الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرح
سنن النسائي
المسَمَّى
ذخيرة العقبى في شرح المجتبى
لجامعة الفقير إلى مولاه الغني القدير
محمد ابن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى الأتيوبي الوَلَّوِي
المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة
عفا الله عنه وعن والديه آمين
الجُزْءُ السابع والثلاثون
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح
سنن النسائيّ
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
1424 هـ - 2003 م
دَار آل بروم للنشر والتوزيع
المملكة العربية السعودية - مكة المكرمة - المكتب الرئيسي التنعيم
صَ بُ: 4145 - (تلفاكس 5211576 - جوال 055541026)
6 - (ذِكْرِ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ النَّاقِلِينَ لِخَبَرِ الزُّهْرِيِّ فِي الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وجه الاختلاف المذكور أن إسحاق بن إبراهيم، ومحمد بن منصور اختلفا فِي سياق اللفظ عدى ابن عيينة، وخالفهما رزق الله بن موسى، فَقَالَ:"أُتي النبيّ صلى الله عليه وسلم بسارق الخ"، لكن هَذَا يحتمل أن يكون أراد بسارق أي بشخص سارق، فلا ينافي كونها امرأة.
ثم إن ابن عيينة، والليث بن سعد، وإسماعيل بن أميّة، وإسحاق بن راشد، ويونس بن يزيد فِي رواية ابن وهب عنه، رووه عن الزهريّ مرفوعًا، بلفظ "سرقت"، وخالفهم شعيب ابن أبي حمزة، فرواه عن الزهريّ، بلفظ:"استعارت". ورواه ابن المبارك، عن يونس، عن الزهريّ، عن عروة: أن امرأة سرقت الخ، فهذا صورته صورة الإرسال، إلا أن فِي آخره ما يدلّ عَلَى أنه موصول، ثم إن هذه الاختلافات لا تعارض بينها، وسيأتي وجه التوفيق، مع مزيد بسط فِي البحث، فِي المسألة الرابعة منْ مسائل الْحَدِيث التالي، إن شاء الله تعالى.
4896 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: كَانَتْ مَخْزُومِيَّةٌ، تَسْتَعِيرُ مَتَاعًا، وَتَجْحَدُهُ، فَرُفِعَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكُلِّمَ فِيهَا، فَقَالَ: "لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةَ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا"، قِيلَ لِسُفْيَانَ: مَنْ ذَكَرَهُ؟ قَالَ: أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "إسحاق بن إبراهيم": هو ابن راهويه. و"سفيان": هو ابن عيينة. و"أيوب بن موسى": هو ابن عمرو بن سعيد بن العاص، أبو موسى الأمويّ المكيّ، ثقة [6] 150/ 241.
وقوله: "وكُلِّم فيها": أي كلمه أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما -كما بُيّن فِي الرواية التالية، وغيرها- أن يترك قطعها.
وقوله: "لو كانت فاطمة": بنصب "فاطمة" عَلَى أنه خبر "كَانَ"، واسمها ضمير يعود إلى المرأة، أي لو كانت هذه المرأة التي تشفعون فيها فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم الخ. ويحتمل أن يكون بالرفع، عَلَى أنه اسم "كَانَ"، وخبرها محذوف، كما دلت عليه الروايات الآتية: أي سرقت.
وقوله: "إن شاء الله تعالى": الظاهر أن سفيان كَانَ يتردّد أحيانًا، فلما حدث به إسحاق كَانَ متردّدًا، ولَمَا حدّث محمد بن منصور كَانَ جازمًا، فلذا رواية محمد بن منصور التي بعد هَذَا بالجزم. والله تعالى أعلم.
والحديث صحيح، ويأتي تمام شرحه قريبًا، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
[تنبيه]: زاد فِي "الكبرى": ما نصّه: خالفه محمد بن منصور فِي لفظه. انتهى. ثم ساق لفظ ابن منصور، فَقَالَ:
4897 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ امْرَأَةً سَرَقَتْ، فَأُتِيَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: مَنْ يَجْتَرِىءُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أُسَامَةَ، فَكَلَّمُوا أُسَامَةَ، فَكَلَّمَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَا أُسَامَةُ، إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، حِينَ كَانُوا إِذَا أَصَابَ الشَّرِيفُ فِيهِمُ الْحَدَّ تَرَكُوهُ، وَلَمْ يُقِيمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا أَصَابَ الْوَضِيعُ أَقَامُوا عَلَيْهِ، لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، لَقَطَعْتُهَا").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن منصور) الْخُزاعي الْجَوّاز المكيّ، وهو ثقة [10] 46/ 741.
2 -
(سفيان) بن عيينة المكيّ، ثقة ثبت حجة [8] 1/ 1. والباقون تقدّموا فِي السند الماضي. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أن نصفه الأول مكيون، ونصفه الثاني مدنيون، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: الزهريّ، عن عروة، ورواية الراوي عن خالته، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وفيه عائشة رضي الله تعالى عنها منْ المكثرين السبعة (2210) منْ الأحاديث. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله تعالى عنها، كذا قَالَ الحفاظ، منْ أصحاب ابن شهاب، عن عروة، وشَذَّ عمر بن قيس الماصِر -بكسر المهملة- فَقَالَ: "ابن شهاب، عن عروة، عن أم سلمة
…
" فذكر حديث الباب سواءً، أخرجه اْبو الشيخ فِي "كتاب السرقة"، والطبراني، وَقَالَ: تفرد به عمر بن قيس -يعني منْ حديث أم سلمة- قَالَ الدارقطنيّ فِي
"العلل": الصواب رواية الجماعة. قاله فِي "الفتح" 14/ 40.
(أَنَّ امْرَأَةً) وفي رواية الليث، عن الزهريّ الآتية:"أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزوميّة".
وقوله: "أن قريشا": اْي القبيلة المشهورة، والأكثرون عَلَى أنهم هم الذين ينتسبون إلى فهر بن مالك، والمراد بهم هنا منْ أدرك القصة التي تُذكر بمكة.
وقوله: "أهمهم شأن المرأة": أي أمرها المتعلق بالسرقة، وَقَدْ وقع فِي رواية مسعود ابن الأسود:"لَمّا سَرَقت تلك المرأة، أعظمنا ذلك، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ومسعود المذكور منْ بطن آخر، منْ قريش، وهو منْ بني عدي بن كعب، رَهْط عمر رضي الله عنه، وسبب إعظامهم ذلك خشيةُ أن تُقطع يدها؛ لعلمهم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يرخص فِي الحدود، وكان قطع السارق معلوما عندهم قبل الإسلام، ونزل القرآن بقطع السارق، فاستمر الحال فيه.
وَقَدْ عقد ابن الكلبي بابا لمن قُطع فِي الجاهلية بسبب السرقة، فذكر قصة الذين سَرَقوا غزال الكعبة، فقُطعوا فِي عهد عبد المطلب، جَدِّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذكر مَن قَطَع فِي السرقة عوفَ بن عبد بن عمرو بن مخزوم، ومقيس بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم، وغيرهما، وأن عوفًا السابق لذلك.
وقوله: "المخزومية": نسبة إلى مخزوم بن يَقَظَة -بفتح التحتانية، والقاف، بعدها ظاء معجمة مشالة- ابن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، ومخزوم أخو كلاب بن مرة الذي نُسب إليه بنو عبد مناف. ووقع فِي رواية إسماعيل بن أمية، عن محمد بن مسلم، وهو الذي عند النسائيّ 6/ 494902 - :"سرقت امرأة منْ قريش، منْ بني مخزوم"، واسم المرأة على الصحيح فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد بن عبد الله بن عُمَرَ بن مخزوم، وهي بنت أخي أبي سلمة بن عبد الأسد الصحابيّ الجليل، الذي كَانَ زوج أم سلمة، قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم، قُتِل أبوها كافرا يوم بدر، قتله حمزة بن عبد المطلب، ووهم مَن زَعَم أن له صحبة. وقيل: هي أم عمرو بنت سفيان بن عبد الأسد، وهي بنت عم المذكورة. أخرجه عبد الرزاق، عن ابن جريج، قَالَ: أخبرني بشر بن تيم، أنها أم عمرو بن سفيان بن عبد الأسد، وهذا مُعْضَلٌ، ووقع مع ذلك فِي سياقه، أنه قَالَ عن ظن، وحسبان، قَالَ الحافظ: وهو غلط ممن قاله؛ لأن قصتها مغايرة للقصة المذكورة فِي هَذَا الْحَدِيث. كما سيتّضح.
قَالَ ابن عبد البرّ فِي "الاستيعاب": فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد، هي التي قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدها؛ لأنها سرقت حُليا، فكَلَّمت قريش أسامةَ، فشفع فيها، وهو غلام
…
الحديث.
قَالَ الحافظ: وَقَدْ ساق ذلك ابن سعد فِي ترجمتها فِي "الطبقات" منْ طريق الأجلح بن عبد الله الكندي، عن حبيب بن أبي ثابت، رفعه: "أن فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد، سَرَقت حليا عَلَى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستشفعوا
…
" الْحَدِيث. وأورد عبد الغني بن سعيد المصريّ فِي "المبهمات" منْ طريق يحيى بن سلمة بن كهيل، عن عمار الدُّهْني، عن شقيق، قَالَ: "سرقت فاطمة بنت أبي أسد، بنت أخي أبي سلمة، فأشفقت قريش أن يقطعها النبيّ صلى الله عليه وسلم
…
" الْحَدِيث. قَالَ الحافظ: والطريق الأولى أقوى، ويمكن أن يقال: لا منافاة بين قوله: بنت الأسود، وبنت أبي الأسود؛ لاحتمال أن تكون كنية الأسود أبا الأسود.
وأما قصة أم عمرو: فذكرها ابن سعد أيضا، وابن الكلبي فِي "المثالب"، وتبعه الهيثم بن عدي، فذكروا: "أنها خرجت ليلا، فوقعت بِرَكْب، نزول، فأخذت عيبة لهم، فأخذها القوم، فأوثقوها، فلما أصبحوا أتوا بها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فعاذت بحقوي أم سلمة، فأمر بها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقطعت، وأنشدوا فِي ذلك شعرًا، قاله خنيس بن يعلى بن أمية. وفي رواية ابن سعد أن ذلك كَانَ فِي حجة الوداع، وقصة فاطمة بنت الأسود كانت عام الفتح، فظهر تغاير القصتين، وأن بينهما أكثر منْ سنتين، ويظهر منْ ذلك خطأ منْ اقتصر عَلَى أنها أم عمرو، كابن الجرزي، ومن ردّدها بين فاطمة، وأم عمرو، كابن طاهر، وابن بشكوال، ومن تبعهما فللَّه الحمد.
وَقَدْ تقلد ابن حزم ما قاله بشر بن تيم، لكنه جعل قصة أم عمرو بنت سفيان، فِي جحد العارية، وقصة فاطمة فِي السرقة، وهو غلط أيضا؛ لوقوع التصريح فِي قصة أم عمرو بأنها سرقت. قاله فِي "الفتح" 14/ 40 - 41.
(سَرَقَتْ) زاد يونس فِي روايته الآتية -4905 - "فِي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فِي غزوة الفتح"، ووقع بيان المسروق فِي حديث مسعود بن أبي الأسود المعروف بابن العجماء، فأخرج ابن ماجه، وصححه الحاكم، منْ طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن طلحة ابن رُكانة، عن أمه عائشة بنت مسعود بن الأسود، عن أبيها، قَالَ:"لَمّا سَرَقت المرأة تلك القطيفة، منْ بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعظمنا ذلك، فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، نكلمه"، وسنده حسن، وَقَدْ صرح فيه ابن إسحاق بالتحديث، فِي رواية الحاكم، وسيأتى تمام البحث فِي المسائل، إن شاء الله تعالى.
(فَأَتِيَ) بالبناء للمفعول (بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: مَنْ يَجْتَرِىءُ) وفي رواية الليث الآتية -48901 - : "فقالوا: منْ يكلّم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم": أي يشفع عنده فيها، أن لا تُقطع، إما عفوًا، وأما بفداء، وَقَدْ وقع ما يدل عَلَى الثاني، فِي حديث مسعود بن الأسود،
ولفظه بعد قوله: "أعظمنا ذلك، فجئنا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلنا: نحن نَفدِيها بأربعين أوقية، فَقَالَ: تُطَهَّر خير لها"، وكأنهم ظنوا أن الحد يَسقُط بالفدية، كما ظن ذلك منْ أَفتَى والد الْعَسِيف الذي زنى، بأنه يفتدي منه بمائة شاة، ووليدة، ولحديث مسعود هَذَا شاهدٌ عند أحمد منْ حديث عبد الله بن عمرو: "أن امرأة سَرَقت عَلَى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ قومها: نحن نفديها فقوله: (مَنْ) للاستفهام الإنكاري: أي لا أحد (يَجْتَرِىءُ) بسكون الجيم، وكسر الراء، يفتعل منْ الْجُرأة بضم الجيم، وسكون الراء، وفتح الهمزة، ويجوز فتح الجيم، والراء، مع المدّ، وهي الإقدام (عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أُسَامَةَ) والمعنى: أنه لا يوجد أحد يجترىء عليه صلى الله عليه وسلم، إلا أن يكون ذلك الأحد أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما؛ لكونه حِبه، وابن حبه.
وفي رواية الليث الآتية -48901 - : "قالوا: ومن يجترىء عليه إلا أسامة بن زيد"، قَالَ الطيبي: الواو عاطفة عَلَى محذوف، تقديره: لا يجترىء عليه أحد لمهابته، لكن أسامة له عليه إدلال، فهو يجسُر عَلَى ذلك.
و"الْحِبّ" -بكسر المهملة، وتشديد الموحّدة-: بمعنى المحبوب، مثل قِسم بمعنى المقسوم، وفي ذلك تلميح بما أخرجه البخاريّ فِي "المناقب" منْ "صحيحه"، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه كَانَ يأخذه، والحسنَ، ويقول:"اللَّهم إني أحبهما، فأحبهما".
وأخرج فِي "الأدب" منْ "صحيحه" أيضًا، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذني، فيُقعدني على فخذه، وُيقعد الحسن عدى فخذه الأخرى، ثم يضمهما، ثم يقول: اللَّهم ارحمهما، فإني أرحمهما".
وكان السبب فِي اختصاص أسامة بذلك ما أخرجه ابن سعد، منْ طريق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ لأسامة:"لا تشفع فِي حَدّ، وكان إذا شَفَعَ شَفَّعَه" -بتشديد الفاء-: أي قبل شفاعته، وكذا وقع فِي مرسل حبيب بن أبي ثابت:"وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشفعة".
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لا تنافي بين السببين؛ لأن أحدهما نتيجة الآخر، فسبب قبول شفاعته هو كونه حبّه صلى الله عليه وسلم وابن حبه رضي الله تعالى عنهما.
(فَكَلَّمُوا أُسَامَةَ) ووقع فِي حديث مسعود بن الأسود عند ابن ماجه بعد قوله: "تطهر خير لها، فلما سمعنا لِين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتينا أسامة"، ووقع فِي رواية يونس عند البخاريّ فِي "غزوة الفتح":"ففزع قومها إلى أسامة": أي لجؤا إليه، وفي رواية أيوب ابن موسى عنده أيضًا فِي "الشهادات":"فلم يجترىء أحد أن يكلمه، إلا أسامة".
(فَكَلَّمَهُ) أي كلّم أسامة رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي شأن المرأة.
قَالَ فِي "الفتح": وفي الكلام شيء مطوي، تقديره: فجاءوا إلى أسامة، فكلموه فِي ذلك، فجاء أسامة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكلمه، ووقع فِي رواية يونس:"فأَتَى بها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه فيها"، فأفادت هذه الرواية أن الشافع يَشفع بحضرة المشفوع له، ليكون أعذر له عنده، إذا لم تُقبل شفاعته. وعند النسائيّ -4902 - منْ رواية إسماعيل بن أمية:"فكلمه، فزبره"، بفتح الزاي والموحدة: أي أغلظ له فِي النهي، حَتَّى نسبه إلى الجهل؛ لأن الزبر -بفتح، ثم سكون: هو العقل. وفي رواية يونس: "فكلمه، فتلون وجه رسول الله-صلى الله عليه وسلم"، زاد شعيب عند النسائيّ:"وهو يكلمه"، وفي مرسل حبيب بن أبي ثابت:"فلما أقبل أسامة، ورآه النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: لا تكلمني يا أسامة". انتهى ما فِي "الفتح" 14/ 46.
(فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا أُسَامَةُ) وفي رواية الليث، عن الزهريّ الآتية -4980 - :"أتشفع فِي حدّ منْ حدود الله": قَالَ فِي "الفتح": قوله: "أتشفع فِي حدّ الخ" بهمزة الاستفهام الإنكاري؛ لأنه كَانَ سبق له منع الشفاعة فِي الحد قبل ذلك، زاد يونس، وشعيب: فَقَالَ أسامة: استغفر لي يا رسول الله، ووقع فِي حديث جابر عند مسلم، والنسائي -4893 - :"أن امرأة منْ بني مخزوم سَرَقَت، فأُتى بها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فعاذت بأم سلمة" -بذال معجمة-: أي استجارت، أخرجاه منْ طريق معقل بن عبيد الله
(1)
، عن أبي الزبير، عن جابر، وذكره أبو داود تعليقا، والحاكم موصولا، منْ طريق موسى بن عقبة، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، فعاذت بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قَالَ المنذري: يجوز أن تكون عاذت بكل منهما. وتعقبه العراقيّ فِي "شرح الترمذيّ": بأن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت ماتت قبل هذه القصة؛ لأن هذه القصة كما تقدم كانت فِي غزوة الفتح، وهي فِي رمضان، سنة ثمان، وكان موت زينب قبل ذلك فِي جمادى الأولى، منْ السنة، فلعل المراد أنها عاذت بزينب، ربيبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي بنت أم سلمة، فتصحفت عَلَى بعض الرواة.
قَالَ الحافظ: أو نُسبت زينب بنت أم سلمة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم مجازًا؛ لكونها ربيبته، فلا يكون فيها تصحيف، ثم قَالَ العراقيّ: وَقَدْ أخرج أحمد هَذَا الْحَدِيث، منْ طريق ابن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، وَقَالَ فيه:"فعاذت بربيب النبيّ-صلى الله عليه وسلم" براء، وموحدة مكسورة، وحذف لفظ "بنت"، وَقَالَ فِي آخره: قَالَ ابن أبي الزناد: وكان ربيب النبيّ
(1)
وقع هنا فِي نسخة "الفتح" غلط، نصه:"أخرجاه منْ طريق معقل بن يسار، عن عبيد الله، عن أبي الزبير"، والصواب:"منْ طريق معقل بن عبيد الله، عن أبي الزبير" الخ، فتنبّه.
-صلى الله عليه وسلم، سلمة بن أبي سلمة، وعمر بن أبي سلمة، فعاذت بأحدهما.
قَالَ الحافظ: وَقَدْ ظَفِرت بما يدل عَلَى أنه عمر بن أبي سلمة، فأخرج عبد الرزاق، منْ مرسل الحسن بن محمد بن علي: قَالَ: "سرقت امرأة
…
" فذكر الْحَدِيث، وفيه: فجاء عمر بن أبي سلمة، فَقَالَ للنبي صلى الله عليه وسلم: أي أبه، إنها عمتي، فَقَالَ: لو كانت فاطمة بنت محمد، لقطعت يدها"، قَالَ عمرو بن دينار الراوي عن الحسن: فلم أشك أنها بنت الأسود بن عبد الأسد.
قَالَ الحافظ: ولا منافاة بين الروايتين عن جابر، فإنه يحمل عَلَى أنها استجارت بأم سلمة، وبأولادها، واختصها بذلك؛ لأنها قريبتها، وزوجها عمها، وإنما قَالَ عمر بن أبي سلمة: عمتي منْ جهة السنّ، وإلا فهي بنت عمه، أخي أبيه، وهو كما قالت خديجة لورقة، فِي قصة المبعث: أي عم، اسمَعْ منْ ابن أخيك، وهو ابن عمها، أخي أبيها أيضا.
ووقع عند أبي الشيخ، منْ طريق أشعث، عن أبي الزبير، عن جابر:"أن امرأة منْ بني مخزوم سرقت، فعاذت بأسامة"، وكأنها جاءت مع قومها، فكلموا أسامة، بعد أن استجارت بأم سلمة.
ووقع فِي مرسل حبيب بن أبي ثابت: "فاستشفعوا عَلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم بغير واحد، فكلموا أسامة".
(إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ) وفي رواية الليث: "ثُمَّ قام، فخطب، فَقَالَ: إنما هلك الذين قبلكم، أنهم كانوا
…
" وفي رواية يونس -4904 - : "فلما كَانَ العشيُّ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا، فأثنى عَلَى الله عز وجل بما هو أهله، ثم قَالَ: أما بعد، فإنما هلك النَّاس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف
…
"، وفي رواية البخاريّ: "إنما ضَلّ منْ كَانَ قبلكم".
قَالَ ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: الظاهر أن هَذَا الحصر ليس عاما، فإن بني إسرائيل، كَانَ فيهم أمور كثيرة، تقتضي الإهلاك، فيحمل ذلك عَلَى حصر المخصوص، وهو الإهلاك بسبب المحاباة فِي الحدود، فلا ينحصر ذلك فِي حد السرقة.
قَالَ الحافظ: يؤيد هَذَا الاحتمال ما أخرجه أبو الشيخ فِي "كتاب السرقة"، منْ طريق زاذان، عن عائشة، مرفوعا:"إنهم عَطَّلوا الحدود عن الاغنياء، وأقاموها عَلَى الضعفاء". والأمور التي أشار إليها ابن دقيق العيد: منها: حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فِي قصة اليهوديين اللذين زنيا، وَقَدْ تقدّم، وحديث ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما فِي أخذ الدية منْ الشريف إذا قتل عمدا، والقصاص منْ الضعيف، وَقَدْ سبق أيضًا، وغير ذلك.
(حِينَ كَانُوا إِذَا أَصَابَ الشَّرِيفُ فِيهِمُ الْحَدَّ) أي ما يوجب الحد، وهو السرقة، كما سيأتي:"إذا سرق فيهم الشريف، تركوه"(تَرَكُوهُ، وَلَمْ يُقِيمُوا عَلَيْهِ) هذه الجملة تفسير لجملة "تركوه"(وَإِذَا أَصَابَ الْوَضِيعُ) بوزن الشريف، وهو خلافه معنًى (أَقَامُوا عَلَيْهِ) أي قطعوه (لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ) وفي رواية شعيب:"والذي نفس محمد بيده"، وفي رواية إسماعيل بن أمية:"والذي نفسي بيده"، وفي رواية الليث:"وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سرقت، لقطعت يدها".
قَالَ فِي "الفتح": هَذَا منْ الأمثلة التي صح فيها أن "لو" حرف امتناع لامتناع، وَقَدْ أتقن القول فِي ذلك صاحب "المغني".
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد لخّص السيوطيّ البحث فِي "لو" فِي "الكوكب الساطع"، حيث قَالَ:
و"لَو" لِشَرْطِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ
…
نَزْرٌ فَلِلرَّبْطِ فَقَطْ أَبُو عَلِي
وِلِلَّذِي كَانَ حَقِيقًا سَيَقَعْ
…
أَيْ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ عَمْرُو اتَّبَعْ
وَالْمُعْرِبُونَ وَالَّذِي فِي الفَنِّ شَاعْ
…
بِأنَّهَا حَرْفُ امْتِنَاعِ لامْتِنَاعْ
وَالْمُرتَضَى امْتِنَاعُ مَا يَلِيهِ
…
مَع كَوْنِهِ يَسْتَلْزِمُ التَّالِيهِ
ثُمَّ إِذَا نَاسَبَ تَالٍ يَنْتَفِي
…
إِنْ أَوَّلاً خِلَافُهُ لَم يَخْلُفِ
كَقَوْلِهِ {لَوْ كَانَ} لِلآخِرِ لَا
…
ذُو خَلَفٍ وَيَثْبُتُ الَّذي تَلَا
إِنْ لَمْ يُنَافِ وَبِأَوْلَى نَصِّهِ
…
نَاسَبَهُ "لَوْ لَمْ يَخَفْ لَمْ يَعْصِهِ"
أَوِ الْمُسَاوِي نَحْوُ "لَوْ لَمْ تَكُنِ
…
رَبِيبَتِي" الْحَدِيثَ أَوْ بِالأَدْوَنِ
فإن أردت إيضاح معاني الأبيات، فعليك بشرحي "الجليس الصالح النافع بشرح الكوكب الساطع" ص 130 - 133. والله تعالى ولي التوفيق.
وَقَدْ ذكر ابن ماجه فِي "سننه" -2547 - عن محمد بن رمح، شيخه فِي هَذَا الْحَدِيث: سمعت الليث يقول، عقب هَذَا الْحَدِيث:"قد أعاذها الله منْ أن تَسرِق، وكل مسلم ينبغي له أن يقول هَذَا".
ووقع للشافعي، أنه لما ذكر هَذَا الْحَدِيث قَالَ:"فذكر عضوا شريفا، منْ امرأة شريفة"، واستحسنوا ذلك منه؛ لما فيه منْ الأدب البالغ، وإنما خص صلى الله عليه وسلم فاطمة ابنته
رضي الله تعالى عنها بالذكر؛ لأنها أعز أهده عنده، ولأنه لم يبق منْ بناته حينئذ غيرها، فأراد المبالغة فِي إثبات إقامة الحد، عَلَى كل مكلف، وترك المحاباة فِي ذلك، ولأن اسم السارقة وافق اسمها عليها السلام، فناسب أن يضرب المثل بها.
وَقَالَ الحافظ وليّ الدين رحمه الله تعالى: قوله: "لو كانت فاطمة الخ" فيه مبالغة فِي النهي عن المحاباة فِي حدود الله تعالى، وإن فُرضت فِي أبعد النَّاس منْ الوقوع فيها، وَقَدْ قَالَ الليث بن سعد رحمه الله تعالى بعد روايته لهذا الْحَدِيث: وَقَدْ أعاذها الله منْ ذلك- أي حفظها منْ الوقوع فِي ذلك، وحماها منه، إذ هي بضعة منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا كقوله تعالى:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} الآية [الحاقة: 44]، وهو صلى الله عليه وسلم معصوم منْ ذلك، وَقَدْ سمعنا أشياخنا رحمهم الله تعالى عند قراءة هَذَا الْحَدِيث يقولون: أعاذها الله منْ ذلك، وبلغنا عن الإمام الشافعيّ رحمه الله تعالى أنه لم ينطق هَذَا اللفظ؛ إعظامًا لفاطمة رضي الله تعالى عنها، وإجلالاً لمحلّها، وإنما قَالَ: فذكر عضوًا شريفًا منْ امرأة شريفة، وما أحسن هَذَا، وأنزهه، والظاهر أن ذكر فاطمة رضي الله تعالى عنها، دون غيرها؛ لأنها أفضل نساء زمانها، فهي عائشة
(1)
فِي النِّساء، لا شيء بعدها، فلا يحصل تأكيد المبالغة إلا بذكرها، وانضمّ إلى هَذَا أنها عضو منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك، فلم يحمله ذلك عَلَى محاباتها فِي الحقّ، وفيها شيء آخر، وهو أنها مشاركة هذه المرأة فِي الاسم، فينتقل اللفظ، والذهن منْ إحداهما إلى الأخرى، وإن تباين ما بين المحلّين. أنتهى "طرح التثريب" 8/ 35 - 36. وهو تحقيق نفيس، وبحث أنيس. والله تعالى أعلم.
(لَقَطَعْتُهَا) وفي الرواية الآتية: "لقطعت يدها"، وفي رواية البخاريّ:"لقطع محمد يدها"، وفيه تجريد، وَقَدْ سبق فِي حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما:"قم يا بلال، فخذ بيدها، فاقطعها"، وفي رواية:"فأمر بها، فقطعت".
وفي رواية ابن المبارك عن يونس، عند البخاريّ:"ثم أمر بتلك المرأة التي سَرَقت، فقُطعت يدها"، وفي حديث جابر صلى الله عليه وسلم عند الحاكم:"فقطعها"، وذكر أبو داود تعليقا عن محمد بن عبد الرحمن بن غَنَج، عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد، نحو حديث المخزومية، وزاد فيه:"قَالَ: نشهد عليها"، وزاد يونس أيضا فِي روايته: قالت عائشة: "فحسنت توبتها بعدُ، وتزوجت، وكانت تأتيني بعد ذلك، فارفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وأخرجه الإسماعيلي، منْ طريق نعيم بن حماد، عن ابن المبارك، وفيه: "قَالَ
(1)
هكذا نسخة "الطرح"، وفيه ركاكة، ولعل صواب العبارة هكذا:"فهي وعائشة فِي النِّساء لا شيء بعدهما" أي فِي الفضل، فليُحرّر.
عروة: قالت عائشة"، ووقع فِي رواية شعيب، عند الإسماعيلي فِي "الشهادات"، وفي رواية ابن أخي الزهريّ، عند أبي عوانة، كلاهما عن الزهريّ، قَالَ: وأخبرني القاسم ابن محمد، أن عائشة، قالت: "فنكحت تلك المرأة رجلا منْ بني سليم، وتابت، وكانت حسنة التلبس، وكانت تأتيني، فأرفع حاجتها
…
" الْحَدِيث.
قَالَ الحافظ: وكأن هذه الزيادة، كانت عند الزهريّ، عن عروة، وعن القاسم جميعا عن عائشة، وعندهما زيادة عَلَى الآخر، وفي آخر حديث مسعود بن الحكم، عند الحاكم:"قَالَ ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ بعد ذلك يرحمها، ويَصِلُها"، وفي حديث عبد الله بن عمرو، عند أحمد:"أنها قالت: هل لي منْ توبة يا رسول الله، فَقَالَ: أنت اليوم منْ خطيئتك، كيوم ولدتك أمك". انتهى "فتح" 14/ 46 - 49. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هَذَا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -6/ 4896 و4897 و4898 و4899 و48900 و48901 و48902 و48903 و48904 و48905 - وفي "الكبرى" 11/ 7381 و7382 و7383 و7384 و7385 و7386 و7387 و7388 و7389 و7390. وأخرجه (خ) فِي "الشهادات" 2648 و"أحاديث الأنبياء" 3475 و"المناقب" 3733 و"المغازي" 4304 و"الحدود" 6787 و6788 و6800 (م) فِي "الحدود" 1688 (د) فِي "الحدود" 4373 (ت) فِي "الحدود" 1430 (ق) فِي "الحدود" 2547 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 24769 (الدارمي) فِي "الحدود" 2200. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): منع الشفاعة فِي الحدود، وَقَدْ تقدم أن ذلك مقيّدٌ بما إذا انتهى ذلك إلى أولي الأمر، واختلف العلماء فِي ذلك، فَقَالَ أبو عمر بن عبد البر: لا أعلم خلافا أن الشفاعة فِي ذوي الذنوب، حسنة جميلة، ما لم تبلغ السلطان، وأن عَلَى السلطان أن يقيمها، إذا بلغته. وذكر الخطّابيّ، وغيره، عن مالك: أنه فرق بين منْ عُرِف بأذى النَّاس، ومن لم يُعرَف، فَقَالَ: لا يُشفع للأول مطلقا، سواء بلغ الإمام أم لا، وأما منْ لم يُعرف بذلك، فلا باس أن يُشفع له ما لم يبلغ الإمام.
(ومنها): أنه تمسك بحديث الباب منْ أوجب إقامة الحد عَلَى القاذف، إذا بلغ الإمام، ولو عفا المقذوف، وهو قول الحنفية، والثوري، والأوزاعي، وَقَالَ مالك، والشافعي، وأبو يوسف: يجوز العفو مطلقًا، ويدرأ بذلك الحد؛ لأن الإمام لو وجده بعد عفو المقذوف، لجاز أن يقيم البينة بصدق القاذف، فكانت تلك شبهة قوية.
(ومنها): أن فيه دخول النِّساء مع الرجال فِي حد السرقة. (ومنها): أن فيه قبول توبة السارق. (ومنها): أن فيه منقبةً لأسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما. (ومنها): أن فيه ما يدل عَلَى أن فاطمة رضي الله تعالى عنها، عند أبيها صلى الله عليه وسلم، فِي أعظم المنازل؛ فإن فِي القصة إشارةً إلى أنها الغاية فِي ذلك عنده. ذكره ابنُ هبيرة.
(ومنها): ما قيل: إنه يؤخذ منه أن فاطمة أفضل منْ عائشة رضي الله تعالى عنهما؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جعلها غاية فِي أعز النَّاس عليه، فدلالته ظاهرة، خلافاً لما قاله الحافظ فِي "الفتح"، حيث بناه عَلَى ما سبق له منْ مناسبة اسم فاطمة لاسم السارقة.
(ومنها): أن فيه ترك المحاباة فِي إقامة الحد، عَلَى منْ وجب عليه، ولو كَانَ ولدًا، أو قريبًا، أو كبير القدر، والتشديد فِي ذلك، والإنكار عَلَى منْ رَخَّص فيه، أو تَعَرَّض للشفاعة فيمن وجب عليه.
(ومنها): أن فيه جوازَ ضرب المثل بالكبير القدر، للمبالغة فِي الزجر عن الفعل، ومراتب ذلك مختلفة، ولا يخفى ندب الاحتراز منْ ذلك، حيث لا يترجح التصريح بحسب المقام، كما تقدم نقله عن الليث، والشافعي رحمهما الله تعالى.
(ومنها): أنه يؤخذ منه جواز الإخبار عن أمر مُقَدّر، يفيد القطع بأمر مُحَقَّق. (ومنها): جواز الحلف منْ غير استحلاف، وهو مستحبّ إذا كَانَ فيه تفخيم لأمر مطلوب، كما فِي هَذَا الْحَدِيث، ونظائره. (ومنها): أن منْ حلف عَلَى أمر، لا يتحقق أنه يفعله، أو لا يفعله، لا يحنث، كمن قَالَ لمن خاصم أخاه: والله لو كنتُ حاضرا، لهشمت أنفك، خلافا لمن قَالَ: يحنث مطلقا. (ومنها): أن فيه جوازَ التوجع لمن أقيم عليه الحد، بعد إقامته عليه، وَقَدْ حَكَى ابن الكلبي فِي قصة أم عمرو بنت سفيان: أن امرأة أُسيد بن حُضير أَوَتها بعد أن قُطعت، وصَنَعت لها طعامًا، وأن أُسيدًا، ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، كالمنكر عَلَى امرأته، فَقَالَ:"رحمتها، رحمها الله".
(ومنها): أن فيه الاعتبارَ بأحوال منْ مضى، منْ الأمم، ولاسيما منْ خالف أمر الشرع. (ومنها): أنه تمسك به بعض منْ قَالَ إن شرع منْ قبلنا شرع لنا؛ لأن فيه إشارةً إلى تحذير منْ فعل الشيء الذي جَرَّ الهلاك إلى الذين منْ قبلنا؛ لئلا نهلك كما هلكوا، وفيه نظر، وإنما يتم أن لو لم يَرِد قطع السارق فِي شرعنا، وأما اللفظ العام فلا دلالة فيه
عَلَى المدعى أصلاً. قاله فِي "الفتح" 14/ 49.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: مسألة "شرعُ منْ قبلنا شرع لنا" قد تقدّم البحث عنها غير مرّة، وأن هَذَا هو الأرجح، وهو الذي جرى عليه البخاريّ، ومسلم، بل والمحدثون عمومًا فِي مؤلفاتهم، حيث يبوّبون أبوابًا، ولا يوردون فِي ذلك الباب إلا حديثًا يتعلّق بذكر بني إسرائل، كقول البخاريّ فِي "كتاب الأدب" منْ "صحيحه":"باب رحمة النَّاس، والبهائم"، ثم أورد فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بينما رجل يمشي بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئرا، فنزل فيها، فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى منْ العطش، فَقَالَ الرجل: لقد بلغ هَذَا الكلبَ منْ العطش مثلُ الذي كَانَ بلغ بي، فنزل البئر، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له"، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا فِي البهائم أجرًا؟ فَقَالَ:"نعم، فِي كل ذات كبد رطبة أجر". انتهى. ولو سلكت فِي تعداد ما فِي "صحيح البخاريّ، ومسلم" منْ ذلك لخرجت منْ المقصود، وَقَدْ ذكرت ذلك فِي هَذَا الشرح غير مرّة. فتبصّر بالإنصاف، ولا تتحيّر بالتقليد والاعتساف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي سبب قطع هذه المرأة، هل هو جحد العارية، أم سرقتها؟، ومنشؤ الخلاف اختلاف الروايات فِي ذلك:
قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى فِي "الفتح" عند قوله: (أهمتهم المرأة المخزومية التي سَرَقَتْ): ما حاصله: زاد يونس فِي روايته: "فِي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فِي غزوة الفتح"، ووقع بيان المسروق فِي حديث مسعود بن أبي الأسود المعروف بابن العجماء، فأخرج ابن ماجه، وصححه الحاكم، منْ طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن طلحة ابن رُكانة، عن أمه عائشة بنت مسعود بن الأسود، عن أبيها، قَالَ:"لَمّا سَرَقت المرأة تلك القطيفة، منْ بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعظمنا ذلك، فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، نكلمه"، وسنده حسن، وَقَدْ صرح فيه ابن إسحاق بالتحديث، فِي رواية الحاكم، وكذا علقه أبو داود، فَقَالَ: رَوَى مسعود بن الأسود، وَقَالَ الترمذيّ بعد حديث عائشة المذكور هنا:"وفي الباب عن مسعود بن العجماء"، وَقَدْ أخرجه أبو الشيخ فِي "كتاب السرقة"، منْ طريق يزيد بن أبي حبيب، عن محمد بن طلحة، فَقَالَ:"عن خالته بنت مسعود بن العجماء، عن أبيها"، فيحتمل أن يكون محمد بن طلحة، سمعه منْ أمه، ومن خالته، ووقع فِي مرسل حبيب بن أبي ثابت:"أنها سرقت حليا".
قَالَ الحافظ: ويمكن الجمع بأن الحلى، كَانَ فِي القطيفة، فالذي ذكر القطيفة، أراد
بما فيها، والذي ذكر الحلي، ذكر المظروف، دون الظرف، ثم رجح عندي أن ذكر الحلي فِي قصة هذه المرأة وَهَمٌ، كما سأبينه، روقع فِي مرسل الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، فيما أخرجه عبد الرزاق، عن ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار، أن الحسن أخبره، قَالَ:"سرقت امرأة"، قَالَ عمرو: وحسبت أنه قَالَ: "منْ ثياب الكعبة
…
" الْحَدِيث، وسنده إلى الحسن صحيح، فإن أمكن الجمع، وإلا فالأول أقوى.
وَقَدْ وقع فِي رواية معمر عن الزهريّ، فِي هَذَا الْحَدِيث: أن المرأة المذكورة، كانت تستعير المتاع، وتجحده، أخرجه مسلم، وأبو داود، وأخرجه النسائيّ، منْ رواية شعيب ابن أبي حمزة، عن الزهريّ، بلفظ: "استعارت امرأة، عَلَى ألسنة ناس يعرفون، وهي لا تعرف حليا، فباعته، وأخذت ثمنة
…
" الْحَدِيث، وَقَدْ بينه أبو بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام، فيما أخرجه عبد الرزاق، بسند صحيح إليه: أن امرأة جاءت امرأةً، فقالت: إن فلانة تستعيرك حليا، فأعارتها إياه، فمكثت لا تراه، فجاءت إلى التي استعارت لها، فسألتها؟ فقالت: ما استعرتك شيئا، فرجعت إلى الأخرى، فأنكرت، فجاءت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدعاها، فسألها، فقالت: والذي بعثك بالحق، ما استعرت منها شيئًا، فَقَالَ: اذهبوا إلى بيتها تجدوه تحت فراشها، فأتوه، فأخذوه، وأمر بها
…
" الْحَدِيث.
فيحتمل أن تكون سَرَقت القطيفة، وجحدت الحلي، وأطلق عليها فِي جحد الحلي فِي رواية حبيب بن أبي ثابت "سرقت" مجازًا، قَالَ العراقيّ فِي "شرح الترمذيّ": اختُلِف عَلَى الزهريّ، فَقَالَ الليث، ويونس، وإسماعيل بن أمية، وإسحاق بن راشد:"سرقت"، وَقَالَ معمر، وشعيب:"إنها استعارت، وجحدت"، قَالَ: ورواه سفيان بن عيينة، عن أيوب بن موسى، عن الزهريّ، فاختُلِف عليه سندا ومتنًا، فرواه البخاريّ، عن عَلَى بن المديني، عن ابن عيينة، قَالَ: ذهبت أسال الزهريّ، عن حديث المخزومية، فصاح عليّ، فقلت لسفيان: فلم يحفظه عن أحد، قَالَ: وجدت فِي كتاب كتبه أيوب بن موسى، عن الزهريّ، وَقَالَ فيه: إنها سرقت، وهكذا قَالَ محمد بن منصور، عن ابن عيينة:"انها سرقت"، أخرجه النسائيّ عنه -يعني هذه الرواية- 4897 - وعن رِزْق الله بن موسى -يعني الرواية التي تلي 4896 - عن سفيان كذلك، لكن قَالَ: "أُتي النبيّ صلى الله عليه وسلم بسارق، فقطعه
…
"، فذكره مختصرا، ومثله لأبي يعلى، عن محمد بن عباد، عن سفيان. وأخرجه أحمد، عن سفيان كذلك، لكن فِي آخره: قَالَ سفيان: لا أدري ما هو؟ وأخرجه النسائيّ أيضًا عن إسحاق ابن راهويه، عن
سفيان، عن الزهريّ -يعني الرواية التي قبل هَذَا -4896 - بلفظ: "كانت مخزومية تستعير المتاع، وتجحده
…
" الْحَدِيث، وَقَالَ فِي آخره: قيل لسفيان: منْ ذكره؟ قَالَ: أيوب بن موسى، فذكره بسنده المذكور، وأخرجه منْ طريق ابن أبي زائدة، عن ابن عيينة، عن الزهريّ -4899 - بغير واسطة، وَقَالَ فيه: "سرقت" قَالَ العراقيّ: وابن عيينة لم يسمعه منْ الزهريّ، ولا ممن سمعه منْ الزهريّ، إنما وجده فِي كتاب أيوب بن موسى، ولم يصرح بسماعه منْ أيوب بن موسى، ولهذا قَالَ فِي رواية أحمد: لا أدري كيف هو؟ كما تقدم.
وجزم جماعة بأن معمرا تفرد عن الزهريّ بقوله: "استعارت، وجحدت"، وليس كذلك، بل تابعه شعيب، كما ذكره العراقيّ عند النسائيّ -4890 - ويونس كما أخرجه أبو داود، منْ رواية أبي صالح، كاتب الليث، عن الليث، عنه، وعلقه البخاريّ لليث عن يونس، لكن لم يسق لفظه، وكذا ذكر البيهقي أن شبيب بن سعيد، رواه عن يونس، وكذلك رواه ابن أخي الزهريّ، عن الزهريّ، أخرجه ابن أيمن فِي "مصنفه" عن إسماعيل القاضي بسنده إليه، وأخرج أصله أبو عوانة فِي "صحيحه".
قَالَ الحافظ: والذي اتضح لي أن الحديثين محفوظان، عن الزهريّ، وأنه كَانَ يحدث تارة بهذا، وتارة بهذا، فحدث يونس عنه بالحديثين، واقتصرت كل طائفة منْ أصحاب الزهريّ، غير يونس عَلَى أحد الحديثين، فقد أخرج أبو داود، والنسائي 4889 و4890 - وأبو عوانة، فِي "صحيحه" منْ طريق أيوب، عن نافع، عن ابن عمر:"أن امرأة مخزومية، كانت تستعير المتاع، وتجحده، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقطع يدها"، وأخرجه النسائيّ -4891، وأبو عوانة أيضا، منْ وجه آخر، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، بلفظ:"استعارت حليا". انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد اتّضح بما ذُكر أن رواية "سرقت"، ورواية "جحدت" ثابتتان؛ لكن سبب القطع هو السرقة، وأما الجحد، فهو لبيان أنها كانت متّصفة به، ومعروفة لدى النَّاس بذلك، ثم اتّفق أن سرقت يوم الفتح قطيفة، فقُطعت بذلك، وسيأتي مزيد تحقيق فِي المسألة التالية، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي القطع بجحد العارية:
قد اختلف نظر العلماء فِي ذلك، فأخذ بالقطع به أحمد، فِي أشهر الروايتين عنه، وإسحاق، وانتصر له ابن حزم منْ الظاهرية. وذهب الجمهور، إلى أنه لا يقطع فِي جحد العارية، وهي رواية عن أحمد أيضا.
وأجابوا عن الْحَدِيث بأن رواية مَن رَوَى: "سرقت" أرجح، وبالجمع بين الروايتين بضرب منْ التأويل:
فأما الترجيح، فنقل النوويّ أن رواية معمر شاذة، مخالفة لجماهير الرواة، قَالَ: والشاذة لا يعمل بها، وَقَالَ ابن المنذر فِي "الحاشية"، وتبعه المحب الطبري: قيل إن معمرا انفرد بها. وَقَالَ القرطبيّ: روايةُ "أنها سرقت" أكثر، وأشهر منْ رواية الجحد، فقد انفرد بها معمر وحده، منْ بين الأئمة الحفاظ، وتابعه عَلَى ذلك مَن لا يُقتدى بحفظه، كابن أخي الزهريّ، ونمطه، هَذَا قول المحدثين.
قَالَ الحافظ: سبقه لبعضه القاضي عياض، وهو يُشعر بأنه لم يقف عَلَى رواية شعيب، ويونس بموافقة معمر، إذ لو وقف عليها لم يجزم بتفرد معمر، وأن منْ وافقه كابن أخي الزهريّ ونمطه، ولا زاد القرطبيّ نسبة ذلك للمحدثين، إذ لا يُعرف عن أحد منْ المحدثين أنه قرن شعيب بن أبي حمزة، ويونس بن يزيد، وأيوب بن موسى، بابن أخي الزهريّ، بل هم متفقون عَلَى أن شعيبًا، ويونس أرفع درجة فِي حديث الزهريّ، منْ ابن أخيه، ومع ذلك فليس فِي هَذَا الاختلاف، عن الزهريّ ترجيح بالنسبة إلى اختلاف الرواة عنه، إلا لكون رواية "سَرَقت" متفقا عليها، ورواية "جَحَدت" انفرد بها مسلم، وهذا لا يدفع تقديم الجمع، إذا أمكن بين الروايتين، وَقَدْ جاء عن بعض المحدثين عكس كلام القرطبيّ، فَقَالَ: لم يختلف عَلَى معمر، ولا عَلَى شعيب، وهما فِي غاية الجلالة فِي الزهريّ، وَقَدْ وافقهما ابن أخي الزهريّ، وأما الليث، ويونس، وإن كانا فِي الزهريّ كذلك، فقد اختلف عليهما فيه، وأما إسماعيل بن أمية، وإسحاق بن راشد، فدون معمر، وشعيب، فِي الحفظ.
قَالَ الحافظ: وكذا اختلف عَلَى أيوب بن موسى، كما تقدم، وعلى هَذَا فيتعادل الطريقان، ويتعين الجمع، فهو أولى، منْ اطراح أحد الطريقين.
فَقَالَ بعضهم، كما تقدم عن ابن حزم، وغيره: هما قصتان مختلفتان، لامرأتين مختلفتين. وتُعُقّب بأن فِي كل منْ الطريقين أنهم استشفعوا بأسامة، وأنه شفع، وأنه قيل له:"لا تشفع فِي حد منْ حدود الله"، فيبعد أن أسامة يسمع النهي المؤكد عن ذلك، ثم يعود إلى ذلك مرة أخرى، ولاسيما إن اتحد زمن القصتين، وأجاب ابن حزم بأنه يجوز أن يَنسَى، ويجوز أن يكون الزجر عن الشفاعة في حد السرقة تقدم، فظن أن الشفاعة فِي جحد العارية جائز، وأن لا حد فيه، فشفع، فأجيب بأن فيه الحد أيضا.
ولا يخفى ضعف الاحتمالين.
وحكى ابن المنذر، عن بعض العلماء، أن القصة لامرأة واحدة، استعارت،
وجحدت، وسرقت، فقطعت للسرقة، لا للعارية، قَالَ: وبذلك نقول.
وَقَالَ الخطّابيّ فِي "معالم السنن" -بعد أن حكى الخلاف، وأشار إلى ما حكاه ابن المنذر-: وانما ذُكرت العارية، والجحد فِي هذه القصة، تعريفا لها بخاص صفتها، أذ كانت تكثر ذلك، كما عرفت بأنها مخزومية، وكأنها لما كثر منها ذلك، ترقت إلى السرقة، وتجرّأت عليها، وتَلَقَّف هَذَا الجواب منْ الخطّابيّ جماعة، منهم البيهقي، فَقَالَ: تحمل رواية مَن ذَكَر جحد الجارية عَلَى تعريفها بذلك، والقطع عَلَى السرقة، وَقَالَ المنذري نحوه، ونقله المازري، ثم النوويّ عن العلماء.
وَقَالَ القرطبيّ: يترجح أن يدها قُطعت عَلَى السرقة، لا لأجل جحد العارية منْ أوجه:[أحدها]: قوله فِي آخر حديث الذي ذُكرت فيه العارية: "لو أن فاطمة سَرَقت"، فإن فيه دلالة قاطعة عَلَى أن المرأة قُطعت فِي السرقة، إذ لو كَانَ قطعها لأجل الجحد، لكان ذكر السرقة لاغيا، ولقال: لو أن فاطمة جَحَدت العارية. وهذا قد أشار إليه الخطّابيّ أيضا. [ثانيها]: لو كانت قُطعت فِي جحد العارية، لوجب قطع كل منْ جحد شيئا، إذا ثبت عليه، ولو لم يكن بطريق العارية. [ثالثها]: أنه عارض ذلك حديث: "ليس عَلَى خائن، ولا مُختلس، ولا مُنتهب قطع"، وهو حديث قويّ، أخرجه الأربعة، وصححه أبو عوانة، والترمذيّ، منْ طريق ابن جُريج، عن أبي الزبير، عن جابر، رفعه، وصرح ابن جريج فِي رواية النسائيّ
(1)
، بقوله:"أخبرني أبو الزبير"، ووَهَّم بعضهم هذه الرواية، فقد صرح أبو داود، بأن أبن جريج لم يسمعه منْ أبي الزبير، قَالَ: وبلغني عن أحمد، إنما سمعه ابن جريج منْ ياسين الزيات، ونقل أبن عدي فِي "الكامل" عن أهل المدينة أنهم قالوا: لم يسمع ابن جريج منْ أبي الزبير، وَقَالَ النسائيّ: رواه الحفاظ منْ أصحاب أبن جريج عنه، عن أبي الزبير، فلم يقل أحد منهم: أخبرني، ولا أحسبه سمعه.
قَالَ الحافظ: لكن وُجد له متابع عن أبي الزبير، أخرجه النسائيّ أيضا، منْ طريق المغيرة بن مسلم، عن أبي الزبير، لكن أبو الزبير مدلس أيضا، وَقَدْ عنعنه عن جابر، لكن أخرجه ابن حبّان منْ وجه أخر، عن جابر بمتابعة أبي الزبير، فقوي الْحَدِيث.
وَقَالَ الحافظ وليّ الدين رحمه الله تعالى -بعد أن ذكر كلام النسائيّ المتقدّم-: ما نصّه: فإن ترجح أن ابن جريج لم يسمعه منْ أبي الزبير، فقد تابعه عليه مغيرة بن مسلم، فرواه عن أبى الزبير كذلك، ورواه النسائيّ منْ طريقه، وقولُ ابن حزم: مغيرة بن مسلم
(1)
أي فِي "الكبرى" برقم 7463 - وليس الحديث فِي "المجتبى"، فتنبّه.
ليس بالقويّ، مردود، فقد وثّقه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبو حاتم، وابن حبّان، والدارقطنيّ، وَقَدْ تابع أبا الزبير عليه عمرو بن دينار، رواه ابن حبّان فِي "صحيحه" منْ طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، وعمرو بن دينار، عن جابر رضي الله عنه، فذكره، وهذا يرد عَلَى قول ابن حزم فِي "الإيصال": إنه لم يروه أحد منْ النَّاس إلا أبو الزبير، عن جابر، فظهر بما قرّرناه قوّة هَذَا الْحَدِيث، وصلاحيته للاحتجاج به، ثم إننا نقيس المختلف فيه منْ ذلك عَلَى المتّفق عليه، فإن أحمد يجزم بعدم القطع عَلَى الخائن فِي العارية بغير الحجد، وعلى الخائن فِي الوديعة، وعلى المنتهب، والمختلس، والغاصب، فلم يقل أحد بالقطع فِي الحجد مطلقًا. انتهى "طرح التثريب" 6/ 8/ 32 - 33.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث: "ليس عَلَى خائن، ولا منتهب، ولا مختلس قطع" صحيح، سيأتي الكلام عليه فِي 13/ 4973 - إن شاء الله تعالى.
قَالَ فِي "الفتح": وَقَدْ أجمعوا عَلَى العمل به -أي بحديث جابر المذكور- إلا منْ شذّ، فنقل ابن المنذر، عن إياس بن معاوية، أنه قَالَ: المختلس يُقطع، كأنه ألحقه بالسارق؛ لاشتراكهما فِي الأخذ خُفْية، ولكنه خلاف ما صرح به فِي الخبر، وإلا ما ذُكر منْ قطع جاحد العارية، وأجمعوا عَلَى أنه لا قطع عَلَى الخائن فِي غير ذلك، ولا عَلَى المنتهب، إلا إن كَانَ قاطع طريق. والله أعلم.
وعارضه غيره ممن خالف، فَقَالَ ابن القيم الحنبلي: لا تنافي بين جحد العارية، وبين السرقة، فإن الجحد داخل فِي اسم السرقة، فيجمع بين الروايتين بأن الذين قالوا:"سرقت" أطلقوا عَلَى الجحد سرقة. قَالَ الحافظ: ولا يخفى بُعدُهُ.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: بُعد تسوية ابن القيم بين الجحد والسرقة فِي المعنى مما لا يخفى، ومن أقوى ما يبطله حديث النسائيّ الآتي قريبًا حيث إنه صلى الله عليه وسلم استتاب تلك المرأة التي كانت تجحد العارية مرارًا، فإن فيه بيان أنهما ليسا بمعنى واحد؛ لأنه لا خلاف أن السرقة إذا ثبتت عند الإمام لا يجوز له استتابة السارق، وَقَدْ استتاب صلى الله عليه وسلم هذه المرأة، فلو كَانَ الجحد سرقةً، لما استتابها، بل أمر بقطعها، فعلمنا أن الجحد ليس بمعنى السرقة، وأن قطع هَذَا المرأة إنما هو لكونها سرقت، بعد أن اعتادت جحد العارية، فافهم. والله تعالى أعلم.
قَالَ: والذي أجاب به الخطّابيّ مردود؛ لأن الحكم المرتب عَلَى الوصف، معمول به، ويقويه أن لفظ الْحَدِيث، وترتيبه فِي إحدى الروايتين القطعَ عَلَى السرقة، وفي الأخرى عَلَى الجحد، عَلَى حدّ سواء، وترتيب الحكم عَلَى الوصف، يُشعِر بالعلية،
فكل منْ الروايتين دال، عَلَى أن علة القطع كل منْ السرقة وجحد العارية عَلَى انفراده، ويؤيد ذلك أن سياق حديث ابن عمر ليس فيه ذكر للسرقة، ولا للشفاعة منْ أسامة، وفيه التصريح بأنها قُطعت فِي ذلك.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: فِي هَذَا الكلام نظر؛ إذ يحتمل أن الرواية أيضًا فيها اختصار، كما فِي بعض روايات عائشة رضي الله تعالى عنها، فتأمل.
قَالَ الحافظ: وأبسط ما وجدت منْ طرقه، ما أخرجه النسائيّ، فِي رواية له: أن امرأة كانت تستعير الحلي، فِي زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستعارت منْ ذلك حليا، فجمعته، ثم أمسكته، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"لتتب هذه المرأة إلى الله تعالى، وتؤد ما عندها"، مرارا، فلم تفعل، فأمر بها، فقطعت.
وأخرج النسائيّ بسند صحيح، منْ مرسل سعيد بن المسيب: أن امرأة منْ بني مخزوم، استعارت حليا عَلَى لسان أناس، فجحدت، فأمر بها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقُطعت، وأخرجه عبد الرزاق بسند صحيح أيضا، إلى سعيد، قَالَ: أُتى النبيّ صلى الله عليه وسلم بامرأة منْ بيت عظيم، منْ بيوت قريش، قد أتت أناسا، فقالت: إن آل فلان، يستعيرونكم كذا، فأعاروها، ثم أتوا أولئك، فانكروا، ثم أنكرت هي، فقطعها النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ ابن دقيق العيد: صنيع صاحب "العمدة" حيث أورد الْحَدِيث بلفظ الليث، ثم قَالَ: وفي لفظ، فذكر لفظ معمر، يقتضي أنها قصة واحدة، واختلف فيها، هل كانت سارقة، أو جاحدة، يعني لأنه أَورد حديث عائشة باللفظ الذي أخرجاه، منْ طريق الليث، ثم قَالَ: وفي لفظ كانت امرأة تستعير المتاع، وتجحده، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، وهذه رواية معمر فِي مسلم فقط، قَالَ: وعلى هَذَا فالحجة فِي هَذَا الخبر، فِي قطع المستعير ضعيفة؛ لأنه اختلاف فِي واقعة واحدة، فلا يُبَتُّ الحكم فيه بترجيح منْ روى أنها جاحدة، عَلَى الرواية الأخرى، يعني وكذا عكسه، فيصح أنها قطعت بسبب الأمرين، والقطع فِي السرقة متَّفقٌ عليه، فيترجح عَلَى القطع فِي الجحد المختلف فيه.
قَالَ الحافظ: وهذه أقوى الطرق فِي نظري، وَقَدْ تقدم الرد عَلَى منْ زعم أن القصة وقعت لامرأتين، فقطعتا فِي أوائل الكلام عَلَى هَذَا الْحَدِيث، والالزام الذي ذكره القرطبيّ، فِي أنه لو ثبت القطع فِي جحد العارية، للزم القطع فِي جحد غير العارية قويّ أيضا، فإن منْ يقول بالقطع فِي جحد العارية، لا يقول به فِي جحد غير العارية، فيقاس المختلف فيه عَلَى المتفق عليه، إذ لم يقل أحد بالقطع فِي الجحد عَلَى الإطلاق.
وأجاب ابن القيم بأن الفرق بين جحد العارية، وجحد غيرها، أن السارق لا يمكن الاحتراز منه، وكذلك جاحد العارية، خلاف المختلس منْ غير حرز، والمنتهب، قَالَ:
ولا شك أن الحاجة ماسة بين النَّاس إلى العارية، فلو علم المعير أن المستعير إذا جحد لا شيء عليه، لَجَرّ ذلك إلى سد باب العارية، وهو خلاف ما تدل عليه حكمة الشريعة، بخلاف ما إذا عَلم أنه يُقطع، فإن ذلك يكون أدعى إلى استمرار العارية، وهي مناسبة لا تقوم بمجردها حجة، إذا ثبت حديث جابر رضي الله عنه فِي أن لا قطع عَلَى خائن.
وَقَدْ فَرَّ مِن هَذَا بعض منْ قَالَ بذلك، فخص القطع بمن استعار عَلَى لسان غيره، مخادعا للمستعار منه، ثم تصرف فِي العارية، وأنكرها لما طولب بها، فإن هَذَا لا يقطع بمجرد الخيانة، بل لمشاركته السارق فِي أخذ المال خفية.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وفي هَذَا نظر لا يخفى، لأن الذين قالوا بالقطع فِي حجد العارية، لم يقيّدوه بهذا القيد، فتبصّر.
والحاصل أن ما ذهب إليه الجمهور منْ أنه لا قطع عَلَى جاحد العارية هو الحقّ؛ لقوّة أدلّته، ومن أقواها حديث جابر رضي الله عنه مرفوعًا:"ليس عَلَى خائن، ولا منتهب، ولا مختلس قطع"، وهو حديث صحيح، واستتابة النبيّ صلى الله عليه وسلم للمرأة فِي جحدها العارية؛ إذ لو كَانَ الجحد سرقة، لما استتابها، لأن الإمام لا يستتيب السارق بلا خلاف، ومن أقواها أيضًا ما سبق قريبا منْ كلام ابن دقيق العيد الذي قَالَ فيه الحافظ: وهذه أقوى الطرق فِي نظري.
وَقَدْ أجاد ابن قُدامة رحمه الله تعالى فِي تصحيحه رواية أحمد أنه لا قطع على جاحد العريّة، كما هو مذهب الجمهور، ودنك خلاصة عبارته:
واختلفت الرواية عن أحمد، فِي جاحد العارية، فعنه عليه القطع، وهو قول إسحاق، ثم ذكر دليله، وهو حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: "أن امرأة كانت تستعير المتاع، وتجحده
…
" الْحَدِيث، ثم قَالَ: وعنه: لا قطع عليه، وهو قول الخرقي، وأبي إسحاق بن شاقلا، وأبي الخطاب، وسائر الفقهاء، وهو الصحيح -إن شاء الله تعالى- لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا قطع عَلَى الخائن"، ولأن الواجب قطع السارق، والجاحد غير سارق، وإنما هو خائن، فأشبه جاحد الوديعة، والمرأة التي كانت تستعير المتاع، إنما قُطعت لسرقتها، لا بجحدها، ألا ترى قوله: "إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه"، وقولَهُ: و"الذي نفسي بيده، لو كانت فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، لقطعت يدها"، وفي بعض ألفاظ رواية هذه القصة، عن عائشة: "أن قريشا أهمهم شأن المخزومية، التي سرقت"، وذكرت القصة، رواه البخاريّ، وفي حديث: "أنها سرقت قَطِيفة"، فروى الأثرم بإسناده، عن مسعود بن الأسود، قَالَ: "لَمّا سَرَقت المرأة تلك القطيفة، منْ بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعظمنا ذلك، وكانت امرأة منْ
قريش، فجئنا إلى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقلنا: نحن نَفْديها بأربعين أوقية، قَالَ: تُطَهَّر خير لها، فلما سمعنا لِين قولِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتينا أسامة، فقلنا: كَلِّم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
" وذكر الْحَدِيث، نحو سياق عائشة، وهذا ظاهر فِي أن القصة واحدة، وأنها سرقت، فقطعت بسرقتها، وإنما عَرَّفَتها عائشة بجحدها للعارية؛ لكونها مشهورة بذلك، ولا يلزم أن يكون ذلك سببا، كما لو عَرَّفتها بصفة منْ صفاتها، وفيما ذكرنا جمع بين الأحاديث، وموافقة لظاهر الأحاديث، والقياس، وفقهاء الأمصار، فيكون أولى، فأما جاحد الوديعة، وغيرها منْ الأمانات، فلا نعلم أحدا يقول بوجوب القطع عليه. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله تعالى "المغني" 12/ 416 - 418. وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: قول سفيان المتقدم، ذهبت أسال الزهريّ، عن حديث المخزومية التي سرقت، فصاح عليّ مما يكثر السؤال عنه، وعن سببه، وَقَدْ أوضح ذلك بعض الرواة، عن سفيان، فرأينا فِي كتاب "المحدث الفاصل" لأبي محمد الرامهرمزي، منْ طريق سليمان بن عبد العزيز، أخبرني محمد بن إدريس، قَالَ: قلت لسفيان بن عيينة، كم سمعت منْ الزهريّ؟ قَالَ: أما مع النَّاس، فما أحصي، وأما وحدي فحديث واحد، دخلت يوما منْ باب بني شيبة، فإذا أنابه جالس إلى عمود، فقلت: يا أبا بكر، حدثني حديث المخزومية، التي قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدها، قَالَ: فضرب وجهي بالحصى، ثم قَالَ: قم، فما يزال عبد يَقدَم علينا بما نكره، قَالَ: فقمت منكرا، فمر رجل، فدعاه، فلم يسمع، فرماه بالحصى، فلم يبلغه، فاضطر إليّ، فَقَالَ: ادعه لي، فدعوته له، فأتاه، فقضى حاجته، فنظر إلي، فَقَالَ: تعال، فجئت، فَقَالَ: أخبرني سعيد بن المسيب، وأبو سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "العجماء جبار
…
" الْحَدِيث، ثم قَالَ لي: هَذَا خير لك منْ الذي أردت.
قَالَ الحافظ: وهذا الْحَدِيث الأخير أخرجه مسلم، والأربعة، منْ طريق سفيان، بدون قصة. انتهى "فتح" 14/ 41 - 45. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4898 -
(أَخْبَرَنَا رِزْقُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَارِقٍ فَقَطَعَهُ، قَالُوا: مَا كُنَّا نُرِيدُ أَنْ يَبْلُغَ مِنْهُ هَذَا، قَالَ: "لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةَ لَقَطَعْتُهَا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "رزق الله بن موسى" أبو بكر، ويقال: أبو الفضل الناجيّ البغداديّ الإسكافي الْكَلَوْذَاني، يقال: اسمه: عبد الأكرم، صدوقٌ يهم [10].
رَوَى عن أبن عيينة، وخالد بن عبد الله الواسطي، وعبد الرحمن بن مهدي، ويعقوب بن إسحاق الحضرميّ، وشبابة بن سوار، ومعن بن عيسى، وغيرهم. وعنه النسائيّ، وابن ماجه، والْبُجَيري، وابن ناجية، وأسلم بن سهل، وابن خزيمة، والباغَنْدي، وابن صاعد، والمحاملي، وغيرهم. قَالَ الخطيب: كَانَ ثقة. وَقَالَ ابن شاهين فِي "الأفراد": هو وعلي بن شعيب، ثقتان جليلان. وَقَالَ العقيلي: فِي حديثه وَهَم. قَالَ الذهبيّ: رفع حديثا موقوفا. وذكره النسائيّ فِي "مشيخته"، وَقَالَ: بصري صالح. وَقَالَ مسلمة الأندلسي: رَوَى عن يحيى بن سعيد، وبقيةَ أحاديثَ منكرة، وهو صالح، لا بأس به. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: مات سنة (260) أو قبلها بقليل، أو بعدها بقليل. وَقَالَ إبراهيم بن محمد الكندي: مات فِي ذي القعدة، سنة (256). روى عنه المصنّف، وابن ماجه، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.
و"سفيان": هو ابن عيينة.
وقوله: "أتي النبيّ-صلى الله عليه وسلم بسارق": ببناء الفعل للمفعول، وهذا يخالف روايتي سفيان المتقدّمتين، حيث إن فيهما:"أن امرأةً سرقت"، فقيل: هَذَا منْ أوهام رزق الله، ويحتمل أن يكون عَلَى تأويل السارق بالشخص، فلا تنافي بينه وبين بقيّة الروايات أنها امرأة، ويحتمل أن يكون هَذَا واقعة أخرى، وهذا بعيد، فالاحتمالان الأولان أقرب.
والحديث بهذا الإسناد ضعيف، وفي متنه نكارة، كما أشرت إليه آنفاً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4899 -
(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ امْرَأَةً سَرَقَتْ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: مَا نُكَلِّمُهُ فِيهَا، مَا مِنْ أَحَدٍ يُكَلِّمُهُ إِلاَّ حِبُّهُ أُسَامَةُ، فَكَلَّمَهُ، فَقَالَ: "يَا أُسَامَةُ، إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ، هَلَكُوا بِمِثْلِ هَذَا، كَانَ إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِنْ سَرَقَ فِيهِمُ الدُّونُ قَطَعُوهُ، وَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ لَقَطَعْتُهَا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "علي بن سعيد بن مسروق": هو الكنديّ الكوفيّ، صدوقٌ [10] 34/ 4804. و"يحيى بن زكريّا بن أبي زائدة": هو الهمدانيّ، أبو سعيد الكوفيّ، ثقة متّقِنٌ، منْ كبار [9] 144/ 226.
وقوله: "ما نكلّمه فيها": أي لا نستطيع أن نكلّمه فِي شأن هذه المرأة، مهابةً له. وقوله:"إلا حِبّه أسامة" -بكسر الحاء المهملة: أي محبوبه. و"أسامة" بدل منْ "حبه".
وقوله: "الدّون" بالضمّ: هو بمعنى الضيعف، أو الوضيع فِي الروايات الأخرى، قَالَ الفيّوميّ: وشيءٌ منْ دونٍ بالتنوين: أي حقيرٌ ساقطُ، ورجلٌ منْ دونِ، هَذَا أكثر كلام العرب، وَقَدْ تحذف "منْ"، وتجُعل "دونٌ" نعتًا، ولا يُشتقّ منه. انتهى.
وَقَالَ فِي "اللسان": و"الدُّون": الحقير الخسيس، وَقَالَ الشاعر [منْ المتقارب]:
إِذَا مَا عَلَا الْمَرْءُ رَامَ الْعَلاءَ
…
وَيَقْنَعُ بِالدُّونِ مَنْ كَانَ دُونَا
ولا يُشتقّ منه فعل، وبعضهم يقول منه: دان يدُون دَوْنًا، وأُدِينَ إِدانةً. انتهى.
والحديث متّفقٌ عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4900 -
(أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ شُعَيْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتِ: اسْتَعَارَتِ امْرَأَةٌ عَلَى أَلْسِنَةِ أُنَاسٍ يُعْرَفُونَ، وَهِيَ لَا تُعْرَفُ، حُلِيًّا فَبَاعَتْهُ، وَأَخَذَتْ ثَمَنَهُ، فَأُتِيَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَعَى أَهْلُهَا إِلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يُكَلِّمُهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتَشْفَعُ إِلَيَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ "، فَقَالَ أُسَامَةُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشِيَّتَئِذٍ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ عز وجل بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّمَا هَلَكَ النَّاسُ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ فِيهِمْ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا"، ثُمَّ قَطَعَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمران بن بكّار": هو الكَلاعيّ الْبَرَّاد الْحِمصيّ المؤذّن، ثقة [11] 17/ 1541 منْ أفراد المصنّف. و"بشر بن شُعيب": هو أبو القاسم الحمصيّ، ثقة، منْ كبار [10] 7/ 1466. و"أبوه": هو شُعيب بن أبي حمزة/ دينار الأمويّ مولاهم، أبو بشر المحصيّ، ثقة عابدٌ، قَالَ ابن معين: منْ أثبت النَّاس فِي الزهريّ [7] 69/ 85.
وقوله: "عَلَى ألسنة أُناس الخ": أي باسمهم، ولأجلهم، يعني أنها تأتي أناسًا، وتقول لهم: إن فلانة ممن يعرفونها، أرسلتني إليكم تستعير الحلي الفلاني، فيُعطونها؛ لكونهم يعرفون تلك المرأة.
وقوله: "يُعرفون" بالبناء للمفعول، وكذا قوله:"وهي لا تُعرَف".
وقوله: "عشيّتئذ" بنصب "عشيّة" عَلَى الظرفيّة لـ"قام"، وهو مضاف إلى "إذ". و"العشيّة" ما بين الزوال إلى الغروب، وقيل: هو آخر النهار، وقيل: منْ الزوال إلى الصباح.
والحديث صحيح، كما سبق تمام البحث فيه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4901 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِىءُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، "أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ"، ثُمَّ قَامَ، فَخَطَبَ، فَقَالَ: "إِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة.
وقوله: "وايم الله": قسم مختصر منْ: "وأيمن الله"، قَالَ الفيّوميّ: و"أيمنٌ": اسم استُعمل فِي القسم، والتُزم رفعه، كما التُزم رفعُ "لعمرُ الله"، وهمزته عند البصريين وصلٌ، واشتقاقه عندهم منْ الْيُمْن، وهو البركة، وعند الكوفيين قطعٌ؛ لأنه جمعُ يمين عندهم، وَقَدْ يُختصر منه، فيقال:"وايم الله" بحذف الهمزة والنون، ثم اختُصر ثانيًا، فقيل:"مُ الله" بضم الميم. انتهى.
والحديث متَّفقٌ عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4902 -
(أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْجَوَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ رُزَيْقٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَرَقَتِ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ، مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، فَأُتِيَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُهُ فِيهَا، قَالُوا: أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَأَتَاهُ فَكَلَّمَهُ، فَزَبَرَهُ، وَقَالَ: "إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ الْوَضِيعُ قَطَعُوهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُهَا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو بكر بن إسحاق": هو محمد بن إسحاق الصاغانيّ، نزيل بغداد، ثقة ثبت [11] 13/ 347. و "أبو الْجَوّاب": هو الأحوص بن الْجَوّاب الضبيّ الكوفيّ، صدوقٌ ربما وهِم [9] 102/ 135. و"عمّار بن رُزيق" -بتقديم الراء، مصغّرًا-: هو الضبّيّ، أو التميميّ، أبو الأحوص الكوفيّ، لا بأس به [8] 102/ 135. و"محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى": هو الأنصاريّ الكوفيّ القاضي، أِبو عبد الرحمن، صدوقٌ، سيء الحفظ جدًّا [7] 19/ 2149. و"إسماعيل بن أُميّة":
هو الأمويّ، ثقة ثبتٌ [6] 2468/ 16. و"محمد بن مسلم": هو ابن شهاب الزهريّ الإمام.
والحديث فيه محمد بن أبي ليلى متكلّم فيه، لكنه صحيح بما قبله، وما بعده. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4903 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَبَلَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ أَعْيَنَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا؟ قَالُوا: مَنْ يَجْتَرِىءُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ سَرَقَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ لَقَطَعْتُ يَدَهَا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن جَبَلة": ويقال: ابن خالد بن جَبَلَةَ الرافقيّ، بتقديم الفاء، خراسانيّ الأصل، صدوقٌ [11] 190/ 1167.
و"محمد بن موسى بن أعين": هو أبو يحيى الْجَزَريّ الْحَرَانيّ، صدوقٌ، منْ كبار [10] 4/ 403. و"أبوه": هو موسى بن أعين الجزريّ، مولى قريش، أبو سعيد، ثقة عابدٌ [8] 11/ 415.
و"إسحاق بن راشد": هو أبو سليمان الجزريّ، ثقة فِي حديثه عن الزهريّ بعض الوَهَم [7] 39/ 2192.
والحديث سبق شرحه، وبيان مسائله، وفيه إسحاق بن راشد، متكلم فيه فِي حديث الزهريّ، لكنه صحيح بما سبق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4904 -
(قَالَ الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، أَخْبَرَهُ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ امْرَأَةً سَرَقَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، فَأُتِيَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَلَّمَهُ فِيهَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَلَمَّا كَلَّمَهُ تَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ"، فَقَالَ لَهُ أُسَامَةُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ، قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ عز وجل بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ إِنَّمَا هَلَكَ النَّاسُ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ"، ثُمَّ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، قَطَعْتُ يَدَهَا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، وهو ثقة حافظ، وتقدّموا غير مرّة.
وقوله: "تلوّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم": أي تغيّر وجهه؛ لإنكاره شفاعة أسامة رضي الله عنه.
والحديث متَّفقٌ عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4905 -
(أَخْبَرَنَا سُوَيْدٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ -
(1)
عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ امْرَأَةً سَرَقَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ- مُرْسَلٌ، فَفَزِعَ قَوْمُهَا إِلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، يَسْتَشْفِعُونَهُ، قَالَ عُرْوَةُ: فَلَمَّا كَلَّمَهُ أُسَامَةُ فِيهَا، تَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"أَتُكَلِّمُنِي فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ "، قَالَ أُسَامَةُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ:"أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّمَا هَلَكَ النَّاسُ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا"، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِيَدِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ فَقُطِعَتْ، فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا بَعْدَ ذَلِكَ، قَالَتْ عَائِشَةُ رضى الله عنها: وَكَانَتْ تَأْتِينِي بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، وهو سُويد بن نصر، أبو الفضل المروزيّ، لقبه الشاه، راوية ابن المبارك، ثقة [10] 45/ 55. و"عبد الله": هو ابن المبارك الإمام المشهور. و"يونس": هو ابن يزيد الأيليّ الثقة الثبت.
وقوله: "مرسل": أي هَذَا الْحَدِيث مرسلٌ، لقول عروة:"أن امرأة سرقت الخ"، ولم يذكر عائشة، لكن هَذَا الإرسال إرسال صوريّ؛ لأن عروة ذكر فِي آخره ما يدلّ عَلَى أنه أخذه منْ عائشة رضي الله تعالى عنها، حيث قَالَ: قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: وكانت تأتيني الخ.
قَالَ فِي "الفتح": قوله: "أخبرني عروة بن الزبير، أن امرأة سرقت"، كذا فيه بصورة
(1)
[تنبيه]: منْ الغريب العجيب ما كتبه الشيخ زهير الشاويش فيما كتبه عَلَى هامش "صحيح النسائيّ" للشيخ الألباني رحمه الله تعالى مما يتعجّب منه كل منْ له صلة بعلم الْحَدِيث، ومما يُدهش أنه كتب سند المصنّف فِي صلب الكتاب، فَقَالَ:"أخبرنا سويد، قَالَ: أنبأنا عبد الله بن يونس، عن الزهريّ الخ، ثم كتب فِي الهامش كلاما طويلاً، وفي جملته: "فعبد الله بن يونس مجهول الخ، وهذا السند المحرّف لا يوجد أصلاً فِي نسخ النسائيّ، لا فِي "المجتبى"، ولا فِي "الكبرى"، فراجع أيها اللبيب ما كتبه ترى العجب. نسأل الله تعالى أن يهدينا إلى سواء السبيل.
الإرسال، لكن فِي آخره ما يقتضي أنه عن عائشة؛ لقوله فِي آخره:"قالت عائشة، فكانت تأتيني بعد ذلك، فأرفع حاجتها"، وعند الإسماعيليّ منْ طريق الزهريّ، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، قالت:"فتابت، فحسنت توبتها، وكانت تأتيني، فأرفع حاجتها إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم". انتهى. "فتح" 8/ 340 - 341 "كتاب المغازي" رقم 4304.
والحاصل أن الْحَدِيث، وإن كَانَ صورته صورة مرسل، إلا أنه فِي الحقيقة متّصل، ولذا أخرجه البخاريّ فِي "صحيحه" فِي "المغازي" برقم 4304. فَقَالَ: حدّثنا محمد ابن مقاتل، أخبرنا عبد الله، بسند المصنّف، ومتنه سواء بسواء. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
7 - (التَّرْغِيبِ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ)
4906 -
(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ عِيسَى بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَرِيرُ بْنُ يَزِيدَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا زُرْعَةَ بْنَ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "حَدٌّ يُعْمَلُ فِي الأَرْضِ، خَيْرٌ لأَهْلِ الأَرْضِ مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا ثَلَاثِينَ صَبَاحًا").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(عيسى بن يزيد) الأزرق، أبو معاذ المروزيّ النحويّ، مقبول [7].
روى عن إسماعيل بن أمية، وجرير بن يزيد البجليّ، وخالد بن كيسان، وغيرهم. وعنه ابن المبارك، وعيسى بن موسى غنجار، وحكّام بن سِلْم، وغيرهم. ذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: كَانَ عَلَى قضاء سرخس، وبها مات. روى له المصنّف، وابن ماجه، له عندهما هَذَا الْحَدِيث فقط.
2 -
(جرير بن يزيد) بن جرير بن عبد الله البجلي، ضعيفٌ [7].
روى عن أبيه، وابن عمه أبي زرعة بن عمرو. وعنه جرير بن عبد الحميد، وعيسى ابن يزيد، ويونس بن عبيد، وهشيم بن بشير. قَالَ أبو زرعة: شاميّ، منكر الْحَدِيث. تفرّد به المصنّف، وابن ماجه، وله عندهما هَذَا الْحَدِيث، وعند ابن ماجه حديث آخر
أيضًا فِي "المسح عَلَى الخفين".
3 -
(أبو زرعة بن عمرو بن جرير) البجليّ الكوفيّ، قيل: اسمه هَرِم، وقيل: عمرو، وقيل: غير ذلك، ثقة [3] 43/ 50.
4 -
(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والباقيان تقدّما فِي الباب الماضي. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عِيسَى بْنِ يَزِيدَ) الأزرق النحويّ المروزيّ، أنه (قَالَ: حَدَّثَنِي جَرِيرُ بْنُ يَزِيدَ) البجليّ (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا زُرْعَةَ بْنَ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ) البجليّ الكوفيّ (يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "حَدٌّ) مبتدأ خبره "خير"، وجملة قوله:(يُعْمَلُ فِي الْأَرْضِ) صفة لـ"حدّ"(خَيْرٌ لأَهْلِ الأَرْضِ) أي أكثر بركةً فِي الرزق، منْ الثمار والأنهار، وغير ذلك (مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا) بالبناء للمفعول، يقال: مطرت السماء تمطُر مَطَرًا، منْ باب طَلَبَ، فهي ماطرةٌ فِي الرحمة، وأمطرت بالألف أيضًا لغة، وفي العذاب أمطرت بالألف، لا غير، كما تفيده عبارة "المصباح" (ثَلَاثِينَ صَبَاحًا) وفي الرواية التالية:"خير منْ مطر أربعين ليلة"، وفي رواية أحمد فِي "مسنده" 2/ 362 منْ طريق زكريا بن عديّ، عن ابن المبارك:"ثلاثين، أو أربعين صباحًا"، وكونه أربعين هو الأصحّ؛ لعدم الشك فيه.
وفي الْحَدِيث: الحثّ والترغيب فِي إقامة الحدود، وبيان فضله فِي الأمة؛ ووجه ذلك أنَّ الله سبحانه وتعالى قَالَ:{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق: 9]، وَقَدْ بيّن فِي هَذَا الْحَدِيث أن إقامة الحدّ خيرٌ منْ نزول الأمطار أربعين ليلة، فثبت به ما لها منْ كثرة الخيرات والبركات. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هَذَا حسن، بلفظ "أربعين"، كما هو فِي الرواية التالية.
[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه جرير بن يزيد، وهو ضعيف؟.
[قلت]: إنما صحّ لأن له شاهدًا منْ حديث ابن عبّاس رضى الله تعالى عنهما، مرفوعًا، أخرجه الطبراني فِي "الكبير"، و"الأوسط"، بإسناد حسن، كما قَالَ المنذريّ، والعراقيّ، بلفظ:"حدّ يقام فِي الأرض، أزكى فيها، منْ مطر أربعين يومًا"، وَقَدْ تكلّم
فِي إسناده الشيخ الألباني، ولكنه قَالَ: لا بأس به فِي الشواهد.
وأيضًا فقد أخرجه ابن حبّان فِي "صحيحه"(1507) منْ طريق يونس بن عبيد، عن عمرو بن سعيد، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا، بلفظ:"إقامة حدّ بأرض خير لأهلها منْ مطر أربعين صباحًا"، وسنده صحيح، رجاله كلهم ثقات، إلا أن للشيخ الألباني كلامًا فيه، فراجع "السلسة الصحيحة" 1/ 409 - 410.
والحاصل أن الْحَدِيث بمجموعه، لا ينقص عن درجة الحسن. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -4906 و4907 - وفي "الكبرى" 12/ 7391 و7392. وأخرجه (ق) فِي "الحدود" 2538 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 8973. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4907 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: "إِقَامَةُ حَدٍّ بِأَرْضٍ خَيْرٌ لأَهْلِهَا مِنْ مَطَرِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمرو بن زُرارة": هو الكلابيّ، أبو محمد النيسابوريّ، ثقة ثبت [10] 7/ 368. و"إسماعيل": هو ابن عليّة الحجة الثبت. و"يونس بن عُبيد": هو أبو عبيد البصريّ، ثقة ثبتٌ فاضلٌ ورع [5] 88/ 109. والحديث حسنٌ، كما سبق فِي الذي قبله، فهو وإن كَانَ موقوفًا؛ إلا أن له حكمَ الرفع؛ لأنه لا يقال منْ قبل الرأي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
8 - (الْقَدْرِ الَّذِي إِذَا سَرَقَهُ السَّارِقُ قُطِعَتْ يَدُهُ)
4908 -
(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَخْلَدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَنْظَلَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ نَافِعًا، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: قَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مِجَنٍّ، قِيمَتُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، كَذَا قَالَ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عبد الحميد بن محمد": هو ابن الْمُسْتَام، أبو عمر الْحَرّانيّ، إمام مسجدها، ثقة [11] 22/ 932. و"مخلد": هو ابن يزيد القرشيّ الحرّانيّ، صدوقٌ، له أوهام، منْ كبار [9] 141/ 222. والباقون يأتون فِي السند التالي.
وقوله: "قيمته خمسة دراهم" شاذّ مردودة، كما سيأتي تحقيقه قريبًا، وسيأتي تمام شرح الْحَدِيث، وبيان مسائله فِي الْحَدِيث التالي، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4909 -
(أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَنْظَلَةُ، أَنَّ نَافِعًا حَدَّثَهُمْ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: قَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا الصَّوَابُ).
قَال أَبُو عَبْد الرحْمَنِ: هَذَا الصوَابُ).
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(يونس بن عبد الأعلى) الصدفيّ المصريّ، ثقة، منْ صغار [10] 1/ 449.
2 -
(ابن وهب) عبد الله المصريّ الحافظ، ثقة عابد [9] 9/ 9.
3 -
(حنظلة) بن أبي سفيان الجُمَحيّ المكيّ، ثقة حجة [6] 12/ 12.
4 -
(نافع) مولى ابن عمر المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 12/ 12.
5 -
(عبد الله بن عمر) بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه فيه مصريين، ومدنيين، ومكيّا. (ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما منْ العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
عن حنظلة بن أبي سفيان الْجُمحيّ المكيّ (أَنَّ نَافِعًا) مولى ابن عمر (حَدَّثَهُمْ) أي حدّث حنظلة، ومن معه (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهما (قَالَ: قَطَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي أمر بالقطع، لا أنه تولّى القطع بنفسه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يباشره بنفسه، وَقَدْ تقدّم فِي قصة المخزوميّة أنه صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً أن يقطعها، فيحتمل أن يكون هو المأمور هنا، ويحتمل أن يكون غيره (فِي مِجَنٍّ) بكسر الميم، وفتح الجيم،
وتشديد النون-: مِفْعلٌ منْ الاجتنان، وهو الاستتار مما يُحاذره المستتر، وكُسرت ميمه لأنه آلة للاستتار (ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ) وفي الرواية السابقة:"قيمته" بدل "ثمنه ثلاثة"، وَقَدْ اختلف الرواة فِي هذه اللفظة، فرواه بعضهم بلفظ القيمة، وبعضهم بلفظ الثمن، فقد أخرجه المصنّف منْ طريق مخلد بن يزيد، عن حنظلة، فِي الرواية الماضية بلفظ:"قيمته"، وكذا منْ طريق سفيان، عن أيوب، وإسماعيل بن أمية، وعبد الله، وموسى ابن عقبة، أربعتهم عن نافع أيضًا بلفظ:"قيمته"، قَالَ الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" بعد أن أخرجه منْ طريق موسى بن عقبة، عن نافع بلفظ:"ثمنه": ما: نصّه: وتابعه محمد بن إسحاق، وَقَالَ الليث: حدثني نافع: "قيمته". انتهى.
قَالَ فِي "الفتح": قوله: "تابعه محمد بن إسحاق": يعني عن نافع، أي فِي قوله:"ثمنه"، وروايته موصولة عند الإسماعيلي، منْ طريق عبد الله بن المبارك، عن مالك، ومحمد بن إسحاق، وعبيد الله بن عمر، ثلاثتهم عن نافع:"عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قطع فِي مجن ثمنه ثلاثة دراهم"، وَقَدْ أخرجه البخاريّ رحمه الله منْ رواية جُوَيرية، وهو ابن أسماء مثل هَذَا السياق سواء، ومن رواية عبيد الله، وهو ابن عمر، أي العمري مثله، ومن رواية موسى بن عقبة، عن نافع، بلفظ: "قطع النبيّ صلى الله عليه وسلم يد سارق
…
" مثله. وقوله: "وَقَالَ الليث: حدثني نافع: "قيمته": يعني أن الليث رواه عن نافع كالجماعة، لكن قَالَ:"قيمته"، بدل قولهم:"ثمنه"، ورواية الليث وصلها مسلم، عن قتيبة، ومحمد بن رمح، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قطع سارقا، فِي مجن، قيمته ثلاثة دراهم"، وأخرجه مسلم أيضًا، منْ رواية سفيان الثوري، عن أبي أيوب السختياني، وأيوب بن موسى، وإسماعيل بن أمية، ومن رواية ابن وهب، عن حنظلة بن أبي سفيان، ومالك، وأسامة بن زيد، كلهم عن نافع، قَالَ بعضهم:"ثمنه"، وَقَالَ بعضهم:"قيمته"، هَذَا لفظ مسلم، ولم يميز، وَقَدْ أخرجه أبو داود، منْ رواية ابن جريج، أخبرني إسماعيل بن أمية، عن نافع، ولفظه "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قطع يد رجل سرق ترسًا، منْ صُفَّة النِّساء، ثمنه ثلاثة دراهم"، وأخرجه النسائيّ منْ رواية ابن وهب، عن حنظلة وحده، بلفظ:"ثمنه"، ومن طريق مَخلَد بن يزيد، عن حنظلة، بلفظ:"قيمته"، فوافق الليث، فِي قوله:"قيمته"، لكن خالف الجميع، فَقَالَ:"خمسة دراهم"، وقول الجماعة:"ثلاثة دراهم"، هو المحفوظ. وَقَدْ أخرجه الطحاوي، منْ طريق عبيد الله بن عمر، بلفظ:"قطع فِي مجن، قيمته"، ومن رواية أيوب، ومن رواية مالك، قَالَ مثله، ومن رواية ابن إسحاق بلفظ:"أُتي برجل سرق حَجَفَة قيمتها ثلاثة دراهم، فقطعه".
[تنبيه]: "قيمةُ الشيء": هو ما تنتهي إليه الرغبة فيه، وأصله قِوْمَةٌ، فأُبدلت الواو ياء؛ لوقوعها بعد كسرة. و"الثمن": هو ما يُقابل به المبيع عند البيع.
قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: والذي يظهر أن المراد هنا القيمة، وأن منْ رواه بلفظ الثمن إما تجوّزًا، وإما أن القيمة والثمن كانا حينئذ مستويين. قَالَ ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: القيمة، والثمن قد يختلفان، والمعتبرُ إنما هو القيمة، ولعل التعبير بالثمن؛ لكونه صادف القيمة فِي ذلك الوقت، فِي ظن الراوي، أو باعتبار الغلبة. قاله فِي "الفتح" 14/ 60 - 61.
وقوله: (قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ) النسائيّ رحمه الله تعالى: (هَذَا الصَّوَابُ) يعني أن قوله: "ثلاثة دراهم" هو الصواب، وأما قوله:"خمسة دراهم" فخطأ؛ لمخالفة مخلد بن يزيد، لمن هو أوثق، وأحفظ منه، وهو ابن وهب، كما فِي هَذَا السند، وَقَدْ تقدّم فِي ترجمة مخلد أن له أوهامًا، فيكون هَذَا منها، وَقَدْ رواه مالك 4910 وإسماعيل بن أمية 4911 وأيوب السختيانيّ، وعبيد الله بن عمر، وموسى بن عقبة 4912 - وأيوب بن موسى عند مسلم خمستهم عن نافع بلفظ "ثلاثة دراهم"، فتبين بهذا أن رواية مخلد بلفظ:"خمسة دراهم" شاذّة مطّرحة، وإنما المحفوظ ما رواه الجماعة بلفظ:"ثلاثة دراهم". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -8/ 4908 و4909 و4910 و4911 و4912 - وفي "الكبرى" 13/ 7393 و7394 و7395 و7396 و7397. وأخرجه (خ) فِي "الحدود" 6795 و6796 و6797 و6798 (م) فِي "الحدود" 1686 (د) فِي "الحدود" 4385 و4286 (ت) فِي "الحدود" 1446 (ق) فِي "الحدود" 2584 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 4489 و5135 و5288 و5493 و5518 و6281 (الموطأ) فِي "الحدود" 1572 و2199. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان القدر الذي إذا سرقه السارق قُطعت يده، وهو ثمن المجنّ. (ومنها): أنه استَدلّ به منْ قَالَ بوجوب قطع يد السارق، ولو لم يسرق منْ حرز، وهو قول الظاهرية، وأبي عبيد الله البصريّ، منْ
المعتزلة، وخالفهم الجمهور، فقالوا: العام إذا خُصّ منه شيء بدليل، بقي ما عداه عَلَى عمومه، وحجيته، سواء كَانَ لفظه ينبىء عما ثبت فِي ذلك الحكم بعد التخصيص، أم لا؛ لأن آية السرقة عامة، فِي كل مَن سَرق، فخَصّ الجمهور منها مَن سَرق منْ غير حرز، فقالوا: لا يقطع، وليس فِي الآية ما ينبىء عن اشتراط الحرز، وطرد البصريّ أصله فِي الاشتراط المذكور، فلم يشترط الحرز، ليستمر الاحتجاج بالآية، نعم وزعم ابن بطال أن شرط الحرز مأخوذ منْ معنى السرقة، فان صح ما قَالَ، سقطت حجة البصريّ أصلا. (ومنها): أنه استُدِل به عَلَى أن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب؛ لأن آية السرقة نزلت فِي سارق رداء صفوان، أو سارق المجنّ، وعَمِل بها الصحابة فِي غيرهما منْ السارقين. (ومنها): أنه استُدل بإطلاق حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: "قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي ربع دينار"، عَلَى أن القطع يجب بما صَدَق عليه ذلك، منْ الذهب، سواء كَانَ مضروبا، أو غير مضروب، جَيِّدًا كَانَ، أو رديئا، وَقَدْ اختَلَف فيه الترجيح عند الشافعيّة، ونص الشافعيّ فِي "الزكاة" عَلَى ذلك، وأطلق فِي "السرقة"، فجزم الشيخ أبو حامد، وأتباعه بالتعميم هنا، وَقَالَ الإصطخري: لا يقع إلا فِي المضروب، ورجحه الرافعي، وقيد الشيخ أبو حامد النقل عن الإصطخري بالقدر الذي ينقص بالطبع.
(ومنها): أنه استُدِل بالقطع فِي الْمِجَنّ، عَلَى مشروعية القطع فِي كل ما يُتَمَوَّل قياسا، واستثنى الحنفية ما يُسرع إليه الفساد، وما أصله الإباحة، كالحجارة، واللبن، والخشب، والملح، والتراب، والكلإ، والطير، وفيه رواية عن الحنابلة، والراجح عندهم فِي مثل السرجين القطع، تفريعا عَلَى جواز بيعه، وفي هَذَا تفاريع أخرى، محل بسطها كتب الفقه، وبالله التوفيق. قاله فِي "الفتح" 14/ 63 - 64.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بالتعميم هو الأظهر؛ لإطلاق النصوص. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي اعتبار النصاب لوجوب قطع السارق:
قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: الشرط الثاني: أن يكون المسروق نصابا، ولا قطع فِي القليل، فِي قول الفقهاء كلهم، إلا الحسن، وداود، وابن بنت الشافعيّ، والخوارج، قالوا: يُقطع فِي القليل والكثير؛ لعموم الآية؛ ولِمَا روى أبو هريرة رضي الله عنه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لعن الله السارق يَسرِق الحبل، فتقطع يده، وشرق البيضة، فتقطع يده"، متَّفقٌ عليه، ولأنه سارق منْ حرز، فتقطع يده كسارق الكثير.
قَالَ: ولنا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا قطع إلا فِي ربع دينار، فصاعدا"، متَّفقٌ عليه، وإجماعُ
الصحابة عَلَى ما سنذكره، وهذا يخص عموم الآية، والحبل يحتمل أن يساوي ذلك، وكذلك البيضة يحتمل أن يراد بها بيضة السلاح، وهي تساوي ذلك.
واختلفت الرواية عن أحمد فِي قدر النصاب، الذي يجب القطع بسرقته، فرَوَى عنه أبو إسحاق الجوزجاني، أنه ربع دينار منْ الذهب، أو ثلاثة دراهم منْ الورق، أو ما قيمته ثلاثة دراهم، منْ غيرهما، وهذا قول مالك، وإسحاق.
وروى عنه الأثرم: أنه إن سرق منْ غير الذهب والفضة ما قيمته ربع دينار، أو ثلاثة دراهم قُطع، فعلى هَذَا يُقَوَّم غير الأثمان بأدنى الأمرين، منْ ربع دينار، أو ثلاثة دراهم. وعنه أن الأصل الورق، ويُقَوَّم الذهب به، فإن نقص ربع دينار عن ثلاثة دراهم، لم يقطع سارقه، وهذا يُحكى عن الليث، وأبي ثور، وقالت عائشة:"لا قطع إلا فِي ربع دينار فصاعدا"، ورُوي هَذَا عن عمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم، وبه قَالَ الفقهاء السبعة، وعمر بن عبد العزيز، والأوزاعي، والشافعي، وابن المنذر؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"لا قطع إلا فِي ربع دينار فصاعدا".
وَقَالَ عثمان البتي: تقطع اليد فِي درهم، فما فوقه، وعن أبي هريرة، وأبي سعيد: أن اليد تقطع منْ أربعة دراهم فصاعدا، وعن عمر:"أن الخمس لا تُقطع إلا فِي الخمس"، وبه قَالَ سليمان بن يسار، وابن أبي ليلى، وابن شُبْرُمة، ورُوي ذلك عن الحسن. وَقَالَ أنس: قطع أبو بكر فِي مجن، قيمته خمسة دراهم، رواه الجوزجاني بإسناده. وَقَالَ عطاء، وأبو حنيفة، وأصحابه: لا تقطع اليد، إلا فِي دينار، أو عشرة دراهم؛ لما روى الحجاج بن أرطاة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قَالَ:"لا قطع إلا فِي عشرة دراهم"، ورَوَى ابنُ عباس، قَالَ: قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يد رجل فِي مجن، قيمته دينار، أو عشرة دراهم. وعن النخعي: لا تقطع اليد إلا فِي أربعين درهما. قَالَ: ولنا ما روى ابنُ عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قطع فِي مجن، ثمنه ثلاثة دراهم، متَّفقٌ عليه، قَالَ ابن عبد البرّ: هَذَا أصح حديث، يُروَى فِي هَذَا الباب، لا يختلف أهل العلم فِي ذلك. وحديثُ أبي حنيفة الأول، يرويه الحجاج بن أرطاة، وهو ضعيف، والذي يرويه عن الحجاج ضعيف أيضًا، والحديث الثاني، لا دلالة فيه عَلَى أنه لا يُقطع بما دونه، فإن منْ أوجب القطع بثلاثة دراهم، أوجبه بعشرة. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله تعالى "المغني" 12/ 418 - 420.
وَقَالَ فِي "الفتح": وَقَدْ تمسك مالك رحمه الله تعالى بحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فِي اعتبار النصاب بالفضة، وأجاب الشافعيّة، وسائر منْ خالفه، بأنه ليس فِي طرقه أنه لا يقطع فِي أقل منْ ذلك، وأورد الطحاوي حديث سعد، الذي أخرجه
مالك أيضًا، وسنده ضعيف، ولفظه:"لا يقطع السارق، إلا فِي المجن"، قَالَ: فعلمنا أنه لا يقطع فِي أقل منْ ثمن المجن، لكن اخْتُلف فِي ثمن المجن، ثم ساق حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قَالَ: كَانَ قيمة المجن الذي قَطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم، قَالَ: فالاحتياط أن لا يُقطع إلا فيما اجتمعت فيه هذه الآثار، وهو عشرة، ولا يقطع فيما دونها؛ لوجود الاختلاف فيه.
وتعقب بأنه لو سلم فِي الدراهم، لم يسلم فِي النص الصريح فِي ربع دينار، كما تقدم إيضاحه، ودفع ما أعله به، والجمع بين ما اختلفت الروايات فِي ثمن المجن ممكن، بالحمل عَلَى اختلاف الثمن والقيمة، أو عَلَى تعدد المجان التي قطع فيها، وهو أولى.
وَقَالَ ابن دقيق العيد: الاستدلال بقوله: "قطع فِي مجن" عَلَى اعتبار النصاب ضعيف؛ لأنه حكاية فعل، ولا يلزم منْ القطع فِي هَذَا المقدار، عدم القطع فيما دونه، بخلاف قوله:"يُقطع فِي ربع دينار فصاعدا"، فإنه بمنطوقه يدل عَلَى أنه يُقطع فيما إذا بلغ، وكذا فيما زاد عليه، وبمفهومه عَلَى أنه لا قطع فيما دون ذلك، قَالَ: واعتمادُ الشافعيّ عَلَى حديث عائشة -وهو قول- أقوى فِي الاستدلال، منْ الفعل المجرد، وهو قوي فِي الدلالة عَلَى الحنفية؛ لأنه صريح فِي القطع فِي دون القدر الذي يقولون بجواز القطع فيه، ويدل عَلَى القطع فيما يقولون به بطريق الفحوى، وأما دلالته عَلَى عدم القطع فِي دون ربع دينار، فليس هو منْ حيث منطوقه، بل منْ حيث مفهومه، فلا يكون حجة عَلَى منْ لا يقول بالمفهوم.
قَالَ الحافظ: وقرر الباجي طريق الأخذ بالمفهوم هنا، فَقَالَ: دل التقويم عَلَى أن القطع يتعلق بقدر معلوم، وإلا فلا يكون لذكره فائدة، وحينئذ فالمعتمد ما ورد به النص صريحا مرفوعا، فِي اعتبار ربع دينار.
وَقَدْ خالف منْ المالكية فِي ذلك منْ القدماء ابنُ عبد الحكم، وممن بعدهم ابن العربي، فَقَالَ: ذهب سفيان الثوري مع جلالته فِي الْحَدِيث، إلى أن القطع لا يكون إلا فِي عشرة دراهم، وحجته أن اليد محترمة بالإجماع، فلا تستباح إلا بما أُجمع عليه، والعشرة متَّفقٌ عَلَى القطع فيها عند الجميع، فيُتَمَسَّك به ما لم يقع الاتفاق عَلَى ما دون ذلك.
وتُعُقّب بأن الآية دلت عَلَى القطع، فِي كل قليل وكثير، وإذا اختلفت الروايات فِي النصاب، أُخِذ بأصح ما ورد فِي الأقل، ولم يصح أقل منْ ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، فكان اعتبار ربع دينار أقوى منْ وجهين:[أحدهما]: أنه صريح فِي الحصر، حيث ورد بلفظ:"لا تقطع اليد إلا فِي ربع دينار فصاعدا"، وسائر الأخبار الصحيحة الواردة حكاية
فعل، لا عموم فيها.
[والثاني]: أن المعول عليه فِي القيمة الذهب؛ لأنه الأصل فِي جواهر الأرض كلها، ويؤيده ما نَقَل الخطّابيّ استدلالا عَلَى أن أصل النقد فِي ذلك الزمان الدنانير، بأن الصكاك القديمة، كَانَ يُكتب فيها عشرة دراهم، وزن سبعة مثاقيل، فعُرفت الدراهم بالدنانير، وحُصرت بها. والله أعلم. انتهى "فتح" 14/ 61.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد اتَّضح بما سبق أن الحقّ اعتبار النصاب لوجوب القطع فِي السرقة؛ لصحة الأحاديث الوادة فِي ذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): فِي ذكر المذاهب فِي القدر الذي يقطع فيه السارق:
[الأول]: يقطع فِي كل قليل وكثير، تافها كَانَ أو غير تافه، نُقل ذلك عن أهل الظاهر، والخوارج، ونُقل عن الحسن البصريّ، وبه قَالَ أبو عبد الرحمن ابن بنت الشافعيّ.
[الثاني]: وهو مقابل هَذَا القول فِي الشذوذ: ما نقله عياض، ومن تبعه، عن إبراهيم النخعي: أن القطع لا يجب إلا فِي أربعين درهمًا، أو أربعة دنانير.
[الثالث]: مثل الأول، إلا إن كَانَ المسروق شيئا تافها؛ لحديث عروة:"لم يكن القطع فِي شيء منْ التافه"، ولأن عثمان قطع فِي فَخارة خسيسة، وَقَالَ:"لمن يسرق السياط: لأن عدتم لأقطعن فيه"، وقطع ابن الزبير فِي نعلين، أخرجهما ابن أبي شيبة.
وعن عمر بن عبد العزيز: أنه قطع فِي مُدّ، أو مدين.
[الرابع]: تُقطع فِي درهم فصاعدا، وهو قول عثمان الْبَتِّيّ -بفتح الموحدة، وتشديد المثناة- منْ فقهاء البصرة، وربيعة منْ فقهاء المدينة، ونسبة القرطبيّ إلى عثمان، فأطلق ظنا منه أنه الخليفة، وليس كذلك.
[الخامس]: فِي درهمين، وهو قول الحسن البصريّ، جزم به ابن المنذر عنه.
[السادس]: فيما زاد عَلَى درهمين، ولو لم يبلغ الثلاثة، أخرجه ابن أبي شيبة بسند قوي، عن أنس: أن أبا بكر رضي الله عنه قطع فِي شيء ما يساوي درهمين، وفي لفظ: لا يساوي ثلاثة دراهم.
[السابع]: فِي ثلاثة دراهم، ويُقَوَّم ما عداها بها، ولو كَانَ ذهبا، وهي رواية عن أحمد، وحكاه الخطّابيّ عن مالك.
[الثامن]: مثله، لكن إن كَانَ المسروق ذهبا، فنصابه ربع دينار، وإن كَانَ غيرهما، فإن بلغت قيمته ثلاثة دراهم قطع به، وان لم تبلغ لم يقطع، ولو كَانَ نصف دينار، وهذا
قول مالك، عند أتباعه، وهي رواية عن أحمد، واحتُجَّ له بما أخرجه أحمد، منْ طريق محمد بن راشد، عن يحيى بن يحيى الغساني، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة، مرفوعا:"اقطعوا فِي ربع دينار، ولا تقطعوا فِي أدنى منْ ذلك، قالت: وكان ربع دينار، قيمته يومئذ ثلاثة دراهم"، والمرفوع منْ هذه الرواية نص، فِي أن المعتمد والمعتبر فِي ذلك الذهب، والموقوف منه يقتضي أن الذهب يُقَوَّم بالفضة، وهذا يمكن تأويله، فلا يرتفع به النص الصريح.
[التاسع]: مثله إلا إن كَانَ المسروق غيرهما قطع به، إذا بلغت قيمته أحدهما، وهو المشهور عن أحمد، ورواية عن إسحاق.
[العاشر]: مثله، لكن لا يكتفي بأحدهما، إلا إذا كانا غالبين، فإن كَانَ أحدهما غالبا، فهو المعول عليه، وهو قول جماعة منْ المالكية. وهو [الحادى عشر].
[الثانى عشر]: ربع دينار، أو ما يبلغ قيمته، منْ فضة، أو عرض، وهو مذهب الشافعيّ، وَقَدْ تقدم تقريره، وهو قول عائشة، وعمرة، وأبي بكر بن حزم، وعمر بن عبد العزيز، والأوزاعي، والليث، ورواية عن إسحاق، وعن داود، ونقله الخطّابيّ وغيره عن عمر، وعثمان، وعلي، وَقَدْ أخرج ابن المنذر عن عمر بسند منقطع، أنه قَالَ:"إذا أخذ السارق ربع دينار قطع"، ومن طريق عمرة: أُتى عثمان بسارق سرق أتْرُجّة، قُوِّمت بثلاثة دراهم، منْ حساب الدينار باثنى عشر، فقُطع. ومن طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، أن عليا رضي الله عنه:"قطع فِي ربع دينار، كانت قيمته درهمين ونصفا".
[الثالث عشر]: أربعة دراهم، نقله عياض عن بعض الصحابة، ونقله ابن المنذر عن أبي هريرة، وأبي سعيد.
[الرابع عشر]: ثلث دينار، حكاه ابن المنذر، عن أبي جعفر الباقر.
[الخامس عشر]: خمسة دراهم، وهو قول ابن شبرمة، وابن أبي ليلى، منْ فقهاء الكوفة، ونُقل عن الحسن البصريّ، وعن سليمان بن يسار، أخرجه النسائيّ، وجاء عن عمر بن الخطاب:"لا تقطع الخمس إلا فِي خمس"، أخرجه ابن المنذر، منْ طريق منصور، عن مجاهد، عن سعيد بن المسيب عنه. وأخرج ابن أبي شيبة، عن أبي هريرة، وأبي سعيد مثله، ونقل أبو زيد الدبوسي، عن مالك، وشذ بذلك.
[السادس عشر]: عشرة دراهم، أو ما بلغ قيمتها، منْ ذهب، أو عرض، وهو قول أبي حنيفة، والثوريّ، وأصحابهما.
[السابع عشر]: دينارٌ، أو ما بلغ قيمته، منْ فضّة، أو عرض، حكاه ابن حزم، عن طائفة، وجزم ابن المنذر بأنه قول النخعي.
[الثامن عشر]: دينار، أو عشرة دراهم، أو ما يساوي أحدهما، حكاه ابن حزم أيضًا، وأخرجه ابن المنذر عن علي، بسند ضعيف، وعن ابن مسعود بسند منقطع، قَالَ: وبه قَالَ عطاء.
[التاسع عشر]: ربع دينار فصاعدا، منْ الذهب، عَلَى ما دل عليه حديث عائشة، ويُقطع فِي القليل والكثير، منْ الفضة، والعروض، وهو قول ابن حزم، ونقل ابن عبد البرّ نحوه عن داود، واحتَجَّ بأن التحديد فِي الذهب ثبت صريحا، فِي حديث عائشة، ولم يثبت التحديد صريحا فِي غيره، فبقي عموم الآية عَلَى حاله، فيقطع فيما قل أو كثر، إلا إذا كَانَ الشيء تافها، وهو موافق للشافعي، إلا فِي قياس أحد النقدين عَلَى الآخر، وَقَدْ أيده الشافعيّ بأن الصرف يومئذ، كَانَ موافقا لذلك، واستَدَلَّ بأن الدية عَلَى أهل الذهبْ ألف دينار، وعلى أهل الفضة اثنى عشر ألف دينار، وتقدم فِي قصة الأترجة قريبا ما يؤيده، ويخرج منْ تفصيل جماعة منْ المالكية، أن التقويم يكون بغالب نقد البلد، إن ذهبا فبالذهب، وإن فضة فبالفضة، تمام العشرين مذهبا.
وَقَدْ ثبت فِي حديث ابن عمر، أنه صلى الله عليه وسلم، قطع فِي مجن قيمته ثلاثة دراهم، وثبت:"لا قطع فِي أقل منْ ثمن المجن"، وأقل ما ورد فِي ثمن المجن ثلاثة دراهم، وهي موافقة للنص الصريح فِي القطع، فِي ربع دينار، وإنما ترك القول بأن الثلاثة دراهم نصاب، يُقطع فيه مطلقا؛ لأن قيمة الفضة بالذهب تختلف، فبقي الاعتبار بالذهب، كما تقدم، والله أعلم. انتهى ما فِي "الفتح" 14/ 61 - 63.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الأرجح هو ما ذهب إليه أحمد، وإسحاق، منْ أنه إذا كَانَ المسروق ذهبًا، فالنصاب ربع دينار، وإن كَانَ فضّةً، فالنصاب ثلاثة دراهم، وإن كَانَ غيرهما، يُقطع إذا بلغت قيمته أحدهما، فإن هَذَا القول هو الموافق للحديث المتّفق عليه:"تُقطع اليد فِي ربع دينا"، وحديث:"قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي مجنّ قيمته ثلاثة دراهم"، فالحديث الثاني يدلّ عَلَى أن غير الذهب والفضّة يقوّم بهما. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4910 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَطَعَ فِي مِجَنٍّ، ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة. والسند منْ رباعيّات المصنّف، وهو (237) منْ رباعيات الكتاب، وهو أعلى الأسانيد له، وَقَدْ تقدّم غير مرّة، وهو أصح الأسانيد عَلَى الإطلاق، فيما نُقل عن الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى:"مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما".
وقوله: "فِي مجنّ" بكسر الميم، وفتح الجيم، وتشديد النون: جمعه مَجَانَّ بالفتح، كدوابّ، وهو الترس، مِفعل منْ الاجتنان، والاستتار، والاختفاء، وما يقارب ذلك، ومنه الْمِجَنّ، وكسرت ميمه؛ لأنه آلة فِي الاجتنان، كأن صاحبه يستتر به عمّا يُحاذره. والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ مضى شرحه، وبيان مسائله فِي الْحَدِيث الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4911 -
(أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، أَنَّ نَافِعًا حَدَّثَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَطَعَ يَدَ سَارِقٍ، سَرَقَ تُرْسًا، مِنْ صُفَّةِ النِّسَاءِ، ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه يوسف بن سعيد بن مسلم الْمِصّيصيّ، فإنه منْ منْ أفراده، وهو ثقة حافظٌ [11] 131/ 198. و"حجّاج": هو ابن محمد الأعور المصّيصيّ الثقة الحافظ [9] و"إسماعيل ابن أميّة" تقدّم قبل باب.
وقوله: "سرق": منْ باب ضرب.
قول: "ترسًا" -بضمّ المثنّاة الفوقانيّة، وسكون الراء-: قَالَ فِي "اللسان": التُّرْس منْ السلاح: المتوقّى بها، معروفٌ، وجمعه أَتراسٌ، وتِراسٌ، وتِرَسَةٌ، وتُرُوسٌ، قَالَ الشاعر [منْ الرجز]:
كَأَنَّ شَمْسًا نَازَعَتْ شُمُوسًا
…
دُرُوعَنَا وَالْبَيْضَ وَالتُّرُوسَا
وَقَالَ فِي "المصباح": التُّرسُ: معروفٌ، والجمع تِرَسَةٌ، مثالُ عِنَبَةٍ، وتُرُوسٌ، وتِرَاسٌ، مثلُ فُلُوسٍ، وسِهَام، وربّما قيل: أَتْرَاسٌ، قَالَ ابن السِّكِّيت: ولا يُقال: أَتْرِسةٌ، وزانُ أَرْغِفَةٍ، وتترّس بالشيء: جعله كالترس، وتستّر به، وكلُّ شيء تترّست به، فهو مِتْرَسَةٌ له، وقولهم:"مَتَرْسٌ" بفتح الميم، والتاء، وسكون الراء: معناه: لك الأمان، فلا تخف، قيل: فارسيّ، وإذا كَانَ التُّرسُ منْ جلود، ليس فيه خشبٌ، ولا عَقَبٌ، سُمّي حَجَفَةً، ودَرَقَةً. انتهى.
وقوله: "منْ صُفَّة النِّساء" -بضم الصاد المهملة، وتشديد الفاء، جمعها صُفَفٌ، مثلُ غُرْفة وغُرَف-: أي موضع مخصّص بالنساء، ولعلّه أراد موضعًا مخصوصًا بهنّ منْ المسجد النبويّ.
قَالَ فِي "اللسان": وصُفّةُ الدار: واحدة الصُّفَف، قَالَ الليث: الصُّفّة منْ البنيان: شِبْهُ الْبَهْوِ
(1)
الواسع الطويل السَّمْك، وفي الْحَدِيث ذكرُ أهل الصفّة، قَالَ: هم فقراء
(1)
البهوُ: البيت المقدّم أمام البيوت. انتهى قاموس.
المهاجرين، ومن لم يكن له منهم منزل يسكنه، وفي الْحَدِيث: مات رجلٌ منْ أهل الصفّة، هو موضعٌ مُظَلَّلٌ منْ المسجد، كَانَ يأوي إليه المساكين، وصُفّة البنيان: طُرَّته. انتهى.
والحديث صحيح، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4912 -
(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَيُّوبَ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ، وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَطَعَ فِي مِجَنٍّ، قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن إسماعيل بن إبراهيم": هو المعروف أبوه بابن عُليّة، وهو ثقة حافظ، منْ أفراد المصنّف. و"أبو نُعيم": هو الفضل بن دُكين الحافظ الثبت. و"سفيان": هو الثوريّ. و"أيوب": هو السختيانيّ. و"عُبيد الله": هو ابن عمر العمريّ الثقة الثبت.
[تنبيه]: كون "عبيد الله" هَذَا مصغّرًا هو الذي فِي النسخة "الهنديّة"، وهو الذي فِي "تحفة الأشراف" 6/ 57 - 58 وهو الصواب، ووقع فِي النسخ المطبوعة منْ "المجتبى"، و"الكبرى":"عبد الله" مكبرًا، وهو تصحيفٌ، فليُتنبّه. والله تعالى أعلم.
و"موسى بن عُقْبة" هو الأسديّ مولاهم، ثقة فقيه، إمام فِي المغازي [5] 96/ 122.
والحديث متّفق عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4913 -
(أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّبَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ فِي مِجَنٍّ"، قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا خَطَأٌ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"عبد الله بن الصبّاح": هو الهاشميّ العطّار البصريّ، ثقة، منْ كبار [10] 49/ 1739. و"أبو علي الحنفيّ": هو عبيد الله بن عبد المجيد البصريّ، صدوقٌ، لم يثبت أن ابن معين ضعّفه [9] 151/ 1118.
و"هشام": هو الدستوائيّ.
والحديث تفرّد به المصنّف رحمه الله تعالى، فأخرجه هنا -8/ 4913 و4914 - وفي "الكبرى" 13/ 7398 و7399. وَقَدْ حكم المصنّف رحمه الله تعالى عليه بأنه خطأ،
فَقَالَ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا خَطَأٌ) زاد فِي "الكبرى": "خالفه شعبة": يعني أن رواية هشام الدستوائيّ عن قتادة مرفوعًا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم خطأ، وإنما هو موقوف منْ فعل أبي بكر رضي الله عنه، كما رواه شعبة بن الحجّاج، ثم بيّن روايته، فَقَالَ:
4914 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَطَعَ أَبُو بَكْرٍ رضى الله عنه، فِي مِجَنٍّ، قِيمَتُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا الصَّوَابُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أحمد بن نصر": هو النيسابوريّ الزاهد المقرىء، أبو عبد الله بن أبي جعفر، ثقة فقيهٌ، حافظ [11] 60/ 1782. و"عبد الله بن الوليد": هو أبو محمد المكيّ المعروف بالعَدَنيّ، صدوقٌ ربما أخطأ، منْ كبار [10] 42/ 2693. و"سفيان": هو الثوريّ.
[تنبيه]: إنما قلت: سفيان هو الثوريّ؛ لأن عبد الله بن الوليد مشهور بالرواية عنه، قَالَ أبو أحمد بن عديّ: روى عن الثوري "جامعه"، كتبناه عن محمد بن يوسف الفربريّ، عن زُهير بن سالم المروزيّ، عنه. ولم يُذكر ابن عيينة فِي شيوخ عبد الله بن الوليد، ولا يُستغرب رواية الثوري، عن شعبة، فقد ذكروه فِي شيوخه، فيكون منْ رواية الأقران، وَقَدْ نصّ عَلَى هَذَا الحافظ. أبو الحجّاج المزّيّ فِي "تهذيب الكمال" 11/ 157 فَقَالَ فِي تعداد شيوخ الثوري:"وشعبة بن الحجاج"، ورمز له للنسائيّ (س) قَالَ: وهو منْ أقرانه، كما أنه عد الثوري منْ شيوخ شعبة فِي 12/ 482 قَالَ: وهو منْ أقرانه. انتهى.
وقوله: "هَذَا هو الصواب"، ولفظ "الكبرى":"وهذا أولى بالصواب": يعنى أن كونه موقوفًا عَلَى أبي بكر رضي الله عنه هو الصواب.
وإنما صوّب المصنّف رحمه الله تعالى هذه الرواية الموقوفة، وخطّأ الرواية السابقة المرفوعة؛ لكونها مخالفة للروايات الصحيحة المتفق عليها منْ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قطع فِي مِجَنّ قيمته ثلاثة دراهم، وَقَدْ سبق أن خطأ المصنّف رواية مخلد بن يزيد، عن حنظلة بن أبي سفيان بلفظ:"قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي مجنّ قيمته خمسة دراهم" لهذا المعنى، كما سبق إيضاحه فِي أوائل الباب.
والحاصل أن الْحَدِيث موقوفٌ صحيح، ولا مخالفة بينه وبين الأحاديث المرفوعة: أنه صلى الله عليه وسلم قطع فِي مجنّ ثمنه ثلاثة دراهم؛ لأن هَذَا لا ينافي القطع فِي أكثر منه، فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم:"قطع يد السارق فِي ربع دينار، فصاعدًا"، متَّفقٌ عليه، فالمجنّ الذي قطع به
أبو بكر رضي الله عنه اتّفق أن كانت قيمته وقتئذ خمسة دراهم، فقط به، ولو اتّفق أن كَانَ أقل منْ ذلك لقطع به، إذا كَانَ ربع دينار، فلا تنافي بين المرفوع والموقوف، فتبصّر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4915 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا، يَقُولُ: سَرَقَ رَجُلٌ مِجَنًّا، عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ، فَقُوِّمَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ فَقُطِعَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو داود": هو سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ الحافظ.
وقوله: "سمعت" فيه تصريح قتادة بالسماع، فقد زال به تهمة التدليس، وإن كَانَ هَذَا لا يُخاف منه إذا كَانَ الراوي عنه شعبة؛ لأنه لا يروي عنه إلا ما صرّح بالسماع، فقد نُقل عنه أنه قَالَ: كفيتكم تدليس ثلاثة: الأعمش، وأبي إسحاق، وقتادة، وَقَالَ أيضًا: كنت أتفقّد فم قتادة، فإذا قَالَ: حدّثنا، وسمعت حفظته، وإذا قَالَ: حدث فلانٌ تركته، وإلى ذلك أشرت فِي منظومتي "الجوهر النفيس فِي نظم أسماء، ومراتب الموصوفين بالتدليس" فِي معرض الردّ عَلَى أن شعبة دلّس فِي حديث، فقلت:
وَكَيْفَ لَا وَقَدْ كَفَانَا عَلَنَا
…
مِنْ شَرِّ تَدْلِيسِ ثَلَاثَةٍ لَنَا
قَتَادَة ثُمَّ السَّبِيعِي الأَعْمَشِ
…
فَاقْنَع بِمَا قَالَ وَلَا تُفَتِّشِ
فَهَذِهَ قَاعِدَةٌ سَنيَّةُ
…
إِذَا أتَتْ لَنَا مِنْهُمْ رِوَايَةُ
أَيْ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةِ مُعَنْعَنَهْ
…
مَحْمُولَةٌ عَلَى السَّمَاعِ آمِنَهْ
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
9 - (ذِكْرِ الاِخْتِلَافِ عَلَى الزُّهْرِيِّ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وجه إلاختلاف المذكور أنه رواه حفص بن حسّان عنه، عن عروة، عن عائشة، بلفظ:"قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي ربع دينار"، ورواه القاسم ابن مبرور، عن يونس، عنه به، بلفظ: "لا تُقطع اليد إلا فِي ثمن المِجنّ، ثُلُث دينار،
أو نصف دينار، فصاعدًا"، ورواه ابن المبارك، عن يونس، عن الزهريّ، عن عمرة، عن عائشة، بلفظ: "تُقطع يد السارق فِي ربع دينار، فصاعدًا"، فخالف فِي السند، والمتن، ووافقه معمر، ورواه ابن وهب، عن يونس، عنه، وعروة، وعمرة به، فخالف فِي السند فقط، أما السند فهو صحيح منْ كلا الطريقين، فقد رواه الزهريّ، عن عروة، وعمرة، فتارةً، يفرد كلاً منهما، وتارة يجمعهما، وأما المتن، فالمشهور لفظ: "تقطع يد السارق فِي ربع دينار، فصاعدًا.
[تنبيه]: قد أجاد الحافظ رحمه الله تعالى فِي "الفتح" فِي الكلام عَلَى طرق حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، حيث أشار البخاريّ رحمه الله تعالى إلى بعض تلك الطرق، فأخرج رواية الزهريّ عن عمرة، منْ طريق إبراهيم بن سعد، عنه، بلفظ:"تقطع اليد فِي ربع دينار، فصاعدًا"، ثم قَالَ:
"وتابعه عبد الرحمن بن خالد، وابن أخي الزهريّ، ومعمر، عن الزهريّ". فَقَالَ فِي "الفتح": قوله: "وتابعه الخ": أي فِي الاقتصار عَلَى عمرة، أما متابعة عبد الرحمن بن خالد، وهو ابن مسافر، فوصلها الذهلي فِي "الزهريات" عن عبد الله بن صالح، عن الليث عنه، نحو رواية إبراهيم بن سعد.
قَالَ الحافظ: وقرأت بخط مغلطاي، وقلده شيخنا ابن الملقن: أن الذهلي أخرجه فِي "علل حديث الزهريّ" عن محمد بن بكر، ورَوْح بن عبادة جميعا، عن عبد الرحمن، وهذا الذي قاله لا وجود له، بل ليس لروح، ولا لمحمد بن بكر، عن عبد الرحمن هَذَا رواية أصلا. وأما متابعة ابن أخي الزهريّ، وهو محمد بن عبد الله بن مسلم، فوصلها أبو عوانة فِي "صحيحه" منْ طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن ابن أخي بن شهاب، عن عمه. قَالَ الحافظ أيضًا: وقرأت بخط مغلطاي، وقلده شيخنا أيضًا: أن الذهلي أخرجه عن رَوْح بن عُبادة عنه. قَالَ: ولا وجود له أيضًا، وإنما أخرجه عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد.
وأما متابعة معمر، فوصلها أحمد، عن عبد الرزاق عنه، وأخرجه مسلم منْ رواية عبد الرزاق، لكن لم يسق لفظه، وساقه النسائيّ -4921 - ولفظه:"تقطع يد السارق فِي ربع دينار فصاعدا"، ووصلها أيضًا هو -4920 - وأبو عوانة منْ طريق سعيد بن أبي عروبة، عن معمر، وَقَالَ أبو عوانة فِي أخره: قَالَ سعيد: نَبَّلْنَا معمرا، رويناه عنه وهو شابّ، -وهو بنون، وموحدة ثقيلة-: أي صَيَّرناه نبيلاً. قَالَ الحافظ: وسعيد أكبر منْ معمر، وَقَدْ شاركه فِي كثير منْ شيوخه.
ورواه بن المبارك، عن معمر، لكن لم يرفعه، أخرجه النسائيّ -4922 - وَقَدْ رواه
عن الزهريّ أيضًا سليمان بن كثير، أخرجه مسلم منْ رواية يزيد بن هارون عنه، مقرونا برواية إبراهيم بن سعد.
ثم أخرج البخاريّ الْحَدِيث أيضًا منْ طريق حسين المعلّم، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاريّ، عن عمرة بنت عبد الرحمن، بلفظ:"تقطع اليد فِي ربع دينار".
فَقَالَ فِي "الفتح": قوله: "عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاريّ": فِي رواية الإسماعيلي منْ طريق عبد الصمد بن عبد الوارث: سمعت أبي، يقول: حدثنا الحسين المعلم، عن يحيى، حدثني محمد بن عبد الرحمن الأنصاريّ، قَالَ الإسماعيلي: رواه حرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير كذلك، وَقَالَ همام بن يحيى، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن بن زرارة.
قَالَ: نسب عبد الرحمن إلى جده، وهو عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، قَالَ الإسماعيلي: ورواه إبراهيم القَنّاد، عن يحيى، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، كذا حدثناه ابن صاعد، عن لُوَين عن القناد، والذي قبله أصح، وبه جزم البيهقي، وأن منْ قَالَ فيه: ابن ثوبان فقد غلط. انتهى. "فتح" 14/ 54 - 56. وهو بحث نفيس، وتحقيق أنيس. والله تعالى أعلم بالصواب.
4916 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ حَفْصِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا، قَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي رُبُعِ دِينَارٍ).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "جعفر بن سليمان": هو الضبعيّ، أبو سليمان البصريّ، صدوقٌ زاهدٌ، لكنه يتشيّع [8] 14/ 14.
و"حفص بن حسّان": مقبول [8].
رَوى عن الزهريّ، وعنه جعفر بن سليمان الضبعيّ، قَالَ النسائيّ: مشهور الْحَدِيث. قَالَ الحافظ: عبارة النسائيّ هذه لا تُشعر بشهرة هَذَا الرجل، لاسيّما، ولم يرو عنه إلا جعفر بن سليمان، ففيه جهالة. انتهى "تهذيب التهذيب" 1/ 450. تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط. والله تعالى أعلم.
وقوله: "قَطَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فِي رُبْعِ دِينَارٍ": ولفظ رواية مسلم منْ رواية عمرة، عن عائشة رضي الله تعالى عنهما، قالتَ:"كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع السارق فِي ربع دينار، فصاعدًا".
والحديث صحيح، وهو بهذا السياق منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -9/ 4918 - وفي "الكبرى" 14/ 7401. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه
المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4917 -
(أَنْبَأَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ نِزَارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مَبْرُورٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إِلاَّ فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ، ثُلُثِ دِينَارٍ، أَوْ نِصْفِ دِينَارٍ، فَصَاعِدًا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "هارون بن سعيد": هو السعديّ مولاهم، أبو جعفرالأَيْليّ، نزيل مصر، ثقة فاضل [10] 25/ 2488. و"خالد بن نِزار": هو الْغَسّانيّ الأيليّ، صدوقٌ يخطىء [9] 1/ 3088. و"القاسم بن مبرور": هو الأيليّ، صدوقٌ فقيهٌ، أثنى عليه مالك، منْ كبار [7] 1/ 3088. و"يونس": هو ابن يزيد الأيليّ الثقة الثبت.
