرطين:

[أحدهما]: أن يكونوا دْوي حِذْقٍ فِي صناعتهم، ولهم بها بَصَارةٌ، ومعرفة؛ لأنه إذا لم يكن كذلك لم يحلّ له مباشرة القطع، وإذا قطع مع هَذَا كَانَ فعلاً محرّمًا، فيضمن سِرايته، كالقطع ابتداء.

[الثاني]: أن لا تَجني أيديهم، فيتجاوزوا ما ينبغي أن يُقطَع، فإذا وُجد هذان الشرطان، لم يضمنوا؛ لأنهم قطعوا قطعًا مأذونا فيه، فلم يضمنوا سرايته، كقطع الإمام بد السارق، أو فعل فعل مباحا مأذونًا فِي فعله، فأشبه ما ذكرنا، فأما إن كَانَ حاذقًا،

(1)

راجع "السلسلة الصحيحة" 2/ 228 - 229 رقم 635.

ص: 252

وجنت يده، مثل أن يتجاوز قطع الختان إلى الحشفة، أو إلى بعضها، أو قطع فِي غير محلّ القطع، أو يقطع الطبيب سَلْعَةً

(1)

منْ إنسان، فيتجاوزها، أو يقطع بآلة كالّةٍ يكثُرُ ألمها، أو فِي وقت لا يصلح القطع فيه، وأشباه هَذَا، ضمن فيه كلِّهِ؛ لأنه إتلافٌ لا يَختلِف ضمانه بالعمد والخطإ، فأشبه إتلاف المال، ولأن هَذَا فعل مُحرّمٌ، فيَضمَن سِرايته، كالقطع ابتداءً، وكذلك الحكم فىِ النَّزَّاع

(2)

، والقاطع فِي القصاص، وقاطع يد السارق، وهذا مذهب الشافعيّ، وأحمد، وأصحاب الرأي، ولا نعلم فيه خلافًا. انتهى "المغني" 8/ 117 بتصرّف وهو بحث نفيس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4833 -

(أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، مِثْلَهُ سَوَاءً).

قَالَ الجامع عفاَ الله تعالى عنه: "محمد بن خالد": هو السلميّ، أبو عليّ الدمشقيّ، ثقة، منْ صغار [10] 45/ 595. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌41 - (هَلْ يُؤْخَذُ أَحَدٌ بِجَرِيرَةِ غَيْرِهِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "هل يؤخذ أحد إلخ" أي هَذَا باب ذكر الأحاديث الدّالّة عَلَى جواب السؤال بـ"هل يُؤخذ أحد بجريرة غيره؟ "، والجواب: لا؛ للحديث الآتي.

و"الجَرِيرة" -بفتح الجيم، وكسر الراء-: هي ما يجرّه الشخص إلى نفسه منْ الذنب، قَالَ الفيّوميّ رحمه الله تعالى: جررتُ الحبلَ، ونحوَه جَرّا: سحبته، فانجرّ، وجرّرته -بالتشديد-: مبالغةٌ، وتكثيرٌ، وجرّيته -بالياء- عَلَى البدل، والجريرة: ما يجرّه الإنسان منْ ذنب، فَعِيلة بمعنى مفعولة، والْجَرِير: حبلٌ منْ أدم، يُجعل فِي عنق الناقة، وبه سُمّي الرجل، مع نزع الألف واللام. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.

(1)

السلعة بفتح، فسكون: هي الغدّة فِي الجسد، أو خُرَاج فِي العنق، وتكون منْ حِمَّصَة إلى بطِّيخة. أفاده فِي "القاموس".

(2)

النزّاع: هو البيطار.

ص: 253

4834 -

(أَخْبَرَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبْجَرَ، عَنْ إِيَادِ بْنِ لَقِيطٍ، عَنْ أَبِي رِمْثَةَ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، مَعَ أَبِي، فَقَالَ: "مَنْ هَذَا مَعَكَ؟ "، قَالَ: ابْنِي، أَشْهَدُ بِهِ، قَالَ: "أَمَا إِنَّكَ لَا تَجْنِي عَلَيْهِ، وَلَا يَجْنِي عَلَيْكَ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(هارون بن عبد الله) بن مرون الحمّال البزاز، أبو موسى البغداديّ، ثقة حافظ [10] 50/ 62.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الحجة الثبت المكيّ [8] 1/ 1.

3 -

(عبد الملك بن أبجر) هو عبد الملك بن سعيد بن حيان -بالتحتانيّة- ابن أبجر -بالموحّدة، وجيم- نُسب لجدّه الهمداني ويقال الكناني الكوفيّ ثقة عابد [6].

رَوَى عن أبي الطفيل، وعكرمة، وأبي إسحاق السبيعي، وطلحة بن مُصَرِّف، وواصل الأحدب، والشعبي، وأبي رَزِين لقيط، وغيرهم. وعنه ابنه عبد الرحمن، والثوري، وزهير بن معاوية، وعبد الله بن إدريس، وعبيد الله الأشجعي، وابن عيينة، وأبو أسامة، وغيرهم. قَالَ البخاريّ، عن علي: له نحو أربعين حديثا. وَقَالَ عبد الله ابن أحمد، عن أبيه: عبد الملك بن أبجر ثقة. وَقَالَ سفيان: حدثنا منْ لم تر عيناك مثله، ابن أبجر، وَقَالَ أيضا: هو منْ الأبرار. وَقَالَ ابن معين، والنسائي: ثقة. وَقَالَ أبو زرعة، وأبو حاتم: هو أحب إلينا منْ إسرائيل. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ ابن إدريس، قَالَ لي الأعمش: ألا تعجب منْ عبد الملك بن أبجر، جاء رجل، فَقَالَ: إني لم أَمْرَض قط، وأنا اشتهي أن اْمرض، قَالَ: كل سمكا مالحا، واشرب نبيذا مَرِيسا، واقعد فِي الشمس، واستمرض الله، قَالَ: فجعل الأعمش يضحك، ويقول كأنما قَالَ له: استشف الله. وَقَالَ العجليّ: كَانَ ثقة ثبتا فِي الْحَدِيث، صاحب سنة، وكان منْ أطب النَّاس، فكان لا يأخذ عليه أجرا، ولما حضرت الثوري الوفاة أوصى أن يصلي عليه ابن أبجر، وكان الثوري يقول: بالكوفة خمسة يزدادون كل يوم خيرا، فعده فيهم، قَالَ: وكانت به قرحة، لو كانت بالبعير لما أطاقها، فكانوا إذا سألوه عنها؟ قَالَ: ما أرضاني عن الله عز وجل. وَقَالَ يعقوب بن سفيان: كَانَ منْ خيار الكوفيين، وثقاتهم. روى له مسلم، والمصنف، وأبو داود، والترمذيّ، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.

4 -

(إياد -بكسر أوله، ثم تحتانيّة- ابن لَقِيط) السدوسيّ الكوفيّ، ثقة [4] 16/ 1572.

5 -

(أبو رِمّثة) -بكسر أوله، وسكون الميم، بعدها مثلّثة- الْبَلَويّ، أو التيميّ، أو

ص: 254

التميميّ، وقيل: هما اثنان، قيل: اسمه: رِفاعة بن يَثْربيّ، وقيل: عكسه، وقيل: عمارة بن يثربيّ، وقيل: حبّان بن وُهيب، وقيل: جندب، وقيل: خَسْخَاش. صحابيّ مات بإفريقية، تقدّمت ترجمته فِي 16/ 1572. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير الصحابيّ، فتفرد به المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ. (ومنها): أن صحابيه منْ المقلّين منْ الرواية، فليس له عندهم إلا ثلاثة أحاديث فقط، كما فِي "تحفة الأشراف" 9/ 208 - 209. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي رِمْثَةَ) رفاعة بن يَثْربيّ، وقيل: غيره رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، مَعَ أَبِي) يثربيّ رضي الله عنه ترجمه فِي "الإصابة" 10/ 334 ولم يزد عَلَى أن أورد فيه هَذَا الْحَدِيث فقط (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَنْ هَذَا مَعَكَ؟)"منْ" اسم استفهام مبتدأ، واسم الإشارة خبره، أو بالعكس، والظرف: أي حال كونه مصاحبا لك. وفي رواية أبي داود: "آبنك هَذَا؟، قَالَ: إي وربّ الكعبة، قَالَ: حقّا، قَالَ: أشهد به، قَالَ: فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكًا منْ ثَبْتِ شبهي فِي أبي، ومن حلف أبي عليّ

الْحَدِيث (قَالَ) يثربيّ رضي الله عنه (ابْنِي، أَشْهَدُ بِهِ) بهمزة المتكلّم: أي أشهد بكونه ابني، ويحتمل أن يكون بوصل الهمزة، فعل أمر، ومعناه: كن أنت شاهدًا بأنه ابني منْ صلبي، قيل: المقصود التزام ضمان الجنايات عنه، عَلَى ما كانوا عليه فِي الجاهليّة، منْ مؤاخذة كلّ منْ الوالد، والولد بجناية الآخر.

وإنما سأله النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه، مع ظهور شبهه به؛ تأكيدًا للحكم الذي يخبره بعده.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَمَا) بفتح الهمزة: أداة تنبيه، مثلُ "ألا"(إِنَّكَ لَا تَجْنِي) بفتح أوله، منْ الجناية: أي لا يؤاخذ بذنبك (عَلَيْهِ، وَلَا يَجْنِي عَلَيْكَ) أي لا تؤاخذ أنت بذنبه. يعني أن جناية كلّ منهما قاصرة عَلَى نفسه، لا تتعدّاه إلى غيره، ولو كَانَ أقرب قريب له.

ثم إنه يحتمل أن يكون المراد به الإثم، وإلا فالدية متعدّية إلى العاقلة، ويحتمل أن تخص الجناية بالعمد، والمراد أنه لا يُقتَل إلا القاتل، كما كَانَ عليه أمر الجاهليّة، منْ قتل أبيه، أو ابنه، أو أخيه، أو نحوهم، منْ الأقارب، فيكون هَذَا إخبارًا ببطلان أمر الجاهلية، وهذا هو الذي يؤيّده الْحَدِيث الآتي بعد هَذَا فِي قصّة بني ثعلبة.

وَقَالَ فِي "النهاية" 1/ 309 - : الجناية الذنب، والْجُرْم، وما يفعله الإنسان، مما

ص: 255

يوجب عليه العذاب، أو القصاص فِي الدنيا والآخرة. والمعنى: أنه لا يُطالب بجناية غيره منْ أقاربه، وأباعده، فإذا جنى أحدهما جناية، لا يُعاقب بها الآخر. انتهى.

وزاد فِي رواية أبي داود: "وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} : أي لا غمل نفس آثمة إثم نفس أخرى.

[تنبيه]: أخرج حديث أبي رمثة رضي الله عنه هَذَا الإمام أحمد فِي "مسنده"، مطوَّلاً، فَقَالَ:

17041 -

حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا المسعودي

(1)

عن إياد بن لَقِيط، عن أبي رِمْثة، قَالَ: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يخطب، ويقول:"يد المعطي العليا، أمَّكَ، وأباك، وأختَكَ، وأخاك، وأدناك فأدناك"، قَالَ: فدخل نفر منْ بني ثعلبة بن يربوع، فَقَالَ رجل منْ الأنصار: يا رسول الله، هؤلاء النفر اليربوعيون، الذين قتلوا فلانا، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألا لا تجني نفس عَلَى أخرى"، مرتين.

حدثنا عبد الله

(2)

، حدثنا محمد بن بكار -هو ابن الريان- حدثنا قيس بن الربيع الأسدي، عن إياد بن لقيط، عن أبي رمثة، قَالَ: انطلقت مع أبي وأنا غلام، فأتينا رجلا فِي الهاجرة، جالسا فِي ظل بيت، عليه بردان أخضران، وشعره وَفْرة، وبرأسه رَدْعٌ منْ حِنَّاء، قَالَ: فَقَالَ لي أبي: أتدري منْ هَذَا؟ فقلت: لا، قَالَ: هَذَا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره.

7065 -

حدثنا عمرو بن الهيثم، أبو قطن، وأبو النضر، قالا: حدثنا المسعودي، عن إياد بن لقيط، عن أبي رمثة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"يد المعطي العليا، أمَّكَ، وأباك، وأختَكَ، وأخاك، ثم أدناك أدناك"، وَقَالَ رجل: يا رسول الله، هؤلاء بنو يربوع قَتَلَةُ فلان، قَالَ:"ألا لا تجني نفس عَلَى أخرى".

وقَالَ أبي

(3)

: قَالَ أبو النضر فِي حديثه: دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، ويقول: "يد المعطي العليا

"

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي رِمْثة رضي الله عنه هَذَا صحيح.

(1)

هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الكوفيّ، صدوقٌ، اختدط قبل موته، وضابطه أن منْ سمع منه ببغداد، فبعد الاختلاط [7] مات سنة 160 وقيل:165.

(2)

هو ولد الإمام أحمد، وهذا منْ زياداته.

(3)

القائل: وَقَالَ أبي هو عبد الله بن أحمد.

ص: 256

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -41/ 4834 - وفي "الكبرى" 40/ 7036. وأخرجه (د) فِي "الترجّل" 4208 و"الديات" 4495 (ت) فِي "الأدب" 2812 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 7064 و7071 و7077 و7037 (الدارمي) فِي "الديات" 3281. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان أنه لا يؤخذ أحد بجريرة غيره، وإنما يؤاخذ بجريرة نفسه. (ومنها): بيان اهتمام النبيّ صلى الله عليه وسلم بتوضيح الأحكام، وتقريبه إلى الأفهام. (ومنها): أن هَذَا الْحَدِيث بيان لمعنى قوله عز وجل: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الآية [فاطر: 18]. (ومنها): أن تَحَمُّل العاقلة الدية عن القاتل فِي الخطإ، وشبه العمد ليس منْ باب تحمّل جناية غيرها، بل هو منْ باب التناصر، والتعاون؛ تخفيفاً عن الجاني، حيث تحمّل جناية يُعذر فيها، ولذا لا تتحمل العاقلة جناية العمد؛ لأنه لا يُعذر فيها، بل هو الذي يتحملها، لكونه جانيًا عَلَى نفسه، متعدًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4835 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَهْدَمٍ الْيَرْبُوعِيِّ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَخْطُبُ فِي أُنَاسٍ، مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَؤُلَاءِ بَنُو ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبُوعٍ، قَتَلُوا فُلَانًا، فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَهَتَفَ بِصَوْتِهِ: "أَلَا لَا تَجْنِي نَفْسٌ عَلَى الأُخْرَى").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(محمود بن غيلان) أبو أحمد المروزيّ، نزيل بغداد، ثقة [10] 33/ 37.

2 -

(بشر بن السّريّ) أبو عمرو الأفوه البصريّ، نزيل مكة، ثقة متقنٌ، طُعن برأي جهم، ثم اعتذر، وتاب [9] 104/ 1365.

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوريّ الإمام الحجة الثبت [7] 33/ 37.

4 -

(أشعث) بن أبي الشعثاء سُليم بن الأسود المحاربيّ الكوفيّ، ثقة [6] 90/ 112.

5 -

(الأسود بن هلال) المحاربيّ، أبو سلامة الكوفيّ المخضرم الثقة الجليل [2] 17/ 1529.

6 -

(ثعلبة بن زهدم) الحنظليّ، حديثه فِي الكوفيين، مختلف فِي صحبته، وقال العجليّ: تابعيّ ثقة، تقدم فِي 17/ 1529. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم

ص: 257

رجال الصحيح، غير ثعلبة، فتفرد به المصنّف، وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فمروزي، ثم بغداديّ، وبشري، فبصري، ثم مكي. (ومنها): أن صحابيه ليس له إلا هَذَا الْحَدِيث. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَهْدَمٍ الْيَرْبُوعِيِّ) قَالَ فِي "الإصابة" -2/ 20 - : قَالَ ابن أبي حاتم، عن أبيه: يقال: له صحبة. وَقَالَ البخاريّ: قَالَ الثوريّ: له صحبة، ولا يصحّ، وذكره مسلم، والعجليّ، وغيرهما فِي التابعين، وله فِي النسائيّ حديث بإسناد صحيح إليه. انتهى. وَقَالَ فِي "تهذيب التهذيب" 1/ 271 - : جزم بصحّة صحبته ابنُ حبّان، وابن السكن، وأبو محمد بن حزم، وجماعة ممن صنّف فِي الصحابة، يطول تعدادهم. وذكره البخاريّ فِي "التاريخ الكبير"، وَقَالَ: قَالَ الثوريّ: له صحبة، ولا يصحّ. وَقَالَ الترمذيّ فِي "تاريخه": أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعامّة روايته عن الصحابة. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الأكثرون عَلَى ثبوت الصحبة له، والظاهر أنه الأرجح. والله تعالى أعلم.

(قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَخْطُبُ فِي أُنَاسٍ) بضم الهمزة، لغة فِي ناس (مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالُوا) أي الأنصار (يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَؤُلَاءِ بَنُو ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبُوعٍ، قَتَلُوا فُلَانًا) وفي الرواية الآتية: "قتلوا فلاناً رجلاً منْ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم (فِي الْجَاهِلَيَّةِ) أي قبل أن يسلموا، زاد فِي رواية طارق المحاربيّ الآتية آخر الباب: "فخذ لنا بثأرنا" (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَهَتَفَ بِصَوْتِهِ) أي صاح، يقال: هَتَف به هَتْفًا، منْ باب ضرب: صاح به، ودعاه، وهتف به هاتفٌ: سمع صوته، ولم ير شَخْصَهُ، وهتَفَت الحمَامة: صوّتت. قاله فِي "المصباح" (أَلَا) بفتح الهمزة، للتنبيه، كـ"أما" المذكورة فِي الْحَدِيث الماضي (لَا) نافية، والفعل بعدها مرفوع (تَجْنِي نَفْسٌ عَلَى الأُخْرَى") يعني أن الذي قتله ليس معهم، حَتَّى يؤاخذ بجريرته، فلا يجوز لنا أن نؤاخذهم بجريرته؛ لأنه لا تجني نفس عَلَى نفس أخرى، وأنما جنايتها قاصرة عليها. وفي رواية طارق المحاربيّ الآتية:"فرفع يديه حَتَّى رأيت بياض إبطيه، وهو يقول: لا تجني أمّ على ولد، مرّتين". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث ثعلبة بن زهدم هَذَا صحيح، وَقَدْ عرفت أن الأكثرين عَلَى أن له صحبة.

وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -41/ 4835 و4836 و4837 و4838 و4839 و4840 - وفي "الكبرى" 40/ 7037 و7038 و7039 و7040

ص: 258

و7041 و7042. وأخرجه (أحمد) فِي "مسند المدنيين" 16177 و"باقي مسند الأنصار" 22691. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4836 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَهْدَمٍ، قَالَ: انْتَهَى قَوْمٌ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَخْطُبُ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَؤُلَاءِ بَنُو ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبُوعٍ، قَتَلُوا فُلَانًا، رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، "لَا تَجْنِي نَفْسٌ عَلَى أُخْرَى").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أحمد بن سليمان": هو أبو الحسين الرُّهاويّ الثقة الحافظ [11] 38/ 42 منْ أفراد المصنّف. و"معاوية بن هِشام": هو القصّار، أبو الحسن الكوفيّ، مولى بني أسد، ويقال له: معاوية بن العبّاس، صدوقٌ، له أوهامٌ، منْ صغار [9] 39/ 1704. والباقون تقدّموا فِي الذي قبله.

وقوله: "رجلاً منْ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم" بالنصب بدلٌ منْ "فلانًا".

والحديث صحيح، سبق القول فيه فىِ الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4837 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، قَالَ: سَمِعْتُ الأَسْوَدَ بْنَ هِلَالٍ، يُحَدِّثُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبُوعٍ، أَنَّ نَاسًا مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ، أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَؤُلَاءِ بَنُو ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبُوعٍ، قَتَلُوا فُلَانًا، رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَجْنِي نَفْسٌ عَلَى أُخْرَى").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو داود": هو الطيالسيّ، سليمان بن داود بن الجارود البصريّ الحافظ. والحديث صحيح، وَقَدْ سبق القول فيه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4838 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَتَّابٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ، وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبُوعٍ، أَنَّ نَاسًا مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ، أَصَابُوا رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَؤُلَاءِ بَنُو ثَعْلَبَةَ، قَتَلَتْ فُلَانًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا تَجْنِي نَفْسٌ عَلَى أُخْرَى".

قَالَ شُعْبَةُ: أَيْ لَا يُؤْخَذُ أَحَدٌ بِأَحَدٍ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ).

ص: 259

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو داود": هو سليمان بن سيف الْحرّانيّ، ثقة حافظ [11] 103/ 136 منْ أفراد المصنّف. و"أبو عتّاب": هو سهل بن حماد الدّلّال البصريّ، صدوقٌ [9] 103/ 136.

وقوله: "قد أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم": يعني أن الأسود بن هلال كَانَ رجلاً فِي زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يلقه، فهو مخضرم، كما سبق فِي ترجمته.

وقوله: "قتلت" هكذا النسخ، بصيغة الفعل الماضي المسند إلى ضمير المؤنّثة، وهو جائز؛ لأن الجمع يجوز إلحاق تاء التأنيث فِي فعله، وتركها، مطلقًا عند الكوفيين، وفي غير جمعي السلامة عند البصريين، قَالَ الله تعالى:{آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} الآية [يونس: 90]، راجع "حاشية الخضري عَلَى شرح ابن عقيل، عَلَى الخلاصة" فِي "باب الفاعل" 1/ 241. والله تعالى أعلم.

والحديث صحيح، والظاهر أن الرجل المبهم هو ثعلبة بن زهدم، وإلا فلا يضرّ إبهام الصحابيّ؛ لأنهم كلهم عدولٌ، كما مر غير مرّة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4839 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبُوعٍ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَتَكَلَّمُ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَؤُلَاءِ بَنُو ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبُوعٍ، الَّذِينَ أَصَابُوا فُلَانًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا -يَعْنِي- لَا تَجْنِي نَفْسٌ عَلَى نَفْسٍ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو عوانة": هو الوضّاح بن عبد الله اليشكريّ. و"أبو الأشعث": هو سُليم بن الأسود بن حنظلة المحاربيّ الكوفيّ، ثقة، منْ كبار [3] 90/ 112.

وقوله: "يتكلّم": هو بمعنى قوله الماضي: "يخطب". وقوله: "أصابوا فلانا": أي قتلوه.

والحديث صحيح، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4840 -

(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، فِي حَدِيثِهِ عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي يَرْبُوعٍ، قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَقَامَ إِلَيْهِ نَاسٌ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَؤُلَاءِ بَنُو فُلَانٍ، الَّذِينَ قَتَلُوا فُلَانًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَجْنِي نَفْسٌ عَلَى أُخْرَى").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو الأحوص": هو سلّام بن سُليم الحنفيّ الكوفيّ الثقة الحافظ.

ص: 260

وقوله: "فِي حديثه عن أبي الأحوص": هَذَا منْ كلام المصنّف رحمه الله تعالى: أي حدثنا هنّاد هَذَا الْحَدِيث فِي جملة أحاديث حدّثنا بها عن أبي الأحوص.

والحديث صحيح، كما سبق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4841 -

(أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا يَزِيدُ -وَهُوَ ابْنُ زِيَادِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ- عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ طَارِقٍ الْمُحَارِبِيِّ، أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَؤُلَاءِ بَنُو ثَعْلَبَةَ، الَّذِينَ قَتَلُوا فُلَانًا، فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَخُذْ لَنَا بِثَأْرِنَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ، حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: "لَا تَجْنِي أُمٌّ عَلَى وَلَدٍ"، مَرَّتَيْنِ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "يوسف بن عيسى": هو ابن دينار الزهريّ، أبو يعقوب المروزيّ، ثقة فاضل [10] 32/ 924. و"الفضل بن موسى": هو السِّينانيّ، أبو عبد الله المروزيّ، ثقة ثبتٌ، ربّما أغرب، منْ كبار [9] 83/ 100. و"يزيد ابن زياد بن أبي الْجَعْد": هو الأشجعيّ الكوفيّ، صدوقٌ، [7] 51/ 2532. و"جامع بن شَدّاد": هو المحاربيّ، أبو صخرة الكوفيّ، ثقة [5] 108/ 145. و"طارق المحاربيّ": هو ابن عبد الله الصحابيّ الكوفيّ رضي الله عنه 33/ 726.

والسند رجاله رجال الصحيح، غير "يزيد بن زياد"، فإنه منْ أفراد المصنّف، وابن ماجه، والبخاريّ فِي "خلق أفعال العباد"، و"طارق" رضي الله عنه، فإنه منْ رجال الأربعة، والبخاريّ فِي الكتاب المذكور.

وقوله: "فرفع يديه الخ" أي تأكيدًا للأمر. وقوله: "حَتَّى رأيت بياض إبطيه": أي مبالغة فِي رفع يديه.

وقوله: "لا تجني أمّ عَلَى ولد": يعني أن جناية الأمّ لا يتعدّاها إلى ولدها، وإن كَانَ أقرب النَّاس إليها، ففيه مبالغة فِي قطع ما كانت الجاهليّة تفعله، منْ مؤاخذة أقارب الجاني بسببه.

وقوله: "مرّتين": أي قَالَ هَذَا الكلام مرّتين. ولفظ ابن ماجه: "ألا لا تجني أم عَلَى ولد، ألا لا تجني أم عَلَى ولد". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث طارق المحاربيّ رضي الله عنه هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

ص: 261

أخرجه هنا -41/ 4841 - وفي "الكبرى" 40/ 7043. وأخرجه (ق) فِي "الديات" 2670. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌42 - (الْعَيْنِ الْعَوْرَاءِ السَّادَّةِ لِمَكَانِهَا إِذَا طُمِسَتْ)

4842 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ عَائِذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْعَلَاءُ -وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ- عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَضَى فِي الْعَيْنِ الْعَوْرَاءِ السَّادَّةِ لِمَكَانِهَا، إِذَا طُمِسَتْ، بِثُلُثِ دِيَتِهَا، وَفِى الْيَدِ الشَّلاَّءِ إِذَا قُطِعَتْ، بِثُلُثِ دِيَتِهَا، وَفِى السِّنِّ السَّوْدَاءِ، إِذَا نُزِعَتْ بِثُلُثِ دِيَتِهَا).

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(أحمد بن إبراهيم بن محمد) الْبُسْريّ

(1)

، أبو عبد الملك الدمشقيّ، صدوقٌ [11] 71/ 2377

2 -

(ابن عائذ) هو: محمد بن عائذ، أبو أحمد الدمشقيّ، صاحب المغازي، صدوقٌ رُمي بالقدر [10] 71/ 2377.

3 -

(الهيثم بن حُميد) الغسّانيّ مولاهم، أبو أحمد، أو أبو الحارث، صدوقٌ، رُمي بالقدر [7] 40/ 1712.

4 -

(العلاء بن الحارث) بن عبد الوارث الْحَضْرميّ، أبو وهب الدمشقيّ، صدوقٌ، فقية، لكن رُمي بالقدر، وَقَدْ اختلط [5] 17/ 1541، والباقون تقدّموا قبل باب. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أنه مسلسل بالدمشقيين، إلى عمرو، ومنه طائفيون. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، عن جد. (ومنها) أن فيه ثلاثة منْ التابعين يروي بعضهم عن

(1)

بضم الموحّدة، وسكون المهملة-: نسبة إلى جده بسر بن أرطاة الصحابيّ رضي الله عنه.

ص: 262

بعض: العلاء، وعمرو، وأبوه. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ) شعيب بن محمد (عَنْ جَدِّهِ) عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالىَ عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَضَى) أي حكم (فِي الْعَيْنِ الْعَوْرَاءِ) بفتح المهملة، وسكون الواو تأنيث الأعور، يقال: عَوِرت العين عَوَرًا، منْ باب تعب: نقصت، أو غارت، فالرجل أعور، والأنثى عوراء. قاله الفيّوميّ (السَّادَّةِ لِمَكَانِهَا) بتشديد الدّال: أي الباقية الثابتة فِي مكانها: أي لم تخرج منْ الحَدَقَة، فبقيت فِي الظاهر عَلَى ما كانت، ولم يذهب جمال الوجه، لكن ذهب إبصارها. وَقَالَ التوربشتيّ: أراد بها العين التي لم تخرُج منْ الحدقة، ولم يخل موضعها، فبقيت فِي رأي العين عَلَى ما كانت، لم يشوّه خلقتها، ولم يذهب بها جمال الوجه. وَقَالَ المجد فِي "القاموس": والسُّدُدُ -بضمّتين-: العيون الْمُفَتَّحَةُ، لا تُبصر بَصَرًا قويًّا، وهي عينٌ سادّة، أو التي ابيَضَّت، ولا يُبْصَرُ بها، ولم تَنْفَقِىءْ بَعْدُ. انتهى (إِذَا طُمِسَتْ) بالبناء للمفعول: أي انمحت (بِثُلُثِ دِيَتِهَا) متعلّق بـ"قضى" أي قضى بثلث دية العين الصحيحة إذا طُمست.

وإنما وجب فيها ثلث دية العين الصحيحة؛ لأنها كانت بعد ذهاب بصرها باقية الجمال، فإذا قُلِعت، أو فُقِئت ذهب ذلك. قَالَ ابن الملك: عمل بظاهر الْحَدِيث إسحاق، وأوجب الثلث فِي العين المذكورة، وعامة العلماء أوجبوا حكومة العدل؛ لأن المنفعة لم تفت بكمالها، فصارت كالسنّ، إذا سْوَدّت بالضرب، وحملوا الْحَدِيث عَلَى معنى الحكومة، إذ الحكومة بلغت ثلث الدية.

وفي شرح الطيبي: وكان ذلك بطريق الحكومة، وإلا فاللازم فِي ذهاب ضوئهما الدية، وفي ذهاب ضوء إحداهما نصف الدية عند الفقهاء.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: سيأتي فِي المسألة الثالثة ترجيح ما ذهب إليه إسحاق رحمه الله تعالى؛ لظاهر حديث الباب. والله تعالى أعلم.

وَقَالَ فِي "شرح السنة": معنى الحكومة: أن يقال: لو كَانَ هَذَا المجروح عبدا، كم كَانَ ينتقص بهذه الجراحة منْ قيمته؟، فيجب منْ ديته بذلك القدر، وحكومةُ كل عضو لا تبلغ فيه المقدرةَ، حَتَّى لو جُرح رأسه جراحة دون الموضحة، لا تبلغ حكومتها أرشَ الموضحة، وإن قَبُحَ شَيْنُها.

وَقَالَ الشمني؛ حكومة العدل، هي أن يُقَوَّم المجني عليه عبدا بلا هَذَا الأثر، ثم يُقَوَّم عبدا مع هَذَا الأثر، فقَدْرُ التفاوت بين القيمتين، منْ الدية، هو هي، أي ذلك القدر هي حكومة العدل، وهذا تفسير الحكومة عند الطحاوي، وبه أخذ الحلواني، وهو قول

ص: 263

مالك، والشافعي، وأحمد، وكل منْ يُحفَظ عنه العلم، كذا قَالَ ابن المنذر. ذكره فِي "المرقاة".

وفي "فتح الودود": وَقَدْ عمل بظاهره بعض العلماء، لكن عامتهم أوجبوا فيها حكومة عدل، وحملوا الْحَدِيث عَلَى أن الحكومة فِي تلك الواقعة، بلغت هَذَا القدر، لا أنه شرع الثلث فِي الدية عَلَى الإطلاق. انتهى. ذكر هَذَا كلّه فِي "عون المعبود" 12/ 201 - 202.

(وَفِي الْيَدِ الشَّلاَّءِ) تأنيث الأشلّ، يقال: شَلَّت اليد تَشَلُّ شَلَلاً، منْ باب تَعِبَ، ويُدغم المصدر أيضا: إذا فسدت عُروقها، فبطلت حركتها. قاله الفيّوميّ (إِذَا قُطِعَتْ) بالبناء للمفعول (بِثُلُثِ دِيَتِهَا) أي بثلث دية اليد الصحيحة إذا قُطعت، وفيه عطف المعمولين عَلَى معمولي عاملين، فقوله:"وفي اليد" معطوف عَلَى "فِي العين"، وقوله:"بثلث ديتها" معطوف عَلَى "بثلث ديتها" السابق، وكذا إعراب قوله:(وَفِي السِّنِّ السَّوْدَاءِ، إِذَا نُزِعَتْ) بالبناء للمفعول (بِثُلُثِ دِيَتِهَا) أي بثلث دية السنّ الصحيحة إذا نُزعت. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رحمه الله تعالى هَذَا حسن

(1)

.

[فإن قلت]: كيفَ يكون حسنًا، وفيه العلاء بن الحارث، وَقَدْ ذكر فِي "التقريب" أنه اختلط؟.

[قلت]: إنما كَانَ حسنًا؛ لأن العلاء، وإن ذُكر أنه اختلط، لكنه لم يوصف بشدّة الاختلاط، بحيث تُردّ رواياته، راجع ترجمته فِي "تهذيب التهذيب" 3/ 341 - 342، ويشهد لحديثه هَذَا أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه الآتي، وهو بمعناه. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخر جه هنا -42/ 4842 - وفي "الكبرى" 41/ 7044. وأخرجه (د) فِي "الديات" 4567. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي العين العوراء، ونحوها:

(1)

حسنه الشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى، مع توقّفه لاختلاط العلاء، راجع "صحيح النسائيّ" 3/ 1000.

ص: 264

قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: واختلفت الرواية عن أحمد فِي اليد الشلّاء، والعين العوراء، والسن السوداء: فعنه فِي كل واحدة ثلث ديتها، ورُوي هَذَا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومجاهد، وبه قَالَ إسحاق، وعن زيد بن ثابت: فِي العين القائمة مائة دينار.

[والرواية الثالثة]: عن أحمد فِي كل واحدة حكومة، وهذا قول مسروق، والزهري، ومالك، والشافعي، وأبي ثور، والنعمان، وابن المنذر؛ لأنه لا يمكن إيجاب دية كاملة؛ لكونها قد ذهبت منفعتها، ولا مُقَدَّر فيها، فتجب الحكومة فيها، كاليد الزائدة.

قَالَ: ولنا ما رَوَى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قَالَ: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فِي العين القائمة السادة لمكانها بثلث الدية، وفي اليد الشلاء إذا قطعت ثلث ديتها، وفي السن السوداء إذا قلعت ثلث ديتها، رواه النسائيّ، وأخرجه أبو داود فِي العين وحدها مختصرا، وقول عمر رضي الله عنه، رواه قتادة، عن خِلاس، عن عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر، عن ابن عباس رحمه الله تعالى: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى فِي العين القائمة إذا خُسفت، واليد الشلاء إذا قُطعت، والسن السوداء إذا كسرت، ثلثُ دية كل واحدة منهن. ولأنها كاملة الصورة، فكان فيها مقدر، كالصحيحة، وقولهم: لا يمكن إيجاب مقدر ممنوع، فإنا قد ذكرنا التقدير، وبيناه.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن المذهب الأول هو الأرجح؛ لظاهر حديث الباب، وهو حديث حسنٌ، وأثر عمر رضي الله عنه، المذكور، وهو صحيح، أخرجه البيهقيّ 8/ 98 منْ طريق سعيد بن منصور، ثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن عبد الله بن بُريدة، عن يحيى بن يعمر، عن ابن عبّاس، عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهم، أنه قَالَ:"فِي العين القائمة، والسنّ السوداء، واليد الشلّاء، ثلث ديتها". والله تعالى أعلم.

قَالَ الموفّق: قَالَ القاضي: قول أحمد رحمه الله: فِي السن السوداء ثلث ديتها، محمول عَلَى سن ذهبت منفعتها، بحيث لا يمكنه أن يَعَضَّ بها الأشياء، أو كانت تَفَتَّتَتْ، فأما إن كانت منفعتها باقية، ولم يذهب منها إلا لونها، ففيها كمال ديتها، سواء قَلَّت منفعتها، بأن عجز عن عَضِّ الأشياء الصَّلْبة بها، أو لم يعجز؛ لأنها باقية المنفعة، فكملت ديتها كسائر الأعضاء، وليس عَلَى مَن سَوَّدها إلا حكومة، وهذا مذهب الشافعيّ، والصحيح منْ مذهب أحمد ما يوافق ظاهر كلامه؛ لظاهر الأخبار، وقضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقول أكثر أهل العلم، ولأنه ذهب جمالها بتسويدها، فكملت ديتها عَلَى منْ سَوَّدها، كما لو سَوّد وجهه، ولم يَجِب عَلَى مُتلفها أكثر منْ ثلث ديتها، كاليد الشلاء، وكالسن إذا كانت بيضاء، فانقلعت، ونبت مكانها سوداء لمرض

ص: 265

فيها، فإن القاضي، وأصحاب الشافعيّ سَلَّموا أنها لا تكمل ديتها. انتهى "المغني" 12/ 154 - 156. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌43 - (عَقْلُ الأَسْنَانِ)

4843 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادٌ، عَنْ حُسَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فِي الأَسْنَانِ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن معاوية) بن مالج -بميم، وجيم- الأنماطيّ، أبو جعفر البغداديّ، صدوقٌ، ربّما وَهِم [10] 100/ 2858 منْ أفراد المصنّف.

2 -

(عبّاد) بن العوّام بن عمر الكلابيّ مولاهم، أبو سهل الواسطيّ، ثقة [8] 2/ 3907.

3 -

(حُسين) بن ذكوان المعلّم المكتب الْعَوْذيّ البصريّ، ثقة، ربما وهِم [6] 122/ 174، والباقون تقدّموا قريبًا. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فِي الأَسْنَانِ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ") الجارّ والمجرور خبر مقدّم، و"خمسٌ" مبتدأ مؤخّر: أي خمس منْ الإبل واجب فِي قلع الأسنان، ولفظ أبي داود:"فِي الأسنان خمس خمس": أي فِي قلع سنّ واحدة خمس منْ الإبل، وأما لو قلع الأسنان كلها، فالواجب الدية كاملة، كما سيأتي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -43/ 4843 و4844 - وفي "الكبرى" 42/ 7045 و7046. وأخرجه

ص: 266

(د) فِي "الديات"4563. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي دية الأسنان:

قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: لا نعلم بين أهل العلم خلافا، فِي أن دية الأسنان خمس خمس، فِي كل سن، وَقَدْ رُوي ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، ومعاوية، وسعيد بن المسيب، وعروة، وعطاء، وطاوس، والزهري، وقتادة، ومالك، والثوري، والشافعي، وإسحاق، وأبي حنيفة، ومحمد بن الحسن، وفي كتاب عمرو ابن حزم، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"فِي السن خمس منْ الإبل"، رواه النسائيّ 46/ 4855، وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"فِي الأسنان خمس خمس"، رواه أبو داود، والنسائيّ.

فأما الأضراس والأنياب، فأكثر أهل العلم عَلَى أنها مثل الأسنان، منهم: عروة، وطاوس، وقتادة، والزهري، ومالك، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو حنيفة، ومحمد بن الحسن، ورُوي ذلك عن ابن عباس، ومعاوية. ورُوي عن عمر رضي الله عنه أنه قضى فِي الأضراس ببعير بعير. وعن سعيد بن المسيب، أنه قَالَ: لو كنت أنا لجعلت فِي الأضراس بعيرين بعيرين، فتلك الدية سواء، ورَوَى ذلك مالك فِي "موطائه" 2/ 861، وعن عطاء نحوه، وحُكي عن أحمد رواية أن فِي جميع الأسنان، والأضراس الدية، فيتعين حمل هذه الرواية عَلَى مثل قول سعيد؛ للإجماع عَلَى أن فِي كل سن خمسا منْ الإبل، وورد الْحَدِيث به، فيكون فِي الأسنان ستون بعيرا؛ لأن فيه اثني عشر سنا، أربع ثنايا، وأربع رباعيات، وأربعة أنياب، فيها خمس، وفيه عشرون ضرسا، فِي كل جانب عشرة، خمسة منْ فوق، وخمسة منْ أسفل، فيكون فيها أربعون بعيرا، فِي كل ضرس بعيران، فتكمل الدية.

وحجة منْ قَالَ هَذَا أنه ذو عدد، يجب فيه الدية، فلم تزد ديته عَلَى دية الإنسان، كالأصابع، والأجفان، وسائر ما فِي البدن، ولأنها تشتمل عَلَى منفعة جنس، فلم تزد ديتها عَلَى الدية، كسائر منافع الجنس، ولأن الأضراس تختص بالمنفعة دون الجمال، والأسنان فيها منفعة وجمال، فاختلفا فِي الأرش.

قَالَ: ولنا ما رَوَى أبو داود بإسناده، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الأصابع سواء، والأسنان سواء، الثنية والضرس سواء، هذه وهذه سواء"، وهذا نصٌّ، وقوله فِي الأحاديث المتقدمة:"فِي الأسنان خمس خمس"، ولم يُفَصِّل، يدخل فِي عمومها الأضراس؛ لأنها أسنان، ولأن كل دية وجبت فِي جملة، كانت مقسومة عَلَى العدد، دون المنافع، كالأصابع، والأجفان، والشفتين، وَقَدْ أومأ ابن

ص: 267

عباس إلى هَذَا، فَقَالَ:"لا أعتبرها بالأصابع"، فأما ما ذكروه منْ المعنى فلابد منْ مخالفة القياس فيه، فمن ذهب إلى قولنا، خالف المعنى الذي ذكروه، ومن ذهب إلى قولهم، خالف التسوية الثابتة بقياس سائر الأعضاء، منْ جنس واحد، فكان ما ذكرناه مع موافقة الأخبار، وقول أكثر أهل العلم أولى، وأما عَلَى قول عمر: إن فِي كل ضرس بعيرا، فيخالف القياسين جميعا، والأخبار، فإنه لا يوجب الدية الكاملة، وإنما يوجب ثمانين بعرِا، ويخالف بين الأعضاء المتجانسة. انتهى "المغني" 12/ 130 - 132.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه أكئر أهل العلم، منْ كون دية كلّ سنّ خمسًا منْ الإبل، ممواء كانت أضراسًا، أو غيرها هو الأرجح عندي؛ لصحّة الأخبار بذلك، كما سلف إيضاحه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4844 -

(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ مَطَرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الأَسْنَانُ سَوَاءٌ، خَمْسًا خَمْسًا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الحسين بن منصور": هو أبو علي النيسابوريّ، ثقة فقيه [10] 25/ 1664.

و"حفص بن عبد الرحمن" بن عمر بن فَرُّوخ بن فَضَالة، أبو عمر الْبَلْخيّ الفقيه النيسابوريّ قاضيها، صدوقٌ، عابدٌ رمي بالإرجاء [9].

رَوَى عن خارجة بن مصعب، وحَجَّاج بن أرطأة، وإسرائيل، وسعيد بن أبي عروبة، وعاصم الأحول، ومحمد بن مسلم الطائفي، وابن أبي ذئب، وابن إسحاق، وأبي حنيفة، وغيرهم. وعنه ابن بنته إبراهيم بن منصور، وأبو داود الطيالسي، وبشر بن الحكم العبدي، ومحمد بن رافع، والحسين بن منصور بن جعفر، ويحيى بن أكثم، وغيرهم.

قَالَ أبو حاتم: صدوق، مضطرب الْحَدِيث. وَقَالَ النسائيّ: صدوق. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ الحاكم: وَلِيَ أبوه قضاء نيسابور فاستوطنها، ووُلِد له حفص، وعبد الله، وحفص أفقه أصحاب أبي حنيفة الخراسانيين، قَالَ ابن بنته: مات فِي ذي القعدة سنة (199). وَقَالَ ابن حبّان فِي ترجمته: كَانَ مرجئا. وَقَالَ الحاكم فِي ترجمته: ولي قضاء نيسابور، ثم نَدِم، وأقبل عَلَى العبادة، وأخبرني بعض أصحابنا أن ابن عيينة، وابن المبارك رويا عنه. وَقَدْ كَانَ يحيى بن يحيى كتب عنه، واختَلَف إليه. قَالَ أبو جعفر الجمال: كتب عنه ابن المبارك، فدخل حفص، فاستوى ابن المبارك جالسا، ولم يزل متبسما حَتَّى خرج، فقال: لقد جمع خصالا ثلاثة: الوقار، والفقَه، والورع. وَقَالَ أبو

ص: 268

أحمد الفراء: كَانَ منْ فقهاء النَّاس. وَقَالَ حسين بن منصور: ما رأيت أبصر بمسألة بلوى منه. وَقَالَ إسحاق بن راهويه: ما رأيت أعقل منه، إلى هنا منْ تاريخ نيسابور. وَقَالَ الآجري: سألت أبا داود عنه، فَقَالَ: خراساني، مُرْجِيء، ولكنه صدوق. وَقَالَ الحاكم فِي سؤالات مسعود: هو ثقة، إلا أن البخاريّ نَقِمَ عليه الإرجاء. وَقَالَ الخليلي: مشهور، روى عنه شيوخ نيسابور، تَعرِفُ، وتُنكِر. وَقَالَ الدارقطنيّ: صالح. وَقَالَ السليماني: فيه نظر. انتهى. تفرّد به المصنّف، وأبو داود فِي "القدر"، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب ثلاثة أحاديث: هَذَا، و44/ 4847 فِي الباب التالي، وفي "كتاب الزينة" 43/ 5181 حديث علي رضي الله عنه: "نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس المعصفر

الحديث.

و"سعيد بن أبي عَرُوبة "مِهْران": هو اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقة حافظ، له تصانيف، يدلس كثيرًا، واختلط، وكان منْ أثبت النَّاس فِي قتادة [6] 34/ 38.

و"مطر": هو: ابن طهمان الورّاق، أبو رجاء السلميّ مولاهم، الخراسانيّ، سكن البصرة، صدوقٌ، كثير الخطإ، وحديثه عن عطاء ضعيف [6] 38/ 3276.

وقوله: "الأسنان سواء" مبتدأ وخبر: أي الأسنان مستوية فِي الأحكام، ضرسها، وأنيابها، وثناياه، وغيرها، لا يفضّل شيء منها بزيادة شيء منْ الدية، بل فِي سنّ منها خمس منْ الإبل.

وقوله: "خمسًا خمسًا": منصوبٌ عَلَى التمييز: أي متساوية منْ حيث وجوب خمس منْ الإبل فِي الدية. قاله السنديّ. ويحتمل أن يكون منصوبًا عَلَى الحال: أي حال كونها مقدّرة بخمس خمس منْ الإبل.

والحديث صحيح، كما سبق بيانه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌44 - (بَابُ عَقْلِ الأَصَابعِ)

4845 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو الأَشْعَثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ

ص: 269

مَسْرُوقِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"فِي الأَصَابِعِ عَشْرٌ عَشْرٌ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(أبو الأشعث) أحمد بن المِقْدام العجليّ البصريّ، صدوقٌ [10] 138/ 319.

2 -

(خالد) بن الحارث الْهُجيميّ البصريّ ثقة ثبت [8] 42/ 44.

3 -

(سعيد) بن أبي عروبة المذكور فِي السند الماضي.

4 -

(قتادة) بن دِعامة السدوسيّ، أبو الخطاب البصريّ، ثقة ثبت، يدلس [4] 30/ 34.

5 -

(مسروق بن أوس) التميميّ اليربُوعيّ الحنظليّ البصريّ، وقيل: أوس بن مسروق، وقيل: إن اسم جده مسروق، غزا فِي خلافة عمر رضي الله عنه، مقبول [2].

روى عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. وعنه حُميد بن هلال، وقتادة، وغالبٌ التمّار. ذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ الحافظ: بَيَّن المزّيّ فِي "الأطراف": أن الصواب مسروق بن أوس، وأن شعبة روى الْحَدِيث مرّة بالشكّ، وعنه أحمد، وغيره، منْ رواية شعبة عن غالب، سمعت أوس بن مسرودتى رجلًا منّا، كَانَ أخذ الدرهمين عَلَى عهد عمر بن الخطّاب، وغزا فِي خلافته، وسنده صحيح. انتهى. روى له المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث، كرره ثلاث مرّات هنا 4845 و4846 و4847.

6 -

(أبو موسى) الأشعريّ عبد الله بن قيس بن سُليم بن حضار الأشعريّ الصحابيّ المشهور رضي الله عنه 3/ 3. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير مسروق بن أوس، فتفرّد به المصنّف، وأبو داود، وهذا أول محل ذكره فِي هَذَا الكتاب. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي مُوسَى) الأشعريّ رضي الله تعالى عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "فِي الأَصَابِعِ عَشْرٌ عَشْرٌ") مبتدأ وخبر، كما سبق نظيره فِي الباب الماضي، يعني أنه يجب فِي قطع الأصابع عشر منْ الإبل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 270

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث.

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هَذَا صحيح.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه مسروق بن أوس، ولم يوثّقه غير ابن حبّان؟.

[قلت]: مسروق قد روى عنه حميد بن هلال، وقتادة، وغالب التمّار، وهو منْ كبار التابعين، وَقَدْ غزا فِي خلافة عمر رضي الله عنه، ووثقه ابن حبّان، فكون مثل هَذَا ثقة، وتصحيح حديثه واضحٌ، عَلَى أن لحديثه شواهد، منْ حديث ابن عباس، وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم، كما سيأتي.

والحاصل أن الْحَدِيث صحيح. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -44/ 4845 و4846 و4847 - وفي "الكبرى" 43/ 7047 و7048 و7049 و7050. وأخرجه (د) فِي "الديات" 4557 (ق) فِي "الديات" 2654 (أحمد) 4/ 397 و498 (الدارمي) 2/ 194 (ابن حبّان) 1527 (البيهقيّ) 8/ 92. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي دية الأصابع:

قَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى: ذهب عامّة أهل العلم إلى أن فِي كل أصبع منْ اليدين والرجلين عشرًا، منْ الإبل، وفي كل أنملة منها ثلث عقلها، إلا الإبهام، فإنها مفصلان ففي كل مفصل منها خمس منْ الإبل، وممن قَالَ بهذا عمر، وعلي، وابن عباس رضي الله عنهم، وبه قَالَ مسروق، وعروة، ومكحول، والشعبي، وعبد الله بن مَعقِل، والثوري، والأوزاعي، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وأصحاب الْحَدِيث، ولا نعلم فيه مخالفًا، إلا رواية عن عمر، أنه قضى فِي الإبهام بثلث غرة، وفي التي تليها باثنتي عشرة، وفي الوسطى بعشر، وفي التي تليها بتسع، وفي الخنصر بست. ورُوي عنه أنه لما أخبر بكتابٍ كَتَبَه النبيّ صلى الله عليه وسلم لآل حزم:"وفي كل أصبع مما هنالك عشر منْ الإبل"، أخذ به، وترك قوله الأول. وعن مجاهد: فِي الإبهام خمس عشرة، وفي التي تليها ثلاث عشرة، وفي التي تليها عشر، وفي التي تليها ثمان، وفي التي تليها سبع.

وحجة الأولين ما رَوى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دية أصابع اليدين والرجلين، عشر منْ الإبل، لكل أصبع"، أخرجه الترمذيّ، وَقَالَ. حديث صحيح، ورواه أبو داود، والنسائيّ عن أبي موسى، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن

ص: 271

ابن عباس، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هذه وهذه سواء"، يعني الإبهام والخنصر، أخرجه البخاريّ، وأبو داود، والنسائي، وفي كتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم:"وفي كل إصبع منْ أصابع اليدين والرجلين عشر منْ الإبل"، ولأنه جنسٌ ذو عدد، تجب فيه الدية، فكان سواء فِي الدية، كالأسنان، والأجفان، وسائر الأعضاء، ودية كل أصبع مقسومة عَلَى أناملها.

وفي كل أصبع ثلاث أنامل، إلا الإبهام فإنها أنملتان، ففي كل أنملة منْ غير الإبهام ثلث عقل الإبهام، ثلاثة أبعرة وثلث، وفي كل أنملة منْ الإبهام خمس منْ الإبل نصف ديتها.

وحكي عن مالك أنه قَالَ: الإبهام أيضا ثلاث أنامل: [إحداها]: باطنة، وليس هَذَا بصحيح، فإن الاعتبار بالظاهر، فإن قوله عليه السلام:"فِي كل أصبع عشر منْ الإبل"، يقتضي وجوب العشر فِي الظاهر؛ لأنها هي الأصبع التي يقع عليها الاسم، دون ما بطن منها، كما أن السن التي يتعلق بها وجوب ديتها، هي الظاهرة منْ لحم اللثة، دون سِنْخها، والحكم فِي أصابع اليدين والرجلين سواء؛ لعموم الخبر فيهما، وحصول الاتفاق عليهما. انتهى "المغني" 12/ 149 - 150.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الموفّق منْ تقرير مذهب الجمهور عندي هو الصواب؛ لظهور أدلته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي دية الأصبع الزائدة:

قَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى: فِي الأصبع الزائدة حكومة، وبذلك قَالَ الثوري، والشافعي، وأصحاب الرأي، وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن فيها ثلث دية الأصبع، وذكر القاضي أنه قياس المذهب، عَلَى رواية إيجاب الثلث فِي اليد الشلاء، والأول أصح؛ لأن التقدير لا يصار إليه إلا بالتوقيف، أو بمماثلته لما فيه توقيف، وليس ذلك هاهنا؛ لأن اليد الشلاء، يحصل بها الجمال، والأصبع الزائدة لا جمال فيها فِي الغالب، ولأن جمال اليد الشلاء، لا يكاد يختلف، والأصبع الزائد تختلف باختلاف محالها، وصفتها، وحُسنها، وقبحها، فكيف يصح قياسها عَلَى اليد؟. انتهى "المغني" 12/ 150 - 151.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: القول الأول هو الأرجح عندي، كما صححه الموفّق؛ لظهور حجته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

4846 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ غَالِبٍ التَّمَّارِ، عَنْ مَسْرُوقِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "الأَصَابِعُ سَوَاءٌ عَشْرًا").

ص: 272

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمرو بن عليّ": هو الفلّاس. و"يزيد بن زُريع": هو أبو معاوية البصريّ الثقة الثبت [8] 5/ 5.

[تنبيه]: كون "يزيد بن زريع" فِي هَذَا السند هو الذي وقع فِي بعض النسخ، ووقع فِي بعضها بدله:"محمد بن جعفر"، وهو غندر، وَقَدْ أخرجه فِي "الكبرى" منْ كلا الطريقين، لكن طريق غندر فيها إدخال "حميد بن هلال" بين غالب، ومسروق بن أوس، كرواية حفص بن عبد الرحمن الآتية، والظاهر أن الرواية ثابتة بالطريقين، وبه يظهر أن الذي وقع فِي بعض نسخ "المجتبى" منْ إبدال محمد بن جعفر عن يزيد بن زُريع فِي صحته نظرٌ؛ لأن رواية محمد بن جعفر فيها زيادة حميد بن هلال فِي السند، لكن وجدت ما يؤيد هذه النسخة فِي "سنن أبي داود"، فإنه قَالَ -بعد أن أخرج الْحَدِيث عن أبي الوليد، عن شعبة-: ما نضه: رواه محمد بن جعفر، عن شعبة، عن غالب، قَالَ: سمعت مسروق بن أوس. انتهى.

فعلى هَذَا يحتمل أن يكون محمد بن جعفر رواه بالطريقين، أعني الطريق التي فيها ذكر حميد بن هلال، والطريق التي فيها حذفه. والله تعالى أعلم.

وأما ما قع فِي النسخة "الهنديّة" هنا: منْ قوله: "حدّثنا محمد بن يزيد بن زُريع"، فإنه غلط محض، وإنما الصواب: إما محمد بن جعفر، وإما يزيد بن زريع، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

و"سعيد": هو ابن أبي عروبة.

و"غالب التمّار": هو ابن مِهران، وقيل: ابن ميمون العبديّ، أبو عَفّان، وقيل: أبو غِفار البصريّ، صدوقٌ [6].

رَوَى عن أوس بن مسروق، وحميد بن هلال، وعامر الشعبي، وعبد الله بن إبراهيم. ورَوَى عنه قتادة، وهو أكبر منه، وشعبة، وسعيد بن أبي عروبة، وإسماعيل ابن علية، ومسعود بن واصل، وحنظلة بن أبي سفيان. قَالَ أبو حاتم: صالح. وَقَالَ ابن سعد: كَانَ ثقة. وَقَالَ ابن حبّان فِي "الثقات": غالب بن مِهْران، ويقال: ابن ميمون. ونَصَّ بن ماكولا عَلَى أن كنيته: أبو غفار -بالغين المعجمة المكسورة، والفاء الخفيفة- وكذا ذكره النسائيّ وغيره فِي "الكنى" فِي حرف الغين المعجمة. روى له المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، له عندهم هَذَا الْحَدِيث فقط.

وقوله: "الأصابع سواء": مبتدأ وخبره، أي الأصابع كلها متساوية فِي الدية. وقوله:"عشراً" منصوب عَلَى الحال: أي حال كونها مقدّرة بعشر منْ الإبل، أو منصوب عَلَى التمييز: أي منْ حيث وجوب عشر منْ الإبل.

ص: 273

والحديث صحيح، وَقَدْ سبق القول فيه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4847 -

(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصٌ -وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَلْخِيُّ- عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ غَالِبٍ التَّمَّارِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ مَسْرُوقِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: "قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ الأَصَابِعَ سَوَاءٌ، عَشْرًا عَشْرًا مِنَ الإِبِلِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا السند إلى "سعيد"، وهو ابن أبي عروبة تقدّموا فِي الباب الماضي. و"حميد بن هلال": هو أبو نصر العدوي البصريّ، ثقة عالم، توقف فيه ابن سيرين لدخوله فِي عمل السلطان [3] 4/ 4.

وقوله: "عشرًا عشرًا" سبق بيان إعرابه فيما قبله، والحديث صحيح، كما سبق بيانه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4848 -

(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّهُ لَمَّا وُجِدَ الْكِتَابُ الَّذِي عِنْدَ آلِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، الَّذِي ذَكَرُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ لَهُمْ، وَجَدُوا فِيهِ: "وَفِيمَا هُنَالِكَ مِنَ الأَصَابِعِ عَشْرًا عَشْرًا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "يحيى بن سعيد": هو الأنصاريّ.

وقوله: "لما وُجد" ببناء الفعل للمفعول. وقوله: "وفيما هنالك الخ" مفعول "وجدوا" محكيّ؛ لقصد لفظه، يعني أنهم وجدوا فِي ذلك الكتاب هَذَا النصّ. وقوله:"عشرًا عشرًا" نصب بفعل مقدّر: أي يعطي عشرًا، يعني أن الجاني يعطي للمجنيّ عليه لكلّ إصبع منْ أصابعه عشرًا منْ الإبل.

والحديث صحيح، وسيأتي تمام البحث فيه بعد باب، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4849 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي قَتَادَةُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ"- يَعْنِي الْخِنْصَرَ وَالإِبْهَامَ).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن علي) الفلّاس الصيرفي البصريّ، ثقة ثبت [10] 4/ 4.

2 -

(يحيي بن سعيد) القطّان البصريّ الإمام الحجة الثبت [9] 4/ 4.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت [7] 24/ 27.

4 -

(قتادة) بن دعامة السدوسي البصريّ الثقة الثبت [4] 30/ 34.

ص: 274

5 -

(عكرمة) البربريّ، مولى ابن عباس، ثقة ثبت [3] 2/ 325.

6 -

(ابن عباس) عبد الله رضي الله تعالى عنهما 27/ 31. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية للبخاريّ منْ طريق ابن أبي عديّ، عن شعبة:"قَالَ: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم"(قَالَ: "هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ") أي أن الخنصر، والإبهام متساويتان فِي الدية، ففي كلّ منهما عشر منْ الإبل، كما سبق بيانه فِي الأحاديث السابقة، واللاحقة.

(يَعْنِي) فِي رواية يزيد بن زريع، عن شعبة الآتية بعد هَذَا بحذف لفظة "يعني"(الْخِنْصَرَ) -بكسر الخاء المعجمة، وسكون النون، وكسر الصاد المهملة، وتفتح، آخره راء- قَالَ المجد فِي "القاموس":"الْخِنْصِرُ" ويُفتح الصاد: الإصبع الصغرى، أو الوسطى، مؤنث. انتهى.

(وَالْإبْهَامَ) قَالَ المجد أيضًا: الإبهام بالكسر فِي اليد، والقدم أكبر الأصابع، وَقَدْ تذكّر، جمعه أَباهيم، وأَباهِم. انتهى.

قَالَ الترمذيّ رحمه الله تعالى بعد أن أخرج الْحَدِيث: والعمل عَلَى هَذَا عند أهل العلم، وبه يقول الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. انتهى.

وَقَالَ فِي "الفتح": وبه قَالَ جميع فقهاء الأمصار، وكان فيه خلاف قديم، فأخرج ابن أبي شيبة، منْ رواية سعيد بن المسيب، عن عمر:"فِي الإبهام خمسة عشر، وفي السبابة والوسطى عشر عشر، وفي البنصر تسع، وفي الخنصر ست"، ومثله عن مجاهد، وفي "جامع الثوري" عن عمر نحوه، وزاد: قَالَ سعيد بن المسيب: حَتَّى وَجَدَ عمر فِي كتاب الديات لعمرو بن حزم: "فِي كل إصبع عشر"، فرجع إليه.

وكتاب عمرو بن حزم، أخرجه مالك، فِي "الموطإ" عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه: "أن فِي الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن

ص: 275

حزم، فِي العقول: أن فِي العشرة مائة منْ الإبل"، وفيه: "وفي اليد خمسون، وفي الرجل خمسون، وفي كل إصبع مما هناك عشر منْ الإبل"، ووصله أبو داود فِي "المراسيل"، والنسائي منْ وجه آخر، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده مطولاً، وصححه ابن حبّان، وأعله أبو داود، والنسائي، وأخرج عبد الرزاق، عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه: "فِي الإبهام، والتي تليها نصف دية اليد، وفي كل واحدة عشر". وأخرج ابن أبي شيبة، عن مجاهد، نحو أثر عمر، إلا أنه قَالَ: "فِي البنصر ثمان، وفي الخنصر سبع". ومن طريق الشعبي: كنت عند شُريح، فجاءه رجل، فسأله، فَقَالَ:"فِي كل إصبع عشر"، فَقَالَ: سبحان الله، هذه وهذه سواء، الإبهام والخنصر؟ قَالَ: ويحك، إن السنة مَنَعَت القياسَ، اتَّبع، ولا تبتدع. وأخرجه ابن المنذر، وسنده صحيح. وأخرج مالك فِي "الموطإ": أن مروان بعث أبا غَطَفان المزني إلى ابن عباس: ماذا فِي الضرس؟، فَقَالَ: خمس منْ الإبل، قَالَ: فرَدَّني إليه، أتجعل مقدم الفم، مثل الأضراس؟ فَقَالَ: لو لم تعتبر ذلك إلا فِي الأصايع عقلها سواء. وهذا يقتضي أن لا خلاف عند ابن عباس ومروان فِي الأصابع، وإلا لكان فِي القياس المذكور نظر.

قَالَ الخطّابيّ: هَذَا أصل فِي كل جناية، لا تضبط كميتها، فإذا فاق ضبطها منْ جهة المعنى، واعتُبِرت منْ حيث الاسم، فتتساوى ديتها، وإن اختلف حالها، ومنفعتها، ومبلغ فعلها، فان للابهام منْ القوة ما ليس للخنصر، ومع ذلك فديتهما سواء، ومثله فِي الجنين غُرَّةٌ، سواء كَانَ ذكرا أو أنثى، وكذا القول فِي المواضح ديتها سواء، ولو اختلفت فِي المساحة، وكذلك الأسنان نفع بعضها أقوى منْ بعض، وديتها سواء، نظرا للاسم فقط. وما أخرجه مالك فِي "الموطإ" عن ربيعة: سألت سعيد بن المسيب، كم فِي إصبع المرأة؟ قَالَ: عشر، قلت: ففي إصبعين؟ قَالَ: عشرون، قلت: ففي ثلاث؟ قَالَ: ثلاثون، قلت: ففي أربع؟ قَالَ: عشرون، قلت: حين عَظُم جُرْحها، واشتدت مصيبتها نقص عقلها، قَالَ: يا ابن أخي هي السنة، فإنما قَالَ ذلك؛ لأن دية المرأة نصف دية الرجل، كنها عنده تساويه فيما كَانَ قدر ثلث الدية، فما دونه، فإذا زاد عَلَى ذلك رجعت إلى حكم النصف. انتهى ما فِي "الفتح" 14/ 214 - 216.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدّم فِي المسألة الثالثة منْ مسائل الْحَدِيث الأول فِي الباب تحقيق الخلاف، وترجيح الراجح فِي هذه المسألة، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

ص: 276

حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما هَذَا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -44/ 4849 و4850 - وفي "الكبرى" 43/ 7052 و7053. وأخرجه (خ) فِي "الديات" 6896 (د) فِي "الديات" 4558 (ت) فِي "الديات" 1392 (ق) فِي "الديات" 2652 (أحمد) فِي "مسند بني هاشم" 2000 و3140 و3210 (الدارمي) فِي "الديات" 2264. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4850 -

(أَخْبَرَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "فَهَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ، الإِبْهَامُ وَالْخِنْصَرُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

و"نصر بن عليّ": هو الجهضميّ البصريّ، ثقة ثبتٌ، طُلب للقضاء، فامتنع، وهو أحد مشايخ الستة بلا واسطة [10] 20/ 386.

والحديث موقوف صحيح، تفرّد به المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -44/ 4850 - وفي "الكبرى" 43/ 7053. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4851 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "الأَصَابِعُ عَشْرٌ عَشْرٌ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

وقوله: "الأصابع عشر عشر": مبتدأ وخبر عَلَى حذف مضاف: أي دية الأصابع عشرٌ، يعني أن دية كل إصبع منْ أصابع اليدين، والرجلين عشر، منْ الإبل، فهي متساوية فِي الحكم، وإن اختلفت فِي المعاني، والمنافع، قصدًا للضبط، وكذا الأسنان، كما سبق، فلو اعتُبرت المنفعة فِي كلها، لاختلف الأمر اختلافًا شديدًا.

والحديث موقوف صحيح أيضًا، تفرد به المصنّف، فأخرجه هنا -44/ 4851 - وفي "الكبرى" 43/ 7054. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4852 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: "وَفِي الأَصَابِعِ عَشْرٌ عَشْرٌ").

ص: 277

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "إسماعيل بن مسعود": هو الْجَحْدريّ البصريّ. و"خالد بن الحارث": هو الْهُجَيميّ البصريّ. و"حسين المعلّم": هو ابن ذَكْوان البصريّ.

والحديث صحيح، أخرجه المصنّف هنا -44/ 4852 - وفي "الكبرى" 43/ 7055. وأخرجه (د) فِي "الديات" 4562. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4853 -

(أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْهَيْثَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ فِي خُطْبَتِهِ، وَهُوَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ: "الأَصَابِعُ سَوَاءٌ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عبد الله بن الْهَيْثَم": بن عثمان، ويقال: ابن محمد بن الهيثم العبديّ، أبو محمد البصريّ، نزيل الرَّقَّة، لا بأس به [11] 67/ 2324 منْ أفراد المصنّف. و"حجّاج": هو ابن محمد الأعور الْمِصِّيصيّ. و"همّام": هو ابن يحيى الْعَوْذيّ البصريّ.

والحديث صحيح، تفرد به المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -44/ 4853 - وفي "الكبرى" 43/ 7056. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌45 - (الْمَوَاضِحُ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "المواضح" بفتح الميم: جمع موضِحة، وهي الشّجّة التي توضح العظم: أي تظهره.

قال ابن منظور: الواضحة منْ الشِّجاج: التي تبدي وضَحَ العظم: أي بياضه. قال ابن سيدَهْ: والموضحة منْ الشِّجاج التي بلغت العظم، فأوضحت عنه. وقيل: هي التي تَقْشِر الجِلدة التي بين اللحم والعظم، أو تشقّها حَتَّى يبدو وَضحُ العظم، وهي التي يكون فيها القصاص خاصّةً؛ لأنه ليس منْ الشِّجاج شيء له حدّ يَنتهي إليه سواها، وأما غيرها منْ الشجاج، ففيها ديتها. انتهى "اللسان".

وقال ابن الأثير: وفي حديث الشِّجاج ذِكرُ الموضحة فِي أحاديث كثيرة، وهي التي تُبدي وَضَحَ العظم: أي بياضه، والجمع الْمَوَاضِحُ، والتي فُرض فيها خمس منْ الإبل، هي ما كانت فِي الرأس والوجه، فأما الموضِحة فِي غيرهما، ففيها الحكومة. انتهى

ص: 278

"النهاية" 5/ 196.

وَقَالَ ابن منظور أيضًا "الشجّة": الْجُرح يكون فِي الوجه والرأس، فلا يكون فِي غيرهما منْ الجسم، وجمعها شِجاج، وشَجّه يِشُجُّهُ -بالضم- ويشِجَه -بالكسر- شَجّا، فهو مشجوج، وشَجِيجٌ، منْ قوم شَجًى.

وَقَالَ أيضًا: الشَّجّةُ: واحدة شِجَاج الرأس، وهس عشرة:

1 -

الحارصة، وهي التي تَقشِرُ الجلدَ، ولا تُدميه، و2 - الدامعة بالعين المهملة-: وهي التي تُظهر الدم كالدمع، ولا تُسيله، و3 - الدامية: وهي التي تُدميه، و4 - الباضعة: وهي التي تشُقُّ اللحم شقّا كبيرًا، و5 - السِّمْحاقُ: وهي التي يَبقَى بينها وبين اللحم جلدة رقيقةٌ، فهذه خمس شِجاج، ليس فيها قصاص، ولا أرشٌ مقدّر، وتجب فيها حكومة.

و6 - الموضحة: وهي التي تَبلُغ إلى العظم، وفيها خمس منْ الإبل، ثم 7 - الهاشمة: وهي التي تَهشِم العظمَ: أي تكسره، وفيها عشر منْ الإبل، و8 - الْمُنَقِّلةُ: وهي التي يُنقل منها العظم منْ موضع إلى موضع، وفيها خمس عشرة منْ الإبل، ثم 9 - المأمومة، ويقال لها: الآمّة: وهي التي لا يَبقى بينها وبين الدمَاغ إلا جلدة رقيقة، وفيها ثلث الدية، و10 - الدامغة: وهي التي تبلغ الدماغ، وفيها أيضًا ثلث الدية. انتهى "لسان العرب" 2/ 303 - 304 بزيادة إصلاح لما سقط منْ نسخته

(1)

. والله تعالى أعلم.

[فائدة]: قَالَ الأزهريّ: معنى الحكومة فِي أرش الجراحات التي ليس فيها ديةٌ معلومة: أن يُجرح الإنسان فِي موضع فِي بدنه مما يُبقِى شَينَهُ، ولا يُبطل العضوَ، فيقتاسُ الحاكم أرشه بأن يقول: هَذَا المجروح لو كَانَ عبدًا غيرَ مَشِين هَذَا الشَّيْنَ بهذه الجراحة كانت قيمته ألف درهم، وهو مع هَذَا الشين قيمته تسعمائة درهم، فقد نقصه الشين عُشر قيمته، فيجب عَلَى الجارح عُشرُ ديته فِي الحرّ؛ لأن المجروح حر، وهذا وما أشبهه بمعنى الحكومة التي يستعملها الفقهاء فِي أرش الجراحات، فاعلمه. انتهى "اللسان" 12/ 145.

وفي "الدرّ المختار" منْ كتب الحنفية: ما معناه: حكومة العدل أن يُنظر، كم مقدار هذه الشجّة منْ الموضحة، فيجب بقدر ذلك منْ نصف عشر الدية. قاله الكرخيّ. وَقَالَ الطحاويّ: يقوّم المشجوج عبدًا بلا هَذَا الأثر، ثم معه، فقدر التفاوت بين القيمتين فِي الحرّ منْ الدية، وفي العبد منْ القيمة، فإن نقص الحرّ عشر قيمته أخذ عشر ديته، وكذا فِي النصف، والثلث. انتهى "الدّرّ" 6/ 619 - 620 بنسخة "حاشية ردّ المحتار" لابن عابدين. والله تعالى أعلم بالصواب.

(1)

فقد سقطت منْ نسخته "الدامعة" وهي الثانية فِي العدد، فألحقتها منْ "الدر المختار" فِي فقه الحنفيّة 6/ 618 بنسخة "حاشية ردّ المحتار" لابن عابدبن.

ص: 279

4854 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: "وَفِي الْمَوَاضِحِ خَمْسٌ خَمْسٌ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الإسناد هو الذي سبق قبل حديث فِي الباب الماضي. وهو سند مسلسل بالبصريين إلى عمرو. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بن العاص رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ) أي فِي شهر رمضان منْ السنة الثامنة منْ الهجرة (قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: "وَفِي الْمَوَاضِحِ خَمْسٌ خَمْسٌ) مبتدأ مؤخَرٌ، وخبرٌ مقدّم، كما سبق، يعني أنه يجب دفع خمس منْ الإبل فِي شجّ الإنسان غيره فِي رأسه، أو وجهه، بجراحة تزيل اللحم منْ العظم، وتظهره، وهذا إذا كَانَ خطأ، فأما إذا كَانَ عمدًا ففيه القصاص.

قَالَ فِي "المغني" 12/ 158 - 159: الموضحة فِي الرأس، والوجه سواء، وهي التي تبرز العظم، وليس فِي الشجاج ما فيه قصاص سواها، ولا يجب المقدر فِي أقل منها، وهي التي تصل إلى العظم، سُمّيت موضحة؛ لأنها أبدت وَضَحَ العظم، وهو بياضه. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه الموجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -45/ 4854 - وفي "الكبرى" 44/ 7057. وأخرجه (د) فِي "الديات" 4566 (ت) فِي "الديات" 1390 (ق) فِي "الديات" 2655 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 6643 و6733 و6894 (الدارمي) فِي "الديات" 2266. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي المواضح:

قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: أجمع أهل العلم عَلَى أن أرش الموضحة، مقدر، قاله ابن المنذر، وفي كتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم:"وفي الموضحة خمس منْ الإبل"، رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي، وَقَالَ: حديث حسن.

قَالَ: وقولُ الْخِرَقي: "فِي موضحة الحر" يحترز به منْ موضحة العبد. وقوله: سواء

ص: 280

كَانَ منْ رجل، أو امرأة، يعني أنهما لا يختلفان فِي أرش الموضحة؛ لأنها دون ثلث الدية، وهما يستويان فيما دون الثلث، ويختلفان فيما زاد، وعند الشافعيّ أن موضحة المرأة عَلَى النصف منْ موضحة الرجل، بناءً عَلَى أن جراح المرأة عَلَى النصف منْ جراح الرجل، فِي الكثير والقليل.

قَالَ: وعموم الْحَدِيث الذي رويناه حجة عليه، وفيه كفاية.

وأكثر أهل العلم عَلَى أن الموضحة فِي الرأس والوجه سواء، رُوي ذلك عن أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، وبه قَالَ شريح، ومكحول، والشعبي، والنخعي، والزهري، وربيعة، وعبيد الله بن الحسن، وأبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.

ورُوي عن سعيد بن المسيب، أنه قَالَ: تضعف موضحة الوجه عَلَى موضحة الرأس، فيجب فِي موضحة الوجه عشر منْ الإبل؛ لأن شينها أكثر، وذكره القاضي رواية عن أحمد، وموضحة الرأس يسترها الشعر والعمامة. وَقَالَ مالك: إذا كانت فِي الأنف، أو فِي اللِّحْي الأسفل، ففيها حكومة؛ لأنها تبعد عن الدماغ، فأشبهت موضحة سائر البدن.

قَالَ: ولنا عموم الأحاديث، وقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: الموضحة فِي الرأس والوجه سواء، ولأنها موضحة، فكان أرشها خمسا منْ الإبل، كغيرها مما سلموه، ولا عبرة بكثر الشين، بدليل التسوية بين الصغيرة والكبيرة، وما ذكروه لمالك لا يصح، فإن الموضحة فِي الصدر أكثر ضررا، وأقرب إلى القلب، ولا مقدر فيها. وَقَدْ رُوي عن أحمد رحمه الله، أنه قَالَ: موضحة الوجه أحرى أن يزاد فِي ديتها، وليس معنى هَذَا أنه يجب فيها أكثر والله أعلم- وإنما معناه أنها أولى بإيجاب الدية، فإنه إذا وجب فِي موضحة الرأس مع قلة شينها، واستتارها بالشعر، وغطاء الرأس خمس منْ الإبل، فلأن يجب ذلك فِي الوجه الظاهر الذي هو مجمع المحاسن، وعنوان الجمال أولى، وجَعلُ كلام أحمد عَلَى هَذَا أولى منْ حيله عَلَى ما يخالف الخبر والأثر، وقولَ أكثر أهل العلم، ومصيره إلى التقدير بغير توقيف، ولا قياس صحيح.

قَالَ: وبجب أرش الموضحة فِي الصغيرة، والكبيرة، والبارزة، والمستورة بالشعر؛ لأن اسم الموضحة يشمل الجميع، وحد الموضحة ما أفضى إلى العظم، ولو بقدر إبرة، ذكره ابن القاسم والقاضي. انتهى "المغني" باختصار 12/ 158 - 160.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذكره ابن قُدامة رحمه الله تعالى أن الأرجح هو ما ذهب إليه أحمد ومن معه منْ أنَّ فِي الموضحة خمسًا منْ الإبل مطلقًا، سواء كَانَ منْ الرجل، أو المرأة؛ عملاً بظاهر عموم حديث الباب. والله تعالى أعلم

ص: 281

بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي موضحة غير الرأس والوجه:

ذهب أكثر أهل العلم إلى أنه ليس فِي موضحة غير الرأس والوجه مقدر، وبه قَالَ مالك، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر، قَالَ ابن عبد البرّ: ولا يكون فِي البدن موضحة -يعني ليس فيها مقدر- قَالَ: وعلى ذلك جماعة العلماء، إلا الليث بن سعد، قَالَ: الموضحة تكون فِي الجسد أيضا، وَقَالَ الأوزاعي: فِي جراحة الجسد عَلَى النصف منْ جراحة الرأس، وحُكي نحو ذلك عن عطاء الخراساني، قَالَ فِي الموضحة فِي سائر الجسد: خمسة وعشرون دينارا.

وحجة الأولين أن اسم الموضحة إنما يُطلق عَلَى الجراحة المخصوصة، فِي الوجه والرأس، وقول الخليفتين الراشدين -يعني أبا بكر، وعمر رضي الله تعالى عنهما-: الموضحة فِي الوجه والرأس سواء، يَدُلُّ عَلَى أن باقي الجسد بخلافه، ولأن الشين فيما فِي الرأس والوجه أكثر، وأخطر مما فِي سائر البدن، فلا يلحق به، ثم إيجاب ذلك فِي سائر البدن يفضي إلى أن يجب فِي موضحة العضو أكثر منْ ديته، مثل أن يوضح أنملة ديتها ثلاثة وثلث، ودية الموضحة خمس، وأما قول الأوزاعي، وعطاء الخراساني، فتَحَكُّم، لا نص فيه، ولا قياس يقتضيه، فيجب اطِّراحه. قاله فِي "الغني" 12/ 161.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الأرجح هو ما عليه الجمهور منْ أنه لا مقدّر فِي موضحة غير الرأس والوجه، بل يجب فيها حكومة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌46 - (ذِكْرِ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِى الْعُقُولِ وَاخْتِلَافِ النَّاقِلِينَ لَهُ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "العُقُول": بالضمّ جمع عَقْل بالفتح، كفلس وفُلُوس.

ووجه الاختلاف فِي هَذَا الْحَدِيث أنه اختُلِف فيه عَلَى يحيى بن حمزة، فرواه عنه الحكم بن موسى، عن سليمان بن داود، عن الزهريّ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو

ص: 282

ابن حزم، عن أبيه، عن جدّه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخالفه محمد بن بكّار، فرواه عن يحيى، عن سليمان بن أرقم، عن الزهريّ، عن أبي بكر، به، ورجّح المصنّف هَذَا الطريق، مع أن سليمان متروك، وجعل رواية الحكم بن موسى خطأ، وكذلك قَالَ أبو داود فِي "المراسيل": وَقَدْ وَهِم الحكم بن موسى فِي قوله: سليمان بن داود، وَقَالَ أيضًا: قد أُسند هَذَا الْحَدِيث، ولا يصحّ، والذي فِي إسناده سلييان بن داود وَهَمٌ، إنما هو سليمان بن أرقم. انتهى.

وخالفهما يونس بن يزيد، فرواه 4857 - عن الزهريّ، مرسلا، وكذلك رواه سعيد ابن عبد العزيز 4858 - عن الزهر، فأرسله، ورواه مالك 4859 - عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، مرسلا، ورجح الأكثرون أن المرسل هو المحفوظ؛ لأن طريق الوصل فيه سليمان بن أرقم، وهو متروك، كما قَالَ المصنّف، لكن المرسل قد اعتضد بتلقّى الأمة بالقبول، فهو صحيح، وسيأتي مزيد إيضاح لذلك إن شاء الله تعالى.

4855 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ كِتَابًا، فِيهِ الْفَرَائِضُ، وَالسُّنَنُ، وَالدِّيَاتُ، وَبَعَثَ بِهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، فَقُرِئَتْ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ، هَذِهِ نُسْخَتُهَا: "مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إِلَى شُرَحْبِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، وَنُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، وَالْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، قَيْلِ ذِي رُعَيْنٍ، وَمُعَافِرَ، وَهَمْدَانَ، أَمَّا بَعْدُ

وَكَانَ فِي كِتَابِهِ: أَنَّ مَنِ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلاً، عَنْ بَيِّنَةٍ، فَإِنَّهُ قَوَدٌ، إِلاَّ أَنْ يَرْضَى أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ، وَأَنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةُ، مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، وَفِي الأَنْفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةُ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الْبَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ، وَفِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ، وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشَرَةَ مِنَ الإِبِلِ، وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ، عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ، وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ، وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ، وَأَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ، وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ").

رجال هَذَا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عمرو بن منصور) أبو سعيد النسائيّ، ثقة ثبتٌ [1] 108/ 147 منْ أفراد المصنّف.

2 -

(الحكم بن موسى) بن أبي زُهير شير زاد البغداديّ، أبو صالح الْقَنْطريّ، صدوقٌ [10].

رَأَى مالك بن أنس، وروى عن ضمرة بن ربيعة، وإسماعيل بن عياش، وشعيب بن

ص: 283

إسحاق، وابن المبارك، والوليد بن مسلم، ويحيى بن حمزة الحضرميّ، وعيسى بن يونس، والْهِقْل بن زياد، ومعاذ بن معاذ العنبري، وغيرهم. ورَوى عنه البخاريّ تعليقًا، ومسلم، وأبو داود فِي "المراسيل"، ورَوَى له النسائيّ، وابن ماجه بواسطة عمرو بن منصور، وأبي زرعة، وأبو حاتم، وأحمد بن حنبل، وابنه عبد الله، والدارمي، وأبو قدامة السرخسي، وابن المديني، والذهلي، والزعفراني، وأبو زرعة الدمشقي، وغيرهم.

قَالَ ابن معين: ليس به بأس، وَقَالَ مرة: ثقة، وكذا قَالَ العجليّ. وَقَالَ أبو حاتم: صدوقٌ. وَقَالَ ابن سعد: ثقة، كثير الْحَدِيث، وكان رجلا صالحا، ثَبْتًا فِي الْحَدِيث. وَقَالَ موسى بن هارون: حدثنا الحكم بن موسى، أبو صالح الشيخ صالح، وَقَالَ: بلغني عن ابن المديني أنه قَالَ كذلك، وكذا قَالَ البغوي. وَقَالَ الصالح جزرة: الثقة المأمون. وَقَالَ ابن قانع: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ البخاريّ، وجماعة: مات سنة (232) زاد البغوي: ليومين منْ شوال.

روى له البخاريّ فِي التعاليق، ومسلم، والمصنّف، وأبو داود فِي "المراسيل"، وابن ماجه، وله عند المصنّف هَذَا الْحَدِيث فقط.

3 -

(يحيى بن حمزة) أبو عبد الرحمن الحضرميّ الدمشقيّ القاضي، ثقة، رُمي بالقدر [8] 60/ 1768.

4 -

(سليمان بن داود) الخولانيّ، أبو داود الدمشقيّ الدرانيّ، سكن داريا، صدوقٌ [7] وفي "تهذيب التهذيب" 2/ 93 - : رَوَى عن الزهريّ، وعمر بن عبد العزيز، وأبي بردة بن أبي موسى، وأبي قلابة، وأيوب بن نافع بن كيسان. وعنه يحيى بن حمزة الحضرميّ، وصدقة بن عبد الله السمين، وهشام بن الغاز، والْوَضِين بن عطاء. قَالَ القاضي، أبو علي الخولاني فِي "تاريخ داريا": كَانَ حاجبا لعمر بن عبد العزيز، وكان مُقَدَّما عنده، وولده بداريا إلى اليوم.

ورَوَى الحكم بن موسى، عن يحيى بن حمزة، عن سليمان بن داود، عن الزهريّ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده، حديثَ الصدقات بطوله، وفيه: الدياتُ وغيرُ ذلك، قَالَ أبو داود: هَذَا وَهَم منْ الحكم، ورواه محمد بن بكار بن بلال، عن يحيى بن حمزة، عن سليمان بن أرقم، عن الزهريّ، وكذا حَكَى غير واحد أنه قرأه فِي أصل يحيى بن حمزة، وَقَالَ النسائيّ: هَذَا أشبه بالصواب، وسليمان بن أرقم متروك. وَقَالَ أبو يعلى الموصلي، عن ابن معين: ليس بمعروف، وليس يصح هَذَا الْحَدِيث. وَقَالَ أبو حاتم: لا بأس به، يقال: إنه سليمان بن أرقم. وَقَالَ ابن

ص: 284

المديني: منكر الْحَدِيث، وضعفه. وَقَالَ غير واحد، عن ابن معين: ليس بشيء.

قَالَ عثمان الدارمي: أرجو أنه ليس كما قَالَ، فإن يحيى بن حمزة، رَوَى عنه أحاديث حسانا، كأنها مستقيمة، وَقَالَ البغوي: سمعت أحمد بن حنبل، سُئل عن حديث الصدقات، الذي يرويه يحيى بن حمزة، أصحيح هو؟ فَقَالَ: أرجو أن يكون صحيحا. وَقَالَ ابن عدي: للحديث أصل فِي بعض ما رواه معمر، عن الزهريّ، لكنه أفسد إسناده، ورواه سليمان بن داود هَذَا، فجوّد الإسناد. وَقَالَ يعقوب بن سفيان: لا أعلم فِي جميع الكتب أصح منْ كتاب عمرو بن حزم. وَقَالَ ابن حبّان: سليمان بن داود الخولاني، منْ أهل دمشق، ثقة مأمون، وسليمان بن داود اليمامي، لا شيء، وجميعا يرويان عن الزهريّ.

وَقَالَ البيهقي: وَقَدْ أثنى عَلَى سليمان بن داود أبو زرعة، وأبو حاتم، وعثمان بن سعيد، وجماعة منْ الحفاظ، ورأوا هَذَا الْحَدِيث الذي رواه فِي الصدقات، موصول الإسناد حسنًا. قَالَ الحافظ: أما سليمان بن داود الخولاني، فلا ريب فِي أنه صدوقٌ، لكن الشبهة دخلت عَلَى حديث الصدقات، منْ جهة أن الحكم بن موسى غلط، فِي اسم والد سليمان، فَقَالَ: سليمان بن داود، وإنما هو سليمان بن أرقم، فمن أخذ بهذا ضَعَّفَ الْحَدِيث، ولاسيما مع قول منْ قَالَ: إنه قرأ كذلك فِي أصل يحيى بن حمزة، فقد قَالَ صالح جزرة: نظرت فِي أصل كتاب يحيى بن حمزة حديثَ عمرو بن حزم، فِي الصدقات، فإذا هو عن سليمان بن أرقم، قَالَ صالح: كتب عنّي مسلم بن الحجاج هَذَا الكلام. وَقَالَ الحافظ أبو عبد الله بن مندهْ: قرأت فِي كتاب يحيى بن حمزة بخطه، عن سليمان بن أرقم، عن الزهري.

وأما منْ صححه، فأخذوه عَلَى ظاهره، فِي أنه سليمان بن داود، وقَوِيَ عندهم أيضا بالمرسل الذي رواه معمر، عن الزهريّ، والله أعلم. وذكر ابن حبّان أن أبا اليمان، روى عن شعيب، عن الزهريّ بعض الْحَدِيث. انتهى. تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط، وكذلك أبو داود فِي "المراسيل".

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: سيأتي تمام البحث فِي هَذَا الْحَدِيث فِي المسألة الأولى، إن شاء الله تعالى.

5 -

(الزهريّ) محمد بن مسلم الإمام الحجة المشهور [4] 1/ 1.

6 -

(أَبو بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ) الأنصاريّ النّجّاريّ -بالنون، والجيم- المدنيّ القاضي، اسمه كنيته، وقيل: إنه يُكنى أبا محمد، ثقة عابدٌ [5] مات سنة (120هـ) وقيل: غير ذلك تقدم فِي 118/ 163.

ص: 285

7 -

(محمد بن عمرو بن حزم) بن زيد بن لُوذان، الأنصاريّ النَّجّاري، أبو عبد الملك المدنيّ، ويقال: أبو سليمان، له رؤية، وليس له سماعٌ، إلا منْ الصحابة.

وفي "تهذيب التهذيب" 3/ 660: وُلد فِي حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، سنة عشر بنجران، قاله ابن سعد، رَوَى عن أبيه، وعمر بن الخطاب، وعمرو بن العاص. ورَوَى عنه ابنه أبو بكر، وعمر بن كثير بن أفلح. قَالَ النسائيّ: ثقة. وَقَالَ ابن سعد عن الواقدي: كَانَ ثقة قليل الْحَدِيث. قَالَ ابن سعد: وقُتل يوم الْحَرَّة، سنة ثلاث وستين، وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: وَلَّته الأنصار أمرها يوم الحرة. قَالَ الحافظ: أمير الأنصار يوم الحرة عبد الله بن حنظلة بن الغسيل، هَذَا ما لا خلاف فيه، ولعلهم بعد قتل ابن حنظلة أجمعوا عَلَى ابن حزم، فالله تعالى أعلم، ثم ظهر لي أنه كَانَ مُقَدَّما عَلَى الخزرج، وكان ابن حنظلة مقدما عَلَى الأوس، ولما قتل ابن حزم كَانَ سبب هزيمة أهل المدينة. وَقَالَ البخاريّ فِي "تاريخه": قَالَ محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده محمد بن عمرو، قَالَ: كنت أتكنى أبا القاسم، فجئت أخوالي بني ساعدة، فنهوني، وقالوا: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "منْ تسمى باسمي، فلا يكتن بكنيتي"، فحولت كنيتي بأبي عبد الملك. روى له المصنّف، وأبو داود فِي "المراسيل"، وله عند المصنّف هَذَا الْحَدِيث فقط، كرره مرّتين، هَذَا، والحديث التالي.

8 -

(عمرو بن حزم) الأنصاريّ الصحابيّ المشهور، شَهِد الخندق، فما بعدها، وكان عامل النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى نجران، مات بعد (50)، وقيل: فِي خلافة عمر، وهو وَهَمٌ تقدّم فِي 105/ 2045. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ) محمد بن عمرو (عَنْ جَدِّهِ) عمرو ابن حزم رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كَتَبَ) أي أمر بأن يُكتب (إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ) والمراد أهل نجران، كما سيأتي بعدُ، ولا تنافي؛ لأن نجران منْ اليمن، قَالَ الفيّوميّ: ونَجْران: بلدة منْ بلاد هَمْدان، منْ اليمن، قَالَ البكريّ: سُميت باسم بانيها نجران بن زيد بن يشْجُب بن يَعْرُب بن قَحْطان. انتهى. (كِتَابًا، فِيهِ الفَرَائِضُ) أي بيانها (وَالسُّنَنُ) منْ عطف العامّ عَلَى الخاصّ (وَالدِّيَاتُ) أي بيان مقدارها، وأسنانها، و"الديات" بكسر الدال، وتخفيف التحتانيّة: جمع دِيَة، مثلُ عِدات وعِدَة، وأصلها وَدْية بفتح الواو، وسكون الدال، تقول: وَدَى القتيلَ يَدِيه: إذا أعطى وَلِيَّه دِيته، وهي ما جُعل فِي مقابلة النفس، وسُمّي ديةً تسميةً بالمصدر، وفاؤها محذوفةٌ، والهاء عِوَضٌ، وفي الأمر:

ص: 286

القتيلَ بدال مكسورة حسبُ،، فإن وقفتَ قُلتَ: دِهْ بهاء السكت (وَبَعَثَ بِهِ) أي بذلك الكتاب (مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ) أي حين ولّاه صلى الله عليه وسلم عَلَى أهل نجران، أرسل بالكتاب معه؛ ليقرأه عليهم (فَقُرِئَتْ) أنّث الضمير مع أن مرجعه مذكّرٌ، وهو الكتاب؛ لتأويله بالنسخة (عَلَى أهْلِ الْيَمَنِ) أي وهم أهل نجران (هَذِهِ نُسْخَتُهَا) أي هذه الكلمات، أو الجمل الآتية نسخة ذلك الكتاب، والنسخة بضم، فسكون: الكتاب المنقول، والجمع نُسَخٌ، كغرفة وغُرَف، يقال: نسختُ الكتاب نَسْخًا، منْ باب نفَعَ: إذا نقلته، وانتسخته كذلك، قاله فِي "المصباح"، والظاهر أن هَذَا الكتاب الذي كَانَ عند أبي بكر بن محمد بن عمرو كَانَ منسوخًا منْ الكتاب الأصليّ الذي بعث به النبيّ صلى الله عليه وسلم عمرو بن حزم، والله تعالى أعلم.

(مِنْ مُحَمَّدٍ) متعلّق بمقدّر، خبر لمحذوف: أي هَذَا مبعوث منْ محمد صلى الله عليه وسلم، ومثله الجارّ بعده (النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إِلَى شُرَحْبِيلَ) بضم المعجمة، وفتح الراء، وسكون المهملة (بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ) بضم الكاف (وَنُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، وَالْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، قَيْلِ ذِي رُعَيْنٍ)"القَيْلُ" بفتح، فسكون، كالْمِقْوَلِ، كمِنبر: المَلِكُ، أو منْ ملوك حمير، يقول ما شاء، فيَنفُذُ، أو هو دون الملك الأعلى، فهو فِي حِمْير كالوزير فِي الإسلام، كما فِي "فقه اللغة" للثعالبيّ، وأصل قَيْل قَيّل، كفَيْعِلٍ، سمّي به لأنه يقول ما شاء، فيَنفُذُ، جمعه أقوالٌ، وأقيالٌ، ومَقَاولُ، ومَقاوِلةٌ. أفاده فِي "القاموس"، مع زيادة يسيرة. فـ"قيل" مضاف، و"ذي رُعين" وما بعده مضاف إليه. و"ذو رُعين" كزُبير: ملك حِمير. قاله فِي القاموس (وَمَعَافِرَ) بفتح الميم: أبو حيّ منْ همدان، لا ينصرف. قاله فِي "القاموس" أيضًا (وَهَمْدَانَ) بفتح، فسكون: قبيلة باليمن، قاله فِي "القاموس" أيضًا (أَمَّا بَعْدُ) رواية المصنّف رحمه الله تعالى هذه فيها اختصار، فإنَّ الْحَدِيث طويل، وَقَدْ ساقه الحافظ الزيلعيّ فِي كتابه "نصب الراية فِي تخريج أحاديث الهداية"، فِي "كتاب الزكاة" فِي "باب صدقة السوائم" 2/ 339 - 342 - عند قول صاحب "الهداية":"بهذا اشتهرت كتب الصدقات منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فذكر "كتاب أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه"، و"كتاب عمر رضي الله عنه"، ثم قَالَ:

ومنها كتاب عمرو بن حزم أخرجه النسائيّ فِي "الديات" وأبو داود فِي "مراسيله"، النسائيّ عن يحيى بن حمزة، عن سليمان بن داود، عن الزهريّ، ثم أخرجه عن يحيى، عن سليمان بن أرقم، عن الزهريّ به، وَقَالَ: هَذَا أشبه بالصواب، وسليمان بن أرقم متروك الْحَدِيث. انتهى. وأبو داود فِي "مراسيله" عن سليمان بن أرقم، عن الزهريّ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتب إلى أهل اليمن، بكتاب فيه الفرائض، والسنن، والديات، وبعث به مع عمرو بن حزم،

ص: 287

فقرئت عَلَى أهل اليمن، وهذه نسختها:

"بسم الله الرحمن الرحيم، منْ محمد النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى شرحبيل بن عبد كُلال، قَيْلِ ذي رُعَين، ومَعَافر، وهَمْدان: أما بعد، فقد رجع رسولكم، وأعطيتم منْ المغانم خمس الله، وما كَتَب الله عز وجل عَلَى المؤمنين، منْ العشر فِي العقار، وما سقت السماء، وكان سَيْحًا، أو كَانَ بَعْلًا فيه العشر، إذا بلغ خمسة أوسق، وما سُقِي بالرِّشَا والدالية، ففيه نصف العشر، وفي كل خمس منْ الإبل سائمةً شاةٌ، إلى أن تبلغ أربعا وعشرين، فإذا زادت واحدة عَلَى أربع وعشرين، ففيها بنت مخاض، فإن لم توجد ابنة مخاض، فابن لبون ذكر، إلى ان يبلغ خمسا وثلاثين، فإن زادت عَلَى خمس وثلاثين واحدة، ففيها ابنت لبون، إلى أن تبلغ خمسا وأربعين، فإن زادت واحدة، ففيها حقة، طَرُوقة الْجَمَل، إلى أن تبلغ ستين، فإن زادت عَلَى ستين واحدة، ففيها جذعة إلى أن تبلغ خمسا وسبعين، فإن زادت واحدة عَلَى خمس وسبعين، ففيها ابنتا لبون، إلى أن تبلغ تسعين، فان زادت واحدة، ففيها حقتان، طروقتا الجمل، إلى أن تبلغ عشرين ومائة، فما زادت عَلَى عشرين ومائة، ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة طروقة الجمل، وفي كل ثلاثين باقورة، تبيع جذع، أو جذعة، وفي كل أربعين باقورة بقرة، وفي كل أربعين شاةً سائمةً شاةٌ، إلى أن تبلغ عشرين ومائة، فإذا زادت عَلَى العشرين ومائة واحدة، ففيها شاتان، إلى أن تبلغ مائتين، فإن زادت واحدة، ففيها ثلاث شياه، إلى أن تبلغ ثلاثمائة، فان زادت ففي كل مائة شاةٍ شاةٌ، ولا يؤخذ فِي الصدقة هَرِمَةٌ، ولا عَجْفاء، ولا ذات عَوَار، ولا تَيْسُ الغنم، ولا يُجمَع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، خشيةَ الصدقة، وما أخذ منْ الخليطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، وفي كل خمس أواق، منْ الورق، خمسة دراهم، وما زاد ففي كل أربعين درهما درهم، وليس فيما دون خمس أواق شيء، وفي كل أربعين دينارا دينار، والصدقة لا تحل لمحمد، ولا لأهل بيته، إنما هي الزكاة، تُزَكَّى بها أنفسهم، فِي فقراء المؤمنين، وفي سبيل الله، وليس فِي رقيق، ولا مزرعة، ولا عُمَّالها شيء، إذا كانت تؤدي صدقتها منْ العشر، وأنه ليس فِي عبد مسلم، ولا فرسه شيء.

وكان فِي الكتاب إن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة، الإشراك بالله، وقتل النفس المؤمنة بغير حق، والفرار فِي سبيل الله يوم الزحف، وعقوق الوالدين، ورمي المحصنة، وتعلم السحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وأن العمرة الحج الأصغر، ولا يمس القرآن إلا طاهر، ولا طلاق قبل إملاك، ولا عتاق حَتَّى يبتاع، ولا يُصَلِّيَنَّ أحدكم فِي ثوب واحد، وشقه باد، ولا يصلين أحدكم عاقصا شعره.

ص: 288

وكان فِي الكتاب أن منْ اعتبط مؤمنا قتلا، عن بينة، فإنه قود، إلا أن يرضى أولياء المقتول، وأن فِي النفس الدية مائة منْ الإبل، وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، والرجل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقلة خمس عشرة منْ الإبل، وفي كل إصبع منْ أصابع اليد، أو الرجل عشر منْ الإبل، وفي السن خمس منْ الإبل، وفي الموضحة خمس منْ الإبل، وأن الرجل يُقتل بالمرأة، وعلى أهل الذهب ألف دينار. انتهى.

(وَكَانَ فِي كِتَابِهِ) أي كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المذكور (أَنَّ مَنِ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا) أي قتله بلا ذنب يوجب قتله. قَالَ الفيّوميّ: عبطتُ الشاة عَبْطًا، منْ باب ضرب: ذبحتها، صحيحةً، منْ غير علّة بها، ولحمٌ عَبِيطٌ: أي صحيحٌ طَريّ، ودمٌ عبيطٌ: طريّ خالصٌ، لا خَلْط فيه، قَالَ فِي "التهذيب": العَبيط منْ اللحم ما كَانَ سَليمًا منْ الآفات، إلا الكسر، ولا يقال: عبيط إذا كَانَ الذبح منْ آفة، ولا يقال للشاة عبيطة، ومُعتَبِطةٌ إذا ذُبحت منْ آفةٍ، غيرِ الكسر. انتهى.

والمراد به هنا: أنه قتل مؤمنا بلا جناية كانت منه، ولا جريرة توجب قتله. وقوله "قَتْلاً) مصدر لـ"اعتبط" منْ غير لفظه، كقعدت جلوسا (عَنْ بَيِّنَةٍ) أي بحجة، والمراد وجود الشهود عَلَى قتله، أو ثبوته بإقراره (فَإِنَّهُ قَوَدٌ) بفتحتين: أي فإن القاتل يُقتل به قصاصًا (إِلاَّ أَنْ يَرْضَى أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ) أي بقبول الدية، فلهم ذلك، وفيه أن الأصل القصاص، وأن قبول الدية تخفيف منْ الله عز وجل (وَأَنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةُ) أي الكاملة (مِائَةً مِنَ الإِبِلِ) بالنصب عَلَى أنه بدل منْ "الديةَ".

(وَفِي الأَنْفِ إِذَا أُوعِبَ) بضم أوله: أي أخذ كله، قَالَ فِي "المصباح": وَعَبته وَعْبًا، منْ باب وَعَدَ، وأوعبته إيعابًا، واستوعبته، كلُّها بمعنًى، وهو أخذ الشيء جميعِهِ. قَالَ الأزهريّ: الْوَعْبُ: إيعابك الشيءَ فِي الشيء، حَتَّى تأتي عليه كله: أي تُدخله فيه، وفي الْحَدِيث:"فِي الأنف إذا استُوعب جَدْعًا الديةُ": أي إذا لم يُترَك منه شيء، وجاءوا موعِبين: أي جميعهم، لم يبق منهم أحد. انتهى (جَدْعُهُ) بالرفع فاعل "أُوعِب"، و"الجدع" بفتح، فسكون: القطع (الدِّيَةُ) مبتدأ مؤخّر خبره الجارّ والمجرور قبله، أي "فِي الأنف"، و"إذا" يحتمل أن تكون ظرفاً مجرّدا عن الشرط، فتتعلّق بالنسبة الحاصلة بين المبتدإ والخبر، أو هي شرطية، معترضة بين المبتدإ والخبر، وجوابها ما دلّ عليه المبتدأ والخبر.

والمعنى أنه إذا قطع أنف الشخص كلّه خطأ وجبت فيه الدية الكاملة، ويأتي تمام

ص: 289

البحث فيه فِي المسألة الرابعة، إن شاء الله تعالى.

(وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ) مبتدأ وخبر، وكذا ما بعده: يعني أنه إذا قُطع لسان الإنسان خطأ وجبت الدية الكاملة، وسيأتي تمام البحث فيه فِي المسألة الخامسة إن شاء الله تعالى.

(وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ) أي إذا قطع شفاه العليا والسفلى وجبت به الدية الكاملة. قَالَ فِي "المغني" 12/ 123 - 124: حدّ الشفة السفلى منْ أسفل ما تجافَى عن الأسنان، واللِّثَة مما ارتفع عن جلدة الذَّقَن. وحدُّ العليا منْ فوق ما تجافى عن الأسنان، واللِّثَةِ إلى اتِّصاله بالمَنْخِرين والحاجز، وحدّهما طولاً طولُ الفم إلى حاشية الشِّدْقَين، وليست حاشية الشدقين منهما. انتهى. وسيأتي تمام البحث فيه فِي المسألة السادسة، إن شاء الله تعالى.

(وَفِي الْبَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ) أي فِي قطع الأنثيين خطأ الدية الكاملة. وسيأتي تمام البحث فِي ذلك، فِي المسألة السابعة إن شاء الله تعالى.

(وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ) أي قطع ذكره خطأ ففيه الدية الكاملة وسيأتي تمام البحث فيه فِي المسألة الثامنة، إن شاء الله تعالى (وَفِي الصُّلْبِ) بضم الصاد المهملة، وسكون اللام، وتُضمّ للإتباع: هو كلُّ ظهر له فَقَارٌ (الدِّيَةُ) أي إذا قطع صلبه خطأ، ففيه الدية الكاملة وسيأتي تمام البحث فيه فِي المسألة التاسعة، إن شاء الله تعالى (وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ) أي إذا أصيبت عيناه خطأ، ففيه الدية الكاملة، وَقَدْ سبق تمام البحث فيه فِي 42/ 4842 - باب "العين العوراء الخ"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(وَفِي الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ) أي قطعت رجله الواحدة خطأ ففيها نصف الدية، وسيأتي تمام البحث فيه فِي المسألة الحادية عشرة، إن شاء الله تعالى.

(وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ) أي فِي الجراحة التي تصل إلى جلدة الدماغ، ويقال لها: الآمّة أيضًا، قَالَ ابن عبد البرّ: أهل العراق يقولون لها: الآمة، وأهل الحجاز: المأمومة، وهي الجراحة الواصلة إلى أُمّ الدماغ، سُمِّيت أم الدماغ، لأنها تحوطه وتجمعه، فإذا وصلت الجراحة إليها سميت آمّة، ومأمومة، يقال: أمّ الرجلُ آمّة، ومأمومة. انتهى. وسيأتي تمام البحث فيه فِي المسألة الثانية عشرة، إن شاء الله تعالى.

(وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ) الجائفة: هي الطعنة التي تصل إلى جوف الرأس، أو جوف البطن، فإذا كانت خطأ وجب فيها ثلث الدية، وسيأتي البحث عنه فِي المسألة الثالثة عشرة، إن شاء الله تعالى.