وقوله: "ثلثِ دينار، أو نصف دينار" بالجرّ بدلٌ منْ "ثمن المجنّ".
والحديث ضعيف؛ لمخالفة القاسم بن مبرور الحفّاظ منْ أصحاب يونس، وغيرهم، كعبد الله بن المبارك، وابن وهب، فقد روياه عن يونس بلفظ:"تُقطع يد السارق فِي ربع دينار"، وهو المحفوظ، كما سيأتي بعدُ. ورواه ابن وهب، عن يونس عند مسلم بلفظ:"لا تقطع يد السارق إلا فِي ربع دينار، فصاعدًا".
والحاصل أن المحفوظ لفظ "ربع دينار"، وأما لفظ "ثلث دينار، أو نصفه"، فمنكر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4918 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: قَالَتْ عَمْرَةُ، عَنْ عَائِشَةَ رضى الله عنها، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ، فِي رُبُعِ دِينَارٍ").
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(محمد بن حاتم) بن نُعيم المروزيّ، ثقة [12] 1/ 397 منْ أفراد المصنّف.
2 -
(حَبّان بن موسى) -بكسر الحاء المهملة-: هو السلميّ، أبو محمد المروزيّ، ثقة [10] 1/ 397.
3 -
(عبد الله) بن المبارك الإمام الحجة المشهور [8] 32/ 36.
4 -
(يونس) بن يزيد الأيليّ، أبو يزيد، ثقة [7] 9/ 9.
5 -
(الزهريّ) محمد بن مسلم المدنيّ الفقيه الحجة الثبت [4] 1/ 1.
6 -
(عمرة) بن عبد الرحمن الأنصاريّة المدنيّة، أكثرت عن عائشة، ماتت قبل المائة، ويقال: بعدها، ثقة [3] 134/ 203.
7 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها 5/ 5. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّة، وفيه عائشة رضي الله تعالى عنها منْ المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمد بن مسلم، أنه (قَالَ: قَالَتْ عَمْرَةُ) قَالَ الدارقطنيّ فِي "العلل": اقتصر إبراهيم بن سعد، وسائر منْ رواه عن ابن شهاب، عَلَى عمرة، ورواه يونس عنه، فزاد مع عمرة عروة. وحكى ابن عبد البرّ أن بعض الضعفاء، وهو إسحاق الْحُنَيني بمهملة، ونونين مصغرًا- رواه عن مالك، عن الزهريّ، عن عروة، عن عمرة، عن عائشة، وكذا رُوِي عن الأوزاعي، عن الزهريّ، قَالَ ابن عبد البرّ: وهذان الإسنادان ليسا صحيحين، وقول إبراهيم، ومن تابعه هو المعتمد، وكذا أخرجه الإسماعيلي منْ رواية زكريا بن يحيى، وحمويه عن إبراهيم بن سعد، ورواية يونس بجمعهما صحيحة. قَالَ الحافظ: وَقَدْ صرح ابن أخي بن شهاب، عن عمه بسماعه له منْ عمرة، وبسماع عمرة له منْ عائشة، أخرجه أبو عوانة، وكذا عند مسلم منْ وجه آخر، عن عمرة أنها سمعت عائشة. انتهى.
(عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أن قَالَ (تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ، فِي رُبْعِ دِينَارٍ) وفي رواية معمر الآتية: "تقطع اليد فِي ربع دينار"، وفي رواية حرملة، عن ابن وهب، عند مسلم:"لا تُقطع يد السارق إلا فِي ربع دينار"، وكذا عنده منْ طريق سليمان بن يسار، عن عمرة.
زاد فِي "الكبرى": "فصاعدًا"، وكذا نقله فِي "الفتح"، وعزاه إلى النسائيّ، وليست هذه الزيادة فِي نسخ "المجتبى" التي بين يديّ منْ طريق ابن المبارك عن يونس هذه، وإنما هي فِي طريق ابن المبارك، عن معمر، وبقيّة الروايات الآتية.
وقوله: "فصاعدًا": قَالَ صاحب "المحكم": يختص هَذَا بالفاء، ويجوز "ثم" بدلها، ولا تجوز الواو، وَقَالَ ابن جني: هو منصوب عَلَى الحال المؤكدة: أي ولو زاد، ومن المعلوم أنه إذا زاد لم يكن إلا صاعدًا. وسيأتي فِي رواية سليمان بن يسار، عن عمرة 10/ 4941 - بلفظ:"فما فوقه"، بدل "فصاعدا" وهو بمعناه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -9/ 4916 و4917 و4918 و4919 و4920 و4921 و4922 و4923 و4924 و4925 و4926 و4927 و4928 و4929 و10/ 4930 و4931 و4932 و4933 و4934 و4935 و4936 و4937 و4938 و4939 و4940 و4941 و4943 - وفي "الكبرى" 14/ 7401 و7402 و7403 و7404 و7405 و15/ 7406 و7407 و7408 و7409 و16/ 7410 و7411 و7412 و7413 و7414 و17/ 7415 و7416 و7417 و7418 و7419 و7420 و7421 و7422 و7423 و7424 و7425 و7426 و7427. وأخرجه (خ) فِي "الحدود" 6789 و6790 و6791 و6792 و6793 و6794 (م) فِي "الحدود" 1684 و1685 (د) فِي "الحدود" 4382 و4384 و4585 (ت) فِي "الحدود" 1445 (ق) فِي "الحدود" 2585 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 23558 و23994 و24204 و24776 و25585 و25610 (الموطأ) فِي "الحدود" 1575 و1576 (الدارمي) فِي "الحدود" 2198.
(المسألة الثالثة): فِي اختلاف ألفاظ هَذَا الْحَدِيث:
قَالَ فِي "الفتح" -عند قوله: تقطع اليد فِي ربع دينار"-: هكذا فِي هذه الرواية مختصرًا، وكذا فِي رواية مسلم، وأخرجه أبو داود عن أحمد بن صالح، عن ابن وهب، بلفظ: "القطعُ فِي ربع دينار، فصاعدا"، وعن وهب بن بيان، عن ابن وهب بلفظ: "تُقطع يد السارق فِي ربع دينار فصاعدا"، وأخرجه النسائيّ منْ طريق عبد الله بن المبارك، عن يونس بلفظ: "تقطع يد السارق فِي ربع دينار فصاعدا"
(1)
، ورواه مالك فِي "الموطّإ" عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة:"ما طال عليّ، ولا نسيتُ، القطع فِي ربع دينار، فصاعدًا"، وهو إن لم يكن رفعه صريحا، لكنه فِي معنى المرفوع. وأخرجه الطحاوي منْ رواية ابن عيينة، عن يحيى كذلك، ومن رواية جماعة، عن عمرة موقوفًا عَلَى عائشة، قَالَ ابن عيينة: ورواية يحيى مشعرة بالرفع، ورواية الزهريّ صريحة فيه، وهو أحفظهم. وأخرجه النسائيّ -4933 - منْ رواية عبد الرحمن ابن أبي الرجال، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عمرة، عن عائشة مرفوعًا،
(1)
هكذا فِي نسخة "الكبرى" بزيادة "فصاعدا"، وأما نسخ "المجتبى"، فليست فيها هذه الزيادة، فتنبّه.
ولفظه: "تقطع يد السارق فِي ثمن المجن، وثمن المجن ربع دينار"، وأخرجه -4937 - منْ طريق سليمان بن يسار، عن عمرة، بلفظ:"لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن"، قيل لعائشة:"ما ثمن المجن؟ قالت: ربع دينار".
قَالَ: وَقَدْ أخرجه مسلم منْ طريق أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة مثل رواية سليمان بن يسار عنها التي أشرت إليها آنفاً، وكذا أخرجه النسائيّ -10/ 4930 - منْ طريق ابن الهاد بلفظ:"لا تقطع يد السارق إلا فِي ربع دينار فصاعدا"، وأخرجه 10/ 4931 - منْ طريق مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة موقوفًا.
وحاول الطحاوي تعليل رواية أبي بكر المرفوعة، برواية ولده الموقوفة، وأبو بكر أتقن، وأعلم منْ ولده، عَلَى أن الموقوف فِي مثل هَذَا، لا يخالف المرفوع؛ لأن الموقوف محمول عَلَى طريق الفتوى، والعجب أن الطحاوي ضَعَّف عبد الله بن أبي بكر فِي موضع آخر، ورام هنا تضعيف الطريق القويمة بروايته، وكأن البخاريّ أراد الاستظهار لرواية الزهريّ عن عمرة، بموافقة محمد بن عبد الرحمن الأنصاريّ عنها؛ لما وقع فِي رواية ابن عيينة، عن الزهريّ منْ الاختلاف فِي لفظ المتن، هل هو منْ قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو منْ فعله؟ وكذا رواه ابن عيينة عن غير الزهريّ، فيما أخرجه النسائيّ -4928 - عن قتيبة عنه، عن يحيى بن سعيد، وعبد ربه بن سعيد، وزريق صاحب أيلة: أنهم سمعوا عمرة، عن عائشة، قالت:"القطع فِي ربع دينار فصاعدا"، ثم أخرجه النسائيّ منْ طرق 4924 و4925 و4926 و4929 و4927 - عن يحيى بن سعيد به، مرفوعا وموقوفا، وَقَالَ
(1)
: الصواب ما وقع فِي رواية مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة:"ما طال عَلَى العهد، ولا نسيت، القطعُ فِي ربع دينار فصاعدا"، وفي هَذَا إشارة إلى الرفع. والله تعالى أعلم.
وَقَدْ تعلق بذلك بعض منْ لم يأخذ بهذا الْحَدِيث، فذكره يحيى بن يحيى، وجماعة، عن ابن عيينة، بلفظ:"كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقطع السارق فِي ربع دينار فصاعدا"، أورده الشافعيّ، والحميدي، وجماعة عن ابن عيينة بلفظ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تقطع اليد
…
" الْحَدِيث، وعلى هَذَا التعليل عَوَّل الطحاوي، فأخرج الْحَدِيث عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن عيينة بلفظ: "كَانَ يقطع
…
"، وَقَالَ: هَذَا الْحَدِيث لا حجة فيه؛ لأن عائشة إنما أخبرت عما قُطع فيه، فيحتمل أن يكون ذلك لكونها قَوَّمت ما وقع القطع
(1)
هَذَا الكلام فِي "الكبرى"، ونقله الحافظ بالمعنى، وأما فِي "المجتبى"، فليس فيها إلا قوله بعد رواية ابن المبارك عن يحيى بن سعيد-: "قَالَ أبو عبد الرحمن: هَذَا الصواب منْ حديث يحيى.
فيه إذ ذاك، فكان عندها ربع دينار، فقالت:"كَانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم يقطع فِي ربع فى دينار"، مع احتمال أن تكون القيمة يومئذ أكثر.
وتُعُقّب باستبعاد أن تجزم عائشة بذلك، مستندة إلى ظنها المجرد، وأيضًا فاختلاف التقويم وان كَانَ ممكنًا، لكن محال فِي العادة أن يتفاوت هَذَا التفاوت الفاحش، بحيث يكون عند قوم أربعة أضعاف قيمته عند آخرين، وإنما يتفاوت بزيادة قليلة، أو نقص قليل، ولا يبلغ المثلَ غالبًا.
وادعى الطحاوي اضطراب الزهريّ فِي هَذَا الْحَدِيث؛ لاختلاف الرواة عنه فِي لفظه.
ورُدّ بأن منْ شرط الاضطراب أن تتساوى وجوهه، فأما إذا رجح بعضها فلا، ويتعين الأخذ بالراجح، وهو هنا كذلك؛ لأن جُلَّ الرواة عن الزهريّ، ذكروه عن لفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم، عَلَى تقرير قاعدة شرعية فِي النصاب، وخالفهم ابن عيينة تارة، ووافقهم تارة، فالأخذ بروايته الموافقة للجماعة أولى، وعلى تقدير أن يكون ابن عيينة اضطرب فيه، فلا يَقدَح ذلك فِي رواية منْ ضبطه.
وأما نقل الطحاوي عن المحدثين أنهم يُقدِّمون ابن عيينة فِي الزهريّ عَلَى يونس، فليس متفقًا عليه، بل أكثرهم عَلَى العكس، وممن جزم بتقديم يونس عَلَى سفيان فِي الزهريّ يحيى بن معين، وأحمد بن صالح المصريّ، وذكر أن يونس صَحِب الزهريّ أربع عشر سنة، وكان يزامله فِي السفر، وينزل عليه الزهريّ إذا قدم أيلة، وكان يذكر أنه كَانَ يسمع الْحَدِيث الواحد منْ الزهريّ مرارا، وأما ابن عيينة، فإنما سمع منه سنة ثلاث وعشرين ومائة، ورجع الزهريّ، فمات فِي التي بعدها، ولو سُلِّم أن ابن عيينة أرجح فِي الزهريّ منْ يونس، فلا معارضة بين روايتيهما، فتكون عائشة أخبرت فِي الفعل والقول معا، وَقَدْ وافق الزهريّ فِي الرواية عن عمرة جماعة كما سبق.
وَقَدْ وقع الطحاوي فِي ما عابه عَلَى منْ احتج بحديث الزهريّ، مع اضطرابه عَلَى رأيه، فاحتج بحديث محمد بن إسحاق، عن أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس، قَالَ: قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فِي مِجَنّ، قيمته دينار، أو عشرة دراهم، أخرجه أبو داود، واللفظ له، وأحمد، والنسائي 4953 - والحاكم، ولفظ الطحاوي:"كَانَ قيمة المجن الذي قَطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم"، وهو أشد فِي الاضطراب منْ حديث الزهريّ، فقيل: عنه هكذا، وقيل عنه، عن عمرو بن شعيب، عن عطاء، عن ابن عباس، وقيل: عنه عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، ولفظه:"كانت قيمة المجن عَلَى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم"، وقيل: عنه عن عمرو، عن عطاء مرسلاً، وقيل: عن عطاء، عن أيمن: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قطع فِي مجن قيمته دينار، كذا قَالَ
منصور، والحكم بن عتيبة، عن عطاء، وقيل: عن منصور، عن مجاهد، وعطاء جميعا، عن أيمن، وقيل: عن مجاهد، عن أيمن بن أم أيمن، عن أم أيمن، قالت: لم يقطع فِي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا فِي ثمن المجن، وثمنه يومئذ دينار، أخرجه النسائيّ -4945 و4946 و4947 و4948 و4949 و4050 و4951 - ولفظ الطحاوي: "لا تقطع يد السارق، إلا فِي حَجَفَة
(1)
، وقُوِّمت يومئذ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارًا أو عشرة دراهم"، وفي لفظ له: "أقل ما يقطع فيه السارق ثمن المجن، وكان يقوم يومئذ بدينار".
واختلف فِي لفظه أيضًا عَلَى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، فَقَالَ حجاج بن أرطاة عنه، بلفظ:"لا قطع فيما دون عشرة دراهم"، وهذه الرواية لو ثبتت لكانت نصا فِي تحديد النصاب، إلا أن حجاج بن أرطاة ضعيف، ومدلس حَتَّى ولو ثبت روايته، لم تكن مخالفة لرواية الزهريّ، بل يُجمع بينهما، بأنه كَانَ أوّلاً: لا قطع فيما دون العشرة، ثم شُرع القطع فِي الثلاثة فما فوقها، فزيد فِي تغليظ الحد، كما زيد فِي تغليظ حد الخمر كما تقدم.
وأما سائر الروايات، فليس فيها إلا إخبار عن فعل، وقع فِي عهده صلى الله عليه وسلم، وليس فيه تحديد النصاب، فلا ينافي رواية ابن عمر المتقدمة:"أنه قطع فِي مجن قيمته ثلاثة دراهم"، وهو مع كونه حكاية فعل، فلا يخالف حديث عائشة، منْ رواية الزهريّ، فإن ربع دينار صرفه ثلاثة دراهم.
وَقَدْ أخرج البيهقي منْ طريق ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سليمان بن يسار، عن عمرة، قالت: قيل لعائشة: "ما ثمن المجن؟ قالت: ربع دينار"، وأخرج أيضًا منْ طريق ابن إسحاق، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قَالَ:"أُتيت بِنَبِطِيِّ، قد سَرَق، فبعثت إلى عمرة، فقالت: أي بُنَيّ، إن لم يكن بلغ ما سرق ربع دينار، فلا تقطعه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثتني عائشة، أنه قَالَ: "لا قطع إلا فِي ربع دينار فصاعدا"، فهذا يعارض حديث ابن إسحاق الذي اعتمده الطحاويّ، وهو منْ رواية ابن إسحاق أيضًا.
وجمع البيهقي بين ما اختلف فِي ذلك، عن عائشة، بأنها كانت تحدث به تارة، وتارة تُستَفتَى، فتفتي، واستند إدى ما أخرجه، منْ طريق عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، أن جارية، سرقت، فسُئلت عائشة، فقالت: "القطع فِي ربع
(1)
"الْحَجَفَة" -بفتحتين-: الترس الصغير يُطارَق بين جلدين، والجمع حجف، مثل قصبة وقصب، وقصبات. قاله فِي "المصباح" 1/ 122.
دينار فصاعدا".
هَذَا كله فيما يتعلّق بالطريق الأول منْ طريقي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، وهو طريق عمرة، عنها. انتهى "فتح" 56/ 58. وهو تحقيق مفيد جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4919 -
(قَالَ الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، وَعَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، وهو ثقة حافظ. والحديث متّفقٌ عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4920 -
(أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ، فَصَاعِدًا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الحسن بن محمد": هو الزعفرانيّ، أبو عليّ البغداديّ، صاحب الشافعيّ، ثقة [10] 21/ 427. و"عبد الوهّاب": هو ابن عطاء الْخَفّاف، أبو نصر الْعجليّ مولاهم البصريّ، نزيل بغداد، صدوقٌ، ربّما أخطأ، أنكروا عليه حديثًا فِي فضل العبّاس، يقال: دلّسه عن ثور [9].
رَوَى عن سليمان التيمي، وحميد الطويل، وخالد الحذّاء، وابن عون، وابن جريج، ومالك، وهشام بن حسان، وإسرائيل، وإسماعيل بن مسلم، وعبد الله بن عمر، وسعيد بن أبي عروبة، ولازمه، وعُرف بصحبته، وجماعة. وعنه أحمد، وإسحاق، وابن معين، وعمرو بن زرارة النيسابوري، محمد بن عبد الله الرُّزّيّ، والحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، وعبد الله بن محمد بن إسحاق الأذرمي، وأبو ثور، إبراهيم بن خالد الكلبي، وإبراهيم بن سعيد الجوهري، واسحاق بن منصور الكوسج، وآخرون.
قَالَ أحمد: كَانَ يحيى بن سعيد حسن الرأي فيه، كَانَ يعرفه معرفة قديمة. وَقَالَ الْمَرُّوذي: قلت لأحمد بن حنبل: عبد الوهاب بن عطاء ثقة؟ فَقَالَ: ما تقول؟ إنما الثقة يحيى القطّان. وَقَالَ الأثرم، عن أحمد: كَانَ عالما بسعيد. وَقَالَ الآجري: سُئل أبو داود عن السهمي والخفاف، فِي حديث ابن أبي عروبة؟ فَقَالَ: عبد الوهاب أقدم، فقيل له: عبد الوهاب سمع زمن الاختلاط، فَقَالَ: منْ قَالَ هَذَا؟ سمعت أحمد يقول: عبد
الوهاب أقدم. وَقَالَ يحيى بن أبي طالب: بلغنا أن عبد الوهاب، كَانَ مستملي سعيد. وَقَالَ ابن أبي خيثمة، وعثمان الدارمي، عن ابن معين: لا بأس به. وَقَالَ ابن العلاء، عن ابن معين: يكتب حديثه. وَقَالَ الدُّوري، عن ابن معين: ثقة. وَقَالَ محمد بن سعد: لزم سعيد بن أبي عروبة، وعُرف بصحبته، وكَتَب كتبه، وكان كثير الْحَدِيث، معروفا، قدم بغداد، فلم يزل بها حَتَّى مات. وَقَالَ الساجي: صدوقٌ، ليس بالقوي. وَقَالَ ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه؟ فَقَالَ: يكتب حديثه، محله الصدق، قلت: أهو أحب إليك، أو أبو زيد النحوي فِي ابن أبي عروبة؟ فَقَالَ: عبد الوهاب، وليس عندهم بقوي فِي الْحَدِيث. وَقَالَ الْبَرْذَعِيّ، قيل لأبي زرعة: رَوَى عن ثور بن يزيد حديثين، ليسا منْ حديث ثور. وذكر عن يحيى بن معين هذين الحديثين، فَقَالَ: لم يذكر فيهما الخبر. وَقَالَ صالح بن محمد الأسدي: أنكروا عَلَى الخفاف حديثًا، رواه عن ثور، عن مكحول، عن كريب، عن ابن عباس، فِي فضل القتلى، وما أنكروا عليه غيره. وكان ابن معين يقول: هَذَا الْحَدِيث موضوع. قَالَ صالح: وعبد الوهاب لم يقل فيه حدثنا ثور، ولعله دلس فيه، وهو ثقة. وَقَدْ رَوَى الترمذيّ الْحَدِيث المذكور، فِي "المناقب" عن إبراهيم بن سعيد الجوهري، عن عبد الوهاب، وَقَالَ: حسن غريب، لا نعرفه إلا منْ هَذَا الوجه. وَقَالَ ابن سعد: كَانَ صدوقا إن شاء الله تعالى، وَقَالَ ابن شاهين فِي "الثقات": قَالَ عثمان بن أبي شيبة: عبد الوهاب بن عطاء، ليس بكذاب، ولكن ليس هو ممن يُتَّكَل عليه. وَقَالَ الدارقطنيّ: ثقة. وَقَالَ الميموني، عن أحمد بن حنبل: ضعيف الْحَدِيث. وَقَالَ البخاريّ: يكتب حديثه، قيل له يحتج به؟ قَالَ: أرجو، إلا أنه كَانَ يدلس عن ثور، وأقوام، أحاديث مناكير. وَقَالَ النسائيّ: ليس به بأس. وكذا قَالَ ابن عدي. وَقَالَ الحسن بن سفيان: ثقة. وَقَالَ البزار: ليس بقوي، وَقَدْ احتَمَل أهلُ العلم حديثه. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: مات ببغداد سنة أربع ومائتين، فِي المحرم. وَقَالَ خليفة بن خياط: مات بعد المائتين. وَقَالَ يحيى بن أبي طالب: سمعنا منه فِي سنة (198) إلى آخر سنة (204) وَقَالَ عبد الباقي بن قانع: مات سنة (4) وقيل: سنة ست ومائتين.
وَقَالَ البخاريّ فِي "اللباس" منْ "صحيحه" حدثنا محمد بن بشار، ثنا عبد الوهاب، عن عبيد الله بن عمر، عن حبيب، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة، فِي النهي عن اشتمال الصماء. هكذا وقع فِي عامة الأصول:"عبد الوهاب"، غير منسوب، وهو الثقفيّ، ووقع فِي بعض النسخ:"عبد الوهاب بن عطاء"، وفيه نظر، فإن ابن عطاء لا تعرف له رواية عن عبيد الله بن عمر، ولم يذكره أحد منْ رجال البخاريّ فِي "الصحيح".
روى له البخاريّ فِي "خلق أفعال العباد"، ومسلم، والأربعة.
[تنبيه]: كون عبد الوهاب فِي هَذَا السند هو الخفّاف هو الذي نصّ عليه الحافظ المزيّ رحمه الله تعالى فِي "تحفة الأشراف" 12/ 418 - وَقَدْ أشار فِي "هامشه" أنه وقع فِي بعض النسخ
(1)
أنه الثقفيّ، قَالَ: وهو وهم، إنما هو عبد الوهّاب الخفّاف. انتهى. والله تعالى أعلم.
و"سعيد": هو ابن أبي عروبة. و"معمر": هو ابن راشد. والحديث متّفقٌ عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4921 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة. و"إسحاق بن إبراهيم": هو الحنظليّ المروزيّ، المعروف بابن راهويه الإمام الحافظ المشهور. و"عبد الرزّاق": هو ابن همّام الصنعانيّ الحافظ المشهور، إلا أنه تغير.
[فائدة]: ليس فِي الكتب الستّة منْ اسمه عبد الرزاق، إلا هَذَا، إلا عند أبي داود، فإن فيه عبد الرزاق بن عمر الدمشقيّ، أخرج له حديثًا واحدًا فقط، وهو صدوقٌ، فتنبّه.
والحديث متّفقٌ عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4922 -
(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، وهو ثقة حافظ.
و"عبد الله": هو ابن المبارك.
والحديث موقوف صحيح، وَقَدْ تقدّم مرار مرفوعًا منْ حديثها، ولا تنافي بينهما؛ لأن المرفوع روايتها، والموقوف فتواها، أي أنها تارة كانت تسأل عن مقدار ما تُقطع به يد السارق، فتروي ما قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي ذلك، وتارة تفتيهم، منْ عندها؛ لكونها تعلم دليله؛ إذا لا يلزم العالم أن يذكر الحكم مع الدليل، بل له أن يُجيب بالحكم إذا
(1)
قد وقع هَذَا الوهم أيضًا فِي "برنامج الْحَدِيث - صخر"، حيث ترجم هنا لعبد الوهاب الثقفيّ، وَقَدْ أشار أن عبد الوهاب الخفاف لا رواية له أصلاً فِي هَذَا الكتاب، فليُتنبّه لهذا الغلط. والله تعالى المستعان.
استُفتي، فإن سئل عن دليله ذكره، وإلا اكتفى بالفتوى، فيكون اختلاف الرواة فى حديث عائشة رضي الله تعالى عنها فِي هَذَا الباب منْ هَذَا القبيل، لا منْ باب التعارض.
وعلى تقدير التعارض، فيرجّح الرفع عَلَى الوقف، ولذا أخرج الشيخان المرفوع، دون الموقوف، فتبصّر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4923 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ قُتَيْبَةُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، يَقْطَعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "سفيان": هو ابن عيينة؛ لأنه لا رواية للثوريّ عن الزهريّ.
والحديث أخرجه مسلم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4924 -
(أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الحسن بن محمد" الزعفرانيّ، و"عبد الوهّاب" بن عطاء، و"سعيد" ابن أبي عروبة تقدّموا قبل ثلاثة أسانيد.
و"يحيى بن سعيد": هو ابن قيس الأنصاريّ، أبو سعيد المدنيّ القاضي الثقة الثبت [5].
والحديث منْ أفراد المصنّف، وَقَدْ رجّح رحمه الله تعالى كونه موقوفًا عَلَى رفعه هَذَا، كما سيأتي قريبًا، ولكن الوقف فِي مثل هَذَا له حكم الرفع، ولاسيّما وَقَدْ أشار إليه قول عائشة رضي الله تعالى عنها الآتي:"ما طال عليّ، ولا نسيتُ، القطع فِي ربع دينار، فصاعدًا"، كما سنوضحه قريبًا، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4925 -
(أَخْبَرَنِي يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ، فَصَاعِدًا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: كتب فِي "الكبرى" هنا ترجمة، نصّها:"ذكر الاختلاف عَلَى يحيى بن سعيد فِي هَذَا الْحَدِيث"، فكان الأولى كتابتها أيضًا هنا، مع
إدخال الْحَدِيث الماضي فيها؛ لأن هذه الأحاديث ليست منْ أحاديث الزهريّ، حَتَّى تُدخل تحت الترجمة الماضية، فتأمّل.
و"يزيد بن محمد بن فُضيل" الْجَزَريّ الرَّسْغَنيّ، أخو جعفر، مقبول [11].
روى عن عبد الرزّاق، وأبيِ نُعيم، ومسلم بن إبراهيم. وعنه النسائيّ، وحاجب بن أَرْكِين، ومحمد بن أحمد بن بُخيت، ومحمد بن جعفر بن بكر الْخُوَارزْميّ، والقاسم بن الليث الرَّسْغنيّ. تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.
و"مسلم بن إبراهيم": هو الأزديّ، أبو عمرو البصريّ، ثقة مأمون مكثرٌ، عَمِي بآخره، منْ صغار [9] 62/ 2315. و"أبان": هو ابن يزيد العطّار البصريّ، ثقة له أفراد [7] 9/ 787.
[تنبيه]: زاد فِي "الكبرى" فِي آخر الْحَدِيث: قَالَ أبو عبد الرحمن: وقفه ابن عُيينة، والمبارك. انتهى. ورواية ابن المبارك هي التالية لهذا، ورواية ابن عيينة، تأتي بعد حديثين.
والكلام عَلَى الْحَدِيث سبق فِي الذي قبله، وهو منْ أفراد المصنّف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4926 -
(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ تَقُولُ:"يُقْطَعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا".
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا الصَّوَابُ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "سويد بن نصر" و"عبد الله" بن المبارك، تقدّما قبل ثلاثة أحاديث.
وقوله: "قَالَ أبو عبد الرحمن: هَذَا الصواب منْ حديث يحيى"، ولفظ "الكبرى" بعد إيراد طريق مالك، عن يحيى بن سعيد: "قَالَ أبو عبد الرحمن: هَذَا الصواب، وحديث أبان، وسعيد خطأٌ. انتهى.
والمعنى: أن كون الْحَدِيث موقوفًا على عائشة رضي الله تعالى عنها هو الصواب منْ كونه مرفوعًا بالنسبة لحديث يحيى بن سعيد الأنصاريّ؛ ووجه تصويب المصنّف رحمه الله تعالى الموقوف على المرفوع؛ لكثرة رواته، فقد اتفق كلّ منْ عبد الله بن المبارك، وعبد الله بن إدريس، وسفيان بن عُيينة، ومالك عَلَى وقفه، وإنما رفعه سعيد بن أبي عروبة، وأبان بن يزيد العطّار، فرَجحَ الأولين؛ لكثرتهم، ولاسيّما وهم مقدّمون فِي الحفظ والإتقان عليهما.
والحديث موقوفٌ صحيح، وهو منْ أفراد المصنّف. والله تعالى أعلم بالصواب،
وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4927 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتِ: "الْقَطْعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"محمد بن العلاء": هو أبو كُريب أحد مشايخ الأئمة الستة، دون واسطة. و"ابن إدريس": هو عبد الله الأودي الكوفيّ.
والحديث موقوفٌ صحيح، وهو منْ أفراد المصنّف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4928 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَعَبْدِ رَبِّهِ، وَرُزَيْقٍ صَاحِبِ أَيْلَةَ، أَنَّهُمْ سَمِعُوا عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتِ: "الْقَطْعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا").
قالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "سفيان": هو ابن عيينة. و"عبد ربّه": هو ابن سعيد الأنصاريّ المدنيّ، أخو يحيى المذكور قبله، ثقة [5] 2/ 452. و"رُزيق" -بتقديم الراء عَلَى الزاي، مصغّرًا- ابن حُكيم -مصغّرًا أيضًا، ويقال: فيه بتقديم الزاي، وفي أبيه بالتكبير، أبو حُكيم الأيليّ -بفتح الهمزة، وتحتانيّة ساكنة- واليها، ثقة [6].
روى عن عمرة بنت عبد الرحمن، وسعيد بن المسيّب، والقاسم بن محمد، وعمر ابن عبد العزيز، وغيرهم. وعنه حُكيم بن رُزيق، ومالك، وابن عيينة، ويونس بن يزيد، وعُقيلٌ، وسعيد بن أبي أيّوب، وغيرهم.
قَالَ النسائيّ: ثقة. ووثقه العجليّ، وابن سعد. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ ابن ماكولا: كَانَ عبدًا صالحًا. له ذكرٌ فِي "صحيح البخاريّ" فِي "باب الجمعة فِي الْقُرَى". تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.
وقوله: "صاحب أيلة" -بفتح الهمزة، وسكون المثناة التحتانيّة-: قَالَ فِي "القاموس": جبل بين مكة والمدينة، قُربَ يَنْبُع، وبلدٌ بين يَنْبُع ومصرَ، وعَقَبَتها معروفة، منه عُقيل بن خالد، وأقاربه، ويونس بن يزيد وأقاربه، وجماعة. انتهى. والمعنى: أنه كَانَ واليًا عَلَى أيلة لعمر بن عبد العزيز.
والحديث موقوف صحيح، وهو منْ أفراد المصنّف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4929 -
(قَالَ الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "مَا طَالَ عَلَيَّ، وَلَا نَسِيتُ، الْقَطْعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ، فَصَاعِدًا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "ابن القاسم": هو عبد الرحمن الْعُتَقيّ المصريّ الفقيه. و"مالك": هو ابن أنس، إمام دار الهجرة،
وقولها: "ما طال عليّ": أي لم يطل عليّ الزمن، حَتَّى أنساه، فقولها:"ولا نسيت" يكون منْ باب عطف المسبب عَلَى السبب، فكأنها تقول: لم أنس لطول الوقت عليّ.
وقولها: "القطع فِي ربع دينار" مفعول به لـ"نسيتُ" محكيّ: أي لم أنس هَذَا الكلام.
وهذا فيه إشارة إلى أنها تلقّته منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولذا قَالَ المصنّف رحمه الله تعالى فِي "الكبرى" 4/ 338 رقم 7413:"قَالَ أبو عبد الرحمن: وفي رواية مالك، عن يحيى بن سعيد: "قالت" عَلَى أن الْحَدِيث مرفوع. انتهى. يعني أن كلامها هَذَا يدلّ عَلَى كون الْحَدِيث مرفوعًا، وذلك لأنها قالت: ما نسيتُ، أي لم أنس الذي كَانَ فِي وقته صلى الله عليه وسلم منْ أن القطع فِي ربع دينار، فصاعدًا، فإن مثل هَذَا له حكم الرفع؛ لأن قول الصحابة رضي الله عنهم: كنا نفعل كذا، أو كانوا يفعلون كذا فِي حكم المرفوع.
والحديث موقوف صحيح، وهو منْ أفراد المصنّف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
10 - (ذِكْرِ اخْتِلَافِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ)
وفي "الكبرى": "وابنه عبد الله بن أبي بكر".
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ووجه الاختلاف المذكور أن أبا بكر رواه عن عمرة، عن عائشة، مرفوعًا، فخالفه ابنه، فرواه عنها، عن عائشة موقوفًا عليها، لكن هَذَا الاختلاف لا يضرّ كما سبق إيضاحه، فإنه إن سلكنا مسلك الترجيح، فالمرفوع أرجح؛ لأنه رواية أكثر الحفاظ الأثبات، وإن سلكنا مسلك الجمع، وهو الأحسن، نقول: إن المرفوع روايتها، والموقوف مما أفتت به حين سئلت. والله تعالى أعلم بالصواب.
4930 -
(أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ، مُحَمَّدُ بْنُ زُنْبُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ يَزِيدَ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:"لَا يُقْطَعُ السَّارِقُ، إِلاَّ فِي رُبُعِ دِينَارٍ، فَصَاعِدًا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو صالح، محمد بن زُنبور": هو ابن أبي الأزهر المكيّ، واسم زُنبور جعفر، صدوقٌ، له أوهامٌ [10] 73/ 90 منْ أفراد المصنّف. و"ابن أبي حازم": هو: عبد العزيز/ سلمة بن دينار المدنيّ، صدوقٌ، فقيهٌ [8] 40/ 44. و"يزيد بن عبد الله": هو ابن أسامة بن الهاد الليثيّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ، مكثرٌ [5] 73/ 90. و"أبو بكر بن محمد": هو ابن عمرو بن حزم الأنصاريّ النجّاريّ المدنيّ القاضي، ثقة عابد [5] 118/ 163.
والحديث متَّفقٌ عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4931 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلْمَانَ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مِثْلَ الأَوَّلِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عبد الرحمن بن سَلْمَان" الْحَجْريّ -بفتح المهملة، وسكون الجيم- الرُّعينيّ المصريّ، لا بأس به [7].
رَوَى عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطّلب، ويزيد بن عبد الله بن الهاد، وعُقَيل ابن خالد. وعنه ابن وهب. قَالَ ابن يونس: وهو قريب السنّ منْ ابن وهب، يروي عن عُقيل غرائب ينفرد بها، وكان ثقة. وَقَالَ البخاريّ: فيه نظر. وَقَالَ أبو حاتم: مضطرب الْحَدِيث، يروي عن عُقيل أحاديث عن مشيخة لعقيل، يُدخل بينهم الزهريّ فِي شيء سمعه عقيل منْ أولئك المشيخة، ما رأيت منْ حديثه منكرًا، وهو صالح الْحَدِيث. وَقَالَ النسائيّ: ليس به بأس. تفرد به مسلم بحديث واحد فِي مبيت ابن عباس عند ميمونة رضي الله تعالى عنهما، والمصنّف، وأبو داود فِي "المراسيل"، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.
[تنبيه]: وقع فِي نسخ "المجتبى" فِي هَذَا الإسناد غلطان: [أحدهما]: "عبد الرحمن ابن سليمان" مصغرًا، والصواب "ابن سَلْمان" مكبّرًا، وهذا الغلط وقع فِي النسخ المطبوعة، ووقع فِي "الكبرى" أيضًا، ووقع فِي النسخة "الهنديّة" عَلَى الصواب. [الثاني]: إسقاط "ابن الهاد" بعده، والصواب:"عن عبد الرحمن بن سلمان، عن ابن الهاد، عن أبي بكر بن محمد بن حزم"، وهذا الغلط وقع فِي كلّ النسخ، لكنه لم يقع فِي "الكبرى"، فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا،
ونعم الوكيل.
4932 -
(قَالَ الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ، قَالَتْ: قَالَتْ عَائِشَةُ: الْقَطْعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا السند إلى مالك تقدّم قبل حديثين. و"عبد الله بن أبي بكر": هو ابن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاريّ المدنيّ القاضي، ثقة [5] 118/ 163.
[تنبيه]: وقع فِي نسخ "المجتبى": "عبد الله بن محمد بن أبي بكر"، وهو غلطٌ، والصواب ما أثبته هنا، كما فِي "تحفة الأشراف" 12/ 430، وهو الذي فِي "الكبرى"، لكن منْ الغريب العجب ألحق به المحقق "ابن محمد" بين قوسين، أخذًا منْ غلط "المجتبى"، فليُتنبّه.
والحديث موقوف صحيح، وَقَدْ سبق تمام البحث فيه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4933 -
(أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الرِّجَالِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ، وَثَمَنُ الْمِجَنِّ رُبُعُ دِينَارٍ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "إبراهيم بن يعقوب": هو الْجُوزجانيّ، نزيل دمشق، ثقة حافظ، رُمي بالنصب [11] 122/ 174. و"عبد الله بن يوسف": هو أبو محمد التنّيسيّ الْكَلاعيّ، دمشقيّ الأصل، ثقة متقنٌ، منْ أثبت النَّاس فِي "الموطّإ"، منْ كبار [10] 17/ 1540. و"عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي الرجال": هو الأنصاريّ المدنيّ، نزيل الثغر، صدوقٌ، ربما أخطأ [8] 43/ 949.
و"أبوه": هو محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حارثة الأنصاريّ، و"أبو الرجال" -بكسر الراء، وتخفيف الجيم- كنية لمحمد، اشتهر بها؛ لأنه كَانَ له عشرة أولاد ذكور، فهي لقبه بصورة الكنية، وكنيته أبو عبد الرحمن، ثقة [5] 69/ 993. فقوله:"ابن أبي الرجال" بدل منْ "ابن محمد"، فأبو الرجال كنية محمد، لا كنية جده، كما هو توهمه ظاهر العبارة، فتنبّه.
وقوله: "وثمن الْمجنّ ربع دينار": الظاهر أن التفسير منْ عائشة رضي الله تعالى عنها؛ لما فِي رواية سليمان بن يسار الآتية 4937 - : "قيل لعائشة: ما ثمن الْمِجَنّ؟
قالت: ربع دينار.
والحديث صحيحٌ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4934 -
(أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ دُرُسْتَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَهُ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقْطَعُ الْيَدَ فِي رُبُعِ دِينَارٍ، فَصَاعِدًا).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "يحيى بن دُرُست" -بضمتين، وسكون السين المهملة-: هو ابن زياد البصريّ، ثقة [10] 23/ 24. و"أبو إسماعيل": هو إبراهيم بن عبد الملك الْقَنّاد البصريّ، صدوقٌ، فِي حفظه شيء [7] 23/ 24. و"يحيى بن أبي كثير": هو أبو نصر اليماميّ، ثقة ثبتٌ، يرسل، ويدلّس [5] 23/ 24. و"محمد بن عبد الرحمن" هو أبو الرجال المذكور فِي السند الناضي.
والحديث متَّفقٌ عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4935 -
(أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ثُمَّ ذَكَرَ كَلِمَةً مَعْنَاهَا: عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إِلاَّ فِي رُبُعِ دِينَارٍ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "حميد بن مسعدة": هو السامي الباهليّ البصريّ، صدوقٌ [10] 5/ 5. و"عبد الوارث": هو ابن سعيد بن ذكوان العنبريّ مولاهم، أبو عُبيدة البصريّ التّنُّوريْ، ثقة ثبتٌ [8] 6/ 6.
و"حسينٌ": هو ابن ذكوان المعلّم المكتب الْعَوْذيّ البصريّ، ثقة، ربّما وهِمَ [6] 122/ 174. وفي طبقته حسين بن واقد، قاضي مرو، وهو دونه فِي الإتقان. قاله فِي "الفتح" 14/ 55.
و"محمد بن عبد الرحمن": هو المذكور فيما قبله، ووقع فِي رواية الإسماعيليّ، منْ طريق عبد الصمد بن عبد الوارث، سمعت أبي، يقول: حدّثنا الحسين المعلّم، عن يحيى، حدّثني محمد بن عبد الرحمن الأنصاريّ، قَالَ الإسماعيليّ: رواه حرب بن شدّاد، عن يحيى بن أبي كثير كذلك، وَقَالَ همّام بن يحيى، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن بن زُرارة. قَالَ الحافظ: نُسب عبد الرحمن إلى جدّه، وهو عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة، قَالَ الإسماعيليّ: ورواه إبراهيم الْقَنّاد عن يحيى، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، كذا حدثناه ابن صاعد، عن لُوَين، عن الْقَنْاد، والذي
قبله أصحّ، وبه جزم البيهقيّ، وأن منْ قَالَ فيه: ابن ثوبان، فقد غَلِط. وَقَدْ توبع حسين المعلم عن يحيى، أخرجه أبو نُعيم فِي "المستخرج" منْ طريق هِقْل بن زياد. قاله فِي "الفتح" 14/ 55 - 56.
وقوله: "ثم ذكر كلمة الخ": الظاهر أن الضمير الفاعل لِحُمَيد بن مَسْعَدة، شيخ المصنّف؛ لأن البخاريّ رواه عن عمران بن ميسرة، عن عبد الوارث، وليس فيه هَذَا الكلام، فدلّ عَلَى أنه لحميد، والله تعالى أعلم.
وقوله: "لا تقطع اليد إلا فِي ربع دينار": لفظ البخاريّ: "تقطع اليد فِي ربع دينار".
والحديث متَّفقٌ عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4936 -
(أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الطَّبَرَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بَحْرٍ، أَبُو عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُبَارَكُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ، أَنَّ امْرَأَةً أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْبَرَتْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "تُقْطَعُ الْيَدُ فِي الْمِجَنِّ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن إسماعيل أبو بكر الطبرانيّ": ثقة [12] 3/ 1603 منْ أفراد المصنّف. و"عبد الرحمن بن بحر، أبو عليّ": هو الْخَلّال البصريّ، مقبول [10] 2/ 3950 منْ أفراد المصنّف.
و"مبارك بن سَعْد": هو اليمامي نزيل البصرة، مقبولٌ [8] 45/ 3922.
[تنبيه]: وقع فِي جميع النسخ: "مبارك بن سعيد" بالياء بعد العين، وهو غلطٌ، والصواب:"ابن سَعْد" بسكون العين المهملة، بدون ياء، كما فِي "تحفة الأشراف" 12/ 447 و"تهذيب الكمال" 27/ 177، و"تهذيب التهذيب" 4/ 17 وغيرها. فتبّه. والله تعالى أعلم.
و"عكرمة": هو مولى ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما.
وقوله: "أن امرأة أخبرته": هكذا فِي نسخ "المجتبى"، و"الكبرى"، لكن الذي فِي "تحفة الأشراف" 12/ 446 - 447 أن هذه المرأة زوج عكرمة، حيث أورد هَذَا الْحَدِيث فِي ترجمة:"امرأة عكرمة مولى ابن عبّاس، عن عائشة"، ثم قَالَ:"حديث "تُقطع اليد فِي الْمِجَنّ" (س) فِي "القطع" عن أبي بكر محمد بن إسماعيل الطبرانيّ، عن أبي عليّ، عبد الرحمن بن بحر، عن مبارك بن سعد -وهو الفدكيّ- عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة: أن امرأته، أخبرته به. انتهى.
[تنبيه]: زاد فِي "الكبرى" فِي آخر الْحَدِيث: ما نصّه: قَالَ أبو عبد الرحمن: لا
أعرف عبد الرحمن بن بحر، ولا مبارك
(1)
هَذَا. انتهى.
والحديث منْ أفراد المصنّف، وهو بهذا السند ضعيفٌ؛ لجهالة عبد الرحمن، ومبارك، كما قَالَ الصنف، والمرأة التي أخبرت عكرمة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4937 -
(حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، أَنَّ بُكَيْرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ حَدَّثَهُ، أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ عَمْرَةَ ابْنَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَتْهُ، أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِيمَا دُونَ الْمِجَنِّ"، قِيلَ لِعَائِشَةَ: مَا ثَمَنُ الْمِجَنِّ؟ قَالَتْ: رُبُعُ دِينَارٍ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"عبيد الله بن سعد": هو الزهريّ، أبو الفضل البغداديّ، قاضي أصبهان، ثقة [11] 17/ 480. و"عمّه": هو يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة فاضل، منْ صغار [9] 196/ 314.
و"أبوه": هو إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة حجة [8] 196/ 314. و"ابن إسحاق": هو محمد، أبو بكر المطّلبيّ مولاهم المدنيّ، نزيل العراق، إمام المغازي، صدوقٌ، يُدلِّسُ، ورُمي بالتشيّع والقدر، منْ صغار [5] 5/ 480. و"يزيد بن أبي حبيب/ يسار": هو أبو رجاء المصريّ، ثقة فقيه، يرسل [5] 134/ 207. و"بُكير بن عبد الله بن الأشجّ": هو أبو عبد الله، أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقة [5] 135/ 211. و"سليمان بن يسار": هو مولى ميمونة، وقيل: أم سلمة المدنيّ، ثقة فاضلٌ، أحد الفقهاء السبعة، منْ كبار [3] 122/ 156.
والحديث أخرجه مسلم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4938 -
(أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ، إِلاَّ فِي رُبُعِ دِينَارٍ، فَصَاعِدًا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم
(1)
هكذا النسخة بصورة المرفوع والمجرور، وهو جائز فِي لغة ربيعة.
تقدّموا غير مرّة. و"ابن وهب": هو عبد الله. و"مخرمة": هو ابن بُكير بن عبد الله بن الأشجّ، أبو الْمِسور المدنيّ، صدوقٌ [7] 28/ 438. و"أبوه": هو بكير بن عبد الله المذكور فِي السند الماضي.
والحديث أخرجه مسلم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4939 -
(أَخْبَرَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا قُدَامَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَخْرَمَةُ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْوَلِيدِ، مَوْلَى الأَخْنَسِيِّينَ يَقُولُ: سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: كَانَتْ عَائِشَةُ تُحَدِّثُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إِلاَّ فِي الْمِجَنِّ، أَوْ ثَمَنِهِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "هارون بن عبد الله": هو أبو موسى الحمّال البغداديّ، ثقة [10] 50/ 62. و"قُدامة بن محمد" بن قُدامة بن خَشْرَم بن يسار الأشجعيّ المدنيّ، صدوقٌ يُخطىء [9].
رَوَى عن أبيه، ومخرمة بن بُكير، وإسماعيل بن شيبة بن تميم الطائفي، وغيرهم. وعنه هارون بن عبد الله الحمال، وهارون بن إسحاق الهمداني، وأبو بكر محمد بن إسحاق الصاغاني، وأحمد بن سعد بن الحكم بن أبي مريم، وآخرون.
قَالَ عثمان الدارمي: سألت ابن معين؟ فَقَالَ: لا أعرفه، فَقَالَ عثمان: يعني أنه لا يجيزه، وأما قدامة فمشهور. وَقَالَ أبو حاتم: قدامة بن محمد المدنيّ، ليس به بأس. وَقَالَ أبو زرعة: لا بأس به. روى له ابن عدي أحاديث، عن إسماعيل بن شيبة، ثم قَالَ: ولِقُدامة غير ما ذكرت، وكل هذه الأحاديث بهذا الإسناد، غير محفوظة. وَقَالَ ابن حبّان فِي "الضعفاء": كَانَ يروي المقلوبات، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد. تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط، كرّره ثلاث مرات.
و"عثمان بن أبي الوليد"، أو ابن الوليد المدنيّ، مولى الأخنسيين، مقبول [6].
روى عن عروة بن الزبير، وعنه بُكير بن عبد الله بن الأشجّ، وموسى بن عقبة، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وهشام بن عروة. ذكره ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه جرحا، ولا تعديلاً. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، فَقَالَ: عثمان بن أبي الوليد. تفرّد به النسائيّ بهذا الْحَدِيث فقط.
وقوله: "إلا فِي المجنّ، أو ثمنه": هو شكّ منْ الراوي، والمراد بثمنه قيمته، كما تقدّم إيضاحه.
والحديث تفرّد به المصنّف، وهو، وإن كَانَ فِي سنده عثمان بن أبي الوليد، ولم
يوثّقه إلا ابن حبّان، صحيح بشواهده السابقة واللاحقة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4940 -
(أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي قُدَامَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْوَلِيدِ يَقُولُ: سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: كَانَتْ عَائِشَةُ، تُحَدِّثُ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إِلاَّ فِي الْمِجَنِّ أَوْ ثَمَنِهِ"، وَزَعَمَ أَنَّ عُرْوَةَ قَالَ: الْمِجَنُّ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو بكر بن إسحاق": هو محمد بن إسحاق الصاغانيّ، نزيل بغداد الثقة الثبت، تقدّم قريبًا.
وقوله: "وزعم": فاعله ضمير عثمان بن أبي الوليد. وقوله: "أربعة دراهم": قَالَ السنديّ: كأن قيمته أحيانا أربعة دراهم، أو كأن ربعَ الدينار كَانَ أربعة دراهم، فحدّده عروة بذلك، وإلا فالمدار عَلَى ربع الدينار.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله السنديّ، فيه نظر، بل الصواب أن هَذَا التقدير منكرٌ؛ لمخالفته الاحاديث الصحيحة التي تقدّمت، وفيها:"قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي مجنّ ثمنه ثلاثة دراهم"، وهو حديث متَّفقٌ عديه، كما سبق بيانه، فتفطّن. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4941 -
(قَالَ: وَسَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ عَمْرَةَ، تَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تُحَدِّثُ، أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إِلاَّ فِي رُبُعِ دِينَارٍ، فَمَا فَوْقَهُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "قَالَ: وسمعت الخ" القائل: هو بُكير بن عبد الله. وقوله: "يزعم": أي يقول، فالزعم هنا للقول المحقّق، كما سبق نظيره غير مرّة.
[تنبيه]: يوجد فِي "صحيح النسائيّ" للشيخ الألبانيّ: ما نصه: قَالَ أبو عبد الرحمن: وسمعت سليمان بن يسار الخ. وهذا غلطٌ فاحش؛ لأن أبا عبد الرحمن النسائيّ، لم يلق سليمان بن يسار، وإنما القائل:"سمعت" هو بكير بن عبد الله كما أسلفته آنفاً، والظاهر أن هَذَا الغلط منْ الطابع؛ لأنه لا يوجد فِي النسخ التي عندي، لا فِي "المجتبى"، ولا فِي "الكبرى". والله تعالى أعلم.
والحديث صحيح، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4942 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الدَّانَاجِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: "لَا تُقْطَعُ الْخَمْسُ
إِلاَّ فِي الْخَمْسِ"، قَالَ هَمَّامٌ: فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ الدَّانَاجَ، فَحَدَّثَنِي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: "لَا تُقْطَعُ الْخَمْسُ، إِلاَّ فِي الْخَمْسِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "همام": هو ابن يحيى الْعَوْذيّ. و"عبد الله" بن فَيْرُوز الدَّانَاج ومعناه بالفارسية: العالم - البصريّ، ثقة [5].
روى عن أنس، وأبي برزة الأسلميّ، وأبي رافع الصائغ، وسليمان بن يسار، وغيرهم. قَالَ أبو زرعة: ثقة. وَقَالَ النسائيّ: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، روى له البخاريّ، ومسلم، والمصنّف، وابن ماجه، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.
وقوله: "لا تُقطع الخمس إلا فِي الخمس": أي لا يجوز، ولا يُشرع قطع خمس أصابع -والمراد قطع اليد- إلا فِي سرقة خمسة دراهم.
وقوله: "قَالَ همّام الخ": يعني أن همّام يحيى لقي عبد الله الداناج، شيخ قتادة فِي هَذَا الْحَدِيث، فحدّثه بما حدّث به قتادة، وفائدته بيان علوّ الإسناد.
والحديث تفرد به المصنّف، وهو مقطوعٌ -أي أنه موقوفٌ عَلَى التابعيّ- وإسناده صحيح، لكنّه مخالف للأحاديث المرفوعة الصحيحة التي تقدّمت بأن القطع فِي ربع دينار، وصحّ تقويمه بثلاثة دراهم، لا بخمسة، فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4943 -
(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "لَمْ تُقْطَعْ يَدُ سَارِقٍ، فِي أَدْنَى مِنْ حَجَفَةٍ، أَوْ تُرْسٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذُو ثَمَنٍ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عبد الله": هو ابن المبارك.
ولفظ البخاريّ منْ طريق عبدة بن سليمان، عن هشام، عن أبيه أخبرتني عائشة أن يد السارق لم تقطع عَلَى عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا فِي ثمن مِجنّ: حجَفَة، أو تُرْس".
قَالَ فِي "الفتح": وقع عند الإسماعيلي، منْ طريق هارون بن إسحاق، عن عبدة بن سليمان، فيه زيادة قصة فِي السند، ولفظه:"عن هشام بن عروة، أن رجلا سرق قَدَحًا، فأُتى به عمر بن عبد العزيز، فَقَالَ هشام بن عروة: قَالَ أبي: إن اليد لا تقطع فِي الشيء التافه، ثم قَالَ: حدثتني عائشة، وهكذا أخرجه إسحاق بن راهويه، فِي "مسنده" عن عبدة بن سليمان، وهكذا رواه وكيع وغيره، عن هشام، لكن أرسله كله. انتهى.
وقوله: "قالت: لم تُقطع يد سارق الخ"، ولفظ البخاريّ:"لم تُقطع يد سارق عَلَى عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي أدنى منْ ثمن المجنّ: تُرس، أو حجفة":
قَالَ فِي "الفتح": "الْمِجَنُّ" -بكسر الميم، وفتح الجيم، مِفْعلٌ، منْ الاجتنان، وهو الاستتار مما يحاذره المستتر، وكُسِرت ميمه؛ لأنه آلة فِي ذلك، والْحَجَفة -بفتح المهملة والجيم، ثم فاء-: هي الدَّرَقَة، وَقَدْ تكون منْ خشب، أو عظم، وتُغَلَّف بالجلد، أو غيره، و"التُّرْس" مثله، لكن يُطارق فيه بين جلدين، وقيل: هما بمعنى واحد، وعلى الأول "أو" فِي الخبر للشك، وهو المعتمد، ويؤيده رواية عبد الله بن المبارك، عن هشام بلفظ:"فِي أدنى منْ حَجَفَة، أو ترس، كُلُّ واحد منهما ذو ثمن"، والتنوين فِي قوله:"ثمن" للتكثير، والمراد أنه ثمن يُرغَب فيه، فأَخرَج الشيء التافه، كما فهمه عروة راوي الخبر، وليس المراد ترسا بعينه، ولا حجفة بعينها، وإنما المراد الجنس، وأن القطع كَانَ يقع فِي كل شيء، يبلغ قدر ثمن المجن، سواء كَانَ ثمن المجن كثيرا، أو قليلا، والاعتماد إنما هو عَلَى الأقل، فيكون نصابا، ولا يقطع فيما دونه. انتهى "فتح" 14/ 58 - 59.
[تنبيه]: اختُلف فِي إسناد هَذَا الْحَدِيث، فرواه ابن المبارك، كما هو هنا، وعند الشيخين، وكذا عبدة بن سليمان، وحميد بن عبد الرحمن الرؤاسيّ، وأبو أسامة عندهما، أربعتهم عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، ورواه وكيع، وعبد الله بن إدريس، كلاهما عن هشام، عن أبيه، مرسلا، قاله البخاريّ.
قَالَ فِي "الفتح": أما رواية وكيع، فأخرجها ابن أبي شيبة فِي "مصنفه" عنه، ولفظه:"عن هشام بن عروة، عن أبيه، قَالَ: كَانَ السارق فِي عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، يُقطع فِي ثمن المجن، وكان المجن يومئذ له ثمن، ولم يكن يُقطع فِي الشيء التافه".
وأما رواية بن إدريس -وهو عبد الله الأودي الكوفيّ- فأخرجها الدارقطنيّ فِي "العلل"، والبيهقي منْ طريق يوسف بن موسى، عن جرير، وعبد الله بن إدريس، ووكيع، ثلاثتهم عن هشام، عن أبيه: أن يد السارق، لم تُقطع
…
فذكر مثل سياق أبي أسامة سواء
(1)
، وزاد:"ولم يكن يُقطع فِي الشيء التافه".
قَالَ الحافظ: وقرأت بخط مغلطاي، وتبعه شيخنا ابن الملقن، أن رواية بن إدريس عند عبد الرزاق عنه، فيما ذكره الطبراني فِي "الأوسط"، كذا قَالَ الإسماعيلي، ووصله أيضًا عن هشام عمرُ بن علي المقدّمي، وعثمان الْغَطَفَانيّ، وعبد الله بن قبيصة الفزاري، وأرسله أيضًا عبد الرحيم بن سليمان، وحاتم بن إسماعيل، وجرير.
(1)
لفظ أبي أسامة عند البخاريّ: "قَالَ هشام بن عروة: أخبرنا عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: لم تُقطع يد سارق عَلَى عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي أدنى منْ ثمن المجنّ: تُرس، أو حجفة، وكان كل واحد منهما ذا ثمن". انتهى.
قَالَ الحافظ: وَقَدْ ذكرت رواية جرير، وأما عبد الرحمن، فاختُلِف عليه، فقيل: عنه مرسلاً، ووصله عنه أبو بكر بن أبي شيبة، أخرجه مسلم. انتهى.
[تنبيه آخر]: قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: لم تَختَلف الرواة عن هشام بن عروة، عن أبيه فِي هَذَا المتن، وأما الزهريّ، فاختُلف عليه فِي سنده، ولم يختلف عليه فِي المتن أيضًا، كما تقدم، وهو حافظ، فيحتمل أن يكون عروة حدثه به عَلَى الوجهين، كما تقدم، ويحتمل أن يكون لفظ عروة، هو الذي حفظه هشام عنه، وحمل يونس حديث عروة عَلَى حديث عمرة، فساق عَلَى لفظ عمرة، وهذا يقع لهم كثيرا، ويشهد للأول أن النسائيّ أخرجه -4916 - منْ طريق حفص بن حسان، عن يونس، عن الزهريّ، عن عروة وحده، عن عائشة، بلفظ رواية ابن عيينة، ورواه أيضًا -4917 - منْ رواية القاسم ابن مبرور، عن يونس بهذا السند، لكن لفظ المتن:"أو نصف دينار فصاعدا"، وهي رواية شاذة. انتهى كلام الحافظ "فتح" 14/ 59 - 60.
والحديث متّفق عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4944 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عِيسَى، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَطَعَ فِي قِيمَةِ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. و"سفيان": هو الثوريّ.
و"عيسى": هو ابن أبي عزّة، واسمه مساك، الكوفيّ، مولى عبد الله بن الحارث الشعبي، صدوقٌ، ربّما وهِم [6].
رَوَى عن ابن عم مولاه عامر الشعبي، وشُريح القاضي، وعنه إسرائيل، وقيس بن الربيع، والثوري. قَالَ أحمد: شيخ ثقة. وَقَالَ ابن معين. ثقة. وَقَالَ أبو حاتم: لا بأس به. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ الآجري، عن أبي داود: وقرأت فِي كتاب عند آل عيسى بن أبي عزة: هَذَا ما كاتب عليه عبد الله بن الحارث الشعبيُّ مساكا، أظنه على مائتي درهم، قَالَ: فذكرته لعباس العنبري، فأعجب به. وَقَالَ ابن سعد: عيسى بن أبي عزة ثقة، وله أحاديث. وذكره العقيلي فِي "الضعفاء"، وَقَالَ: ضعف حديثه يحيى بن سعيد القطّان.
قَالَ الحافظ: وقع ذكره فِي سند أثر، علقه البخاريّ فِي "الشهادات"، عن الشعبي، ووصله ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن الحسن بن صالح، وإسرائيل، عن عيسى بن أبي عزة، عن الشعبي: أنه أجاز شهادة الأعمى. انتهى.
روى له المصنّف، وأبو داود فِي "القدر"، والترمذي، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.
و"الشعبيّ": هو عامر بن شَرَاحيل الإمام الحجة المشهور. و"عبد الله": هو ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
والحديث تفرّد به المصنّف، وهو ضعيف؛ لمخالفته الأحاديث الصحيحة التي تقدّمت منْ أنه صلى الله عليه وسلم قطع فِي ثمن المجنْ، وهو ثلاثة دراهم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4945 -
(وَأَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَيْمَنَ، قَالَ: لَمْ يَقْطَعِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم السَّارِقَ، إِلاَّ فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ، وَثَمَنُ الْمِجَنِّ يَوْمَئِذٍ دِينَارٌ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "معاوية": هو ابن هشام القصّار، أبو الحسن الكوفيّ، مولى بني أسد، ويقال له: معاوية بن العبّاس، صدوقٌ، له أوهامٌ، منْ صغار [9] 39/ 1704. و"سفيان": هو الثوريّ. و"منصور": هو ابن المعتمر. و"مجاهد": هو ابن جبر، أبو الحجاج المخزوميّ المكيّ الإمام المشهور. و"عطاء": هو ابن أبي رباح/ أسلم، أبو محمد المكيّ الإمام الحجة المشهور.
و"أيمن": مولى الزبير، وقيل: ابن الزبير، رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فِي السرقة، وعن تُبيع بن كعب، فِي فضل الصلاة، وعنه عطاء بن أبي رباح، ومجاهد، قَالَ النسائيّ: ما أحسب أن له صحبة. وَقَالَ ابن عساكر فِي "الأطراف": أيمن بن عبيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، حديث القطع فِي السرقة، هو أيمن بن أم أيمن، وقيل هو أيمن الحبشي، والد عبد الواحد. وَقَالَ البخاريّ فِي "تاريخه": ثنا موسى، ثنا أبو عوانة، وتابعه شيبان، عن منصور، عن الحكم، عن مجاهد، وعطاء، عن أيمن الحبشي، قَالَ:"يقطع السارق"، مرسل. وَقَالَ ابن أبي حاتم: أيمن الحبشي، مولى ابن أبي عمرو، رَوَى عن عائشة، وجابر، وتُبيع، وعنه مجاهد، وعطاء، وابنه عبد الواحد. وَقَالَ الدارقطنيّ فِي "السنن" عن البغوي: ثنا عباس بن الوليد، ثنا عبد الله بن داود، سمعت عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، قَالَ: وكان عطاء، ومجاهد قد رويا عن أبيه. وَقَالَ الدارقطنيّ: أيمن رَاوي حديث المجن تابعيّ، لم يدرك زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا زمن الخلفاء بعده، وأما ابن أم أيمن، فذكر الشافعيّ رحمه الله عنه فِي مناظرة، جرت بينه وبين محمد بن الحسن رحمه الله، فيها أن محمدا احتجّ عليه بحديث مجاهد، عن أيمن بن أم أيمن فِي القطع فِي "السرقة"، قَالَ: فقلت له: لا علم لك بأصحابنا، أيمنُ بن أم أيمن أخو أسامة بن
زيد لأمه، قُتل يوم حُنين، ولم يدركه مجاهد. وَقَالَ ابن حبّان فِي "الثقات" نحوا منْ قول البخاريّ، وابن أبي حاتم، ثم خلط فِي الترجمة، قَالَ: وهو الذي يقال له: أيمن بن أم أيمن، نُسب إلى أمه، وكان أخا أسامة بن زيد، ومن زعم أن له صحبة فقد وهم، حديثه فِي القطع مرسل. قَالَ الحافظ: أم أيمن لم تتزوج بعد زيد بن حارثة، وأيمن ابنها كَانَ أكبر منْ أسامة، وقُتل يوم حنين، فهو صحابي، والصواب أن الذي رَوَى حديث المجَنّ غيره. والله أعلم. انتهى. تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.
وقوله: "وثمن المِجَن يومئذ دينار": قَالَ السنديّ: هَذَا حكاية ما بلغهم منْ ثمن المجنّ فِي بعض أوقات تلك الأيام، أو هو ثمن قسم منْ المجنّ فِي ذلك الزمان، فزعموا أنه الحدّ، لكن حيث إن الحدّ ربع دينار، فلا يُنظر إلى هَذَا المقال. والله تعالى أعلم. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أيمن هَذَا مرسلٌ، صحيح الإسناد، وقوله:"وثمن المجنّ دينار" منكرٌ؛ لمخالفته للأحاديث الصحيحة السابقة المتّفق عليها أن القطع فِي ربع دينار، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4946 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَيْمَنَ، قَالَ: لَمْ تَكُنْ تُقْطَعُ الْيَدُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِلاَّ فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ، وَقِيمَتُهُ يَوْمَئِذٍ دِينَارٌ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. والحديث مرسلٌ صحيح الإسناد، وقوله:"وقيمته دينارٌ" منكر، كما سبق بيانه فيما قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4947 -
(أَخْبَرَنَا أَبُو الأَزْهَرِ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَيْمَنَ، قَالَ: لَمْ تُقْطَعِ الْيَدُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِلاَّ فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ، وَقِيمَةُ الْمِجَنِّ يَوْمَئِذٍ دِينَارٌ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو الأزهر النيسابوريّ": هو أحمد بن الأزهر بن منيع العبديّ، صدوقٌ، كَانَ يحفظ، ثم كبر، فصار كتابه أثبت منْ حفظه [11] 66/ 1802. و"محمد بن يوسف": هو الفريابيّ. و"سفيان": هو الثوريّ. و"الحكم": هو ابن عُتيبة.
والحديث مرسلٌ صحيح الإسناد، وقوله:"وقيمة المجنّ دينار" منكرٌ، كما تقدّم بيانه. والله تعالى أعلم بالصوب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4948 -
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، عَنْ أَيْمَنَ، قَالَ: "لَمْ تُقْطَعِ الْيَدُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِلاَّ فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ، وَثَمَنُهُ يَوْمَئِذٍ دِينَارٌ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عبد الله بن داود": هو الْخُريبيّ، كوفيّ الأصل، ثقة عابدٌ [9] 71/ 1322. و"عليّ بن صالح": هو ابن صالح بن حي الْهَمْدانيّ، أبو محمد الكوفيّ، أخو الحسن الآتي فِي السند التالي، ثقة عابدٌ [7] 192/ 307. والحديث مراسل، صحيح الإسناد، وقوله: "وثمنه الخ" منكرٌ، كما سبق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4949 -
(أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، عَنْ أَيْمَنَ، قَالَ: يُقْطَعُ السَّارِقُ فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ، وَكَانَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دِينَارًا، أَوْ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "هارون بن عبد الله": هو الْحَمّال البغداديّ. و"الأسود بن عامر": هو الشاميّ، نزيل بغداد، أبو عبد الرحمن الملقّب شاذان، ثقة [9] 7/ 407. و"الحسن بن حيّ": هو الحسن بن صالح بن صالح بن حيّ -وهو حيّان ابن شُفَيّ- الهمدانيّ الكوفيّ، وهو أخو علي بن صالح المذكور فِي السند الماضي، ثقة فقيهٌ عابدٌ، رُمي بالتشيّع [7] 160/ 252.
والحديث مرسلٌ صحيح الإسناد، وقوله:"وكان ثمن المجنّ الخ" منكرٌ، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجِع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4950 -
(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شَرِيكٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، عَنْ أَيْمَنَ بْنِ أُمِّ أَيْمَنَ يَرْفَعُهُ، قَالَ: "لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إِلاَّ فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ، وَثَمَنُهُ يَوْمَئِذٍ دِينَارٌ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "شريك": هو ابن عبد الله النخعي الكوفيّ القاضي المشهور.
والحديث مرسلٌ، وفيه شريك القاضي، لكنه لم ينفرد به، فقد تابعه الأسود، وجريرٌ، وقوله:"وثمنه الخ" منكرٌ، كما سبق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4951 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، عَنْ أَيْمَنَ، قَالَ: "لَا يُقْطَعُ السَّارِقُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِجَنِّ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "جريرٌ": هو ابن عبد الحميد. والحديث مرسلٌ،
صحيح الإسناد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4952 -
(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، أَنَّ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، كَانَ يَقُولُ: ثَمَنُهُ يَوْمَئِذٍ عَشْرَةُ دَرَاهِمَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عُبيد الله بن سعد": هو الزهريّ البغداديّ. و"عمه": هو يعقوب بن إبراهيم الزهريّ البغداديّ. و"أبوه": هو إبراهيم بن سعد الزهريّ المدنيّ، نزيل بغداد. و"ابن إسحاق": هو محمد، إمام المغازي.
والحديث موقوفٌ صحيح الإسناد، لكنّه شاذّ؛ لمخالفته الأحاديث الصحيحة المرفوعة المتقدّمة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4953 -
(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى الْبَلْخِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، كَانَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُقَوَّمُ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ).
"يحيى بن موسى البَلْخيّ": هو الملقّب بخَتّ، كوفيّ الأصل، ثقة [10] 146/ 236. و"ابن نُمير": هو عبد الله الهمدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقة، صاحب حديث، منْ أهل السنّة، فِي كبار [9] 25/ 1664. و"أيوب بن موسى": هو الأمويّ، أبو موسى المكيّ، ثقة [6] 150/ 241.
والحديث صحيح الإسناد، لكنه شاذّ؛ لما تقدّم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4954 -
(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَطَاءٍ، مُرْسَلٌ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن موهب": هو أبو مُعافى الْحَرّانيّ، صدوقٌ [10] 191/ 306 منْ أفراد المصنّف. و"محمد بن سَلَمة": هو الحرّانيّ الثقة [9].
وقوله: "مرسل": يعني أن عطاء قَالَ: كَانَ ثمن المجنّ عَلَى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقوّم عشرة دراهم، ولم يذكر ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما. والحكم عَلَى الْحَدِيث سبق فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4955 -
(أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ سُفْيَانَ -وَهُوَ ابْنُ حَبِيبٍ- عَنِ الْعَرْزَمِيِّ -
وَهُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ- عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: أَدْنَى مَا يُقْطَعُ فِيهِ ثَمَنُ الْمِجَنِّ، قَالَ: وَثَمَنُ الْمِجَنِّ يَوْمَئِذٍ عَشْرَةُ دَرَاهِمَ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَأَيْمَنُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لِحَدِيثِهِ مَا أَحْسَبُ أَنَّ لَهُ صُحْبَةً، وَقَدْ رُوِىَ عَنْهُ حَدِيثٌ آخَرُ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "حميد بن مسعدة": هو الساميّ الباهليّ البصريّ، صدوقٌ [10] 5/ 5. و"سفيان بن حبيب": هو البصريّ البزّاز، ثقة [9] 67/ 82. و"عبد الملك بن أبي سُليمان ميسرة الْعَرْزميّ الكوفيّ، صدوقٌ، له أوهام [5] 7/ 406.
والحديث مقطوعٌ، مخالف للإحاديث المرفوعة الصحيحة، فلا يُلتفت إليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله: (قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أي النسائيّ (وَأَيْمَنُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لِحَدِيثِهِ مَا أَحْسَبُ) بفتح المهملة، وكسرها: أي ما أظن (أَنَّ لَهُ صُحْبَةً) وقوله: (وَقَدْ رُوِيَ) بالبناء للمفعول (عَنْهُ حَدِيثٌ آخَرُ، يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ) تعليلٌ لقوله: "ما أحسب الخ"، والمعنى: أن الدليل عَلَى ظنّي عدمَ الصحبة له كونه رُوي عنه حديث عن كعب الأحبار، بواسطة تُبيع، يعني منْ يروي بواسطة، عن كعب، وهو تابعيّ، بعيدٌ أن يكون صحابيّا، ثم ذكر الأثر الذي أشار إليه فَقَالَ:
4956 -
(حَدَّثَنَا سَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَوَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ ح وَأَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلاَّمٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْحَاقُ -هُوَ الأَزْرَقُ- قَالَ: حَدَّثَنَا بِهِ عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَيْمَنَ، مَوْلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَالَ خَالِدٌ فِي حَدِيثِهِ: مَوْلَى الزُّبَيْرِ، عَنْ تُبَيْعٍ، عَنْ كَعْبٍ، قَالَ: "مَنْ تَوَضَّأَ، فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ صَلَّى" -وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ-: "فَصَلَّى الْعِشَاءَ الآخِرَةَ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَأَتَمَّ" -وَقَالَ سَوَّارٌ-: "يُتِمُّ رُكُوعَهُنَّ وَسُجُودَهُنَّ، وَيَعْلَمُ مَا يَقْتَرِىءُ" -وَقَالَ سَوَّارٌ-: "يَقْرَأُ فِيهِنَّ، كُنَّ لَهُ بِمَنْزِلَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "سوّار بن عبد الله بن سوّار" -بتشديد الواو-: هو أبو عبد الله بن قُدامة التميميّ العنبريّ البصريّ، قاضي الرُّصّافة، وغيرِها، ثقة [10] 160/ 1129. و"خالد بن الحارث": هو الْهُجيميّ البصريّ الثقة الثبت [8]. و"عبد الرحمن بن محمّد بن سلّام" -بتشديد اللام-: هو أبو القاسم البغداديّ، ثم الطرسوسيّ، لا بأس به [11] 172/ 1141. و"إسحاق الأزرق": هو ابن يوسف المخزوميّ الواسطيّ، ثقة [9] 22/ 489. و"عبد الملك": هو العرْزميّ المذكور فِي السند الماضي. و"عطاء": هو ابن أبي رباح.
و"تُبَيعٌ" -بمثنّاة، ثم موحّدة، مصغّرًا- ابن عامر الْحِمْيريّ، ابن امرأة كعب، يُكنى أبا عُبيدة، ويقال: أبو عبيد، وقيل: غير ذلك، صدوقٌ، عالم بالكتب القديمة، مخضرمٌ [2].
رَوَى عن كعب، وأبي الدرداء. ورَوَى عنه أيمن غير منسوب، وحسين بن شُفَيّ، وعطاء، ومجاهد، ومعاذ بن عبد الله بن خُبيب، وجماعة. قَالَ البخاريّ: رَوَى عنه عدة منْ أهل الأمصار. وَقَالَ أحمد بن محمد بن عيسى فِي "تاريخ الحمصيين"، فِي الطبقة العليا التي تلي الصحابة: كَانَ رجلاً مُرَجَّلاً، كَانَ دليلاً للنبي صلى الله عليه وسلم، فعَرَض عليه الإسلام، فلم يسلم حَتَّى تُوفي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأسلم مع أبي بكر، وَقَدْ كَانَ يَقُصّ عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ ابن سعد فِي الطبقة الثانية منْ تابعيّ أهل الشام: تُبيع ابن امرأة كعب، وكان عالما، قد قرأ الكتب، وسمع منْ كعب علما كثيرًا، وَقَالَ حسين بن شُفَيّ: كنت جالسا عند عبد الله بن عمرو، فأقبل تُبيع، فَقَالَ عبد الله: أتاكم أعرف مَن عليها، فذكر حديثا. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ ابن يونس: تبيع بن عامر الْكَلَاعِيّ منْ أَلْهَانَ، يكنى أبا غُطَيف ناقلة منْ حمص، توفي بالإسكندرية سنة (101) قَالَ الحافظ: يغلب عَلَى ظني أن هَذَا الذي ذكره ابن يونس غير ابن امرأة كعب. انتهى. رَوَى له المصنّف هَذَا الأثر فقط.
و"كعب": هو كعب بن ماتع الْحميريّ، أبو إسحاق المعروف بكعب الأحبار، ثقة مخضرم [2] 89/ 1346.
وقوله: "وَقَالَ عبد الرحمن" يعني شيخه الثانيّ.
وهذا الأثر منْ أفراد المصنّف، وهو موقوف عَلَى كعب الأحبار، ويسمّى مقطوعًا، وليس له حكم الرفع؛ لأنه وإن لم يكن مما يقال بالرأي، لكن كعبًا معروف بالإسرائيليات، فالظاهر أنه منْ إسرائليّاته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4957 -
(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَخْلَدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَيْمَنَ، مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، عَنْ تُبَيْعٍ، عَنْ كَعْبٍ، قَالَ: "مَنْ تَوَضَّأَ، فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ شَهِدَ صَلَاةَ الْعَتَمَةِ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ صَلَّى إِلَيْهَا أَرْبَعًا مِثْلَهَا، يَقْرَأُ فِيهَا، وَيُتِمُّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا، كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عبد الحميد بن محمد": هو أبو عمر الْحَرّانيّ الثقة [11] 22/ 932 منْ أفراد المصنّف. و"مخلد": هو ابن يزيد القرشيّ الحرّانيّ، صدوقٌ، له أوهام، منْ كبار [9] 141/ 222.
وقوله: "مولى ابن عمر" محلّ نظر. والأثر سبق الكلام فيه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4958 -
(أَخْبَرَنَا خَلاَّدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: كَانَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَشْرَةَ دَرَاهِمَ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "خلّاد بن أسلم" الصّفّار، أبو بكر البغداديّ، مروزيّ الأصل، ثقة [10].
رَوَى عن عبد العزيز الدراوردي، ومحمد بن مصعب الْقُرْقُسَائي، وهشيم، وابن عيينة، والنضر بن شميل، وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رَوّاد، وغيرهم. وعنه الترمذيّ، والنسائي، وموسى بن هارون، وعبد الله بن أحمد، وابن ناجية، والبغوي، وابن صاعد، والمحاملي، وغيرهم. قَالَ النسائيّ: كتبنا عنه، ثقة. وَقَالَ الدارقطنيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ البغوي: مات بسَامَرّا، سنة (249) فِي جمادى الآخرة. وكذا أرخه ابن حبّان، والقَرّاب، وأرخه ابن قانع سنة (48). وَقَالَ مسلمة بن قاسم: ثقة، حدثنا عنه المحاملي، قَالَ: وَقَدْ قَالَ بعضهم تُوفي قبل الخمسين، أو عام الخمسين. روى عنه المصنّف، والترمذيّ، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.
و"عبد الله بن إدريس": هو الأوديّ الكوفيّ الثقة [8].
والحديث منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، وهو ضعيفٌ؛ لمخالفته الأحاديث الصحيحة السابقة أن ثمن المجنّ كَانَ ثلاثة دراهم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
11 - (الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ يُسْرَقُ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "يُسرق" بالبناء للمجهول، والجملة فِي محلّ نصب عَلَى الحال، ويحتمل أن تكون صفة للثمر؛ لأن المعرّف بـ"أل" الجنسيّة بمنزلة النكرة، كما تقدّم غير مرّة. والله تعالى أعلم بالصواب.
4959 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الأَخْنَسِ، عَنْ عَمْرِو
بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي كَمْ تُقْطَعُ الْيَدُ؟ قَالَ:"لَا تُقْطَعُ الْيَدُ فِي ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ، فَإِذَا ضَمَّهُ الْجَرِينُ، قُطِعَتْ فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ، وَلَا تُقْطَعُ فِي حَرِيسَةِ الْجَبَلِ، فَإِذَا آوَى الْمُرَاحَ، قُطِعَتْ فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو عوانة": هو الوضّاح بن عبد الله اليشكريّ. و"عُبيد الله بن الأخنس": هو النخعيّ، أبو مالك الْخزّاز، صدوقٌ، كَانَ يخطىء كثيرًا [7] 32/ 1686.
[تنبيه]: وقع فِي نسخ "المجتبى": "عبد الله بن الأخنس"، مكبّرًا، وهو تصحيفٌ، والصواب "عُبيد الله" مصغّرًا، كما فِي "الكبرى" 4/ 343 - وهو الذي فِي "تحفة الأشراف" 6/ 326 - 327 فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقوله: "معلّق": أي بالأشجار. وقوله: "الجَرِين" -بوزن الأمير: موضع يُجمع فيه التمر، ويُجفّف.
وقوله: "فِي حريسة الجبل": قَالَ فِي "النهاية" 1/ 367 - : أي ليس فيما يُحرس بالجبل، إذا سُرق قطع؛ لأنه ليس بحرز، و"الْحَرِيسة": فَعلية بمعنى مفعولة: أي أنها لها منْ يحرُسها، ويحفظها، ومنهم منْ يجعل الْحَرِيسة السرقة نفسَها، يقال: حَرَس يحرُس حرْسًا، منْ باب ضرب: إذا سرق، فهو حارسٌ، ومُحترسٌ: أي ليس فيما يُسرق منْ الجبل قطع. قَالَ: ويقال للشاة التي يُدركها الليل قبل أن تَصِل إلى مُراحها: حَرِيسةٌ، وفلانٌ يأكل الحرسات: إذا سرق أغنام النَّاس، وأكلها، والاحتراس: أن يَسرِق الشيء منْ الْمَرْعَى. قاله شَمِر. انتهى.
وَقَالَ الفيّوميّ: وحَريسة الجبل: الشاة التي يُدركها الليل قبل رجوعها إلى مأواها، فتُسرَق منْ الجبل، قَالَ ابن فارس: وفي حَرِيسة الجبل تفسيران: فبعضهم يجعلها السرقة نفسها، فيقال: حَرَسَ حَرْسًا، منْ باب ضرب: إذا سرق، وبعضهم يجعل الْحَريسة، بمعنى المحروسة، ويقول: ليس فيما يُحرس بالجبل قطعٌ؛ لأنه ليس بموضع حرزٍ. قَالَ الفارابيّ: واحترس: أي سرَقَ منْ الجبل. وَقَالَ ابن السّكّيت أيضًا: الْحَرِيسة: السرقة ليلاً. ومن جعل حَرَسَ بمعنى سَرَقَ، قَالَ: الفعل منْ الأضداد. واحترستُ منه: تحفّظتُ، وتحرّست مثله. انتهى.
وقوله: "آوى الْمراح" فعل وفاعل، ومفعوله محذوف أي آواه المراحُ، وهو -بضم الميم، ويجوز فتحها: أي المحلّ الذي تأوي إليه، وتبيت فيه، قَالَ الفيّوميّ رحمه الله تعالى: الْمُراح بضم الميم: حيث تأوي الماشية بالليل، والْمُناخُ، والْمَأْوَى مثلُهُ، وفيح الميم بهذا المعنى خطأ؛ لأنه اسم مكان، واسم المكان، والزمان، والمصدر منْ أفعل
بالألف، مُفْعَلٌ، بضم الميم، عَلَى صيغة اسم المفعول، وأما الْمَرَاح بالفتح، فاسم الموضع، منْ راحت بغير ألف، واسم المكان منْ الثلاثيّ بالفتح، والْمَرَاحُ بالفتح أيضًا: الموضع الذي يروح القوم منه، أو يرجعون إليه. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: فتبيّن منْ كلام الفيّوميّ رحمه الله تعالى المذكور أنه يجوز ضم الميم فِي الْحَدِيث هنا، عَلَى أنه اسم مكان منْ أراح الراعي الماشيةَ: إذا رجعها منْ الْمَرْعَى، وفتحها، عَلَى أنه اسم مكان منْ راحت الماشية: إذا رجعت هي منْ الْمَرْعَى. والله تعالى أعلم.
وسيأتي تمام شرح الْحَدِيث، وبيان مسائله فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
12 - (الثَّمَرِ يُسْرَقُ بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "يُسْرَق" بالبناء للمفعول، وقوله:"يؤويه" بضم أوله مضارع آواه بالمد. والله تعالى أعلم بالصواب.
4960 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ؟، فَقَالَ: "مَا أَصَابَ مِنْ ذِي حَاجَةٍ، غَيْرِ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ، فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ، وَالْعُقُوبَةُ، وَمَنْ سَرَقَ شَيْئًا مِنْهُ، بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ، فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ، وَمَنْ سَرَقَ دُونَ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ، وَالْعُقُوبَةُ").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ، أبو رجاء الغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.
2 -
(الليث) بن سعد الفهميّ، أبو الحارث المصريّ الإمام الحجة الفقيه الثبت [7] 31/ 35.
3 -
(ابن عجلان) هو محمد مولى فاطمة بنت الوليد المدنيّ، صدوقٌ [5] 36/ 40.
4 -
(عمرو بن شعيب) بن محمد المدنيّ، أو الطائفيّ، صدوقٌ [5] 105/ 140.
5 -
(أبوه) شُعيب بن محمد بن عبد الله الطائفيّ، صدوقٌ [3] 105/ 140.
6 -
(جدّه) عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما 89/ 111. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أن فيه رواية الراوي عن أبيه، عن جدّه، وتابعي عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بن العاص رضي الله تعالى عنهما (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الثَّمَرِ) بفتح الثاء المثلّثة، والميم: هو اسم جامع للرطب، واليابس، منْ التمر، والعنب، وغيرهما. وَقَالَ الفيّوميّ رحمه الله تعالى: الثمر -بفتحتين، والثمرة مثلُهُ، فالأول مذكّرٌ، ويُجمع عَلَى ثِمار، مثلُ جبل وجِبال، ثم يُجمع الثمار عَلَى ثُمُر، مثلُ كتاب وكُتُب، ثم يُجمع عَلَى أَثمارٍ، مثلُ عُنُق وأَعناق، والثاني مؤنّثٌ، والجمع ثَمَرَات، مثلُ قصَبَة وقَصَبَات، والثمر: هو الْحَمْلُ الذي تُخرجه الشجرة، سواءٌ أُكل، أو لا، فيقال: ثَمَرُ الأراك، وثمر الْعَوْسَجِ، وثمرُ الدَّوْم، وهو الْمُقْلُ، كما يقال: ثمر النخل، وثمر العنب. قَالَ الأزهريّ: وأثمر الشجر: أطلع ثمره أولَ ما يُخرجه، فهو مُثمِرٌ، ومن هنا قيل لما لا نفع فيه: ليس له ثمرة. انتهى (الْمُعَلَّقِ) اسم مفعول منْ التعليق: أي المتدلّي منْ الشجر.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَا أَصَابَ)"ما" اسم موصول، عبارة عن الثمر، والعائد محذوف: أي الذي أصابه، وفي رواية الترمذيّ:"منْ أصاب"(مِنْ ذِي حَاجَةٍ)"منْ" زائدة، و"ذي" فاعل "أصاب"، مرفوع بضمّة مقدّرة منع منْ ظهورها دخول الحرف الزائد. قَالَ السنديّ: حملوه عَلَى حالة الاضطرار، أي فقالوا: إنما أُبيح للمضطرّ. انتهى. وسيأتي اختلاف العلماء فيه فِي المسائل، إن شاء الله تعالى. (غَيْرَ مُتَّخِذٍ) بنصب "غير" عَلَى الحال: أي حال كونه غير متخذ (خُبْنَةً) بضم الخاء المعجمة، وسكون الباء الموحّدة، ونون- قَالَ الخطّابيّ: الخُبْنة: ما يأخذه الرجل فِي ثوبه، فيرفعه إلى فوقُ، ويقال للرجل إذا رفع ذيله فِي المشي: قد رفع خُبْنته. انتهى. وَقَالَ فِي "النهاية" 2/ 9 - : الْخُبْنة: مِعْطف الإزار، وطرف الثوب: أي لا يأخذ منه فِي ثوبه، يقال: أخبن الرجل: إذا خبأ شيئًا فِي خُبْنة ثوبه، أو سراويله. انتهى. (فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) أي عَلَى المصيب، ولابدّ منْ تقدير "فيه": أي فِي ذلك الثمر. قاله السنديّ.
والمعنى: أنه لا يجب عَلَى ذلك المصيب منْ ذلك الثمر بسببه شيء منْ الغرامات، والعقوبات، وكذلك لا إثم عليه؛ لإباحة الشارع له ذلك القدر، عَلَى خلاف فِي كيفية الإباحة، سيأتي بيانه قريبًا، إن شاء الله تعالى.
(وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ) الباء للتعدية (مِنْهُ) أي منْ الثمر المعلق (فَعَلَيْهِ غرَامَةُ مِثْلَيْهِ) بالتثنية، وَقَدْ جاء بالإفراد فِي بعض نسخ "سنن أبي داود"، قَالَ السنديّ: وهو أظهر، وأمثل بقواعد الشرع، والتثنية منْ باب التعزير بالمال (وَالعُقُوبَةُ) بالرفع عطفًا عَلَى "غرامةُ": أي التعزير، وَقَدْ فَسّرها فِي الرواية التالية بأنها جَلَدَات نَكَال (وَمَنْ سَرَقَ شَيْئًا مِنْهُ) أي منْ الثمر (بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ) بضم أوله، منْ الإيواء، وهو الضمّ (الْجَرينُ) بفتح الجيم، وكسر الراء: موضعٌ يُجمع فيه التمر، للتجفيف، وهو له كالبيدر
(1)
للحنطة، ويُجمع عَلَى جُرُن -بضمتين- كذا فِي "النهاية"(فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ) قد تقدّم أن الصحيح أنه ربع دينار، وهو ثلاثة دراهم (فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ) أي قطع يده؛ لسرقته نصابًا منْ الحرز (وَمَنْ سَرَقَ دُونَ ذَلِكَ) أي أقل منْ ثمن المجنّ (فَعَلَيْهِ غرَامَةُ مِثْلَيْهِ) بالتثنية (وَالْعُقُوبَةُ) أي البدنيّة، وهي أن يُضرب عدة جلَدَات. قَالَ أبو داود رحمه الله تعالى بعد ذكر الْحَدِيث: ما نصّه: الجرين: الْجُوخَانُ. انتهى. وَقَالَ الجوهريّ: الْجُوخان: الجرين بلغة أهل البصرة. انتهى.
قَالَ الطيبيّ رحمه الله تعالى: [فإن قلت]: كيف طابق هَذَا جوابًا عن سؤاله عن التمر المعلّق، فإنه سُئل هل يُقطع فِي سرقة التمر المعلّق، وكان ظاهر الجواب أن يقال: لا، فلم أطنب ذلك الإطناب؟.
[قلت]: ليُجيب عنه مُعلْلاً، كأنه قيل: لا يُقطع؛ لأنه لم يسرق منْ الحرز، وهو أن يؤويه الجرين. ذكره القاري. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عبد الله بن عمرو رحمه الله تعالى هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -12/ 4960 و4961 - وفي الباب الماضي 11/ 4959 - وفي "الكبرى" 19/ 7445 و20/ 7446 و21/ 7447. وأخرجه (د) فِي "اللقطة" 1710 و"الحدود"
(1)
"البيدر" -بفتح، فسكون-: الموضع الذي تُدّاس فيه الحبوب.
4390 (ت) فِي "البيوع"1289. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم سرقة الثمر بعد أن يؤويه الجرين، وهو القطع، إذا بلغ نصابًا، وإلا غرامة مثليه، والعقوبة. (ومنها): أن فيه جواز أخذ المحتاج منْ الثمار المعلّقة بفيه لسدّ فاقته. (ومنها): أنه يحرم عليه إخراج شيء منه، فإن خرج منه بشيء، فلا يخلو منْ أن يكون قبل أن يُجذّ، وُيؤيه الجرين، أو بعده، فإن كَانَ قبل الجذّ، فعليه الغرامة، والعقوبة، وإن كَانَ بعد القطع، وإيواء الجرين، فعليه القطع، إن بلغ نصابًا، وهو ثمن المجنّ، ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، وإلا فعليه الغرامة، والعقوبة. (ومنها): أنه يؤخذ منه اشتراط الحرز فِي وجوب القطع فِي السرقة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "بعد أن يُؤويه الجَرِين"، وهو مذهب الجمهور، وهو الأرجح، كما تقدّم تحقيقه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي جواز أكل الثمار للمارّة:
قَالَ الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" رقم (2435): "بابٌ لا تُحتلب ماشية أحد بغير إذنه"، ثم أورد بسنده حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لا يحلُبنّ أحدٌ مَوَاشِيَ امرىء بغير إذنه، أيُحبّ أحدكم أن تُؤتى مَشرُبته، فتُكسرَ خِزانته، فيُنتقل طعامه؟، فإنم تخزن لهم ضروع ماشيتهم أطعماتهم، فلا يحلُبنّ أحد ماشية أحد إلا بإذنه". انتهى.
فَقَالَ فِي "الفتح" 5/ 113: قَالَ ابن عبد البرّ: فِي الْحَدِيث النهي عن أن يأخذ المسلم للمسلم شيئا إلا بإذنه، وإنما خص اللبن بالذكر؛ لتساهل النَّاس فيه، فنبه به عَلَى ما هو أولى منه، وبهذا أخذ الجمهور، لكن سواء كَانَ بإذن خاصّ، أو إذن عامّ، واستثنى كثير منْ السلف، ما إذا عَلِم بطيب نفس صاحبه، وإن لم يقع منه إذن خاص، ولا عام.
وذهب كثير منهم إلى الجواز مطلقا، فِي الأكل، والشرب، سواء علم بطيب نفسه، أو لم يعلم، والحجة لهم ما أخرجه أبو داود، والترمذي، وصححه منْ رواية الحسن، عن سمرة، مرفوعًا:"إذا أتى أحدكم عَلَى ماشية، فإن لم يكن صاحبها فيها، فليُصَوِّت ثلاثا، فإن أجاب فليستأذن، فإن أذن له، وإلا فليحلُب، وليشرب، ولا يحمل"، إسناده صحيح إلى الحسن، فمن صحح سماعه منْ سمرة صححه، ومن لا، أعلّه بالانقطاع، لكن له شواهد، منْ أقواها حديث أبي سعيد رضي الله عنه، مرفوعا:"إذا أتيت عَلَى راع، فناده ثلاثا، فإن أجابك، وإلا فاشرب منْ غير اْن تُفسِد، وإذا أتيت عَلَى حائط بستان، فذكر مثله"، أخرجه بن ماجه، والطحاوي، وصححه ابن حبّان، والحاكم.
وأجيب عنه بأن حديث النهي أصح، فهو أولى بأن يُعمل به، وبأنه معارِضٌ للقواعد القطعية، فِي تحريم مال المسلم، بغير إذنه، فلا يُلتفت إليه. ومنهم منْ جمع بين الحديثين بوجوه منْ الجمع، منها: حمل الإذن عَلَى ما إذا علم طيب نفس صاحبه، والنهي عَلَى ما إذا لم يعلم، ومنها: تخصيص الإذن بابن السبيل، دون غيره، أو بالمضطرّ، أو بحال المجاعة مطلقا، وهي متقاربة. وحكى ابن بطال عن بعض شيوخه: أن حديث الإذن كَانَ فِي زمنه صلى الله عليه وسلم، وحديث النهي أشار به إلى ما سيكون بعده منْ التشاح، وترك المواساة.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الحمل فيه نظرٌ لا يخفى.
ومنهم منْ حمل حديث النهي عَلَى ما إذا كَانَ المالك، أحوج منْ المارّ؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي سفر، إذ رأينا إبلاً، مصرورةً، فثُبْنا إليها، فَقَالَ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن هذه الإبل لأهل بيت منْ المسلمين، هو قوتهم، ويُمنهم بعد الله، أَيَسُرُّكم لو رجعتم إلى مزاودكم، فوجدتم ما فيها قد ذُهِب به، أتُرَون ذلك عدلاً؟ "، قلنا: لا، قَالَ:"فإن هَذَا كذلك"، قلنا: أفرأيتَ إن احتجنا إلى الطعام، والشراب؟، قَالَ:"كل، ولا تحمل، واشرب، ولا تحمل". أخرجه أحمد، وابن ماجه، واللفظ له، وفي حديث أحمد:"فابتدرها القوم ليحلُبُوها"، قالوا فيحمل حديث الإذن عَلَى ما إذا لم يكن المالك محتاجا، وحديث النهي عَلَى ما إذا كَانَ مستغنيا.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لكن حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور فِي سنده الحجاج بن أرطاة، وهو ضعيف، وسليط بن عبد الله الطهويّ مجهول. والله تعالى أعلم.
ومنهم منْ حمل الإذن عَلَى ما إذا كانت، غير مَصرُورة، والنهي عَلَى ما إذا كانت مصرورة؛ لهذا الْحَدِيث، لكن وقع عند أحمد فِي آخره:"فإن كنتم لابُدّ فاعلين، فاشربوا، ولا تحملوا"، فدلّ عَلَى عموم الإذن فِي المصرورة وغيره، لكن بقيد عدم الحمل، ولابُدّ منه. واختار ابن العربيّ الحمل عَلَى العادة، قَالَ: وكانت عادة أهل الحجاز، والشام، وغيرهم المسامحة فِي ذلك، بخلاف بلدنا، قَالَ: ورأى بعضهم أن مهما
(1)
كَانَ عَلَى طريق لا يُعدَل إليه، ولا يُقصد جاز للمار الأخذ منه، وفيه إشارة إلى قصر ذلك عَلَى المحتاج، وأشار أبو داود فِي "السنن" إلى قصر ذلك عَلَى المسافر فِي الغزو، وآخرون إلى قصر الإذن عَلَى ما كَانَ لأهل الذمة، والنهي عَلَى ما كَانَ
(1)
هكذا نسخ "الفتح" التي عندي، والظاهر أن الأولى "أن ما كَانَ الخ"، فليُحرّر.
للمسلمين، واستؤنس بما شرطه الصحابة عَلَى أهل الذمة منْ ضيافة المسلمين، وصح ذلك عن عمر، وذكر ابن وهب عن مالك فِي المسافر، ينزل بالذمي، قَالَ: لا يأخذ منه شيئا إلا بإذنه، قيل له: فالضيافة التي جُعلت عليهم؟ قَالَ: كانوا يومئذ يخفف عنهم بسببها، وأما الآن فلا. وجنح بعضهم إلى نسخ الإذن، وحملوه عَلَى أنه كَانَ قبل إيجاب الزكاة، قالوا: وكانت الضيافة حينئذ واجبة، ثم نسخ ذلك بفرض الزكاة، قَالَ الطحاوي: وكان ذلك حيق كانت الضيافة واجبة، ثم نسخت، فنسخ ذلك الحكم، وأورد الأحاديث فِي ذلك.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: دعوى النسخ هَذَا يحتاج إلى دليل. والله تعالى أعلم.
وَقَالَ النوويّ فِي "شرح المهذب": اختلف العلماء، فيمن مر ببستان، أو زرع، أو ماشية، قَالَ الجمهور: لا يجوز أن يأخذ منه شيئا، إلا فِي حال الضرورة، فيأخذ، وَيغرَم عند الشافعيّ، والجمهور. وَقَالَ بعض السلف: لا يلزمه شيء. وَقَالَ أحمد: إذا لم يكن عَلَى البستان حائط، جاز له الأكل منْ الفاكهة الرطبة، فِي أصح الروايتين، ولو لم يحتج لذلك، وفي الأخرى إذا احتاج، ولا ضمان عليه فِي الحالين، وعَلَّق الشافعيّ القول بذلك عَلَى صحة الْحَدِيث، قَالَ البيهقي: يعني حديث ابن عمر مرفوعا: "إذا مر أحدكم بحائط، فليأكل، ولا يتخذ خبيئة"، أخرجه الترمذيّ، واستغربه، قَالَ البيهقي: لم يصح، وجاء منْ أوجه أخر غير قوية.
قَالَ الحافظ: والحق أن مجموعها لا يقصر عن درجة الصحيح، وَقَدْ احتجوا فِي كثير منْ الأحكام بما هو دونها، وَقَدْ بينت ذلك فِي كتابي "المنحة فيما علق الشافعيّ القول به عَلَى الصحة". انتهى "فتح" 5/ 376 - 577. "كتاب اللقطة" رقم 2435.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الأرجح القول بجواز الأكل بغير ضمان، مطلقًا، سواء أذن صاحبه، أم لا؛ لصحّة الأحاديث بذلك، كما حقّقه الحافظ رحمه الله تعالى فِي كلامه المذكور آنفًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي تضمين منْ سرق منْ الثمر المعلّق مثليه:
ذهب الإمامان: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه رحمهما الله تعالى إلى أن منْ سرق منْ الثمر المعلق، فعليه غرامة مثليه؛ لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما المذكور فِي الباب، قَالَ أحمد رحمه الله تعالى: لا أعلم سببا يدفعه. وذهب أكثر الفقهاء إلى أنه لا يجب فيه أكثر منْ مثله، قَالَ ابن عبد البرّ: لا أعلم أحدا منْ
الفقهاء قَالَ بوجوب غرامة مثليه، قَالَ الموفق: واعتذر بعض أصحاب الشافعيّ عن هَذَا الخبر، بأنه كَانَ حين كانت العقوبة فِي الأموال، ثم نسخ ذلك.
قَالَ: ولنا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو حجة، لا تجوز مخالفته، إلا بمعارضة مثله، أو أقوى منه، وهذا الذي اعتذر به هَذَا القائل، دعوى للنسخ بالاحتمال، منْ غير دليل عليه، وهو فاسد بالإجماع، ثم هو فاسد منْ وجه آخر؛ لقوله:"ومن سرق منه شيئا بعد أن يُؤيه الجرين، فبلغ ثمن المجن فعليه القطع"، فقد بَيَّن وجوب القطع، مع إيجاب غرامة مثليه، وهذا يبطل ما قاله، وَقَدْ احتج أحمد بأن عمر أغرم حاطب بن أبي بَلْتَعَة حين انتحر غلمانه ناقة رجل منْ مزينة، مثلي قيمتها، ورَوَى الأثرم الحديثين فِي "سننه"
(1)
قَالَ أصحابنا -أي الحنبليّة-: وفي الماشية تُسرق منْ المرعى، منْ غير أن تكون محرزة مثلا قيمتها؛ للحديث، وهو ما جاء فِي سياق حديث عمرو بن شعيب: أن السائل قَالَ: الشاة الْحَرِيسة منهن يا نبي الله؟ قَالَ: "ثمنها ومثله معه، والنَّكَال، وما كَانَ فِي الْمَرَاح ففيه القطع، إذا كَانَ ما يأخذه منْ ذلك ثمن المجن"، هَذَا لفظ رواية ابن ماجه، وما عدا هذين لا يُغَرَّم بأكثر منْ قيمته، أو مثله، إن كَانَ مثليا، هَذَا قول أصحابنا وغيرهم، إلا أبا بكر، فإنه ذهب إلى إيجاب غرامة المسروق، منْ غير حرز، بمثليه؛ قياسا عَلَى الثمر المعلق، وحَرِيسة الجَبَل؛ استدلالا بحديث حاطب.
ولنا أن الأصل وجوب غرامة المثلي بمثله، والمتقوم بقيمته، بدليل المتلف، والمغصوب، والمنتهب، والمختلس، وسائر ما تجب غرامته، خولف فِي هذين الموضعين؛ للأثر، ففيما عداه يبقى عَلَى الأصل. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله تعالى "المغني" 12/ 438 - 439.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قرر به ابن قُدامة مذهب الحنابلة، منْ تغريم المثلين هو الحقّ، وَقَدْ استوفيت فِي "كتاب الزكاة" فِي "باب عقوبة مانع الزكاة" بيان مذاهب العلماء، وتحقيقها بأدلّتها، وترجيح الراجح منها.
وخلاصة ما قلته هناك أن قول الجمهور بعدم مشروعيّة العقوبة بالمال مطلقا حَتَّى فِي المواضع التي صحّت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مثل حديث الباب، محتجّين بالنصوص العامة المحرّمة لمال المسلم، فغير مقبول؛ لأن حرمة مال المسلم مشروط بقوله صلى الله عليه وسلم:"إلا بحقّه"، وما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم كحديث الباب، فإنه منْ حقّه، فلا تتناوله نصوص التحريم، وكذلك القول بجوز العقوبة به مطلقًا، كما يقول الآخرون، فمما لا يُلتفت إليه؛ لقوّة
(1)
وأخرجه البيهقيّ فِي "السنن الكبرى" 8/ 238 - 239.
نصوص تحريم مال المسلم إلا بحقّه، فما لم يصحّ عنه صلى الله عليه وسلم لا يجوز استعمال القياس فيه؛ لتلك النصوص، فالقياس مع النصّ باطل، وما صحّ عنه استثناؤه، فالعمل به واجب، فتبصّر، ولا تتحيّر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4961 -
(قَالَ الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، وَهِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَجُلاً مِنْ مُزَيْنَةَ، أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَرَى فِي حَرِيسَةِ الْجَبَلِ، فَقَالَ: "هِيَ وَمِثْلُهَا، وَالنَّكَالُ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَاشِيَةِ قَطْعٌ، إِلاَّ فِيمَا آوَاهُ الْمُرَاحُ، فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ، فَفِيهِ قَطْعُ الْيَدِ، وَمَا لَمْ يَبْلُغْ ثَمَنَ الْمِجَنِّ، فَفِيهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ، وَجَلَدَاتُ نَكَالٍ"، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَرَى فِي الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ؟ قَالَ: "هُوَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ، وَالنَّكَالُ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ قَطْعٌ، إِلاَّ فِيمَا آوَاهُ الْجَرِينُ، فَمَا أُخِذَ مِنَ الْجَرِينِ، فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ، فَفِيهِ الْقَطْعُ، وَمَا لَمْ يَبْلُغْ ثَمَنَ الْمِجَنِّ، فَفِيهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ، وَجَلَدَاتُ نَكَالٍ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "ابن وهب": هو عبد الله. و"عمرو بن الحارث": هو أبو أيوب المصريّ الثقة الثبت. و"هشام بن سعد" المدنيّ، أبو عبّاد، ويقال: أبو سعد، القرشي مولاهم، صدوقٌ، له أوهام، ورُمي بالتشيّع، منْ كبار [7].
رَوَى عن زيد بن أسلم، ونافع مولى ابن عمر، وعمرو بن شعيب، وأبي الزبير، وسعيد المقبري، وأبي حازم بن دينار، وغيرهم. وعنه الليث، والثوري، ووكيع، وابن أبي فديك، وابن وهب، وابن مهدي، وأبو عامر العقدي، وغيرهم. قَالَ أبو حاتم، عن أحمد: لم يكن هشام بالحافظ. وَقَالَ عبد الله بن أحمد، عن أبيه: هشام بن سعد كذا وكذا، كَانَ يحيى بن سعيد لا يروي عنه. وَقَالَ أبو طالب، عن أحمد: ليس هو محكم الْحَدِيث. وَقَالَ حرب لم يرضه أحمد. وَقَالَ الدوري عن ابن معين: ضعيف، وداود بن قيس أحب إلي منه. وَقَالَ ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: صالح، وليس بمتروك الْحَدِيث. وَقَالَ معاوية بن صالح، عن ابن معين: ليس بذاك القوي. وَقَالَ ابن أبي مريم، عن ابن معين: ليس بشيء، كَانَ يحيى بن سعيد لا يحدث عنه. وَقَالَ العجليّ: جائز الْحَدِيث، حسن الْحَدِيث. وَقَالَ أبو زرعة: محله الصدق، وهو أحب إلي منْ ابن إسحاق. وَقَالَ أبو حاتم: يُكتب حديثه، ولا يحتج به، هو ومحمد بن إسحاق عندي واحد. وَقَالَ الآجري، عن أبي داود: هشام بن سعد أثبت النَّاس فِي زيد ابن أسلم. وَقَالَ النسائيّ: ضعيف، وَقَالَ مرة: ليس بالقوي. ورَوَى ابن عدي
أحاديث، منها حديثه عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ أفطر فِي رمضان، فَقَالَ له أعتق رقبة
…
الْحَدِيث، وَقَالَ مرة، عن الزهريّ، عن أنس، قَالَ: والروايتان جميعا خطأ، وإنما رواه الثقات عن الزهريّ، عن حميد، عن أبي هريرة، وهشام خالف فيه النَّاس، وله غير ما ذكرتُ، ومع ضعفه يكتب حديثه. وَقَالَ ابن سعد: كَانَ كثير الْحَدِيث، يُستضعف، وكان متشيعا، وَقَالَ ابن أبي شيبة، عن علي ابن المديني: صالح، وليس بالقوي. وَقَالَ الساجي: صدوقٌ، وذكره ابن الْبَرْقِيّ، فِي "باب منْ نسب إلى الضعف، ممن يكتب حديثه"، قَالَ: وَقَالَ لي ابن معين: ضعيف، حديثه مختلط. وَقَالَ الخليلي: أنكر الحفاظ حديثه فِي الْمُوَاقِعِ فِي رمضان منْ، حديث الزهريّ، عن أبي سلمة، قالوا: وإنما رواه الزهريّ عن حميد، قَالَ: ورواه وكيع عن هشام بن سعد، عن الزهريّ، عن أبي هريرة، منقطعا، قَالَ أبو زرعة الرازي: أراد وكيع الستر عَلَى هشام، بإسقاط أبي سلمة. وذكره يعقوب بن سفيان فِي "الضعفاء"، وَقَالَ الحاكم: أخرج له مسلم فِي الشواهد.
قيل: مات فِي أول خلافة المهدي، وقيل: مات سنة ستين ومائة. قَالَ الحافظ: المهدي ولي فِي أواخر سنة تسع وخمسين، فالقولان بمعنى واحد، وفي سنة تسع ذكره ابن قانع.
روى له البخاريّ فِي التعاليق، ومسلم، والأربعة، وله عند المصنّف هَذَا الْحَدِيث فقط، وَقَدْ ذكره متابعًا لعمرو بن الحارث الثقة الثبت.
وقوله: "هي ومثلها": أي يجب عليه ردّ الحريسة: أي الشاة المسروقة، وردّ مثلها معها، قَالَ فِي "النهاية": هَذَا عَلَى سبيل الوعيد، والتغليظ، لا الوجوب؛ لينتهي فاعله عنه، وإلا فلا واجب عَلَى مُتلف الشيء أكثر منْ مثله. وقيل: كَانَ فِي صدر الإسلام، تقع العقوبات فِي الأموال، ثم نُسخ. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بأنه لمجرد الوعيد، وليس لإيجاب شيء، غير صحيح، وكذا دعوى النسخ، وَقَدْ تقدّم أن الأرجح القول بظاهر الْحَدِيث، فلا تغفُل.
وقوله: "والنكال" -بفتح النون، وتخفيف الكاف-: أي العقوبة، قَالَ الفيّوميّ: نَكَل به ينكُلُ، منْ باب قتل نُكْلَة قبيحةً: أصابه بنازلة، ونكل به بالتشديد مبالغةٌ أيضًا، والاسم النَّكَال. انتهى.
وقوله: "وجَلَدات نكال": الإضافة بيانيّة، أي أنه يُضرب ضربات، هي عقوبة رادعة له.
وعبّر بجلدات، إشارةً إلى أنه لا حدّ لها، لكن لا يُتجاوز بها عشرُ جلدات؛ لما
أخرجه الشيخان منْ حديث أبي بردة رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يُجلَد فوق عشر جلدات، إلا فِي حد منْ حدود الله".
والحديث صحيحٌ، وَقَدْ سبق الكلام فيه فِي الْحَدِيث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
13 - (بَابُ مَا لَا قَطْعَ فِيهِ)
4962 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ خَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ -يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ الْعَوْصِيَّ- عَنِ الْحَسَنِ -وَهُوَ ابْنُ صَالِحٍ- عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ").
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(محمد بن خالد بن خَليّ) الْكَلاعيّ، أبو الحسين الحمصيّ، صدوقٌ [11] 7/ 1466 منْ أفراد المصنّف.
2 -
(أبوه) خالد بن خَليّ -بالمعجمة، بوزن عليّ- الْكَلَاعيّ -بفتح الكاف، وتخفيف اللام- أبو القاسم الحمصيّ القاضي، صدوقٌ [10].
روى عن بقية، ومحمد بن حرب، وسلمة بن عبد الملك العوصيّ، ومحمد بن حمير السليحيّ، وغيرهم. وعنه البخاريّ، وروى له النسائيّ بواسطة ابنه محمد، وأبو زرعة الدمشقيّ، وغيرهم. قَالَ البخاريّ: صدوقٌ. وَقَالَ النسائيّ: ليس به بأس. وَقَالَ الخليليّ: ثقة. وَقَالَ الدارقطنيّ: ليس له شيء يُنكر. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". روى له البخاريّ، والمصنّف، وله فِي هَذَا الكتاب حديثان فقط: هَذَا، وفي "كتاب الزينة" باب صفة خاتم النبيّ صلى الله عليه وسلم حديث أنس رضي الله عنه:"كَانَ خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم منْ فضّة، وكان فصّه منه".
3 -
(سلمة بن عبد الملك الْعَوْصيّ) -بمهملتين- الكلبيّ الحمصيّ، صدوقٌ، يُخالَف [9].
روى عن الحسن، وعليّ ابني صالح، والمعافى بن عمران، وإسرائيل، وعبيد الله ابن عمر، وغيرهم. وعنه ابناه عبد الله، ومحمد، وخالد بن خليّ الكلاعيّ، وأبو عُتبة أحمد بن الفرج الحجازيّ، وغيرهم. ذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: ربّما أخطأ. تفرّد به به المصنّف بالحديثين المذكورين فِي الترجمة التي قبله.
4 -
(الحسن بن صالح) أخو عليّ بن صالح، تقدّم قبل بابين.
5 -
(يحيى بن سعيد) الأنصاريّ المدنيّ القاضي، ثقة ثبت [5] 22/ 23.
6 -
(القاسم بن محمد بن أبي بكر) الصدّيق التيميّ، المدنيّ الثقة الثبت، أحد الفقهاء السبعة، منْ كبار [3] 120/ 166.
7 -
(رافع بن خَدِيج) بن عديّ الحارثيّ الأوسيّ الأنصاريّ الصحابيّ الشهير، أول مشاهده أُحُدٌ، ثم الخندق، مات رضي الله عنه سنة (3) أو (74) وقيل: قبل ذلك، تقدّم فِي 112/ 155. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:"لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ) بفتحتين، قَالَ فِي "النهاية" 1/ 221 - : الثمر الرُّطَب ما دام فِي رأس النخلة، فإذا قُطع فهو الرُّطَب، فإذا كُنِزَ فهو التمر. قَالَ: وواحد الثمر ثمرةٌ، ويقع عَلَى كلّ الثمار، ويغلب عَلَى ثمر النخل. انتهى.
وَقَدْ فُسّر الثمر هنا بما كَانَ معلّقًا بالشجر قبل أن يُجذّ، ويُحرز، قَالَ الخطّابيّ: قَالَ الشافعيّ: هو ما عُلّق بالنخل قبل جذّه، وحرزه. انتهى. وَقَدْ تقدّم بيان ذلك، وتفصيله فِي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما المذكور فِي الباب الماضي.
وقيل: المراد به أنه لا قطع فيما يتسارع إليه الفساد، ولو بعد الإحراز (وَلَا كَثَرٍ) بفتح الكاف، والمثلّثة: هو جُمّار النخل، وهو شحمه الذي فِي وسط النخلة.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حدث رافع رضي الله عنه هَذَا اختصره المصنّف رحمه الله تعالى، وفيه قصّة، وَقَدْ ساقه أبو داود رحمه الله تعالى فِي "سننه" مطوّلاً، فَقَالَ:
4380 -
حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبّان، أن عبدا سرق وَدِيًّا منْ حائط رجل، فغرسه فِي حائط سيده،
فخرج صاحب الوَدِيّ، يلتمس وديه، فوجده، فاستعدى عَلَى العبد مروان بن الحكم، وهو أمير المدينة يومئذ، فسَجَن مروان العبد، وأراد قطع يده، فانطلق سيد العبد إلى رافع بن خديج، فسأله عن ذلك؟ فأخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "لا قطع فِي
ثمر، ولا كَثَر"، فَقَالَ الرجل: إن مروان أخذ غلامي، وهو يريد قطع يده، وأنا أحب أن تمشي معي إليه، فتخبره بالذي سمعت منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمشى معه رافع بن خديج، حَتَّى أتى مروان بن الحكم، فَقَالَ له رافع: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "لا قطع فِي ثمر، ولا كثر"، فأمر مروان بالعبد، فأرسل.
زاد فِي رواية أخرى: "فجلده مروان جَلَدات، وخَلَّى سبيله".
وَقَدْ بيّن البيهقيّ فِي روايته أن السارق عبد لواسع بن حبّان، ولفظه منْ طريق حماد ابن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حَبّان، أن غلامًا لعمّه واسع بن حبّان سرق وَدِيّا منْ أرض جار له، فغرسه فِي أرضه، فرُفع إلى مروان بن الحكم، فأمر بقطعه، فأتى مولاه رافع بن خديج رضي الله عنه
…
الْحَدِيث. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث رافع بن خديج رضي الله عنه هَذَا صحيح، إلا أن هَذَا الإسناد فيه شذوذ، وذلك لأن الحسن بن صالح، خالف جمهور الحفاظ منْ أصحاب يحيى بن سعيد، -وهم يحيى القطّان، وحماد بن زيد، وأبو معاوية، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، والدراورديّ، وأبو أسامة- فَقَالَ الحسن:"عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد"، وقالوا هم:"عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبّان"، كما سيأتي بيانها فِي الروايات الآتية فِي الباب.
والحاصل أن رواية الحسن بن صالح، شاذّة، والحديث صحيحٌ بالطرق المذكورة. والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قد اختُلف فِي حديث رافع رضي الله عنه هَذَا بالوصل، والإرسال، قَالَ الإمام الترمذيّ رحمه الله تعالى فِي "الجامع" 4/ 52 بعد أن أخرج الْحَدِيث منْ طريق الليث ابن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حَبان: ما نصّه: قَالَ أبو عيسى: هكذا روى بعضهم، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبّان، عن عمه واسع ابن حبّان، عن رافع بن خديج، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، نحو رواية الليث بن سعد، ورَوَى مالك ابن أنس، وغير واحد هَذَا الْحَدِيث، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبّان، عن رافع بن خديج، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يذكروا فيه "عن واسع بن حبّان". انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الحاصل أنه أرسله يحيى القطّان، وحمّاد بن زيد،
وأبو معاوية، والثوريّ فِي رواية مخلد، وأبي نعيم عنه، وكلها ستأتي فِي هَذَا الباب، ومالك فِي "الموطإ" 2/ 839 كلهم عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حَبّان، عن رافع بن خديج رضي الله عنه.
ووصله الليث بن سعد، كما سيأتي هنا 4969 - وابن عيينة عند الحميدي فِي "مسنده" 407 - وابن حبّان 4466 وابن الجارود 826 - والبيهقيّ 8/ 263، وغيرهم، والثوريّ منْ رواية وكيع عنه، كما سيأتي فِي 4968، ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حَبان، عن عمه واسع بن حبّان.
وجمهور أهل الْحَدِيث فِي مثل هَذَا عَلَى ترجيح الوصل عَلَى الإرسال؛ لأنه منْ رواية هؤلاء الثقات الحفاظ، وعندهم زيادة علم عَلَى الذين أرسلوا، فتقدّم روايتهم.
قَالَ فِي "التلخيص الحبير" 4/ 121: قَالَ الطحاويّ رحمه الله تعالى: هَذَا الْحَدِيث تلقّت العلماء متنه بالقبول. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -13/ 4962 و4963 و4964 و4965 و4966 و4967 و4968 و4969 و49670 و4971 و4972 - وفي "الكبرى" 22/ 7448 و7449 و7450 و7451 و7452 و7453 و7454 و7455 و7456 و7457 و7458 و7459 و7460. وأخرجه (د) فِي "الحدود" 4388 (ت) فِي "الحدود" 1449 (ق) فِي "الحدود" 2593 (أحمد) فِي "مسند المكيين" 15377 و15387 و"مسند الشاميين" 16809و16830 (الموطا) فِي "الحدود" 1583 (الدارمي) فِي "الحدود" 2202 و2203 و2204 و2205 و2206. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي قطع منْ سرق ثمرًا، أو كَثَرًا:
ذهب أكثر الفقهاء إلى أنه لا قطع فِي الثمر فِي البستان قبل إدخاله الحرز، وكذلك الكثر المأخوذ منْ النخل، وهو جُمّار النخل، رُوي معنى هَذَا القول عن ابن عمر، وبه قَالَ عطاء، ومالك، والثوري، والشافعي، وأحمد، وأصحاب الرأي. وَقَالَ أبو ثور: إن كَانَ ثمرًا، أو بستانًا مُحْرزًا، ففيه القطع، وبه قَالَ ابن المنذر، إن لم يصح خبر رافع، قَالَ: ولا أحسبه ثابتا، واحتجا بظاهر الآية، وبقياسه عَلَى سائر المحرزات.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الْحَدِيث ثابتٌ، كما تقدّم فِي المسألة الأولى، واحتجّ به الأوّلون، وبحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه سئل عن الثمر المعلق؟، فَقَالَ: "منْ أصاب بفيه منْ ذي حاجة،
غير متخذ خبنة، فلا شيء عليه
…
الْحَدِيث، وهو أيضًا حديث صحيح، كما سبق بيانه فِي الباب الماضي.
قَالَ الإمام ابن حبّان رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" 10/ 318 رقم 4466 - بعد أن أخرج الْحَدِيث-: ما نصّه: عموم الخطاب فِي الكتاب قوله جلّ وعلا: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، فأمر بقصع السارق، إذا ما سرق، ثم فسرته السنّة بأن لا قطع عَلَى سارق الثمر، ولا الكثر، وأن لا قطع إلا فِي ربع دينار، فكان المراد منْ الخطاب، منْ الكتاب، فاقطعوا أيديهما إذا سرق ربع دينار، وما يقوم مقامه، سوى الثمر، والكثر. انتهى كلامه.
والحاصل أن ما قاله أكثر الفقهاء، منْ عدم قطع سارق الثمر، والْكَثَر، حَتَّى يؤويه الجرين، هو الحق؛ لصحّة الأحاديث بذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والماب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4963 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الْقَطَّانَ، يَقُولُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمرو بن عليّ": هو الفلّاس. و"يحيى بن سعيد": هو الأنصاريّ. و"محمد بن يحيى بن حَبّان -بفتح الحاء المهملة، وتشديد الموحّدة-: هو الأنصاريّ المدنيّ، ثقة فقيه [4] 22/ 23.
والحديث منقطع؛ لأن محمد بن يحيى لم يلق رافعًا رضي الله عنه، لكن تقدّم أنه موصول منْ طرق أخرى ستأتي قريبًا، وهي أرجح، فالحديث صحيح. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4964 -
(أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "يحيى بن حبيب بن عربيّ": هو البصريّ الثقة [10] 60/ 75. و"حمّاد": هو ابن زيد الثقة الثبت الحجة [8] و"يحيى": هو ابن سعيد الأنصاريّ المذكور قبله. والحديث منقطع أيضًا، لكن متنه صحيحٌ؛ لما سبق بيانه فيما قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4965 -
(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلاَّمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عبد الرحمن بن محمد بن سلّام": تقدّم قبل بابين. و"أبو معاوية": هو محمد بن خازم الضرير الكوفيّ الثقة. والحديث فيه انقطاع، لكنه صحيح، كما بيّناه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4966 -
(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَخْلَدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عبد الحميد بن محمد"، و"مخلد" بن يزيد تقدّما أيضًا قبل بابين. و"سفيان": هو الثوريّ. و"يحيى": هو الأنصاريّ.
والحديث فيه انقطاعٌ، لكنه صحيح، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4967 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن إسماعيل": هو المعروف أبوه بابن عُليّة. و"أبو نُعيم": هو الفضل بن دُكين. والباقون هم المذكورون فيما قبله. والحديث فيه انقطاعٌ، لكنه صحيح، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4968 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ -هُوَ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ عَمِّهِ وَاسِعٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أحمد بن محمد بن عُبيد الله بن أَبي رجاء": هو الثَّغْريّ، أبو جعفر النجّار الطَّرَسُوسيّ، صدوقٌ [11] 49/ 1737 منْ أفراد المصنّف. و"وكيع": هو ابن الجَرّاح. و"واسع بن حبّان" -بفتح المهملة، وتشديد الموحّدة- ابن مُنقذ بن عمرو الأنصاريّ المازنيّ المدنيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ عَلَى الصحيح، وقيل: بل هو تابعيّ ثقة تقدّم فِي 22/ 23.
والباقون هم المذكورون فيما قبله. وهذا الطريق موصول، وهو الذي تقدّم أنه الأرجح، والحديث به صحيح. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4969 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ عَمِّهِ، أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ، وَلَا كَثَرٍ"، وَالْكَثَرُ الْجُمَّارُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الليث": هو ابن سعد الإمام الحجة الفقيه المصريّ. وعم يحيى: هو واسع المذكور فِي السند الماضي.
وقوله: "والكثر الجمّار": الظاهر أنه مدرج، منْ تفسير بعض الرواة.
وهذا السند أيضًا موصول، كسابقه، فالحديث صحيح به أيضًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4970 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ أَبِي مَيْمُونٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ، وَلَا كَثَرٍ".
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا خَطَأٌ، أَبُو مَيْمُونٍ لَا أَعْرِفُهُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن عليّ بن ميمون": هو الرَّقّيّ، أبو العبّاس العطّار، ثقة [11] 14/ 418 منْ أفراد المصنّف.
و"سعيد بن منصور" بن شعبة، أبو عثمان الْخُراسانيّ، المروزي، ويقال: الطالقاني، يقال: وُلد بجوزجان، ونشأ ببلخ، وطاف البلاد، وسكن مكة، ومات بها، ثقة، مصنّفٌ، وكان لا يرجع عما فِي كتابه؛ لشدّة وثوقه به [10].
رَوَى عن مالك، وحماد بن زيد، وأبي قدامة الحارث بن عبيد، وداود بن عبد الرحمن، وابن أبي الزناد، وأبي شهاب، عبد ربه بن نافع، وابن أبي حازم، والداروردي، وفليح، وجماعة. ورَوى عنه مسلم، وأبو داود، والباقون بواسطة يحيى ابن موسى، خَتّ، وأبي ثور، وعبد الله الدارمي، ومحمد بن علي بن ميمون الرَّقّيّ، والعباس بن عبد الله السنديّ، وعمر بن منصور النسائيّ، والذهلي، وأبو حاتم، وأبو بكر الأثرم، وحرب الكرماني، وأحمد بن حنبل حدث عنه، وهو حي، والحسن بن محمد الزعفراني، وأبو زرعة الرازي، والدمشقي، ومحمد بن علي بن زيد الصائغ، وأحمد بن نجدة بن الْعُريان، وهما راويا "كتاب السنن" عنه، وبشر بن موسى، وأحمد ابن خُليد الحلبي، وطائفة.
قَالَ حرب: سمعت أحمد، يحسن الثناء عليه. وَقَالَ سلمة بن شبيب: ذكرته لأحمد، فأحسن الثناء عليه، وفَخَّم أمره. وَقَالَ حنبل، عن أحمد: هو منْ أهل الفضل والصدق. وَقَالَ ابن نمير، وابن خراش: ثقة. وَقَالَ أبو حاتم: ثقة، منْ المتقنين الأثبات، ممن جمع، وصنَّف، وكان محمد بن عبد الرحيم: إذا حدث عنه، أثنى عليه، وكان يقول: حدثنا سعيد، وكان ثبتا. وَقَالَ أبو زرعة الدمشقي: أخبرني أحمد بن صالح، وعبد الرحمن بن إبراهيم، أنهما حضرا يحيى بن حسان، يقدمه، ويرى له حفظه، وكان حافظا. وَقَالَ الحاكم: سكن مكة مجاورا، وكان راوية ابن عيينة، وأحد أئمة الْحَدِيث، له مصنفات. وَقَالَ حرب: كتبت عنه سنة، أملى علينا نحوا منْ عشرة آلاف حديث، منْ حفظه، ثم صنف بعد ذلك. وَقَالَ يعقوب بن سفيان: كَانَ إذا رأى فِي كتابه خطأ، لم يرجع عنه. قَالَ ابن سعد، وغيره: مات سنة سبع وعشرين ومائتين، زاد ابن يونس: فِي شهر رمضان. وَقَالَ أبو زرعة الدمشقي: سنة (6)، وَقَالَ غيره: سنة (8)، وَقَالَ موسى بن هارون: سنة (9)، والصحيح الأول. وَقَالَ ابن يونس: مات بمصر، حَكَى فِي "تهذيب الكمال" عن ابن يونس، مع ابن سعد، وغيرهما: أنه مات بمكة. وَقَالَ البخاريّ فِي "تاريخه": مات سنة (29) أو نحوها، بمكة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: كَانَ ممن جمع، وصنف، وكان منْ المتقنين الأثبات. وَقَالَ ابن قانع: ثقة ثبت. وَقَالَ الخليلي: ثقة متَّفقٌ عليه. ووثقه أيضًا مسلمة بن قاسم. وَقَالَ يعقوب بن سفيان: كَانَ سعيد، وهو بمكة يقول: لا تسألوني عن حديث حماد بن زيد، فإن أبا أيوب -يعني سليمان بن حرب- يجعلنا عَلَى طبق، لا تسألوني عن حديث بن عيينة، فإن هَذَا الحميدي يجعلنا عَلَى طبق. روى له الجماعة، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.