(وَفِي الْمُنَقِّلَةِ) قَالَ فِي "المغني" 12/ 164: المنقلة زائدة عَلَى الهاشمة، وهي التي تكسر العظام، وتزيلها عن مواضعها، فيحتاج إلى نقل العظم؛ ليلتئم. انتهى. (خَمْسَ عَشَرَةَ مِنَ الإِبِلِ) هَذَا بإجماع منْ أهل العلم، حكاه ابن المنذر. تاقاله فِي "المغني" وسيأتي

ص: 290

تمام البحث فيه فِي المسألة الخامسة عشرة، إن شاء الله تعالى.

(وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ، عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ) أي إذا قطع أحد أصابع اليدين، أو الرجلين ففيه عشر منْ الإبل؛ لأن فِي كلها الديةَ كاملة، ففي واحدة منها عشر الدية؛ لأنها عشر الكلّ، وهذا قول عامّة أهل العلم؛ لهذا الْحَدِيث، وَقَدْ تقدم تمام البحث فيه فِي 44/ 4845 - "باب عقل الأصابع"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ) أي فِي كلّ سنّ إذا أُصيبت خطأ ففيها خمس منْ الإبل، بلا خلاف بين أهل العلم فِي ذلك، وَقَدْ تقدّم تمام البحث فيه فِي 43/ 4843 - باب "عقل الأسنان"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ) أي تجب خمس منْ الإبل إذا جرحه موضحة فِي رأسه، أو وجهه، و"الموضحة" اسم فاعل منْ أوضح، وهي منْ شِجاج الرأس، أو الوجه، وليس فِي الشجاج ما فيه قصاص سواها، ولا يجب المقدر فِي أقل منها، وهي التي تصل إلى العظم، سُميت موضحة؛ لأنها أبدت وَضَحَ العظم، وهو بياضه، وأجمع أهل العلم عَلَى أن أرشها مُقَدّرٌ، قاله ابن المنذر. وَقَدْ تقدّم تمام البحث فيها فِي الباب الماضي، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(وَأَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ) يعني أنه إذا قتل الرجل المرأة عمدًا ظلمًا يقتل بها قصاصًا، وَقَدْ تقدّم تمام البحث فِي هَذَا فِي باب "القَوَد منْ الرجل للمرأة"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ) أي يجب عَلَى منْ لا يجد إبلاً يؤدّيها ديةً، إذا كَانَ منْ أهل الذهب أن يؤدّي ألف دينار دية منْ قتله خطأ، وَقَدْ تقدّم اختلاف العلماء، هل الأصل فِي الدية، الإبل، وما عداها بدل عنها، أو كلّ أصل برأسه، والأول أرجح، فراجع باب "32/ 4793 - كم دية شبه العمد؟ "، تستفد، وبالله تعالى التوفيق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حيث عمرو بن حزم رضي الله عنه هَذَا صحيحٌ عندي، فقد صححه ابن حبّان، والحاكم، والبيهقيّ، ونقل عن أحمد أنه قَالَ: أرجو أن يكون صحيحًا، بل قَالَ ابن الجوزيّ فِي "التحقيق": قَالَ أحمد رحمه الله تعالى: كتاب عمرو بن حزم فِي الصدقات صحيح.

والحاصل أنه وإن رجّح الأكثرون إرساله لكن تصحيحه هو الأرجح عندي؛ لما سيأتي.

(اعلم): أنه قد تكلّم أهل العلم فِي هَذَا الْحَدِيث، ومنهم المصنّف، ودونك عباراتهم:

ص: 291

قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى فِي "التلخيص الحبير" 4/ 34:

قوله: رُوي عن عمرو بن حزم: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كتب فِي كتابه إلى أهل اليمن:"أن الذكر يقتل بالأنثى": هَذَا طرف منْ كتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو مشهور، قد رواه مالك، والشافعي عنه، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه: أن فِي الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم فِي العقول، ووصله نعيم بن حماد، عن ابن المبارك، عن معمر، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن أبيه، عن جده، وجَدُّه محمد بن عمرو بن حزم، وُلِد فِي عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يسمع منه. وكذا أخرجه عبد الرزاق، عن معمر، ومن طريقه الدارقطنيّ، ورواه أبو داود، والنسائي، منْ طريق ابن وهب، عن يونس، عن الزهريّ، مرسلاً، ورواه أبو داود فِي "المراسيل" عن ابن شهاب، قَالَ: قرأت فِي كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم، حين بعثه إلى نجران، وكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم، ورواه النسائيّ، وابن حبّان، والحاكم، والبيهقي، موصولاً، مطولاً، منْ حديث الحكم بن موسى، عن يحيى بن حمزة، عن سليمان بن داود، حدثني الزهريّ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده. وفرّقه الدارمي فِي "مسنده" عن الحكم مُقَطَّعا.

وَقَدْ اختلف أهل الْحَدِيث، فِي صحة هَذَا الْحَدِيث، فَقَالَ أبو داود فِي "المراسيل": قد أُسنِد هَذَا الْحَدِيث، ولا يصح، والذي في إسناده سليمان بن داود وَهَمٌ، إنما هو سليمان بن أرقم.

وَقَالَ فِي موضع آخر: لا أُحَدِّث به، وَقَدْ وَهِمَ الحكم بن موسى، فِي قوله: سليمان ابن داود، وَقَدْ حدثني محمد بن الوليد الدمشقي، أنه قرأه فِي أصل يحيى بن حمزة:"سليمان بن أرقم"، وهكذا قَالَ أبو زرعة الدمشقي: إنه الصواب، وتبعه صالح بن محمد جزرة، وأبو الحسن الهروي، وغيرهما. وَقَالَ جزرة: نا دُحَيم، قَالَ: قرأت فِي كتاب يحيى بن حمزة، حديث عمرو بن حزم، فإذا هو:"عن سليمان بن أرقم"، قَالَ صالح: كتب هذه الحكاية عَنّي مسلم بن الحجاج.

قَالَ الحافظ: ويؤكد هَذَا ما رواه النسائى، عن الهيثم بن مروان، عن محمد بن بَكّار، عن يحيى بن حمزة، عن سليمان بن أرقم، عن الزهريّ، وَقَالَ: هَذَا أشبه بالصواب. وَقَالَ ابن حزم: صحيفة عمرو بن حزم منقطعة، لا تقوم بها حجة، وسليمان ابن داود متَّفقٌ عَلَى تركه. وَقَالَ عبد الحق: سليمان بن داود هَذَا الذي يروي هذه النسخة، عن الزهريّ ضعيف، ويقال: إنه سليمان بن أرقم.

وتعقبه ابن عدي، فَقَالَ: هَذَا خطأ، إنما هو سليمان بن داود، وَقَدْ جَوَّده الحكم بن

ص: 292

موسى انتهى.

وَقَالَ أبو زرعة: عرضته عَلَى أحمد، فَقَالَ: سليمان بن داود هَذَا ليس بشيء. وَقَالَ ابن حبّان: سليمان بن داود اليمامي ضعيف، وسليمان بن داود الخولاني ثقة، وكلاهما يروي عن الزهريّ، والذي رَوَى حديث الصدقات هو الخولاني، فمن ضعفه، فإنما ظن أن الراوي له هو اليمامي.

قَالَ الحافظ: ولولا ما تقدم منْ أن الحكم بن موسى وَهِمَ فِي قوله سليمان بن داود، وإنما هو سليمان بن أرقم، لكان لكلام ابن حبّان وجه.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لماذا لا يكون الْحَدِيث منْ كليهما؟؛ فإن كلاً منهما ممن روى عن الزهريّ، فيحتمل أن يكون يحيى بن حمزة سمعه منْ سليمان بن داود، ومن سليمان بن أرقم، وكلاهما رواياه عن الزهريّ، فيكون صحيحًا منْ رواية ابن داود، ولذا صححه بعض المحدثين، كما نقله الحافظ بقوله:

وصححه الحاكم، وابن حبّان كما تقدم، والبيهقي، ونقل عن أحمد بن حنبل، أنه قَالَ: أرجو أن يكون صحيحا، قَالَ: وَقَدْ أثنى عَلَى سليمان بن داود الخولاني هَذَا أبو زرعة، وأبو حاتم، وعثمان بن سعيد، وجماعة منْ الحفاظ، قَالَ الحاكم: وحدثني أبو أحمد الحسين بن علي، عن ابن أبي حاتم، عن أبيه، أنه سُئل عن حديث عمرو بن حزم؟ فَقَالَ: سليمان بن داود عندنا ممن لا بأس به.

وَقَدْ صحح الْحَدِيث بالكتاب المذكور جماعة منْ الأئمة، لا منْ حيث الإسناد، بل منْ حيث الشهرة، فَقَالَ الشافعيّ فِي "رسالته": لم يقبلوا هَذَا الْحَدِيث، حَتَّى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ ابن عبد البرّ: هَذَا كتاب مشهور عند أهل السير، معروف ما فيه عند أهل العلم، معرفة يُستَغنى بشهرتها عن الإسناد؛ لأنه أشبه المتواتر فِي مجيئه؛ لتلقي النَّاس له بالقبول والمعرفة، قَالَ: ويدل عَلَى شهرته ما رَوَى ابنُ وهب، عن مالك، عن الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، قَالَ: وُجِد كتابٌ عند آل حزم، يذكرون أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ العقيلي: هَذَا حديث ثابت محفوظ، إلا أنا نَرَى أنه كتاب غير مسموع، عمن فوق الزهريّ. وَقَالَ يعقوب بن سفيان: لا أعلم فِي جميع الكتب المنقولة، كتابا أصح منْ كتاب عمرو بن حزم هَذَا، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعين، يرجعون إليه، ويدعون رأيهم. وَقَالَ الحاكم: قد شهد عمر بن عبد العزيز، وإمام عصره الزهريّ، لهذا الكتاب بالصحة، ثم ساق ذلك بسنده إليهما. انتهى "التلخيص الحبير" 4/ 34 - 36.

وَقَالَ الحافظ الزيلعيّ رحمه الله تعالى فِي كتابه "نصب الراية" 2/ 341 - 342: قَالَ

ص: 293

النسائيّ: وسليمان بن أرقم متروك. انتهى. ورواه عبد الرزاق فِي "مصنفه": أنبأ معمر، عن عبد الله بن أبي بكر به، وعن عبد الرزاق، رواه الدارقطنيّ فِي "سننه"، وأخرجه الدارقطنيّ أيضا عن إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر به، ورواه كذلك ابن حبّان فِي "صحيحه" فِي "النوع السابع والثلاثين" منْ "القسم الخامس"، والحاكم فِي "المستدرك" كلاهما عن سليمان بن داود، حدثني الزهريّ به، قَالَ الحاكم: إسناده صحيح، وهو منْ قواعد الإسلام. انتهى.

وَقَالَ ابن الجوزي رحمه الله فِي "التحقيق": قَالَ أحمد بن حنبل رضي الله عنه: كتاب عمرو ابن حزم فِي الصدقات صحيح، قَالَ: وأحمد يشير بالصحة إلى هذه الرواية، لا لغيرها؛ لما سيأتي، وَقَالَ بعض الحفاظ منْ المتأخرين: ونسخة كتاب عمرو ابن حزم، تلقاها الأئمة الأربعة بالقبول، وهي متوارثة، كنسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهي دائرة عَلَى سليمان بن أرقم، وسليمان بن أبي داود الخولاني، عن الزهريّ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده، وكلاهما ضعيف، بل المرجح فِي روايتهما سليمان بن أرقم، وهو متروك، لكن قَالَ الشافعيّ رضي الله عنه فِي "الرسالة": لم يقبلوه حَتَّى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ أحمد رضي الله عنه: أرجو أن يكون هَذَا الْحَدِيث صحيحا. وَقَالَ يعقوب بن سفيان الفسوي: لا أعلم فِي جميع الكتب المنقولة أصح منه، كَانَ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم والتابعون يرجعون إليه، ويَدَعُون آراءهم. انتهى.

ورواه البيهقي فِي "سننه" بسند ابن حبّان، ثم قَالَ: وَقَدْ أثنى جماعة منْ الحفاظ، عَلَى سليمان بن داود الخولاني، منهم أحمد بن حنبل، وأبو حاتم، وأبو زرعة الرازيان، وعثمان بن سعيد الدارمي، وابن عدي الحافظ، قَالَ: وحديثه هَذَا يوافق رواية منْ رواه مرسلاً، ويوافق رواية منْ رواه منْ جهة أنس بن مالك، وغيره موصولاً. انتهى "نصب الراية فِي تخريج أحاديث الهداية" 2/ 341 - 342.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الحاصل أن الْحَدِيث صحيحٌ، فإنه إن ثبتت رواية سليمان بن داود، -كما قاله كثيرون- فواضح، وإلا فهو مرسلٌ عضده تلقّي الأئمة بالقبول، فهو صحيحٌ بذلك. والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له:

هَذَا الْحَدِيث منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى لم يُخرجه منْ أصحاب الأصول غيره، أخرجه هنا -46/ 4855 و4856 و4857 و4858 و4859 و44/ 4848 - وفي "الكبرى" 45/ 7048 و7049 و7060 و7061 و7062 و43/ 7051. وأخرجه

ص: 294

مالك فِي "الموطّإ" فِي "كتاب العقول" 2/ 849 و (الدارمي) فِي "الديات" 2/ 193، وأبو داود فِي "المراسيل" والحاكم فِي "المستدرك" 1/ 397 والبيهقي فِي "سننه" 8/ 73 و100. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان كتاب عمرو بن حزم رضي الله عنه، وبيان اختلاف الناقلين له، وَقَدْ أسلفت بيان ذلك فِي أول الباب. (ومنها): ما كَانَ عله النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ شدّة اهتمامه فِي تبليغ الأحكام إلى الأمة، فكان يُرسل أصحابه إلى البلدان النائية، ويولّيهم ليطّدوا الإسلام بين ربوعها. (ومنها): أن الإمام ينبغي له أن يكتب إلى رؤساء القبائل، والبلدان بما يريد أن يأمرهم به، حَتَّى تسجيب رعيّتهم إذا استجابوا. (ومنها): أنه ينبغي تفخيم رئيس القوم، ووصفه بأحب الأصاف إليه، حَتَّى لا يأنف منْ الدعوة، ويتكبّر عنها، فإنه صلى الله عليه وسلم وصفهم بأنهم قَيْلُ ذي رُعَين، ومَعَافِر، وهَمْدان، والقَيْلُ: هو المَلِكُ، كما سبق بيانه. (ومنها): جواز كتابة الْحَدِيث، وَقَدْ كَانَ فيه خلاف بين السلف، ثم ارتفع، فصار مجمعًا عليه، وسبب الاختلاف ما أخرجه مسلم فِي "صحيحه" منْ حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، مرفوعًا:"لا تكبوا عني شيئًا إلا القرآن، ومن كتب عني شيئاً غير القرآن، فليمحُه"، وَقَدْ أجاب عنه العلماء، كما أشار إلى ذلك السيوطيّ فِي "ألفية الْحَدِيث"، حيث قَالَ:

كتَابَةُ الْحَدِيثِ فِيهِ اخْتُلِفَا

ثُمَّ الْجَوَازُ بَعدُ إِجْمَاعًا وَفَا

مُسْتَنَدُ الْمَنْعِ حَدِيثُ مُسْلِمِ

"لَا تَكتُبُوا عَنِّيَ" فَالْخُلْفُ نُمِي

فَبعْضُهُمْ أَعَلّهُ بِالوَقْفِ

وَآخَرُونَ عَلَّلُوا بِالْخَوْفِ

مِنِ اخْتِلَاطٍ بِالْقُرَانِ فَانْتَسَخْ

لأَمْنِهِ وَقِيلَ ذَا لِمَنْ نَسَخْ

الْكُلَّ فِي صَحِيفَةٍ وَقِيلَ بَلْ

لآمِنٍ نِسيَانَهُ لَا ذِي خَلَلْ

(ومنها): أن منْ قتل مؤمنًا عمدًا، فالواجب عليه القصاص، إلا إذا رضي أولياء المقتول أن يأخذوا الدية، فلهم ذلك؛ تحفيفًا منْ الله سبحانه وتعالى عَلَى هذه الأمة، كما سبق بيانه مستوفًى. (ومنها): أن الأصل فِي دية قتل الخطإ مائة منْ الإبل، وما عداها منْ الذهب، وغيره فبدل عنها. (ومنها): وجوب الديات فِي الجراحات، والشجاج المذكورة فِي هَذَا الْحَدِيث، وسأذكرها، مع بيان أقوال أهل العلم، وأدلّتهم مفصّلة فِي المسائل التالية، إن شاء الله تعالى.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي الأنف إذا جُدع:

ص: 295

قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى فِي "المغني" 12/ 119 - 121: وفي الأنف الدية، إذا كَانَ قطع مارنه، بغير خلاف بنيهم، حكاه ابن عبد البرّ، وابن المنذر عمن يحفظ عنه منْ أهل العلم، وفي كتاب عمرو بن حزم، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قَالَ:"وفي الأنف إذا أُوعب جدعًا الدية"، وفي رواية مالك فِي "الموطإ":"إذا أُوعِي جدعًا -يعني إذا استوعب، واستؤصل"، ولأنه عضو فيه جمال ومنفعة، ليس فِي البدن منه إلا شيء واحد، فكانت فيه الدية كاللسان، وإنما الدية فِي مارنه، وهو ما لان منه، هكذا قَالَ الخليل وغيره؛ لأنه يُروَى عن طاوس، أنه قَالَ: كَانَ فِي كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وفي الأنف إذا أوعب مارنه جدعًا الدية"، ولأن الذي يقطع فيه ذلك، فانصرف الخبر إليه، فإن قُطع بعضه ففيه بقدره منْ الدية، يُمسَح، ويعرف قدر ذلك منه، كما قلنا فِي الأذنين، وَقَدْ روي هَذَا عن عمر بن عبد العزيز، والشعبي، والشافعي، وإن قطع أحد المنخرين، ففيه ثلث الدية، وفي المنخرين ثلثاها، وفي الحاجز بينهما الثلث، قَالَ أحمد: فِي الْوَتَرَة

(1)

الثلث، وفي الْخَرَمَة

(2)

فِي كل واحد منهما الثلث، وبهذا قَالَ إسحاق، وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعيّ؛ لأن المارن يشتمل عَلَى ثلاثة أشياء منْ جنس، فتوزعت الدية عَلَى عددها، كسائر ما فيه عدد منْ جنس، منْ اليدين، والأصابع، والأجفان الأربعة.

قَالَ: وإن قطع المارن مع القصبة، ففيه الدية فِي قياس المذهب، وهذا مذهب مالك، ويحتمل أن تجب الدية فِي المارن، وحكومة فِي القصبة، وهذا مذهب الشافعيّ؛ لأن المارن وحده موجب للدية، فوجبت الحكومة فِي الزائدة، كما لو قطع القصبة وحدها، مع قطع لسانه.

قَالَ: ولنا قوله عليه السلام: "فِي الأنف إذا أُوعب جدعا الدية"، ولأنه عضو واحد فلم يجب به أكثر منْ دية، كالذكر إذا قطع منْ أصله، وما ذكروه يبطل بهذا، ويفارق ما إذا قطع لسانه، وقصبته لأنهما عضوان، فلا تدخل دية أحدهما فِي الآخر، وأما العضو الواحد فلا يبعد أن يجب فِي جميعه ما يجب فِي بعضه، كالذكر يجب فِي حشفته الدية التي يجب فِي جميعه، وأصابع اليد يجب فيها ما يجب فِي اليد منْ الكوع، وكذلك أصابع الرجل، وفي الثدي كله مثلُ ما فِي حَلَمَته، فأما إن قطع الأنف وما تحته منْ اللحم، ففي اللحم حكومة؛ لأنه ليس منْ الأنف، فأشبه ما لو قطع الذكر واللحم الذي تحته. انتهى.

(1)

الوترة بالتحريك: حجاب ما بين المنخرين.

(2)

الخرمة: موضع الخرم منْ الأنف.

ص: 296

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن المذهب الأول هو الأرجح؛ لظاهر حديث عمرو بن حزم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): فِي أقوال أهل العلم فِي اللسان إذا قُطع:

قَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى: أجمع أهل العلم عَلَى وجوب الدية فِي لسان الناطق، ورُوي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود رضي الله عنهم، وبه قَالَ أهل المدينة، وأهل الكوفة، وأصحاب الرأي، وأصحاب الْحَدِيث، وغيرهم، وفي كتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم:"وفي اللسان الدية"، ولأن فيه جمالا ومنفعة، فأشبه الأنف، فأما الجمال، فقد رُوي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، سئل عن الجمال؟، فَقَالَ:"فِي اللسان"

(1)

، ويقال: جمال الرجل فِي لسانه، والمرء بأصغريه: قلبه، ولسانه، ويقال: ما الإنسان لولا اللسان، إلا صورة ممثلة، أو بهيمة مهملة، وأما النفع، فإن به تُبْلَغُ الأغراض، وتُستَخلَص الحقوق، وتُدفُع الآفات، وتُقضَى به الحاجات، وتُتَمُّ العبادات فِي القراءة، والذكر، والشكر، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتعليم، والدلالة عَلَى الحق المبين، والصراط المستقيم، وبه يَذوق الطعام، ويستعين فِي مضغه، وتقليبه، وتنقية الفم، وتنظيفه، فهو أعظم الأعضاء نفعا، وأتمها جمالا، فإيجاب الدية فِي غيره تنبيه عَلَى إيجابها فيه، وإنما تجب الدية فِي لسان الناطق، فإن كَانَ أخرس لم تجب فيه دية كاملة، بغير خلاف؛ لذهاب نفعه المقصود منه، كاليد الشلاء، والعين القائمة. انتهى كلام ابن قدامة، وهو بحث نفيس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): فِي أقوال أهل العلم فِي دية الشفتين:

قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: لا خلاف بين أهل العلم، أن فِي الشفيتين الديةَ، وفي كتاب عمرو بن حزم، الذي كتبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وفي الشفتين الدية"، ولأنهما عضوان ليس فِي البدن مثلهما، فيهما جمال ظاهر، ومنفعة كاملة، فإنهما طَبَقٌ عَلَى الفم، تقيانه ما يؤذيه، ويستران الأسنان، ويردان الرِّيق، ويُنفَخ بهما، ويَتِم بهما الكلام، فإن فيهما بعض مخارج الحروف، فتجب فيهما الدية، كاليدين والرجلين، وظاهر المذهب أن فِي كل واحدة منهما نصف الدية، ورُوي هَذَا عن أبي بكر، وعلي رضي الله عنهما، وإليه ذهب أكثر الفقهاء، ورُوي عن أحمد رحمه الله رواية أخرى: أن فِي العُليا ثلث الدية، وفي السفلى الثلثين؛ لأن هَذَا يُروى عن زيد بن ثابت، وبه قَالَ سعيد بن المسيب، والزهري، ولأن المنفعة بها أعظم؛ لأنها التي تدور، وتتحرك، وتحفظ الريق

(1)

أورده السيوطيّ فِي "الجامع الكبير" 1/ 403 وعزاه إلى ابن الأنباريّ. ويحتاج إلى النظر فِي سنده؟؟؟.

ص: 297

والطعام، والعليا ساكنة، لا حركة فيها.

قَالَ: ولنا قول أبي بكر، وعلي رضي الله عنهما، ولأن كل شيئين وجبت فيهما الدية، وجب فِي أحدهما نصفها، كسائر الأعضاء، ولأن كل ذي عدد، وجبت فيه الدية، يُسَوَّى بين جميعه فيها، كالأصابع، والأسنان، ولا اعتبار بزيادة النفع؛ بدليل ما ذكرنا منْ الأصل. انتهى "المغني" 12/ 122 - 123.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي صححه ابن قُدامة رحمه الله تعالى هو الذي يظهر لي ترجيحه؛ لوضوح حجته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): فِي أقوال أهل العلم فِي دية الأنثيين:

قَالَ الموفق رحمه الله تعالى: لا نعلم فِي هَذَا خلافا أن فِي الأنثيين الديةَ، وفي كتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم:"وفي البيضتين الديةُ"، ولأن فيهما الجمال والمنفعة، فإن النسل يكون بهما، فكانت فيهما الدية كاليدين، ورَوَى الزهريّ، عن سعيد بن المسيب، أنه قَالَ: مضت السنة أنه فِي الصلب الدية، وفي الأنثيين الدية، وفى إحداهما نصف الدية، فِي قول أكثر أهل العلم. وحُكي عن سعيد بن المسيب: أن فِي اليسرى ثلثي الدية، وفي الثانية ثلثها؛ لأن نفع اليسرى أكثر؛ لأن النسل يكون بها.

قَالَ: ولنا أن ما وجبت الدية فِي شيئين منه، وجب فِي أحدهما نصفها كاليدين، وسائر الأعضاء، ولأنهما ذو عدد تجب فيه الدية، فاستوت ديتهما كالأصابع، وما ذكروه ينتقض بالأصابع، والأجفان، تستوي دياتها مع اختلاف نفعها، ثم يحتاج إلى إثبات ذلك الذي ذكره. انتهى "المغني" 12/ 147 - 148.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه أكثر العلم منْ وجوب نصف الدية فِي واحدة منْ الأنثيين هو الأرجح؛ لظهور حجته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): فِي اختلاف أهل العلم فِي دية الذكر:

قَالَ الموفق رحمه الله تعالى: أجمع أهل العلم على أن فِي الذكر الدية، وفي كتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم:"وفي الذكر الديةُ"، ولأنه عضو واحد، فيه الجمال والمنفعة، فكملت فيه الدية، كالأنف، واللسان، وفي شَلَلِهِ ديته؛ لأنه ذهب بنفعه، فأشبه ما لو أشل لسانه، وتجب الدية فِي ذكر الصغير، والكبير، والشيخ، والشاب سواء، قدر عَلَى الجماع، أو لم يقدر، فأما ذكر العِنين فأكثر أهل العلم عَلَى وجوب الدية؛ لعموم الْحَدِيث؛ ولأنه غير مأيوس منْ جماعه، وهو عضو سليم فِي نفسه، فكملت ديته، كذكر الشيخ. وذكر القاضي فيه عن أحمد روايتين:[إحداهما] تجب فيه

ص: 298

الدية؛ لذلك. [والثانية]: لا تكمل ديته، وهو مذهب قتادة؛ لأن منفعته الإنزال، والإحبال، والجماع، وَقَدْ عُدِم ذلك منه فِي حال الكمال، فلم تكمل ديته كالأشل، وبهذا فارق ذكر الصبي، والشيخ، واختلفت الرواية فِي ذَكَر الخصي، فعنه فيه دية كاملة، وهو قول سعيد بن عبد العزيز، والشافعي، وابن المنذر؛ للخبر، ولأن منفعة الذكر الجماع، وهو باق فيه. والثانية: لا تجب فيه، وهو قول مالك، والثوري، وأصحاب الرأي، وقتادة، وإسحاق؛ لما ذكرنا فِي ذكر العنين، ولأن المقصود منه تحصيل النسل، ولا يوجد ذلك منه، فلم يكمل ديته كالأشل، والجماع يذهب فِي الغالب، بدليل أن البهائم يذهب جماعها بخصائها، والفرق بمِن ذكر العنين، وذكر الخصي، أن الجماع فِي ذكر العنين أبعد منه فِي ذكر الخصي، واليأس منْ الإنزال متحقق، فِي ذكر الخصي، دون ذكر العنين، فعلى قولنا: لا تكمل الدية فِي ذكر الخصي. انتهى "المغني" 12/ 146 - 147.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول بوجوب الدية الكاملة فِي الذكر، ولو كَانَ لعنّين، أو خصيّ، هو الأرجح؛ لإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم:"وفي الذكر الدية". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة التاسعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي دية الصلب:

قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: وفي الصلب الدية، إذا كسر فلم ينجبر، لما رُوي فِي كتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم:"وفي الصلب الدية"، وعن سعيد بن المسيب، أنه قَالَ:"مضت السنة أن فِي الصلب الدية"، وهذا ينصرف إلى سنة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وممن قَالَ بذلك: زيد بن ثابت، وعطاء، والحسن، والزهري، ومالك.

وَقَالَ القاضي، وأصحاب الشافعيّ: ليس فِي كسر الصلب دية، إلا أن يذهب مشيه أو جماعه، فتجب الدية لتلك المنفعة؛ لأنه عضو لم تذهب منفعته، فلم تجب فيه فى دية كاملة، كسائر الأعضاء.

قَالَ: ولنا الخبر، ولأنه عضو ليس فِي البدن مثله، فيه جمال ومنفعة، فوجبت الدية فيِه بمفرده، كالأنف. انتهى. "المغني" 12/ 144 - 145.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه الأولون منْ وجوب الدية فِي كسر الصلب، هو الأرجح عندي؛ لصحة حديث الباب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة العاشرة): فِي اختلاف أهل العلم فِي دية اليدين:

قَالَ الموفق رحمه الله تعالى: أجمع أهل العلم عَلَى وجوب الدية فِي اليدين،

ص: 299

ووجوب نصفها فِي إحداهما، وروي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"وفي اليدين الدية، وفي الرجلين الدية"، أخرجه عبد الرزاق فِي "مصنّفه" 9/ 380، وفي كتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، لعمرو بن حزم:"وفي اليد خمسون منْ الإبل"، ولأن فيهما جمالا ظاهرا، ومنفعة كاملة، وليس فِي البدن منْ جنسهما غيرهما، فكان فيهما الدية، كالعينين.

واليد التي تجب فيها الدية منْ الكوع؛ لأن اسم اليد عند الإطلاق ينصرف إليها، بدليل أن الله تعالى لما قَالَ:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] كَانَ الواجب قطعهما منْ الكوع، وكذلك التيمم يجب فيه مسح اليدين إلى الكوعين، فإن قطع يده منْ فوق الكوع، مثل أن يقطعها منْ المرفق، أو نصف الساعد، فليس عليه إلا دية اليد، نص عليه أحمد، فِي رواية أبي طالب، وهذا قول عطاء، وقتادة، والنخعي، وابن أبي ليلى، ومالك، وهو قول بعض أصحاب الشافعيّ، وظاهر مذهبه عند أصحابه: أنه يجب مع دية اليد حكومة لما زاد؛ لأن اسم اليد لها إلى الكوع، ولأن المنفعة المقصودة فِي اليد، منْ البطش، والأخذ، والدفع، بالكف، وما زاد تابع للكف، والدية تجب فِي قطعها منْ الكوع بغير خلاف، فتجب فِي الزائد حكومة، كما لو قطعه بعد قطع الكف، قَالَ أبو الخطاب: وهذا قول القاضي.

قَالَ: ولنا إن اليد اسم للجميع إلى المنكب، بدليل قوله تعالى:{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِق} [المائدة: 6]، ولما نزلت آية التيمم، مسحت الصحابة إلى المناكب، وَقَالَ ثعلب: اليد إلى المنكب، وفي عرف النَّاس أن جميع ذلك يسمى يدا، فإذا قطعها منْ فوق الكوع، فما قطع إلا يدا، فلا يلزمه أكثر منْ ديتها، فأما قطعها فِي السرقة، فلأن المقصود يحصل به، وقطع بعض الشيء يسمى قطعا له، كما يقال قطع ثوبه، إذا قطع جانبا منه، وقولهم: إن الدية تجب فِي قطعها منْ الكوع، قلنا: وكذلك تجب بقطع الأصابع منفردة، ولا يجب بقطعها منْ الكوع أكثر مما يجب فِي قطع الأصابع، والذكر يجب فِي قطعه منْ أصله، مثل ما يجب بقطع حشفته، فأما إذا قطع اليد منْ الكوع، ثم قطعها منْ المرفق، وجب فِي المقطوع ثانيا حكومة؛ لأنه وجبت عليه دية اليد بالقطع الأول، فوجبت بالثاني حكومة، كما لو قطع الأصابع، ثم قطع الكف، أو قطع حشفة الذكر، ثم قطع بقيته، أو كما لو فعل ذلك اثنان. انتهى "المغني" 12/ 138 - 140.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى منْ أنه إذا قطعهما منْ فوق الكوع، أو منْ المرفق، أو نصف الساعد تجب الدية فقط هو الأرجح؛ لظهور أدلته، كما حققه الموفّق رحمه الله تعالى آنفاً. والله تعالى أعلم

ص: 300

بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الحادية عشرة): فِي اختلاف أهل العلم فِي دية الرِّجْلين:

قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: أجمع أهل العلم على أن فِي الرجلين الديةَ، وفي إحداهما نصفَها، رُوي ذلك عن عمر، وعلي رضي الله تعالى عنهما، وبه قَالَ قتادة، ومالك، وأهل المدينة، والثوري، وأهل العراق، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي؛ لهذا الْحَدِيث. قَالَ: وفي قدم الأعرج، ويد الأعسم الديةُ؛ لأن الْعَرَج لمعنًى فِي غير القدم، والعَسَم: الاعوجاج فِي الرسغ، وليس ذلك عيبًا فِي قدم، ولا كفّ، فلم يمنع ذلك كمال الدية فيهما. وَقَالَ بعضهم فِي كل منهما ثلث الدية، كاليد الشلاء، وهذا غير صحيح؛ لأن هذين لم تبطل منفعتهما، فلم تنقص ديتهما، بخلاف اليد الشلاء. انتهى "المغني" ببعض تصرّف، وهو تحقيق نفيس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية عشرة): فِي اختلاف أهل العلم فِي دية المأمومة:

وهي كما تقدّم: الشجة التي تصل إلى جلدة الدماغ، وأرشها ثلث الدية، فِي قول عامة أهل العلم، إلا مكحولا، فإنه قَالَ: إن كانت عمدا ففيها ثلثا الدية، وإن كانت خطأ ففيها ثلثها. وحجة الجمهور قولُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فِي كتاب عمرو بن حزم:"وفي المأمومة ثلث الدية"، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل ذلك. ورُوي نحوه عن علي رضي الله عنه. قاله فِي "المغني" 12/ 164 - 165.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أنّ ما ذهب إليه الجمهور هو الحقّ؛ لحديث الباب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة عشرة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم الجائفة:

ذهب عامة أهل العلم، منهم أهل المدينة، وأهل الكوفة، وأهل الْحَدِيث، وأصحاب الرأي: إلى أنه يجب فيها ثلت الدية، وخالف فِي ذلك مكحولٌ، فَقَالَ: إن كانت عمدًا، ففيها ثلثا الدية.

واحتجّ الجمهور بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم، فِي كتاب عمرو بن حزم:"وفي الجائفة ثلث الدية"، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، ولأنها جراحة فيها مُقدّر، فلم يختلف أرشها بالعمد والخطإ، كالموضحة، ولا نعلم فِي جراح البدن الخالية عن قطع الأعضاء، وكسر العظام مُقدّرا غير الجائفة.

والجائفة: ما وصل إلى الجوف، منْ بطن، أو ظهر، أو صدر، أو ثغرة نحر، أو وَرِك، أو غيره، وذكر ابن عبد البرّ: أن مالكا، وأبا حنيفة، والشافعي، وعثمان الْبَتِّيّ،

ص: 301

وأصحابهم، اتفقوا عَلَى أن الجائفة لا تكون إلا فِي الجوف. قاله فِي "المغني" 12/ 166.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد اتّضح بما ذُكر أن الحقّ ما قاله الجمهور منْ وجوب ثلث الدية فِي الجائفة مطلقًا؛ لصحّة حديث الباب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة عشرة): فِي اختلاف أهل العلم فِي دية الهاشمة:

وهي التي تتجاوز الموضحة، فتَهشِم العظم: أي تكسره، سُمِّيت هاشمة؛ لهشمها العظم، وهي فِي الرأس، والوجه خاصّة:

قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: ولم يبلغنا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيها تقدير، وأكثر منْ بلغنا قوله منْ أهل العلم، عَلَى أن أرشها مُقَدَّر بعَشْر منْ الإبل، رَوَى ذلك قبيصة بن ذؤيب، عن زيد بن ثابت، وبه قَالَ قتادة، والشافعي، والعنبري، ونحوَه قَالَ الثوري، وأصحاب الرأي، إلا أنهم قدّرُوها بعشر الدية منْ الدراهم، وذلك عَلَى قولهم: ألف درهم، وكان الحسن لا يوقت فيها شيئا. وحُكِي عن مالك أنه قَالَ: لا أعرف الهاشمة، لكن فِي الإيضاح خمس، وفي الْهَشْم حكومة، قَالَ ابن المنذر: النظر يدل عَلَى قول الحسن، إذ لا سنة فيها، ولا إجماع، ولأنه لم يُنقل فيها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم تقدير، فوجبت فيها الحكومة، كما دون الموضحة. قَالَ: ولنا قول زيد، ومثل ذلك الظاهر أنه توقيف، ولأنه لم نَعرِف له مخالفا فِي عصره، فكان إجماعا، ولأنها شجة فوق الموضحة، تختص باسم، فكان فيها مقدر كالمأمومة. انتهى. "المغني" 12/ 162 - 163.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قاله الحسن رحمه الله تعالى أقرب؛ لما قاله ابن المنذر رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة عشرة): فِي أقوال أهل العلم فِي دية المنقّلة:

وهي التي تكسر العظام، وتزيلها عن مواضعها، فيحتاج إلى نقل العظم ليلتئم، وفيها خمس عشرة منْ الإبل، بإجماع منْ أهل العلم، حكاه ابن المنذر، وفي كتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم:"وفي المنقلة خمس عشرة منْ الإبل". قاله في "المغني" 12/ 164. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله: (خَالَفَهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارِ بْنِ بِلَالٍ) يعني أن محمد بن بكّار بن بلال خالف الحكم بن موسى، فرواه عن يحيى بن حمزة، عن سليمان بن أرقم، عن الزهريّ به، كما بين روايته بقوله:

4856 -

(أَخْبَرَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ مَرْوَانَ بْنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عِمْرَانَ الْعَنْسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ

ص: 302

بَكَّارِ بْنِ بِلَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ، بِكِتَابٍ فِيهِ الْفَرَائِضُ، وَالسُّنَنُ، وَالدِّيَاتُ، وَبَعَثَ بِهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، فَقُرِىءَ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ، هَذِهِ نُسْخَتُهُ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، إِلاَّ أَنَّهُ قَالَ:"وَفِي الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي الْيَدِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ".

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَهَذَا أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الهيثم بن مروان بن الهيثم بن عمران الْعَنْسيّ ": هو أبو الحكم الدمشقيّ، مقبول [11] 3/ 3722. و"محمد بن بكّار بن بلال": هو أبو عبد الله الدمشقيّ القاضي، صدوقٌ [9] 3/ 3722. و"يحيى": هو ابن حمزة المذكور فِي السند الماضي. و"سليمان بن أرقم": هو أبو معاذ البصريّ، ضعيف [7] 41/ 3866.

وقوله: "وهذا أشبه بالصواب": يعني أن كونه منْ رواية سليمان بن أرقم، عن الزهريّ أشبه بالصواب منْ كونه منْ رواية سليمان بن داود، عن الزهريّ، وَقَدْ تقدّم أن أبا داود قَالَ أيضاً نحو هَذَا الكلام؛ لكن الذي يظهر لي أنه لا يبعد كون العكس صوابًا، فإن الحكم بن موسى ثقة، فيبعد توهيمه، بل الأولى إثبات الطريقين، فإن كلاً منْ السليمانين يروي عن الزهريّ، ويروي عنهما يحيى بن حمزة، فلا مانع أن يروياه معًا، فسليمان بن داود ثقة، يثبت بروايته الْحَدِيث، وسليمان بن أرقم ضعيف، لا اعتبار بروايته، ويؤيّد هَذَا المرسل، وتلقيّ الأئمة للحديث بالقبول، فإنه ما منْ إمام إلا واستدلّ بكتاب عمرو بن حزم رضي الله عنه هَذَا، كما سبق شرحه، وتفصيله فِي المسألة الأولى منْ مسائل الْحَدِيث الماضي، فتأمله بإنصاف، ولا تتحيّر باعتساف. والله تعالى أعلم بالصواب.

وقوله: "وسليمان بن أرقم متروك": وهكذا قَالَ غيره، منْ الأئمة: إنه متروك، فَقَالَ أبو حاتم، والترمذيّ، وأبو داود، وابن خراش، وأبو أحمد الحاكم، والدارقطنيّ، وغير واحد: متروك، وَقَالَ البخاريّ: تروكوه، راجع ترجمته فِي "تهذيب التهذيب" 2/ 83. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله: (وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلاً) يعني أن يونس بن يزيد الأيليّ روى هَذَا الْحَدِيث عن الزهريّ، مرسلاً، ثم بين روايته بقوله:

4857 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: قَرَأْتُ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، الَّذِي كَتَبَ لِعَمْرِو

ص: 303

بْنِ حَزْمٍ، حِينَ بَعَثَهُ عَلَى نَجْرَانَ، وَكَانَ الْكِتَابُ عِنْدَ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"هَذَا بَيَانٌ مِنَ اللَّهِ، وَرَسُولِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، وَكَتَبَ الآيَاتِ مِنْهَا، حَتَّى بَلَغَ: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [المائدة: 1 - 4]، ثُمَّ كَتَبَ: "هَذَا كِتَابُ الْجِرَاحِ، فِي النَّفْسِ مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ، نَحْوَهُ).

وقوله: "حين بعثه عَلَى نجران": أي أرسله واليًا عليها.

وقوله: "هَذَا بيان الخ": يعني أن الآتي إيضاح منْ والله سبحانه وتعالى، ومن رسوله صلى الله عليه وسلم لأحكام كثيرة، تحتاج إليها الأمة فِي مُجتمعاتها، وأفرادها.

[تكميل]: لَمّا أشار فِي هذه الرواية إلى أنه صلى الله عليه وسلم كتب الآيات منْ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} ، أحببت أن أذكر شرح الآيات شرحًا مختصرًا، تتميمًا للفائدة، وتكميلاً للعائدة، فأقول:

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} : قَالَ علقمة رحمه الله تعالى: كل ما فِي القرآن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فهو مدني، و {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} ، فهو مكي، وهذا خرج عَلَى الأغلب، قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: وهذه الآية مما تلوح فصاحتها، وكثرة معانيها، عَلَى قلة ألفاظها، لكل ذي بصيرة بالكلام، فإنها تضمنت خمسة أحكام:[الأول]: الأمر بالوفاء بالعقود. [الثاني]: تحليل بهيمة الأنعام. [الثالث]: استثناء ما يلي بعد ذلك. [الرابع]: استثناء حال الإحرام فيما يصاد. [الخامس]: ما تقتضيه الآية منْ إباحة الصيد لمن ليس بمحرم.

وحكى النقاش: أن أصحاب الكندي قالوا له: أيها الحكيم اعمل لنا مثل هَذَا القرآن، فَقَالَ: نعم أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياما كثيرة، ثم خرج، فَقَالَ: والله ما أقدر، ولا يُطيق هَذَا أحد، إني فتحت المصحف، فخرجت سورة المائدة، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء، ونهى عن النكث، وحلل تحليلا عاما، ثم استثنى استثناء بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته فِي سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا فِي أجلاد.

وقوله تعالى: {أَوْفُوا} : يقال وفي، وأوفى لغتان، قَالَ الله تعالى:{وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} ، وَقَالَ تعالى:{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} ، وَقَالَ الشاعر [منْ البسيط]:

أَمَّا ابْنُ طَوْقٍ فَقَدْ أَوْفَى بِذِمَّتِهِ

كمَا وَفَى بِقِلَاصِ النَّجْمِ حَادِيهَا.

فجمع بين اللغتين. وقوله: {بِالعُقُودٍ} : العقود الربوط، واحدها عَقْد، يقال: عقدت العهد، والحبل، وعقدت الغُلّ، فهو يستعمل فِي المعاني والأجسام.

فقد أمر والله سبحانه بالوفاء بالعقود، قَالَ الحسن: يعني بذلك عقود الدَّين، وهي ما عقده المرء عَلَى نفسه، منْ بيع، وشراء، وإجارة، وكراء، ومناكحة، وطلاق،

ص: 304

ومزارعة، ومصالحة، وتمليك، وتخيير، وعتق، وتدبير، وغير ذلك منْ الأمور، ما كَانَ ذلك غير خارج عن الشريعة، وكذلك ما عقده عَلَى نفسه لله منْ الطاعات، كالحج، والصيام، والاعتكاف، والقيام، والنذر، وما أشبه ذلك منْ طاعات ملة الإسلام. وأما نذر المباح، فلا يلزم بإجماع منْ الأمة، قاله ابن العربي.

وقوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} : الخطاب لكل منْ التزم الإيمان عَلَى وجهه، وكماله، وكان للعرب سنن فِي الأنعام، منْ البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، فنزلت هذه الآية، رافعة لتلك الأوهام الخيالية، والآراء الفاسدة الباطلة.

واختلُف فِي معنى بهيمة الأنعام، والبهيمة: اسم لكل ذي أربع، سُمّيت بذلك لإبهامها، منْ جهة نقص نطقها، وفهمها، وعدم تمييزها وعقلها، ومنه بابٌ مُبهمٌ: أي مغلق، وليل بهيم، وبُهْمة للشجاع الذي لا يُدرَى منْ أين يُؤتى له.

والأنعام: الإبل، والبقر، والغنم، سُميت بذلك؛ للين مشيها، وقيل: غير ذلك فِي معنى الأنعام، انظر "تفسير القرطبيّ" 6/ 34 - 35.

وقوله تعالى: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} :أي يقرأ عليكم القرآن، والسنة، منْ قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} ، وقوله عليه الصلاة والسلام:"وكل ذي ناب منْ السباع حرام"، رواه مسلم، والنسائيّ.

[فإن قيل]: الذي يتلى علينا الكتاب، ليس السنة.

[قلنا]: كل سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي منْ كتاب الله، والدليل عليه أمران:

[أحدهما]: حديث العسيف: "لأقضين بينكما بكتاب الله"، والرجم ليس منصوصا فِي كتاب الله.

[الثاني]: حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "ومالي لا ألعن منْ لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو فِي كتاب الله

" الْحَدِيث.

ويحتمل {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} الآن، أو {يُتْلَى عَلَيْكُم} فيما بعدُ منْ مستقبل الزمان، عَلَى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون فيه دليل عَلَى جواز تأخير البيان، عن وقت لا يُفتقر فيه، إلى تعجيل الحاجة.

وقوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} : أي ما كَانَ صيدا فهو حلال فِي الإحلال، دون الإحرام، وما لم يكن صيدا فهو حلال فِي الحالين.

واختلف النحاة فِي: {إِلَّا مَا يُتْلَى} : هل هو استثناء، أو لا؟، فَقَالَ البصريون: هو استثناء منْ {بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} ، و {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} استثناء آخر أيضا منه، فالاستثناءان جميعا منْ قوله:{بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} ، وهي المستثنى منها، التقدير: إلا ما يتلى عليكم،

ص: 305

إلا الصيد، وأنتم محرمون. وقيل: هو مستثنى مما يليه منْ الاستثناء، فيصير بمنزلة قوله عز وجل:{قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ} الآية [الحجر: 58، 59]، وفيه: أنه لو كَانَ كذلك لوجب إباحة الصيد فِي الإحرام؛ لأنه مستثنى منْ المحظور، إذ كَانَ قوله تعالى:{إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُم} مستثنى منْ الإباحة، وهذا وجه ساقط، فإذًا معناه: أحلت لكم بهيمة الأنعام، غير محلي الصيد وأنتم حرم، إلا ما يتلى عليكم، سوى الصيد. ويجوز أن يكون معناه أيضا: أوفوا بالعقود غير محلي الصيد، وأحلت لكم بهيمة الأنعام، إلا ما يتلى عليكم.

وأجاز الفراء أن يكون {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُم} فِي موضع رفع عَلَى البدل، عَلَى أن يعطف بـ"إلا" كما يعطف بـ"لا"، ولا يجيزه البصريون إلا فِي النكرة، أو ما قاربها منْ أسماء الأجناس، نحو جاء القوم إلا زيدٌ.

وقوله تعالى: {وَأَنتُم حُرُمٌ} : يعني الإحرام بالحج والعمرة، يقال رجل حرام، وقوم حُرُم: إذا أحرموا بالحج، ومنه قول الشاعر [منْ الطويل]:

فَقُلْتُ لَهَا فِيئِي إِلَيْك فَإِنَّنِي

حَرَامٌ وَإِنِّي بَعْدَ ذَاكِ لَبِيبُ

أي مُلَبٍّ، وسُمي ذلك إحراما؛ لما يُحَرِّمه مَن دخل فيه عَلَى نفسه، منْ النِّساء، والطيب، وغيرهما، ويقال: أحرم: دخل فِي الحرم، فيحرم صيد الحرم أيضا.

وقوله تعالى: {إِنَّ اَللهَ يَحكُمُ مَا يُرِيدُ} : تقوية لهذه الأحكام الشرعية، المخالفة لمعهود أحكام العرب، أي فأنت يا محمد، السامع لنسخ تلك التي عُهِدت منْ أحكامهم تنبه، فإن الذي هو مالك الكل، يحكم ما يريد، {لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} ، يُشرع ما يشاء كما يشاء.

وقوله تعالى: {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} : خطاب للمؤمنين حقا: أي لا تتعدوا حدود الله فِي أمر منْ الأمور، والشعائر جمع شعيرة، عَلَى وزن فعيلة، وَقَالَ ابن فارس: ويقال للواحدة: شِعَارة، وهو أحسن، والشعيرة: البدنة تُهدَى، وإشعارها أن يحز سنامها حَتَّى يسيل منه الدم، فيعلم أنها هدى، والإشعار: الإعلام عن طريق الإحساس، يقال: أشعر هديه: أي جعل له علامة ليعرف أنه هدى، ومنه المشاعر: المعالم واحدها مَشعَر، وهي المواضع التي قد أُشعرت بالعلامات.

فالشعائر عَلَى قولٍ: ما أُشعر منْ الحيوانات؛ لتهدى إلى بيت الله، وعلى قولٍ: جميعُ مناسك الحج، قاله ابن عباس. وَقَالَ مجاهد: الصفا والمروة، والهدي، والبدن، كل ذلك منْ الشعائر. وكان المشركون يحجون، ويعتمرون، ويُهدون، فأراد المسلمون أن يُغِيروا عليهم، فأنزل الله تعالى:{لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} . وَقَالَ عطاء بن أبي رباح:

ص: 306

شعائر الله جميع ما أمر الله به، ونهى عنه. وَقَالَ الحسن: دين الله كله، كقوله:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]: أي دين الله.

قَالَ القرطبيّ. وهذا القول هو الراجح، الذي يقدم عَلَى غيره؛ لعمومه.

وقوله تعالى: {وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَام} : اسم مفرد يدل عَلَى الجنس، فِي جميع الأشهر الحرم، وهي أربعة، واحد فرد، وثلاثة سرد: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب الذي بين جمادى وشعبان.

والمعنى: لا تستحلوها للقتال، ولا للغارة، ولا تبدّلوها، فإن استبدالها استحلال، وذلك ما كانوا يفعلونه منْ النسيء، وكذلك قوله:{وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ} : أي لا تستحلوه، وهو عَلَى حذف مضاف: أي ولا ذوات القلائد، جمع قلادة، فنهى سبحانه عن استحلال الهدي جملة، ثم ذكر المقلد منه تأكيدا، ومبالغة فِي التنبيه عَلَى الحرمة فِي التقليد.

وقوله تعالى: {وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ} : الهدي ما أُهدي إلى بيت الله تعالى، منْ ناقة، أو بقرة، أو شاة: الواحدة هَدْيَة، وهَدِيَّة، وهَدْي، فمن قَالَ: أراد بالشعائر المناسك، قَالَ: ذكر الهدي تنبيها عَلَى تخصيصها، ومن قَالَ: الشعائر الهدي، قَالَ: إن الشعائر ما كَانَ مُشعَرًا: أي مُعلَمًا بإسالة الدم منْ سنامه، والهدي ما لم يُشعَر اكتفى فيه بالتقليد.

وقيل: الفرق أن الشعائر: هي البدن، منْ الأنعام، والهدي: البقر، والغنم، والثياب، وكُلُّ ما يُهدَى. وَقَالَ الجمهور: الهدي عام فِي جميع ما يتقرب به، منْ الذبائح والصدقات.

قوله تعالى: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} : يعني القاصدين له، منْ قولهم: أممت كذا: أي قصدته، وقرأ الأعمش:"ولا آمي البيت الحرام" بالإضافة، كقوله:{غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} . والمعنى: لا تمنعوا الكفار القاصدين البيت الحرام، عَلَى جهة التعبد والقربة، وعليه فقيل: ما فِي هذه الآيات منْ نهي عن مشرك، أو مراعاة حرمة له، بقلادة، أو أم البيت، فهو كله منسوخ بآية السيف، فِي قوله:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ، وقوله:{فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} ، فلا يمكن المشرك منْ الحج، ولا يُؤَمَّن فِي الأشهر الحرم، وإن أهدى، وقَلَّد، وحج.

وقيل: الآية محكمة، لم تُنسخ، وهي فِي المسلمين، وَقَدْ نهى الله عن إخافة منْ يقصد بيته منْ المسلمين، والنهي عام فِي الشهر الحرام وغيره، ولكنه خَصَّ الشهر الحرام بالذكر؛ تعظيما وتفضيلاً.

ص: 307

وقوله تعالى: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} : قَالَ فيه جمهور المفسرين: معناه: يبتغون الفضل والأرباح فِي التجارة، ويبتغون مع ذلك رضوانه. قَالَ ابن عطية رحمه الله تعالى: هذه الآية استئلاف منْ الله تعالى للعرب، ولُطف بهم؛ لتنبسط النفوس، ويتداخل النَّاس، ويردون الموسم، فيستمعون القرآن، ويدخل الإيمان فِي قلوبهم، وتقوم عندهم الحجة، كالذي كَانَ، وهذه الآية نزلت عام الفتح، فنسخ الله ذلك كله بعدَ عام سنةَ تسع، إذ حج أبو بكر رضي الله عنه، ونودي النَّاس بسورة براءة.

وقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} : أمر إباحة بإجماع النَّاس، رفع ما كَانَ محظورا بالإحرام، حكاه كثير منْ العلماء، قَالَ القرطبيّ: وليس بصحيح، بل صيغة افْعَلْ الواردة بعد الحظر عَلَى أصلها، منْ الوجوب، وهو مذهب القاضي أبي الطيب وغيره؛ لأن المقتضى للوجوب قائم، وتقدم الحظر لا يصلح ما نعا، دليله قوله تعالى:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ، فهذه "افعل" عَلَى الوجوب؛ لأن المراد بها الجهاد، وإنما فهمت الإباحة هناك، وما كَانَ مثله، منْ قوله:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} ، {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} ، منْ النظر إلى المعنى، والإجماعِ، لا منْ صيغة الأمر. والله أعلم. انتهى.

وقوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} : أي لا يَحمِلَنَّكم، وهو يتعدى إلى مفعولين، يقال: جَرَمني كذا عَلَى بغضك: أي حملني عليه.

وقيل: معنى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ} : أي لا يَكسِبَنكم بغضُ قومٍ أن تعتدوا الحق إلى الباطل، والعدل إلى الظلم.

قيل: لما صُدَّ المسلمون عن البيت عام الحديبية، مَرَّ بهم ناس منْ المشركين، يريدون العمرة، فَقَالَ المسلمون: نصدهم كما صدنا أصحابهم، فنزلت هذه الآية: أي لا تعتدوا عَلَى هؤلاء، ولا تصدوهم {أَنْ صَدُّوكُمْ}: أي صدّكم أصحابهم، فـ"أن" بفتح الهمزة مفعول منْ أجله: أي لأن صدوكم.

وقوله: {أَنْ تَعْتَدُوا} : فِي موضع نصب، لأنه مفعول به: أي لا يجرمنكم شنآن قوم الاعتداءَ.

وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} : قَالَ الأخفش: هو مقطوع منْ أول الكِلام، وهو أمر لجميع الخلق بالتعاون عَلَى البر والتقوى: أي ليُعِنْ بعضكم بعضا، وتَحَاثُّوا عَلَى ما أمر الله تعالى، واعملوا به، وانتهوا عما نهى الله عنه، وامتنعوا منه، وهذا موافق لما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قَالَ:"الدال عَلَى الخير كفاعله"

(1)

، وَقَدْ قيل:

(1)

حديث صحيح أخرجه أحمد فِي "مسنده" وغيره.

ص: 308

الدال عَلَى الشر كصانعه.

ثم قيل: البر والتقوى، لفظان بمعنى واحد، وكرر باختلاف اللفظ تأكيدا، ومبالغة، إذ كل بر تقوى، وكل تقوى بر. قَالَ ابن عطية: وفي هَذَا تسامح مّا، والعرف فِي دلالة هذين اللفظين: أن البر يتناول الواجب والمندوب إليه، والتقوى رعاية الواجب، فإن جُعِل أحدهما بدل الآخر فبتجوز. وَقَالَ الماوردي: ندب الله سبحانه إلى التعاون بالبر، وقرنه بالتقوى له؛ لأن فِي التقوى رضا الله تعالى، وفي البر رضا النَّاس، ومن جمع بين رضا الله تعالى، ورضا النَّاس، فقد تمت سعادته، وعَمَّت نعمته.

وَقَالَ ابن خويزمنداد فِي "أحكامه": والتعاون عَلَى البر والتقوى، يكون بوجوه: فواجب عَلَى العالم أن يعين النَّاس بعلمه، فيعلمهم، ويعينهم الغني بماله، والشجاع بشجاعته فِي سبيل الله، وأن يكون المسلمون متظاهرين، كاليد الواحدة، "المؤمنون تتكافؤ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد عَلَى منْ سواهم"

(1)

، ويجب الإعراض عن المتعدي، وترك النصرة له، ورَدُّه عما هو عليه.

ثم نهى الله تعالى، فَقَالَ:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} : وهو الحكم اللاحق عن الجرائم، وعن العدوان، وهو ظلم النَّاس، ثم أمر بالتقوى، وتوعد توعدا مجملا، فَقَالَ:{وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} .

وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} .

وقوله تعالى: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} : هي التي تموت خنقا، وهو حبس النَّفَسِ، سواء فعل بها ذلك آدمي، أو اتّفق لها ذلك فِي حبل، أو بين عودين، أو نحوه. وذكر قتادة أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة وغيرها، فإذا ماتت أكلوها. وذكر نحوه ابن عباس.

وقوله تعالى: {وَالْمَوْقُوذَةُ} : هي التي تُرمَى، أو تضرب بحجر، أو عصى حَتَّى تموت، منْ غير تذكية.

وقوله تعالى: {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} : هي التي تتردى منْ العلو إلى السفل فتموت، كَانَ ذلك منْ جبل، أو فِي بئر، ونحوه، وهي مُتفعِلة منْ الرَّدَى، وهو الهلاك، وسواء تردت بنفسها، أو رَدّاها غيرها.

وقوله تعالى: {وَالنَّطِيحَةُ} : فَعِيلة بمعنى مفعولة، وهي الشاة تنطحها أخرى، أو غير ذلك فتموت، قبل أن تُذكَّى، وتأول قوم النطيحة بمعنى الناطحة؛ لأن الشاتين قد تتناطحان فتموتان، وقيل: نطيحة، ولم يقل: نَطيح، وحقُّ فعيل أن لا يذكر فيه الهاء، كما يقال: كّفٌّ خضيب، ولحية دهين، لكن ذكر الهاء هاهنا؛ لأن الهاء إنما تحذف منْ

(1)

حديث صحيح أخرجه أبو داود وغيره.

ص: 309

الفعيلة، إذ كانت صفة لموصوف منطوق به، فيقال شاة نطيح، وامرأة قتيل، فإن لم تذكر الموصوف أثبت الهاء، فتقول: رأيت قتيلة بني فلان، وهذه نطيحة الغنم؛ لأنك لو لم تذكر الهاء، فقلت: رأيت قتيل بني فلان، لم يعرف أرجل هو أم امرأة.

وقوله تعالى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} : يريد كل ما افترسه ذو ناب وأظفار، منْ الحيوان، كالأسد، والنمر، والثعلب، والذئب، والضبع، ونحوها، هذه كلها سباع، يقال: سَبَعَ فلان فلانا: أي عَضّه بسِنِّهِ وسبعه: أي عابه، ووقع فيه، وفي الكلام إضمار: أي وما أكل منه السبع؛ لأن ما أكله السبع فقد فني، ومن العرب منْ يوقف اسم السبع عَلَى الأسد. وكانت العرب إذ أخذ السبع شاة، ثم خلصت منه أكلوها، وكذلك إن أكل بعضها.

وقوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} : نصب عَلَى الإستثناء المتصل عند الجمهور، منْ العلماء، والفقهاء، وهو راجع عَلَى كل ما أدرك ذكاته منْ المذكورات، وفيه حياة، فإن الذكاة عاملة فيه؛ لأن حق الإستثناء أن يكون مصروفا إلى ما تقدم منْ الكلام، ولا يجعل منقطعا إلا بدليل، يجب التسليم له. رَوَى ابن عيينة، وشريك، وجرير، عن الرُّكَين بن الرَّبِيع، عن أبي طلحة الأسدي، قَالَ: سألت ابن عباس، عن ذئب عدا عَلَى شاة، فشق بطنها حَتَّى انتثر قصبها، فأدركت ذكاتها، فذكيتها؟ فَقَالَ: كُلْ، وما انتثر منْ قصبها فلا تأكل. قَالَ إسحق بن راهويه: السنة فِي الشاة عَلَى ما وَصفَ ابنُ عباس، فإنها وإن خرجت مصارينها، فإنها حية بعدُ، وموضوع الذكاة منها سالم، وإنما ينظر عند الذبح، أحية هي، أم ميتة؟ ولا ينظر إلى فعل هل يعيش مثلها فكذلك المريضة، قَالَ إسحق: ومن خالف هَذَا، فقد خالف السنة منْ جمهور الصحابة، وعامة العلماء.

وقوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} : قَالَ ابن فارس: النصب حجر كَانَ ينصمب، فيعبد، وتصب عليه دماء الذبائح، وهو النَّصْبُ أيضا. وقيل: النصب جمع، واحده نِصاب كحمار وحمر. وقيل: هو اسم مفرد، والجمع أنصاب، وكانت ثلاثمائة وستين حجرا. قَالَ مجاهد: هي حجارة كانت حوالى مكة، يذبحون عليها.

وقوله تعالى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ} : معطوف عَلَى ما قبله، أي وحرم عليكم الاستقسام، والأزلام قِداح الميسر، واحدها زَلَمٌ -بفتحتين-، وزُلَم -بضم، ففتح-.

قالوا: والأزلام للعرب ثلاثة أنواع: منها الثلاثة التي كَانَ يتخذها كل إنسان لنفسه عَلَى، أحدها افعل، وعلى الثاني لا تفعل، والثالث مهمل، لا شيء عليه، فيجعلها فِي خَرِيطة معه، فإذا أراد فِعْل شيء أدخل يده، وهي متشابهة، فإذا خرج أحل ها ائتمر، وانتهى بحسب ما يخرج له، وإن خرج القِدْح الذي لا شيء عليه، أعاد الضرب، وهذه

ص: 310

هي التي ضرب بها سراقة بن مالك بن جعشم، حين اتبع النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، وقت الهجرة، وإنما قيل لهذا الفعل استقسام؛ لأنهم كانوا يستقسمون به الرزق، وما يريدون، كما يقال: الاستسقاء فِي الاستدعاء للسقي، ونظير هَذَا الذي حرمه الله تعالى، قول المنجم لا تخرج منْ أجل نجم كذا، واخرج منْ أجل نجم كذا.

[والنوع الثاني]: سبعة قداح، كانت عند هُبَل، فِي جوف الكعبة، مكتوب عليها ما يدور بين النَّاس منْ النوازل، كل قِدْح منها فيه كتاب، قدحٌ فيه العقل منْ أمر الديات، وفي آخر "منكم"، وفي آخر "منْ غيركم"، وفي آخر "مُلصق"، وفي سائرها أحكام المياه وغير ذلك.

وهي التي ضرب بها عبد المطلب عَلَى بنيه، إذ كَانَ نذر نحر أحدهم، إذا كملوا عشرة، الخبر المشهور، ذكره ابن اسحق.

وهذه السبعة أيضا كانت عند كل كاهن منْ كهان العرب، وحُكّامهم عَلَى نحو ما كانت فِي الكعبة عند هُبَل.

[والنوع الثالث]: هو قِداح الميسرِ، وهي عشرة: سبعة منها فيها حظوظ، وثلاثة أغفال، وكانوا يضربون بها مُقامرةً، لهوا ولعبًا، وكان عقلاؤهم يقصدون بها إطعام المساكين، والمعدم فِي زمن الشتاء، وكَلَبِ البرد وتعذر التَّحَرُّف.

وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} : إشارة إلى الاستقسام بالأزلام، والفسق الخروج، وقيل: يرجع إلى جميع ما ذكر منْ الاستحلال لجميع هذه المحرمات، وكل شيء منها فسق، وخروج منْ الحلال إلى الحرام، والانكفاف عن هذه المحرمات منْ الوفاء بالعقود، إذ قَالَ أوفوا بالعقود.

وقوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} : يعني أن ترجعوا إلى دينهم كفارا، قَالَ الضحاك: نزلت هذه الآية حين فتح مكة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة لثمان بقين منْ رمضان سنة تسع، ويقال سنة ثمان، ودخلها، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألا منْ قَالَ: لا إله إلا الله فهو آمن، ومن وضع السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن".

وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} : وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حين كَانَ بمكة، لم تكن إلا فريضة الصلاة وحدها، فلما قدم المدينة أنزل الله الحلال والحرام، إلى أن حج، فلما حج، وكمل الدين نزلت هذه الآية:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية.

وقوله تعالى: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} : أي بإكمال الشرائع والأحكام، وإظهار دين الإسلام، كما وعدتكم، إذ قلت:{وَلِأُتِمَّ نِعْمَتيِ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 150] وهي دخول مكة آمنين مطمئنين، وغير ذلك مما انتظمته هذه الملة الحنيفية، إلى دخول الجنة فِي رحمة

ص: 311

الله تعالى.

وقوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} : أي أعلمتكم برضاي به لكم دينا، فإنه تعالى لم يزل راضيا بالإسلام لنا دينا، فلا يكون لاختصاص الرضا بذلك اليوم فائدة، إن حملناه عَلَى ظاهره، و"دينا" نصب عَلَى التمييز، وإن شئت عَلَى مفعول ثان. وقيل: المعنى: ورضيت عنكم إذا انقدتم لي بالدين الذي شرعته لكم، ويحتمل أن يريد رضيت لكم الإسلام دينا: أي رضيت إسلامكم الذي أنتم عليه دينا باقيا بكماله إلى آخر الأبد، لا أنسخ منه شيئا، والله أعلم.

والإسلام فِي هذه الآية: هو الذي فِي قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} : وهو الذي يفسر فِي سؤال جبريل للنبي عليهما الصلاة والسلام، وهو الإيمان، والأعمال، والشعب.

وقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} : يعني منْ دعته ضرورة إلى أكل الميتة، وسائر المحرمات فِي هذه الآية، والمخمصة الجوع، وخلاء البطن منْ الطعام، والْخَمَصُ: ضمور البطن.

وقوله تعالى: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} : أي غير مائل لحرام، وهو بمعنى {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} والجنف: الميل، والإثم الحرام.

{فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} : أي فإن الله له غفور رحيم.

وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ} الآية: نزلت بسبب عدي بن حاتم، وزيد بن مهلهل، وهو زيد الخيل، الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير، قالا: يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب، والبزاة، وإن الكلاب تأخذ البقر، والحمر، والظباء، فمنه ما ندرك ذكاته، ومنه ما تقتله فلا ندرك ذكاته، وَقَدْ حرم الله الميتة، فماذا يحل لنا؟، فنزلت الآية.

وقوله تعالى: {مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} : "ما" فِي موضع رفع بالابتداء، والخبر:{أُحِلَّ لَهُمْ} ، و"ذا" زائدة، وإن شئت بمعنى الذي، ويكون الخبر:{قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} ، وهو الحلال، وكل حرام فليس بطيب، وقيل: ما التذه آكله وشاربه، ولم يكن عليه فيه ضرر فِي الدنيا، ولا فِي الآخرة. وقيل: الطيبات الذبائح؛ لأنها طابت بالتذكية. وقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمَتُمُ} أي وصيد ما علمتم، ففي الكلام إضمار لابد منه، ولولاه لكان المعنى يقتضي أن يكون الحل المسئول عنه متناولا للمعلم منْ الجوارح المكلبين، وذلك ليس مذهبًا لأحد.

وقوله تعالى: {مُكَلِّبِينَ} :معنى مكلبين أصحاب الكلاب، وهو كالمؤدب، صاحب التأديب. وقيل: معناه مُضَرِّين عَلَى الصيد كما تُضَرَّى الكلاب.

ص: 312

وقوله تعالى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} : أنث الضمير مراعاة للفظ الجوارح، إذ هو جمع جارحة، ولا خلاف بين العلماء فِي شرطين فِي التعليم، وهما: أن ياتمر إذا أُمر، وينزجر إذا زُجر، لا خلاف فِي هذين الشرطين فِي الكلاب، وما فِي معناها، منْ سباع الوحوش، واختلف فيما يصاد به الطير، فالمشهور أن ذلك مشترط فيها عند الجمهور، وذكر ابن حبيب منْ المالكيّة أنه لا يشترط فيها أن تنزجر إذا زجرت، فإنه لا يتأتى ذلك فيها غالبا، فيكفي أنها إذا أُمرت أطاعت. وَقَالَ ربيعة: ما أجاب منها إذا دعي فهو المعلم الضاري؛ لأن أكثر الحيوان بطبعه ينشلي -أي يغرى- وَقَدْ شرط الشافعيّ، وجمهور منْ العلماء فِي التعليم، أن يمسك عَلَى صاحبه، ولم يشترطه مالك فِي المشهور عنه، والأول أصح.

وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} : أي حبسن لكم، واختلف العلماء فِي تأويله، فَقَالَ ابن عباس، وأبو هريرة، والنخعي، وقتادة، وابن جبير، وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة والشافعي، وأحمد، وإسحق، وأبو ثور، والنعمان وأصحابه: المعنى ولم يأكل، فإن أكل لم يؤكل ما بقي؛ لأنه أمسك عَلَى نفسه، ولم يمسك عَلَى ربه.

وَقَالَ سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وسلمان الفارسي، وأبو هريرة فِي رواية عنه: المعنى وإن أكل، فإذا أكل الجارح كلبا كَانَ، أو فهدا، أو طيرا، أُكل ما بقي منْ الصيد وإن لم يبق إلا بضعة، وهذا قول مالك، وجميع أصحابه، وهو القول الثاني للشافعي.

وقول الأولين هو الصواب؛ لما روى مسلم فِي "صحيحه" منْ عديّ بن حاتم رضي الله عنه، مرفوعًا:"وإذا أكل فلا تأكل، فإنما أمسك عَلَى نفسه"، وهذا نص صريح يرد عَلَى القول الثاني، فتبصّر.

وقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} : أمر بالتسمية قيل: عند الإرسال عَلَى الصيد، وقيل المراد: بالتسمية هنا التسمية عند الأكل، والحقّ أنه يشمل الأمرين.

وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أمر بالتقوى عَلَى الجملة، والإشارة القريبة هي ما تضمنته هذه الآيات منْ الأوامر.

وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} لأنه تعالى قد أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، فلا يحتاج إلى محاولة عَدٍّ، ولا عقد، كما يفعله الْحُسّاب، ولهذا قَالَ:{وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} ، فهو سبحانه يحاسب الخلائق دفعة واحدة. ويحتمل أن يكون المراد به الوعيد بيوم القيامة، كأنه قَالَ: إن حساب الله لكم سريع إتيانه، إذ يوم القيامة قريب. ويحتمل أن يريد بالحساب المجازاة، فكأنه توعد فِي الدنيا بمجازاة سريعة

ص: 313

قريبة، إن لم يتقوا الله. انتهى ملخّصًا منْ "تفسير القرطبيّ" رحمه الله تعالى.

والحديث مرسلٌ صحيحٌ، كما سبق بيانه فِي حديث أول الباب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4858 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ -وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ- عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: جَاءَنِي أَبُو بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، بِكِتَابٍ فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدَمٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "هَذَا بَيَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} "، فَتَلَا مِنْهَا آيَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: "فِي النَّفْسِ مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ، وَفِي الْعَيْنِ خَمْسُونَ، وَفِي الْيَدِ خَمْسُونَ، وَفِي الرِّجْلِ خَمْسُونَ، وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ فَرِيضَةً، وَفِي الأَصَابِعِ عَشْرٌ عَشْرٌ، وَفِي الأَسْنَانِ خَمْسٌ خَمْسٌ، وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أحمد بن عبد الواحد": هو التميميّ المعروف بابن عبود الدمشقيّ، صدوقٌ [11] 1/ 3588. و"مروان بن محمد": هو الأسديّ الدمشقيّ الطاطَرِيّ، ثقة [8] 128/ 1091. و"سعيد بن عبد العزيز": هو التَّنُوخيّ الدمشقيّ، ثقة إمام، سوّاه أحمد بالأوزاعيّ، وقدّمه أبو مُسهر، لكنه اختلط فِي آخر عمره [7] 5/ 460.

وقوله: "فِي رُقعة" -بضم، فسكون-: هي التي يُكتب فيها، وما يُرقع به الثوب، جمعها رقاع بالكسر، مثل بُرْمة وبِرَام.

وقوله: "منْ أدَم" -بفتحتين-: جمع أَدِيم، وهو الجلد المدبوغ، ويُجمع أيضًا عَلَى أُدُم -بضمّتين- وهو القياس، مثلُ بَرِيد وبُرُد. أفاده الفيّوميّ.

وقوله: "فريضة": قَالَ ابن الأثير رحمه الله تعالى: الفريضة: هو البعير المأخوذ فِي الزكاة، سُمي فريضةً؛ لأنه فرضٌ واجبٌ عَلَى رب المال، ثم اتُّسِعَ فيه، حَتَّى سُمِّي البعير فريضةً فِي غير الزكاة. انتهى "النهاية" 3/ 432. والمراد به هنا الناقة التي تؤخذ فِي الدية.

والحديث مرسلٌ صحيحٌ، كما سبق بيانه فِي حديث أول الباب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4859 -

(قَالَ الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: الْكِتَابُ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، فِي الْعُقُولِ: "إِنَّ فِي النَّفْسِ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، وَفِي الأَنْفِ إِذَا أُوعِيَ جَدْعًا، مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ النَّفْسِ، وَفِي

ص: 314

الْجَائِفَةِ مِثْلُهَا، وَفِي الْيَدِ خَمْسُونَ، وَفِي الْعَيْنِ خَمْسُونَ، وَفِي الرِّجْلِ خَمْسُونَ، وَفِي كُلِّ إِصْبَعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ، وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ، وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ").

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه وهو مصريّ ثقة حافظ. و"ابن القاسم": هو عبد الرحمن الْعُتقيّ الفقيه الثقة المصريّ. و"مالك": هو ابن أنس إمام دار الهجرة. و"عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم": هو الأنصاريّ المدنيّ القاضي، ثقة [5] 118/ 163.

وقوله: "الكتاب الخ": مبتدأٌ خبره جملة: "إن فِي النفس الخ".

وقوله: فِي "العُقُول" متعلّق بـ"كتب"، وهو -بالضمّ- جمع عقل بفتح، فسكون: وهو الدية. وقوله: "إذا أوعي" بضم أوله، مضارع أَوعى المتاع بالألف: إذا جمعه فِي الوعاء، قَالَ الشاعر [منْ البسيط]:

الْخَيْرُ يَبْقَى وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ بِهِ

وَالشَّرُّ أَخْبَثُ مَا أَوْعَيْتُ مِنْ زَادِ

والمراد به هنا قطع جميعه، فهو بمعنى ما تقدّم:"وفي الأنف إذا أُوعِب جدعُهُ الدية": أي إذا قُطع جميعه.

والحديث مرسل صحيح، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4860 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى بَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَلْقَمَ عَيْنَهُ خُصَاصَةَ الْبَابِ، فَبَصُرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَتَوَخَّاهُ بِحَدِيدَةٍ، أَوْ عُودٍ؛ لِيَفْقَأَ عَيْنَهُ، فَلَمَّا أَنْ بَصُرَ انْقَمَعَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَمَا إِنَّكَ لَوْ ثَبَتَّ، لَفَقَأْتُ عَيْنَكَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث، والحديث الذي بعده منْ أحاديث الباب التالي، فكان الأولى إيرادهما فيه، لكن المصنّف كثيرًا ما يفعل هَذَا، فيقدّم بعض أحاديث باب فِي باب قبده، وَقَدْ نبّهت على هَذَا قبل هَذَا مرارا، فَلْيُتَنَبَّهْ. والله تعالى أعلم.

ورجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن منصور) النسائيّ المذكور فِي أول حديث الباب.

2 -

(مسلم بن إبراهيم) الأزديّ الفراهيديّ، أبو عمرو البصريّ، ثقة مأمون، مكثرٌ، عَمِي بآخره [9] 5/ 2315.

3 -

(أبان) بن يزيد العطّار، أبو يزيد البصريّ، ثقة، له أفراد [7] 9/ 787.

ص: 315

4 -

(يحيى) بن أبي كثير الطائيّ مولاهم، أبو نصر اليماميّ، ثقة ثبتٌ، يدلّس، ويرسل [5] 23/ 24.

5 -

(إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة) الأنصاريّ، أبو يحيى المدنيّ، ثقة حجة [4] 54/ 68.

6 -

(أنس بن مالك) رضي الله تعالى عنه 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: يحيى، عن إسحاق. (ومنها): أن فيه رواية الراوي عن عمه. (ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر منْ مات منْ الصحابة بالبصرة، مات سنة (2) أو (93)، وَقَدْ جاوز مائة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى بَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَلْقَمَ عَيْنَهُ خُصَاصَةَ الْبَابِ) بفتح الخاء المعجمة: أي فرجته، قَالَ المجد:"الْخَصَاصُ، والْخَصَاصَة"، و"الْخَصَاصاء" بفتحهنّ: الفقرُ، والْخَلَلُ، أو كلُّ خلَل، وخَرْق فِي باب، ومُنْخُلٍ، وبُرْقُع، ونحوه، أو الثُّقْبُ الصغير، والْفُرَجُ بين الأَثَافي. انتهى.

والمعنى هنا: أنه جعل فرجة الباب مُحاذية لعينه، كأنها لقمة لها (فَبَصُرَ بِهِ) بضم الصاد المهملة، وكسرها، قَالَ المجد: بصُر به، ككرُم، وفرِح بَصَرًا، وبَصَارةً بالفتح، ويُكسر: صار مُبصِرًا. انتهى: أي أبصر (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) ذلك الأعرابيّ، وهو فِي تلك الحال (فَتَوَخَّاهُ) بتشديد الخاء: أي قصده، وطلبه ليطعنه (بِحَدِيدَةٍ، أَوْ) للشكّ منْ الراوي (عُودٍ) بالضمّ: أي خشب. وفي رواية البخاريّ منْ طريق عبيد الله بن أبي بكر بن أنس، عن أنس رضي الله عنه: "أن رجلاً اطلع منْ بعض حُجر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقام إليه بمِشقص، أو بمشاقص، وجعل يَختِله ليطعنه.

والمِشقص بالكسر: النصل العريض، وقوله:"يَختله" بفتح أوله، وسكون ثانيه، منْ الختل، وهو الإصابة عَلَى غفلة.

(لِيَفْقَأَ عَيْنَهُ) بفتح، أوله، وثالثه، منْ باب منع: أي ليشُقّها (فَلَمَّا أَنْ) زائدة؛ لوقوعها بعد "لَمّا" الحينيّه، كما فِي قوله تعالى:{وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ} الآية

ص: 316

[العنكبوت: 33](بَصُرَ انْقَمَعَ) أي ردّ بصره، ورجع (فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (أَمَا) بفتح الهمزة، وتخفيف الميم: أداة تنبيه، "ألا" (إِنَّكَ لَوْ ثَبَتَّ) أي عَلَى ما أنت عليه منْ النظر فِي داخل البيت (لَفَقَأْتُ عَيْنَكَ) زاد فِي رواية سهل رضي الله عنه الآتية:"إنما جُعل الإذن منْ أجل البصر". وفيه تحريم النظر إلى داخل بيت غيره بغير إذنه، وأن لصاحب البيت أن يفقأ عينه، وأنه لو فعل ذلك لا شيء عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -46/ 4860 - وفي "الكبرى" 44/ 7063. وأخرجه (خ) فِي "الاستئذان" 6242 و"الديات" 6889 و6900 (م) فِي "الآداب" 2157 (د) فِي "الأدب" 5171 (ت) فِي "الاستئذان" 2708 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 11644 و13095 و13131. وفوائد الْحَدِيث، واختلاف العلماء تأتي فِي الْحَدِيث التالي، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4861 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَجُلاً اطَّلَعَ مِنْ جُحْرٍ، فِي بَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مِدْرَى يَحُكُّ بِهَا رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَنْظُرُنِي لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ، إِنَّمَا جُعِلَ الإِذْنُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ").

رجال هَذَا الإسناد: أربعة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(الليث) بن سعد الإمام المصريّ المشهور الحجة الثبت [7] 31/ 35.

3 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهريّ المدنيّ الحجة الثبت الفقيه [4] 1/ 1.

4 -

(سَهْلُ بنُ سَعْدٍ) بن مالك بن خالد الأنصاريّ الخزرجيّ أبا العبّاس الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما، مات سنة (88 هـ) وقيل: بعدها، وَقَدْ جاوز المائة، تقدّمت ترجمته فِي 40/ 734. والله تعالى أعلم.

ص: 317

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (236) منْ رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم (أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ) رضي الله تعالى عنهما (السَّاعِدِيَّ) نسبة إلىَ ساعدة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة الأنصاريّ. قاله فِي "اللباب" 2/ 92. (أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَجُلاً اطَّلَعَ مِنْ جُحْرٍ) بتقديم الجيم المضمومة، عَلَى الحاء المهملة الساكنة، واحد الْجِحَرَة، وهي مكامن الوحش، ولَمّا كانت نَقْبًا فِي الأرض، سُمّي بذلك النَّقبُ فِي الباب، وفي الحائط، وغير ذلك. انتهى "المفهم" 5/ 479 أي منْ ثُقْب (فِي بَابِ) وفي رواية عند البخاريّ: "منْ باب"(رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مِدْرَى) بكسر الميم، وسكون الدال المهملة، مقصورًا: هي حديدة يُسَوَّى بها شعر الرأس. وقيل: هو شبه الْمُشط. وقيل: هي أعواد تُحدّد، وتُجعل شبه المشط. وقيل: هو عُود تسوِّي به المرأة شعرها، وجمعه مَدَارَى، ويقال فِي الواحد أيضًا: مِدْراة، ودرايةٌ أيضًا، ويقال: تدَرّيتُ بالمدرى. قاله النوويّ. "شرح مسلم" 14/ 137.

وَقَالَ أبو العبّاس القرطبيّ: الْمِدْرَى بالدال المهملة: واحد المَدَاري، قَالَ ثابتٌ: هي الأمشاط، وفي هَذَا التفسير تسامحٌ، وأوضح منه، وأصحّ قول النضر بن شُميل، وابن كيسان: إنه عُودٌ، أو عاجٌ تَنشُر به المرأة شعرها، وتجعده، قَالَ امرؤ القيس [منْ الطويل]:

غَدَئِرُهُ مُسْتَشْزِرَاتٌ إِلَى الْعُلَا

تَظَلُّ الْمَدَارِي

(1)

فِي مُثَنًّى وَمُرْسَلِ

وموؤنّثه مِدْراةٌ، وَقَدْ عبّر عنه فِي الرواية الأخرى:"بمشقص، أو بمشاقص"، وَقَدْ قلنا: إن المِشقص: نَصْلٌ عَريضٌ. وقيل: هو السّكّين، فيحتمل أن يكون هَذَا المدرى منْ حديد، وكما يُعمل منْ عاج، وعُود يجوز أن يُعمل منْ حديد، أو يكون شبّهه بالسكين. انتهى "المفهم" 5/ 479.

وَقَالَ فِي "الفتح": قوله: "مِدرًى" قد يخالفه قوله: "مشقص"، فيحمل عَلَى تعدد القصة، ويحتمل أن رأس المدرى كَانَ محدّدًا، فأشبه النصل. انتهى.

(يَحُكُّ بِهَا رَأْسَهُ) أي يقشُره، يقال: حكَكتُ الشيءَ حَكًّا، منْ باب قتل: قشرته،

(1)

فِي الديوان: "تَضِلُّ الْعِقَاصُ".

ص: 318

والمراد تسريح شعره رضي الله عنه، فهو بمعنى رواية مسلم بلفظ:"ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مِدْرًى يُرَجّل به رأسه". وترجيل الشعر: تسريحه، ومَشطه. (فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَنْظُرُنِي) وفي رواية البخاريّ: "لو أعلم أنك تنتظرني"، ولمسلم:"لو علمت أنك تنتظرني"، قَالَ النوويّ: هكذا هو فِي أكثر النسخ، أو كثير منها، وفي بعضها:"تنظرني"، بحذف التاء الثانية، قَالَ القاضي: الأول رواية الجمهور، قَالَ: والصواب الثاني. انتهى.

(لَطَعَنْتُ بهِ) أي بهذا المدرى (فِي عَيْنِكَ) بالإفراد، وفي رواية عند البخاريّ:"فِي عينيك" بالتثنيَة. قَالَ فِي "الفتح": وهذا مما يقوي تعدد القصّة؛ لأنه فِي حديث أنس رضي الله عنه جزم بأنه اطّلع، وأراد أن يطعنه، وفي حديث سهل رضي الله عنه علّق طعنه عَلَى نظره. انتهى.

قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: يمكن أن يُحمل حديث سهل، وأنس رضي الله تعالى عنهما عَلَى أن الذي همّ به النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ طعن الْمُطَّلع عَلَى الخصوص ببيِت النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لعِظَم حرمته، وحرمة أهل بيته، غير أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه يقتضي إباحة ذلك عامّة فِي بيته، وبيت غيره، فإنه قَالَ فيه:"منْ اطّلَعَ فِي بيت قوم بغير إذنهم، فقد حلّ لهم أن يفقؤوا عينه"

(1)

، فإذًا هَذَا الحكم ليس مخصوصًا به. انتهى "المفهم" 5/ 481.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قرره القرطبيّ رحمه الله تعالى أخيرًا منْ عدم كونه مخصوصًا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم هو الحقّ؛ للنصوص الواضحة فيه. والله تعالى أعلم.

(إِنَّمَا جُعِلَ الإِذْنُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ) وفي رواية للبخاريّ: "منْ قِبَل البصر"، وفي رواية "النظر" بدل "البصر". قَالَ النوويّ: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما جُعل الإذن منْ أجل البصر": معناه أن الاستئذان مشروعٌ، ومأمور به، وإنما جُعل؛ لئلا يقع البصر عَلَى الحرام، فلا يحلّ لأحد أن ينظر فِي جُحْر باب، ولا غيره، مما هو متعرّض فيه لوقوع بصره عَلَى امرأة أجنبيّة. انتهى "شرح مسلم" 14/ 137 - 138. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث سهل بن سعد الساعديّ رضي الله عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية)؛ فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

(1)

متَّفقٌ عليه.

ص: 319

أخرجه هنا -46/ 4861 - وفي "الكبرى" 45/ 7064. وأخرجه (خ) فِي "اللباس" 5924 و"الاستئذان" 6241 و"الديات" 6901 (م) فِي "الآداب" 2156 (ت) فِي "الاستئذان" 2709 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 22296 و22326 (الدارمي) فِي "الديات" 2278 و2279. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده

(1)

:

(منها): جواز أخذ الإنسان حقّه ممن ظلمه، دون أن يسألَ الإمام، وهو الذي ترجم له المصنّف فِي الباب الآتي؛ وذلك لأن الشارع أذن فِي فقأ عين منْ اطّلع فِي بيت قوم بغير إذنهم، ولم يشرط فِي ذلك أن يأذن له الإمام. (ومنها): إبقاء شعر الرأس، وتربيته، واتخاذ آلة يزيل بها عنه الهوّام، ويَحُكُّ بها؛ لدفع الوسخ، أو القمل. (ومنها): ما قاله القبرطبيّ: فيه دليلٌ عَلَى استحباب إصلاح الشعر، وإكرامه، كما قَالَ صلى الله عليه وسلم:"منْ كانت له جُمَّةٌ، فليُكرمها"

(2)

، ولكن لا ينتهي بذلك إلى أن يخرُج إلى الترفّه، والسرَف المنهيّ عنه بقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه فَضَالة بن عُبيد رضي الله عنه، حيث قَالَ:"نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كثير منْ الإرفاه، وأمرنا أن نحتفي أحيانًا"

(3)

انتهى "المفهم" 5/ 480. (ومنها): أن فيه مشروعيةَ الاستئذان عَلَى منْ يكون فِي بيتٍ مُغلَق الباب. (ومنها): تحريم التطلع عَلَى منْ كَانَ داخل بيت مغلَق منْ خلل الباب. (ومنها): استحباب الامتشاط، وجواز استعمال المدرى، قَالَ النوويّ: قَالَ العلماء: الترجيل مستحبّ للنساء مطلقًا، وللرجل بشرط أن لا يفعله كلّ يوم، أو كلّ يومين، ونحو ذلك، بل بحيث يخفّ الأول. انتهى "شرح مسلم" 114/ 137. (ومنها): أن الاستئذان لا يختص بغير المحارم، بل يُشرع عَلَى منْ كَانَ منكشفًا، ولو كَانَ أما، أو أختا. (ومنها): أنه استُدِلّ به عَلَى جواز رمي منْ يتجسس، ولو لم يندفع بالشيء الخفيف جاز بالثقيل، وأنه إن أصيبت نفسه، أو بعضه فهو هدر، وبهذا قَالَ الجمهور، وخالف المالكيّة، فقالوا: لا يجوز ذلك، وما قاله الجمهور هو الحقّ؛ لصحّة الأحاديث بذلك، وسيأتي تمام البحث فيه فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى. (ومنها): ما قاله القرطبيّ فِي "المفهم" 5/ 480 - : قوله: "إنما جُعل الاستئذان منْ أجل البصر": فيه دليل عَلَى صحة

(1)

ليس المراد فوائد هَذَا الْحَدِيث فحسبُ، بل المراد فوئد الْحَدِيث الماضي، والأحاديث الآتية، فتنبّه.

(2)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود وغيره، منْ حديث أبي هريرة رضي الله عنه، بلفظ:"منْ كَانَ له شعرٌ، فليُكرمه". انظر "السلسلة الصحيحة" رقم 500.

(3)

حديث صحيح سيأتي للمصنّف رحمه الله تعالى فِي "كتاب الزينة" برقم 7/ 5060 إن شاء الله تعالى.

ص: 320

التعليل القياسيّ، فهو حجة للجمهور عَلَى نفاة القياس. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فيمن رمى إنسانًا يتجسس عَلَى بيته، فقتله:

ذهب الجمهور إلى أنه لا شيء عليه، وذهبت المالكية إلى وجوب القصاص، وأنه لا يجوز قصد العين، ولا غيرها، واعتلوا بأن المعصية، لا تدفع بالمعصية.

وأجاب الجمهور بأن المأذون فيه، إذا ثبت الإذن، لا يسمى معصية، وإن كَانَ الفعل، لو تجرد عن هَذَا السبب يُعَدُّ معصية، وَقَدْ اتفقوا عَلَى جواز دفع الصائل، ولو أتى عَلَى نفس المدفوع، وهو بغير السبب المذكور معصية، فهذا ملحق به، مع ثبوت النص فيه.

وأجابوا عن الْحَدِيث بأنه ورد عَلَى سبيل التغليظ، والإرهاب، ووافق الجمهورَ منهم ابنُ نافع، وَقَالَ يحيى بن عمر منهم: لعل مالكا لم يبلغه الخبر.

وَقَالَ القرطبيّ فِي "المفهم": ما كَانَ عليه الصلاة والسلام بالذي يَهُمُّ أن يفعل ما لا يجوز، أو يؤدي إلى ما لا يجوز، والحمل عَلَى رفع الإثم، لا يتم مع وجود النص، برفع الحرَج، وليس مع النص قياس.

واعتل بعض المالكية أيضا بالإجماع، عَلَى أن منْ قصد النظر إلى عورة الآخر ظاهرًا أن ذلك لا يبيح فقء عينه، ولا سقوط ضمانها عمن فقأها، فكذا إذا كَانَ المنظور فِي بيته، وتجسس الناظر إلى ذلك. ونازع القرطبيّ فِي ثبوت هَذَا الإجماع، وَقَالَ: إن الخبر يتناول كل مُطَّلِع، قَالَ: وإذا تناول المطلعَ فِي البيت مع المظنة، فتناوله المحقق أولى.

قَالَ الحافظ: وفيه نظر؛ لأن التطلع إلى ما فِي داخل البيت لم ينحصر فِي النظر إلى شيء معين كعورة الرجل مثلا بل يشمل استكشاف الحريم وما يقصد صاحب البيت ستره منْ الأمور التي لا يحبّ اطلاع كل أحد عليها، ومن ثم ثبت النهي عن التجسُّس، والوعيدُ عليه؛ حسما لمواد ذلك، فلو ثبت الإجماع الْمُدَّعَى لم يستلزم رَدّ هَذَا الحكمَ الخاصَّ، ومن المعلوم أن العاقل يشتد عليه أن الأجنبي يرى وجه زوجته، وابنته، ونحو ذلك، وكذا فِي حالة ملاعبته أهله أشدّ مما لو رأى الأجنبي ذكره منكشفًا، والذي ألزمه القرطبيّ صحيح فِي حق منْ يروم النظر، فيدفعه المنظور إليه، وفي وجه للشافعية لا يُشرَع فِي هذه الصورة، وهل يشترط الإنذار قبل الرمي وجهان: قيل: يشترط كدفع الصائل، وأصحهما لا؛ لقوله فِي الْحَدِيث:"يَخْتِلُهُ بذلك"، وفي حكم المتطلعِ منْ خلل باب الناظرُ منْ كوّة منْ الدار، وكذا منْ وقف فِي الشارع، فنظر إلى حريم غيره، أو إلى شَيْء فِي دار غيره. وقيل: المنع مختص بمن كَانَ فِي ملك المنظور إليه.

ص: 321

وهل يلحق الاستماع بالنظر وجهان: الأصح لا؛ لأن النظر إلى العورة أشد منْ استماع ذِكْرِها، وشرط القياس المساواة، أو أولوية المقيس، وهنا بالعكس. انتهى "الفتح" 14/ 238 - 239.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الذي ذهب إليه الجمهور منْ جواز رمي منْ تجسس فِي بيت غيره، وأنه لو هلك منْ ذلك، أو بعض أعضائه يكون هدرًا؛ لظاهر النصّ:"منْ اطّلع فِي بيت قوم بغير إذنهم، ففقؤوا عينه، فلا دية له، ولا قصاص"، كما سيأتي فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌47 - (بابُ مَنِ اقْتَصَّ، وَأَخَذَ حَقَّهُ دُونَ السُّلْطَانِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ظاهر ترجمة المصنّف رحمه الله تعالى يدلّ عَلَى أنه يرى جواز الاقتصاص، وأخذ الحق، دون إذن السلطان، ووجه استدلاله بحديثي الباب، أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه صريح فِي جواز فقأ العين، دون إذن الإمام، وكذلك حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، فإنه ضرب ولد مروان، دون استئذان؛ عملاً بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بمقاتلته، فلما جاز استيفاء الحقّ المباح، فإن فقأ عين المطّلع، ومقاتلة المارّ مباحان، لا واجبان، فاستيفاء ما وجب منْ الحقّ، وهو القصاص أولى. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: هذه الترجمة نحو ترجمة الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه"، حيث قَالَ:"باب منْ أخذ حقّه، أو اقتصّ دون السلطان".

فقوله: "منْ اقتصّ": أي إذا وجب له قصاصٌ عَلَى أحد. وقوله: "وأخذ حقّه": أي منْ جهة غريمه. وقوله: "دون السلطان": أي دون حكم الحاكم.

قَالَ فِي "الفتح": أي إذا وجب له عَلَى أحد قصاصٌ فِي نفس، أو طرف، هل يشترط أن يرفع أمره إلى الحاكم، أو يجوز أن يستوفيه دون الحاكم، وهو المراد بالسلطان فِي الترجمة.

ص: 322

قَالَ ابن بطال رحمه الله تعالى: اتفق أئمة الفتوى عَلَى أنه لا يجوز لأحد أن يقتص منْ حقه، دون السلطان، قَالَ: وإنما اختلفوا فيمن أقام الحد عَلَى عبده، كما تقدم تفصيله.

قَالَ: وأما أخذ الحق، فإنه يجوز عندهم أن يأخذ حقه منْ المال خاصة، إذا جحده إياه، ولا بينة عليه.

ثم أجاب عن حديث الباب بأنه خرج عَلَى التغليظ، والزجر عن الاطلاع عَلَى عورات النَّاس. انتهى.

قَالَ الحافظ: فأما نقله الاتفاق فكأنه استند فيه إلى ما أخرجه إسماعيل القاضي، فِي نسخة أبي الزناد، عن الفقهاء الذين يُنتَهَى إلى قولهم: ومنه: لا ينبغي لأحد أن يقيم شيئا منْ الحدود، دون السلطان، إلا أن للرجل أن يقيم حد الزنا عَلَى عبده. وهذا إنما هو اتفاق أهل المدينة، فِي زمن أبي الزناد.

وأما الجواب، فإن أراد أنه لا يُعمل بظاهر الخبر، فهو محل النزاع. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدّم فِي مسائل الْحَدِيث الماضي أن الأرجح جواز فقأ عين منْ اطّلع فِي بيت إنسان بغير إذنه؛ لصحة الخبر بذلك، وأما جواز القصاص فِي النفس، أو الطرف، دون إذن السلطان، فقد سبق آنفًا وجه استنباطه منْ أحاديث الباب.

وأما أخذ الحقّ منْ المال، فله أيضًا أدلة أخرى، كحديث قضيّة هند بن عتبة امرأة أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج الشيخان منْ حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: جاءت هند بنت عتبة بن ربيعة، فقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل مِسِّيك، فهل علي حَرَجٌ، أن أطعم منْ الذي له عيالنا؟ فَقَالَ:"لا حرج عليك، أن تطعميهم بالمعروف".

وفي رواية: قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شَحِيحٌ، وليس يعطيني ما يكفيني، وولدي إلا ما أخذت منه، وهو لا يعلم؟ فَقَالَ:"خذي ما يكفيك، وولدك بالمعروف".

وأخرج الشيخان أيضًا منْ حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قَالَ: قلنا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك تبعثنا، فننزل بقوم، لا يَقرونا، فما ترى فيه؟ فَقَالَ لنا:"إن نزلتم بقوم، فأُمر لكم بما ينبغي للضيف، فاقبلوا، فإن لم يفعلوا، فخذوا منهم حَقَّ الضيف".

وَقَدْ استدلّ الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه"، بحديث عقبة رضي الله عنه هَذَا عَلَى جواز الأخذ منْ مال ظالمه، فترجم بقوله:"باب قصاص المظلوم إذا وَجد مال ظالمه"، وَقَالَ ابن سيرين يُقاصّ، وقرأ:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} الآية [النحل: 126].

ص: 323

قَالَ فِي "الفتح" فِي شرح هذه الترجمة: أي هل يأخذ منه بقدر الذي له، ولو بغير حكم حاكم؟، وهي المسألة المعروفة بمسألة الظفر، وَقَدْ جنح البخاريّ إلى اختياره، ولهذا أورد أثر ابن سيرين عَلَى عادته فِي الترجيح بالآثار. انتهى.

وَقَالَ أيضًا: واستُدلّ به عَلَى مسألة الظفر، وبها قَالَ الشافعيّ، فجزم بجواز الأخذ، إذا لم يمكن تحصيل الحقّ بالقاضي، كأن يكون غريمه منكرًا، ولا بيّنة له عند وجود الجنس، فيجوز عنده أخذه، إن ظفِر به، وأخذ غيره بقدره، إن لم يجده، ويجتهد فِي التقويم، ولا يَحيف، فإن أمكن تحصيل الحقّ بالقاضي، فالأصحّ عند أكثر الشافعيّة الجواز أيضًا، وعند المالكيّة الخلاف، وجوزه الحنفيّة فِي المثليّ، دون المتقوّم لِمَا يُخشى فيه منْ الحيف. واتّفقوا عَلَى أن محلّ الجواز فِي الأموال، لا فِي العقوبات البدنيّة؛ لكثرة الغوائل فِي ذلك. ومحلّ الجواز فِي الأموال أيضًا ما إذا أمن الغائلة، كنسبته إلى السرقة، ونحو ذلك. انتهى "فتح" 5/ 398 - 400. "كتاب المظالم".

والحاصل أن الأرجح جواز استيفاء الحقّ الماليّ منْ ظالمه، دون رفعه إلى السلطان، وأما استيفاء القصاص، سواء كَانَ فِي النفس، أو الطرَف، فظاهر صنيع البخاريّ، والمصنّف جوازه، مستدلّين بأحاديث الباب، وهو الظاهر. والله تعالى أعلم بالصواب.

4862 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ، بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ، فَفَقَئُوا عَيْنَهُ، فَلَا دِيَةَ لَهُ، وَلَا قِصَاصَ").

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن المثنّى) الْعَنَزيّ، أبو موسى البصريّ، ثقة ثبت [10] 64/ 80.

2 -

(معاذ بن هشام) الدستوائي البصريّ، صدوقٌ ربما وهم [9] 30/ 34.

3 -

(أبوه) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت، ورمي بالقدر، منْ كبار [7] 30/ 34.

4 -

(قتادة) بن دعامة السدوسي، أبو الخطاب البصريّ، ثقة ثبت يدلس [4] 30/ 34.

5 -

(النضر بن أنس) بن مالك الأنصاريّ، أبو مالك البصريّ، ثقة [3] 2/ 3393.

6 -

(بَشير بن نَهِيك) -بفتح النون، وكسر الهاء-: هو السدوسيّ، ويقال: السلوليّ، أبو الشعثاء البصريّ، ثقة [3] 141/ 1107.

7 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.

ص: 324

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستّة بلا واسطة. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه ثلاثة منْ التابعين يروي بعضهم عن بعض: قتادة، عن النضر، عن بَشِير بن نَهِيك، ورواية بشير عن النضر منْ روايهَ الأقران. (ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه منْ المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ، بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ، فَفَقَئُوا عَيْنَهُ، فَلَا دِيَةَ لَهُ، وَلَا قِصَاصَ) ولفظ مسلم: "منْ اطلع فِي بيت قوم بغير إذنهم، فقد حلّ لهم أن يفقؤوا عينه".

قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: هَذَا نصّ فِي الإباحة، والتحليل، وعلى هَذَا فلا ضمان، ولا دية إذا وقع ذلك، ولا يُستبعد هَذَا منْ الشرع، فإنه عقوبة عَلَى جناية سابقة، غير أن هَذَا خرج مخرج التعزيرات، لا مخرج الحدود، ألا ترى قوله:"فقد حلّ"، ولم يقُل: فقد وجب، وإنما مقصود هَذَا الْحَدِيث إسقاط الْقَوَد، والمؤاخذة بذلك، إن وقع ذلك.

وَقَالَ أيضًا: هَذَا ظاهر قويّ فِي الذي قرّرناه، ويفيد أيضًا أن هَذَا الحكم جار فيمن اطّلع عَلَى عورة الإنسان، وإن لم يكن منْ باب، فإن قوله:"اطّلع عليك" -يعني فِي الْحَدِيث التالي- يتناول كلَّ مُطّلع كيفما كَانَ، ومن أي جهة كَانَ، بل يتعين أن يقال: إن الشرع إذا علّق هَذَا الحكم عَلَى الاطّلاع فِي البيت؛ لأنه مظنّة الاطّلاع عَلَى العورة، فلأَنْ يُعلّق عَلَى نفس الاطّلاع عَلَى العورة أحرى، وأولى، وهذا نظرٌ راجحٌ، غير أن أصحابنا -يعني المالكيّة- حكوا الإجماع عَلَى أن منْ اطّلع عَلَى عورة رجل بغير إذنه، ففقأ عينه أنه لا يَسقط عنه الضمان، كما ذكرنا، فإن صحّ هَذَا الإجماع، فهو واجب الاتّباع، وإن وُجد خلافٌ، فما ذكرناه هو الإنصاف. انتهى "المفهم" 5/ 481 - 482.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد عرفت فيما سبق قريبًا عدم صحة دعوى الإجماع، وإنما هو اتفاق أهل المدينة فقط، فلا تغفل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

ص: 325

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -47/ 4862 و4863 - وفي "الكبرى" 44/ 7065 و7066. وأخرجه (خ) فِي "الديات" 6888 و6902 (م) فِي "الآداب" 2158 (د) فِي "الأدب" 5172 (أحمد) فِي باقي مسند المكثرين" 7516 و8771 و9096 و9241 و10445. وفوائد الْحَدِيث تقدّمت فِي الْحَدِيث الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4863 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ، بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَخَذَفْتَهُ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، مَا كَانَ عَلَيْكَ حَرَجٌ"، وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: "جُنَاحٌ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن منصور": هو الْجَوّاز المكيّ. و"سفيان": هو ابن عُيينة. و"أبو الزناد": هو عبد الله بن ذكوان. و"الأعرج" هو عبد الرحمن بن هُرْمُز.

وقوله: "بغير إذن": احتراز ممن اطلع بإذن.

وقوله: "فخذفته": بالخاء، والذال المعجمتين، وفي رواية البخاريّ:"فحذفته" -بالحاء المهملة- قَالَ فِي "الفتح": وقوله: "فحذفته" بالحاء المهملة، عند أبي ذرّ، والقابسي، وعند غيرهما بالخاء المعجمة، وهو أوجه؛ لأن الرمي

(1)

بحصاة، أو نواة، ونحوهما، إما بين الإبهام والسبابة، وإما بين السبابتين. وجزم النوويّ بأنه فِي مسلم بالمعجمة. وَقَالَ القرطبيّ: الرواية بالمهملة خطأ؛ لأن فِي نفس الخبر أنه الرمي بالحصى، وهو بالمعجمة جزما.

قَالَ الحافظ: ولا مانع منْ استعمال المهملة فِي ذلك مجازا.

وقوله: "ففقأت عينه": بقاف، ثم همزة ساكنه: أي شققت عينه. قَالَ ابن القطاع: ففقأ عينه أطفأ ضوءها. انتهى "فتح" 14/ 203.

وقوله: "ما كَانَ عليك حرجٌ" وَقَالَ مرّةً أخرى: "جُناحٌ". ولفظ البخاريّ: "لم يكن عليك جُناح"، ولفظ مسلم:"ما كَانَ عليك منْ جناح".