و"عبد العزيز بن محمد": هو الدَّرَاورديّ، أبو محمد الجُهَنيّ مولاهم، المدنيّ، صدوقٌ، كَانَ يُحدّث منْ كتب غيره، فيُخطىء [8] 84/ 101.
و"أبو ميمون": مجهول [4] تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث، وَقَالَ: لا أعرفه.
وقوله: "خطأ": أي لأن المعروف منْ رواية الحفاظ الأثبات، أنه عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى، عن عمه واسع بن حَبّان، عن رافع رضي الله عنه، كما هو رواية الليث، والثوريّ المذكورين قبله، وعن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبّان، عن رافع رضي الله عنه، كما هو رواية الآخرين.
والحديث صحيحٌ بالطرق الماضية، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4971 -
(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الحسين بن منصور": هو السلميّ، أبو عليّ النيسابوريّ، ثقة، فقيه [10] 25/ 1664 منْ أفراد البخاريّ، والمصنّف. و"أبو أُسامة": هو حمّاد بن أُسامة الكوفيّ الثقة الحافظ [9].
والحديث فِي سنده مجهول، لكنه صحيح، بما سبق منْ الأسانيد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4972 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّ رَجُلاً مِنْ قَوْمِهِ، حَدَّثَهُ عَنْ عَمٍّ لَهُ، أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمرو بن عليّ": هو الفلّاس. و"بشر": هو ابن الْمُفَضَّل بن لاحق، أبو إسماعيل الرَّقَاشيّ البصريّ، ثقة ثبت عابدٌ [8] 66/ 82.
وقوله: "أن رجلاً منْ قومه": هو محمد بن يحيى بن حبّان، وعمه: هو واسع بن حَبّان، كما بُيّن فِي الروايات السابقة.
[تنبيه]: وقع فِي جميع النسخ، منْ "المجتبى"، و"الكبرى":"عن عمة له"، وهو غلطٌ فاحشٌ، والصواب:"عن عمّ له"، كما هو فِي "تحفة الأشراف" 3/ 16. والحديث صحيح بما سبق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4973 -
(أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ مَخْلَدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ، وَلَا مُنْتَهِبٍ، وَلَا مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ"، لَمْ يَسْمَعْهُ سُفْيَانُ، مِنْ أَبِي الزُّبَيْرِ).
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(عبد الله بن عبد الصمد بن عليّ) الأسديّ الْمَوْصليّ، صدوقٌ [11] 19/ 1655.
2 -
(مخلد) بن يزيد القرشيّ الْحَرّانيّ، صدوقٌ، له أوهامٌ، منْ كبار [9] 141/ 222.
3 -
(سفيان) بن سعيد الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة ثبت حجة [7] 33/ 37.
4 -
(أبو الزبير) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، صدوقٌ، يدلّس [4] 31/ 35.
5 -
(جابر) بن عبد الله بن عمرو بن حرام الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما 31/ 35. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله تعالى عنه منْ المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ جَابِر) بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ) هو الآخذ مما فِي يده منْ الأمانة. قَالَ المجد فِي "القاموس": الْخَوْنُ: أن يؤتمن الإنسان، فلا يَنصَحَ، خانه خَوْنًا، وخِيانة، وخَانَةً، ومَخَانةً، واختانه، فهو خائنٌ، وخائنةٌ، وخَؤُونٌ، وخَوَّانٌ، جمعه خانَةٌ، وخَوَنَةٌ، وخُوّانٌ. انتهى.
وَقَالَ فِي "المرقاة": الخيانة: أن يؤتمن عَلَى شيء بطريق العارية، أو الوديعة، فيأخذه، ويدّعي ضَيَاعه، أو يُنكر أنه كَانَ عنده وديعةٌ، أو عاريةٌ. انتهى.
وَقَالَ الفيّوميّ: فرّقوا بين الخائن، والسارق، والغاصب، بأن الخائن هو الذي خان ما جُعِل عليه أمينًا، والسارق: منْ أخذ خُفْيةً منْ موضع كَانَ ممنوعًا منْ الوصول إليه، وربّما قيل: كلُّ سارق خائنٌ، دون عكسٍ، والغاصب: منْ أخذ جهرًا، معتمدًا عَلَى قُوّته. انتهى.
(وَلَا مُنْتَهِبٍ) اسم فاعل منْ الانتهاب، افتعالٌ، منْ النَّهْبِ، وهو أخذ المال عَلَى وجه الغلبة، والقهر، يقال: نهبته نَهْبًا، منْ باب نفع، وانتهبته انتهابًا، فهو منهوبٌ، والنُّهْبة، مثالُ غُرْفة، والنُّهْبَى بزيادة ألف التأنيث: اسم للمنهوب، ويتعدّى بالهمزة إلى ثانٍ، فيقال: أنهبتُ زيدًا المالَ، ويقال أيضًا: أنهبت المالَ إنهابًا: إذا جعلتَهُ نَهْبًا، يُغارُ عليه، وهذا زمان النَّهْب: أي الانتهاب، وهو الغلبة عَلَى المال، والقهرُ. قاله الفيّوميّ (وَلَا مُخْتَلِسٍ) اسم فاعل منْ الاختلاس، وهو أخذ الشيء بسرعة عَلَى غفلة، قَالَ الفيّوميّ: خَلَستُ الشيءَ خَلْسَةً، منْ باب ضرب: اختطفته بسرعة عَلَى غفلة، واختلسته كذلك، والْخَلْسةُ بالفتح: المرّة، والْخُلْسَة بالضمّ: ما يُخْلَسُ، ومنه:"لا قَطْعَ فِي الْخُلْسَة". انتهى (قَطْعٌ) بالرفع اسم "ليس" مؤخّرًا.
قَالَ القاضي عياض رحمه الله تعالى: شرع الله تعالى إيجاب القطع عَلَى السرقة، ولم يجعل ذلك فِي غيرها، كالاختلاس، والانتهاب، والغصب؛ لأن ذلك قليلٌ بالنسبة إلى السرقة، ولأنه يمكن استرجاع هَذَا النوع بِاسْتِعْدَاءِ ولاة الأمور، ويسهُلُ إقامة البينة عليه، بخلافها، فيعظم أمرها، واشتدّت عقوبتها؛ لتكون أبلغ فِي الزجر عنها. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث جابر رضي الله عنه هَذَا صحيح.
[تنبيه]: قد أعل المصنّف رحمه الله تعالى وغيره هَذَا الْحَدِيث بعدم سماع سفيان، وابن جريج له منْ أبي الزبير، أما عدم سماع سفيان، فقد صرح به هنا، فَقَالَ: لم يسمعه سفيان، منْ أبي الزبير،، وأما عدم سماع ابن جريج، فسيأتي فِي الْحَدِيث التالي، وَقَدْ تكلّم فِي هَذَا أيضًا أبو داود فِي "سننه"، فَقَالَ -بعد أن أخرج الْحَدِيث منْ طريقين: طريق محمد بن بكر، وطريق عيسى بن يونس، كلاهما عن ابن جريج-: وهذان الحديثان لم يسمعهما ابن جريج، عن أبي الزبير، وبلغني عن أحمد بن حنبل، أنه قَالَ: إنما سمعهما ابن جريج منْ ياسين الزيّات. انتهى.
وَقَالَ الحافظ فِي "التلخيص" 4/ 123 - : وَقَالَ ابن أبي حاتم فِي "العلل"، عن أبيه: لم يسمعه ابن جريج، منْ أبي الزبير، إنما سمعه منْ ياسين الزيات، وهو ضعيف، وكذا قَالَ أبو داود، وزاد: وَقَدْ رواه المغيرة بن مسلم، عن أبي الزبير، عن جابر، وأسنده النسائيّ منْ حديث المغيرة -4977 - ، ورواه عن سُويد بن نصر أي فِي "الكبرى" 4/ 347 رقم 7463 - ، عن ابن المبارك، عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، وأعله ابن القطّان بأنه منْ معنعن أبي الزبير، عن جابر، وهو غير قادح، فقد أخرجه عبد الرزاق، فِي "مصنفه"، عن ابن جريج، وفيه التصريح بسماع أبي الزبير له منْ جابر، وله شاهد منْ حديث عبد الرحمن بن عوف، رواه ابن ماجه بإسناد صحيح، وآخر منْ رواية الزهريّ، عن أنس، أخرجه الطبراني فِي "الأوسط" فِي ترجمة أحمد بن القاسم، ورواه ابن الجوزي فِي "العلل" منْ حديث ابن عباس، وضعفه. انتهى كلام الحافظ.
وَقَالَ المنذري: وحديث المغيرة بن مسلم الذي ذكره أبو داود معلقا، قد أخرجه النسائيّ فِي "سننه" مسندا، وياسين الزيات، هو أبو خلف ياسين بن معاذ الكوفيّ، وأصله يمامي، لا يحتج بحديثه، والمغيرة بن مسلم، هو السراج، خراساني، كنيته أبو سلمة، قَالَ ابن معين: صالح الْحَدِيث، صدوقٌ، وَقَالَ أبو داود الطيالسي: أخبرنا المغيرة بن مسلم، وكان صدوقا مسلما، وأخرجه الترمذيّ، والنسائي، وابن ماجه، وَقَالَ الترمذيّ: حسن صحيح، ولفظ الترمذيّ، والنسائي:"ليس عَلَى خائن، ولا منتهب، ولا مختلس قطع"، ولفظ ابن ماجه فِي موضع:"منْ انتهب نهُبة مشهورة، فليس منا"، وفي موضع:"لا يقطع الخائن، ولا المنتهب، ولا المختلس".
قَالَ أبو عبد الرحمن النسائيّ: وَقَدْ رَوَى هَذَا الحديثَ عن ابن جريج عيسى بنُ
يونس، والفضل بن موسى، وابن وهب، ومحمد بن ربيعة، ومخلد بن يزيد، وسلمة ابن سعيد، فلم يقل أحد منهم فيه: حدثني أبو الزبير، ولا أحسبه سمعه منْ أبي الزبير. والله أعلم. هَذَا آخر كلامه.
وَقَدْ صححه الترمذيّ، منْ حديث ابن جريج، عن أبي الزبير، وهذا يدل عَلَى أنه تحقق اتصاله، وَقَدْ حَدَّث به عن أبي الزبير المغيرة بن مسلم، وأشار إليه أيضًا الترمذيّ، والمغيرة بن مسلم صدوقٌ. انتهى كلام المنذري.
وَقَالَ الشوكاني: وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا، ولاسيما بعد تصحيح الترمذيّ، وابن حبّان لحديث الباب. انتهى.
وَقَالَ الشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى بعد ذكر إعلال أبي داود، والنسائي المتقدّم: ما نصه: وَقَالَ ابن أبي حاتم فِي "العلل" 1/ 450 - : سألت أبي، وأبا زرعة عن حديث ابن جريج. فذكره، فقالا: لم يسمع ابن جريج هَذَا الْحَدِيث منْ أبي الزبير، يقال: إنه سمعه منْ ياسين: أنا حدثت به ابن جريج، عن أبي الزبير، فقلت لهما: ما حال ياسين؟ فقالا: ليس بقويّ.
قَالَ الشيخ الألبانيّ: ياسين الزيّات متّهم، فلا يُصدّق فِي قوله: إنه هو الذي حدث به ابن جريج، عَلَى أنه لو صُدّق فِي ذلك، فهو لا ينافي أن يكون ابن جريج سمعه بعد ذلك منْ أبي الزبير، ولولا أن ابن جريج معروف بالتدليس لم نقبل هَذَا الجزم بعدم سماعه هَذَا الْحَدِيث منْ أبي الزبير، ولكن القطع بردّ هَذَا، يحتاج إلى رواية فيها التصريح بسماعه منْ أبي الزبير، وَقَدْ وجدتها -والحمد لله- وذلك منْ طريقين:[الأولى]: قَالَ الدارميّ: أخبرنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قَالَ: أنا أبو الزبير، قَالَ جابر. [والأخرى]: قَالَ الحافظ فِي "التلخيص" 4/ 65: وراه النسائيّ عن سويد بن نصر
(1)
، عن ابن المبارك، عن ابن جريج: أخبرني أبو الزبير.
قَالَ: فهذان إسنادان صحيحان إلى ابن جريج بتصريحه بالتحديث، فزالت شبهة تدليسه، وطاح بذلك الجزم بأنه لم يسمعه منْ أبي الزبير، عَلَى أنه لم يتفرّد به ابن جريج، فقد تابعه سفيان الثوريّ عن أبي الزبير به، أخرجه النسائيّ 4973 - وابن حبّان 4458 والخطيب البغداديّ فِي "تاريخه" 9/ 135 منْ طرق به، لكن قَالَ النسائيّ عقبه: لم يسمعه سفيان منْ أبي الزبير، ثم ساق منْ طريق أبي داود الْحَفَريّ، عن سفيان، عن ابن جريج، عن أبي الزبير
…
(1)
رواية النسائيّ ليست عن سُوَيد، وإنما هي عن محمد بن حاتم، عن سُوَيد. راجع "الكبرى" جـ 4 ص 347 رقم 7463. فتنبّه
قَالَ الشيخ الألباني: الرواية الأولى عن سفيان أصحّ عندي؛ لأنه اتّفق عليها الجماعة، وهم: مخلد، وهو ابن يزيد الْحَرّانيّ عند النسائيّ 4973 ومؤمّل بن إسماعيل عند ابن حبّان 4458 وخالد بن يزيد عند الخطيب، والأول ثقة منْ رجال الشيخين، والثاني صدوقٌ، سيّىء الحفظ، والثالث مقبول عند الحافظ، فالقلب إلى ما اجتمع عليه هولاء أميل. والله أعلم.
وتابعه أيضًا المغيرة بن مسلم، كما سبق عند أبي داود معلّقًا، وَقَدْ وصله النسائيّ 4977 والطحاويّ، والبيهقيّ منْ طريق شبابة بن سَوّار، قَالَ: ثنا المغيرة بن مسلم، عن أبي الزبير، عن جابر. والمغيرة بن مسلم صدوقٌ، قاله ابن معين وغيره، كما فِي "نصب الراية" 3/ 364 وجزم به الحافظ فِي "التقريب".
فقد صحّ بما تقدّم السند إلى أبي الزبير، وبقي النظر فِي عنعنته أيضًا، فإنه مدلّس، وبذلك أعلّه ابن القطّان، وتعقبه الحافظ بقوله: وهو غير قادح، فقد أخرجه عبد الرزّاق فِي "مصنّفه" عن ابن جريج، وفيه التصريح بسماع أبي الزبير له منْ جابر (1).
قَالَ: وجواب آخر، وهو أن أبا الزبير قد توبع، فإن ابن حبّان قد قرن معه عمرو بن دينار، منْ طريق مؤمل بن إهاب، حدّثنا عبد الرزّاق، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، وعمرو بن دينار- عن جابر. وهذا إسناد جيد، وبه يزول ما أُعلّ به هَذَا الْحَدِيث، وتثبت صحّته، والله وليّ التوفيق.
ولبعضه شاهد منْ حديث عبد الرحمن بن عوف، مرفوعًا بلفظ:"ليس عَلَى المختلس قطعٌ"، أخرجه ابن ماجه 2592. وإسناده صحيح، كما قَالَ الحافظ، ورجاله ثقات، رجال الشيخين، غير محمد بن عاصم بن جعفر المصريّ، وهو ثقة.
وله شاهد تامّ، منْ حديث أنس بن مالك، مرفوعًا به مثل لفظ الترمذيّ المتقدّم، أخرجه الطبرانيّ فِي "الأوسط": حدّثنا أحمد بن القاسم بن المساور، ثنا أبو معمر إسماعيل بن إبراهيم، قَالَ: أملى عليّ عبد الله بن وهب منْ حفظه، عن يونس، عن الزهريّ، عن أنس به، وَقَالَ: لم يروه عن الزهريّ إلا يونس، ولا عن يونس إلا ابن وهب، تفرّد به أبو معمر. كذا فِي "نصب الراية". قَالَ: وهو ثقة منْ رجال الشيخين، وكذلكِ منْ فوقه، وابن المساور ثقة، فالسند صحيح، وسكت عنه الحافظ. انتهى كلام الشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى "إرواء الغليل" 8/ 63 - 65.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا البحث الذي حقّقه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى بحث نفيسٌ جدًّا.
وخلاصته أن العلل التي أثيرت فِي حديث جابر رضي الله عنه عنه هَذَا قد زالت، وصح
الْحَدِيث، فالحمد للَّه تعالى أوّلاً وآخرًا. والله تعالى أعلم بالصواب.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -13/ 4973 و4974 و4975 و4976 و4977 و4978 - وفي "الكبرى" 23/ 7461 و7462 و7463 و7464 و7465 و7466 و7468 و7469. وأخرجه (د) فِي "الحدود" 4391 (ت) فِي "الحدود" 1448 (ق) فِي "الحدود" 2591 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 14652 (الدارمي) فِي "الحدود" 2207. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان ما لا قطع فيه، ففيه أنه لا قطع عَلَى خائن، ولا عَلَى منتهب، ولا عَلَى مختلس، قَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى: فإن اختطف، أو اختلس، لم يكن سارقًا، ولا قطع عليه عند أحد علمناه، غير إياس بن معاوية، قَالَ: أقطع المختلس؛ لأنه يستخفي بأخذه، فيكون سارقًا، وأهل الفقه، والفتوى منْ علماء الأمصار عَلَى خلافه. انتهى "المغني" 12/ 416.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الحاصل أن جمهور أهل العلم عَلَى أنه لا يقطع الخائن، والمنتهب، والمختلس، وهو الحقّ؛ لصحّة حديث الباب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله: (لَمْ يَسْمَعْهُ سُفْيَانُ) أي الثوريّ (مِنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) ولفظ "الكبرى": "قَالَ أبو عبد الرحمن: لم يسمعه سفيان الخ"، وأشار به إلى أن هَذَا السند فيه انقطاع، وذلك؛ لأن سفيان لم يسمعه منْ أبي الزبير، بل بينه وبينه واسطة، وهو ابن جريج، كما بين ذلك بقوله:
4974 -
(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ، وَلَا مُنْتَهِبٍ، وَلَا مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ".
وَلَمْ يَسْمَعْهُ أَيْضًا ابْنُ جُرَيْجٍ مِنْ أَبِي الزُّبَيْرِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عَنه: "أبو داود الْحَفَري" -بفتح الحاء المهملة، والفاء-: نسبة إلى موضع بالكوفة، واسمه عُمَر بن سَعْد بن عُبيد الكوفيّ، ثقة عابدٌ [9] 15/ 523. والحديث صحيح، كما سبق.
وقوله: (وَلَمْ يَسْمَعْهُ أَيْضًا ابْنُ جُرَيْجٍ مِنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) أشار به إلى انقطاع آخر، وهو أن ابن جريج لم يسمعه منْ أبي الزبير، بل بينه وبينه واسطة، كما أشار إلى ذلك بقوله:
4975 -
(أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ حَجَّاجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ عَلَى الْمُخْتَلِسِ قَطْعٌ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "إبراهيم بن الحسن": هو أبو إسحاق المِصِّيصيّ الْمِقْسميّ، ثقة [11] 51/ 64. و"حجّاج": هو ابن محمد الأعور المِصّيصيّ.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وجه استدلال المصنّف رحمه الله تعالى بهذه الرواية عَلَى عدم سماع ابن جريج منْ أبي الزبير أنه لَمّا قَالَ: "قَالَ أبو الزبير الخ"، وهو معروفٌ بالتدليس احتمل أن يكون مما سمعه منْ غيره، لكن فِي هَذَا الاستدلال نظرٌ منْ وجهين:
[الأول]: أن هَذَا احتمال، وهو لا يدلّ عَلَى الجزم بعدم سماعه. [الثاني]: أنه ثبت تصريحه بالسماع، كما سبق.
والحاصل أن الراجح سماع ابن جريج هَذَا الْحَدِيث منْ أبي الزبير. والله تعالى أعلم.
والحديث صحيح، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4976 -
(أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ حَجَّاجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: قَالَ جَابِرٌ: "لَيْسَ عَلَى الْخَائِنِ قَطْعٌ".
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عِيسَى بْنُ يُونُسَ، وَالْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، وَابْنُ وَهْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَمَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ، وَسَلَمَةُ بْنُ سَعِيدٍ -بَصْرِيٌّ ثِقَةٌ، قَالَ ابْنُ أَبِي صَفْوَانَ: وَكَانَ خَيْرَ أَهْلِ زَمَانِهِ- فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ: "حَدَّثَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ"، وَلَا أَحْسَبُهُ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا أورد فِي نسخ "المجتبى" هَذَا الْحَدِيث موقوفًا، وأورده فِي "الكبرى" مرفوعًا، ولفظه:"قَالَ جابر: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس عَلَى الخائن قطعٌ".
والظاهر أن ما فِي "الكبرى" هو الصواب، والله تعالى أعلم.
وقوله: (قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أي النسائيّ (وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ) بالنصب عَلَى أنه مفعول مقدّم، والفاعل "عيسى"، وما عطف عليه (عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السبيعيّ الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقة مأمون [8] 8/ 8 (وَالْفَضْلُ بْنُ مُوسَى) السِّينانيّ المروزيّ الثقة الثبت، منْ كبار [9] 83/ 100 (و) عبد الله (ابْنُ وَهْبٍ) القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ الفقيه الثقة الحافظ العابد [9] 9/ 9 (وَمُحَمَّدُ بْنُ
رَبيعَةَ) الكلابيّ الكوفيّ، ابن عمّ وكيع، صدوقٌ [9] 4/ 1453 (وَمَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ) القَرشيّ الْحَرّانيّ، صدوقٌ، له أوهامٌ، منْ كبار [9] 141/ 222 (وَسَلَمَةُ بْنُ سَعِيدٍ) بن عطيّة، ويقال: ابن عطاء البصريّ، رَوَى عن معمر، وابن جريج، وخالد بن أبي عمران. وروى عنه الحباب بن محمد الْجُمَحيّ، ومحمد بن عثمان بن أبي صفوان الثقفيّ، وَقَالَ: كَانَ خير أهل زمانه. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ فِي "التقريب": صدوقٌ منْ التاسعة، ذكره المصنّف هنا، وله فِي "كتاب الاستعاذة" - "باب الاستعاذة منْ المغرم والمأثم" 9/ 5457 حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما يتعوّذ منْ المأثم
…
الْحَدِيث. وقوله (بَصْرِيٌّ ثِقَةٌ) خبر لمحذوف: أي هو بصريّ ثقة، يعني أن سلمة بن سعيد منْ أهل البصرة، وهو ثقة عند أهل الْحَدِيث (قَالَ ابْنُ أَبِي صَفْوَانَ) هو محمد بن عثمان بن أبي صفوان الثقفيّ، ثقة [11] 10/ 468 (وَكانَ) أي سلمة بن سعيد (خَيْرَ أَهْلِ زَمَانِهِ) أراد المصنّف بهذا إثبات كون سلمة ثقة (فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ) أي منْ هؤلاء الستّة (حَدَّثَنِي أَبُو الزُّبَيرِ) غرض المصنّف رحمه الله تعالى بهذا تقوية عدم سماع ابن جريج هَذَا الْحَدِيث منْ أبي الزبير، كما أكّد ذلك بقوله (وَلَا أَحْسَبُهُ) بفتح السين، وكسرها (سَمِعَهُ مِنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) أي لا أظنّ ابن جريج سمع هَذَا الْحَدِيث منْ أبي الزبير (وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ).
وحاصل ما أشار إليه فِي كلامه هَذَا أنه ينفي سماع ابن جريج منْ أبي الزبير هَذَا الْحَدِيث؛ لعدم تصريح هؤلاء بتحديث أبي الزير لابن جريج، لكن قد عرفت فيما سبق أن هَذَا لا يكفي لإثبات الْمُدَّعَى؛ لأن عدم تصريح هؤلاء بالتحديث لا ينفي إثبات منْ أثبته؛ فقد تقدَّم إثبات منْ أثبته ومن حفظ حجة عَلَى منْ لم يحفظ، عَلَى أنه لم ينفرد به، فقد تابعه الثوريّ، كما سبق، والمغيرة بن مسلم، كما سيأتي، وأيضًا لحديثه شواهد يصحّ بها، كما سبق بيان ذلك قريبًا، فتبصّر، ولا تتحيّر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4977 -
(أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ رَوْحٍ الدِّمَشْقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -يَعْنِي ابْنَ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوَهِبٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ عَلَى مُخْتَلِسٍ، وَلَا مُنْتَهِبٍ، وَلَا خَائِنٍ قَطْعٌ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "خالد بن رَوح" بن السَّرِيّ بن أَبي حُجَير الثقفيّ، أبو عبد الرحمن الدمشقيّ، ثقة [12].
رَوَى عن صفوان بن صالح، وسليمان بن عبد الرحمن، ويزيد بن خالد بن موهب، وغيرهم. وعنه النسائيّ، وابن جَوْصا، وأبو الميمون البجليّ، وأبو القاسم الطبرانيّ،
وغيرهم. قَالَ النسائيّ: ثقة. وَقَالَ ابن زبر، عن محمد بن يوسف الْهَرَويّ: مات سنة (280) تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.
و"يزيد بن خالد بن يزيد بن عبد الله بن موهب" -بفتح الهاء- الْحَمْدانيّ، أبو خالد الرَّمْلِيّ الزاهد، ثقة عابدٌ [10].
روى عن الليث بن سعد، ومُفضّل بن فَضَالة، وشبابة، وغيرهم. وعنه أبو داود، وخالد بن روح، وهارون بن محمد، وغيرهم. قَالَ أبو بكر بن المقرىء، عن حمزة بن أحمد بن محمد بن ضمرة السِّجْزيّ: سمعت أبي يقول: ما رأيت أحدًا منْ أهل الْحَدِيث أخشع لله منْ يزيد بن موهَب، ما حضرناه قطّ، فانتفعنا به منْ البكاء. وَقَالَ ابن قانع: صالحٌ. وَقَالَ مسلمة بن قاسم: قَالَ بقيّ بن مَخْلد: كَانَ ثقةً جدًا. وَقَالَ مسلمة: مشهورًا بكنيته. وذكره ابن حبّان فى "الثقات"، وَقَالَ: مات سنة (232) وَقَالَ ابن عساكر: ويقال: سنة ثلاث، ويقال: سنة سبع. روى له أبو داود، والمصنف، وابن ماجه، وله عند المصنّف هَذَا الْحَدِيث فقط.
و"شبابة": هو ابن سَوّار المدائنيّ، ثقة حافظ، رُمي بالإرجاء [9] 50/ 1743.
و"المغيرة بن مسلم": هو الْقَسْمَليّ، أبو سَلَمة السّرّاج المدائيّ، مروزيّ الأصل، صدوقٌ [6] 14/ 4059.
[تنبيه]: قَالَ المصنّف فِي "الكبرى" 4/ 348 رقم 7467 - : المغيرة بن مسلم ليس بالقويّ فِي أبي الزبير، وعنده غير حديث منكر. انتهى.
هكذا قَالَ المصنّف، ونحوه نقل عن ابن معين، فِي رواية ابن الجنيد عنه، انظر هامش "تهذيب الكمال" 28/ 196 - لكن الجمهور عَلَى توثيقه، فقد قَالَ أحمد: ما أرى به بأسًا، وَقَالَ الغلابيّ عن ابن معين: ثقة، وَقَالَ ابن أبي خيثمة عن ابن معين: صالح. وَقَالَ أبو حاتم: صالح الْحَدِيث، صدوقٌ. وَقَالَ الدارقطنيّ: لا بأس به. وَقَالَ أبو داود الطيالسيّ: كَانَ صدوقًا مسلمًا. وَقَالَ العجليّ: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". راجع ترجمته فِي "تهذيب الكمال" 28/ 195 - 197 و"تهذيب التهذيب" 4/ 137 - 138. و"الخلاصة" ص 385.
والحاصل أن الأكثرين عَلَى توثيقه، ولم ينفرد برواية هَذَا الْحَدِيث عن أبي الزبير، فقد تابعه عليه ابن جريج، والثوريّ، فحديثه هَذَا صحيح، فتبصّر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4978 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ أَبِي
الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ:"لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ قَطْعٌ". قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَشْعَثُ بْنُ سَوَّارٍ ضَعِيفٌ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن العلاء": هو أبو كريب الهمدنيّ الكوفيّ الثقة الحافظ أحد مشايخ الأئمة الستة [10] 95/ 117. و"أبو خالد": هو سليمان بن حيان الأزديّ الأحمر الكوفيّ، صدوقٌ يُخطىء [8] 30/ 921. و"أشعث": هو ابن سوّار الكنديّ النجار الأفرق الأثرم، صاحب التوابيت، قاضي الأهواز، ضعيف [6] 5/ 4884.
وقوله: "أشعث الخ" لفظ "الكبرى": "أشعث ضعيف، لا يُحتَجّ بحديثه".
والحديث موقوف ضعيف؛ لضعف أشعث، ومخالفته للثقات، حيث رووه مرفوعًا، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
14 - (بَابُ قَطْعِ الرِّجْلِ مِنَ السَّارِقِ بَعْدَ الْيَدِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "الرِّجْل" -بكسر الراء، وسكون الجيم. وظاهر هذه الترجمة يدلّ عَلَى أن المصنّف يرى مشروعيّة قطع الأيد والأرجل فِي السرقة، وهو مذهب الجمهور، وهو الحقّ؛ لقوة أدلّته، وسيأتي فِي المسألة الثالثة بيان مذاهب العلماء فِي ذلك، وترجيح الراجح منها، إن شاء الله تعالى.
4979 -
(أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سَلْمٍ الْمَصَاحِفِيُّ الْبَلْخِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا يُوسُفُ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أُتِيَ بِلِصٍّ، فَقَالَ:"اقْتُلُوهُ"، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا سَرَقَ، فَقَالَ:"اقْتُلُوهُ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا سَرَقَ، قَالَ:"اقْطَعُوا يَدَهُ"، قَالَ: ثُمَّ سَرَقَ، فَقُطِعَتْ رِجْلُهُ، ثُمَّ سَرَقَ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ رضى الله عنه، حَتَّى قُطِعَتْ قَوَائِمُهُ كُلُّهَا، ثُمَّ سَرَقَ أَيْضًا الْخَامِسَةَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضى الله عنه: كَانَ رَسُولُ اللَّهُ صلى الله عليه وسلم، أَعْلَمَ بِهَذَا، حِينَ قَالَ:"اقْتُلُوهُ"، ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَى فِتْيَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ؛ لِيَقْتُلُوهُ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ يُحِبُّ الإِمَارَةَ، فَقَالَ:
أَمِّرُونِي عَلَيْكُمْ، فَأَمَّرُوهُ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ إِذَا ضَرَبَ ضَرَبُوهُ، حَتَّى قَتَلُوهُ).
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(سليمان بن سَلْم) الْهَدَاديّ، أبو داود المصاحفيّ البلْخيّ، ثقة [11] 118/ 1075.
[فائدة]: "المصاحفيّ": نسبة إلى كتابة المصاحف. قاله فِي "لبّ اللباب" 2/ 259.
2 -
(النضر بن شُميل) أبو الحسن المازنيّ النحويّ البصريّ، نزيل مرو، ثقة ثبت، منْ كبار [9] 41/ 45.
3 -
(حماد) بن سلمة بن دينار البصريّ، أبو سلمة، ثقة عابد، أثبت النَّاس فِي ثابت، وتغيّر حفظه بآخره، منْ كبار [8] 181/ 288.
4 -
(يوسف) بن سعد الْجُمحيّ مولاهم، أبو يعقوب، ويقال: أبو سعد البصريّ، ويقال: هو يوسف بن مازن، وقيل: هما اثنان، ثقة [3].
رَوَى عن الحارث، ومحمد ابني حاطب الجمحي، والحسن بن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن جبير بن حية، وعبد الملك بن أبي عياش الجذامي، وعلي الأزدي. وعنه خالد الحذّاء، وداود بن أبي هند، والربيع بن صَبِيح، والقاسم بن الفضل الْحُدَاني، وحماد بن سلمة، وغيرهم.
قَالَ ابن الجنيد، عن ابن معين: يوسف بن سعد ثقة. وَقَالَ الترمذيّ: مجهول، وقيل: هو يوسف بن مازن. وَقَالَ البخاريّ: يوسف بن مازن يُعَدُّ فِي البصريين. وَقَالَ إسحاق بن منصور، عن ابن معين: يوسف بن مازن المدنيّ، روى عنه القاسم بن الفضل مشهور.
قَالَ الحافظ: وفرق البخاريّ بين يوسف بن سعد، ويوسف بن مازن، فَقَالَ فِي ابن سعد: إنه مولى ابن مظعون، وقيل: مولى ابن حاطب، وأنه روى عن عمر، وعلي، ومحمد بن حاطب، وزيد بن ثابت فِي آخرين، رَوَى عنه القاسم بن الفضل، والربيع ابن مسلم، وخالد الحذّاء، وحماد بن سلمة، وأبو بشر، وعلي بن زيد يُعَدُّ فِي البصريين، وَقَالَ فِي يوسف بن مازن الراسبي. روى عنه القاسم بن الفضل، ونوح بن قيس، يُعَدّ فِي البصريين، ولا يلزم منْ اشتراكهما فِي رواية القاسم بن الفضل، عن كل منهما، وفي كونهما بصريين أن يكونا واحدا، وَقَدْ تبع البخاريَّ ابنُ أبي حاتم فِي التفرقة بينهما، وترجم لكل منهما كما ترجم البخاريّ، وزاد فِي ابن مازن ما نقل عن يحيى بن معين، أنه مشهور، وفرق ابن حبّان بين يوسف بن سعد، شيخ الربيع بن مسلم، وذكر أنه يروي عن أبي هريرة، وبين ابن سعد، مولى محمد بن حاطب، فَقَالَ فِي "الثقات":
يوسف بن سعد، مولى ابن حاطب يروي عن زيد بن ثابت، وعنه داود بن أبي هند، وأبو بشر، قَالَ الحافظ: وعندي أنه وَهِمَ فِي جعله اثنين، ولم يتعرض ليوسف بن مازن فِي "الثقات" انتهى. تفرّد به المصنّف، والترمذيّ، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.
5 -
(الحارث بن حاطب) بن الحارث بن معمر بن حَبيب بن وهب بن حُذافة بن جمُح القرشيّ الْجُمَحيّ، هاجر أبوه إلى الحبشة، فوُلد له الحارث بها، ومحمد، قاله الزهريّ، وفي كلام مصعب ما يدل عَلَى أن الحارث وُلد قبل هجرة الحبشة، وأن الذي وُلد له فيها أخوه محمد، وذَهِلَ ابن منده، فحكى عن ابن إسحاق فيمن هاجر إلى الحبشة الحارث بن حاصب، والذي فِي "مغازي ابن إسحاق"، ومختصرها لابن هشام حاطب بن الحارث، وللحارث بن حاطب رواية عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عنه يوسف بن سعد الْجُمَحيّ، وأبو القاسم حسين بن الحارث الْجَدَليّ، استعمله ابن الزبير عَلَى مكة سنة (66). وَقَالَ مصعب الزبيريّ: استعمله مروان عَلَى المساعي -أي بالمدينة- وعمل لابنه عبد الملك عَلَى مكة، وأما ابن حبّان، فذكره فِي التابعين، فوَهِم؛ لأن نصّ حديثه:"عهِد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم". انتهى "الإصابة" 2/ 151 - 152 و"تهذيب التهذيب" 1/ 328. تفرّد به المصنّف، وأبو داود، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): اْنه مسلسل بالمدنيين. (ومنها): أن صحابيه منْ المقلّين منْ الرواية، فليس له إلا حديثان فقط، هَذَا الْحَدِيث عند المصنّف، وحديث: "عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسُك للرؤية
…
" الْحَدِيث عند أبي داود فِي "الصيام". راجع "تحفة الأشراف" 3/ 4. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنِ الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبٍ) الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما (أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أُتِيَ) بالبناء للمفَعول (بِلِصٍّ) بتثليث اللام: أي سارق (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (اقْتُلُوهُ) ولعله صلى الله عليه وسلم اطّلع عَلَى أنه لا يرتدع بقطع أطرافه، فالأولى فِي حقّه قتله مرّة واحدة (فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا سَرَقَ) أي لم يفعل ما يستحق به القتل (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (اقْتُلُوهُ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا سَرَقَ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (اقْطَعُوا يَدَهُ) أي لسرقته (قَالَ) الحارث (ثُمَّ
سَرَقَ، فَقُطِعَتْ رِجْلُهُ) هَذَا محلّ الشاهد للترجمة، ففيه أن رجل السارق يُقطع بعد يده، والظاهر أن هَذَا بعد سرقته فِي المرة الثالثة؛ لأن الثانية فيها قطع اليد اليسرى. والله تعالى أعلم (ثُمَّ سَرَقَ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، حَتَّى قُطِعَتْ قَوَائِمُهُ كُلُّهَا) المراد به يداه، ورجلاه (ثُمَّ سَرَقَ أَيْضًا الخَامِسَةَ) بالنصب: أي السرقة الخامسة (فَقَالَ أَبُو بَكْر رضي الله عنه: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَعْلَمَ بِهذَا حِينَ قَالَ: "اقتُلُوهُ) أي أمر بقتله؛ إذ لا ينفعِ فيه قطع أطرافه (ثُمَّ دَفَعَهُ) أي أبو بكر رضي الله عنه (إِلَى فِتْيَةٍ) بكسر، فسكون: جمع قِلّة لـ"فَتَى" بفتحتين، وهو الشابّ الْحَدَث، وجمع الكثرة فِتيان (مِنْ قُرَيْش؛ لِيَقْتُلُوهُ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيرِ) رضي الله تعالى عنهما (وَكَانَ يُحِبُّ الإِمَارَةَ) بكسر الهمزة، ويقال فيها: الإمرة بكسر، فسكون: وهي الولاية، يقال: أَمَرَ عَلَى القوم يأمُرُ، منْ باب قتل، فهو أميرٌ، والجمع الأمراء، ويُعَدَّى بالتضعيف، فيقال: أَمّرته تأميرًا. قاله الفيّوميّ (فَقَالَ: أَمِّرُونِي عَلَيْكُمْ) بتشديد الميم: أي اجعلوني أميرًا فِي شأن هَذَا السارق الذي أمر أبو بكر رضي الله عنه بقتله (فَأَمَّرُوهُ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ إِذَا ضَرَبَ) أي إذا ضرب عبد الله بن الزبير السارق (ضَرَبُوهُ، حَتَّى قَتَلُوهُ).
قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: سبحان منْ أجرى عَلَى لسانه صلى الله عليه وسلم ما آل إليه عاقبة أمره. والحديث يدل بظاهره عَلَى أن السارق فِي المرّة الخامسة يُقتل، وَقَدْ جاء القتل فِي المرّة الخامسة مرفوعًا عن جابر رضي الله عنه فِي أبي فى داود، والنسائيّ -أي فِي الرواية الآتية فِي الباب التالي-، والفقهاء عَلَى خلافه، فقيل: لعلّه وُجد منه ارتدادٌ، أوجب قتله، وهذا الاحتمال أوفق بما فِي حديث جابر رضي الله عنه أنهم جرّوه، وألقوه فِي البئر؛ إذ المؤمن، وإن ارتكب كبيرةً، فإنه يقبر، ويُصلّى عليه، ولاسيّما بعد إقامة الحدّ عليه، وتطهيره، وأما الإهانة بهذا الوجه، فلا يليق بحال المسلم، وقيل: بل حديث القتل فِي المرّة الخامسة منسوخٌ بحديث: "لا يحلّ دم امرىء مسلم
…
" الْحَدِيث، وأبو بكر رضي الله عنه ما علِمَ بنسخه، فعمل به، وفيه أن الحصر فِي ذلك الْحَدِيث محتاج إلى التوجيه، فكيف يحكم بنسخ هَذَا الْحَدِيث، على أن التاريخ، غير معلوم. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث الحارث بن حاطب رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيحٌ، وَقَدْ صححه الحاكم فِي "المستدرك" 4/ 382 لكن تعقّبه الذهبيّ بأنه منكرٌ، ولم يُبيّن وجه النكارة. ولعل وجهها مخالفته لحديث جابر رضي الله عنه الآتي فِي الباب التالي، فإن فيه أن قتله كَانَ فِي عهده
-صلى الله عليه وسلم بأمره، وهنا جعله فِي عهد أبي بكر رضي الله عنه بأمره، لكن الذي يظهر أنهما قضيّتان، فلا تعارض بينهما. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -14/ 4979 - وفي "الكبرى" 24/ 7470. وهو منْ أفراده، لم يخرجه منْ أصحاب الأصول غيره، وأخرجه منْ غيرهم الحاكم فِي "المستدرك" 4/ 382 والبيهقيّ فِي "السنن الكبرى" 8/ 272 - 273 والطبراني فِي "المعجم الكبير" 1/ 166/ 2. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي أي اليدين تُقطع؟، وفي محلّ القطع:
ذهب الجمهور إلى أن أول شيء يقطع منْ السارق اليد اليمنى، واحتجّوا بقراءة ابن مسعود رحمه الله تعالى:"فاقطعوا أيمانهما"، وأخرج سعيد بن منصور بسند صحيح، عن إبراهيم قَالَ: هي قراءتنا، يعني أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه، ونقل فيه عياض الإجماع. وتُعُقّب، نعم قد شذ منْ قَالَ: إذا قطع الشمال أجزأت مطلقا، كما هو ظاهر ما ذكره البخاريّ عن قتادة، حيث قَالَ: وَقَالَ قتادة فِي امرأة سرقت، فقُطعت شمالها، ليس إلا ذلك. وَقَالَ مالك: إن كَانَ عمدا وجب القصاص عَلَى القاطع، ووجب قطع اليمين، وإن كَانَ خطأ وجبت الدية، ويجزىء عن السارق، وكذا قَالَ أبو حنيفة، وعن الشافعيّ، وأحمد قولان فِي السارق. قاله فِي "الفتح".
وَقَالَ البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه": "وقطع علي رضي الله عنه منْ الكف"، قَالَ فِي "الفتح": أشار بهذا الأثر إلى الاختلاف فِي محل القطع، وَقَدْ اختلف فِي حقيقة اليد، فقيل: أولها منْ المنكب، وقيل: منْ المرفق، وقيل: منْ الكوع، وقيل: منْ أصول الأصابع.
فحجة الأول أن العرب تُطلق الأيدي عَلَى ذلك، ومن الثاني آية الوضوء، ففيها:{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، ومن الثالث آية التيمم، ففي القرآن:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} ، وبينت السنة كما تقدم فِي بابه، أنه عليه الصلاة والسلام، مسح عَلَى كفيه فقط، وأخذ بظاهر الأول بعض الخوارج، ونقل عن سعيد بن المسيب، واستنكره جماعة، والثاني لا نعلم منْ قَالَ به فِي السرقة، والثالث قول الجمهور، ونقل بعضهم فيه الإجماع، والرابع نقل عن علي، واستحسنه أبو ثور، ورُدّ بأنه لا يسمى مقطوع اليد لغة، ولا عرفا، بل مقطوع الأصابع.
وبحسب هَذَا الاختلاف وقع الخلاف فِي محل القطع، فَقَالَ بالأول الخوارج، وهم
محجوجون بإجماع السلف عَلَى خلاف قولهم، وألزم ابن حزم الحنفية بأن يقولوا بالقطع منْ المرفق، قياسا عَلَى الوضوء، وكذا التيمم عندهم، قَالَ: وهو أولى منْ قياسهم قدر المهر عَلَى نصاب السرقة، ونقله عياض قولا شاذا، وحجة الجمهور الأخذ بأقل ما ينطلق عليه الاسم؛ لأن اليد قبل السرقة، كانت محترمة، فلما جاء النص بقطع اليد، وكانت تطلق عَلَى هذه المعاني، وجب أن لا يترك المتيقن، وهو تحريمها إلا بمتيقن، وهو القطع منْ الكف. وأما الأثر عن علي رضي الله عنه، فوصله الدارقطنيّ منْ طريق حُجَيّة بن عدي، أن عليا قطع منْ المفصل. وأخرج ابن أبي شيبة منْ مرسل رجاء بن حيوة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قطع منْ المفصل، وأورده أبو الشيخ فِي "كتاب حد السرقة"، منْ وجه آخر عن رجاء، عن عدي، رفعه مثله، ومن طريق وكيع، عن سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر رفعه مثله. وأخرج سعيد بن منصور، عن حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، قَالَ: كَانَ عمر رضي الله عنه يقطع منْ المفصل، وعلي يقطع منْ مشط القدم. وأخرج ابن أبي شيبة، منْ طريق ابن أبي حيوة أن عليا قطعه منْ المفصل، وجاء عن علي أنه قطع اليد منْ الأصابع، والرجل منْ مشط القدم، أخرجه عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة عنه، وهو منقطع، وإن كَانَ رجال السند منْ رجال الصحيح. وَقَدْ أخرج عبد الرزاق، منْ وجه آخر: أن عليا كَانَ يقطع الرجل منْ الكعب. وذكر الشافعيّ فِي "كتاب اختلاف" عليّ وابن مسعود، أن عليا كَانَ يقطع منْ يد السارق الخنصر والبنصر والوسطى خاصة، ويقول: أستحي منْ الله أن أتركه بلا عمل، وهذا يحتمل أن يكون بقي الإبهام والسبابة، وقطع الكف والأصابع الثلاثة، ويحتمل أن يكون بقي الكف أيضًا، والأول أليق؛ لأنه موافق لما نقل البخاريّ أنه قطع منْ الكف. انتهى "فتح" 14/ 52.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبين مما سبق أن الأرجح هو ما ذهب إليه الجمهور، منْ القطع ليمين السارق، وأنه يكون منْ الكوع؛ لقوة حجتهم، كما سلف آنفاً، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي قطع أيدي السارق، وأرجله:
قَالَ فِي "الفتح" 14/ 53 - 54 - : واختلف السلف فيمن سَرَق، فقُطِع، ثم سرق ثانيا، فَقَالَ الجمهور: تُقطع رجله اليسرى، ثم إن سرق فاليد اليسرى، ثم إن سرق فالرجل اليمنى، واحتُج لهم بآية المحاربة، وبفعل الصحابة، وبأنهم فهموا منْ الآية أنها فِي المرة الواحدة، فإذا عاد السارق وجب عليه القطع ثانيا، إلى أن لا يبقى له ما يُقطع، ثم إن سرق عُزِّر، وسُجِن، وقيل يقتل فِي الخامسة، قاله أبو مصعب الزهريّ المدنيّ، صاحب مالك، وحجته ما أخرجه أبو داود، والنسائي، منْ حديث جابر رضي الله عنه، قَالَ:
جيء بسارق إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"اقتلوه"، فقالوا: يا رسول الله، إنما سرق، قَالَ:"اقطعوه"، ثم جيء به الثانية، فَقَالَ:"اقتلوه"، ذكر مثله، إلى أن قَالَ: فأُتي به الخامسة: فَقَالَ: "اقتلوه"، قَالَ جابر: فأنطلقنا به، فقتلناه، ورميناه فِي بئر، قَالَ النسائيّ: هَذَا حديث منكر، ومصعب بن ثابت راويه، ليس بالقوي. وَقَدْ قَالَ بعض أهل العلم، كابن المنكدر، والشافعي: إن هَذَا منسوخ، وَقَالَ بعضهم: هو خاص بالرجل المذكور، فكأن النبيّ صلى الله عليه وسلم اطلع عَلَى أنه واجب القتل، ولذلك أمر بقتله، منْ أول مرة، ويحتمل أنه كَانَ منْ المفسدين فِي الأرض.
قَالَ الحافظ: وللحديث شاهد منْ حديث الحارث بن حاطب رضي الله عنه، أخرجه النسائيّ، ولفظه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أُتي بلصّ، فَقَالَ:"اقتلوه"، فقالوا: إنما سرق، فذكر نحو حديث جابر رضي الله عنه فِي قطع أطرافه الأربع، إلا أنه قَالَ فِي آخره: ثم سرق الخامسة فِي عهد أبي بكر، فَقَالَ أبو بكر: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بهذا، حين قَالَ:"اقتلوه"، ثم دفعه إلى فتية منْ قريش، فقتلوه، قَالَ النسائيّ: لا أعلم فِي هَذَا الباب حديثا صحيحا.
قَالَ الحافظ: نقل المنذري تبعا لغيره فيه الإجماع، ولعلهم أرادوا أنه استقر عَلَى ذلك، وإلا فقد جزم الباجي، فِي اختلاف العلماء أنه قول مالك، ثم قَالَ: وله قول آخر: لا يُقتل، وَقَالَ عياض: لا أعلم أحدا منْ أهل العلم قَالَ به، إلا ما ذكر أبو مصعب، صاحب مالك فِي "مختصره" عن مالك، وغيره منْ أهل المدينة، فَقَالَ: ومن سرق ممن بلغ الحلم قطع يمينه، ثم ان عاد فرجله اليسرى، ثم إن عاد فيده اليسرى، ثم إن عاد فرجله اليمنى، فإن سرق فِي الخامسة قُتل كما قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمر بن عبد العزيز. انتهى.
وفيه قول ثالث، تُقطع اليد بعد اليد، ثم الرجل بعد الرجل، نُقل عن أبي بكر وعمر، ولا يصح، وأخرج عبد الرزاق بسند صحيح، عن القاسم بن محمد، أن أبا بكر قطع يد سارق فِي الثالثة، ومن طريق سالم بن عبد الله، أن أبا بكر إنما قطع رجله، وكان مقطوع اليد، ورجال السندين ثقات، مع انقطاعهما.
وفيه قول رابع: تقطع الرجل اليسرى بعد اليمنى، ثم لا قطع، أخرجه عبد الرزاق منْ طريق الشعبي، عن علي رضي الله عنه، وسنده ضعيف، ومن طريق أبي الضحى، أن عليا نحوه، ورجاله ثقات مع انقطاعه، وبسند صحيح عن إبراهيم النخعي، كانوا يقولون: لا يترك ابن آدم مثل البهيمة، ليس له يد يأكل بها، ويستنجي بها، وبسند حسن عن عبد الرحمن بن عائذ، أن عمر أراد أن يقطع فِي الثالثة، فَقَالَ له علي: اضربه،
واحبسه، ففعل، وهذا قول النخعي، والشعبي، والأوزاعي، والثوري، وأبي حنيفة. وفيه قول خامس، قاله عطاء: لا يقطع شيء منْ الرجلين أصلاً، عَلَى ظاهر الآية، وهو قول الظاهرية، قَالَ ابن عبد البرّ: حديث القتل فِي الخامسة منكر، وَقَدْ ثبت:"لا يحل دم امرىء مسلم، إلا بإحدى ثلاث"، وثبت:"السرقة فاحشة، وفيها عقوبة"، وثبت عن الصحابة قطع الرجل بعد اليد، وهم يقرءون:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} الآية [المائدة: 38]، كما اتفقوا عَلَى الجزاء فِي الصيد، وإن قتل خطأ، وهم يقرءون:{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} الآية [المائدة: 95]، ويمسحون عَلَى الخفين، وهم يقرءون غسل الرجلين، وإنما قالوا جميع ذلك بالسنة. انتهى "فتح" 14/ 53 - 54.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد اتّضح بما ذُكر أن الأرجح قول الجمهور منْ قطع الأرجل بعد الأيد؛ لقوّة حجته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي قتل السارق فِي المرّة الخامسة:
قَالَ الخطّابيّ رحمه الله تعالى: هَذَا الْحَدِيث فِي بعض إسناده مقال، وَقَدْ عارض الْحَدِيث الصحيح، وهو أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لا يحلّ دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس"، والسارق ليس بواحد منْ الثلاثة، فالوقوف عن دمه واجبٌ، ولا أعلم أحدا منْ الفقهاء، يبيح دم السارق، وإن تكررت منه السرقة مرّة بعد أخرى، وَقَدْ يُخَرَّج عَلَى مذاهب بعض الفقهاء أن يباح دمه، وهو أن يكون هَذَا منْ المفسدين فِي الأرض، فإن للإمام أن يجتهد فِي تعزير المفسدين، ويبلغ به ما رأى منْ العقوبة، وإن زاد عَلَى مقدار الحد، وإن رأى القتلَ قتل، ويعزى هَذَا الرأي إلى مالك بن أنس، وهذا الْحَدِيث -إن كَانَ له أصل- فهو يؤيّد هَذَا الرأي، وَقَدْ يدلّ عَلَى ذلك منْ نفس الْحَدِيث أنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتله لَمّا جيء به أول مرّة، ثم كذلك فِي الثانية، والثالثة، والرابعة إلى أن قُتل فِي الخامسة، فقد يحتمل أن يكون هَذَا رجلاً مشهورًا بالفساد، مخبورًا معلومًا منْ أمره أنه سيعود إلى سوء فعله، ولا ينتهي عنه حَتَّى ينتهي خبره. انتهى "معالم السنن" 6/ 236 - 237.
وَقَالَ المنذريّ: قَالَ الشافعيّ: والقتل منسوخ بهذا الْحَدِيث، وغيره، وهذا ما لا اختلاف فيه عند أحد منْ اْهل العلم علمته، يريد حديث قبيصة بن ذؤيب، وفيه:"ووضع القتل، فكانت رخصة"، وَقَالَ الشافعيّ أيضًا فِي موضع آخر: ثم حُفظ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم جلد الشارب العدد الذي قَالَ: يقتل بعده، ثم جيء به، فجلده، ورفع القتل، وصارت رخصة. وَقَالَ بعضهم: يحتمل أن يكون ما فعله، إن صح الْحَدِيث، فإنما
فعله بوحي منْ الله سبحانه، فيكون معنى الْحَدِيث خاصا فيه. والله أعلم.
وتعقّب العلّامة ابن القيّم رحمه الله تعالى منْ ادّعى الإجماع على عدم القتل، والنسخ فِي مسألة قتل شارب الخمر فِي المرة الرابعة، فَقَالَ: أما دعوى الإجماع عَلَى خلافه، فلا إجماع، قَالَ عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو:"ايتوني به فِي الرابعة، فعليّ أن أقتله". وهذا مذهب بعض السلف. وأما ادعاء نسخه بحديث عبد الله بن حمار، فإنما يَتمّ بثبوت تأخره، والإتيان به بعد الرابعة، ومنافاته للأمر بقتله. وأما دعوى نسخه بحديث:"لا يحلّ دم امرىء مسلم، إلا بإحدى ثلاث"، فلا يصحّ؛ لأنه عامّ، وحديث القتل خاصّ، والذي يقتضيه الدليل أن الأمر بقتله ليس حتمًا، ولكنه تعزيرٌ بحسب المصلحة، فإذا أكثر النَّاس منْ الخمر، ولم ينزجروا بالحدّ، فرأى الإمام أن يقتُل فيه قَتَل، ولهذا كَانَ عمر رضي الله عنه ينفي فيه مرة، ويَحلق فيه الرأس مرّة، وجلد فيه ثمانين، وَقَدْ جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر رضي الله عنه أربعين، فقتله فِي الرابعة ليس حدًّا، وإنما هو تعزيرٌ بحسب المصلحة، وعلى هَذَا يتخرّج حديث الأمر بقتل السارق، إن صحّ، والله تعالى أعلم. انتهى كلام ابن القيّم فِي "مختصر السنن" 6/ 236 - 238.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله الإمام ابن القيّم رحمه الله تعالى منْ التوفيق بين النصوص فِي قضيّة قتل السارق فِي المرة الخامسة، والشارب فِي المرّة الرابعة حسنٌ جدًّا.
وحاصله أن الأمر بقتل السارق، والشارب ليس حدًّا محتومًا، وإنما هو منْ باب التعزيز؛ للمصلحة، فإذا رأى الإمام أن شرّهما مستطيرٌ، وأنهما لا يرتدعان بالحدّ المقرّر، بل يعودان إلى سوء فعلهما، إلا إذا قتلهما، فله ذلك، وهذا لا ينافي عموم "لا يحلّ دم امرىء مسلم
…
" الْحَدِيث، بل هو داخل فيه؛ لأنه منْ باب قمع المفسدين فِي الأرض، فبهذا تجتمع النصوص، ولا تتعارض. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
***
15 - (بَابُ قَطْعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ مِنَ السَّارِقِ)
4980 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَقِيلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَدِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: جِيءَ بِسَارِقٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"اقْتُلُوهُ"، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا سَرَقَ، قَالَ:"اقْطَعُوهُ"، فَقُطِعَ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ:"اقْتُلُوهُ"، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا سَرَقَ، قَالَ:"اقْطَعُوهُ"، فَقُطِعَ فَأُتِيَ بِهِ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ:"اقْتُلُوهُ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا سَرَقَ، فَقَالَ:"اقْطَعُوهُ"، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ:"اقْتُلُوهُ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا سَرَقَ، قَالَ:"اقْطَعُوهُ". فَأُتِيَ بِهِ الْخَامِسَةَ قَالَ: "اقْتُلُوهُ"، قَالَ جَابِرٌ: فَانْطَلَقْنَا بِهِ إِلَى مِرْبَدِ النَّعَمِ، وَحَمَلْنَاهُ، فَاسْتَلْقَى عَلَى ظَهْرِهِ، ثُمَّ كَشَّرَ بِيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، فَانْصَدَعَتِ الإِبِلُ، ثُمَّ حَمَلُوا عَلَيْهِ الثَّانِيَةَ، فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ حَمَلُوا عَلَيْهِ الثَّالِثَةَ، فَرَمَيْنَاهُ بِالْحِجَارَةِ، فَقَتَلْنَاهُ، ثُمَّ أَلْقَيْنَاهُ فِي بِئْرٍ، ثُمَّ رَمَيْنَا عَلَيْهِ بِالْحِجَارَةِ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَهَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَمُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ، لَيْسَ بِالْقَوِيِّ فِي الْحَدِيثِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن عبد الله بن عُبيد بن عَقِيل: هو الهلاليّ، أبو مسعود البصريّ، صدوقٌ [11] 19/ 4766. و"جدّه": هو عُبيد بن عَقِل" -بفتح العين المهملة، مكبّرًا-: هو أبو عمرو الهلاليّ البصريّ الضرير المعلّم، صدوقٌ، منْ صغار [9] 19/ 4766.
و"مُصعب بن ثابت" بن عبد الله بن الزبير بن العوّام الأسديّ، ليّن الْحَدِيث، وكان عابدًا [7].
أرسل عن جده، وروى عن أبيه، وعمه عامر، وابن عم أبيه عكاشة بن مصعب، وابن عم أبيه الآخر هشام بن عروة، ونافع مولى ابن عمر، وابن المنكدر، وعطاء بن أبي رباح، وجماعة. وعنه ابنه عبد الله، وزيد بن أسلم، وهو أكبر منه، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وهو منْ أقرانه، وابن المبارك، والداروردي، وحميد بن الأسود، وعُبيد بن عَقِيل، وآخرون. قَالَ عبد الله بن أحمد، عن أبيه: أراه ضعيف الْحَدِيث، لم أر النَّاس يَحمدون حديثه. وَقَالَ عثمان الدارمي، عن ابن معين: ضعيف. وَقَالَ معاوية ابن صالح، عن ابن معين: ليس بشيء. وَقَالَ أبو حاتم: صدوقٌ، كثير الغلط، ليس
بالقوي. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ أبو حاتم: مات سنة سبع وخمسين ومائة، وهو ابن ثلاث وسبعين سنة. له عند النسائيّ حديث عن ابن المنكدر، عن جابر، فِي قتل السارق بعد الخامسة، قَالَ النسائيّ عقبه: هَذَا حديث منكر، ومصعب بن ثابت ليس بالقوي فِي الْحَدِيث، زاد فِي "الكبرى": ولم يتركه يحيى القطّان. وَقَالَ الطبراني فِي "المعجم الأوسط": لم يروه عن ابن المنكدر، إلا مصعب.
وَقَالَ الزهريّ: كَانَ منْ أعبد أهل زمانه، قيل: كَانَ يصوم الدهر، ويصلي فِي اليوم والليلة ألف ركعة، وعاش إحدى وسبعين سنة. وَقَالَ ابن حبّان فِي "الضعفاء": انفرد بالمناكير عن المشاهير، فلما كثر ذلك فيه استحق مجانبة حديثه، ولما ذكره فِي "الثقات" قَالَ: قد أدخلته فِي "الضعفاء"، وهو ممن أستخير الله تعالى فيه. وَقَالَ ابن سعد: كَانَ كثير الْحَدِيث، يُستضعف. وَقَالَ الدارقطني: مدني ليس بالقوي، رَوَى عبد الله بن المبارك، عن مصعب بن ثابت، عن عبد الله بن الزبير حديثاً، فَقَالَ الذهبيّ: تفرد عنه ابن المبارك وحده، لا يكاد يُعرف، أو هو الأول، أرسل عن جده
(1)
. روى له المصنّف هَذَا الْحَدِيث فقط، وأبو داود، وابن ماجه.
و"محمد بن المنكدر": هو التيميّ المدنيّ، ثقة فاضلٌ [3] 103/ 138.
وقوله: "إلى مِربد النعم" -بكسر الميم، وسكون الراء-: موقفها، مشتقّ منْ ربد بالمكان رَبْدًا، منْ باب ضرب: أقام فيه، وربدته رَبْدًا أيضًا: حبسته. أفاده الفيّوميّ.
وقوله: "ثم كشر بيديه، ورجليه": قَالَ السنديّ: قيل: هكذا فِي النسخ، والكشر ظهور الأسنان للضحك، وليس له كثير معنى هاهنا، وفي "الكبرى":"كسر" بالمهملة، وصُحّح عليها، وليس له كثير معنى، وَقَدْ جاء كَشِيشُ الأفعى -بشينين معجمتين بلا راء- بمعنى صوتِ جلدها إذا تحرّكت، يقال: كشت تكش، وهذا المعنى صحيح هنا لو ساعدته رواية. قلت: وقوع تحريف قليل منْ الناسخ غير بعيد. والله تعالى أعلم. انتهى كلام السنديّ.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن هذه التكلّفات التي تعب فيها السنديّ، مما لا داعي له، فإن كشر بالشين المعجمة له معنى صحيح فِي اللغة، فقد قَالَ ابن منظور رحمه الله تعالى: كشر السبع عن نابه -أي منْ باب ضرب-: إذا هرّ للحراش
(2)
،
(1)
معنى كلام الذهبيّ أن مصعبًا هَذَا إما رجل لا يعرف، انفرد بالرواية عنه ابن المبارك، أو هو مصعب الذي تقدمت ترجمته. والله تعالى أعلم.
(2)
قوله: "للحراش": أي ليصطاد، يقال: حرش الضبَّ يحرِشه حَرْشًا، وتَحْرَاشًا: صاده، كاحترشه، وذلك بأن يحرّك يده عَلَى باب جُحْره؛ ليظنّه حيّةً، فيُخرج ذَنَبَه ليضربها، فيأخذه. انتهى "قاموس".
وكشر فلان لفلان: إذا تنمّر له، وأوعده، كأنه سبع، ويقال: اكشر عن أنيابك: أي أوعده، وهو مجاز. انتهى "لسان العرب" 5/ 145 - بزيادة منْ "تاج العروس، شرح القاموس" 3/ 523.
فالمعنى هنا أن هَذَا الرجل أظهر يديه، ورجليه، وهي مقطوعة، فحرّكها حَتَّى تهرب الإبل، كما يدلّ عليه قوله:"فانصدعت الإبل"، وهذا معنى صحيح، لا غبار عليه، ولا معنى لدعوى التحريف، وأن ما وقع فِي "المجتبى" بالشين المعجمة أظهر مما وقع فِي "الكبرى" بالمهملة.
وقوله: "فتصدعت الإبل": أي تفرّقت. وتمام شرح الْحَدِيث يُعلم مما سبق فِي شرح حديث الحارث بن حاطب رضي الله تعالى عنهما.
وقوله: "قَالَ أبو عبد الرحمن الخ": ونصّ "الكبرى": قَالَ أبو عبد الرحمن: ومصعب بن ثابت ليس بالقويّ، ويحيى القطّان لم يتركه، وهذا الْحَدِيث ليس بصحيح، ولا أعلم فِي هَذَا الباب حديثًا صحيحًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وهذا الذي قاله المصنّف رحمه الله تعالى، محلّ نظر، وَقَدْ أجاد الشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى فِي "الإرواء"، حيث قَالَ ما حاصله: لم يتفود مصعب بالحديث، فقد تابعه هشام بن عروة، وله عنه ثلاث طرق:[الأولى]: عن محمد بن يزيد بن سنان، نا أبي عنه. ومحمد بن سنان، وأبوه ضعيفان. [الثانية]: عن عائذ بن حبيب، عنه. وعائذ صدوقٌ، كما فِي "التقريب". [الثالثة]: عن سعيد بن يحيى، نا هشام بن عروة به مثله. وسعيد هَذَا هو ابن يحيى بن صالح اللَّخْميّ، قَالَ عنه فِي "القريب": صدوقٌ وسطٌ، ماله فِي البخاريّ سوى حديث واحد.
أخرج هذه الطرق كلها الدارقطنيّ فِي "السنن"، قَالَ الشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى: وهي، وإن كانت لا تخلوا مفرداتها منْ ضعف، ولكنه ضعف يسير، فبعضها يقوّي بعضًا، كما هو مقرّر فِي "المصطلح"، فإذا انضمّ إليها طريق مصعب ازداد الْحَدِيث بذلك قوّةً، لاسيّما، وله شاهد منْ حديث الحارث بن حاطب، مع شيء منْ المغايرة فِي لفظه، يعني الْحَدِيث المذكور فِي الباب الماضي.
قَالَ: والخلاصة أن الْحَدِيث منْ رواية جابر ثابت بمجموع طريقيه، وهو فِي المعنى مثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فهو عَلَى هَذَا صحيحٌ، إن شاء الله تعالى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي أشار إليه هو ما أخرجه الدارقطنيّ فِي "سننه" منْ طريق الواقديّ، عن ابن أبي ذئب، عن خالد بن سلمة، أراه عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إن سرق، فاقطعوا يده، ثم
إن سرق، فاقطعوا رجله". وصححه الشيخ الألبانيّ فِي "الإرواء" 8/ 85 - 86 أي بشواهده.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي حقّقه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى حسنٌ جدًّا، وحاصله أن حديث جابر رضي الله عنه هَذَا صحيح بما ذكر.
والحديث أخرجه المصنّف هنا -15/ 4985 - وفي "الكبرى" 25/ 7471. وأخرجه (د) فِي "الحدود" 4410. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
16 - (الْقَطْعُ فِي السَّفَرِ)
4981 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي بَقِيَّةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، عَنْ عَيَّاشِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ بُسْرَ بْنَ أَبِي أَرْطَاةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "لَا تُقْطَعُ الأَيْدِي فِي السَّفَرِ").
رجال هَذَا الإسناد: سبعة.
1 -
(عمرو بن عثمان) القرشيّ مولاهم، أبو حفص الحمصيّ، صدوقٌ [10] 21/ 535.
2 -
(بقية) بن الوليد الحمصيّ، صدوقٌ، كثير التدليس عن الضعفاء [8] 45/ 55.
3 -
(نافع بن يزيد) الْكَلاعيّ، أبو يزيد المصريّ، ثقة عابد [7] 3/ 2098.
4 -
(حيوة بن شُريح) التجيبيّ، أبو زرعة المصريّ، ثقة ثبتٌ، فقيه، زاهد [7] 7/ 478.
5 -
(عيّاش بن عبّاس) الْقِتبانيّ المصريّ، ثقة [5]
(1)
2/ 1371.
6 -
(جنادة بن أبي أميّة) الأزديّ، أبو عبد الله الشاميّ، يقال: اسم أبيه كبير، مختلف فِي صحبته، فَقَالَ العجليّ: تابعيّ ثقة، والحقّ أنهما اثنان، صحابيّ، وتابعيّ،
(1)
جعله فِي "التقريب" منْ السادسة، وعندي أنه منْ الخامسة؛ لأنه رأى عبد الله بن الحارث بن جزء الصحابيّ رضي الله عنه، فيكون مثل الأعمش، رأى أنسًا، فكان منْ الخامسة، فليُتنبّه.
متفقان فِي الاسم وكنية الأب، قاله فِي "التقريب"، والظاهر أن هَذَا هو التابعيّ.
7 -
(بُسر بن أبي أرطاة) ويقال: ابن أرطاة، واسم أبي أرطاة عُمير بن عُويمر بن عمران ابن الْحُلَيس بن سَيّار بن نِزَار بن مُعيص بن عامر بن لؤي القرشي العامري الشاميّ، أبو عبد الرحمن، مختلف فِي صحبته، رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديثين: أحدهما: "لا تقطع الأيدي فِي السفر"، والآخر "اللَّهم أحسن عاقبتنا فِي الأمور كلها
…
" الْحَدِيث، وعنه جنادة بن أبي أمية، وأيوب بن ميسرة بن حلبس، وغيرهما، قَالَ ابن عساكر: سكن دمشق، وشهد صِفِّين مع معاوية، وكان عَلَى الرجالة، ولاه معاوية اليمن، وكانت له بها آثار غير محمودة، وقيل: إنه خَرِف قبل موته. وَقَالَ ابن سعد عن الواقدي: قُبض النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبسر صغير، ولم يسمع منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئا. وَقَالَ ابن يونس: بسر منْ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد فتح مصر، واختط بها، وكان منْ شيعة معاوية، وكان معاوية وجهه إلى اليمن، والحجاز فِي أول سنة (40) وأمره أن يَتَقَرّى منْ كَانَ فِي طاعة علي، فيوقع بهم، ففعل بمكة، والمدينة، واليمن أفعالا قبيحة، وَقَدْ ولي البحر لمعاوية، وكان قد وُسوس فِي آخر أيامه. وَقَالَ ابن عدي: مشكوك فِي صحبته، ولا أعرف له، إلا هذين الحديثين. وَقَالَ الدارقطنيّ: له صحبة، ولم يكن له استقامة بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ البخاريّ فِي "التاريخ الصغير": حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد، عن زياد، عن ابن إسحاق، قَالَ: بعث معاوية بسر بن أرطاة سنة (39) فقدم المدينة، فبايع، ثم انطلق إلى مكة واليمن، فقتل عبد الرحمن، وقُثَم ابني عبيد الله بن عباس. وَقَالَ الدُّوري، عن ابن معين: أهل المدينة ينكرون أن يكون بسر سمع منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأهل الشام يروون عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وسمعت يحيى يقول: كَانَ بسر بن أرطاة رجل سوء. وَقَالَ خليفة: مات فِي ولاية عبد الملك بن مروان، وَقَدْ خَرِف. وحكى المسعودي فِي "مروج الذهب": أن عليا رضي الله عنه دعا عَلَى بسر أن يَذهب عقله لما بلغه قتله ابني عبيد الله بن العبّاس، وأنه خرف، ومات فِي أيام الوليد بن عبد الملك سنة (86) وله فِي مسند الشاميين للطبراني حديث ثالث، وَقَالَ ابن حبّان فِي "الصحابة": منْ قَالَ ابن أرطاة، فقد وهم، وَقَالَ فِي "صحيحه": سمعت عبد الله بن سلم يقول: سمعت هشام بن عمار يقول: سمعت محمد بن أيوب بن ميسرة بن حلبس يقول: سمعت أبي يقول: سمعت بسر بن أبي أرطاة يقول: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "اللَّهم أحسن عاقبتنا فِي الأمور كلها
…
" الْحَدِيث.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح عندي القول بثبوت الصحبة له؛ لأن حديث الباب، وحديث ابن حبّان المذكور إسنادهما صحيح. والله تعالى أعلم.
روى له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا؛ لحديث فقط. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أنه مسلسل بالمصريين منْ نافع بن يزيد، والباقون شاميّون. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ) الأزديّ، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ بُسْرَ بْنَ أَبِي أَرْطَاةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي السَّفَرِ) وفي رواية الترمذيّ، والدارمي:"فِي الغزو"، بدل "السفر". والحديث فيه قصّة، ساقها الإمام أبو داود رحمه الله تعالى فِي "سننه"، فَقَالَ:
4408 -
حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، أخبرني حيوة بن شريح، عن عياش بن عباس الْقِتْباني، عن شُيَيْم بن بَيْتان، ويزيد بن صُبح الأصبحي، عن جُنادة بن أبي أمية، قَالَ: كنا مع بُسر بن أرطاة فِي البحر، فأُتي بسارق، يقال له: مِصْدَرٌ، قد سرق بُخْتِيّة، فَقَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقطع الأيدي فِي السفر، ولولا ذلك لقطعته". انتهى.
و"البختيّة": هي الأنثى منْ الجمال، طِوال الأعناق، والذكر بُخْتِيّ، والجمع بُخْتٌ، وبَخَاتيّ. قاله فِي "المجمع". وَقَالَ فِي "القاموس": البخت بالضم: الإبل الخرسانية، كالبختية، والجمع بَخاتيّ، وبَخات.
والسفر المطلق هنا يحمل عَلَى المقيد، قاله الطيبي. يعني سفر الغزو. وَقَالَ العزيزي فِي "شرح الجامع الصغير": قوله: "فِي السفر": أي فِي سفر الغزو؛ مخافةَ أن يَلحق المقطوع بالعدو، فإذا رجعوا قُطع، وبه قَالَ الأوزاعي، قَالَ: وهذا لا يختص بحد السرقة، بل يجري حكمه فيما فِي معناه منْ حد الزنا، وحد القذف، وغير ذلك، والجمهور عَلَى خلافه. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث بسر بن أبي أرطاة رضي الله عنه هَذَا صحيح.
[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه بقيّة، وهو معروف بتدليس التسوية؟.
[قلت]: قد صرّح بقيّة بالتحديث فيه، وفي شيخه، وأيضًا لم ينفرد بالحديث، فقد تابعه عليه عبد الله بن وهب، عن حيوة، كما تقدّم فِي سند أبي داود. والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قد تكلّموا فِي بسر بن أبي أرطاة، وفي ثبوت صحبته، فقد قَالَ الشوكانيّ: واختلف فِي صحبة بسر المذكور، فقيل: له صحبة، وقيل: لا صحبة له، وأن مولده بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وله أخبار مشهورة، وكان يحيى بن معين، لا يحسن الثناء عليه، قَالَ المنذري: وهذا يدلّ عَلَى أنه عنده لا صحبة له، ونقل فِي "الخلاصة" عن ابن معين أنه قَالَ: لا صحبة له، وأنه رجل سوء، ولي اليمن، وله بها آثار قبيحة. انتهى. ونقل عبد الغني، أن حديثه فِي الدعاء، فيه التصريح بسماعه، منْ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وَقَدْ غمزه الدارقطنيّ، ولا يرتاب منصف أن الرجل ليس بأهل للرواية، وَقَدْ فَعَل فِي الإسلام أفاعيل، لا تصدر عمن فِي قلبه مثقال حبة منْ إبمان، كما تضمنت ذلك كتب التاريخ المعتبرة، فثبوت صحبته لا يرفع القدح عنه، عَلَى ما هو المذهب الراجح، بل هو إجماع، لا يختلف فيه أهل العلم، كما حققنا ذلك فِي غير هَذَا الموضع، وحققه العلامة محمد بن إبراهيم الوزير، فِي "تنقيحه"، ولكن إذا كَانَ المناط فِي قبول الرواية، هو تحري الصدق، وعدم الكذب، فلا ملازمة بين القدح فِي العدالة، وعدم قبول الرواية، وهذا يتمشى عَلَى قول منْ قَالَ: إن الكفر والفسق، مظنة تهمة، لا منْ قَالَ: إنهما سلب أهلية، عَلَى ما تقرر فِي الأصول. انتهى كلام الشوكانيّ "نيل الأوطار" 7/ 144 - 145.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدّم فِي ترجمته أن الأرجح ثبوت صحبته رضي الله عنه، فإذا ثبتت صحبته، فالأفاعيل التي ألزقتها به كتب التواريخ، منها ما لا يصح؛ لأن هذه الكتب مشحونة بما لا يثبت أصلا، وما ثبت منها، فيُحمل عَلَى الاجتهاد الذي نحمل عليه ما جرى بين الصحابة فِي وقعتي الجمل، وصفيّن؛ حيث سُفكت فيها الدماء، فنقول: إن أحد الفريقين صاحب حقّ، والآخر مجتهد، والمجتهد يصيب، ويخطىء، فيكون ما فعله هَذَا الصحابيّ منْ هَذَا القبيل، وأما ما قاله الشوكانيّ فأراه مما لا ينبغي أن يصدر عن مثله فيمن ثبتت صحبته، مع إمكان حمله عَلَى المحامل الحسنة، فيا ليته لم يقل مثل هَذَا فِي جانب منْ ثبتت صحبته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -16/ 4981 - وفي "الكبرى" 26/ 7472. وأخرجه (د) فِي "الحدود" 4408 (ت) فِي "الحدود" 1450 (أحمد) فِي "مسند الشاميين" 17174 (الدارمي) فِي "السير" 2381. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي قطع السارق فِي السفر:
قَالَ الإمام الترمذيّ رحمه الله تعالى -بعد أن أخرج الْحَدِيث-: والعمل عَلَى هَذَا عند بعض أهل العلم، منهم الأوزاعيّ، لا يرون أن يقام الحدّ فِي الغزو بحضرة العدوّ؛ مخافة أن يلحق منْ يُقام عليه الحدّ بالعدوّ، فإذا خرج الإمام منْ أرض الحرب، ورجع إلى دار الإسلام، أقام الحدّ عَلَى منْ أصابه، كذلك قَالَ الأوزاعيّ. انتهى.
وَقَالَ القاري: قَالَ التوربشتي: ولعل الأوزاعي، رأى فيه احتمال افتتان المقطوع، بأن يَلحَق بدار الحرب، أو رأى أنه إذا قُطعت يده، والأمير متوجه إلى الغزو، لم يتمكن منْ الدفع، ولا يُغني عنا، فيُترك إلى أن يَقفل الجيش، قَالَ: وَقَالَ القاضي: ولعله عليه الصلاة والسلام أراد به المنع منْ القطع فيما يؤخذ منْ الغنائم. انتهى.
ويشهد لما ذهب إليه الجمهور، حديث عبادة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "جاهدوا النَّاس فِي الله، القريب والبعيد، ولا تبالوا فِي الله لومة لائم، وأقيموا حدود الله فِي الحضر والسفر"، رواه عبد الله بن أحمد فِي "مسند أبيه" كذا فِي "المنتقى".
قَالَ فِي "النيل": وحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أخرج أوله الطبراني فِي "الأوسط"، و"الكبير"، قَالَ فِي "مجمع الزوائد": وأسانيد أحمد وغيره ثقات، يشهد لصحته عمومات الكتاب، والسنة، وإطلاقاتهما؛ لعدم الفرق فيها بين القريب والبعيد، والمقيم والمسافر. ولا معارضة بين الحديثين؛ لأن حديث بُسرة أخصّ مطلقًا منْ حديث عبادة، فيُبنى العامّ عَلَى الخاصّ، وبيانه أن السفر المذكور فِي حديث عبادة رضي الله عنه أعمّ مطلقًا منْ الغزو المذكور فِي حديث بسر رضي الله عنه؛ لأن المسافر قد يكون غازيًا، وَقَدْ لا يكون، وأيضًا حديث بسر فِي حدّ السرقة، وحديث عبادة فِي عموم الحدّ. انتهى كلام الشوكانيّ فِي "نيل الأوطار" 7/ 145.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله الشوكانيّ فِي وجه الجمع بين الحديثين حسنٌ جدًّا.
والحاصل أن ما ذهب إليه الأوزاعيّ، منْ عدم إقامة الحدّ فِي سفر الغزو هو الأرجح؛ لصحّة حديث الباب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4982 -
(أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُدْرِكٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
عَوَانَةَ، عَنْ عُمَرَ -وَهُوَ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ- عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"إِذَا سَرَقَ الْعَبْدُ فَبِعْهُ، وَلَوْ بِنَشٍّ".
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، لَيْسَ بِالْقَوِيِّ فِي الْحَدِيثِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث لا يناسب هَذَا الباب، فكان الأولى للمصنّف رحمه الله تعالى أن يترجم له، كما فعل فِي "الكبرى"، حيث ترجم بقوله:"ما يُفعَل بالمملوك إذا سرق"، فتأمّل.
ورجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(الحسن بن مُدرك) بن بشير السدوسيّ، أبو عليّ البصريّ الطحّان الحافظ، لا بأس به، ونسبه أبو داود إلى تلقين المشايخ [1].
رَوَى عن يحيى بن حماد، ومحبوب بن الحسن، وعبد العزيز الأويسي. وعنه البخاريّ، والنسائي، وابن ماجه، وبقي بن مخلد، وأحمد بن الحسين الصوفي، وَقَالَ: كَانَ ثقة. وَقَالَ الآجري، عن أبي داود: كذاب، كَانَ يأخذ أحاديث فهد بن عوف، فيلقيها عَلَى يحيى بن حماد. وَقَالَ النسائيّ فِي "أسماء شيوخه": بصري لا بأس به. وَقَالَ ابن عدي: كَانَ منْ حفاظ أهل البصرة، وَقَالَ ابن أبي حاتم: قَالَ أبو زرعة: كتبنا عنه. وَقَالَ أبو حاتم: هو شيخ. وَقَالَ مسلمة بن قاسم الأندلسي: كتب عنه منْ أهل بلدنا ابن وَضّاح، وهو صالح فِي الرواية. تفرد به البخاريّ، والمصنّف، وابن ماجه، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.
2 -
(يحيى بن حمّاد) الشيبانيّ مولاهم البصريّ، ختن أبي عوانة، ثقة عابدٌ، منْ صغار [9] 43/ 2225.
3 -
(أبو عوانة) الوضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ الثقة الثبت [7] 41/ 46.
4 -
(عمر بن أبي سلمة) الزهريّ، قاضي المدينة، صدوقٌ، يخطىء [6] 2/ 3911.
5 -
(أبوه) أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، أحد الفقهاء السبعة عَلَى بعض الأقوال، والمشهور أن اسمه كنيته، وقيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل [3] 1/ 1.
6 -
(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم موثّقون. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين منْ عمر. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ منْ روى الْحَدِيث فِي دهره. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "إِذَا سَرَقَ الْعَبْدُ فَبِعْهُ) أي بعد بيان عيبه؛ لئلا يكون غاشًّا لمشتريه، فقد أخرج مسلم فِي "صحيحه" منْ حديث تميم الداري رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الدين النصيحة"، قالوا: لمن يا رسول الله، قَالَ:"لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم". ولحديث أنس رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حَتَّى يُحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه"، متّفقٌ عليه. "وَلَوْ بنَشٍّ) بفتح النون، وتشديد الشين العجمة-: هو نصف الأوقيّة، وهي أربعون درهمًا، فيكون نصفها عشرين درهمًا، وقيل: يُطلق عَلَى النصف منْ كلّ شيء، فالمراد ولو بنصف القيمة، أو بنصف درهم. وإنما أمره النبيّ صلى الله عليه وسلم ببيعه، مع أنه ينبغي له أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، كما تقدم آنفاً؛ لأن الإنسان قد لا يقدر عَلَى إصلاح حاله، ويكون غيره قادرًا عليه. والله تعالى أعلم.
وقوله: (قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أي النسائيّ رحمه الله تعالى (عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، لَيْسَ بِالْقَوِيِّ فِي الْحَدِيثِ) أشار به إلى ضعف هَذَا الْحَدِيث؛ لضعف عمر هَذَا، وهذا الذي قاله فِي عمر قاله غيره أيضًا، فَقَالَ ابن سعد: كَانَ كثير الْحَدِيث، وليس يُحتجّ بحديثه. عن ابن المدينيّ: كَانَ شعبة يضغفه. وَقَالَ ابن مهديّ: أحاديثه واهية. وضعفه ابن معين فِي رواية عنه. وَقَالَ الجوزجانيّ: ليس بقويّ فِي الْحَدِيث. وَقَالَ ابن خزيمة: لا يُحتجّ بحديثه. وقوّاه آخرون، فَقَالَ أحمد: هو صالح ثقة إن شاء الله. وَقَالَ البخاريّ: صدوقٌ، إلا أنه يخالف فِي بعض حديثه. وَقَالَ ابن أبي خيثمة، عن أبيه: صالح، إن شاء الله. وَقَالَ أبو حاتم: هو عندي صالح، صدوقٌ فِي الأصل، ليس بذاك القوي، يكتب حديثه، ولا يحتجّ به، يخالف فِي بعض الشيء. وَقَالَ العجليّ: لا بأس به. وَقَالَ ابن عديّ: حسن الْحَدِيث، لا بأس به. وَقَالَ الدُّوريّ: سألت ابن معين عن حديث منْ حديثه؟، فَقَالَ. صحيح، وسألته عن آخر؟ فاستحسنه. وذكره ابن الْبَرْقيّ فِي "باب منْ احتُمل حديثه منْ المعروفين" قَالَ: وأكثر أهل العلم بالحديث يُثَبِّتونه. انظر ترجمته فِي "تهذيب التهذيب" 3/ 230.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: يتبين مما ذُكر منْ أقوال أهل العلم أن عمر بن أبي سلمة وسط، فالصحيح ما قاله فِي "التقريب": صدوقٌ يُخطىء، فلا ينزل حديثه عن درجة الحسن. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هَذَا حسنٌ.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -16/ 4982 - وفي "الكبرى" 27/ 7473. وأخرجه (د) فِي "الحدود" 4412 (ق) فِي "الحدود" 2589. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي حكم سرقة العبد:
ظاهر هَذَا الْحَدِيث يدلّ عَلَى أنه لا يجب قطعه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر ببيعه إذا سرق، ولم يأمر بقطعه، لكن جمهور أهل العلم عَلَى وجوب قطعه؛ لعموم الآية، وهو الحقّ.
قَالَ فِي "المغني" 12/ 449 - : ما حاصله:
والحر والحرة، والعبد والأمة فِي وجوب القطع سواء، أما الحر والحرة، فلا خلاف فيهما، وَقَدْ نص الله تعالى عَلَى الذكر والأنثى، بقوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، ولأنهما استويا فِي سائر الحدود، فكذلك فِي هَذَا، وَقَدْ قطع النبيّ صلى الله عليه وسلم سارق رداء صفوان، وقطع المخزومية التي سرقت القطيفة.
وأما العبد والأمة، فإن جمهور الفقهاء، وأهل الفتوى عَلَى أنهما يجب قطعهما بالسرقة، إلا ما حُكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قَالَ: لا قطع عليهما؛ لأنه حد لا يمكن تنصيفه، فلم يجب فِي حقهما، كالرجم، ولأنه حدّ، فلا يساوي العبد فيه الحر كسائر الحدود.
وحجة الجمهور عموم الآية، ورَوَى الأثرم أن رقيقا لحاطب بن أبي بلتعة، سرقوا ناقة لرجل منْ مزينة، فانتحروها، فأمر كثير بن الصَّلْت أن تقطع أيديهم، ثم قَالَ عمر رضي الله عنه: والله إني لأراك تُجيعهم، ولكن لأُغَرِّمنك غرما يشق عليك، ثم قَالَ للمزني: كم ثمن ناقتك؟ قَالَ: أربعمائة درهم، قَالَ عمر: أعطه ثمانمائة درهم. ورَوَى القاسم بن محمد عن أبيه، أن عبدا أقر بالسرقة عند علي رضي الله عنه، فقطعه، وفي رواية قَالَ: كَانَ عبدا يعني الذي قطعه علي، رواه الإمام أحمد بإسناده، وهذه قِصَصٌ تنتشر، ولم تُنكر، فتكون إجماعا، وقولهم: لا يمكن تنصيفه، قلنا: ولا يمكن تعطيله، فيجب تكميله، وقياسهم نقلبه عليهم، فنقول: حدّ، فلا يتعطل فِي حق العبد والأمة، كسائر الحدود، وفارق الرجم، فإن حد الزاني، لا يتعطل بتعطيله، بخلاف القطع، فإن حد السرقة يتعطل بتعطيله. انتهى "المغني" 12/ 449 - 450.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن ما قاله الجمهور منْ وجوب قطع
العبد والأمة إذا سرقا، هو الحقّ؛ لعموم الآية. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
17 - (حَدِّ الْبُلُوغِ، وَذِكْرِ السِّنِّ الَّذِي إِذَا بَلَغَهَا الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ أُقِيمَ عَلَيْهِمَا الْحَدُّ)
4983 -
(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، قَالَ: كُنْتُ فِي سَبْي قُرَيْظَةَ، وَكَانَ يُنْظَرُ، فَمَنْ خَرَجَ شِعْرَتُهُ قُتِلَ، وَمَنْ لَمْ تَخْرُجِ اسْتُحْيِيَ، وَلَمْ يُقْتَلْ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "إسماعيل بن مسعود": هو الجحدريّ البصريّ الثقة. و"خالد": هو ابن الحارث الهجيميّ البصريّ الثقة الثبت. و"عبد الملك بن عُمير": اللَّخْميّ الْفَرَسيّ الكوفيّ، ثقة فقيه، تغير حفظه، وربما دلّس [3] 41/ 947. و"عطيّة": هو القرظيّ الصحابيّ الصغير، نزيل الكوفة رضي الله عنه تقدّم فِي 20/ 3458.
وقوله: "وكان يُنظر" بالبناء للمفعول.
وقوله: "شِعْرته" -بكسر الشين المعجمة، وسكون العين المهملة-: قَالَ الفيّوميّ: الشِّعْرة، وزان سِدْرة: شَعْر الرَّكَب للنساء خاصّة، قاله فِي "الْعُبَاب"، وَقَالَ الأزهريّ: الشِّعْرة: الشَّعْر النابت عَلَى عانة الرجل، ورَكَب المرأة، وعلى ما وراءهما. انتهى.
وما قاله الأزهريّ هو المناسب هنا.
والرَّكب بفتحتين، قَالَ ابن السّكّيت: هو مَنبِت العانة، وعن الخليل: هو للرجل خاصّة، وَقَالَ الفرّاء للرجل والمرأة، وأنشد:
لَا يُقْنِعُ الْجَارِيَةَ الْخِضَابُ
…
وَلَا الْوِشَاحَانِ وَلَا الْجِلْبَابُ
مِنْ دُونِ أَن تَلْتَقِيَ الأَرْكَابُ
…
وَيَقْعُدَ الأَيْرُ
(1)
لَهُ لُعَابُ
(1)
بفتح، فسكون: الذكر.
وقوله: "استُحيي" بالبناء للمفعول: أي تُرك حَيّا.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث تقدّم شرحه، وبيان مسائله فِي "كتاب الطلاق" -20/ 3456 - "باب متى يقع طلاق الصبي؟ " وبقي منْ مسائله بيان ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، فأقول:
[مسألة]: فِي اختلاف أهل العلم فِي حدّ بلوغ الصبيّ:
قَالَ فِي "الفتح" 5/ 609 - 611 - : اختلف العلماء فِي أقل سن تحيض فيه المرأة، ويحتلم فيه الرجل، وهل تنحصر العلامات فِي ذلك، أم لا؟، وفي السن الذي إذا جاوزه الغلام، ولم يحتلم، والمرأة لم تحض، يُحكَم حينئذ بالبلوغ، فاعتبر مالك، والليث، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، الإنباتَ، إلا أن مالكا لا يُقيم به الحد؛ للشبهة، واعتبره الشافعيّ فِي الكافر، واختلَف قولُهُ فِي المسلم، وَقَالَ أبو حنيفة: سن البلوغ تسع عشرة، أو ثمان عشرة للغلام، وسبع عشرة للجارية، وَقَالَ أكثر المالكية: حده فيهما سبع عشرة، أو ثمان عشرة، وَقَالَ الشافعيّ، وأحمد، وابن وهب، والجمهور: حدّه فيهما استكمال خمس عشرة سنة، عَلَى ما فِي حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم" عرضه يوم أحد، وهو ابن أربع عشرة سنة، فلم يُجزني، ثم عرضني يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة سنة، فأجازني". قَالَ نافع: فقدِمت عَلَى عمر بن عبد العزيز، وهو خليفة، فحدّثته الْحَدِيث، فَقَالَ: إن هَذَا لحدٌّ بين الصغير والكبير، وكتب إلى عُمّاله أن يَفرضُوا لمن بلغ خمس عشرة سنة. متّفقٌ عليه. انتهى.
وَقَالَ فِي "المغني" 6/ 597 - 600 - : ويحصل البلوغ فِي حق الغلام، والجارية بأحد ثلاثة أشياء، وفي حق الجارية بشيئين، يختصان بها، أما الثلاثة المشتركة بين الذكر والأنثى، فأولها خروج المني منْ قبله، وهو الماء الدافق الذي يُخلق منه الولد، فكيفما خرج فِي يقظة، أو منام، بجماع، أو إحتلام، أو غير ذلك، حصل به البلوغ، لا نعلم فِي ذلك اختلافا؛ لقول الله تعالى:{وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} الآية [النور: 59]، وقولِه:{وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} الآية [النور: 58] وقولِ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "رُفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حَتَّى يحتلم"، وقولِهِ عليه السلام لمعاذ رضي الله عنه:"خذ منْ كل حالم دينارا"، رواهما أبو داود
(1)
. وَقَالَ ابن المنذر: وأجمعوا عَلَى أن الفرائض، والأحكام تجب عَلَى المحتلم العاقل، وعلى المرأة بظهور الحيض منها.
(1)
حديثان صحيحان.
وأما الإنبات، فهو أن يَنْبُت الشعرُ الخشنُ حولَ ذكر الرجل، او فرج المرأة، الذي استحق أخذه بالموسى، وأما الزَّغَبُ
(1)
الضعيف، فلا اعتبار به، فإنه يثبت فِي حق الصغير، وبهذا قَالَ مالك، والشافعي، وأحمد، فِي قول، وَقَالَ الشافعيّ فِي قوله الآخر: هو بلوغٌ فِي حق المشركين، وهل هو بلوغ فِي حق المسلمين فيه قولان. وَقَالَ أبو حنيفة: لا اعتبار به؛ لأنه نبات شعر، فأشبه نبات شعر سائر البدن.
واحتجّ الأولون بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما حَكَّم سعد بن معاذ رضي الله عنه فِي بني قريظة حَكَم بأن تُقتل مقاتلتهم، وتُسبى ذراريهم، وأمر أن يُكشف عن مؤتزرهم، فمن أنبت فهو منْ المقاتلة، ومن لم ينبت ألحقوه بالذرية، وَقَالَ عطية القرظي: عُرِضت عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم قريظة، فشَكُّوا فِيَّ، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، أن يُنظَر إليَّ، هل أنبتُّ، بعدُ؟ فنظروا إليّ، فلم يجدوني أنبتّ بعدُ، فألحقوني بالذرية، متَّفقٌ عَلَى ما معناه. وكتب عمر رضي الله عنه إلى عامله أن لا تَأخُذِ الجزيةَ إلا ممن جرت عليه المواسي. وروى محمد بن يحيى بن حبّان أن غلاما منْ الأنصار، شَبَّب بإمرأة فِي شعره، فرُفع إلى عمر رضي الله عنه فلم يجده أنبت، فَقَالَ: لو أنبت الشعر لحددتك، ولأنه خارج يلازمه البلوغ غالبا، ويستوي فيه الذكر والأنثى، فكان علما عَلَى البلوغ، كالاحتلام، ولأن الخارج ضربان: متصل، ومنفصل، فلما كَانَ منْ المنفصل ما يثبت به البلوغ، كَانَ كذلك المتصل، وما كَانَ بلوغا فِي حق المشركين، كَانَ بلوغا فِي حق المسلمين، كالاحتلام، والسن.
وأما السن: فإن البلوغ به فِي الغلام والجارية بخمس عشرة سنة، وبهذا قَالَ الأوزاعي، والشافعي، وأبو يوسف، ومحمد، وَقَالَ داود: لا حد للبلوغ منْ السن؛ لقوله عليه السلام: "رُفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حَتَّى يحتلم"، وإثبات البلوغ بغيره، يخالف الخبر، وهذا قول مالك، وَقَالَ أصحابه: سبع عشرة، أو ثماني عشرة، ورُوري عن أبي حنيفة فِي الغلام روايتان، إحداهما: سبع عشرة، والثانية ثماني عشرة، والجارية سبع عشرة بكل حال؛ لأن الحد لا يثبت إلا بتوقيف، أو اتفاق، ولا توقيف فِي هَذَا، ولا إتفاق.
واحتج الأولون بأن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قَالَ:"عُرضت عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يُجزني فِي القتال، وعرضت عليه، وأنا ابن خمس عشرة، فأجازني"، متَّفقٌ عليه، وفي لفظ: "عرضت عليه يوم أحد، وأنا ابن أربع عشرة، فردني، ولم يرني بلغت، وعرضت عليه عام الخندق، وأنا ابن خمس عشرة،
(1)
الزَّغَب بفتحتين: صغار الشعر، ولينه، حين يبدو منْ الصبيّ، وكذلك منْ الشيخ حين يرقّ شعره انتهى "المصباح".
فأجازني"، فأُخبر بهذا عمر بن عبد العزيز، فكتب إلى عماله، أن لا تفرضوا إلا لمن بلغ خمس عشرة، رواه الشافعيّ فِي "مسنده"، ورواه الترمذيّ، وَقَالَ: حديث حسن صحيح. ورُوي عن أنس رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة، كُتب ما له، وما عليه، وأُخذت منه الحدود"، ولأن السن معنى يحصل به البلوغ، يشترك فيه الغلام والجارية، فاستويا فيه، كالإنزال، وما ذكره أصحاب أبي حنيفة، ففيما رويناه جواب عنه، وما احتج به داود، لا يمنع إثبات البلوغ بغير الاحتلام، إذا ثبت بالدليل، ولهذا كَانَ إنبات الشعر عَلَمًا عليه. وأما الحيض فهو عَلَمٌ عَلَى البلوغ، لا نعلم فيه خلافا، وَقَدْ قَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار"، رواه الترمذيّ، وَقَالَ: حديث حسن. وأما الحمل: فهو عَلَى البلوغ؛ لأن الله تعالى أجرى العادة أن الولد، لا يخلق إلا منْ ماء الرجل وماء المرأة، قَالَ الله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 5 - 7]، وأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك فِي الأحاديث، فمتى حملت حُكم ببلوغها، فِي الوقت الذي حملت فيه. انتهى "المغني" 6/ 597 - 600.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبين مما سبق إيضاحه أن الأرجح حصول البلوغ فِي حقّ الغلام والجارية بأحد ثلاثة أشياء: خروج المنيّ، والإنبات، وبلوغ خمس عشرة سنة، وأما الجارية، فتزيد الحيض، والحمل، وَقَدْ عرفتَ أدلتها بالتفصيل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
18 - (تَعْلِيقِ يَدِ السَّارِقِ فِي عُنُقِهِ)
4984 -
(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ، قَالَ: سَأَلْتُ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ، عَنْ تَعْلِيقِ يَدِ السَّارِقِ فِي عُنُقِهِ؟ قَالَ: "سُنَّةٌ، قَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَ سَارِقٍ، وَعَلَّقَ يَدَهُ فِي عُنُقِهِ").
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(سُويد بن نصر) أبو الفضل المروزيّ الملقّب بالشاه، ثقة [10] 45/ 55.
2 -
(عبد الله) بن المبارك الحنظليّ المروزيّ الإمام الحجة الثبت [8] 32/ 36.
3 -
(أبو بكر بن عليّ) بن عطاء بن مُقَدَّم -بوزن محمد- الثقفيّ الْمُقَدَّميّ البصريّ، مقبول [7].
روى عن الحجاج بن أرطاة، وحبيب بن أبي عمرة، ويونس بن عُبيد. وعنه ابن المبارك، وأبو سعيد جعفر بن مسلمة الوراق، مولى خُزاعة. قَالَ البخاريّ: حدثنا محمد بن أبي بكر، قَالَ: مات أبي سنة (167) قبل حماد بن سلمة بشهرين. وَقَالَ الدارقطنيّ: لا يُعرف له اسم. تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.
4 -
(الحجّاج) بن أرطاة -بفتح الهمزة- ابن ثور بن هُبيرة النخعيّ، أبو أرطاة الكوفيّ القاضي، أحد الفقهاء، صدوقٌ، كثير الخطأ، والتدليس [7] 13/ 2127.
5 -
(مكحول) أبو عبد الله الشاميّ، ثقة، فقيه، كثير الإرسال، مشهورٌ، مات سنة بضع عشرة ومائة [5] 4/ 630.
[تنبيه]: لا يوجد فِي الكتب الستّة منْ اسمه مكحول إلا هَذَا، ولهم مكحول الأزديّ البصريّ، أبو عبد الله، صدوقٌ [4]، أخرج له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
6 -
(ابن مُحَيريز) هو: عبد الرحمن بن محيريز الْجُمحيّ، روى عن فَضَالة بن عُبيد، وأبي أمامة، وزيد بن أرقم. وعنه مكحول الشاميّ، وأبو قلابة الْجَرْميّ، وإبراهيم بن محمد ابن حاطب. قَالَ البخاريّ: وُيذكر عن عيسى سنان، عن أبي بكر بن بَشير أنه رآه مع ابن عمر، وأبي أمامة، وواثلة ببيت المقدس. وذكره ابن عبد البرّ فِي "الصحابة"، وأشار إلى أنه وُلد فِي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وكان فاضلاً. وذكره ابن حبّان فِي ثقات التابعين. وَقَالَ ابن القطّان: لا يُعرف. روى له الأربعة هَذَا الْحَدِيث فقط، وَقَالَ الترمذيّ: حسنٌ غريب.
7 -
(فضالة بن عُبيد) بن نافذ بن قيس الأنصاريّ الأوسيّ الصحابيّ رضي الله عنه، أول مشاهده أحدٌ، ثم نزل دمشق، وولي قضاءها، ومات سنة (58) وقيل: قبلها، تقدمت ترجمته فِي 48/ 1284. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَن) عبد الرحمن (ابْنِ مُحَيْرِيزٍ) أنه (قَالَ: سَأَلْتُ فَضَالَةَ) -بفتح الفاء، وتخفيف الضاد المعجمة- (بْنَ عُبَيْدٍ) -بضم العين المهملة، مصغّرًا- رضي الله تعالى عنه (عَنْ تَعْلِيقِ يَدِ السَّارِقِ فِي عُنُقِهِ؟ قَالَ) فضالة رضي الله عنه (سُنَّةٌ) بالرفع خبر لمحذوف: أي هو سنة، ثم بيّن كونه سنة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ (قَطَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَدَ سَارِقٍ، وَعَلَّقَ يَدَهُ فِي
عُنُقِهِ) أي ليكون عبرة، ونَكَالاً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث فَضالة بن عُبيد رضي الله عنه هَذَا ضعيفٌ؛ لتفرّد الحجّاج بن أرطاة به، وهو ضعيف، كما قَالَ المصنّف رحمه الله تعالى، وزاد أبو الحسن ابن القطّان جهالة ابن محيريز، فلا عبرة بتحسين الترمذيّ، ولا بسكوت أبي داود، كما سبق. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -18/ 4984 و4985 - وفي "الكبرى" 29/ 7475 و7476. وأخرجه (د) فِي "الحدود" 4411 (ت) فِي "الحدود" 1447 (ق) فِي "الحدود" 2587 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 22428. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي تعليق يد الساق فِي عنقه:
قَالَ الموفق رحمه الله تعالى: ويُسنّ تعليق اليد فِي عنقه؛ لما روى فَضَالة بن عُبيد رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم "أُتي بسارق، فقُطعت يده، ثم أمر بها، فعُلّقت فِي عنقه"، رواه أصحاب السنن، وفعل ذلك عليّ رضي الله عنه؛ ولأن فيه رَدْعًا، وزجرًا. انتهى. "المغني" 12/ 442.
وَقَالَ ابن الهمام: المنقول عن الشافعيّ، وأحمد أنه يُسنّ تعليق يده فِي عنقه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر به، وعندنا ذلك مطلق للإمام، إن رآه، ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم فِي كلّ قطعه؛ ليكون سنّة. انتهى نقله فِي "تحفة الأحوذيّ" 4/ 614.
وَقَالَ الشوكانيّ فِي "نيل الأوطار": فِي هَذَا الْحَدِيث دليلٌ عَلَى مشروعيّة تعليق يد السارق فِي عنقه؛ لأن فِي ذلك منْ الزجر ما لا مزيد عليه، فإن السارق ينظر إليها مقطوعة، معلّقة، فيتذكّر السبب لذلك، وما جرّ إليه ذلك الأمر منْ الخسارة بمفارقة ذلك العضو النفيس، وكذلك الغير يحصل له بمشاهدة اليد عَلَى تلك الصورة ما تنقطع به وساوسه الرديئة. انتهى. وَقَالَ ابن العربيّ فِي "شرح الترمذيّ": ولو ثبت هَذَا الحكم لكان حسنًا صحيحًا، لكنه لم يثبت، ويرويه الحجّاج بن أرطاة. انتهى. وَقَالَ السنديّ: والحديث قد حسنه الترمذيّ، وسكت عليه أبو داود، وإن تكلّم فيه النسائيّ. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث فضالة الذي استدلّوا به ضعيف، كما قَالَ المصنّف، ولا عبرة بتحسين الترمذيّ؛ لأن هَذَا منْ تساهله، وكذلك لا عبرة بسكوت
أبي داود، وليس فِي تعليق اليد فِي العنق دليلٌ صحيح يُعتمد طيه، فالظاهر كما قَالَ الحنفيّة، أنه إن رأى الإمام ذلك، فعله تنكيلاً، وزجرًا، كما فعل عليّ رضي الله عنه، وإلا فلا يُسنّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4985 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ الْمُقَدَّمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَيْرِيزٍ، قَالَ: قُلْتُ لِفَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ: أَرَأَيْتَ تَعْلِيقَ الْيَدِ فِي عُنُقِ السَّارِقِ، مِنَ السُّنَّةِ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَارِقٍ، فَقَطَعَ يَدَهُ، وَعَلَّقَهُ فِي عُنُقِهِ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ ضَعِيفٌ، وَلَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمر بن علي المقدّميّ": هو أخو أبي بكر المذكور قبله، بصريّ، واسطيّ الأصل، ثقة، يدلس تدليس التسوية [8] 36/ 3494.
و"الحجاج ": هو ابن أرطاة المذكور قبله.
وقوله: "ضعيف الخ"، وهو أيضًا مدلس، وَقَدْ عنعنه، وكذا عمر بن عليّ معروف بتدليس التسوية، وهو أن يدلّس عَلَى شيخه، أو هو أن يسقط ضعيفًا بين ثقتين، وَقَدْ عنعنعه فيما فوق شيخه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4986 -
(أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ، يُحَدِّثُ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"لَا يُغَرَّمُ صَاحِبُ سَرِقَةٍ، إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ".
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَلَيْسَ بِثَابِتٍ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث لا يناسب الترجمة، فكان الأولى للمصنف رحمه الله تعالى أن يترجم له ترجمة مناسبة له، كما فعل فِي "الكبرى"، حيث ترجم له بقوله:"باب لا يُغَرَّم صاحب السرقة". انتهى، فتنبّه.
ورجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(عمرو بن منصور) النسائيّ، ثقة ثبت [11] 108/ 147.
2 -
(حسان بن عبد الله) بن سهل الكنديّ، أبو عليّ الواسطيّ، نزيل مصر، صدوقٌ يخطىء [10].
رَوَى عن المفضل بن فضالة، وابن لهيعة، والليث، وخلاد بن سليمان، ويعقوب بن عبد الرحمن، وغيرهم. وعنه البخاريّ، وروى له النسائيّ، وابن ماجه بواسطة
الصغاني، وعمرو بن منصور، وإبراهيم بن محمد الفريابي، وأبو حاتم الرازي، وأبو عبيد، ويحيى بن معين، ويعقوب بن سفيان، والربيع الجيزي، ويحيى بن عثمان بن صالح السهمي، وغيرهم. قَالَ أبو حاتم: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: يخطىء. وَقَالَ ابن يونس: صدوقٌ، حسن الْحَدِيث، كَانَ أبوه واسطيا، ووُلد حسان بمصر، ومات بها سنة (222). تفرّد به البخاريّ، والمصنّف، وابن ماجه، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.
3 -
(المفضّل بن فَضَالة) الْقِتْبانيّ، أبو معاوية المصريّ القاضي، ثقة فاضلٌ، عابدٌ [8] 42/ 586.
4 -
(يونس بن يزيد) الأيليّ، ثقة [7] 9/ 9.
5 -
(سعد بن إبراهيم) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، قاضيها، ثقة فاضل، عابدٌ [5] 11/ 518.
6 -
(المسور بن إبراهيم) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، مقبول [4].
روى عن جدّه هَذَا الْحَدِيث، ولم يُدركه. وعنه سعد بن إبراهيم أخوه. تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.
[تنبيه]: قَالَ فِي "تهذيب التهذيب": لم يُنسَب -يعني المسور- فِي رواية النسائيّ، وَقَدْ روى إسحاق بن الفرات، عن مفضّل بن فضالة، عن يونس بن يزيد، عن سعد بن إبراهيم، عن المسور بن مخرمة، عن عبد الرحمن بن عوف، والظاهر أنه وهِم فِي نسبة المسور، فقد وقع منسوبًا فِي رواية الدارقطنيّ، والْجُوزجانيّ، فإنهما أخرجاه منْ طرق، عن مفضّل بن صالح، عن يونس، عن سعد بن إبراهيم، عن أخيه المسور به، وَقَالَ: المسور لم يُدرك عبد الرحمن.
قَالَ: قرأت بخط مغلطاي أنه وجد بخطّ أبي إسحاق الصَّرِيفينيّ الحافظ أن المسور ابن إبراهيم هَذَا مات سنة (107). انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: لم ينسبه فِي رواية النسائيّ فيه نظر لا يخفى، فإنه فِي روايته منسوب فِي "المجتبى"، وفي "الكبرى" أيضًا، ولعله وقع فِي نسخته غير منسوب.
وقوله: "مفضّل بن صالح" هَذَا فيه تصحيف، فإنه ابن فَضالة، كما هو عند الدارقطنيّ، وغيره. والله تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: قَالَ فِي "النكت الظراف" 7/ 213 - : رواه إسحاق بن الفرات، عن المفضّل بن فَضالة، عن يونس، فأدخل بينه وبين سعد بن إبراهيم "ابنَ شهاب"، أخرجه
الدارقطنيّ فِي "سننه" 3/ 183 وَقَالَ: هَذَا وَهَمٌ منْ وجوه، وأخرجه منْ وجه آخر عن مفضّل منْ غير ذكر "ابن شهاب"، لكن قَالَ فيه: سعيد بن إبراهيم، عن المسور ابن إبراهيم، وَقَالَ: سعيد مجهول. قَالَ الحافظ: بل معروف، والصواب "سعد" -بسكون العين- وهو ابن إبراهيم، والمسور أخوه. وَقَدْ أخرجه الطبريّ فِي "تهذيبه" عن أحمد بن الحسن، عن سعيد بن عُفير، عن مُفضّل، عن يونس، عن سعد بن إبراهيم، حدثني أخي المسور بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف. زاد فيه "عن أبيه" مجوّدة، ولكنّه خولف فِي هذه الزيادة. انتهى "النكت". والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الصحابيّ المشهور، أحد العشرة المبشّرين بالجنة رضي الله عنهم (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: لَا يُغَرَّمُ) بتشديد الراء، مبنيًّا للمفعول، منْ التغريم: أي لا يُلزم بالغرامة، ويحتمل أن يكون بتخفيف الراء، مبنيًّا للفاعل، منْ باب تَعِبَ، قَالَ الفيّوميّ: غَرِمت الدية، والدين، وغير ذلك أَغْرَم، منْ باب تَعِب: أدّيته، غُرْمًا، ومَغْرَمًا، وغَرامةً، ويتعدّى بالتضعيف، فيقال: غَرَّمته، وأغرمته بالألف: جعلته غارمًا. انتهى. فقوله: (صَاحِبُ سَرِقَةٍ) نائب فاعل عَلَى الأول، وفاعل عَلَى الثاني، والمراد به السارق (إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ) يعني أنه لا يُجمع عَلَى السارق بين العقوبة، وهو قطع يده، والغرامة، وهو ضمان ما سرقه إذا تلف، وأما إذا كانت العين قائمة، فلا خلاف فِي وجوب ردّها، كما سيأتي قريبًا، إن شاء الله تعالى.
وقوله: (قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَهَذَا مُرْسَلٌ) أي منقطع، وَقَدْ تقدّم أن المصنّف، وأبا داود، وغيرهما منْ المحدثين يُطلقون المرسل عَلَى المنقطع، والمشهور فِي كتب المتأخّرين منْ أهل الاصطلاح أن المرسل هو ما رفعه التابعيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس منه؛ لأنه صحابيّه مذكور، وهو عبد الرحمن بن عوف، وإنما المحذوف الواسطة بين المسور، وعبد الرحمن، فتنبّه وقوله:(وَلَيْسَ بثَابتٍ) أي للانقطاع المذكور. وَقَالَ عبد الحقّ فِي أحكامه: إسناده منقطع. قَالَ ابن القطّان فِي كتابه: وفيه مع الانقطاع بين المسور وعبد الرحمن انقطاعٌ آخر بين المفضل ويونس، فقد رواه إسحاق بن الفرات عن المفضّل بن فَضالة، فجعل فيه الزهريّ بين يونس بن يزيد، وسعد بن إبراهيم، قَالَ: وفيه مع ذلك الجهل بحال المسور، فإنه لا يُعرف له حال. انتهى. وَقَالَ ابن أبي حاتم: سألت أبي عن حديثٍ رواه المفضل بن فَضالة؟ فَقَالَ أبي: هَذَا حديثٌ منكر، ومِسور لم يلق عبد الرحمن. انتهى "التعليق المغني على الدارقطنيّ" 3/ 182. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه هَذَا ضعيف؛ للانقطاع المذكور، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -18/ 4986 - وفي "الكبرى" 30/ 7477. وأخرجه الدارقطنيّ فِي "سننه" 3/ 182 - 183، والبيهقي فِي "السنن الكبرى" 8/ 277. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي اختلاف أهل العلم فِي تضمين السارق بعد قطع يده:
قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: لا يختلف أهل العلم فِي وجوب رد العين المسروقة عَلَى مالكها، إذا كانت باقية، فأما إن كانت تالفة، فعلى السارق رد قيمتها، أو مثلها إن كانت مثلية، قُطِع، أو لم يُقطَع، موسرا كَانَ، أو معسرًا، وهذا قول الحسن، والنخعي، وحماد، والْبَتّيّ، والليث، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور.
وَقَالَ الثوري، وأبو حنيفة: لا يجتمع الغُرْم والقطع، إن غَرِمها قبل القطع، سقط القطع، وإن قُطع قبل الغرم سقط الغرم.
وَقَالَ عطاء، وابن سيرين، والشعبي، ومحكول: لا غَرْم عَلَى السارق إذا قُطع، ووافقنا مالك فِي المعسر، ووافقهم فِي الموسر. قَالَ أبو حنيفة فِي رجل سرق مرات، ثم قطع: يَغرَم الكلَّ، إلا الأخيرة، وَقَالَ أبو يوسف: لا يغرم شيئا؛ لأنه قُطع بالكل، فلا يغرم شيئا منه، كالسرقة الأخيرة، واحتج بما رُوي عن عبد الرحمن بن عوف، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قَالَ:"إذا أقيم الحد عَلَى السارق، فلا غُرْم عليه"، ولأن التضمين يقتضي التمليك، والملك يمنع القطع، فلا يجمع بينهما.
قَالَ: ولنا أنها عين يجب ضمانها بالرد، لو كانت باقية، فيجب ضمانها إذا كانت تالفة، كما لو لم يُقطع، ولأن القطع والغرم حقان، يجبان لمستحقين، فجاز اجتماعهما، كالجزاء، والقيمة فِي الصيد الحرمي المملوك، وحديثهم يرويه سعد بن إبراهيم، عن منصور، وسعد بن إبراهيم مجهول، قاله ابن المنذر، وَقَالَ ابن عبد البرّ: الْحَدِيث ليس بالقوي، ويحتمل أنه أراد ليس عليه أجرة القاطع، وما ذكروه فهو بناءٌ عَلَى أصولهم، ولا نسلمها لهم. انتهى "المغني" 12/ 454.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه الأولون منْ وجوب الْغَرَامَة مطلقًا هو الأرجح؛ لعدم ثبوت ما يُسقطها، والحديث ضعيف، كما سبق إيضاحه. والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قوله: "يرويه سعد بن إبراهيم، عن منصور الخ" فيه خطئان: [أحدهما]:
قوله: "عن منصور" والصواب "عن المسور". [والثاني]: قوله: "وسعد مجهول"، والصواب:"والمسور مجهول"، وأما سعد، فمشهور، وهو الزهريّ، قاضي المدينة الثقة الفاضل العابد، فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
46 - (كِتَابُ الإِيمَانِ، وَشَرَائِعِهِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لم يظهر لي وجه إدخال المصنّف "كتاب الإيمان" بين "كتاب قطع السارق"، وبين "كتاب الزينة"، ويمكن أن يقال: إن قطع السارق تطهير له منْ درن جريمته، فيكون تخلية له، والإيمان تحلية لقلب العبد وقالبه، فتحصل المناسبة بين التخلية والتحلية؛ لأنه إذا تخلّى عن الرذائل، تحلّى بالفضائل.
[تنبيه]: هَذَا الكتاب خاصِّ بـ"المجتبى"، فلا يوجد فِي "السنن الكبرى" كتاب "الإيمان"، غير أن محققها ألحقه فِي آخر المجلد السادس، بعد "كتاب التفسير"، ونبّه فِي هامشه عَلَى أنه منْ "الصغرى" أضافه إلى "الكبرى" إكمالاً للفائدة، راجعه 6/ 539. والله تعالى أعلم.
ثم إنه ذكر فِي الترجمة شيئين:
[أحدهما الإيمان]: وهو طويل البحث، متشعّب الفروع، فلذا نؤخّر الكلام فيه.
[والثاني]: شرائعه، وهو جمع شريعة، بفتح الشين المعجمة، وهي أمور الدين، والمراد بها شعب الإيمان.
قَالَ الفيّوميّ: الشِّرْعة بالكسر: الدين، والشِّرْع، والشريعة مثله، مأخوذ منْ الشريعة، وهي مورد النَّاس للاستقاء، وسُمّيت بذلك لوضوحها، وظهورها، قَالَ: وشرع الله لنا كذا يشرعه -أي منْ باب نفع-: أظهره، وأوضحه، والمشرعة بفتح الميم، والراء: شريعة الماء، قَالَ الأزهريّ: ولا تسميها العرب مَشْرَعَةً حَتَّى يكون الماء عِدًّا، لا انقطاع له، كماء الأنهار، ويكون ظاهرًا مَعِينًا، ولا يُستقَى منه برشاء، فإن كَانَ منْ ماء الأمطار، فهو الْكَرَع بفتحتين، والناس فِي هَذَا الأمر شَرَعٌ بفتحين، وتسكّن الراء للتخفيف: أي سواء. انتهى "المصباح المنير".
وَقَالَ ابن منظور: الشريعة: موضع عَلَى شاطىء البحر، تَشْرَع فيه الدّابّ،
والشريعة، والشِّرعة: ما سنّ الله تعالى منْ الدين، وأمر به، كالصوم، والصلاة، والحجّ، والزكاة، وسائر أعمال البرّ، مشتقٌ منْ شاطىء البحر. ومنه قوله تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، قيل فِي تفسيره: الشرعة: الدين، والمنهاج: الطريق، وقيل: الشرعة، والمنهاج جميعًا: الطريق، والطريق هاهنا: الدين، ولكن اللفظ إذا اختلف أتى به بالفاظ يؤكّد بها القصّة والأمر، كقول عَنْتَرَة:
أَقْوَى وَأَقْفَر بَعْدَ أُمِّ الْهَيْثَم
فمعنى أقوى، وأقفر واحدٌ عَلَى الخلوة، إلا أن اللفظين أوكد في الخلوة. وَقَالَ محمد بن يزيد:"شرعةً": معناها: ابتداءُ الطريق، والمنهاج: الطريق المستقيم. وَقَالَ ابن عبّاس: "شرعة ومنهاجًا": سبيلاً وسنّةً. وَقَالَ قتادة: "شرعة ومنهاجًا": الدين واحدٌ، والشريعة مختلفة. وَقَالَ الفرّاء فِي قوله تعالى:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ} الآية [18]: عَلَى دين، وملّة، ومنهاجٍ، وكلُّ ذلك يقال. وَقَالَ القُتَبيّ:"عَلَى شريعة": عَلَى مثال، ومذهب، ومنه يقال: شرع فلان فِي كذا وكذا: إذا أخذ فيه، ومنه مَشَارع الماء، وهي الْفُرَضُ التي تَشْرَعُ فيها الواردة، ويقال: فلانٌ يَشْتَرع شِرْعته، ويَفْتَطِر فِطْرَته، ويَمْتَلُّ مِلَّتَه، كلُّ ذلك منْ شِرْعة الدين، وفطرته، ومِلّته. وشَرَع الدين يَشْرَعُهُ شَرْعًا: سَنَّه، وفي التنزيل:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13]، قَالَ ابن الأعرابيّ: شرع: أي أظهر، وَقَالَ فِي قوله:{شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]: قَالَ: أظهروا لهم. والشارع الرّبّانيّ: وهو العالم العامل المعلِّمُ. وشرع فلانٌ: إذا أظهر الحقّ، وقَمَعَ الباطل. قَالَ الأزهريّ: معنى شَرَعَ: بيّن، وأوضح، مأخوذٌ منْ شُرِعَ الإِهابُ: إذا شُقَّ، ولم يُزَقَّقْ: أي يجعل زِقّا، ولم يُرَجّل، وهذه ضُرُوب منْ السَّلْخِ معروفة، أوسعها، وأبينها الشَّرْعُ، قَالَ: وإذا أرادوا أن يجعلوها زِقًا سَلَخُوها منْ قِبَل قفاها، ولا يشقّوها شَقًا، وقيل فِي قوله تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13]: إن نوحًا عليه السلام أوّل منْ أتى بتحريم البنات، والأخوات، والأمّهات، وقوله عز وجل:{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} الآية [الشورى: 13]: أي وشرَعَ لكم ما أوحينا إليك، وما وصينا به الأنبياء قبلك. انتهى "لسان العرب" 8/ 176.
وأما الجزء الأول منْ الترجمة -وهو "الإيمان"- ففيه مسائل:
(المسألة الأولى): فِي تعريف الإيمان لغة، وشرعًا:
قَالَ فِي "الفتح" -1/ 67 - 68: الإيمان لغةً التصديق، وشرعًا تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به عن ربّه عز وجل، وهذا القدر متَّفقٌ عليه، ثم وقع الاختلاف، هل يُشترط
مع ذلك مزيد أمر منْ جهة إبداء هَذَا التصديق باللسان المعبِّرِ عما فِي القلب، إذ التصديق منْ أفعال القلوب؟ أو منْ جهة العمل بما صدّق به منْ ذلك، كفعل المأمورات، وترك المنهيّات، كما سيأتي ذكره، إن شاء الله تعالى. والإيمان -فيما قيل- مشتقّ منْ الأمن، وفيه نظرٌ؛ لتباين مدلولي الاْمن والتصديق، إلا إن لوحظ فيه معنى مجازيّ، فيقال: أمنه: إذا صدّقه: أي أمنه التكذيب. انتهى.
وَقَالَ فِي "القاموس": وآمن به إيمانًا: صدّقه، والإيمان: الثقة، وإظهار الخضوع، وقبول الشريعة. انتهى. وَقَالَ المرتضى فِي "شرحه": والإيمان: التصديق، وهو الذي جزم به الزمخشريّ فِي "الأساس"، واتّفق عليه أهل العلم منْ اللغويين، وغيرهم. وَقَالَ السعد: إنه حقيقة، وظاهر كلامه فِي "الكشاف" أن حقيقة آمن به آمنه التكذيب؛ لأن أمن ثلاثيًّا متعدّ لواحد بنفسه، فإذا نُقل لباب الإفعال تعدّى لاثنين، فالتصديق عليه معنى مجازيّ للإيمان، وهو خلاف كلامه فِي "الأساس"، ثم إن آمن يتعدّى لواحد بنفسه، وبالحرف، ولاثنين بالهمزة، عَلَى ما فِي "الكشّاف"، و"المصباح"، وغيرهما، وقيل: إنه بالهمزة يتعدّى لواحد، كما نقله عبد الحكيم فِي "حاشية القاضي"، وَقَالَ فِي "حاشية المطوّل": أمِن يتعدّى، ولا يتعدّى. وَقَالَ بعض المحقّقين: الإيمان يتعدّى بنفسه، كصَدّق، وباللام باعتبار معنى الإذعان، وبالباء باعتبار معنى الاعتراف، إشارةً إلى أن التصديق لا يُعتبر بدون اعتراف. وَقَدْ يكون الإيمان بمعنى الثقة، يتعدّى بالباء، بلا تضمين. قاله البيضاويّ. انتهى "تاج العروس" 9/ 125.
وَقَالَ الراغب الأصفهانيّ رحمه الله تعالى: آمن إنما يقال عَلَى وجهين: [أحدهما]: متعدّيا بنفسه، يقال: آمنته: أي جعلت له الأمن، ومنه قيل لله: مؤمن. [والثاني]: غير متعدّ، ومعناه صار ذا أمن.
والإيمان يُستعمل تارة اسما للشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} الآية [المائدة: 69]، ويوصف به كلّ منْ دخل فِي شريعته، مُقرّا بالله، وبنبوّته، قيل: وعلى هَذَا قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106].
وتارة يُستعمل عَلَى سبيل المدح، ويراد به إذعان النفس للحقّ عَلَى سبيل التصديق، وذلك باجتماع ثلاثة أشياء: تحقيق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بحسب ذلك بالجوارح، وعلى هَذَا قوله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} الآية [الحديد: 19]. ويقال لكل واحد منْ الاعتقاد، والقول الصدق، والعمل الصالح: إيمان، قَالَ تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]، أي صلاتكم، وجُعل
الحياء، وإماطة الأذى منْ الإيمان". قَالَ تعالى:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17]، قيل: معناه: بمصدّق لنا، إلا أن الإيمان هو التصديق الذي معه أمن، وقوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ} [النِّساء: 51]، فذلك مذكور عَلَى سبيل الذمّ لهم، وأنه قد حصل لهم الأمن بما لا يقع به الأمن، إذ ليس منْ شأن القلب -ما لم يكن مطبوعًا عليه- أن يطمئنّ إلى الباطل، وإنما ذلك كقوله تعالى:{وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106]، وهذا كما يقال: إيمانه الكفر، وتحيّته الضرب، ونحو ذلك. وجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم أصل الإيمان ستة أشياء فِي خبر جبريل، حيث سأله، فَقَالَ: ما الإيمان؟، والخبر معروف. انتهى "مفردات ألفاظ القرآن" ص 91 - 92.
وَقَالَ ابن منظور رحمه الله تعالى: وحَدّ الزَّجّاج الإيمانَ، فَقَالَ: الإيمان: إظهار الخضوع، والقبول للشريعة، ولما أتى به النبيّ صلى الله عليه وسلم، واعتقاده، وتصديقه بالقلب، فمن كَانَ عَلَى هذه الصفة، فهو مؤمنٌ مسلمٌ، غير مُرتاب، ولا شاكّ، وهو الذي يرى أن أداء الفرائض واجب عليه، لا يدخله فِي ذلك ريبٌ، وفي التنزيل العزيز:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17]: أي بمصدّق، فالإيمان: التصديق. وَقَالَ فِي "التهذيب": وأما الإيمان، فهو مصدر آمن يؤمن إيمانًا، فهو مؤمنٌ، واتّفق أهل العلم منْ اللغويين، وغيرهم أن الإيمان: معناه التصديق، قَالَ الله تعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} الآية [الحجرات: 14]، قَالَ: وهذا موضع يحتاج إلى تفهيمه، وأين ينفصل المؤمن منْ المسلم، وأين يستويان، والإسلام: إظهار الخضوع، والقبول لما أتى به النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبه يُحْقَن الدم، فإن كَانَ مع ذلك الإظهارِ اعتقادٌ، وتصديقٌ بالقلب، فذلك الإيمانُ الذي يقال للموصوف به هو مؤمنٌ مسلمٌ، وهو المؤمن بالله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، غير مرتاب، ولا شاكّ، وهو الذي يرى أن أداء الفرائض واجبٌ عليه، وأن الجهاد بنفسه وماله واجب عليه، لا يدخله فِي ذلك ريبٌ، فهو المؤمن، وهو المسلم حقًّا، كما قَالَ الله عز وجل:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]: أي أولئك الذين قالوا إنا مؤمنون، فهم الصادقون، فأما منْ أظهر قبول الشريعة، واستسلم لدفع المكروه، فهو فِي الظاهر مسلم، وباطنه غير مصدّق، فذلك الذي يقول: أسلمت؛ لأن الإيمان لابدّ منْ أن يكون صاحبه صِدِّيقًا؛ لأن قولك: آمنت بالله، أو قَالَ قائل: آمنت بكذا وكذا، فمعناه: صدّقت، فأخرج الله هؤلاء منْ الإيمان، فَقَالَ: {وَلَمَّا يَدْخُلِ
الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]: أي لم تُصدّقوا، إنما أسلمتم تعوّذًا منْ القتل، فالمؤمن مُبطنٌ منْ التصديق مثل ما يُظهر، والمسلم التامّ الإسلام، مظهر للطاعة، مؤمن بها، والمسلم الذي أظهر الإسلام تعوّذًا غير مؤمن فِي الحقيقة، إلا أن حكمه فِي الظاهر حكم المسلمين، وَقَالَ الله تعالى حكايةَ عن قول إخوة يوسف عليه السلام لأبيهم:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17]: لم يختلف أهل التفسير أن معناه: ما أنت بمصدّق لنا، والأصل فِي الإيمان الدخول فِي صدق الأمانة التي ائتمنه الله عليها، فإذا اعتقد التصديق بقلبه، كما صدق بلسانه، فقد أدّى الأمانة، وهو مؤمن، ومن لم يعتقد التصديق بقلبه، فهو غير مؤدٍّ للأمانة التي ائتمنه الله عليها، وهو منافقٌ، ومن زعم أن الإيمان هو إظهار القول، دون التصديق بالقلب، فإنه لا يخلو منْ وجهين:[أحدهما]: أن يكون منافقًا يَنضَح عن المنافقين، تأييدًا لهم، أو يكون جاهلاً، لا يعلم ما يقول، وما يُقال له، أخرجه الجهل، واللَّجَاج إلى عناد الحقّ، وترك قبول الصواب، أعاذنا الله منْ هذه الصفة، وجعلنا ممن علم، فاستعمل ما علم، أو جهل، فتعلّم ممن علم، وسلمنا منْ آفات أهل الزيغ، والبدع بمنّه، وكرمه.
وفي قوله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] ما يُبيّن لك أن المؤمن هو المتضمّن لهذه الصفة، وأن منْ لم يتضمّن هذه الصفة، فليس بمؤمن؛ لأن "إنما" فِي كلام العرب تجيء لتثبيت شيء، ونفي ما خالفه، ولا قوّة إلا بالله. انتهى "لسان العرب" 13/ 23 - 24. وهو تحقيق نفيس جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): فِي أن الإيمان قول، وعمل، ويزيد وينقص:
قَالَ فِي "الفتح": والكلام هنا فِي مقامين: [أحدهما]: كونه قولا وعملا. [والثاني]: كونه يزيد وينقص، فأما القول: فالمراد به النطق بالشهادتين، وأما العمل: فالمراد به ما هو أعم منْ عمل القلب والجوارح؛ ليدخل الاعتقاد والعبادات، ومراد منْ أدخل ذلك فِي تعريف الإيمان، ومن نفاه، إنما هو بالنظر إلى ما عند الله تعالى، فالسلف قالوا: هو اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط فِي كماله، ومن هنا نشأ لهم القول بالزيادة والنقص، كما سيأتي. والمرجئة قالوا: هو اعتقاد، ونطق فقط، والكرامية قالوا: هو نطق فقط، والمعتزلة قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد، والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطا فِي صحته، والسلف جعلوها شرطا فِي كماله، وهذا كله كما قلنا بالنظر إلى ما
عند الله تعالى، أما بالنظر إدى ما عندنا، فالإيمان هو الإقرار فقط، فمن أقر أُجريت عليه الأحكام فِي الدنيا، ولم يحكم عليه بكفر، إلا إن اقترن به فعلٌ يدلّ عَلَى كفره، كالسجود للصنم، فإن كَانَ الفعل لا يدلّ عَلَى الكفر، كالفسق، فمن أطلق عليه الإيمان، فبالنظر إلى إقراره، ومن نفى عنه الإيمان، فبالنظر إلى كماله، ومن أطلق عليه الكفر، فبالنظر إلى أنه فَعَل فعل الكافر، ومن نفاه عنه، فبالنظر إلى حقيقته، وأثبتت المعتزلة الواسطه، فقالوا: الفاسق لا مؤمن، ولا كافر.
[وأما المقام الثاني]: فذهب السلف إلى أن الإيمان يزيد وينقص، وأنكر ذلك أكثر المتكلمين، وقالوا: متى قَبِل ذلك كَانَ شكا، قَالَ الشيخ محيى الدين: والأظهر المختار، أن التصديق يزيد وينقص بكثرة النظر، ووضوح الأدلة، ولهذا كَانَ إيمان الصديق أقوى منْ إيمان غيره، بحيث لا يعتريه الشبهة، ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما فِي قلبه يتفاضل، حَتَّى إنه يكون فِي بعض الأحيان الإيمان أعظم يقينا، وإخلاصًا، وتوكلا منه فِي بعضها، وكذلك فِي التصديق والمعرفة، بحسب ظهور البراهين وكثرتها، وَقَدْ نقل محمد بن نصر المروزي فِي كتابه "تعظيم قدر الصلاة" عن جماعة منْ الأئمة نحو ذلك، وما نقل عن السلف، صَرح به عبد الرزاق فِي "مصنفه" عن سفيان الثوري، ومالك بن أنس، والأوزاعي، وابن جريج، ومعمر، وغيرهم، وهؤلاء فقهاء الأمصار فِي عصرهم، وكذا نقله أبو القاسم اللالكائي فِي "كتاب السنة" عن الشافعيّ، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، وغيرهم منْ الأئمة، ورَوَى بسنده الصحيح عن البخاريّ، قَالَ: لقيت أكثر منْ ألف رجل، منْ العلماء بالأمصار، فما رأيت أحدا منهم، يختلف فِي أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص، وأطنب ابن أبي حاتم، واللالكائي فِي نقل ذلك بالأسانيد، عن جمع كثير منْ الصحابة، والتابعين، وكل منْ يدور عليه الإجماع منْ الصحابة والتابعين، وحكاه فضيل بن عياض، ووكيع عن أهل السنة والجماعة. وَقَالَ الحاكم فِي "مناقب الشافعيّ": حدثنا أبو العبّاس الأصم، أخبرنا الربيع، قَالَ: سمعت الشافعيّ يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، أخرجه أبو نعيم فِي ترجمة الشافعيّ منْ "الحلية" منْ وجه آخر، عن الربيع، وزاد: يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، ثم تلا:{وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} الآية [المدثر: 31] انتهى "فتح" 1/ 68 - 69.
وَقَالَ فِي "الفتح" أيضًا فِي موضع آخر: قد نقل أبو عوانة الإسفرايني فِي "صحيحه" عن المزني، صاحب الشافعيّ، الجزم بأنهما -أي الإيمان والإسلام- عبارة عن معنى واحد، وأنه سمع ذلك منه، وعن الإمام أحمد الجزم بتغايرهما، ولكل منْ القولين أدلة
متعارضة. وَقَالَ الخطّابيّ: صنف فِي المسألة إمامان كبيران، وأكثرا منْ الأدلة للقولين، وتباينا فِي ذلك، والحق أن بينهما عموما وخصوصا، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا. انتهى كلامه ملخصًا. ومقتضاه أن الإسلام لا يُطلق عَلَى الاعتقاد والعمل معا، بخلاف الإيمان، فإنه يطلق عليهما معا، ويَرُدّ عليه قوله تعالى:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فإن الإسلام هنا يتناول العمل والاعتقاد معا؛ لأن العامِل غير المعتقد، ليس بذي دين مرضيّ، وبهذا استدل المزني، وأبو محمد البغوي، فَقَالَ فِي الكلام عَلَى حديث جبريل هَذَا: جعل النبيّ صلى الله عليه وسلم الإسلام هنا اسما لما ظهر منْ الأعمال، والإيمان اسما لما بطن منْ الاعتقاد، وليس ذاك لأن الأعمال ليست منْ الإيمان، ولا لأن التصديق ليس منْ الإسلام، بل ذاك تفصيل لجملةِ كُلُّها شيء واحد، وجِمَاعُها الدين، ولهذا قَالَ صلى الله عليه وسلم:"أتاكم يعلمكم دينكم"، وَقَالَ سبحانه وتعالى:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وَقَالَ:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]، ولا يكون الدين فِي محل الرضا والقبول، إلا بانضمام التصديق. انتهى كلامه. قَالَ الحافظ: والذي يظهر منْ مجموع الأدلة، أن لكل منهما حقيقة شرعية، كما أن لكل منهما حقيقة لغوية، لكن كل منهما مستلزم للآخر، بمعنى التكميل له، فكما أن العامل لا يكون مسلما كاملا، إلا إذا اعتقد، فكذلك المعتقد لا يكون مؤمنا كاملا، إلا إذا عمل، وحيث يطلق الإيمان فِي موضع الإسلام، أو العكس، أو يطلق أحدهما عَلَى إرادتهما معا، فهو عَلَى سبيل المجاز، ويتبين المراد بالسياق، فإن وردا معا فِي مقام السؤال، حُمِلا عَلَى الحقيقة، وإن لم يردا معا، أو لم يكونا فِي مقام سؤال، أمكن الحمل عَلَى الحقيقة، أو المجاز بحسب ما يظهر منْ القرائن، وَقَدْ حكى ذلك الإسماعيلي عن أهل السنة والجماعة، قالوا: إنهما تختلف دلالتهما بالاقتران، فإن أفرد أحدهما دخل الآخر فيه، وعلى ذلك يُحمَل ما حكاه محمد بن نصر، وتبعه ابن عبد البر عن الأكثر، أنهم سووا بينهما، عَلَى ما فِي حديث عبد القيس، وما حكاه اللالكائي، وابن السمعانيّ عن أهل السنة، أنهم فرقوا بينهما عَلَى ما فِي حديث جبريل. والله تعالى وليّ التوفيق. انتهى "فتح" 1/ 157 - 158 بيسير منْ التصرّف.
وَقَالَ الإمام النوويّ رحمه الله تعالى: فِي "شرح صحيح مسلم": أهم ما يُذكر فى الباب اختلاف العلماء فى الإيمان والإسلام، وعمومهما وخصوصهما، وأن الايمان يزيد وينقص، أم لا؟ وأن الأعمال منْ الإيمان أم لا، وَقَدْ أكثر العلماء رحمهم الله تعالى منْ المتقدمين والمتأخرين، القول فى كل ما ذكرناه، وأنا أقتصر عَلَى نقل أطراف، منْ متفرقات كلامهم، يحصل منها مقصود ما ذكرته، مع زيادات كثيرة، قَالَ
الامام أبو سليمان حمد بن محمد إبن ابراهيم الخطابى البستى الفقيه الأديب الشافعى المحقق رحمه الله فى كتابه "معالم السنن": ما أكثر ما يَغلَط النَّاس فى هذه المسألة، فأما الزهرى، فَقَالَ: الاسلام الكلمة، والإيمان العمل، واحتج بالآية يعنى قوله سبحانه وتعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} الآية [الحجرات: 14]. وذهب غيره إلى أن الإسلام والإيمان شىء واحد، واحتج بقوله تعالى:{فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35 - 36]، قَالَ الخطابى: وَقَدْ تكلم فى هَذَا الباب رجلان، منْ كبراء أهل العلم، وصار كل واحد منهما إلى قول منْ هذين، ورد الآخر منهما عَلَى المتقدم، وصنف عليه كتابا يبلغ عدد أوراقه المئين، قَالَ الخطابى: والصحيح منْ ذلك أن يقيد الكلام فى هَذَا، ولا يُطلَق، وذلك أن المسلم قد يكون مؤمنًا فى بعض الأحوال، ولا يكون مؤمنا فى بعضها، والمؤمن مسلم فى جميع الأحوال، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا، وإذا حملت الأمر عَلَى هَذَا، استقام لك تاويل الآيات، واعتدل القول فيها، ولم يختلف شىء منها. وأصل الإيمان: التصديق، وأصل الإسلام: الاستسلام، والانقياد، فقد يكون المرء مستسلما فى الظاهر، غير منقاد فى الباطن، وَقَدْ يكون صادقا فى الباطن، غير منقاد فى الظاهر.
وَقَالَ الخطابى أيضًا، فى قول النبى صلى الله عليه وسلم:"الإيمان بضع وسبعون شعبة": فى هَذَا الْحَدِيث، بيان أن الإيمان الشرعي اسم لمعنى ذى شُعَب، وأجزاء، له أدنى، وأعلى، والاسم يتعلق ببعضها، كما يتعلق بكلها، والحقيقة تقتضى جميع شعبه، وتَستَوْفِي جملة أجزائه، كالصلاة الشرعية، لها شُعب وأجزاء، والاسم يتعلق ببعضها، والحقيقة تقتضي جميع أجزائها، وتستوفيها، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"الحياء شعبة منْ الإيمان"، وفيه إثبات التفاضل فى الايمان، وتباين المؤمنين فى درجاته. هَذَا آخر كلام الخطّابيّ.
وَقَالَ الإمام أبو محمد، الحسين بن مسعود البغوى الشافعيّ رحمه الله، فى حديث سؤال جبريل صلى الله عليه وسلم، عن الإيمان والإسلام، وجوابه، قَالَ: جعل النبيّ صلى الله عليه وسلم الإسلام اسما لما ظهر منْ الأعمال، وجعل الإيمان اسما لما بطن منْ الاعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست منْ الإيمان، والتصديق بالقلب ليس منْ الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة، هي كلها شيء واحد، وجمِاعها الدين، ولذلك قَالَ صلى الله عليه وسلم:"ذاك جبريل أتاكم يعلمكم دينكم"، والتصديق والعمل، يتناولهما اسم الإيمان والإسلام جميعا، يدلّ عليه قوله سبحانه وتعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، {وَرَضِيتُ لَكُمُ
الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] ، فأخبر سبحانه وتعالى، أن الدين الذي رضيه، ويقبله منْ عباده هو الإسلام، ولا يكون الدين فى محل القبول والرضا، إلا بانضمام التصديق إلى العمل. هَذَا كلام البغوي.
وَقَالَ الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن محمد بن الفضل التميميّ الأصبهانيّ الشافعيّ رحمه الله فى كتابه "التحرير فى شرح صحيح مسلم": الإيمان فى اللغة هو التصديق، فإن عُنِي به ذلك، فلا يزيد ولا ينقص؛ لأن التصديق ليس شيئا يتجزأ، حَتَّى يتصور كماله مرة، ونقصه أخرى، والإيمان فى لسان الشرع، هو التصديق بالقلب، والعمل بالأركان، وإذا فُسر بهذا، تطرق إليه الزيادة والنقص، وهو مذهب أهل السنة، قَالَ: فالخلاف فى هَذَا عَلَى التحقيق، إنما هو أن المصدّق بقلبه، إذا لم يَجمَع إلى تصديقه العملَ بموجَب الإيمان، هل يُسمى مؤمنا مطلقا، أم لا؟ والمختار عندنا أنه لا يسمى به، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يزنى الزانى حين يزني، وهو مؤمن"، لأنه لم يعمل بموجب الإيمان، فيستحق هَذَا الإطلاق. هَذَا آخر كلام صاحب "التحرير".
وَقَالَ الامام أبو الحسن علي بن خَلَف بن بطال المالكيّ المغربيّ، فى "شرح صحيح البخاريّ": مذهب جماعة أهل السنة، منْ سلف الأمة وخلفها، أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، والحجة عَلَى زيادته ونقصانه، ما أورده البخاريّ منْ الآيات -يعني قوله عز وجل:{لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4]، وقوله تعالى:{وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13]، وقوله تعالى:{وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76]، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17]، وقوله تعالى:{وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31]، وقوله تعالى:{أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة: 124]، وقوله تعالى:{فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران: 173]، وقوله تعالى:{وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22].
قَالَ ابن بطال: فإيمان منْ لم تحصل له الزيادة ناقص، قَالَ:[فإن قيل]: الإيمان فى اللغة التصديق، [فالجواب]: أن التصديق يكمل بالطاعات كلها، فكلما ازداد المؤمن منْ أعمال البر كَانَ إيمانه أكمل، وبهذه الجملة يزيد الإيمان، وبنقصانها ينقص، فمتى نقصت أعمال البر، نقص كمال الإيمان، ومتى زادت زاد الايمان كمالا، هَذَا توسط القول فى الإيمان، وأما التصديق بالله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا ينقص، ولذلك توقف مالك رحمه الله فى بعض الروايات، عن القول بالنقصان، إذ لا يجوز نقصان التصديق؛ لأنه إذا نقص صار شكًا، وخرج عن اسم الإيمان، وَقَالَ بعضهم: إنما توقف
مالك عن القول بنقصان الإيمان؛ خشية أن يُتَأَوَّل عليه موافقة الخوارج، الذين يُكَفِّرون أهل المعاصي منْ المؤمنين بالذنوب، وَقَدْ قَالَ مالك بنقصان الإيمان، مثل قول جماعة أهل السنة، قَالَ عبد الرزاق: سمعت منْ أدركت منْ شيوخنا، وأصحابنا: سفيان الثوريّ، ومالك بن أنس، وعبيد الله بن عمر، والأوزاعيّ، ومعمر بن راشد، وابن جريج، وسفيان بن عيينة، يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وهذا قول ابن مسعود، وحذيفة، والنخعيّ، والحسن البصريّ، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وعبد الله بن المبارك، فالمعنى الذى يستحق به العبد المدح، والولاية منْ المؤمنين، هو إتيانه بهذه الأمور الثلاثة: التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح، وذلك أنه لا خلاف بين الجميع، أنه لو أقر، وعمل عَلَى غير علم منه ومعرفة بربه، لا يستحق اسم مؤمن، ولو عرفه وعمل، وجحد بلسانه، وكذَّب ما عُرف منْ التوحيد، لا يستحق اسم مؤمن، وكذلك إذا أقر بالله تعالى، وبرسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولم يعمل بالفرائض، لا يسمى مؤمنا بالإطلاق، وإن كَانَ فى كلام العرب، يسمى مؤمنا بالتصديق، فذلك غير مستحق فى كلام الله تعالى، لقوله عز وجل:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4]، فأخبرنا سبحانه وتعالى: أن المؤمن منْ كانت هذه صفته.
وَقَالَ ابن بطال فى "باب منْ قَالَ الإيمان هو العمل": [فإن قيل]: قد قَدّمتم أن الإيمان هو التصديق، [قيل]: التصديق هو أول منازل الإيمان، ويوجب للمصدق الدخول فيه، ولا يوجب له استكمال منازله، ولا يسمى مؤمنا مطلقا، هَذَا مذهب جماعة أهل السنة، أن الإيمان قول وعمل، قَالَ أبو عبيد: وهو مالك، والثوريّ، والأوزاعيّ، ومن بعدهم، منْ أرباب العلم والسنة، الذين كانوا مصابيح الهدى، وأئمة الدين، منْ أهل الحجاز، والعراق، والشام، وغيرهم. قَالَ ابن بطال: وهذا المعنى أراد البخارى رحمه الله إثباته فى "كتاب الإيمان"، وعليه بوب أبوابه كلها، فَقَالَ:"باب أمور الإيمان"، و"بابٌ الصلاةُ منْ الإيمان"، و"بابٌ الزكاةُ منْ الإيمان"، و"بابٌ الجهادُ منْ الإيمان"، وسائر أبوابه، وانما أراد الردّ عَلَى المرجئة فى قولهم: إن الإيمان قول بلا عمل، وتبيينُ غلطهم، وسوء اعتقادهم، ومخالفتهم للكتاب والسنة، ومذاهبِ الأئمة. ثم قَالَ ابن بطال فى باب آخر: قَالَ المهلب: الإسلام عَلَى الحقيقة هو الإيمان، الذي هو عقد القلب، المصدق لإقرار اللسان، الذي لا ينفع عند الله تعالى غيره. وقالت الكرامية، وبعض المرجئة: الإيمان هو الإقرار باللسان، دون عقد القلب، ومن أقوى ما
يُرَدّ به عليهم إجماعُ الأمة عدى إكفار المنافقين، وإن كانوا قد أظهروا الشهادتين، قَالَ الله تعالى:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} ، إلى قوله تعالى:{وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 83 - 84 - 85]. هَذَا آخر كلام ابن بطال.
وَقَالَ الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطع إليه سبيلا، والإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر بالقدر، خيره وشره"، قَالَ: هَذَا بيان لأصل الإيمان، وهو التصديق الباطن، وبيان أصل الإسلام، وهو الاستسلام والانقياد، وحكم الإسلام فى الظاهر ثبت بالشهادتين، وإنما أضاف إليهما الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم؛ لكونها أظهر شعائر الإسلام، وأعظمها، وبقيامه بها يتم استسلامه، وتركه لها يُشعر بانحلال قيد انقياده، أو اختلاله، ثم إن اسم الإيمان يتناول ما فُسر به الإسلام فى هَذَا الْحَدِيث، وسائر الطاعات؛ لكونها ثمرات للتصديق الباطن، الذى هو أصل الإيمان، ومقويات، ومتممات، وحافظات له، ولهذا فسر صلى الله عليه وسلم، الإيمان فى حديث وفد عبد القيس، بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، وصوم رمضان، وإعطاء الخمس منْ المغنم، ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق، عَلَى منْ ارتكب كبيرة، أو بدل فريضة؛ لأن اسم الشىء مطلقا، يقع عَلَى الكامل منه، ولا يستعمل فى الناقص ظاهرا، إلا بقيد، ولذلك جاز إطلاق نفيه عنه، فى قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يسرق السارق حين يسرق، وهو مؤمن"، واسم الإسلام يتناول أيضًا ما هو أصل الإيمان، وهو التصديق الباطن، ويتناول أصل الطاعات، فإن ذلك كله استسلام، قَالَ: فخرج مما ذكرناه، وحققنا أن الإيمان والإسلام، يجتمعان، ويفترقان، وأن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا، قَالَ: وهذا تحقيق وافر، بالتوفيق بين متفرقات نصوص الكتاب والسنة، الواردة فى الإيمان والإسلام، التي طالما غَلِط فيها الخائضون، وما حققناه منْ ذلك، موافق لجماهير العلماء، منْ أهل الْحَدِيث، وغيرهم. هذ آخر كلام الشيخ أبى عمرو بن الصلاح.
فإذا تقرر ما ذكرناه منْ مذاهب السلف، وأئمة الخلف، فهي متظاهرة، متطابقة عَلَى كون الإيمان يزيد وينقص، وهذا مذهب السلف، والمحدثين، وجماعة منْ المتكلمين، وأنكر أكثر المتكلمين زيادته ونقصانه، وقالوا: متى قبل الزيادة كَانَ شكا وكفرا، قَالَ المحققون، منْ أصحابنا المتكلمين: نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص، والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة ثمراته، وهي الأعمال ونقصانها، قالوا: وفى هَذَا توفيق بين
ظواهر النصوص التي جاءت بالزيادة، وأقاويل السلف، وبين أصل وضعه فى اللغة، وما عليه المتكلمون، وهذا الذي قاله هؤلاء، وان كَانَ ظاهرا حسنا، فالأظهر -والله أعلم- أن نفس التصديق يزيد بكثرة النظر، وتظاهر الأدلة، ولهذا يكون إيمان الصديقين، أقوى منْ إيمان غيرهم، بحيث لا تعتريهم الشُّبَه، ولا يتزلزل إيمانهم بعارض، بل لا تزال قلوبهم منشرحة نيرة، وإن اختلفت عليهم الأحوال، وأما غيرهم منْ المؤلفة، ومن قاربهم، ونحوهم، فليسوا كذلك، فهذا مما لا يمكن إنكاره، ولا يتشكك عاقل فى أن نفس تصديق أبى بكر الصديق رضى الله عنه، لا يساويه تصديق آحاد النَّاس، ولهذا قَالَ البخارى فى "صحيحه" قَالَ ابن أبى مليكة: أدركت ثلاثين منْ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق عَلَى نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه عَلَى إيمان جبريل وميكائيل، والله أعلم. وأما إطلاق اسم الإيمان عَلَى الأعمال، فمتفق عليه عند أهل الحق، ودلائله فى الكتاب والسنة، أكثر منْ أن تحصر، وأشهر منْ أن تشهر، قَالَ الله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]، أجمعوا عَلَى أن المراد صلاتكم، وأما الأحاديث، فستمر بك فى هَذَا الكتاب، منها جُمَلٌ مستكثرات، والله أعلم. واتفق أهل السنة منْ المحدثين، والفقهاء، والمتكلمين، عَلَى أن المؤمن الذي يُحكَم بأنه منْ أهل القبلة، ولا يخلد فى النار، لا يكون إلا منْ اعتقد بقلبه دين الإسلام، اعتقادا جازما، خاليًا منْ الشكوك، ونطق بالشهادتين، فإن اقتصر عَلَى إحداهما، لم يكن منْ أهل القبلة أصلاً، إلا اذا عجز عن النطق؛ لخلل فى لسانه، أو لعدم التمكن منه لمعاجلة المنية، أو لغير ذلك، فإنه يكون مؤمنا، أما إذا أتى بالشهادتين، فلا يشترط معهما، أن يقول: وأنا بريء منْ كل دين، خالف الإسلام، إلا إذا كَانَ منْ الكفار، الذين يعتقدون اختصاص رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم، إلى العرب، فإنه لا يُحكم بإسلامه، إلا بأن يتبرأ، ومن أصحابنا أصحاب الشافعيّ رحمه الله مَن شرط أن يتبرأ مطلقا، وليس بشيء، أما إذا اقتصر عَلَى قوله: لا إله إلا الله، ولم يقل: محمد رسول الله، فالمشهور منْ مذهبنا، ومذاهب العلماء أنه لا يكون مسلما، ومن أصحابنا منْ قَالَ: يكون مسلما، ويطالب بالشهادة الأخرى، فإن أبى جُعل مرتدا، ويُحتَجُّ لهذا القول، بقوله صلى الله عليه وسلم:"أُمرت أن أقاتل النَّاس حَتَّى يقولوا: لا إله إلا الله، فاذا قالوا: ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم"، وهذا محمول عند الجماهير عَلَى قول الشاهدتين، واستغنى بذكر إحداهما عن الأخرى؛ لارتباطهما، وشهرتهما. والله أعلم. أما إذا أقر بوجوب الصلاة، أو الصوم، أو غيرهما منْ أركان الإسلام، وهو عَلَى خلاف ملته التي كَانَ عليها، فهل يجعل بذلك مسلما، فيه وجهان لأصحابنا، فمن جعله مسلما، قَالَ:
كل ما يكفر المسلم بإنكاره يصير الكافر بالإقرار به مسلما، أما إذا أقر بالشهادتين بالعجمية، وهو يحسن العربية، فهل يُجعل بذلك مسلما، فيه وجهان لأصحابنا، الصحيح منهما أنه يصير مسلما؛ لوجود الإقرار، وهذا الوجه هو الحق، ولا يظهر للآخر وجه، وَقَدْ بينت ذلك مستقصى فى "شرح المهذب"، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ "شرح مسلم" 1/ 144 - 149. وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة): قد حقّق هَذَا الموضوع شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى تحقيقا بالغًا، أحببت إيراده؛ تأكيدًا، وتفصيلاً لما سبق منْ كلام الأئمة الذين نقلنا نصوصهم فِي المسائل السابقة، قَالَ رحمه الله تعالى:
[اعلم]: أن الإيمان والإسلام يجتمع فيهما الدين كلّه، وَقَدْ كثر كلام النَّاس فِي حقيقة الإيمان والإسلام، ونزاعهم، واضطرابهم، وَقَدْ صُنّفت فِي ذلك مجلّدات، والنزاع فِي ذلك منْ حين خرجت الخوارج بين عامة الطوائف، ونحن نذكر ما يُستفاد منْ كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، مع ما يُستفاد منْ كلام الله تعالى، فيصل المؤمن إلى ذلك منْ نفس كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن هَذَا هو المقصود، فلا نذكر اختلاف النَّاس ابتداء، بل نذكر منْ ذلك فِي ضمن ما يُستفاد منْ كلام الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم ما يبيّن أن ردّ موارد النزاع إلى الله تعالى، وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم خير، وأحسن تأويلاً، وأحسن عاقبة فِي الدنيا والآخرة.
فنقول: قد فرق النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي حديث جبريل عليه السلام بين مسمّى الإسلام، ومسمّى الإيمان، ومسمّى الإحسان، فَقَالَ:"الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت إن استطعت إليه سبيلا"، وَقَالَ:"الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه". والفرق مذكور فِي حديث عمر رضي الله عنه الذي انفرد به مسلم، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي اتفق البخاريّ ومسلم عليه، وكلاهما فيه أن جبريل جاءه فِي صورة إنسان أعرابيّ، فساله، وفي حديث عمر رضي الله عنه أنه جاءه فِي صورة أعرابيّ. وكذلك فسر الإسلام فِي حديث ابن عمر المشهور، قَالَ:"بُني الإسلام عَلَى خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان". وحديث جبريل يبيّن أن الإسلام المبنيّ عَلَى خمس هو الإسلام نفسه، ليس المبنيّ غير المبنيّ عليه، بل جعل النبيّ صلى الله عليه وسلم الدين ثلاث درجات: أعلاها الإحسان، وأوسطها الإيمان، ويليه الإسلام، فكل محسن مؤمن،
وكلّ مؤمن مسلم، وليس كلّ مؤمن محسنًا، ولا كلّ مسلم مؤمنا، كما سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى- فِي سائر الأحاديث، كالحديث الذي رواه حمّاد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن رجل منْ أهل الشام، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ له:"أسلِم تسلم"، قَالَ: وما الإسلام؟ قَالَ: "أن تُسلم قلبك لله، وأن يسلم المسلمون منْ لسانك، ويدك"، قَالَ: فأي الإسلام أفضل؟ قَالَ: "الإيمان"، قَالَ: وما الإيمان؟ قَالَ: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالبعث بعد الموت"، قَالَ: فأي الإيمان أفضل؟ قَالَ: "الهجرة"، قَالَ: وما الهجرة؟ قَالَ: "أن تهجر السوء"، قَالَ: فأي الهجرة أفضل؟ قَالَ: "الجهاد"، قَالَ: وما الجهاد؟ قَالَ: "أن تجاهد"، أو "تقاتل الكفار إذا لقيتهم، ولا تغلُل، ولا تجبُن"، ثم قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عملان هما أفضل الأعمال، إلا منْ عمل بمثلهما" -قالها ثلاثا- "حجة مبرورة، أو عمرة"، رواه أحمد، ومحمد بن نصر المروزيّ.
ولهذا يذكر هذه المراتب الأربعة، فيقول:"المسلم منْ سلم المسلمون منْ لسانه، ويده، والمؤمن منْ أمنه النَّاس عَلَى دمائهم وأموالهم، والمهاجر منْ هجر السيئات، والمجاهد منْ جاهد نفسه"، وهذا مروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ حديث عبد الله بن عمرو، وفَضَالة بن عُبيد، وغيرهما بإسناد جيد، وهو فِي "السنن"، وبعضه فِي "الصحيحين". وَقَدْ ثبت عنه منْ غير وجه أنه قَالَ:"المسلم منْ سلم المسلمون منْ لسانه ويده، والمؤمن مَنْ أَمِنَهُ النَّاس عَلَى دمائهم وأموالهم"، ومعلوم أن منْ كَانَ مأمونا عَلَى الدماء والأموال كَانَ المسلمون يسلمون منْ لسانه ويده، ولولا سلامتهم منه لما ائتمنوه، وكذلك فِي حديث عُبيد بن عُمير، عن عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه. وفي حديث عبد الله بن عُبيد بن عُمير أيضًا، عن أبيه، عن جدّه أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الإسلام؟ قَالَ: "إطعام الطعام، وطيب الكلام"، قيل: فما الإيمان؟ قَالَ: "السماحة، والصبر"، قيل: فمن أفضل المسلمين إسلامًا؟ قَالَ: "منْ سلم المسلمون منْ لسانه ويده"، قيل: فمن أفضل المؤمنين إيمانًا؟ قَالَ: "أحسنهم خُلُقًا"، قيل: فما أفضل الهجرة؟ قَالَ: "منْ هجر ما حرم الله عليه"، قَالَ: أيّ الصلاة أفضل؟ قَالَ: "طول القنوت"، قَالَ: أي الصدقة أفضل؟ قَالَ: "جهد مقلّ"، قَالَ: أي الجهاد أفضل؟ قَالَ: "أن تجاهد بمالك، ونفسك، فيُعقرُ جوادك، وُيراق دمك"، قَالَ: أي الساعات أفضل؟ قَالَ: "جوف الليل الغابر".
ومعلوم أن هَذَا كله مراتب، بعضها فوق بعض، وإلا فالمهاجر لابدّ أن يكون مؤمنًا، وكذا المجاهد، ولهذا قَالَ:"الإيمان السماحة والصبر"، وَقَالَ فِي الإسلام:"إطعام الطعام، وطيب الكلام"، والأول مستلزم للثاني، فإن منْ كَانَ خلقه السماحة،
فعل هَذَا بخلاف الأول، فإن الإنسان قد يفعل ذلك تخلّقا، ولا يكون فِي خلقه سماحة، وصبرٌ، وكذلك قَالَ:"أفضل المسلمين منْ سلم المسلمون منْ لسانه ويده"، وَقَالَ:"أفضل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا"، ومعلومٌ أن هَذَا يتضمّن الأول، فمن كَانَ حسن الخلق فعل ذلك. قيل للحسن البصريّ: ما حسن الخلق؟ قَالَ: بذل الندى، وكفّ الأذى، وطلاقة الوجه، فكفّ الأذى جزء منْ حسن الخلق، وستأتي الأحاديث الصحيحة بأنه جعل الأعمال الظاهرة منْ الإيمان، كقوله صلى الله عليه وسلم:"الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"، وقوله لوفد عبد القيس:"آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟: شهادة أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم".
ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيمانًا بالله بدون إيمان القلب؛ لِمَا قد أخبر فِي غير موضع أنه لابد منْ إيمان القلب، فعُلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان. وفي "المسند" عن أنس رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:"الإسلام علانية، والإيمان فِي القلب"
(1)
، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"إن فِي الجسد مضغةً إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائر الجسد، ألا وهي القلب"، فمن صلح قلبه صلح جسده قطعًا، بخلاف العكس. وَقَالَ سفيان بن عيينة: كَانَ العلماء فيما مضى يكتب بعضهم إلى بعض بهؤلاء الكلمات: منْ أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله، أصلح الله ما بينه وبين النَّاس، ومن عمل لآخرته، كفاه الله أمر دنياه. رواه ابن أبي الدنيا فِي "كتاب الإخلاص". فعلم أن القلب إذا صلح بالإيمان صلح الجسد بالإسلام، وهو منْ الإيمان، يدلّ عَلَى ذلك أنه قَالَ فِي حديث جبريل عليه السلام:"هَذَا جبريل جاءكم يُعلّمكم دينكم"، فجعل الدين هو الإسلام، والإيمان، والإحسان"، فتبين أن ديننا يجمع الثلاثة، لكن هو درجات ثلاث: مسلم، ثم مؤمن، ثم محسنٌ، كما قَالَ تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} الآية [فاطر: 32]، والمقتصد، والسابق كلاهما يدخل الجنّة بلا عقوبة، بخلاف الظالم لنفسه، وهكذا منْ أتى بالإسلام الظاهر مع تصديق القلب، لكن لم يقم بما يجب عليه منْ الإيمان الباطن، فإنه معرّضٌ للوعيد، كما سيأتي بيانه، إن شاء الله.
وأما الإحسان: فهو أعمّ منْ جهة نفسه، وأخصّ منْ أصحابه منْ الإيمان، والإيمان
(1)
ضعيف. انظر "ضعيف الجامع الصغير" لليشخ الألباني رحمه الله تعالى ص 336.
أعمّ منْ جهة نفسه، وأخصّ منْ جهة أصحابه منْ الإسلام، فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام، والمحسنون أخصّ منْ المؤمنين، والمؤمنون أخصّ منْ المسلمين، وهذا كما يقال: فِي الرسالة، والنبوّة، فالنبوّة داخلة فِي الرسالة، والرسالة أعمّ منْ جهة نفسها، وأخصّ منْ جهة أهلها، فكل رسول نبيّ، وليس كلّ نبيّ رسولاً، فالأنبياء أعمّ، والنبوة نفسها جزء منْ الرسالة، فالرسالة تتناول النبوّة، وغيرها، بخلاف النبوّة، فإنها لا تتناول الرسالة. والنبيّ صلى الله عليه وسلم فسّر الإسلام، والإيمان بما أجاب به، كما يجاب عن المحدود بالحدّ، إذا قيل: ما كذا؟ قيل: كذا وكذا، كما فِي الْحَدِيث الصحيح لَمّا قيل: ما الغيبة؟ قَالَ: "ذكرك أخاك بما يَكره"، وفي الْحَدِيث الآخر:"الكبر بطر الحقّ، وغمط النَّاس"، وبطر الحقّ: جحده، ودفعه، وغمط النَّاس: احتقارهم، وازدراؤهم. وسنذكر -إن شاء الله تعالى- سبب تنوّع أجوبته، وأنها كلّها حقّ. ولكن المقصود أن قوله صلى الله عليه وسلم:"بُني الإسلام عَلَى خمس"، كقوله: الإسلام هو الخمس، كما ذكر فِي حديث جبرائيل عليه السلام، فإن الأمر مركّبٌ منْ أجزاء تكون الهيئة الاجتماعيّة فيه مبنيّة عَلَى تلك الأجزاء، ومركّبةً منها، فالاسلام مبنيّ عَلَى هذه الأركان -وسنبين إن شاء الله- اختصاص هذه الخمس بكونها هي الإسلام، وعليها بُني الإسلام، ولم خُصّت بذلك، دون غيرها منْ الواجبات.
وَقَدْ فسّر الإيمان فِي حديث وفد عبد القيس بما فسّر به الإسلام هنا، لكنه لم يذكر فيه الحجّ، وهو متَّفقٌ عديه، فَقَالَ:"آمركم بالإيمان بالله وحده، هل تدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قَالَ: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدّوا خمس ما غنمتم، أو خمسًا منْ المغنم". وَقَدْ رُوي فِي بعض طرقه: "الإيمان بالله، وشهادة أن لا إله إلا الله"، لكن الأول أشهر، وفي رواية أبي سعيد رضي الله عنه:"آمركم باربع، وأنهاكم عن أربع: اعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئًا".
وَقَدْ فَسَّر فِي حديث شعب الإيمان الإيمان بهذا، وبغيره، فَقَالَ:"الإيمان بضع وستّون، أو بضع وسبعون شعبةً، أفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شبعة منْ الإيمان". وَقَدْ ثبت عنه منْ وجوه متعدّدة أنه قَالَ: "الحياء شعبة منْ الإيمان" منْ حديث ابن عمر، وابن مسعود، وعمران بن حصين رضي الله عنهم، وَقَالَ أيضًا:"لا يؤمن أحدكم حَتَّى أكون أحبّ إليه منْ ولده، ووالده، والناس أجمعين"، وَقَالَ:"لا يؤمن أحدكم حَتَّى يحبّ لأخيه ما يُحبّ لنفسه"، وَقَالَ:"والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن"، قيل: منْ يا رسول الله؛ قَالَ: "الذي لا يأمن جاره
بوائقه". وَقَالَ: "منْ رأى منكم منكرًا، فليُغيره بيده، فإن لم يستطع، فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". وَقَالَ:"ما بعث الله منْ نبيّ، إلا كَانَ فِي أمته قوم يهتدون بهديه، ويستنّون بسنته، ثم إنه يخلُف منْ بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده، فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمنٌ، وليس وراء ذلك منْ الإيمان حبّة خردل"، وهذا منْ أفراد مسلم. وكذلك فِي أفراد مسلم قوله صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حَتَّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حَتَّى تحابّوا، أو لا أدلّكم عَلَى شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم"، وَقَالَ فِي الْحَدِيث المتفق عليه منْ رواية أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه البخاريّ منْ حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، قَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها، وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق، وهو مؤمن، ولا ينتهب النهبة، يرفع النَّاس إليه فيها أبصارهم، وهو مؤمن".
فيقال: اسم الإيمان تارةَ يُذكر مفردًا، غير مقرون باسم الإسلام، ولا باسم العمل الصالح، ولا غيرهما، وتارة يُذكر مقرونًا، إما بالإسلام، كقوله فِي حديث جبرائيل: "ما الإسلام، وما الإيمان؟، وكقوله تعالى:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الآية [الأحزاب: 35]، وقوله عز وجل:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] الآية، وقوله عز وجل:{فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)} [الذاريات: 35 - 36]. وكذلك ذكر الإيمان مع العمل الصالح، وذلك فِي مواضع منْ القرآن، كقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية [الكهف: 107]، وإما مقرونا بالذين أوتوا العلم، كقوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ} الآية [الروم: 56]، وقوله:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} الآية [المجادلة: 11]، وحيث ذكر الذين آمنوا، فقد دخل فيهم الذين أوتوا العلم، فإنهم خيارهم، قَالَ تعالى:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] الآية، وَقَالَ:{لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} الآية [النِّساء: 162].
ويذكر أيضًا لفظ المؤمنين، مقرونًا بالذين هادوا، والنصارى، والصابئين، ثم يقول:{مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]، فالمؤمنون فِي ابتداء الخطاب غير الثلاثة، والإيمان الآخر
عمّهم، كما عمّهم فِي قوله:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 7]، وسنبسط هَذَا إن شاء الله.
فالمقصود هنا العموم والخصوص بالنسبة إلى ما فِي الباطن والظاهر منْ الإيمان، وأما العموم بالنسبة إلى الملل، فتلك مسألة أخرى، فلما ذكر الإيمان مع الإسلام، جعل الإسلام هو الأعمال الظاهرة: الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وجعل الإيمان ما فِي القلب، منْ الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وهكذا فِي الْحَدِيث الذي رواه أحمد، عن أنس رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:"الإسلام علانيةٌ، والإيمان فِي القلب"
(1)
. وإذا ذكر اسم الإيمان مجرّدًا دخل فيه الإسلام، والأعمال الصالحة، كقوله صلى الله عليه وسلم فِي حديث الشعب:"الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"، وكذلك سائر الأحاديث التي يُجعل فيها أعمال البرّ منْ الإيمان.
ثم إن نَفَى الإيمان عند عدمها دلّ عَلَى أنها واجبة، وإن ذَكر فضل إيمان صاحبها، ولم ينف إيمانه دلّ عَلَى أنها مستحبة، فإن الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم لا ينفي اسم مُسمّى أمر، أمر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم إلا إذا ترك بعض واجباته، كقوله:"لا صلاة إلا بأم القرآن"، وقوله:"لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له"، ونحو ذلك.
فأما إذا كَانَ الفعل مستحبًا فِي العبادة لم ينفها لانتفها المستحبّ، فإن هَذَا لو جاز لجاز أن ينفي عن جمهور المؤمنين اسم الإيمان، والصلاة، والزكاة، والحج؛ لأنه ما منْ عمل إلا وغيره أفضل منه، وليس أحد يفعل أفعال البرّ مثل ما فعلها النبيّ صلى الله عليه وسلم، بل ولا أبو بكر، ولا عمر، فلو كَانَ منْ لم يأت بكمالها المستحبّ يجوز نفيها لجاز أن ينفى عن جمهور المسلمين منْ الأولين والآخرين، وهذا لا يقوله عاقل. فمن قَالَ: إن المنفيّ هو الكمال، فإن أراد أنه نفي الكمال الواجب الذي يُذمّ تاركه، ويتعرّض للعقوبة، فقد صدق، وإن أراد أنه نفي الكمال المستحبّ، فهذا لم يقع قط فِي كلام الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يقع، فإن منْ فعل الواجب كما وجب عليه، ولم ينتقص منْ واجبه شيئاً، لم يجز أن يقال: ما فعله، لا حقيقةً، ولا مجازًا، فإذا قَالَ للأعرابيّ المسيء فِي صلاته:"ارجع، فصلّ، فإنك لم تصلّ"، وَقَالَ لمن صلّى خلف الصفّ، وَقَدْ أمره بالإعادة:"لا صلاة لفذّ خلف الصفّ"، كَانَ لترك واجب، وكذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي
(1)
تقدم أنه حديث ضعيف.
سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]، يبيّن أن الجهاد واجب، وترك ألاتياب واجب، والجهاد، وان كَانَ فرضًا عَلَى الكفاية، فجميع المؤمنين يخاطبون به ابتداء، فعليهم كلّهم اعتقاد وجوبه، والعزم عَلَى فعله، إذا تعيّن، ولهذا قَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"منْ مات، ولم يغز، ولم يُحدث نفسه بغزو، مات عَلَى شعبة نفاق"، رواه مسلم، فأخبر أنه منْ لم يهمّ به كَانَ عَلَى شعبة نفاق.
وأيضًا فالجهاد جنس تحته أنواع متعدّدة، ولابدّ أن يجب عَلَى المؤمن نوع منْ أنواعه، وكذلك قوله عز وجل:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} الآية [الأنفال: 2 - 4]، هَذَا كله واجب، فإن التوكّل عَلَى الله واجب، منْ أعظم الواجبات، كما أن الإخلاص لله واجب، وحبّ الله ورسوله واجب، وَقَدْ أمر الله بالتوكّل عليه فِي غير آية، أعظم مما أمر بالوضوء، والغسل منْ الجنابة، ونهى عن التوكّل عَلَى غير الله، قَالَ تعالى:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، وَقَالَ تعالى:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} ، وَقَالَ تعالى:{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160]، وَقَالَ تعالى:{وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84].
وأما قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]، فيقال: منْ أحوال القلب، وأعماله ما يكون منْ لوازم الإيمان الثابتة فيه، بحيث إذا كَانَ الإنسان مؤمنًا، لزم ذلك بغير قصد منه، ولا تعمّد له، واذا لم يوجد دلّ عَلَى أن الإيمان الواجب لم يحصل فِي القلب، وهذا كقوله تعالى:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} الآية [المجادلة: 22]، فأخبر أنك لا تجد مؤمنًا يوادّ المحادّين لله ورسوله، فإن نفس الإيمان ينافي موادّته، كما ينفي أحد الضدّين الآخر، فإذا وُجد الإيمان انتفى ضدّه، وهو موالاة أعداء الله، فإذا كَانَ الرجل يوالي أعداء الله بقلبه، كَانَ ذلك دليلاً عَلَى أن قلبه ليس فيه الإيمان الواجب.
ومثله قوله تعالى فِي الآية الأخرى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}
[المائدة: 80]، فذكر جملة شرطية تقتضي أنه إذا وُجد الشرط وُجد المشروط بحرف "لو" التي تقتضي مع الشرط انتفاء المشروط، فَقَالَ:{وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} ، فدلّ عَلَى أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء، ويُضادّه، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء فِي القلب، ودلّ ذلك عَلَى أن منْ اتخّذهم أولياء، ما فعل الإيمان الواجب، منْ الإيمان بالله، والنبيّ، وما أنزل إليه.
ومثله قوله تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} الآية [المائدة: 51]، فإنه أخبر فِي تلك الآيات أن متولّيهم لا يكون مؤمنًا، وأخبر هنا أن متولّيهم هو منهم، فالقرآن يصدّق بعضه بعضًا، قَالَ الله تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} الآية [الزمر: 23]، وكذلك قوله تعالي:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ} الآية [النور: 62] دليلٌ عَلَى أن الذهاب المذكور بدون استئذانه لا يجوز، وأنه يجب أن لا يذهب حَتَّى يستأذن، فمن ذهب، ولم يستأذن، كَانَ قد ترك بعض ما يجب عليه منْ الإيمان، فلهذا نفى عنه الإيمان، فإن حرف "إنما" تدلّ عَلَى إثبات المذكور، ونفي غيره، ومن الأصوليين منْ يقول:"إن" للإثبات، و"ما" للنفي، فإذا جُمع بينهما دلّت عَلَى النفي والإثبات، وليس كذلك عند أهل العربيّة، ومن يتكلّم بعلم، فإن "ما" هذه هي الكافّة التي تدخل عَلَى "إن" وأخواتها، فتكفّها عن العمل؛ لأنها إنما تعمل إذا اختصّت بالجمل الاسميّة، فلما كُفّت بطل عملها، واختصاصها، فصار يليها الجمل الفعليّة، والاسميّة، فتغيّر معناها، وعملها جميعا بانضمام "ما" إليها، وكذلك "كأنما"، وغيرها.
وكذلك قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} الي قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 47 - 51].
[فإن قيل]: إذا كَانَ المؤمن حقًّا هو الفاعل للواجبات، التارك للمحرّمات، فقد قَالَ:{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 4]، ولم يذكر إلا خمسة أشياء، وكذلك قَالَ فِي الآية الأخرى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]، وكذلك قوله:{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [النور: 62].
[قيل]: عن هَذَا جوابان:
[أحدهما]: أن يكون ما ذُكر مستلزمًا لما تُرك، فإنه ذَكَر وَجَلَ قلوبهم إذا ذُكر الله، وزيادة إيمانهم إذا تُليت عليهم آياته، مع التوكّل عليه، وإقام الصلاة عَلَى الوجه المأمور به باطنًا وظاهرًا، وكذلك الإنفاق منْ المال والمنافع، فكان هَذَا مستلزمًا للباقي، فإن وجَلَ القلبِ عند ذكر الله يقتضي خشيته، والخوف منه، وَقَدْ فسّروا "وجلت" بفَرِقَت، وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه:"إذا ذُكر الله فرِقَت قلوبهم"، وهذا صحيح، فإن الوجل فِي اللغة هو الخوف، يقال: حمرة الْخَجَل، وصُفْرة الوجل، ومنه قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60]، قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: يا رسول الله هو الرجل يزني، ويسرق، ويخاف أن يُعاقب؟ قَالَ:"لا يا ابنة الصّدّيق، هو الرجل يصليّ، ويصوم، ويتصدّق، ويَخاف أن لا يُقبل منه". وَقَالَ السّدّيّ فِي قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 35]: هو الرجل يريد أن يظلم، أو يهمّ بمعصية، فينزع عنه، وهذا كقوله تعالى:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40 - 41]، وقوله:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]، قَالَ مجاهد، وغيره منْ المفسّرين: هو الرجل يهمّ بالمعصية، فيذكر مقامه بين يدي الله، فيتركها خوفًا منْ الله.
وإذا كَانَ وجل القلب منْ ذكره يتضمّن خشيته، ومخافته، فذلك يدعو صاحبه إلى فعل المأمور، وترك المحظور. قَالَ سهل بن عبد الله: ليس بين العبد وبين الله حجاب أغلظ منْ الدعوى، ولا طريق إليه أقرب منْ الافتقار، وأصل كل خير فِي الدنيا والآخرة الخوف منْ الله. ويدلّ عَلَى ذلك قوله تعالى:{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154]، فأخبر أن الهدى والرحمة للذين يرهبون الله. قَالَ مجاهد، وإبراهيم: هو الرجل يريد أن يذنب الذنب، فيذكر مقام الله، فيدع الذنب. رواه ابن أبي الدنيا عن ابن الجعد، عن شعبة، عن منصور، عنهما فِي قوله تعالى:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]، وهؤلاء هم أهل الفلاح المذكور فِي قوله تعالى:{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5]، وهم المؤمنونِ، وهم المتّقون المذكورون فِي قوله تعالى:{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 1 - 2]، كما قَالَ فِي آية البرّ:{أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]، وهؤلاء هم المتّبعون للكتاب، كما فِي قوله تعالى:{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123]، وإذا
لم يضلّ، فهو متّبعٌ مهتد، وإذا لم يشقَ، فهو مرحوم، وهؤلاء هم أهل الصراط المستقيم الذين أنعم الله عليهم منْ النبيين والصّدّيقين، والشهداء، والصالحين، غير المغضوب عليهم، ولا الضّالّين، فإن أهل الرحمة ليسوا مغضوبًا عليهم، وأهل الهدى ليسوا ضالّين، فتبين أن أهل رهبة الله يكونون متّقين لله، مستحقّين للجنة بلا عذاب، وهؤلاء هم الذين أتوا بالإيمان الواجب.
ومما يدلّ عَلَى هَذَا المعنى قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} الآية [فاطر: 28]، والمعنى لا يخشاه إلا عالم، فقد أخبر الله أن كلّ منْ خشي الله فهو عالم، كما قَالَ فِي الآية الأخرى:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} الآية [الزمر: 9].
والخشية أبدًا متضمّنة للرجاء، ولولا ذلك لكانت قُنوطًا، كما أن الرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمنا، فأهل الخوف لله، والرجاء له هم أهل العلم الذين مدحهم الله. وَقَدْ رُوي عن أبي حيّان التيميّ أنه قَالَ: العلماء ثلاثة: فعالم بالله، ليس عالمًا بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس عالمًا بالله، وعالم بالله، عالم بأمر الله، فالعالم بالله هو الذي يخافه، والعالم بأمر الله هو الذي يعلم أمره ونهيه، وفي "الصحيح" عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:"والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بحدوده". وإذا كَانَ أهل الخشية هم العلماء الممدوحون فِي الكتاب والسنّة، لم يكونوا مستحقّين للذّمّ، وذلك لا يكون إلا مع فعل الواجبات. ويدلّ عليه قوله تعالى:{فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 13 - 14]، وقوله:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]، فوعد بنصر الدنيا، وبثواب الآخرة لأهل الخوف، وذلك إنما يكون لأنهم أدَّوا الواجب، فدلّ عَلَى أن الخوف يستلزم فعل الواجب، ولهذا يقال للفاجر: لا يخاف الله. ويدلّ عَلَى هَذَا المعنى قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ} الآية [النِّساء: 17]،. قَالَ أبو العالية: سألت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، فقالوا لي: كلُّ منْ عصى الله فهو جاهلٌ، وكلّ منْ تاب قبل الموت، فقد تاب منْ قريب، وكذلك قَالَ سائر المفسّرين، قَالَ مجاهد: كلّ عاص فهو جاهل حين معصيته. وَقَالَ الحسن، وقتادة، وعطاء، والسدّيّ، وغيرهم: إنما سُمُّوا جُهّالاً لمعاصيهم، لا أنهم غير مميّزين. وَقَالَ الزجّاج: ليس معنى الآية أنهم يجهلون أنه سوء؛ لأن المسلم لو أتى ما يجهله كَانَ كمن لم يواقع سوءًا، وإنما يحتمل أمرين:
[أحدهما]: أنهم عملوه، وهم يجهلون المكروه فيه. [والثاني]: أنهم أقدموا عَلَى بصيرة وعلم بأن عاقبته مكروهة، وآثروا العاجل عَلَى الآجل، فسمّوا جُهّالاً؛ لإيثارهم القليل عَلَى الراحة الكثيرة، والعافية الدائمة، فقد جعل الزجّاج الجهل إما عدم العلم بعاقبة الفعل، وإما فساد الإرادة. وَقَدْ يقال: هما متلازمان.
والمقصود هنا أن كلّ عاص لله، فهو جاهل، وكلّ خائف منه فهو عالم، مطيع لله، وإنما يكون جاهلاً لنقص خوفه منْ الله؛ إذ لو تمّ خوفه منْ الله لم يَعصِ، ومنه قول ابن مسعود رضي الله عنه: كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار به جهلاً، وذلك لأن تصوّر المخوف يوجب الهرب منه، وتصوّر المحبوب يوجب طلبه، فإذا لم يهرب منْ هَذَا، ولم يطلب هَذَا، دلّ عَلَى أنه لم يتصوّره تصوّرًا تامًا، ولكن قد يتصوّر الخبر عنه، وتصوّر الخبر، وتصديقه، وحفظ حروفه غير تصوّر المخبر عنه، وكذلك إذا لم يكن المتصوّر محبوبًا له، ولا مكروهًا، فإن الإنسان يصدّق بما هو مخوف عَلَى غيره، ومحبوب لغيره، ولا يورثه ذلك هربًا، ولا طلبًا، وكذلك إذا أُخبِر بما هو محبوبٌ له، ومكروه، ولم يكذّب المخبر، بل عرفه صدّقه، لكن قلبه مشغول بأمور أخرى عن تصوّر ما أُخبر به، فهذا لا يتحرّك للهَرَب، ولا للطلب. وفي الكلام المعروف عن الحسن البصريّ، وُيروى مرسلاً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"العلم علمان، فعلم فِي القلب، وعلم عَلَى اللسان، فعلم القلب هو العدم النافع، وعلم اللسان حجة الله عَلَى عباده". وَقَدْ أخرجا فِي "الصحيحين" عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجّة طعمها طيّب، وريحها طيّبٌ، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة، طعمها صيّبٌ، ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة، ريحها طيّبٌ، وطعمها مرٌ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة، طعمها مرٌ، ولا ريح لها". وهذا المنافق الذي يقرأ القرآن، يحفظه، ويتصوّر معانيه، وَقَدْ يصدّق أنه كلام الله، وأن الرسول حقّ، ولا يكون مؤمناً، كما أن اليهود يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وليسوا مؤمنين، وكذلك إبليس، وفرعون، وغيرهما، لكن منْ كَانَ كذلك، لم يكن حصل له منْ العلم التامّ، والمعرفة التامّة، فإن ذلك يستلزم العمل بموجبه، لا محالة، ولهذا صار يقال: لمن لم يعمل بعلمه: إنه جاهل، كما تقدّم.
وكذلك لفظ "العقل"، وإن كَانَ فِي الأصل مصدر عقل يعقل عقلاً -منْ باب ضرب- وكثير منْ النظَّار جعله منْ جنس العلوم، فلابدّ أن يُعتبر مع ذلك أنه علم يُعمل بموجبه، فلا يسمّى عاقلاً إلا منْ عرف الخير، فطلبه، والشرّ فتركه، ولهذا قَالَ
أصحاب النار: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]، وَقَالَ عن المنافقين:{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14]، ومن فعل ما يعلم أنه يضرّه، فمثل هَذَا ما له عقلٌ، فكما أن الخوف منْ الله يستلزم العلم به، فالعلم به يستلزم خشيته، وخشيته تستلزم طاعته، فالخائف منْ الله ممتثلٌ لأوامره، مجتنب لنواهيه، وهذا هو الذي قصدنا بيانه أوّلاً.
ويدلّ عَلَى ذلك أيضًا قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12)} [الأعلى: 9 - 12]، فأخبر أن منْ يخشاه يتذكّر، والتذكّر هنا مستلزم لعبادته، قَالَ الله تعالى:{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر: 13]، وَقَالَ:{تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 8]، ولهذا قالوا فِي قوله تعالى:{سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى: 10]: سيتعظ بالقرآن منْ يخشى الله، وفي قوله:{وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} : إنما يتّعظ منْ يرجع إلى الطاعة، وهذا لأن التذكر التامّ يستلزم التأثّر بما تذكّره، فإن تذكّر محبوبًا طلبه، وإن تذكّر مرهوبًا هرب منه. ومنه قوله تعالى:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6]، وَقَالَ سبحانه وتعالى:{إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [يس: 11]، فنفى الإنذار عن غير هؤلاء مع قوله:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} ، فأثبت لهم الإنذار منْ وجه، ونفاه عنهم منْ وجه، فالإنذار هو الإعلام بالمخوف، فالإنذار مثل التعليم، والتخويف، فمن علّمته، فتعلّم، فقد تمّ تعليمه، وآخر يقول: علمته، فلم يتعلّم، وكذلك منْ خوفته، فخاف، فهذا هو الذي تمّ تخويفه، وأما منْ خُوِّف فمِا خاف، فلم يتم تخويفه، وكذلك منْ هديته فاهتدى، تمّ هداه، ومنه قوله تعالى:{هُدَى لّلِمُتَّقِينَ} ، ومن هديته فلم يهتد، كما قَالَ تعالى:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} الآية [فصلت: 17]، فلم يتمّ هداه، كما تقول: قطعته فانقطع، وقطعته، فما انقطع. فالمؤثّر التامّ يستلزم أثره، فمتى لم يحصل أثره لم يكن تامًّا، والفعل إذا صادف محلاً قابلاً تمّ، وإلا لم يتمّ، والعلم بالمحبوب يورث طلبه، والعلم بالمكروه يورث تركه، ولهذا يُسمّى هَذَا العلم: الداعي، ويقال: الداعي مع القدرة، يستلزم وجود المقدور، وهو العلم بالمطلوب المستلزم لإرادة المعلوم المراد، وهذا كلّه إنما يحصل مع صحّة الفطرة، وسلامتها، وأما مع فسادها، فقد يُحسّ الإنسان باللذيذ، فلا يجد له لذّة، بل يؤلمه، وكذلك يلتذّ بالمؤلم لفساد فطرته، والفساد يتناول القوّة العلميّة، والقوّة العمليّة جميعًا، كالممرور الذي يجد العسل مُرًّا، فإنه فسد نفس إحساسه، حَتَّى كَانَ يُحسّ به عَلَى خلاف ما هو عليه للمرّة التي
مازجته، وكذلك منْ فسد باطنه، قَالَ تعالى:{يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 109 - 110]. وَقَالَ تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصفّ: 5]، وَقَالَ:{وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النِّساء: 155] وَقَالَ فِي الآية الآخرى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 88]، و"الغلف" جمع أغلف، وهو ذو الغلاف الذي فِي غلاف، مثل الأقلف، كأنهم جَعلوا المانع خلقة: أي خُلقت القلوب وعليها أغطية، فَقَالَ الله تعالى:{بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} ، {طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} ، وَقَالَ تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 16].
وكذلك قالوا: {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود: 91]، قَالَ:{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} : أي لأفهم ما سمعوه، ثم قَالَ:{وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} : أي ولو أفهمهم مع هذه الحال التي هم عليها {لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23]، فقد فسدت فطرتهم، فلم يفهموا، ولو فهموا لم يعملوا، فنفى عنهم صحّة القوّة العلميّة، وصحة القوّة العمليّة. وَقَالَ:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} ، وَقَالَ:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} ، وَقَالَ:{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]، وَقَالَ عن المنافقين:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18].
ومن النَّاس منْ يقول: لَمّا لم ينتفعوا بالسمع والبصر، والنطق، صاروا منْ الصُّمِّ العمي البكم، وليس كذلك، بل نفس قلوبهم عميت، وصُمت، وبكمت، كما قَالَ الله تعالى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]. والقلب هو الملك، والأعضاء جنوده، وإذا صلح صلح سائر الجسد، وإذا فسد فسد سائر الجسد، فيبقى يسمع بالأذن الصوت، كما تسمع البهائم، والمعنى: لا يفقه، وإن فقه بعض الفقه لم يفقه فقهًا تامًا، فإن الفقه التامّ يستلزم تأثيره فِي القلب محبّة المحبوب، وبغض المكروه، فمتى لم يحصل هَذَا لم يكن التصوّر حاصلاً، فجاز نفيه؛ لاْن ما لم يتمّ ينفى، كقوله صلى الله عليه وسلم للذي أساء فِي صلاته:"صلّ، فإنك لم تصلّ"، فنَفْيُ الإيمان
حيث نُفي منْ هَذَا الباب.
وَقَدْ جمع الله تعالى بين وصفهم بوجَل القلب إذا ذُكر الله، وبزيادة الإيمان إذا سمعوا آياته، قَالَ الضحّاك: زادتهم يقينًا. وَقَالَ الربيع بن أنس: خشيةً. وعن ابن عبّاس تصديقًا. وهكذا قد ذكر الله هذين الأصلين فِي مواضع، قَالَ تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16].
والخشوع يتضمّن معنيين: [أحدهما]: التواضع والذلّ. [والثاني]: السكون والطمأنينة، وذلك مستلزم للين القلب المنافي للقسوة، فخشوع القلب يتضمّن عبوديّته لله، وطمأنينته أيضًا، ولهذا كَانَ الخشوع فِي الصلاة يتضمّن هَذَا، وهذا: التواضع، والسكون. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فِي قوله تعالى:{الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2]: قَالَ: مخبتون أذِلّاءُ. وعن الحسن، وقتادة: خائفون. وعن مقاتل: متواضعون. وعن عليّ رضي الله عنه: الخشوع فِي القلب، وأن تُلين للمرء المسلم كنفك، ولا تلتفت يمينًا وشمالًا. وَقَالَ مجاهد: غضّ البصر، وخفض الْجناح. وكان الرجل منْ العلماء إذا قام إلى الصلاة يهاب الرحمن، أن يشدّ بصره، أو أن يُحدّث نفسه بشيء منْ أمر الدنيا. وعن عمرو بن دينار: ليس الخشوع الركوع والسجود، ولكنه السكون، وحبّ حسن الهيئة فِي الصلاة. وعن ابن سيرين وغيره: كَانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه يرفعون أبصارهم فِي الصلاة إلى السماء، وينظرون يمينًا وشمالاً حَتَّى نزلت هذه الآية:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 - 2]، فجعلوا بعد ذلك أبصارهم حيث يسجدون، وما رؤي أحد منهم بعد ذلك ينظر إلا إلى الأرض. وعن عطاء: هو أن لا تعبث بشيء منْ جسدك، وأنت فِي الصلاة. وأبصر النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلاً يعبث بلحيته فِي الصلاة، فَقَالَ:"لو خشع قلب هَذَا لخشعت جوارحه"
(1)
.
وخشوع الجسد تبع لخشوع القلب، إذا لم يكن الرجل مرائيًا يُظهر ما ليس فِي قلبه، كما روي:"تعوّذوا منْ خشوع النفاق"، وهو أن يري الجسد خاشعًا، والقلب خاليًا لاهيًا، فهو سبحانه استبطأ المؤمنين بقوله:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16]، فدعاهم إلى خشوع القلب لذكره، وما نزل منْ كتابه، ونهاهم أن يكونوا كالذين طال عليهم الأمد، فقست قلوبهم، وهؤلاء هم {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ
(1)
هَذَا موضوع مرفوعًا، وإنما هو منْ قول ابن المسيّب، وهو أيضًا ضعيف، انظر "السلسة الضعيفة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى 1/ 143 - 144 رقم الْحَدِيث 1110.
اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].
وكذلك فِي الآية الأخرى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23]، والذين يخشون ربهم هم الذين إذا ذكر الله تعالى وجلت قلوبهم.
[فإن قيل]: فخشوع القلب لذكر الله، وما نزل منْ الحقّ واجبٌ.
[قيل]: نعم، لكن النَّاس فيه عَلَى قسمين: مقتصدٌ، وسابقٌ، فالسابقون يختصّون بالمستحبّات، والمقتصدون الأبرار هم عموم المؤمنين المستحقّين للجنة، ومن لم يكن منْ هؤلاء، ولا هؤلاء، فهو ظالم لنفسه، وفي الْحَدِيث الصحيح، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اللَّهم إني أعوذ بك منْ علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، ودعاء لا يسمع".
وَقَدْ ذمّ الله قسوة القلوب المنافية للخشوع فِي غير موضع، فَقَالَ تعالى:{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} الآية [البقرة: 74]. قَالَ الزجّاج: قست فِي اللغة: غلُظت، ويبست، وعسيت، فقسوة القلب: ذهاب اللين والرحمة، والخشوع منه، والقاسي، والعاسي: الشديد الصلابة. وَقَالَ ابن قُتيبة: قست، وعست، وعتت: أي يبست، وقوّة القلب المحمودة غير قسوته المذمومة، فإنه ينبغي أن يكون قويًّا منْ غير عنف، ولينا منْ غير ضعف. وفي الأثر:"القلوب آنية الله فِي أرضه، فأحبّها إلى الله أصلبها، وأرقّها، وأصفاها"، وهذا كاليد، فإنها قويّة، ليّنة، بخلاف ما يقسو منْ العقب، فإنه يابس، لا لين فيه، وإن كَانَ فيه قوّة، وهو سبحانه ذكر وَجَلَ القلب منْ ذكره، ثم ذكر زيادة الإيمان عند تلاوة كتابه علمًا وعملاً.
ثم لابدّ منْ التوكل على الله تعالى فيما لا يقدر عليه، ومن طاعته فيما يقدر عليه، وأصل ذلك الصلاة، والزكاة، فمن قام بهذه الخمس، كما أُمر لزم أن يأتي بسائر الواجبات.
بل الصلاة نفسها إذا فعلها كما أثمر، فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، كما روي عن ابن مسعود، وابن عبّاس رضي الله عنهم:"إن فِي الصلاة منتهًى، ومُزدجرًا عن معاصي الله، فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد بصلاته منْ الله إلا بُعدًا"، وقوله:"لم يزدد إلا بُعدًا" إذا كَانَ ما ترك منْ الواجب منها أعظم مما فعله، أبعده ترك الواجب الأكثر منْ الله أكثر مما قرّبه فعل الواجب الأقلّ، وهذا كما فِي "الصحيح" عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:"تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حَتَّى إذا كانت بين قرني شيطان، قام فنقر أربعًا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا". وَقَدْ قَالَ
الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النِّساء: 142]. وفي "السنن" عن عمّار رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: "إن العبد لينصرف منْ صلاته، ولم يُكتب له منه إلا نصفها، إلا ثلثها"، حَتَّى قَالَ:"إلا عشرها"، وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، قَالَ:"ليس لك منْ صلاتك إلا ما عقلت منها"، وهذا وإن لم يؤمر بإعادة الصلاة عند أكثر العلماء، لكن يؤمر بأن يأتي منْ التطوّعات بما يجبُر نقص فرضه، ومعلومٌ أن منْ حافظ عَلَى الصلوات بخشوعها الباطن، وأعمالها الظاهرة، وكان يخشى الله الخشية التي أمره بها، فإنه يأتي بالواجبات، ولا يأتي كبيرة، ومن أتى الكبائر، مثل الزنا، أو السرقة، أو شرب الخمر، وغير ذلك، فلابدّ أن يذهب ما فِي قلبه منْ تلك الخشية، والخشوع، والنور، وإن بقي أصل التصديق فِي قلبه، وهذا منْ الإيمان الذي يُنزع منه عند فعل الكبيرة، كما قَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق، وهو مؤمن". فإن المتقين كما وصفهم الله تعالى بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]، فإذا طاف بقلوبهم طائف منْ الشيطان تذكّروا، فيُبصرون. قَالَ سعيد بن جُبير: هو الرجل يغضب الغضبة، فيذكر الله، فيكظم الغيظ. وَقَالَ ليث، عن مجاهد: هو الرجل يهمّ بالذنب، فيذكر الله، فيدعه، والشهوة، والغضب مبدأ السيّئات، فإذا أبصر رجع، ثم قَالَ:{وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 202]: أي وإخوان الشياطين تُمدّهم الشياطين فِي الغيّ، ثم لا يقصرون. قَالَ ابن عبّاس: لا الإنس تقصر عن السيّئات، ولا الشياطين تُمسك عنهم، فإذا لم يبصر بقي قلبه فِي غيّ، والشيطان يمدّه فِي غيّه، وإن كَانَ التصديق فِي قلبه لم يكذب، فذلك النور والإبصار، وتلك الخشية والخوف، يخرج منْ قلبه، وهذا كما أن الإنسان يغمض عينيه، فلا يرى شيئًا، وإن لم يكن أعمى، فكذلك القلب بما يغشاه منْ رين الذنوب، لا يُبصر الحقّ، وإن لم يكن أعمى كعمى الكافر.
وهكذا جاء فِي الآثار، قَالَ أحمد بن حنبل فِي "كتاب الإيمان": حدّثنا يحيى، عن أشعث، عن الحسن، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"يُنزع منه الإيمان، فإن تاب أُعيد إليه". وَقَالَ: حدّثنا يحيى، عن عوف، قَالَ: قَالَ الحسن: "يُجانبه الإيمان ما دام كذلك، فإن راجع راجعه الإيمان". وَقَالَ أحمد: حدّثنا معاوية، عن أبي إسحاق، عن الأوزاعيّ، قَالَ: وَقَدْ قلت للزهريّ حين ذكر هَذَا الْحَدِيث: "لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن"، فإنهم يقولون: فإن لم يكن مؤمنًا، فما هو؟ قَالَ: فأنكر ذلك، وكره مسألتي
عنه. وَقَالَ أحمد: حدّثنا عبد الرحمن بن مهديّ، عن سفيان، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، أنه قَالَ لغلمانه: منْ أراد منكم الباءة زوّجناه، لا يزني منكم زان، إلا نزع الله منه نور الإيمان، فإن شاء أن يردّه ردّه، وإن شاء أن يمنعه منعه". وَقَالَ أبو داود السجستانيّ: حدّثنا عبد الوهّاب بن نَجْدة، حدّثنا بقية بن الوليد، حدّثنا صفوان بن عمرو، عن عبد الله بن ربيعة الحضرميّ، أنه أخبره، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كَانَ يقول:"إنما الإيمان كثوب أحدكم، يلبسه مرّةً، ويقلعه أخرى"، وكذلك رواه بإسناده عن عمر رضي الله عنه. ورى عن الحسن، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلاً. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إذا زنى الزاني خرج منه الإيمان، فكان كالظلّة، فإذا انقطع رجع إليه الإيمان". انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى "مجموع الفتاوى" 7/ 5 - 33. وهو تحقيق نفيس جدًّا، لا تجده فِي كتاب غيره، فاغتنمه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي إطلاق الإنسان قوله: أنا مؤمنٌ:
قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: اختلف العلماء منْ السلف وغيرهم، فى إطلاق الإنسان قوله: أنا مؤمن، فَقَالَ طائفة: لا يقول: أنا مؤمن، مقتصرا عليه، بل يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وحَكَى هَذَا المذهب بعض أصحابنا عن أكثر أصحابنا المتكلمين، وذهب آخرون إلى جواز الإطلاق، وأنه لا يقول: إن شاء الله، وهذا هو المختار، وقول أهل التحقيق، وذهب الأوزاعيّ، وغيره إلى جواز الأمرين، والكل صحيح باعتبارات مختلفة، فمن أطلق نظر إلى الحال، وأحكام الإيمان جارية عليه فى الحال، ومن قَالَ: إن شاء الله، فقالوا فيه: هو إما للتبرك، وإما لاعتبار العاقبة، وما قدر الله تعالى، فلا يدري أيثبت عَلَى الإيمان، أم يُصرَف عنه، والقول بالتخيير حسن صحيح، نظرًا إلى مأخذ القولين الأولين، ورفعًا لحقيقة الخلاف.
وأما الكافر ففيه خلاف غريب لأصحابنا، منهم منْ قَالَ: يقال: هو كافر، ولا يقول: إن شاء الله، ومنهم منْ قَالَ: هو فى التقييد كالمسلم عَلَى ما تقدم، فيقال على قول التقييد: هو كافر إن شاء الله نظرا إلى الخاتمة، وأنها مجهولة، وهذا القول اختاره بعض المحققين، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ.
وَقَالَ الحافظ السيوطيّ رحمه الله تعالى فِي "الكوكب الساطع":
وَجَازَ أَنْ يَقُولَ إِنِّي مُؤْمِنُ
…
إِنْ شَاءَ رَبِّي خَشْيَةَ أَنْ يُفْتَنُ
بَلْ هُوَ أَوْلَى عِنْدَ جُلِّ السَّلَفِ
…
وَأَنْكَرَ الْقَوْلَ بِهَذَا الْحَنَفِي
يعني أن قوله: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى جائز؛ خشية أن يُفتن، لا شكًّا فِي
الإيمان، وهذا مذهب جلّ السلف، فقد حُكي ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وعائشة، والحسن، وابن سيرين، ومنصور، ومغيرة، والأعمش، وليث بن أبي سُليم، وعطاء بن السائب، وعمارة بن القعقاع، والعلاء بن المسيب، وإسماعيل بن أبي خالد، وعبد الله بن شُبْرُمة، والثوريّ، وابن عُيينة، وَقَالَ: إنه توكيد للإيمان، وحمزة الزيات، وعلقمة، وحماد بن زيد، والنضر بن شُميل، ويزيد بن زُريع، ويحيى ابن سعيد القطّان، والنخعيّ، وطاوس، وأبي الْبَخْتَريّ سعيد بن فَيروز، ويزيد بن أبي زياد، وعلي بن خليفة، ومعمر، وجرير بن عبد الحميد، وابن المبارك، والأوزاعيّ، ومالك، وابن مهديّ، والشافعيّ، وأبي ثور، وآخرين، واختاره أبو منصور الماتريديّ، بل بلغ قوم منْ السلف، وقالوا: إنه أولى، وعابوا عَلَى قائل: إني مؤمن. أخرج ذلك ابن أبي شيبة فِي "كتاب الإيمان". ومنع منْ ذلك أبو حنيفة، وطائفة، وقالوا: هو شكّ، والشكّ فِي الإيمان كفر. وأجيب عن ذلك باوجه:[أحدها]: أنه لا يقال شكّا، بل خوفًا منْ سوء الخاتمة؛ لأن الأعمال معتبرة بخواتمها، كما أن الصائم لا يحكم له بالصوم إلا فِي آخر النهار. [الثانية]: أنه للتبرّك، وإن لم يكن شكٌّ، كقوله تعالى:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} الآية [الفتح: 27]. [الثالثة]: أن المشيئة راجعة إلى الإيمان، فقد يُخلّ ببعضه، فيستثني لذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، راجع ما كتبته عَلَى "الكوب الساطع" ص 601 - 602.
وَقَالَ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: الاستثناء فِي الإيمان سنة عند أصحابنا، وأكثر أهل السنّة، وقالت المرجئة والمعتزلة: لا يجوز الاستثناء فيه، بل هو شكّ، والاسثناء أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أو مؤمن أرجو، أو آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، أو إن كنت تريد الإيمان الذي يَعصم دمي فنعم، وإن كنت تريد:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] فالله أعلم.
ثم هنا ثلاثة أقوال: إما أن يقال: الاسثناء واجبٌ، فلا يجوز القطع، وهذا قول القاضي فِي "عيون المسائل" وغيره. وإما أن يقال: هو مستحبّ، ويجوز القطع باعتبار آخر. وإما أن يقال: كلاهما جائز باعتبار. وإنما ذكر أن الاستثناء سنة بمعنى أنه جائز، ردًّا عَلَى منْ نهى عنه. فإذا قلنا: هو واجب، فمأخذ القاضي أنه لو جاز القطع عَلَى أنّا مؤمنون، لكان ذلك قطعًا عَلَى أنّا فِي الجنة؛ لأن الله تعالى وعد المؤمنين الجنة، ولا يجوز القطع عَلَى الوعد بالجنة؛ لأن منْ شرط ذلك الموافاة بالإيمان، ولا يعلم ذلك إلا الله، وكذلك الإيمان إنما يحصل بالموافاة، ولا يعلم ذلك، ولهذا قَالَ ابن مسعود رضي الله عنه: هلا وكل الأولى كما وكل الآخرة، يريد بذلك ما استدلّ به منْ أنَّ رجلا قَالَ
عنده: إني مؤمن، فقيل لابن مسعود رضي الله عنه: هَذَا يزعم أنه مؤمن، قَالَ: فسلوه أفي الجنّة هو، أو فِي النار؟ فسألوه، فَقَالَ: الله أعلم، فَقَالَ عبد الله: فهلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية.
قَالَ ابن تيميّة: ويُستدلّ أيضًا عَلَى وجوب الاسثناء بقول عمر رضي الله عنه: منْ قَالَ: إنه مؤمن، فهو كافر، ومن زعم أنه فِي الجنة، فهو فِي النار، ومن زعم أنه عالم، فهو جاهل، ولما استدلّ المنازع بأن الاستثناء إنما يحتاج إليه لمستقبل يشكّ فِي وقوعه قَالَ: الجواب أن هنا مستقبلًا يُشكّ فِي وقوعه، وهو الموافاة بالإيمان، والإيمان مرتبط بعضه ببعض، فهو كالعبادة الواحدة.
قَالَ: فحقيقة هَذَا القول أن الإيمان اسم للعبادة منْ أول الدخول فيه إلى أن يموت عليه، فإذا انتقض تبيّن بطلان أولها، كالحدث فِي آخر الصلاة، والوطء فِي آخر الحج، والأكل فِي آخر النهار، وقول مؤمن عند الإطلاق يقتضي فعل الإيمان كله، كقول مصلّ، وصائم، وحاجّ، فهذا مأخذ القاضي، وَقَدْ ذكر بعد هَذَا فِي "المعتمد" مسألة الموافاة، وهي متّصلة بها، وهو أن المؤمن الذي علم الله أنه يموت كافرًا، وبالعكس، هل يتعلّق رضا الله، وسخطه، ومحبّته، وبغضه بما هو عليه، أو بما يوافي به، والمسألة متعققة بالرضا والسخط، هل هو قديم، أو محدث؟.
[والمأخذ الثاني]: أن الاسم عند الإطلاق يقتضي الكمال، وهذا غير معلوم للمتكلّم، كما قَالَ اْبو العالية
(1)
: أدركت ثلاثين منْ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاف عَلَى نفسه، لا يقول: إن إيماني كإيمان جبريل، فإخبار الرجل عن نفسه أنه كامل الإيمان خبر بما لا يعلمه، وهذا معنى قول ابن المنزل: إن المرجئة تقول: إن حسناتها مقبولة، وأنا لا أشهد بذلك، وهذا مأخذ يصلح لوجوب الاستثناء، وهذا المأخذ الثاني للقاضي، فإن المنازع احتجّ بأنه لما لم يجز الاستثناء فِي الإسلام، فكذلك فِي الإيمان. قَالَ: والجواب أن الإسلام مجرّد الشهادتين، وَقَدْ أتى بهما، والإيمان أقوال، وأعمال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"الإيمان بضع وسبعون بابا"، وهو لا يتحقّق كلّ ذلك منه.
[والمأخذ الثالث]: أن ذلك تزكية للنفس، وَقَدْ قَالَ الله تعالى:{فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} الآية [النجم: 32]، وهذا يصلح للاستحباب، وإلا فإخبار الرجل بصفته التي هو عليها جائز، وإن كَانَ مدحًا، وَقَدْ يصلح للإيجاب، قَالَ الأثرم فِي "السنّة": حدثنا أحمد بن
(1)
هكذا فِي "مجموع الفتاوى"، والذي فِي "صحيح البخاريّ": وَقَالَ ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين منْ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق عَلَى نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه عَلَى إيمان جبريل ومكائيل". انتهى.
حنبل، سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما أدركت أحدًا منْ أصحابنا، ولا بلغني إلا عَلَى الاستثناء، قَالَ الأثرم: سمعت أبا عبد الله، يسأل عن الاستثناء فِي الإيمان، ما تقول فيه؟ قَالَ: أما أنا فلا أَعيبه
(1)
فاستثنى مخافة، واحتياطًا، ليس كما يقولن عَلَى الشكّ، إنما يستثني للعمل، قَالَ أبو عبد الله: قَالَ الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} الآية: أي إن هَذَا الاستثناء لغير شكّ، وَقَدْ قَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"وإنا إن شاء الله بكم لاحقون": أي لم يكن يشك فِي هَذَا، وَقَدْ استثنى، وذكر قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"نبعث إن شاء الله" منْ القبر، وذكر قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إني والله لأرجو أن أكون أخشاكم لله"، قَالَ: هَذَا كله تقوية للاستثناء فِي الإيمان. قلت لأبي عبد الله: فكأنك لا ترى بأسًا أن لا يُستثنى، فَقَالَ: إذا كَانَ ممن يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فهو أسهل عندي، ثم قَالَ أبو عبد الله: إن قومًا تضعف قلوبهم عن الاستثناء، فتعجّب منهم، وذكر كلامًا طويلاً تركته. فكلام أحمد يدلّ عَلَى أن الاستثناء لأجل العمل، وهذا المأخذ الثاني، وأنه لغير شكّ فِي الأصل، وهو يُشبه الثالث، ويقتضي أن يجوز ترك الاستثناء، وأما جواز إطلاق القول بأني مؤمن، فيصحّ إذا عنَى أصل الإيمان، دون كماله، والدخول فيه، دون تمامه، كما يقول: أنا حاج، وصائمٌ لمن شرع فِي ذلك، وكما يُطلقه فِي قوله: آمنت بالله ورسله، وفي قوله: إن كنت تعني كذا وكذا أن جواز إخباره بالفعل يقتضي جواز إخباره بالاسم مع القرينة، وعلى هَذَا يخرّج ما رُوي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، وما رُوي فِي حديث الحارث الذي قَالَ:"أنا مؤمنٌ حقًا"، وفي حديث الوفد الذين قالوا:"نحن المؤمنون"، وإن كَانَ فِي الإسنادين نظر. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى "مجموع الفتاوى" 7/ 666 - 669.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما سبق أن الأرجح هو ما عليه جلّ السلف رحمهم الله تعالى منْ أنه يجوز أن يقول الإنسان: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى؛ خوفًا منْ العاقبة، وتبرّكًا بذكر المشيئة، لا شكًّا فِي أصل الإيمان. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة)[اعلم]: أن مذهب أهل الحق، أنه لا يُكَفَّر أحد منْ أهل القبلة بذنب، ولا يكفر أهل الأهواء والبدع، وأن منْ جحد ما يُعلم منْ دين الإسلام ضرورة، حُكم بردته، وكفره، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ونحوه ممن يخفى عليه، فيُعَرَّف ذلك، فإن استمر حُكم بكفره، وكذا حكم منْ استحل الزنا،
(1)
كتب فِي "هامش مجموع الفتاوى": ما نصّه: سقط فِي الأصل مقدار نصف سطر.
أو الخمر، أو القتل، أو غير ذلك منْ المحرمات التي يُعلم تحريمها ضرورة. انتهى "النوويّ عَلَى صحيح شرح مسلم" 1/ 144 - 150.
وَقَالَ الحافظ السيوطيّ رحمه الله تعالى فِي "الكوكب الساطع":
وَلَا نَرَى تَكْفِيرَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ
…
وَلَا الْخُرُوجَ أَيْ عَلَى الأَئِمَّةِ
وقلت فِي "شرحي" عليه: أشار به إلى ما قاله الشافعيّ، وأبو حنيفة، والأشعريّ: لا نكفّر أحدًا منْ أهل القبلة بذنب أجرمه، وروى البيهقيّ بسند صحيح أن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما سُئل، هل كنتم تسمّون منْ الذنوب كفرًا، أو شركًا، أو نفاقًا؟ قَالَ: معاذ الله، لكنا نقول: مؤمنون مذنبون.
وَقَالَ الإمام الذهبيّ رحمه الله تعالى فِي "سير أعلام النبلاء" 15/ 88 - فِي ترجمة أبي الحسن الأشعريّ رحمه الله تعالى: ما نصه: رأيت للأشعريّ كلمة أعجبتني، وهي ثابتةٌ، رواها البيهقيّ، سمعت أبا حازم العبدريّ، سمعت زاهر بن أحمد السرخسيّ يقول: لَمّا قرب أجل أبي الحسن الأشعريّ فِي داري ببغداد، دعاني، فأتيته، فَقَالَ: اشهَدْ عليّ أني لا أكفّر أحدا منْ أهل القبلة؛ لأن الكلّ يُشيرون إلى معبود واحد، وإنما هَذَا كله اختلاف العبارات. قَالَ الذهبيّ: وبنحو هَذَا أدين، وكذا كَانَ شيخنا ابن تيميّة فِي أواخر أيامه يقول: أنا لا أكفّر أحدًا منْ الأمة، قَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: لا يُحافظ عَلَى الوضوء إلا مؤمن"
(1)
. فمن لازم الصلوات بوضوء، فهو مسلم. انتهى كلام الذهبيّ رحمه الله تعالى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله هؤلاء الأئمة منْ عدم تكفير أهل القبلة بالذنوب هو الحقّ، فينبغي التنبّه له، وعدم التسرّع إلى القول بتكفير أحد منهم إلا ببيّنة واضحة، لا يُقبل معها التأويل. والله تعالى أعلم بالصواب.
هذه جُمَلٌ منْ المسائل المتعلقة بالإيمان، قدمتها فى صدر الكتاب، تمهيدا لكونها مما يكثر الاحتياج إليها، ولكثرة تكرارها، وتردادها فى الأحاديث، فقدمتها فِي موضع واحد؛ ليسهل فهمها، ويقرب إداركها، ويتيسّر الإحالة عليها، إذا مرّ فِي الأبواب الآتية ما يتعلّق بها. والله أعلم بالصواب، وله الحمد والنعمة، وبه التوفيق والعصمة.
…
(1)
حديث صحيح أخرجه أحمد، والدارمي، والحاكم، وابن حبّان.
1 - (ذِكْرِ أَفْضَلِ الأَعْمَالِ)
4987 -
(حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، مِنْ لَفْظِهِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، سُئِلَ أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ").
قَالَ الجَامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير مرّة.
والقائل: "حدّثنا أبو عبد الحمن الخ" هو تلميذ المصنّف، والظاهر أنه الحافظ أبو بكر بن السنّيّ رحمه الله تعالى؛ لأنه المشهور برواية "المجتبى" عن المصنّف رحمه الله تعالى. و"عمرو بن عليّ": هو الفلّاس. و"عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. و"إبراهيم ابن سعد": هو الزهريّ المدنيّ الثقة الثبت [8].
والسند فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه ابن المسيب أحد الفقهاء السبعة، وفيه أنه منْ أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رئيس المكثرين السبعة، روى منْ الأحاديث (5374). والله تعالى أعلم.
وقوله: "أيّ الأعمال أفضل الخ": قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: قد وردت فِي أفضل الأعمال أحاديث مختلفة، ذكر العلماء فِي التوفيق بينها وجوهًا، وأحسن ما قالوا أنه خاطب كلّ شخص بالنظر إلى مقامه، وما يقتضيه حاله، كما هو حال الحكيم، نعم لا إشكال فِي هَذَا الْحَدِيث، فإن الظاهر أن الإيمان أفضل الأعمال عَلَى الإطلاق، وفيه إطلاق اسم العمل عَلَى الإيمان، وأنه لا يختصّ بأفعال الجوارح، وعلى هَذَا فعطف العمل عَلَى الإيمان فِي مواضع منْ القرآن، مثل:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الكهف: 107]، منْ عطف الأعمّ عَلَى الأخصّ، إلا أن يخصّ العمل فِي الآية بعمل الجوارح بقرينة المقابلة، فيكون منْ عطف المتباينين. والله تعالى أعلم. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدّم فِي "كتاب الحجّ" بيان أقوال العلماء فِي الجمع بين الأحاديث المختلفة فِي بيان أفضل الأعمال، مستوفًى، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه هَذَا متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي "كتاب الحجّ" 4/ 2624 وتقدّم تمام شرحه، وبيان مسائله هناك. ومطابقته للترجمة واضحة. والله تعالى أعلم
بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4988 -
(أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَلِيٍّ الأَزْدِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُبْشِيٍّ الْخَثْعَمِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، سُئِلَ أَىُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: "إِيمَانٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَجِهَادٌ لَا غُلُولَ فِيهِ، وَحَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "هارون بن عبد الله": هو أبو موسى الْحَمّال البغداديّ الحافظ الثبت. و"حجّاج": هو ابن محمد الأعور المصّيصيّ الحافظ الثقة. و"عثمان بن أبي سليمان": هو القرشيّ النوفليّ المكيّ، قاضيها، ثقة [6] 13/ 1205. و"عليّ الأزديّ": هو ابن عبد الله البارقيّ، أبو عبد الله، صدوقٌ [3] 12/ 416. و"عُبيد بن عمير": هو الليثيّ، أبو عاصم المكيّ، مجمع عَلَى ثقته [2] 12/ 416. و"عبد الله بن حُبشيّ" -بضم الحاء المهملة، وسكون الموحّدة، بعدها معجمة، ثم ياء ثقيلة- أبو قُتيلة، صحابيّ مقلّ فِي الرواية رضي الله عنه، تقدّم فِي 49/ 2526.
وقوله: "لا شك فيه": أي فِي متعلّقه، وهو الْمُؤْمَن به، والمراد بنفي الشكّ نفي احتمال مُتعلّقه النقيض بوجه منْ الوجوه، كما هو المعنى اللغويّ، لا نفي الاحتمال المساوي، كما هو المتعارف فِي الاصطلاح، فرجع حاصل الجواب إلى أنه التصديق اليقيني، دون الظنّيّ، فإن التصديق يكون عَلَى وجه اليقين والظنّ، فلا يرد أن الشكّ لا يجتمع مع التصديق أصلاً، فلا فائدة فِي هَذَا الوصف، وحملُ الشكّ فيه عَلَى إظهار الشكّ فيه بلفظ الاستثناء بأن يقول: أنا مؤمنٌ، إن شاء الله بعيدٌ. قاله السنديّ رحمه الله تعالى.
وقوله: "وجهاد لا غلول فيه": أي لا خيانة فِي غنائمه. وقوله: "وحجة مبرورة": أي حجة لا يخالطها شيء منْ المآثم، وقيل: هي المقبولة المقابلة بالبر، وهو الثواب.
والحديث صحيحٌ، وَقَدْ تقدّم فِي "كتاب الزكاة" 49/ 2526. وتقدّم تمام شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
***
2 - (طَعْمُ الإِيمَانِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الطَّعْم" بالفتح: ما يؤدّيه الذّوق، فيقال: طَعْمه حُلْوٌ، أو حامضٌ، وتغيّر طَعْمه: إذا خرج عن وصفه الْخِلْقيّ، والطَّعْمُ: ما يُشتهى منْ الطعام، وليس للغثّ طَعْمٌ، والطَّعَم بفتحتين لغةٌ كلابيّةٌ. قاله فِي "المصباح". والله تعالى أعلم بالصواب.
4989 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ، وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ، وَطَعْمَهُ، أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عز وجل وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ فِي اللَّهِ، وَأَنْ يُبْغِضَ فِي اللَّهِ، وَأَنْ تُوقَدَ نَارٌ عَظِيمَةٌ، فَيَقَعُ فِيهَا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(إسحاق بن إبراهيم) الحنظليّ المروزي المعروف بابن راهويه، ثقة ثبت [10] 2/ 2.
2 -
(جرير) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبيّ الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقة صحيح الكتاب، قيل: كَانَ فِي آخره يَهِم منْ حفظه [9] 2/ 2.
3 -
(منصور) بن المعتمر، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقة ثبت [6] 2/ 2.
4 -
(طلق -بسكون اللام- ابن حبيب) الْعَنَزيّ -بفتح المهملة، والنون- البصريّ، صدوقٌ، عابد، رُمي بالإرجاء [3].
رَوَى عن عبد الله بن عباس، وابن الزبير، وابن عمرو بن العاص، وجابر، وجندب، وحيدة رجل له صحبة، وأبي طليق رجل له صحبة، وأنس بن مالك، والأحنف بن قيس، وسعيد بن المسيب، ووالده حبيب، وغيرهم. وعنه طاوس، وهو منْ أقرانه، وسعيد بن المهلب، والأعمش، ومنصور، ومصعب بن شيبة، وسليمان التيمي، ويونس ابن خباب، وسَعْد بن إبراهيم، والمختار بن فُلْفُل، وغيرهم. قَالَ أبو حاتم: صدوقٌ فِي الْحَدِيث، وكان يرى الإرجاء. وَقَالَ حماد بن زيد، عن أيوب: قَالَ لي سعيد بن جبير: لا تجالسه، قَالَ حماد: وكان يرى الإرجاء. وَقَالَ طاوس: كَانَ طلق ممن يخشى الله تعالى. وَقَالَ مالك بن أنس: بلغني أن طلق بن حبيب، كَانَ منْ العباد، وأنه هو وسعيد ابن جبير، وقراء كانوا معهم طلبهم الحجاج، وقتلهم. وَقَالَ أبو زرعة: كوفيّ سمع ابن
عباس، وهو ثقة، لكن كَانَ يرى الإرجاء. وَقَالَ ابن سعد: كَانَ مرجئا، ثقة إن شاء الله تعالى. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ: كَانَ مرجئا عابدا. وَقَالَ العجليّ: مكي
(1)
تابعيّ ثقة، كَانَ منْ أعبد أهل زمانه. وَقَالَ أبو بكر البزار فِي "مسنده": لا نعلمه سمع منْ أبي ذر شيئا. وَقَالَ أبو الفتح الأزدي: كَانَ داعية إلى مذهبه، تركوه. وذكره البخاريّ فِي "الأوسط" فيمن مات بين التسعين إلى المائة. وَقَالَ البخاريّ: ثنا علي، ثنا محمد بن بكر، ثنا أبو معدان، قَالَ: سمعت حبيب بن أبي ثابت قَالَ: كنت مع طلق بن حبيب، وهو مُكَبَّل بالحديد، حين جيء به إلى الحجاج، مع سعيد بن جبير، ويقال: إنه أخرج منْ سجن الحجاج بعد موته، وتُوفي بعد ذلك بواسط. وَقَالَ أبو جعفر الطبري فِي "تاريخه": كتب الحجاج إلى الوليد، أن أهل الشقاق لجأوا إلى مكة، فكتب الوليد إلى القسري، فأخذ عطاء، وسعيد بن جبير، ومجاهدا، وطلق بن حبيب، وعمرو بن دينار، فأما عمرو، وعطاء، ومجاهد، فأُرسلوا؛ لأنهم كانوا منْ أهل مكة، وأما الآخران فبَعث بهما إلى الحجاج، فمات طلق فِي الطريق.
روى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، ومسلم، والأربعة، وله فِي هَذَا الكتاب حديثان فقط، هَذَا، وفي "كتاب الزينة" 1/ 5042 و5043 و5044 - حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، مرفوعًا: "عشرة منْ الفطرة
…
" الْحَدِيث.
5 -
(أنس بن مالك) الأنصاريّ الصحابيّ الخادم المشهور رضي الله تعالى عنه 6/ 6. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله تعالى عنه منْ المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر منْ مات منْ الصحابة رضي الله تعالى عنهم بالبصرة، سنة (2) أو (93) وَقَدْ جاوز المائة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثٌ) ذكر العدد لتقدير المعدود مؤنثًا: أي ثلاث خصال، أو خصالٌ ثلاثٌ، فـ"ثلاث" مبتدأ لتخصيصه بالمقدّر المذكور، والجملة الشرطيّة خبره، أو صفة له، وقوله: "أن يكون الله الخ" خبره.
(1)
المشهور أنه كوفيّ، ولعله استند إلى قصّة الطبريّ الآتية. والله تعالى أعلم.
قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: إنما خصّ هذه الثلاث بهذا المعنى؛ لأنها لا توجد إلا ممن تنوّر قلبه بأنوار الإيمان واليقين، وانكشفت له محاسن تلك الأمور، التي أوجبت له تلك المحبّة التي هي حال العارفين. انتهى "المفهم" 1/ 211 - 212.
(مَنْ كُنَّ فِيهِ) أي منْ وُجدن فيه، فـ"كَانَ" تامّة، أو منْ كُنّ مجتمعةً فيه، فهي ناقصة (وَجَدَ بِهِنَّ) أي بسبب وجودهنّ فيه، أو اجتماعهن فيه (حَلَاوَةَ الأيمَانِ) قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: هي عبارة عما يجده المؤمن المحقّق فِي إيمانه، المطمئنّ قلبه به، منْ انشراح صدره، وتنويره بمعرفة الله تعالى، ومعرفة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة منّة الله تعالى عليه فِي أن أنعم عليه بالإسلام، ونَظَمَه فِي سلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الأنام، وحبّب إليه الإيمان والمؤمنين، وبغض إليه الكفر والكافرين، وأنجاه منْ قبيح أفعالهم، ورَكاكة أحوالهم، وعند مطالعة هذه المنن، والوقوف عَلَى تفاصيل تلك النعم، تطير القلوب فرَحًا، وسُرورًا، وتمتلىء إشراقًا وتورًا، فيالها منْ حلاوة ما ألذّها، وحالة ما أشرفها، فنسأل الله تعالى أن يمنّ بدوامها، وكمالها، كما منّ بابتدائها وحصولها، فإن المؤمن عند تذكّر تلك النعم والمنن، لا يخلو عن إدراك تلك الحلاوة، غير أن المؤمنين فِي تمكّنها، ودوامها متفاوتون، وما منهم إلا وله منها شِرْبٌ معلوم، وذلك بحسب ما قُسم لهم منْ هذه المجاهدات الرياضيّة، والمنح الربّانيّة. انتهى "المفهم" 1/ 210.
(وَطَعْمَهُ) بفتح الطاء، كما تقدّم أول الباب، وعطفه عَلَى ما قبله منْ باب عطف التفسير.
وقيل: الحلاوة: الحسن، وبالجملة فللإيمان لذّة فِي القلب تشبه الحلاوة الحسّيّة، بل ربّما يغلب عليها حَتَّى يدفع بها أشدّ المرارت، وهذا مما يَعلَم به مَنْ شَرِح اللهُ صدره
للإسلام، اللَّهم ارزقناها مع الدوام عليها (أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عز وجل وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا) بنصب "أحبّ" عَلَى أنه خبر "يكون". قيل: المراد هو الحب الاختياريّ، لا الطبيعيّ، ومرجعه إلى أن يختار طاعتهما عَلَى هوى النفس، وغيرها (وَأَنْ يُحِبَّ) أي غيرَ الله سبحانه وتعالى (فِي اللهِ) أي لأجله، لا لأجل أمر آخر منْ الأمور الدنيويّة (وَأَنْ يَبْغُضَ فِي اللهِ) أي لأجله، وهما جميعًا خصلة واحدة؛ للّزوم بينهما عادةً، وحاصل هَذَا هو أن يكون الله تعالى هو المحبوب بالكلّيّة، فلا يقدّم حظوظ نفسه عَلَى محابّه، بل لا يرى نفسه أصلا، إلا منْ حيث كونها عبدا له تعالى، فعند ذلك تصير نفسه وغيره سواء؛ لوجود هَذَا القدر فِي الكلّ، فينظر إلى الكلّ عَلَى حدّ سواء، فلا يُرجّح نفسه عَلَى غيرها أصلاً، ولا يرجح أحدًا عَلَى أحد إلا بقدر قربه منه سبحانه وتعالى، وحينئذ يظهر عليه آثار قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدكم حَتَّى يُحبّ لأخيه ما يُحبّ لنفسه"، نعم هَذَا لا ينافي
تقديم نفسه عَلَى غيره فِي الإنفاق ونحوه، لأن ذلك بأمر الله سبحانه وتعالى له بذلك (وَأَنْ تُوقَدَ نَارٌ عَظِيمَةٌ، فَيَقَعُ فِيهَا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا) قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: ظاهره أنه مبتدأ، خبره "أحبّ إليه"، لكن عدّ الجملة منْ الخصال غير مستقيم، فالوجه أن يقدّر "أن يكون"، ويُجعل "أن يوقد" اسما له، و"أحبّ" بالنصب خبرًا: أي وأن يكون إيقاد نار عظيمة، فوقوعه فيها أحبّ إليه منْ الشرك: أي يصير الشرك عنده لقوّة اعتقاده بجزائه الذي هو النار المؤبّد بمنزلة جزائه فِي الكراهة، والنفرة عنه، فكما أنه لو خُيّر بين نار الآخرة، ونار الدنيا، لاختار نار الدنيا، كذلك لو خيّر بين الشرك، ونار الدنيا، لاختار نار الدنيا، ومرجع هَذَا أن يصير الغيب عنده منْ قوّة الاعتقاد كالعيان، كما رُوي عن عليّ رضي الله عنه:"لو كُشف الغطاء ما ازددت يقينًا". ولا يخفى أن منْ تكون عقيدته منْ القوّة بهذا الوجه، ومحبّة الله تعالى بذلك الوجه، فهو حقيق بأن يجد منْ لذّة الإيمان ما يجد. والله تعالى أعلم. انتهى كلام السنديّ رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هَذَا صحيح، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -2/ 4989 - . وفوائده ستأتي قريبًا، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
3 - (حَلَاوَةُ الإِيْمَانِ)
4990 -
(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، رضى الله عنه، يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ، وَجَدَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ: مَنْ أَحَبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ عز وجل، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ عز وجل، وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ كَانَ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ أَحَبَّ إِلَيْهِ، مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفْرِ، بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(سُويد بن نصر) المروزيّ، راوية ابن المبارك، ثقة [10] 45/ 55.
2 -
(عبد الله) بن المبارك الحنظليّ، أبو عبد الرحمن المروزيّ، ثقة ثبت حجة [8] 32/ 36.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت المشهور [7] 27/ 24.
4 -
(قتادة) بن دِعامة السدوسيّ البصريّ، ثقة ثبت يُدلّس [4] 30/ 34. والصحابيّ مرّ فِي السند الماضي. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به هو والترمذي. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين، غير شيخه، وعبد الله فمروزيان. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ قَتَادَةَ) بن دعامة السَّدُوسيّ، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، رضي الله عنه، يُحَدِّثُ) جملة فِي محلّ نصب عَلَى الحال منْ الفاعل: أي حال كونه محدّثًا (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "ثَلَاثٌ) مبتدأ، وجاز الابتداء بالنكرة؛ لأن التنوين عوض المضاف إليه، تقديره: ثلاث خصال، أو "ثلاث" صفة لمصوف محذوف: تقديره: خصالٌ ثلاثٌ، والخبر عَلَى هذين التقديرين جملة "منْ كنّ فيه الخ"، وذكر العينيّ فِي "شرح البخاريّ" وجها ثالثًا منْ الإعراب، وهو أن يكون "ثلاثٌ" مبتدأ، وجملة الشرط بعده صفته، والخبر قوله:"أن يكون الله الخ"، ولا يظهر لي توجيهه، والله تعالى أعلم (منْ كن فيه) أي حصلن فيه فـ"كَانَ" تامة (وَجَدَ حَلَاوَةَ الإيمَانِ) قَالَ فِي "الفتح": فيه استعارة تخييلية، شَبَّه رَغْبةَ المؤمن فِي الإيمان، بشيء حلو، وأَثبت له لازم ذلك الشيء، وأضافه إليه، وفيه تلميح إلى قصة المريض والصحيح؛ لأن المريض الصفراوي، يجد طعم العسل مُرّا، والصحيح يذوق حلاوته عَلَى ما هي عليه، وكلما نقصت الصحة شيئًا ما، نقص ذوقه بقدر ذلك، فكانت هذه الاستعارة منْ أوضح ما يُقَوّي استدلال البخاريّ عَلَى الزيادة والنقص، أي عَلَى زيادة الإيمان، ونقصه. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذكره صاحب "الفتح" منْ دعوى الاستعارة فِي الحلاوة، فيه نظر؛ لأنه إخراج للفظ الْحَدِيث إلى معنى مجازيّ منْ غير حاجة إليه، بل الأولى أن تكون الحلاوة عَلَى معناها الحقيقيّ، كما قَالَ بعض المحقّقين رحمه الله تعالى: اختلف العلماء هل الحلاوة محسوسة، أو معنوية، فحملها قوم عَلَى المعنى، وحملها قوم عَلَى المحسوس، وأبقوا اللفظ عَلَى ظاهره، منْ غير أن يتأولوه،
قَالَ: والصواب معهم فِي ذلك -والله أعلم- لأن ما ذهبوا إليه أبقوا به لفظ الْحَدِيث عَلَى ظاهره، منْ غير تأويل، وهو أحسن منْ التأويل، ما لم يُعارض لظاهر اللفظ معارضٌ، ويشهد لما ذهبوا إليه أحوال الصحابة رضي الله عنهم، والسلف الصالح، وأهل المعاملات؛ لأنه قد حُكي عنهم أنهم وجدوا الحلاوة محسوسة، فمن جملة ما حُكي فِي ذلك حديث بلال رضي الله عنه حين صنع به ما صنع فِي الرمضاء إكراهًا عَلَى الكفر، وهو يقول: أَحَدٌ أحدٌ، فمزج مرارة العذاب بحلاوة الإيمان، وكذلك أيضًا عند موته أهله يقولون: واكرباه، وهو يقول: واطرباه.
غَدًا أَلْقَى الأَحِبَّهْ مُحَمَّدًا وَصَحْبَهْ
فمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء، وهي حلاوة الإيمان. ومنها حديث الصحابيّ الذي سُرق فرسه بليل، وهو فِي الصلاة، فرأى السارق حين أخذه، فلم يقطع لذلك صلاته، فقيل له فِي ذلك؟ فَقَالَ: ما كنت فيه أكبر منْ ذلك، وما ذاك إلا للحلاوة التي وجدها محسوسة فِي وقته ذلك. ومنها: حديث الصحابيّين اللذين جعلهما النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي بعض مغازيه ليلةً يحرُسان جيش المسلمين، فنام أحدهما، وقام الآخر يصليّ، فإذا الجاسوس منْ قبل العدوّ، وَقَدْ أقبل، فرآهما، فكبد الجاسوس القوس، ورمى الصحابيّ، فأصابه، فبقي عَلَى صلاته، ولم يقطعها، ثم رماه ثانيةً، فأصابه، فلم يقطع لذلك صلاته، ثم رماه ثالثةً، فأصابه، فعند ذلك أيقظ صاحبه، وَقَالَ: لولا أني خِفتُ عَلَى المسلمين ما قطعت صلاتي. وما ذاك إلا لشدّة ما وجد فيها منْ الحلاوة، حَتَّى أذهبت عنه ما يجده منْ ألم السهام. انتهى.
وَقَالَ أيضًا: ما حاصله: إنما عبر بالحلاوة؛ لأن الله شبة الإيمان بالشجرة فِي قوله تعالى: {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} الآية، فالكلمة الطيبة: هي كلمة الإخلاص، وهي أسّ الدين، وبها قوامه، فكلمة الإخلاص فِي الإيمان، كأصل الشجرة لابدّ منه أوّلاً، وأغصان الشجرة فِي الإيمان عبارة عما تضمّنته كلمة الإخلاص، منْ اتباع الأمر، واجتناب النهي، والزهر فِي الشجرة هو فِي الإيمان عبارة عما يحدث للمؤمن فِي باطنه منْ أفعال البر، وما ينبت فِي الشجرة منْ الثمرة هو فِي الإيمان عبارة عن أفعال الطاعات، وحلاوة الثمرة فِي الشجرة هي فِي الإيمان عبارة عن كماله، وعلامة كماله هو ما ذكره النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْحَدِيث؛ لأن غاية فائدة الثمرة فِي تناهي حلاوة ثمرها، وكماله، ولهذا قَالَ تعالى:{تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 25]. انتهى
(1)
.
(1)
راجع "بهجة النفوس" للشيخ أبي جمرة رحمه الله تعالى 1/ 26 - 27.
(وَمَنْ أَحَبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ عز وجل قَالَ أبو العبّاس: يعني بالمرء هنا: المسلم المؤمن؛ لأنه هو الذي يمكن أن يُخْلَصَ لله تعالى فِي محبّته، وأن يُتقرَّب لله تعالى باحترامه، وحرمته، فإنه الموصوف بالأخوّة الإيمانيّة، والمحبّة الدينيّة، كما قَالَ الله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} الآية [الحجرات: 10]، وكما قَالَ تعالى:{فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]، وَقَدْ أفاد هَذَا الْحَدِيث أن محبّة المؤمن الموصلة لحلاوة الإيمان لابدّ أن تكون خالصة لله تعالى، غير مشوبة بالأعراض الدنيويّة، ولا الحظوظ البشريّة، فإن منْ أحبه لذلك انقطعت محبّته إن حصل له ذلك الغرض، أو يئس منْ حصوله، ومحبة المؤمن وظيفة متعيّنة عَلَى الدوام، وُجدت الأعراض، أو عُدمت. ولَمّا كانت المحبة للأعراض هي الغالبة قلّ وجدان تلك الحلاوة، بل قد انعدم، لاسيّما فِي هذه الأزمان التي قد امحى فيها أكثر رسوم الإيمان. وعلى الجملة فمحبّة المؤمنين منْ العبادات التي لابدّ فيها منْ الإخلاص فِي حسن النيّات. انتهى "المفهم" 1/ 214 - 215.
وَقَالَ يحيى بن معاذ: حقيقة الحب فِي الله أن لا يزيد بالبرّ، ولا ينقص بالجفاء. ذكره فِي "الفتح" 1/ 89.
(وَمَنْ كَانَ اللَّهُ عز وجل، وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا) بنصب "أحبَّ"؛ لأنه خبر "يكون".
قَالَ البيضاوي: المراد بالحب هنا الحب العقلي، الذي هو إيثار ما يقتضي العقل السليم رجحانه، وإن كَانَ عَلَى خلاف هوى النفس، كالمريض يَعاف الدواء بطبعه، فينفر عنه، ويميل إليه بمقتضى عقله، فيَهْوَى تناوله، فإذا تأمل المرء أن الشارع لا يأمر، ولا ينهى إلا بما فيه صلاح عاجل، أو خلاص آجل، والعقل يقتضي رجحان جانب ذلك، تَمَرَّن عَلَى الائتمار بأمره، بحيث يصير هواه تبعا له، ويلتذ بذلك التذاذا عقليا؛ إذ الالتذاذ العقلي: إدراك ما هو كمال، وخير منْ حيث هو كذلك، وعبر الشارع عن هذه الحالة بالحلاوة؛ لأنها أظهر اللذائذ المحسوسة. قَالَ: وإنما جعل هذه الأمور الثلاثة عنوانا لكمال الإيمان؛ لأن المرء إذا تأمل أن المنعم بالذات هو الله تعالى، وأن لا مانح، ولا مانع فِي الحقيقة سواه، وأن ما عداه وسائط، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يبين له مراد ربه، اقتضى ذلك أن يتوجه بكليته نحوه، فلا يحب إلا ما يحب، ولا يحب منْ يحب إلا منْ أجله، وأن يتقين أن جملة ما وَعَد، وأوعد حقّ يقينا، ويُخَيَّل إليه الموعود كالواقع، فيحسب أن مجالس الذكر رياض الجنة، وأن العود إلى الكفر إلقاء فِي النار. انتهى ملخصا.
وشاهد الْحَدِيث منْ القرآن، قوله تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى أن قَالَ: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ، ثم هَدَّد عَلَى ذلك، وتوعد بقوله:{فَتَرَبَصُواْ} الآية [التوبة: 24]. ذكره فِي "الفتح" 1/ 87.
وَقَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: فيه دليل عَلَى جواز إضافة المحبّة لله تعالى، وإطلاقها عليه، ولا خلاف فِي أن إطلاق ذلك عليه صحيحٌ، محبّا، ومحبوبًا، كما قَالَ تعالى:{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} الآية [المائدة: 54]، وهو فِي السنّة كثير، ولا يختلف النظّار منْ أهل السنة، وغيرهمِ أنها مؤوّلة فِي حقّ الله تعالى؛ لأن المحبّة المتعارفة فِي حقّنا، إنما هي ميلٌ لما فيه غرَض يستكمل به الإنسان ما نقصه، وسكون لما تلتذّ به النفس، وتكمل بحصوله، والله تعالى منزّه عن ذلك.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله القرطبيّ منْ أنه لا يختلف النظّار منْ أهل السنة الخ أراد به المتكلّمين، فليس هَذَا مذهب أهل السنة منْ السلف، ومن تبعهم منْ أهل الْحَدِيث، فإنهم لا يؤوّلون صفة المحبّة التي أثبتها الله تعالى لنفسه، بل يثبونها كما أثبتها عَلَى ظاهرها، عَلَى الوجه الذي يليق بجلاله سبحانه وتعالى، وأما تفسيره المحبّة بأنها ميلٌ لما فيه غرض الخ فليس أحد ممن له عقل صريح يتخيّل المحبّة التي ثبتت لله سبحانه وتعالى بهذا المعنى، فإنها هي المحبّة الثابتة للمخلوق، وهذا التصوّر هو الذي حمل هؤلاء المؤولين عَلَى ما صاروا إليه منْ تحريف صفات الله تعالى، فلو أنهم نظروا إلى الحقيقة لوجدوا الفرق بين صفات الخالق، والمخلوق، فالله سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، ومنها المحبّة والرضا، والغضب، ونحوها، عَلَى الوجه الذي يليق بجلاله سبحانه وتعالى، {تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرًا} . ونسأل الله تعالى أن يهدينا إلى سواء السبيل.
قَالَ: وَقَدْ اختلف أئمتنا فِي تأويلها فِي حقّ الله تعالى، فمنهم منْ صرفها إلى إرادته تعالى إنعامًا مخصوصًا عَلَى منْ أخبر أنه يحبه منْ عباده، وعلى هَذَا ترجع إلى صفة ذاته، ومنهم منْ صرفها إلى نفس الإنعام والإكرام، وعلى هَذَا فتكون منْ صفات الفعل، وعلى هَذَا المنهاج يتمشّى القول فِي الرحمة، والنعمة، والرضا، والغضب، والسخط، وما كَانَ فِي معناها.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله القرطبيّ جوابه ما تقدّم قبله، فمذهب السلف، وأهل الْحَدِيث أن هذه الصفات منْ الرحمة، والنعمة، والرضا، والغضب، والسخط، وما فِي معناها، صفات أثبتها الله سبحانه وتعالى لنفسه، فهم يثبتونها له كما أثبتها لنفسه، منْ غير تشبيه، ولا تمثيل، ومن غير تعطيل، ولا تأويل، بل هي عَلَى
ظاهرها، عَلَى ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى؛ لأنه لا داعي لتأويلها، ولأن المعاني التي يؤولون إليها يوجد فيها منْ المحذور عَلَى قولهم ما يلزم فيها؛ فإن الإنعام الذي أولت به المحبّة، أو إرادته هو أيضًا منْ صفات المخلوق، فإذا لزم التشبيه فِي المحبّة، لزم فيه أيضًا، فيفرّون منْ ورطة، ويقعون فِي أخرى.
والحاصل أن التأويل مذهب فاسد؛ لأنه لا يحصل به التخلّص منْ المحذور الذي زعموه، فالحقّ أن تُثبت هذه الصفات لله تعالى، عَلَى ظاهرها الحقيقيّ، كما أثبتها سبحانه وتعالى لنفسه، عَلَى ما يليق بجلاله. ونسأل الله تعالى الهداية والتوفيق.
قَالَ: فأما محبّة العبد لله تعالى، فقد تأولها بعض المتكلّمين؛ لأنهم فسّروا المحبّة بالإرادة، والإرادةُ إنما تتعلق بالحادث، لا بالقديم. ومنهم منْ قَالَ: لأن محبتنا إنما تتعلّق بمستلذّ محسوس، والله تعالى منزّه عن ذلك، وهؤلاء تأولوا محبّة العبد لله تعالى بطاعته له، وتعظيمه إياه، وموافقته له عَلَى ما يُريد منه. وأما أرباب القلوب، فمنهم منْ لم يتأول محبّة العبد لله تعالى، حَتَّى قَالَ: المحبّة لله تعالى هي الميل الدائم بالقلب الهائم. وَقَالَ أبو القاسم القشيريّ: أما محبّة العبد لله تعالى، فحالة يجدها العبد منْ قلبه، تلطف عن العبارة، وَقَدْ تحمله تلك الحالة عَلَى التعظيم لله تعالى، وإيثار رضاه، وقلّة الصبر عنه، والاحتياج إليه، وعدم الفرار عنه، ووجود الاسئناس بدوام ذكره.
قَالَ: فهؤلاء قد صرّحوا بأن محبّة العبد لله تعالى هي ميلٌ منْ العبد، وتوقان، وحال يجدها المحبّ منْ نفسه، منْ نوع ما يجده فِي محبوباته المعتادة له، وهو صحيح، والذي يوضّحه أن الله تعالى قد جبلنا عَلَى الميل إلى الحسن، والجمال، والكمال، فبقدر ما ينكشف للعاقل منْ حسن الشيء، وجماله، مال إليه، وتعلّق قلبه به، حَتَّى يُفضي الأمر إلى أن يستولي ذلك المعنى عليه، فلا يقدر عَلَى الصبر عنه، وربّما لا يشتغل بشيء دونه.
ثم الحسن، والكمال نوعان: محسوسٌ، ومعنويّ، فالمحسوس، كالصور الجميلة المشتهاة لنيل اللذّة الجسمانية، وهذا فِي حقّ الله تعالى محال قطعًا. وأما المعنويّ، فكمن اتّصف بالعلوم الشريفة، والأفعال الكريمة، والأخلاق الحميدة، فهذا النوع تميل إليه النفوس الفاضلة، والقلوب الكاملة ميلاً عظيمًا، فترتاح لذكره، وتتنعّم بخُبْرِهِ، وخَبَرِه، وتهتزّ لسماع أقواله، وتتشوف لمشاهدة أحواله، وتلتذّ بذلك لذّة روحانيّة، لا جسمانيّةً، كما تجده عند ذكر الأنبياء، والعلماء، والفضلاء، والكرماء، منْ الميل، واللذّة، والرّقّة، والأُنس، وإن كنّا لا نعرف صورهم المحسوسة، وربّما قد نسمع أن بعضهم منْ غير الأنبياء قبيح الصورة الظاهرة، أو أعمى، أو أجذم، ومع ذلك، فذلك
الميلُ والأنس، والتشوّق موجودٌ لدينا، ومن شكّ فِي وجدان ذلك، أو أنكره، كَانَ عن جبِلّة الإنسانيّة خارجًا، وفي غمار المعتوهين والجًا.
وإذا تقرّر ذلك، فإذا كَانَ هَذَا الموصوف بذلك الكمال، قد أحسن إلينا، وفاضت نعمه علينا، ووصلنا ببرّه، وعطفه، ولطفه، تضاعف ذلك الميل، وتجدّد ذلك الأنس، حَتَّى لا نصبر عنه، بل يستغرقنا ذلك الحال إلى أن نذهل عن جميع الأشغال، بل ويطرأ عَلَى المشتهر بذلك نوع اختلال، وإذا كَانَ ذلك فِي حق منْ كماله، وجماله، مقيّدًا مشوبًا بالنقص، معَرّضًا للزوال، كَانَ مَنْ كماله وجماله واجبًا مطلقًا، لا يشوبه نقصٌ، ولا يعتريه زوال، وكان إنعامه، وإحسانه أكثر بحيث لا ينحصر، ولا يُعدّ، أولى بذلك الميل، وأحقّ بذلك الحبّ، وليس ذلك إلا لله وحده، ثم لمن خصه الله تعالى بما شاء منْ ذلك الكمال، وأكمل نوع الإنسان محمد صلى الله عليه وسلم، فمن تحقّق ما ذكرناه، واتّصف بما وصفناه، كَانَ الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كَانَ كذلك تأهّل للقائهما بالاتصاف بما يُرضيهما، واجتناب ما يُسخطهما، ويستلزم ذلك كلّه الإقبال بالكلية عليهما، والإعراض عمّا سواهما إلا بإذنهما، وأمرهما. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى "المفهم" 1/ 212 - 214. وهو كلام نفيسٌ جدًّا. والله تعالى أعلم.
وَقَالَ فِي "الفتح" عن بعضهم: محبّة الله عَلَى قسمين: فرض، وندب. [فالفرض]: المحبّة التي تبعث عَلَى امتثال أوامره، والانتهاء عن معاصيه، والرضا بما يُقَدّره، فمن وقع فِي معصية، مِن فعل مُحَرَّم، أو ترك واجب، فلتقصيره فِي محبّة الله، حيث قَدَّم هوى نفسه، والتقصير تارة يكون مع الاسترسال فِي المباحات، والاستكثار منها، فيورث الغفلة المقتضية للتوسع فِي الرجاء، فيُقْدِم عَلَى المعصية، أو تستمر الغفلة فيقع، وهذا الثاني يُسرع إلى الإقلاع مع الندم، وإلى الثاني يشير حديث:"لا يزني الزاني، وهو مؤمن".
[والندب]: أن يواظب عَلَى النوافل، ويتجنب الوقوع فِي الشبهات، والمتصف عموما بذلك نادر، قَالَ: وكذلك محبّة الرسول عَلَى قسمين، كما تقدم، ويزاد أن لا يتلقى شيئا منْ المأمورات والمنهيات، إلا منْ مشكاته، ولا يسلك إلا طريقته، ويرضى بما شرعه، حَتَّى لا يجد فِي نفسه حَرَجًا بما قضاه، ويتخلق بأخلاقه فِي الجود، والإيثار، والحلم، والتواضع، وغيرها، فمن جاهد نفسه عَلَى ذلك، وجد حلاوة الإيمان، وتتفاوت مراتب المؤمنين بحسب ذلك. انتهى "فتح" 1/ 87 - 88.
(وَمَنْ كَانَ أَنْ يُقْذَفَ) بالبناء للمفعول: أي يُرمى، والقذف: الرمى (فِي النارِ أَحَبَّ إِلَيْهِ، مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفْرِ، بَعْدَ أَنْ) بفتح الهمزة: هي المصدرية (أنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ) أي
خلّصه، ونجّاه، وهو منْ الإنقاذ، كما قَالَ تعالى:{فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} الآية [آل عمران: 103]، وثلاثيّه النَّقْذُ، قَالَ ابن دُريد: النقذ مصدر نَقِذَ بالكسر يَنقَذ نَقَذًا بالتحريك: إذا نجى.
وفي رواية الشيخين: "وأن يكره أن يعود فِي الكفر، كما يكره أن يُقذف فِي النار": قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: هذه الكراهية مُوحيةٌ لما انكشف للمؤمن منْ حسن الإسلام، ولمَا دخل قلبه منْ نور الإيمان، ولِمَا خلّصه منْ الله تعالى منْ رذائل الجهالات، وقبح الكفران، والحمد لله. انتهى. "المفهم" 1/ 215.
وَقَالَ فِي "الفتح": والانقاذ أعم منْ أن يكون بالعصمة منه إبتداء، بأن يولد عَلَى الإسلام ويستمرّ، أو بالإخراج منْ ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، كما وقع لكثير منْ الصحابة، وعلى الأول فيحمل قوله:"يعود" عَلَى معنى الصيرورة، بخلاف الثاني، فإن العود فيه عَلَى ظاهره.
[فإن قيل]: فلِمَ عَدَّى العودَ بـ"فِي"، ولم يُعَدِّه بـ"إلى".
[فالجواب]: أنه ضمنه معنى الاستقرار، وكأنه قَالَ: يستقر فيه، ومثله قوله تعالى:{وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا} [الأعراف: 89]. انتهى. "فتح" 1/ 89. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -3/ 4990 و4/ 4991 - . وأخرجه (خ) فِي "الإيمان" 16 و21 و"الأدب" 6041 و"الإكراه" 6941 (م) فِي "الإيمان" 43 (ت) فِي "الإيمان" 2624 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 11591 و12354 و12372 و12994 و13180 و13656. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حلاوة الإيمان، وهي منْ الأمور المحسوسة التي يجدها العبد المؤمن فِي باطنه، كما مضى تحقيقه، وليست منْ المجاز، كما ادُّعِي. (ومنها): أن هَذَا الْحَدِيث حديثٌ عظيم، وأصل منْ أصول الدين، كما قاله النوويّ رحمه الله تعالى. (ومنها): أن لهذه الحلاوة علامة تتحقّق بها، وتحصل عندها، وهي الأمور المذكورة فِي هَذَا الْحَدِيث. (ومنها): أنه استُدِلَّ به عَلَى فضل منْ
أُكره عَلَى الكفر، فترك البتة إلى أَنْ قُتل. (ومنها): ما قيل: إنما قَالَ: "مما سواهما"، ولم يقل:"ممن"؛ ليعم منْ يعقل، ومن لا يعقل. (ومنها): ما قيل أيضًا: إن فِي قوله: "مما سواهما" دليلاً عَلَى أنه لا بأس بهذه التثنية، وأما قوله رضي الله عنه للذي خطب، فَقَالَ: ومن يعصمهما: "بئس الخطيب أنت"، فليس منْ هَذَا؛ لأن المراد فِي الْخُطَب الإيضاح، وأما هنا فالمراد الإيجاز فِي اللفظ؛ ليحفظ، ويدل عليه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قاله فِي موضع آخر، حيث قَالَ:"ومن يعصهما فلا يضر إلا نفسه".
[واعتُرض]: بأن هَذَا الْحَدِيث إنما ورد أيضًا فِي حديث خطبة النكاح.
[وأجيب]: بأن المقصود فِي خطبة النكاح أيضًا الإيجاز، فلا نقض، وثَمَّ أجوبة أخرى، [منها]: دعوى الترجيح، فيكون حَيِّزُ المنع أولي؛ لأنه عام، والآخر يحتمل الخصوصية، ولأنه ناقل، والآخر مبنيّ عَلَى الأصل، ولأنه قول، والآخر فعل. ورُدَّ بأن احتمال التخصيص فِي القول أيضًا حاصل، بكل قول ليس فيه صيغة عموم أصلاً. [ومنها]: دعوى أنه منْ الخصائص، فيمتنع منْ غير النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يمتنع منه؛ لأن غيره إذا جَمَعَ أَوْهَم إطلاقة التسوية، بخلافه هو، فإن منصبه لا يتطرق إليه إيهام ذلك، وإلى هَذَا مال ابن عبد السلام. [ومنها]: دعوى التفرقة بوجه آخر، وهو أن كلامه صلى الله عليه وسلم هنا جملة واحدة، فلا يحسن إقامة الظاهر فيها مكان المضمر، وكلام الذي خطب جملتان، لا يُكره إقامة الظاهر فيهما مقام المضمر.
وتُعُقِّب هَذَا بأنه لا يلزم منْ كونه لا يكره إقامة الظاهر فيهما مقام المضمر، أن يكره إقامة المضمر فيهما مقام الظاهر، فما وجه الرد عَلَى الخطيب، مع أنه هو صلى الله عليه وسلم جمع كما تقدم؟.
ويجاب بأن قصة الخطيب كما قلنا، ليس فيها صيغة عموم، بل هي واقعة عين، فيحتمل أن يكون فِي ذلك المجلس مَن يُخشَى عليه توهم التسوية، كما تقدم.