والمراد بالجناح هنا الحرج. قَالَ فِي "الفتح": وفيه رد عَلَى منْ حمل الجناح هنا عَلَى الإثم، ورَتَّب عَلَى ذلك وجوب الدية؛ إذ لا يلزم منْ رفع الإثم رفعها؛ لأن وجوب الدية منْ خطاب الوضع، ووجه الدلالة أن إثبات الحل، يمنع ثبوت القصاص والدية. وورد منْ وجه آخر عن أبي هريرة أصرح منْ هَذَا، عند أحمد، وابن أبي عاصم، والنسائي

(2)

، وصححه ابن حبّان، والبيهقي، كلهم منْ رواية بشير بن نَهِيك عنه

(1)

هكذا عبارة "الفتح""لأن الرمي" ولعل الصواب "لأنه الرمي" فليحرّر.

(2)

هو الْحَدِيث الذي قبل هَذَا.

ص: 326

بلفظ: "منْ اطلع منْ بيت قوم بغير إذنهم، ففقؤا عينه، فلا دية ولا قصاص"، وفي رواية منْ هَذَا الوجه:"فهو هدر". انتهى.

وَقَالَ فِي "الفتح " أيضاً: واستُدلّ به عَلَى اعتبار قدر ما يُرْمُى به، بحصى الخذف المقدم بيانها فِي كتاب الحج؛ لقوله فِي حديث الباب:"فخذفته"، فلو رماه بحجر يقتل، أو سهم تعلق به القصاص، وفي وجه لا ضمان مطلقا، ولو لم يندفع إلا بذلك جاز، ويستثنى منْ ذلك منْ له فِي تلك الدار زوج، أو محرم، أو متاع، فأراد الاطلاع عليه، فيمتنع رميه للشبهة. وقيل: لا فرق. وقيل: يجوز إن لم يكن فِي الدار غير حريمه، فإن كَانَ فيها غيرهم أنذر، فان انتهى، وإلا جاز، ولو لم يكن فِي الدار إلا رجل واحد، هو مالكها، أو ساكنها لم يجز الرمي قبل الإنذار، إلا إن كَانَ مكشوف العورة. وقيل: يجوز مطلقا؛ لأن منْ الأحوال ما يكره الاطلاع عليه كما تقدم، ولو قَضَر صاحب الدار بأن ترك الباب مفتوحا، وكان الناظر مجتازا، فنظر غير قاصد، لم يجز، فإن تعمد النظر فوجهان: أصحهما لا، ويلتحق بهذا منْ نظر منْ سطح بيته، ففيه الخلاف، وَقَدْ توسع أصحاب الفروع فِي نظائر ذلك، قَالَ ابن دقيق العيد: وبعض تصرفاتهم مأخوذة منْ إطلاق الخبر الوارد فِي ذلك، وبعضها منْ مقتضى فهم المقصود، وبعضها بالقياس عَلَى ذلك. والله أعلم. انتهى "فتح" 14/ 239.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم تخريجه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4864 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي، فَإِذَا بِابْنٍ لِمَرْوَانَ يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَرَأَهُ، فَلَمْ يَرْجِعْ، فَضَرَبَهُ، فَخَرَجَ الْغُلَامُ يَبْكِي، حَتَّى أَتَى مَرْوَانَ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ مَرْوَانُ لأَبِي سَعِيدٍ: لِمَ ضَرَبْتَ ابْنَ أَخِيكَ؟ قَالَ: مَا ضَرَبْتُهُ، إِنَّمَا ضَرَبْتُ الشَّيْطَانَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ، فَأَرَادَ إِنْسَانٌ يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَدْرَؤُهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن مصعب) هو: محمد بن محمد بن مصعب، الشاميّ، أبو عبد الله الصوريّ، نُسِب لجدّه، لقبه وَحْشيّ -بمهملة ساكنة، ثم معجمة- صدوقٌ [11].

قَالَ ابن أبي حاتم: سمعت منه بمكة، وهو صدُوقٌ ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". تفرّد به المصنّف، وأبو داود، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط، وعند أبي داود له حديثان.

ص: 327

2 -

(محمد بن المبارك) الصوريّ، نزيل دمشق القَلانسيّ القرشيّ، ثقة، منْ كبار [10] 17/ 1541.

3 -

(عبد العزيز بن محمد) الدراورديّ، أبو محمد الْجُهنيّ مولاهم المدنيّ، صدوقٌ، كَانَ يحدّث منْ كتب غيره، فيخطىء [8] 84/ 101.

4 -

(صفوان بن سُليم) الزهريّ مولاهم، أبو عبد الله المدنيّ، ثقة مفتٍ، عابدٌ، رُمي بالقدر [4] 47/ 59.

5 -

(عطاء بن يسار) الهلاليّ مولى ميمونة، أبو محمد المدنيّ، ثقة فاضل، صاحب مواعظ وعبادة، منْ صغار [3] 64/ 80.

6 -

(أبو سعيد الخدريّ) سعد بن مالك بن سنان رضي الله تعالى عنه 169/ 262. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به المصنّف، وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين منْ عبد العزيز، والباقيان شاميان. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه أبا سعيد رضي الله عنه منْ المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله تعالى عنهما (أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي) وفي رواية الشيخين منْ طريق حميد بن هلال، عن أبي صالح السمّان، قَالَ: رأيت أبا سعيد الخدريّ رضي الله عنه فِي يوم جمعة، يصليّ إلى شيء يستره منْ النَّاس" (فَإِذَا بِابْنٍ لِمَرْوَانَ) بن الحكم، وكان مروان والي المدينة وقتئذ، وسيأتي تسميته عند عبد الرزاق: "داود بن مروان" (يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ) أي بين يدي أبي سعيد رضي الله عنه.

وفي رواية البخاريّ: "فأراد شاب منْ بني أبي معيط"، قَالَ فِي "الفتح": وقع فِي "كتاب الصلاة" لأبي نعيم أنه الوليد بن عقبة بن أبي معيط، أخرجه عن عبد الله بن عامر الأسلمي، عن زيد بن أسلم، قَالَ: بينما أبو سعيد قائم يصلي فِي المسجد، فأقبل الوليد بن عقبة بن أبى معيط، فأراد أن يمر بين يديه، فدفعه، فأبى إلا أن يمر بين يديه، فدفعه"، هَذَا آخر ما أورده منْ هذه القصة.

وفي تفسير الذي وقع فِي "الصحيح" بأنه الوليد هَذَا نظر؛ لأن فيه أنه دخل عَلَى

ص: 328

مروان، زاد الإسماعيلي:"ومروان يومئذ عَلَى المدينة". انتهى. ومروان إنما كَانَ أميرا عَلَى المدينة فِي خلافة معاوية، ولم يكن الوليد حينئذ بالمدينة؛ لأنه لما قُتِل عثمان تحول إلى الجزيرة، فسكنها حَتَّى مات فِي خلافة معاوية، ولم يحضر شيئا منْ الحروب التي كانت بين علي ومن خالفه، وأيضا فلم يكن الوليد يومئذ شابا، بل كَانَ فِي عشر الخمسين، فلعله كَانَ فيه: فأقبل ابن للوليد بن عقبة فيتجه، وروى عبد الرزاق حديث الباب، عن داود بن قيس، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه، فَقَالَ فيه:"إذ جاء شاب"، ولم يسمه أيضا، وعن معمر، عن زيد بن أسلم، وَقَالَ فيه:"فذهب ذو قرابة لمروان"، ومن طريق أبي العلاء فيه عن أبي سعيد:"فَقَالَ فيه مَرَّ رجل بين يديه منْ بني مروان"، وللنسائي منْ وجه آخر:"فمر ابن لمروان" وسماه عبد الرزاق منْ طريق سليمان بن موسى: "داود بن مروان"، ولفظه:"أراد داود بن مروان، أن يمر بين يدي أبي سعيد، ومروان يومئذ أمير المدينة"، فذكر الْحَدِيث، وبذلك جزم ابن الجوزي، ومن تبعه فِي تسمية المبهم الذي فِي "الصحيح" بأنه داود بن مروان.

قَالَ الحافظ: وفيه نظر؛ لأن فيه أنه منْ بني أبي معيط، وليس مروان منْ بنيه، بل أبو معيط ابن عم والد مروان؛ لأنه أبو معيط بن أبي عمرو بن أمية، ووالد مروان هو الحكم ابن أبي العاص بن أمية، وليست أم داود، ولا أم مروان، ولا أم الحكم منْ ولد أبي معيط، فيحتمل أن يكون داود نُسب إلى أبي معيط منْ جهة الرضاعة، أو لكون جده لأمه عثمان بن عفان، كَانَ أخا للوليد بن عقبة بن أبي معيط لأمه، فنُسب داود إليه مجازا، وفيه بُعْدٌ، والأقرب أن تكون الواقعه تعددت لأبي سعيد مع غير واحد، ففي مصنف ابن أبي شيبة منْ وجه آخر، عن أبي سعيد، فِي هذه القصة:"فأراد عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام أن يمر بين يديه"، الْحَدِيث، وعبد الرحمن مخزومي، ما له منْ أبي معيط نسبة. والله أعلم. انتهى "فتح" 2/ 165 - 166.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الحاصل أن الأولى الحمل عَلَى تعدّد الواقعة. والله تعالى أعلم.

(فَدَرَأَهُ) أي دفعه أبو سعيد (فَلَمْ يَرْجِعْ) أي منْ المرور، بل استمرّ عليه؛ لأنه لم يجد ممرًّا غير ذلك الموضع، وفي رواية البخاريّ:"فلم يجد مساغًا"، فنال منْ أبي سعيد" (فَضَرَبَهُ) أي ضرب أبو سعيد ذلك الولد (فَخَرَجَ الْغُلَامُ يَبْكِي، حَتَّى أَتَى مَرْوَانَ) ابن الحكم (فَأَخْبَرَهُ) أي بما فعل به أبو سعيد، منْ الضرب، وفي رواية البخاريّ: "ثم دخل عَلَى مروان، فشكا إليه ما لقِي منْ أبي سعيد، ودخل أبو سعيد خلفه عَلَى مروان، فَقَالَ: ما لك، ولابن أخيك يا أبا سعيد؟ " (فَقَالَ مَرْوَانُ لأَبِي سَعِيدٍ) رضي الله عنه (لِمَ ضَرَبْتَ

ص: 329

ابْنَ أَخِيكَ؟) أطلق الأخوّة باعتبار الإيمان (قَالَ) أبو سعيد (مَا ضَرَبْتُهُ، إِنَّمَا ضَرَبْتُ الشَّيْطَانَ) قَالَ السنديّ: أي ما ضربته، وهو ابن أخي، ولكن ضربته، وهو شيطان، فلا يَرِد أنه لا يصح نفي الحقيقة، فلا يصحّ أن يقول: ما ضربته إلا أن يكون كذبًا. انتهى (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ) وفي رواية البخاريّ: "إذا صلّى أحدكم إلى شيء يستره منْ النَّاس"(فَأَرَادَ إِنْسَانٌ يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ) فيه حذف "أن" المصدريّة، والأصل:"أن يمرّ"، وحذفها، مع رفع الفعل قياس، وليس شاذًّا، كما ادّعاه بعض النحاة؛ لوروده فِي القرآن، قَالَ الله عز وجل:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} الآية [الروم: 24]، وإنما الشاذّ النصب مع الحذف، كما أشار إلى ذلك ابن مالك رحمه الله تعالى فِي "الخلاصة"، حيث قَالَ:

وَشَذَّ حَذْفُ "أَنْ" وَنَصْبٌ فِي سِوَى

مَا مَرَّ فَاقْبَلْ مِنْهُ مَا عَدْلٌ رَوَى

(فَيَدْرَؤُهُ) أي يدفعه (مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ) المراد حقيقة القتال، وَقَدْ تقدم فِي "كتاب الصلاة" 8/ 757 - منْ فسّره بالإشارة، ولطيف المنع، والردُّ، عليه، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وهذا هو محلّ استدلال المصنّف لما ترجم له؛ ووجه ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أمر المصلّي أن يقاتل المارّ، ولم يشترط عليه استئذان السلطان، وهو الذي فهمه أبو سعيد رضي الله عنه راويه، ووافقه عليه مروان، وهو أمير المدينة يومئذ، حيث لم ينكر عليه ضرب ابنه، وإنما سأله عن سبب الضرب، فلما ذكر له الْحَدِيث، سكت، فلم يطالبه، لا بقصاص، ولا بغيره. والله تعالى أعلم.

(فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ") أي فعله فعل الشيطان؛ لأنه أبى إلا التشويش عَلَى المصلي، وإطلاق الشيطان عَلَى المارِدِ منْ الإنس سائغ شائع، وَقَدْ جاء فِي القرآن قوله تعالى:{شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112]، وَقَالَ ابن بطال: فِي هَذَا الْحَدِيث جواز إطلاق لفظ الشيطان عَلَى منْ يفتن فِي الدين، وأن الحكم للمعاني، دون الأسماء لاستحالة أن يصير المار شيطانا بمجرد مروره. انتهى.

قَالَ الحافظ: وهو مبني عَلَى أن لفظ الشيطان، يطلق حقيقة عَلَى الجن، ومجازا عَلَى الإنس، وفيه بحث. ويحتمل أن يكون المعنى: فإنما الحامل له عَلَى ذلك الشيطان، وَقَدْ وقع فِي رواية الإسماعيلي:"فإن معه الشيطان"، ونحوه لمسلم منْ حديث ابن عمر بلفظ:"فإن معه القرين". وَقَدْ تقدّم تمام البحث فِي هَذَا الْحَدِيث فِي "كتاب الصلاة" بالرقم المذكور. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 330

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هَذَا متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم تخريجه فِي "كتاب الصلاة"، بالرقم المذكور. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌48 - (مَا جَاءَ فِي كِتَابِ الْقِصَاصِ مِنَ الْمُجْتَبَى، مِمَّا لَيْسَ فِي السُّنَنِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لم يتبيّن لي إيراد وجه هذه الأحاديث هنا مع أنه أوردها فِي "كتاب تحريم الدم"- باب "تعظيم الدم"، وأيضًا، فمناسبتها لكتاب القصاص غير واضحة، وأيضًا قوله:"مما ليس فِي "السنن"، إن أراد أنها لم تذكر فِي "السنن" هنا فمسلّم، وإن أراد أنها لم تذكر فيها أصلاً، ففيه نظر، فقد ذُكرت فِي الباب المذكور، فليُتأمّل، فالله تعالى أعلم.

(تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النِّساء: 93])

4865 -

(حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَفْظًا، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: أَمَرَنِى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى، أَنْ أَسْأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ}، فَسَأَلْتُهُ؟ فَقَالَ: لَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ، وَعَنْ هَذِهِ الآيَةِ: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68]، قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو عبد الرحمن": هو النسائيّ صاحب الكتاب، وقائل:"حدثنا" تلميذه، والظاهر أنه ابن السني؛ لأنه المشهور برواية السنن الصغرى عن المؤلّف.

وقوله: "لفظا" منصوب عَلَى التمييز، يعني أنه أخذه عنه بالسماع منْ لفظه، لا بالقراءة عليه.

ص: 331

و"محمد": هو ابن جعفر، غندر. و"منصور": هو ابن المعتمر.

والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم سندًا ومتنًا فِي 2/ 4003 وتقدّم البحث عنه هناك مُستَوفًى، فليُراجع. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4866 -

(أَخْبَرَنَا أَزْهَرُ بْنُ جَمِيلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْكُوفَةِ فِي هَذِهِ الآيَةِ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا}، فَرَحَلْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَسَأَلْتُهُ؟ فَقَالَ: نَزَلَتْ فِي آخِرِ مَا أُنْزِلَتْ، وَمَا نَسَخَهَا شَيْءٌ).

"المغيرة بن النعمان": هو النخعيّ الكوفيّ الثقة [6].

والحديث صحيح وَقَدْ تقدّم سندًا ومتنًا فِي 2/ 4001. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4867 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ: هَلْ لِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: لَا، وَقَرَأْتُ عَلَيْهِ الآيَةَ الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ}، قَالَ: هَذِهِ آيَةٌ مَكِّيَّةٌ، نَسَخَتْهَا آيَةٌ مَدَنِيَّةٌ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ}).

"القاسم بن أبي بزّة": هو المكيّ القارىء، ثقة [5].

والحديث تقدّم سندًا ومتنًا فِي 2/ 4002. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4868 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَمَّنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا، ثُمَّ تَابَ، وَآمَنَ، وَعَمِلَ صَالِحًا، ثُمَّ اهْتَدَى؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَنَّى لَهُ التَّوْبَةُ، سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: يَجِيءُ مُتَعَلِّقًا بِالْقَاتِلِ، تَشْخَبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا، يَقُولُ: سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِى؟ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَنْزَلَهَا، وَمَا نَسَخَهَا).

"سفيان ": هو ابن عُيينة. و"عمّارٌ الدهنيّ": هو ابن معاوية البجليّ الكوفيّ، صدوقٌ، يتشيّع [5]. و"سالم بن أبي الجعد/ رافع: هو الغطفانيّ الأشجعيّ الكوفيّ، ثقة يُرسل [3].

وقوله: "يجيء": أي القاتل، كما بُين فِي رواية أخرى. وقوله:"تشخب أوداجه": منْ بابي قتل، ونفع: أي تجري عروقه.

والحديث صحيح وَقَدْ سبق سندًا ومتنًا فِي 2/ 4000 وسبق تمام البحث فيه هناك.

ص: 332

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4869 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ح وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "الْكَبَائِرُ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَقَوْلُ الزُّورِ").

"خالد": هو ابن الحارث الْهُجيميّ. و"عبيد والله بن أبي بكر": هو ابن أنس بن مالك الأنصاريّ البصريّ، ثقة [4].

والحديث متَّفقٌ عليه، وتقدم فِي 2/ 4010 وسبق تمام البحث فيه هناك، وبالله تعالى التوفيق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4870 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا فِرَاسٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "الْكَبَائِرُ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ").

"عبدة بن عبد الرحيم": هو المروزيّ، نزيل دمشق، صدوقٌ، منْ صغار [10] منْ أفراد المصنّف. و"ابن شُميل": هو النضر المتقدّم فيما قبله. و"فِراس": هو ابن يحيى الخارفيّ الهمدانيّ الكوفيّ، صدوقٌ ربما وهِم [6].

وقوله: "واليمين الغَمُوس" -بفتح الغين المعجمة، فَعولٌ للمبالغة: ومعناها: اليمين الكاذبة الفاجرة، كالتي يَقتطع بها الحالف مال غيره ظلمًا، سُمّيت غَموسًا؛ لأنها تغمس صاحبها فِي الإثم، ثم فِي النار.

والحديث أخرجه البخاريّ، وَقَدْ تقدّم فِي 2/ 4011 وسبق شرحه، وبيان مسائله هناك، وبالله تعالى التوفيق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4871 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلاَّمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الأَزْرَقُ، عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَزْنِي الْعَبْدُ حِينَ يَزْنِي، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَقْتُلُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلاَّمٍ) البغداديّ، ثم الطَرَسوسيّ، لا بأس به [11] 172/ 1141.

ص: 333

2 -

(إسحاق الأزرق) إسحاق بن يوسف الواسطيّ، ثقة [9] 22/ 489.

3 -

(الفُضيل بن غَزْوان) أبو الفضل الضبيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة، منْ كبار [7] 44/ 4561.

4 -

(عكرمة) أبو عبد الله البربريّ، مولى ابن عباس، ثقة ثبت [3] 2/ 325.

5 -

(ابن عباس) عبد الله رضي الله تعالى عنهما 27/ 31. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو، وأبو داود. (ومنها): أن فيه ابن عباس أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (1696). والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَزْنِي الْعَبْدُ حِينَ يَزْنِي، وَهُوَ مُؤْمِنٌ) أي متّصفٌ بصفة الإيمان (وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ) أي المال قليلاً كَانَ، أو كثيرًا (وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَقْتُلُ) أي النفس التي حرّم الله تعالى قتلها (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) هَذَا وأمثاله مما حمله العلماء عَلَى التغليظ، والزجر، وعلى كمال الإيمان. وقيل: المراد بالإيمان الحياء؛ لكونه شعبة منْ الإيمان، فالمعنى لا يزني الزاني، وهو يستحيي منْ الله تعالى. وقيل: المراد بالمؤمن ذو الأمن منْ العذاب. وقيل: النفي بمعنى النهي: أي لا ينبغي للزاني أن يزني، والحال أنه مؤمن، فإن مُقتضى إيمانه أن لا يقع فِي مثل هذه الفاحشة.

وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: فِي "شرح صحيح مسلم" 2/ 41: هَذَا الْحَدِيث مما اختلف العلماء فى معناه، فالقول الصحيح الذي قاله المحققون، أن معناه لا يفعل هذه المعاصى، وهو كامل الايمان، وهذا منْ الالفاظ التى تطلق عَلَى نفى الشىء، ويراد نَفْيُ كماله، ومختارِهِ، كما يقال: لا علم إلا ما نفع، ولا مال إلا الابل، ولا عيش إلا عيش الآخرة، وإنما تأولناه عَلَى ما ذكرناه؛ لحديث أبى ذر رضي الله عنه وغيره:"منْ قَالَ: لا اله الا الله، دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق"، وحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الصحيح المشهور: أنهم بايعوه صلى الله عليه وسلم عَلَى أن لا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يعصوا

إلى آخره، ثم قَالَ لهم صلى الله عليه وسلم:"فمن وفى منكم فأجره عَلَى والله، ومن فعل شيئا منْ ذلك، فعوقب فى الدنيا فهو كفارته، ومن فعل، ولم يعاقب، فهو إلى الله تعالى، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه"، فهذان الحديثان مع نظائرهما فى الصحيح، مع قول الله عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية [النِّساء: 48]، مع إجماع أهل

ص: 334

الحق، عَلَى أن الزانى، والسارق، والقاتل، وغيرهم منْ أصحاب الكبائر، غير الشرك، لا يكفرون بذلك، بل هم مؤمنون، ناقصو الإيمان إن تابوا سقطت عقوبتهم، وإن ماتوا مصرين عَلَى الكبائر كانوا فى المشيئة، فإن شاء الله تعالى عفا عنهم، وأدخلهم الجنة أوّلاً، وان شاء عذبهم، ثم أدخلهم الجنة، وكل هذه الأدلة تضطرنا إلى تأويل هَذَا الْحَدِيث وشبهه، ثم إن هَذَا التأويل ظاهر، سائغ فى اللغة، مستعمل فيها، كثير، وإذا ورد حديثان مختلفان ظاهرا، وجب الجمع بينهما، وَقَدْ وردا هنا، فيجب الجمع، وَقَدْ جمعنا.

وتأول بعض العلماء هَذَا الْحَدِيث، عَلَى منْ فعل ذلك مستحلا له، مع علمه بورود الشرع بتحريمه. وَقَالَ الحسن، وأبو جعفر، محمد بن جرير الطبرى: معناه يُنزع منه اسم المدح الذى يسمى به أولياء الله المؤمنون، ويستحق اسم الذم، فيقال سارق، وزان، وفاجر، وفاسق. وحكى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن معناه يُنزع منه نور الإيمان، وفيه حديث مرفوع. وَقَالَ المهلب: ينزع منه بصيرته فى طاعة الله تعالى. وذهب الزهرى إلى أن هذه الأحاديث، وما أشبهها يؤمن بها، وتُمرّ عَلَى ما جاءت، ولا يخاض فى معناها، وأنا لا نعلم معناها، وَقَالَ أَمِرّوها كما أمرها مَن قبلكم. وقيل فى معنى الْحَدِيث: غير ما ذكرته مما ليس بظاهر، بل بعضها غلط، فتركتها، وهذه الأقوال التى ذكرتها فى تأويله كلها محتملة، والصحيح فى معنى الْحَدِيث ما قدمناه أوّلا. والله أعلم. انتهى كلام النوويّ.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: بل أصحّ التأويلات هو تأويل ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما؛ لثبوته مرفوعًا، وسيأتي تمام البحث فِي ذلك فِي شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هَذَا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -45/ 4871 - وأخرجه (خ) فِي "الحدود" 6782 و6809. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): تحريم الزنى، وأنه مما يُنافي حقيقة الإيمان، إذ هو منْ الفواحش، كما قَالَ

ص: 335

الله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]. (ومنها): تحريم شُرب الخمر؛ لأنها أم الخبائث، تجرّ إلى كلّ رَذِيلة. (ومنها): تحريم السرقة. (ومنها): تحريم قتل النفس التي حرّمها الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌45 - (كِتَابُ قَطْعِ السَّارِقِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: مناسبة هَذَا الكتاب للكتاب الماضي واضحة.

وإضافة "كتاب" إلى "قطع" بمعنى اللام، وإضافة "قطع" إلى "السارق" منْ إضافة المصدر إلى مفعوله بعد حذف فاعله: أي هَذَا كتاب لبيان الأحاديث التي تبيّن حكم قطع الحاكم السارقَ.

و"السارق": اسم فاعل، منْ سرَق مالاً يسرِقه، منْ باب ضرب، وسرق منه مالاً، يتعدّى إلى الأول بنفسه، وبالحرف عَلَى الزيادة، والمصدرُ سَرَقٌ -بفتحتين-، والاسم السِّرِقُ بكسر الراء، والسَّرِقة مثله، وتخفّف، مثل كلمة، ويُسمّى المسروق سَرِقَةُ، تسميةً بالمصدر. قاله الفيّوميّ.

وَقَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: السرِقةُ، والسّرِق -بكسر الراء فيهما-: هو اسم الشيء المسروق، والمصدرُ، منْ سَرَقَ يَسْرِقُ سَرَقًا -بفتح الراء- كذا قاله الجوهريّ. وأصل هَذَا اللفظ إنما هو أخذ الشيء فِي خفية، ومنه استرق السمع، وسَارَقَهُ النظرَ. قَالَ ابن عَرَفة: السارق عند العرب هو منْ جاء مستترًا إلى حرز، فأخذ منه ما ليس له، فإن أخذ منْ ظاهر، فهو مختلسٌ، ومُستلبٌ، ومُنتهبٌ، ومُحترسٌ، فإن منع مما فِي يده، فهو غاصبٌ له.

قَالَ القرطبيّ: وهذا الذي قاله ابنُ عرفة هو السارق فِي عُرف الشرع.

ويستدعي النظر فِي هَذَا الباب النظرَ فِي السارق، والمسروق منه، والشيء المسروق، وحكم السارق، ولا خلاف فِي أن السارق إذا كملت شروطه، يُقطع، دون الغاصب، والمختلسِ، والخائن، وفيمن يستعير المتاع، فيجحده خلافٌ شاذٌّ، حُكي عن أحمد، وإسحاق، فقالا: يُقطع، والسلف، والخلف عَلَى خلافهما، وسيأتي القول فيه فِي حديث المخزوميّة.

ص: 336

وإنما خصّ الشرع القطع بالسارق؛ لأن أخذ الشيء مُجاهرةً يُمكن أن يُسترجع منه غالباً، والخائن مكّنه ربّ الشيء منه، وكان ممكنًا منْ الاستيثاق بالبيّنة، وكذلك المعير، ولا يُمكن شيء منْ ذلك فِي السرقة، فبالغ الشرع فِي الزجر عنها.

وَقَدْ أجمع المسلمون عَلَى أن اليمنى تُقطع إذا وُجدت؛ لأنها الأصل فِي محاولة كلّ الأعمال. انتهى "المفهم" 5/ 70 - 71.

وَقَالَ فِي "الفتح": عند قول البخاريّ: "باب قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} الآية [المائدة: 38]: ما نصّه: كذا أطلق فِي الآية اليد، وأجمعوا عَلَى أن المراد اليمنى إن كانت موجودة، واختلفوا فيما لو قُطعت الشمال عمدا أو خطأ، هل يجزىء، وقدم السارق عَلَى السارقة، وقدمت الزانية عَلَى الزاني؛ لوجود السرقة غالبا فِي الذكورية، ولأن داعية الزنا فِي الإناث أكثر؛ ولأن الأنثى سبب فِي وقوع الزنا، إذ لا يتأتى غالبا إلا بطواعيتها.

وقوله بصيغة الجمع، ثم التثنية إشارة إلى أن المراد جنس السارق، فلوحظ فيه المعنى، فجمع، والتثنية بالنظر إلى الجنسين المتلفظ بهما.

والسرقة -بفتح السين، وكسر الراء، ويجوز إسكانها، ويجوز كسر أوله، وسكون ثانيه-: الأخذ خفية، وعُرفت فِي الشرع بأخذ شيء خفية، ليس للآخذ أخذه، ومَن اشترط الحرز وهم الجمهور، زاد فيه:"منْ حرز مثله"، قَالَ ابن بطال: الحرز مستفاد منْ معنى السرقة، يعني فِي اللغة.

ويقال لسارق الإبل: الخارب -بخاء معجمة- وللسارق بالمكيال: مطفف، وللسارق فِي الميزان: مخسر فِي أشياء أخرى ذكرها ابن خالويه فِي "كتاب ليس".

قَالَ المازري، ومن تبعه: صان الله الأموال بإيجاب قطع سارقها، وخص السرقة لقلة ما عداها بالنسبة إليها، منْ الانتهاب، والغصب، ولسهولة إقامة البينة عَلَى ما عدا السرقة بخلافها، وشدد العقوبة فيها؛ ليكون أبلغ فِي الزجر، ولم يجعل دية الجناية عَلَى العضو المقطوع منها، بقدر ما يقطع فيه؛ حماية لليد، ثم لما خانت هانت، وفي ذلك إشارة إلى الشبهه التي نُسبت إلى أبي العلاء المْعَرَيِّ فِي قوله [منْ البسيط]:

يَدٌ بِخَمْسِ مِئِينَ عَسْجَدٍ وُدِيَتْ

مَا بَالُهَا قُطِعَتْ فِي رُبْعِ دِينَارِ

فأجابه القاضي عبد الوهاب المالكي بقوله [منْ البسيط أيضًا]:

صِيَانَةُ الْعُضْوِ أَغْلَاهَا وَأَرْخَصَهَا

صِيَانَةُ الْمَالِ فَافْهَمْ حِكْمَةَ الْبَارِي

(1)

(1)

وأنشده بعضهم:

عِزُّ الأَمَانَةِ أَغْلَاهَا وَأَرْخَصَهَا

ذُلُّ الْخِيَانَةَ فَافهَمْ حِكْمَةَ الْبَارِي

ص: 337

وشرح ذلك أن الدية لو كانت ربع دينار، لكثرت الجنايات عَلَى الأيدي، ولو كَانَ نصاب القطع خمسمائة دينار، لكثرت الجنايات عَلَى الأموال، فظهرت الحكمة فِي الجانبين، وكان فِي ذلك صيانة منْ الطرفين.

وَقَدْ عسر فهم المعنى المقدم ذكره فِي الفرق بين السرقة، وبين النهب ونحوه، عَلَى بعض منكري القياس، فَقَالَ: القطع فِي السرقة دون الغصب وغيره، غير معقول المعنى، فإن الغصب أكثر هتكا للحرمة منْ السرقة، فدل عَلَى عدم اعتبار القياس، لأنه إذا لم يعمل به فِي الأعلى، فلا يعمل به فِي المساوي.

وجوابه أن الأدلة عَلَى العمل بالقياس أشهر منْ أن يُتَكلَّف لإيرادها. انتهى "فتح" 14/ 51 - 52.

وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: قَالَ القاضي عياضٌ رحمه الله تعالى: صان الله تعالى الأموال بإيجاب القطع عَلَى السارق، ولم يجعل ذلك فِي غير السرقة، كلاختلاس، والانتهاب، والغصب؛ لأن ذلك قليلٌ بالنسبة إلى السرقة، ولأنه يمكن استرجاع هَذَا النوع بالاستدعاء إلى ولاة الأمور، وتسهُل إقامة البينة عليه، بخلاف السرقة، فإنه تندر إقامة البينة عليها، فعظم أمرها، واشتدّت عقوبتها؛ ليكون أبلغ فِي الزجر عنها. وَقَدْ أجمع المسلمون عَلَى قطع السارق فِي الجملة، وإن اختلفوا فِي فروع منه. انتهى "شرح مسلم" 12/ 181.

وَقَالَ الموّفقٌ رحمه الله تعالى: الأصل فِي القطع فِي السرقة: الكتاب، والسنة، والإجماع، أما الكتاب: فقول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، وأما السنة: فرَوت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"تقطع اليد فِي ربع دينار فصاعدا"، وَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنما هلك منْ كَانَ قبلكم بأنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه"، متَّفقٌ عليهما، فِي أخبار سوى هذين، نذكرها إن شاء الله فِي مواضعها. وأجمع المسلمون عَلَى وجوب قطع السارق فِي الجملة. انتهى "المغني" 12/ 415.

(اعلم): أنه لا يجب القطع -كما قَالَ الموفّق- إلا بشروط سبعة: [أحدها]: السرقة، ومعنى السرقة أخذ المال، عَلَى وجه الخفية والاستتار، ومنه استراق السمع، ومسارقة النظر، إذا كَانَ يستخفي بذلك، فإن اختطف، أو اختلس، لم يكن سارقا، ولا قطع عليه، عند أحد علمناه، غير إياس بن معاوية، قَالَ: أقطع المختلس؛ لأنه يستخفي بأخذه، فيكون سارقا، وأهل الفقه والفتوى منْ علماء الأمصار عَلَى خلافه، وَقَدْ رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قَالَ:"ليس عَلَى الخائن، ولا المختلس قطع"، وعن جابر رضي الله عنه-

ص: 338

قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس عَلَى المنتهب قطع"، رواهما أبو داود، وَقَالَ: لم يسمعهما ابن جريج منْ أبي الزبير، ولأن الواجب قطع السارق، وهذا غير سارق، ولأن الاختلاس نوع منْ الخطف والنهب، وإنما يستخفي فِي ابتداء اختلاسه، بخلاف السارق.

[الثاني]: أن يكون المسروق نصابًا.

[الثالث]: أن يكون المسروق مالاً، فإن سرق ما ليس مالاً كالحرّ، فلا قطع فيه، وفيه اختلاف بين العلماء، سيأتي بيانه، إن شاء الله تعالى.

[الرابع]: أن يسرِق منْ حرز، وُيخرجه منه. [الخامس]، و [السادس]، و [السابع]: كون السارق مكلّفًا، وتثبت السرقة، ويُطالب المالك المسروق، وتنتفي الشبهات. وهذه الشروط فيها اختلاف بين أهل العلم سيأتي تحقيقه فِي المواضع المناسبة لها، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب.

4872 -

(أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ، يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهَا أَبْصَارَهُمْ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ").

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(الربيع بن سليمان) بن عبد الجبّار الْمُراديّ، أبو محمد المصريّ المؤذّن، صاحب الشافعيّ، ثقة [11] 195/ 311.

2 -

(شُعيب بن الليث) الْفهميّ مولاهم، أبو عبد الملك المصريّ، ثقة، فقيهٌ، نبيلٌ، منْ كبار [10] 120/ 166.

3 -

(الليث) بن سعد بن عبد الرحمن الْفهميّ، والد شعيب الراوي عنه، المصريّ، ثقة ثبتٌ فقيه، إمام، مشهورٌ [7] 31/ 35.

4 -

(ابن عَجْلان) هو محمد القرشيّ، مودى فاطمة بنت الوليد، أبو عبد الله المدنيّ، صدُوقٌ، إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه[5] 36/ 40.

5 -

(القعقاع) ابن حكيم الكنانىّ المدنيّ، ثقة [4] 36/ 40.

6 -

(أبو صالح) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقة ثبتٌ [3] 36/ 40.

7 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.

ص: 339

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فمن رجال الأربعة. (ومنها): أنه مسلسل بثقات المصريين إلى الليث، وبالمدنيين بعده، وفيه رواية الابن عن أبيه، شعيب، عن الليث، وفيه ثلاثة منْ التابعين يروي بعضهم عن بعض: ابن عجلان، عن القعقاع، عن أبي صالح، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين منْ الرواية، منْ الصحابة رضي الله عنهم. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنه (عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي، وَهُوَ مُؤْمِنٌ) قَيَّدَ نفيَ الإيمان بحالة ارتكابه لها، ومقتضاه أنه لا يستمر بعد فراغه، وهذا هو الظاهر، ويحتمل أن يكون المعنى: أن زوال ذلك إنما هو إذا أقلع الإقلاع الكلي، وأما لو فرغ، وهو مُصِرّ تلك المعصية، فهو كالمرتكب، فَيَتَّجِهُ أن نفي الإيمان عنه يستمرّ، ويؤيده قول ابن عباس:"فإن تاب عاد إليه"، ولكن أخرج الطبري منْ طريق نافع بن جبير بن مطعم، عن ابن عباس: قَالَ: "لا يزني حين يزني، وهو مؤمن، فإذا زال رجع إليه الإيمان، ليس إذا تاب منه، ولكن إذا تاخر عن العمل به"، ويؤيده أن الْمُصِرَّ، وإن كَانَ إثمه مستمرًّا، لكن ليس إثمة كمن باشر الفعل، كالسرقة مثلاً. قاله فِي "الفتح".

(وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ) أي والحال أنه متّصفٌ بصفة الإيمان (وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا، وَهُوَ مُؤْمِنٌ) قَالَ ابن مالك رحمه الله تعالى: فيه جواز حذف الفاعل، بدلالة الكلام عليه، والتقدير: ولا يشرب الشارب الخمر الخ ولا يرجع الضمير إلى السارق؛ لئلا يختص به، بل هو عام في حق كل منْ شرب، وكذا القول فِي "لا يسرق"، و"لا يقتل"، وفي "لا يغل" يعني فِي الروايات التي ثبت فيها ذلك- ونظير حذف الفاعل بعد النفي، قراءة هشام:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية [آل عمران: 169]-بفتح الياء التحتانية أوَّلَهُ-: أي لا يَحْسَبَنَّ حاسبٌ. انتهى.

(وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً)"النَّهب": الأخذ عَلَى وجه العلانية، والقهر، والغلبة، و"النّهْبة" بالفتح مصدرٌ، وبالضمّ: المال المنهوب، والتوصيف بالشرف باعتبار مُتَعَلَّقِهَا الذي، هو المال، والتوصيف برفع أبصار النَّاس لبيان قسوة قلب فاعلها، وقلّة رحمته، وحيائه. قاله السنديّ.

وَقَالَ فِي "الفتح": "النهبة" -بضم النون، هو المال المنهوب، والمراد به المأخوذ

ص: 340

جهرًا قهرًا، ووقع فِي رواية همام، عند أحمد: "والذي نفس محمد بيده، لا يَنْتَهِبَنَّ أحدُكم نُهْبةً

" الْحَدِيث. قاله فِي "الفتح".

وَقَالَ القرطبيّ: "النُّهبةُ"، و"النُّهْبَى": اسم لما يُنتهب منْ المال: أي يؤخذ منْ غير قسمة، ولا تقدير، ومنه سُمّيت الغنيمة: نُهْبَى، كما قَالَ:"وأصبنا نَهْبَ إبل" متَفقٌ عليه: أي غنيمة إبل؛ لأنها تؤخذ منْ غير تقدير، تقول العرب: أنهب الرجل ماله، ونَهبُوه، وناهبوه. قاله الجوهريّ. انتهى.

(ذَاتَ شَرَفٍ) أي ذات قيمة، وقدر، ورِفْعة، قَالَ القرطبيّ: والرواية الصحيحة بالشين المعجمة، وَقَدْ رواه الحربيّ: سرف بالسين المهملة، وَقَالَ: معناه: ذات مقدار كثير، ينكره النَّاس، كنهب الْفُسّاق فِي الفتن المالَ العظيم، مما يستعظمه النَّاس، بخلاف التمرة، والفلس، وما لا خطر له. انتهى.

وَقَالَ فِي "الفتح": "ذات شرف": أي ذات قدر، حيث يُشرف النَّاس لها، ناظرين إليها، ولهذا وصفها بقوله:"يرفع النَّاس إليه فيها أبصارهم"، ولفظ "شَرَف" وقع فِي معظم الروايات فِي "الصحيحين"، وغيرهما بالشين المعجمة، وقيدها بعض رواة مسلم بالمهملة، وكذا نقل عن إبراهيم الحربي، وهي ترجع إلى التفسير الأول، قاله ابن الصلاح. انتهى "فتح" 14/ 5.

(يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهَا أَبْصَارَهُمْ) أي ينظرون إليها، ويستشرفونها. قَالَ فِي "الفتح": هكذا وقع تقييده بذلك فِي النهبة دون السرقة. قَالَ: وأشار برفع البصر إلى حالة المنهوبين، فإنهم ينظرون إلى منْ يَنهبهم، ولا يقدرون عَلَى دفعه، ولو تضرعوا إليه، ويحتمل أن يكون كناية عن عدم التستر بذلك، فيكون صفة لازمة للنهب، بخلاف السرقة، والاختلاس، فإنه يكون فِي خفية، والانتهاب أشد؛ لما فيه منْ مزيد الجراءة، وعدم المبالاة. (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) تقدم معنى التقييد به قريبًا.

[تنبيه]: زاد الإمام مسلم رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" -بعد أن أخرج الْحَدِيث منْ طريق ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وسعيد بن المسيّب، كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: ما نصّه: قَالَ ابن شهاب: فأخبرنى عبد الملك بن أبى بكر بن عبد الرحمن، أن أبا بكر، كَانَ يحدثهم هؤلاء، عن أبى هريرة، ثم يقولى: وكان أبو هريرة، يُلحِق معهن:"ولا ينتهب نهبة، ذات شرف، يرفع النَّاس إليه فيها أبصارهم، حين ينتهبها، وهو مؤمن".

قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: ظاهر هَذَا الكلام، أن قوله:"ولا ينتهب، إلى آخره"، ليس منْ كلام النبى صلى الله عليه وسلم، بل هو منْ كلام أبى هريرة رضى الله عنه، موقوف عليه،

ص: 341

ولكن جاء فى رواية أخرى، ما يدل عَلَى أنه منْ كلام النبى صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ جمع الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله، فى ذلك كلاما حسنا، فَقَالَ: رَوَى أبو نعيم فى "مستخرجه عَلَى كتاب مسلم" رحمه الله، منْ حديث همام بن منبه هَذَا الْحَدِيث، وفيه:"والذى نفس محمد بيده، لا ينتهب أحدكم"، وهذا مُصَرِّح برفعه إلى النبى صلى الله عليه وسلم، قَالَ: ولم يستغن عن ذكر هَذَا، بأن البخارى رواه منْ حديث الليث بإسناده هَذَا الذى ذكره مسلم عنه، معطوفًا فيه ذكر النبهة عَلَى ما بعد قوله: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم نسقا، منْ غير فصل بقوله: وكان أبو هريرة يُلحِق معهن ذلك، وذلك مراد مسلم رحمه الله بقوله: واقتص الْحَدِيث يَذكُر مع ذكر النبهة، ولم يذكر "ذات شرف"، وإنما لم يكتف بهذا فى الاستدلال عَلَى كون النبهة منْ كلام النبى صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد يُعَدُّ ذلك منْ قبل المدرج فى الْحَدِيث، منْ كلام بعض رواته؛ استدلالاً بقول منْ فَصَلَ، فَقَالَ: وكان أبو هريرة يُلحق معهن، وما رواه أبو نعيم يرتفع عن أن يتطرق إليه هَذَا الاحتمال.

وظهر بذلك أن قول أبى بكر بن عبد الرحمن: وكان أبو هريرة يُلحق معهن

معناه: يلحقها روايةَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا منْ عند نفسه، وكأن أبا بكر خصها بذلك؛ لكونه بلغه أن غيره لا يرويها، ودليل ذلك ما تراه منْ رواية مسلم رحمه الله الْحَدِيث، منْ رواية يونس، وعقيل، عن ابن شهاب، عن أبى سلمة، وابن المسيب، عن أبى هريرة، منْ غير ذكر النهبة.

ثم إن فى رواية عقيل أن ابن شهاب، رَوَى ذكر النهبة عن أبى بكر بن عبد الرحمن نفسه، وفى رواية يونس، عن عبد الملك بن أبى بكر عنه، فكأنه سمع ذلك منْ ابنه عنه، ثم سمعه منه نفسه. انتهى كلام النوويّ "شرح مسلم" 2/ 42 - 43. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -1/ 4872 و4873 و4874 وفي "الأشربة" 42/ 5961 و5662 - وفي "الكبرى" 1/ 7354 و7355 و7356. وأخرجه (خ) فِي "المظالم والغصب" 2475 و"الأشربة" 5578 و"الحدود" 6772 و6810 (م) فِي "الإيمان" 57 (د) فِي "السنة" 4689 (ت) فِي "الإيمان" 2625 (ق) فِي "الفتن" 2936 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 27419 و8678 و8781 و9859 (الدارمي) فِي "الأضاحي" 1910

ص: 342

و"الأشربة"2014. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده

(1)

:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان تعظيم شأن السرقة، وأنها منْ الكبائر؛ لشدّة الوعيد فيها، قَالَ فِي "الفتح" 14/ 8 - : وفي الْحَدِيث تعظيم شأن أخذ حق الغير بغير حق؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أقسم عليه، ولا يُقسِم إلا عَلَى إرادة تأكيد المقسم عليه. انتهى.

(ومنها)؛ أن منْ زنى دخل فِي هَذَا الوعيد، سواء كَانَ بكرا، أو مُحصَنًا، وسواء كَانَ المزني بها أجنبية، أو مَحْرَما، ولا شك أنه فِي حق المحرم أفحش، ومن المتزوج أعظم، ولا يدخل فيه ما يُطلق عليه اسم الزنا، منْ اللمس الْمُحَرَّم، وكذا التقبيل، والنظر؛ لأنها وإن سُمِّيت فِي عرف الشرع زنا، فلا تدخل فِي ذلك؛ لأنها منْ الصغائر، كما قَالَ العلماء ذلك فِي تفسير اللمم فِي قوله تعالى:{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} الآية [النجم: 32].

قَالَ الحافظ: وفيه أن منْ سرق قليلاً أو كثيرًا، وكذا منْ انتهب، أنه يدخل فِي الوعيد، وفيه نظر، فقد شرط بعض العلماء، وهو لبعض الشافعيّة أيضًا فِي كون الغصب كبيرة، أن يكون المغصوب نصابا، وكذا فِي السرقة، وإن كَانَ بعضهم أطلق فيها، فهو محمول عَلَى ما اشتهر أن وجوب القطع فيها متوقف عَلَى وجود النصاب، وإن كَانَ سرقةُ ما دون النصاب حرامًا.

(ومنها): أن فيه أن منْ شرب الخمر، دخل فِي الوعيد المذكور، سواء كَانَ المشروب كثيرا، أم قليلا؛ لأن شرب القليل منْ الخمر معدود منْ الكبائر، وإن كَانَ ما يترتب عَلَى الشرب منْ المحذور، منْ اختلال العقل، أفحش منْ شرب مالا يتغير معه العقل، وعلى القول الذي رجحه النوويّ منْ تأويل نفي الإيمان بنفي كماله، كما سبق، ويأتي أيضًا، لا إشكال فِي شيء منْ ذلك؛ لأن لنقص الكمال مراتب، بعضها أقوى منْ بعض.

(ومنها): أنه استَدَلَّ به منْ قَالَ: إن الانتهاب كله حرام، حَتَّى فيما أذن مالكه، كالنِّثَار فِي العُرْس، ولكن صرح الحسن، والنخغي، وقتادة، فيما أخرجه ابن المنذر عنهم، بأن شرط التحريم أن يكون بغير إذن المالك، وَقَالَ أبو عبيدة: هو كما قالوا، وأما النُّهْبَةُ المختلف فيها، فهو ما أذن فيه صاحبه، وأباحه، وغرضه تساويهم، أو مقاربة التساوي، فإذا كَانَ القوي منهم يغلب الضعيف، ولم تطب نفس صاحبه بذلك، فهو مكروه، وَقَدْ ينتهى إلى التحريم، وَقَدْ صرح المالكية، والشافعية، والجمهور بكراهيته، وممن كرهه

(1)

المراد الفوائد التي اشتمل عليها الحديث بجميع رواياته التي أشرت إليها فِي الشرح، لا خصوص سياق المصنّف، فتنبّه.

ص: 343

منْ الصحابة أبو مسعود البدري رضي الله عنه، ومن التابعين النخعي، وعكرمة، قَالَ ابن المنذر: ولم يكرهوه منْ الجهة المذكورة، بل لكون الأخذ فِي مثل ذلك، إنما يحصل لمن فيه فضل قوة، أو قلة حياء. واحتج الحنفية، ومن وافقهم، بأنه صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الْحَدِيث الذي أخرجه أبو داود، منْ حديث عبد الله بن قرظ: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي البدن التي نحرها: "منْ شاء اقتطع"، واحتجوا أيضا بحديث معاذ رضي الله عنه، رفعه: إنما نهيتكم عن نُهْبَى العساكر، فأما العرسان

(1)

فلا

" الْحَدِيث، وهو حديث ضعيف، فِي سنده ضعف، وانقطاع.

قَالَ ابن المنذر: هي حجة قوية، فِي جواز أخذ ما يُنثَر فِي العرس ونحوه؛ لأن المبيح لهم قد علم اختلاف حالهم فِي الأخذ، كما علم النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، وأذن فيه فِي أخذ البدن التي نحرها، وليس فيها معنى، إلا وهو موجود فِي النثار.

قَالَ الحافظ: بل فيها معنى، ليس فِي غيرها، بالنسبة إلى المأذون لهم، فإنهم كانوا الغاية فِي الورع، والإنصاف، وليس غيرهم فِي ذلك مثلهم. انتهى. "فتح" 14/ 9.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي تعقب به الحافظ كلام الإمام ابن المنذر رحمهما الله تعالى فيه نظر؛ لأنه لو كَانَ المعنى الذي ذكره هو المبيح، لبيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه، وَقَالَ: هَذَا لا يجوز إلا لمن كَانَ عَلَى صفتكم، فلما أطلق، ولم يقيّده علمنا أنه مباح، وَقَدْ مال الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه"، إلى جوازه بإذن المالك، حيث قَالَ فِي "كتاب المظالم":"باب النُّهْبَى بغير إذن صاحبه"، ثم أورد أحاديث النهي عن النهبى، فقد أفاد بتقييده الترجمة أن النهي إذا لم يأذن المالك، وإلا جاز.

والحاصل أن القول بجواز النهبى فِي العرس ونحوه هو الأرجح؛ لما ذُكر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي ذكر أقوال أهل العلم فِي تأويل هَذَا الْحَدِيث:

لقد أجاد الحافظ رحمه الله تعالى فِي تلخيص أقوالهم، وتهذيبها فِي "الفتح"، فَقَالَ: قَالَ الطبري: اختلف الرواة فِي أداء لفظ هَذَا الْحَدِيث، وأنكر بعضهم أن يكون صلى الله عليه وسلم قاله، ثم ذكر الاختلاف فِي تأويله، ومن أقوى ما يُحمَل عَلَى صرفه عن ظاهره، إيجاب الحد فِي الزنا، عَلَى أنحاء مختلفة، فِي حق الحر المحصن، والحر البكر، وفي حق العبد، فلو كَانَ المراد بنفي الإيمان ثبوت الكفر، لاستووا فِي العقوبة؛ لأن المكلفين

(1)

هكذا فِي بعض النسخ بلفظ "العرسان"، وفي بعضها:"الفرسان" بالفاء، ولعل الصواب:"فأما الْعُرس فلا". والله أعلم.

ص: 344

فيما يتعلق بالإيمان والكفر سواء، فلما كَانَ الواجب فيه منْ العقوبة مختلفا، دل عَلَى أن مرتكب ذلك ليس بكافر حقيقة.

وَقَالَ النوويّ: اختلف العلماء فِي معنى هَذَا الْحَدِيث، والصحيح الذي قاله المحققون، أن معناه: لا يفعل هذه المعاصي، وهو كامل الإيمان، هَذَا منْ الألفاظ التي تُطلق عَلَى نفي الشيء، والمراد نفي كماله، كما يقال: لا علم إلا ما نفع، ولا مال إلا الإبل، ولا عيش إلا عيش الآخرة، وإنما تأولناه؛ لحديث أبي ذر رضي الله عنه:"منْ قَالَ لا إله إلا الله، دخل الجنة، وإن زنا وإن سرق"، وحديث عبادة رضي الله عنه الصحيح المشهور: أنهم بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى أن لا يسرقوا، ولا يزنوا

الْحَدِيث، وفي آخره:"ومن فعل شيئا منْ ذلك، فعوقب به فِي الدنيا، فهو كفارة له، ومن لم يعاقب فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه"، فهذا مع قول الله عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية [النِّساء: 48]، مع إجماع أهل السنة عَلَى أن مرتكب الكبائر لا يكفر إلا بالشرك، يَضطَرُّنا إلى تأويل الْحَدِيث إلى آخر كلام النوويّ الذي سبق نقله فِي الباب الماضي.

قَالَ: وَقَدْ ورد فِي تأويله بالمستحلّ حديث مرفوع، عن علي رضي الله عنه عند الطبراني فِي "الصغير"، لكن فِي سنده راو كذبوه.

فمن الأقوال التي لم يذكرها: ما أخرجه الطبري، منْ طريق محمد بن زيد بن واقد ابن عبد الله بن عمر: أنه خبر بمعنى النهي، والمعنى: لا يَزْنِيَنَّ مؤمن، ولا يَسْرِقَنَّ مؤمن. وَقَالَ الخطّابيّ: كَانَ بعضهم يرويه: "ولا يشرب" بكسر الباء عَلَى معنى النهي، والمعنى: المؤمن لا ينبغي له أن يفعل ذلك، ورد بعضهم هَذَا القول بأنه لا يبقى للتقييد بالظرف فائدة، فإن الزنا منهي عنه فِي جميع الملل، وليس مختصا بالمؤمنين.