ومن محاسن الأجوبة فِي الجمع بين حديث الباب، وقصة الخطيب أن تثنية الضمير هنا للإيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب منْ المحبتين، لا كل واحدة منهما، فإنها وحدها لاغية، إذا لم ترتبط بالأخرى، فمن يدعي حب الله تعالى مثلا، ولا يحب رسوله صلى الله عليه وسلم لا ينفعه ذلك، ويشير إليه قوله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية [آل عمران: 31]، فأوقع متابعته مكتنفة بين قطري محبّة العباد، ومحبة الله تعالى للعباد، وأما أمر الخطيب بالإفراد، فلأن كل واحد منْ العصيانين، مستقل باستلزام الغواية، إذ العطف فِي تقدير التكرير، والأصل استقلال كل منْ المعطوفين فِي الحكم، ويشير إليه قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} الآية
[النِّساء: 59]، فأعاد أطيعوا فِي الرسول، ولم يعده فِي أولي الأمر؛ لأنهم لا استقلال لهم فِي الطاعة، كاستقلال الرسول. انتهى مُلَخَّصًا منْ كلام البيضاوي، والطيبي. [ومنها]: أجوبة أخرى فيها تكلف، منها أن المتكلم لا يدخل فِي عموم خطابه. [ومنها]: أن له أن يجمع بخلاف غيره. ذكره فِي "الفتح" 1/ 88 - 89. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
4 - (حَلَاوَةُ الإِسْلَامِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: المراد بـ"الإسلام" هنا "الإيمان"، فإنهما كما قيل: إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، ومعنى ذلك أنه إذا ذُكر الإسلام مع الإيمان كَانَ المراد بالإسلام هو الاستسلام الظاهريّ، وبالإيمان هو الاعتقاد الباطنيّ، كما فسّره النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي حديث خبر جبريل عليه السلام الآتي، ونظيرهما فِي هَذَا المعنى: الفقير والمسكين، فإنهما إذا ذكرا فِي موضع واحد، كما فِي آية الصدقة، كَانَ معنى المسكين منْ لا شيء له، كما قَالَ الله تعالى:{أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} ، بخلاف الفقير، فإنه منْ له شيء منْ المال، إلا أنه قليلٌ، كما قَالَ الشاعر [منْ البسيط]:
أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ
…
وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُ
وَقَدْ تقدّم تمام البحث فِي ذلك فِي المسائل المذكورة أول "كتاب الإيمان"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
4991 -
(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ، وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الإِسْلَامِ، مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ أَحَبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ، وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفْرِ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة. و"إسماعيل": هو ابن جعفر بن أبي كثير الأنصاريّ الزرقيّ المدنيّ الثقة الثبت [8]. و"حميد": هو ابن أبي حُميد الطويل البصريّ الثقة الحافظ [5]. والسند منْ رباعيّات المصنّف، وهو أعلى ما عنده منْ الأسانيد وهو (238) منْ رباعيات الكتاب.
والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم شرحه، وبيان مسائله فِي الباب الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
5 - (بَابُ نَعْتِ الإِسْلَامِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "النَّعْت" -بفتح النون، وسكون العين المهملة-: الوصف، يقال: نعت الرجلُ صاحبه نَعْتًا، منْ باب نفع: وصفه، ونعت نفسَهُ بالخير: وصفها، وانتعت: اتّصف، ونَعُتَ الرجلَ بالضمّ: إذا كَانَ النعت له خِلْقَةً، نَعاتَةً، وله نُعُوتٌ حسنة. قاله الفيّوميّ.
وَقَالَ فِي باب الواو: وَصَفته وَصْفًا، منْ باب وَعَد: نعتّهُ بما فيه، ويقال: هو مأخوذٌ منْ قولهم: وَصَفَ الثوب الجسم: إذا أظهر حاله، وبيّن هيئته، ويقال: الصفة إنما هي بالحال المنتقلة، والنعت بما كَانَ فِي خَلق، أو خُلُق. انتهى.
والمراد بنعت الإسلام هنا: أركانه، وهي الأمور الخمسة المذكورة فِي قوله صلى الله عليه وسلم: "أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله
…
" الْحَدِيث. والله تعالى أعلم بالصواب.
4992 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا كَهْمَسُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلَامِ، قَالَ:"أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً"، قَالَ: صَدَقْتَ، فَعَجِبْنَا إِلَيْهِ، يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ، قَالَ:"أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَالْقَدَرِ كُلِّهِ، خَيْرِهِ وَشَرِّهِ"، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ، قَالَ:"أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ"، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ، قَالَ:"مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ بِهَا مِنَ السَّائِلِ"، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا، قَالَ: "أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ
رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ، الْعُرَاةَ، الْعَالَةَ، رِعَاءَ الشَّاءِ، يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ"، قَالَ عُمَرُ: فَلَبِثْتُ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عُمَرُ، هَلْ تَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟ " قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:"فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ عليه السلام، أَتَاكُمْ لِيُعَلِّمَكُمْ أَمْرَ دِينِكُمْ").
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(إسحاق بن ابراهيم) ابن راهويه المذكور قبل بابين.
2 -
(النضر بن شُميل) المازنيّ، أبو الحسن النحويّ البصريّ، نزيل مرو، ثقة ثبت، منْ كبار [9] 41/ 45.
3 -
(كهمس -بسين مهملة، قبلها ميم مفتوحة- ابن الحسن) التميميّ، أبو الحسن البصريّ، ثقة [5] 39/ 681.
4 -
(عبد الله بن بُريدة) أبو سهل المروزيّ، قاضيها، ثقة [3] 25/ 393.
5 -
(يحيى بن يعمر) -بفتح التحتانية، والميم، بينهما مهملة ساكنة-: هو البصريّ، نزيل مرو، وقاضيها، ثقة، فصيحٌ، يرسل [3] 9/ 467.
6 -
(عبد الله بن عمر) بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما 12/ 12.
7 -
(عمر بن الخطّاب) بن نُفيل العدويّ الخليفة الراشد رضي الله تعالى عنه 60/ 75. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات المراوزة. (ومنها): أن فيه ثلاثة منْ التابعين، يروي بعضهم عن بعض: كهمس، عن عبد الله، عن يحيى بن يعمر. (ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، والابن، عن أبيه. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ يَحْيىَ بْنِ يَعْمَرَ) رحمه الله تعالى (أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما (قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) رضي الله تعالى عنه.
[تنبيهان]:
(الأول): حديث عمر رضي الله عنه هَذَا لم يخرجه البخاريّ فِي "صحيحه"، فذكر فِي "الفتح" سبب ذلك، فَقَالَ: إنما لم يخرجه؛ للاختلاف فيه عَلَى بعض رواته، فمشهوره رواية كهمس بن الحسن، عن عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر، عن عبد الله بن عمر، عن أبيه عمر بن الخطاب، رواه عن كهمس جماعة منْ الحفاظ، وتابعه مطر
الوراق، عن عبد الله بن بريدة، وتابعه سليمان التيمي، عن يحيى بن يعمر، وكذا رواه عثمان بن غياث، عن عبد الله بن بريدة، لكنه قَالَ: عن يحيى بن يعمر، وحميد بن عبد الرحمن معا، عن ابن عمر، عن عمر، زاد فيه حميدا وحميد له فِي الرواية المشهورة ذكر، لا رواية، وأخرج مسلم هذه الطرق، ولم يسق منها إلا متن الطريق الأولى، وأحال الباقي عليها، وبينها اختلاف كثير، سنشير إلى بعضه، فأما رواية مطر، فأخرجها أبو عوانة فِي "صحيحه" وغيره، وأما رواية سليمان التيمي، فأخرجها ابن خزيمة فِي "صحيحه" وغيره، وأما رواية عثمان بن غياث، فأخرجها أحمد فِي "مسنده"، وَقَدْ خالفهم سليمان بن بريدة، أخو عبد الله، فرواه عن يحيى بن يعمر، عن عبد الله بن عمر، قَالَ: بينما نحن عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجعله منْ مسند ابن عمر، لا منْ روايته عن أبيه، أخرجه أحمد أيضًا، وكذا رواه أبو نعيم فِي "الحلية" منْ طريق عطاء الخراساني، عن يحيى بن يعمر، وكذا رُوِي منْ طريق عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن عمر، أخرجه الطبراني.
وفي الباب: عن أنس، أخرجه البزار، والبخاري فِي "خلق أفعال العباد"، وإسناده حسن، وعن جرير البجلي، أخرجه أبو عوانة فِي "صحيحه"، وفي إسناده خالد بن يزيد، وهو العمري، ولا يصلح للصحيح، وعن ابن عباس، وأبي عامر الأشعري، أخرجهما أحمد، وإسنادهما حسن، وفي كل منْ هذه الطرق فوائد، سنذكرها -إن شاء الله تعالى- فِي اثناء الكلام عَلَى حديث الباب، وإنما جمعت طرقها هنا، وعزوتها إلى مخرجيها؛ لتسهيل الحوالة عليها، فرارا منْ التكرار، المباين لطريق الاختصار. انتهى كلام صاحب "الفتح" 1/ 158 - 159.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وأنا -بعون الله تعالى- سألخّص ما ذكره صاحب "الفتح" وغيره منْ اختلاف هذه الطرق، وما احتوت عليه منْ الفوائد فِي شرح هَذَا الْحَدِيث -إن شاء الله تعالى- والله تعالى وليّ التوفيق، ومنه العون والعصمة، وعليه التكلان.
(الثاني): هَذَا الْحَدِيث فِي أوله قصّة ساقها مسلم فِي "صحيحه"، فَقَالَ:
حدثني أبو خيثمة، زهير بن حرب، حدثنا وكيع، عن كهمس، عن عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر ح وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، وهذا حديثه، حدثنا أبي، حدثنا كهمس، عن ابن بريدة، عن يحيى بن يعمر، قَالَ: كَانَ أولَ منْ قَالَ فِي القدر، بالبصرة مَعْبَد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري، حاجين، أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدا منْ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألناه عما يقول هولاء
فِي القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب، داخلا المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه، والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم، وذكر منْ شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أُنُفٌ، قَالَ: فإذا لقيت أولئك، فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر، لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه، ما قبل الله منه، حَتَّى يؤمن بالقدر، ثم قَالَ: حدثني أبي، عمر بن الخطاب، قَالَ: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر
…
" الْحَدِيث.
(قَالَ) عمر رضي الله عنه (بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)"بينما" هي "بين" الظرفيّة زيدت عليها "ما"، لتكفها عن عملها الخفض لما دخلت عليه، ومثلها "بينا" زيدت عليها الألف، فما بعدهما مرفوع بالابتداء فِي اللغة المشهورة، ومنهم منْ يخفضه، كقول الشاعر:
بَيْنَا تَعَانِقِهِ الْكُمَاةَ وَرَوْغهِ
…
يَوْمًا أُتِيحَ لَهُ جَرِيءٌ سَلْفَعُ
رُوي بخفض "تعانقه" ورفعه، وعلى هَذَا فـ"ما"، والألف ليستا للكفّ.
(ذَاتَ يَوْمٍ) أي يومًا منْ الأيام، فـ"ذات" مقحمة، وقيل: هي منْ إضافة الشيء لنفسه، عَلَى رأي منْ يُجيز ذلك (إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ) أي ملك، فِي صورة رجل، و"إذ": هي الفجائيّة: أي فاجأنا طلوع رجل، و"طلع علينا" منْ باب منع، ونصر: أي أتانا، ومثله "اطّلع"، أفاده فِي "القاموس". (شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَاب، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ) بفتح العين المهملة، وسكونها، زاد فِي رواية ابن حبّان:"سواد اللحية"(لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ) ببناء الفعل للمفعول، قَالَ النوويّ: ضبطناه بالياء المثنّاة، منْ تحتُ المضمومة، وكذلك ضبطناه فِي "الجمع بين الصحيحين"، وغيره، وضبطه الحافظ أبو حازم العُذْريّ بالنون المفتوحة، وكذا هو فِي "مسند أبي يعلى الموصلي"، وكلاهما صحيح. انتهى. وَقَالَ القرطبيّ: هكذا مشهور رواية هَذَا اللفظ "يُرى" مبنيًا لما لم يُسمّ فاعله بالياء باثنين منْ تحتها، "ولا يعرفه" بالياء أيضًا، وَقَدْ رواه أبو حازم العذريّ:"لا نَرى عليه أثر السفر، ولا نعرفه" بالنون فيهما، مبنيًا للفاعل، ونون الجماعة، وكلاهما واضحٌ المعنى. انتهى.
وفي البخاريّ فِي "التفسير": "إذ أتاه رجل يمشي"، وفي حديث أبي هريرة، وأبي ذرّ الآتي: "وإنا لجلوس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فِي مجلسه؛ إذ أقبل رجل، أحسن النَّاس وجهًا، وأطيب النَّاس ريحًا، كأن ثيابه لم يمسها دنس، حَتَّى سلّم فِي طرَف البساط،
فَقَالَ: السلام عليكم يا محمد"
(وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ) أي ركبتي النبيّ صلى الله عليه وسلم. وفي رواية لسليمان التيميّ: "ليس عليه سحناء السفر، وليس منْ البلد، فتخطّى، حَتَّى برك بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما يجلس أحدنا فِي الصلاة".
(وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ) قَالَ النوويّ: معناه أن الرجل الداخل وضع كفيه عَلَى فخذي نفسه، وجلس عَلَى هيئة المتعلّم. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الصحيح أن معناه أنه وضع كفه عَلَى فخذي النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لما يأتي التصريح به فِي حديث أبي هريرة، وأبي ذرّ رضي الله تعالى عنهما الآتي بعد هَذَا، ولفظه:"حَتَّى وضع يده عدى ركبتي رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وَقَالَ فِي "الفتح": وكذا فِي حديث ابن عبّاس، وأبي عامر الأشعري:"ثم وضع يده عَلَى ركبتي النبيّ صلى الله عليه وسلم"، فأفادت هذه الرواية أن الضمير فِي قوله:"عَلَى فخذيه" يعود عَلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبه جزم البغوي، وإسماعيل التيمي؛ لهذه الرواية، ورجحه الطيبي بحثا؛ لأنه نسق الكلام، خلافا لما جزم به النوويّ، ووافقه التوربشتى؛ لأنه حمله عَلَى أنه جلس كهيئة المتعلم، بين يدي منْ يتعلم منه، وهذا وإن كَانَ ظاهرا منْ السياق، لكن وضعه يديه عَلَى فخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم مُنَبِّه للإصغاء إليه، وفيه إشارة لما ينبغي للمسئول منْ التواضع، والصَّفْح عما يبدو منْ جفاء السائل، والظاهر أنه أراد بذلك المبالغة فِي تعمية أمره؛ ليقوى الظن بأنه منْ جُفَاة الأعراب، ولهذا تخطى النَّاس، حَتَّى انتهى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما تقدم، ولهذا استغرب الصحابة صنيعه، ولأنه ليس منْ أهل البلد، وجاء ماشيا، ليس عليه أثر سفر.
[فإن قيل]: كيف عَرَف عمر رضي الله عنه أنه لم يعرفه أحد منهم.
[أجيب]: بأنه يحتمل أن يكون استند فِي ذلك إلى ظنه، أو إلى صريح قول الحاضرين. وهذا الثاني -كما قَالَ الحافظ- أولي، فقد جاء كذلك فِي رواية عثمان بن غياث، فإن فيها:"فنظر القوم بعضهم إلى بعض، فقالوا: ما نعرف هَذَا".
وأفاد مسلم، فِي رواية عمارة بن القعقاع، سبب ورود هَذَا الْحَدِيث، فعنده فِي أوله: "قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوني، فهابوا أن يسألوه، قَالَ: فجاء رجل
…
"، ووقع فِي رواية ابن منده، منْ طريق يزيد بن زريع، عن كهمس: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، إذ جاءه رجل، فكأن أمره لهم بسؤاله، وقع فِي خطبته، وظاهره أن مجيء الرجل، كَانَ فِي حال الخطبة، فإما أن يكون وافق انقضاءها، أو كَانَ ذكر ذلك القدر جالسا، وعبر عنه الراوي بالخطبة. انتهى "فتح" 1/ 159 - 160.
(ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ) قيل: كيف بدأ بالسؤال قبل السلام؟. أجيب: بأنه يحتمل أن
يكون ذلك مبالغةً فِي التعمية لأمره، أو ليبين أن ذلك غير واجب، أو سلم فلم ينقله الراوي.
وهذا الثالث هو الصواب، فقد ثبت فِي رواية حديث أبي هريرة، وأبي ذرّ الآتي، ففيه:"حَتَّى سلم منْ طرف البساط، فَقَالَ: السلام عليك يا محمد، فرد عليه السلام، قَالَ: أدنو يا محمد؟ قَالَ: ادن، فما زال يقول: أدنو؟ مرارا، ويقول له: ادن"، ونحوه فِي رواية عطاء، عن ابن عمر، لكن قَالَ:"السلام عليك يا رسول الله"، وفي رواية مطر الوراق:"فَقَالَ: يا رسول الله أدنو منك؟ قَالَ: ادن"، ولم يذكر السلام، فاختلفت الروايات، هل قَالَ له: يا محمد، أو يا رسول الله، وهل سلم، أولا، فأما السلام فمن ذكره مقدم عَلَى منْ سكت عنه. وَقَالَ القرطبيّ، بناء عَلَى أنه لم يسلم، وَقَالَ: يا محمد: إنه أراد بذلك التعمية، فصنع صنيع الأعراب.
قَالَ الحافظ: ويجمع بين الروايتين، بأنه بدأ أولا بندائه باسمه، لهذا المعنى، ثم خاطبه بقوله: يا رسول الله. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأقرب أن يحمل عَلَى تصرف الرواة، فيقال: إنه قَالَ: يا محمد، فعبر بعض الرواة بقوله: يا رسول الله؛ لأن هَذَا أقرب إلى التعمية المذكورة. والله تعالى أعلم.
ووقع عند القرطبيّ: أنه قَالَ: "السلام عليكم يا محمد"، فاستنبط منه أنه يستحب للداخل أن يعمم بالسلام، ثم يخصص منْ يريد تخصيصه. انتهى.
قَالَ الحافظ: والذي وقفت عليه منْ الروايات، إنما فيه الأفراد، وهو قوله:"السلام عليك يا محمد".
(أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلَامِ) بدأ بالإسلام، لأنه يتعلّق بالأمر الظاهر، وثنى بالإيمان، لأنه يتعلّق بالأمر الباطن، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاريّ:"فَقَالَ: ما الإيمان"، فبدأ بالإيمان؛ لأنه الأصل، وثَنَّى بالإسلام؛ لأنه يُظهر مِصداق الدعوى، وثَلّث بالإحسان؛ لأنه مُتَعَلِّق بهما. ورجح الطيبي الأول؛ لما فيه منْ الترقّي، ولا شك أن القصة واحدة، اختلف الرواة فِي تأديتها، وليس فِي السياق ترتيب، ويدل عليه رواية مطر الوراق، فإنه بدأ بالإسلام، وثَنَّى بالإحسان، وثَلَّث بالإيمان، فالحق أن الواقع أمر واحد، والتقديم والتأخير وقع منْ الرواة، والله تعالى أعلم. قاله الحافظ.
وَقَالَ القرطبيّ: الإسلام فِي اللغة: هو الاستسلام، والانقياد، ومنه قوله تعالى:{قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} الآية [الحجرات: 14]: أي انقدنا، وهو فِي الشرع: الانقياد بالأفعال الظاهرة الشرعيّة، ولذلك قَالَ صلى الله عليه وسلم فيما رواه أنس رضي الله عنه عنه: "الإسلام علانية،
والإيمان فِي القلب" ذكره ابن أبي شيبة فِي "مصنّفه" 11/ 11
(1)
. انتهى "المفهم" 1/ 139.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ)"أن" الأولى هي المصدريّة الناصبة للمضارع، والجملة فِي تأويل المصدر خبر لمحذوف: أي هو شهادة أن لا إله إلا الله. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "الإسلام أن تعبد الله، ولا تشرك به". قَالَ النوويّ فِي "شرحه": يحتمل أن يكون المراد بالعبادة، معرفة الله، فيكون عطف الصلاة وغيرها عليها؛ لإدخالها فِي الإسلام، ويحتمل أن يكون المراد بالعبادة الطاعة مطلقا، فيدخل فيه جميع الوظائف، فعلى هَذَا يكون عطف الصلاة وغيرها، منْ عطف الخاص عَلَى العام.
قَالَ الحافظ: أما الاحتمال الأول فبعيد؛ لأن المعرفة منْ متعلقات الإيمان، وأما الإسلام فهو أعمال قولية وبدنية، وَقَدْ عبر فِي حديث عمر رضي الله عنه هنا بقوله:"أن تشهد أن لا إله الا الله وأن محمد رسول الله"، فدل عَلَى أن المراد بالعبادة فِي حديث الباب، النطق بالشهادتين، وبهذا تبين دفع الاحتمال الثاني، ولَمّا عبر الراوي بالعبادة، احتاج أن يوضحها بقوله:"ولا تشرك به شيئا"، ولم يحتج إليها فِي رواية عمر؛ لاستلزامها ذلك.
[فإن قيل]: السؤال عامّ؛ لأنه سأل عن ماهية الإسلام، والجواب خاصّ؛ لقوله:"أن تعبد"، أو "تشهد"، وكذا قَالَ فِي الإيمان:"أن تؤمن"، وفي الإحسان "أن تعبد".
[والجواب]: أن ذلك لنكتة الفرق بين المصدر، وبين "أن" والفعل؛ لأن "أن تفعل" تدل عَلَى الاستقبال، والمصدر لا يدلّ عَلَى زمان، عَلَى أن بعض الرواة أورده هنا بصيغة المصدر، ففي رواية عثمان بن غياث قَالَ:"شهادة أن لا إله الا الله"، وكذا فِي حديث أنس، وليس المراد بمخاطبته بالإفراد اختصاصه بذلك، بل المراد تعليم السامعين الحكم فِي حقهم، وحق منْ أشبههم منْ المكلفين، وَقَدْ تبين ذلك بقوله فِي آخره:"يعلم النَّاس دينهم".
(وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ) زاد فِي حديث أبي هريرة عند مسلم "المكتوبة": أي المفروضة، وإنما عبر بالمكتوبة للتفنن فِي العبارة، فإنه عبر فِي الزكاة بالمفروضة، ولا تباع قوله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النِّساء: 103].
(1)
رواه ابن أبي شيبة فِي "مصنفه"، وزاد:"ثم يشير إلى صدره، ويقول: التقوى هاهنا، التقوى هاهنا". وفي سنده علي بن مسعدة، ضعفه البخاريّ وغيره، ووثقه آخرون، وضعف بعضهم هَذَا الْحَدِيث بسببه، وعندي أنه حسن الْحَدِيث انظر ترجمته فِي "تهذيب التهذيب" 3/ 192 .. والله تعالى أعلم.
وَقَالَ القرطبيّ: والصلاة فِي اللغة: الدعاء، ومنه قوله تعالى:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103]: أي ادع، وَقَالَ الأعشى:
عَلَيْكِ مِثْلَ الَّذِي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي
…
نَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعَا
وقيل: إنها مأخوذة منْ الصَّلَا، والصلا: عِرْقٌ عند أصل الذنب، ومنه قيل للفرس الثاني فِي الحلبة: مصَلٍّ؛ لأن رأسه عند صلا السابق، قَالَ الشاعر:
فَصَلَّى أَبُوهُ لَهُ سَابِقُ
…
بِأَنْ قِيلَ فَاتَ الْعِذَارُ الْعِذَارَا
(1)
والأول أولى وأشهر، وهي فِي الشرع: أفعال مخصوصةٌ، بشروط مخصوصة، الدعاء جزء منها. انتهى.
(وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ) زاد فِي أبي هريرة: "المفروضة". قَالَ القرطبيّ: الزكاة لغة: هي النماء، والزيادة، يقال: زكا الزرع والمالُ، وسُمّي أخذ جزء منْ مال المسلم الحرّ زكاةً؛ لأنها إنما تؤخذ منْ الأموال النامية، أو لأنها قد نمت، وبلغت النصاب، أو لأنها تُنَمِّي المال بالبركة، وحسنات مؤديها بالتكثير. انتهى.
(وَتَصُومَ رَمَضَانَ) قَالَ القرطبيّ: والصوم: هو الإمساك مطلقًا، ومنه قوله تعالى:{إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} الآية [مريم: 26]: أي إمساكًا عن الكلام، وَقَالَ الشاعر:
خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ
…
تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلِكُ اللُّجُمَا
أي ممسكة عن الحركة. وهو فِي الشرع: إمساك جميع أجزاء اليوم عن أشياء مخصوصة، بشرط مخصوص. انتهى.
واستُدل به عَلَى جواز قول "رمضان" منْ غير إضافة "شهر"، إليه. قاله فِي "الفتح". وَقَدْ تقدّم تمام البحث فِي هَذَا فِي "كتاب الصيام"، وبالله تعالى التوفيق.
(وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) قَالَ القرطبيّ: الحج: هو القصد المتكرّر فِي اللغة، قَالَ الشاعر:
وَأَشْهَدُ مِنْ عَوْفٍ حُلُولاً كثِيرَةً
…
يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا
وهو فِي الشرع: القصد إلى بيت الله المعضم؛ لفعل عبادة مخصوصة، والحجّ بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم، وقُرىء بهما:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97].
والاستطاعة: هي القوّة عَلَى الشيء، والتمكّن منه، ومنه قوله تعالى:{فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف: 97]. انتهى. وَقَدْ تقدّم بيان كلّ ذلك
(1)
"العذار": هو ما سال عَلَى خدّ الفرس منْ اللجام.
مستوفًى فِي محالّه منْ هَذَا الشرح، وإنما أعدته تذكيرًا بما سلف. والله تعالى ولي التوفيق.
[تنبيه]: قد اختلف الرواة فِي ذكر الحجّ هنا، فمنهم منْ ذكره، ومنهم منْ أسقطه، إما غفلة، أو نسيانًا.
قَالَ فِي "الفتح": [فإن قيل]: لم لم يذكر الحج؟ أجاب بعضهم باحتمال أنه لم يكن فُرِض. وهو مردود بما رواه ابن منده فِي "كتاب الإيمان" بإسناده الذي عَلَى شرط مسلم، منْ طريق سليمان التيمي، فِي حديث عمر رضي الله عنه أوله: أن رجلا فِي آخر عمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الْحَدِيث بطوله، وآخر عمره صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون بعد حجة الوداع، فإِنها آخر سفراته، ثم بعد قدومه بقليل، دون ثلاثة أشهر مات، وكأنه إنما جاء بعد إنزال جميع الأحكام، لتقرير أمور الدين التي بَلّغها متفرقة، فِي مجلس واحد؛ لتنضبط. ويُستنبط منه جواز سؤال العالم، ما لا يجهله السائل؛ ليعلمه السامع. وأما الحج فقد ذُكِر لكن بعض الرواة إما ذَهِل عنه، وإما نسيه، والدليل عَلَى ذلك اختلافهم فِي ذكر بعض الأعمال دون بعض، ففي رواية كهمس:"وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا"، وكذا فِي حديث أنس، وفي رواية عطاء الخراساني لم يذكر الصوم، وفي حديث أبي عامر ذَكَر الصلاة، والزكاة حسب، ولم يذكر فِي حديث ابن عباس مزيدا عَلَى الشهادتين، وذَكَر سليمان التيمي فِي روايته الجميع، وزاد بعد قوله:"وتحج": "وتعتمر، وتغتسل منْ الجنابة، وتتمم الوضوء"، وَقَالَ مطر الوراق فِي روايته:"وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة"، قَالَ: فذكر عُرَى الإسلام، فتبين ما قلناه: إن بعض الرواة ضبط ما لم يضبطه غيره. انتهى "فتح" 1/ 163 - 164.
(قَالَ) الرجل السائل (صَدَقْتَ، فَعَجبْنَا إِلَيْهِ) وفي رواية مسلم: "له" بدل "إليه"(يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ) وفي حديث أبي هريرة، وأبَي ذرّ الآتي:"فلما سمعنا قول الرجل: صدقت أنكرناه"، وفي رواية مطر الوراق:"انظروا إليه كيف يسأله، وانظروا إليه كيف يصدقه"، وفي حديث أنس:"انظروا وهو يسأله، وهو يصدقه، كأنه أعلم منه"، وفي رواية سليمان بن بريدة قَالَ القوم:"ما رأينا رجلاً مثل هَذَا، كأنه يُعَلِّم رسول الله-صلى الله عليه وسلم، يقول له: صدقت صدقت"، قَالَ القرطبيّ: إنما عجبوا منْ ذلك؛ لأن ما جاء به النبيّ صلى الله عليه وسلم، لا يُعرَف إلا منْ جهته، وليس هَذَا السائل ممن عُرف بلقاء النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا بالسماع منه، ثم هو يسأل سؤال عارف، محقق مصدق؛ فتعجبوا منْ ذلك، تعجب المستبعد لأن يكون أحد يعرف تلك الأمور المسؤول عنها منْ غير جهة النبىّ. انتهى. "المفهم" 1/ 151.
(ثُمَّ قَالَ) الرجل (أَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ) قَالَ أبو العبّاس
القرطبيّ: الإيمان بالله: هو التصديق بوجوده، وأنه لا يجوز عليه العدم، وأنه تعالى موصوفٌ بصفات الجلال والكمال، منْ العلم، والقدرة، والإرادة، والكلام، والسمع، والبصر، والحياة، والرضا، والمحبة، وغيرها، وأنه منزّه عن صفات النقص التي هي أضداد تلك الصفات، وعن صفات الأجسام، والمتحيزات، وأنه واحد، صمد، فردٌ، خالق جميع المخلوقات، متصرّف فيها بما يشاء منْ التصرّفات، يفعل فِي ملكه ما يريد، ويحكم فِي خلقه ما يشاء. انتهى. بزيادة.
وَقَالَ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فِي "العقيدة الواسطيّة" حينما يصف اعتقاد الفرقة الناجية المنصور: ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه فِي كتابه، وبما وصفه رسوله صلى الله عليه وسلم منْ غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل، بل يؤمنون بأن الله سبحانه وتعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ولا يُحرّفون الكلم عن مواضعه، ولا يُلحدون فِي أسمائه، وآياته، ولا يكيفون، ولا يمثّلون، صفاته بصفات خلقه؛ لأنه سبحانه وتعالى لا سميّ له، ولا كفء له، ولا ندّ له، ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى، فإنه أعلم بنفسه، وبغيره، وأصدق قيلاً، وأحسن حديثًا منْ خلقه، ثم رسله صادقون، مصدّقون، بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون، ولهذا قَالَ تعالى:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182]، فسبّح نفسحه عما وصفه به المخالفون للرسل، وسلّم عَلَى المرسلين؛ لسلامة ما قالوه منْ النقص والعيب، وهو قد جمع فيما وصف، وسمَّى به نفسه بين النفي والإثبات، فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون، فإنه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم منْ النبيين والصديقين، والشهداء، والصالحين. انتهى كلامه مختصرًا.
وَقَالَ فِي "الفتح": قوله: "قَالَ: الإيمان: أن تؤمن بالله
…
الخ": دل الجواب أنه عَلِم أنه سأله عن متعلقات الإيمان، لا عن معنى لفظه، وإلا لكان الجواب الإيمان: التصديق، وَقَالَ الطيبي: هَذَا يوهم التكرار، وليس كذلك، فإن قوله: "أن تؤمن بالله"، مُضَمَّن معنى أن تعترف به، ولهذا عداه بالباء: أي أن تصدق، معترفا بكذا.
قَالَ الحافظ: والتصديق أيضًا يعدى بالباء، فلا يحتاج إلى دعوى التضمين. وَقَالَ الكرماني: ليس هو تعريفا للشيء بنفسه، بل المراد منْ المحدود الإيمان الشرعي، ومن الحد الإيمان اللغوي.
قَالَ الحافظ: والذي يظهر أنه إنما أعاد لفظ الإيمان؛ للاعتناء بشأنه، تفخيما لأمره،
ومنه قوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] فِي جواب {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78]: يعني أن قوله: "أن تؤمن" ينحل منه الإيمان، فكأنه قَالَ: الإيمان الشرعي: تصديق مخصوص، وإلا لكان الجواب الإيمان: التصديق، والإيمان بالله: هو التصديق بوجوده، وأنه متصف بصفات الكمال، منزه عن صفات النقص. انتهى.
(وَمَلَائِكَتِهِ) معنى الإيمان بالملائكة: هو التصديق بوجودهم، وأنهم كما وصفهم الله تعالى:{عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26 - 27]{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] و {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20]، وأنهم سفراء الله بينه وبين رسله، والمتصرّفون كما أذن لهم فِي خَلْقه.
وقَدم الملائكة عَلَى الكتب والرسل؛ نظرَا للترتيب الواقع؛ لأنه سبحانه وتعالى، أرسل الملك بالكتاب إلى الرسول، وليس فيه مُتَمَسَّك لمن فَضَّل الملك عَلَى الرسول. قاله فِي "الفتح".
(وَكُتُبِهِ) معنى الإيمان بكتب الله تعالى: التصديق بأنه كلام الله تعالى، وأن ما تضمّنته حقّ وصدق.
[تنبيه]: زاد فِي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاريّ بعد قوله: "وكتبه": قولَهُ: "وبلقائه": قَالَ فِي "الفتح": كذا وقعت هنا بين الكتب والرسل، وكذا لمسلم منْ الطريقين، ولم تقع فِي بقية الروايات، وَقَدْ قيل: إنها مكررة؛ لأنها داخلة فِي الإيمان بالبعث، والحقّ أنها غير مكررة، فقيل: المراد بالبعث القيامُ منْ القبور، والمراد باللقاء ما بعد ذلك، وقيل: اللقاء يحصل بالانتقال منْ دار الدنيا، والبعث بعد ذلك، ويدل عَلَى هَذَا رواية مطر الوراق، فإن فيها:"وبالموت، وبالبعث بعد الموت"، كذا فِي حديث أنس وابن عباس رضي الله عنهم، وقيل: المراد باللقاء رؤية الله، ذكره الخطّابيّ، وتعقبه النوويّ بأنّ أحدا لا يقطع لنفسه برؤية الله، فإنها مختصة بمن مات مؤمنا، والمرء لا يدري بم يختم له، فكيف يكون ذلك منْ شروط الإيمان؟.
وأجيب بأن المراد الإيمانُ بأن ذلك حقّ فِي نفس الأمر، وهذا منْ الأدلة القوية؛ لأهل السنة فِي إثبات رؤية الله تعالى فِي الآخرة، إذ جعدت منْ قواعد الإيمان. انتهى "فتح" 1/ 161.
(وَرُسُلِهِ) ووقع فِي حديث أبي هريرة، وأبي ذرّ الآتي "وملائكته، والكتاب، والنبيين"، وكل منْ السياقين فِي القرآن، فِي البقرة، والتعبير "بالنبيين" يشمل "الرسل"،
منْ غير عكس.
ومعنى الإيمان بالرسل: التصديق بأنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله تعالى، وأن الله تعالى أيّدهم بالمعجزات الدّالّة عَلَى صدقهم، وأنهم بلّغوا عن الله تعالى رسالاته، وبينوا للمكلّفين ما أمرهم الله تعالى بيانه، وأنه يجب احترامهم، وألا يُفرَّق بين أحد منهم. قاله القرطبيّ.
وَقَالَ فِي "الفتح": ودل الإجمال فِي الملائكة، والكتب، والرسل عَلَى الاكتفاء بذلك، فِي الإيمان بهم، منْ غير تفصيل، إلا منْ ثبت تسميته، فيجب الإيمان به عَلَى التعيين، وهذا التريب مطابق للآية:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 285]، ومناسبة الترتيب المذكور، وإن كانت الواو لا ترتب، بل المراد منْ التقديم، أن الخير، والرحمة منْ الله، ومن أعظم رحمته، أن أنزل كتبه إلى عباده، والمتلقِّي لذلك منهم الأنبياء، والواسطة بين الله وبينهم الملائكة. انتهى.
(وَالْيَوْم الآخِرِ) وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاريّ: "وتؤمن بالبعث"، زاد فِي "التفسير":"الآخر"، قَالَ فِي "الفتح": فأما البعث الآخر، فقيل: ذُكر "الآخر" تأكيدا، كقولهم: أمس الذاهب، وقيل: لأن البعث وقع مرتين: الأولى الإخراج منْ العدم إلى الوجود، أو منْ بطون الأمهات بعد النطفة، والْعَلَقَة إلى الحياة الدنيا، والثانية البعث منْ بطون القبور، إلى محل الاستقرار، وأما اليوم الآخر، فقيل له: ذلك؛ لأنه آخر أيام الدنيا، أو آخر الأزمنة المحدودة.
ومعنى الإيمان باليوم الآخر: هو: التصديق بيوم القيامة، وما اشتمل عليه منْ الإعادة بعد الموت، والنشر، والحشر، والحساب، والميزان، والصراط، والجنة والنار، وأنهما دار ثوابه، وجزائه للمحسنين، والمسيئين، إلى غير ذلك، مما صحّ نصّه، وثبت نقله. انتهى "المفهم" 1/ 145.
(وَالْقَدَرِ) -بفتحتين، أو بفتح، فسكون-: القضاء، والحكم. وَقَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: الْقَدَر: مصدر قَدَرتُ الشيء، خفيفة الدال، أقدره، وأقدُره -منْ بابي ضرب، ونصر- قَدْرًا -بفتح، فسكون- وقَدَرًا -بفتحتين، وقُدُرا: إذا أحطت بمقداره، ويقال فيه: قدّرتُ أُقدّر تقديرًا -مشدّد الدال- للتضعيف، فإذا قلنا: إن الله تعالى: قدّر الأشياء، فمعناه: أنه تعالى علم مقاديرها، وأحوالها، وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد منها ما سبق فِي علمه أنه يوجده عَلَى نحو ما سبق فِي علمه، فلا مُحْدَث فِي العالم العلويّ والسفليّ إلا وهو صادرٌ عن علمه تعالى، وقدرته، وإرادته. انتهى "المفهم" 1/ 132.
وَقَالَ فِي "الفتح" بعد ذكر نحو كلام القرطبيّ هَذَا: ما نصّه: هَذَا هو المعلوم منْ الدين بالبراهين القطعية، وعليه كَانَ السلف منْ الصحابة، وخيار التابعين، إلى أن حدثت بدعة القدر فِي أواخر زمن الصحابة رضي الله عنهم، وَقَدْ رَوَى مسلم القصة فِي ذلك، منْ طريق كهمس، عن ابن بريدة، عن يحيى بن يعمر، قَالَ: كَانَ أول منْ قَالَ فِي القدر بالبصرة معبد الجهني، قَالَ: فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الْحِمْيَري، فذكر اجتماعهما بعبد الله بن عمر، وأنه سأله عن ذلك، فأخبره بأنه بَرِيء ممن يقول ذلك، وأن الله لا يقبل ممن لم يؤمن بالقدر عملا.
وَقَدْ حَكَى المصنفون فِي المقالات، عن طوائف منْ القدرية إنكار كون البارىء عالما بشيء منْ أعمال العباد، قبل وقوعها منهم، وإنما يعلمها بعد كونها، قالوا: لأنه لا فائدة لعلمه بها قبل إيجادها، وهو عبثٌ، وهو عَلَى الله محالٌ.
قَالَ القرطبيّ وغيره: وَقَدْ روي عن مالك رحمه الله تعالى أنه فسّر القدريّة بنحو ذلك، وهذا المذهب هو الذي وقع لأهل البصرة، وهو الذي أنكره ابن عمر، ولا شكّ فِي تكفير منْ يذهب إلى ذلك، فإنه جحد معلومٍ منْ الشرع ضرورةً، ولذلك تبرّأ منهم ابن عمر، وأفتى بأنهم لا تقبل منهم أعمالهم، ولا نفقاتهم، وأنهم كما قَالَ الله تعالى فيهم:{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} الآية [التوبة: 54].
وهذا المذهب هو مذهب طائفة منهم تُسمّى السُّكْبيّة، وَقَدْ تُرك اليوم، فلا يُعرف منْ يُنسب إليه منْ المتأخّرين، منْ أهل البدع المشهورين. والقدرية اليومَ مطبقون عَلَى أن الله عالم بأفعال العباد، قبل وقوعها، وإنما خالفوا السلف فِي زعمهم بأن أفعال العباد مقدورة لهم، وواقعة منهم عَلَى جهة الاستقلال، وهو مع كونه مذهبا باطلاً أخفّ منْ المذهب الأول، وأما المتأخرون منهم، فأنكروا تعلق الإرادة بأفعال العباد؛ فرارًا منْ تعلق القديم بالمحدث، وهم مخصومون بما قَالَ الشافعيّ: إن سلم القدري العلمَ خُصِم -يعني يقال له: أيجوز أن يقع فِي الوجود خلاف ما تضمنه العلم، فإن منع وافق قول أهل السنة، وإن أجاز لزمه نسبة الجهل، تعالى الله عن ذلك. "المفهم" 1/ 132 - 133 بزيادة منْ "الفتح" 1/ 162 - 163.
وَقَالَ القرطبيّ أيضًا: والإيمان بالقدر: هو التصديق بما تقدّم ذكره، وحاصله هو ما دلّ عليه قوله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافّات: 96]، وقوله:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] وقوله {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]. وإجماع السلف والخلف عَلَى صدق قول القائل: ما شاء الله كَانَ، وما لم يشأ لم يكن، وقوله
-صلى الله عليه وسلم: "كلّ شيء بقدر حَتَّى العجز والكيس". رواه مسلم.
ولما كثر منْ ينكر القدر منْ الكفّار، ولهذا كثر تكراره فِي القرآن، وتنويهًا بذكره، ليحصل الاهتمام بشأنه أكّده بقوله:(كُلِّهِ) ثم قرّر ذلك بما أبدل منه، بقوله (خَيْرِهِ وَشَرِّهِ) زاد فِي رواية:"حُلْوه، ومرّه"، وزاد فِي أخرى:"منْ الله".
[تنبيه]: ظاهر السياق يقتضى أن الإيمان، لا يُطلق إلا عَلَى منْ صَدَّق بجميع ما ذُكر، وَقَدْ اكتفى الفقهاء بإطلاق الإيمان عَلَى منْ آمن بالله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا اختلاف أن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم المراد به الإيمان بوجوده، وبما جاء به عن ربه، فيدخل جميع ما ذكر تحت ذلك. والله تعالى أعلم. قاله فِي "الفتح" 1/ 163.
(قَالَ) الرجل (صَدَقْتَ، قَالَ: فَأَخْبِرْني عَنِ الإحْسَانِ) قَالَ فِي "الفتح": هو مصدر أحسن يُحسن إحسانا، ويتعدى بنفسه وبغيره، تقول: أحسنت كذا: إذا أتقنته، وأحسنت إلى فلان: إذا أوصلت إليه النفع، والأول هو المراد؛ لأن المقصود إتقان العبادة، وَقَدْ يلحظ الثاني بأن المخلص مثلا محسن بإخلاصه إلى نفسه، وإحسانُ العبادة: الإخلاص فيها، والخشوع وفراغ البال حالَ التلبس بها، ومراقبة المعبود.
وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: الإحسان هو مصدر أحسن يُحسن إحسانًا، ويقال عَلَى معنيين:[أحدهما]: متعدّ بنفسه، كقولك: أحسنت كذا، وفي كذا: إذا حسّنته، وكمّلته، وهو منقول بالهمزة منْ حسُن الشيءُ. [وثانيهما]: متعدّ بحرف جرّ، كقولك: أحسنت إلى كذا: أي أوصلت إليه ما ينتفع به، وهو فِي هَذَا الْحَدِيث بالمعنى الأول، لا بالمعنى الثاني، إذ حاصله راجع إلى إتقان العبادات، ومراعاة حقوق الله تعالى فيها، ومراقبته، واستحضار عظمته، وجلاله حالةَ الشروع، وحالة الاستمرار فيها.
وأرباب القلوب فِي هذه المراقبة عَلَى حالين: [أحدهما]: غالب عليه مشاهدة الحقّ، فكأنه يراه، ولعلّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذه الحالة بقوله:"وجُعلت قُرّة عيني فِي الصلاة"
(1)
، رواه أحمد، والنسائيّ.
[وثانيهما]: لا ينتمي إلى هذه الحالة، لكن يغلب عليه أن الحقّ سبحانه وتعالى مطّلع عليه، ومشاهد له، وإليه الإشارة بقوله تعالى:{الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي. السَّاجِدِين} [الشعراء: 218 - 219] وبقوله تعالى: {وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: 61]، وهاتان الحالتان ثمرة معرفة الله تعالى، وخشيته، ولذلك فسّر الإحسان فِي حديث أبي هريرة رضي الله عنه بقوله: "أن
(1)
كَانَ فِي نسخة القرطبيّ: "وجعلت قرة عيني فِي عبادة ربي"، والذي فِي مسند أحمد 3/ 128 و199 و285 و"سنن النسائيّ" 7/ 62 بلفظ:"وجعلت قرة عيني فِي الصلاة"، فليُتنبّه.
تخشى الله كأنك تراه"، فعبّر عن المسبب باسم السبب توسّعًا، والألف واللام اللذان فِي "الإحسان" المسؤول عنه للعهد، وهو الذي قَالَ الله تعالى فيه:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} الآية [يونس: 26]، وقوله:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] وقوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].
ولَمّا تكرّر الإحسان فِي القرآن، وترتّب عليه هَذَا الثواب العظيم، سأل عنه جبريل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأجابه ببيانه؛ ليعمل النَّاس عليه، فيحصل لهم هَذَا الحظّ العظيم. انتهى "المفهم" 1/ 143 - 144.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَنْ تَعْبُدَ اللهَ)"أن" مصدريّة، والجملة فِي تأويل المصدر خبر لمحذوف: أي هو عبادة الله تعالى (كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ) قَالَ فِي "الفتح": أشار فِي الجواب إلى حالتين، أرفعهما أن يغلب عليه مشاهدة الحق بقلبه، حَتَّى أنه يراه بعينه، وهو قوله:"كأنك تراه": أي وهو يراك، والثانية أن يستحضر أن الحق مُطلِع عليه، يَرَى كل ما يعمل، وهو قوله:"فإنه يراك"، وهاتان الحالتان يثمرهما معرفة الله، وخشيته، وَقَدْ عبر فِي رواية عمارة بن القعقاع بقوله:"أن تخشى الله كأنك تراه"، وكذا فِي حديث أنس رضي الله عنه. وَقَالَ النوويّ: معناه إنك إنما تراعي الآداب المذكورة، إذا كنت تراه ويراك؛ لكونه يراك، لا لكونك تراه، فهو دائما يراك، فأحسن عبادته، وإن لم تره، فتقدير الْحَدِيث: فإن لم تكن تراه، فاستمر عَلَى إحسان العبادة، فإنه يراك، قَالَ: وهذا القدر منْ الْحَدِيث أصل عظيم، منْ أصول الدين، وقاعدة مهمة منْ قواعد المسلمين، وهو عمدة الصديقين، وبغية السالكين، وكنز العارفين، ودأب الصالحين، وهو منْ جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ ندب أهل التحقيق إلى مجالسة الصالحين؛ ليكون ذلك مانعا منْ التلبس بشيء منْ النقائص؛ احتراما، واستحياء منهم، فكيف بمن لا يزال الله مطلعا عليه، فِي سره وعلانيته. انتهى. وَقَدْ سبق إلى أصل هَذَا القاضي عياض وغيره.
(قَالَ) الرجل السائل (فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ) أي متى تقوم الساعة؟ وَقَدْ صرّح به فِي رواية عمارة بن القعقاع، واللام للعهد، والمراد يوم القيامة. قاله فِي "الفتح" 1/ 165.
وَقَالَ القرطبيّ: الساعة: هي فِي أصل الوضع: مقدارٌ منْ الزمان، غير معيّن، ولا محدود؛ لقوله تعالى:{مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55] وفي عرف الشرع: عبارة عن يوم القيامة، وفي عرف المعدّلين
(1)
: جزء منْ أربعة وعشرين جزءًا منْ أوقات الليل والنهار. قاله فِي "المفهم" 1/ 147.
(1)
"المعدّلون": هم المشتغلون بالحساب، وتقدير الزمن. انتهى منْ هامش "المفهم" 1/ 147.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا)"ما" نافيةٌ، وزاد فِي حديث أبي هريرة، وأبي ذرّ رضي الله عنهما الآتي: "قَالَ: فنكّس، فلم يُجبه شيئًا، ثم أعاد، فلم يُجبه شيئًا، ثم أعاد، فلم يجبه شيئًا، ورفع رأسه، فَقَالَ: ما المسؤول
…
" (بِأَعْلَمَ بِهَا) الباء زائدة لتأكيد النفي، وهذا وإن كَانَ مشعرا بالتساوي فِي العلم، لكن المراد التساوي فِي العلم بأن الله تعالى استأثر بعلمها؛ لقوله بعدُ: "فِي خمس لا يعلمها إلا الله"، وسيأتي نظير هَذَا التركيب فِي أواخر الكلام عَلَى الْحَدِيث الآتي فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى، فِي قوله: "ما كنت بأعلم به منْ رجل منكم"، فإن المراد أيضًا التساوي فِي عدم العلم به، وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فَقَالَ: "سبحان الله، خمس منْ الغيب، لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا الآية".
(مِنَ السَّائِلِ) إنما عدل عن قوله: لست بأعلم بها منك، إلى لفظٍ يُشعر بالتعميم؛ تعريضا للسامعين: اْي أن كل مسئول، وكل سائل، فهو كذلك.
[فائدة]: هَذَا السؤال والجواب، وقع بين عيسى ابن مريم وجبريل عليهم الصلاة والسلام، لكن كَانَ عيسى سائلا، وجبريل مسؤولا، قَالَ الحميدي، فِي "نوادره": حدثنا سفيان، حدثنا مالك بن مِغْول، عن إسماعيل بن رجاء، عن الشعبي، قَالَ:"سأل عيسى ابن مريم جبريل، عن الساعة؟ قَالَ: فانتفض بأجنحته، وَقَالَ: ما المسئول عنها بأعلم منْ السائل". ذكره فِي "الفتح" 1/ 166.
(قَالَ) السائل (فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا) هكذا فِي حديث عمر رضي الله عنه أن السائل قَالَ له صلى الله عليه وسلم: "فأخبرني عن أماراتها"، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاريّ فِي "الإيمان":"وسأخبرك عن أشراطها"، وفي "التفسير":"ولكن سأحدثك"، وفي الرواية الآتية فِي الباب التالي:"ولكن لها علامات، تعرف بها".
ويجمع بين هذه الاختلافات بأنه صلى الله عليه وسلم ابتدأ بقوله: "وسأخبرك"، فَقَالَ له السائل:"فأخبرني"، ويدل عَلَى ذلك رواية سليمان التيمي، ولفظها:"ولكن إن شئت، نبأتك عن أشراطها، قَالَ: أجل"، ونحوه فِي حديث ابن عباس، وزاد:"فحدثني".
ويُستفاد منْ اختلاف الروايات: أن التحديث، والإخبار، والإنباء، بمعنى واحد، وإنما غاير بينها أهل الْحَدِيث اصطلاحا.
و"الأمارات": جمع أمارة بالفتِح، كالعلامة وزنًا ومعنًى. و"الأشراط" -بفتح الهمزة- جمع شَرَط -بفتحتين- كقَلَم وأقْلام: هي الأمارات، والعلامات، ومنه قوله تعالى:{فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18]، وبها سُمّي الشُّرَط؛ لأنهم يُعلّمون أنفسهم بعلامات يُعرفون بها.
وَقَالَ القرطبيّ: علامات الساعة عَلَى قسمين: ما يكون منْ نوع المعتاد، أو غيره، والمذكور هنا الأول، وأما الغير: مثل طلوع الشمس منْ مغربها، فتلك مقارنة لها، أو مضايقة، والمراد هنا العلامات السابقة عَلَى ذلك، والله تعالى أعلم. ذكره فِي "الفتح" 1/ 166.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا) هو فِي تأويل المصدر خبر لمحذوف: أي هي: أي الأمرات ولادة الأمة ربتها.
قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: الأمة هنا: هي الجارية المستولدة، وربّها سيّدها، وَقَدْ سُمّي بعلاً فِي الرواية الأخرى، كما سمّاه الله تعالى بعلاً فِي قوله تعالى:{أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} [الصّافّات: 125]، فِي قول ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، وحُكي عنه أنه قَالَ: لم أدر ما البعل؟ حَتَّى قلت لأعرابي: لمن هذه الناقة؟ فَقَالَ: أنا بعلها، وَقَدْ سُمي الزوج بعلاً، وُيجمع علي بُعُولة، كما قَالَ تعالى:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228]، {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود: 72]. و"ربّتها": تأنيث ربّ. انتهى "المفهم" 1/ 148.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاريّ بلفظ: "إذا ولدت الأمة ربها"، بالتذكير، قَالَ فِي "الفتح": وفي "التفسير": "ربتها" بتاء التأنيث، وكذا فِي حديث عمر، ولمحمد ابن بشر مثله، وزاد:"يعني السراري"، وفي رواية عمارة بن القعقاع:"إذا رأيت المرأة تلد ربها"، ونحوه لأبي فَرْوة، وفي رواية عثمان بن غياث:"الإماء أربابهن" بلفظ الجمع، والمراد بالرب: المالك، أو السيد.
وَقَالَ أيضًا: "التعبير بـ"إذا" للإشعار بتحقق الوقوع، ووقعت هذه الجملة بيانا للأشراط نظرًا إلى المعنى، والتقدير: ولادةُ الأمة، وتطاول الرعاة.
[فإن قيل]: الأشراط جمع، وأقله ثلاثة عَلَى الأصح، والمذكور هنا اثنان، أجاب الكرماني بأنه قد تستقرض القلة للكثرة، وبالعكس، أو لأن الفرق بالقلة والكثرة، إنما هو فِي النكرات، لا فِي المعارف، أو لفقد جمع الكثرة للفظ "الشرط".
قَالَ الحافظ: وفي جميع هذه الأجوبة نظر، ولو أُجيب بأن هَذَا دليل القول الصائر إلى أن أقل الجمع اثنان، لَمَا بَعُد عن الصواب، والجواب المرضيّ أن المذكور منْ الأشراط ثلاثة، وإنما بعض الرواة اقتصر عَلَى اثنين منها؛ لأنه هنا -يعنى فِي حديث أبي هريرة عند البخاريّ فِي "الإيمان"، ومثله فِي حديث عمر عند النسائيّ هنا- ذكر الولادة، والتطاول، وفي "التفسير" ذكر الولادة، وتَرَؤُّس الحفاة، وفي رواية محمد بن بشر التي أخرج مسلم إسنادها، وساق ابن خزيمة لفظها، عن أبي حيان، ذكر الثلاثة، وكذا فِي
"مستخرج الإسماعيلي"، منْ طريق ابن علية، وكذا ذكرها عُمارة بن القعقاع، ووقع مثل ذلك فِي حديث عمر رضي الله عنه، ففي رواية كهمس -يعني رواية النسائيّ هنا- ذكر الولادة والتطاول فقط، ووافقه عثمان بن غياث، وفي رواية سليمان التيمي ذكر الثلاثة، ووافقه عطاء الخراساني، وكذا ذُكِرت فِي حديث ابن عباس، وأبي عامر رضي الله عنهم. انتهى "فتح" 1/ 166 - 167. وسيأتي اختلاف العلماء فِي معنى "أن تلد الأمة ربتها" فِي المسألة الخامسة، إن شاء الله تعالى.
(وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ) بالضم: جمع حاف، وهو الذي لا يلبس فِي رجله شيئا (الْعُرَاةَ) بالضمّ أيضًا: جمعه عار: وهو الذي لا يلبس عَلَى جسده ثوبًا (الْعَالَةَ) بتخفيف اللام: جمع عائل، وهو الفقير، والعيلة: الفقر، يقال: عال الرجل يَعِيل عَيْلةً: إذا افتقر، وأعال يُعيل: إذا كثُر عياله (رِعَاءَ الشَّاءِ) بالكسر: جمع راع، وأصل الرعي: الحفظ، و"الشاء": جمع شاة، وهو منْ الجمع الذي يفرّق بينه وبين واحده بالهاء، وهو كثير فيما كَانَ خِلْقةً لله تعالى، كشجرة وشجر، وثمرة وثمر، وإنما خصّ رعاء الشاء بالذكر؛ لأنهم أضعف أهل البادية. قاله فِي "المفهم" 1/ 15.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي: "إذا رأيت الرعاء البهم"، وعند البخاريّ:"وإذا تطاول رعاة الإبل البهم".
قَالَ فِي "الفتح": قوله: "تطاول": أي تفاخروا فِي تطويل البنيان، وتكاثروا به. قوله:"رعاة الإبل": هو بضم الراء جمع راع، كقضاة وقاض. و"البهم": بضم الموحدة، ووقع فِي رواية الأصيلي بفتحها، ولا يتجه مع ذكر الإبل، وإنما يتجه مع ذكر الشياه، أو مع عدم الإضافة، كما فِي رواية مسلم:"رعاء البهم"، وميم "البهم" فِي رواية البخاريّ، يجوز ضمها عَلَى أنه صفة "الرعاة"، ويجوز الكسر عَلَى أنها صفة "الإبل"، يعني الإبل السُّود، وقيل: إنها شر الألوان عندهم، وخيرها الْحُمْر التي ضرب بها المثل، فقيل:"خير منْ حُمر النَّعَم"، ووصف الرعاة بالبهم: إما لأنهم مجهولو الأنساب، ومنه أُبهِم الأمر، فهو مبهم: إذا لم تعرف حقيقته. انتهى.
وَقَالَ القرطبيّ و"البهم" بفتح الباء-: جمع بهيمة، وأصلها صغار الضأن والمعز، وَقَدْ يختصّ بالمعز، وأصله منْ استبهم عن الكلام، ومنه البهيمة. ووقع فِي البخاريّ:"رعاة الإبل البهم" -بضم الباء-: جمع أبهم، وهو الأسود الذي لا يُخالطه لون آخر، وقُيّدت ميم البهم بالكسر، والضمّ، فمن كسرها جعلها صفة للإبل، ومن رفعها جعلها صفة للرعاء. وقيل: معناه لا شيء لهم، كقوله صلى الله عليه وسلم:"يُحشَر النَّاس حُفاة، عُراة، بهُما"، قَالَ: وهذا التأويل فيه نظر، لاْنه قد نسب له إبلاً، وظاهرها الملك. وَقَالَ الخطّابيّ: هو
جمع بهيم، وهو المجهول الذي لا يُعرف.
قَالَ: والأَوْلَى أن يُحمَل عَلَى أنهم سُود الألوان؛ لأن الأُدْمة غالبة عَلَى ألوانهم. انتهى كلام القرطبيّ.
وأجاب الحافظ عن قول القرطبيّ: فيه نظر الخ بأنه يُحمل عَلَى أنها إضافة اختصاص، لا ملك، وهذا هو الغالب أن الراعي يرعى لغيره بالأجرة، وأما المالك، فقَلَ أن يباشر الرعي بنفسه. انتهى.
وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: "وإذا رأيت الحفاة العراة الصمّ البكم ملوك الأرض".
وقيل لهم: ذلك مبالغةً فِي وصفهم بالجهل: أي لم يستعملوا أسماعهم، ولا أبصارهم فِي شيء منْ أمر دينهم، وإن كانت حواسهم سليمة.
والمراد بهؤلاء: هم أهل البادية، كما صرح به فِي رواية سليمان التيمي وغيره، قَالَ:"ما الحفاة العراة؟ "، قَالَ:"الْعُرَيب"، وهو بالعين المهملة عَلَى التصغير، وفي الطبراني منْ طريق أبي جمرة، عن ابن عباس، مرفوعا:"منْ انقلاب الدين تَفَصُّح النَّبَط، واتخاذهم القصور فِي الأمصار".
وَقَالَ القرطبيّ: وَقَدْ وصفهم فِي حديث أبي هريرة رضي الله عنه بأنهم صمّ بُكم، عُميٌ، ويعني بذلك -والله تعالى أعلم- أنهم جَهَلةٌ رعاع، لم يستعملوا أسماعهم، ولا كلامهم فِي علم، ولا فِي شيء منْ أمر دينهم، وهذا نحو قوله تعالى:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171] أطلق ذلك عليهم، مع أنهم كانت لهم أسماع، وأبصارٌ، ولكنهم لَمّا لم تحصُل لهم ثمرات تلك الإدراكات، صاروا كأنهم عَدِموا أصلها، وَقَدْ أوضح هَذَا المعنى قوله تعالى:{لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} [الأعراف: 179].
قَالَ: ومقصود هَذَا الْحَدِيث: الإخبارُ عن تبدل الحال، وتغيّره، بأن يستولي أهل البادية الذين هذه صفاتهم عَلَى أهل الحاضرة، ويتملكوا بالقهر والغلبة، فتكثر أموالهم، وتتسع فِي حُطام الدنيا آمالهم، فتنصرف هممهم إلى تشييد المباني، وهدم الدين، وشريف المعاني، وأن ذلك إذا وُجد، كَانَ منْ أشراط الساعة، ويؤيد هَذَا ما ذُكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:"لا تقوم الساعة، حَتَّى يكون أسعد النَّاس بالدنيا لُكَع ابن لُكَع"، ومنه الْحَدِيث الآخر، ومنه:"إذا وُسِّد الأمر": أي أُسند- "إلى غير أهله، فانتظروا الساعة"، وكلاهما فِي الصحيح، وَقَدْ شُوهد هَذَا كله عيانًا فِي هَذَا الزمان، فكان ذلك عَلَى صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى قرب الساعة، حجةً، وبرهانًا. انتهى
"المفهم" 1/ 150 - 151 ببعض تصرّف.
(يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ) أي يتفاخرون فِي تطويل البيان، ويتكاثرون به.
(قَالَ عُمَرُ) بن الخطاب رضي الله عنه (فَلَبِثْتُ) بكسر الباء الموحّدة: أي مكثتُ، يقال: لبِث بالمكان لَبَثًا، منْ باب تعب، وجاء فِي المصدر السكون للتخفيف، واللَّبْثة بالفتح: المرّة، وبالكسر: الهيئة، والنوع، والاسم: اللُّبْث بالضمّ، واللَّبَاث. قاله فِي "المصباح"(ثَلَاثًا) أي ثلاث ليال، وفي رواية مسلم:"فلبثت مليًا"، قَالَ النوويّ: معنى: "مليّا" بتشديد الياء: وقتًا طويلاً، وفي رواية أبي داود، والترمذيّ أنه قَالَ ذلك بعد ثلاث، وفي "شرح السنّة" للبغوي:"بعد ثالثة"، وظاهر هَذَا أنه بعد ثلاث ليال، وفي ظاهر هَذَا مخالفة لقوله فِي حديث أبي هريرة رضي الله عنه بعد هَذَا: "ثم أدبر الرجل، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم رُدُّوا عليّ الرجلَ، فأخذوا ليردّوه، فلم يروا شيئًا، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: هَذَا جبريل
…
الْحَدِيث.
فيحتمل الجمع بينهما أن عمر رضي الله عنه لم يحضر قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لهم فِي الحال، بل كَانَ قد قام منْ المجلس، فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم الحاضرين فِي الحال، وأخبر عمر رضي الله عنه بعد ثلاث، إذ لم يكن حاضرًا وقت إخبار الباقين. والله تعالى أعلم. انتهى "شرح مسلم" 1/ 160.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الجمع هو الأحسن، وسيأتي وجه آخر فِي الجمع فِي عبارة "الفتح" قريبًا، إن شاء الله تعالى.
(ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عُمَرُ، هَلْ تَدْرِي) أي تعلم (مَنِ السَّائِلُ؟ " قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ عليه السلام، أَتَاكُمْ لِيُعَلِّمَكُمْ أَمْرَ دِينِكُمْ) أي قواعد دينكم، أو كليّات دينكم. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"هَذَا جبريل جاء يعلّم النَّاس دينكم".
وللإسماعيلي: "أراد أن تعلموا، إذ لم تسألوا"، وفي الرواية الآتية فِي الباب التالي:"والذي بعث محمدا بالحق، ما كنت بأعلم به منْ رجل منكم، وإنه لجبريل"، وفي حديث أبي عامر:"ثم وَلَّى، فلما لم نر طريقه، قَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: سبحان الله، هَذَا جبريل، جاء ليعلم النَّاس دينهم، والذي نفس محمد بيده، ما جاءني قط، إلا وأنا أعرفه إلا أن تكون هذه المرة"، وفي رواية سليمان التيمي: "ثم نَهَض، فوَلَّى، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: علي بالرجل، فطلبناه كل مطلب، فلم نقدر عليه، فَقَالَ: هل تدرون منْ هَذَا؟ هَذَا جبريل، أتاكم ليعلمكم دينكم، خذوا عنه، فوالذي نفسي بيده، ما شُبِّه عليّ منذ أتاني،
قبل مرتي هذه، وما عرفته حَتَّى وَلَّى"، قَالَ ابن حبّان تفرد سليمان التيمي بقوله: "خذوا عنه".
قَالَ الحافظ: وهو منْ الثقات الأثبات. وفي قوله: "جاء ليعلم النَّاس دينهم": إشارة إلى هذه الزيادة، فما تفرد إلا بالتصريح، وإسناد التعليم إلى جبريل مجازيّ؛ لأنه كَانَ السبب فِي الجواب، فلذلك أمر بالأخذ عنه.
واتفقت هذه الروايات عَلَى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أخبر الصحابة بشأنه، بعد أن التمسوه، فلم يجدوه، وأما ما وقع عند مسلم، وغيره، منْ حديث عُمَر رضي الله عنه فِي رواية كهمس:"ثم انطلق، قَالَ عمر: فلبثت، ثم قَالَ: يا عمر، أتدري منْ السائل؟، قلت: الله ورسوله أعلم، قَالَ: فإنه جبريل".
فقد جَمَع بين الروايتين بعضُ الشراح بأن قوله: "فلبثت مليّا": أي زمانا بعد انصرافه، فكأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أعلمهم بذلك، بعد مضيّ وقت، ولكنه فِي ذلك المجلس، لكن يَعكُر عَلَى هَذَا الجمع قوله فِي رواية النسائيّ، والترمذي:"فلبثت ثلاثا"، لكن ادَّعَى بعضهم فيها التصحيف، وأن "مليا" صُغّرت ميمها، فاشبهت "ثلاثا"، لأنها تكتب بلا ألف، وهذه الدعوى مردودة، فإن فِي رواية أبي عوانة: فلبثنا ليالي، فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد ثلاث"، ولابن حبّان: "بعد ثالثة"، ولابن منده: "بعد ثلاثة أيام".
وجمع النوويّ بين الحديثين بأن عمر، لم يحضر قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، فِي المجلس، بل كَانَ ممن قام، إما مع الذين توجهوا فِي طلب الرجل، أو لشغل آخر، ولم يرجع مع منْ رجع؛ لعارض عَرَض له، فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم الحاضرين فِي الحال، ولم يتفق الإخبار لعمر، إلا بعد ثلاثة أيام، ويدل عليه قوله:"فلقيني"، وقوله: فَقَالَ لي: "يا عمر"، فوجه الخطاب له وحده، بخلاف إخباره الأول، وهو جمع حسن. قاله فِي "الفتح" 1/ 170.
[تنبيه]: دلت الروايات التي تقدّم ذكرها، عَلَى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ما عرف أنه جبريل، إلا فِي آخر الحال، وأن جبريل أتاه فِي صورة رجل، حسن الهيئة، لكنه غير معروف لديهم، وأما ما وقع فِي رواية النسائيّ، منْ طريق أبي فروة، فِي آخر الْحَدِيث:"وإنه لجبريل نزل فِي صورة دحية الكلبي"، فإن قوله:"نزل فِي صورة دحية الكلبي"، وَهَمٌ؛ لأن دحية معروف عندهم، وَقَدْ قَالَ عمر رضي الله عنه: ما يعرفه منا أحد، وَقَدْ أخرجه محمد ابن نصر المروزي فِي "كتاب الإيمان" له منْ الوجه الذي أخرجه منه النسائيّ، فَقَالَ فِي آخره:"فإنه جبريل، جاء ليعلكم دينكم"، حَسْبُ، وهذه الرواية هي المحفوظة؛
لموافقتها باقي الروايات. قاله فِي "الفتح" 1/ 170 - 171. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته: حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه هَذَا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -5/ 4990 - . وأخرجه (م) فِي "الإيمان" 8 (د) فِي "السنة" 4695 (ت) فِي "الإيمان" 2610 (ق) فِي "المقدمة" 63 (أحمد) فِي "مسند العشرة" 185 و369. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان نعت الإسلام. (ومنها): أن فيه أن الملك يجوز أن يتمثل لغير النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيراه، ويتكلم بحضرته، وهو يسمع، وَقَدْ ثبت عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما أنه كَانَ يسمع كلام الملائكة.
(ومنها): أن فيه دليلاً عَلَى أن الله تعالى مكّن الملائكة منْ أن يتمثّلوا فيما شاءوا منْ صور بني آدم، كما نصّ الله عز وجل عَلَى ذلك فِي قوله تعالى:{فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17] وَقَدْ كَانَ جبريل عليه السلام يتمثل للنبيّ صلى الله عليه وسلم فِي صورة دحية بن خليفة الكلبيّ رضي الله عنه، وَقَدْ كَانَ لجبريل صورة خاصّة، خُلق عليها، لم يره النبيّ صلى الله عليه وسلم عليها غير مرّتين، كما صح الْحَدِيث بذلك. قاله فِي "المفهم" 1/ 152.
(ومنها): استحباب تحسين الثياب والهيئة، والنظافة عند الدخول عَلَى العلماء، والفضلاء، والملوك، فإن جبريل عليه السلام أتى معلّمًا للناس، كما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيكون تعليمه بحاله، ومقاله.
(ومنها): ابتداء الداخل بالسلام عَلَى جميع منْ دخل عليهم، وإقباله عَلَى رئيس القوم، فإن جبريل عليه السلام قَالَ:"السلام عليكم"، فعمّ، ثم قَالَ:"يا محمد"، فخصّ.
(ومنها): جواز الاستئذان فِي القرب منْ الإمام مرارًا، وإن كَانَ الإمام فِي موضع مأذون فِي دخوله. (ومنها): ترك الاكتفاء بالاستئذان مرّة، أو مرّتين عَلَى جهة التعظيم، والاحترام.
(ومنها): جواز اختصاص العالم بموضع مرتفع منْ المسجد، إذا دعت الحاجة إلى ذلك، لضرورة التعليم، أو غيره؛ لما يأتي فِي حديث الباب التالي:"فبنينا له دكّانًا منْ طين، كَانَ يجلس عليه".
(ومنها): أنه ينبغي لمن حضر مجلس العالم إذا علم بأهل المجلس حاجةً إلى
مسألة، لا يسألون عنها، أن يسأل هو عنها؛ ليحصل الجواب للجميع. (ومنها): أنه ينبغي للعالم أن يرفق بالسائل، ويُدنيه منه؛ ليتمكّن منْ سؤاله، غير هائب، ولا منقبض، وأنه ينبغي للسائل أن يرفق فِي سؤاله.
(ومنها): أنه ينبغي للعالم إذا سئل عما لا يعلم، أن يصرح بأنه لا يعلمه، ولا يكون فِي ذلك نقص منْ مرتبته، بل يكون ذلك دليلا عَلَى مزيد ورعه. قاله النوويّ رحمه الله تعالى.
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى: مقصود هَذَا السؤال كَفُّ السامعين عن السؤال، عن وقت الساعة؛ لأنهم قد أكثروا السؤال عنها، كما ورد فِي كثير منْ الآيات، والأحاديث، فلما حصل الجواب بما ذُكر هنا، حصل اليأس منْ معرفتها، بخلاف الأسئلة الماضية، فإن المراد بها استخراج الأجوبة، ليتعلمها السامعون، ويعملوا بها، ونبه بهذه الأسئلة عَلَى تفصيل ما يمكن معرفته، مما لا يمكن.
(ومنها): ما قاله ابن المُنَيِّر رحمه الله تعالى: فِي قوله: "يعلمكم دينكم"، دلالة عَلَى أن السؤال الحسن، يُسَمَّى علمًا، وتعليمًا؛ لأن جبريل عليه السلام لم يصدر منه سوى السؤال، ومع ذلك فقد سماه النبيّ صلى الله عليه وسلم معلما، وَقَدْ اشتهر قولهم: حُسنُ السؤال نصف العلم"، ويمكن أن يؤخذ منْ هَذَا الْحَدِيث؛ لأن الفائدة فيه انبنت عَلَى السؤال والجواب معا.
(ومنها): ما قاله القرِطبي رحمه الله تعالى: هَذَا الْحَدِيث يصلح، أن يقال له: أم السنة؛ لما تضمنه منْ جُمَل علم السنة، كما سُمّيت الفاتحة أم الكتاب؛ لِمَا تضمّنته منْ جمُل معاني القرآن. وَقَالَ الطيبي: لهذه النكتة استفتح به البغوي، كتابيه "المصابيح"، و"شرح السنة"؛ اقتداء بالقرآن فِي افتتاحه بالفاتحة؛ لأنها تضمنت علوم القرآن إجمالا.
وَقَالَ القاضي عياض قد اشتمل هَذَا الْحَدِيث، عَلَى جميع وظائف العبادات، الظاهرة والباطنة، منْ عقود الإيمان، ابتداء، وحالا، ومآلا، ومن أعمال الجوارح، ومن إخلاص السرائر، والتحفظ منْ آفات الأعمال، حَتَّى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه، ومتشعبة منه. قَالَ: وعلى هَذَا الْحَدِيث، وأقسامه الثلاثة، ألّفنا كتابنا الذي سمّيناه بـ"المقاصد الحسان فيما يلزم الإنسان"، إذ لا يشذّ شيء منْ الواجبات، والسنن، والرغائب، والمحظورات، والمكروهات عن أقسامه الثلاثة. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي إتمام البحث المتعلّق بتفسير الإحسان:
قَالَ فِي "الفتح": دل سياق الْحَدِيث، عَلَى أن رؤية الله فِي الدنيا بالأبصار غير
واقعة، وأما رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذاك لدليل آخر، وَقَدْ صرح مسلم فِي روايته، منْ حديث أبي إمامة رضي الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم:"واعلموا أنكم لن تروا ربكم حَتَّى تموتوا".
وَقَالَ الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى فِي "شرح البخاريّ": وأما الإحسان ففسّره بنفوذ البصائر فِي الملكوت حَتَّى يصير الخبر للبصيرة كالعيان، فهذه أعلى درجات الإيمان، ومراتبه، ويتفاوت المؤمنون، والمحسنون فِي تحقيق هَذَا المقام تفاوتًا كثيرًا بحسب تفاوتهم فِي قوة الإيمان والإحسان، وَقَدْ أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك هاهنا بقوله:"أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك". قيل: المراد أن نهاية مقام الإحسان أن يعبد المؤمن ربه كأنه يراه بقلبه، فيكون مستحضرًا ببصيرته وفكرته لهذا المقام، فإن عجز عنه، وشقّ عليه انتقل إلى مقام آخر، وهو أن يعبد الله عَلَى أن الله يراه، ويطّلع عَلَى سره، وعلانيته، ولا يخفى عليه شيء منْ أمره. وَقَدْ وصّى النبيّ صلى الله عليه وسلم طائفة منْ أصحابه أن يعبدوا الله كأنهم يرونه، منهم ابن عمر، وأبو ذرّ رضي الله عنهم، ووصّى معاذًا رضي الله عنه أن يستحيي منْ الله كما يستحيي منْ رجل ذي هيبة منْ أهله. قَالَ بعض السلف: منْ عمل لله عَلَى المشاهدة، فهو عارف، ومن عمل عَلَى مشاهدة الله إياه فهو مخلص. فهذان مقامان:[أحدهما]: مقام المراقبة، وهو أن يستحضر العبد قرب الله منه، واطّلاعه عليه، فيتخايل أنه لا يزال بين يدي الله تعال، فيراقبه فِي حركاته، وسكناته، وسرّه، وعلانيته، فهذا مقام المراقبين المخلصين، وهو أدنى مقام الإحسان. [والثاني]: أن يشهد العبد بقلبه ذلك شهادة، فيصير كأنه يرى الله، ويُشاهده، وهذا نهاية مقام الإحسان، وهو مقام العارفين، وحديث حارثة رضي الله عنه هو منْ هَذَا المعنى
(1)
، فإنه قَالَ: كأني أنظر إلى عرش ربي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنّة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار يتعاوون فيها، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم "عرفت، فالزم، عبدٌ نوّر الله الإيمانَ فِي قلبه". وهو حديث مرسلٌ، وَقَدْ روي مسندًا بإسناد ضعيف. وكذلك قول ابن عمر لعروة لَمّا خطب إليه ابنته فِي الطواف، فلم يردّ عليه، ثم لقيه، فاعتذر إليه، وَقَالَ: كنا فِي الطواف نتخايل الله بين أعيننا. ومنه الأثر الذي ذكره الفضيل بن عياض: يقول الله: ما أنا مطّلع عَلَى أحبابي إذا جنّهم الليل، جعلت أبصارهم فِي قلوبهم، ومَثَلتُ نفسي بين أعينهم، فخاطبوني عَلَى المشاهدة، وكلّموني عَلَى حضوري.
وبهذا فُسّر المثل الأعلى المذكور فِي قوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 27]، ومثله قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ
(1)
لكن الْحَدِيث ضعيف، كما سيأتي قريبًا.
فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)} [النور: 35]. قَالَ أبيّ بن كعب وغيره منْ السلف: مثل نوره فِي قلب المؤمن. فمن وصل إلى هَذَا المقام فقد وصل إلى نهاية الإحسان، وصار الإيمان لقلبه بمنزلة العيان، فعرف ربه، وأَنِس به فِي خلوته، وتنعم بذكره، ومناجاته، ودعائه، حَتَّى ربما استوحش منْ خلقه، كما قَالَ بعضهم: عجبت للخليقة كيف أَنَسَتْ بسواك؟ بل عجبتُ للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكر سواك. وقيل لآخر: أما تستوحش؟ قَالَ: كيف أستوحش، وهو يقول: أنا جليس منْ ذكرني؟. وقيل لآخر: أما تستوحش وحدك؟ قَالَ: ويستوحش مع الله أحد؟. وكان حبيب أبو محمد يخلو فِي بيته، ويقول: منْ لم تقرّ عينه بك، فلا قرّت عينه، ومن لم يأنس بك، فلا أَنِس. وَقَالَ الفضيل: طوبى لمن استوحش منْ النَّاس، وكان الله جليسه. وَقَالَ معروف لرجل: توكّل عَلَى الله حَتَّى يكون جليسك، وأنيسك، وموضع شكواك. وَقَالَ ذو النون: علامة المحبّين لله أن لا يأنسوا بسواه، ولا يستوحشوا معه، ثم قَالَ: إذا سكن القلبَ حبُّ الله أنس بالله؛ لأن الله أجلّ فِي صدور العارفين أن يُحبّوا غيره.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "اعبد الله كأنك تراه" إشارةٌ إلى أن العابد يتخيّل ذلك فِي عبادته، لا أنه يراه حقيقة ببصره، ولا بقلبه.
وأما منْ زعم أن القلوب تصل فِي الدنيا إلى رؤية الله عيانًا، كما تراه الأبصار فِي الآخرة، كما يزعم ذلك منْ يزعمه منْ الصوفيّة، فهو زعم باطل، فإن هَذَا المقام هو الذي قَالَ منْ قَالَ منْ الصحابة، كأبي ذرّ، وابن عباس، وغيرهما، ورُوي عن عائشة أيضًا أنه حصل للنبيّ صلى الله عليه وسلم مرّتين. وروي فِي ذلك أحاديث مرفوعة أيضًا. وكذا قَالَ جماعة منْ التابعين: إنه رآه بقلبه، منهم الحسن، وأبو العالية، ومجاهد، وعبد الله بن الحارث بن نوفل، وإبراهيم التيميّ، فلو كَانَ هؤلاء لا يعتقدون أن رؤية القلب مشتركة بين الأنبياء وغيرهم، لم يكن فِي تخصيص النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك مزيّة له، ولاسيما، وإنما قالوا: إنها حصلت له مرّتين، فإن هؤلاء الصوفيّة يزعمون أن رؤية القلب تصير حالاً، ومقامًا دائمًا، أو غالبًا لهم، ومن هنا ينشأ تفضيل الاْولياء عَلَى الأنبياء، ويتفرّع عَلَى ذلك أنواع منْ الضلالات، والمحالات، والجهالات، والله يهدي منْ يشاء إلى صراط مستقيم.
فهذه المقامات الثلاث: الإسلام، والإيمان، والإحسان يشملها اسم الدين، فمن
استقام عَلَى الإسلام إلى موته عصمه الإسلام منْ الخلود فِي النار، وإن دخلها بذنوبه، ومن استقام عَلَى الإحسان إلى الموت، وصل إلى الله عز وجل، قَالَ تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، وَقَدْ فسّر النبيّ صلى الله عليه وسلم الزيادة بالنظر إلى وجه الله. خرّجه مسلم منْ حديث صهيب. انتهى كلام الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى فِي "شرح البخاريّ" 1/ 211 - 215 وهو تحقيق مفيد جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "أن تلد الأمة ربتها":
قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى فِي "الفتح": وَقَدْ اختلف العلماء قديما وحديثا، فِي معنى ذلك، قَالَ ابن التين: اختلف فيه عَلَى سبعة أوجه: فذكرها، لكنها متداخلة، وَقَدْ لخصتها بلا تداخل، فإذا هي أربعة أقوال:
[الأول]: قَالَ الخطّابيّ: معناه اتساع الإسلام، واستيلاء أهله عَلَى بلاد الشرك، وسبي ذراريهم، فإذا ملك الرجل الجارية، واستولدها، كَانَ الولد منها بمنزلة ربها؛ لأنه ولد سيدها. قَالَ النوويّ، وغيره: إنه قول الأكثرين.
قَالَ الحافظ: لكن فِي كونه المراد نظر؛ لأن استيلاد الإماء كَانَ موجودا، حين المقالة، والاستيلاء عَلَى بلاد الشرك، وسبي ذراريهم، واتخاذهم سراريّ، وقع أكثره فِي صدر الإسلام، وسياق الكلام يقتضي الإشارة إلى وقوع ما لم يقع، مما سيقع قرب قيام الساعة، وَقَدْ فسره وكيع فِي رواية ابن ماجه، بأخص منْ الأول، قَالَ: أن تلد العجم العرب، ووجهه بعضهم بأن الإماء، يلدن الملوك، فتصير الأم منْ جملة الرعية، والملك سيد رعيته، وهذا لإبراهيم الحربي، وقَرَّبَهُ بان الرؤساء فِي الصدر الأول، كانوا يستنكفون غالبا منْ وطء الإماء، ويتنافسون فِي الحرائر، ثم انعكس الأمر، ولاسيما فِي أثناء دولة بني العبّاس، ولكن رواية:"ربتها" بتاء التأنيث، قد لا تساعد عَلَى ذلك، ووجهه بعضهم بأن إطلاق ربتها عَلَى ولدها مجاز؛ لأنه لما كَانَ سببا فِي عتقها بموت أبيه، أطلق عليه ذلك، وخصه بعضهم بأن السبي إذا كثر، فقد يُسبَى الولد أولا، وهو صغير، ثم يُعتَق، ويكبر، ويصير رئيسا، بل ملكا، ثم تُسبى أمه فيما بعدُ، فيشريها عارفا بها، أو وهو لا يشعر أنها أمه، فيستخدمها، أو يتخذها موطوءة، أو يُعتقها ويتزوجها، وَقَدْ جاء فِي بعض الروايات:"أن تلد الأمة بَعْلها"، وهي عند مسلم، فتُحمل عَلَى هذه الصورة، وقيل: المراد بالبعل المالك، وهو أولى؛ لتتفق الروايات.
[الثاني]: أن تبيع السادة أمهات أولادهم، ويكثر ذلك، فيتداول الملاك المستولدة، حَتَّى يشتريها ولدها، ولا يشعر بذلك، وعلى هَذَا فالذي يكون منْ الأشراط غلبة الجهل
بتحريم بيع أمهات الأولاد، أو الاستهانة بالأحكام الشرعية.
[فإن قيل]: هذه المسألة مختلف فيها، فلا يصلح الحمل عليها؛ لأنه لا جهل، ولا استهانة عند القائل بالجواز.
[قلنا]: يصلح أن يحمل عَلَى صورة اتفاقية، كبيعها فِي حال حملها، فإنه حرام بالإجماع. [الثالث]: وهو منْ نمط الذي قبله، قَالَ النوويّ: لا يختص شراء الولد أمه بأمهات الأولاد، بل يُتصور فِي غيرهن، بأن تلد الأمة حرا منْ غير سيدها، بوطء شبهة، أو رقيقا بنكاح، أو زنا، ثم تباع الأمة فِي الصورتين بيعا صحيحا، وتدور فِي الأيدي، حَتَّى يشتريها ابنها، أو ابنتها، ولا يعكُر عَلَى هَذَا تفسير محمد بن بشر، بأن المراد السراري؛ لأنه تخصيص بغير دليل.
[الرابع]: أن يكثر العقوق فِي الأولاد، فيعامل الولد أمه، معاملة السيد أمته، منْ الإهانة بالسب، والضرب، والاستخدام، فأطلق عليه ربها مجازا لذلك، أو المراد بالرب المربي، فيكون حقيقة.
قَالَ الحافظ: وهذا أَوْجَهُ الأَوْجُه عندي؛ لعمومه، ولأن المقام يدلّ عَلَى أن المراد حالة، تكون مع كونها تدل عَلَى فساد الأحوال، مستغربةَ.
ومُحَصَّله الإشارة إلى أن الساعة، يقرب قيامها عند انعكاس الأمور، بحيث يصير الْمُرَبَّى مُرَبيًا، والسافل عاليا، وهو مناسب لقوله فِي العلامة الأخرى:"أن تصير الحفاة ملوك الأرض".
(تنبيهان):
[أحدهما]: قَالَ النوويّ: ليس فيه دليل عَلَى تحريم بيع أمهات الأولاد، ولا عَلَى جوازه، وَقَدْ غَلِطَ مَنِ استَدَلَّ به لكلٍّ منْ الأمرين؛ لأن الشيء إذا جُعل علامةً عَلَى شيء آخر، لا يدلّ عَلَى حظر، ولا إباحة.
[الثاني]: يُجمَع بين ما فِي هَذَا الْحَدِيث، منْ إطلاق الرب عَلَى السيد المالك، فِي قوله:"ربها"، وبين ما فِي الْحَدِيث الآخر، وهو فِي "الصحيح":"لا يَقُل أحدكم: أطعم ربك، وَضِّئ ربك، اسق ربك، وليقل: سيدي، ومولاي"، بأن اللفظ هنا خرج عَلَى سبيل المبالغة، أو المراد بالرب هنا المربي، وفي المنهي عنه السيد، أو أن النهي عنه متأخر، أو مختص بغير الرسول صلى الله عليه وسلم. انتهى "فتح" 1/ 167 - 168. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): قَالَ شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فِي "العقيدة الواسطيّة": وتؤمن الفرقة الناجية منْ أهل السنة والجماعة بالقدر خيره وشرّه، والإيمان بالقدر عَلَى
درجتين، كلّ درجة تتضمّن شيئين: فالدرجة الأولى بأن الله تعالى عليم بالخلق، وهم عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلاً وأبدًا، وعلم جميع أحوالهم منْ الطاعات، والمعاصي، والأرزاق، والآجال، ثم كتب الله فِي اللوح المحفوظ مقادير الخلق، فأول ما خلق الله القلم، قَالَ له: اكتب، قَالَ: ما أكتب؟ قَالَ: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فما أصاب الإنسان، لم يكن ليُخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، جفّت الأقلام، وطُويت الصحف، كما قَالَ تعالى:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70]، وَقَالَ تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22]، وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه وتعالى يكون فِي مواضع جملة وتفصيلاً، فقد كتب فِي اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكًا، فيؤمر بأرع كلمات، فيقال له: اكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقيّ، أم سعيد، ونحو ذلك، فهذا التقدير قد كَانَ ينكره غُلاة القدريّة قديمًا، ومنكروه اليوم قليل.
وأما الدرجة الثانية: فهي مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كَانَ، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما فِي السموات، وما فِي الأرض منْ حركة، ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى، لا يكون فِي ملكه ما لا يُريد، وأنه سبحانه وتعالى عَلَى كل شيء قدير منْ الموجودات، والمعدومات، فما منْ مخلوق فِي الأرض، ولا فِي السماء إلا الله خالقه سبحانه وتعالى، لا خالق غيره، ولا رب سواه، ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته، وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته، وهو سبحانه وتعالى يحبّ المتّقين، والمحسنين، والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يُحبّ الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحبّ الفساد. والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن، والكافر، والبر، والفاجر، والمصلّي، والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم، ولهم إرادة، والله خالقهم، وقدرَتهم، وإرادَتهَم، كما قَالَ تعالى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29].
وهذه الدرجة منْ القدَر يُكذّب بها عامّة القدريّة الذين سمّاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة، ويغلو فيها قوم منْ أهل الإثبات حَتَّى سلبوا العبد قدرته، واختياره، ويُخرجون عن أفعال الله، وأحكامه حكمها، ومصالحها. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله
تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): فِي بحث مهمّ يتعلّق بالإيمان، قد خالف فيه طوائف منْ المتأخّرين هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله تعالى لهداية الخلق أجمعين، وهدي أصحابه الأكرمين، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين:
قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: مذهب السلف، وأئمة الفتوى منْ الخلف أن منْ صدّق بهذه الأمور تصديقًا جزمًا، لا ريب فيه، ولا تردّد، ولا توقّف، كَانَ مؤمنًا حقيقةً، وسواء كَانَ ذلك عن براهين ناصعة، أو عن اعتقادات جازمة، عَلَى هَذَا انقرضت الأعصار الكريمة، وبهذا صرحت فتاوى أئمة الهدى المستقيمة، حَتَّى حدثت مذاهب المعتزلة المبتدعة، فقالوا: إنه لا يصحّ الإيمان الشرعيّ إلا بعد الإحاطة بالبراهين العقليّة والسمعيّة، وحصول العلم بنتائجها، ومطالبها، ومن لم يحصُل إيمانه كذلك، فليس بمؤمن، ولا يجزىء إيمانه بغير ذلك، وتبعهم عَلَى ذلك جماعة منْ متكلمي أصحابنا، كالقاضي أبي بكر، وأبي إسحاق الإسفراينيّ، وأبي المعالي فِي أول قوليه، والأول هو الصحيح؛ إذ المطلوب منْ المكلّفين ما يقال عليه: إيمان، كقوله تعالى:{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} ، {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ} ، والإيمان هو التصديق لغةً وشرعًا، فمن صدق بذلك كلّه، ولم يجوّز نقيض شيء منْ ذلك، فقد عمل بمقتضى ما أمره الله تعالى به عَلَى نحو ما أمره الله تعالى، ومن كَانَ كذلك، فقد تفصّى عن عهدة الخطاب؛ إذ قد عمل بمقتضى السنّة والكتاب؛ ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه بعده حكموا بصحّة إيمان كلّ منْ آمن وصدّق بما ذكرناه، ولم يفرّقوا بين منْ آمن عن برهان، أو عن غيره؛ ولأنهم لم يأمروا أجلاف العرب بترديد النظر، ولا سألوهم عن أدلّة تصديقهم، ولا أرجؤوا إيمانهم حَتَّى ينظروا، وتحاشوا عن إطلاق الكفر عَلَى أحد منهم، بل سمَّوهم المؤمنين، والمسلمين، وأجروا عليهم أحكام الإيمان والإسلام؛ ولأن البراهين التي حرّرها المتكلّمون، ورتّبها الجدليّون، إنما أحدثها المتأخّرون، ولم يخُض فِي شيء تلك الأساليب السلف الماضون، فمن المحال والْهَذَيَان أن يُشترط فِي صحّة الإيمان ما لم يكن معروفًا، ولا معمولاً به لأهل ذلك الزمان، وهم منْ هم؟ فهما عن الله تعالى، وأخذًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبليغًا لشريعته، وبيانًا لسنّته، وطريقته. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى "المفهم" 1/ 145 - 146.
وَقَدْ ذكر الحافظ رحمه الله تعالى فِي "الفتح" بحثًا نفيسًا، مستقصيًا للموضوع، عند شرح حديث بعث معاذ رضي الله عنه إلى اليمن، فَقَالَ عند قوله: "فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحّدوا الله، فإذا عرفوا ذلك
…
" الْحَدِيث: ما نصه: وَقَدْ تمسك به منْ قَالَ: أول
واجبٍ المعرفةُ، كإمام الحرمين، واستَدَلّ بأنه لا يتأتى الإتيان بشيء منْ المأمورات، علىَ قصد الامتثال، ولا الانكفاف عن شيء، منْ المنهيات عَلَى قصد الانزجار، إلا بعد معرفة الآمر والناهي. واعتُرِض عليه بأن المعرفة لا تتأتى إلا بالنظر والاستدلال، وهو مقدمة الواجب، فيجب، فيكون أول واجبٍ النظر، وذهب إلى هَذَا طائفة، كابن فورك.
وتُعُقّب بأن النظر ذو أجزاء، يترتب بعضها عَلَى بعض، فيكون أول واجب جزأ منْ النظر، وهو محكيّ عن القاضي أبي بكر بن الطيب، وعن الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني، أول واجب القصد إلى النظر، وجمع بعضهم بين هذه الأقوال، بأن منْ قَالَ: أول واجب المعرفة، أراد طلبا وتكليفا، ومن قَالَ: النظر، أو القصد أراد امتثالاً؛ لأنه يُسَلِّم أنه وسيلة إلى تحصيل المعرفة، فيدل ذلك عَلَى سبق وجوب المعرفة.
قَالَ: وَقَدْ ذكرتُ فِي "كتاب الإيمان" منْ أعرض عن هَذَا منْ أصله، وتَمَسَّكَ بقوله تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، وحديث: "كلُّ مولود يولد عَلَى الفطرة
…
"، فإن ظاهر الآية والحديث أن المعرفة حاصلة بأصل الفطرة، وأن الخروج عن ذلك يطرأ عَلَى الشخص؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "فأبواه يَهُوِّدانه، وينصرانه"، وَقَدْ وافق أبو جعفر السمناني، وهو منْ رءوس الأشاعرة عَلَى هَذَا، وَقَالَ: إن هذه المسألة بقيت فِي مقالة الأشعري، منْ مسائل المعتزلة، وتفرع عليها أن الواجب عَلَى كل أحد معرفة الله بالأدلة الدالة عليه، وأنه لا يكفي التقليد فِي ذلك. انتهى.
قَالَ: وقرأت فِي جزء منْ كلام شيخ شيخنا الحافظ صلاح الدين العلائي: ما ملخصه: إن هذه المسألة مما تناقضت فيها المذاهب، وتباينت بين مُفَرِّط، ومُفْرِط، ومتوسط:
فالطرف الأول: قول منْ قَالَ: يكفي التقليد المحض فِي إثبات وجود الله تعالى، ونفي الشريك عنه، وممن نسب إليه إطلاق ذلك عبيد الله بن الحسن العنبري، وجماعة منْ الحنابلة، والظاهرية، ومنهم منْ بالغ، فَحَرَّم النظر فِي الأدلة، واستند إلى ما ثبت عن الأئمة الكبار، منْ ذم الكلام كما سيأتي بيانه.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا المذهب هو الحق الذي كَانَ عليه السالف الصالح، كما سبق فِي كلام القرطبيّ، ويأتي أيضًا، فليس فيه تفريط، كما يدلّ عليه كلام العلائيّ هَذَا، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتحيّر بالاعتساف، ونسأل الله تعالى أن يهدينا إلى سواء السبيل.
قَالَ: والطرف الثاني: قول منْ وَقَفَ صحة إيمان كل أحد عَلَى معرفة الأدلة، منْ علم الكلام، ونُسب ذلك لأبي إسحاق الإسفرايني، وَقَالَ الغزالي: أسرفت طائفة، فكفروا عوام المسلمين، وزعموا أن منْ لم يعرف العقائد الشرعية، بالأدلة التي حرروها، فهو كافر، فضيقوا رحمة الله الواسعة، وجعلوا الجنة مختصة بشرذمة يسيرة منْ المتكلمين، وذكر نحوه أبو المظفر ابن السمعانيّ، وأطال فِي الرد عَلَى قائله، ونقل عن أكثر أئمة الفتوى أنهم قالوا: لا يجوز أن تكلف العوام اعتقاد الأصول بدلائلها؛ لأن فِي ذلك منْ المشقة أشد منْ المشقة فِي تعلم الفروع الفقهية.
قَالَ: وأما المذهب المتوسط، فذكره، وسأذكره مُلَخَّصًا بعد هَذَا.
وَقَالَ القرطبيّ فِي "المفهم" فِي شرح حديث: "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم"، الذي تقدم شرحه فِي أثناء "كتاب الأحكام"، وهو فِي أوائل "كتاب العلم" منْ "صحيح مسلم": هَذَا الشخص الذي يبغضه الله، هو الذي يقصد بخصومته مدافعة الحق، ورده بالأوجه الفاسدة، والشُّبَه الموهمة، وأشد ذلك الخصومة فِي أصول الدين، كما يقع لأكثر المتكلمين، المعرضين عن الطرق التي أرشد إليها كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسلف أمته، إلى طرق مبتدعة، واصطلاحات مخترعة، وقوانين جدلية، وأمور صناعية، مدار أكثرها عَلَى آراء سوفسطائية، أو مناقضات لفظية، ينشأ بسببها عَلَى الآخذ فيها شُبَهٌ، ربما يعجز عنها، وشكوك يذهب الايمان معها، وأحسنهم انفصالا عنها أجدلهم، لا أعلمهم، فكم منْ عالم بفساد الشبهة، لا يقوى عَلَى حلها، وكم منْ منفصل عنها، لا يدرك حقيقة علمها، ثم إن هؤلاء المتكلّمين قد ارتكبوا أنواعا منْ المحال، لا يرتضيها الْبُلْهُ، ولا الأطفال، لَمَّا بحثوا عن تحيز الجواهر، والأكوان، والأحوال، ثم إنهم أخذوا يبحثون فيما أمسك عنه السلف الصالح، ولم يوجد عنهم بحثٌ واضح، وهو كيفية تعلقات صفات الله تعالى، وتعديدها، واتحادها فِي نفسها، وهل هي الذات أو غيرها؟، وفي الكلام، هل هو متحد، أو منقسم؟، وعلى الثاني، هل ينقسم بالنوع، أو الوصف؟، وكيف تعلق فِي الأزل بالمأمور، مع كونه حادثا؟، ثم إذا انعدم المأمور، فهل يبقى ذلك التعلق؟، وهل الأمر لزيد بالصلاة مثلا، هو نفس الأمر لعمرو بالزكاة؟ إلى غير ذلك منْ الأبحاث المبتدعة، التي لم يأمر الشارع بالبحث عنها، وسكت عنها الصحابة رضي الله عنهم، ومن سلك سبيلهم، بل نهوا عن الخوض فيها؛ لعلمهم بأنه بحث عن كيفية ما لا تعلم كيفيته بالعقل، لكون العقول لها حد تقف عنده، وهو العجز عن التكييف، لا يتعدّاه، ولا فرق بين البحث عن كيفية الذات، وكيفية الصفات، ولذلك قَالَ العليم الخبير:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
[الشورى: 11]، ومن توقف فِي هَذَا، فليعلم أنه إذا كَانَ حُجِب عن كيفية نفسه، مع وجودها، وعن كيفية إدراك ما يدرك به، فهو عن إدراك غيره أعجز.
وغاية علم العلماء، وإدراك عقول الفضلاء أن يقطعوا بوجود فاعل لهذه المصنوعات، منزه عن الشبيه، مقدس عن النظير، متصف بصفات الكمال.
ثم متى ثبت النقل، وأخبرنا الصادقون عنه بشيء منْ أوصافه، وأسمائه قبلناه، واعتقدناه، وما لم يتعرّضوا له، سكتنا عنه، وتركنا الخوض فيه، وهذه طريقة السلف، وما سواها مَهَاوٍ، وتَلَف، ويكفي فِي الردع عن الخوض فِي طرق المتكلمين، ما قد ورد فِي ذلك عن الأئمة المتقدمين، فمن ذلك قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: منْ جعل دينه غَرَضًا للخصومات، أكثر الشغل، والدين قد فُرغ منه، ليس بأمر يؤتكف عَلَى النظر فيه. وَقَالَ مالك بن أنس رحمه الله تعالى: ليس هَذَا الجدال منْ الدين فِي شيء، وَقَالَ: كَانَ يقال: لا تمكّن زائغ القلب منْ أذنك، فإنك لا تدري ما يَعلق منْ ذلك. وَقَالَ الشافعيّ رحمه الله تعالى: لأن يُبتلَى العبد بكلّ ما نهى الله عنه ما عدا الشرك خير له منْ أن ينظر فِي علم الكلام، وإذا سمعت منْ يقول: الاسم هو المسمّى، أو غير المسمّى، فاشهد أنه منْ أهل الكلام، ولا دين له. قَالَ: وحكمي فِي أهل الكلام أن يُضربُوا بالجريد، ويُطاف بهم فِي العشائر، والقبائل، ويقال: هَذَا جزاء منْ ترك الكتاب والسنّة، وأخذ فِي الكلام. وَقَالَ الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: لا يُفلح صاحب الكلام أبدًا، علماء الكلام زنادقة. وَقَالَ ابن عقيل: قَالَ بعض أصحابنا: أنا أقطع أن الصحابة رضي الله عنهم ماتوا، وما عرفوا الجوهر والعرض، فإن رضِيت أن تكون مثلهم فكن، وإن رأيت طريقة المتكلّين أولى منْ طريقة أبي بكر، وعمر، فبئسما رأيته. قَالَ: وَقَدْ أفضى هَذَا الكلام بأهله إلى الشكوك، وبكثير منهم إلى الإلحاد، وببعضهم إلى التهاون بوظائف العبادات، وسبب ذلك إعراضهم عن نصوص الشارع، وتطلبهم حقائق الأمور منْ غيره، وليس فِي قوة العقل ما يدرك ما فِي نصوص الشارع منْ الحكم التي استأثر بها، ولو لم يكن فِي الجدال، إلا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه الضلال، كما قَالَ فيما خرّجه الترمذيّ:"ما ضلّ قوم بعد هُدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل"، وَقَالَ: إنه صحيح
(1)
.
قَالَ: وَقَدْ رجع كثير منْ أئمة المتكلّمين عن الكلام، بعد انقضاء أعمار مديدة، وآماد بعيدة، لَمّا لطف الله تعالى بهم، وأظهر لهم آياته، وباطن برهانه، فمنهم: إمام
(1)
وَقَالَ الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: حسن. انظر "صحيح الجامع الصغير" 2/ 984.
المتكلّمين أبو المعالي امام الحرمين (ت 478 هـ)، فقد حكى عنه الثقات أنه قَالَ: لِقد خلّيت أهل الإسلام، وعلومهم، وركبت البحر الأعظم، وغُصت فِي كل شيء، نَهَى عنه أهل العلم رغبةً فِي طلب الحق، وهربًا منْ التقليد، والآن فقد رجعت عن الكلّ إلى كلمة الحقّ، عليكم بدين العجائز، وأختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص، والويل لابن الْجُوَينيّ.
وَقَالَ لأصحابه عند موته: يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أنه يبلغ بي ما بلغتُ، ما تشاغلت به. وَقَالَ أحمد بن سنان: كَانَ الوليد بن أبان الكرابيسيّ خالي، فلما حضرته الوفاة قَالَ لبنيه: تعلمون أحدًا أعلم مني؟ قالوا: لا، قَالَ: فتَتَّهِموني؟ قالوا: لا، قَالَ: فإني أوصيكم، أفتقبلون؟ قالوا: نعم، قَالَ: عليكم بما عليه أصحاب الْحَدِيث، فإني رأيت الحقّ معهم. وَقَالَ أبو الوفاء ابن عَقِيل: لقد بالغت فِي الأصول طول عمري، ثم عُدتُ القهقرى إلى مذهب المكتب. وهذا الشهرستاني، صاحب "نهاية الإقدام فِي علم الكلام" وصف حاله فيما وصل إليه منْ علم الكلام، وما ناله، فتمثّل بما قاله:
لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ الْمَعَاهِدَ كُلَّهَا
…
وَصَيَّرْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ
فَلَمْ أَرَ إِلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرِ
…
عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارعٍ سِنَّ نَادِمِ
ثم قَالَ: عليكم بدين العجائز، فإنه أسنى الجوائز.
قَالَ القرطبيّ: ولو لم يكن فِي الكلام شيء يُذمُّ به إلا مسئلتان، هما منْ مبادئه، لكان حقيقا بالذمّ، وجديرًا بالذكر:
[إحداهما]: قول طائفة منهم: إن أول الواجبات الشك فِي الله تعالى؛ إذ هو اللازم عن وجوب النظر، أو القصد إلى النظر، واليه أشار الإمام بقوله: ركبت البحر.
[والثانية]: قول جماعة منهم إن منْ لم يعرف الله تعالى بالطرق التي طرّقوها، والأبحاث التي حرروها، فلا يصح إيمانه، وهو كافر، فيلزمهم عَلَى هَذَا تكفير أكثر المسلمين، منْ السلف الماضين، وأئمة المسلمين، وأن منْ يبدأ بتكفيره أباه، وأسلافه، حَتَّى لقد أورد عَلَى بعضهم أن هَذَا يلزم منه تكفير أبيك، وأسلافك، وجيرانك، فَقَالَ: لا تُشَنِّع علي بكثرة أهل النار. قَالَ: وَقَدْ رَدّ بعض منْ لم يقل بهاتين المسألتين منْ المتكلّين ما عَلَى منْ قَالَ بهما، بطريق منْ النظر والاستدلال؛ بناء منهم عَلَى أن هاتين المسألتين نظريّتان، وهذا خطأ فاحشٌ، فالكلّ يُخَطِّئون، الطائفة الأولى بأصل القول بالمسألتين، والثانية بتسليم أن فسادها ليس بضروريّ، ومن شكّ فِي تكفير منْ قَالَ: إن الشكّ فِي الله تعالى واجب، وأن معظم الصحابة، والمسلمين كفّار، فهو
كافر شرعًا، أو مُختلّ العقل وضعًا، إذ كلّ واحدة منهما معلومة الفساد بالضرورة الشرعيّة الحاصلة بالأخبار المتواترة القطعيّة، وإن لم يكن كذلك، فلا ضروريّ يُصار إليه فِي الشرعيّات، ولا العقليّات، عصمنا الله تعالى منْ بِدع المبتدعين، وسلك بنا طرُق السلف الماضين، وإنما طوّلت فِي هذه المسألة الأنفاس منْ هذه البدع فِي النَّاس، ولأنه قد اغترّ كثير منْ الجهال بزخرف تلك الأقوال، وَقَدْ بذلت ما وجب عليّ منْ النصيحة، والله تعالى يتولّى إصلاح القلوب الجريحة. انتهى كلام القرطبيّ "المفهم" 6/ 690 - 694. ببعض تغيير منْ "الفتح".
وَقَالَ الآمدي فِي "أبكار الأفكار": ذهب أبو هاشم منْ المعتزلة، إلى أن منْ لا يعرف الله بالدليل، فهو كافر؛ لأن ضد المعرفة النكرة، والنكرة كفر، قَالَ: وأصحابنا مجمعون عَلَى خلافه، وإنما اختلفوا فيما إذا كَانَ الاعتقاد موافقا، لكن عن غير دليل، فمنهم منْ قَالَ: إن صاحبه مؤمن عاص بترك النظر الواجب، ومنهم منْ اكتفى بمجرد الاعتقاد الموافق، وإن لم يكن عن دليل، وسماه علمًا، وعلى هَذَا فلا يلزم منْ حصول المعرفة بهذا الطريق، وجوب النظر، وَقَالَ غيره: منْ منع التقليد، وأوجب الاستدلال، لم يرد التعمق فِي طرق المتكلمين، بل اكتفى بما لا يخلو عنه منْ نشأ بين المسلمين، منْ الاستدلال بالمصنوع عَلَى الصانع، وغايته أنه يحصل فِي الذهن، مقدمات ضرورية، تتألف تألفا صحيحا، وتنتج العلم، لكنه لو سُئل كيف حصل له ذلك؟ ما اهتدى للتعبير به، وقيل: الأصل فِي هَذَا كله المنع منْ التقليد، فِي أصول الدين، وَقَدْ انفصل بعض الأئمة عن ذلك، بأن المراد بالتقليد أخذ قول الغير بغير حجة، ومن قامت عليه حجة بثبوت النبوة، حَتَّى حصل له القطع بها، فمهما سمعه منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ مقطوعا عنده بصدقه، فإذا اعتقده لم يكن مقلدا؛ لأنه لم يأخذ بقول غيره بغير حجة، وهذا مستند السلف قاطبة، فِي الأخذ بما ثبت عندهم منْ آيات القرآن، وأحاديث النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيما يتعلق بهذا الباب، فآمنوا بالمحكم منْ ذلك، وفوضوا أمر المتشابه منه إلى ربهم، وإنما قَالَ منْ قَالَ: إن مذهب الخلف أحكم بالنسبة إلى الرد عَلَى منْ لم يثبت النبوة، فيحتاج منْ يريد رجوعه إلى الحق أن يقيم عليه الأدلة إلى أن يُذعن، فيسلم، أو يعاند فيهلك، بخلاف المؤمن، فإنه لا يحتاج فِي أصل إيمانه إلى ذلك، وليس سبب الأول إلا جعل الأصل عدم الإيمان، فلزم إيجاب النظر المؤدي إلى المعرفة، وإلا فطريق السلف أسهل منْ هَذَا، كما تقدم إيضاحه منْ الرجوع إلى ما دلت عليه النصوص، حَتَّى يحتاج إلى ما ذكر منْ إقامة الحجة عَلَى منْ ليس بمؤمن، فاختلط الأمر عَلَى منْ اشترط ذلك، والله المستعان.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رَدّ منْ لم يُثبتِ النبوّة لا يكون بما سلكه المتكلّمون منْ النظر، وإنما يكون بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واقتدى به فِي ذلك أصحابه رضي الله عنهم، ومن تبعهم بإحسان، منْ إقامة الحجة عَلَى منْ لم يُثبت نبوته صلى الله عليه وسلم، فليس هَذَا النفي جديدا فِي الأمة، وإنما هبم منْ أول ما جاء الإسلام، فقد قَالَ الله تعالى:{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا} الآية [الرعد: 43]، وَقَالَ تعالى:{وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} الآية [الفرقان: 41]، إلى غير ذلك منْ الآيات، فالطريق الذي سلكه صلى الله عليه وسلم فِي إقناع هؤلاء ونحوهم، وإلزامهم الحجج القاهرة لهم، هو الطريق الصحيح، وأما طريق المكتلمين، فضلال مبين، فتنبّه لهذا هداني الله وإياك إلى الصراط المستقيم.
واحتج بعض منْ أوجب الاستدلال، باتفاقهم عَلَى ذم التقليد، وذكروا الآيات، والأحاديث الواردة فِي ذم التقليد، وبأن كل أحد قبل الاستدلال، لا يدري أيّ الأمرين هو الهدى؟، وبأن كل ما لا يصح إلا بالدليل، فهو دعوى لا يعمل بها، وبأن العلم اعتقاد الشيء عَلَى ما هو عليه، منْ ضرورة، أو استدلال، وكل ما لم يكن علما فهو جهل، ومن لم يكن عالما فهو ضال.
والجواب عن الأول أن المذموم منْ التقليد أخذ قول الغير بغير حجة، وهذا ليس منه حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله أوجب اتباعه فِي كل ما يقول، وليس العمل فيما أمر به، أو نهى عنه داخلا تحت التقليد المذموم اتفاقا، وأما منْ دونه، ممن اتبعه فِي قول قاله، واعتقد أنه لو لم يقله لم يقل هو به، فهو المقلد المذموم، بخلاف ما لو اعتقد ذلك فِي خبر الله ورسوله، فإنه يكون ممدوحا.
وأما احتجاجهم بأن أحدا لا يدري قبل الاستدلال، أيّ الأمرين هو الهدى، فليس بمسلم، بل منْ النَّاس منْ تطمئن نفسه، وينشرح صدره للإسلام منْ أول وهلة، ومنهم منْ يتوقف عَلَى الاستدلال، فالذي ذكروه هم أهل الشق الثاني، فيجب عليه النظر ليقي نفسه النار؛ لقوله تعالى:{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]، ويجب عَلَى كل منْ استرشده أن يرشده، ويبرهن له الحق، وعلى هَذَا مضى السلف الصالح، منْ عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم وبعده.
وأما منْ استقرت نفسه إلى تصديق الرسول، ولم تنازعه نفسه إلى طلب دليل، توفيقا منْ الله وتيسيرا، فهم الذين قَالَ الله فِي حقهم:{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} الآية [الحجرات: 7]، وَقَالَ:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} الآية [الأنعام: 125]، وليس هؤلاء مقلدين لآبائهم، ولا لرؤسائهم؛ لأنهم لو كَفَر
آباؤهم، أو رؤساؤهم لم يتابعوهم، بل يجدون النفرة عن كل منْ سمعوا عنه ما يخالف الشريعة، وأما الآيات والأحاديث، فإنما وردت فِي حق الكفار، الذين اتبعوا منْ نُهُوا عن اتباعه، وتركوا اتباع منْ أُمِروا باتباعه، وإنما كلفهم الله الإتيان ببرهان عَلَى دعواهم، بخلاف المؤمنين، فلم يَرِد قط أنه أسقط اتباعهم حَتَّى يأتوا بالبرهان، وكل منْ خالف الله ورسوله، فلا برهان له أصلا، وإنما كلف الإتيان بالبرهان، تبكيتا وتعجيزا، وأما منْ اتبع الرسول فيما جاء به، فقد اتبع الحق الذي أمر به، وقامت البراهين عَلَى صحته، سواء علم هو بتوجيه ذلك البرهان، أم لا.
وقول منْ قَالَ منهم: إن الله ذكر الاستدلال، وأمر به مُسَلَّم، لكن هو فعل حسن مندوب، لكل منْ أطاقه، وواجب عَلَى كل منْ لم تسكن نفسه إلى التصديق، كما تقدم تقريره. وبالله التوفيق.
وَقَالَ غيره: قول منْ قَالَ: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أحكم، ليس بمستقيم؛ لأنه ظن أن طريقة السلف مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث، منْ غير فقه فِي ذلك، وأن طريقه الخلف، هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها، بأنواع المجازات، فجمع هَذَا القائل بين الجهل بطريقة السلف، والدعوى فِي طريقة الخلف، وليس الأمر كما ظن، بل السلف فِي غاية المعرفة بما يليق بالله تعالى، وفي غاية التعظيم له، والخضوع لأمره، والتسليم لمراده، وليس منْ سلك طريق الخلف واثقا بأن الذي يتأوله هو المراد، ولا يمكنه القطع بصحة تأويله، وأما قولهم فِي العلم، فزادوا فِي التعريف: عن ضرورة، أو استدلال، وتعريف العلم انتهى عند قوله:"عليه"، فإن أبوا إلا الزيادة، فليزدادوا:"عن تيسير الله له ذلك، وخلقه ذلك المعتقد فِي قلبه"، وإلا فالذي زادوه هو محل النزاع، فلا دلالة فيه، وبالله التوفيق.
وَقَالَ أبو المظفر ابن السمعاني: تعقب بعض أهل الكلام قول منْ قَالَ: إن السلف منْ الصحابة والتابعين، لم يعتنوا بإيراد دلائل العقل فِي التوحيد، بأنهم لم يشتغلوا بالتعريفات فِي أحكام الحوادث، وَقَدْ قبل الفقهاء ذلك، واستحسنوه، فَدَوَّنوه فِي كتبهم، فكذلك علم الكلام، ويمتاز علم الكلام، بأنه يتضمن الرد عَلَى الملحدين، وأهل الأهواء، وبه تزول الشبهة عن أهل الزيغ، ويثبت اليقين لأهل الحق، وَقَدْ علم الكل أن الكتاب، لم تعلم حقيته، والنبي لم يثبت صدقه إلا بأدلة العقل.
وأجاب أما أولا، فإن الشارع، والسلف الصالح نهوا عن الابتداع، وأمروا بالاتباع، وصح عن السلف أنهم نهوا عن علم الكلام، وعدوه ذريعة للشك والارتياب. وأما الفروع فلم يثبت عن أحد منهم النهي عنها، إلا منْ ترك النص الصحيح، وقدم عليه
القياس. وأما منْ اتبع النص، وقاس عليه، فلا يحفظ عن أحد منْ أئمة السلف إنكار ذلك؛ لأن الحوادث فِي المعاملات لا تنقضي، وبالناس حاجة إلى معرفة الحكم، فمن ثَمَّ تواردوا عَلَى استحباب الاشتغال بذلك، بخلاف علم الكلام.
وأما ثانيا: فإن الدين كمل؛ لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فإذا كَانَ أكمله وأتمه، وتلقاه الصحابة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، واعتقده منْ تلقى عنهم، واطمأنت به نفوسهم، فأي حاجة بهم إلى تحكيم العقول، والرجوع إلى قضاياها، وجعلها أصلا، والنصوص الصحيحة الصريحة تُعرَض عليها، فتارة يُعمل بمضمونها، وتارة تحرف عن مواضعها؛ لتوافق العقول، وإذا كَانَ الدين قد كَمُل فلا تكون الزيادة فيه إلا نقصانا فِي المعنى، مثل زيادة أصبع فِي اليد، فإنها تنقص قيمة العبد الذي يقع به ذلك.
وَقَدْ توسط بعض المتكلمين، فَقَالَ: لا يكفي التقليد، بل لابد منْ دليل ينشرح به الصدر، وتحصل به الطمأنينة العلمية، ولا يشترط أن يكون بطريق الصناعة الكلامية، بل يكفي فِي حق كل أحد بحسب ما يقتضيه فهمه. انتهى.
والذي تقدم ذكره منْ تقليد النصوص، كاف فِي هَذَا القدر.
وَقَالَ بعضهم: المطلوب منْ كل أحد التصديق الجزميّ، الذي لا ريب معه بوجود الله تعالى، والإيمان برسله، وبما جاءوا به، كيفما حصل، وبأي طريق إليه يوصل، ولو كَانَ عن تقليد محض، إذا سلم منْ التزلزل.
وَقَالَ القرطبيّ: هَذَا الذي عليه أئمة الفتوى، ومن قبلهم منْ أئمة السلف، واحتج بعضهم بما تقدم منْ القول فِي أصل الفطرة، وبما تواتر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم الصحابة أنهم حكموا بإسلام منْ أسلم منْ جفاة العرب، ممن كَانَ يعبد الأوثان، فقبلوا منهم الإقرار بالشهادتين، والتزام أحكام الإسلام، منْ غير إلزام بتعلم الأدلة، وإن كَانَ كثير منهم إنما أسلم لوجود دليلٍ ما، فأسلم بسبب وضوحه له، فالكثير منهم قد أسلموا طوعا منْ غير تقدم استدلال، بل بمجرد ما كَانَ عندهم منْ أخبار أهل الكتاب، بأن نبيا سيبعث، وينتصر عَلَى منْ خالفه، فلما ظهرت لهم العلامات فِي محمد صلى الله عليه وسلم، بادروا إلى الإسلام، وصدّقوه فِي كل شيء قاله، ودعاهم إليه، منْ الصلاة، والزكاة، وغيرهما، وكثير منهم كَانَ يؤذن له فِي الرجوع إلى معاشه، منْ رعاية الغنم وغيرها، وكانت أنوار النبوة وبركاتها تشملهم، فلا يزالون يزدادون إيمانا ويقينا.
وَقَالَ أبو المظفر ابن السمعاني أيضًا: ما مُلَخَّصه: إن العقل لا يوجب شيئا، ولا يحرم شيئا، ولا حظ له فِي شيء منْ ذلك، ولو لم يرد الشرع بحكم، ما وجب عَلَى
أحد شيء؛ لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقوله:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النِّساء: 165]، وغير ذلك منْ الآيات، فمن زعم أن دعوة رسل الله عليهم الصلاة والسلام، إنما كانت لبيان الفروع، لزمه أن يجعل العقل هو الداعي إلى الله، دون الرسول، ويلزمه أن وجود الرسول وعدمه بالنسبة إلى الدعاء إلى الله سواء، وكفى بهذا ضلالا، ونحن لا ننكر أن العقل يرشد إلى التوحيد، وإنما ننكر أنه يستقل بإيجاب ذلك، حَتَّى لا يصح إسلام إلا بطريقه، مع قطع النظر عن السمعيات؛ لكون ذلك خلاف ما دلت عليه آيات الكتاب، والأحاديث الصحيحة، التي تواترت، ولو بالطريق المعنويّ، ولو كَانَ كما يقول أولئك، لبطلت السمعيات، التي لا مجال للعقل فيها، أو أكثرها، بل يجب الإيمان بما ثبت منْ السمعيات، فإن عقلناه فبتوفيق الله، وإلا اكتفينا باعتقاد حقيته، عَلَى وفق مراد الله سبحانه وتعالى. انتهى.
ويؤيد كلامه ما أخرجه أبو داود، عن ابن عباس، أن رجلا قَالَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أَنْشُدُك الله، آلله أرسلك أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأن ندع اللات والعزى، قَالَ: نعم، فأسلم، وأصله فِي "الصحيحين" فِي قصة ضمام بن ثعلبة، وفي حديث عمرو بن عَبَسَةَ عند مسلم أنه أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: ما أنت؟ قَالَ: "نبي الله"، قلت: آلله أرسلك؟ قَالَ: "نعم"، قلت: بأي شيء؟ قَالَ: "أوحد الله لا أشرك به شيئا
…
" الْحَدِيث، وفي حديث أسامة بن زيد، فِي قصة قتله الذي قَالَ: لا إله إلا الله، فأنكر عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وحديث المقداد فِي معناه، وَقَدْ تقدما فِي "كتاب الديات"، وفي كتب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، وكسرى، وغيرهما منْ الملوك، يدعوهم إلى التوحيد، إلى غير ذلك منْ الأخبار المتواترة التواتر المعنوي، الدال عَلَى أنه صلى الله عليه وسلم لم يزد فِي دعائه المشركين، عَلَى أن يؤمنوا بالله وحده، ويصدقوه فيما جاء به عنه، فمن فعل ذلك قبِلَ منه، سواء كَانَ إذعانه عن تقدم نظر، أم لا، ومن توقف منهم، نَبَّهَه حينئذ عَلَى النظر، أو أقام عليه الحجة إلى أن يُذعِن أو يستمرّ عَلَى عناده.
وَقَالَ البيهقي فِي "كتاب الاعتقاد": سلك بعض أئمتنا فِي إثبات الصانع، وحدوث العالم طريق الاستدلال، يمعجزات الرسالة، فإنها أصل فِي وجوب قبول ما دعا إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعلى هَذَا الوَجه وقع إيمان الذين استجابوا للرسل، ثم ذكر قصة النجاشي، وقول جعفر بن أبي طالب له: بعث الله إلينا رسولا، نعرف صدقه، فدعانا إلى الله، وتلا علينا تنزيلا منْ الله، لا لِشبهه شيء، فصدقناه، وعرفنا أن الذي جاء به الحق
…
الْحَدِيث بطوله، وَقَدْ أخرجه ابن خزيمة فِي "كتاب الزكاة" منْ "صحيحه" منْ رواية ابن
إسحاق، وحاله معروفة، وحديثه فِي درجة الحسن.
قَالَ البيهقي: فاستدلوا بإعجاز القرآن عَلَى صدق النبيّ، فآمنوا بما جاء به، منْ إثبات الصانع، ووحدانيته، وحدوث العالم، وغير ذلك، مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فِي القرآن وغيره، واكتفاء غالب منْ أسلم بمثل ذلك مشهور فِي الأخبار، فوجب تصديقه فِي كل شيء ثبت عنه بطريق السمع، ولا يكون ذلك تقليدا، بل هو اتباع. والله أعلم.
وَقَدْ استدل منْ اشترط النظر بالآيات، والأحاديث الواردة فِي ذلك، ولا حجة فيها؛ لأن منْ لم يشترط النظر لم ينكر أصل النظر، وإنما أنكر توقف الإيمان عَلَى وجود النظر، بالطرق الكلامية، إذ لا يلزم منْ الترغيب فِي النظر، جعله شرطا.
واستدل بعضهم بأن التقليد لا يفيد العلم، إذ لو أفاده لكان العلم حاصلا، لمن قلد فِي قدم العالم، ولمن قلد فِي حدوثه، وهو محال لإفضائه إلى الجمع بين النقيضين، وهذا إنما يتأتى فِي تقليد غير النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأما تقليده صلى الله عليه وسلم، فيما أخبر به عن ربه، فلا يتناقض أصلا.
واعتذر بعضهم عن اكتفاء النبيّ صلى الله عليه وسلم، والصحابة بإسلام منْ أسلم منْ الأعراب، منْ غير نظر، بأن ذلك كَانَ لضرورة المبادىء، وأما بعد تقرر الإسلام، وشهرته، فيجب العمل بالأدلة، ولا يخفى ضعف هَذَا الاعتذار.
والعجب أن منْ اشترط ذلك منْ أهل الكلام، ينكرون التقليد، وهم أول داع إليه، حَتَّى استقر فِي الأذهان، أن منْ أنكر قاعدة منْ القواعد التي أصلوها، فهو مبتدع، ولو لم يفهمها، ولم يعرف مأخذها، وهذا هو محض التقليد، فآل أمرهم إلى تكفير منْ قلد الرسول عليه الصلاة والسلام، فِي معرفة الله تعالى، والقولِ بإيمان منْ قلدهم، وكفى بهذا ضلالا، وما مَثَلهم إلا كما قَالَ بعض السلف: إنهم كمثل قوم كانوا سَفْرًا، فوقعوا فِي فلاة، ليس فيها ما يقوم به البدن، منْ المأكول والمشروب، ورأوا فيها طرقا شتى، فانقسموا قسمين. فقسم وجدوا منْ قَالَ لهم: أنا عارف بهذه الطرق، وطريق النجاة منها واحدة، فاتبعونى فيها، تنجوا، فتبعوه فنجوا، وتخلفت عنه طائفة، فأقاموا، إلى ان وقفوا عَلَى أمارة ظهر لهم أن فِي العمل بها النجاة، فعملوا بها فنجوا، وقسم هجموا بغير مرشد، ولا أمارة فهلكوا، فليس نجاة منْ اتبع المرشد بدون نجاة منْ أخذ بالإمارة، إن لم تكن أولى منها.
قَالَ الحافظ: ونقلت منْ جزء الحافظ صلاح الدين العلائي: يمكن أن يُفَصَّل، فيقال: منْ لا له أهلية لفهم شيء منْ الأدلة أصلا، وحصل له اليقين التام بالمطلوب، إما بنشأته عَلَى ذلك، أو لنور يقذفه الله فِي قلبه، فإنه يكتفى منه بذلك، ومن فيه أهلية
لفهم الأدلة، لم يكتف منه إلا بالإيمان عن دليل، ومع ذلك فدليل كل أحد بحسبه، وتكفي الأدلة المجملة، التي تحصل بأدنى نظر، ومن حصلت عنده شبهة وجب عليه التعلم إلى أن تزول عنه، قَالَ فبهذا يحصل الجمع بين كلام الطائفة المتوسطة.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الجمع لا حاجة لنا إليه أصلاً؛ لأن إيجاب النظر عَلَى أيّ أحد قول بلا دليلٌ، فتنبّه.
قال: وأما منْ غلا، فقالى: لا يكفي إيمان المقلد، فلا يلتفت إليه، لما يلزم منه منْ القول بعدم إيمان أكثر المسلمين، وكذا منْ غلا أيضًا، فقال: لا يجوز النظر فِي الأدلة؛ لما يلزم منه منْ أن أكابر السلف لم يكونوا منْ أهل النظر. انتهى ملخصا. انتهى "فتح" 14/ 296 - 303.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "لما يلزم منه منْ أن أكابر السلف الخ": هَذَا هو الواقع، فلم يُنقل منْ الصحابة، فمن بعدهم أنهم استعملو شيئا منْ أدلة المتكلّمين، فمن ادّعى ذلك فقد افترى عليهم، بل السلف الذين حدث فِي عصرهم علم الكلام، كالشافعيّ، وأحمد، وغيرهما قد أنكروه، وحرّموه، ونفّروا النَّاس عنه، فأين السلف الذين تعلّموا علم الكلام، فكانوا منْ أهل النظر، حاشا وكلّا، ثم حاشا وكلّا.
والحاصل أن الحقّ الذي لا محيد عنه، ولا يجوز لأحد أن يخالفه أن الإيمان هو معرفة الله تعالى، ومعرفة رسوله صلى الله عليه وسلم عن طريق النقل، لا عن طريق علم الكلام، فمن أبى هَذَا فهو ضالٌ مضلّ، اللَّهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].
هَذَا ما أردت نقله منْ كلام المحققين، وإنما أطلت فِي النقول؛ لما رأيت منْ انهماك كثير ممن ينتسب إلى العلم بتصويب آراء الخلف المخالفة لهدي رسولى الله صلى الله عليه وسلم الذي أتى ليهدي النَّاس إلى ربهم بأقوم طريق، وأحسنه، وأبينه، وأسهله، وأيسره، وما ذاك إلا لبعدهم عما كَانَ عليه السلف منْ التحذير عن بدع المتكلمين، وحثّهم النَّاس بالتمسّك بهدي الكتاب والسنة الذين بهما الكفاية فِي هداية الخلق أجمعين، رزقنا الله تعالى التمسّك بهما، والاكتفاء بهديهما، إنه سميع قريب مجيب الدعوات، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
***
6 - (صِفَةِ الإِيمَانِ وَالإِسْلَامِ)
4993 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي ذَرٍّ، قَالَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَجْلِسُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَصْحَابِهِ، فَيَجِيءُ الْغَرِيبُ، فَلَا يَدْرِي أَيُّهُمْ هُوَ، حَتَّى يَسْأَلَ، فَطَلَبْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ نَجْعَلَ لَهُ مَجْلِسًا، يَعْرِفُهُ الْغَرِيبُ إِذَا أَتَاهُ، فَبَنَيْنَا لَهُ دُكَّانًا مِنْ طِينٍ، كَانَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ، وَإِنَّا لَجُلُوسٌ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَجْلِسِهِ، إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ، أَحْسَنُ النَّاسِ وَجْهًا، وَأَطْيَبُ النَّاسِ رِيحًا، كَأَنَّ ثِيَابَهُ لَمْ يَمَسَّهَا دَنَسٌ، حَتَّى سَلَّمَ فِي طَرَفِ الْبِسَاطِ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، فَرَدَّ عليه السلام، قَالَ: أَدْنُو يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: "ادْنُهْ" فَمَا زَالَ يَقُولُ: أَدْنُو مِرَارًا، وَيَقُولُ لَهُ: "ادْنُ"، حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رُكْبَتَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي مَا الإِسْلَامُ؟ قَالَ: "الإِسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ، وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ"، قَالَ: إِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ، فَقَدْ أَسْلَمْتُ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: صَدَقْتَ، فَلَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَ الرَّجُلِ صَدَقْتَ، أَنْكَرْنَاهُ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي مَا الإِيمَانُ؟ قَالَ: "الإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَالْكِتَابِ، وَالنَّبِيِّينَ، وَتُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ"، قَالَ: فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ، فَقَدْ آمَنْتُ؟، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ"، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي مَا الإِحْسَانُ؟، قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: فَنَكَسَ، فَلَمْ يُجِبْهُ شَيْئًا، ثُمَّ أَعَادَ، فَلَمْ يُجِبْهُ شَيْئًا، ثُمَّ أَعَادَ، فَلَمْ يُجِبْهُ شَيْئًا، وَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: "مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَلَكِنْ لَهَا عَلَامَاتٌ تُعْرَفُ بِهَا، إِذَا رَأَيْتَ الرِّعَاءَ الْبُهُمَ، يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ، وَرَأَيْتَ الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ، مُلُوكَ الأَرْضِ، وَرَأَيْتَ الْمَرْأَةَ تَلِدُ رَبَّهَا، خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلاَّ اللَّهُ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]، ثُمَّ قَالَ: "لَا وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ، هُدًى وَبَشِيرًا، مَا كُنْتُ بِأَعْلَمَ بِهِ مِنْ رَجُلٍ مِنْكُمْ، وَإِنَّهُ لَجِبْرِيلُ عليه السلام، نَزَلَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن قُدَامة) الهاشميّ مولاهم، المِصِّيصيّ، ثقة [10] 19/ 528.
2 -
(و"جرير) بن عبد الحميد المذكور قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(أبو فروة
(1)
) عروة بن الحارث الْهَمدانيّ الكوفيّ، ثقة [5] 100/ 2033.
(1)
هو أبو فروة الأكبر، أما الأصغر: فهو أبو فروة الجهنيّ، ويقاله: النهديّ الكوفيّ مسلم بن سالم، صدوقٌ منْ السادسة، وله فِي هَذَا الكتاب حديث واحد، حديث رقم (5301) "لا تشربوا فِي =
4 -
(أبو زرعة) بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجليّ الكوفيّ، قيل: اسمه هَرِم، وقيل: عمرو، وقيل: عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: جرير، ثقة [3] 43/ 50.
5 -
(أبو هريرة) الصحابيّ الشهير، نقيب أهل الصُّفَّة رضي الله تعالى عنه 1/ 1.
6 -
(أبو ذرّ) الغفاريّ الصحابيّ المشهور، اسمه جندب بن جُنادة عَلَى الأصحّ، وقيل: غيره، تقدّم إسلامه، وتأخّرت هجرته، فلم يشهد بدرًا، مات رضي الله عنه سنة (32) فِي خلافة عثمان رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به هو وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين، غير شيخه، فمصيصي. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، عن صحابيين. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ، وَأَبِي ذَرٍّ) رضي الله تعالى عنهما، أنهما (قَالَا: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، يَجْلِسُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَصْحَابِهِ) أي بينهم، قَالَ الفيّوميّ: هو نازل بين ظهرانيهم -بفتح النون- قَالَ ابن فارس: ولا تُكسر. وَقَالَ جماعة: الألف، والنون زائدتان؛ للتأكيد، وبين ظَهْريهم، وبين أَظْهُرهم، كلُّها بمعنى: بينهم، وفائدة إدخاله فِي الكلام أن إقامته بينهم عَلَى سبيل الاستظهار بهم، والاستناد إليهم، وكأن المعنى: أن ظهرًا منهم قُدّامه، وظهرًا منهم وراءه، فكأنه مكنوف منْ جانبيه، هَذَا أصله، ثم كثُر، حَتَّى استُعمل فِي الإقامة بين القوم، وإن كَانَ غير مكنوف بينهم. انتهى.
(فَيَجِيءُ الْغَرِيبُ) أي الشخص الذي ليس مقيمًا بالمدينة (فَلَا يَدْرِي أَيُّهمْ هُوَ، حَتَّى يَسْأَلَ، فَطَلَبْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ نَجْعَلَ لَهُ مَجْلِسًا) بفتح الميم، وكسر اللام-: أي موضعًا يجلس فيه (يَعْرِفُهُ الْغَرِيبُ إِذَا أَتَاهُ) الجملة فِي محلّ نصب صفة لـ"مجلسًا" بتقدير رابط: أي به، و"إذا" ظرت متعلّق بـ"يعرفه": أي وقت إتيانه إياه (فَبَنَيْنَا لَهُ دُكَّانًا مِنْ طِينٍ) بضمّ الدال، وتشديد الكاف-: قيل: معرّبٌ، وُيطلق عَلَى الحانوت، وعلى الدَّكّة التي يُقعَدُ عليها، وهذا المعنى هو المراد هنا. والدَّكّة بفتح الدال، وتشديد الكاف: هي
= غناء الذهب والفضّة
…
" الْحَدِيث، وأما أبو فروة عروة بن الحارث المذكور فِي هَذَا السند، فله فِي هَذَا الكتاب حديثان، هَذَا، والحديث المتقدّم برقم (2033) "إني كنت نهتيتكم أن تأكلوا لحوم الأضاحي
…
" الْحَدِيث.
المكان المرتفع، يُجلس عليه، وهو المِسْطَبّة، معرّبٌ، والجمع دِكَكٌ، مثل قصْعة وقِصَعٌ. أفاده فِي "المصباح". وفيه جواز اختصاص العالم بموضع مرتفع منْ المسجد، إذا دعت الحاجة إليه، كما تقدّم إيضاحه فِي المسألة الثالثة منْ مسائل حديث الباب الماضي (كَانَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ، وَإِنَّا لَجُلُوسٌ) جمع جالس، كالقُعُود، أو هو منْ إطلاق المصدر موضع الجمع (وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَجْلِسِهِ، إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ)"إذ" هي الفجائيّة، وفي بعض النسخ "إذا" بدل "إذ"، وهي أيضًا تأتي للمفاجأة (أَحْسَنُ النَّاسِ وَجْهًا، وَأَطْيَبُ النَّاسِ رِيحًا، كَأَنَّ ثِيَابَهُ لَمْ يَمَسَّهَا) بفتح الميم، وضمها، منْ باب تَعِبَ، ونصر (دَنَسٌ) بفتحتين: أي وسخٌ (حَتَّى سَلَّمَ فِي طَرَفِ الْبِسَاطِ) بالكسر، كالفراش وزنًا ومعنى، جمع بُسُطٌ، وهو فعالٌ بمعنى مفعولٌ، ككتاب بمعنى مكتوب، وهذا يدلّ عَلَى أنهم فرشوا له صلى الله عليه وسلم بساطًا يجلس عليه. وفي شرح السنديّ:"منْ طرف السماط" بالميم بدل الموحّدة، وَقَالَ: السماط بكسر السين: الصفّ منْ النَّاس. انتهى. ولم أر هذه النسخة فيما عندي منْ النسخ، والله تعالى أعلم. (فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ) إنما ناداه باسمه زيادة فِي التعمية، كما تقدّم (فَرَدَّ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (عَلَيْهِ) أي عَلَى الرجل السَّلَامُ، (قَالَ) الرجل (أَدْنُو يَا مُحَمَّدُ؟) بفتح الهمزة، وهي همزة المتكلّم، أي أأدنو "ففيه حذف همزة الاستفهام، وهو مضارع دنا، منْ الدنوّ، وهو القرب (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (ادْنُهْ) فعل أمر منْ الدنّوّ، والهاء للسكت.
(فَمَا زَالَ يَقُولُ) الرجل (أَدْنُو مِرَارًا، وَيَقُولُ) صلى الله عليه وسلم (لَهُ: "ادْنُ"، حَتى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رُكْبَتَيْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: وإنما فعل جبريل عليه السلام ذلك -والله أعلم- تنبيهًا عَلَى ما ينبغي للسائل، منْ قوّة النفس عند السؤال، وعدم المبالاة بما يقطع عليه خاطره، وإن كَانَ المسؤول ممن يُحترم، ويُهاب، وعلى ما ينبغي للمسؤول منْ التواضع، والصفح عن السائل، وإن تعدّى عَلَى ما ينبغي منْ الاحترام والأدب انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الأقرب عندي فِي الوجه الأول، وهو قوله:"تنبيها عَلَى ما ينبغي للسائل الخ" أنه إنما فعل ذلك تعميةً لحاله عَلَى الحاضرين. والله تعالى أعلم.
(قَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي مَا الإِسْلَامُ؟) قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: ما معناه: إن سؤال جبريل عليه السلام عن الإسلام والإيمان بلفظ "ما" يدلّ عَلَى أنه إنما سأل عن حقيقتهما عنده، لا عن شرح لفظهما فِي اللغة، ولا عن حكمهما؛ لأن "ما" فِي أصلها إنما يُسأل بها عن الحقائق، والماهيّات، ولذلك أجابه النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: "أن تؤمن بالله، وبكذا، وكذا، فلو كَانَ سائلا عن شرح لفظهما فِي اللغة لما كَانَ هَذَا جوابًا له؛ لأنه
المذكور فِي الجواب، هو المذكور فِي السؤال. انتهى "المفهم" 1/ 144. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (الْإسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ) أي توحده بلسانك عَلَى وجه يُعتدّ به، فشمل الشهادتين، فيوافق هَذَا الْحَدِيث حديث عمر رضي الله عنه المذكور فِي الباب الماضي وكذا حديث بُني الإسلام عَلَى خمس الآتي، وجملة قول: (وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا) للتأكيد (وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ) زاد فِي رواية مسلم: "المكتوبة" (وَتُؤْتيَ الزَّكَاةَ) زاد فِي رواية البخاريّ: "المفروضة" (وَتَحُجَّ الْبَيْتَ) ولم يذكر فِي رواية البخاريّ الحجّ (وَتَصُومَ رَمَضَانَ"، قَالَ) الرجل (إِذَا فَعَلتُ) بضم التاء (ذَلِكَ) أي ما ذكر منْ الأركان الخمسة (فَقَدْ أَسْلَمْتُ؟) بتقدير همزة الاستفهام (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (نَعَمْ"، قَالَ) الرجل (صَدَقْتَ، فَلَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَ الرَّجُلِ صَدَقْتَ، أَنْكَرْنَاهُ) أي استنكرنا، واستبعدنا كلامه، وقلنا: إنه سائل، ومُصدّقٌ، وبين الوصفين تناف (قَالَ) الرجل (يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْني مَا الْإيمَانُ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (الإِيمَانُ باللهِ) خبر لمحذوف: أي هو الإيمان بالله تعالى (وَمَلَائِكَتِهِ، وَالْكِتَابِ) "أل" فيه للجنس، أي جنس الكتاب الذي أنزله الله تعالى عَلَى رسله (وَالنَّبِيِّينَ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ) بنصب "تؤمن" عطفًا عَلَى "الإيمان بالله"، فهو منْ عطف الفعل علَى الاسم الصرَيح، فيُنصب بـ"ن" مقدّرة،، كما فِي قول الشاعر:
وَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي
…
أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ
وإلى هَذَا فِي "الخلاصة"، حيث قَالَ:
وَإنْ عَلَى اسْم خَالِصٍ فِعْلٌ عُطِفْ
…
تَنْصِبُهُ "أَنْ" ثَابِتًا أَوْ مُنْحَذِف
(قَالَ) الرجل (فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ، فَقَدْ آمَنْتُ؟، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ"، قَالَ) الرجل (صَدَقْتَ، قَالَ) الرجل (يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي مَا الإِحْسَانُ؟، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، قَالَ) الرجل (صَدَقْتَ، قَالَ) الرجل (يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي مَتَى السَّاعَةُ؟) أي متى يقوم يوم القيامة (قَالَ) الراوي فَنَكَس) منْ باب نصر: أي طأطا رَأسه (فَلَم يُجِبْهُ) صلى الله عليه وسلم (شَيْئًا، ثُمَّ أَعَادَ) أي الرجل السؤال عن الساعة (فَلَمْ يُجِبْهُ) صلى الله عليه وسلم (شَيْئًا، ثُمَّ أَعَادَ) الرجل السؤال مرّة ثالثة (فَلَمْ يُجِبْهُ) صلى الله عليه وسلم (شَيْئًا، وَرَفَعَ) صلى الله عليه وسلم (رَأْسَهُ، فَقَالَ: "مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ) الباء زائدة لتأكيد النفي (مِنَ السَّائِلِ) يعني أن النَّاس كلهم فِي وقت الساعة سواء، فكلهم غير عالمين به عَلَى الحقيقة، ولهذا قَالَ:"فِي خمس لا يعلمهنّ إلا الله". وَقَالَ فِي "الفتح": وهذا وإن كَانَ مُشعرًا بالتساوي فِي العلم، لكن المراد التساوي فِي العلم بأن الله تعالى استأثر بها؛ لقوله بعد:"خمس لا يعلهما إلا الله الخ"، وسيأتي نظير هَذَا التركيب فِي أواخر الكلام عَلَى هَذَا الْحَدِيث فِي قوله:"ما كنت بأعلم به منْ رجل منكم"، فإن المراد أيضًا التساوي فِي عدم العلم به. وفي حديث ابن عبّاس هنا، فَقَالَ:"سبحان الله، خمس منْ الغيب، لا يعلمهنّ إلا الله، ثم تلا الآية". انتهى.
(وَلَكِنْ لَهَا عَلَامَاتٌ تُعْرَفُ بِهَا) ببناء الفعل للمفعول (إِذَا رَأَيْتَ) هذه الجملة تفسير للعلامات (الرِّعَاءَ الْبُهُمَ) بضمتين: نعت للرعاء: أي السود، وقيل: جمع بَهِيم، بمعنى المجهول: أي الذين لا يُعرفون، ومنه أُبهم الأمر: إذا لم تُعرف حقيقته. وقيل: الفقراء الذي لا شيء لهم، وعلى هَذَا فهم رعاء لإبل غيرهم، لا لإبلهم، إذ المفروض أنه لا شيء لهم، وَقَدْ يقال: منْ يملك قدر القوت عَلَى وجه الضيق لا يسمّى غنيًّا، ولا يوصف بأن عنده شيئًا، فلا إشكال. أفاده السنديّ.
وفي رواية لمسلم: "رعاء الْبَهْمِ" بالإضافة: قَالَ النوويّ: هو بفتح الباء، وإسكان الهاء، وهي الصغار منْ ألاد الغنم: الضأن، والمعز جميعًا، وقيل: أولاد الضأن خاصّةً، واقتصر عليه الجوهريّ فِي "صحاحه"، والواحدة بَهْمَة، قَالَ الجوهريّ: وهي تقع عَلَى المذكّر والمؤنّث، والسِّخال أولاد المعزى، قَالَ: فإذا جمعت بينهما قلت: بهام، وبهَم أيضًا. وقيل: إن البهم يختصّ بأولاد المعز، وإليه أشار القاضي عياض بقوله: وَقَدْ يختصّ بالمعز، وأصله كلّ ما استبهم عن الكلام، ومنه البهيمة. انتهى. "شرح مسلم" 1/ 163 - 164.
وَقَالَ القرطبيّ: ورواية مسلم فِي رعاء البَهْم منْ غير ذكر الإبل أولى؛ لأنها الأنسب لمساق الْحَدِيث، ولمقصوده، فإن مقصوده أن أضعف أهل البادية، وهم رعاء الشاء سينقلب بهم الحال إلى أن يصيروا ملوكًا، مع ضعفهم، وبُعدهم عن أسباب ذلك، وأما أصحاب الإبل فهم أهل الفخر والخيلاء؛ فإن الإبل عزّ لأهلها، ولأن أهل الإبل ليسوا عالةً، ولا فقراء غالبًا. انتهى "المفهم" 1/ 150 - 151. وَقَدْ تقدّم البحث فِي هَذَا فِي الباب الماضي بأتمّ مما هنا، فراجعه تستفد.
(يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ) أي يتفاخرون فِي تشييد البنيان (وَرَأَيْتَ الحُفَاةَ الْعُرَاةَ، مُلُوكَ الْأَرْضِ) أي رؤساء النَّاس (وَرَأَيتَ الْمَرأَةَ تَلِدُ رَبَّهَا) تقدّم الخلاف فِي المراد بالربّ هنا. قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: قد اقتصر فِي هَذَا الْحَدِيث عَلَى ذكر بعض الأشراط التي يكون وقوعها قريبًا منْ زمانه، وإلا فالشروط كثيرة، وهي أكثر مما ذُكر هنا، كما دلّ عليه الكتاب، والسنّة، ثم إنها منقسمة إلى ما يكون منْ نوع المعتاد، كهذه الأشراط المذكورة فِي هَذَا الْحَدِيث، وكرفع العلم، وظهور الجهل، وكثرة الزنا، وشرب الخمر، إلى غير ذلك، وأما التي ليست منْ النوع المعتاد، فكخروج الدجّال، ونزول عيسى ابن مريم عليهما السلام، وخروج يأجوج ومأجوج، ودابة الأرض، وطلوع الشمس منْ مغربها، والدخان، والنار التي تسوق النَّاس، وتحشرهم. انتهى "المفهم" 1/ 155.
(خَمْسٌ) هكذا رواية المصنّف، وعلى هَذَا فهو مبتدأ خبره جملة "لا يعلمها": أي خمس منْ الخصال لا يعلمها إلا الله، ولفظ "الصحيحين":"فِي خمس" بزيادة "فِي"، قَالَ فِي "الفتح": قوله: "فِي خمس": أي علم وقت الساعة داخل فِي جملة خمس، وحَذْفُ متعلق الجار سائغ، كما فِي قوله تعالى:{فِي تِسْعِ آيَاتٍ} [النمل: 12]: أي اذهب إلى فرعون بهذه الآية، فِي جملة تسع آيات. وفي رواية عطاء الخراساني:"قَالَ: فمتى الساعة؟ قَالَ: هي فِي خمس منْ الغيب، لا يعلمها إلا الله". انتهى.
وَقَالَ القرطبيّ: قوله: "فِي خمس الخ": فيه حذف، وتوسّعٌ: أي هي منْ الخمس التي قد انفرد الله بعلمها، أو فِي عددهنّ، فلا مطمع لأحد فِي علم شيء منْ هذه الأمور الخمس، ولقوله تعالى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] فلا طريق لعلم شيء منْ ذلك، إلا أن يُعْلِم الله تعالى بذلك، أو بشيء منه أحدًا ممن شاءه، كما قَالَ تعالى:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26 - 27]، فمن ادّعى علم شيء منْ هذه الأمور كَانَ فِي دعواه كاذبًا، إلا أن يُسند ذلك إلى رسول بطريق تفيد العلم القطعيّ، ووجود ذلك متعذّر، بل ممتنعٌ، وأما ظنّ الغيب، فلم يتعرّض شيء منْ الشرع لنفيه، ولا لإثباته، فقد يجوز أن يظنّ المنجّم، أو صاحب خطّ الرمل، أو نحو هَذَا شيئًا مما يقع فِي المستقبل، فيقع عَلَى ما ظنّه، فيكون ذلك ظنًا صادقًا، إذا كَانَ عن موجب عاديّ، يقتضي ذلك الظنّ، وليس بعلم، فيُفهم هَذَا منه، فإنه موضع غَلِطَ بسببه رجالٌ، وأُكلت به أموالٌ.
[ثم اعلم]: أن أخذ الأجرة، والْجُعْل، وإعطائها عَلَى ادّعاء علم الغيب، أو ظنّه لا يجوز بالإجماع، عَلَى ما حكاه أبو عمر ابن عبد البرّ. انتهى "المفهم" 1/ 155 - 156.
وَقَالَ فِي "الفتح": وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه قَالَ: أُوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم علم كل شيء، سوى هذه الخمس. وعن ابن عمر مرفوعًا نحوه، أخرجهما أحمد. وأخرج حميد بن زنجويه، عن بعض الصحابة، أنه ذُكر العلم بوقت الكسوف قبل ظهوره، فأنكر عليه، فَقَالَ: إنما الغيب خمس، وتلا هذه الآية، وما عدا ذلك غيب، يعلمه قوم، ويجهله قوم.
[تنبيه]: تضمن الجواب زيادة عَلَى السؤال؛ للاهتمام بذلك، إرشادًا للأمة؛ لما يترتب عَلَى معرفة ذلك منْ المصلحة.
[فإن قيل]: ليس فِي الآية أداة حصر، كما فِي الْحَدِيث؟. أجاب الطيبي بأن الفعل، إذا كَانَ عظيم الخطر، وما ينبنى عليه الفعل رفيع الشأن، فُهم منه الحصر، عَلَى سبيل الكناية، ولاسيما إذا لُوحظ ما ذُكر فِي أسباب النزول، منْ أن العرب كانوا يَدَّعُون علم
نزول الغيث، فيُشعر بأن المراد منْ الآية نفى علمهم بذلك، واختصاصه بالله سبحانه وتعالى.
[فائدة]: النكتة فِي العدول عن الإثبات إلى النفي فِي قوله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34]، وكذا التعبير بالدراية، دون العلم؛ للمبالغة والتعميم، إذ الدراية اكتساب علم الشيء بحيلة، فإذا انتفى ذلك عن كل نفس، مع كونه منْ مختصاتها، ولم تقع منه عَلَى علم، كَانَ عدم اطلاعها عَلَى علم غير ذلك منْ بابٍ أولى. انتهى ملخصا منْ كلام الطيبي.
(لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ) سبحانه وتعالى، ثم تلا الآية، وهي قوله عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} يعني أنه قرأ إلى آخر السور. وأما ما وقع عند البخاريّ فِي "التفسير" منْ قوله: {إلي الأرحام} ، فهو تقصير منْ بعض الرواة، والسياق يرشد إلى أنه تلا الآية كلها. قاله فِي "الفتح" 1/ 169.
(ثُمَّ قالَ) صلى الله عليه وسلم للناس الحاضرين عنده بعد أن خرج الرجل، وأمر بأن يردّوه عليه، فلم يجدوه (لَا) نافية، أُكد بـ"ما" النافية الآتية (وَالَّذِى بَعَثَ مُحَمَّدًا بالْحَقِّ) وهو الله سبحانه وتعالى (هُدًى) بضم، ففتح- أي هاديًا، ففيه وصفه بالمصدر؛ مبالغةً (وَبَشِيرًا) أي مبشّرًا منْ اتبعه بالجنّة (مَا) زائدة زيدت تأكيدا لـ"لا" السابقة (كُنْتُ بأَعْلَمَ بِهِ مِنْ رَجُلٍ مِنْكُمْ، وَإِنَّهُ لَجِبْرِيلُ عليه السلام وأما قوله: (نَزَلَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ) فقد تقدّم أنها زيادة شاذّة؛ مخالفة لسياق الْحَدِيث، فقد تقدّم فِي حديث عمر رضي الله عنه:"لا يعرفه منّا أحد"، فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي هريرة، وأبي ذرّ رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -6/ 4993 - . وأخرجه (خ) فِي "الإيمان" 50 و"التفسير" 4777 (م) فِي "الإيمان" 9 و10 (د) فِي "السنّة" 4698 (ق) فِي "المقدّمة" 64 و"الفتن" 4044 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين"9217. وأما فوائد الْحَدِيث، وسائر المسائل المتعلّقة به، فقد تقدّمت فِي الباب الماضي، فراجعها تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
***
7 - (تَأْوِيلُ قَوْلِهِ عز وجل: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14])
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: غرض المصنّف رحمه الله تعالى بهذا الباب الإشارة إلى أن الإسلام يُطلق، ويراد به الأعمال الظاهرة، وهو معنى الإسلام فِي هذه الآية الكريمة، كما أنه يُطلق، ويراد ما يعمّ الاعتقاد الباطنيّ، وهو معنى الإسلام فِي آية:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} الآية [المائدة: 3]، وآية:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} الآية [آل عمران: 19].
وهذا هو معنى ما ترجم له الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" حيث قَالَ: "باب إذا لم يكن الإسلام عَلَى الحقيقة، وكان عَلَى الاستسلام، أو الخوف منْ القتل؛ لقوله تعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14]، فإذا كَانَ عَلَى الحقيقة، فهو عَلَى قوله جلّ ذكرُهُ:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19].
قَالَ فِي "الفتح ": قوله: "باب إذا لم يكن الإسلام عَلَى الحقيقه"، حذف جواب قوله:"إذا"؛ للعلم به، كأنه يقول: إذا كَانَ الإسلام كذلك لم يُنتَفع به فِي الآخرة، ومُحَصَّل ما ذكره، واستدل به: أن الإسلام يُطلق ويراد به الحقيقة الشرعية، وهو الذي يرادف الإيمان، وينفع عند الله، وعليه قوله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} ، وقوله تعالى:{فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 36]، ويطلق ويراد به الحقيقة اللغوية، وهو مجرد الانقياد والاستسلام، فالحقيقه فِي كلام المصنّف هنا هي الشرعية، ومناسبة الْحَدِيث للترجمة ظاهرة، منْ حيث إن المسلم يُطلق عَلَى منْ أظهر الإسلام، وإن لم يُعلم باطنه، فلا يكون مؤمنا؛ لأنه ممن لم تصدق عليه الحقيقة الشرعية، وأما اللغويه فحاصلة. انتهى.
وَقَالَ الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى فِي "شرح البخاريّ" بعد ذكر ترجمة البخاريّ المذكورة: ما حاصله: معنى هَذَا الكلام أن الإسلام يُطلق باعتبارين: [أحدهما]: باعتبار الإسلام الحقيقيّ، وهو دين الإسلام الذي قَالَ الله تعالى فيه:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} ، وَقَالَ:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} . [والثاني]: باعتبار الاستسلام ظاهرًا، مع عدم إسلام الباطن، إذا وقع خوفًا كإسلام المنافقين، واستَدلّ
بقوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} ، وحمله عَلَى الاستسلام خوفًا، وتَقِيَّةً. وهذا مروي عن طائفة منْ السلف، منهم مجاهدٌ، وابن زيد، ومقاتل بن حيّان، وغيرهم. وكذلك رجحه محمد بن نصر المروزيّ، كما رجحه البخاريّ؛ لأنهما لا يفرّقان بين الإسلام والإيمان، فإذا انتفى أحدهما انتفى الآخر، وهو اختيار ابن عبد البرّ، وحكاه عن أكثر أهل السنة، منْ أصحاب مالك، والشافعيّ، وداود.
وأما منْ يفرّق بين الإسلام والإيمان، فإنه يستدلّ بهذه الآية عَلَى الفرق بينهما، ويقول: نفي الإيمان عنهم، لا يلزم منه نفي الإسلام، كما نفَى الإيمان عن الزاني، والسارق، والشارب، وإن كَانَ الإسلام عنهم غير منفيّ. وَقَدْ ورد هَذَا فِي الآية عن ابن عباس، وقتادة، والنخعيّ، ورُوي عن ابن زيد معناه أيضًا، وهو قول الزهريّ، وحمّاد ابن زيد، وأحمد، ورجحه ابن جرير، وغيره. واستدلّوا به عَلَى التفريق بين الإسلام والإيمان، وكذا قَالَ قتادة فِي هذه الآية، قَالَ:{قُولُوا أَسْلَمْنَا} : شهادة أن لا إله إلا الله، وهو دين الله، والإسلام درجة، والإيمان تحقيقٌ فِي القلب، والهجرة فِي الإيمان درجة، والجهاد فِي الهجرة درجة، والقتل فِي سبيل الله درجة. خرجه ابن أبي حاتم. فجعل قتادة الإسلام الكلمة، وهي أصل الدين، والإيمان ما قام بالقلب منْ تحقيق التصديق بالغيب، فهؤلاء القوم لم يحقّقوا الإيمان فِي قلوبهم، وإنما دخل فِي قلوبهم تصديق ضعيفٌ بحيث صحّ به إسلامهم، ويدلّ عليه قوله تعالى:{وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات: 14].
واختَلف منْ فرق بين الإسلام والإيمان فِي حقيقة الفرق بينهما، فقالت طائفة: الإسلام كلمة الشهادتين، والإيمان العمل، وهذا مرويّ عن الزهريّ، وابن أبي ذئب، وهو رواية عن أحمد، وهي المذهب عند القاضي أبي يعلى، وغيره منْ أصحابه، ويشبه هَذَا قول ابن زيد فِي تفسيره هذه الآية، قَالَ: لم يصدّقوا إيمانهم بأعمالهم، فردّ الله تعالى عليهم، وَقَالَ:{لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} ، فَقَالَ: الإسلام إقرارٌ، والإيمان تصديق، وهو قول أبي خيثمة وغيره منْ أهل الْحَدِيث، وَقَدْ ضعّف ابن حامد منْ الحنابلة هَذَا القول عن أحمد، وَقَالَ: الصحيح أن مذهبه أن الإسلام قولٌ، وعملٌ، روايةً واحدةً، ولكن لا يُدخل كلّ الأعمال فِي الإسلام، كما يُدخل فِي الإيمان، وذكر أن المنصوص عن أحمد أنه لا يكفر تارك الصلاة، فالصلاة منْ خصال الإيمان، دون الإسلام، وكذلك اجتناب الكبائر منْ شرائط الإيمان، دون الإسلام، كذا قَالَ، وأكثر أصحاب أحمد أن ظاهر مذهب أحمد تكفير تارك الصلاة، فلو لم تكن الصلاة منْ
الإسلام لم يكن تاركها عنده كافرًا. والنصوص الدّالّة عَلَى أن الأعمال داخلة فِي الإسلام كثيرة.
وَقَدْ ذهبت طائفة إلى أن الإسلام عامّ، والإيمان خاصّ، فمن ارتكب الكبائر، خرج منْ دائرة الإيمان الخاصّة إلى دائرة الإسلام العامّة، هَذَا مرويّ عن أبي جعفر محمد بن عليّ، وضعّفه ابن نصر المروزيّ، منْ جهة راويه عنه، وهو فُضيل بن يسار، وطعن فيه، وروي عن حماد بن زيد نحو هَذَا أيضًا. وحُكي رواية عن أحمد أيضًا، فإنه قَالَ فِي رواية الشالنجي فِي مرتكب الكبائر: يخرج منْ الإيمان، ويقع فِي الإسلام، ونَقَل حنبلٌ عن أحمد معناه. وَقَدْ تأوّل هذه الرواية القاضي أبو يعلى، وأقرّها غيره، وهي اختيار أبي عبد الله بن بَطّة، وابن حامد، وغيرهما منْ الأصحاب.
وقالت طائفة: الفرق بين الإسلام والإيمان أن الإيمان هو التصديق، تصديق القلب، فهو علم القلب، وعمله، والإسلام الخضوع، والاستسلام، والانقياد، فهو عمل القلب والجوارح.
وهذا قول كثير منْ العلماء، وَقَدْ حكاه أبو الفضل التميميّ عن أصحاب أحمد، وهو قول طائفة منْ المتكلّمين، لكن المتكلّمون عندهم أن الأعمال لا تدخل فِي الإيمان، وتدخل فِي الإسلام. وأما أصحاب أحمد، وغيرهم منْ أهل الْحَدِيث، فعندهم أن الأعمال تدخل فِي الإيمان، مع اختلافهم فِي دخولها فِي الإسلام، كما سبق، فلهذا قَالَ كثير منْ العلماء: إن الإسلام والإيمان تختلف دلالتهما بالإفراد والاقتران، فإن أُفرد أحدهما دخل فيه الآخر، وإن قرن بينهما كانا شيئين حينئذ، وبهذا يُجمع بين حديث سؤال جبريل عليه السلام عن الإسلام والإيمان، ففرق النبيّ صلى الله عليه وسلم بينهما، وبين حديث وفد عبد القيس، حيث فسّر النبيّ صلى الله عليه وسلم الإيمان المنفرد بما فسّر به الإيمان
(1)
المقرون فِي حديث جبريل عليه السلام.
وَقَدْ حكى هَذَا القول أبو بكر الإسماعيلي عن كثير منْ أهل السنّة والجماعة، ورُوي عن أبي بكر بن أبي شيبة ما يدلّ عليه، وهو أقرب الأقوال فِي هَذَا المسألة، وأشبهها بالنصوص، والله أعلم.
والقول بالفرق بين الإسلام والإيمان مرويّ عن الحسن، وابن سيرين، وشَريك، وعبد الرحمن بن مهديّ، ويحيى بن معين، ومؤمل بن إهاب، وحُكي عن مالك أيضًا، وَقَدْ سبق حكايته عن قتادة، وداود بن أبي هند، والزهريّ، وابن أبي ذئب، وحماد بن
(1)
هكذا فِي الأصل بلفظ "الإيمان"، والظاهر أنه غلطٌ، والصواب:"بما فسّر به الإسلام". والله تعالى أعلم.
زيد، وأحمد، وأبي خيثمة، وكذلك حكاه أبو بكر بن السمعانيّ عن أهل السنة والجماعة جملةً.
فحكاية ابن نصر، وابن عبد البرّ عن الأكثرين التسوية بينهما غير جيّدة، بل قيل: إن السلف لم يُروَ عنهم غير التفريق. والله أعلم. انتهى كلام الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى فِي "شرح صحيح البخاريّ" 1/ 125 - 130.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدّم هَذَا البحث بأتمّ مما هنا فِي المسائل المذكورة أول "كتاب الإيمان"، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: سبب نزل هذه الآية هو ما ذكره الواحديّ ص 412 - أن هذه الآية نزلت فِي أعراب منْ بني أسد بن خزيمة قدموا عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فِي سنة جدبة، فأظهروا الشهادتين، ولم يكونوا مؤمنين فِي السرّ، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات، وأغلوا أسعارها، وكانو ايقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتيناك بالأثقال، والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، فأعطنا منْ الصدقة، وجعلوا يمنّون عليه، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.
4994 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ -وَهُوَ ابْنُ ثَوْرٍ- قَالَ مَعْمَرٌ: وَأَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَعْطَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رِجَالاً، وَلَمْ يُعْطِ رَجُلاً مِنْهُمْ شَيْئًا، قَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا، وَلَمْ تُعْطِ فُلَانًا شَيْئًا، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَوْ مُسْلِمٌ"، حَتَّى أَعَادَهَا سَعْدٌ ثَلَاثًا، وَالنَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "أَوْ مُسْلِمٌ"، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لأُعْطِي رِجَالاً، وَأَدَعُ مَنْ هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُمْ، لَا أُعْطِيهِ شَيْئًا؛ مَخَافَةَ أَنْ يُكَبُّوا فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن عبد الأعلى) الصنعانيّ، ثم البصريّ، ثقة [10] 5/ 5.
2 -
(محمد بن ثور) الصنعانيّ، أبو عبد الله، ثقة عابد [9] 102/ 2035.
3 -
(معمر) بن راشد الصنعانيّ الثقة الثبت [7] 10/ 10.
4 -
(الزهريّ) محمد بن مسليم الإمام الحافظ الحجة الفقيه [4] 1/ 1.
5 -
(عامر بن سعد بن أبي وقّاص) الزهريّ المدنيّ، ثقة [3] 38/ 6791.
6 -
(أبوه) سعد بن أبي وقاص مالك بن وُهَيْب الزهريّ، أبو إسحاق الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (55) عَلَى الأصحّ 96/ 121. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير محمد بن ثور، فقد تفرّد به المصنّف، وأبو داود. (ومنها): أن نصفه الأول صنعانيون، والثاني مدنيون. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه. (ومنها): أن صحابيّه أحد العشرة المبشّرين بالجنة رضي الله تعالى عنهم، وهو آخرهم موتًا، وهو أول منْ رمى بسهم فِي سبيل الله عز وجل. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) رحمه الله تعالى (عَنْ أَبِيهِ) سعد رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: أَعْطَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رِجَالاً) ولفظ البخاريّ: "أعطىَ رهطًا، وسعد جالسٌ": والرهط عدد منْ الرجال، منْ ثلاثة إلى عشرة، قَالَ الْقَزّاز: وربما جاوزوا ذلك قليلا، ولا واحد له منْ لفظه، ورهط الرجل بنو أبيه الأدنى، وقيل: قبيلته، وللإسماعيلي منْ طريق ابن أبي ذئب:"أنه جاءه رهط، فسألوه، فأعطاهم، فترك رجلا منهم". وقوله: "وسعد جالس": فيه تجريد. وقوله: "أعجبهم إليّ": فيه التفاتٌ، وأورده فِي "الزكاة" بلفظ:"أعطى رهطا، وأنا جالس"، بلا تجريد، ولا التفات، وزاد فيه:"فقمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فساررته"، وغفل بعضهم، فعزا هذه الزيادة إلى مسلم فقط. قاله فِي "الفتح".
(وَلَمْ يُعْطِ رَجُلاً مِنْهُمْ شَيْئًا) الرجل المتروك اسمه جُعيل بن سُراقة الضمري، سماه الواقدي فِي "المغازي". قاله فِي "الفتح". (قَالَ سَعْدٌ) رضي الله عنه (يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا، وَلَمْ تُعْطِ فُلَانًا شَيْئًا، وَهُوَ مُؤْمِنٌ) ولفظ البخاريّ: "فقلت: يا رسول الله، ما لك عن فلان؛، فوالله لأراه مؤمنًا": والمعنى: أيّ سبب لعدولك عنه إلى غيره؟، ولفظ "فلان" كناية عن اسم أُبهِم بعد أن ذُكر. وقوده:"فواللَّه" فيه القسم فِي الإخبار على سبيل التأكيد. وقوله: "لأراه" قَالَ الحافظ: وقع فِي روايتنا منْ طريق أبي ذرّ وغيره بضم الهمزة هنا، وفي "الزكاة"، وكذا هو فِي رواية الإسماعيلي وغيره. وَقَالَ الشيخ محيي الدين رحمه الله تعالى: بل هو بفتحها: أي أعلمه، ولا يجوز ضمها، فيصير بمعنى "أظنه"؛ لأنه قَالَ بعد ذلك:"غلبني ما أعلم منه". انتهى.
قَالَ الحافظ: ولا دلالة فيما ذَكَر عَلَى تعين الفتح؛ لجواز إطلاق العلم عَلَى الظن الغالب، ومنه قوله تعالى:{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10]، سلمنا، لكن لا يلزم
منْ إطلاق العلم، أن لا تكون مقدماته ظنيةً، فيكون نظريا، لا يقينيا، وهو الممكن هنا، وبهذا جزم صاحب "المفهم فِي شرح مسلم"، فَقَالَ: الرواية بضم الهمزة. واستَنْبَط منه جواز الحلف عَلَى غلبة الظن؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ما نهاه عن الحلف، كذا قَالَ، وفيه نظر لا يخفي؛ لأنه أقسم عَلَى وجدان الظن، وهو كذلك، ولم يقسم عَلَى الأمر المظنون، كما ظَنَّ. انتهى "فتح" 1/ 112 - 113.
(فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَوْ مُسْلِمٌ") بالرفع خبر لمحذوف: أي بل: هو مسلم، فـ"أو" بسكون الواو، لا بفتحها كما ظُنَّ غلطًا، وهي للإضراب، بمعنى "بل"، وليست للتشريك، ولا لغيره، كما قيل، وفي رواية البخاريّ "أو مسلمًا" بالنصب، قَالَ فِي "الفتح": قوله: "فَقَالَ: أو مسلما": هو بإسكان الواو، لا بفتحها، فقيل: هي للتنويع، وَقَالَ بعضهم: هي للشك، وأنه أمره أن يقولهما معا؛ لأنه أحوط، وَيرُدُّ هَذَا رواية ابن الأعرابيّ فِي "معجمه" فِي هَذَا الْحَدِيث، فَقَالَ:"لا تقل: مؤمن، بل مسلم"، فوضح أنها للاضراب.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي عزاه إلى "معجم ابن الأعرابيّ" هو المذكور للمصنّف فِي الرواية التالية، فكان الأولى أن يعزوه إليه، فتنبّه.
قَالَ: وليس معناه الإنكار، بل المعنى أن إطلاق المسلم عَلَى منْ لم يُخْتَبر حاله الخبرةَ الباطنَةَ أولي منْ إطلاق المؤمن؛ لأن الإسلام معلوم بحكم الظاهر، قاله الشيخ محيي الدين، ملخصًا.
وتعقبه الكرماني بأنه يلزم منه أن لا يكون الْحَدِيث دالا عَلَى ما عُقِد له الباب، ولا يكون لرد الرسول صلى الله عليه وسلم عَلَى سعد فائدة. قَالَ الحافظ: وهو تعقب مردود، وَقَدْ بينا وجه المطابقه بين الْحَدِيث والترجمه قبلُ.
ومُحَصَّلُ القصه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يوسع العطاء لمن أظهر الإسلام؛ تأليفًا، فلما أعطى الرهط، وهم منْ المؤلفة، وترك جُعيلا، وهو منْ المهاجرين، مع أن الجميع سألوه، خاطبه سعد فِي أمره؛ لأنه كَانَ يرى أن جعيلا أحق منهم؛ لما اختبره منه دونهم، ولهذا راجع فيه أكثر منْ مرة، فأرشده النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أمرين:[أحدهما]: إعلامه بالحكمة فِي إعطاء أولئك، وحرمان جعيل، مع كونه أحب إليه ممن أعطى؛ لأنه لو ترك إعطاء المؤلف، لم يؤمن ارتداده، فيكون منْ أهل النار. [ثانيهما]: إرشاده إلى التوقف عن الثناء بالأمر الباطن، دون الثناء بالأمر الظاهر، فوضح بهذا فائدة رد الرسول صلى الله عليه وسلم عَلَى سعد، وأنه لا يستلزم محض الإنكار عليه، بل كَانَ أحد الجوابين عَلَى طريق المشورة بالأولى، والآخر عَلَى طريق الاعتذار.
[فإن قيل]: كيف لم تُقبَل شهادة سعد لجعيل بالإيمان، ولو شهد له بالعدالة لقُبِل منه، وهي تستلزم الإيمان؟.
[فالجواب]: أن كلام سعد رضي الله عنه لم يخرج مخرج الشهادة، وإنما خرج مخرج المدح له، والتوسل فِي الطلب لأجله، فلهذا نوقش فِي لفظه، حَتَّى ولو كَانَ بلفظ الشهادة، لما استلزمت المشورة عليه بالأمر الأولى رَدَّ شهادته، بل السياق يرشد إلى أنه قبل قوله فيه، بدليل أنه اعتذر إليه.
وفي "مسند محمد بن هارون الروياني"، وغيره، بإسناد صحيح إلى أبي سالم الجيشاني، عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ له:"كيف ترى جعيلا؟ "، قَالَ: قلت: كشكله منْ النَّاس -يعني المهاجرين- قَالَ: "فكيف ترى فلانا؟ "، قَالَ: قلت: سيد منْ سادات النَّاس، قَالَ:"فجُعيل خير منْ ملء الأرض منْ فلان"، قَالَ: قلت: ففلان هكذا، وأنت تصنع به ما تصنع؟ قَالَ: إنه رأس قومه، فأنا أتالّفهم به"، فهذه منزلة جعيل المذكور عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما ترى، فظهرت بهذا الحكمة فِي حرمانه، وإعطاء غيره، وأن ذلك لمصلحة التأليف، كما قررناه. انتهى "فتح" 1/ 113 - 114.
(حَتَّى أَعَادَهَا سَعْدٌ ثَلَاثًا) أي حَتَّى كرّر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قوله: "يا رسول الله أعطيت فلانا الخ"، وأنثّ الضمير باعتبار أنها جُملٌ (وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"أَوْ مُسْلِمٌ) أي: بل هو مسلم (ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لأُعْطِي رِجَالاً) حُذف المفعول الثاني للتعميم: أي أيَّ عطاء (وَأَدَعُ) أي أترك (مَنْ هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُمْ، لَا أُعْطِيهِ شَيْئًا) تأكيد لمعنى "وأدع"(مَخَافَةَ) منصوب عَلَى أنه مفعول لأجله، وهو مضاف إلى قوله (أَنْ يُكَبُّوا) بالبناء للمفعول، والواو ضمير الرجال الذين يُعطيهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، يقال: أكب الرجل: إذا أَطرق، وكبه غيره: إذا قلبه، وهذا عَلَى خلاف القياس؛ لأن الفعل اللازم، يتعدى بالهمزة، وهذا زيدت عليه الهمزة، فقصر، وَقَدْ ذكر البخاريّ هَذَا فِي "كتاب الزكاة"، فَقَالَ: يقال: أكب الرجلُ: إذا كَانَ فعله غير واقع عَلَى أحد، فإذا وقع الفعل، قلت: كبه، وكببته، وجاء نظير هَذَا فِي أحرف يسيرة، منها: أنسل ريشُ الطائر، ونسلته، وأنزفتِ البئرُ، ونزفتها، وحكى ابن الأعرابيّ فِي المتعدي: كبه، وأكبه معا. قاله فِي "الفتح". وفي "اللسان": وحكى ابن الأعرابيّ أكبّه، وأنشد [منْ الرجز]:
يَا صَاحِبَ الْقَعْوِ الْمُكَبِّ الْمُدْبِرِ
…
إِنْ تَمنَعِي قَعْوَكِ أَمْنَعْ مِحْوَرِي
وكبّه لوجهه، فانكبّ: أي صرعه، وأكبّ هو عَلَى وجهه، وهذا منْ النوادر أن يقال: أفعلتُ أنا، وفعلتُ غيري، يقال: كبّ الله عدوّ المسلمين، ولا يقال: أكب. انتهى.
(فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ) الجارّان متعلّقان بـ"يُكبّوا": والمعنى: إني لأعطي رجالا منْ المال؛ خوفًا عليهم أي يتكلموا بما لا يليق، أو يرتدّوا؛ لضعف إيمانهم، إن لم أعطهم، أو فيلقيهم الله تعالى فِي نار جهنم منكوسين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -7/ 4994 و4995 - . وأخرجه (خ) فِي "الإيمان" 27 و"الزكاة" 1478 (م) فِي "الإيمان" 150 (د) فِي "السنة" 4683 و4685 (أحمد) فِي "مسند العشرة" 1525 و1583. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان تأويل الآية الكريمة، وَقَدْ بينت الرواية التالية أن الزهريّ قَالَ بعد أن رواه:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} . (ومنها): التفرقة بين حقيقتي الإيمان والإسلام. (ومنها): ترك القطع بالإيمان الكامل، لمن لم يَنُصّ عليه الشارع، وأما منع القطع بالجنة، فلا يؤخذ منْ هَذَا صريحا، وإن تعرض له بعض الشارحين، نعم هو كذلك، فيمن لم يثبت فيه النص. قاله فِي "الفتح". (ومنها): أن فيه الردَّ عَلَى غلاة المرجئة فِي اكتفائهم فِي الإيمان بنطق اللسان. (ومنها): جواز تصرف الإمام فِي مال المصالح، وتقديم الأهم فالأهم، وإن خفي وجه ذلك عَلَى بعض الرعية. (ومنها): جواز الشفاعة عند الإمام، فيما يعتقد الشافع جوازه. (ومنها): تنبيه الصغير للكبير، عَلَى ما يظن أنه ذَهِلَ عنه، ومراجعة المشفوع إليه فِي الأمر، إذا لم يؤد إلى مفسدة. (ومنها): أن الإسرار بالنصيحه أولى منْ الإعلان، فقد ثبت عند البخاريّ فِي "كتاب الزكاة" قول سعد رضي الله عنه:"فقمت إليه، فساررته"، وَقَدْ يتعين إذا جر الإعلان إلى مفسدة. (ومنها): أن منْ أشير عليه بما يعتقده المشير مصلحةً، لا ينكر عليه، بل يبين له وجه الصواب. (ومنها): الاعتذار إلى الشافع إذا كانت المصلحة فِي ترك إجابته، وأن لا عيب عَلَى الشافع، إذا رُدّت شفاعته لذلك. (ومنها): استحباب ترك الالحاح فِي السؤال، كما استنبطه البخاريّ منه فِي "الزكاة"، ووجه ذلك: إما لأن سياقه يُشعر بأنه صلى الله عليه وسلم كره منْ سعد إلحاحه فِي المسألة، أو منْ جهة أن المشفوع له ترك السؤال، فمُدح. أفاده فِي "الفتح" 1/ 114 و4/ 107.
(ومنها): ما قيل: إنه يدلّ عَلَى جواز الحلف عَلَى الظنّ، وهي يمين اللغو، وهو قول مالك، والجمهور. قاله فِي "عمدة القاري" 1/ 223. (ومنها): أن الإقرار باللسان لا ينفع إلا إذا اقترن به الاعتقاد بالقلب، وعليه الإجماع، ولهذا كفر المنافقون. (ومنها)؛ ما قاله القاضي عياض رحمه الله تعالى: هَذَا الْحَدِيث أصحّ دليل عَلَى الفرق بين الإسلام والإيمان، وأن الإيمان باطنٌ، ومن عمل القلب، والإسلام ظاهر، ومن عمل الجوارح، لكن لا يكون مؤمن إلا مسلمًا، وَقَدْ يكون مسلم غير مؤمن، ولفظ هَذَا الْحَدِيث يدلّ عليه. وَقَالَ الخطابيّ رحمه الله تعالى: هَذَا الْحَدِيث ظاهره يوجب الفرق بين الإسلام والإيمان، فيقال له: مسلم: أي مستسلم، ولا يقال له: مؤمن، وهذا معنى الْحَدِيث، قَالَ الله تعالى:{قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} الآية [الحجرات: 14]: أي استسلمنا، وَقَدْ يتفقان فِي استواء الظاهر والباطن، فيقال للمسلم: مومن، وللمؤمن مسلم
(1)
. وَقَدْ تقدّم تحقيق ذلك مستوفًى فِي أول "كتاب الإيمان"، فراجعه، تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4995 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلاَّمُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مَعْمَرًا، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَسَمَ قَسْمًا، فَأَعْطَى نَاسًا، وَمَنَعَ آخَرِينَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطَيْتَ فُلَانًا، وَمَنَعْتَ فُلَانًا، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، قَالَ: "لَا تَقُلْ: مُؤْمِنٌ، وَقُلْ مُسْلِمٌ"، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا} [الحجرات: 14]).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمرو بن منصور": هو أبو سعيد النسائيّ الثقة الثبت [11] 108/ 147 منْ أفراد المصنّف. و"هشام بن عبد الملك": هو أبو الوليد الطيالسيّ البصريّ الثقة الثبت [9] 122/ 172. و"سلّام بن أبي مطيع": هو أبو سعيد الْخُزَاعيّ مولاهم البصريّ، ثقة، صاحب سنّة، فِي روايته عن قتادة ضعف [7] 78/ 1991.
[تنبيه]: روى مسلم هَذَا الْحَدِيث فِي "صحيحه" عن محمد بن يحيى بن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة، عن الزهريّ، ووقع فِي إسناده وَهَمٌ منه، أو منْ شيخه؛ لأن معظم الروايات فِي "الجوامع"، و"المسانيد" عن ابن عيينة، عن معمر، عن الزهريّ، بزيادة معمر بينهما، وكذا حدث به ابن أبي عمر، شيخ مسلم فِي "مسنده" عن ابن عيينة، وكذا أخرجه أبو نعيم فِي "مستخرجه"، منْ طريقه، وزعم أبو مسعود فِي "الأطراف" أن
(1)
راجع "عمدة القاري" 1/ 224.
الوهم منْ ابن أبي عمر، قَالَ الحافظ: وهو محتمل؛ لأن يكون الوهم صدر منه، لَمّا حَدّث به مسلما، لكن لم يتعين الوهم فِي جهته، وحمله الشيخ محيي الدين عَلَى أن ابن عيينة، حدث به مرة بإسقاط معمر، ومرةً بإثباته، وفيه بُعْدٌ؛ لأن الروايات قد تضافرت عن ابن عيينة بإثبات معمر، ولم يوجد بإسقاطه إلا عند مسلم، والموجود فِي مسند شيخه بلا إسقاط، كما قدمناه، وَقَدْ أوضحت ذلك بدلائله فِي كتاب "تغليق التعليق".
ورواه أحمد، والحميديّ، وغيرهما عن عبد الرزّاق، عن معمر، وفيه أنه أعاد السؤال ثلاثًا، وفيه منْ الزيادة: قَالَ الزهريّ: "فترى أن الإسلام الكلمة، والإيمان العمل".
وَقَدْ استُشكل هَذَا بالنظر، إلى حديث سؤال جبريل، فإن ظاهره يخالفه، ويمكن أن يكون مراد الزهريّ أن المرء يُحكم بإسلامه، ويُسَمّى مسلما، إذا تلفظ بالكلمة، أي كلمة الشهادة، وأنه لا يسمى مؤمنا إلا بالعمل، والعمل يشمل عمل القلب والجوارح، وعمل الجوارح يدلّ عَلَى صدقه، وأما الإسلام المذكور فِي حديث جبريل عليه السلام، فهو الشرعي الكامل، المراد بقوله تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} . انتهى "فتح" 1/ 115.
[تنبيه آخر]: روى هَذَا الحديثَ ابنُ وهب، ورِشْدِين بن سعد جميعا، عن يونس، عن الزهريّ بسند آخر، قَالَ:"عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه"، أخرجه ابن أبي حاتم، ونقل عن أبيه أنه خطأ منْ راويه، وهو الوليد بن مسلم عنهما. أفاده فِي "الفتح". يعني أن الصواب:"عن الزهريّ، عن عامر بن سعد، عن أبيه". والله تعالى أعلم.
والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق شرحه، وبيان مسائله فِي الْحَدِيث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4996 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ سُحَيْمٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ: "أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ مُؤْمِنٌ، وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفىّ البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.
2 -
(حماد) بن زيد بن درهم، الجهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقة ثبت 3/ 3.
3 -
(عمرو) بن دينار الأثرم الجمحيّ، أبو محمد المكيّ، ثقة ثبت [4] 112/ 154.
4 -
(نافع بن جبير بن مُطعم) النوفليّ المدنيّ، ثقة فاضلّ [3] 96/ 124.
5 -
(بِشْر بن سُحَيم) الغفاريّ، ويقال: الْخُزَاعيّ، صحابيّ، له هَذَا الْحَدِيث، وقيل: عنه، عليّ رضي الله عنه. وَقَالَ ابن سعد: كَانَ يسكن كراع الغميم، وضِجْنان. انتهى. تفرّد به المصنّف، وابن ماجه بهذا الْحَدِيث. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير الصحابيّ، كما مرّ آنفًا. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. (ومنها): أن صحابيّه منْ المقلّين منْ الرواية، فليس له إلا هَذَا الْحَدِيث عند أحمد، والمصنّف، وابن ماجه انظر "الإصابة" 1/ 249 - 250. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ بِشْرِ بْنِ سُحَيْمٍ) الغفاريّ رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ) ويقال لها: الأيام المعدودات، وأيام منى، وهي الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر منْ ذي الحجة، واختلفوا فِي تعيين أيام التشريق، والأصحّ أن أيام التشريق ثلاثة أيام بعد يوم النحر، سُمّيت بذلك لتشريق النَّاس لحوم الأضاحي فيها، وهو تقديدها، ونشرها فِي الشمس.
وَقَالَ فِي "الفتح": وَقَدْ اختُلف فِي كونها -يعني أيام التشريق يومين، أو ثلاثة، قَالَ: وسميت أيام التشريق؛ لأن لحوم الأضاحي تُشرَق فيها: أي تُنشر فِي الشمس، وقيل: لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس، وقيل: لأن صلاة العيد تقع عند شروق الشمس. وقيل التشريق التكبير دبر كل صلاة. انتهى.
(أَنَّهُ) الضمير للشأن: أي أن الشأن والحال (لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ) قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: وإنما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن ينادى فِي الموسم: "لا يدخل الجنة إلا مؤمن" ليسمع منْ لم يحضر خطبة النبيّ، وليسمع منْ كَانَ هناك منْ المنافقين، حَتَّى يُحقّقوا إيمانهم، ويُجدّدوا يقينهم. انتهى "المفهم" 3/ 200 (وَهِيَ) أي أيام التشريق (أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ) يعني أنه لا يصحّ صومها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث بشر بن سُحيم رضي الله عنه هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -7/ 4996 - وفي "الكبرى" فِي "الصيام" 2895 و2896. وأخرجه (ق) فِي "الصيام" 1720 (أحمد) فِي "مسند المكيّين" 1502 و"مسند الكوفيين" 18476 (الدارمي) فِي "الصوم" 1701. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان تأويل الآية الكريمة، ووجه ذلك أن الْحَدِيث دلّ عَلَى أنه لا يدخل الجنة أحد إلا إذا كَانَ مؤمنًا، والإيمان هو عقد القلب المصدّق لإقرار اللسان الذي لا ينفع عند الله تعالى غيره، وهذا هو الذي نفته الآية عن هؤلاء الأعراب؛ حيث إنهم أظهروا الاستسلام، وتظاهروا بالأعمال الظاهرة، فقالوا: آمنا بألسنتهم، وليس ذلك فِي صميم قلوبهم، فحيث انتفى عنهم ذلك، فإنهم لا يدخلون الجنّة.
(ومنها): أنه استُدِلّ بهذا عَلَى تحريم صوم أيام التشريق، وفي ذلك خلاف بين الصحابة، فمن بعدهم، قَالَ فِي "الفتح": وَقَدْ رَوَى ابن المنذر وغيره، عن الزبير بن العوام، وأبي طلحة، منْ الصحابة الجواز مطلقا. وعن علي، وعبد الله بن عمرو بن العاص، المنع مطلقا، وهو المشهور عن الشافعيّ، وعن ابن عمر، وعائشة، وعُبيد بن عمير، فِي آخرين، منعه إلا للمتمتع الذي لا يجد الهدي، وهو قول مالك، والشافعي فِي القديم، وعن الأوزاعي، وغيره أيضًا يصومها المحصر، والقارن. انتهى. واستَدَلّ القائلون بالمنع مطلقا، بأحاديث الباب التي لم تقيد بالجواز للمتمتع، واستدل القائلون بالجواز للمتمتع، بحديث عائشة، وابن عمر رضي الله عنهم قالا: لم يُرخَّص فِي أيام التشويق أن يُصَمْن إلا لمن لم يجد الهدي. رواه البخاريّ. وهذه الصيغة لها حكم الرفع، وَقَدْ أخرجه الدارقطنيّ، والطحاوي، بلفظ:"رَخَّص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمتمتع، إذا لم يجد الهدي أن يصوم أيام التشريق"، وفي إسناده يحيى بن سلام، وليس بالقوي، ولكنه يؤيد ذلك عموم الآية، قالوا: وحمل المطلق عَلَى المقيد واجب، وكذلك بناء العام عَلَى الخاص، وهذا أقوى المذاهب.
وأما القائل بالجواز مطلقا، فترد عليه الأحاديث، كحديث الباب، وحديث كعب بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه، وأوس بن الْحَدَثَان أيام التشريق:"أنه لا يدخل الجنّة إلا مؤمن، وأيام منى أيام أكل وشرب". رواه أحمد، ومسلم. وحديث أنس رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم خمسة أيام فِي السنة: يوم الفطر، ويوم النحر، وثلاثة أيام التشريق"، رواه الدارقطنيّ، وفي سنده محمد بن خالد الطحان، ضعيف.
وفي الباب عن عبد الله بن حُذافة السهمي، عند الدارقطنيّ، بلفظ: "لا تصوموا فِي
هذه الأيام، فإنها أيام أكل، وشرب، وبعال" -يعني أيام منى. وفي إسناده الواقدي.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عند الدارقطنيّ، وفي إسناده سعد بن سلام، وهو قريب منْ الواقدي، وفيه أن المنادي بُديل بن ورقاء، وأخرجه أيضًا ابن ماجه منْ وجه آخر، وابن حبّان. وعن ابن عباس عند الطبراني بنحو حديث عبد الله بن حُذافة، وفيه:"والبعال وقاع النِّساء"، وفي إسناده إسماعيل بن أبي حبيب، وهو ضعيف. وعن عمر بن خَلْدة، عن أبيه، عند أبي يعلى، وعبد بن حميد، وابن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه بنحوه، وفي إسناده موسى بن عُبيدة الرَّبَذِيّ، وهو ضعيف. وعن مسعود بن الحكم، عن أمه، عند النسائيّ فِي "الكبرى" رقم 2879: أنها رأت وهي بمنى، فِي زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، راكبا يصيح، يقول: يا أيها النَّاس، إنها أيام أكل، وشرب، ونساء، وبعال، وذكر الله"، قالت: فقلت: منْ هَذَا؟ فقالوا: علي بن أبي طالب، وأخرجه البيهقي منْ هَذَا الوجه، لكن قَالَ: إن جدته حدثته، وأخرجه ابن يونس فِي "تاريخ مصر" منْ طريق يزيد بن الهاد، عن عمرو بن سليم الزرقي، عن أمه، قَالَ يزيد: فسألت عنها؟ فقيل: إنها جدته. ذكره فِي "التخليص الحبير" 2/ 375 - 377.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما ذكر أن أصح المذاهب مذهب القائلين بتحريم صوم أيام التشريق؛ إلا لمن عليه صوم التمتّع، فيجوز أن يصوم فيها؛ لحديث البخاريّ المتقدّم. والله تعالى أعلم.
(ومنها): أن هذه الأيام يستحبّ فيها الإكثار منْ ذكر الله تعالى؛ للزيادة التي فِي رواية مسلم منْ حديث نُبيشة الْهُذَليّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيام التشريق، أيام أكل، وشُرب، وذكر لله"، فزاد ذكر الله تعالى، فدلّ عَلَى استحباب الإكثار منه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
8 - (صِفَةُ الْمُؤْمِنِ)
4997 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ
لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(قتيبة) المذكور فِي الباب الماضي.
2 -
(الليث) بن سعد الإمام الحجة الفقيه المصريّ [7] 31/ 35.
3 -
(ابن عجلان) هو محمد القرشيّ، مولى فاطمة بنت الوليد، أبو عبد الله المدنيّ، صدوقٌ، إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه[5] 36/ 40.
4 -
(القعقاع بن حكيم) الكناني المدنيّ، ثقة [4] 36/ 40.
5 -
(أبو صالح) ذكون السمّان الزيّات المدنيّ، ثقة ثبت [3] 36/ 40،
6 -
(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، والليث، فمصريان. (ومنها): أن فيه ثلاثة منْ التابعين يروي بعضهم عن بعض: ابن عجلان، عن القعقاع، عن أبي صالح، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أَحْفَظُ منْ روى الْحَدِيث فِي دهره. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "الْمُسْلِمُ) مبتدأ خبره قوله: "منْ سلم الخ". قَالَ فِي "الفتح": قيل: الألف واللام فيه للكمال، نحو زيد الرجل: أي الكامل فِي الرجولية. وتُعُقّب بأنه يستلزم أن منْ اتصف بهذا خاصة، كَانَ كاملا، ويجاب بأن المراد بذلك مع مراعاة باقي الأركان. قَالَ الخطّابيّ: المراد أفضل المسلمين، مَنْ جَمَع إلى أداء حقوق الله تعالى أداء حقوق المسلمين. انتهى. وإثبات اسم الشيء عَلَى معنى إثبات الكمال له مستفيض فِي كلامهم. ويحتمل أن يكون المراد بذلك أن يبين علامة المسلم، التي يُستَدّل بها عَلَى إسلامه، وهي سلامة المسلمين منْ لسانه ويده، كما ذُكر مثله فِي علامة المنافق. ويحتمل أن يكون المراد بذلك الإشارة إلى الحث، عَلَى حسن معاملة العبد مع ربه؛ لأنه إذا أحسن معاملة إخوانه، فأولى أن يحسن معاملة ربه، منْ باب التنبيه بالأدنى عَلَى الأعلى.
(مَنْ سلِمَ النَّاسُ) المراد بالناس هنا المسلمون، كما فِي حديث عبد الله بن عمرو الآتي بعده، فهم النَّاس حقيقة عند الإطلاق؛ لأن المطلق يُحمل عَلَى الكامل، ولا
كمال فِي غير المسلمين، ويمكن حمله عَلَى عمومه، عَلَى إرادة شرط، وهو إلا بحق، مع إن إرادة هَذَا الشرط متعينةً عَلَى كل حال؛ لما سيأتي منْ استثناء إقامة الحدود، ونحوها عَلَى المسلم. أفاده فِي "الفتح" 1/ 79.
(مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ) أي منْ لا يؤذي أحدًا بوجه منْ الوجوه، لا باليد، ولا باللسان، ولا اعتراض بإجراء الحدود، والتعزير، وما يستحقّه المرء؛ لأن ذلك مستثنًى منْ هَذَا العامّ بالإجماع، ولأنه إصلاح، أو طلب للحقّ، لا إيذاء شرعًا.
والمقصود أن الكمال فِي الإسلام لا يتحقّق بدون هَذَا، ولا يكون المرء بدون هَذَا الوصف مؤمنا كاملاً، لا أنه إذا تحقّق هَذَا الوصف تحقّق هَذَا الكمال فِي الإسلام، وإن كَانَ مع ترك الصلاة، ونحوها؛ لجواز عموم المحمول منْ الموضوع.
وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: أي منْ كانت هذه حاله، كَانَ أحقّ بهذا الاسم، وأمكنهم فيه، ويُبيّن ذلك أنه لا ينتهي الإنسان إلى هَذَا حَتَّى يتمكّن منْ قلبه خوف عقاب الله تعالى، ورجاء ثوابه، فيُكسبُهُ ذلك وَرَعًا يحمله عَلَى ضبط لسانه ويده، فلا يتكلّم إلا بما يَعنيه، ولا يفعل إلا ما يسلم فيه، ومن كَانَ كذلك فهو المسلم الكامل، والمتّقي الفاضل. ويقرب منْ هَذَا المعنى، بل يزيد عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدكم حَتَّى يُحبّ لأخيه ما يُحبّ لنفسه"، إذ معناه أنه لا يتمّ إيمان أحد الإيمان التامّ الكامل حَتَّى يضمّ إلى سلامة النَّاس منه إرادته الخير لهم، والنصح لجميهم، فيما يُحاوله معهم. انتهى "المفهم" 1/ 224.
وإنما خص اللسان بالذكر؛ لأنه المعبر عما فِي النفس، وهكذا اليد؛ لأن أكثر الأفعال بها، والحديث عام بالنسبة إلى اللسان، دون اليد؛ لأن اللسان يمكنه القول فِي الماضين، والموجودين، والحادثين بعدُ بخلاف اليد، نعم يمكن أن تشارك اللسانَ فِي ذلك بالكتابة، وأن أثرها فِي ذلك لعظيم.
وقدّم اللسان عَلَى اليد؛ لأن إيذاء اللسان أكثر وقوعًا، وأسهل؛ ولأنه أنه أشدّ نكايةً، ولهذا كَانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول لحسّان رضي الله عنه:"اهجُ المشركين، فإنه أشدّ عليهم منْ رَشْق النبل"، وَقَالَ الشاعر:
جِرَاحَاتُ السِّنَانِ لَهَا الْتِئَامُ
…
وَلَا يَلْتَامُ مَا جَرَحَ اللِّسَانُ
وفي التعبير باللسان دون القول نكتة، فيدخل فيه منْ أخرج لسانه عَلَى سبيل الاستهزاء، وفي ذكر اليد دون غيرها منْ الجوارح نكتة، فيدخل فيها اليد المعنوية، كالاستيلاء عَلَى حق الغير بغير حق.
(وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ) بكسر الميم، منْ باب تعب (النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ) يعني
أنه لا يظلم النَّاس، لا فِي أنفسهم، ولا فِي أموالهم، فهذه الجملة بمعنى الجملة السابقة، فهي متضمّنةٌ لمعناها، وإنما أعادها نظرًا إلى تغاير لفظي "المسلم"، و"المؤمن". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -8/ 4997 - . وأخرجه (ت) فِي "الإيمان" 2627 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين"8712. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان صفة المؤمن الكامل، وهو كونه متّصفًا بأمن النَّاس له عَلَى دمائهم، وأموالهم. (ومنها): أنه يستفاد منه أن الأصل فِي الحقوق النفسيّة، والماليّة التحريم، فلا يحلّ شيء منها إلا بوجه شرعيّ. (ومنها): أن فيه بيان تفاوت درجات المسلمين، حيث إن بعضهم وصل إلى درجة الكمال، وبعضه لم يصل إليها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
9 - (صِفَةُ الْمُسْلِمِ)
4998 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(عمرو بن عليّ) الفلّاس الصيرفيّ، ثقة حافظ [10] 4/ 4.
2 -
(يحيى) بن سعيد القطّان البصريّ، ثقة ثبت حجة [9] 4/ 4.
3 -
(إسماعيل) بن أبي خالد البجليّ الأحمسيّ، ثقة ثبت [4] 13/ 471.
4 -
(عامر) بن شَرَاحيل، أبو عمرو الشعبيّ الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 66/ 82.
5 -
(عبد الله بن عمرو) بن العاص رضي الله تعالى عنهما 89/ 111. والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: وقع فِي جميع النسخ التي بين يديّ، منا "المجتبى، والكبرى": "عبد الله بن عمر" بضم العين، وفتح الميم، وهو غلط فاحش، والصواب "ابن عَمرو" بفتح المهملة، وسكون الميم، وهو الذي فِي "الصحيحين"، وغيرهما، وكذا هو فِي "تحفة الأشراف" 6/ 345 - 346. فتنبّه. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) ابن العاص رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:"الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ) قَالَ فِي "الفتح": ذكر المسلمين هنا خرج مخرج الغالب؛ لأن محافظة المسلم عَلَى كف الأذى عن أخيه المسلم، أشد تأكيدا؛ ولأن الكفار بصدد أن يقاتلوا، وإن كَانَ فيهم منْ يجب الكف عنه، والإتيان بجمع التذكير للتغليب، فإن المسلمات يدخلن فِي ذلك. انتهى.
وَقَالَ الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى: ما حاصله: يقتضي حصر المسلم فيمن سلم المسلمون منْ لسانه ويده، والمراد بذلك الكامل فِي الإسلام، فمن لم يَسلَم المسلمون منْ لسانه ويده، فإنه ينتفي عنه كما الإسلام الواجب، فإن سلامة المسلمين منْ لسان العبد ويده واجبة، فإن أذى المسلم حرامٌ، باللسان، وباليد، فأذى اليد الفعل، وأذى اللسان القول.
والظاهر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما وصف بهذا فِي هَذَا الْحَدِيث؛ لأن السائل كَانَ مسلمًا، قد أتى بأركان الإسلام الواجبة لله عز وجل، وإنما يجهل دخول هَذَا القدر الواجب منْ حقوق العباد فِي الإسلام، فبيّن له النبيّ صلى الله عليه وسلم ما جهله.
ويشبه هَذَا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا خطب فِي حجة الوداع، وبين للناس حرمة دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم، أتبع ذلك بقوله: "سأُخبركم مَنِ المسلم؟: منْ سلم المسلمون
منْ لسانه ويده، والمؤمن منْ أَمِنه النَّاس عَلَى أموالهم، وأنفسهم". خرجه ابن حبّان فِي "صحيحه" منْ حديث فَضَالة بن عُبيد. وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم أحيانا يجمع لمن قَدِم عليه يريد الإسلام بين ذكر حقّ الله تعالى، وحقّ العباد، كما فِي "مسند الإمام أحمد" عن عمرو ابن عَبَسَة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رجل: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قَالَ: "أن تُسلم قلبك لله، وأن يَسلَم المسلمون منْ لسانك، ويدك". وفيه أيضًا عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه رضي الله عنه أنه أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليُسلم، فَقَالَ له: أسألك بوجه الله بم بعثك الله ربنا إلينا؟ قَالَ: "بالإسلام"، قَالَ: وما آية الإسلام؟ قَالَ: "أن تقول: أسلمت وجهي لله، وتخلّيتُ، وتُقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وكلّ مسلم عَلَى مسلم محرّم"، وذكر الْحَدِيث، وَقَالَ فيه: قلت: يا رسول الله هَذَا ديننا؟ قَالَ: "هَذَا دينكم"، وأخرجه النسائيّ بمعناه رقم 2436. انتهى كلام ابن رَجَب فِي "شرح البخاريّ" 1/ 37 - 39.
(وَالْمُهَاجِرُ) هو فِي الأصل منْ فارق عشيرته، ووطنه، وهو مبتدأ خبره قوله:(مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ) أي ترك فعل الشي الذي نهى الله تعالى عن فعله. يقال: هجره يهجُره هَجْرًا، منْ باب نصر، وهِجْرانًا، والاسم الهجرة، وفي "العباب": الهجرة: ضدّ الوصل، والتركيب يدلّ عَلَى القطع، والقطيعة، والمهاجر مُفاعلٌ منه. قاله فِي "عمدة القاري" 1/ 149.
وَقَالَ فِي "الفتح": والمهاجر هو بمعنى الهاجر، وإن كَانَ لفظ المفاعل يقتضي وقوع فعل منْ اثنين، ولكنه هنا للواحد، كالمسافر. ويحتمل أن يكون عَلَى بابه؛ لأن مِنْ لازم كونه هاجرا وطنه مثلا، أنه مهجور منْ وطنه.
وهذه الهجرة ضربان: ظاهرة، وباطنة، فالباطنة: ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء والشيطان، والظاهرة: الفرار بالدين منْ الفتن، وكأن المهاجرين خوطبوا بذلك؛ لئلا يتكلوا عَلَى مجرد التحول منْ دارهم، حَتَّى يمتثلوا أوامر الشرع ونواهيه، ويحتمل أن يكون ذلك قيل بعد انقطاع الهجرة، لَمّا فتحت مكة؛ تطييبا لقلوب منْ لم يُدرك ذلك، بل حقيقة الهجرة تحصل لمن هجر ما نهى الله عنه، فاشتملت هاتان الجملتان، عَلَى جوامع منْ معاني الحكم، والأحكام. انتهى "فتح" 1/ 78.
وَقَالَ الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى: أصل الهجرة هجران الشرّ، ومباعدته لطلب الخير، ومحبّته، والرغبة فيه، والهجرة عند الإطلاق فِي الكتاب والسنة إنما تنصرف إلى هجران بلد الشرك إلى دار الإسلام؛ رغبة فِي تعلم الإسلام، والعمل به، وإذا كَانَ كذلك، فأصل الهجرة أن يهجُر ما نهاه الله تعالى عنه، منْ المعاصي، فيدخل
فِي ذلك هجران بلد الشرك؛ رغبةً فِي دار الإسلام، وإلا فمجرّد هجرة بلد الشرك، مع الإصرار عَلَى المعاصي ليس بهجرة تامّة كاملة، بل الهجرة التامّة الكاملة هجران ما نهى الله تعالى عنه، ومن جملة ذلك هجران بلد الشرك مع القدرة عليه. انتهى "شرح البخاريّ" 1/ 39.
[فائدة]: فِي الْحَدِيث منْ أنواع البديع: تجنيس الاشتقاق، وهو أن يرجع اللفظان فِي الاشتقاق إلى أصل واحد، نحو قوله تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} الآية [الروم: 43]، فإن {فَأَقِمْ} ، و {الْقَيِّمِ} يرجعان فِي الاشتقاق إلى القيام. قاله فِي "عمدة القاري" 1/ 149. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عبد الله عمرو رضي الله تعالى عنهما هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -9/ 4998 - . وأخرجه (خ) فِي "الإيمان" 10 و"الرقاق" 6484 (م) فِي "الإيمان" 40 (د) فِي "الجهاد" 2481 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 6451 و6479 و6714 و6753 و6767 و6796 و6798 و6873 و6886 و6914 و6943 و6978 و7046 (الدارمي) فِي "الرقاق"2600. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان صفة المسلم. (ومنها): الحثّ عَلَى ترك أذى المسلمين بأيّ نوع منْ الأذى، وسرّ الأمر فِي ذلك حسن التخلّق مع العالم، كما قَالَ الحسن البصريّ فِي تفسير الأبرار: هم الذين لا يؤذون الذَّرّ، ولا يرضون الشرّ. ذكره فِي "العمدة" 1/ 150. (ومنها): أن فيه الردّ عَلَى المرجئة، فإنه ليس عندهم إسلام ناقص. (ومنها): أن فيه الحثَّ عَلَى ترك المعاصي، واجتناب المناهي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
4999 -
(أَخْبَرَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ سِيَاهٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَذَلِكُمُ الْمُسْلِمُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "حفص بن عمر" بن عبد الرحمن الرازيّ، أبو عمر
الْمِهْرَقانيّ -بقاف- صدوقٌ [10].
رَوَى عن أبي أحمد الزبيري، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبي ضمرة أنس بن عياض، والقطان، وأبي داود الطيالسي، ومحمد بن سعيد بن سابق، وعبد الرزاق، ومكي بن إبراهيم، وغيرهم.
وعنه النسائيّ، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وابن الضريس، وعلي بن سعيد، وعبد الله ابن أحمد الدشتكي، وأبو بكر محمد بن داود بن يزيد، ومحمد بن عمار بن عطية الرازيون، وابنه محمد بن حفص، ومحمد بن إبراهيم بن شعيب القاري، وغيرهم. قَالَ أبو زرعة: صدوقٌ، ما علمته إلا صدوقا. وَقَالَ أبو حاتم: صدوقٌ. وَقَالَ ابن حبّان: صدوقٌ حسن الْحَدِيث، يُغرِب. وَقَالَ النسائيّ فِي "مشيخته": رازي، لا بأس به. وَقَالَ مسلمة: ثقة.
تفرّد به المصنّف.
[تنبيه]: "الْمِهْرقانيّ -بكسر الميم، والراء، بعدها قاف: نسبة إلى مِهْرقان قريةٌ بالريّ. قاله فِي "اللباب" 2/ 282.
[تنبيه آخر]: كون حفص بن عمر فِي هَذَا السند هو المهرقانيّ هو الذي قاله الحافظ أبو القاسم ابن عساكر رحمه الله تعالى ردًّا عَلَى منْ ادّعى جهالته، كما نقله عنه فِي "تحفة الأشراف"، ونصّه 1/ 415 - 415 - : قَالَ ابن الكسّار: سمعت عبد الصمد البخاريّ يقول: حفص لا أعرفه، إلا أن يكون سقط الواو منْ حفص بن عَمرو الرَّبَاليّ المشهور بالرواية عن البصريين، وهو ثقةٌ. قَالَ أبو القاسم: وهذا حفص بن عمر، أبو عمر الْمِهْرَقانيّ الرازيّ معروف. انتهى. وكلام ابن الكسّار هَذَا سيأتي فِي "المجتبى" آخر "كتاب الإيمان" 33/ 5041. إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم.
وقوله: "منْ صلّى صلاتنا الخ": المراد به منْ أظهر شعائر الإسلام.
والحديث أخرجه البخاريّ، وتقدّم فِي 1/ 3967 "كتاب تحريم الدم"، وتقدّم شرحه، وبيان مسائله، ودلالته عَلَى ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى هنا واضحة، حيث إن فيه بيان صفة المسلم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
***
10 - (حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ)
5000 -
(1)
(أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْمُعَلَّى بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ، فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ كُلَّ حَسَنَةٍ، كَانَ أَزْلَفَهَا، وَمُحِيَتْ عَنْهُ كُلُّ سَيِّئَةٍ، كَانَ أَزْلَفَهَا، ثُمَّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ، الْحَسَنَةُ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا، إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا، إِلاَّ أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عز وجل عَنْهَا").
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(أحمد بن الْمُعَلّى) بن يزيد الأَسديّ، أبو بكر الدمشقيّ، نائب أبي زرعة فِي قضائها، صدوقٌ [12].
روى عن سليمان بن عبد الرحمن، وصفوان بن صالح، وخَتَنه دُحَيم، وأبي داود السجستانيّ، وغيرهم. وروى عنه النسائيّ، وابن جَوْصا، والطبرانيّ، وخيثمة، وأبو ميمون البجليّ، وأبو عليّ الحصائريّ، وغيرهم. قَالَ النسائيّ: لا بأس به. قَالَ محمد ابن يوسف الْهَرَويّ: مات فِي شهر رمضان سنة (286 هـ). تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.
2 -
(صفوان بن صالح) بن صفوان بن دينار الثففي مولاهم أبو عبد الملك الدمشقي مؤذن الجامع، ثقة، كَانَ يدلّس تدليس التسوية [10].
رَوَى عن الوليد بن مسلم، ومروان بن محمد، وابن عيينة، ومحمد بن شعيب بن شابور، وسويد بن عبد العزيز، وغيرهم. وعنه أبو داود، روى له فِي "كتاب القدر"، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه فِي "التفسير" بواسطة عبد السلام بن عتيق الدمشقي، ويزيد بن محمد بن عبد الصمد، وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، وجعفر بن محمد بن
(1)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث تمام الألف الخامس، وصلت إليه، والمؤذن يؤذن لصلاة المغرب ليلة الجمعة المباركة 25/ 12/ 1420 هـ الموافق 31/ مارس / 2000 ميلادية. وَقَدْ كَانَ نهاية الألف الرابع ليلة الخميس 15/ 5/ 1420 الموافق 26/ أغسطس 1999 الميلادي، فكان ما بين نهايتيهما نحو سبعة أشهر وعشرة أيام، وهذا منْ فضل الله سبحانه وتعالى عليّ، الحمد لله الذي هداني لهذا، وما كنت لأهتدي لولا أن هداني الله، والحمد لله الذي تتمّ بنعمته الصالحات.
المفضل، والحسن بن علي الخلال، وأحمد بن المعلى بن يزيد الأسدي، وزكرياء بن يحيى السجزي، وأبو زرعة الرازي، وأبو زرعة الدمشقي، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وعبد الله ابن حماد الآملي، وعلي بن الحسين بن الجنيد، وأبو حاتم، ويعقوب بن سفيان، ومحمد بن الحسن بن قتيبة، وجماعة.
قَالَ الآجري، عن أبي داود: حجة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: كَانَ منتحل مذهب أهل الرأي. وَقَالَ الترمذيّ: هو ثقة عند أهل الْحَدِيث. ووثقه مسلمة بن قاسم، وأبو علي الجياني، وغيرهما. وَقَالَ ابن حبّان فِي آخر مقدمة "الضعفاء": سمعت بن جَوْصا، يقول: سمعت أبا زرعة الدمشقي، يقول: كَانَ صفوان بن صالح، ومحمد بن مُصَفّى يسويان الْحَدِيث -يعني يدلسان تدليس التسوية.
قَالَ أبو زرعة الدمشقي: أخبرنا أن مولده سنة ثمان، أو تسع وستين. وَقَالَ يعقوب ابن سفيان: مات سنة سبع وثلاثين ومائتين. وَقَالَ عبد الرحمن بن الرواس: سنة ثمان. وَقَالَ أبو زرعة الدمشقي، وعمرو بن دُحيم: سنة (9).
روى له المصنّف، وأبو داود فِي "القدر"، والترمذي، وابن ماجه فِي "التفسير"، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.
3 -
(الوليد) بن مسلم، أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقة، كثير التدليس، والتسوية [8] 5/ 454.
4 -
(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة الإمام الحجة الثبت [7] 7/ 7.
5 -
(زيد بن أسلم) العدويّ المدنيّ، ثقة فقيه [3] 64/ 80.
6 -
(عطاء بن يسار) الهلاليّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، ثقة فاضل، صاحب مواعظ وعبادة، منْ صغار [3] 64/ 80.
7 -
(أبو سعيد الخدريّ) سعد بن مالك بن سنان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما 169/ 262. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فمن أفراده، وصفوان، فتفرد به هو والترمذي، وابن ماجه، وأبو داود فِي "القدر". (ومنها): أن أوله مسلسل بالدمشقيين، إلى الوليد، وبعده بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: زيد، عن عطاء، وهو منْ رواية الأقران، وفيه أبو سعد الخدريّ رضي الله عنه منْ المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ) هَذَا الحكم يشترك فيه الرجال والنساء، وذكره بلفظ المذكر تغليبا (فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ) أي صار إسلامه حسنًا، باعتقاده، وإخلاصه، ودخوله فيه بالباطن والظاهر، وأن يستحضر عند عمله قرب ربه منه، واطلاعه عليه، كما دل عليه تفسير "الإحسان" فِي حديث سؤال جبريل عليه السلام كما سبق (كَتَبَ اللَّهُ) أي أمر أن يكتب، ورواه الدارقطنيّ منْ طريق زيد بن شعيب، عن مالك، بلفظ: "يقول الله لملائكته: اكتبوا" (لَهُ كُلَّ حَسَنَةٍ، كَانَ أَزْلَفَهَا) أي أسلفها، وقدّمها، يقال: أزلف، وزلف، مخفّفًا، وزلّف مشدّدًا بمعنى واحد. وَقَالَ فِي "الفتح": قوله: "كَانَ أزلفها"، كذا لأبي ذرّ، ولغيره: "زَلَفَها"، وهي بتخفيف اللام، كما ضبطه صاحب "المشارق"، وَقَالَ النوويّ: بالتشديد، ورواه الدارقطنيّ منْ طريق طلحة بن يحيى، عن مالك، بلفظ: "ما منْ عبد يُسلم، فيُحسن إسلامه، إلا كتب الله كل حسنة زلفها، ومحا عنه كل خطيئة زلفها"، بالتخفيف فيهما، والنسائي نحوه، لكن قَالَ: "أزلفها"، وزَلّف -بالتشديد- وأزلف بمعنى واحد: أي أسلف، وقَدّم، قاله الخطّابيّ. وَقَالَ فِي "المحكم": أزلف الشيءَ: قَرّبه، وزلفه، مخففا، ومثقلاً: قَدَّمه. وفي "الجامع": الزلفة تكون فِي الخير والشر. وَقَالَ فِي "المشارق": زَلَفَ -بالتخفيف-: أي جَمَع، وكَسَب، وهذا يشمل الأمرين، وأما القربة فلا تكون إلا فِي الخير، فعلى هَذَا تترجح رواية غير أبي ذرّ، لكن منقول الخطّابيّ يساعدها.
(وَمُحِيَتْ) بالبناء للمفعول: أي أُزليت، يقال: محوته مَحْوًا، منْ باب نصر، ومحيته مَحْيًا بالياء، منْ باب نفع لغةٌ: أزلته، وانمحى الشيءُ: ذهب أثره. قاله فِي "المصباح". والمعنى هنا: أزيل (عَنْهُ) أي عن صحيفة أعماله (كُلُّ سَيِّئَةٍ، كَانَ أَزْلَفَهَا) أي قدّمها.
[تنبيه]: ذكر البخاريّ هَذَا الْحَدِيث فِي "صحيحه" معلّقًا، وسقط منْ روايته ذكر كتابة الحسنات المتقدّمة قبل الإسلام، فَقَالَ فِي "الفتح": قيل: إن المصنّف أسقط ما رواه غيره عمدًا؛ لأنه مشكل عَلَى القواعد. وَقَالَ المازري: الكافر لا يصح منه التقرب، فلا يثاب عَلَى العمل الصالح الصادر منه فِي شركه؛ لأن منْ شرط المتقرب، أن يكون عارفا لمن يتقرب إليه، والكافر ليس كذلك، وتابعه القاضي عياض عَلَى تقرير هَذَا الإشكال، واستضعف ذلك النوويّ، فَقَالَ: الصواب الذي عليه المحققون، بل نقل بعضهم فيه الإجماع، أن الكافر إذا فعل أفعالا جميلة، كالصدقة، وصلة الرحم، ثم أسلم، ومات عَلَى الإسلام، أن ثواب ذلك يكتب له، وأما دعوى أنه مخالف للقواعد، فغير مُسَلَّم؛
لأنه قد يُعتَدّ ببعض أفعال الكافر فِي الدنيا، ككفارة الظهار، فإنه لايلزمه إعادتها إذا أسلم، وتجزئه. انتهى.
والحق أنه لا يلزم منْ كتابة الثواب للمسلم، فِي حال إسلامه، تفضلاً منْ الله، وإحسانا أن يكون ذلك لكون عمله الصادر منه فِي الكفر مقبولاً، والحديث إنما تضمن كتابة الثواب، ولم يتعرض للقبول. ويحتمل أن يكون القبول يصير معلقًا عَلَى إسلامه، فيُقبل، ويثاب إن أسلم، وإلا فلا، وهذا قوي، وَقَدْ جزم بما جزم به النوويّ إبراهيم الحربي، وابن بطال، وغيرهما منْ القدماء، والقرطبي، وابن الْمُنَيِّر منْ المتأخرين، قَالَ ابن المنير: المخالف للقواعد دعوى أن يُكتَب له ذلك فِي حال كفره، وأما أن الله يُضيف إلى حسناته فِي الإسلام، ثواب ما كَانَ صدر منه، مما كَانَ يظنه خيرا، فلا مانع منه، كما لو تفضل عليه ابتداء، منْ غير عمل، وكما يتفضل عَلَى العاجز بثواب ما كَانَ يعمل، هو قادر، فإذا جاز أن يكتب له ثواب ما لم يعمل البتة، جاز أن يُكتب له ثواب ما عمله، غير مُوَفَّى الشروط. وَقَالَ ابن بطال: لله أن يتفضل عَلَى عباده بما شاء، ولا اعتراض لأحد عليه. واستَدَلَّ غيره: بأن منْ آمن منْ أهل الكتاب، يؤتى أجره مرتين، كما دل عليه القرآن، والحديث الصحيح، وهو لو مات عَلَى إيمانه الأول، لم ينفعه شيء منْ عمله الصالح، بل يكون هباء منثورا، فدل عَلَى أن ثواب عمله الأول، يكتب له مضافا إلى عمله الثاني، وبقوله صلى الله عليه وسلم، لَمّا سألته عائشة رضي الله تعالى عنها عن ابن جُدْعان، وما يصنعه منْ الخير، هل ينفعه؟، فَقَالَ:"إنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين"، فدل عَلَى أنه لو قالها، بعد أن أسلم نفعه ما عمله فِي الكفر. انتهى "فتح" 1/ 138.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: سيأتي تمام البحث للمسألة قريبًا، إن شاء الله تعالى.
(ثُمَّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ) أي كتابة المجازاة، والمماثلة الشرعيّة، وضعها الله تعالى؛ فضلاً منه، ولطفًا، لا العقليّة، و"القصاص": مرفوع عَلَى أنه اسم "كَانَ"، ويجوز أن تكون "كَانَ" تامة، وعبر بالماضي؛ لتحقق الوقوع، فكأنه وقع، كقوله تعالى:{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} الآية [الأعراف: 44](الْحَسَنَةُ) مبتدأ خبره قوله (بِعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا) والجملة مستأنفة؛ استئنافًا بيانيًّا، وهو ما وقع جوابًا لسؤال مقدّر، تقديره هنا: كيف القصاص؟. وقوله: (إِلَى سَبعِمِائَةِ ضِعْفٍ) متعلّق بمقدّر: أي منتهيةً إلى سبعمائة ضعف. وحَكَى الماوردي: أن بعض العلماء أخذ بظاهر هذه الغاية، فزعم أن التضعيف لا يتجاوز سبعمائة. ورُدَّ عليه بقوله تعالى:{وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية [البقرة: 261]، والآية محتملة للأمرين، فيحتمل أن يكون المراد، أنه يضاعف تلك المضاعفة، بأن يجعلها سبعمائة، ويحتمل أنه
يضاعف السبعمائة، بأن يزيد عليها، والمُصَرِّح بالرد عليه حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المخرّج عند البخاريّ فِي "الرقاق"، ولفظه:"كتب الله له عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة".
(وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا) مبتدأ وخبر: أي تكتب بمثلها (إِلاَّ أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عز وجل عَنْهَا") زاد سمويه فِي "فوائده": "إلا أن يغفر الله، وهو الغفور"، وفيه دليل عَلَى الخوارج، وغيرهم، منْ المكفرين بالذنوب، والموجبين لخلود المذنبين فِي النار، فأول الْحَدِيث يرُدّ عَلَى منْ أنكر الزيادة والنقص فِي الإيمان؛ لأن الحسن تتفاوت درجاته، وآخره يرُدّ عَلَى الخوارج والمعتزلة. قاله فِي "الفتح" 1/ 139. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هَذَا صحيح، وهو بهذا السياق منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، فلم يخرجه منْ أصحاب الأصول موصولاً غيره، أخرجه هنا 10/ 5000. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): ذكر الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" هَذَا الْحَدِيث معلّقًا، فَقَالَ: قَالَ مالك: أخبرني زيد بن أسلم، أن عطاء بن يسار أخبره، أن أبا سعيد الخدريّ أخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا أسلم العبد
…
" فذكره.
قَالَ فِي "الفتح": هكذا ذكره معلقًا، ولم يوصله فِي موضع آخر، منْ هَذَا الكتاب، وَقَدْ وصله أبو ذر الهروي فِي روايته لـ"لصحيح"، فَقَالَ عقبه: أخبرناه النضروي، هو العبّاس بن الفضل، قَالَ: حدثنا الحسن بن إدريس، قَالَ: حدثنا هشام بن خالد، حدثنا الوليد بن مسلم، عن مالك به، وكذا وصله النسائيّ، منْ رواية الوليد بن مسلم، حدثنا مالك، فذكره أتم مما هنا، وكذا وصله الحسن بن سفيان، منْ طريق عبد الله بن نافع، والبزار منْ طريق إسحاق الفروي، والإسماعيلي، منْ طريق عبد الله بن وهب، والبيهقي فِي "الشعب" منْ طريق إسماعيل بن أبي أويس، كلهم عن مالك، أخرجه الدارقطنيّ، منْ طرق أخرى، عن مالك، وذكر أن معن بن عيسى، رواه عن مالك، فَقَالَ:"عن أبي هريرة" بدل "أبي سعيد"، وروايته شاذة. ورواه سفيان بن عيينة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء مرسلاً، قَالَ الحافظ: ورويناه فِي "الخلعيات"، وَقَدْ حفظ مالك الوصل فيه، وهو أتقن لحديث أهل المدينة منْ غيره. وَقَالَ الخطيب: هو حديث ثابت، وذكر البزار أن مالكا تفرد بوصله. انتهى "فتح" 1/ 137. والله تعالى أعلم
بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي قبول حسنات الكافر بعد إسلامه: لقد أجاد الحافظ المحقّق ابن رَجَب رحمه الله تعالى فِي "شرح البخاريّ" حيث كتب بحثًا نفيسًا، تقدّم خلاصته، لكن لَمّا اشتمل فِي سياقه الطويل منْ التفصيل، والتحقيق أحببت إيراده هنا؛ تتميمًا للفائدة، وتكميلاً للعائدة، قَالَ رحمه الله تعالى:
إحسان الإسلام يُفسر بمعنيين: [أحدهما]: بإكمال واجباته، واجتناب محرّماته. ومنه الْحَدِيث المشهور المرويّ فِي "السنن":"منْ حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"
(1)
، فكما حسن إسلامه بترك ما لا يعنيه، وفعل ما يَعنيه. ومنه حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي خرّجاه فِي "الصحيحين" أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سُئل أنؤاخذ بأعمالنا فِي الجاهليّة؟، فَقَالَ:"منْ أحسن فِي الإسلام لم يؤاخذ بما عمل فِي الجاهليّة، ومن أساء فِي الإسلام أُخذ بالأول، والآخر". فإن المراد بإحسانه فِي الإسلام فعل واجباته، والانتهاء عن محرماته، وبالإساءة فِي الإسلام: ارتكاب بعض محظوراته التي كانت تُرتكب فِي الجاهليّة.
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه هَذَا، مع حديث أبي سعيد رضي الله عنه الذي علقه البخاريّ هنا دليل عَلَى أن الإسلام إنما يُكفّر ما كَانَ قبله منْ الكفر، ولواحقه التي اجتنبها المسلم بإسلامه، فأما الذنوب التي فعلها فِي الجاهلية إذا أصرّ عليها فِي الإسلام، فإنه يؤاخذ بها، فإنه إذا أصرّ عليها فِي الإسلام لم يكن تائبًا منها، فلا يكفر عنه بدون التوبة منها. وَقَدْ ذكر طوائف منْ العلماء، منْ أصحابنا -الحنبلية- كأبي بكر عبد العزيز بن جعفر، وغيره، وهو قول طائفة منْ المتكلّمين، منْ المعتزلة، وغيرهم، وهو اختيار الْحَلِيميّ. قَالَ ابن رَجَب: وَقَدْ وجدته منصوصًا عن الإمام أحمد، فنقل الميمونيّ فِي "مسائله" عن أحمد، قَالَ: بلغني عن أبي حنيفة أنه كَانَ يقول: لا يؤاخذ بما كَانَ فِي الجاهليّة، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يقول فِي غير حديث:"إنه يؤاخذ"، يعني حديث شقيق، عن ابن مسعود، أراد:"إذا أحسنت فِي الإسلام". انتهى. وكذلك حكى الْجُوزجانيّ عن أهل الرأي أنهم قالوا: إن منْ أسلم، وهو مُصرّ عَلَى الكبائر كفّر الإسلام كبائره كلها، ثم أنكر ذلك عليهم، وجعله منْ جملة أقوال المرجئة.
وخالف فِي ذلك آخرون، وقالوا: بل يُغفر له فِي الإسلام كلُّ ما سبق منه فِي
(1)
أخرجه الترمذيّ 2317 وابن ماجه 3976 وراجع "علل ابن أبي حاتم" 2/ 132، و" علل الدارقطنيّ" 8/ 25 - 28 وَقَدْ تكلم ابن رَجَب عليه بتوسّع فِي كتابه الحافل "جامع العلوم والحكم" وبين أن الصواب فيه الإرسال.
الجاهليّة، منْ كفر، وذنب، وإن أصرّ عليها فِي الإسلام. وهذا قول كثير منْ المتكلّمين، والفقهاء، منْ الحنابلة، وغيرهم، كابن حامد، والقاضي، وغيرهما.
واستدلّوا بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يهدِم ما كَانَ قبله"، أخرجه مسلم منْ حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.
وأجاب الأولون عنه بأن المراد أنه يَهدِم ما كَانَ قبله مما ينافيه الإسلام، منْ كفر، وشرك، ولواحق ذلك، مما يكون الإسلام توبة منه، وإقلاعًا عنه؛ جمعًا بينه وبين الحديثين المتقدّمين.
واستدلّوا بقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} الآية [الأنفال: 38].
وأجاب الأولون بأن المراد يُغفر لهم ما سلف مما انتهوا عنه. وتأول بعض أهل القرن الثاني حديث ابن مسعود رضي الله عنه عَلَى أن إساءته فِي الإسلام ارتداده عنه إلى الكفر، فيؤاخذ بكفره الأول والثاني. ومنهم منْ حمله عَلَى إسلام المنافق. وهذا بعيدٌ جدًّا. ومتى ارتدّ عن الإسلام، أو كَانَ منافقًا، فلم يبق معه إسلام حَتَّى يُسِيىءَ فيه.
والاختلاف فِي هذه المسألة مبنيّ عَلَى أصول:
[أحدها]: أن التوبة منْ ذنب تصحّ مع الإصرار عَلَى غيره. وهذا قول جمهور أهل السنّة والجماعة، والخلاف فيه عن الإمام أحمد، لا يثبت، وَقَدْ تأوّل ما رُوي عنه فِي ذلك المحقّقون منْ أصحابه، كابن شَاقَلا، والقاضي فِي كتاب "المعتمد"، وابن عقيل فِي "فصوله". وأما المعتزلة، فخالفوا فِي ذلك، وَقَالَ منْ قَالَ منهم، كالجبّائيّ؛ بناء عَلَى هَذَا: إن الكافر لا يصح إسلامه، مع إصراره عَلَى كبيرة، كَانَ عليها فِي حال كفره. وهذا قول باطل، لم يوافقهم عليه أحدٌ منْ العلماء
[الأصل الثاني]: أن التوبة، هل منْ شرط صحّتها إصلاح العمل بعدها، أم لا؟، وفي ذلك اختلاف بين العلماء، وَقَدْ ذكره، ابن حامد منْ الحنبليّة، وأشار إلى بناء الخلاف فِي هذه المسألة عَلَى ذلك، والصحيح عنده، وعند كثير منْ العلماء أن ذلك ليس بشرط.
[والأصل الثالث]: أن بعض الذنوب قد يُعفى عنها بشرط اجتناب غيرها، فإن لم يحصل الشرط، لم يحصُل ما علّق عليه. وهذا مأخذ أبي بكر عبد العزيز منْ الحنابلة، وجعل منْ هَذَا أن الصغائر إنما تكفّر باجتناب الكبائر، فإن لم يجتنب الكبائر وقعت المؤاخذة بالصغائر والكبائر. وهذا فيه خلاف، وجعل منه أن النظرة الأولى يُعفى عنها بشرط عدم المعاودة، فإن أعاد النظرة أُخذ بالأولى والثانية.
[والأصل الرابع]: أن التوبة منْ الذنب هي الندم عليه بشرط الإقلاع عنه، والعزم عَلَى عدم العود إليه، فالكافر إذا أسلم، وهو مصرّ عَلَى ذنب آخر، صحّت توبته، مما تاب منه، وهو الكفر، دون الذنب الذي لم يتُب منه، بل هو مصرّ عليه. وأخرج النسائيّ حديث مالك الذي علّقه البخاريّ هنا، وزاد فِي أوله:"كتب الله له كل حسنة كَانَ أزلفها". وهذا يشبه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام رضي الله عنه لَمّا قَالَ له: أرأيت أُمورًا، كنت أتبرّر بها فِي الجاهليّة، هل لي منها منْ سيء؟ فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أسلمت عَلَى ما أسلفت منْ خير". أخرجه مسلم. وكلاهما يدلّ عَلَى أن الكافر إذا عمل حسنة فِي حال كفره، ثم أسلم، فإنه يُثاب عليها، ويكون إسلامه المتأخّر كافيًا له فِي حصول الثواب عَلَى حسناته السابقة منه قبل إسلامه. ورجّح هَذَا القول ابن بطّال، والقرطبيّ، وغيرهما، وهو مقتضى قول منْ قَالَ: إنه يُعاقب بما أصرّ عليه منْ سيئاته إذا أسلم، كما سبق، وحُكي مثله عن إبراهيم الحربيّ، ويدلّ عليه أيضًا أن عائشة رضي الله تعالى عنها لَمّا سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ابن جُدْعان، وما كَانَ يصنعه منْ المعروف، هل ينفعه؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"إنه لم يقل يومًا قط: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين". وهذا يدلّ عَلَى أنه لو قَالَ ذلك يومًا منْ الدهر، ولو قبل موته بلحظة لنفعه ذلك.
ومما يُستدلّ به أيضًا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم في مؤمن أهل الكتاب إذا أسلم: "إنه يؤتى أجره مرتين"، متّفق عليه، مع أنه لو وافى عَلَى عمله بكتابه الأول لكان حابطًا، وهذا هو اللائق بكرم الله، وجوده، وفضله.
وخالف فِي ذلك طوائف، منْ المتكلمين، وغيرهم، وقالوا: الأعمال فِي حال الكفر حابطة، لا ثواب لها بكلّ حال، وتأوّلوا هذه النصوص الصحيحة بتأويلات مستكرهة، مستبعدة. ولذلك
(1)
منْ كَانَ له عمل صالح، فعمل سيّئة أحبطته، ثم تاب، فإنه يعود إليه ثواب ما حُبط منْ عمله بالسيّئات. وَقَدْ ورد فِي هَذَا آثار عن السلف، قَالَ ابن مسعود رضي الله عنه:"عَبدَ اللهَ رجلٌ سبعين سنة، ثم أصاب فاحشة، فاحبط الله عمله، ثم أصابته زمانة، وأُقعد، فرأى رجلاً يتصدّق عَلَى مساكين، فجاء إليه، فأخذ منه رغيفًا، فتصدّق به عَلَى مسكين، فغفر الله له، وردّ عليه عمل سبعين سنة". أخرجه ابن المبارك فِي "كتاب البر والصلة". بل عود العمل هاهنا بالتوبة أولى؛ لأن العمل الأول كَانَ مقبولاً، وإنما طرأ عليه ما يُحبطه، بخلاف عمل الكافر قبل إسلامه. ومن كَانَ مسلمًا، وعمِل صالحًا فِي إسلامه، ثم ارتدّ، ثم عاد إلى الإسلام، ففي حبوط عمله الأول بالردّة خلاف مشهور، ولا يبعد أن
(1)
قوله: "ولذلك" هكذا النسخة، والظاهر أن الصواب:"وكذلك" بالكاف بدل اللام. والله تعالى أعلم.
يقال: إنه يعود إليه بإسلامه الثاني عَلَى تقدير حبوطه. والله أعلم.
وَقَدْ وردت نصوصٌ أُخر تدلّ عَلَى أن الكافر إذا أسلم، وحسن إسلامه، فإنه تُبدّل سيئاته فِي حال كفره حسنات، وهذا أبلغ مما قبله، وهو يدلّ عَلَى أن التائب منْ ذنب تُبدل سيئاته قبل التوبة بالتوبة حسنات، كما دلّت عليه الآية فِي "سورة الفرقان"، وفي ذلك كلام يطول ذكره هاهنا. ولا يستبعد إثابة المسلم فِي الآخرة بما عمل قبل إسلامه منْ الحسنات، فإنه لابُدّ أن يثاب عليها فِي الدنيا، وفي إثابته عليها فِي الآخرة بتخفيف العذاب نزاعٌ مشهور، فإذا لم يكن بدّ منْ إثابته عليها، فلا يستنكر أن يثاب عليها بعد إسلامه فِي الآخرة؛ لأن المانع منْ إثابته عليها فِي الآخرة هو الكفر، وَقَدْ زال.
وَقَدْ يُستدلّ لهذا أيضًا بقول الله عز وجل فِي قصّة أسارى بدر: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} الآية [الأنفال: 70]، وَقَدْ كَانَ العبّاس بن عبد المطلب رضي الله عنه وهو منْ جملة هؤلاء الأسارى- يقول: أما أنا فقد آتاني الله خيرًا مما أُخذ مني وعدني المغفرة. أخرجه ابن جرير فِي "تفسيره" 10/ 35.
فهذه الآية تدلّ عَلَى أن الكافر إذا أُصيب بمصيبة فِي حال كفره، ثم أسلم، فإنه يُثاب عَلَى مصيبته، فلأن يُثاب عَلَى ما سلف منه منْ أعماله الصالحة أولى، فإن المصائب يُثاب عَلَى الصبر عليها، والرضى بها، وأما نفس المصيبة فقد قيل: إنه يُثاب عليها، وقيل: إنه لا يثاب عليها، وانما يُكفَّر عنه ذنوبه. وهذا هو المنقول عن كثير منْ الصحابة.
[والمعنى الثاني]: مما يُفسّر به إحسان الإسلام أن تقع طاعات المسلم عَلَى أكمل وجوهها، وأتمها، بحيث يستحضر العامل فِي حال عمله قرب الله تعالى منه، واطّلاعه عليه، فيعمل له عَلَى المراقبة، والمشاهدة لربّه بقلبه، وهذا هو الذي فسر النبيّ صلى الله عليه وسلم به الإحسان فِي حديث سؤال جبريل عليه السلام.
وَقَدْ دلّ حديث أبي سعيد، وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما المذكوران
(1)
عَلَى أن مضاعفة الحسنات للمسلم بحسب حسن إسلامه. وأخرج ابن أبي حاتم منْ رواية عطيّة العوفيّ، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قَالَ: نزلت {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ
(1)
42 أما حديث أبي سعيد، فهو الذي أورده النسائيّ فِي هَذَا الباب، وأما حديث أبي هريرة فما أخرجه الشيخان، واللفظ للبخاريّ، منْ طريق همام بن منبه، عنه، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أحسن أحدكم إسلامه، فكل حسنة يعملها، تكتب له بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها".
أَمْثَالِهَا} الآية [الأنعام: 160] فِي الأعراب، فَقَالَ رجلٌ: يا أبا عبد الرحمن، فما للمهاجرين؟ قَالَ: ما هو أكثر، ثم تلا قوله تعالى:{وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النِّساء: 40]. ويشهد لهذا المعنى ما ذكره الله عز وجل فِي حقّ أزواج نبيّه صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} إلى قوله: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} الآية [الأحزاب: 30 - 32]، فدلّ عَلَى أن منْ عظمت منزلته، ودرجته عند الله، فإن عمله يُضاعف له أجره. وَقَدْ تأول بعض السلف منْ بني هاشم دخول آل النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا المعنى؛ لدخول أزواجه، فلذلك
(1)
منْ حسن إسلامه بتحقيق إيمانه وعمله الصالح، فإنه يضاعف له أجر عمله، بحسب حسن إسلامه، وتحقيق إيمانه وتقواه. والله أعلم.
ويشهد لذلك أن الله ضاعف لهذه الأمة لكونها خير أمة أُخرجت للناس أجرها مرّتين، قَالَ الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} الآية [الحديد: 28].
وفي الْحَدِيث الصحيح: "إن أهل التوراة عملوا إلى نصف النهار عَلَى قيراط قيراط، وعمِل أهل الإنجيل إلى العصر عَلَى قيراط قيراط، وعمِلتم أنتم منْ العصر إلى غروب الشمس عَلَى قيراطين، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا: ما لنا أكثر عملاً، وأقلّ أجرًا؟ فَقَالَ الله: هل ظلمتكم منْ أجوركم شيئًا؟ قالوا: لا، قَالَ: فذلك فضلي أوتيه منْ أشاء".
وأما منْ أحسن عمله، وأتقنه، وعمِله عَلَى الحضور والمراقبة، فلا ريب أنه يتضاعف بذلك أجره، وثوابه فِي هَذَا العمل بخصوصه عَلَى منْ عمل ذلك العمل بعينه عَلَى وجه السهو والغفلة.
ولهذا رُوي فِي حديث عمّار رضي الله عنه المرفوع: "إن الرجل ينصرف منْ صلاته، وما كُتب له إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، حَتَّى بلغ العشر"، فليس ثواب منْ كُتب له عشر عمله كثواب منْ كتب له نصفه، ولا ثواب منْ كتب له نصفه كثواب منْ كتب له عمله كلّه. والله أعلم. انتهى كلام الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى فِي "شرح صحيح البخاريّ" 1/ 154 - 163.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تحرّر مما سبق أن الحق قول منْ قَالَ: إن الكافر
(1)
هكذا النسخة، والظاهر أن الصواب: وكل ذلك، فتأمله.
إذا أسلم وحَسُنَ إسلامه، يُكتَبُ له ما عمله منْ أعمال البرّ فِي حال كفره؛ فضلاً منْ الله سبحانه وتعالى وكرمًا ببركة إسلامه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
11 - (أَيُّ الإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟)
5001 -
(أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأُمَوِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ، وَهُوَ بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(سعيد بن يحيى بن سعيد الأمويّ) أبو عثمان البغداديّ، ثقة، ربما أخطأ [10] 43/ 737.
2 -
(أبوه) يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص الأمويّ الأمويّ، أبو أيوب الكوفيّ، نزيل بغداد، لقبه الْجَمَل، صدوقٌ، يُغرب، منْ كبار [9] 43/ 737.
3 -
(أبو بُردة بريد بن عبد الله بن أبي بردة) الكوفيّ، ثقة، يخطىء قليلاً [6] 25/ 1503.
4 -
(أبو بردة) بن أبي موسى الأشعريّ، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، ثقة [3] 3/ 3.
5 -
(أبو موسى) عبد الله بن قيس بن سُليم بن حضّار الأشعريّ الصحابيّ اليمنيّ المشهور، مات رضي الله عنه سنة (50 هـ) وقيل: بعدها، تقدّمت ترجمته فِي 3/ 3. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، وسعيد بن يحيى، وإن كَانَ بغداديًا إلا أنه كوفيّ الأصل، وفيه رواية الراوي، عن جدّه، عن أبيه. والله تعالى أعلم.
[تنبيهان]: (الأول): هَذَا الإسناد هو الذي أخرج به البخاريّ هَذَا الْحَدِيث فِي
"صحيحه". والله تعالى أعلم.
(الثاني): أن يحيى بن سعيد فِي هَذَا الكتاب أربعة: [أحدهما]: يحيى بن سعيد بن أبان الأمويّ هَذَا. [والثاني]: يحيى بن سعيد بن فرّوخ القطّان، وهما منْ الطبقة التاسعة، والقطّان أكثر رواية فِي الكتاب. [والثالث]: يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاريّ القاضي، أبو سعيد المدنيّ، منْ الطبقة الخامسة. [والرابع]: يحيى بن سعيد بن حيّان، أبو حيّان التيميّ الكوفيّ، وهو منْ الطبقة السادسة، والأنصاريّ أكثر روايةً فِي الكتاب منْ التيميّ. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي مُوسَى) الأشعريّ رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: قُلْنَا) وفي رواية البخاريّ: "قالوا": ورواه ابن منده، منْ طريق حسين بن محمد الغساني، أحد الحفاظ، عن سعيد بن يحيى هَذَا، بلفظ:"قلت"، فتعين أن السائل أبو موسى.
ولا تخالف بين الروايات؛ لأنه فِي رواية ابن منده صرّح بأنه الذي تولّى السؤال، وفي رواية المصنّف أخبر عن جماعة، هو داخل فيهم، إذ الراضي بالسؤال فِي حكم السائل، وكذا فِي رواية البخاريّ أراد الصحابة الحاضرين، وهو منهم، والحاصل أن المباشر للسؤال هو أبو موسى، وإنما نُسب إلى الآخرين تجوّزًا لرضاهم به. وَقَدْ جمع بعضهم بحمله عَلَى تعدد الواقعة، والأول أولى.
وَقَدْ سأل هَذَا السؤال أيضًا أبو ذر رضي الله عنه، رواه ابن حبّان، وعمير بن قتادة، رواه الطبراني. قاله فِي "الفتح" 1/ 79.
(يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الْإسْلَامِ أَفْضَلُ؟) فيه حذف: أيْ أيُّ ذوي الإسلام، كما يدلّ عليه الجواب، ويؤيّده رواية مَسلم:"أي المسلمين أفضل؟ "، وبه يظهر دخول "أيّ" عَلَى متعدّد. ويمكن أن يقال: المراد أيّ أفراد الإسلام أفضل. أفاده السنديّ.
وَقَالَ فِي "الفتح": [إن قيل]: الإسلام مفرد، وشرط "أَيّ" أن تدخل عَلَى متعدد. [أجيب]: بأن فيه حذفا تقديره: أي ذوي الإسلام أفضل؟، ويؤيده رواية مسلم:"أي المسلمين أفضل"، والجامع بين اللفظين، أن أفضلية المسلم حاصلة بهذه الخصلة، وهذا التقدير أولي منْ تقدير بعض الشراح هنا: أيُّ خصال الإسلام؟، وإنما قلت: إنه أولي؛ لأنه يلزم عليه سؤال آخر، بأن يقال: سُئِل عن الخصال، فأجاب بصاحب الخصلة، فما الحكمة فِي ذلك؟. وَقَدْ يجاب بأنه يتأتّى، نحوَ قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} الآية [البقرة: 215]، والتقدير "بأيُّ ذوي الإسلام؟ " يقع الجواب مطابقا له، بغير تأوبل.
[فإن قيل]: "أفضل" أفعل تفضيل، وَقَدْ تقرّر فِي محلّه أن أفعل التفضيل لا يُستعمل إلا بأحد الأوجه الثلاثة، وهي: الإضافة،، و"منْ"، واللام، ولا يوجد شيء منها هنا.
[أجيب]: بأنه يجوز تجريده منْ كلها عند العلم به، نحو قوله تعالى:{يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7] أي وأخفى منْ السرّ. وقولك: "الله أكبر": أي أكبر منْ كلّ شيء، فالتقدير هنا: أفضل منْ غيره، ومعنى الأفضل: هو اكثر ثوابًا عند الله تعالى، كما تقول: الصدق أفضل منْ غيره: أي هو أكثر ثوابًا عند الله تعالى منْ غيره. أفاده فِي "عمدة القاري" 1/ 153 - 154.
[تنبيه]: وقع التعبير فِي حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هنا بلفظ: "أفضل"، وفي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما الآتي فِي الباب التالي بلفظ "خير"، فَقَالَ الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى: والذي ظهر لي فِي الفرق بين "أفضل"، و"خير" أن لفظة "أفضل" إنما تستعمل فِي شيئين اشتركا فِي غير فضل، وامتاز أحدهما عن الآخر بفضل اختص به، فهذا الممتاز قد شار ذاك فِي الفضل، واختصّ عنه بفضل زائد، فهو ذاك. وأما لفظة "خير" فتستعمل فِي شيئين، فِي كلّ منهما نوع منْ الخير، أرجح مما فِي الآخر، سواء كَانَ لزيادة عليه فِي ذاته، أو فِي نفعه، أو غير ذلك، وإن اختلف جنساهما، فترجيح أحدهما عَلَى الآخر يكون بلفظة "خير"، فيقال مثلاً: النفع المتعدّي خير منْ النفع القاصر، وإن كَانَ جنسهما مختلفًا، ويقال: زيد أفضل منْ عمرو، إذا اشتركا فِي علم، أو دين، ونحو ذلك، وامتاز أحدهما عَلَى الآخر بزيادة. وإن استُعمل فِي النوع الأول لفظة "أفضل"، مع اختلاف الجنسين، فقد يكون المراد أن ثواب أحدهما أفضل منْ ثواب الآخر، وأزيد منه، فقد وقع الاشتراك فِي الثواب، وامتاز أحدهما بزيادة منه.
وحينئذ فمن سلم المسلمون منْ لسانه ويده إسلامه أفضل منْ إسلام غيره، ممن ليس كذلك؛ لاشتراكهما فِي الإتيان بحقوق الله تعالى فِي الإسلام منْ الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ونحو ذلك، وامتاز أحدهما بالقيام بحقوق المسلمين، فصار هَذَا الإسلام أفضل منْ ذلك.
وأما المسلم: فيقال: هَذَا أفضل منْ ذاك؛ لأن إسلامه أفضل منْ إسلامه، ويقال: هو خير منْ ذاك؛ لترجح خيره عَلَى خير غيره، وزيادته عليه. انتهى "شرح البخاريّ" لابن رَجَب رحمه الله تعالى 1/ 40 - 41.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)"منْ": موصولة، عَلَى حذف مضاف، خبرٌ لمحذوف: أي هو إسلام منْ سلم الخ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه
المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -11/ 5001 وفي "الكبرى" 11/ 11730. وأخرجه (خ) فِي "الإيمان" 11 (م) فِي "الإيمان" 42 (ت) فِي "صفة القيامة" 2504 و"الإيمان" 2628. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان أفضل خصال الإسلام. (ومنها): أن فيه تفاوت المسلمين فِي درجاتهم عند الله تعالى عَلَى حسب تفاوت أعمالهم الصالحة. (ومنها): الحث عَلَى الاجتناب منْ إيذاء المسلمين بيد، أو لسان. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
12 - (أَيُّ الإِسْلَامِ خَيْرٌ؟)
5002 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَيُّ الإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: "تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير مرّة.
و"الليث": هو ابن سعد الإمام المصريّ. و"يزيد بن أبي حبيب" سُويد: هو أبو رجاء المصريّ الثقة الفقيه [5] 134/ 207. و"أبو الخير": هو مَرْثد بن عبد الله الْيَزنيّ المصريّ الثقة الفقيه [3] 38/ 582.
والسند مسلسل بثقات المصريين، غير شيخه، فإنه بغلانيّ، وَقَدْ دخل مصر أيضًا، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بن العاص رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ رَجُلاً) قَالَ الحافظ: لم أعرف اسمه، وقيل: إنه أبو ذر رضي الله عنه، وفي ابن حبّان أن هانىء بن يزيد، والد شُريح سأل عن معنى ذلك، فأجيب بنحو ذلك.
(سَأَلَ رَسُولَ اللهِ) وفي رواية البخاريّ: "النبيّ"(صلى الله عليه وسلم، أَيُّ الإِسْلَام خَيْرٌ؟) فيه ما فِي الذي قبله منْ السؤال، والتقديرُ: أيُّ خصال الإسلام خير؟، قدره فيَ "الفتح": وَقَالَ: وإنما لم أختر تقدير "خصال" فِي الأول؛ فرارا منْ كثرة الحذف، وأيضًا فتنويع التقدير، يتضمن جواب منْ سأل، فَقَالَ: السؤالان بمعنى واحد، والجواب يختلف، فيقال له: إذا لاحظت هذين التقديرين، بَانَ الفرقُ. ويمكن التوفيق بأنهما متلازمان، إذ الإطعام مستلزم لسلامة اليد، والسلام لسلامة اللسان، قاله الكرماني، وكأنه أراد فِي الغالب. ويحتمل أن يكون الجواب اختلف لاختلاف السؤال عن الأفضلية، إن لُوحظ بين لفظ "أفضل"، ولفظ "خير" فرق. وَقَالَ الكرماني: الفضل بمعنى كثرة الثواب فِي مقابلة القلة، والخير بمعنى النفع فِي مقابلة الشر، فالأول منْ الكمية، والثاني منْ الكيفية، فافترقا.
واعتُرِض بأن الفرق لا يتم، إلا إذا اختص كل منهما بتلك المقولة، أما إذا كَانَ كل منهما يُعقَل تأتيه فِي الأخرى فلا، وكأنه بنى عَلَى أن لفظ "خير" اسم، لا أفعل تفضيل، وعلى تقدير اتحاد السؤالين جواب مشهور، وهو الحمل عَلَى اختلاف حال السائلين، أو السامعين، فيمكن أن يراد فِي الجواب الأول، تحذيرُ منْ خَشِيَ منه الايذاء بيد، أو لسان، فأَرشد إلى الكف، وفي الثاني ترغيب منْ رَجَى فيه النفع العام بالفعل والقول، فأَرشد إلى ذلك، وخَصّ هاتين الخصلتين بالذكر؛ لمسيس الحاجة إليهما فِي ذلك الوقت؛ لما كانوا فيه منْ الجهد، ولمصلحة التأليف، ويدل عَلَى ذلك أنه عليه الصلاة والسلام حَثّ عليهما أول ما دخل المدينة، كما رواه الترمذيّ وغيره، مصححا منْ حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه
(1)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (تُطْعِمُ الطَّعَامَ) برفع الفعل، وهو فِي تقدير الحرف المصدريّ، أي أن تطعم، خبر لمحذوف: أي هو إطعامك الطعام، ونظيره:"تسمعُ بالمعيديّ خير منْ أن تراه"، وحذف "أن" ورفع الفعل جائز فِي سعة الكلام، وهو مذهب الأخفش منْ
(1)
ولفظه: "أيها النَّاس، أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصِلُوا الأرحام، وصلّوا بالليل، والناس نِيَام، تدخلوا الجنة بسلام".
النحاة، وقوّاه ابن مالك فِي "التسهيل"، ومنه قول الله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} الآية، والتقدير: أن يريكم. وإنما الشاذّ حذف "أن"، ونصب الفعل، كما فِي قول الشاعر:
أَلَا أَيُّهَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الْوَغَى
…
وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي
وإلى هَذَا أشار فِي "الخلاصة" بقوله:
وَشَذَّ حَذْفُ "أَنْ" وَنَصْبٌ فِي سِوَى
…
مَا مَرَّ فَاقْبَلْ مِنْهُ مَا عَدْلٌ رَوَى
(1)
(وَتَقْرَأُ السَّلَامَ) بلفظ مضارع القراءة، بمعنى تقول. قَالَ أبو زيد: أقرئني خبرًا: أخبرني به. وَقَالَ أبو حاتم السجستاني: يقال: اقرأ عليه السلام، وأقرئه الكتاب، ولا يقال: أقرئه السلام، إلا أن يكون مكتوبا فِي كتاب، ويقال: أقرئه إياه، ولا يقال: أقرئه السلام، إلا فِي لغة شنوءة. قاله ابن بطال "شرح البخاريّ" 1/ 64. وَقَالَ الفيّوميّ: وقرأت عَلَى زيد السلام أقرؤه عليه قراءةً، وإذا أمرت منه قلت: اقرأ عليه السلام. قَالَ الأصمعيّ: وتعديته بنفسه خطأٌ، فلا يقال: اقرأه السلام؛ لأنه بمعنى اتل عليه. وحكى ابن القطاع أنه يتعدّى بنفسه رباعيًّا، فيقال: فلانٌ يُقرئك السلام. انتهى.
(عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعرِفْ") أي لا تُخصّ به أحدا؛ تكبرًا، أو تصنعًا، بل تعظيما لشعار الإسلام، ومراعاة لأخُوّة المسلم، فهذا أفضل أنواع إفشاء السلام، ويخرج منْ عموم ذلك منْ لا يجوز ابتداؤه بالسلام، كأهل الكتاب، عند جمهور العلماء
(2)
.
قَالَ الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى: جعل النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْحَدِيث خير الإسلام إطعام الطعام، وإفشاء السلام. وفي "المسند" 4/ 385 عن عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه أنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما الإسلام؟ قَالَ: "لين الكلام، وإطعام الطعام". ومراده الإسلام التامّ الكامل، وهذه الدرجة فِي الإسلام فضلٌ، وليست واجبةً، إنما هي إحسان. وأما سلامة المسلمين منْ اللسان واليد، فواجبة، إذا كانت منْ غير حقّ، فإن كانت السلامة منْ حقّ كَانَ أيضًا فضلاً. وَقَدْ جمع الله تعالى بين الأَفْضَال بالنداء
(3)
، وترك الأذى فِي وصف المتّقين فِي قوله تعالى:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]، فهذا إحسان وفضل، وهو بذل الندى، واحتمال الأذى.
(1)
راجع شرح ابن عقيل عَلَى الخلاصة، مع حاشية الخضريّ 2/ 183.
(2)
انظر "شرح البخاريّ للحافظ ابن رَجَب" 1/ 44.
(3)
هكذا النسخة، ولعل الصواب بالندى بالفتح مقصورًا، وهو العطاء، وعليه يدلّ آخر كلامه. والله أعلم.
وجمع فِي الْحَدِيث بين إطعام الطعام، وإفشاء السلام؛ لأنه به يجتمع الإحسان بالقول والفعل، وهو أكمل الإحسان، وإنما كَانَ هَذَا خير الإسلام بعد الإتيان بفرائض الإسلام، وواجباته، فمن أتى بفرائض الإسلام، ثم ارتقى إلى درجة الإحسان إلى النَّاس، كَانَ خيرًا ممن لم يرتق إلى هذه الدرجة، وأفضل أيضًا، وليس المراد أن منْ اقتصر عَلَى هذه الدرجة، فهو خير منْ غيره مطلقًا، ولا أن إطعام الطعام، ولين الكلام خير منْ أركان الإسلام، ومبانيه الخمس، فإن إطعام الطعام، والسلام لا يكونان منْ الإسلام إلا بالنسبة إلى منْ منْ آمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر.
وَقَدْ زعم الحكيميّ
(1)
وغيره أنه قَالَ: خير الأشياء كذا، والمراد تفضيله منْ وجه دون وجه، وفي وقت دون وقت، أو لشخص دون شخص، ولا يراد تفضيله عَلَى الأشياء كلها، أو أن يكون المراد أنه منْ خير الأشياء، لا خيرها مطلقًا.
وهذا فيه نظرٌ، وهو مخالف للظاهر، ولو كَانَ هَذَا حقّا لما احتيج إلى تأويل قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لمن قَالَ له: يا خير البريّة، فَقَالَ:"ذاك إبراهيم عليه السلام"، وَقَدْ تأوله الأئمة، فَقَالَ الإمام أحمد: هو عَلَى وجه التواضع. ولكن هَذَا يقرب منْ قول منْ تأول "أفضل" بمعنى "فاضل"، وَقَالَ: إن "أفعل" لا تقتضي المشاركة، وهذا غير مطّرد عند البصريين، ويتأول ما ورد منه، وحكي عن الكوفيين أنه مطّردٌ، لا يحتاج إلى تأويل. انتهى كلام ابن رَجَب "شرح البخاريّ" 1/ 42 - 44.