قَالَ الحافظ: وفي هَذَا الرد نظر واضح لمن تأمله.

[ثانيها]: أن يكون بذلك منافقا، نفاق معصية، لا نفاق كفر، حكاه ابن بطال عن الأوزاعي.

[ثالثها]: أن معنى نفي كونه مؤمنا، أنه شابه الكافر فِي عمله، وموقع التشبيه أنه مثله فِي جواز قتله، فِي تلك الحالة؛ ليكف عن المعصية، ولو أَدَّى إلى قتله، فإنه لو قتل فِي تلك الحالة، كَانَ دمه هدرا، فانتفت فائدة الإيمان فِي حقه، بالنسبة إلى زوال عصمته فِي تلك الحالة، وهذا يقوي ما تقدم منْ التقييد بحالة التلبس بالمعصية.

[رابعها]: معنى قوله: ليس بمؤمن: أي ليس بمستحضر فِي حالة تلبسه بالكبيرة جلال منْ آمن به، فهو كناية عن الغفلة، التي جلبتها له غلبة الشهوة، وعبر عن هَذَا ابن الجوزي بقوله: فإن المعصية تُذهله عن مراعاة الإيمان، وهو تصديق القلب، فكانه

ص: 345

نسي مَن صَدَّق به، قَالَ ذلك فِي تفسير نزع نور الإيمان، ولعل هَذَا هو مراد المهلب.

[خامسها]: معنى نفي الإيمان نفي الأمان منْ عذاب الله؛ لأن الإيمان مشتق منْ الأمن. [سادسها]: أن المراد به الزجر والتنفير، ولا يراد ظاهره، وَقَدْ أشار إلى ذلك الطيبي، فَقَالَ: يجوز أن يكون منْ باب التغليظ والتهديد، كقوله تعالى:{وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} : يعني أن هذه الخصال ليست منْ صفات المؤمن؛ لأنها منافية لحاله، فلا ينبغي أن يتصف بها.

[سابعها]: أنه يسلب الإيمان حال تلبسه بالكبيرة، فإذا فارقها عاد إليه، وهو ظاهر ما أسنده البخاريّ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فِي باب "إثم الزناة" منْ "كتاب المحاربين" عن عكرمة عنه، بنحو حديث الباب، قَالَ عكرمة: قلت لابن عباس: كيف يُنزع منه الإيمان؟ قَالَ: هكذا، وشَبَّك بين أصابعه، ثم أخرجها، فإذا تاب عاد إليه، هكذا.

ثم شبك بين أصابعه، وجاء مثل هَذَا مرفوعا، أخرجه أبو داود، والحاكم بسند صحيح، منْ طريق سعد المقبري، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه رفعه:"إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان، فكان عليه كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه الإيمان"، وأخرج الحاكم منْ طريق بن حُجَيرة، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول:"منْ زنى، أو شرب الخمر، نزع الله منه الإيمان، كما يَخْلَع الإنسان القميص منْ رأسه"

(1)

، وأخرج الطبراني بسند جيد، منْ رواية رجل منْ الصحابة، لم يُسَمَّ رفعه:"منْ زنى خرج منه الإيمان، فإن تاب تاب الله عليه"، وأخرج الطبري، منْ طريق عبد الله بن رواحة رضي الله عنه:"مَثَلُ الإيمان مثل قميص، بينما أنت مُدبر عنه إذ لبسته، وبينما أنت قد لبسته إذ نزعته".

قَالَ ابن بطال: وبيان ذلك أن الإيمان هو التصديق، غير أن للتصديق معنيين:[أحدهما]: قول، والآخر عمل، فإذا رَكِب المصدق كبيرة، فارقه اسم الإيمان، فإذا كَفَّ عنها عاد له الاسم؛ لأنه فِي حال كفه عن الكبيرة، مجتنب بلسانه، ولسانه مصدق عقد قلبه، وذلك معنى الإيمان.

قَالَ الحافظ: وهذا القول قد يلاقي ما أشار اليه النوويّ، فيما نقله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما:"يُنزع منه نور الإيمان"؛ لأنه يُحمَل منه عَلَى أن المراد فِي هذه الأحاديث نور الإيمان، وهو عبارة عن فائدة التصديق، وثمرته، وهو العمل بمقتضاه، ويمكن رد هَذَا القول إلى القول الذي رجحه النوويّ، فقد قَالَ ابن بطال فِي آخر كلامه،

(1)

ضعيف، انظر "السلسة الضعيفة" 3/ 434 رقم 1274.

ص: 346

تبعا للطبري: الصواب عندنا قول منْ قَالَ: يزول عنه اسم الإيمان، الذي هو بمعنى المدح، إلى الاسم الذي بمعنى الذم، فيقال: له فاسق مثلا، ولا خلاف أنه يُسَمَّى بذلك ما لم تظهر منه التوبة، فالزائل عنه حينئذ اسم الإيمان بالإطلاق، والثابت له اسم الإيمان بالتقييد، فيقال: هو مصدق بالله ورسوله، لفظا واعتقادا، لا عملا، ومن ذلك الكف عن المحرمات.

قَالَ الحافظ: وأظن ابن بطال تلقى ذلك منْ ابن حزم، فإنه قَالَ: المعتمد عليه عند أهل السنة، أن الإيمان اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالجوارح، وهو يشمل عمل الطاعة، والكف عن المعصية، فالمرتكب لبعض ما ذُكر لم يختل اعتقاده، ولا نطقه، بل اختلت طاعته فقط، فليس بمؤمن، بمعنى أنه ليس بمطيع، فمعنى نفي الإيمان محمول عَلَى الإنذار بزواله، ممن اعتاد ذلك؛ لأنه يُخشَى عليه أن يُفْضِي به إلى الكفر، وهو كقوله: "ومن يَرتَع حول الحمى

" الْحَدِيث، أشار اليه الخطّابيّ. وَقَدْ أشار المازري إلى أن القول المصحح هنا، مبني عَلَى قول مَن يرى أن الطاعات تسمى إيمانا.

قَالَ الحافظ: والعجب منْ النوويّ، كيف جزم بأن فِي التأويل المنقول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حديثا مرفوعا، ثم صحح غيره، فلعله لم يطلع عَلَى صحته، وَقَدْ قدمتُ أنه يمكن رده إلى القول الذي صححه.

وَقَالَ الطيبي: يحتمل أن يكون الذي نقص منْ إيمان المذكور الحياءُ، وهو المعبر عنه فِي الْحَدِيث الآخر بالنور، وَقَدْ مضى أن الحياء منْ الإيمان، فيكون التقدير: لا يزني حين يزني، وهو يستحي منْ الله؛ لأنه لو استحى منه، وهو يَعرف أنه مشاهد حاله، لم يرتكب ذلك، وإلى ذلك تصح إشارة ابن عباس بتشبيك أصابعه، ثم إخراجها منها، ثم إعادتها إليها، ويعضده حديث:"منْ استحى منْ الله حق الحياء، فليحفظ الرأس، وما وعى، والبطن، وما حوى"

(1)

. انتهى.

قَالَ الحافظ: وحاصل ما اجتمع لنا منْ الأقوال فِي معنى هَذَا الْحَدِيث ثلاثة عشر قولاً، خارجا عن قول الخوارج، وعن قول المعتزلة، وَقَدْ أشرت إلى بعض الأقوال المنسوبهَ لأهل السنة، يمكن رد بعضها إلى بعض.

قَالَ المازري: هذه التأويلات تَدفع قول الخوارج، ومن وافقهم منْ الرافضة، أن

(1)

رواه الطبراني، وأبو نعيم فِي "الحلية" منْ حديث الحكيم بن عمير بلفظ:"استحيوا منْ الله حق الحياء، احفظوا الرأس، وما حوى، والبطن، وما وعى، واذكروا الموت والبلا، فمن فعل ذلك كَانَ ثوابه جنة المأوى". وهو ضعيف جدًّا، انظر "ضعيف الجامع الصغير" للشيخ الألباني رحمه الله تعالى ص 116 رقم الْحَدِيث 805.

ص: 347

مرتكب الكبيرة كافر، مخلد فِي النار، إذا مات منْ غير توبة، وكذا قول المعتزلة: إنه فاسق مخلد فِي النار، فإن الطوائف المذكورين تعلقوا بهذا الْحَدِيث، وشبهه، وإذا احتمل ما قلناه، اندفعت حجتهم.

قَالَ القاضي عياض: أشار بعض العلماء، إلى أن فِي الْحَدِيث تنبيها عَلَى جميع أنواع المعاصي، والتحذير منها، فنبه بالزنا عَلَى جميع الشهوات، وبالسرقة عَلَى الرغبة فِي الدنيا، والحرص عدى الحرام، وبالخمر على جميع ما يَصُدُ عن الله تعالى، ويوجب الغفلة عن حقوقه، وبالانتهاب الموصوف عَلَى الاستخفاف بعباد الله، وترك توقيرهم، والحياء منهم، وعلى جمع الدنيا منْ غير وجهها.

وَقَالَ القرطبيّ بعد أن ذكره ملخصا: وهذا لا يتمشى إلا مع المسامحة، والأولى أن يقال: إن الْحَدِيث يتضمن التحرز منْ ثلاثة أمور، هى منْ أعظم أصول المفاسد، وأضدادها منْ أصول المصالح، وهى استباحة الفروج المحرمة، وما يؤدى إلى اختلال العقل، وخص الخمر بالذكر؛ لكونها أغلب الوجوه فِي ذلك، والسرقة بالذكر؛ لكونها أغلب الوجوه التي يؤخذ بها مال الغير بغير حق.

قَالَ الحافظ: وأشار بذلك إلى أن عموم ما ذكره الأول، يشمل الكبائر والصغائر، وليست الصغائر مرادة هنا؛ لأنها تُكَفَّر باجتناب الكبائر، فلا يقع الوعيد عليها، بمثل التشديد الذي فِي هَذَا الْحَدِيث. انتهى ما لَخّصه الحافظ رحمه الله تعالى فِي "الفتح" 14/ 6 - 8.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي لَخّص فيه الحافظ رحمه الله تعالى أقوال أهل العلم فِي تأويل حديث الباب نفيسٌ جدًّا، ويتضح منه أن أحسن التأويل هو ما نُقل عن حبر الأمة، وبحرها، وترجمان القرآن عبد الله بن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، وهو أنه يُنزع منه نور الإيمان، وَقَدْ أوضح كيفيّة نزعه لَمّا سأله عكرمة بأن شبّك أصابه، وأخرجها، ثم أعادها؛ لأنه ورد مرفوعاً، وخير ما فُسر به الوارد هو الوارد، ولأنه تفسير صحابي، وهو الراوي له، قَالَ فِي "ألفية الأثر":

وَخَيْرُهُ مَا جَاءَ مِنْ طَرِيقٍ أَوْ

عَنِ الصَّحَابِيِّ وَرَاوٍ قَدْ حَكَوْا

وَقَدْ صحّ، كما سبق حديث أبي هريرة رضي الله عنه رفعه:"إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان، فكان عليه كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه الإيمان"، فلا تفسير أحسن منْ تفسير حديثه صلى الله عليه وسلم بحديثه، قَالَ الله عز وجل:{وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]، و"صاحب البيت أدرى بما فيه". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 348

4873 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ ح وَأَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَيَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ أَحْمَدُ فِي حَدِيثِهِ: قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، ثُمَّ التَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "ابن أبي عديّ": هو محمد بن إبراهيم. و"سليمان": هو الأعمش المذكور فِي السند التالي. و"أحمد بن سيّار" بن أيوب، أبو الحسن المروزيّ الفقيه، ثقة حافظ [11].

رَوَى عن عفان، وعبدان، وسليمان بن حرب، ويحيى بن بكير، وغيرهم. وعنه النسائيّ، والبخاري فِي غير "الجامع"، وَقَدْ رَوَى فِي "الجامع" عن أحمد غير منسوب، عن محمد بن أبي بكر المقدّمي، فقيل: هو هو، وأبو عَمْرو المستملى، وابن أبي داود، ومحمد بن نصر الفقيه، وابن صاعد، ومحمد بن المنذر شَكَّر، وأبو العبّاس المحبوبي، وحاجب الطوسي، وغيرهم.

قَالَ النسائيّ: ثقة، وفي موضع آخر: لا بأس به. وَقَالَ ابن أبي حاتم: رأيت أبي يُطنِب فِي مدحه، وذكره بالفقه والعلم. وَقَالَ الدارقطنيّ: رحل إلى الشام، ومصر، وصنف، وله كتاب فِي أخبار مرو، وهو ثقة فِي الْحَدِيث. وَقَالَ ابن أبي داود: كَانَ منْ حفاظ الْحَدِيث.

وَقَالَ ابن الْبَيِّع: حدثني بعض مشايخنا بمرو، أنه كَانَ يُقاس بابن المبارك فِي عصره. وَقَالَ ابن حبّان فِي "الثقات": كَانَ منْ الجَمَّاعين للحديث، والرحالين فيه، مع التيقظ، والإتقان، والذب عن المذهب، والتضييق عَلَى أهل البدع. انتهى. وهو أحد منْ أدخل فقه الشافعيّ عَلَى خراسان، أخذه عن الربيع وغيره، وله "كتاب فتوح خراسان". وَقَالَ ابن عساكر: كانت له رحلة واسعة. وَقَالَ الحربي: كنا نعرفه بالفضل والورع، تُوفي (268) ليلة الاثنين النصف منْ شهر ربيع الآخر. وذكر ابن ماكولا أنه عاش سبعين سنة وثلاثة أشهر.

تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.

و"عبد الله بن عثمان": هو ابن جَبَلَة بن أبي رَوّاد الْعَتَكيّ، أبو عبد الرحمن المروزيّ المعروف بـ"عبدان"، ثقة حافظ [10] 6/ 4022. و"أبو حمزة": هو السّكّريّ، محمد ابن ميمون المروزيّ، ثقة فاضل [7] 22/ 206.

وقوله: "وَقَالَ أحمد الخ": بيّن به اختلاف ألفاظ شيخيه، فمحمد بن المثنّى قَالَ:

ص: 349

"عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وأحمد قَالَ:"عن أبي هريرة، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وقوله: "ولا يسرق الخ": تقدّم أن فاعله ليس ضمير "الزاني"، وإنما هو محذوفٌ: أي لا يسرق السارق، وهكذا قوله:"ولا يشرب الخمر": أي لا يشرب الشارب.

وقوله: "والتوبة معروضة بعدُ": أي الرجوع إلى الله تعالى بعد هذه الجرائم مهيّأةٌ، وميسّرة لمن أرادها، يقال: عرض لك الخير منْ باب ضرب: إذا أمكنك أن تفعله، كما فِي "المصباح". يعني أن منْ تاب إلى الله سبحانه وتعالى بشروط التوبة، بعد أن يرتكب شيئا منْ هذه الذنوب، فإن الله تعالى يقبله، كما أخبر تعالى بقوله عز وجل:{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى: 25]، وَقَالَ عز وجل:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53].

وشروط التوية: هي الإقلاع عن المعصية، والندم عَلَى فعلها، والعزم أن لا يعود إليها، وإن كانت منْ حقوق العباد، ردها إليهم، أو استحلّهم منها.

وَقَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: هَذَا منه صلى الله عليه وسلم إرشاد لمن وقع فِي كبيرة، أو كبائر إلى الطريق التي بها يتخلّص، وهي التوبة، ومعنى كونها معروضةً: أي عرضَها الله تعالى عَلَى العباد، حيث أمرهم بها،، وأوجبها عليهم، وأخبر عن نفسه أنه تعالى يقبلها، كلُّ ذلك فضلٌ منْ الله تعالى، ولُطفٌ بالعبد، لَمَّا علم الله تعالى منْ ضعفه عن مقاومة الحوامل عَلَى المخالفات التي هي النفس، والهوى، والشيطان الإنسيّ، والجنّيّ، فلما علم الله تعالى أنه يقع فِي المخالفات، رحمه بأن أرشده إلى التوبة، فعرضها عليه، وأوجبها، وأخبر بقبولها، وأيضًا فإنه يجب عَلَى النصحاء أن يَعرِضوها عَلَى أهل المعاصي، ويُعرّفونهم بها، ويوجبونها عليهم، وبعقوبة الله تعالى لمن تركها، وذلك كله لُطْفٌ متّصلٌ إلى طلوع الشمس منْ مغربها، أو إلى أن يُغرغر العبد.

وقوله: "بَعدُ" ظرف مبنيّ عَلَى الضمّ؛ لقطعه عن الإضافة لفظًا، وإرادة المصاف إليه ضمنًا، ويُقابلها "قبلُ"، كما قَالَ الله تعالى:{لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} الآية [الروم: 4]. انتهى "المفهم" 1/ 248.

وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: وَقَدْ أجمع العلماء رحمهم الله تعالى على قبول التوبة، ما لم يغرغر، كما جاء فِي الْحَدِيث، وللتوبة ثلاثة أركان: أن يُقلع عن المعصية، ويندم عَلَى فعلها، ويعزم أن لا يعود إليها، فإن تاب منْ ذنب، ثم عاد إليه لم تبطل توبته، وإن تاب منْ ذنب، وهو متلبّسٌ بآخر، صحّت توبته، هَذَا مذهب أهل

ص: 350

الحقّ، وخالفت المعتزلة فِي المسألتين. والله أعلم. انتهى "شرح مسلم" 2/ 45.

والحديث متَّفقٌ عليه، كما سبق بيانه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4874 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْمَرْوَزِيُّ، أَبُو عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ يَزِيدَ -وَهُوَ ابْنُ أَبِي زِيَادٍ- عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَذَكَرَ رَابِعَةً فَنَسِيتُهَا، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن يحيى، أبو عليّ المروزيّ": هو اليشكُريّ الصائغ، ثقة [11] 53/ 3524.

و"يزيد بن أبي زياد" القرشي الهاشمي مولاهم، أبو عبد الله الكوفيّ، ضعيفٌ، كبر، فتغيّر، وصار يتلقّن، وكان شيعيًّا [5].

رَأى أنسا، ورَوَى عن مولاه عبد الله بن الحارث بن نوفل، وإبراهيم النخعي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الرحمن بن أبي نعم، وأبي صالح السمان، وعبد الله بن معقل بن مقرن، وجماعة. وعنه إسماعيل بن أبي خالد، وهو منْ أقرانه، وزائدة، وشعبة، وزهير بن معاوية، وعبد العزيز بن مسلم، وهشيم، وأبو عوانة، وآخرون.

قَالَ النضر بن شميل، عن شعبة: كَانَ رَفّاعا. وَقَالَ علي بن المنذر، عن ابن فضيل: كَانَ منْ أئمة الشيعة الكبار. وَقَالَ عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ليس حديثه بذاك، وَقَالَ مرة: ليس بالحافظ. وَقَالَ عثمان الدارمي، عن ابن معين: ليس بالقوي. وَقَالَ أبو يعلى الموصلي، عن ابن معين: ضعيف، قيل له: أيما أحب إليك، هو أو عطاء بن السائب؟ فَقَالَ: ما أقربهما. وَقَالَ عثمان بن أبي شيبة، عن جرير: كَانَ أحسن حفظا منْ عطاء. وَقَالَ العجليّ: جائز الْحَدِيث، وكان بآخره يُلَقَّن، وأخوه بُرْد بن أبي زياد ثقة، وهو أرفع منْ أخيه يزيد. وَقَالَ أحمد بن سنان القطّان، عن ابن مهدي: ليث بن أبي سليم، وعطاء بن السائب، ويزيد بن أبي زياد، ليث أحسنهم حالا عندي. وَقَالَ أبو زرعة: لين يكتب حديثه، ولا يحتج به. وَقَالَ أبو حاتم: ليس بالقوي. وَقَالَ الجوزجاني: سمعتهم يضعفون حديثه. وَقَالَ الآجري، عن أبي داود: لا أعلم أحدا ترك حديثه، وغيره أحب إلي منه. وَقَالَ ابن عدي: هو منْ شيعة الكوفة، ومع ضعفه يكتب حديثه. وَقَالَ ابن المبارك: ارْمِ به.

ص: 351

قَالَ الحافظ: كذا هو فِي "تاريخه"، ووقع فِي أصل المزي: أَكْرِم به، وهو تحريف، وَقَدْ نقله عَلَى الصواب أبو محمد بن حزم فِي "المحلي"، وأبو الفرج بن الجوزي فِي "الضعفاء" له. وَقَالَ وكيع: يزيد بن أبي زياد، عن إبراهيم بن علقمة، عن عبد الله، حديث الرايات ليس بشيء. وَقَالَ أبو أسامة: لو حلف لي خمسين يمينا قسامة، ما صدقته يعني فِي هَذَا الْحَدِيث-. وَقَالَ الحاكم، أبو أحمد: أبو عبد الله يزيد ابن أبي زياد ليس بالقوي عندهم. وَقَالَ يعقوب بن سفيان: ويزيد وإن كانوا يتكلمون فيه لتغيره، فهو عَلَى العدالة والثقة، وإن لم يكن مثل الحكم، ومنصور. وَقَالَ ابن شاهين فِي "الثقات": قَالَ أحمد بن صالح المصريّ: يزيد بن أبي زياد ثقة، ولا يعجبني قول منْ تكلم فيه. وَقَالَ ابن سعد: كَانَ ثقة فِي نفسه، إلا أنه اختلط فِي آخر عمره، فجاء بالعجائب. وَقَالَ البرديجي: رَوَى عن مجاهد، وفي سماعه منه نظر، وليس هو بالقوي. وَقَالَ ابن خزيمة: فِي القلب منه شيء. وَقَالَ النسائيّ: ليس بالقوي. وَقَالَ الدارقطنيّ: لا يخرج عنه فِي الصحيح، ضعيف، يخطىء كثيرًا، ويُلَقَّن إذا لُقِّن.

وَقَالَ ابن حبّان: كَانَ صدوقا، إلا أنه لما كبر ساء حفظه وتغير. وكان يُلَقَّن ما لُقِّن، فوقعت المناكير فِي حديثه، فسماع منْ سمع منه قبل التغير صحيح، وُلد سنة سبع وأربعين، وتُوفي سنة ست وثلاثين ومائة، وفيها أرخه خليفة، وابن سعد، وابن قانع، وَقَالَ: وهو ضعيف.

وَقَالَ جرير عن يزيد: قُتل الحسين بن علي وأنا ابن أربع عشرة، أو خمس عشرة سنة. وَقَالَ مطين: مات سنة سبع وثلاثين ومائة. روى له البخاريّ فِي التعاليق، ومسلم، والأربعة، وله عند المصنّف ثلاثة أحاديث هَذَا، وفي "كتاب الزينة" 87/ 5303 - حديث حُذيفة رضي الله عنه، مرفوعًا: "لا تشربوا فِي إناء الذهب والفضّة

" الْحَدِيث، وفي "كتاب الأشربة" 44/ 5671 حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، مرفوعًا: "منْ شرب الخمر، فجعلها فِي بطنه

" الْحَدِيث.

وقوله: "وذكر رابعة، فنسيتها": يحتمل كونه قوله: "ولا ينتهب نهبة الخ". وقوله: "خلع رِبقة الإسلام": هو بكسر الراء، وسكون الموحدة، قَالَ ابن الأثير رحمه الله تعالى: الرِّبقة فِي الأصل عُروة فِي حبل، تجُعل فِي عُنق البهيمة، أو يدها تُمسكها، فاستعارها للإسلام، يعني ما يشُدّ به المسلم نفسه، منْ عُرَى الإسلام: أي حدوده، وأحكامه، وأوامره، ونواهيه، وتُجمع الرِّبْقة عَلَى رِبَقٍ، مثلُ

ص: 352

كِسْرة وكِسَر، ويقال للحبل الذي تكون فيه الربقة: رِبْق، ويُجمع عَلَى أرباق، ورِبَاق. انتهى "النهاية" 2/ 190.

وَقَالَ السنديّ: والمراد هاهنا تشبيه الإسلام بها، كأنه طَوْقٌ فِي عنق المسلم، لازم له لزوم الربقة لعنق الدابّة، فإذا باشر هذه الأفعال، فكأنه خلع هَذَا الطوق منْ عنُقه. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد عرفت فِي تحقيق ما سبق أن الأرجح كونُ المراد خَلْعَ نورِ الإسلام، وكماله، لا أصله، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

والحديث موقوف ضعيفٌ؛ لضعف زياد بن أبي زياد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4875 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ الْمُخَرِّمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ ح وَأَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ، يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ، فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ، فَتُقْطَعُ يَدُهُ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ الْمُخَرِّمِيُّ)

(1)

أبو جعفر البغداديّ الثقة الحافظ [11] 43/ 50.

2 -

(أحمد بن حرب) الطائيّ الموصليّ، صدوقٌ [10] 102/ 135 منْ أفراد المصنّف.

3 -

(أبو مُعاوية) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ الثقة، منْ أثبت النَّاس فِي الأعمش [9] 26/ 30.

4 -

(الأعمش) سليمان بن مِهْران الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقة ثبت ورع، لكنه يدلّس [5] 17/ 18.

5 -

(أبو صالح) ذكوان السمان المدنيّ، ثقة ثبت [3] 36/ 40.

6 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم

(1)

بضم الميم، وفتح الخاء المعجمة، وتشديد الراء المكسررة: نسبة إلى المخرِّم محلّة ببغداد، نزلها والد يزيد بن الْمُخَرِّم. انتهى "لب اللباب" 2/ 244.

ص: 353

رجال الصحيح، غير شيخه الثاني، فمن أفراده. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ منْ روى الْحَدِيث فِي دهره. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه) وفي رواية البخاريّ منْ طريق حفص بن غِياث، عن الأعمش، قَالَ: سمعت أبا صالح، فصرّح الأعمش بالسماع، قَالَ فِي "الفتح": فِي رواية محمد بن الحسين، عن أبي الحنين، عن عمر بن حفص، شيخ البخاريّ فيه:"سمعت أبا هريرة"، وكذا فِي رواية عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش، عن أبي صالح: سمعت أبا هريرة، وَقَالَ ابن حزم: وَقَدْ سلم منْ تدليس الأعمش، قَالَ الحافظ: ولم ينفرد به الأعمش، أخرجه أبو عوانة فِي "صحيحه"، منْ رواية أبي بكر بن عياش، عن أبي حَصِين، عن أبي صالح.

(قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ) أي طرده، الله تعالى، وأبعده منْ رحمته. قَالَ الداودي رحمه الله تعالى: هَذَا يحتمل أن يكون خبرا؛ ليرتدع منْ سمعه عن السرقة، ويحتمل أن يكون دعاء. قَالَ الحافظ: ويحتمل أن لا يراد به حقيقة اللعن، بل للتنفير فقط. وَقَالَ الطيبي: لعل هنا المراد باللعن الإهانة، والخذلان، كأنه قيل لَمّا استعمل أعز شيء، فِي أحقر شيء-: خذله الله حَتَّى قطع. وَقَالَ عياض: جوز بعضهم لعن المعين، ما لم يُحَدَّ؛ لأن الحد كفارة، قَالَ: وليس هَذَا بسديد؛ لثبوت النهي عن اللعن فِي الجملة، فحمله عَلَى المعين أولى، وَقَدْ قيل: إن لعن النبيّ صلى الله عليه وسلم لأهل المعاصي، كَانَ تحذيرا لهم عنها، قبل وقوعها، فإذا فعلوها استغفر لهم، ودعا لهم بالتوبة، وأما منْ أغلظ له، ولعنه تأديبا عَلَى فعلٍ فَعَله، فقد دخل فِي عموم شرطه، حيث قَالَ:"سألت ربي أن يجعل لعني له كفارة ورحمة".

قَالَ الحافظ: هو مقيد بما إذا صدر فِي حق منْ ليس له بأهل، كما قيد له بذلك فِي "صحيح مسلم".

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله الحافظ هو الحقّ؛ لما فِي "صحيح مسلم" منْ طريق إسحق بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قَالَ: كانت عند أم سليم يتيمة، -وهي أم أنس- فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليتيمة، فَقَالَ؛ "آنت هيه؟ لقد كبرتِ، لا كبر سنك"، فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكي، فقالت أم سليم: ما لك يا بنية؟ قالت الجارية: دعا علي نبي الله صلى الله عليه وسلم، أن لا يكبر سني، فالآن لا يكبر سني أبدا،

ص: 354

أو قالت: قرني

(1)

، فخرجت أم سليم، مستعجلة، تلوث خمارها

(2)

حَتَّى لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما لك يا أم سليم؟ "، فقالت: يا نبي الله، أدعوت عَلَى يتيمتي؟ قَالَ:"وما ذاك يا أم سليم؟ "، قالت: زعمت أنك دعوت أن لا يكبر سنها، ولا يكبر قرنها، قَالَ: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قَالَ:"يا أم سليم، أما تعلمين أن شرطي عَلَى ربي، أني اشترطت عَلَى ربي، فقلت: إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه، منْ أمتي بدعوة، ليس لها بأهل، أن يجعلها له طَهُورًا، وزكاةً، وقربة يقربه بها منه يوم القيامة".

فقد تبيّن بهذا أن لعنه صلى الله عليه وسلم إنما يكون كفارة ورحمة، إذا كَانَ الملعون لا يستحقّه، وإلا فلا. والله تعالى أعلم.

(يَسْرِقُ) بكسر الراء، منْ باب ضرب (الْبَيْضَةَ) بفتح الموحّدة، وسكون التحتانيّة: أي بيضة الدجاجة (فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ) بفتح، فسكون (فَتُقْطَعُ يَدُهُ"). وهذا مثلٌ تقليل لمسروقه بالنظر إلى يده المقطوعة، فكأنه كالبيضة، والحبل، مما لا قيمة له. وقيل: المراد أنه يسرق البيضة، والحبل أوّلاً، ثم يجترىء إلى أن تُقطع يده. وقيل: المراد بالبيضة بيضة الحديد، وبالحبل حبل السفينة، وكلّ واحد منهما له قيمة، ولا يخفى أنه لا يناسب سياق الْحَدِيث، فإنه مسوقٌ لتحقير مسروقه، وتعظيم عقوبته.

قَالَ البخاريّ فِي "صحيحه" -بعد أن أخرج الْحَدِيث-: قَالَ الأعمش: كانوا يَرون أنه بيض الحديد، والحبلُ كانوا يرون أنه منها ما يُساوي دراهم. انتهى.

قَالَ فِي "الفتح": قوله: "كانوا يَرون" -بفتح أوله، منْ الرأي، وبضمه منْ الظن.

قَالَ الخطّابيّ: تأويل الأعمش هَذَا، غير مطابق لمذهب الْحَدِيث، ومخرج الكلام فيه، وذلك أنه ليس بالشائع فِي الكلام، أن يقال فِي مثل ما ورد فيه الْحَدِيث، منْ اللوم، والتثريب: أخزى الله فلانا، عَرَّض نفسه للتلف فِي مال له قدر ومزية، وفي عرض له قيمة، إنما يُضرب المثل فِي مثله بالشيء الذي لا وزن له، ولا قيمة، هَذَا حكم العرف الجاري فِي مثله، وإنما وجه الْحَدِيث، وتأويله ذم السرقة، وتهجين أمرها، وتحذير سُوء مَغَبَّتها فيما قَلَّ، وكَثُر منْ المال، كأنه يقول: إن سرقة الشيء اليسير، الذي لا قيمة له، كالبيضة الْمَذِرَة، والحبل الخَلَق، الذي لا قيمة له، إذا تعاطاه، فاستمرت به العادة، لم ييأس أن يؤديه ذلك إلى سرقة ما فوقها، حَتَّى يبلغ قدر

(1)

المراد بالقرن: السنّ.

(2)

تلوث: أي تديره عَلَى رأسها.

ص: 355

ما تقطع فيه اليد، فتقطع يده، كأنه يقول: فليحذر هَذَا الفعل، وليتوقه، قبل أن تملكه العادة، ويمرن عليها؛ ليسلم منْ سوء مغبته، ووَخِيم عاقبته.

وسبق الخطّابيّ إلى ذلك أبو محمد بن قتيبة، فيما حكاه ابن بطال، فَقَالَ: احتج الخوارج بهذا الْحَدِيث، عَلَى أن القطع يجب فِي قليل الأشياء وكثيرها، ولا حجة لهم فيه، وذلك أن الآية لَمّا نزلت قَالَ عليه السلام ذلك عَلَى ظاهر ما نزل، ثم أعلمه الله أن القطع لا يكون إلا فِي ربع دينار، فكان بيانا لما أُجمل، فوجب المصير إليه، قَالَ: وأما قول الأعمش: إن البيضة فِي هَذَا الْحَدِيث بيضة الحديد، التي تجعل فِي الرأس فِي الحرب، وأن الحبل منْ حبال السفن، فهذا تأويل بعيد، لا يجوز عند منْ يَعرف صحيح كلام العرب؛ لأن كل واحد منْ هذين يبلغ دنانير كثيرة، وهذا ليس موضع تكثير لما سرقه السارق، ولأن منْ عادة العرب والعجم، أن يقولوا: قَبَّح الله فلانا، عَرَّض نفسه للضرب فِي عقد جوهر، وتعرض للعقوبة بالغلول فِي جراب مسك، وإنما العادة فِي مثل هَذَا، أن يقال: لعنه الله، تعرّض لقطع اليد فِي حبل رَثٍّ، اْو فِي كُبَّة شعر، أو رداء خَلَقٍ، وكل ما كَانَ نحو ذلك كَانَ أبلغ. انتهى.

قَالَ الحافظ: ورأيته فِي غريب الْحَدِيث لابن قتيبة، وفيه: حضرت يحيى بن أكثم بمكة، قَالَ: فرأيته يذهب إلى هَذَا التأويل، ويَعجَب به، ويبديء ويعيد، قَالَ: وهذا لا يجوز، فذكره.

وَقَدْ تعقبه أبو بكر بن الأنباري، فَقَالَ: ليس الذي طعن به ابن قتيبة عَلَى تأويل الخبر بشيء؛ لأن البيضة منْ السلاح، ليست عَلَمًا فِي كثرة الثمن، ونهايةً فِي غلو القيمة، فتجري مجرى العقد منْ الجوهر، والجراب منْ المسك، اللذين ربما يساويان الألوف منْ الدنانير، بل البيضة منْ الحديد، ربما اشتريت بأقل مما يجب فيه القطع، وإنما مراد الْحَدِيث، أن السارق يُعَرض قطع يده بما لا غنى له به؛ لأن البيضة منْ السلاح، لا يستغني بها أحد، وحاصله أن المراد بالخبر، أن السارق يسرق الجليل، فتُقطع يده، ويسرق الحقير، فتُقطع يده، فكأنه تعجيز له، وتضعيفٌ لاختياره؛ لكونه باع يده بقليل الثمن، وكثيره.

وَقَالَ المازري: تأول بعض النَّاس البيضة فِي الْحَدِيث، ببيضة الحديد؛ لأنه يساوي نصاب القطع. وحمله بعضهم عَلَى المبالغة فِي التنبيه عَلَى عظم ما خَسِرَ، وحقر ما حَصل، وأراد منْ جنس البيضة والحبل ما يبلغ النصاب.

قَالَ القرطبيّ: ونظير حمله عَلَى المبالغة، ما حُمل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"منْ بنى لله مسجدا، ولو كمَفْحَص قطاة"، فإن أحدَ ما قيل فيه: إنه أراد المبالغة فِي ذلك، وإلا

ص: 356

فمن المعلوم أن مَفحَص القطاة، وهو قدر ما تَحضُن فيه بيضها، لا يتصور أن يكون مسجدًا، قَالَ: ومنه: "تصدقن ولو بظلف مُحرَق"، وهو مما لا يتصدق به، ومثله كثير فِي كلامهم. وَقَالَ عياض: لا ينبغي أن يلتفت لما ورد أن البيضة بيضة الحديد، والحبل حبل السفن؛ لأن مثل ذلك له قيمة وقدر، فإن سياق الكلام يقتضي ذَمّ منْ أخذ القليل، لا الكثير، والخبر إنما ورد لتعظيم ما جَنَى عَلَى نفسه، بما تقل به قيمته، لا بأكثر، والصواب تأويله عَلَى ما تقدم منْ تقليل أمره، وتهجين فعله، وأنه إن لم يُقطع فِي هَذَا القدر، جرته عادته إلى ما هو أكثر منه.

وأجاب بعض منْ انتصر لتأويل الأعمش، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قاله عند نزول الآية مجملة، قبل بيان نصاب القطع. انتهى.

وَقَدْ أخرج ابن أبي شيبة، عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه أنه قطع يد سارق فِي بيضة حديد، ثمنها ربع دينار، ورجاله ثقات، مع انقطاعه، ولعل هَذَا مستند التأويل الذي أشار إليه الأعمش. وَقَالَ بعضهم: البيضة فِي اللغة تستعمل فِي المبالغة فِي المدح، وفي المبالغة فِي الذم، فمن الأولى قولهم: فلان بيضة البلد، إذا كَانَ فردا فِي العظمة، وكذا فِي الاحتقار، ومنه قول أخت عمرو بن عبد وَدّ، لَمّا قَتَل علي أخاها، يوم الخندق، فِي مرثيتها له [منْ البسيط]:

لَكِنَّ قَاتِلَهُ مَنْ لَا يُعَابُ بِهِ

مَنْ كَانَ يُدْعَى قَدِيمًا بَيْضَةَ الْبَلَدِ

ومن الثاني قول الآخر، يَهْجُو قومًا [منْ البيسط أيضًا]:

تَأْبَى قُضَاعَةُ أَنْ تُبْدِي لَكُمْ نَسَباَ

وَابْنَا نِزَارٍ فَأَنْتُمْ بَيْضَةُ الْبَلَدِ

ويقال فِي المدح أيضا: بيضة القوم: أي وسطهم، وبيضة السنام: أي شحمته، فلما كانت البيضة تستعمل فِي كل منْ الأمرين، حسن التمثيل بها، كأنه قَالَ: يسرق الجليل، والحقير، فيقطع، فرب

(1)

أنه عذر بالجليل، فلا عذر له بالحقير، وأما الحبل فأكثر ما يستعمل فِي التحقير، كقولهم: ما ترك فلان عِقَالاً، ولا ذهب منْ فلان عِقالٌ، فكأن المراد أنه إذا اعتاد السرقة، لم يتمالك مع غلبة العادة التمييز بين الجليل والحقير، وأيضا فالعار الذي يلزمه بالقطع، لا يساوي ما حصل له، ولو كَانَ جليلا.

(1)

هكذا نسخة "الفتح" وفيها ركاكة، فليحرر.

ص: 357

قاله فِي "الفتح" 14/ 31 - 34. وسيأتي مزيد بسط لهذا فِي "باب القدر الذي إذا سرقه السارق، قُطعت يده"، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -1/ 4875 - وفي "الكبرى" 2/ 7358. وأخرجه (خ) فِي "الحدود" 6782 و6799 (م) فِي "الحدود" 1687 (ق) فِي "الحدود" 2583 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 7388. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان تعظيم شأن السرقة، ووجهه أنه لو لم يكن شأنها عظيمًا، لما استحقّ السارق اللعن. (ومنها): جواز لعن غير المعين، منْ العصاة؛ لأنه لعن للجنس، لا لمعيّن، ولعن الجنس جائزٌ، كما قَالَ الله تعالى:{أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]، وأما المعيّن، فلا يجوز لعنه. قَالَ القاض عياض: وأجاز بعضهم لعن المعيّن، ما لم يُحَدَّ، فإذا حُدّ لم يجز لعنه، فإن الحدود كفّارات لأهلها. قَالَ القاضي: وهذا التأويل باطلٌ؛ للأحاديث الصحيحة فِي النهي عن اللعن، فيجب حمل النهي عَلَى المعيّن؛ ليُجمع بين الأحاديث. انتهى.

وَقَالَ الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه": "باب لعن السارق إذا لم يُسمّ"، قَالَ فِي "الفتح": قوله: "لعن السارق إذا لم يُسَمَّ": أي إذا لم يعين، إشارة إلى الجمع بين النهي عن لعن الشارب المعين، كما مضى تقريره، وبين حديث الباب، قَالَ ابن بطال: معناه: لا ينبغي تعيين أهل المعاصي، ومواجهتهم باللعن، وإنما ينبغي أن يُلعَن فِي الجملة منْ فعل ذلك؛ ليكون ردعا لهم، وزجرا عن انتهاك شيء منها، ولا يكوِن لمعين؛ لئلا يَقنَط، قَالَ: فإن كَانَ هَذَا مراد البخاريّ، فهو غير صحيح؛ لأنه إنما نَهَى عن لعن الشارب، وَقَالَ:"لا تعينوا عليه الشيطان"، بعد إقامة الحد عليه.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث لعن الشارب هو ما أخرجه البخاريّ فِي "صحيحه"

ص: 358

منْ حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ اسمه عبد الله، وكان يُلَقّب حِمَارًا، وكان يُضحِكُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم، قد جلده فِي الشراب، فأُتي به يوما، فأَمر به، فَجُلد، فَقَالَ رجل منْ القوم: اللَّهم العنه، ما أكثر ما يُؤتَى به؟، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا تلعنوه، فوالله ما علمتُ، إنه يحب الله ورسوله"

(1)

.

وأخرج منْ حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: أُتي النبيُّ صلى الله عليه وسلم بسكران، فأَمر بضربه، فمنا منْ يضربه بيده، ومنا منْ يضربه بنعله، ومنا منْ يضربه بثوبه، فلما انصرف قَالَ رجل: ما له أخزاه الله؟ فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تكونوا عون الشيطان عَلَى أخيكم"

(2)

.

قَالَ فِي "الفتح": قوله: "باب ما يكره منْ لعن شارب الخمر، وأنه ليس بخارج منْ الملة"، يشير إلى طريق الجمع بين ما تضمنه حديث الباب منْ النهي عن لعنه، وما تضمنه حديث الباب الأول:"لا يشرب الخمر، وهو مؤمن"، وأن المراد به نفي كمال الإيمان، لا أنه يخرج عن الإيمان جملة، وعَبّر بالكراهه هنا إشارة، إلى أن النهي للتنزيه، فِي حق منْ يستحق اللعن، إذا قصد به اللاعن محض السبّ، لا إذا قصد معناه الأصلي، وهو الابعاد عن رحمة الله، فأما إذا قصده، فيحرم، ولاسيما فِي حق منْ لا يستحق اللعن، كهذا الذي يحب الله ورسوله، ولاسيما مع إقامة الحد عليه، بل يندب الدعاء له بالتوبة والمعفرة، وبسبب هَذَا التفصيل عدل عن قوله، فِي الترجمة: كراهية لعن شارب الخمر إلى قوله: "ما يكره منْ"، فأشار بذلك إلى التفصيل، وعلى هَذَا التقرير، فلا حجة فيه لمنع لعن الفاسق المعين مطلقا، وقيل: إن المنع خاص بما يقع فِي حضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يتوهم الشارب عند عدم الإنكار أنه مستحق لذلك، فربما أوقع الشيطان فِي قلبه ما يتمكن به منْ فتنه، وإلى ذلك الإشارة بقوله، فِي حديث أبي هريرة:"لا تكونوا عون الشيطان عَلَى أخيكم"، وقيل: المنع مطلقا فِي حق منْ أقيم عليه الحد؛ لأن الحد قد كفر عنه الذنب المذكور، وقيل: المنع مطلقا فِي حق ذي الزلة، والجواز مطلقا فِي حق المجاهرين، وصوب ابن المنير أن المنع مطلقا فِي حق المعين، والجواز فِي حق غير المعين؛ لأنه فِي حق غير المعين زجرٌ عن تعاطي ذلك الفعل، وفي حق المعين أَذّى له، وسب وَقَدْ ثبت النهي عن أذى المسلم، واحتج منْ أجاز لعن المعين، بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، إنما لعن منْ يستحق اللعن، فيستوي المعين وغيره.

وتعقب بأنه إنما يستحق اللعن بوصف الإبهام، ولو كَانَ لعنه قبل الحد جائزا،

(1)

حديث رقم 6781.

(2)

حديث رقم 6781.

ص: 359

لاستمر بعد الحد، كما لا يسقط التغريب بالجلد، وأيضا فنصيب غير المعين منْ ذلك يسير جدا. والله أعلم.

وَقَالَ النوويّ فِي "الأذكار": وأما الدعاء عَلَى إنسان بعينه، ممن اتصف بشيء منْ المعاصي، فظاهر الْحَدِيث أنه لا يحرم، وأشار الغزالي إلى تحريمه، وَقَالَ فِي "باب الدعاء عَلَى الظلمة"، بعد أن أورد أحاديث صحيحة فِي الجواز، قَالَ الغزالي: وفي معنى اللعن الدعاء عَلَى الإنسان بالسوء، حَتَّى عَلَى الظالم، مثل "لا أصح الله جسمه"، وكل ذلك مذموم. انتهى. قَالَ الحافظ: والأولى حمل كلام الغزالي عَلَى الأول، وأما الأحاديث، فتدل عَلَى الجواز كما ذكره النوويّ، فِي قوله صلى الله عليه وسلم للذي قَالَ:"كل بيمينك"، فَقَالَ: لا أستطيع، فَقَالَ:"لا استطعت"، فيه: دليل عَلَى جواز الدعاء عَلَى منْ خالف الحكم الشرعي، ومال هنا إلى الجواز قبل إقامة الحد، والمنع بعد إقامته، وصنيع البخاريّ يقتضي لعن المتصف بذلك، منْ غير أن يعين باسمه، فيجمع بين المصلحتين؛ لأن لعن المعين، والدعاء عليه، قد يحمله عَلَى التمادي، أو يُقَنِّطه منْ قبول التوبة، بخلاف ما إذا صرف ذلك إلى المتصف، فإن فيه زجرا وردعا عن ارتكاب ذلك، وباعثا لفاعله عَلَى الإقلاع عنه، ويقويه النهي عن التثريب عَلَى الأمة، إذا جُلِدت عَلَى الزنا.

واحتج الامام البلقيني عَلَى جواز لعن المعين بالحديث الوارد فِي المرأة، إذا دعاها زوجها إلى فراشه، فأبت لعنتها الملائكة حَتَّى تصبح، وهو فِي "الصحيح"، وَقَدْ توقف فيه بعضهم بأن اللاعن لها الملائكة، فيتوقف الاستدلال به عَلَى جواز التأسي بهم، وعلى التسليم فليس فِي الخبر تسميتها، قَالَ الحافظ: ما قاله البلقينيّ أقوى، فأن الملك معصوم، والتأسي بالمعصوم مشروع، والبحث فِي جواز لعن المعين، وهو الموجود. انتهى. "فتح" 14/ 24 - 25.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن قول منْ أجاز لعن غير المعيّن، ومنع لعن المعيّن هو الأقرب، وبه تجتمع الأدلّة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

***

ص: 360

‌2 - (بَابُ امْتِحَانِ السَّارِقِ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أن المصنّف رحمه الله تعالى يرى جواز امتحان السارق بالضرب، والحبس، فأما جواز الحبس، فأخذه منْ حديثي الباب ظاهر، وأما الضرب، فالذي يظهر أن النعمان رضي الله عنه إنما قَالَ لهم:"إن شئتم أضربهم" منْ باب الإرهاب لهم، كما قاله أبو داود رحمه الله تعالى فِي "سننه"، لا أنه يريد ضربهم حقيقةً، فلا يكون حجة لمشروعيّة ضرب المتّهم. والله تعالى أعلم بالصواب.

4876 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنِي أَزْهَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَرَازِيُّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، أَنَّهُ رَفَعَ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنَ الْكَلَاعِيِّينَ، أَنَّ حَاكَةً سَرَقُوا مَتَاعًا، فَحَبَسَهُمْ أَيَّامًا، ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُمْ، فَأَتَوْهُ، فَقَالُوا: خَلَّيْتَ سَبِيلَ هَؤُلَاءِ، بِلَا امْتِحَانٍ، وَلَا ضَرْبٍ؟ فَقَالَ النُّعْمَانُ: مَا شِئْتُمْ، إِنْ شِئْتُمْ أَضْرِبْهُمْ، فَإِنْ أَخْرَجَ اللَّهُ مَتَاعَكُمْ فَذَاكَ، وَإِلاَّ أَخَذْتُ مِنْ ظُهُورِكُمْ مِثْلَهُ، قَالُوا: هَذَا حُكْمُكَ؟ قَالَ: هَذَا حُكْمُ اللَّهِ عز وجل، وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) المعروف بابن راهويه الحنظليّ المروزيّ، ثقة ثبت [10] 2/ 2.

2 -

(بقية بن الوليد) الكلاعيّ، أبو يُحمِد الحمصيّ، صدوقٌ، كثير التدليس عن الضعفاء [8] 45/ 55.

3 -

(صفوان بن عمرو) السكسيّ، أبو عمرو الحمصيّ، ثقة [5] 112/ 2053.

4 -

(أزهر بن عبد الله الْحَرَازيّ) -بمهملة، وراء خفيفة، وبعد الألف زاي-: ويقال: أزهر بن سعيد الحمصيّ، صدوقٌ [5] 9/ 1617.

5 -

(النعمان بن بَشِير) بن سعد بن ثعلبة الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما، سكن الشام، ثم ولي إمرة الكوفة، ثم قُتل بحمص سنة (65) وله (64) سنة، وتقدم فِي 19/ 528. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم

ص: 361

رجال الصحيح، وبقية علق له البخاريّ، وأخرج له مسلم فِي المتابعات. (ومنها): أنه مسلسل بالشاميين، غير شيخه، فمروزيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، صفوان، عن أزهر، وكلاهما منْ الطبقة الخامسة، فهو منْ رواية الأقران. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ) رضي الله تعالى عنهما (أَنَّهُ رَفَعَ إِلَيْهِ نَفَرٌ) ببناء الفعل للفاعل، و"نفرٌ" مرفوع عَلَى الفاعليّة: أي أبلغ النعمان رضي الله عنه جماعةٌ (مِنَ الْكَلَاعِيِّينَ) بفتح الكاف، وتخفيف اللام: نسبة إلى ذي الكَلاع قبيلة منْ حِمْيَر. أفاده فِي "لبّ اللباب"(أَنَّ حَاكَةً) بتخفيف الكاف: جمع حائك، اسم فاعل، منْ حاك الثوب حَوْكًا، منْ باب قَالَ، وحِيَاكًا، وحِيَاكة: نسَجَه، فهو حائك، ويُجمع أيضًا عَلَى حَوَكَة. أفاده فِي "القاموس"(سَرَقُوا مَتَاعًا، فَحَبَسَهُمْ أَيَّامًا) أي حبس الحاكة، حَتَّى يتبين له صدق المدّعيين، إما بالاعتراف، أو بإقامة البينة عليهم (ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُمْ) أي ترك حبسهم لَمّا لم يتبيّن له ثبوت ما ادُّعِي عليهم (فَأَتَوْهُ) أي أتى الكلاعيّون النعمان رضي الله عنه (فَقَالُوا: خَلَّيْتَ سَبِيلَ هَؤُلَاءِ، بِلَا امْتِحَانٍ) أي بمساءلتهم، والتشديد فِي مناقشتهم (وَلَا ضَرْبٍ؟) أي ليعترفوا بالسرقة (فَقَالَ النُّعْمَانُ) رضي الله عنه (مَا شِئْتُمْ) يحتمل أن تكون "ما" استفهاميّة، أي أيّ شيء أردتم؟، ويحتمل أن تكون موصولة مبتدأ، وخبره محذوف: أي الذي أردتم فهو لكم، ثم فصّل ذلك بقوله (إِنْ شِئْتُمْ) مفعوله محذوف: أي إن شئتم ضربَهم (أَضْرِبْهُمْ) يجوز جزمه، وهو الأحسن، ورفعه؛ لأن فعل الشرط إذا كَانَ ماضيًا يجوز الوجهان فِي الجواب، كما أشار إليه ابن مالك فِي "الخلاصة"، حيث قَالَ:

وَبَعْدَ مَاضٍ رَفْعُكَ الْجَزَا حَسَنْ

وَرَفْعُهُ بَعْدَ مُضَارعٍ وَهَنْ

وقوله: "حسن" يدلّ عَلَى جزمه أحسن منه (فَإِنْ أَخْرَجَ اللَّهُ مَتَاعَكُمْ فَذَاكَ) أي فذاك خير لكم (وَإِلاَّ أَخَذْتُ مِنْ ظُهُورِكُمْ مِثْلَهُ) أي قصاصًا، قَالَ أبو داود رحمه الله تعالى فِي "سننه": إنما أرهبهم بهذا القول: أي لا يجب الضرب إلا بعد الاعتراف. انتهى. وَقَالَ السنديّ: كنى به أنه لا يحلّ ضربهم، فإنه لو جاز لجاز ضربكم أيضاً قصاصًا. انتهى (قَالُوا: هَذَا حُكْمُكَ؟) بتقدير همزة الاستفهام: أي أهذا الذي قلته حكمك الذي حكمت به اجتهادًا؟ (قَالَ) النعمان رضي الله عنه (هَذَا حُكْمُ اللهِ عز وجل، وَرَسُولِه صلى الله عليه وسلم) أي إن حبس المتّهم، وتخليته إذا لم يعترف هو الحكم الذي شرعه الله سبحانه وتعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 362

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما هَذَا حسنٌ.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -2/ 4876 - وفي "الكبرى" 4/ 7361. وأخرجه (د) فِي "الحدود" 4383. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم امتحان السارق بالضرب، والحبس، وهذا عَلَى ما فهمه المصنّف رحمه الله تعالى منْ قول النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما:"إن شئتم أضربهم"، وتقدّم ما فيه. (ومنها): جواز حبس المتّهم؛ ليعترف بما ادُّعي عليه، وهذا ظاهر منْ حديثي الباب. (ومنها): ثبوت القصاص عَلَى منْ أكره شخصًا بضرب شخص، حيث إن النعمان رضي الله عنه بيّن لهم أنه إذا لم يثبت الحقّ بعد الضرب ضربهم. (ومنها): أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحكمون أحيانًا باجتهادهم؛ حيث إن النعمان لم ينكر قولهم: هَذَا حكمك، بل بيّن لهم أن هَذَا مما حكم الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا منْ حكمه، وإن كَانَ يحكم باجتهاده. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4877 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلاَّمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَبَسَ نَاسًا فِي تُهْمَةٍ).

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(عبد الرحمن بن محمد بن سلّام) البغداديّ، لا بأس به، وهو المذكور قبل باب.

2 -

(أبو أُسامه) حمّاد بن أُسامة، ثقة ثبت، ربما دلّس [9] 44/ 52.

3 -

(ابن المبارك) عبد الله الإمام الحجة الثبت المشهور [8] 32/ 36.

4 -

(معمر) بن راشد، أبو عروة البصريّ، ثم اليمنيّ، ثقة ثبت [7] 10/ 10.

5 -

(بهز بم حكيم) القشيريّ، أبو عبد الملك البصريّ، صدوقٌ [6] 1/ 2436.

6 -

(أبوه) حكيم بن معاوية بن حَيْدة القشيريّ البصريّ، صدوقٌ [6] 1/ 2436.

7 -

(جدّه) معاوية بن حيدة بن معاوية بن كعب القشيريّ، صحابيّ نزل البصرة، ومات بخراسان رضي الله تعالى عنه 1/ 2436. والله تعالى أعلم.

ص: 363

شرح الْحَدِيث

(عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ) رضي الله تعالى عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَبَسَ نَاسًا) لغة فِي أُناس (فِي تُهْمَةٍ) -بضم المثنّاة الفوقية، وفتح الهاء، كهُمَزة: ما يُتَّهَم عليه، قاله فِي "القاموس". وَقَالَ ابن الأثير:"التُّهْمة" فُعْلةٌ منْ الْوَهْم، والتاء بدلٌ منْ الواو، وَقَدْ تُفتح الهِاء، واتهمته: أي ظننت فيه ما نُسِب إليه. انتهى "النهاية" 1/ 201. وَقَالَ الفيّوميّ: وأَتْهَمْتُهُ بكذا: ظننته به، فهو تَهيم، واتهمته فِي قوله: شككت فِي صدقه، والاسم "التُّهَمَة"، وزانُ رُطَبة، والسكون لغة حكاها الفارابيّ، وأصل التاء واو. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: يُستفاد مما ذُكر أن التُّهمة بضم التاء، وفتح الهاء، وسكونها لغتان فصيحتان، وَقَدْ صرّح بذلك السيّد مرتضى فِي "تاج العروس شرح القاموس" 9/ 97. والله تعالى أعلم.

وفي الرواية التالية: "حبس رجلاً فِي تهمة، ثم خلّى سبيله". وَقَالَ فِي "تحفة الأحوذيّ" 4/ 568: قوله: "حبس رجلاً فِي تهمة": أي فِي أداء شهادة بأن كذب فيها، أو بأن ادَّعَى عليه رجلٌ ذنبًا، أو دينًا، فحبسه صلى الله عليه وسلم ليعلم صدق الدَّعْوى بالبيّنة، ثم لَمّا لم يُقِم البيّنة خلّى عنه: أي ترك حبسه، بأن أخرجه منه، قَالَ: وهذا يدلّ عَلَى أن الحبس منْ أحكام الشرع. كذا فِي "المرقاة"، وَقَالَ فِي "اللمعات": فيه أن حبس المدّعى عليه مشروع قبل أن تُقام البيّنة. انتهى.

وَقَالَ الترمذيّ رحمه الله تعالى بعد أن أخرج الْحَدِيث: وَقَدْ روى إسماعيل بن إبراهيم، عن بهز بن حكيم هَذَا الْحَدِيث أتمّ منْ هَذَا، وأطول. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رواية إسماعيل أخرجها الإمام أحمد رحمه الله تعالى فِي "مسنده"، فَقَالَ:

19515 -

حدثنا إسماعيل، أخبرنا بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، أن أباه، أو عمه، قام إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: جيراني بم أخذوا؟، فأعرض عنه، ثم قَالَ: أخبرني بم أخذوا؟ فأعرض عنه، فَقَالَ: لئن قلتَ ذاك، إنهم ليزعمون أنك تَنْهَى عن الغي، وتستخلي به، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما قَالَ؟ "، فقام أخوه، أو ابن أخيه، فَقَالَ: يا رسول الله، إنه قَالَ، فَقَالَ:"لقد قلتموها"، أو "قائلكم، ولئن كنتُ أفعل ذلك، إنه لَعَلَيَّ، وما هو عليكم، خَلُّوا له عن جيرانه".

19517 -

حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن بهز بن حكيم بن معاوية، عن أبيه، عن جده، قَالَ: أخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم ناسا، منْ قومي فِي تهمة، فحبسهم، فجاء رجل منْ

ص: 364

قومي، إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يخطب، فَقَالَ: يا محمد علام تحبس جيرتي، فصمت النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه، فَقَالَ: إن ناسا ليقولون: إنك تنهى عن الشر، وتستخلي به، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما يقول؟ قَالَ: فجعلت أعرض بينهما بالكلام، مخافة أن يسمعها، فيدعو عَلَى قومي دعوة، لا يفلحون بعدها أبدًا، فلم يزل النبيّ صلى الله عليه وسلم به، حَتَّى فهمها، فَقَالَ: "قد قالوها"، أو"قائلها منهم، والله لو فعلتُ لكان عليّ، وما كَانَ عليهم، خَلُّوا له عن جيرانه". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث معاوية بن حَيْدة رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيحٌ.

[تنبيه]: تكلّم النَّاس فِي حديث بهز بن حكيم بن معاوية، عن أبيه، عن جدّه، فصححه قوم، وممن صححه ابن معين، قَالَ إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: ثقة، وَقَالَ أيضا: إسناد صحيح، إذا كَانَ دون بهز ثقة. وَقَالَ أبو جعفر السبتي: بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده صحيح. وَقَالَ ابن البراء، عن ابن المديني: ثقة. وَقَالَ النسائيّ: ثقة. وَقَالَ ابن قتيبة: كَانَ منْ خيار النَّاس. وَقَالَ الترمذيّ: وَقَدْ تكلم شعبة فِي بهز، وهو ثقة عند أهل الْحَدِيث. وَقَالَ أبو جعفر، محمد بن الحسين البغداديّ، فِي "كتاب التمييز": قلت لأحمد -يعني ابن حنبل: ما تقول فِي بهز بن حكيم؟ قَالَ: سألت غندرا عنه؟ فَقَالَ: قد كَانَ شعبة مَسَّه، ثُمَّ تَبَيَّنَ معناه، فكتبت عنه، قَالَ: وسألت ابن معين، هل روى شعبة عن بهز؟ قَالَ: نعم حديث: "أترعون عن ذكر الفاجر؟ "، وَقَدْ كَانَ شعبة متوقفا عنه. وَقَالَ ابن عدي: قد رَوَى عنه ثقات النَّاس، وَقَدْ روى عنه الزهريّ، وأرجو أنه لا بأس به، ولم أر له حديثا منكرا، وإذا حدث عنه ثقة، فلا بأس به. وَقَالَ الآجري، عن أبي داود: هو عندي حجة، وعند الشافعيّ ليس بحجة، ولم يحدث شعبة عنه، وَقَالَ له: منْ أنت، ومن أبوك؟. وَقَالَ أبو زرعة: صالح، ولكنه ليس بالمشهور. وَقَالَ أبو حاتم: هو شيخ، يكتب حديثه، ولا يحتج به. وَقَالَ أيضا: عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أحب إلي. وَقَالَ صالح جزرة: إسناد أعرابي. وَقَالَ الحاكم: كَانَ منْ الثقات، ممن يجمع حديثه، وإنما أسقط منْ الصحيح روايته، عن أبيه، عن جده؛ لأنها شاذة، لا متابع له عليها.

وَقَالَ ابن حبّان: كَانَ يخطىء كثيرا، فأما أحمد وإسحاق، فهما يحتجان به، وتركه جماعة منْ أئمتنا، ولولا حديثه:"إنا آخذوها وشطر ماله" لأدخلناه فِي الثقات، وهو ممن

ص: 365

أستخير الله فيه. وَقَالَ أحمد بن بشير: أتيت البصرة فِي طلب الْحَدِيث، فأتيت بهزا، فوجدته يلعب بالشطرنج، مع قوم، فتركته، ولم أسمع منه. انتهى ملخّصًا منْ "تهذيب التهذيب": 1/ 251 - 252.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد اتّضح مما سبق أن الأكثرين عَلَى تصحيح حديث بهز، وتصحيح إسناد بهز بن حكيم بن معاوية، عن أبيه، عن جدّه، ومثله عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وبهذين الإسنادين نسختان جاءت فيهما أحاديث، وَقَدْ رجّح بعضهم الأولى عَلَى الثانية؛ لأن البخاريّ استشهد بها فِي "الصحيح"، دونها، ومنهم منْ عكس، كما هو رأي أبي حاتم الرازيّ، قالوا: إن البخاريّ صحح نسخة عمرو، وهو أقوى منْ استشهاده بنسخة بهز. أفاده السيوطيّ فِي "تدريب الراوي" 2/ 259.

وتعقّب بعضهم قوله: دونها، بأن البخاريّ أيضا استشهد بها أيضًا، وَقَدْ أشار السيوطيّ فِي "ألفية الأثر" إلى هَذَا بقوله:

وَمَا لِعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِهْ

عَنْ جَدِّهِ فَالأَكْثَرُونَ احْتجَّ بِهْ

حَمْلاً لِجَدِّهِ عَلَى الصَّحَابِي

وَقِيلَ بِالإِفْصَاحِ وَاسْتِيعَابِ

وَهَكَذَا نُسْخَةُ بَهْزٍ وَاخْتُلِفْ

أَيُّهُمَا أَرْجَحُ وَالأُولَى أُلِفْ

والحاصل أن هذين الإسنادين صحيحان، وَقَدْ جريت فِي هَذَا الشرح بتصحيح الأحاديث التي جاءت منْ هذين الطريقين، وإن كَانَ الشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى يُحسّنها. فتبه لهذه القاعدة، تفيدك فِي كثير منْ الأحاديث التي أصححها، مخالفًا له. والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخر جه هنا -2/ 4877 و4878 - وفي "الكبرى" 5/ 7362 و7383. وأخرجه (د) فِي "الأقضية" 2631 (ت) فِي "الديات" 1417. وفوائد الْحَدِيث تقدّمت فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4878 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَبَسَ رَجُلاً فِي تُهْمَةٍ، ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه؛ "عليّ بن سعيد بن مسروق": هو الكنديّ الكوفيّ، صدوقٌ [10] 34/ 4804.

وقوله: "خلّى سبيله": أي تركه يذهب حيث شاء.

ص: 366

والحديث صحيح، وَقَدْ سبق تمام البحث فيه فِي الْحَدِيث الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌3 - (تَلْقِينُ السَّارِقِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "التلقين": مصدر لقّن، قَالَ الفيّوميّ: لَقِنَ الرجلُ الشيءَ لَقَنًا، فهو لَقِنٌ، منْ باب تعب: فهِمه، ويُعَدَّى بالتضعيف إلى ثان، فيقال: لقّنته الشيءَ، فتلقّنه: إذا أخذه منْ فيك، مشافهةً، وَقَالَ الفارابيّ: تلقّن الكلامَ: أخذه، وتمكّن منه، وَقَالَ الأزهريّ، وابن فارس: لَقِنَ الشيءَ، وتلقّنه: فهمه، وهدْا يصدُقُ عَلَى الأخذ، مشافهة، وعلى الأخذ منْ المصحف. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.

4879 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي الْمُنْذِرِ، مَوْلَى أَبِي ذَرٍّ، عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أُتِيَ بِلِصٍّ، اعْتَرَفَ اعْتِرَافًا، وَلَمْ يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا إِخَالُكَ سَرَقْتَ"، قَالَ: بَلَى، قَالَ: "اذْهَبُوا بِهِ، فَاقْطَعُوهُ ثُمَّ جِيئُوا بِهِ، فَقَطَعُوهُ، ثُمَّ جَاءُوا بِهِ، فَقَالَ لَهُ: "قُلْ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَأَتُوبُ إِلَيْه"، فَقَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، قَالَ: "اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(سُويد بن نصر) أبو الفضل المروزيّ، راوية ابن المبارك، ثقة [10] 45/ 55.

2 -

(عبد الله بن المبارك) المذكور فِي الباب الماضي.

3 -

(حماد بن سلمة) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقة عابد، تغير بآخره [8] 181/ 288.

4 -

(إسحاق بن بن عبد الله بن أبي طلحة) الأنصاريّ المدنيّ، ثقة حجة [4] 19/ 20.

5 -

(أبو المنذر مولى أبي ذرّ) الغفاري، مقبول [2].

روى عن مولاه، وأبي أميّة المخزوميّ. وعنه إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة. روى له المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، وله عندهم هَذَا الْحَدِيث فقط.

ص: 367

6 -

(أبو أُميّة المخزوميّ) ويقال: الأنصاريّ، حجازيّ، روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْحَدِيث، وعنه أبو المنذر مولى أبي ذرّ، ويقالى: مولى آل أبي ذرّ، قال الحافظ: ولم يُختلف عَلَى حماد بن سلمة أنه مخزوميّ، والذي قَالَ: إنه أنصاريّ همّام بن يحيى. روى له المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه حديث الباب فقط. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أُتِيَ) بالبناء للمفعول (بِلِصٍّ) بتثليث اللام، وتشديد الصاد المهملة: أي بسارق. قَالَ الفيّوميّ: اللّصّ بكسر اللام: السارق، وضمّها لغة، حكاها الأصمعيّ، والجمع لُصوصٌ، وهو لصّ بَيّن اللَّصُوصيّة بفتح اللام، وَقَدْ تُضمّ، ولَصَّ الرجلُ الشيءَ لَصّا، منْ باب قتل: سرقه. انتهى. وفي "القاموس": اللَّصّ: فعل الشيء فِي سَتْر، وإغْلَاقُ الباب، وإطباقه، والسارق، ويُثلّث، جمعه لُصُوصٌ، وأَلْصَاصٌ، وهي لَصَّةٌ، جمعها لَصّات، ولَصَائصُ، والمصدر: اللَّصَصُ، واللَّصَاصُ، واللَّصُوصِيّةُ بالفتح، واللُّصُوصيّة بالضمّ. انتهى. (اعْتَرَفَ اعْتِرَافًا) أي أقرّ إقرارًا صحيحًا (وَلَمْ يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ) أي منْ المسروق (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا إِخَالُكَ) بكسر الهمزة، وفتحها، والكسر هو الأفصح، وأصله الفتح، قُلبت الفتحة كسرةً عَلَى خلاف القياس، ولا يَفتح همزته إلا بنو أسد، فإنهم يُجرونها عَلَى القياس، وهو منْ خال الشيءَ يخاله خَيْلاً، منْ باب نال: إذا ظنّه، وخاله يَخيله، منْ باب باع لغة:(سَرَقْتَ) أي ما أظنك سرقت شيئاً، قاله دَرْأً للقطع.

قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: قيل: أراد صلى الله عليه وسلم تلقين الرجوع عن الاعتراف، وللإمام ذلك فِي السارق، إذا اعترف، كما يُشير إليه ترجمة المصنّف، ومن لا يقول به يقول: لعله ظنّ بالمعترف غفلة عن معنى السرقة، وأحكامها، أو لأنه استبعد اعترافه بذلك؛ لأنه ما وُجِد معه متاع، واستدلّ به منْ يقول: لابدّ فِي السرقة منْ تعدّد الإقرار. انتهى.

وقال الخطّابيّ رحمه الله تعالى: وجه هَذَا الْحَدِيث عندي -والله أعلم- أنه ظنّ بالمعترف بالسرقة غَفْلَةً، أو يكون قد ظنّ أنه لا يعرف معنى السرقة، ولعله قد كَانَ مالا له، أو اختلسه، أو نحو ذلك، مما يخرج منْ هَذَا الباب عن معاني السرقة، والمعترف به قد يحسب أن حكم ذلك حكم السرقة، فوافقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستثبت الحكم فيه، إذ كَانَ منْ سنّته: أن الحدود تُدرأ بالشبهات، ورُوي عنه أنه قال: "ادرؤا الحدود ما

ص: 368

استطعتم"

(1)

، وأمرنا بالستر عَلَى المسلمين، فكره أن يهتكه، وهو يجد السبيل إلى ستره، فلما تبيّن وجود السرقة منه يقينًا، أقام الحدّ عليه، وأمر بقطعه.

عَلَى أن فِي إسناد هَذَا الْحَدِيث مقالاً، والحديث إذا رواه رجلٌ مجهولٌ لم يكن حجةً، ولم يجب الحكم به.

وَقَدْ رُوي تلقين السارق عن جماعة منْ الصحابة رضي الله عنهم، وأُتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه برجل، فسأله: أسرقت؟ قل: لا، قَالَ: فَقَالَ: لا، فتركه، ولم يقطعه، ورُوي مثل ذلك عن أبي الدرداء، وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما، وكان أحمد، وإسحاق لا يريان بأسًا بتلقين السارق، إذا أُتي به، وكذلك قَالَ أبو ثور: إذا كَانَ السارق امرأةً، أو مصعوقًا. انتهى "معالم السنن" 6/ 216 - 217.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث الباب لا يصحّ، فلا يستفاد منه الحكم المذكور، وما روي عن الصحابة، عَلَى تقدير صحّته لا حجة فيه. فتأمّل.

(قَالَ: بَلَى) أي سرقتُ، زاد فِي رواية أبي داود:"فأعاد عليه مرّتين، أو ثلاثًا"(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (اذْهَبُوا بِهِ، فَاقْطَعُوهُ) أي لثبوت سرقته بإقراره (ثُمَّ جِيئُوا بِهِ) أي ليأمره بالاستغفار (فَقَطَعُوهُ) أي قطعوا يده (ثُمَّ جَاءُوا بِهِ) إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَهُ: "قُلْ: أَسْتَغفِرُ اللَّهَ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ) قَالَ السنديّ: لعل المراد بالاستغفار، والتوبة منْ سائر الذنوب، أو لعله قَالَ ذلك ليعزم عَلَى عدم العود إلى مثله، فلا دليل لمن قَالَ: الحدود ليست كفّارات لأهلها، مع ثبوت كونها كفّارات بالأحاديث الصحاح التي كادت تبلغ حدّ التواتر، كيف والاستغفار مما أُمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ تعالى:{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} الآية [غافر: 55]، وَقَدْ قَالَ تعالى:{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ} الآية [التوبة: 117]، لمعان ومصالح ذكروا فِي محله، فمثله لا يصلح دليلا عَلَى بقاء ذنب السرقة. والله تعالى أعلم. انتهى. (فَقَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ) أي أطلب منه تعالى ستر معصيتي (وَأَتُوبُ إِلَيهِ) أي أرجع إليه سبحانه وتعالى عما فعلته، وذلك بأن لا يعود إلى مثله أبدًا (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ) أي تقبّل توبته، أو ثبّته عليها.

قَالَ الشوكانيّ رحمه الله تعالى: فيه دليلٌ عَلَى مشروعية أمر المحدود بالاستغفار، والدعاء له بالتوبة بعد استغفاره، قَالَ: وفيه دليل عَلَى أنه يُسحبّ تلقين ما يُسقط الحدّ. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا كله عَلَى تقدير صحة الْحَدِيث، وإلا فهو

(1)

حديث ضعيف، انظر "ضعيف الجامع الصغير" للشيخ الألباني رحمه الله تعالى ص 37 - 308.

ص: 369

ضعيف، كما سيأتي قريبًا، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي أميّة المخزوميّ رضي الله عنه هَذَا ضعيف؛ لجهالة أبي المنذر مولى أبي ذرّ رضي الله عنه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -3/ 4879 - وفي "الكبرى" 6/ 7363. وأخرجه (د) فِي "الحدود" 4380 (ق) فِي "الحدود" 2597 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 22002 (الدارمي) فِي "الحدود" 2201. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌4 - (الرَّجُلُ يَتَجَاوَزُ لِلسَّارِقِ عَنْ سَرِقَتِهِ بَعْدَ أَنْ يَأْتِىَ بِهِ الإِمَامَ وَذِكْرُ الاِخْتِلَافِ عَلَى عَطَاءٍ فِي حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ رضي الله عنه فِيهِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وجه الاختلاف عَلَى عطاء، أن يزيد بن زيع رواه عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عطاء، عن صفوان بن أمية، وخالفه محمد بن جعفر، فرواه عن سعيد، عن قتادة، عن عطاء، عن طارق بن مرقّع، عن صفوان، فأدخل بين عطاء، وصفوان واسطة، وخالف الأوزاعيّ، قتادة، فرواه عن عطاء، أن رجلا سرق الخ، فأرسله.

وسيأتي تحقيق وجه الاختلاف، وترجيج الراجح منْ الروايات قريباً، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب.

4880 -

(أَخْبَرَنَا هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، أَنَّ رَجُلاً سَرَقَ بُرْدَةً لَهُ، فَرَفَعَهُ إِلَى

ص: 370

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ تَجَاوَزْتُ عَنْهُ، فَقَالَ:"أَبَا وَهْبٍ، أَفَلَا كَانَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنَا بِهِ؟ "، فَقَطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(هلال بن العلاء) الباهليّ مولاهم الرّقّيّ، صدوقٌ [11] 10/ 1199. منْ أفراد المصنّف.

2 -

(أبوه) العلاء بن بن هلال بن عمرو بن هلال، أبو محمد الرّقّيّ، فيه لينٌ [9] 190/ 1167.

3 -

(يزيد بن زُرَيع) أبو معاوية البصريُّ، ثقة ثبت [8] 5/ 5.

4 -

(سعيد) بن أبي عروبة مِهْرَان اليشكريّ، أبو النضر البصريّ، ثقة ثبت، يُدلّس، وتغيّر بآخره [6] 34/ 38.

5 -

(قتادة) بن دعامة السدوسيّ البصريّ، ثقة ثبت يُدلّس [4] 30/ 34.

6 -

(عطاء) بن أبي رباح أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقة ثبت فقيه فاضل، لكنه كثير الإرسال [3] 112/ 154.

7 -

(صفوان بن أميّة) بن خلف بن وهب بن قُدامة بن جمُح القرشيّ الْجُمحيّ المكيّ، صحابيّ منْ المؤلّفة قلوبهم، مات أيام قتل عثمان، وقيل: سنة (1)(42) فِي أوائل خلافة معاوية، وتقدّم فِي 112/ 2054. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، وأبيه، فمن أفراده. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ) رضي الله تعالى عنه (أَنَّ رَجُلاً سَرَقَ بُرْدَةً لَهُ) بضم الموحّدة، وسكون الراء: كساء صغير، مربّعٌ، ويقال: كساء أسود صغيرٌ. قاله فِي "المصباح". وفي رواية الأوزاعيّ، عن عطاء:"أن رجلاً سرق ثوبًا"، وفي رواية عكرمة، عن صفوان:"أنه طاف بالبيت، وصلّى، ثم لفّ رداء له، منْ بُرد"، وفي رواية حُميد بن أخت صفوان، عن صفوان قَالَ: كنت نائمًا فِي المسجد عَلَى خميصة لي، ثمنها ثلاثون درهمًا"، ولا تنافي بين هذه الروايات؛ لأن يؤول إلى معنى واحد؛ فرواية ثوب أعمّ، منْ الجميع، ورواية خميصة لا تنافي البردة، ولا الرداء؛ لأن الخميصة: كساء أسود

ص: 371

مُعْلمُ الطرفين، ويكون منْ خزّ، أو صوف، فإن لم يكن معلما، فليس بخميصة، فيمكن أن تكون البردة معلمة، فاتحدا، ثم تلك الخميصة كانت رداءً، والرداء بالكسر والمدّ: ما يُرتدى به، مذكّر، ولا يجوز تأنيثه، قاله فِي "المصباح"، وَقَالَ فِي "النهاية": هو الثوب، أو البُرد الذي يضعه الإنسان عَلَى عاتقيه، وبين كتفيه، فوق ثيابه. انتهى. وفي "اللسان": أن الرداء يقع عَلَى المنكبين، والكتفين، ومُجتمع العنق. انتهى.

(فَرَفَعَهُ) أي السارق (إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ بقَطْعِهِ) أي بعد اعترافه، ففي رواية عكرمة الآتية:"فَقَالَ: إن هَذَا سرق ردائيّ، فَقَالَ له النبيّ صلى الله عليه وسلم: أسرقتَ رداء هَذَا؟ قَالَ: نعم، قَالَ: اذهبا به، فاقطعا يده"(فَقَالَ) صفوان، صاحب الرداء (يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ تَجَاوَزْتُ عَنْهُ) أي عفوت عن سرقته، فلا تقطعه، وفي رواية الأوزاعيّ:"يا رسول الله، هو له"، وفي رواية عكرمة:"ما كنت أردت أن تُقطع يده فِي ردائي"، وفي رواية حميد:"أتقطعه منْ أجل ثلاثين درهمًا؟ أنا أبيعه، وأُنسئه ثمنها"(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَبَا وَهْبٍ) بحذف حرف النداء، أي يا أبا وهب، كنية صفوان رضي الله عنه (أَفَلَا كَانَ) هَذَا التجاوز (قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنَا بهِ؟) أي قبل أن ترفعه إليّ متحاكمًا، يعني أنه لو تركه قبل إحضاره عنده صلى الله عليه وسلم ليحكم به لنفعه ذلك، وأما بعد رفعه، وثبوت السرقة عليه، فالحقّ للشرع، لا للمالك (فَقَطَعَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي أمر بقطعه، فقُطع، كما تقدّم منْ قوله:"فأمر بقطعه"، وقوله صلى الله عليه وسلم:"اذهبا به، فاقطعا يده". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث صفوان بن أميّة رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -4/ 4880 و4881 و4882 و5/ 4883 و4884 و4885 و4886 - وفي "الكبرى" 7/ 7364 و7365 و7366 و8/ 7367 و7368 و7369 و7370. وأخرجه (د) فِي "الحدود" 4394 (ق) فِي "الحدود" 2595 (أحمد) فِي "مسند المكيين" 14879 و"مسند القبائل" 27090 و27097 (الموطأ) فِي "الحدود" 1579 و2197. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي اختلاف الرواة فِي حديث صفوان بن أمية رضي الله عنه هَذَا:

(اعلم): أن المصنّف رحمه الله تعالى، قد ذكر اختلاف الرواة فِي حديث صفوان بن أُميّة رضي الله عنه هَذَا، فِي هَذَا الباب، وفي الباب الذي يليه، وَقَدْ بيّن ذلك الحافظ أبو عمر

ص: 372

رحمه الله تعالى، فِي كتابه "التمهيد" أتمّ بيان، لذا أحببت إيراد ما قاله تتميمًا للفائدة، وتكميلاً للعائدة، فقلت: قَالَ رحمه الله تعالى:

"مالك، عن ابن شهاب، عن صفوان بن عبد الله بن صفوان بن أمية، أن صفوان بن أمية، قيل له: إنه منْ لم يهاجر هَلَكَ، فقدم صفوان بن أمية المدينة، فنام فِي المسجد، وتوسد رداءه، فجاءه سارق، فأخذ رداءه، فأخذ صفوان السارقَ، فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن تقطع يده، فَقَالَ صفوان: إني لم أُرد هَذَا يا رسول الله، هو عليه صدقة، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلّا قبل أن تأتيني به".

هكذا رَوَى هَذَا الْحَدِيث جمهور أصحاب مالك، مرسلا، ورواه أبو عاصم النبيل، عن مالك، عن الزهريّ، عن صفوان بن عبد الله بن صفوان، عن جده، قَالَ: قيل لصفوان: منْ لم يهاجر هلك

وساق الْحَدِيث، عَلَى ما فِي "الموطإ"، ولم يقل أحد فيما علمت فِي هَذَا الْحَدِيث:"عن صفوان بن عبد الله بن صفوان، عن جده" غير أبي عاصم. ورَوَاه شبابة بن سَوار، عن مالك، عن الزهريّ، عن عبد الله بن صفوان، عن أبيه، أن صفوان إلخ.

حدثنا سعيد بن نصر، قَالَ: حدثنا قاسم بن أصبغ، قَالَ: حدثنا ابن وضاح، قَالَ: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قَالَ: حدثنا شبابة، قَالَ: حدثنا مالك بن أنس، عن الزهريّ، عن عبد الله بن صفوان، عن أبيه، أن صفوان قيل له: منْ لم يهاجر هلك، فدعا براحلته فركبها، حَتَّى أتى المدينة، فسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم؟، قَالَ: قد قيل لي: منْ لم يهاجر هلك، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ذهبت الهجرة، فارجع إلى بطحاء مكة"، فنام صفوان فِي المسجد، وتوسد رداءه، فأخذ منْ تحت رأسه، فجاء بسارقه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأَمر به أن يقطع، فَقَالَ صفوان بن أمية يا رسول الله، إني لم أُرد هَذَا، ردائي عليه صدقة، يا رسول الله، إني لم أرد هَذَا، ردائي عليه صدقة، فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أفلا قبل أن تأتيني به".

ورواه أبو علقمة الفروي، عن مالك، كما رواه شبابة بن سوار عنه، بإسناده سواء:

حدثنا بحديث شبابة بن سوار، عن مالك خلف بن قاسم، حدثني أبو عيسى العبّاس ابن أحمد الأزدي، وأبو محمد الحسن بن رشيق، ونصر بن علي البزار، قالوا: حدثنا أبو العلاء محمد بن أحمد بن جعفر الكوفيّ، قَالَ: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا شبابة بن سوار المدائني، حدثنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، فذكره.

وَقَدْ ذكر الطحاوي حديث شبابة، عن محمد بن أحمد بن جعفر، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن شبابة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عبد الله بن صفوان، عن أبيه، فذكره هكذا: ابن شهاب، عن عبد الله بن صفوان، عن أبيه.

ص: 373

وَقَالَ الطحاوي: جائز أن يسمع ابن شهاب هَذَا الْحَدِيث، منْ عبد الله بن صفوان بن أمية، عن أبيه، ومن صفوان بن عبد الله، عن جده، وذلك غير مستنكر لابن شهاب، فِي أحاديثه عن غير هذين، ممن يحدث عنه، وغير مستنكر سماعه منْ عبد الله بن صفوان، لأن عبد الله بن صفوان قُتل مع عبد الله بن الزبير، فِي اليوم الذي قتل فيه، منْ سنة ثلاث وسبعين، قَالَ: والزهري يومئذ سِنُّهُ أربع عشرة سنة؛ لأن مولده كَانَ فِي السنة التي قُتل فيها الحسين بن علي رضي الله عنهما، وهي سنة إحدى وستين.

قَالَ: فإن قَالَ قائل: قد يجوز أن يكون عبد الله بن صفوان هَذَا، هو عبد الله بن صفوان بن عبد الله، قيل له: ما نعلم لصفوان بن عبد الله، ابنا أُخذ عنه شيء منْ العلم، وإنما عبد الله بن صفوان هَذَا، هو عبد الله بن صفوان بن أمية.

قَالَ أبو عمر: قد روى هَذَا الْحَدِيث عطاء، وطاوس، عن صفوان بن أمية، ورواه حماد بن سلمة، عن قتادة، وقيس بن سعد، وحبيب المعلم، وحميد بن قيس، كلهم عن عطاء، ورواه حماد أيضا، عن عمرو بن دينار، عن طاوس جميعا، عن صفوان بن أمية، أنه كَانَ نائما فِي المسجد، تحت رأسه خميصة، فجاء لصّ، فانتزعها منْ تحت رأسه، وذكر الْحَدِيث، ولم يسمعه عطاء منْ صفوان بن أمية؛ لأن شعبة، وسعيد بن أبي عروبة، روياه عن قتادة، عن عطاء، عن طارق بن المرقع، عن صفوان بن أمية، أن رجلا سرق برده، فرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأمر بقطعه، فَقَالَ: يا رسول الله، قد تجاوزت عنه، قَالَ:"أفلا قبل أن تأتيني به أبا وهب"، فقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أخبرناه عبد الله بن محمد بن يحيى، وعبد الرحمن بن عبد الله بن خالد، قالا: حدثنا أحمد بن جعفر بن مالك، قَالَ: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قَالَ: حدثنا أبي، قَالَ: حدثنا محمد بن جعفر، قَالَ: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن عطاء، عن طارق بن المرقع، عن صفوان بن أمية

فذكره حرفا بحرف.

وذكره النسائيّ عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، بإسناده مثله سواء.

وأخبرنا قاسم بن محمد، قَالَ: حدثنا خالد بن سعد، قَالَ: حدثنا أحمد بن عمرو، قَالَ: حدثنا محد بن سنجر، قَالَ: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قَالَ: حدثنا وهب، عن عطاء، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن صفوان، أنه قيل له: إنه لا يدخل الجنة إلا منْ قد هاجر، فَقَالَ: لا أترك

(1)

منزلي، حَتَّى آتي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأتاه برجل، فَقَالَ: يا رسول والله، إن هَذَا سرق خميصة لي، والرجل معه، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقطعه، فَقَالَ: يا رسول

(1)

هكذا النسخة "لا أترك" بـ"لا" النافية، والظاهر أنه "لأترك" بلام الابتداء، فليُحرّر.

ص: 374

الله، إني قد وهبتها له، قَالَ:"فهلا قبل أن تأتيني به؟ "، قَالَ: فقلت: يا رسول الله، إنهم يقولون: لا يدخل الجنة إلا منْ قد هاجر، فَقَالَ:"لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن جهاد ونية، وإذا استُنفِرتم فانفروا". متَّفقٌ عليه.

وطاوس سماعه منْ صفوان بن أمية، ممكن؛ لأنه أدرك زمن عثمان، وذكر يحيى القطّان، عن زهير، عن ليث، عن طاوس، قَالَ: أدركت سبعين شيخا، منْ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ قيل: إن طاوسًا تُوفي وهو ابن بضع وسبعين سنة، فِي سنة ست ومائة، قَالَ: فإذا كَانَ سنه هَذَا، فغير ممكن سماعه منْ صفوان بن أمية؛ لأن صفوان توفي سنة ست وثلاثين، وقيل: كانت وفاته بمكة، عند خروج النَّاس إلى الجمل.

وَقَدْ رُوي هَذَا الْحَدِيث عن طاوس، وعكرمة، عن ابن عباس، ذكره البزار منْ حديث الأشعث بن سوار، عن عكرمة، عن ابن عباس، ومن حديث زكرياء بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا لفظ حديث الأشعث، عن عكرمة، عن ابن عباس، قَالَ: كَانَ صفوان بن أمية، نائما فِي المسجد، فجاءه رجل، فأخذ رداءه، منْ تحت رأسه، فاتبعه، فأدركه، فأتى به النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: هَذَا سرق ردائي، منْ تحت رأسي، فأمر به أن يُقطع، فَقَالَ: إن ردائي لم يبلغ أن يقطع فيه هَذَا، قَالَ:"أفلا قبل أن تأتيني به".

قَالَ البزار: ورواه جماعة عن عكرمة مرسلاً.

ثم ساقه أبو عمر بسنده إلى النسائيّ، فِي روايته عن أحمد بن عثمان بن حكيم الآتية فِي الباب التالي رقم 4885. انتهى كلام أبي عمر رحمه الله تعالى فِي كتابه "التمهيد" 11/ 215 - 220.

وذكر الحافظ أبو الحسن ابن القطّان فِي كتابه "بيان الوهم والإيهام": وذكر -يعني الحافظ عبد الحقّ الإشبيليّ صاحب "الأحكام الوسطى"- منْ طريق النسائيّ، عن صفوان ابن أمية، قَالَ: كنت نائما فِي المسجد عَلَى خميصة لي ثمنها ثلاثون درهمًا، فجاء رجل، فاختلسها

الْحَدِيث. ثم قَالَ: رواه سماك بن حرب، عن حُميد ابن أخت صفوان، عن صفوان. وعبد الملك بن أبي بشير، عن عكرمة، عن صفوان، وأشعث بن براز، عن عكرمة، عن ابن عبّاس، قَالَ: كَانَ صفوان نائمًا فِي المسجد. ورواه عمرو بن دينار، عن طاوس، عن صفوان. ذكر هذه الطرق النسائيّ. ورواه مالك فِي "الموطإ" عن ابن شهاب، عن صفوان بن عبد الله بن صفوان، أن صفوان بن أُميّة. وَقَدْ روي منْ غير هَذَا الوجه، ولا أعلمه يتّصل منْ وجه يُحتجّ به. انتهى.

قَالَ ابن القطّان: ولم يتبيّن به علته، وفيه وهم بيّنٌ، وهو تفسيره أشعث بأنه ابن

ص: 375

براز، وفيه إيهام ضعف منْ ليس بضعيف، فلنُبيّن جميع هَذَا، فنقول:

أما الإسناد الذي رواه سماك بن حرب، عن حُميد ابن أخت صفوان، عن صفوان، فضعفه بَيّنٌ بحميد المذكور، فإنه لا يُعرف فِي غير هَذَا، وَقَدْ ذكره ابن أبي حاتم بذلك، ولم يزد عليه. وذكره البخاريّ، فَقَالَ: إنه حُميد بن حجير ابن أخت صفوان بن أمية، ثم ساق له هَذَا الْحَدِيث. وصحف فيه زائدة، فَقَالَ: جُعيد بن حُجير، وهو كما قلنا مجهول الحال. قَالَ: وأما الطريق التي فيها عبد الملك بن أبي بشير، فقد أوهم بقوله: لا أعلمه يتّصل منْ وجه يُحتجّ به ضعفَ عبد الملك هَذَا، وهو رجل ثقة، وثقه ابن حبّان، والقطان، وابن معين، وأبو زرعة، وَقَالَ سفيان: كَانَ شيخ صدقٍ. ولكن الطريق المذكورة يمكن أن تكون منقطعة، فإنها منْ رواية عبد الملك المذكور، عن عكرمة، عن صفوان، وعكرمة لا أعرف أنه سمع منْ صفوان، وانما يرويه عن ابن عبّاس، ومن دون عبد الملك المذكور إلى النسائيّ مخرجه ثقات.

وأما الطريق التي قَالَ فيها أشعث بن براز، عن عكرمة، عن ابن عباس، فقد اعتراه فيها خطأ فِي تفسير أشعث بأنه ابن براز، والصواب أنه أشعث بن سَوّار.

وأما الطريق التي فيها عمرو بن دينار، عن طاوس، عن صفوان، فيشبه أن لا تكون منقطعة، قَالَ أبو عمر بن عبد البرّ: أما طاوس، فسماعه منْ صفوان ممكن؛ لأنه أدرك زمان عثمان. وذكر يحيى القطّان، عن زهير، عن ليث، عن طاوس، قَالَ: أدركت سبعين شيخًا، منْ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فأما قول البزّار: إنه رواه طاوس مرسلاً، فيُشبه أن يقول ذلك لرواية لم يقل فيها: عن صفوان. والله أعلم. انتهى كلام القطّان الفاسي "بيان الوهم والإيهام" 3/ 568 - 571.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الحاصل أن حديث صفوان صحيح منْ رواية طاوس، عنه، ومن رواية عبد الله بن صفوان بن أمية، عن أبيه، كما تقدم عند ابن عبد البرّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي فوائده

(1)

:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم تجاوز المسروق منه عن السارق بعد رفعه إلى الإمام، وهو عدم جواز ذلك. (ومنها): جواز العفو عن السارق قبل الرافع إلى الإمام. (ومنها): وجوب قطع يد السارق إذا ثبتت السرقة.

(1)

المراد الفوائد التي اشتمل عليها الْحَدِيث باختلاف رواياته، لا بخصوص سياق المصنّف فقط.

ص: 376

(ومنها): ما فِي قصّة "الموطّإ": أن الهجرة كانت قبل الفتح مفروضة. (ومنها): إباحة النوم فِي المسجد. (ومنها): جواز طي الثياب وتوسدها. (ومنها): أن ما جعله الإنسان تحت رأسه، فهو حرز له، فإذا سُرق وجب القطع؛ لأنه حرزه، وما سُرق منْ الحرز ففيه القطع، وسيأتي اختلاف العلماء فِي اشتراط الحرز للقطع، فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى.

(ومنها): ما قاله ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى: لا أعلم بين أهل العلم اختلافا فِي الحدود، إذا بلغت إلى السلطان، لم يكن فيها عفو، لا له ولا لغيره، وجائز للناس أن يتعافوا الحدود ما بينهم، ما لم يبلغ السلطان، وذلك محمود عندهم.

ولذلك قيده الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" بعدم الرفع إلى السلطان، فَقَالَ:"باب كراهية الشفاعة فِي الحدّ، إذا رُفع إلى السلطان"، ثم أورد حديث عائشة رضي الله تعالى عنها الآتي فِي قصّة المخزوميّة، وفيه: قوله صلى الله عليه وسلم لأسامة ابن زيد رضي الله تعالى عنهما: "أتشفع فِي حدّ منْ حدود الله؟ ".

قَالَ فِي "الفتح" 14/ 39 - قوله: "باب كراهية الشفاعة فِي الحدّ، إذا رُفع إلى السلطان"، كذا قَيَّدّ ما أطلقه فِي حديث الباب:"أتشفع فِي حدّ منْ حدود الله"، وليس القيد صريحا فيه، وكأنه أشار إلى ما ورد فِي بعض طرقه صريحا، وهو فِي مرسل حبيب ابن أبي ثابت الذي أشرت إليه، وفيه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لأسامة، لَمّا شفع فيها:"لا تشفع فِي حدّ، فان الحدود إذا انتهت إليَّ، فليس لها مَتْرَك"، وله شاهد منْ حديث عمرو بن شمعيب، عن أبيه، عن جده، رفعه:"تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني منْ حَدّ، فقد وجب"، ترجم له أبو داود:"العفو عن الحد، ما لم يبلغ السلطان"، وصححه الحاكم، وسنده إلى عمرو بن شعيب صحيح، وأخرج أبو داود أيضًا، وأحمد، وصححه الحاكم منْ طريق يحيى بن راشد، قَالَ: خرج علينا ابن عمر، فَقَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:"منْ حالت شفاعته دون حد منْ حدود الله، فقد ضاد الله فِي أمره"، وأخرجه ابن أبي شيبة منْ وجه آخر، أصح منه، عن ابن عمر، موقوفًا، وللمرفوع شاهد منْ حديث أبي هريرة، فِي "الأوسط" للطبراني، وَقَالَ:"فقد ضادّ الله فِي ملكه"، وأخرج أبو يعلى منْ طريق أبي المحياة، عن أبي مطر، رأيت عليا أُتى بسارق، فذكر قصة فيها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أُتى بسارق، فذكر قصة فيها: قالوا: يا رسول الله، أفلا عفوت؟ قَالَ:"ذلك سلطان سُوء، الذي يعفو عن الحدود بينكم"، وأخرج الطبراني، عن عروة بن الزبير، قَالَ: لقي الزبير سارقا، فشفع فيه، فقيل له: حَتَّى يبلغ الامام، فَقَالَ: إذا بلغ الإمام، فلعن الله الشافع، والمشفِّع"، وأخرج فِي

ص: 377

"الموطإ" عن ربيعة، عن الزبير، وهو منقطع مع وقفه، وهو عند ابن أبي شيبة، بسند حسن، عن الزبير موقوفا، وبسند آخر حسن، عن عليّ نحوه كذلك، وبسند صحيح عن عكرمة أن ابن عباس، وعمارا، والزبير، أخذوا سارقا، فخَلَّوا سبيله، فقلت لابن عباس: بئسما صنعتم، حين خليتم سبيله، فَقَالَ: لا أُمَّ لك، أما لو كنت أنت لسرك أن يُخَلَّى سبيلُك، وأخرجه الدارقطنيّ، منْ حديث الزبير موصولا مرفوعا، بلفظ:"اشفعوا ما لم يصل إلى الوالي، فإذا وصل الوالي فعفا، فلا عفا الله عنه". والموقوف هو المعتمد.

وفي الباب غيرُ ذلك، حديث صفوان بن أمية، عند أحمد، وأبي داود، والنسائي -يعني حديث الباب- وابن ماجه، والحاكم، فِي قصة الذي سرق رداؤه، ثم أراد أن لا يُقطع، فَقَالَ له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"هل لا قبل أن تأتيني به"، وحديث ابن مسعود، فِي قصة الذي سَرَق، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقطعه، فرأوا منه أَسَفًا عليه، فقالوا: يا رسول الله، كأنك كرهت قطعه؟ فَقَالَ:"وما يمنعني، لا تكونوا أعوانا للشيطان عَلَى أخيكم، إنه ينبغي للإمام إذا أُنهي إليه حدٌّ أن يقيمه، والله عَفُوٌّ يحب العفو". وفي الْحَدِيث قصة مرفوعة، وأُخرج موقوفًا، أخرجه أحمد، وصححه الحاكم.

وحديث عائشة مرفوعا: "أقيلوا ذوي الهيآت زلاتهم، إلا فِي الحدود"، أخرجه أبو داود

(1)

، ويستفاد منه جواز الشفاعة فيما يَقتضي التعزير، وَقَدْ نقل ابن عبد البرّ، وغيره فيه الاتفاق، ويدخل فيه سائر الأحاديث الواردة فِي ندب الستر عَلَى المسلم، وهي محمولة عَلَى ما لم يبلغ الإمام. انتهى ما فِي "الفتح" 14/ 39.

(ومنها): ما قاله أيضًا: فِي هَذَا دليل، عَلَى أن لصاحب السرقة فِي ذلك، ما ليس للسلطان، وذلك ما لم يبلغ السلطان، فإذا بلغ السارق إلى السلطان، لم يكن للمسروق منه شيء منْ حكمه، فِي عفو، ولا غيره، لأنه لا يتبعه بما سرق منه إذا وهبه له، ألا ترى أنهم قد أجمعوا عَلَى أن السارق لو أقر بسرقة، عند الإمام يجب فِي مثلها القطع، سرقها منْ رجل غائب، أنه يقطع، وإن لم يحضر رب السرقة، ولو كَانَ لرب السرقة فِي ذلك مقال، لم يقطع حَتَّى يحضر، فيُعرَف ما عنده فيه. انتهى "التمهيد" 11/ 225. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي عفو المالك عن السارق:

قَالَ الموفق رحمه الله تعالى: إذا ملك العين المسروقة، بهبة، أو بيع، أو غيرهما،

(1)

حديث صحيح أخرجه أحمد، وأبو داود منْ حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 378

منْ أسباب الملك، لم يخل منْ أن يملكها قبل رفعه إلى الحاكم، والمطالبة بها عنده، أو بعد ذلك، فإن ملكها قبله، لم يجب القطع؛ لأن منْ شرطه المطالبة بالمسروق، وبعد ملكه له لا تصح المطالبة، وإن ملكها بعده، لم يسقط القطع.

وبهذا قَالَ مالك، والشافعي، وإسحاق. وَقَالَ أصحاب الرأي: يسقط؛ لأنها صارت ملكه، فلا يقطع فِي عين هي ملكه، كما لو ملكها قبل المطالبة بها، ولأن المطالبة شرط، والشرط يعتبر دوامها، ولم يبق لهذه العين مطالب.

قَالَ: ولنا حديث صفوان بن أميّة رضي الله عنه وفيه: "فهلا قبل أن تأتيني به"، فإن هَذَا يدل عَلَى أنه لو وُجد قبل رفعه إليه، لدرأ القطع، وبعده لا يسقطه، وقولهم: إن المطالبة شرط، قلنا: هي شرط القطع، بدليل أنه لو استرد العين، لم يسقط، وَقَدْ زالت المطالبة.

قَالَ: وإن أقر المسروق منه، أن المسروق كَانَ ملكا للسارق، أو قامت به بينة، أو أن له فيه شبهة، أو أن المالك أذن له فِي أخذها، أو أنه سلبها، لم يقطع؛ لأننا تبينا أنه لم يجب، بخلاف ما لو وهبه إياها، فإن ذلك لا يمنع كون الحد واجبا، وإن أقر له بالعين سقط القطع أيضا؛ لأن إقراره يدل عَلَى تقدم ملكه لها، فيحتمل أن تكون له حال أخذها، والمنصوص عن أحمد أن القطع لا يسقط؛ لأنه ملك تجدد سببه بعد وجوب القطع، فأشبه الهبة، ولأن ذلك حيلة عَلَى إسقاط القطع بعد وجوبه، فلم يسقط بها كالهبة. انتهى "المغني" 12/ 451 - 453. بتصرّف.

وَقَالَ الحافظ أبو عمر رحمه الله تعالى: واختلفوا أيضا فِي السارق يُرفع إلى الحاكم، وسرقته بيده، فيحكم عليه بالقطع لثبوت سرقته، بإقراره، أو ببينة عدول، قامت عليه، فيهب له المسروق منه ما سرقه، هل يقطع أم لا؟، فَقَالَ مالك، وأهل المدينة، والشافعي، وأهل الحجاز: يقطع؛ لأن الهبة إنما وقعت بعد وجوب الحد، فلا يسقط ما قد وجب لله، كما أنه دو غصب جارية، ثم نكحها قبل أن يقام عليه الحد، لم يسقط ذلك الحد عنه، قَالَ الطحاوي: ويختلفون فِي هذه المسألة، لو كانت الهبة قبل أن يؤتى بالسارق إلى الإمام، فَقَالَ أهل الحجاز، منهم مالك، والشافعي: يقطع، ووافقهم عَلَى ذلك ابن ابي ليلى، وَقَالَ أبو يوسف: فِي هَذَا لا يقطع، وأما أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن، فقالا: لا يقطع فِي شيء منْ ذلك، مع وقوع مالكه عَلَى السرقة قبل أن يرفع إلى الإمام، وبعد أن يرفع إليه، وحجة أبي يوسف قوله صلى الله عليه وسلم:"فهلا قبل أن تأتيني به"، وهذا يدل عَلَى أنه لو وهب للسارق رداءه، قبل أن يأتيه به لما قطع. والله أعلم.

ص: 379

قَالَ أبو عمر: الحجة قائمة لمالك، والشافعي عَلَى أبي حنيفة بالحديث المذكور فِي هَذَا الباب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قطع يد السارق الذي سرق ثوب صفوان بن أمية بعد أن وهبه له، وَقَالَ:"هلا قبل أن تأتيني به"، ومعنى قوله عندهم:"فهلا قبل أن تأتيني به": هلا كَانَ ما أردت منْ العفو عنه، قبل أن تأتيني به، فإن الحدود إذا لم أوت بها، ولم أعرفها لم أقمها، وإذا أتتني لم يجز العفو عنها، ولا لغيري، هَذَا معناه. والله أعلم. وَقَدْ احتج الشافعيّ بالزاني، توهب له الأمة التي زنى بها، أو يشتريها إنَّ ملكه الطارىء لا يزيل الحد عنه، فكذلك السرقة.

ومن حجة أبي حنيفة فِي قوله: متى وهب السرقة صاحبها للسارق سقط الحد، قوله صلى الله عليه وسلم:"تعافوا عن الحدود بينكم، فما بلغني منْ حد فقد وجب"، قَالَ: فهذا الحد قد عفي عنه بالهبة، وَقَدْ حصلت ملكا للسارق قبل أن يبلغ السلطان، فلم يبلغ الحد السلطان، إلا وهو معفو عنه، قَالَ: وما حصل ملكا السارق، استحال أن يقطع فيه؛ لأنه إنما يقطع فِي ملك غيره، لا فِي ملك نفسه.

ومن حجتهم أيضا: أن الطارىء منْ الشبهة فِي الحدود، بمنزلة ما هو موجود فِي الحال، قياسا عَلَى الشهادات. وبالله التوفيق.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قالوه كله قياس فِي مقابلة النصّ، فيكون فاسدًا، ولقد أحسن منْ قَالَ، وأجاد فِي المقال:

إِذَا جَالَتْ خُيُولُ النَّصِّ يَوْمًا

تُجَارِي فِي مَيَادِينِ الْكِفَاحِ

غَدَتْ شُبَهُ الْقِيَاسِيِّينَ صَرْعَى

تَطِيرُ رُؤُوسُهُنَّ مَعَ الرِّيَاحِ

قَالَ أبو عمر: وَقَدْ اختلفوا فِي السارق تُدَّعَى عليه السرقة فِي ثوب هو بيده يدعيه لنفسه وصاحب السرقة غائب فَقَالَ أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما لا يخاصمه فِي ذلك أحد إلا رب الثوب ولا يسمع منْ غيره فِي ذلك بينة ولا خصومة فِي ذلك بينه وبين منْ يدعي عليه حَتَّى يأتي رب الثوب أو وكيله فِي ذلك وَقَالَ ابن أبي ليلى ومالك كل منْ خاصمه فِي ذلك منْ النَّاس كَانَ خصما له وسمعت بينته فإن قبلت قطع وإن لم يأت بمدفع وهذه المسائل كلها فِي معنى الْحَدِيث فلذلك ذكرناها وبالله التوفيق. انتهى "التمهيد" 11/ 225.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه المسألة أيضا منْ نوع الذي قبلها، فهي غير صحيحة، والحاصل أن الحقّ أن التجاوز عن السرقة إنما يجوز قبل أن يُرفع إلى الإمام، فأما بعد رفعه، فلا يجوز؛ للنصّ الصحيح الصريح، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتحيّر بالتقليد والاعتساف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 380

(المسألة السادسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي اشتراط الحرز فِي وجوب قطع السارق:

قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: ما حاصله: ذهب أكثر أهل العلم إلى أن منْ شروط قطع السارق أن يسرق منْ حرز، ويخرجه منه، وهو مذهب عطاء، والشعبي، وأبي الأسود الدؤلي، وعمر بن عبد العزيز، والزهري، وعمرو بن دينار، والثوري، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأصحاب الرأي، ولا نعلم عن أحد منْ أهل العلم خلافهم، إلا قولاً حُكي عن عائشة، والحسن، والنخعي، فيمن جمع المتاع، ولم يَخرُج به منْ الحرز عليه القطع، وعن الحسن مثل قول الجماعة، وحُكي عن داود، أنه لا يعتبر الحرز؛ لأن الآية لا تفصيل فيها، وهذه أقوال شاذة، غير ثابتة عمن نقلت عنه، قَالَ ابن المنذر: وليس فيه خبر ثابت، ولا مقال لأهل العلم إلا ما ذكرناه، فهو كالإجماع، والإجماع حجة عَلَى منْ خالفه، ورَوَى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رجلا منْ مُزينة، سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الثمار؟ فَقَالَ:"ما أُخذ فِي غير أكمامه، فاحتُمِل، ففيه قيمته، ومثله معه، وما كَانَ فِي الخزائن، ففيه القطع، إذا بلغ ثمن الْمِجَنَّ"، رواه أبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وغيرهما، وهذا الخبر يخص الآية كما خصصناها فِي اعتبار النصاب. انتهى "المغني" 12/ 426 - 427.