[تنبيه]: أخرج مسلم منْ طريق عمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبي حبيب، بهذا الإسناد نظير هَذَا السؤال، لكن جعل الجواب، كالذي فِي حديث أبي موسى، فادعى ابن منده فيه الاضطراب. [وأجيب]: بأنهما حديثان اتحد إسنادهما، وافق أحدهما حديث أبي موسى رضي الله عنه، ولثانيهما شاهد منْ حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه، كما تقدّم. قاله فِي "الفتح" 1/ 82. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان،
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -12/ 5002 - وفي "الكبرى" 12/ 11731. وأخرجه (خ) فِي "الإيمان"
(1)
هكذا النسخة "الحكيميّ"، ولعله مصحّف منْ "الْحَليميّ"، والله أعلم.
12 (م) فِي "الإيمان" 39 (د) فِي "الأدب" 5194 (ق) فِي "الأطعمة" 3253 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 6545 و6809، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان خير خصال الإسلام.
(ومنها): أن فيه حثًّا عَلَى إطعام الطعام، ومواساة المحتاجين، واستجلاب قلوب النَّاس به، وببذل السلام، لأنه ليس شيء أجلب للمحبة، وأثبت للمودّة منهما، وَقَدْ مدح الله عز وجل المطعم للطعام، فَقَالَ:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} الآية [الإنسان: 8]، ثم ذكر الله تعالى جزيل ما أثابهم عليه، فَقَالَ:{فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} الآيات [الإنسان: 11]، ووصف سبحانه وتعالى منْ لم يُطعم بقوله فِي وصف أهل النار:{قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} الآية [المدثر: 43 - 44]. وعاب منْ أراد أن يحرِم طعامه أهل الحاجة إليه، فذكر أهل الجنة:{إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} إلى {كَالصَّرِيمِ} -يعني المقطوع- فأذهب الله تعالى ثمارهم، وحرمهم إياها، حين قصدوا الاستئثار بها دون المساكين. أفاده ابن بطال "شرح البخاريّ" 1/ 64.
(ومنها): أن فيه الحثّ عَلَى إفشاء السلام الذي هو دليل عَلَى خفض الجناح للمسلمين، والتواضع، والحثّ عَلَى تألف قلوبهم، واجتماع كلمتهم، وتوادّهم، ومحبّتهم. (ومنها): الإشارة إلى تعميم السلام، وهو أن لا يخصّ به أحدا دون أحد، كما يفعله الجبابرة؛ لأن المؤمنين كلهم إخوة، وهم متساوون فِي رعاية الأخوّة، ثم إن هَذَا العميم مخصوص بالمسلمين، فلا يسلّم ابتداء عَلَى كافر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تبدءوا اليهود، ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتهم فِي الطريق، فاضطرّوهم إلى أضيقه"، رواه البخاريّ، وكذلك خُصّ منه الفاسق بدليل آخر، وأما منْ شُكّ فيه، فالأصل فيه البقاء عَلَى العموم، حَتَّى يثبت الخصوص، ويمكن أن يقال: إن الْحَدِيث كَانَ فِي ابتداء الإسلام لمصلحة التأليف، ثم ورد النهي. قاله فِي "عمدة القاري" 1/ 156 - 157. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي الأسئلة والأجوبة التي ذكروها فِي هَذَا الْحَدِيث:
(منها): ما قيل: لم قَالَ: "تطعم الطعام"، ولم يقل: تؤكل، ونحوه منْ الألفاظ الدالة عليه؟. [أجيب]: بأن لفظة الإطعام عام يتناول الأكل، والشرب، والذوق، قَالَ الشاعر:
وَإِشِئِتِ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ
…
وَإشِئْتِ لم أَطْعَمْ نُقَاخًا وَلَا بَرْدَا
فإنه عطف البرد الذي هو النوم، والنُّقاخ بضم النون، وبالقاف، والخاء المعجمة-: الذي هو الماء العذب، وَقَالَ تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} : أي ومن لم يذقه، منْ طَعِم الشيءَ: إذا ذاقه، وبعمومه يتناول الضيافة، وسائر الولائم، وإطعام الفقراء، وغيرهم. قاله العينيّ. "عمدة القاري" 1/ 157.
(ومنها): ما قيل: إن باب أطعم يقتضي مفعولين، يقال: أطعمته الطعام، فما هو المفعول الثاني هنا، ولم حذف؟.
[أجيب]: بأن المفعول الثاني مقدّر: أي تعطم الخلق الطعام، وإنما حُذف للإشارة إلى أن إطعام الطعام غير مختصّ بأحد، سواء كَانَ المطعَم مسلمًا، أو كافرًا، أو حيوانًا آخر، وسواء كَانَ الإطعام، فرضًا، أو سنة، أو مستحبًّا. أفاده فِي "عمدة القاري" أيضًا 1/ 157.
(ومنها): ما قيل: لم قَالَ: "وتقرأ السلام"، ولم يقل: وتسلّم. [وأجيب]: بأنه يتناول سلام الباعث بالكتاب المتضمّن للسلام. وفيه إشارة أيضًا إلى أن تحيّة المسلمين بلفظ السلام، وزيدت لفظة القراءة تنبيهًا عَلَى تخصيص هذه اللفظة فِي التحيّات، مخالفة لتحايا أهل الجاهليّة بألفاظ وضعوها لذلك.
(ومنها): ما قيل: اللفظ عام، فيدخل الكافر، والمنافق، والفاسق. [وأجيب]: بأنه خص بأدلة أخرى، أو أن النهى متأخّر، وكان هَذَا عاما لمصلحة التأليف، وأما منْ شك فيه فالأصل البقاء عَلَى العموم، حَتَّى يثبت الخصوص.
(ومنها): ما قيل: لم خصّ هاتين الخصلتين فِي هَذَا الْحَدِيث؟. [وأجيب]: بأن المكارم لها نوعان: [أحدهما]: مالية، أشار إليها بقوله:"تُطعم الطعام". [والآخر]: بدنيّةٌ أشار إليها بقوله: "وتقرأ السلام". ويقال: وجه تخصيص هاتين الخصلتين هو مساس الحاجة إليهما فِي ذلك الوقت؛ لما كانوا فيه منْ الجهد، ولمصلحة التأليف، ويدلّ عَلَى ذلك أنه صلى الله عليه وسلم حثّ عليهما أول ما دخل المدينة، كما رواه الترمذيّ، مصححًا، منْ حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه، قَالَ: أول ما قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، انجفل النَّاس إليه، فكنت ممن جاءه، فلما تأملت وجهه، واشتبهته، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذّاب، قَالَ: وكان أول ما سمعت منْ كلامه أن قَالَ: "أيها النَّاس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصَلُّوا بالليل، والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام". وَقَالَ الخطّابيّ رحمه الله تعالى: جعل صلى الله عليه وسلم أفضلها إطعام الطعام الذي هو قوام الأبدان، ثم جعل خير الأقوال فِي البر والإكرام إفشاءَ السلام الذي يعمّ، ولا يخصّ منْ عرف، ومن لم يعرف، حَتَّى يكون خالصًا لله تعالى، بريئًا منْ حظّ النفس، والتصنّع؛ لأنه
شعار الإسلام، فحقّ كلّ مسلم فيه شائعٌ، وفي "مسند الإمام أحمد" 1/ 405 - 406 - عن ابن مسعود رضي الله عنه، مرفوعًا:"إن منْ أشراط الساعة السلام للمعرفة".
(ومنها): ما قيل: جاء فِي الجواب هاهنا أن الخير أن تطعم الطعام، وفي الْحَدِيث الذي قبله أنه منْ سلم المسلمون منْ لسانه ويده، فما وجه التوفيق بينهما؟. وأجيب بأن الجوابين كانا فِي وقتين، فأجاب فِي كل وقت بما هو الأفضل فِي حقّ السامع، أو أهل المجلس، فقد يكون ظهر منْ أحدهما قلّة المراعاة ليده ولسانه، وإيذاء المسلمين، ومن الثاني إمساك الطعام، وتكبّر، فأجابهما عَلَى حسب حالهما، أو علم صلى الله عليه وسلم أن السائل الأول يسأل عن أفضل التروك، والثاني عن خير الأفعال، أو أن الأول يسأل عما يدفع المضارّ، والثاني عما يجلُب المسارّ، أو أنهما بالحقيقة متلازمان، إذ الإطعام مستلزم لسلامة اليد، والسلام لسلامة اللسان غالبًا. أفاد هَذَا الأسئلة والأجوبة فِي "عمدة القاري" 1/ 157، وهي وإن كَانَ بعضها تقدّم خلال شرح الْحَدِيث، إلا أن كونها مجموعة فِي محلّ واحد أتمّ فائدة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
13 - (عَلَى كَمْ بُنِيَ الإِسْلَامُ؟)
5003 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعَافَى يَعْنِي ابْنَ عِمْرَانَ- عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلاً قَالَ لَهُ: أَلَا تَغْزُو؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كَلهم رجال الصحيح، غير شيخه "محمد بن عبد الله بن عمّار" المُخَرِّميّ الأزديّ، أبي جعفر، نزيل الموصِل، فإنه منْ أفراده، وهو ثقة حافظ [10] 20/ 1220.
و"المعافَى بن عمران": هو الأزديّ، أبو مسعود الموصليّ، ثقة عابدٌ فقيهٌ، منْ كبار [9] 36/ 1271. و"حنظلة بن أبي سفيان": هو الْجُمَحيّ المكيّ، ثقة حجة [6] 12/ 12. و"عكرمة بن خالد": هو ابن سعيد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزوميّ المكيّ، ثقة [3] 37/ 940.
[تنبيه]: عكرمة هَذَا ثقة متَّفقٌ عليه، وفي طبقته عكرمة بن خالد بن سلمة بن هشام ابن المغيرة المخزومي، وهو ضعيف، وليس له فِي الكتب الستة شيء، فينبغي التنبّه لهذا؛ لشدة التباسهما، ويفترقان بشيوخهما، ولم يرو الضعيف عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما. راجع ترجمته فِي "تهذيب التهذيب" 3/ 132. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ رَجُلاً) اسم الرجل السائل حكيم، ذكره البيهقي (قَالَ لَهُ: أَلَا تَغْزُو؟) أي ألا تخرج للجهاد فِي سبيل الله (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ) كأن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فهم أن السائل يرى أن الجهاد منْ أركان الإسلام، فأجاب بما ذكره، وإلا فلا يصحّ التمسّك بهذا الْحَدِيث فِي ترك ما يُذكَر فيه، منْ الجهاد وغيره، كما هو ظاهرٌ (بُنِيَ الإِسْلَامُ) فعل ونائب فاعله (عَلَى خَمْسٍ) أي خمس دعائم، وصرح به عبد الرزاق فِي روايته، أو قواعد، أو خصال، وفي رواية لمسلم "عَلَى خمسة": أي أشياء، أو أركان، أو أصول، ويقال: إنما حُذف الهاء؛ لكون التمييز لم يذكر، كقوله تعالى:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]: أي عشرة أيام، وكقوله صلى الله عليه وسلم:"منْ صام رمضان، فأتبعه ستّا منْ شوّال"، ونحو ذلك. وَقَدْ ذكر النحاة أن أسماء العدد إنما تذكّر، وتؤنث إذا كَانَ المعدود مذكورًا، وأما إذا حُذف، أو قُدّم جاز الأمران. راجع شروح "الخلاصة" فِي "باب العدد".
قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: قوله: "بُني الإسلام": يريد أنه لابدّ منْ اجتماع هذه الأمور الخمسة؛ ليكون الإسلام سالمًا عن خطر الزوال، وكلّما زال واحد منْ هذه الأمور يُخاف زوال الإسلام بتمامه، وللتنبيه عَلَى هَذَا المعنى أتى بلفظ البناء، وفيه تشبيه الإسلام ببيت مخمّسة زواياه، وتلك الزوايا أجزاؤه، فبوجودها أجمع يكون البيت سالمًا، وعند زوال واحد يُخاف على تمام البيت، وإن كَانَ قد يبقى معيبًا أيامًا. والله تعالى أعلم. انتهى.
وَقَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: يعني أن هذه الخمس أساس دين الإسلام، وقواعده عليها تُبنى، وبها تقوم، وإنما خصّ هذه بالذكر، ولم يذكر معها الجهاد، مع أنه به ظهر الدين، وانقمع به عُتاة الكافرين؛ لأن هذه الخمس فرض دائم عَلَى الأعيان، ولا تسقط عمن اتّصف بشروط ذلك، والجهاد منْ فروض الكفايات، وَقَدْ يسقط فِي بعض الأوقات، بل وَقَدْ صار جماعة كثيرةٌ إلى أن فرض الجهاد قد سقط بعد فتح مكة، وذُكر أنه مذهب ابن عمر، والثوريّ، وابن سيرين، ونحوه لسحنون منْ
المالكيّة، إلا أن ينزل العدوّ بقوم، أو يأمر الإمام بالجهاد، فيلزم عند ذلك، وَقَدْ ظهر منْ عدول ابن عمر عن جواب الذي قَالَ له: ألا تغز؟ إلى جوابه بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام عَلَى خمس" أنه كَانَ لا يرى فرضية الجهاد فِي ذلك الوقت خاصّةً، أو عَلَى أنه يرى سقوطه مطلقًا، كما نُقل عنه. انتهى "المفهم" 1/ 168 - 169.
وَقَالَ الشيخ عزّ الدين ابن عبد السلام رحمه الله تعالى فِي "أماليه" فِي هَذَا الْحَدِيث إشكالٌ؛ لأن الإسلام إن أريد به الشهادة، فهو مبنيّ عليها؛ لأنها شرط فِي الإيمان، مع الإمكان الذي هو شرط فِي الخمس، وإن أريد به الإيمان، فكذلك؛ لأنه شرط، وإن أريد به الانقياد، والانقياد هو الطاعة، والطاعة فعل المأموربه، والمأمور به هي هذه الخمس، لا عَلَى سبيل الحصر، فيلزم بناء الشيء عَلَى نفسه.
قَالَ: والجواب أنه التذلّل العام الذي هو اللغويّ، لا التذلّل الشرعيّ الذي هو فعل الواجبات، حَتَّى يلزم بناء الشيء عَلَى نفسه. ومعنى الكلام: أن التذلّل اللغويّ يترتّب عَلَى هذه الأفعال، مقبولاً منْ العبد، طاعةً، وقربةً.
وَقَالَ فِي موضع آخر: [إن قيل]: هذه الخمس هي الإسلام، فما المبنيّ عليه؟.
[فالجواب]: أن المبنيّ هو الإسلام الكامل، لا أصل الإسلام. انتهى ذكره فِي "زهر الربى" 8/ 108.
وَقَالَ فِي "الفتح": [فإن قيل]: الأربعة المذكورة مبنية عَلَى الشهادة، إذ لا يصح شيء منها، إلا بعد وجودها، فكيف يُضم مبنى إلى مبنى عليه، فِي مسمى واحد؟.
[أجيب]: بجواز ابتناء أمر عَلَى أمر، ينبني عَلَى الأمرين أمر آخر. [فإن قيل]: المبنيّ لابد أن يكون غير المبنيّ عليه. [أجيب]: بأن المجموع غيرٌ منْ حيثُ الانفراد، عينٌ منْ حيث الجمع، ومثاله البيت منْ الشَّعَر، يُجعَل عَلَى خمسة أعمدة: أحدها أوسط، والبقية أركان، فما دام الأوسط قائما، فمُسمَّى البيت موجود، ولو سقط مهما سقط منْ الأركان، فإذا سقط الأوسط، سقط مسمى البيت، فالبيت بالنظر إلى مجموعه شيء واحد، وبالنظر إلى أفراده أشياء، وأيضًا فبالنظر إلى أُسّه وأركانه، الأُسُّ أصل، والأركان تبع، وتكملة.
[تنبيه]: لم يذكر الجهاد؛ لأنه فرض كفاية، ولا يتعين إلا فِي بعض الأحوال، ولهذا جعله ابن عمر جواب السائل، وزاد فِي رواية عبد الرزاق فِي آخره:"وأن الجهاد منْ العمل الحسن"، وأغرب ابن بطال، فزعم أن هَذَا الْحَدِيث، كَانَ أول الإسلام، قبل فرض الجهاد. وفيه نظر، بل هو خطأٌ؛ لأن فرض الجهاد كَانَ قبل وقعة بدر، وبدر كانت فِي رمضان، فِي السنة الثانية، وفيها فُرِض الصيام، والزكاة بعد ذلك، والحج بعد
ذلك، عَلَى الصحيح. انتهى "فتح" 1/ 72 - 73.
وقوله: (شَهَادَةِ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) وما بعدها، مخفوض عَلَى البدل منْ "خمس"، ويجوز الرفع عَلَى حذف الخبر، والتقدير: منها شهادة أن لا إله الا الله، أو عَلَى حذف المبتدإ، والتقدير: أحدها: شهادة أن لا إله الا الله، ويجوز النصب عدى تقدير فعل: أي أعني شهادة أن لا إله إلا الله.
[فإن قيل]: لم يذكر الإيمان بالأنبياء، والملائكة، وغير ذلك، مما تضمنه سؤال جبريل عليه السلام. [أجيب]: بأن المراد بالشهاده تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، فيستلزم جميع ما ذُكر، منْ المعتقدات. وَقَالَ الإسماعيلي: ما مُحَصَّله: هو منْ باب تسمية الشيء ببعضه، كما تقول: قرأت "الحمد" وتريد جميع الفاتحة، وكذا تقول مثلا: شهدت برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وتريد جميع ما ذُكِر، والله تعالى أعلم. قاله فِي "الفتح" 1/ 73.
(وَإِقَامِ الصَّلَاةِ) المراد بإقام الصلاة: المداومة عليها، أو مطلق الإتيان بها (وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) المراد بإيتائها إخراج جزء منْ المال، عَلَى وجه مخصوص (وَالْحَجِّ) أي قصد بيت الله الحرام للعبادة المخصوصة (وَصِيَامِ رَمَضَانَ") أي الإمساك فِي نهار شهر رمضان عن المفطّرات مع النيّة.
[تنبيه]: وقع هنا تقديم الحج عَلَى الصوم، وعليه بني البخاريّ ترتيبه، لكن وقع فِي مسلم منْ رواية سعد بن عُبيدة، عن ابن عمر بتقديم الصوم عَلَى الحج، قَالَ: فَقَالَ رجل: "والحج، وصيام رمضان"، فَقَالَ ابن عمر: لا، "صيام رمضان، والحج"، هكذا سمعت منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى، ففي هَذَا إشعار بأن رواية حنظلة التي فيها تقديم الحج مروية بالمعنى، إما لأنه لم يسمع رد ابن عمر عَلَى الرجل؛ لتعدد المجلس، أو حضر ذلك، ثم نسيه، ويبعد ما جَوَّزه بعضهم، أن يكون ابن عمر سمعه منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الوجهين، ونسي أحدهما عند رده عَلَى الرجل، ووجه بعده أن تطرق النسيان إلى الراوي عن الصحابيّ أولي، منْ تطرقه إلى الصحابيّ، وكيف؟ وفي رواية مسلم منْ طريق حنظلة، بتقديم الصوم عَلَى الحج، ولأبي عوانة منْ وجه آخر، عن حنظلة، أنه جعل صوم رمضان قبلُ، فتنويعه دال عَلَى أنه رَوَى بالمعنى، ويؤيده ما وقع عند البخاريّ فِي "التفسير" بتقديم الصيام عَلَى الزكاة، أفيقال: إن الصحابيّ سمعه عَلَى ثلاثة أوجه؟، هَذَا مستبعد، والله أعلم.
[فائدة]: اسم الرجل الذي ردّ عليه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فِي تقديمه الحجّ على الصيام يزيد بن بِشر السكسكي، ذكره الخطيب البغداديّ رحمه الله تعالى فِي
"مبهماته". قاله فِي "الفتح" 1/ 73 - 74. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -13/ 5003 وفي "الكبرى" 13/ 11732. وأخرجه (خ) فِي "الإيمان" 8 (م) فِي "الإيمان" 16 (ت) فِي "الإيمان" 2609 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 4783 و5639 و5979 و6265. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان عدد ما بُنِيَ عليه الإسلام، وهو هذه الخمس. (ومنها): أن ظاهر الْحَدِيث يدلّ عَلَى أن الشخص لا يكون مسلمًا عند ترك شيء منها، وهذا بالنسبة للشهادة مجمع عليه، وأما بقية الأركان ففيها اختلاف بين العلماء، سيأتي تحقيقه فِي المسألة التالية، إن شاء الله تعالى. (ومنها): أن هذه الأشياء منْ فروض الأعيان، لا يسقط شيء منها بإقامة البعض له عن الباقين. (ومنها): جواز إطلاق "رمضان" منْ غير إضافة "شهر" إليه، خلافا لمن منع منْ ذلك، وَقَدْ تقدّم تحقيقه فِي "كتاب الصيام".
(ومنها): أنه يستفاد منه تخصيص عموم مفهوم السنة، بخصوص منطوق القرآن؛ لأن عموم الْحَدِيث يقتضي صحة إسلام منْ باشر ما ذُكر، ومفهومه أن منْ لم يباشره لا يصح منه، وهذا العموم مخصوص بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية، عَلَى ما تقرر فِي موضعه.
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى: هَذَا الْحَدِيث قد روي منْ طُرُق، ففي بعضها:"شهادة أن لا إله إلا الله"، وفي بعضها "عَلَى أن يُعبّد الله، وُيكفر بما دونه"، فالأولى نقل باللفظ، والأخرى نقلٌ بالمعنى، والأصل نقل اللفظ، وهو المتّفق عليه.
وَقَدْ اختُلف فِي جواز الْحَدِيث بالمعنى، منْ العالم بمواقع الكلم، وتركيبها عَلَى قولين: الجواز، والمنع، وأما منْ لا يعرف، فلا خلاف فِي تحريم ذلك عليه. وَقَدْ وقع فِي بعض الروايات فِي الأصل تقديم الحج عَلَى الصوم، وهي وهمٌ والله أعلم- لأن ابن عمر لَمّا سمع المستعيد يُقدِّم الحجّ عَلَى الصوم زجره، ونهاه عن ذلك، وقدَّم الصوم عَلَى الحجّ، وَقَالَ: هكذا سمعته منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شكّ فِي أن نقل اللفظ كما
سمع هو الأولى، والأسلم، والاْعظم للأجر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"نضر الله امرأً، سمع مقالتي، فوعاها، ثم أدّاها كما سمعها، فربّ حامل فقه إلى منْ هو أفقه منه، وربّ حاملٌ ليس بفقيه". انتهى. "المفهم" 1/ 169.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله عَلَى قولين، فيه نظر؛ لأن الأقوال أكثر، كما بين ذلك فِي "الكوكب الساطع" حيث قَالَ:
نَقْلَ الأَحَادِيثِ بِمَعنَاهُ مَنَعْ
…
ثَعْلَبُ وَالرَّازِيُ مَعْ قَوْمٍ تَبَعْ
وَالأَكْثَرُونَ جَوَّزُوا لِلْعَارِفِ
…
وَجَوَّزَ الْخَطِيبُ بِالْمُرَادِفِ
وَقِيلَ إِنْ أَوْجَبَ عِلْمًا الْخَبَرْ
…
وَقِيلَ إِنْ يَنْسَ وَقِيلَ إِنْ ذَكَرْ
وقلت فِي منظومتي "شافية الغُلَل بمهمات علم الْعِلَل":
اخْتَلَفُوا فِيمَنْ رَوَى بِالْمَعْنَى
…
أَجَازَهُ الجُمْهُورُ نِعْمَ الْمَهْنَا
فَعَلَهُ جُلُّ الصِّحَابِ وَالتَّبَعْ
…
وَهوَ الْمُرَجَّحُ الأَحَقُّ بِالتَّبَعْ
دَلِيلُهُ أَنَّ الإلَهَ ذَكَرَا
…
قِصَصَ مَنْ مَضَى بِغَيْرِ مَا جَرَى
بِهِ كَلَامُهُمْ كَمَا قَالَ الْحَسَنْ
…
كَذَاكَ أَجْمَعُوا عَلَى الشَّرْحِ الْحَسَنْ
نَصَّ الْكِتَابِ وَالْحَدِيثِ لِلْعَجَمْ
…
عَلَى لُغَاتهِمْ لِيُفهَمَ الأَتَمُّ
ثُمَّ الْجَوَازُ ذَا لِعَالِمٍ فَقَطْ
…
لِلُغَةِ الْعَرَبِ بِالْحِفْظِ ضَبَطْ
وِبِمَعَانِيهَا بَصِيرٌ عَالِمُ
…
بِمَا يُحِيلُ لِلمُرَادِ فَاهِمُ
وَمَنْ عَدَا ذَلِكَ لَا يَرْوِي سِوَى
…
مَرْوِيِّهِ بِاللَّفْظِ مَثْلَمَا حَوَى
إِذْ قَدْ يُؤَدِّي نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى
…
مِنَ الْكَثِيرِينَ لِقَلْبِ الْمَعْنَى
وَمَعَتْ طَائِفَةٌ كَابْنِ عُمَرْ
…
وَقَاسِمٍ وَنَجلِ سِيرِينَ الأَبَرُّ
وَنَجْلِ حَيْوَةٍ وَمَالِكٌ إِذَا
…
جَا فِي أَحَادِيثِ النَّبِيِّ نُبِذَا
وَجَوَّزَتْ طَائِفَةٌ فِي النَّقْصِ
…
دُونَ الزِّيَادَةِ لِشَكِّ النَّصِّ
(ومنها): ما قاله القرطبيّ أيضًا: يحتمل أن يكون محافظة النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ترتيب هذه القواعد؛ لأنها نزلت كذلك: الصلاة أوّلاً، ثم الزكاة، ثم الصوم، ثم الحجّ. ويحتمل أن يكون لإفادة الأوكد، فالأوكد، فقد يَستنبط الناظر فِي ذلك الترتيب تقديمَ الأوكد عَلَى ما هو دونه، إذا تعذّر الجمع بينهما، كمن ضاق عليه وقت الصلاة، وتعيّن عليه فِي ذلك الوقت أداء الزكاة؛ لضرورة المستحِقِّ، فيبدأ بالصلاة، أو كما إذا ضاق وقت
الصلاة عَلَى الحاجّ، فيتذكر العشاء الآخرة، وَقَدْ بقي عليه منْ وقت صلاة العشاء الآخرة ما لو فعله فاته الوقوف بعرفة، فقد قَالَ بعض العلماء: إنه يبدأ بالصلاة، وإن فاته الوقوف؛ نظرًا إلى ما ذكرناه. وقيل: يبدأ بالوقوف؛ للمشقّة فِي استئناف الحجّ. ومن ذلك لو أوصى رجل بزكاة فّرط فِي أدائها، وبكفّارة فطر منْ رمضان، وضاق الثلث عنهما بدأ بالزكاة أوّلاً؛ لأوكديّتها عَلَى الصوم، وكذلك لو أوصى بكفّارة الفطر، وبهدي واجبٍ فِي الحجّ، قدّم كفّارة الفطر، وهذا كلّه عَلَى أصل مالك، فإن ذلك كله يُخرج منْ الثلث، وأما منْ ذهب إلى أن ذلك يُخرج منْ رأس المال، فلا تفريع عَلَى ذلك بشيء مما ذكرناه. انتهى "المفهم" 1/ 169 - 170. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي زوال الإسلام بزوال شيء منْ هذه الأركان الخمسة:
لقد أجاد الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى فِي هَذَا الموضوع، حيث كتب: ما ملخّصه: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "بُني الإسلام عَلَى خمس": أن الإسلام مَثَلُه كبنيان، وهذه الخمس دعائم البنيان، وأركانه التي يثبت عليها البنيان. قَالَ: وإذا كانت هذه دعائم البنيان، وأركانه، فبقية خصال الإسلام كبقية البنيان، فإذا فُقد شيء منْ بقية الخصال الداخلة فِي مُسمّى الإسلام الواجب نقص البنيان، ولم يسقط بفقده. وأما هذه الخمس، فإذا زالت كلّها سقط البنيان، ولم يثبت بعد زوالها، وكذلك إن زال منها الركن الأعظم، وهو الشهادتان، وزوالهما يكون بالإتيان بما يُضادّهما، ولا يجتمع معهما. وأما زوال الأربع البواقي، فاختلف العلماء، هل يزول الاسم بزوالها، أو بزوال واحد منها، أم لا يزول بذلك؟ أم يُفرّق بين الصلاة وغيرها، فيزول بترك الصلاة، دون غيرها؟ أم يختصّ زوال الإسلام بترك الصلاة والزكاة خاصّة؟، وفي ذلك اختلاف مشهور، وهذه الأقوال كلها محكيّة عن الإمام أحمد. وكثير منْ علماء أهل الْحَدِيث يرى تكفير تارك الصلاة، وحكاه إسحاق بن راهويه إجماعا منهم، حَتَّى إنه جعل قول منْ قَالَ: لا يكفر بترك هذه الأركان مع الإقرار بها منْ أقوال المرجئة. وكذلك قَالَ سفيان ابن عيينة: المرجئة سمّوا ترك الفرائض ذنبًا بمنزلة ركوب المحارم، وليسا سواء؛ لأن ركوب المحارم متعمّدًا، منْ غير استحلال معصيةٌ، وترك الفرائض منْ غير جهل، ولا عذر: هو كفر. وبيان ذلك فِي أمر آدم وإبليس، وعلماء اليهود الذين أقرّوا ببعث النبيّ صلى الله عليه وسلم بلسانهم، ولم يعملوا بشرائعه. ورُوي عن عطاء، ونافع مولى ابن عمر أنهما سُئلا عمن قَالَ: الصلاة فريضة، ولا أُصلي، فقالا: هو كافر، وكذا قَالَ الإمام أحمد. ونقل
حرب عن إسحاق، قَالَ: غَلَت المرجئة حَتَّى صار منْ قولهم: إن قوما يقولون: منْ ترك الصلوات المكتوبات، وصوم رمضان، والزكاة، والحجّ، وعامّة الفرائض، منْ غير جحود لها لا نكفّره، يرجى أمره إلى الله بعدُ؛ إذ هو مقرّ، فهؤلاء الذين لا شكّ فيهم -يعني فِي أنهم مرجئة. وظاهر هَذَا أنه يكفّر بترك هذه الفرائض. وروى يعقوب الأشعريّ، عن ليث، عن سعيد بن جُبير، قَالَ: منْ ترك الصلاة متعمدًا، فقد كفر، ومن أفطر يومًا منْ رمضان متعمّدًا فقد كفر، ومن ترك الحجّ متعمّدًا، فقد كفر، ومن ترك الزكاة متعمّدًا، فقد كفر. وُيروى عن الحكم بن عُتيبة نحوه، وحُكي روايةً عن أحمد، اختارها أبو بكر منْ أصحابه، وعن عبد الملك بن حبيب المالكي مثله، وهو قول أبي بكر الحميديّ. ورُوي عن ابن عبّاس التكفير ببعض هذه الأركان، دون بعض، فروى مؤمل، عن حمّاد بن زيد، عن عمرو بن مالك النُّكْريّ، عن أبي الْجَوْزاء، عن ابن عبّاس، ولا أحسبه إلا رفعه، قَالَ:"عُرَى الإسلام، وقواعد الدين ثلاثة، عليهنّ أُسِّس الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وصوم رمضان، منْ ترك منها واحدةً، فهو بها كافرٌ حلال الدم، وتجده كثير المال، لم يحُجّ، فلا يزال بذلك كافرًا، ولا يحلّ دمه، وتجده كثير المال، لا يزكي، فلا يزال بذلك كافرًا، ولا يحلّ دمه". ورواه قتيبة، عن حماد بن زيد، فوقفه، واختصره، ولم يُتمّه. ورواه سعيد بن زيد، أخو حمّاد، عن عمرو بن مالك، ورفعه، وَقَالَ:"منْ ترك منهنّ واحدةً، فهو بالله كافر، ولا يُقبل منه صرفٌ، ولا عدلٌ، وَقَدْ حلّ دمه وماله"، ولم يزد عَلَى ذلك. والأظهر وقفه عَلَى ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، فقد جعل ابن عبّاس ترك هذه الأركان كفرًا، لكن بعضها كفرٌ يُبيح الدم، وبعضها لا يبيحه، وهذا يدلّ عَلَى أن الكفر بعضه ينقل عن الملّة، وبعضه لا ينقل.
وأكثر أهل الْحَدِيث عَلَى أن ترك الصلاة كفر، دون غيرها منْ الأركان، كذلك حكاه محمد بن نصر المروزيّ وغيره عنهم. وممن قَالَ بذلك: ابنُ المبارك، وأحمد، فِي المشهور عنه، وإسحاق، وحكى عليه إجماع أهل العلم، كما سبق. وَقَالَ أيوب: ترك الصلاة كفر، لا يُختلف فيه. وَقَالَ عبد الله بن شقيق: كَانَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئًا منْ الأعمال تركه كفر غير الصلاة. أخرجه الترمذيّ. وَقَدْ روي عن عليّ، وسعد، وابن مسعود، وغيرهم، قالوا: منْ ترك الصلاة، فقد كفر. وَقَالَ عمر: لا حظّ فِي الإسلام لمن ترك الصلاة. وفي "صحيح مسلم" عن جابر رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"بين الرجل وبين الشرك والكفر تركُ الصلاة". وأخرج النسائيّ، والترمذيّ، وابن
ماجه، منْ حديث بُريدة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها، فقد كفر"، وصححه الترمذيّ، وغيره.
ومن خالف فِي ذلك جعل الكفر هنا غير ناقل عن الملّة، كما فِي قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44].
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا القول هو الراجح، كما تقدّم تحقيقه بدلائله فِي "كتاب الصلاة"، وحاصله أن تارك الصلاة كافر كما أطلق عليه الشارع ذلك، ولكن كفره كفر دون كفر، فلا يكون بذلك خارجًا عن الإسلام، إلا انضمّ إلى تركه الجحد، فراجع المسألة هناك تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
قَالَ: فأما بقيّة خصال الإسلام والإيمان، فلا يخرج العبد بتركها منْ الإسلام عند أهل السنّة والجماعة، وإنما خالف فِي ذلك الخوارج، ونحوهم، منْ أهل البدع.
قَالَ حذيفة رضي الله عنه: الإسلام ثمانية أسهم: الإسلام سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، والحجّ سهم، ورمضان سهم، والجهاد سهم، والأمر بالمعروف سهم، والزكاة عن المنكر سهم، وَقَدْ خاب منْ لا سهم له. وروي مرفوعًا، والموقوف أصحّ.
فسائر خصال الإسلام الزائدة عَلَى أركانه الخمس، ودعائمه إذا زال شيء منها نقص البنيان، ولم ينهدم أصل البيان بذلك النقص.
وَقَدْ ضرب الله تعالى وسوله صلى الله عليه وسلم مَثَل الإيمان والإسلامِ بالنخلة، قَالَ الله تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 23 - 24].
فالكلمة الطيّبة هي كلمة التوحيد، وهي أساس الإسلام، وهي جارية عَلَى لسان المؤمن، وثبوت أصلها هو ثبوت التصديق بها فِي قلب المؤمن، وارتفاع فرعها فِي السماء هو علوّ هذه الكلمة، وبُسُوقها، وأنها تخرق الحجب، ولا تتناهى دون العرش، وإتيانها أكلها كلّ حين: هو ما يُرفع بسببها للمؤمن كلّ حين منْ القول الطيب، والعمل الصالح، فهو ثمرتها. وجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل المؤمن، أو المسلم كمثل النخلة. وَقَالَ طاوس: مثل الإسلام كشجرة أصلها الشهادة، وساقها كذا وكذا، وورقها كذا وكذا، وثمرها الورع، ولا خير فِي شجرة لا ثمر لها، ولا خير فِي إنسان لا ورع فيه.
ومعلوم أن ما دخل فِي مسمّى الشجرة والنخلة منْ فروعها، وأغصانها، وورقها، وثمرها، إذا ذهب شيء منه لم يذهب عن الشجرة اسمها، ولكن يقال: هى شجرة ناقصة، وغيرها أكمل منها، فإن قُطع أصلها، وسقطت لم تبق شجرة، وإنما تصير حطبًا، فكذلك الإيمان والإسلام إذا زال منه بعض ما يدخل فِي مسمّاه مع بقاء أركان
بنيانه، لا يزول به اسم الإسلام والإيمان بالكلّيّة، وإن كَانَ قد سُلب الاسم عنه لنقصه، بخلاف ما انهدمت أركانه، وبنيانه، فإنه يزول مسمّاه بالكلّيّة. والله أعلم. انتهى كلام ابن رَجَب رحمه الله تعالى فِي "شرح البخاريّ" 1/ 22 - 28. وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
14 - (الْبَيْعَةُ عَلَى الإِسْلَامِ)
5004 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَجْلِسٍ، فَقَالَ: "تُبَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا" -قَرَأَ عَلَيْهِمُ الآيَةَ- فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ، فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَسَتَرَهُ اللَّهُ عز وجل، فَهُوَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"سفيان": هو ابن عيينة. و"أبو إدريس الْخَوْلانيّ": هو: عائذ الله بن عبد الله الثقة المخضرم، عالم الشام بعد أبي الدرداء رضي الله عنه.
وقوله: "وقرأ عليهم الآية": هي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 12].
وقوله: "فمن وفى منكم" بتخفيف الفاء، وتشديدها: أي ثبت عَلَى العهد. وقوله: "فأجره عَلَى الله": تعظيم للأجر بإضافته إلى عظيم. قاله السنديّ. وَقَالَ السيوطيّ: أطلق هَذَا عَلَى سبيل التفخيم؛ لأنه لما ذكر المبالغة المقتضية لوجود العوضين، أثبت ذكر الأجر فِي موضع أحدهما. انتهى.
وقوله: "ومن أصاب منْ ذلك شيئًا": المراد ما ذُكر بعد الإشراك بقرينة أن المخاطب بذلك المسلمون، فلا يدخل حَتَّى يحتاج إلى إخراجه، ويؤيده رواية مسلم:"ومن أتى منكم حدًّا"، إذ القتل عَلَى الأشراك لا يسمّى حدًّا، قَالَ السيوطيّ: ويرشد إليه قوله:
"فستره الله"، فإن الستر بالمعصية أليق. انتهى.
والحديث أخرجه البخاريّ، وَقَدْ تقدّم للمصنّف فِي "كتاب البيعة" 9/ 4163 - وَقَدْ استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد، ودلالته هنا لما ترجم له المصنّف واضحة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
15 - (عَلَى مَا يُقَاتَلُ النَّاسُ؟)
5005 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ نُعَيْمٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حِبَّانُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ، حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا شَهِدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا، وَأَكَلُوا ذَبِيحَتَنَا، وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، إِلاَّ بِحَقِّهَا، لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن حاتم بن نُعيم": هو المروزيّ الثقة [12] 1/ 397 منْ أفراد المصنّف. و"حِبّان" -بكسر المهملة-: هو ابن موسى المروزيّ الثقة [10] 1/ 397. و"عبد الله": هو ابن المبارك.
والحديث أخرجه البخاريّ، وتقدم الكلام عليه قبل خمسة أبواب، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
16 - (ذِكْرُ شُعَبِ الإِيمَانِ)
5006 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ -وَهُوَ ابْنُ بِلَالٍ- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن عبد الله بن المبارك) المُخَرِّميّ، أبو جعفر البغداديّ الثقة الحافظ [11] 43/ 50.
2 -
(أبو عامر) عبد الملك بن عمرو الْعَقَديّ البصريّ، ثقة [9] 2/ 327.
3 -
(سليمان بن بلال) التيميّ مولاهم المدنيّ، ثقة [8] 30/ 558.
4 -
(عبد الله بن دينار) العدويّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، مولى ابن عمر، ثقة [4] 167/ 260.
5 -
(أبو صالح) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ الثقة الثبت [3] 36/ 40.
6 -
(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات المدنيين، منْ سليمان، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وهما: عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، وهي منْ رواية الأقران، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين منْ رواية الْحَدِيث، روى (5374). والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "الْإيمَانُ) قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: الإيمان فِي هَذَا الْحَدِيث يُراد به الأعمال، بدليل أنه ذكر فيه أعلى الأعمال، وهو قول:"لا إله إلا الله"، وأدناها: أي أقربها، وهو إماطة الأذى، وهما عملان، فما بينهما منْ قبيل الأعمال، وَقَدْ قدّمنا القول فِي حقيقة الإيمان شرعاً ولغةً، وأن الأعمال الشرعيّة تسمّى إيمانا مجازًا، وتوسّعًا؛ لأنها عن الإيمان تكون غالبًا. انتهى. "المفهم" 1/ 216.
(بضْعٌ) -بكسر أوله، وحُكِي الفتح لغةً، وهو عدد مبهم، مقيد بما بين الثلاث إلى التسع، كما جزم به القزاز، وَقَالَ ابن سِيدَهْ: إلى العشر، وقيل: منْ واحد إلى تسعة، وقيل: منْ اثنين إلى عشرة، وقيل: منْ أربعة إلى تسعة، وعن الخليل: البضع: السبع، ويرجح ما قاله القزاز ما اتفق عليه المفسرون فِي قوله تعالى:{فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42]، وما رواه الترمذيّ بسند صحيح: أن قريشا قالوا ذلك لأبي بكر، وكذا رواه الطبري مرفوعا، ونقل الصغاني فِي "العباب": أنه خاص بما دون
العشرة، وبما دون العشرين، فإذا جاوز العشرين امتنع، قَالَ: وأجازه أبو زيد، فَقَالَ: يقال: بضعة وعشرون رجلا، وبضع وعشرون امرأة، وَقَالَ الفراء: وهو خاص بالعشرات إلى التسعين، ولا يقال: بضع ومائة، ولا بضع وألف، ووقع فِي بعض الروايات بضعة بتاء التانيث، ويحتاج إلى تأويله.
وَقَالَ القرطبيّ: "البضع، والبضعة واحدٌ، وهو منْ العدد بكسر الباء، وَقَدْ تُفتح، وهو قليلٌ، فأما منْ بضع اللحم، فبفتح الباء لا غير، والْبَضْعة منْ اللحم بالفتح: القطعة منه. واستعملت العرب البضع فِي المشهور منْ كلامها فيما بين الثلاث إلى العشر. وقيل: إلى التسع. وَقَالَ الخليل: البضع سبع. وقيل: هو ما بين اثنين إلى عشر، وما بين عشر إلى عشرين، ولا يقال فِي أحد عشر، ولا فِي اثني عشر. وَقَالَ الخليل أيضًا: هو ما بين نصف العقد، يريد منْ واحد إلى أربع. انتهى.
(وَسَبْعُونَ) هكذا فِي رواية المصنّف: "وسبعون" منْ دون شكّ، وكذا عند أبي داود، وابن ماجه، وفي رواية البخاريّ:"وستون"، قَالَ فِي "الفتح": لم تختلف الطرق عن أبي عامر، شيخ شيخ البخاريّ فِي ذلك، وتابعه يحيى الْحِمّاني -بكسر المهملة، وتشديد الميم- عن سليمان بن بلال، أخرجه أبو عوانة، منْ طريق بشر بن عُمَر، عن سليمان بن بلال، فَقَالَ:"بضع وستون، أو بضع وسبعون"، وكذا وقع التردد فِي رواية مسلم، منْ طريق سهيل بن أبي صالح، عن عبد الله بن دينار، ورواه أصحاب السنن الثلاثة، منْ طريقه، فقالوا:"بضع وسبعون"، منْ غير شك، ولأبي عوانة فِي "صحيحه" منْ طريق:"ست وسبعون، أو سبع وسبعون"، ورجح البيهقي رواية البخاريّ؛ لأن سليمان لم يشك، وفيه نظر؛ لما ذكرنا منْ رواية بشر بن عُمَر عنه، فتردد أيضًا، لكن يرجح بأنه المتيقن، وما عداه مشكوك فيه، وأما رواية الترمذيّ بلفظ:"أربع وستون"، فمعلولة، وعلى صحتها لا تخالف رواية البخاريّ، وترجيحُ روايةِ:"بضع وسبعون"؛ لكونها زيادة ثقة؛ كما ذكره الْحَليمِيّ، ثم عياض، لا يستقيم، إذ الذي زادها لم يستمر عَلَى الجزم بها، لاسيما مع اتحاد المخرَج، وبهذا يتبين شفوف نظر البخاريّ، وَقَدْ رجح ابن الصلاح الأقل؛ لكونه المتيقن. انتهى "فتح" 1/ 75.
(شُعْبَةً) -بالضم-: أي قطعة، والمراد الخصلة، أو الجزء. قاله فِي "الفتح". وَقَالَ القرطبيُّ رحمه الله تعالى فِي "المفهم": والشعبة فِي أصلها واحدة الشُّعَب، وهي أغصان الشجرة، وهي بضمّ الشين، فأما شَعب القبائل، فواحدها شَعْب بفتحها. وَقَالَ الخليل: الشعب: الاجتماع، والافتراق. وفي "الصحاح": هو منْ الأضداد، فيراد بالشُّعبة فِي الْحَدِيث الخصلة، ويعني أن الإيمان ذو خصال معدودة. وَقَدْ ذكر الترمذيّ
هَذَا الْحَدِيث، وسمّى الشعبة بابًا.
قَالَ: ومقصود هَذَا الْحَدِيث أن الأعمال الشرعيّة تُسمّى إيمانًا عَلَى ما ذكرناه آنفاً، وأنها منحصرة فِي ذلك العدد، غير أن الشرع لم يُعيّن ذلك العدد لنا، ولا فصّله، وَقَدْ تكلّف بعض المتأخّرين تعديد ذلك، فتصفّح خصال الشريعة، وعدّدها، حَتَّى انتهى بها فِي زعمه إلى ذلك العدد، ولا يصحّ له ذلك؛ لأنه يمكن الزيادة عَلَى ما ذكر، والنقصان مما ذكر ببيان التداخل، والصحيح ما صار إليه أبو سليمان الخطَّابِيُّ وغيره: أنها منحصرة فِي علم الله تعالى، وعلم رسوله صلى الله عليه وسلم، وموجودة فِي الشريعة مفصّلة فيها، غير أن الشرع لم يوقفنا عَلَى أشخاص تلك الأبواب، ولا عيّن لنا عددها، ولا كيفيّة انقسامها، وذلك لا يضرّنا فِي علمنا بتفاصيل ما كُلّفنا به منْ شريعتنا، ولا فِي عملنا، إذ كلّ ذلك مفصّلٌ مبيّنٌ فِي جملة الشريعة، فما أُمرنا بالعمل به عملناه، وما نهُينا عنه انتهينا، وإن لم نُحط بحصر أعداد ذلك. والله تعالى أعلم. انتهى "المفهم" 1/ 216 - 217.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: سيأتي تمام البحث فِي عدد الشعب فِي المسألة الخامسة، إن شاء الله تعالى.
(وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ)"الحياء" -بالمد- هو فِي اللغة: تغير، وانكسار، يَعتَرِي الإنسانَ منْ خوف ما يعاب به، وَقَدْ يطلق عَلَى مجرد ترك الشيء بسبب، والترك إنما هو منْ لوازمه، وفي الشرع: خُلُقٌ يبعث عَلَى اجتناب القبيح، ويمنع منْ التقصير فِي حق ذي الحق، ولهذا جاء فِي الْحَدِيث الآخر:"الحياء خير كله". انتهى "فتح" 1/ 76.
وَقَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: الحياء: انقباض، وحشمة يجدها الإنسان منْ نفسه عند ما يُطّلع منه عَلَى ما يُستقبح، وُيذمّ عليه، وأصله غريزيّ فِي الفطرة، ومنه مكتسبٌ للإنسان، كما قَالَ بعض الحكماء فِي العقل:
رَأَيْتُ الْعَقْلَ عَقْلَينِ
…
فَمَطبُوعٌ وَمَصْنُوعُ
وَلَا يَنْفَعُ مَصْنُوعْ
…
إِذَا لَم يَكُ مَطْبُوعُ
كَمَا لَا تَنفَعُ الْعَيْنُ
…
وَضَوْءُ الشَّمْسِ مَمْنُوعُ
وهذا المكتسب هو الذي جعله الشرع منْ الإيمان، وهو الذي يُكلّف به، وأما الغريزيّ، فلا يُكلّف به، إذ ليس ذلك منْ كسبنا، ولا فِي وُسعنا، ولم يُكلّف الله نفسًا إلا وسعها، غير أن هَذَا الغريزيّ يَحمل عَلَى المكتسب، وُيعين عليه، ولذلك قَالَ صلى الله عليه وسلم:"الحياء لا يأتي إلا بخير"، "والحياء خير كلّه". وأول الحياء، وأولاه: الحياء منْ الله تعالى، وهو أن لا يراك حيث نهاك، وذلك لا يكون إلا عن معرفة بالله تعالى كاملة، ومراقبة له حاصلة، وهي المعبّر عنها بقوله صلى الله عليه وسلم: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن
تراه، فإنه يراك". وَقَدْ روى الترمذيّ منْ حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ:"استحيوا منْ الله حقَّ الحياء"، فقالوا: إنا نستحيي، والحمد لله، فَقَالَ:"ليس ذلك، ولكن الاستحياء منْ الله حق الحياء أن تحفظ الرأس، وما حوى، والبطن وما وعى، وتذكر الموت والبِلَى، فمن فعل ذلك، فقد استحى منْ الله حقّ الحياء"
(1)
.
قَالَ: وأهل المعرفة فِي هَذَا الحياء منقسمون، كما أنهم فِي أحوالهم متفاوتون، وَقَدْ كَانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم جُمع له كمال نوعي الحياء، فكان فِي الحياء الغريزيّ أشدّ حياء منْ العذراء فِي خِدرها، وفي حيائه الكسبيّ فِي ذِرْوتها. انتهى "المفهم" 1/ 217 - 219.
وَقَالَ فِي "الفتح": [فإن قيل]: الحياء منْ الغرائز، فكيف جعل شعبة منْ الإيمان؟. [أجيب]: بأنه قد يكون غريزة، وَقَدْ يكون تخلقا، ولكن استعماله عَلَى وفق الشرع، يحتاج إلى اكتساب، وعلم، ونية، فهو منْ الإيمان لهذا، ولكونه باعثا عَلَى فعل الطاعة، وحاجزا عن فعل المعصية، ولا يقال: رُبَّ حياء يمنع عن قول الحق، أو فعل الخير؛ لأن ذاك ليس شرعيا.
[فإن قيل]: لِمَ أفرده بالذكر هنا؟. [أجيب]: بأنه كالداعي إلى باقي الشعب، إذ الْحَيِيُّ يخاف فضيحة الدنيا والآخرة، فيأتمر، وينزجر. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -16/ 5006 و5007 و5008 - وأخرجه (خ) فِي "الإيمان" 9 (م) فِي "الإيمان" 35 (د) فِي "السنة" 4676 (ت) فِي "الإيمان" 2614 (ق) فِي "المقدمة" 57 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 8707 و9097 و9417. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان شعب الإيمان. (ومنها): أن الأعمال داخلة فِي مسمى الإيمان، وهو الحقّ الذي عليه أهل السنة والجماعة، وخالف فيه بعضهم، ولا اعتداد به، كما تقدّم بيانه مفصّلاً أول كتاب الإيمان. (ومنها): بيان عظم شأن الحياء، وأنه منْ أفضل الشعب إذ يدعو إلى بقية الشعب، فمن كَانَ حييّا
(1)
حديث حسن أخرجه أحمد، 1/ 387 والترمذيّ 2460.
فإن حياءه يدعوه إلى أن يعمل بمقتضى إيمانه، ويتجنب ما يناقضه. (ومنها): ما قاله الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى: فِي قوله: "أعلاها قول إله إلا الله": ما يَستدلّ به منْ يقول: إن هذه الكلمة أفضل الكلام مطلقًا، وإنها أفضل منْ كلمة الحمد، وفي ذلك اختلاف، ذكره ابن عبد البرّ، وغيره. انتهى. (ومنها): أن فِي قوله: "أعلاها لا إله الا الله، وأدناها إماطة الأذي عن الطريق": إشارةً إلى أن مراتبها متفاوتة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي اختلاف الحفّاظ فِي إسناد هَذَا الْحَدِيث:
قَالَ الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى بعد أن أورد رواية البخاريّ بلفظ: "الإيمان بضع وستون شعبة": ما نصّه: وخرّجه مسلم منْ هَذَا الوجه، ولفظه:"بضع وسبعون". وخرّجه مسلم أيضًا منْ رواية جرير، عن سُهيل، عن عبد الله بن دينار به، وَقَالَ فِي حديثه:"بضع وسبعون، أو بضع وستون" بالشك، وهذا الشكّ منْ سُهيل، كذا جاء مصرّحًا به فِي "صحيح ابن حبّان"، وغيره. وخرّجه مسلم أيضًا منْ حديث ابن الهاد، عن عبد الله بن دينار به، وَقَالَ فِي حديثه:"الإيمان سبعون، أو اثنان وسبعون بابًا"
(1)
. ورواه ابن عجلان، عن عبد الله بن دينار، وَقَالَ:"ستون، أو سبعون". ورُوي عنه أنه قَالَ فِي حديثه: "ستون، أو سبعون، أو بضع وأحد منْ العددين"، أخرجه ابن أبي شيبة فِي "الإيمان" 67 ومن طريقه ابن ماجه 57. ورُوي عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه بهذا اللفظ أيضًا. أخرجه ابن منده فِي "الإيمان" 1/ 296. وروي عنه بلفظ آخر، وهو: "الإيمان تسعة، أو سبعة وسبعون شعبة". وخرجه الترمذيّ منْ رواية عُمارة بن غَزِيّة، وَقَالَ فيه:"الإيمان أربعة وسبعون بابًا". وَقَدْ رُوي عن عمارة بن غزيّة، عن سُهيل، عن أبيه، وسهيل لم يسمعه منْ أبيه، إنما رواه عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح. فمدار الْحَدِيث عَلَى عبد الله بن دينار، لا يصحّ عن غيره.
وَقَدْ ذكر العيقليّ أن أصحاب عبد الله بن دينار عَلَى ثلاث طبقات: أثبات، كمالك، وشعبة، وسفيان بن عيينة. ومشايخ: كسهيل، ويزيد بن الهاد، وابن عجلان. قَالَ: وفي رواياتهم عن عبد الله بن دينار اضطراب، وَقَالَ: إن هَذَا الْحَدِيث لم يُتابع هؤلاء المشايخ عليه أحد منْ الأثبات عن عبد الله بن دينار، ولا تابع عبد الله بن دينار، عن أبي صالح عليه أحد. والطبقة الثالثة: الضعفاء، فيروون عن عبد الله بن دينار المناكير،
(1)
هكذا نصّ ابن رَجَب، وعلق عليه المحقق، فَقَالَ: بهذا الطريق أخرجه ابن منده فِي "الإيمان" 1/ 296 ولم نجده فِي مسلم منْ المطبوع، ولا عزاه فِي "التحفة" إليه منْ هَذَا الطريق، فإن لم يكن فِي بعض نسخ "صحيح مسلم"، فلعله وهم منْ المصنّف رحمه الله تعالى. انتهى. 1/ 30.
إلا أن الحمل فيها عليهم.
قَالَ ابن رَجَب: قد رواه عن عبد الله بن دينار سليمان بن بلال، وهو ثقة ثبتٌ، قد خُرّج حديثه فِي "الصحيحين". انتهى كلام ابن رَجَب رحمه الله تعالى "شرح البخاريّ" 1/ 30/ 32.
(المسألة الخامسة): فِي الاختلاف الواقع فِي لفظ الْحَدِيث، واختلاف أهل العلم فِي تعداد شُعب الإيمان:
قَالَ الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى: وأما الاختلاف فِي لفظ الْحَدِيث فالأظهر أنه منْ الرواة، كما جاء التصريح فِي بعضه بأنه شكّ منْ سُهيل بن أبي صالح، وزعم بعض النَّاس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يذكر هَذَا العدد بحسب ما ينزل منْ خصال الإيمان، فكلما نزلت خصلة منها ضمّها إلى ما تقدّم، وزادها عليها. وفي ذلك نظر. وَقَدْ ورد فِي بعض روايات "صحيح مسلم" عدد بعض هذه الخصال، ولفظه:"أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة منْ الإيمان"
(1)
.
فأشار إلى أن خصال الإيمان منها ما هو قولٌ باللسان، ومنها ما هو عملٌ بالجوارح، ومنها ما هو قائم بالقلب، ولم يزد فِي شيء منْ هذه الروايات عَلَى هذه الخصال.
وَقَدْ انتدب لعدّها طائفة منْ العلماء، كالْحَليميّ
(2)
، والبيهقيّ، وابن شاهين، وغيرهم، فذكروا كلّ ما ورد تسميته إيمانًا فِي الكتاب والسنّة منْ الأقوال والأعمال، وبلغ بها بعضهم سبعا وسبعين، وبعضهم تسعًا وسبعين.
وفي القطع عَلَى أن ذلك هو مراد الرسول صلى الله عليه وسلم منْ هذه الخصال عسر، كذا قاله ابن الصلاح، وهو كما قَالَ. انتهى كلام ابن رَجَب "شرح البخاريّ" 1/ 32 - 34.
وَقَالَ الحافظ فِي "الفتح": قَالَ القاضي عياض: تكلف جماعة حصر هذه الشعب، بطريق الاجتهاد، وفي الحكم بكون ذلك هو المراد صعوبة، ولا يَقدَح عدم معرفة حصر ذلك عَلَى التفصيل فِي الإيمان. انتهى.
ولم يَتّفق منْ عَدَّ الشعب عَلَى نمط واحد، وأقربها إلى الصواب طريقة ابن حبّان، لكن لم نقف عَلَى بيانها منْ كلامه، وَقَدْ لخصت مما أوردوه ما أذكره، وهو: أن هذه الشعب تتفرع عن أعمال القلب، وأعمال اللسان، وأعمال البدن، فأعمال القلب فيه
(1)
هو الرواية التالية للنسائى، ولكن بلفظ:"أفضلها لا إله إلا الله، وأوضعها إماطة الأذى عن الطريق".
(2)
هو أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم البخاريّ الشافعيّ، المولود سنة (338 هـ) فِي شهر ربيع الأول، والمتوفى سنة (403 هـ).
المعتقدات، والنيات، وتشتمل عَلَى أربع وعشرين خصلة:
الإيمان بالله، ويدخل فيه الإيمان بذاته، وصفاته، وتوحيده بأنه ليس كمثله شيء، واعتقاد حدوث ما دونه، والإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، والقدر خيره وشره، والإيمان باليوم الآخر، ويدخل فيه المسألة فِي القبر، والبعث، والنشور، والحساب، والميزان، والصراط، والجنة، والنار، ومحبة الله، والحب والبغض فيه، ومحبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، واعتقاد تعظيمه، ويدخل فيه الصلاة عليه، واتباع سنته، والإخلاص، ويدخل فيه ترك الرياء، والنفاق، والتوبة، والخوف، والرجاء، والشكر، والوفاء، والصبر، والرضا بالقضاء، والتوكل، والرحمة، والتواضع، ويدخل فيه توقير الكبير، ورحمة الصغير، وترك الكبر، والعجب، وترك الحسد، وترك الحقد، وترك الغضب.
وأعمال اللسان، وتشتمل عَلَى سبع خصال: التلفظ بالتوحيد، وتلاوة القرآن، وتعلم العلم، وتعليمه، والدعاء، والذكر، ويدخل فيه الاستغفار، واجتناب اللغو.
وأعمال البدن، وتشتمل عَلَى ثمان وثلاثين خصلة، منها ما يختص بالأعيان، وهي خمس عشرة خصلة: التطهير حسا وحكما، ويدخل فيه اجتناب النجاسات، وستر العورة، والصلاة فرضا ونفلا، والزكاة كذلك، وفك الرقاب، والجود، ويدخل فيه إطعام الطعام، وإكرام الضيف، والصيام فرضا ونفلا، والحج والعمرة كذلك، والطواف، والاعتكاف، والتماس ليلة القدر، والفرار بالدين، ويدخل فيه الهجرة منْ دار الشرك، والوفاء بالنذر، والتحرى فِي الأيمان، وأداء الكفارات، ومنها ما يتعلق بالاتباع، وهي ست خصال: التعفف بالنكاح، والقيام بحقوق العيال، وبر الوالدين، وفيه اجتناب العقوق، وتربية الأولاد، وصلة الرحم، وطاعة السادة، أو الرفق بالعبيد، ومنها ما يتعلق بالعامة، وهي سبع عشرة خصلة: القيام بالإمرة مع العدل، ومتابعة الجماعة، وطاعة أولي الأمر، والإصلاح بين النَّاس، ويدخل فيه قتال الخوارج والبغاة، والمعاونة عَلَى البر، ويدخل فيه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، والجهاد، ومنه المرابطة، وأداء الأمانة، ومنه أداء الخمس، والقرض مع وفائه، وإكرام الجار، وحسن المعاملة، وفيه جمع المال منْ حله، وإنفاق المال فِي حقه، ومنه ترك التبذير والإسراف، ورد السلام، وتشميت العاطس، وكَفُّ الأذى عن النَّاس، واجتناب اللَّهو، وإماطة الأذى عن الطريق.
فهذه تسع وستون خصلة، ويمكن عدها تسعا وسبعين خصلة، باعتبار إفراد ما ضم بعضه إلى بعض مما ذكر، والله أعلم. انتهى "فتح" 1/ 76 - 77.
[تنبيه]: قَالَ الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى: [فإن قيل]: فأهل الْحَدِيث والسنة
عندهم أن كلّ طاعة، فهي داخلة فِي الإيمان، سواء كانت منْ أعمال الجوارح، أو القلوب، أو منْ الأقوال، وسواء فِي ذلك الفرائض، والنوافل، هَذَا قول الجمهور الأعظم منهم، وحينئذ، فهذا لا ينحصر فِي بضع وسبعين، بل يزيد عَلَى ذلك زيادة كثيرةً، بل هي غير منحصرة.
[قيل]: يمكن أن يجاب عن هَذَا بأجوبة: [أحدهما]: أن يقال: إن عدد خصال الإيمان عند قول النبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ منحصرًا فِي هَذَا العدد، ثم حدثت الزيادة فيه بعد ذلك، حَتَّى كملت خصال الإيمان فِي آخر حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم. وفي هَذَا نظر.
[والثاني]: أن تكون خصال الإيمان كلّها تنحصر فِي بضع وسبعين نوعًا، وإن كانت أفراد كل نوع تتعدّد تعدّدًا كثيرًا، وربّما كَانَ بعضها لا ينحصر. وهذا أشبه، وإن كَانَ الوقوف عَلَى ذلك يعسر، أو يتعذّر.
[والثالث]: أن ذكر السبعين عَلَى وجه التكثير للعدد، لا عَلَى وجه الحصر، كما فِي قوله تعالى:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80]، والمراد تكثير التعداد منْ غير حصوله هَذَا فِي العدد، ويكون ذكره للبضع يُشعر بذلك، كأنه يقول: هو يزيد عَلَى السبعين المقتضية لتكثير العدد، وتضعيفه. وهذا ذكره بعض أهل الْحَدِيث منْ المتقدّمين، وفيه نظر.
[والرابع]: أن هذه البضع وسبعين هي أشرف خصال الإيمان وأعلاها، وهو الذي تدعو إليه الحاجة منها. قاله ابن حامد منْ الحنابلة. انتهى كلام ابن رَجَب رحمه الله تعالى "شرح البخاريّ" 1/ 34 - 35.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول الثاني أظهر الأقوال، وأقربها إلى الفهم، كما سبق ميل ابن رَجَب رحمه الله تعالى إليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5007 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَفْضَلُهَا لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَوْضَعُهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أحمد بن سليمان": هو أبو الحسين الرُّهاويّ الثقة الحافظ [11] 38/ 42 منْ أفراد المصنّف. و"أبو داود": هو عمر بن سَعْد الْحَفَريّ الثقة العابد [9] 15/ 523. و"أبو نعيم": هو الفضل بن دُكين التيميّ مولاهم الكوفيّ، واسم دُكين عمرو بن حمّاد بن زُهير، ثقة ثبت [9] 11/ 516. و"سفيان": هو
الثوريّ. و"سُهيل": هو ابن أبي صالح، أبو يزيد المدنيّ، صدوقٌ تغير حفظه بآخره [6] 32/ 820.
وقوله: "قَالَ: وحدثنا أبو نُعيم الخ": القائل هو أحمد بن سليمان، شيخ المصنّف، فهو يروي عن شيخين: أبو داود، وأبو نُعيم، وكلاهما يرويان عن سفيان الثوريّ، عن سهيل، وهو ولد أبي صالح، شيخ عبد الله بن دينار فِي هَذَا الْحَدِيث.
وقوله: "وأوضعها": أي أدناها، كما فِي الرواية الأخرى.
وقوله: "إماطة الأذى": أي تنحية ما يؤذي المارّة فِي الطريق، كالشوك، والحجر، والنجاسة، ونحوها.
والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم شرحه، وبيان مسائله فِي الْحَدِيث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5008 -
(حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ -يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ- عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"ابن عجلان": هو محمد. والحديث مختصر منْ الْحَدِيث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
17 - (تَفَاضُلُ أَهْلِ الإِيمَانِ)
5009 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مُلِىءَ عَمَّارٌ إِيمَانًا إِلَى مُشَاشِهِ").
رجال هَذَا الإسناد: ثمانية:
1 -
(إسحاق بن منصور) الكَوْسج، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقة ثبت [11] 72/ 88.
2 -
(عمرو بن عليّ) الفلّاس البصريّ، ثقة ثبت [10] 4/ 4.
3 -
(عبد الرحمن) بن مهديّ بن حسّان البصريّ، ثقة ثبت حجة [9] 42/ 49.
4 -
(سفيان) بن سعيد الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة ثبت إمام [7] 33/ 37.
5 -
(أبو عمّار) عَرِيب بن حُميد الدُّهنِيّ الكوفيّ، ثقة [3] 75/ 2385.
6 -
(الأعمش) سليمان بن مهران الكوفيّ، ثقة ثبت ورع، لكنه يدلّس [5] 17/ 18.
7 -
(عمرو بن شُرَحْبيل) الْهَمْدّانيّ، أبو ميسرة الكوفيّ، ثقة عابدٌ مخضرم [2] 180/ 285.
8 -
(رجل منْ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم) هو ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، كما سيأتي قريبًا. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) فيه أن الرجل مجهول، ولكن جهالة الصحابة لا تضرّ بصحّة الْحَدِيث؛ لإنهم كلهم عدول، عَلَى أنه قد سُمّي عند الحاكم فِي "المستدرك" أنه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، كما سيأتي قريبًا، إن شاء الله تعالى، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مُلِىءَ عَمَّارٌ) فعلٌ ونائب فاعله، وعمّار هو ابن ياسر بن عامر بن مالك الْعَنْسيّ، أبو الْيَقْظَان، مولى بني مخزوم، الصحابيّ المشهور، منْ السابقين إلى الإسلام، بدريّ، قُتل رضي الله عنه بصِفين مع عليّ رضي الله عنه سنة (37) هـ، وتقدمت ترجمته فِي 195/ 312 (إِيمَانًا) الظاهر أنه منصوب عَلَى التمييز، وليس مفعولاً ثانيا لـ"ملىء"؛ لأنه يتعدّى لمفعول واحد، كما فِي "القاموس"، و"اللسان"، و"المصباح"، ويحتمل أن يكون منصوبًا بنزع الخافض، عَلَى رأي منْ يجعله مقيسًا؛ لكثرته. والله تعالى أعلم (إِلَى مُشَاشِهِ) بضمّ الميم، وتخفيف الشين المعجمة: هي رءوس العظام، كالمرفقين، والكتفين، والركبتين. وَقَالَ الجوهريّ: هي رءوس العظام الليّنة التي يُمكن مضغها. قاله فِي "النهاية" 4/ 333.
والمعنى أن عمارًا رضي الله عنه ملأ الإيمان قلبه حَتَّى فاض عَلَى جميع أجزاء بدنه، فملأها حَتَّى وصل إلى رءوس عظامه. ففيه فضيلة لعمار رضي الله عنه، حيث امتلأ إيمانًا، وفيه ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان تفاضل أهل الإيمان فيه، فإنه يدلّ عَلَى أن بَعْضَ المؤمنين وصلوا إلى أن ملأ الإيمان قلبهم حَتَّى فاض عَلَى جسدهم، ومنهم منْ ليس كذلك.
وعمّار رضي الله عنه هو الذي نزل فيه قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ} الآية [النحل: 106]:
قَالَ الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى فِي "تفسيره": رَوَى العوفي، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هذه الآية نزلت فِي عمار بن ياسر، حين عذبه المشركون، حَتَّى يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فوافقهم عَلَى ذلك، مُكرها، وجاء معتذرا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية. وهكذا قَالَ الشعبي، وقتادة، وأبو مالك. وَقَالَ ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن أبي عبيدة ابن محمد بن عمار بن ياسر، قَالَ: أخذ المشركون عمار بن ياسر، حَتَّى قاربهم فِي بعض ما أرادوا، فشكا فِي ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"كيف تجد قلبك؟ " قَالَ: مطمئنا بالإيمان، قَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن عادوا فعد"، ورواه البيهقي بأبسط منْ ذلك، وفيه: أنه سب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذكر آلهتهم بخير، فشكا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يا رسول الله، ما تركت حَتَّى سببتك، وذكرت آلهتهم بخير، قَالَ:"كيف تجد قلبك؟ " قَالَ: مطمئنا بالإيمان، فَقَالَ:"إن عادوا فعد"، وفي ذلك أنزل الله:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} . ذكره ابن كثير فِي "تفسيره" 2/ 588 - 589.
ومعنى الآية -والله تعالى أعلم- إلا منْ أظهر الكفر بلسانه، ووافق المشركين بلفظه، مُكرها لما ناله منْ ضرب، وأذى، وقلبه يأبى ما يقول، وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله، فإنه لا إثم عليه فِي ذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث رجل منْ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم هَذَا صحيح، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، لم يروه منْ هَذَا الوجه منْ أصحاب الأصول غيره، وَقَدْ أخرجه ابن ماجه منْ حديث عليّ رضي الله عنه، كما يأتي فِي التنبيه التالي.
[تنبيه]: هَذَا الْحَدِيث أخرجه الحاكم فِي "مستدركه" 3/ 392 - منْ طريق محمد بن أبي يعقوب، ثنا عبد الرحمن مهدي، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي عمار، عن عمرو بن شُرحبيل، عن عبد الله رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"ملىء عمار إيمانًا إلى مشاشه"، وَقَالَ: هَذَا حديث صحيح، عَلَى شرط الشيخين، إن كَانَ محمد بن أبي يعقوب حفظ عن عبد الرحمن بن مهديّ. انتهى. ووافقه الذهبيّ.
وابن أبي يعقوب هَذَا ثقة منْ شيوخ البخاريّ، واسم أبيه إسحاق، فإذا كَانَ حفظه، فلا يزيد عَلَى كونه صحيحًا؛ لأن أبا عمار ليس منْ رجال الشيخين. أفاده الشيخ الألباني رحمه الله تعالى فِي "الصحيحة" 2/ 466 - 467.
وأخرجه ابن ماجه فِي "سننه"، فَقَالَ:
147 -
حدثنا نصر بن علي الجهضمي، حدثنا عَثَّام بن عليّ، عن الأعمش، عن أبي
إسحاق، عن هانىء بن هانىء، قَالَ:"دخل عمار عَلَى عليّ، فَقَالَ: مرحبًا بالطيّب المطيّب، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ملىء عمّارٌ إيمانًا إلى مشاشه". ورجاله ثقات، رجال البخاريّ، غير هانىء بن هانىء، وهو مستورٌ، كما فى "التقريب". وأخرجه أبو نُعيم فِي "الحلية" 1/ 139. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5010 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ رَأَى مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن بشار) بُندار البصريّ، ثقة ثبت [10] 24/ 27.
2 -
(قيس بن مسلم) الْجَدَليّ، أبو عمرو الكوفيّ، ثقة، رُمي بالإرجاء [6] 50/ 2738.
3 -
(طارق بن شهاب) البجليّ الأحمسيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، يقال: إنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه [2] 204/ 324.
4 -
(أبو سعيد الخدريّ) سعد بن مالك بن سنان رضي الله تعالى عنهما 169/ 262. والباقيان تقدّما فِي السند الماضي. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين منْ سفيان، ومن قبله بصريان، وفيه أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا. والله تعالى
أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ) البجليّ الأحمسيّ، أنه (قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ) سعد بن مالك ابن سنان رضي الله تعالى عنهما.
[تنبيه]: رواية المصنّف رحمه الله تعالى لهذا الْحَدِيث مختصرة، وَقَدْ رواه مسلم رحمه الله تعالى فِي "صحيحه"، مطولاً، فَقَالَ:
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن سفيان ح وحدثنا محمد بن المثنى،
حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، كلاهما عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، وهذا حديث أبي بكر، قَالَ: أول منْ بدأ بالخطبة يوم العيد، قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل، فَقَالَ: الصلاة قبل الخطبة، فَقَالَ: قد تُرِك ما هنالك، فَقَالَ أبو سعيد: أما هَذَا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"منْ رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: قوله: "أول منْ بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان": قَالَ القاضي عياض رحمه الله: اختُلف فِي هَذَا، فوقع هنا ما نراه، وقيل: أول منْ بدأ بالخطبة قبل الصلاة عثمان رضى الله عنه، وقيل: عمر بن الخطاب رضى الله عنه، لَمّا رأى النَّاس يذهبون عند تمام الصلاة، ولا ينتظرون الخطبة، وقيل: بل ليدرك الصلاة منْ تأخر وبعد منزله، وقيل: أول منْ فعله معاوية، وقيل: فعله ابن الزبير رضى الله عنه، والذى ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم، وأبى بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضى الله عنهم تقديم الصلاة، وعليه جماعة فقهاء الأمصار، وَقَدْ عَدّه بعضهم إجماعا -يعنى والله أعلم- بعد الخلاف، أولم يلتفت إلى خلاف بنى أمية، بعد إجماع الخلفاء، والصدر الأول. وفي قوله بعد هَذَا:"أما هَذَا فقد قضى ما عليه"، بمحضر منْ ذلك الجمع العظيم، دليل عَلَى استقرار السنة عندهم عَلَى خلاف ما فعله مروان، وبينه أيضًا احتجاجه بقوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "منْ رأى منكرا فليغيره"، ولا يسمى منكرا لو اعتقده، ومن حضر، أو سبق به عمل، أو مضت به سنة، وفي هَذَا دليل عَلَى أنه لم يعمل به خليفة قبل مروان، وأن ما حُكِي عن عمر، وعثمان، ومعاوية رضي الله عنهم لا يصح. والله أعلم. انتهى "شرح مسلم" 2/ 21.
وَقَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "أول منْ بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان": هَذَا أصحّ ما رُوي فِي أول منْ قدّم الخطبة عَلَى الصلاة، وَقَدْ روي أول منْ فعل ذلك عمر، وقيل: عثمان، وقيل: ابن الزبير، وقيل: معاوية رضي الله عنهم. قَالَ: وبعيد أن يصحّ شيء منْ ذلك عن مثل هؤلاء؛ لأنهم شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلّوا معه أعيادًا كثيرةً، والصحيح المنقول عنه، والمتواتر عند أهل المدينة، تقديم الصلاة عَلَى الخطبة، فكيف يعدل أحد منهم عمّا فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم، وداوم عليه إلى أن تُوفّي؟ فإن صحّ عن واحد منْ هؤلاء أنه قدّم ذلك، فلعلّه إنما فعله لما رأى منْ انصراف النَّاس عن الخطبة، تاركين لسماعها، مستعجلين، أو ليُدرك الصلاة منْ تأخّر، وبعُد منزله، ومع هذين التأويلين، فلا ينبغي أن تُترك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمثل ذلك، واْولئك الملأ أعلم، وأجلّ منْ أن يصيروا إلى ذلك. والله أعلم.
وأما مروان، وبنو أميّة، فإنما قدّموا لأنهم كانوا فِي خُطبهم ينالون منْ عليّ رضي الله عنه، ويُسمعون النَّاس ذلك، فكان النَّاس إذا صلَّوا معهم انصرفوا عن سماع خُطبهم لذلك، فلمّا رأى مروان ذلك، أو منْ شاء الله منْ بني أميّة قدّموا الخطبة ليُسمِعوا النَّاس منْ ذلك ما يَكرهون، والصواب تقديم الصلاة عَلَى الخطبة، كما تقدّم، وَقَدْ حَكَي بعض علمائنا الإجماع. انتهى "المفهم" 1/ 231 - 232.
وقوله: "فقام اليه رجل، فَقَالَ: الصلاة قبل الخطبة، فَقَالَ: قد تُرِك ما هنالك، فَقَالَ أبو سعيد: أما هَذَا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "منْ رأى منكم منكرا فليغيره بيده
…
" الْحَدِيث:
قد يقال: كيف تأخر أبو سعيد رضى الله عنه، عن إنكار هَذَا المنكر، حَتَّى سبقه إليه هَذَا الرجل؟ وجوابه أنه يحتمل أن أبا سعيد، لم يكن حاضرا أول ما شَرَع مروان فِي أسباب تقديم الخطبة، فأنكر عليه الرجل، ثم دخل أبو سعيد، وهما فِي الكلام. ويحتمل أن أبا سعيد كَانَ حاضرا منْ الأول، ولكنه خاف عَلَى نفسه أو غيره حصول فتنة، بسبب إنكاره، فسقط عنه الإنكار، ولم يخف ذلك الرجل شيئا؛ لاعتضاده بظهور عشيرته، أو غير ذلك، أو أنه خاف، وخاطر بنفسه، وذلك جائز فِي مثل هَذَا، بل مستحب. ويحتمل أن أبا سعيد هَمَّ بالإنكار، فبدره الرجل، فعضده أبو سعيد. والله أعلم.
ثم إنه جاء فِي الْحَدِيث الآخر، الذى اتفق البخارى ومسلم رضى الله عنهما عَلَى إخراجه، فِي "باب صلاة العيد" أن أبا سعيد رضي الله عنه هو الذى جذب بيد مروان، حين رآه يصعد المنبر، وكانا جاءا معًا، فرد عليه مروان بمثل ما ردّ هنا عَلَى الرجل، فيحتمل أنهما قضيتان: إحداهما لأبى سعيد، والأخرى للرجل، بحضرة أبى سعيد. والله أعلم.
وأما قوله: "فقد قضى ما عليه"، ففيه تصريح بالإنكار أيضًا منْ أبى سعيد. انتهى "شرح مسلم" 2/ 21 - 22.
وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "فقام إليه رجل الخ": مقتضى هَذَا السياق أن المنكر عَلَى مروان رجلٌ غير أبي سعيد، وأن أبا سعيد مُصوّبٌ للإنكار، مستدلّ عَلَى صحّته، وفي الرواية الأخرى أن أبا سعيد هو المنكر، والمستدلّ، ووجه التوفيق بينهما أن يقال: إن كلّ واحد منْ الرجل وأبي سعيد أنكر عَلَى مروان، فرأى بعض الرواة إنكار الرجل، ورأى بعضهم إنكار أبي سعيد. وقيل: هما واقعتان فِي وقتين، وفيه بُعْدٌ. انتهى "المفهم" 1/ 232.
(سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ رَأَى مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ) إذا كَانَ مما يحتاج فِي
تغييره إلى اليد، مثل كسر أواني الخمر، وآلات اللَّهو، كالمزامير، والأوتار، والطبل، وكمنع الظالم منْ الضرب، والقتل، وغير ذلك (فَإِنْ لم يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ) أي إن لم يستطع تغييره بيده، فليُنكره بلسانه، بأن يقول ما يُرتجَى نفعه، منْ لين، أو إغلاظ، حسبما يكون أنفع، فقد يبلغ بالرفق، والسياسة، ما لا يبلغ بالسيف والرياسة (فَإِنْ لَم يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ) أي فليُغيره بقلبه، ومعناه أن يكره ذلك الفعل بقلبه، وَيعزم عَلَى أن لو قدر عَلَى تغييره لغيره (وَذَلِكَ) أي الاكتفاء بالكراهة بالقلب (أَضْعَفُ الإِيمَانِ) أي أضعف خصال الإيمان. يعني أن تغيير المنكر بقلبه، وهو إنكاره آخر خصلة منْ الخصال المتعينة عَلَى المؤمن فِي تغيير المنكر، فلم يبق بعدها للمؤمن مرتبة أخرى فِي تغييره، ولذلك قَالَ فِي الرواية الأخرى: وليس وراء ذلك منْ الإيمان حبّة خردل"، أي لم يبق وراء هذه المرتبة رتبة أخرى. أفاده القرطبيّ رحمه الله تعالى.
وَقَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: قوله: "أضعف الإيمان": أي أضعف أعمال الإيمان المتعلّقة بإنكار المنكر فِي ذاته، لا بالنظر إلى غير المستطيع، فإنه بالنظر إليه تمام الوسع والطاقة، وليس عليه غيره. انتهى.
[تنبيه]: قَالَ الشيخ عزّ الدين ابن عبد السلام رحمه الله تعالى: فيه سؤالان: (الأول): ما العامل فِي المجرورين الأخيرين؟. (الثاني): قوله: أضعف الإيمان مشكلٌ؛ لأنه يُذمّ فاعله، وأيضًا فقد يعظم إيمان الشخص، وهو لا يستطيع التغيير بيده، فلا يلزم منْ العجز عن التغيير ضعف الإيمان، لكنه قد جعله أضعف الإيمان، فما الجواب؟.
قَالَ: الجواب عن الأول أنه لا يجوز أن يكون العامل "يُغَيِّرْه" المنطوق به؛ لأنه لو كَانَ كذلك، لكان المعنى: فليغيّره بلسانه، وقلبه، لكن التغيير لا يتأتّى باللسان، ولا بالقلب، فيتعيّن أن يكون العامل فليُنكره بلسانه، وليكرهه بقلبه، فيثبت لكلّ واحد منْ الأعضاء ما يناسبه.
وعن الثاني: أن المراد بالإيمان هنا الإيمان المجازيّ
(1)
الذي هو الأعمال، ولا شكّ أن التقرّب بالكراهة، ليس كالتقرّب بالذي ذكره قبله، ولم يُذكر ذلك للذمّ، وذُكر ليعلَم المكلّف حَقَارة ما حصل فِي هَذَا القسم، فيرتقي إلى غيره. انتهى كلام ابن عبد السلام. نقله السيوطيّ فِي كتابه "زَهر الرُّبَى فِي شرح المجتبى" 8/ 112 - 113. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
التعبير بالإيمان المجازيّ فيه نظر لا يخفى، فتبصّر.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي سعيد رضي الله عنه هَذَا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -17/ 5010 و5011 - وأخرجه (م) فِي "الإيمان" 49 (د) فِي "الصلاة" 1140 و"الملاحم" 4340 (ت) فِي "الفتن" 2172 (ق) فِي "الصلاة" 1275 و"الفتن" 4013 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 10689 و10766 و11068 و11100 و11122 و11466. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان تفاضل أهل الإيمان فيه، ووجه الاستدلال به أنه صلى الله عليه وسلم جعل الإنكار بالقلب أضعف الإيمان، فهو يدلّ عَلَى ما قبله، وهو الإنكار بالقول، قويّ الإيمان، والذي قبله، وهو الإنكار باليد أقوى منه، وهذا هو التفاوت. (ومنها): أن قوله صلى الله عليه وسلم: "فليغيّره" أمر، وهو للوجوب، فالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر منْ واجبات الإيمان، ودعائم الإسلام، بالكتاب، والسنّة، وإجماع الأمة، ولا يُعتدّ بخلاف الرافضة فِي ذلك؛ لأنهم إما مكفَّرون، وإما مبدَّعون، فلا يُعتدّ بخلافهم؛ لظهور فسقهم. قاله القرطبيّ. (ومنها): أن وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر عَلَى الكفاية،؛ لقول الله تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} الآية [آل عمران: 104]، فقد عبّر بـ"منْ" التبعيضيّة، إشارة إلى أنه واجب كفائيّ، والله تعالى أعلم. (ومنها): أن شرط وجوبه أمران: العلم بكون ذلك الفعل معروفًا، أو منكرًا؛ لأن ذلك لا يتأتّى للجاهل. والثاني: القدرة عليه؛ لأنه قَالَ: "فإن لم يستطع الخ"، فدلّ عَلَى أن غير المستطيع لا يجب عليه، وإنما عليه أن ينكر بقلبه. والله تعالى أعلم. (ومنها): أنه يدلّ على مراتب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فأولها الإنكار باليد، والثاني الإنكار باللسان، والثالث، وهو الأخير الإنكار بالقلب. (ومنها): أنه يدلّ عَلَى أن منْ خاف عَلَى نفسه القتل، أو الضرب سقط عنه تغيير المنكر، وهو مذهب المحقّقين سلفًا وخلفًا، وذهبت طائفة منْ الغُلاة إلى أنه لا يسقط، وإن خاف ذلك. قاله فِي "المفهم" 1/ 234. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قد تكلّم النوويّ رحمه الله تعالى عَلَى هَذَا الْحَدِيث فِي "شرح مسلم" بكلامٍ نفيسٍ، ملخّص مما قاله المحقّقون، أحببت إيراده هنا، وإن كَانَ بعضه
تقدّم، إلا أن ذكره مجموعًا فِي موضع واحد أعون عَلَى استيعابه، وأسرع لاستحضاره:
قَالَ رحمه الله تعالى: وأما قوله صلى الله عليه وسلم:"فليغيره": فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة، وَقَدْ تطابق عَلَى وجوب الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، وهو أيضًا منْ النصيحة التي هي الدين، ولم يخالف فِي ذلك إلا بعض الرافضة، ولا يُعتَدّ بخلافهم، كما قَالَ الإمام أبو المعالى، إمام الحرمين: لا يُكترث بخلافهم فى هَذَا، فقد أجمع المسلمون عليه قبل أن ينبغ هؤلاء.
ووجوبه بالشرع، لا بالعقل، خلافا للمعتزلة، وأما قول الله عز وجل:{عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} الآية [المائدة: 105]، فليس مخالفا لما ذكرناه؛ لأن المذهب الصحيح عند المحققين فِي معنى الآية: إنكم إذا فعلتم ما كُلِّفتم به، فلا يضركم تقصير غيركم، مثل قوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15]، وإذا كَانَ كذلك، فمما كُلِّف به الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، فإذا فعله، ولم يمتثل المخاطب، فلا عَتْبَ بعد ذلك عَلَى الفاعل؛ لكونه أدى ما عليه، فإنما عليه الأمر والنهى، لا القبول. والله أعلم.
ثم إن الامر بالمعروف، والنهى عن المنكر فرض كفاية، إذا قام به بعض النَّاس، سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثم كل منْ تمكن منه، بلا عذر، ولا خوف.
ثم إنه قد يتعين كما إذا كَانَ فِي موضع لا يعلم به إلا هو، أو لا يتمكن منْ إزالته الا هو، وكمن يرى زوجته، أو ولده، أو غلامه عَلَى منكر، أو تقصير فِي المعروف.
قَالَ العلماء رضى الله عنهم: ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر؛ لكونه لا يفيد فِي ظنه، بل يجب عليه فعله، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]، وَقَدْ قدمنا أن الذى عليه الأمر والنهي، لا القبول، وكما قَالَ الله عز وجل:{وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} [العنكبوت: 18] ومَثَّل العلماء هَذَا بمن يرى إنسانا فِي الحمام، أو غيره، مكشوف بعض العورة، ونحو ذلك، والله أعلم.
قَالَ العلماء: ولا يشترط فِي الآمر والناهى أن يكون كامل الحال، ممتثلا ما يأمر به، مجتنبا ما ينهى عنه، بل عليه الأمر، وإن كَانَ مُخِلّاً بما يأمر به، والنهي وإن كَانَ متلبسا بما ينهى عنه، فإنه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه، وينهاها ويأمر غيره وينهاه، فإذا أخلّ بأحدهما، كيف يباح له الإخلال بالآخر؟.
قَالَ العلماء: ولا يختص الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، بأصحاب الولايات، بل ذلك جائز لآحاد المسلمين، قَالَ إمام الحرمين: والدليل عليه إجماع المسلمين، فإن غير الولاة فِي الصدر الأول، والعصر الذى يليه، كانوا يأمرون الولاة بالمعروف،
وينهونهم عن المنكر، مع تقرير المسلمين إياهم، وترك توبيخهم عَلَى التشاغل بالأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، منْ غير ولاية، والله أعلم.
ثم إنَّه إنما يأمر وينهى، منْ كَانَ عالما بما يأمر به وينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الشىء، فإن كَانَ منْ الواجبات الظاهرة، والمحرمات المشهورة، كالصلاة، والصيام، والزنا، والخمر، ونحوها، فكل المسلمين علماء بها، وإن كَانَ منْ دقائق الأفعال، والأقوال، ومما يتعلق بالاجتهاد، لم يكن للعوام مدخل فيه، ولا لهم إنكاره، بل ذلك للعلماء، ثم العلماء إنما ينكرون ما أُجمع عليه، أما المختلف فيه، فلا إنكار فيه؛ لأن عَلَى أحد المذهبين كل مجتهد مصيب، وهذا هو المختار عند كثيرين منْ المحققين، أو أكثرهم، وعلى المذهب الآخر المصيب واحد، والمخطىء غير متعين لنا، والإثم مرفوع عنه، لكن إن ندبه عَلَى جهة النصيحة إلى الخروج منْ الخلاف، فهو حسن محبوب، مندوب إلى فعله برفق، فإن العلماء متفقون عَلَى الحث عَلَى الخروج منْ الخلاف، إذا لم يلزم منه إخلال بسنة، أو وقوع فى خلاف آخر.
وذكر أقضى القضاة، أبو الحسن الماورديّ البصريّ الشافعيّ فى كتابه "الأحكام السلطانية" خلافا بين العلماء فِي أن منْ قلّده السلطان الْحِسبْة، هل له أن يَحمِل النَّاس عَلَى مذهبه، فيما اختلف فيه الفقهاء، إذا كَانَ المحتسب منْ أهل الاجتهاد، أم لا يغير ما كَانَ عَلَى مذهب غيره، والأصح أنه لا يغير لما ذكرناه، ولم يزل الخلاف فِي الفروع، بين الصحابة والتابعين، فمن بعدهم رضى الله عنهم أجمعين، ولا ينكر محتسب، ولا غيره عَلَى غيره، وكذلك قالوا: ليس للمفتى، ولا للقاضى أن يعترض عَلَى منْ خالفه، إذا لم يخالف نصا، أو اجماعا، أو قياسا جليا، والله أعلم.
(واعلم): أن هَذَا الباب أعني باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قد ضُيِّع أكثره منْ أزمان متطاولة، ولم يبق منه فى هذه الأزمان، إلا رسوم قليلة جدًّا، وهو باب عظيم، به قوام الأمر ومِلاكه، وإذا كثر الخبث عَمّ العقاب الصالح والطالح، وإذا لم يأخذوا عَلَى يد الظالم، أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقابه:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} [النور: 63].
فيبغى لطالب الآخرة، والساعى فِي تحصيل رضا الله عز وجل، أن يعتنى بهذا الباب، فإن نفعه عظيم، لاسيما وَقَدْ ذهب معظمه، ويُخلِص نيته، ولا يهابَنّ منْ ينكر عليه؛ لارتفاع مرتبته، فإن الله تعالى قَالَ:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحجّ: 40]، وَقَالَ تعالى:{وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101]، وَقَالَ تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، وَقَالَ تعالى: {أَحَسِبَ
النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2 - 3].
(واعلم): أن الأجر عَلَى قدر النَّصَب، ولا يتاركه أيضًا لصداقته ومودته، ومداهنته، وطلب الوجاهة عنده، ودوام المنزلة لديه، فإن صداقته ومودته، توجب له حرمة وحقا، ومن حقه أن ينصحه، ويهَديه إلى مصالح آخرته، وينقذه منْ مضارها، وصديق الإنسان ومحبه، هو منْ سعى فِي عمارة آخرته، وإن أدى ذلك إلى نقص فِي دنياه، وعدُوُّه منْ يسعى فِي ذهابِ، أو نقص آخرته، وإن حصل بسبب ذلك صورة نفع فِي دنياه، وإنما كَانَ إبليس عدوا لنا لهذا، وكانت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أولياء للمؤمنين؛ لسعيهم فى مصالح آخرتهم، وهدايتهم إليها، ونسأل الله الكريم توفيقنا، وأحبابنا، وسائر المسلمين لمرضاته، وأن يعمنا بجوده ورحمته، والله أعلم.
وينبغى للآمر بالمعروف، والناهى عن المنكر، أن يَرفُقَ؛ ليكون أقرب إلى تحصيل المطلوب، فقد قَالَ الإمام الشافعيّ رضى الله عنه: منْ وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه. ومما يتساهل أكثر النَّاس فيه منْ هَذَا الباب: ما إذا رأى إنسانا يبيع متاعا معيبا، أو نحوه، فإنهم لا ينكرون ذلك، ولا يُعَرِّفون المشتري بعيبه، وهذا خطأ ظاهر، وَقَدْ نص العلماء عَلَى أنه يجب عَلَى منْ عَلِم ذلك، أن ينكر عَلَى البائع، وأن يُعلم المشتري به، والله أعلم.
وأما صفة النهى، ومراتبه، فقد قَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْحَدِيث الصحيح:"فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه"، فقوله صلى الله عليه وسلم:"فبقلبه": معناه: فليكرهه بقلبه، وليس ذلك بإزالة، وتغيير منه للمنكر، ولكنه هو الذي فى وسعه، وقوله صلى الله عليه وسلم:"وذلك أضعف الإيمان"، معناه -والله أعلم-: أقله ثمرة.
قَالَ القاضى عياض رحمه الله: هَذَا الْحَدِيث أصل فى صفة التغيير، فحق المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به، قولا كَانَ أو فعلاً، فيكسر آلات الباطل، ويريق المسكر بنفسه، أو يأمر منْ يفعله، وينزع الغُصوب، ويردها الى أصحابها بنفسه، أو بأمره إذا أمكنه، ويرفق فِي التغيير جهده بالجاهل، وبذي العزة الظالم الْمَخُوف شره؛ إذ ذلك أدعى إلى قبول قوله، كما يستحب أن يكون متولي ذلك منْ أهل الصلاح والفضل؛ لهذا المعنى، ويُغلظ عَلَى المتمادى فِي غيه، والمسرف فِي بطالته، إذا أمن أن يؤثر إغلاظه منكرا أشد مما غيره؛ لكون جانبه محميا عن سطوة الظالم، فإن غلب عَلَى ظنه أن تغييره بيده، يسبب منكرا أشد منه، منْ قتله، أو قتل غيره، بسببه، كَفَّ يده، واقتصر عَلَى القول باللسان، والوعظ، والتخويف، فإن خاف أن يسبب قوله مثل ذلك، غَيَّر
بقلبه، وكان فِي سعة، وهذا هو المراد بالحديث -إن شاء الله تعالى- وإن وجد منْ يستعين به عَلَى ذلك، استعان ما لم يؤد ذلك إلى إظهار سلاح وحرب، ولْيرفع ذلك إلى منْ له الأمر، إن كَانَ المنكر منْ غيره، أو يقتصر عَلَى تغييره بقلبه، هَذَا هو فقه المسألة، وصواب العمل فيها عند العلماء والمحققين، خلافا لمن رأى الإنكار بالتصريح بكل حال، وإن قُتل ونيل منه كل أَذًى. هَذَا آخر كلام القاضى رحمه الله تعالى.
قَالَ إمام الحرمين رحمه الله تعالى: ويسوغ لآحاد الرعية، أن يَصُدّ مرتكب الكبيرة، إن لم يندفع عنها بقوله، ما لم ينته الأمر إلى نصب قتال، وشَهْر سلاح، فإن انتهى الأمر إلى ذلك، ربط الأمر بالسلطان، قَالَ: وإذا جار والى الوقت، وظهر ظلمه وغشمه، ولم ينزجر حين زُجر عن سوء صنيعه بالقول، فلأهل الحل والعقد التواطؤ عَلَى خلعه، ولو بشهر الأسلحة، ونصب الحروب، هَذَا كلام إمام الحرمين، وهذا الذى ذكره منْ خلعه غريب، ومع هَذَا فهو محمول عَلَى ما إذا لم يُخَف منه إثارة مفسدة أعظم منه.
قَالَ: وليس للآمر بالمعروف البحث، والتنقير، والتجسس، واقتحام الدور بالظنون، بل إن عثر عَلَى منكر غَيره جهده، هَذَا كلام إمام الحرمين.
وَقَالَ أقضى القضاة الماوردى: ليس للمحتسب أن يبحث عما لم يظهر منْ المحرمات، فإن غلب عَلَى الظن استسرار قوم بها؛ لأمارة، وآثار ظهرت، فذلك ضربان:[أحدهما]: أن يكون ذلك فِي انتهاك حرمة، يفوت استدراكها، مثل أن يُخبره منْ يثق بصدقه أن رجلا خلا برجل ليقتله، أو بامرأة ليزني بها، فيجوز له فى مثل هَذَا الحال أن يتجسس، ويُقدم عَلَى الكشف، والبحث حذرا منْ فوات ما لا يُستدرك، وكذا لو عَرَف ذلك غير المحتسب منْ المتطوعة، جاز لهم الإقدام عَلَى الكشف، والإنكار.
[الضرب الثاني]: ما قصر عن هذه الرتبة، فلا يجوز التجسس عليه، ولا كشف الأستار عنه، فإن سمع أصوات الملاهي المنكرة منْ دار، أنكرها خارج الدار، لم يَهُجم عليها بالدخول؛ لأن المنكر ظاهر، وليس عليه أن يكشف عن الباطن. وقد ذكر الماوردي فِي آخر "الأحكام السلطانية" بابا حسنا فى الحسبة، مشتملا عَلَى جُمَل منْ قواعد الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، وَقَدْ أشرنا هنا إلى مقاصده، وبسطت الكلام فى هَذَا الباب؛ لعظم فائدته، وكثرة الحاجة إليه، وكونه منْ أعظم قواعد الإسلام. والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى "شرح صحيح مسلم" 2/ 21 - 26. وهو كلام نفيسٌ جدًّا، ولنفاسته نقلته برمّته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
5011 -
(حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَخْلَدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ
مِغْوَلٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:"مَنْ رَأَى مُنْكَرًا فَغَيَّرَهُ بِيَدِهِ، فَقَدْ بَرِىءَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُغَيِّرَهُ بِيَدِهِ فَغَيَّرَهُ بِلِسَانِهِ، فَقَدْ بَرِىءَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُغَيِّرَهُ بِلِسَانِهِ، فَغَيَّرَهُ بِقَلْبِهِ، فَقَدْ بَرِىءَ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده، وهو حرّانيّ، ثقة [11] 22/ 932. و"مَخْلد": هو ابن يزيد القرشيّ الْحَرّانيّ، صدوقٌ له أوهام، منْ كبار [9] 141/ 222. و"مالك بن مِغْول" -بكسر الميم، وسكون الغين المعجمة، وفتح الواو-: هو أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة ثبت، منْ كبار [7] 98/ 127.
وقوله: "فقد برىء": جواب "إذا" مقدّرةً: أي فإذا فعل ذلك، فقد برىء منْ المشاركة مع أهله فِي الإثم.
والحديث صحيح، وَقَدْ سبق شرحه، وبيان المسائل المتعلّقة به فِي الْحَدِيث الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
18 - (زِيَادَةُ الإِيمَانِ)
5012 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مُجَادَلَةُ أَحَدِكُمْ فِي الْحَقِّ، يَكُونُ لَهُ فِي الدُّنْيَا، بِأَشَدَّ مُجَادَلَةً، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ فِي إِخْوَانِهِمُ، الَّذِينَ أُدْخِلُوا النَّارَ"، قَالَ:"يَقُولُونَ: رَبَّنَا إِخْوَانُنَا كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَحُجُّونَ مَعَنَا، فَأَدْخَلْتَهُمُ النَّارَ"، قَالَ: فَيَقُولُ: "اذْهَبُوا، فَأَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ مِنْهُمْ"، قَالَ:"فَيَأْتُونَهُمْ، فَيَعْرِفُونَهُمْ بِصُوَرِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ النَّارُ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ إِلَى كَعْبَيْهِ، فَيُخْرِجُونَهُمْ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا قَدْ أَخْرَجْنَا مَنْ أَمَرْتَنَا"، قَالَ:"وَيَقُولُ أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ وَزْنُ دِينَارٍ مِنَ الإِيمَانِ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ وَزْنُ نِصْفِ دِينَارٍ، حَتَّى يَقُولَ: مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ"، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْ، فَلْيَقْرَأْ هَذِهِ الآيَةَ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ
يَشَاءُ} إِلَى {عَظِيمًا} [النساء: 48]).
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن رافع) أبو عبد الله النيسابوريّ، ثقة عابد [11] 92/ 114.
2 -
(عبد الرزّاق) بن هَمّام الصنعانيّ ثقة فاضل مصنّف، عمي فتغيّر، ويتشيّع [9] 61/ 77.
3 -
(معمر) بن راشد، أبو عروة البصريّ، ثم اليمنيّ، ثقة ثبت [7] 10/ 10.
4 -
(زيد بن أسلم) العدويّ المدنيّ ثقة فقيه [3] 64/ 80.
5 -
(عطاء بن يسار) الهلاليّ، مولى ميمونة المدنيّ ثقة عابد فاضل [3] 64/ 80. والصحابيّ سبق فِي الْحَدِيث الماضي. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين منْ زيد. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: زيد عن عطاء، وهو منْ رواية الأقران؛ إذ كلاهما منْ الطبقة الثالثة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا) نافية، وهي العاملة عمل "ليس"، واسمها قوله (مُجَادَلَةُ أَحَدِكُمْ فِي الْحَقِّ يَكُونُ لَهُ فِى الدُّنْيَا) جملة "يكون" فِي محلّ جرّ صفة لـ"الحقّ" عَلَى أن تعريفه للجنس (بِأَشَدَّ) الباء زائدة فِي خبر "ما"، كما قَالَ فِي "الخلاصة":
وَبَعْدَ "مَا" و"لَيْسَ" جَرَّ البَا الْخَبَرْ
…
وَبَعْدَ "لَا" ونَفْيِ "كَانَ" قَدْ يُجَرُّ
(مُجَادَلَةً) منصوب عَلَى التمييز، قَالَ السنديّ: وفيه مبالغة، حيث جعل المجادلة ذات مجادة، ولا يجوز جرّ مجادلة بإضافة اسم التفضيل إليها؛ لأنه يلزم الجمع بين الإضافة و"منْ"، واسم التفضيل لا يُستعمل بهما، وأيضًا التنكير يأبى احتمال الإضافة. انتهى. (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي منْ مجادلة المؤمنين "لِرَبِّهِمْ فِي إِخْوَانِهم، الَّذِينَ أُدْخِلُوا النَّارَ) ببناء الفعل للمفعول، أي أدخلهم الله تعالى النار بسبب أعمالهم السيّئة.
والمعنى أنه لا يكون إن مجادلة المؤمنين بعضهم لبعض فِي الدنيا بسبب حقّ يثبت لهم، لا تكون أشدّ منْ مجادلة المؤمنين لربهم سبحانه وتعالى فِي الآخرة، حين يؤذن بدخول الجنة، وَقَدْ أدخل إخوانهم النار بسبب سيّئاتهم، فيناشدون الله سبحانه وتعالى
أن يخرج إخوانهم منْ النار، فيدخوا معهم الجنة، كما يشير إلى هَذَا قوله (قَالَ:"يَقُولُونَ) أي المؤمنون (رَبَّنَا) بتقدير حرف النداء: أي يا ربّنا (إِخْوَانُنَا) خبر لمحذوف، أي هم إخواننا، أو هو مبتدأ، خبره جملة قوله: (كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، ويَحُجُّونَ مَعَنَا) أي كانوا يفعلون هذه العبادات فِي الدنيا، كما كنّا نفعلها، فليس المراد اجتماعهم عَلَى فعلها، فإنه لا يشترط ذلك (فَأَدْخَلْتَهُمُ النَّارَ)، (قَالَ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُ) أي الله سبحانه وتعالى (اذْهَبُوا، فَأخْرِجُوا) هذه الرواية صريحة فِي كون الإخراج للمؤمنين، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاريّ: "أمر الملائكة أن يُخرجوهم"، وفي حديث أنس رضي الله عنه عنده قوله صلى الله عليه وسلم: "فيحُدّ لي حدًّا، فأخرجهم"، وُيجمع بأن الملائكة يؤمرون عَلَى ألسنة الرسل بذلك، فالذين يباشرون الإخراج هم الملائكة. قاله فِي "الفتح" 13/ 284. (مَنْ عَرَفْتُمْ مِنْهُمْ) أي منْ إخوانكم الموصوفين بما ذكرتم (قَالَ: "فَيَأتُونَهُمْ، فَيَعْرِفُونَهُمْ بِصُوَرِهِمْ) أي لأن صور مواضع سجودهم لا تتغيّر بالنار، ففي رواية الشيخين لحديث أبي سعيد رضي الله عنه هَذَا، واللفظ للبخاريّ:"ويُحرّم الله صورهم عَلَى النار"، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"حرّم الله تعالى عَلَى النار أن تأكل أثر السجود"، وآثار السجود تكون فِي أعضائه السبعة.
(فَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ النَّارُ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ إِلَى كَعْبَيْهِ)[فإن قيل]: هَذَا نصّ عَلَى أن النار قد أخذت بعض أعضاء السجود، وهو يخالف ما سبق أن الله تعالى حرّم صورهم عَلَى النار"، وفي الروية الأخرى: "حرم الله تعالى عَلَى النار أن تأكل أثر السجود"، فكيف الجواب؟.
[قلت]: أجيب بأنا نقول: تأخذ النار، فتغيّر، ولا تأكل، فتذهب، ولا يبعد أن يقال: إن تحريم الصور عَلَى النار إنما يكون فِي حقّ هذه الطائفة المشفوع لهم أوّلاً لعلوّ رتبتهم عَلَى منْ يخرج بعدهم، فتكون النار لم تقرب صورهم، ولا وجوههم بالتغيير، ولا الأكل. قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى فِي "المفهم" 1/ 448 - 449.
وَقَالَ فِي "الفتح" عند شرح قوله: فيعرفونهم بعلامة آثار السجود، وحرم الله عَلَى النار أن تأكل منْ ابن آدم أثر السجود": ما حاصله: هَذَا جواب عن سؤال مقدر، تقديره: كيف يعرفون أثر السجود، مع قوله فِي حديث أبي سعيد، عند مسلم:"فأماتهم الله إماتة، حَتَّى إذا كانوا فحما أذن الله بالشفاعة"، فإذا صاروا فحما كيف يتميز محل السجود منْ غيره؟ حَتَّى يُعرف أثره.
وحاصل الجواب تخصيص أعضاء السجود، منْ عموم الأعضاء التي دل عليها هَذَا الخبر، وأن الله منع النار أن تحرق أثر السجود منْ المؤمن، وهل المراد بأثر السجود
نفس العضو، الذي يسجد، أو المراد مَن سجد؟ فيه نظر، والثاني أظهر.
قَالَ القاضي عياض: فيه دليل عَلَى أن عذاب المؤمنين المذنبين مخالف لعذاب الكفار، وأنها لا تأتي عَلَى جميع أعضائهم، إما إكراما لموضع السجود، وعظم مكانهم منْ الخضوع لله تعالى، أو لكرامة تلك الصورة التي خُلق آدم والبشر عليها، وفُضلوا بها عَلَى سائر الخلق.
قَالَ الحافظ: الأول منصوص، والثاني محتمل، لكن يشكل عليه أن الصورة لا تختص بالمؤمنين، فلو كَانَ الإكرام لأجلها لشاركهم الكفار، وليس كذلك.
قَالَ النوويّ: وظاهر الْحَدِيث أن النار لا تأكل جميع أعضاء السجود السبعة، وهي: الجبهة، واليدان، والركبتان، والقدمان، وبهذا جزم بعض العلماء. وَقَالَ عياض: ذِكر الصورة، ودارات الوجوه، يدلّ عَلَى أن المراد بأثر السجود الوجه خاصة، خلافا لمن قَالَ: يشمل الأعضاء السبعة، ويؤيد اختصاص الوجه أن فِي بقية الْحَدِيث:"إن منهم منْ غاب فِي النار إلى نصف ساقيه"، وفي حديث سمرة عند مسلم:"وإلى ركبتيه"، وفي رواية هشام بن سعد فِي حديث أبي سعيد:"وإلى حِقْوه"، قَالَ النوويّ: وما أنكره هو المختار، ولا يمنع منْ ذلك قوله فِي الْحَدِيث الآخر فِي مسلم:"إن قوما يخرجون منْ النار، يحترقون فيها إلا دارات وجوهم"، فإنه يُحمل عَلَى أن هؤلاء قوم مخصوصون منْ جملة الخارجين منْ النار، فيكون الْحَدِيث خاصا بهم، وغيره عاما، فيُحمل عَلَى عمومه، إلا ما خص منه.
قَالَ الحافظ: إن أراد أن هؤلاء يخصون بأن النار لا تأكل وجوههم كلها، وأن غيرهم لا تأكل منهم محل السجود خاصة، وهو الجبهة سَلِمَ منْ الاعتراض، وإلا يلزمه تسليم ما قَالَ القاضي فِي حق الجميع، إلا هؤلاء، وإن كانت علامتهم الغرة كما تقدّم النقل عمن قاله، وما تعقبه بأنها خاصة بهذه الأمة، فيضاف إليها التحجيل، وهو فِي اليدين والقدمين، مما يصل إليه الوضوء، فيكون أشمل مما قاله النوويّ، منْ جهة دخول جميع اليدين والرجلين، لا تخصيص الكفين والقدمين، ولكن ينقص منه الركبتان.
وما استدل به القاضي منْ بقية الْحَدِيث، لا يمنع سلامة هذه الأعضاء، مع الانغمار؛ لأن تلك الأحوال الأخروية خارجة عن قياس أحوال أهل الدنيا.
ودل التنصيص عَلَى دارات الوجوه أن الوجه كله لا تؤثر فيه النار؛ إكراما لمحل السجود، ويحمل الاقتصار عليها عَلَى التنويه بها لشرفها.
وَقَدْ استنبط ابن أبي جمرة منْ هَذَا أن منْ كَانَ مسلما، ولكنه كَانَ لا يصلى لا يخرج، إذ لا علامة له، لكن يُحمل عَلَى أنه يخرج فِي القبضة؛ لعموم قوله: "لم يعملوا خيرا
قط"، وهو مذكور فِي حديث أبي سعيد المذكور عند البخاريّ فِي "كتاب التوحيد".
وهل المراد بمن يَسلَم منْ الاحتراق منْ كَانَ يسجد، أو أعم منْ أن يكون بالفعل، أو القوة؟، الثاني أظهر؛ ليدخل فيه منْ أسلم مثلا وأخلص، فبغته الموت قبل أن يسجد. انتهى "فتح" 13/ 285 - 286.
(فَيُخْرِجُونَهُمْ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا) أي يا ربّنا (قَدْ أَخْرَجْنَا مَنْ أَمَرْتَنَا) أي بإخراجه ممن له علامة يُعرف بها، وهي مواضع السجود، كما سبق آنفاً (قَالَ:"وَيَقُولُ) أي الله سبحانه وتعالى (أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ وَزْنُ دِينَارٍ مِنَ الإِيمَانِ) أي زيادة عَلَى التوحيد؛ لما ثبت فِي حديث آخر: "أخرجوا منْ النار منْ قَالَ: لا إله إلا الله، وعمل منْ الخير ما يرن ذرّة".
(ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ وَزْنُ نِصْفِ دِينَارٍ، حَتَّى يَقُولَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ") بفتح المعجمة، وتشديد الراء المفتوحة، قيل: معناها: أقلّ الأشياء الموزونة. وقيل: هي الهباء الذي يظهر فِي شُعاع الشمس، مثل رءوس الإبر. وقيل: هي النملة الصغيرة. وُيروى عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، أنه قَالَ: إذا وضعت كفّك فِي التراب، ثم نفضتها، فالساقط هو الذّرّ. ويقال: إن أربع ذرّات وزن خَرْدلة. وعند البخاريّ فِي أواخر "كتاب التوحيد" منْ حديث أنس رضي الله عنه، مرفوعًا:"أدخل الجنة منْ كَانَ فِي قلبه خردلة، ثم منْ كَانَ فِي قلبه أدنى شيء"، قَالَ فِي "الفتح": وهذا معنى الذّرّة. انتهى 13/ 145.
[تنبيه]: ضبط "ذَرَّة" بالذال المعجمة، والراء-: هو الصواب، قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: كذا صحّت روايتنا فيه بفتح الذال المعجمة، وتشديد الراء: وهي الصغيرة منْ النمل، ولم يُختلف أنه كذلك فِي هَذَا الْحَدِيث، وَقَدْ صحّفه شعبة فِي حديث أنس رضي الله عنه أي عند مسلم- فَقَالَ:"ذُرَة" بضم الذال المعجمة، وتخفيف الراء، عَلَى ما قيّده أبو عليّ الصدفيّ، والسمرقنديّ، وفيما قيّده الْعُذريّ، والْخُشنيّ "دُرّة" بالدال المهملة، وتشديد الراء: واحدة الدُّرّ، وهو تصحيف التصحيف. انتهى "المفهم" 1/ 449.
(قَالَ أَبُو سَعِيدٍ) الخدريّ رضي الله عنه (فَمَنْ لَم يُصَدِّقْ) قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: هَذَا ليس عَلَى معنى أنهم اتهموه، وإنما كَانَ منه عَلَى معنى التاكيد، والعَضْد. انتهى. "المفهم" 1/ 449 (فَلْيَقرَأْ هَذِهِ الْآيَةَ:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، إِلَى {عَظِيمًا} [النِّساء: 48]) هكذا الآية فِي رواية المصنّف رحمه الله تعالى، والذي فِي "الصحيحين" أن الآية هي قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النِّساء: 40]. وهذه الآية هي الظاهرة فِي
استدلال أبي سعيد رضي الله عنه عَلَى ما قاله، وللآية المذكورة أيضًا وجهٌ، وذلك لأن الله تعالى ذكر أنه يغفر ما دون الشرك، فمن عرف أنه سبحانه وتعالى يغفر جميع الذنوب كبيرها، وصغيرها، غير الشرك، لا يستبعد ما ذُكر فِي هَذَا الْحَدِيث منْ شفاعة المؤمنين لإخوانهم، وإخراجهم لهم منْ النار، وإن كانوا ليست لهم أعمال صالحة، بل هم أصحاب كبائر، بحيث تكون أعمالهم الصالحة لقلّتها بمقدار وزن ذرّة. والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: حديث أبي سعيد رضي الله عنه هَذَا اختصره المصنّف رحمه الله تعالى، وهو حديث طويل ساقه الشيخان فِي "صحيحيهما" بطوله، وهذا لفظ البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "كتاب التوحيد":
حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدريّ، قَالَ: قلنا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قَالَ: هل تضارون فِي رؤية الشمس والقمر، إذا كانت صحوا؟ "، قلنا: لا، قَالَ: "فإنكم لا تضارون فِي رؤية ربكم يومئذ، إلا كما تضارون فِي رؤيتهما"، ثم قَالَ: "ينادي مناد، ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون، فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم، وأصحاب الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم، حَتَّى يبقى منْ كَانَ يعبد الله منْ بر أو فاجر، وغُبَّرات منْ أهل الكتاب، ثم يؤتى بجهنم، تعرض كأنها سراب، فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؛ قالوا: كنا نعبد عزيرًا ابن الله، فيقال: كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون فِي جهنم، ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون فِي جهنم، حَتَّى يبقى منْ كَانَ يعبد الله، منْ بَرّ، أو فاجر، فيقال لهم: ما يحبسكم؟ وَقَدْ ذهب النَّاس فيقولون: فارقناهم، ونحن أحوج منا إليه اليوم، وإنا سمعنا مناديا ينادي: ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، وإنما ننتظر ربنا، قَالَ: فيأتيهم الجبار فِي صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فلا يكلمه إلا الأنبياء، فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه؟، فيقولون: الساق فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن، ويبقى منْ كَانَ يسجد لله رياء وسمعة، فيذهب كيما يسجد، فيعود ظهره طبقا واحدا، ثم يؤتى بالجسر، فيجعل بين ظهري جهنم، قلنا: يا رسول الله، وما الجسر؟ قَالَ: "مَدْحَضَة، مَزَلَّة، عليه خَطاطيف، وكلاليب، وحَسَكة مُفَلْطَحَةٍ، لها شوكة عُقَيفاء، تكون بنجد،
يقال لها: السعدان، المؤمن عليها كالطرف، وكالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب، فناجٍ مسلم، وناج مخدوش، ومكدوس فِي نار جهنم، حَتَّى يمر آخرهم يُسحَب سحبا، فما أنتم بأشد لي مناشدة فِي الحق، قد تبين لكم، منْ المؤمن يومئذ للجبار، فإذا رأوا أنهم قد نجوا، فِي إخوانهم، يقولون: ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا، فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم فِي قلبه مثقال دينار منْ إيمان، فأخرجوه، وُيحَرِّم الله صورهم عَلَى النار، فيأتونهم، وبعضهم قد غاب فِي النار إلى قدمه، وإلى أنصاف ساقيه، فيُخرجون منْ عرفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا، فمن وجدتم فِي قلبه مثقال نصف دينار، فأخرجوه، فيخرجون منْ عرفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم فِي قلبه مثقال ذرة منْ إيمان، فأخرجوه، فيخرجون منْ عرفوا.
قَالَ أبو سعيد: فإن لم تصدقوني، فاقرءوا:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النِّساء: 40]، فيشفع النبيون، والملائكة، والمؤمنون، فيقول الجبار بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة منْ النار، فيُخرج أقواما قد امتحشوا، فيلقون فِي نهر بأفواه الجنة، يقال له: ماء الحياة، فينبتون فِي حافتيه، كما تنبت الحبة فِي حميل السيل، قد رأيتموها إلى جانب الصخرة، وإلى جانب الشجرة، فما كَانَ إلى الشمس منها كَانَ أخضر، وما كَانَ منها إلى الظل كَانَ أبيض، فيخرجون كأنهم اللؤلؤ، فيُجعل فِي رقابهم الخواتيم، فيدخلون الجنة، فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه، فيقال لهم: لكم ما رأيتم، ومثله معه". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -18/ 5012 - وأخرجه (خ) فِي "التوحيد" 7439 (م) فِي "الإيمان" 183 (ق) فِي "المقدّمة" 60 (أحمد) 3/ 16. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان زيادة الإيمان، ووجه ذلك ظاهر فِي قوله:"وزن دينار"، و"وزن نصف دينار"، و"وزن ذرّة"، فإنه يدلّ عَلَى أنَّ الإيمان يقبل الزيادة والنقص، وَقَدْ تقدّم فِي أوائل "كتاب الإيمان" أن مذهب المحدّثين،
والمحققين منْ أهل العلم أن الإيمان قول، وفعل، ويزيد وينقص. (ومنها): إثبات الشفاعة للمؤمنين. (ومنها): فضل المحبّة فِي الله تعالى، فإن هؤلاء المؤمنين الذي يجادلون عن إخوانهم ما حملهم عَلَى ذلك إلا المحبّة التي ربطت بينهم، فقد نفعوهم فِي يوم لا ينفع فيه مال، ولا بنون. (ومنها): تفاوت أهل النار عَلَى قدر تفاوت أعمالهم السيئة. (ومنها): سعة رحمة الله تعالى، وواسع جوده وكرمه، حيث إنه لا يُضيع أعمال عباده، وإن قلت، وكانت مثقال ذرّة، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}. (ومنها): أن الشرك هو الذنب الذي لا ذنب فوقه، ولهذا لا يغفره الله تعالى. (ومنها): أن الله سبحانه وتعالى يغفر ما دون الشرك، وإن كَانَ منْ الكبائر، وَقَدْ تقدّم أن جمهور أهل السنّة احتجّوا بهذه الآية الكريمة عَلَى أن قاتل النفس المحرّمة عمدًا تحت المشيئة، وهذا هو الحقّ؛ لهذه الآية الكريمة، وَقَدْ خالف فِي ذلك ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، ويقال: إنه رجع عن ذلك، وَقَدْ تقدّم بيان ذلك كله فِي محلّه، فلا تنس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5013 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ، وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ، مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَّ، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ دُونَ ذَلِكَ، وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ"، قَالَ: فَمَاذَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الدِّينَ").
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(محمد بن يحيى بن عبد الله) الحافظ الثبت الحجة الذهليّ النيسابوريّ، ثقة ثبت [11] 196/ 314.
2 -
(يعقوب بن إبراهيم) الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة فاضل، منْ صغار [9] 196/ 314.
3 -
(أبوه) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقة حجة [8] 196/ 314.
4 -
(صالح بن كيسان) الغفاريّ المدنيّ، ثقة ثبت [4] 196/ 314.
5 -
(أبو أمامة بن سهل) هو أسعد بن سهل بن حُنيف الأنصاريّ، معروف بكنيته، مختلف فِي صحبته، والصحيح أنه صحابي رؤيةً، وتابعيّ رواية، مات سنة مائة، وله (92)، وتقدّم فِي 8/ 509. والصحابي تقدّم قريبًا. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وفيه ثلاثة منْ ثقات التابعين، أو تابعيان، وصحابيّان، عَلَى خلاف سبق آنفاً فِي أبي أُمامة. والله تعالى أعلم.
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) أنه (قَالَ: حَدثَنِي أَبُو أُمَامَةَ) أسعد (بنُ سَهْلٍ) بن حُنيف (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ) رضي الله عنه. هَذَا الذي رواه أكثر أصحاب الزهريّ، واتفق عليه الشيخان، وَقَدْ أخرجه أحمد منْ طريق معمر، عن الزهريّ، عن أبي أُمامة بن سهل، عن بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأبهمه. قاله فِي "الفتح" 7/ 408.
(قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَا) هي "بين" أُشبعت فتحتها، فصارت ألفا، وَقَالَ الجوهريّ:"بينا" فَعْلَى، مشبعة الفتحة، وتضاف إلى الجملة، وهو قوله:(أنا نَائِمٌ، رَأَيْتُ) هو منْ الرؤية البصرية، ويجوز أن يكون منْ الرؤية العلميّة (النَّاسَ) بالنصب عَلَى المفعوليّة، ويجوز رفعه عَلَى الابتداء، وخبره جملة قوله (يُعْرَضُونَ عَلَيَّ) ببناء الفعل للمفعول: أي يُظهرون لي، يقال: عَرَضَ الشيءَ، منْ باب ضرب: إذا أبداه، وأظهره، والجملة عَلَى كون "رأى" بصرية منصوبة عَلَى الحال، وعلى كونها علمية، هي المفعول الثاني، وأما عَلَى رفع "النَّاس" فهي خبره، والجملة مفعول "رأيت".
قَالَ ابن أبي جمرة رحمه الله تعالى: ما ملخصه: المراد بالناس فِي هَذَا الْحَدِيث المؤمنون؛ لتأويله القميص بالدين، قَالَ: والذي يظهر أن المراد خصوص هذه الأمة المحمدية، بل بعضها، والمراد بالدين العمل بمقتضاه، كالحرص عَلَى امتثال الأوامر، واجتناب المناهي، وكان لعمر رضي الله عنه فِي ذلك المقام العالي. انتهى "فتح" 14/ 428.
[تنبيه]: قد استُشكل هَذَا الْحَدِيث بأنه يلزم منه أن عمر أفضل منْ أبي بكر الصّدّيق رضي الله تعالى عنهما.
[والجواب]: عنه تخصيص أبي بكر منْ عموم قوله: "عُرض عليّ النَّاس"، فلعلّ الذين عُرضوا إذ ذاك لم يكن فيهم أبو بكر رضي الله عنه، وأن كون عمر رضي الله عنه عليه قميص يجرّه، لا يستلزم أن لا يكون عَلَى أبي بكر قميصٌ أطول منه، وأسبغ، فلعلّه كَانَ كذلك، إلا أن المراد كَانَ حينئذ بيان فضيلة عمر رضي الله عنه، فاقتصر عليها. انتهى. "فتح" 7/ 408 - 409.
وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: هؤلاء النَّاس المعروضون عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي النوم هم منْ دون عمر فِي الفضيلة، فلم يدخل فيهم أبو بكر، ولو عُرِض أبو بكر رضي الله عنه-
عليه فِي هذه الرواية لكان قميصه أطول، فإن فضله أعظم، ومقامه أكبر. انتهى. "المفهم" 1/ 252 - 253.
وَقَالَ فِي "الفتح" فِي موضع آخر: ما معناه: ظاهر الْحَدِيث فيه إشكالٌ، وملخصه: أن المراد بالأفضل منْ يكون أكثر ثوابا، والأعمال علامات الثواب، فمن كَانَ عمله أكثر، فدينه أقوى، ومن كَانَ دينه أقوى، فثوابه أكثر، ومن كَانَ ثوابه أكثر، فهو أفضل، فيكون عمر أفضل منْ أبي بكر رضي الله عنه.
وملخص الجواب: أنه ليس فِي الْحَدِيث تصريح بالمطلوب، فيحتمل أن يكون أبو بكر لم يُعْرَض فِي أولئك النَّاس، إما لأنه كَانَ قد عُرض قبل ذلك، وإما لأنه لا يُعْرَض أصلا، وأنه لَمّا عُرض كَانَ عليه قميص أطول منْ قميص عمر. ويحتمل أن يكون سِرُّ السكوت عن ذكره الاكتفاءَ بما عُلِم منْ أفضليته. ويحتمل أن يكون وقع ذكره، فذَهِل عنه الراوي، وعلى التنزل بأن الأصل عدم جميع هذه الاحتمالات، فهو مُعارَض بالأحاديث الدالة عَلَى أفضلية الصديق، وَقَدْ تواترت تواترا معنويا، فهي المعتمدة.
وأقوى هذه الاحتمالات أن لا يكون أبو بكر عُرِض مع المذكورين، والمراد منْ الخبر التنبيه عَلَى أن عمر ممن حصل له الفضل البالغ فِي الدين، وليس فيه ما يصرح بانحصار ذلك فيه. "فتح" فِي "كتاب تعبير الرؤيا" 14/ 427.
(وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ) بضمتين: جميع قميص، كرغيف ورُغُف، ويُجمع أيضًا عَلَى قُمصان، وأقمصة، كرغفان، وأرغفة، والجملة فِي محلّ نصب عَلَى الحال (مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَّ) بضم الثاء المثلّثة، وكسر الدال، وتشديد الياء، جمع ثَدْي بفتح، فسكون، كفلس وفُلُوس، وأصل الثُّديّ: ثُدُويٌ كفُلُوس، اجتمعت فيه الواو، والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فأبدلت الواو ياء، وأدغمت فِي الياء، ثم أبدلت ضمة الدال كسرةً؛ لمناسبة الياء، فصار ثُدِيّا، وإلى هذه القاعدة أشار فِي "الخلاصة" بقوله:
إِنْ يَسْكُنِ السَّابِقُ مِنْ وَاوٍ وَيَا
…
وَاتَّصَلَا وَمِنْ عُرُوضٍ عَرِيَا
فَيَاءً الْوَاوَ اقْلِبَنَّ مُدْغِمَا
…
وَشَذَّ مُعْطَى غَيْرَ مَا قَدْ رُسِمَا
ويقال فيه أيضًا: ثِدِيّ بكسر الثاء؛ إتباعًا لما بعدها منْ الكسرة.
قَالَ الجوهريّ: الثدي يُذكّر، ويُؤنّث، وهو للمرأة والرجل جميعًا، وقيل: يختصّ بالمرأة، والصحيح الأول. أفاده العيني فِي "عمدة القاري" 1/ 198.
ومعنى الْحَدِيث: أن القميص قصيرٌ جدًّا، بحيث لا يصل منْ الحلق إلى نحو السرّة، بل فوقها. قاله فِي "الفتح" 14/ 426.
(وَمِنْهَا) أي منْ القمُص (مَا يَبلُغُ دُونَ ذَلِكَ) قَالَ فِي "الفتح" 14/ 426: يحتمل أن
يريد دونه منْ جهة السفل، وهو الظاهر، فيكون أطول، ويحتمل أن يريد دونه منْ جهة العلو، فيكون أقصر، ويؤيّد الأول ما فِي رواية الترمذيّ الحكيم منْ طريق أخرى عن ابن المبارك، عن يونس، عن الزهريّ، فِي هَذَا الْحَدِيث:"فمنهم منْ كَانَ قميصه إلى سرته، ومنهم منْ كَانَ قميصه إلى ركبته، ومنهم منْ كَانَ قميصه إلى أنصاف ساقيه". انتهى.
(وَعُرِضَ) بالبناء للمفعول (عَلَيَّ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه (وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ) جملة حالية منْ "عمر"، وقوله (يَجُرُّهُ) جملة فِي محلّ رفع صفة لـ"قميص"(قَالَ) أي بعض الصحابة، فالضمير المستتر راجع إلى مفهوم، وفي رواية البخاريّ:"قالوا"، وهي أوضح: أي قَالَ الصحابة الحاضرون عنده صلى الله عليه وسلم حينما حدّث برؤياه هذه. وفي رواية الترمذيّ الحكيم: "فَقَالَ له أبو بكر: عَلَى ما تأولت هَذَا يا رسول الله"، فتبين بهذه الرواية أن القائل هو أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه (فَمَاذَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟) منْ التأويل، وهو فِي الأصل: تفسير ما يئول إليه الشيء، والمراد هنا: هو التعبير: أي بماذا عبّرت هذه الرؤيا (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (الدِّينَ) بالنصب مفعول لمحذوف: أي أولته الدين، ويجوز رفعه، عَلَى أنه خبر لمحذوف: أي هو الدين، وفي رواية الترمذيّ الحكيم:"قَالَ: عَلَى الإيمان"، قاله فِي "الفتح" 14/ 426 فِي "كتاب التعبير".