وَقَالَ الحافظ أبو عمر رحمه الله تعالى: واختلف العلماء فِي السارق منْ غير حرز، فأما فقهاء الأمصار بالحجاز، والعراق، والشام، فإنهم اعتبروا جميعا الحرز فِي وجوب القطع، باتفاق منهم عَلَى ذلك، وقالوا: منْ سرق منْ غير حرز، فلا قطع عليه، بلغ المقدار، أو زاد، والحجة لما ذهب إليه الفقهاء فِي ذلك، قوله صلى الله عليه وسلم: "لا قطع فِي حريسة جبل

(1)

، حَتَّى يأويها المراح

(2)

"، وأجمعوا أن السارق منْ مال المضاربة والوديعة، لا قطع عليه، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "لا قطع عَلَى خائن، ولا مختلس"، وأجمعوا عَلَى ذلك، وفي إجماعهم عَلَى أن لا قطع عَلَى خائن، ولا مختلس دليل عَلَى مراعاة الحرز.

وَقَالَ أهل الظاهر، وبعض أهل الْحَدِيث، وأحمد بن حنبل، فِي رواية عنه: كل سارق يقطع، سرق منْ حرز، وغير حرز؛ لأن الله أمر بقطع السارق أمرا مطلقًا، وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم المقدار، ولم يذكر الحرز، قَالَ أبو عمر: الحجة عليهم ما ذكرنا، وبالله توفيقنا. انتهى "التمهيد" 11/ 221 - 222.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبين بما ذُكر منْ الأدلّة أن الحقّ هو ما عليه

(1)

أي ليس فيما يُحرس بالجبل إذا سُرق قطع، لأنه ليس بحرز.

(2)

حديث صحيح سيأتي للمصنف رحمه الله تعالى برقم 11/ 4959.

ص: 381

الجمهور، منْ اشتراط الحرز لوجوب قطع السارق؛ لوضوح أدلّته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): فِي معنى الحرز:

قَالَ الحافظ أبو عمر رحمه الله تعالى: واختلف الفقهاء فِي أبواب منْ معاني الحرز، يطول ذكرها، فجملة قول مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، والثوري، والأوزاعي، وأصحابهم: أن السارق منْ غير حرز، لا قطع عليه، وجملة قول مالك، والشافعي فِي الحرز: أن الحرز كل ما يَحرز به النَّاس أموالهم، إذا أرادوا التحفظ بها، وهو يختلف باختلاف الشيء المحروز، واختلاف المواضع، فإذا ضم المتاع فِي السوق إلى موضع، وقعد عليه صاحبه، فهو حرز، وكذلك إذا جعل فِي ظرف، فأخرج منه، وعليه منْ يحرزه، أو كانت إبلٌ قُطِر

(1)

بعضها إلى بعض، أو أنيخت فِي صحراء، حيث يُنظر إليها، أو كانت غنما فِي مَراحها، أو متاعا فِي فسطاط، أو بيتا مغلقا عَلَى شيء، أو مقفولا عليه، وكل ما تنسبه العامة إلى أنه حرز، عَلَى اختلاف أزمانها، وأحوالها.

قَالَ الشافعيّ: ورداء صفوان كَانَ محرزا، باضطجاعه عليه، فقَطَعَ النبيّ صلى الله عليه وسلم سارقه، قَالَ: ويقطع النباش إذا أخرج الكفن منْ جميع القبر؛ لأن هَذَا حرز مثله، ومذهب المالكيين، والشافعيين فِي هَذَا الباب متقارب جدا، ولا سبيل إلى إيراد مسائل السرقة، عَلَى اختلاف أنواع الحرز، وَقَدْ ذكرناها هنا جُمَلا تَكفي، ومن أراد الوقوف عَلَى الفروع، نظر فِي كتب الفقهاء، وبان له ما ذكرناه، وبالله التوفيق. انتهى "التمهيد" 11/ 222.

وَقَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: إذا ثبت اعتبار الحرز، والحرز ما عُدَّ حرزا فِي العرف، فإنه لَمّا ثبت اعتباره فِي الشرع منْ غير تنصيص عَلَى بيانه، عُلِم أنه رَدَّ ذلك إلى أهل العرف؛ لأنه لا طريق إلى معرفته، إلا منْ جهته، فيُرجَع إليه كما رجعنا إليه فِي معرفة القبض، والفرقة فِي البيع، وأشباه ذلك.

إذا ثبت هَذَا فإن مِن حرز الذهب والفضة والجواهر الصناديقَ تحت الأغلاق، والأقفال الوثيقة فِي العمران، وحرز الثياب، وما خَفَّ منْ المتاع، كالصفر، والنحاس، والرصاص فِي الدكاكين، والبيوت المقفلة فِي العمران، أو يكون فيها حافظ، فيكون حرزا، وإن كانت مفتوحة، وإن لم تكن مغلقة، ولا فيها حافظ، فليست بحرز، وإن كانت فيها خزائن مغلقة، فالخزائن حرز لما فيها، وما خرج عنها فليس بمحرز، وَقَدْ

(1)

قطرت الإبل، منْ باب قتل: جعلتها قِطارًا، والقطار بالكسر منْ الإبل عدد عَلَى نسق واحد. "المصباح".

ص: 382

روي عن أحمد فِي البيت الذي ليس عليه غلق يسرق منه، أراه سارقا، وهذا محمول عَلَى أن أهله فيه.

فأما البيوت التي فِي البساتين، أو الطرق، أو الصحراء، فإن لم يكن فيها أحد، فليست حرزا، سواء كانت مغلقة، أو مفتوحة؛ لأن منْ ترك متاعه فِي مكان خال منْ النَّاس والعمران، وانصرف عنه، لا يُعَدّ حافظا له، وإن أغلق عليه، وإن كَانَ فيها أهلها، أو حافظ فهي حرز، سواء كانت مغلقة، أو مفتوحة، وإذا كَانَ لابسا للثوب، أو متوسدا له، نائما، أو مستيقظا، أو مفترشا له، أو متكئا عليه، فِي أي موضع كَانَ منْ البلد، أو بريّة، فهو محرز، بدليل أن رداء صفوان، سُرق وهو متوسد له، فقَطَع النبيّ صلى الله عليه وسلم سارقه، وإن تدحرج عن الثوب، زال الحرز، إن كَانَ نائما، وإن كَانَ الثوب بين يديه، أو غيره منْ المتاع، كبز البزازين، وقُماش الباعة، وخبز الخبازين، بحيث يشاهده، وينظر إليه فهو محرز، وإن نام، أو كَانَ غائبا عن موضع مشاهدته، فليس بمحرز، وإن جعل المتاع فِي الغرائز، وعَلم عليها، ومعها حافظ يشاهدها، فهي محرزة، وإلا فلا. انتهى "المغني" 12/ 427 - 428.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد اتّضح مما سبق أن الحرز هو ما تعارفه النَّاس لحفظ أموالهم، وهيّؤوه لذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4881 -

(أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ مُرَقَّعٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، أَنَّ رَجُلاً سَرَقَ بُرْدَةً، فَرَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ تَجَاوَزْتُ عَنْهُ، قَالَ: "فَلَوْلَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ، يَا أَبَا وَهْبٍ"، فَقَطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل": الشيبانيّ، أبو عبد الرحمن، ولد الإمام المشهور، ثقة [12] 45/ 2253 منْ أفراد المصنّف. و"أبوه": هو الإمام المشهور العلم الحجة أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيبانيّ، أبو عبد الله المروزيّ، نزيل بغداد الثقة الثبت الحجة الفقيه، رأس [10] 49/ 958.

و"محمد بن جعفر": هو المعروف بـ"غندر". و"سعيد": هو ابن أبي عروبة.

[تنبيه]: قوله: "حدثنا سعيد" هكذا وقع فِي نسخ "المجتبى"، و"الكبرى"، وكذا هو فِي "تحفة الأشراف" 4/ 188 - بل قَالَ فيه: وهو ابن أبي عروبة. لكن أشار فِي هامش

ص: 383

"الهنديّة"، وغيرها إلى أنه وقع فِي بعض نسخ "المجتبى""حدثنا شعبة" بدل "حدثنا سعيد"، وهو الذي وقع عند أبي عمر ابن عبد البرّ فِي "التمهيد" 11/ 218 - كما سبق:"حدّثنا شعبة" بدل "سعيد"، وأشار إلى أنه هكذا عند النسائيّ، حيث قَالَ بعد إخراجه بسنده: وذكره النسائيّ عن عبد الله بن أحمد بن حنبل بإسناده مثله سواءً. انتهى. ومعلومٌ أن غندرًا يروي عن كلّ منْ شعبة، وسعيد بن أبي عروبة، لكنه بشعبة ألصق، فقد جالسه نحوًا منْ عشرين سنة، وهو ربيبه، وكتابه عنه منْ أصحّ الكتب، وكان أصحاب شعبة إذا اختلفوا يرجعون إليه، فهو الحكم بينهم، فليُتأمّل، وليُحرّر، فالله تعالى أعلم بالصواب.

و"طارق بن مُرَقّع" حجازيّ مقبول [3].

رَوَى عن صفوان بن أمية، وعنه عطاء بن أبي رباح.

ذكر ابن مندهْ فِي "الصحابة" طارق بن المرقع، وساق حديث ميمونة بنت كَرْدَم، وفيه فدنا أبي منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بقدمه، وَقَالَ أبي، شَهِدت جيش عيزار، فَقَالَ طارق بن المرقع مَن يُعطيني رمحا بثوابه، قَالَ: قلت وما ثوابه؟ قَالَ: أزوجه أول بنت لي

الْحَدِيث. وَقَالَ أبو نعيم فِي "الصحابة": طارق بن المرقع، إن كَانَ إسلاميا فهو تابعيّ، وأما المرقع بن كَرْدم فلا يعرف له فِي الاسلام أثر، ولا ذكر، فكيف فِي الصحابة، وذكره ابن عبد البرّ فِي "الاستيعاب"، وَقَالَ رَوَى عنه ابنه عبد الله، وعطاء بن أبي رباح، وفي صحبته نظر. وذكر خليفة أن معاوية وَلي مكة أخاه عنبسة، فكان إذا شخص إلى الطائف، استخلف طارق بن المرقع. انتهى "تهذيب التهذيب" 2/ 234. تفرد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.

[تنبيه]: "مرقّع" لم يتبين لي ضبطه، هل هو بصيغة اسم المفعول المضعف، كما هو مضبوط بالقلم، أو هو بصيغة اسم الفاعل المضعّف، لم أر منْ حقّق ذلك. والله تعالى أعلم.

والحديث صحيح.

[فإن قلت]: كيف يصح، وفيه مجهولٌ؛ وهو طارق بن مرقّع، فإنه لم يرو عنه غير عطاء؟.

[قلت]: لم ينفرد به طارق، بل تابعه عليه طاوس، وعكرمة، كما سيأتي فِي الباب التالي، وأيضًا فقد مرّ آنفاً أن ابن عبد البرّ ذكر ممن روى عنه ابنه عبد الله، فإن صحّ هَذَا فقد زالت جهالة عينه.

والحاصل أن الْحَدِيث صحيح. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب،

ص: 384

وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

[تنبيه]: زاد فِي "الكبرى" آخر الْحَدِيث الماضي: ما نصّه: "خالفه الأوزاعيّ، فأرسل الْحَدِيث": يعني أن الأوزاعيّ خالف قتادة، فرواه مرسلاً، ثم بيّن طريق الأوزاعيّ بقوله:

4882 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ نُعَيْمٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حِبَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: أَنَّ رَجُلاً سَرَقَ ثَوْبًا، فَأُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ لَهُ، قَالَ: "فَهَلاَّ قَبْلَ الآنَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن حاتم بن نُعيم": هو المروزيّ الثقة [12] 1/ 397 منْ أفراد المصنّف. و"حبّان" -بكسر الحاء المهملة-: هو ابن موسى بن سَوّار السلميّ، أبو محمد المروزيّ، ثقة [10] 1/ 397. و"عبد الله": هو ابن المبارك الإمام المشهور. و"الأوزاعيّ": هو عبد الرحمن بن عمرو الإمام المشهور.

وقوله: "فهلّا قبل الآن": "هلّا" بتشديد اللام منْ أدواة التحضيض، كما قَالَ ابن مالك رحمه الله تعالى: فِي "خلاصته":

"لَوْلَا" و"لَوْمَا" يَلْزَمَانِ الابْتِدَا

إِذَا مْتِنَاعًا بِوُجُودٍ عَقَدَا

وِبِهمَا التَّحْضِيضَ مِزْ و"هَلَّا"

"أَلَّا""أَلَا" وَأْوِلِيَنْهَا الْفِعْلَا

وَقَدْ يَلِيهَا اسْمٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرِ

عُلِّقَ أَوْ بِظَاهِرِ مُؤَخَّرِ

والمعنى هنا: هلّا وهبت له قبل هَذَا الوقت الذي وجب فيه قطع يده.

والحديث مرسلٌ صحيح بما سبق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌5 - (مَا يَكُونُ حِرْزًا، وَمَا لَا يَكُونُ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: استدلال المصنّف رحمه الله تعالى بأحاديث الباب عَلَى ما يكون حرزًا، واضح؛ لأنه يدلّ عَلَى أنه إذا كَانَ صاحب المتاع عنده، كنوم صفوان عَلَى ردائه، فإنه فِي حرز، وأما استدلاله عَلَى ما لا يكون حرزًا، ففيه خفاء.

ص: 385

والله تعالى أعلم.

و"الحِرْزُ" -بكسر الحاء المهملة، وسكون الراء، آخره زاي-: المكان الذي يُحفظ فيه، والجمع أَحراز، مثلُ حِمْل وأَحمال، وأحرزتُ المتاعَ: جعلته فِي الحرز، ويقال: حِرْزٌ حَرِيزٌ للتأكيد، كما يقال: حِصْنٌ حَصِين، واحترز منْ كذا: أي تحفّظ، وتحرز مثلُهُ، وأحرزتُ الشيءَ إحرازًا: ضممته، ومنه قولهم:"أحرز قَصَب السَّبْقِ": إذا سبق إليها، فضمها، دون غيره. قاله الفيّوميّ.

وَقَدْ تقدم اختلاف العلماء فِي اشتراط الحرز لوجوب القطع فِي السرقة فِي الباب الماضي، فلا تغفل. والله تعالى أعلم بالصواب.

4883 -

(أَخْبَرَنِي هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ -هُوَ ابْنُ أَبِي بَشِيرٍ- قَالَ: حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، أَنَّهُ طَافَ بِالْبَيْتِ، وَصَلَّى، ثُمَّ لَفَّ رِدَاءً لَهُ مِنْ بُرْدٍ، فَوَضَعَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ، فَنَامَ، فَأَتَاهُ لِصٌّ، فَاسْتَلَّهُ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ، فَأَخَذَهُ، فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا سَرَقَ رِدَائِي، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَسَرَقْتَ رِدَاءَ هَذَا؟ "، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "اذْهَبَا بِهِ فَاقْطَعَا يَدَهُ"، قَالَ صَفْوَانُ: مَا كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ فِي رِدَائِي، فَقَالَ لَهُ: "فَلَوْ مَا قَبْلَ هَذَا". خَالَفَهُ أَشْعَثُ بْنُ سَوَّارٍ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "هلال بن العلاء" سبق فِي الباب الماضي.

و"حُسين": هو ابن عياش بن حازم السلميّ مولاهم، أبو بكر الباجُدّائيّ -بموحدة، وجيم مضمومة، ودال ثقيلة، وبعد الألف همزة- ثقة [10] 5/ 1484 منْ أفراد المصنّف. و"زُهير": هو ابن معاوية بن حُديج، أبو خيثمة الجعفيّ الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقة ثبتٌ [7] 37/ 42.

و"عبد الملك بن أبي بشير" البصريّ، نزيل المدائن، ثقة [6].

رَوَى عن عكرمة، وعبد الله بن مساور، وحفصة بنت سيرين، وآخرون. وعنه ليث ابن أبي سليم، والثوري، وزهير بن معاوية، والمحاربي، وجنيد بن العلاء، ومحمد بن حمران القيسي، وغيرهم.

قَالَ: مؤمل، عن سفيان، حدثنا عبد الملك بن أبي بشير، وكان شيخ صدق. وَقَالَ علي، عن القطّان: كَانَ ثقة. وَقَالَ الأثرم، عن أحمد: زعموا أنه كَانَ رجلا صالحا. وَقَالَ أحمد أيضا، وابن معين، وأبو زرعة، والعجلي، ويعقوب بن سفيان، والنسائي: ثقة. وَقَالَ أبو حاتم: صالح الْحَدِيث. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات".

وله ذكر فِي "صحيح البخاريّ"، فِي سند أثر معلق فِي "الأطعمة"، قَالَ البخاريّ:

ص: 386

قَالَ أبو بكر رضي الله عنه: الطافي حلال، ووصله الدارقطنيّ، منْ طريق سفيان الثوري، عن عبد الملك هَذَا، عن عكرمة، عن ابن عباس، قَالَ: أشهد عَلَى أبي بكر بهذا. وفي "البر والصلة" لابن المبارك، فِي أثناء إسناد: كَانَ مرضيا. روى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، وأبو داود، والمصنّف، والترمذيّ، وله عند المصنّف هَذَا الْحَدِيث فقط.

و"عكرمة": هو مولى ابن عبّاس.

وقوله: "أنه طاف بالبيت" هذه الزيادة شاذّة؛ لأن المشهور أن هذه القصّة وقعت فِي المدينة، فسيأتي للمصنّف بعد حديثين: ما لفظه: "وهو نائم فِي مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وَقَدْ تقدّم منْ رواية مالك فِي "الموطإ" أنه قيل له: إنه منْ لم يهاجر هلك، فقدِم صفوان بن أمية المدينة، فنام فِي المسجد

الْحَدِيث، فثبت أن الواقعة ليست بمكة، وإنما هي بالمدينة، فتنبّه.

وقوله: "فاستلّه": أي أخذه بخفية.

وقوله: "اذهبا به الخ" بضمير التثنية، ولعله كَانَ عنده صلى الله عليه وسلم وقت ذاك رجلان.

وقوله: "فلو ما قبل هَذَا": تقدم أن "لو ما" مثل "لولا"، و"هلّا"، و"ألا" تستعمل للتحضيض، أي هلّا كَانَ هَذَا العفو عنه قبل هَذَا الوقت.

والحديث صحيح إلا الزيادة المذكورة، كما سبق آنفاً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله: (خَالَفَهُ أَشْعَثُ بْنُ سَوَّارٍ) يعني أن أشعث بن سوّار خالف عبد الملك بن أبي بشير فِي إسناد هَذَا الْحَدِيث، فَقَالَ:"عن عكرمة، عن ابن عباس"، لكن مخالفته هذه لا تضرّ برواية عبد الملك، فإنه ثقة، بخلاف أشعث، فإنه ضعيفٌ، كما سيأتي للمصنّف، ثم ساق رواية أشعث بقوله:

4884 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ -يَعْنِي ابْنَ أَبِي خِيَرَةَ- قَالَ" حَدَّثَنَا الْفَضْلُ -يَعْنِي ابْنَ الْعَلَاءِ الْكُوفِيَّ- قَالَ: حَدَّثَنَا أَشْعَثُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ صَفْوَانُ نَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ، وَرِدَاؤُهُ تَحْتَهُ، فَسُرِقَ، فَقَامَ، وَقَدْ ذَهَبَ الرَّجُلُ، فَأَدْرَكَهُ، فَأَخَذَهُ، فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ، قَالَ صَفْوَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بَلَغَ رِدَائِي أَنْ يُقْطَعَ فِيهِ رَجُلٌ، قَالَ: "هَلاَّ كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنَا بِهِ".

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَشْعَثُ ضَعِيفٌ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن هشام بن أبي خِيَرَة" -بكسر المعجمة، وفتح التحتانيّة-: هو البصريّ، نزيل مصر، ثقة مصنفٌ [10] 40/ 2206 منْ أفراد

ص: 387

المصنّف، وأبي داود.

و"الفضل بن العلاء" أبو العبّاس، ويقال: أبو العلاء، الكوفيّ، نزيل البصرة، صدوقٌ، له أوهام [9].

رَوَى عن فطر بن خليفة، وعثمان بن حكيم، وليث بن أبي سليم، وموسى بن عُبيدة، وأشعث بن سَوّار، وإسماعيل بن أمية، وإبراهيم بن مسلم الْهَجَري، وطلحة بن عمرو المكيّ، وجماعة. وعنه أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وعمرو بن علي الفلّاس، وأبو بكر بن الأسود، ومحمد بن هشام بن شبيب بن أبي خِيَرَة، ومحمد بن إبراهيم بن صدران، ومحمد بن عبد الأعلى الصنعاني، وخليفة بن خياط، وعلي بن الحسين الدرهمي، وأزهر بن جميل، وأحمد بن بكار، وآخرون.

قَالَ أبو حاتم: شيخ يكتب حديثه. وَقَالَ النسائيّ: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ ابن شاهين فِي "الثقات": قَالَ ابن معين: لا بأس به. وَقَالَ علي بن المديني: ثقة. وَقَالَ الدارقطنيّ: كَانَ كثير الوهم.

رَوَى له البخاريّ حديثا واحدا، مقرونا بغيره، منْ مسند ابن عباس أيضا، فِي بعث معاذ إلى اليمن، والمصنّف هَذَا الْحَدِيث فقط.

و"أشعث": هو ابن سَوّار الكنديّ النجّار الكوفيّ، مولى ثقيف، ويقال له: أشعث النجار، وأشعث التابوتي، وأشعث الأفرق، ويقال: الأثرم، صاحب التوابيت، وكان عَلَى قضاء الأهواز، ضعيف [6].

رَوَى عن الحسن البصريّ، والشعبي، وعدي بن ثابت، وعكرمة، وأبي إسحاق، وعون بن أبي جحيفة، والحكم بن عتيبة، وغيرهم. وعنه شعبة، والثوري، وهشيم، وحفص بن غياث، والفضل بن العلاء، وابنه عبد الله بن أشعث، ويزيد بن هارون، آخر منْ حدث عنه، رَوَى عنه أبو إسحاق السبيعي، وهو منْ شيوخه.

قَالَ الثوري: أشعث أثبت منْ مجالد. وَقَالَ يحيى بن سعيد: الحجاج بن أرطاة، ومحمد بن إسحاق عندي سواء، وأشعث دونهما. وَقَالَ عمرو بن عَلَى: كَانَ يحيى، وعبد الرحمن لا يحدثان عنه، ورأيت عبد الرحمن يَخُطُّ عَلَى حديثه. وَقَالَ أبو موسى: ما سمعت يحيى، ولا عبد الرحمن حدثا، عن سفيان عنه بشيء قط. وَقَالَ الدوري، عن ابن معين: أشعث بن سَوّار أحب إلى منْ إسماعيل بن مسلم، وسمع منْ الشعبي، ولم يسمع منْ إبراهيم، وَقَالَ مرة: ضعيف. وَقَالَ ابن الدورقي عنه: ثقة. وَقَالَ أحمد: هو أمثل فِي الْحَدِيث منْ محمد بن سالم، ولكنه عَلَى ذلك ضعيف الْحَدِيث. وَقَالَ العجليّ: أمثل منْ محمد بن سالم. وَقَالَ أبو زرعة: لين. وَقَالَ النسائيّ، والدارقطني:

ص: 388

ضعيف. وَقَالَ ابن عدي: ولأشعث بن سَوار روايات عن مشايخه، وفي بعض ما ذكرت يخالفونه، وفي الجملة يكتب حديثه، وأشعث بن عبد الملك خير منه، ولم أجد له فيما يرويه متنا منكرا، إنما فِي الأحايين يخلط فِي الإسناد، ويخالف. وَقَالَ البرقاني: قلت للدارقطني: أشعث عن الحسن؟ قَالَ: هم ثلاثة يحدثون جميعا، عن الحسن: الحمرانيُّ وهو ابن عبد الملك، أبو هانىء، ثقة، وابن عبد الله بن جابر الْحُدَّاني، يعتبر به، وابن سَوّار يعتبر به، وهو أضعفهم، روى عنه شعبة حديثا واحدا. وَقَالَ ابن حبّان: فاحش الخطاء، كثير الوهم. وَقَالَ ابن سعد: كَانَ ضعيفا فِي حديثه. وَقَالَ العجليّ: ضعيف يُكتب حديثه. وَقَالَ مرة: لا بأس به، وليس بالقوي، قَالَ وَقَالَ ابن مهدي: هو أرفع منْ مجالد، قَالَ: والناس لا يتابعونه عَلَى هَذَا، مجالد أرفع منه. وَقَالَ ابن شاهين فِي "الثقات": عن عثمان بن أبي شيبة: صدوقٌ، قيل: حجة؟ قَالَ: لا. وَقَالَ بندار: ليس بثقة. وَقَالَ الآجري: قلت لأبي داود: أشعث، وإسماعيل بن مسلم، أيهما أعلى؟ قَالَ: إسماعيل، دون أشعث، وأشعث ضعيف. وَقَالَ البزار: لا نعلم أحدا ترك حديثه، إلا منْ هو قليل المعرفة، واستنكر له العقيلي روايته، عن الحسن، عن أبي موسى، حديث:"الأذنان منْ الرأس"، وَقَالَ: لا يتابع عليه. قَالَ عمرو بن عَلَى: مات سنة (136).

روى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، ومسلم فِي المتابعات، والترمذي، والمصنّف، وله عنده حديثان: هَذَا، وفِي 13/ 4978 - حديث جابر رضي الله عنه:"ليس عَلَى خائن قطع".

وقوله: (قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَشْعَثُ ضَعِيفٌ) قد تقدّم ما قاله غيره منْ الأئمة فِي ترجمته الآنف الذكر.

والحديث صحيح، كما سبق، لكن هَذَا الإسناد ضعيف؛ لمخالفة أشعث، وهو ضعيف، لعبد الملك بن أبي بشير، وهو ثقة، لكن سبق الْحَدِيث بالأسانيد الصحيحة، فلا يضرّه ضعف هَذَا الإسناد، فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4885 -

(أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ أُخْتِ صَفْوَانَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ: كُنْتُ نَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ، عَلَى خَمِيصَةٍ لِي، ثَمَنُهَا ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا، فَجَاءَ رَجُلٌ، فَاخْتَلَسَهَا مِنِّي، فَأُخِذَ الرَّجُلُ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ بِهِ لِيُقْطَعَ، فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: أَتَقْطَعُهُ مِنْ أَجْلِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا؟ أَنَا أَبِيعُهُ، وَأُنْسِئُهُ ثَمَنَهَا، قَالَ: "فَهَلاَّ كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ").

ص: 389

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أحمد بن عثمان بن حكيم": هو الأوديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة [11] 160/ 252.

و"عمرو": هو ابن حمّاد بن طلحة القَنَّاد أبو محمد الكوفيّ، وَقَدْ يُنسَبُ إلى جدّه، صدوقٌ رُمِيَ بالرفض [10].

روى عن أسباط بن نصر، وعلي بن هاشم، وعامر بن يسار وغيرهم. وروى عنه مسلم، وأبو داود، والمصنف، وابن ماجه، وغيرهم.

قَالَ ابن معين وأبو حاتم: صدوقٌ، وَقَالَ أبو داود: كَانَ منْ الرافضة ذكر عثمان بشيء، فطلبه السلطان فهرب. وَقَالَ مطيّن: ثقة تُوفي فِي صفر سنة (222)، وكذا ذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وكذا أرخه ابن سعد، وَقَالَ: كَانَ ثقة إن شاء الله. وَقَالَ الساجي: كَانَ يُتَّهَمُ فِي عثمان، وعنده مناكير. رَوَى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، ومسلم، وأبو داود، والمصنف، وابن ماجه فِي "التفسير". وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.

و"أسباط": هو ابن نصر الهمدانيّ، الكوفيّ، صدوقٌ، كثير الخطأ، يُغرب [8] 14/ 409.

و"سماك": هو ابن حرب، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوقٌ، مضطرب فِي حديث عكرمة، وتغيّر بآخره، فكان يتلقّن [4] 2/ 325.

و"حُميد ابن أخت صفوان" بن أميّة المكيّ، وقيل: اسمه جُعيد، مقبول [7].

روى عن خاله صفوان قصّة الخميصة. وعنه سماك بن حرب، وبعضهم سمّاه جُعيدًا، ذكره ابن حبّان فِي "الثقات". سمّاه البخاريّ حُميد بن حُجير، وَقَالَ: إن زائدة صحّفه، فَقَالَ: جُعيد بن حُجير. وَقَالَ ابن القطّان: إنه مجهول الحال. تفرّد به أبو داود، والمصنّف، له عندهما هَذَا الْحَدِيث فقط.

وقوله: "فأخذ الرجل، فاتي به الخ" بالبناء للمفعول. وقوله: "فأمر" بالبناء للفاعل. وقوله: "ليُقطع" بالبناء للمفعول.

وقوله: "أنسئه ثمنها": أي أُأَخِّرُ عنه.

[فإن قلت]: هَذَا مخالف للروايات السابقة، بأنه قَالَ:"تجاوزت عنه"، وفي رواية:"هو له"، وفي بعض الروايات:"هو عليه صدقة"، وفي بعضها أنه وهبه له.

[قلت]: هذه الرواية ضعيفة، لجهالة حميد ابن أخت صفوان، فلا تعارض الروايات الصحيحة، وعلى تقدير صحّتها، يحتمل أنه قَالَ أوّلاً:"أبيعه"، فلما عزم صلى الله عليه وسلم بقطعه، وهبه له، ظنًّا منه أنه إنما عزم عَلَى القطع؛ لكونه باعه منه، ولم يحصل منه القبول،

ص: 390

فربما لا يرضى بالبيع، وربما لا يفي بثمنه، فوهبه له؛ ليخفّف عنه التبعة، حَتَّى يترك صلى الله عليه وسلم قطعه؛ لدخوله فِي ملكه بلا عوض، يُخشى أن لا يقوم بدفعه. والله تعالى أعلم.

والحديث -وإن كَانَ فِي سنده حميد، وهو مجهول، إلا أنه صحيح بالأسانيد الماضية، فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4886 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا -وَذَكَرَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ- عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، أَنَّهُ سُرِقَتْ خَمِيصَتُهُ، مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ، وَهُوَ نَائِمٌ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخَذَ اللِّصَّ، فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ، فَقَالَ صَفْوَانُ: أَتَقْطَعُهُ؟ قَالَ: "فَهَلاَّ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ تَرَكْتَهُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن عبد الله بن عبد الرحيم": هو ابن الْبَرْقيّ المصريّ، ثقة [11] 17/ 1540 منْ أفراد المصنّف، وأبي داود. و"أسد بن موسى": هو الأمويّ المعروف بأسد السنّة، المصريّ، صدوقٌ، يُغْرِب، وفيه نَصْبٌ [9] 41/ 3176.

والحديث صحيح، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4887 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَاشِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "تَعَافَوُا الْحُدُودَ قَبْلَ أَنْ تَأْتُونِي بِهِ، فَمَا أَتَانِي مِنْ حَدٍّ، فَقَدْ وَجَبَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: مناسبة هَذَا الْحَدِيث، للباب غير واضحة، فكان الأولى للمصنّف رحمه الله تعالى أن يورده فِي الباب الماضى، فإنه به أليق، وله أنسب. والله تعالى أعلم.

ورجال إسناده: ستة:

1 -

(محمد بن هاشم) القرشيّ البعلبكيّ، صدوقٌ، منْ صغار [10] 3/ 454 منْ أفراد المصنّف.

2 -

(الوليد) بن مسلم، أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقة، كثير التدليس والتسوية [8] 5/ 454.

3 -

(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكيّ، ثقة فقيه فاضل، يدلس [6] 28/ 32.

4 -

(عمرو بن شُعيب) المدنيّ، ويقال: الطائفيّ، صدوقٌ [5] 105/ 140.

5 -

(أبوه) شُعيب بن محمد بن عبد الله الطائفيّ، صدوقٌ [3] 105/ 140.

ص: 391

6 -

(جدّه) عبد الله بن عمرو بن العاص الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما 89/ 111. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ) شعيب بن محمد (عَنْ جَدِّهِ) عبد الله بن عمرو بن العاص، وفي رواية ابن وهب، عن ابن جُريج التالية:"عن عبد الله بن عمرو"، ولأبي داود:"عن عبد الله بن عمرو بن العاص"(عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "تَعَافَوُا) أمر منْ التعافي، والخطاب لغير الأئمة؛ لأنهم لا يجوز لهم أن يعفوا بعد أن يثبت لديهم بالبينة، أو الاعتراف، اللَّهم إلا إذا كانت السرقة منهم، فعفوا عن السارق دون الرفع إلى مجلس الحكم، فإنه يجوز (الْحُدُودَ) أي تجاوزا عنها، ولا ترفعوها إليّ، ولفظ رواية ابن وهب:"تعافوا الحدود فيما بينكم"(قَبْلَ أَنْ تَأْتُونِي بِهِ) أي قبل أن تأتوا إليّ بمن وجبت عليه الحدود، فتذكير الضمير باعتبار "منْ وجبت عليه"(فَمَا أَتَانِي مِنْ حَدٍّ، فَقَدْ وَجَبَ) أي فما ثبت منْ حدّ بالبينة الشرعيّة، فقد وجب عليّ تنفيذه، ولا يجوز تركه؛ لعفو صاحبه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح، إن سلم منْ عنعنة ابن جريج، فإني لم أر له تصريحًا بالتحديث، ونحوه، وَقَدْ صححه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى، وذكر فِي "السلسلة الصحيحة" ما يشهد له، ولكن لا تطمئنّ له النفس. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -5/ 4887 و4888 - وفي "الكبرى" 8/ 7372 و7373. وأخرجه (د) فِي "الحدود" 4376. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): استحباب التعافي فِي الحدود، قبل الرفع إلى الإمام. (ومنها): أنه لا يجوز للإمام أن يعفو عن الحدود إذا رفعت إليه. (ومنها): ما قاله القاري فِي "المرقاة": إنه بإطلاقه يدلّ عَلَى أن ليس للمالك أن يُجري الحدّ عَلَى مملوكه، بل يعفو عنه، أو يرفع إلى الحاكم أمره، فإنه دخل تحت هَذَا الأمر، وهو للاستحباب. انتهى.

ص: 392

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قول القاري "ليس للمالك أن يجري الحدّ إلخ" فيه نظر لا يخفى، فقد جاءت الأحاديث الصحيحة بإقامة السيد الحدَّ عَلَى مماليكه، انظر ما كتبه أبو محمد ابن حزم فِي كتابه "المحلى" جـ 11 ص 164 - 167. والله تعالى أعلم. (ومنها): استحباب الستر عَلَى المسلم، وَقَدْ جاءت فيه أحاديث كثيرة:

[فمنها]: ما أخرجه الشيخان، منْ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يُسلمه، ومن كَانَ فِي حاجة أخيه كَانَ الله فِي حاجته، ومن فَرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه كربة منْ كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة".

(ومنها): ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منْ نَفَّس عن مؤمن كربة منْ كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة منْ كرب يوم القيامة، ومن يسر عَلَى معسر، يسر الله عليه فِي الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله فِي الدنيا والآخرة، والله فِي عون العبد ما كَانَ العبد فِي عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له به طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم فِي بيت منْ بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بَطّأ به عمله، لم يُسرع به نسبه". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4888 -

(قَالَ الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ جُرَيْجٍ، يُحَدِّثُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "تَعَافَوُا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "ابن وهب": هو عبد الله. والحديث تقدّم تمام البحث فيه فِي الْحَدِيث الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4889 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضى الله عنهما، "أَنَّ امْرَأَةً مَخْزُومِيَّةً، كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ، فَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَطْعِ يَدِهَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الأحاديث الآتية مناسبتها للباب غير واضحة؛ فكان الأولى له أن يفردها بباب، كما فعل غيره، فالله تعالى أعلم.

ورجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(محمود بن غيلان) العدوي مولاهم، أبو أحمد المروزيّ، نزيل بغداد، ثقة

ص: 393

[10]

33/ 37.

2 -

(عبد الرزّاق) بن همّام بن نافع الحميريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقة حافظ مصنّ شهير، عَمِي فِي آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9] 61/ 77.

3 -

(معمر) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقة ثبت [7] 10/ 10.

4 -

(أيوب) بن أبي تميمة كيسان السختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت حجة فقيه عابد [5] 42/ 48.

5 -

(نافع) مولى ابن عمر المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 12/ 12.

6 -

(ابن عمر) عبد الله رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. (ومنها): أن هَذَا الإسناد أصحّ الأسانيد مطلقًا، كما نُقل عن الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى. (ومنها): أن صحابيّه أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضى الله عنهما، أَنَّ امْرَأَةً مَخْزُومِيَّةً) نسبة إلى مخزوم بن يَقَظة -بفتح التحتانيّة، والقاف، بعدها ظاء معجمة مُشالة- ابن مرّة بن كعب بن لؤيّ بن غالب، ومخزوم أخو كلاب بن مُرّة الذي نُسب إليه بنو عبد مناف. واسم المرأة عَلَى الصحيح فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وهي بنت أخي أبي سلمة بن عبد الأسد الصحابيّ الجليل، الذي كَانَ زوج أم سلمة قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسيأتي تمام البحث فِي هَذَا فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى (كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ) وفي الرواية التاية:"تستعير متاعًا عَلَى ألسنة جاراتها"، وفي رواية:"كانت تستعير الحليّ للناس، ثم تُمسكه"، وفي رواية:"استعارت حليا عَلَى لسان أناس".

قيل: ذكرت العارية تعريفًا لحالها الشنيعة، لا لأنها سبب قطعها، فإن سببه هو السرقة، كما جاء فِي الرواية، لا جحد العارية، وبهذا قطع الجمهور، وقالوا: لا قطع عَلَى منْ جحد العارية، وخالف فِي ذلك أحمد، وإسحاق، وبعض طائفة، فقالوا: يقطع جاحد العارية.

قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى فِي "شرح مسلم": قَالَ العلماء: قُطعت بالسرقة، وإنما

ص: 394

ذُكرت العارية تعريفًا لها، ووصفا لها، لا أنها سبب القطع، وَقَدْ ذكر مسلم هَذَا الْحَدِيث فِي سائر الطرق المصرّحة بأنها سرقت، وقُطعت بسبب السرقة، فيتعيّن حمل هذه الرواية عَلَى ذلك جمعًا بين الروايات، فإنها قضيّة واحدة، مع أن جماعة منْ الأئمة قالوا: إن هذه الرواية -يعني رواية معمر، عن الزهريّ لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها بلفظ الاستعارة- شاذّة، فإنها مخالفة لجماهير الرواة، والشاذّة لا يُعمل بها. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: دعوى الشذوذ للرواية المذكورة، غير صحيحة، وسيأتي الردّ عليها فِي الباب الآتي، إن شاء الله تعالى.

(فَتَجْحَدُهُ) أي تنكر كونها استعارت ذلك المتاع (فَأمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بقَطْعِ يَدِهَا) أي بسبب جحدها المذكور. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث؛

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيحٌ.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -5/ 4889 و4890 و891 و4892 - وفي "الكبرى" 8/ 7374 و7375 و9/ 7376 و7377. وأخرجه (د) فِي "الحدود" 4395. وبقيّة المسائل ستأتي فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4890 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضى الله عنهما، قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ مَخْزُومِيَّةٌ، تَسْتَعِيرُ مَتَاعًا، عَلَى أَلْسِنَةِ جَارَاتِهَا، وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَطْعِ يَدِهَا).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "إسحاق بن إبراهيم": هو ابن راهويه.

وقوله: "عَلَى ألسنة جاراتها": "الجاراة" جمع جارة، مؤنّث جار، وهو الذي يجاورك بيتَ بيتَ، أفاده فِي "المصباح".

والمعنى: أن تلك المرأة تأتي إلى بيوت النَّاس، فتستعير المتاع منهم، مدّعية أن إحدى جاراتها أرسلتها، تستعير لها، وذلك لكونها غير معروفة عندهم، فتحتال عليهم بمن يعرفونها منْ بعض جاراتها، حَتَّى لا يمنعوها العارية؛ لكونها غير معروفة عندهم. والله تعالى أعلم.

والحديث صحيح، كما سبق بيانه فِي الْحَدِيث الذي قبله. والله تعالى أعلم

ص: 395

بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4891 -

(أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ هَاشِمٍ الْجَنْبِيُّ، أَبُو مَالِكٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضى الله عنهما، أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْحُلِيَّ لِلنَّاسِ، ثُمَّ تُمْسِكُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لِتَتُبْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَرُدَّ مَا تَأْخُذُ عَلَى الْقَوْمِ"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قُمْ يَا بِلَالُ، فَخُذْ بِيَدِهَا، فَاقْطَعْهَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ترجم فِي "الكبرى" هنا بقوله: "ذكر الاختلاف عَلَى عبيد الله فِي حديث نافع". ووجه الاختلاف فيه أن عمرو بن هاشم الجنبيّ رواه عنه، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فوصله، وخالفه شُعيب بن إسحاق، فرواه عنه، عن نافع: أن امرأة كانت الخ، فأرسله، والحكم هنا للواصل، فقد تابع عبيدَ الله أيوبُ السخيانيّ -كما فِي الروايتين السابقتين قبله-، فرواه عن نافع، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، موصولاً. والله تعالى أعلم.

و"عثمان بن عبد الله": هو ابن خُرَّزَاد، أبو عمرو البصريّ، نزيل أَنطاكية، ثقة [11] 112/ 155 منْ أفراد المصنّف.

و"الحسن بن حَمّاد" بن كُسيب -بضم الكاف، مصغّرًا- المحضرميّ، أبو عليّ البغداديّ، يُلقّب سجّادة، صدوقٌ [10].

روى عن أبي بكر بن عيّاش، وحفص بن غياش، ويحيى بن سعيد الأمويّ، وأبي مالك الجَنْبيّ، وغيرهم. وعنه أبو داود، وابن ماجه، وروى له النسائيّ بواسطة عثمان ابن خُرَّزاد، وأبو زرعة، وعليّ بن الحسين بن الجنيد، وغيرهم. قَالَ أحمد: صاحب سنة، ما بلغني عنه إلا خير. وَقَالَ الخطيب: كَانَ ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ البخاريّ: مات يوم السبت لثمان بقين منْ رَجَب سنة (241). روى له المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، وله عند المصنّف هَذَا الْحَدِيث فقط.

"عمرو بن هاشم، أبو عليّ الْجَنبي" -بفتح الجيم، وسكون النون، بعدها موحّدة- الكوفيّ، ليّن الْحَدِيث، أفرط فيه ابن حبّان [9].

رَوَى عن إسماعيل بن أبي خالد، وعبيد الله بن عمر، وهشام بن عروة، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وحجاج بن أرطاة، والأجلح الكندي، وغيرهم. وعنه ابنه عمار، وعبد الرحمن بن صالح الأزدي، ومحمد بن عبيد المحاربي، ويحيى بن معين، ويعقوب الدورقي، والحسن بن حماد الحضرميّ، ومحمد بن أبي السَّرِي العسقلاني، وآخرون.

ص: 396

قَالَ أحمد: صدوقٌ، ولم يكن صاحب حديث. وَقَالَ البخاريّ: فيه نظر. وَقَالَ أبو حاتم: لين الْحَدِيث، يُكتب حديثه. وَقَالَ النسائيّ: ليس بالقوي. وَقَالَ ابن عدي: هو صدوقٌ إن شاء الله. وَقَالَ ابن سعد: كَانَ صدوقا، ولكنه كَانَ يخطىء كثيرا. وَقَالَ مسلم فِي "الكنى": ضعيف. وَقَالَ أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم. وَقَالَ النسائيّ فِي "الكنى": أنا سليمان بن الأشعث، سألت ابن معين عنه، فقلت: أبو مالك الجنبي؟ قَالَ: سمعت منه، ولم يكن به بأس. وَقَالَ ابن حبّان: كَانَ يقلب الأسانيد، ويروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات، لا يجوز الاحتجاج بخبره. وَقَالَ العقيلي بعد أن ساق له عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر:"لا نكاح إلا بولي، وشاهدين"-: لم يتابع عليه، والرواية فِي الشاهدين لَيِّنَة. روى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، والمصنف، وأبو داود، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.

و"عُبيد الله بن عمر": هو ابن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب العمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقة ثبتٌ، قدّمه أحمد بن صالح عَلَى مالك فِي نافع، وقدّمه ابن معين فِي القاسم، عن عائشة عَلَى الزهريّ، عن عروة، عنها [5] 15/ 15.

وقوله: "الحلي": يحتمل أن يكون -بفتح الحاء المهملة، وسكون اللام، وتخفيف المثناة التحتانية، مفردًا، ويحتمل أن يكون -بضم الحاء، وكسر اللام، وتشديد التحتانيّة، جمع حَلْي، بفتح، فسكون، كفلس وفُلُوس، ويؤيّد الأول قوله:"ثم تُمسكه" بضمير المذكّر، لأنه لو كَانَ بصيغة الجمع لكان التأنيث أولى.

قَالَ المجد رحمه الله تعالى فِي "القاموس": الْحَلْيُ -بالفتح: ما يُتزيّن به، منْ مصوغ المعدنيّات، أو الحجارة، جمعه حُلِيّ، كدُلِيّ، أو هو جمعٌ، والواحد حَلْية، كظَبْيةٍ، والْحِلْيةُ -بالكسر-: الحَلْيُ، جمعها حِلًى، وحُلًى. انتهى.

وقوله: "للناس" أي تستعير الحلي لأجل النَّاس، ثم تُمسكه لنفسها.

والحديث -وإن كَانَ فِي سنده عمرو بن هاشم، وهو متكلّم فيه، كما سبق آنفاً- إلا أنه صحيح؛ لأنه يشهد له ما سبق قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4892 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْخَلِيلِ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْحُلِيَّ، فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَعَارَتْ مِنْ ذَلِكَ حُلِيًّا، فَجَمَعَتْهُ، ثُمَّ أَمْسَكَتْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِتَتُبْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ، وَتُؤَدِّي مَا عِنْدَهَا، مِرَارًا، فَلَمْ تَفْعَلْ، فَأَمَرَ بِهَا، فَقُطِعَتْ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن الخليل" بن حمّاد بن سليمان الْخُشَنيّ -

ص: 397

بمعجمتين مضمومة، ثم مفتوحة، ثم نون- أبو عبد الله الدمشقيّ الْبَلاطيّ -بفتح الموحّدة، مخفّفًا: نسبة إلى قرية، صدوقٌ [10].

رَوَى عن شعيب بن إسحاق، ومروان بن معاوية الفزاري، وإسماعيل بن عياش، وغيرهم. ورَوَى عنه النسائيّ، وابن ابنه محمد بن أحمد بن الخليل، وأبو حاتم الرازي، ومحمد بن وضاح القرطبيّ، وإبراهيم بن دحيم، وآخرون. قَالَ أبو حاتم: شيخ. وَقَالَ النسائيّ: لا بأس به. وَقَالَ مسلمة. صدوقٌ. تفرد به المصنّف بحديثين: هَذَا، وفي "كتاب الاستعاذة" -60/ 5532.

و"شُعيب بن إسحاق": هو الأموي مولاهم البصريّ، ثم الدمشقيّ، ثقة، رُمي بالإرجاء، منْ كبار [9] 60/ 1766.

وقوله: "مرارًا" أي كرر هَذَا القول عدّة مرّات.

والحديث مرسل، صحيح بما سبق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4893 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْدَانَ بْنِ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ سَرَقَتْ، فَأُتِيَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَعَاذَتْ بِأُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا، فَقُطِعَتْ يَدُهَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، محمد بن معدان بن عيسى الْحَرّانيّ، فإنه منْ أفراده، وهو ثقة [11] 16/ 649. و"الحسن بن أعين": هو الحسن بن محمد بن أعين، أبو عليّ الحرّانيّ، نسب لجدّه، صدوقٌ [9] 16/ 649. و"معقِل": هو ابن عُبيد الله العبْسيّ مولاهم، أبو عبد الله الْجزريّ، صدوقٌ يُخطىء [8] 37/ 940. و"أبو الزبير": هو محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، صدوقٌ، يدلّس [4] 31/ 35.

وقوله: "سرقت": هَذَا هو الذي تمسّك به الجمهور عَلَى أن قطع هذه المرأة كَانَ لسرقتها، لا لجحدها العارية، ويؤيّد هَذَا ما سبق فِي الْحَدِيث الذي قبله، منْ قوله صلى الله عليه وسلم:"لتتب هذه المرأة، وتؤدّي ما عندها، مرارًا"؛ لأنه لكان القطع للجحد لما أمرها بالتوبة، وردّ ما أخذته، بل قطعها فورًا؛ لأن السارق لا يؤمر بالتوبة بعد ثبوت السرقة عليه، بل يُقطع، وهذا واضحٌ، فما قاله الجمهور هو الأرجح، وسيأتي تمام البحث فِي ذلك قريبًا، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 398

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث جابر رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -5/ 4893 - وفي "الكبرى" 9/ 7378. وأخرجه (م) فِي "الحدود" 1689 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 14729 و14825. وشرح الْحَدِيث، وبقيّة مسائله، ستأتي فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4894 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، اسْتَعَارَتْ حُلِيًّا عَلَى لِسَانِ أُنَاسٍ، فَجَحَدَتْهَا، فَأَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقُطِعَتْ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو معاذ": هو هشام الدستوائيّ. و"سعيد بن يزيد" البصريّ، لم يرو عنه غير قتادة، إلا أنه قديم الموت [6].

رَوَى عن ابن المسيّب هَذَا الْحَدِيث، وعنه قتادة. قَالَ أبو حاتم: شيخٌ. وَقَالَ ابن المدينيّ: شيخٌ بصريّ، لا أعرفه. تفزد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.

وقوله: "استعارت الخ": أي ثم سرقت بعد ذلك، فأمر صلى الله عليه وسلم بقطع يدها للسرقة، كما سبق.

والحديث مرسلٌ صحيحٌ بما سبق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

4895 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي عَاصِمٍ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، حَدَّثَهُ نَحْوَهُ).

قال الجامع عفا الله عنه: "عبد الصمد": هو ابن عبد الوارث بن سعيد البصريّ، صدوقٌ [9] 122/ 174. و"همّام": هو يحيى الْعَوْذيّ البصريّ، ثقة، ربما وَهِم [7] 5/ 465. و"داود بن أبي عاصم": ابن عروة بن مسعود الثقفيّ المكيّ، ثقة [3] 56/ 3544.

والحديث مرسلٌ صحيحٌ بما سبق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 399

قَالَ الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير، محمد ابن الشيخ عليّ بن آدم بن موسى الإِتْيُوبيّ الولّويّ، نزيل مكة المكرّمة، عفا الله تعالى عنه وعن والديه ومشايخه آمين:

قد انتهيت منْ كتابة الجزء السادس والثلاثين منْ شرح سنن الإمام الحافظ الحجة أبي عبد الرحمن النسائيّ رحمه الله تعالى، المسمّى "ذخيرةَ العُقْبَى فِي شرح المجتبى"، أو "غاية المنى فِي شرح المجتنى".

وذلك بحيّ الزهراء، مخطط الأمير طلال، فى مكة المكرمة زادها الله تعالى تشريفًا وتعظيمًا، وجعلني منْ خيار أهلها حيًّا وميتًا، وأعْظِمْ به تكريمًا.

وأخر دعوانا {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)} .

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} .

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} .

"اللَّهم صلّ عَلَى محمد، وعلى آل محمد، كما صليت عَلَى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللَّهم بارك عَلَى محمد، وعلى آل محمد، كما باركت عَلَى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام عليك أيها النبيّ، ورحمة الله، وبركاته".

ويليه -إن شاء الله تعالى- الجزء السابع والثلاثون مفتتحًا بالباب 6 - "ذكرُ اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر الزهريّ فِي المخزومية التي سرقت" الْحَدِيث رقم 4896.

"سبحانك اللهمّ، وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".

***

ص: 400