قيل: وجه تعبير القميص بالدين، أن القميص يستر العورة فِي الدنيا، والدين يسترها فِي الآخرة، ويحجبها عن كل مكروه، والأصل فيه قوله تعالى:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} الآية [الأعراف: 26]، والعرب تَكْنِي عن الفضل، والعفاف بالقميص، كما قَالَ شاعرهم:
ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طَهَارَى نَقِيَّةٌ
…
وَأَوْجُهُهُم بِيض الْمَسَافِرِ غُرَّانُ
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم، لعثمان رضي الله عنه:"إن الله سيُلبِسك قميصا، فإن أرادوا أن تخلعه، فلا تخلعه"، أخرجه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وصححه ابن حبّان، فعبّر عن الخلافة بالقميص، وهي استعارة حسنة معروفة. واتفق أهل التعبير عَلَى أن القميص يُعَبَّر بالدين، وأن طوله يدلّ عَلَى بقاء آثار صاحبه منْ بعده.
وَقَالَ ابن العربي رحمه الله تعالى: إنما أوله النبيّ صلى الله عليه وسلم بالدين؛ لأن الدين يستر عورة الجهل، كما يستر الثوب عورة البدن، قَالَ: وأما غير عمر، فالذي كَانَ يبلغ الثُّدِيّ هو الذي يستر قلبه عن الكفر، وإن كَانَ يتعاطى المعاصي، والذي كَانَ يبلغ أسفل منْ ذلك، وفرجه باد، هو الذي لم يستر رجليه عن المشي إلى المعصية، والذي يستر رجليه هو الذي احتجب بالتقوى منْ جميع الوجوه، والذي يجر قميصه، هو الذي يكون
زائدا عَلَى ذلك بالعمل الخالص. انتهى "فتح" 14/ 427 "كتاب التعبير" بزيادة منْ "المفهم" 1/ 253 - 254.
وَقَالَ الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى: وإنما فسّر القمُص فِي المنام بالدين؛ لأن الدين، والإسلام، والتقوى كلُّ هذه توصف بأنها لباسٌ، قَالَ تعالى:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]، وَقَالَ أبو الدرداء: الإيمان كالقميص يلبسه الإنسان تارةً، وينزعه أخرى، وفي الْحَدِيث:"لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن، ينزع منه سربال الإيمان"
(1)
. وَقَالَ النابغة [منْ البسيط]:
الْحَمْدُ لِلهِ إِذْ لَمْ يَأْتِنِي أَجَلى
…
حَتَّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الإِسْلَامِ سِرْبَالَا
وَقَالَ أبو العتاهية [منْ الطويل]:
إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَلْبَسْ ثِيَابًا مِنَ التُّقَى
…
تَقَلَّبَ عُرْيَانًا وَإِنْ كَانَ كَاسِيَا
فهذه كلها كسوة الباطن، وهو الروح، وهو زينة لها، كما فِي حديث عمّار رضي الله عنه:"اللَّهمّ زيّنّا بزينة الإيمان"
(2)
، كما أن الرياش زينة للجسد، وكسوة له، قَالَ تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]، ومن هنا قَالَ مجاهد، والشعبيّ، وقتادة، والضحّاك، والنخعيّ، والزهريّ، وغيرهم فِي قوله تعالى:{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدّثّر: 4]: إن المعنى طهّر نفسك منْ الذنوب. وَقَالَ سعيد بن جُبير: وقلبك فطهّر، وقريبٌ منه قول منْ قَالَ: وعملك فأصلح، رُوي عن مجاهد، وأبي روق، والضحّاك. وعن الحسن، ومحمد بن كعب القرظيّ، قالا: خُلُقك حسنه. فكنى بالثياب عن الأعمال، وهي منْ الدين، والتقوى، والإيمان، والإسلام، وتطهيره إصلاحه، وتخليصه منْ المفسدات له، وبذلك تحصل طهارة النفس، والقلب، والنية، وبه يحصل حسن الخلق؛ لأن الدين هو الطاعات التي تصير عادة، ودَيدَنًا، وخُلُقًا، قَالَ تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وفسّره ابن عبّاس بالدين. انتهى "شرح البخاريّ لابن رَجَب" 1/ 99 - 101. وهو بحث نفيس والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
(1)
متَّفقٌ عليه دون قوله: "ينزع منه سربال الإيمان" وانظر "تعظيم قدر الصلاة" 1/ 492 - 496.
(2)
"المسند" 4/ 264 وتقدم فِي "المجتبى""تاب الصلاة" 62/ 1305.
حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -18/ 5013 - وأخرجه (خ) فِي "الإيمان" 23 و"المناقب" 3691 و"التعبير" 7008 و7009 (م) فِي "فضائل الصحابة" 2390 (ت) فِي "الرؤيا" 2285 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 11405 (الدارمي) فِي "الرؤيا"2058. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان تفاضل أهل الإيمان فيه بالقلة، والكثرة، وبالقوة، والضعف، ووجه الاستدلال بالحديث أنه صلى الله عليه وسلم أري النَّاس، وعليهم قُمُص مختلفة المقدار بالطول والقصر، وأول ذلك عَلَى تفاوتهم فِي الدين، والديني، والإيمان، والإسلام بمعنى، كما قَالَ الله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، وَقَالَ:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينً} [المائدة: 3]، وَقَالَ:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم بعد أن أجاب جبريل عليه السلام فِي سؤاله عن الإيمان، والإسلام، والإحسان:"هَذَا جبربل جاءكم يعلمكم دينكم"، فجعل كله دينًا.
وَقَالَ الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى: وهذا الْحَدِيث نصّ فِي أن الدين يتفاضل، وَقَدْ استُدلّ عليه بقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، وأشار البخاريّ إلى ذلك فِي موضع آخر. ويدلّ عليه أيضًا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم للنساء:"ما رأيت منْ ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم منْ إحداكنَّ"، متَّفقٌ عليه. وفسّر نقصان دينها بتركها الصوم والصلاة أيام حيضها، فدلّ عَلَى دخول الصوم والصلاة فِي اسم الدين. وَقَدْ صرّح بدخول الأعمال فِي الدين طوائف منْ العلماء، والمتكلّمين، منْ الحنابلة وغيرهم. فمن قَالَ: الاسلام، والإيمان واحدٌ، فالدين عنده مرادفٌ لهما، وهو اختيار البخاريّ، ومحمد بن نصر المروزيّ، وغيرهما منْ أهل الْحَدِيث، ومن فرّق بينهما، فاختلفوا فِي ذلك، فمنهم منْ قَالَ: إن الدين أعم منهما، فإنه يشمل الإيمان، والإسلام، والإحسان، كما دلّ عليه حديث جبريل عليه السلام، وَقَدْ أشار البخاريّ إلى هَذَا فيما بعدُ، لكنه ممن لا يفرّق بين الإسلام والإيمان. ومن قَالَ: الإيمان التصديق، والإسلام الأعمال، فأكثرهم جعل الدين هو الإسلام، وأدخل فيه الأعمال، وإنما أخرج الأعمال منْ مسمّى الدين بعض المرجئة. ومن قَالَ الإسلام الشهادتان، والإيمان العمل، كالزهريّ، وأحمد فِي رواية، وهي التي نصرها القاضي أبو يعلى جعل الدين
هو الإيمان بعينه، وأجاب عن قوله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} الآية [آل عمران: 19] أن بعض الدين الإسلام، وهذا بعيدٌ. وأما منْ قَالَ: إن كلّا منْ الإسلام والإيمان إذا أُطلقا مجرّدًا دخل الآخر فيه، وإنما يفرّق بينهما عند الجمع بينهما، وهو الأظهر، فالدين هو مسمّى كل واحد منهما عند إطلاقه، وأما عند اقترانه بالآخر فالدين أخصّ باسم الإسلام، لأن الإسلام هو الاستسلام، والخضوع، والانقياد، وكذلك الدين يقال: دانه يدينه: إذا قهره، ودان له: إذا استسلم له، وخضع، وانقاد، ولهذا سمّى الله الإسلام دينًا، فَقَالَ:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، وَقَالَ:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} الآية [آل عمران: 85]، وَقَالَ:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. انتهى كلام إبن رَجَب فِي "شرح البخاريّ" 1/ 98 - 99. وَقَدْ تقدّم بيان هَذَا كلّه فِي أوائل "كتاب الإيمان"، فلا تنس نصيبك منه، الله يتولّى هداك.
(ومنها): ما قاله فِي "الفتح" أن هَذَا منْ أمثلة ما يُحمَد فِي المنام، ويُذَمّ فِي اليقظة شرعًا، أعني جر القميص؛ لما ثبت منْ الوعيد فِي تطويله، وعكس هَذَا ما يُذَمّ فِي المنام، ويُحمَد فِي اليقظة.
(ومنها): أن فيه مشروعيةَ تعبير الرؤيا، وسؤال العالم بها عن تعبيرها، ولو كَانَ هو الرائي. (ومنها): أن فيه الثناء عَلَى الفاضل بما فيه؛ لأظهار منزلته عند السامعين، ولا يخفى أن محل ذلك إذا أُمِن عليه منْ الفتنة بالمدح، كالإعجاب. (ومنها): أن بيانَ فيه فضيلةِ عُمَر رضي الله عنه.
(ومنها): ما قاله ابن أبي جمرة رحمه الله تعالى: يؤخذ منْ الْحَدِيث أن كل ما يُرى فِي القميص، منْ حسن، أو غيره، فإنه يعبر بدين لابسه قَالَ: والنكتة فِي القميص أنّ لابسه، إذا اختار نزعه، وإذا اختار أبقاه، فلما ألبس الله المومنين لباس الإيمان، واتصفوا به كَانَ الكامل فِي ذلك سابغ الثوب، ومن لا فلا، وَقَدْ يكون نقص الثوب بسبب نقص الإيمان، وَقَدْ يكون بسبب نقص العمل. والله أعلم.
وَقَالَ غيره: القميص فِي الدنيا ستر عورة، فما زاد عَلَى ذلك كَانَ مذموما، وفي الآخرة زينة محضة، فناسب أن يكون تعبيره بحسب هيئته، منْ زيادة، أو نقص، ومن حسن وضده، فمهما زاد منْ ذلك، كَانَ منْ فضل لابسه، وينسب لكل ما يليق به منْ دين، أو علم، أو جمال، أو حلم، أو تقدّم فِي فئة، وضِدُّهُ لضده. قاله فِي "الفتح" 14/ 428. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5014 -
(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُمَيْسٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ، تَقْرَءُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ، لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا} فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لأَعْلَمُ الْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، وَالْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عَرَفَاتٍ، فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه أبي داود سليمان بن سيف الحرّانيّ، فإنه منْ أفراده، وهو حافظ ثقة. و"جعفر بن عون": هو أبو عون الكوفيّ، صدوقٌ [9]. و"أبو عُميس": هو عتبة بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الكوفيّ الثقة [7]. وقيس، وطارق تقدّما فِي الباب الماضي.
وقوله: "لاتخذنا ذلك اليوم": أي يوم نزول الآية. وقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]: فيه نسبة الإكمال للدين، وأخذ منه المصنّف رحمه الله تعالى القول بزيادة الإيمان، قَالَ السنديّ: وفيه خفاء.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد سبقه إلى الاستدلال عَلَى زيادة الإيمان ونقصانه بهذه الآية الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى، فَقَالَ فِي "صحيحه":"باب زيادة الإيمان ونقصانه"، وَقَالَ الله تعالى:{وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13]، {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثّر: 31]، وَقَالَ:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فإذا ترك شيئا منْ الكمال، فهو ناقص. انتهى.
قَالَ فِي "الفتح": ووقع الاستدلال فِي هذه الآية بنظير ما أشار إليه البخاريّ لسفيان ابن عيينة، أخرجه أبو نعيم فِي ترجمته، منْ "الحلية"، منْ طريق عمرو بن عثمان الرَّقّيّ، قَالَ: قيل لابن عيينة: إن قوما يقولون: الإيمان كلام، فَقَالَ: كَانَ هَذَا قبل أن تنزل الأحكام، فأُمر النَّاس أن يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا دماءهم، وأموالهم، فلما عَلِم الله صدقهم، أمرهم بالصلاة، ففعلوا، ولو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار، فذكر الأركان إلى أن قَالَ، فلما علم الله ما تتابع عليهم منْ الفرائض، وقبولهم، قَالَ:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية [المائدة: 3]، فمن ترك شيئا منْ ذلك كَسَلا، أو مُجُونا أدّبناه عليه، وكان ناقص الإيمان، ومن تركها جاحدا كَانَ كافرا. انتهى ملخصا.
وتبعه أبو عبيد فِي "كتاب الإيمان له"، فذكر نحوه، وزاد أن بعض المخالفين لما أُلْزِم بذلك، أجاب بأن الإيمان ليس هو مجموع الدين، إنما الدين ثلاثة أجزاء، الإيمان
جزء، والأعمال جزآن، لأنها فرائض، ونوافل. وتعقبه أبو عبيد، بأنه خلاف ظاهر القرآن، وَقَدْ قَالَ الله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، والإسلام حيث أُطلق مفردا دخل فيه الإيمان، كما تقدّم تقريره.
[فإن قيل]: فلم أعاد فِي هَذَا الباب الآيتين المذكورتين فيه وَقَدْ تقدمتا فِي أول "كتاب الإيمان".
[فالجواب]: أنه أعادهما ليوطىء بهما معنى الكمال المذكور فِي الآية الثالثة؛ لأن الاستدلال بهما نص فِي الزيادة، وهو يستلزم النقص، وأما الكمال فليس نصا فِي الزيادة، بل هو مستلزم للنقص فقط، واستلزامه للنقص يستدعي قبوله الزيادة، ومن ثم قَالَ المصنّف: فإذا ترك شيئا منْ الكمال فهو ناقص، ولهذه النكتة عدل فِي التعبير للآية الثالثة عن أسلوب الآيتين، حيث قَالَ أولا: وقول الله، وَقَالَ ثانيا: وَقَالَ، وبهذا التقرير يندفع اعتراض منْ اعترض عليه، بأن آية أكملت لكم لا دليل فيها عَلَى مراده؛ لأن الإكمال إن كَانَ بمعنى إظهار الحجة عَلَى المخالفين، أو بمعنى إظهار أهل الدين عَلَى المشركين، فلا حجة للمصنف فيه، وإن كَانَ بمعنى إكمال الفرائض، لزم عليه أنه كَانَ قبل ذلك ناقصا، وأن منْ مات منْ الصحابة قبل نزول الآية، كَانَ إيمانه ناقصا، وليس الأمر كذلك؛ لأن الإيمان لم يزل تاما.
ويوضح دفع هَذَا الاعتراض جواب القاضي أبي بكر بن العربي، بأن النقص أمر نسبي، لكن منه ما يترتب عليه الذم، ومنه ما لا يترتب، فالأول مانقصه بالاختيار، كمن علم وظائف الدين، ثم تركها عمدا، والثاني ما نقصه بغير اختيار، كمن لم يعلم، أو لم يكلف، فهذا لا يُذَمّ، بل يحمد منْ جهة أنه كَانَ قلبه مطمئنا، بأنه لو زيد لقبل، ولو كلف لعمل، وهذا شأن الصحابة الذين ماتوا قبل نزول الفرائض.
ومحصله: أن النقص بالنسبة إليهم صورى نسبي، ولهم فيه رتبة الكمال، منْ حيث المعنى، وهذا نظير قول منْ يقول: إن شرع محمد صلى الله عليه وسلم أكمل منْ شرع موسى وعيسى عليهما السلام؛ لاشتماله منْ الأحكام عَلَى ما لم يقع فِي الكتب التي قبله، ومع هَذَا فشرع موسى فِي زمانه، كَانَ كاملا، وتجدد فِي شرع عيسى بعده ما تجدد، فالأكملية أمر نسبي، كما تقرر. والله تعالى أعلم. انتهى "فتح" 1/ 143 - 144. "كتاب الإيمان" وهو بحث نفيس جدًّا.
وقوله: "فِي عرفة، فِي يوم جمعة": أي فقد جمع الله سبحانه وتعالى لنا فِي يوم نزولها عيدين؛ منّةً منه تعالى، منْ غير تكلّف منا، فله الحمد عَلَى تمام نعمته.
وَقَالَ الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى: بعد أن أورد الْحَدِيث: ما نصّه: وَقَدْ
خرّجه ابن جرير الطبريّ فِي "تفسيره" منْ وجه آخر عن عمر رضي الله عنه، وزاد فيه أنه قَالَ:"وكلاهما بحمد الله لنا عيد". وخرج الترمذيّ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ هذه الآية، وعنده يهوديّ، فَقَالَ: لو أنزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدًا، فَقَالَ ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: فإنها نزلت فِي يوم عيدين: فِي يوم جمعة، ويوم عرفة.
فهذا قد يؤخذ منه أن الأعياد لا تكون بالرأي والاختراع، كما يفعله أهل الكتابين منْ قبلنا، إنما تكون بالشرع والاتّباع، فهذه الآية لَمّا تضمنت إكمال الدين، وإتمام النعمة أنزلها الله فِي يوم شرعه عيدا لهذه الأمة منْ وجهين:
[أحدهما]: يوم عيد الأسبوع، وهو يوم الجمعة. [والثاني]: أنه يوم عيد الموسم، وهو يوم مجمعهم الأكبر، وموقفهم الأعظم، وَقَدْ قيل: إنه يوم الحجّ الأكبر. وَقَدْ جاء تسميته عيدًا فِي حديث مرفوع، خرجه أهل "السنن" منْ حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"يوم عرفة، ويوم النحر، وأيّام التشريق عيدنا أهلَ الإسلام، وهي أيام أكل وشرب"
(1)
.
وَقَدْ أشكل وجهه عَلَى كثير منْ العلماء؛ لأنه يدلّ عَلَى أن يوم عرفة يوم عيد، لا يصام، كما رُوي ذلك عن بعض المتقدّمين، وحمله بعضهم عَلَى أهل الموقف، وهو الأصحّ؛ لأنه اليوم الذي فيه أعظم مجامعهم، ومواقفهم، بخلاف أهل الأمصار، فإن يوم اجتماعهم يوم النحر، وأما أيام التشريق، فيُشارك أهل الأمصار أهل الموسم فيها؛ لأنها أيام ضحاياهم، وأكلهم منْ نسكهم.
هَذَا قول جمهور العلماء. وَقَالَ عطاء: إنما هي أعياد لأهل الموسم، فلا يُنهى أهلُ الأمصار عن صيامها، وقول الجمهور أصحّ.
ولكن الأيام التي يحدُث فيها حوادث منْ نعم الله تعالى عَلَى عباده لو صامها بعض النَّاس شكرًا منْ غير اتخاذها عيدًا، كَانَ حسنًا؛ استدلالاً بصيام النبيّ صلى الله عليه وسلم عاشوراء لَمّا أخبره اليهود بصيام موسى عليه السلام له شُكرًا، ويقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا سُئل عن صيام يوم الاثنين، قَالَ:"ذلك يوم وُلدتُّ فيه، وأُنزل عليّ فيه".
فأما الأعياد التي يجتمع عليها النَّاس، فلا يتجاوز بها ما شرعه الله لرسوله، وشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته.
والأعياد هي مواسم الفرح والسرور، وإنما شرع الله تعالى لهذه الأمة الفرح
(1)
تقدّم للمصنف فِي "الحجّ" 195/ 3004. وأخرجه أبو داود (2419)، والترمذيّ فِي (773).
والسرور بتمام نعمته، وكمال رحمته، كما قَالَ تعالى:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} الآية [يونس: 58]، فشرع لهم عيدين فِي سنة، وعيدًا فِي كلّ أسبوع، فأما عيدا السنة، فأحدهما: تمام صيامهم الذي افترضه عليهم كلَّ عام، فإذا أَتَمُّوا صيامهم أعتقهم منْ النار، فشرع لهم عيدًا بعد إكمال صيامهم، وجعله يوم الجوائز، يرجعون فيه منْ خروجهم إلى صلاتهم، وصدقتهم بالمغفرة، وتكون صدقة الفطر، وصلاة العيد شكرًا لذلك.
والعيد الثاني: أكبر العيدين عند تمام حجّهم، بإدراك حجهم بالوقوف بعرفة، وهو يوم العتق منْ النار، ولا يحصل العتق منْ النار، والمغفرة للذنوب والأوزار فِي يوم منْ أيام السنة أكثر منه، فجعل الله عقب ذلك عيدًا، بل هو العيد الأكبر، فيُكْمِل أهلُ الموسم فيه مناسكهم، ويقضون تفثهم، ويوفون نذورهم، ويطوفون بالبيت العتيق، ويشاركهم أهل الأمصار فِي هَذَا العيد؛ فإنهم يشاركونهم فِي يوم عرفة فِي العتق والمغفرة، وإن لم يُشاركونهم فِي الوقوف بعرفة؛ لأن الحجّ فريضة العمر، لا فريضة كلّ عام، بخلاف الصيام، ويكون الشكر فيه عند أهل الأمصار الصلاة، والنحر، والنحر أفضل منْ الصدقة التي فِي يوم الفطر، ولهذا أمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يشكر نعمته بإعطائه الكوثر بالصلاة له، والنحر، كما شرع ذلك لإبراهيم خليله عليه السلام عند أمره بذبح ولده، وافتدائه بذبح عظيم.
وأما عيد الأسبوع، فهو يوم الجمعة، وهو متعلّقٌ بإكمال فريضة الصلاة، فإن الله فرض عَلَى عباده المسلمين الصلاة كلّ يوم وليلة خمس مرّات، فإذا كملت أيام الأسبوع التي تدور الدنيا عليها، وأكملوا صلاتهم فيها شرع لهم يوم إكمالها، وهو اليوم الذي انتهى فيه الخلق، وفيه خُلق آدم، وأُدخل الجنة عيدًا، يجتمعون فيه عَلَى صلاة الجمعة، وشرع لهم الخطبة، تذكيرًا بنعم الله عليهم، محثًا لهم عَلَى شكرها، وجعل شهود الجمعة بأدائها كفّارة لذنوب الجمعة كلها، وزيادة ثلاثة أيام. وَقَدْ رُوي أن يوم الجمعة أفضل منْ يوم الفطر، ويوم النحر. خرّجه الإمام أحمد فِي "مسنده" 3/ 430 منْ حديث أبي لبابة رضي الله عنه. وقاله مجاهد، وغيره. ورُوي أنه حج المساكين، ورُوي عن عليّ رضي الله عنه أنه يوم نسك المسلمين. قَالَ ابن المسيّب: الجمعة أحبّ إليّ منْ حج التطوّع.
وجعل الله التبكير إلى الجمعة كالهدي، فالمبكر فِي أول ساعة كالمهدي بدنةً، ثم كالمهدي بقرةً، ثم كالمهدي كبشًا، ثم كالمهدي دجاجةً، ثم كالمهدي بيضةً.
ويوم الجمعة يوم المزيد فِي الجنة الذي يزور أهل الجنة فيه ربهم، ويتجلّى لهم فِي قدر صلاة الجمعة. وكذلك رُوي فِي يوم العيدين أن أهل الجنة يزورون ربهم فيهما،
وأنه يتجلّى فيهما لأهل الجنة عمومًا، يشارك الرجال فيها النِّساء. فهذه الأيام أعياد للمؤمنين فِي الدنيا، وفي الآخرة عمومًا. وأما خواص المؤمنين فكل يوم لهم عيد، كما قَالَ بعض العارفين، وروي عن الحرم
(1)
كل يوم لا يُعصى الله فيه فهو عيد. ولهذا روي أن خواصّ أهل الجنة يزورون ربهم، وينظرون إليه كلّ يوم مرتين بكرةً وعشيًّا، وَقَدْ خرّجه الترمذيّ منْ حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، مرفوعًا، وموقوفًا. ولهذا المعنى والله أعلم- لَمّا ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم الرؤية فِي حديث جرير بن عبد الله البجليّ رضي الله عنه، كما رواه الشيخان، أمر عقب ذلك بالمحافظة عَلَى الصلاة قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها، فإن هذين الوقتين وقت لرؤية خواصّ أهل الجنة ربّهم، فمن حافظ عَلَى هاتين الصلاتين عَلَى مواقيتهما، وأدائهما، وخشوعهما، وحضور القلب فيهما رُجي له أن يكون ممن ينظر إلى الله تعالى فِي الجنة فِي وقتهما.
فتبيّن بهذا أن الأعياد تتعلّق بإكمال أركان الإسلام، فالأعياد الثلاثة المجتمع عليها تتعلّق بإكمال الصلاة، والصيام، والحجّ، فأما الزكاة، فليس لها زمان معيّنٌ، تُكمل فيه، وأما الشهادتان، فإكمالهما، هو الاجتهاد فِي الصدق فيهما، وتحقيقهما، والقيام بحقوقهما، وخواصّ المؤمنين يجتهدون عَلَى ذلك كل يوم ووقت، فلهذا كانت أيامهم كلها أعيادًا، ولذلك كانت أعيادهم فِي الجنة مستمرّة. والله تعالى أعلم. انتهى كلام ابن رَجَب رحمه الله تعالى فِي "شرح البخاريّ" 1/ 173 - 177. وهو تحقيق نفيس، وبحث أنيس.
والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي "كتاب الحجّ" 194/ 3002 ومضى تمام شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، واليه أنيب".
…
19 - (عَلَامَةُ الإيمَانِ)
5015 -
(أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ -يَعْنِي ابْنَ الْمُفَضَّلِ- قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ، مِنْ وَلَدِهِ، وَوَالِدِهِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ").
(1)
هكذا النسخة، ولعله الحسن، أو نحوه، فليُحرّر. والله تعالى أعلم.
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(حميد بن مسعدة) الباهليّ البصريّ، صدوقٌ [10] 5/ 5.
2 -
(بشر بن المفضّل) بن لاحق أبو إسماعيل البصريّ، ثقة ثبت عابدٌ [8] 66/ 82.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة المشهور [7] 24/ 27.
4 -
(قتادة) بن دِعامة السدوسيّ البصريّ، ثقة ثبت يدلّس [4] 30/ 34.
5 -
(أنس) بن مالك الصحابيّ المشهور رضي الله تعالى عنه 6/ 6. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين، وفيه تصريح قتادة بالسماع، فلا يُخشى منْ تدليسه، عَلَى أن الراوي عنه شعبة، وهو لا يروي عنه إلا ما صرّح بسماعه منْ شيوخه، وفيه أنس رضي الله عنه منْ المكثرين السبعة، وهو آخر منْ مات منْ الصحابة بالبصرة، كما سبق بيانه غير مرّة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ قَتَادَةَ) بن دِعامة السدوسيّ البصريّ (أَنَّهُ سَمِعَ أنَسًا) أي ابن مالك رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يُؤمِنُ أَحَدُكُمْ) أي إيمانًا كاملاً، وفي رواية الإسماعيليّ:"لا يؤمن الرجل"، قَالَ فِي "الفتح": وهو أشمل منْ جهة، و"أحدكم" أشمل منْ جهة، وأشمل منهما رواية الأصيليّ:"لا يؤمن أحد". انتهى (حَتَّى أَكُونَ أحَبَّ) هو أفعل تفضيل بمعنى المفعول، وهو مع كثرته عَلَى خلاف القياس، وفصل بينه وبين معموله بقوله:(إِلَيْهِ) لأن الممتنع الفصل بأجنبيّ (مِنْ وَلَدِهِ، وَوَالِدِهِ) قدّم الولد فِي رواية المصنّف عَلَى الوالد لمزيد الشفقة، وقدّم الوالد فِي رواية البخاريّ؛ نظرًا للأكثريّة؛ لأن كلّ أحد له والد منْ غير عكس (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) منْ عطف العام عَلَى الخاصّ. قَالَ فِي "الفتح": وذِكرُ الولد والوالد، أدخل فِي المعنى؛ لأنهما أعز عَلَى العاقل منْ الأهل والمال، بل ربما يكونان أعز منْ نفسه، ولهذا لم يذكر النفس أيضًا فِي حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وهل تدخل الأم فِي لفظ "الوالد"؟، أن أريد به منْ له الولد فيعم، أو يقال: اكتُفِيَ بذكر أحدهما كما يُكتفي عن أحد الضدين بالآخر، ويكون ما ذُكر عَلَى سبيل التمثيل، والمراد الأعزة، كانه قَالَ: أحب إليه منْ أعزته، وذكرُ النَّاس بعد الوالد والولد، منْ عطف العام عَلَى الخاص، وهو كثير، وقدم الوالد عَلَى الولد فِي رواية؛ لتقدمه بالزمان
والإجلال، وقدّم الولد فِي أخرى؛ لمزيد الشفقه.
وهل تدخل النفس فِي عموم قوله: "والناس أجمعين"، الظاهر دخولها. وقيل: إضافة المحبّة إليه تقتضي خروجه منهم، وهو بعيد، وَقَدْ وقع التنصيص بذكر النفس فِي حديث عبد الله بن هشام، كما سيأتي.
والمراد بالمحبة هنا حب الاختيار، لا حب الطبع، قاله الخطّابيّ، وَقَالَ النوويّ: فيه تلميح إلى قضية النفس الأمارة، والمطمئنة، فإن منْ رجّح جانب المطمئنة، كَانَ حبه للنبي صلى الله عليه وسلم راجحا، ومن رجح جانب الأمّارة، كَانَ حكمه بالعكس.
وفي كلام القاضي عياض أن ذلك شرط فِي صحة الإيمان؛ لأنه حمل المحبّة عَلَى معنى التعظيم والإجلال.
وتعقبه صاحب "المفهم" بأن ذلك ليس مرادا هنا؛ لأن اعتقاد الأعظمية، ليس مستلزما للمحبة، إذ قد يجد الإنسان إعظام شيء مع خلوه منْ محبته، قَالَ: فعلى هَذَا منْ لم يجد منْ نفسه ذلك الميل، لم يكمل إيمانه، وإلى هَذَا يوميء قول عمر رضي الله عنه الذي رواه البخاريّ فِي "الأَيمان والنذور" منْ حديث عبد الله بن هشام، كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فَقَالَ له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إليّ منْ كل شيء، إلا منْ نفسي، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا، والذي نفسي بيده، حَتَّى أكون أحب إليك منْ نفسك"، فَقَالَ له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ منْ نفسي، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"الآن يا عمر"
(1)
، انتهى.
فهذه المحبّة ليست باعتقاد الأعظميه فقط، فإنها كانت حاصلة لعمر قبل ذلك قطعا.
ومن علامة الحب المذكور: أن يَعرِض عَلَى المرء أن لو خُيِّر بين فقد غرض منْ أغراضه، أو فقد رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم، أن لو كانت ممكنةً، فإن كَانَ فقدها، أن لو كانت ممكنة أشد عليه، منْ فقد شيء منْ أغراضه، فقد اتصف بالأحبية المذكورة، ومن لا فلا، وليس ذلك محصورا فِي الوجود والفقد، بل يأتي مثله فِي نصرة سنته، والذب عن شريعته، وقمع مخالفيها، ويدخل فيه باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
قَالَ فِي "الفتح" 13/ 375 - : أي الآن عرفت، فنطقت بما يجب، وأما تقرير بعض الشرّاح: الآن صار إيمانك معتدًا به، إذ المرء لا يُعتدّ بإيمانه حَتَّى يقتضي عقله ترجيح جانب الرسول صلى الله عليه وسلم، ففيه سوء أدب فِي العبارة، وما أكثر ما يقع مثل هَذَا فِي كلام الكبار عند عدم التأمل، والتحرز؛ لاستغراق الفكر فِي المعنى الأصلي، فلا ينبغي التشديد فِي الأنكار عَلَى منْ وقع ذلك منه، بل يُكتفى بالإشارة إلى الردّ، والتحذير منْ الاغترار به؛ لئلا يقع المنكر فِي نحو مما أنكره. انتهى.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أنس رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -19/ 5015 و5016 - وأخرجه (خ) فِي "الإيمان" 15 (م) فِي "الإيمان" 44 (ق) فِي "المقدمة" 67 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 12403 و12739 و13499 (الدارمي) فِي "الرقاق"2624. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان أن حبّ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم علامة عَلَى كمال إيمان العبد. (ومنها): ما قاله فِي "الفتح": فِي هَذَا الْحَدِيث إيماء إلى فضيلة التفكر، فإن الأحبية المذكورة تعرف به، وذلك أن محبوب الإنسان: إما نفسه، وإما غيرها، أما نفسه فهو أن يريد دوام بقائها، سالمة منْ الآفات، وهذا هو حقيقة المطلوب، وأما غيرها فإذا حقق الأمر فيه، فإنما هو بسبب تحصيل نفع ما عَلَى وجوهه المختلفة، حالاً ومآلاً، فإذا تأمل النفع الحاصل له منْ جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي أخرجه منْ ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، إما بالمباشرة، وإما بالسبب، علم أنه سبب بقاء نفسه، البقاءَ الأبدي فِي النعيم السرمدي، وعَلِم أن نفعه بذلك أعظم منْ جميع وجوه الانتفاعات، فاستحق لذلك أن يكون حظه منْ محبته أوفر منْ غيره؛ لأن النفع الذي يُثير المحبّة حاصل منه أكثر منْ غيره، ولكن النَّاس يتفاوتون فِي ذلك، بحسب استحضار ذلك، والغفلة عنه، ولا شك أن حظ الصحابة رضي الله عنهم، منْ هَذَا المعنى أتم؛ لأن هَذَا ثمرة المعرفة، وهم بها أعلم. وبالله تعالى التوفيق، انتهى "فتح" 1/ 86.
(ومنها): ما قاله الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى: يجب تقديم محبّة الرسول صلى الله عليه وسلم عَلَى النفوس، والأولاد، والأقارب، والأهلين، والأموال، والمساكن، وغير ذلك مما يُحبّه الإنسان غاية المحبّة، وإنما تتم المحبّة بالطاعة، كما قَالَ تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية [آل عمران: 31]. وسُئل بعضهم عن المحبّة، فَقَالَ: الموافقة فِي جميع الأحوال. فعلامة تقديم محبّة الرسول صلى الله عليه وسلم عَلَى محبّة كلّ مخلوق أنه إذا تعارضت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فِي أوامره، وداع آخر يدعو إلى غيرها منْ هذه الأشياء المحبوبة، فإن قدّم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وامتثال أوامره عَلَى ذلك الداعي، كَانَ دليلا عَلَى صحة محبّته للرسول صلى الله عليه وسلم، وتقديمها عَلَى كلّ شيء، وإن قدّم عَلَى طاعته، وامتثال أوامره شيئًا منْ هذه الأشياء المحبوبة طبعًا، دلّ ذلك عَلَى عدم إتيانه
بالإيمان التّامّ الواجب عليه. وكذلك القول فِي تعارض محبّة الله، ومحبة داعي الهوى والنفس، فإن محبّة الرسول صلى الله عليه وسلم تبعٌ لمحبّة مُرسله عز وجل. هَذَا كلّه فِي امتثال الواجبات، وترك المحرّمات.
فإن تعارض داعي النفس، ومندوبات الشريعة، فإن بلغت المحبّة إلى تقديم المندوبات عَلَى دواعي النفس، كَانَ ذلك علامة كمال الإيمان، وبلوغه إلى درجة المقرّبين المحبوبين المتقرّبين بالنوافل بعد الفرائض، وإن لم تبلغ هذه المحبّة إلى هذه الدرجة، فهي درجة المقتصدين أصحاب اليمين الذين كملت محبّتهم الواجبة، ولم يزيدوا عليها. انتهى "شرح البخاريّ" لابن رَجَب 1/ 49.
(ومنها): ما قاله أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: هَذَا الْحَدِيث عَلَى إيجازه يتضمّن ذكر أصناف المحبّة، فإنها ثلاثة: محبّة إجلال وإعظام، كمحبّة الوالد، والعلماء، والفضلاء، ومحبة رحمة، وإشفاق، كمحبة الولد، ومحبة مشاكلة، واستحسان، كمحبة غير منْ ذكرنا، وإن محبّة رسول الله صلى الله عليه وسلم لابدّ أن تكون راجحة عَلَى ذلك كلّه، وإنما كَانَ ذلك؛ لأن الله تعالى قد كمّله عَلَى جميع جنسه، وفضّله عَلَى سائر نوعه بما جبله عليه منْ المحاسن الظاهرة، والباطنة، وبما فضّله منْ الأخلاق الحسنة، والمناقب الجميلة، فهو أكمل مَن وطِىء الثرى، وأفضل منْ ركب ومشى، وأكرم منْ وافى القيامة، وأعلاهم منزلة فِي دار الكرامة.
قَالَ القاضي أبو الفضل: فلا يصح الإيمان إلا بتحقيق إنافة قدر النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومنزلته عَلَى كلّ والد، وولد، ومُحسنٍ، ومُفَضَّل، ومن لم يعتقد هَذَا، واعتقد سواه، فليس بمؤمن.
قَالَ القرطبيّ: وظاهر هَذَا القول أنه صرف محبّة النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى اعتقاد تعظيمه، وإجلاله، ولا شكّ فِي كفر منْ لا يعتقد عليه
(1)
، غير أن تنزيل هَذَا الْحَدِيث عَلَى ذلك المعنى غير صحيح؛ لأن اعتقاد الأعظمية ليس بالمحبّة، ولا الأحبيّة، ولا مستلزمًا لها، إذ قد يجد الإنسان منْ نفسه إعظام أمر، أو شخص، ولا يجد محبّته؛ ولأن عمر رضي الله عنه لَمّا سمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدكم حَتَّى أكون أحبّ إليه منْ نفسه، وولده، ووالده، والناس أجمعين"، قَالَ عمر: يا رسول الله أنت أحبّ إليّ منْ كل شيء، إلا نفسي، فَقَالَ:"ومن نفسك يا عمر"، قَالَ: ومن نفسي، فَقَالَ:"الآن يا عمر"
(2)
.
(1)
هكذا عبارة "المفهم"، وفيها ركاكة، ولعل الأولى:"ولا شك فِي كفر منْ لا يعتقد ذلك"، والله تعالى أعلم.
(2)
رواه أحمد 4/ 336. وَقَدْ تقدّم منْ رواية البخاريّ بنحوه.
وهذا كلّه تصريحٌ بأن هذه المحبّة ليست باعتقاد تعظيم، بل ميلٌ إلى المعتقد، وتعظيمه، وتعلّق القلب به، فتأمّل هَذَا الفرق، فإنه صحيح، ومع ذلك فقد خفي عَلَى كثير منْ النَّاس.
وعلى هَذَا المعنى الحديثُ والله أعلم-: أن منْ لم يجد منْ نفسه ذلك الميل، وأرجحيّته للنبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكمل إيمانه.
قَالَ: عَلَى أني أقول: إن كل منْ صدّق بالنبي صلى الله عليه وسلم، وآمن به إيمانا صحيحا، لم يخل عن وجدان شيء منْ تلك المحبّة الراجحة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، غير أنهم فِي ذلك متفاوتون، فمنهم منْ أخذ منْ تلك المرتبة بالحظ الاوفى، كما قد اتّفق لعمر رضي الله عنه حَتَّى قَالَ: منْ نفسي، ولهند امرأة أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما، حين قالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم: لقد كَانَ وجهك أبغض الوجوه كلّها إليّ، فقد أصبح وجهك أحبّ الوجوه كلها إليّ
…
الْحَدِيث. وكما قَالَ عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما: لقد رأيتني، وما أحد أحبّ إليّ منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجلّ فِي عيني منه، وما كنت أُطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سُئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه
(1)
. ولا شكّ فِي أن حظّ أصحابه صلى الله عليه وسلم منْ هَذَا المعنى أعظم؛ لأن معرفتهم لقدره أعظم؛ لأن المحبّة ثمرة المعرفة، فتقوى، وتضعف بحسبها.
ومن المؤمنين منْ يكون مستغرقًا بالشهوات، محجوبا بالغفلات عن ذلك المعنى فِي أكثر أوقاته، فهذا بأخسّ الأحوال، لكنه إذا ذُكِّر بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو بشيء منْ فضائله اهتاج لذكره، واشتاق لرؤيته بحيث يؤثر رؤيته، بل رؤية قبره، ومواضع آثاره عَلَى أهله، وماله، وولده، ونفسه، والناس أجمعين، فيخطُر له هَذَا، ويجده وجدانًا لا شكّ فيه، غير أنه سريع الزوال والذهاب؛ لغلبة الشهوات، وتوالي الغفلات، ويُخاف عَلَى منْ كَانَ هَذَا حاله ذهاب أصل تلك المحبّة حَتَّى لا يوجد منها حَبة. فنسأل الله تعالى الكريم أن يمُنّ علينا بدوامها، وكمالها، ولا يحجبنا عنها. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى "المفهم" 1/ 225 - 227. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5016 -
(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ ح وَأَنْبَأَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، وَأَهْلِهِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ").
(1)
رواه مسلم (121).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة. و"الحسين بن حُريث": هو أبو عمّار الخُزَاعيّ المروزيّ، الثقة. و"عمران بن موسى": هو القزّاز الليثيّ، أبو عمرو البصريّ. و"إسماعيل": هو ابن إبراهيم المعروف بابن عُليّة. و"عبد الوارث": هو ابن سعيد البصريّ الثقة. و"عبد العزيز": هو ابن صُهيب البنانيّ البصريّ، الثقة.
والسند مسلسل بثقات البصريين، غير شيخه الأول، فإنه مروزيّ، وهو منْ رباعيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (239) منْ رباعيات الكتاب.
والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم شرحه، وبيان مسائله فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5017 -
(أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، مِمَّا حَدَّثَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ، مِمَّا ذُكِرَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يُحَدِّثُ بِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ، وَوَالِدِهِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده، وهو البرّاد الحمصيّ المؤذّن الثقة [11]. و"عليّ بن عيّاش": هو الألهانيّ الحمصيّ الثقة الثبت [9]. و"شُعيب": هو ابن أبي حمزة/ دينار الحمصيّ الثقة الثبت [7]. و"أبو الزناد": هو عبد الله بن ذكوان المدنيّ الثقة الفقيه [5]. و"عبد الرحمن بن هُرمُز": هو المدنيّ الثقة الثبت، المعروف بالأعرج [3].
وقوله: "مما حدثه عبد الرحمن" متعلّق بـ"حدثنا"، والظاهر أن "منْ" تبعيضيّة: أي حدّثنا أبو الزناد بعض الأحاديث التي حدثه عبد الرحمن بن هُرمز. وقوله: "مما ذَكَرَ" بالبناء للفاعل: أي مما ذكر عبد الرحمن أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يحدث بذلك الْحَدِيث. وشرح الْحَدِيث تقدّم فِي حديث أنس رضي الله عنه قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه البخاريّ.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -19/ 5017 - وأخرجه البخاريّ فِي "الإيمان"14. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5018 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ح وَأَنْبَأَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ فِي حَدِيثِهِ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ").
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(إسحاق بن إبراهيم) المعروف بابن راهويه الحنظليّ المروزيّ، ثقة ثبت [10] 2/ 2.
2 -
(النضر) بن شُميل المازنيّ النحويّ، أبو الحسن البصريّ، نزيل مرو، ثقة ثبت، منْ كبار [9] 41/ 45، والباقون تقدّموا أول الباب. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَن قَتَادَةَ) بن دعَامَةَ رحمه الله تعالى، أنه (قالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا) رضي الله تعالى عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وقوله: (وَقَالَ حُمَيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ فِي حَدِيثِهِ: إِنَّ نَبِيَّ الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ) أراد به بيان اختلاف ألفاظ شيخيه، ففي رواية إسحاق قَالَ:"قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية حميد قَالَ:"إن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ"، وهذا منْ احتياط المصنّف وورعه حيث يحافظ عَلَى الأداء كما سمع، وإن لم يختلف المعنى المقصود بذلك ("لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ) وفِي رواية لمسلم:"أحدٌ"، والمراد بالنفي كمال الإيمان، ونفي اسم الشيء عَلَى معنى نفي الكمال عنه مستفيض فِي كلامهم، كقولهم: فلان ليس بإنسان.
[فإن قيل]: فيلزم أن يكون منْ حصلت له هذه الخصله مؤمنا كاملاً، وإن لم يأت ببقية الأركان.
[أجيب]: بأن هَذَا ورد مورد المبالغة، أو يستفاد منْ قوله:"لأخيه المسلم"، ملاحظة بقية صفات المسلم، وَقَدْ صرح ابن حبّان منْ رواية ابن أبي عدي، عن حسين المعلم بالمراد، ولفظه:"لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان"، ومعنى الحقيقة هنا الكمال؛ ضرورة أن منْ لم يتصف بهذه الصفة، لا يكون كافرا. قاله فِي "الفتح" 1/ 83.
وَقَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: "لا يؤمن": أي لا يكمل إيمانه؛ إذ منْ غشّ المسلم، ولا ينصحه مرتكب كبيرة، ولا يكون كافرًا بذلك، كما بيّنّاه غير مرّة، وعلى هَذَا فمعنى الْحَدِيث: أن الموصوف بالإيمان الكامل منْ كَانَ فِي معاملته للناس ناصحًا لهم، مريدًا لهم ما يريده لنفسه، وكارهًا لهم ما يكره لنفسه، وتتضمّن أن يفضّلهم عَلَى نفسه؛ لأن كلّ أحد يحبّ أن يكون أفضل منْ غيره، فإذا أحبّ لغيره ما
يُحبّ لنفسه، فقد أحب أن يكون غيره أفضل منه، وإلى هَذَا المعنى أشار الفضيل بن عياض لَمّا قَالَ لسفيان بن عيينة: إن كنت تريد أن يكون النَّاس مثلك، فما أدّيت لله الكريم النصيحة، فكيف، وأنت تودّ أنهم دونك؟. انتهى "المفهم" 1/ 227.
(حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ) بنصب "يحب"؛ لأن "حَتَّى" جارة، و"أن" بعدها مضمرة، ولا يجوز الرفع، فتكون "حَتَّى" عاطفة، فلا يصح المعنى؛ إذ عدم الإيمان ليس سببا للمحبه.
[فإن قيل]: قوله: "لأخيه" ليس له عموم، فلا يتناول سائر المسلمين. [وأجيب]: بأن معنى قوله: "لأخيه" للمسلمين؛ تعميما للحكم، أو يكون التقدير: لأخيه منْ المسلمين، فيتناول كل أخ مسلم. قاله فِي "عمدة القاري" 1/ 161.
(مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ") أي "منْ الخير" كما سيأتي فِي الرواية التالية، و"الخير": كلمة جامعة تعم الطاعات، والمباحات الدنيوية، والأخروية، وتخرج المنهيات؛ لأن اسم الخير لا يتناولها، والمحبة إرادة ما يعتقده خيرا، قَالَ النوويّ: المحبّة الميل إلى ما يوافق المحب، وَقَدْ تكون بحواسه، كحسن الصورة، أو بفعله، إما لذاته، كالفضل والكمال، وإما بإحسانه، كجلب نفع، أو دفع ضرر. انتهى ملخصا.
والمراد بالميل هنا الاختياري، دون الطبيعي، والْقَسْريّ، والمراد أيضًا أن يحب أن يحصل لأخيه نظيرُ ما يحصل له، لا عينه، سواء كَانَ فِي الأمور المحسوسة، أو المعنوية، وليس المراد أن يحصل لأخيه ما حصل له، لا مع سلبه عنه، ولا مع بقائه بعينه له، إذ قيام الجوهر، أو العرض بمحلين محال. قاله فِي "الفتح".
وَقَالَ فِي "عمدة القاري" 1/ 160 - : ما حاصله: المحبّة مطالعة المنّة منْ رؤية إحسان أخيه، وبرّه، وأياديه، ونعمه المتقدّمة التي ابتدأ بها منْ غير عمل استحقّها به، وستره عَلَى معايبه، وهذه محبّة العوامّ قد تتغيّر بتغيّر الإحسان، فإن زاد الإحسان زاد الحبّ، وإن نقصه نقصه. وأما محبّة الخواصّ، فهي تنشأ منْ مطالعة شواهد الكمال؛ لأجل الإعظام والإجلال، ومراعاة حقّ أخيه المسلم، فهذه المحبّة لا تتغيّر؛ لأنها لله تعالى، لا لأجل غرض دنيويّ. ويقال: المحبّة هاهنا هي مجرّد تمنّي الخير لأخيه المسلم، فلا يعسر ذلك إلا عَلَى القلب السقيم، غير المستقيم.
وَقَالَ القاضي عياض: المواد منْ قوله صلى الله عليه وسلم: "حَتَّى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" أن يحب لأخيه منْ الطاعات والمباحات، وظاهره يقتضي التسوية، وحقيقته التفضيل؛ لأن كلّ واحد يحبّ أن يكون أفضل النَّاس، فإذا أحبّ لأخيه مثله، فقد دخل هو منْ جملة المفضولين، وكذلك الإنسان يحب أن ينتصف منْ حقه، ومظلمته، فإذا كانت لأخيه
عنده مظلمة، أو حقّ بادر إلى الإنصاف منْ نفسه، وَقَدْ روي هَذَا المعنى عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى أنه قَالَ لسفيان بن عيينة رحمه الله تعالى: إن كنت تريد أن يكون النَّاس كلهم مثلك، فما أدّيت لله الكريم نصحه، فكيف، وأنت تودّ أنهم دونك. انتهى.
وتعقّب الحافظ عَلَى القاضي عياض قوله: لأن كل واحد يحب أن يكون أفضل النَّاس"، فَقَالَ: وفيه نظر، إذ المراد الزجر عن هذه الإرادة؛ لأن المقصود الحث عَلَى التواضع، فلا يحب أن يكون أفضل منْ غيره، فهو مستلزم للمساواة، ويستفاد ذلك منْ قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]، ولا يتم ذلك إلا بترك الحسد، والغل، والحقد، والغش، وكلها خصال مذمومة. انتهى "فتح" 1/ 83.
[فائدة]: قَالَ الكرماني: ومن الإيمان أيضًا أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه، منْ الشر، ولم يذكره لأن حب الشيء، مستلزم لبغض نقيضه، فترك التنصيص عليه؛ اكتفاء. والله أعلم. قاله فِي "الفتح" أيضًا 1/ 83. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أنس رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -19/ 5018 و5019 و33/ 5041 - وأخرجه (خ) فِي "الإيمان" 13 (م) فِي "الإيمان" 45 (ت) فِي "صفة القيامة" 2515 (ق) فِي "المقدمة" 66 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 12390 و12734 و13217 و13547 (الدارمي) فِي "الرقاق"2623. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان علامة الإيمان، وذلك أن محبّة الإنسان لأخيه المسلم ما يحب لنفسه شعبة منْ شعب الإيمان، وعلامة عَلَى أنه مؤمن كامل الإيمان. (ومنها): أن فيه دلالة عَلَى التواضع؛ لأنه إذا أحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه كَانَ دليلاً عَلَى أنه بريء منْ الكبر، والحسد، والحقد، والغلّ، والغشّ، وغيرها منْ الأخلاق الدنيئة، والخصال الذميمة، بل هو متحلّ بالتواضع، واللين، والرفق، وإيثار إخوانه عَلَى نفسه، وغيرها منْ الأخلاق الكريمة، والشيم العظيمة.
(ومنها): ما قاله الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى: لَمّا نفى النبيّ صلى الله عليه وسلم الإيمان عمن لم يُحب لأخيه ما يُحبّ لنفسه، دلّ عَلَى أن ذلك منْ خصال الإيمان، بل منْ واجباته، فإن الإيمان لا يُنفَى إلا بانتفاء بعض واجباته، كما قَالَ: "لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمنٌ
…
" الْحَدِيث. وإنما يُحب الرجل لأخيه ما يُحبّ لنفسه إذا سلم منْ الحسد، والغلّ، والغشّ، والحقد، وذلك واجبٌ، كما قَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تدخلو الجنة حَتَّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حَتَّى تحابّوا"، رواه مسلم (54)، فالمؤمن أخو المؤمن، يحبّ له ما يُحبّ لنفسه، ويحزنه ما يحزنه، كما قَالَ صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين فِي توادّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر"، متّفقٌ عليه.
فإذا أحب المؤمن لنفسه فضيلةً منْ دين، أو غيره أحب أن يكون لأخيه نظيرها، منْ غير أن تزول عنه، كما قَالَ ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: إني لأمرّ بالآية منْ القرآن، فأفهمها، فأودّ أن النَّاس كلَّهم فهموا منها ما أفهم. وَقَالَ الشافعيّ رحمه الله تعالى: ودِدتُ أن النَّاس كلّهم تعلّموا هَذَا العلمَ، ولم يُنسب إليّ منه شيء.
فأما حبّ التفرد عن النَّاس بفعل دينيّ، أو دنيويّ، فهو مذموم، قَالَ الله تعالى:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} الآية [القصص: 83]، وَقَدْ قَالَ عليّ رضي الله عنه وغيره: هو أن لا يُحبّ أن يكون نعله خيرًا منْ نعل غيره، ولا ثوبه خيرًا منْ ثوب غيره. وفي الْحَدِيث المشهور في "السنن":"منْ تعلّم العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه النَّاس إليه، فليتبوأ مقعده منْ النار".
وأما الْحَدِيث الذي فيه أن رجلاً سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إني أحبّ الجمال، وما أحبّ أن يفوقني أحدٌ بشراك نعلي، فَقَالَ له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ليس هَذَا منْ الكبر"، فإنما فيه أنه أحبّ أن لا يعلو عليه أحدٌ، وليس فيه محبّة أن يعلو هو عَلَى النَّاس، بل يصدق هَذَا أن يكون مساويا لأعلاهم، فما حصل بذلك محبّة العلوّ عليهم، والانفراد عنهم، فإن حصل لأحد فضيلة خصّصه الله تعالى بها عن غيره، فأخبر بها عَلَى وجه الشكر، لا عَلَى وجه الفخر، كَانَ حسنًا، كَانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"أنا سيّد ولد آدم، ولا فخر، وأنا أول شافع، ولا فخر" رواه مسلم، ورواه البخاريّ بلفظ مغاير لهذا. وَقَالَ ابن مسعود رضي الله عنه: لو أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل، لأتيته. انتهى كلام ابن رَجَب رحمه الله تعالى "شرح البخاريّ" 1/ 45 - 47. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5019 -
(أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ حُسَيْنٍ -وَهُوَ الْمُعَلِّمُ- عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، مِنَ الْخَيْرِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "موسى بن عبد الرحمن": هو المسرقيّ الكنديّ، أبو عيسى الكوفيّ، ثقة، منْ كبار [11] 74/ 91. و"أبو أسامة": هو حمّاد بن أُسامة بن زيد القرشيّ مولاهم، ثقة ثبت، ربما دلّس، وكان بآخره يحدث منْ كتب غيره، منْ كبار [9] 44/ 52. و"حسين المعلّم": هو ابن ذكوان المكتب الْعَوْذيّ البصريّ، ثقة، ربّما وهم [6] 122/ 174.
وقوله: "منْ الخير": تقدّم أن الخير كلمة جامعة، تعمّ الطاعات، والمباحات، الدنيويّة، والأخرويّة، وتُخرج المنهيّات.
والحديث متَّفقٌ عليه، دون قوله:"منْ الخير"، وهي زيادة صحيحة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5020 -
(أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ عَدِيٍّ، عَنْ زِرٍّ، قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: "إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَيَّ، أَنَّهُ لَا يُحِبُّكَ إِلاَّ مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضُكَ إِلاَّ مُنَافِقٌ").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(يوسف بن عيسى) الزهريّ، أبو يعقوب المروزيّ، ثقة فاضلٌ [10] 32/ 924.
2 -
(الفضل بن موسى) السينانيّ، أبو عبد الله المروزيّ، ثقة ثبت، ربما أغرب، منْ كبار [9] 83/ 100.
3 -
(الأعمش) سليمان بن مِهْران المذكور قبل باب.
4 -
(عديّ) بن ثابت الأنصاريّ الكوفيّ، ثقة رمي بالتشيّع [4] 49/ 605.
5 -
(زِرّ) -بكسو الزاي، وتشديد الراء- ابن حُبيش بن حُبَاشة الأسديّ، أبو مريم الكوفيّ، ثقة جليل مخضرم [2] 198/ 126.
6 -
(عليّ) بن أبي طالب الخليفة الراشد، أبو الحسن رضي الله تعالى عنه 74/ 91. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين منْ الأعمش، ومن قبله مروزيان، وفيه ثلاثة منْ التابعين يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن عديّ، عن
زرّ، وأن صحَابيةُ أحد الخلفاء الأربعة، والعشرة المبشّرين بالجنة، وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته رضي الله تعالى عنهم أجمعين. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ زِرّ) بن حُبيش رحمه الله تعالى، أنه (قَالَ: قَالَ عَلِيّ) بن أبي طالب رضي الله عنه (إِنَّهُ) الضمير للشأن، وهو الضمير الذي تفسّره جملة بعده: أي إن الأمر والشأن (لَعَهْدُ) بفتح، فسكون: الميثاق، وهو أيضًا الوصيّة، يقال: عهد إليه يعهَدُ، منْ باب تعِبَ: إذا أوصاه. قاله الفيّوميّ.
وفي رواية مسلم منْ طريق أبي معاوية عن الأعمش: "والذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة، إنه لعهد النبيّ صلى الله عليه وسلم إليّ
…
" الْحَدِيث. ومعنى "فلق الحبّة": أي شقّها بالنبات. ومعنى "برأ النسمة" بالهمزة: أي خلق النسمة، وهي بفتح النون والسين: الإنسان، وقيل: النفس،، وحكى الأزهريّ: أن النسمة: هي النفس، وأن كلّ دابّة فِي جوفها روحٌ، فهي نسمة. قاله النوويّ فِي "شرح مسلم" 2/ 64 - 65.
(النَّبِيِّ الأُمِّيِّ صلى الله عليه وسلم) قَالَ القرطبيّ: "الأمي": هو الذي لا يكتب، كما قَالَ صلى الله عليه وسلم:"إنا أمة أميّةٌ، لا نكتُبُ، ولا نحسُبُ"، متَّفقٌ عليه، وهو منسوبٌ الى الأمّ؛ لأنه باق عَلَى أصل ولادتها، إذ لم يتعلّم كتابةً، ولا حسابًا. وقيل: يُنسب إلى معظم أمة العرب، إذ الكتابة فيهم نادرةٌ، وهذا الوصف منْ الأوصاف التي جعلها الله تعالى منْ أوصاف كمال النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومدحه بها، وإنما كَانَ وصف نقص فِي غيره؛ لأن الكتابة، والدراسة، والدربة عَلَى ذلك هي الطريق الموصلة إلى العلوم التي بها تشرف نفس الإنسان، ويعظُم قدرها عادةً، فلما خصّ الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم بعلوم الأولين والآخرين منْ غير كتابة، ولا مدارسة، كَانَ ذلك خارقًا للعادة فِي حقّه، ومن أوصافه الخاصّة به الدّالّة عَلَى صدقه التي نُعت بها فِي الكتب القديمة، وعُرف بها فِي الأمم السابقة، كما قَالَ الله تعالى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ} الآية [الأعراف: 157]، فقد صارت الأمية فِي حقه منْ أعظم معجزاته، وأجلّ كراماته، وهي فِي حقّ غيره نقص ظاهر، وعجزٌ حاضر، فسبحان الذي صيّر نقصنا فِي حقّه كمالاً، وزاده تشريفًا وجلالاً. انتهى "المفهم" 1/ 267. وقوله:(إِلَيَّ) متعلّق بـ"عهد"(أَنَّهُ) الضمير للأمر والشأن، كما سبق آنفاً (لَا) نافية، ولذا رفع قوله (يُحِبُّكَ إِلَّا مُؤْمِنٌ) أي حبّا لائقًا بمنصبه، لا عَلَى وجه الإفراط، فإن الخروج عن الحدّ غير مطلوب، وليس منْ علامات الإيمان، بل قد يؤدّي إلى الكفر، فإن قومًا قد خرجوا عن الإيمان بالإفراط فِي حبه رضي الله عنه، كما أفرط قوم فِي حبّ عيسى عليه السلام، فخرجوا عن الإيمان
(وَلَا يُبْغِضُكَ إِلاَّ مُنَافِقٌ) قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: ما حاصله: منْ عرف منْ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قربه منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبه صلى الله عليه وسلم له، وما كَانَ منه فِي نصرة الإسلام، وسوابقه فيه، ثم أحبه لهذا كَانَ ذلك منْ دلائل صحّة إيمانه، وصدقه فِي إسلامه؛ لسروره بظهور الإسلام، والقيام بما يُرضي الله سبحانه وتعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أبغضه كَانَ بضدّ ذلك، واستُدلّ به عَلَى نفاقه، وفساد سريرته. والله أعلم. انتهى "شرح مسلم" 2/ 64.
وَقَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: ما حاصله: فمن أحب عُليًا رضي الله عنه؛ لسابقته فِي الإسلام، وقِدَمه فِي الإيمان، وغَنَائه فيه، وذَوْده عنه، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولمكانته منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقرابته، ومصاهرته، وعلمه، وفضائله، كَانَ ذلك منه دليلاً قاطعًا عَلَى صحة إيمانه، ويقينه، ومحبّته للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن أبغضه لشيء منْ ذلك، كَانَ عَلَى العكس.
قَالَ: وهذا المعنى جارٍ فِي أعيان الصحابة رضي الله عنهم، كالخلفاء الراشدين، وسائر العشرة المبشّرين بالجنة، والمهاجرين، والأنصار، بل وكلّ الصحابة رضي الله عنهم، إذ كلّ واحد منهم له شاهد، وغَنَاءٌ فِي الدين، وأثَرٌ حسَنٌ فيه، فحبّهم لذلك المعنى محض الإيمان، وبغضهم له محض النفاق، وَقَدْ دلّ عَلَى صحة ما ذكرناه قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البزّار
(1)
فِي أصحابه كلّهم: "فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم"، لكنهم لَمّا كانوا فِي سوابقهم، ومراتبهم متفاوتين، فمنهم المتمكن الأمكن، والتالي، والمقدّم، خصّ الأمكن منهم بالذكر فِي هَذَا الْحَدِيث، وإن كَانَ كلّ منهم له فِي السوابق أشرف حديث، وهذا كما قَالَ العليّ الأعلى:{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} إلى قوله: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} الآية [الحديد: 10].
[تنبيه]: منْ أبغض بعض منْ ذكرنا منْ الصحابة منْ غير تلك الجهات التي ذكرناها، بل لأمر طارىء، وحدث واقع، منْ مخالفة غرض، أو ضرر حصل، أو نحو ذلك، لم يكن كافرًا، ولا منافقًا بسبب ذلك؛ لأنهم رضي الله تعالى عن جميعهم قد وقعت بينهم
(1)
كَانَ الأولى أن يعزوه إلى أحمد، والترمذيّ؛ فإنهما أِكبر منْ البزار، وَقَدْ أخرجه أحمد فِي "مسنده" -16361 - والترمذي فِي "جامعه" منْ طريق عبيدة بن أبي رائطة، عن عبد الرحمن بن زياد، عن عبد الله بن مغفل، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله الله فِي أصحابي، الله الله فِي أصحابي، لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه". قَالَ أبو عيسى: هَذَا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا منْ هَذَا الوجه. انتهى. لكن فِي تحسينه نظر؛ لأن فِي إسناده عبد الرحمن بن زياد مجهول، كما قَالَ ابن معين، وغيره.
مخالفات عظيمة، وحروب هائلة، ومع ذلك فلم يُكفّر بعضهم بعضًا، ولا حكم عليه بالنفاق؛ لما جرى بينهم منْ ذلك، وإنما كَانَ حالهم فِي ذلك حال المجتهدين فِي الأحكام، فإما أن يكون كلهم مصيبًا فيما ظهر له، أو المصيب واحد، والمخطىء معذور، بل مخاطبٌ بالعمل عَلَى ما يراه، ويظنّه، مأجور، فمن وقع له بغض فِي واحد منهم لشيء منْ ذلك، فهو عاص، يجب عليه التوبة منْ ذلك، ومجاهدة نفسه فِي زوال ما وقع له منْ ذلك، بأن يذكر فضائلهم، وسوابقهم، وما لهم عَلَى كلّ منْ بعدهم منْ الحقوق الدينية والدنيوية، إذ لم يصل أحدٌ ممن بعدهم بشيء منْ الدنيا، ولا الدين إلا بهم، وبسببهم، وأدبهم وصلت لنا كلّ النعم، واندفعت عنّا الجهالات والنقم، ومن حصلت به مصالح الدنيا والآخرة، فبغضه كفران للنعم، وصفقته خاسرة، انتهى كلام القرطبيّ "المفهم" 1/ 264 - 266. وهو بحث نفيس جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عليّ رضي الله عنه هَذَا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -19/ 5020 و20/ 5024 - وأخرجه (م) فِي "الإيمان" 78 (ت) فِي "المناقب" 3736 (ق) فِي "المقدمة" 114 (أحمد) فِي "مسند العشرة" 643 و733 و1065. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان علامة الإيمان، وهو أن الإنسان إذا أحبّ عليًّا رضي الله عنه دلّ عَلَى أنه مؤمن بشهادة النبيّ صلى الله عليه وسلم له بذلك فِي هَذَا الْحَدِيث، كما أن منْ أبغضه منافق لذلك أيضًا. (ومنها): أن فيه منقبة عظيمة لعليّ رضي الله عنه، حيث كَانَ حبّه منْ الإيمان، وبغضه منْ النفاق، ومناقبه رضي الله عنه جمة، قد كتب أهل العلم فيها كتبًا كثيرة، منها "خصائص عليّ رضي الله عنه" للمصنّف ضمن "السنن الكبرى"، وغير ذلك. (ومنها): فضل السبق إلى الإسلام، وفضل بذل المال والنفس فِي نشره، والذبّ عنه، فإن عليًّا رضي الله عنه وغيره منْ أفاضل الصحابة رضي الله عنهم ما نالوا الفضائل، والفواضل إلا بسبب مسارعتهم إلى الإسلام، وإبلائهم فيه إبلاء حسنًا، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5021 -
(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ -يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ- عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَبْرٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "حُبُّ الأَنْصَارِ آيَةُ الإِيمَانِ، وَبُغْضُ الأَنْصَارِ آيَةُ النِّفَاقِ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(إسماعيل بن مسعود) أبو مسعود الْجَحْدَرِيّ البصريّ الثقة [10] 42/ 47.
2 -
(خالد بن الحارث) الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.
3 -
(شعبة) بن الحجاج المذكور قريبًا.
4 -
(عبد الله بن عبد الله بن جبر) -بفتح الجيم، وسكون الموحّدة- ويقال: ابن جابر بن عتيك: هو الأنصاريّ المدنيّ الثقة [4] 14/ 1846.
5 -
(أنس) بن مالك رضي الله تعالى عنه 6/ 6. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين، غير ابن جبر، فمدنيّ، وفيه راو وافق اسمه اسم أبيه، وهو عبد الله بن عبد الله بن جبر. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَبْرٍ، عَنْ أَنَسٍ) رضي الله تعالى عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "حُبُّ الأَنْصَارِ آيَةُ الإِيمَانِ) مبتدأ، وخبر: أي حب أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم علامة عَلَى إيمان الشخص. و"الأنصار" -بفتح الهمزة: جمع ناصر، كأصحاب وصاحب، أو جمع نصير، كأشراف وشريف، واللام فيه للعهد: أي أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد الأوس والخزرج، وكانوا قبل ذلك يُعرفون ببني قَيلة -بقاف مفتوحة، وياء تحتانية ساكنة- وهي الأم التي تجمع القبيلتين، فسماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار، فصار ذلك علما عليهم، وأطلق أيضًا عَلَى أولادهم، وحلفائهم، ومواليهم.
(وَبُغْضُ الأَنْصَارِ آيَةُ النِّفَاقِ) أي علامة عَلَى كون الشخص منافقًا. وفي رواية الشيخين: "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار".
قَالَ فِي "الفتح": قوله: "آية الإيمان" -هو بهمزة ممدودة، وياء تحتانية مفتوحة، وهاء تأنيث، و"الإيمان" مجرور بالإضافة، هَذَا هو المعتمد، فِي ضبط هذه الكلمة، فِي جميع الروايات، فِي "الصحيحين"، و"السنن"، و"المستخرجات"، و"المسانيد"، و"الآية":
العلامة، كما ترجم به البخاريّ، والنسائيّ، ووقع فِي "إعراب الْحَدِيث" لأبي البقاء العكبري:"إنه الإيمان" -بهمزة مكسورة، ونون مشددة، وهاء- و"الإيمان" مرفوع، وأعربه، فَقَالَ:"إن" للتأكيد، والهاء ضمير الشأن، و"الإيمان": مبتدأ، وما بعده خبر، ويكون التقدير: إن الشأن الإيمان حب الأنصار. وهذا تصحيف منه، ثم فيه نظر منْ جهة المعنى؛ لأنه يقتضي حصر الإيمان فِي حب الأنصار، وليس كذلك.
[فإن قيل]: واللفظ المشهور أيضًا يقتضي الحصر، وكذا ما أورده البخاريّ فِي "فضائل الأنصار"، منْ حديث البراء بن عازب:"الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن".
[فالجواب]: عن الأول: أن العلامة كالخاصة تَطَّرِد، ولا تنعكس، فإن أُخذ منْ طريق المفهوم، فهو مفهوم لقب، لا عبرة به، سلمنا الحصر، لكنه ليس حقيقيا، بل ادعائيا؛ للمبالغة، أو هو حقيقي، لكنه خاص بمن أبغضهم منْ حيث النصرة.
[والجواب]: عن الثاني: أن غايته أن لا يقع حب الأنصار إلا لمؤمن، وليس فيه نفي الإيمان عمن لم يقع منه ذلك، بل فيه أن غير المؤمن لا يحبهم.
[فإن قيل]: فعلى الشق الثاني، هل يكون منْ أبغضهم منافقا، وإن صدق وأقر؟.
[فالجواب]: أن ظاهر اللفظ يقتضيه، لكنه غير مراد، فيحمل عَلَى تقييد البغض بالجهة، فمن أبغضهم منْ جهة هذه الصفة، وهي كونهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أَثر ذلك فِي تصديقه، فيصح أنه منافق، ويُقَرِّب هَذَا الحمل زيادةُ أبي نعيم فِي "المستخرج" فِي حديث البراء بن عازب:"منْ أحب الأنصار، فبحبي أحبهم، ومن أبغض الأنصار فببغضي أبغضهم"، ويأتي مثل هَذَا فِي الحب، كما سبق، وَقَدْ أخرج مسلم منْ حديث أبي سعيد، رفعه:"لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر"، ولأحمد منْ حديثه:"حب الأنصار إيمان، وبغضهم نفاق". ويحتمل أن يقال: إن اللفظ خرج عَلَى معنى التحذير، فلا يراد ظاهره، ومن ثَمَّ لم يقابل الإيمان بالكفر، الذي هو ضده، بل قابله بالنفاق؛ إشارة إلى أن الترغيب والترهيب، إنما خوطب به منْ يظهر الإيمان، أما منْ يظهر الكفر فلا؛ لأنه مرتكب ما هو أشد منْ ذلك.
وإنما خُصَّ الأنصار بهذه المنقبة العظمى؛ لما فازوا به دون غيرهم، منْ القبائل، منْ إيواء النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن معه، والقيام بأمرهم، ومواساتهم بأنفسهم وأموالهم، وإيثارهم إياهم فِي كثير منْ الأمور عَلَى أنفسهم، فكان صنيعهم لذلك موجبا لمعاداتهم جميع الفرق الموجودين، منْ عرب وعجم، والعداوة تجر البغض، ثم كَانَ ما اختصوا به مما ذكر موجبا للحسد، والحسد يجر البغض، فلهذا جاء التحذير منْ بغضهم، والترغيب فِي حبهم، حَتَّى جُعل ذلك آية الإيمان والنفاق؛ تنويها بعظيم فضلهم، وتنبيها عَلَى
كريم فعلهم، وإن كَانَ منْ شاركهم فِي معنى ذلك، مشاركا لهم فِي الفضل المذكور، كُلّ بقسطه، وَقَدْ ثبت فِي "صحيح مسلم" وهو الْحَدِيث الماضي للنسائي- عن عَلَى رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ له:"لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق"، وهذا جار باطراد فِي أعيان الصحابة؛ لتحقق مشترك الإكرام؛ لما لهم منْ حسن الغَنَاء فِي الدين. قَالَ صاحب "المفهم": وأما الحروب الواقعة بينهم، فإن وقع منْ بعضهم بغض، فذاك منْ غير هذه الجهة، بل للأمر الطاريء الذي اقتضى المخالفة، ولذلك لم يحكم بعضهم عَلَى بعض بالنفاق، وإنما كَانَ حالهم فِي ذاك حال المجتهدين فِي الأحكام للمصيب أجران، وللمخطيء أجر واحد، والله أعلم. انتهى "فتح" 1/ 90 - 91. وهو بحث نفيس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أنس رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -19/ 5021 - وأخرجه (خ) فِي "الإيمان" 17 (م) فِي "الإيمان" 74 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 11907 و11961 و13195. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان علامة الإيمان، وهو أن الشخص إذا أحب الإنصار دلّ عَلَى أنه مؤمنٌ، كما نصّ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، والعكس بالعكس. (ومنها): بيان مناقب الأنصار رضي الله عنهم، حيث جعل الله سبحانه وتعالى حبهم شعبة منْ شعب الإيمان؛ لمبادرتهم بالاستجابة لدينه تعالى، ونصرهم رسوله صلى الله عليه وسلم، وإيوائهم له، وللمهاجرين فِي دينهم.
(ومنها): ما قاله الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى: هَذَا المعنى يرجع إلى ما تقدّم منْ أن منْ أحبّ المرء لا يحبه إلا لله منْ علامات الإيمان، وأن الحبّ فِي الله منْ أوثق. عُرى الإيمان، وأنه أفضل الإيمان، فالأنصار نصروا الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، فمحبّتهم منْ تمام محبّة الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فمحبّة أولياء الله تعالى، وأحبابه عمومًا منْ الإيمان، وهي منْ أعلى مراتبه، وبغضهم محرّم، فهو منْ خصال النفاق؛ لأنه مما لا يتظاهر به غالبًا، ومن تظاهر به فقد تظاهر بنفاقه، فهو شرّ ممن كتمه، وأخفاه، ومن كَانَ له مزيّة فِي الدين لصحبته النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو لقرابته، أو نصرته، فله مزيد خصوصيّة فِي محبّته وبغضه، ومن كَانَ منْ أهل السوابق فِي الإسلام، كالمهاجرين الأولين، فهو
أعظم حقًّا، مثل عليّ رضي الله عنه، وَقَدْ رُوي أن المنافقين إنما كانوا يُعرفون ببغض عليّ رضي الله عنه، ومن هو أفضل منْ عليّ، كأبي بكر، وعمر رضي الله تعالى عنهما، فهو أولى بذلك، ولذلك قيل: إن حبهما منْ فرائض الدين. وقيل: إنه يرجى عَلَى حبّهما ما يُرجى عَلَى التوحيد منْ الأجر. انتهى "شرح البخاريّ لابن رَجَب" رحمه الله تعالى 1/ 64 - 66. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
20 - (عَلَامَةُ الْمُنَافِقِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "النفاق": لغة مخالفة الباطن للظاهر، فإن كَانَ فِي اعتقاد الإيمان، فهو نفاق الكفر، وإلا فهو نفاق العمل، ويدخل فيه الفعل، والترك، وتتفاوت مراتبه. قاله فِي "الفتح" 1/ 125.
وَقَالَ فِي "المفهم" 1/ 249 - : قَالَ ابن الأنباريّ فِي تسمية المنافق منافقًا ثلاثة أقوال: [أحدها]: أنه سُمّي بذلك؛ لأنه يستر كفره، فأشبه الداخل فِي النَّفَق، وهو السَّرَبُ. [وثانيها]: أنه شُبّه باليربوع الذي له جُحْرٌ، يقال له: القاصعاءُ، وآخر يقال له النافقاء، فإذا أُخذ عليه منْ أحدهما خرج منْ الآخر، وكذلك المنافق يخرُج منْ الإيمان منْ غير الوجه الذي يَدخُل فيه. [وثالثها]: أنه شُبّه باليربوع منْ جهة أن اليربوع يَخرق فِي الأرض، حَتَّى إذا قارب ظاهرها أرَقّ التراب، فإذا رابه ريب دفع التراب برأسه، فخرج، فظاهر جحره تراب، وباطنه حفر، وكذلك المنافق ظاهره الإيمان، وباطنه الكفر. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.
5022 -
(أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "أَرْبَعَةٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا، أَوْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ الأَرْبَعِ، كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ، حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ").
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(بشر بن خالد) العسكريّ، أبو محمد الفرائضيّ، نزيل البصرة، ثقة يُغرب [10] 26/ 812.
2 -
(محمد بن جعفر) المعروف بغندر البصريّ، ثقة صحيح الكتاب [9] 21/ 22.
3 -
(سليمان) بن مِهْرَان الأعمش الكوفيّ، ثقة حافظ ورع، يدلّس [5] 17/ 18.
4 -
(عبد الله بن مرّة) الهمدانيّ الخارفيّ الكوفيّ، ثقة [3] 17/ 1860.
5 -
(مسروق) بن الأجاع بن مالك، أبو عائشة الْهمدانيّ المخضرم، ثقة فقيه عابد [2] 90/ 112.
6 -
(عبد الله بن عمرو) بن العاص رضي الله تعالى عنهما 89/ 111. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سدسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، والباقون كوفيّون، والصحابيّ قد دخل الكوفة. (ومنها): أن فيه ثلاثة منْ ثقات التابعين يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بن العاص رضي الله تعالى عنهما (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "أَرْبَعَةٌ) أي أربعة أمور، وللشيخين:"أربع" بدون هاء: أي أربع خصال.
[فإن قيل]: عدّ هَذَا الْحَدِيث أربع خصال، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه التالي:"آية النفاق ثلاث"، ومثله فِي أثر ابن مسعود رضي الله عنه الآتي بعده، فكيف يوفق بين الحديثين؟.
[قلت]: أجاب القرطبيّ رحمه الله تعالى باحتمال أنه استجدّ له صلى الله عليه وسلم منْ العلم بحالهم، ما لم يكن عنده، فإما بالوحي، وإما بالمشاهدة لتلك منهم.
وَقَالَ الحافظ: ليس بين الحديثين تعارض؛ لأنه لا يلزم منْ عدّ الخصلة المذمومة، الدالة عَلَى كمال النفاق، كونها علامة عَلَى النفاق؛ لاحتمال أن تكون العلامات دالات عَلَى أصل النفاق، والخصلة الزائدة، إذا أضيفت إلى ذلك كمل بها خلوص النفاق، عَلَى أن فِي رواية مسلم منْ طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ما يدلّ عَلَى إرادة عدم الحصر، فإن لفظه:"منْ علامة المنافق ثلاث"، وكذا أخرج الطبراني فِي "الأوسط" منْ حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، وإذا حمل اللفظ الأول -يعني:"علامة المنافق ثلاث"- عَلَى هَذَا لم يرد السؤال، فيكون قد أخبر ببعض العلامات فِي وقت، وببعضها فِي وقت آخر.
وَقَالَ القرطبيّ أيضًا، والنووي: حصل منْ مجموع الروايتين خمس خصال؛ لأنهما
تواردتا عَلَى الكذب فِي الْحَدِيث، والخيانة فِي الأمانة، وزاد فِي حديث أبي هريرة الخلف فِي الوعد، وفي حديث عبد الله الغدر فِي المعاهدة، والفجور فِي الخصومة.
هَذَا بالنسبة لرواية البخاريّ، وأما فِي رواية مسلم، والنسائيّ فِي حديث عبد الله بدل الغدر فِي المعاهدة الخلف فِي الوعد، كما فِي حديث أبي هريرة، فكأن بعض الرواة تصرف فِي لفظه؛ لأن معناهما قد يتحد، وعلى هَذَا فالمزيد خصلة واحدة، وهي الفجور فِي الخصومة، والفجور: الميل عن الحق، والاحتيال فِي رده، وهذا قد يندرج فِي الخصلة الأولى، وهي الكذب فِي الْحَدِيث.
ووجه الاقتصار عَلَى هذه العلامات الثلاث: أنها مُنَبِّةٌ عَلَى ما عداها؛ إذ أصل الديانة منحصر فِي ثلاث: القول، والفعل، والنية، فنبه عَلَى فساد القول بالكذب، وعلى فساد الفعل بالخيانة، وعلى فساد النية بالخلف؛ لأن خلف الوعد لا يقدح، إلا إذا كَانَ العزم عليه مقارنا للوعد، أما لو كَانَ عازما، ثم عَرَض له مانع، أو بدا له رأي، فهذا لم توجد منه صورة النفاق. قاله الغزالي فِي "الإحياء". وفي الطبراني فِي حديث طويل، ما يشهد له، ففيه منْ حديث سلمان رضي الله عنه:"إذا وعد، وهو يحدث نفسه أنه يخلف"، وكذا قَالَ فِي باقي الخصال، وإسناده لا بأس به، ليس فيهم منْ أُجمِع عَلَى تركه، وهو عند أبي داود، والترمذي، منْ حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه، مختصرًا، بلفظ:"إذا وعد الرجل أخاه، ومن نيته أن يفي له، فلم يف، فلا إثم عليه". انتهى "فتح" 1/ 125 - 126.
(مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا) وزاد فِي رواية الشيخين: "خالصًا"(أوْ) للشكّ منْ الراوي (كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ الأَرْبَعِ، كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ) قَالَ فِي "القاموس": الْخصلة -أي بفتح، فسكون-: الْخَلَّة، والفضيلة، والرَّذِيلة، أو قد غلب عَلَى الفضيلة، جمع خِصال بالكسر- انتهى. والمناسب هنا: الرذيلة (حَتَّى يَدَعَهَا) أي إلى أن يترك تلك الخصلة الذميمة (إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ) أتى بـ"إذا" الدالة عَلَى تحقق الوقوع، تنبيها عَلَى أن هذه عادة المنافق.
(وَإِذَا وَعَدَ) يقال: وعده وعدًا، يستعمل فِي الخير والشرّ، ويُعدّى بنفسه، وبالباء، فيقال: وعده الخير، وبالخير، وشرًّا، وبالشرّ، وَقَدْ أسقطوا لفظ الخير والشرّ، وقالوا فِي الخير: وعده وعدًا وعِدَةً، وفي الشرّ: وعده وعيدًا، فالمصدر هو الفارق، وأوعده إيعادًا، وقالوا: أوعده خيرًا، وشرًا بالألف أيضًا، وأدخلوا الباء مع الألف فِي الشرّ خاصّةً، والخلف فِي الوعد عند العرب كذبٌ، وفي الوعيد كرمٌ، قَالَ الشاعر:
وَإِنِّي وَإِنْ أَوْ عَدتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ
…
لَمُخْلِفٌ إِيعَادِي وَمُنْجِزٌ مَوْعِدِي
وَقَالَ فِي "الفتح": قَالَ صاحب "المحكم": يقال: وعدته خيرا، ووعدته شرا، فإذا
أسقطوا الفعل، قالوا فِي الخير: وعدته، وفي الشر أوعدته، وحكى ابن الأعرابيّ فِي "نوادره": أوعدته خيرا بالهمزة، فالمراد بالوعد فِي الْحَدِيث الوعد بالخير، وأما الشر فيستحب إخلافه، وَقَدْ يجب ما لم يترتب عَلَى ترك إنفاذه مفسدة.
وأما الكذب فِي الْحَدِيث، فحكى ابن التين عن مالك: أنه سئل عمن جرب عليه كذب، فَقَالَ: أيُّ نوع منْ الكذب؟، لعله حدث عن عيش له سلف، فبالغ فِي وصفه، فهذا لا يضر، وإنما يضر منْ حدث عن الأشياء، بخلاف ما هي عليه، قاصدا الكذب. انتهى.
(أَخْلَفَ) أي لم يفعل ما وعده (وَإِذَا عَاهَدَ) منْ المعاهدة، وهي المحالفة، والمواثقة (غدَرَ) منْ الغدر، وهو ترك الوفاء به (وَاِذَا خَاصَمَ) منْ المخاصمة، وهي المجادلة (فَجَرَ) منْ الفجور، وهو الميل عن القصد، والشقّ: أي مال عن الحقّ، وَقَالَ الباطل، أو شقّ ستر الديانة. وَقَالَ فِي "المفهم":"فجر": أي مال عن الحقّ، واحتال فِي ردّه، وإبطاله. وَقَالَ الهرويّ: أصل الفجور: الميل عن القصد، وَقَدْ يكون الكذب. انتهى.
وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: هَذَا الْحَدِيث عدّه جماعة منْ العلماء مشكلا، منْ حيث إن هذه الخصال، قد توجد فِي المسلم المجمع عَلَى عدم الحكم بكفره، قَالَ، وليس فيه إشكال، بل معناه صحيح، والذي قاله المحققون: إن معناه أن هذه خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين، فِي هذه الخصال، ومتخلق بأخلاقهم.
قَالَ الحافظ: ومحصل هَذَا الجواب الحملُ فِي التسمية عَلَى المجاز: أي صاحب هذه الخصال، كالمنافق، وهو بناء عَلَى المراد بالنفاق نفاق الكفر.
وَقَدْ قيل فِي الجواب عنه: إن المراد بالنفاق نفاق العمل، كما قدمناه، وهذا ارتضاه القرطبيّ، واستدل له بقول عمر لحذيفة رضي الله تعالى عنهما: هل تعلم فِيّ شيئا منْ النفاق، فإنه لم يُرد بذلك نفاق الكفر، وإنما أراد نفاق العمل، ويؤيده وصفه بالخالص فِي حديث عبد الله بن عمرو بقوله:"كَانَ منافقا خالصا". وقيل: المراد بإطلاق النفاق الإنذار والتحذير عن ارتكاب هذه الخصال، وأن الظاهر غير مراد، وهذا ارتضاه الخطّابيّ، وذكر أيضًا أنه يحتمل أن المتصف بذلك، هو منْ اعتاد ذلك، وصار له دينا، قَالَ: ويدل عليه التعبير بـ"إذا"، فإنها تدلّ عَلَى تكرر الفعل، كذا قَالَ، والأولى ما قَالَ الكيرماني: إن حذف المفعول مِن "حَدَّثَ"، يدلّ عَلَى العموم: أي إذا حدث فِي كل شيء كذب فيه، أو يصير قاصرا: أي إذا وَجَدَ ماهية التحدث كذب. وقيل: هو محمول عَلَى منْ غلبت عليه هذه الخصال، وتهاون بها، واستخفَّ بأمرها، فإنّ منْ كَانَ كذلك، كَانَ فاسد الاعتقاد غالبا.
وهذه الأجوبة كلها مبنية عَلَى أن اللام فِي "المنافق" للجنس، ومنهم منْ ادَّعَى أنها للعهد، فَقَالَ: إنه ورد فِي حق شخص معين، أو فِي حق المنافقين فِي عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتمسك هؤلاء بأحاديث ضعيفه، جاءت فِي ذلك، لو ثبت شيء منها، لتعين المصير إليه، وأحسن الأجوبة ما ارتضاه القرطبيّ. والله أعلم. انتهى "فتح" 1/ 126. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق يهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -20/ 5022 - وأخرجه (خ) فِي "الإيمان" 54 و"المظالم والغصب" 2459 و"الجزية والموادعة" 3178 (م) فِي "الإيمان" 58 (د) فِي "السنة" 4688 (ت) فِي "الإيمان" 2632 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 6729 و6825 و6840. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان علامة المنافق، وهي هذه الخصال الأربع. (ومنها): التحذير عن الأخلاق الرذيلة، مثل هذه الخصال، فإنها تنافي مقتضى الإيمان، فإنه يقتضي أن يكون المؤمن صادقًا فِي حديثه، وفيا بوعده، مؤدّيًا ما اؤتمن به، عادلاً فِي مخاصمته.
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى: لا شكّ فِي أن للمنافقين خصالا أُخَر مذمومة، كما قد وصفهم الله تعالى، حيث قَالَ:{وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النِّساء: 142]، فيحتمل أن يقال: إنما خُصّت تلك الخصال بالذكر؛ لأنها أظهر عليهم منْ غيرها، عند مخالطتهم للمسلمين، أو لأنها التي يضرّون بها المسلمين، ويقصدون بها مفسدتهم، دون غيرها منْ صفاتهم. والله تعالى أعلم. انتهى "المفهم" 1/ 251.
(ومنها): أن هذه الخصال إذا وُجدت فِي مؤمن كَانَ بها منافقًا نفاقًا عمليًا، لا اعتقاديًا بحيث يخرج بها منْ الإسلام، ومهما كَانَ الحال، فيجب عَلَى العاقل أن يجتنبها؛ إذ ربما تجرّه إلس النفاق القلبيّ، فيخسر خسرانًا مبينًا، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5023 -
(حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سُهَيْلٍ، نَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "آيَةُ النِّفَاقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير مرّة. و"عليّ بن حجر": هو السعديّ المروزيّ، ثقة حافظ، منْ صغار [9]. و"إسماعيل": هو ابن جعفر بن أبي كثير الأنصاريّ القارىء المدنيّ، ثقة ثبت [8]. و"أبو سُهيل نافع بن مالك بن أبي عامر": هو الأصبحيّ التيمي المدنيّ، ثقة [4]. و"أبوه": هو مالك بن أبي عامر الأصبحيّ المدنيّ، وهو جدّ مالك بن أنس الإمام، ثقة [2]. والسند مسلسلٌ بثقات المدنيين، غير شيخه، فمروزيّ، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ، عن تابعيّ: نافع، عن أبيه.
وقوله: "آية النفاق"، هو عَلَى حذف مضاف: أي آية ذي النفاق؛ ليناسب قوله: "إذا حدّث الخ، ولفظ الشيخين: "آية المنافق": أي علامته، وإفراد الآية إما عَلَى إرادة الجنس، أو أن العلامة إنما تحصل باجتماع الثلاث، والأول أولى، وَقَدْ رواه أبو عوانة فِي "صحيحه" بلفظ: "علامات المنافق". أفاده فِي "الفتح" 1/ 125. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان: بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -20/ 5023 - وأخرجه (خ) فِي "الإيمان" 33 و"الشهادات" 2682 و"الوصايا" 2749 و"الأدب" 6095 (م) فِي "الإيمان" 59 (ت) فِي "الإيمان" 2631 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 8470 و8913 و10542. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5024 -
(أَخْبَرَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: "عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ لَا يُحِبَّنِي إِلاَّ مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضَنِي إِلاَّ مُنَافِقٌ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "واصل بن عبد الأعلى": هو الأسديّ، أبو القاسم، أو أبو محمد الكوفيّ، ثقة [10]. و"وكيعٌ": هو ابن الجرّاح.
والحديث سبق سندًا ومتنًا فِي الباب الماضي، وسبق تمام البحث فيه هناك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5025 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعَافَى، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ، فَهُوَ مُنَافِقٌ، إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، فَمَنْ كَانَتْ فِيهِ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ، لَمْ تَزَلْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ، حَتَّى يَتْرُكَهَا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمرو بن يحيى بن الحارث": هو الحمصيّ الثقة [12] 67/ 2329 منْ أفراد المصنّف. و"المعافى": هو ابن سليمان الجزريّ، صدوقٌ [10] منْ أفراد المصنّف أيضًا. و"زُهير": هو ابن معاوية بن حُدَيج، أبو خيثمة الكوفيّ الثقة الثبت [7]. و"أبو وائل": هو شقيق بن سلمة. و"عبد الله": هو ابن مسعود رضي الله عنه.
والحديث موقوف صحيح، وشرحه يُعلم مما سبق، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -20/ 5025 - فقط. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
…
21 - (قِيَامُ رَمَضَانَ)
5026 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ قَامَ شَهْرَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ").
قالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"سفيان": هو ابن عيينة.
وقوله: "إيمانا": أي تصديقًا بأنه حقّ، وطاعة لله تعالى، أو المعنى أن الذي يحمله عَلَى ذلك الإيمان بالله، وبفضل رمضان. وقوله:"واحتسابًا": أي إرادة وجه الله سبحانه وتعالى، لا لرياء، ونحوه، فقد يفعل الإنسان الشيء يعتقد أنه صدقٌ، لكن لا يفعل مخلصًا، بل لرياء، أو خوف، ونحوه. قاله النوويّ، وانتصابهما عَلَى المفعول منْ أجله، أو عَلَى الحال، أو التمييز. قاله السيوطيّ فِي "زهر الربى" 3/ 201 - 202.
والحديث متَّفقٌ عليه، وتقدم فِي "كتاب قيام الليل" -3/ 1603، وَقَدْ استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد.
وغرض المصنّف بإيراده هناك بيان أن قيام رمضان منْ شعب الإيمان، ومحلّ
الاستدلال قوله: "إيمانًا". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5027 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ح وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "ابن القاسم": هو عبد الرحمن. و"حُميد بن عبد الرحمن": هو ابن عوف الزهريّ المدنيّ.
والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم تمام البحث فيه فِي "كتاب قيام الليل" 3/ 1602. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5028 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن إسماعيل": هو أبو بكر الطبرانيّ، ثقة [12] 3/ 1603 منْ أفراد المصنّف. و"عبد الله بن محمد بن أسماء": هو الضُّبَعيّ البصريّ، ثقة جليل [10]. و"جُويرية": هو ابن أسماء بن عُبيد الضبعيّ البصريّ، عم عبد الله الراوي عنه، صدوقٌ [9]. و"أبو سلمة، وحميد": هما ولدا عبد الرحمن بن عوف الصحابيّ الجليل رضي الله عنه.
والحديث متّفق عليه، وتقدم الكلام فيه فيما قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
22 - (قِيَامُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قيل: سُمّيت ليلة القدر؛ لما تكتب فيها الملائكة منْ الأقدار، والأرزاق، والآجال التي تكون فِي تلك السنة، أي يظهرهم الله تعالى عليه،
ويأمرهم بفعل ما هو منْ وظيفتهم. وقيل: لعِظَم قدرها، وشرفها. وقيل: لأن منْ أتى فيها بالطاعات، صار ذا قدر. وقيل: لأن الطاعات فيها لها قدرٌ زائد. قاله فِي "عمدة القاري" 1/ 258. والله تعالى أعلم بالصواب.
5029 -
(حَدَّثَنَا أَبُو الأَشْعَثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ -يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ- قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهمَ رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير مرّة. و"أبو الأشعث": هو أحمد بن المقدام العِجليّ البصريّ، صدوقٌ [10]. و"خالد بن الحارث": هو الْهُجيميّ البصريّ الثقة الثبت. و"هشام": هو ابن أبي عبد الله/ سَنْبَر الدستوائيّ الثقة الثبت البصريّ.
والحديث متَّفقٌ عليه، وتقدّم فِي "كتاب الصيام" 40/ 2206 - وسبق شرحه، وبيان مسائله هناك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
23 - (الزَّكَاةُ)
أي باب ذكر الْحَدِيث الدال عَلَى كون الزكاة منْ الإسلام.
5030 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرَ الرَّأْسِ، يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ، وَلَا يُفْهَمُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلَامِ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ"، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: "لَا، إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ"، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ"، قَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: "لَا، إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ"، وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "لَا، إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ"، فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ، وَهُوَ يَقُولُ: لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا، وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا
غير مرّة. و"محمد بن سلمة": هو المراديّ الْجَمَليّ، أبو الحارث المصريّ الثقة الثبت [11]. و"أبو سُهيل": هو نافع بن مالك ابن أبي عامر، و"أبوه": هو مالك بن أبي عامر، وتقدّما قبل بابين. و"طلحة بن عُبيد الله": هو الصحابيّ الجليل، أحد العشرة المبشّرين بالجنة رضي الله عنهم.
وقوله: "ثائر الرأس": أي منتشر شعر الرأس. وقوله: "يُسمع": بالياء، والبناء للمفعول، أو بالنون، وللبناء للفاعل. وقوله:"دويّ صوته" -بفتح الدال، وكسر الواو، وتشديد الياء، وحُكي ضمّ الدال، والصواب الفتح: هو ما يظهر منْ الصوت عند شدّته، وبُعْده فِي الهواء. وَقَالَ الخطّابيّ: صوت مرتفع، متكرّرٌ، ولا يُفهم، وإنما كَانَ كذلك؛ لأنه نادى منْ بعيد. وهذا الرجل قيل: هو ضمام بن ثعلبة، وقيل: غيره.
وقوله: "يسأل عن الإسلام": أي عن شرائع الإسلام.
والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ استوفيت شرحه، وبيان مسائله فِي "كتاب الصلاة" 4/ 458. فراجعه تستفد.
واستدلال المصنّف به لما ترجم له واضح، حيث إن الرجل سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، فذكر له الزكاة، فدلّ عَلَى أنها منْ أركان الإسلام. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
24 - (الْجِهَادُ)
أي باب ذكر الْحَدِيث الدالّ عَلَى كون الجهاد منْ شعب الإيمان.
5031 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءَ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ يَخْرُجُ فِي سَبِيلِهِ، لَا يُخْرِجُهُ إِلاَّ الإِيمَانُ بِي، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِي، أَنَّهُ ضَامِنٌ حَتَّى أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، بِأَيِّهِمَا كَانَ، إِمَّا بِقَتْلٍ، وَإِمَّا وَفَاةٍ، أَوْ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى مَسْكَنِهِ، الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ، يَنَالُ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ، أَوْ غَنِيمَةٍ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"الليث": هو ابن سعد. و"سعيد": هو ابن أبي سعيد/ كيسان المقبريّ.
و"عطاء بن ميناء" -بكسر الميم-: هو أبو معاذ المدنيّ، وقيل: البصريّ، صدوقٌ [3].
وقوله: "انتدب الله": أي سارع الله سبحانه وتعالى بثوابه، وحسن جزائه. وقيل: بمعنى أجاب إلى المراد. وقيل: بمعنى تكفّل بالمطلوب.
وقوله: "لا يُخرجه إلا الإيمان بي": هو بالرفع عَلَى أنه فاعل "يُخرج"، والاستثناء مفرّغ. وقوله:"بي": فيه عدول عن ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلّم، قَالَ ابن مالك: كَانَ الظاهر أن يقال: إلا الإيمان به، والجهاد فِي سبيله، ولكنه عَلَى تقدير اسم فاعل منْ القول، منصوب عَلَى الحال: أي انتدب الله لمن خرج فِي سبيله، قائلاً: لا يُخرجه إلا إيمان بي، و"لا يخرجه" مقول القول؛ لأن صاحب الحال عَلَى هَذَا التقدير هو "الله". وتعقّبه شهاب الدين بن المرحل بأن حذف الحال لا يجوز، وأن التعبير باللائق هنا غير لائق، فالأولى أنه منْ باب الالتفات، وهو متجه. قاله فِي "الفتح" 1/ 129 - 130.
وتعقّبه السيوطيّ، فَقَالَ: هَذَا خطأ، فإن شرط الالتفات أن تكون الجملتان منْ متكلّم واحد، وقوله:"انتدب الله لمن خرج فِي سبيلي" منْ كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقوله:"لا يخرجه إلا الإيمان بي، والجهاد فِي سبيلي"، منْ كلام الله تعالى، فلا يصحّ أن يكون التفاتًا؛ لأن الجملتين ليستا منْ متكلّم واحد، فتعين ما قاله ابن مالك، وقوله:"إن حذف الحال لا يجوز"، جوابه أنه منْ باب حذف القول، وحذفُ القول منْ البحر حدّث عنه، ولا حرج. انتهى "زهر الربى" 8/ 119 - 120.
وقوله: "ضامنٌ": أي ذو ضمان، أو مضمون له، فهو فاعل بمعنى مفعول. وقوله:"أن أدخله" منْ الإدخال.
وقوله: "بأيّهما كَانَ": متعلق بـ"أدخله": أي بأيّ السببين، وهما اللذان أبدلهما منْ "أيّهما" بقوله:"إما بقتل، أو وفاة"، والمراد منْ الوفاة: الموت بسبب غير القتل فِي الجهاد.
والحديث متّفق عليه، وتقدّم فِي "كتاب الجهاد" 14/ 3122 و3123. وَقَدْ استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5032 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضى الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَضَمَّنَ اللَّهُ عز وجل، لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ، لَا يُخْرِجُهُ إِلاَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِي، وَإِيمَانٌ بِي، وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي، فَهُوَ ضَامِنٌ، أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ أُرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ، الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ، نَالَ مَا
نَالَ، مِنْ أَجْرٍ، أَوْ غَنِيمَةٍ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، وهو مصّيصيّ، ثقة [10]. و"جرير": هو ابن عبد الحميد. و"عمارة بن القعقاع": هو الضبيّ الكوفيّ الثقة [6]. و"أبو زرعة": هو ابن عمرو بن جرير بن عبد الله البجليّ الكوفيّ، قيل: اسمه هرم، وقيل: غيره [3].
وقوله: "تضمّن الله": بمعنى تكفّل.
وقوله: "أو أرجعه" منْ الرجع المتعدّي: أي أرده، لا منْ الرجوع، فإنه لازم، وجعله بضم الهمزة، منْ الإرجاع بعيد؛ لأنه غير فصيح، وهي لغة هذيل.
والحديث متَّفقٌ عليه، ومضى القول فيه فيما قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
25 - (أَدَاءُ الْخُمُسِ)
أي هَذَا باب ذكر الْحَدِيث الدّالّ عَلَى كون أداء الخمس منْ شعب الإيمان. وَقَالَ البخاريّ فِي "صحيحه": "باب أداء الخمس منْ الإيمان".
فَقَالَ فِي "الفتح" 1/ 176 - 177: هو: بضم الخاء المعجمة، وهو المراد بقوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية [الأنفال: 41]. وقيل: إنه رُوي هنا بفتح الخاء، والمراد قواعد الإسلام الخمس المذكورة، فِي حديث بُني الإسلام عَلَى خمس، وفيه بُعْد؛ لأن الحجّ لم يذكر هنا، ولأن غيره منْ القواعد قد تقدّم، ولم يُرد هنا إلا ذكر خمس الغنيمة، فتعين أن يكون المراد إفراده بالذكر، وسنذكر وجه كونه منْ الإيمان قريبا. انتهى.
5033 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادٌ -وَهُوَ ابْنُ عَبَّادٍ- عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: إِنَّا هَذَا الْحَيَّ مِنْ رَبِيعَةَ، وَلَسْنَا نَصِلُ إِلَيْكَ، إِلاَّ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَمُرْنَا بِشَيْءٍ، نَأْخُذُهُ عَنْكَ، وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا، فَقَالَ: "آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: الإِيمَانُ بِاللَّهِ، ثُمَّ فَسَّرَهَا لَهُمْ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَأَنْ تُؤَدُّوا إِلَيَّ خُمُسَ
مَا غَنِمْتُمْ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الدُّبَّاءِ، وَالْحَنْتَمِ، وَالْمُقَيَّرِ، وَالْمُزَفَّتِ").
رجال هَذَا الإسناد: أربعة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.
2 -
(عبّاد بن عبّاد) بن حبيب بن الْمُهَلّب بن أبي صفرة المهلّبيّ الأزديّ، أبو معاوية البصريّ، ثقة ربّما وهِم [7] 123/ 1081.
3 -
(أبو جمرة) نصر بن عمران الضُّبَعيّ البصريّ، نزيل خراسان، ثقة ثبت [3] 88/ 2012.
4 -
(ابن عباس) عبد الله البحر رضي الله تعالى عنهما 27/ 31. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (2340) منْ رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين، غير شيخه، فإنه بغلانيّ. (ومنها): أن فيه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما منْ العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، ومن المشهورين بالفتوى منْ الصحابة رضي الله تعالى عنهم. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي جَمْرَةَ) هو بالجيم والراء، كما تقدّم، واسمه: نصر بن عمران بن نوح بن مخلد، الضُّبَعي -بضم الضاد المعجمة، وفتح الموحدة- منْ بني ضُبيعة -بضم أوله، مصغرًا-: وهم بطن منْ عبد القيس، كما جزم به الرشاطي، وفي بكر بن وائل بطن، يقال لهم: بنو ضُبيعة أيضًا، وَقَدْ وَهِمَ منْ نَسَب أبا جمرة إليهم، منْ شُرّاح البخاريّ، فقد رَوَى الطبراني، وابن منده، فِي ترجمة نوح بن مخلد، جَدّ أبي جمرة، أنه قَدِم عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ له:"ممن أنت؟ "، قَالَ: منْ ضبيعة ربيعة، فَقَالَ خير ربيعة عبد القيس، ثم الحي الذين أنت منهم. قاله فِي "الفتح" 1/ 177.
وفي رواية البخاريّ فِي "الإيمان": "عن أبي جمرة، قَالَ: كنت أقعد مع ابن عبّاس، يُجلسني عَلَى سريره، فَقَالَ: أقم عندي، حَتَّى أجعل لك سهمًا منْ مالي، فأقمت معه شهرين، ثم قَالَ: إن وفد عبد القيس
…
" الْحَدِيث.
وسبب تحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لأبي جمرة بهذا الْحَدِيث، ما بينه مسلم منْ طريق غندر، عن شعبة، فَقَالَ بعد قوله:"وبين النَّاس": "فأتته امرأة تسأله عن نبيذ الجر، فنهى عنه، فقلت: يا ابن عباس، إني أنتبذ فِي جَرَّة خضراء نبيذا حلوا،
فأشرب منه، فتُقَرقِر بطني، قَالَ: لا تشرب منه، وإن كَانَ أحلى منْ العسل"، وسيأتي للنسائيّ فِي "كتاب الأشربة، منْ طريق قرة، عن أبي جمرة، قَالَ: قلت لابن عباس إن جدّةً لي تنتبذ نبيذًا فِي جر، أشربه حلوا، إن أكثرت منه، فجالست القوم، خشيت أن أَفتضح، فَقَالَ: قدم وفد عبد القيس
…
" الْحَدِيث. فلما كَانَ أبو جمرة منْ عبد القيس، وكان حديثهم، يشتمل عَلَى النهى عن الانتباذ فِي الجرار، ناسب أن يذكره له.
قَالَ الحافظ: وفي هَذَا دليل عَلَى أن ابن عباس، لم يبلغه نسخ تحريم الانتباذ فِي الجرار، وهو ثابت منْ حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه عند مسلم وغيره. قَالَ القرطبيّ: فيه دليل عَلَى أن للمفتى أن يذكر الدليل مستغنيا به، عن التنصيص عَلَى جواب الفتيا، إذا كَانَ السائل بصيرا بموضع الحجة. انتهى "فتح" 1/ 177 - 178.
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيسِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: الوفد: الجماعة المختارة للتقدم، فِي لُقِيّ العظماء، واحدهم وافد، قَالَ: ووفد عبد القيس المذكورون، كانوا أربعة عشر راكبا، كبيرهم الأشج، ذكره صاحب "التحرير، فِي شرح مسلم"، وسَمَّى منهم المنذر بن عائذ، وهو الأشج المذكور، ومنقذ بن حبّان، ومزيدة بن مالك، وعمرو بن مرحوم، والحارث بن شعيب، وعبيدة بن همام، والحارث بن جندب، وصُحَار بن العبّاس -وهو بصاد مضمومة، وحاء مهملتين- قَالَ: ولم نعثر بعد طول التتبع عَلَى أسماء الباقين.
قَالَ الحافظ: قد ذكر ابن سعد منهم عقبة بن جروة، وفي "سنن أبي داود": قيس بن النعمان العبدي، وذكره الخطيب أيضًا فِي "المبهمات"، وفي "مسند البزار"، و"تاريخ ابن أبي خيثمة": الجهم بن قثم، ووقع ذكره فِي "صحيح مسلم" أيضًا، لكن لم يسمه، وفي "مسندى أحمد، وابن أبي شيبة": الرستم العبدي، وفي "المعرفة" لأبي نعيم: جويرية العبدي، وفي "الأدب للبخاري": الزارع بن عامر العبدي، فهؤلاء الستة الباقون منْ العدد، وما ذَكَر منْ أن الوفد كانوا أربعة عشر راكبا، لم يذكر دليله.
وفي "المعرفة" لابن منده، منْ طريق هود العَصَري -وهو بعين وصاد، مهملتين مفتوحتين- نسبة إلى عَصَر، بطن منْ عبد القيس، عن جده لأمه، مزيدة، قَالَ: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحدث أصحابه، إذ قَالَ لهم:"سيطلع لكم منْ هَذَا الوجه رَكْبٌ، هم خير أهل المشرق"، فقام عمر: فلقى ثلاثة عشر راكبا، فرحّب، وقَرّب، وَقَالَ: منْ القوم؟ قالوا: وفد عبد القيس. فيمكن أن يكون أحد المذكورين، كَانَ غير راكب، أو مرتدفا.
وأما ما رواه الدولابي وغيره، منْ طريق أبي خَيْرة -بفتح الخاء المعجمة، وسكون
المثناة التحتانية، وبعد الراء هاء- الصُّبَاحي -وهو بضم الصاد المهملة، بعدها موحدة خفيفة، وبعد الألف حاء مهملة-: نسبة إلى صُبَاح، بطن منْ عبد القيس- قَالَ: كنت فِي الوفد الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، منْ وفد عبد القيس، وكنا أربعين رجلا، فنهانا عن الدباء، والنقير
…
الْحَدِيث، فيمكن أن يجمع بينه وبين الرواية الأخرى، بأن الثلاثة عشر، كانوا رؤوس الوفد، ولهذا كانوا ركبانا، وكان الباقون أتباعا.
وَقَدْ وقع فِي جملة الأخبار، ذكر جماعة منْ عبد القيس، زيادة عَلَى منْ سميته هنا، منهم: أخو الزارع، واسمه مطر، وابن أخته، ولم يُسَمَّ، وروى ذلك البغوي فِي "معجمه"، ومنهم: مُشَمْرِج السعدي، روى حديثه ابن السكن، وأنه قدم مع وفد عبد القيس، ومنهم: جابر بن الحارث، وخزيمة بن عبد بن عمرو، وهمام بن ربيعة، وجارية -أوله جيم- ابن جابر، ذكرهم ابن شاهين، فِي "معجمه"، ومنهم: نوح بن مخلد، جد أبي جمرة، وكذا أبو خيرة الصباحي، كما تقدّم.
قَالَ: وإنما أطلت فِي هَذَا الفصل؛ لقول صاحب "التحرير": إنه لم يَظفَر بعد طول التتبع، إلا بما ذكرهم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى "فتح" 1/ 178.
(فَقَالُوا: إِنَّا هَذَا الْحَيَّ) هي "إنّ"، واسمها، وهو "نا" ضمير المتكلّمين، "وهذا الحيَّ" منصوب عَلَى الاختصاص، أي أخصّ هَذَا الحيَّ، والحيّ: هو اسم لمنزل القبيلة، ثم سميت القبيلة به؛ لأن بعضهم يحيا ببعض. وقوله:(مِن رَبيعَةَ) خبر "إنّ": أي نحن منْ قبيلة ربيعة بن نزار بن معدّ بن عدنان. زاد فِي رواية الشيخين: "مرحبًا بالقوم، غير خزايا، ولا ندامى".
وقوله: "مرحبا": منصوب بفعل مضمر: أي صادفت رُحْبا -بضم الراء-: أي سعة، والرحب -بالفتح- الشيء الواسع، وَقَدْ يزيدون معها "أهلا": أي وجدت أهلا، فاستأنس، وأفاد العسكري: أن أول منْ قَالَ: مرحبا سيف بن ذي يزن، وفيه دليل عَلَى استحباب تأنيس القادم، وَقَدْ تكرر ذلك منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ففي حديث أم هانيء:"مرحبا بأم هانيء"، وفي قصة عكرمة بن أبي جهل "مرحبا بالراكب المهاجر"، وفي قصة فاطمة:"مرحبا بابنتي"، وكلها صحيحة. وأخرج النسائيّ منْ حديث عاصم بن بشير الحارثي، عن أبيه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ له، لما دخل، فسلم عليه:"مرحبا وعليك السلام".
وقوله: "غير خزايا" بنصب "غير" عَلَى الحال، ورُوي بالكسر عَلَى الصفة، والمعروف الأول، قاله النوويّ، ويؤيده رواية البخاريّ، فِي "الأدب" منْ طريق أبي التياح، عن أبي جمرة:"مرحبا بالوفد الذين جاءوا، غير خزايا، ولا ندامى".
و"خزايا" جمع خزيان، وهو الذي أصابه خزي، والمعنى أنهم أسلموا طوعا، منْ غير حرب، أو سبي يخزيهم، ويفضحهم.
وقوله: "ولا ندامى": قَالَ الخطّابيّ: كَانَ أصله نادمين، جمع نادم؛ لأن ندامى إنما هو جمع ندمان: أي المنادم فِي اللَّهو، وَقَالَ الشاعر:
فَإِنْ كُنْتَ نَدْمَانِي فبِالأَكْبَرِ اسْقِنِي
…
وَلَا تَسْقِنِي بِالأَصْغَرِ الْمُتَثَلِّمِ
لكنه هنا خرج عَلَى الإتباع، كما قالوا: العشايا، والغدايا، وغداة جمعها الغدوات، لكنه أتبع انتهى. وَقَدْ حكى القزاز، والجوهريّ، وغيرهما، منْ أهل اللغة أنه يقال نادم وندمان فِي الندامة، بمعنى فعلى هَذَا، فهو عَلَى الأصل، ولا أتباع فيه. والله أعلم.
وسيأتي للمصنّف فِي "كتاب الأشربة" 48/ 5694 - منْ طريق قرة، فَقَالَ:"مرحبا بالوفد، ليس الخزايا، ولا النادمين"، وهي للطبراني منْ طريق شعبة أيضًا.
قَالَ ابن أبي جمرة: بَشَّرهم بالخير عاجلا وآجلا؛ لأن الندامة إنما تكون فِي العاقبة، فإذا انتفت ثبت ضدها، وفيه دليل عَلَى جواز الثناء عَلَى الإنسان فِي وجهه، إذا أُمن عليه الفتنة.
(وَلَسْنَا نَصِلُ إِلَيْكَ) وفي رواية قرة المذكورة: "فقالوا: يا رسول الله، إن بيننا وبين المشركين"، وفي قولهم:"يا رسول الله"، وقولهم:"المشركين" دليل عَلَى أنهم كانوا حين المقابلة مسلمين. (إِلاَّ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ) وللبخاريّ فِي رواية الأصيلي، وكريمة:"إلا فِي شهر الحرام"، وهي رواية مسلم، وَهي منْ إضافة الشيء إلى نفسه، كمسجد الجامع، ونساء المؤمنات، والمراد بالشهر الحرام الجنس، فيشمل الأربعة الحرم، ويؤيده رواية قرة الآتية فِي "الأشربة" بلفظ:"إلا فِي أشهر الحرم"، وفي رواية حماد بن زيد عند البخاريّ فِي "المناقب" بلفظ:"إلا فِي كل شهر حرام"، وقيل: اللام للعهد، والمراد شهر رَجَب، وفي رواية للبيهقى التصريح به، وكانت مضر تبالغ فِي تعظيم شهر رَجَب، فلهذا أضيف إليهم فِي حديث أبي بكرة رضي الله عنه، حيث قَالَ:"رَجَب مضر"، والظاهر أنهم كانوا يخصونه بمزيد التعظيم، مع تحريمهم القتال فِي الأشهر الثلاثة الأخرى، إلا أنهم ربما أنسأوها بخلافه.
وفيه دليل عَلَى تقدّم إسلام عبد القيس عَلَى قبائل مضر، الذين كانوا بينهم وبين المدينة، وكانت مساكن عبد القيس بالبحرين، وما والاها منْ أطراف العراق، ولهذا قالوا -كما فِي رواية شعبة- عند البخاريّ فِي "العلم":"وإنا نأتيك منْ شُقَّة بعيدة". قَالَ ابن قتيبة: الشقة السفر، وَقَالَ الزجاج: هي الغاية التي تُقصد. ويدل عَلَى سبقهم إلى الإسلام أيضًا ما رواه البخاريّ فِي "الجمعة"، منْ طريق أبي جمرة أيضًا، عن ابن عباس
رضي الله عنهما، قَالَ: إن أول جمعة جُمِّعَت بعد جمعة فِي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فِي مسجد عبد القيس بِجُوَاثَى، منْ البحرين"، وجُواثى -بضم الجيم، وبعد الألف مثلثة مفتوحة- وهي قرية شهيرة لهم، وإنما جَمَّعُوا بعد رجوع وفدهم إليهم، فدل عَلَى أنهم سبقوا جميع القرى إلى الإسلام. قاله فِي "الفتح" 1/ 179 - 180.
(فَمُرْنَا بِشَيْءٍ) وفي رواية الشيخين: "فمرنا بأمر فصل، نخبر به منْ وراءنا، وندخل به الجنّة".
فقوله: "بأمرٍ فصلٍ" بالتنوين فيهما، لا بالإضافة، والأمر واحد الأوامر: أي مُرْنا بعمل بواسطة "افعلوا"، ولهذا قَالَ الراوي:"أمرهم"، وفي رواية للبخاريّ: قَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "آمركم"، وله أيضًا: بصيغة افعلوا، والفصل بمعنى الفاصل، كالعدل بمعنى العادل: أي يفصل بين الحق والباطل، أو بمعنى الْمُفَضَّل: أي المبين المكشوف، حكاه الطيبي. وَقَالَ الخطّابيّ: الفصل: البَيِّن، وقيل: المحكم.
وقوله: "نخبر به" بالرفع عَلَى الصفة لـ"أمر"، وكذا قوله:"وندخل"، وَيُرْوَى بالجزم فيهما، عَلَى أنه جواب الأمر، وسقطت الواو منْ "وندخل" فِي بعض الروايات فيرفع "نخبر"، ويجزم "تدخلْ". قاله فِي "الفتح".
(نَأْخُذُهُ عَنْكَ) بالرفع عَلَى أن الجملة فِي محل جرّ صفة لـ"شيء"، وكذا قوله:(وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ) بفتح الميم، موصولة، وفي رواية لمسلم بكسر الميم، وعليه فهي حرف جرّ، وقوله:(وَرَاءَنَا) منصوب عَلَى الظرفية، صلة "منْ": أي ندعو قومنا الذين بَقُوا وراءنا فِي بلدنا إلى هَذَا الشيء الذي تأمرنا به. وفي رواية قرّة المذكورة: "فحدّثنا بأمر، إن عمِلنا به دخلنا الجنّة، وندعو إليه منْ وراءنا".
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ) أي أربع خصال، أو أربع جُمَل، وهذا جواب لقولهم "فمرنا بشيء"، وقوله:(وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ) جواب لسؤالهم عن الأشربة، ففي رواية البخاريّ بعد قوله:"نخبر به منْ وراءنا، وندخل به الجنة": "وسألوه عن الأشربة".
(الإِيمَانُ بِاللَّهِ) بالجرّ بدلاً عن أمر: أى آمركم بالإيمان بالله، ويحتمل الرفع خبرًا لمحذوف: أي هي الإيمان بالله، والنصب عَلَى أنه مفعول لفعل مقدّر: أي أقصد الإيمان بالله.
(ثُمَّ فَسَّرَهَا لَهُمْ) أي بيّن الأربع التي أمر الوفد بها بقوله: (شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ) برفع "شهادة" على أنه خبر لمحذوف: أي هي شهادة الخ (وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ) زاد فِي رواية الشيخين: "وصيام رمضان"(وَأَنْ تُؤَدُّوا إِلَيَّ خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ) وفي رواية البخاريّ: "وأن تعطوا منْ المغنم الخمس".
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لم يذكر الصيام فِي رواية المصنّف رحمه الله تعالى هنا، وفي "الأشربة"، والظاهر أنه سقط منْ بعض الرواة، وعلى سقوطه لا إشكال فِي كون الشهادة، وما بعدها تفسيرًا للأربع فِي قوله صلى الله عليه وسلم:"آمركم بأربع"، وإنما الإشكال فِي ذكره، وهو فِي رواية الشيخين، ولفظها:"أمرهم بالإيمان بالله وحده، قَالَ: "أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قَالَ: "شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تُعطوا منْ المغنم الخمس"، فقد ذكر فيها خمسة أشياء: أحدها: الشهادتان، والثاني: إقام الصلاة، والثالث: إِيتَاءُ الزكاة، والرابع صيام رمضان، والخامس: أداء الخمس. وَقَدْ سلكوا العلماء فِي جواب هَذَا الإشكال مسالك، وَقَدْ لخّصه الحافظ رحمه الله تعالى فِي "الفتح"، فَقَالَ:
قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: قيل: إن أول الأربع المأمور بها "إقام الصلاة"، وإنما ذكر الشهادتين تبركا بهما، كما قيل فِي قوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية [الأنفال: 41]، وإلى هَذَا نحا الطيبي، فَقَالَ: عادة البلغاء أن الكلام إذا كَانَ منصوبا لغرض جعلوا سياقه له، وطرحوا ما عداه، وهنا لم يكن الغرض فِي الإيراد ذكر الشهادتين؛ لأن القوم كانوا مؤمنين، مقرين بكلمتي الشهادة، ولكن ربما كانوا يظنون أن الإيمان مقصور عليهما، كما كَانَ الأمر فِي صدر الإسلام، قَالَ: فلهذا لم يَعُدَّ الشهادتين فِي الأوامر. قيل: ولا يَرِد عَلَى هَذَا الإتيانُ بحرف العطف، فيحتاج إلى تقدير.
وَقَالَ القاضي أبو بكر بن العربي: لولا وجود حرف العطف، لقلنا: إن ذكر الشهادتين ورد عَلَى سبيل التصدير، لكن يمكن أن يُقرأ قوله:"وإقام الصلاة" بالخفض، فيكون عطفا عَلَى قوله:"أمرهم بالإيمان" والتقدير: أمرهم بالإيمان، مُصدِّرا به، وبشرطه منْ الشهادتين، وأمرهم بإقام الصلاة الخ، قَالَ: ويؤيد هَذَا حذفهما فِي رواية البخاريّ فِي "الأدب" منْ طريق أبي التياح، عن أبي جمرة، ولفظه: "أربع، وأربع: أقيموا الصلاة
…
الخ.
[فإن قيل]: ظاهر ما ترجم به البخاريّ منْ أن أداء الخمس منْ الإيمان، يقتضى إدخاله مع باقي الخصال، فِي تفسير الإيمان، والتقدير المذكور يخالفه، أجاب ابن رُشيد: بأن المطابقة تحصل منْ جهة أخرى، وهي أنهم سألوا عن الأعمال التي يدخلون بها الجنة، وأجيبوا بأشياء، منها: أداء الخمس، والأعمال التي تدخل الجنة، هي أعمال الأيمان، فيكون أداء الخمس منْ الإيمان بهذا التقرير.
[فإن قيل]: فكيف قَالَ فِي رواية حماد بن زيد، عن أبي جمرة:"آمركم بأربع: الإيمان بالله، وشهادة أن لا إله الا الله، وعقد واحدة"، كذا للبخاريّ فِي "المغازي"، وله فِي "فرض الخمس":"وعقد بيده"، فدل عَلَى أن الشهادة إحدى الأربع، وأما ما وقع عنده فِي "الزكاة" منْ هَذَا الوجه منْ زيادة الواو فِي قوله:"وشهادة أن لا إله الا الله"، فهي زيادة شاذة، لم يتابع عليها حجاجَ بنَ منهال أحدٌ. والمراد بقوله:"شهادة أن لا إله الا الله"، أي وأن محمد رسول الله كما صرح به فِي رواية عباد بن عباد فِي أوائل "المواقيت"، ولفظه: "آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: الإيمان بالله، ثم فسرها له: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله
…
الْحَدِيث، والاقتصار عَلَى شهادة أن لا إله الا الله عَلَى إرادة الشهادتين معا؛ لكونها صارت عَلَمًا عَلَى ذلك.
وهذا أيضًا يدلّ عَلَى أنه عَدَّ الشهادتين منْ الأربع؛ لأنه أعاد الضمير فِي قوله: "ثم فسرها" مؤنثا، فيعود عَلَى الأربع، ولو أراد تفسير الإيمان، لأعادة مذكرا، وعلى هَذَا، فيقال: كيف قَالَ: "أربع"، والمذكورات خمس؟، وَقَدْ أجاب عنه القاضي عياض؛ تبعا لابن بطال: بأن الأربع ما عدا أداء الخمس، قَالَ: كأنه أراد إعلامهم بقواعد الإيمان، وفروض الأعيان، ثم أعلمهم بما يلزمهم إخراجه، إذا وقع له جهاد؛ لأنهم كانوا بصدد محاربة كفار مضر، ولم يقصد ذكرها بعينها؛ لأنها مسببة عن الجهاد، ولم يكن الجهاد إذ ذاك فَرْض عين، قَالَ وكذلك لم يذكر الحجّ؛ لأنه لم يكن فُرِض.
وَقَالَ غيره: قوله: "وأن تعطوا" معطوف عَلَى قوله: "بأربع" أي آمركم بأربع، وبأن تعطوا، ويدل عليه العدول عن سياق الأربع، والإتيان بأن والفعل، مع توجه الخطاب إليهم، قَالَ ابن التين: لا يمتنع الزيادة إذا حصل الوفاء بوعد الأربع. قَالَ الحافظ: ويدل عَلَى ذلك لفظ رواية مسلم، منْ حديث أبي سعيد الخدريّ، فِي هذه القصة:"آمركم بأربع: اعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، وأعطوا الخمس منْ الغنائم".
وَقَالَ القاضي أبو بكر بن العربي: ويحتمل أن يقال إنه عَدَّ الصلاة والزكاة واحدة؛ لأنها قرينتها فِي كتاب الله، وتكون الرابعة أداء الخمس، أو أنه لم يَعُدُّ أداء الخمس؛ لأنه داخل فِي عموم إيتاء الزكاة، والجامع بينهما أنهما إخراج مال معين، فِي حال دون حال.
وَقَالَ البيضاويّ: الظاهر أن الأمور الخمسة المذكورة هنا، تفسير للإيمان، وهو أحد الأربعة الموعود بذكرها، والثلاثة الأُخَر حذفها الراوي اختصارا، أو نسيانا، كذا قَالَ، وما ذَكَر أنه الظاهر، لعله بحسب ما ظهر له، والا فالظاهر منْ السياق أن الشهادة أحد
الأربع؛ لقوله: "وعقد واحدة"، وكأن القاضي أراد أن يرفع الإشكال، منْ كون الإيمان واحدا، والموعود بذكره أربعا، وَقَدْ أجيب عن ذلك بأنه باعتبار أجزائه المفصلة أربع، وهو فِي حد ذاته واحد، والمعنى أنه اسم جامع للخصال الأربع، التي ذَكَر أنه يأمرهم بها، ثم فسرها، فهو واحد بالنوع، متعدد بحسب وظائفه، كما أن المنهي عنه، وهو الانتباذ فيما يُسرع إليه الإسكار، واحد بالنوع، متعدد بحسب أوعيته.
والحكمة فِي الإجمال بالعدد قبل التفسير، أن تتشوف النفس إلى التفصيل، ثم تسكن إليه، وأن يحصل حفظها للسامع، فإذا نسي شيئا منْ تفاصيلها، طالب نفسه بالعدد، فإذا لم يستوف العدد الذي فِي حفظه، عَلِم أنه قد فاته بعض ما سمع.
وما ذكره القاضي عياض، منْ أن السبب فِي كونه لم يذكر الحجّ فِي الْحَدِيث؛ لأنه لم يكن فرض هو المعتمد، وَقَدْ قدمنا الدليل عَلَى قِدَم إسلامهم، لكن جزم القاضي بأن قدومهم كَانَ فِي سنة ثمان، قبل فتح مكة تبع فيه الواقدي، وليس بجيد؛ لأن فرض الحجّ كَانَ سنة ست، عَلَى الأصح، كما مرّ فِي موضعه، ولكن القاضي يختار أن فرض الحجّ كَانَ سنة تسع، حَتَّى لا يرد عَلَى مذهبه أنه عَلَى الفور. انتهى.
وَقَدْ احتج الشافعيّ لكونه عَلَى التراخي، بأن فرض الحجّ كَانَ بعد الهجرة، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ قادرا عَلَى الحجّ، فِي سنة ثمان، وفي سنة تسع، ولم يحج إلا فِي سنة عشر.
وأما قول منْ قَالَ: إنه ترك ذكر الحجّ؛ لكونه عَلَى التراخي، فليس بجيد؛ لأن كونه عَلَى التراخي لا يمنع منْ الأمر به، وكذا قول منْ قَالَ: إنما تركه لشهرته عندهم ليس بقوي؛ لأنه عند غيرهم ممن ذكره لهم أشهر منه عندهم، وكذا قول منْ قَالَ: إن ترك ذكره؛ لأنهم لم يكن لهم إليه سبيل، منْ أجل كفار مضر ليس بمستقيم؛ لاْنه لا يلزم منْ عدم الاستطاعة فِي الحال، ترك الإخبار به؛ ليعمل به عند الإمكان، كما فِي الآية، بل دعوى أنهم كانوا لا سبيل لهم إلى الحجّ ممنوعة؛ لأن الحجّ يقع فِي الاْشهر الحرم، وَقَدْ ذكروا أنهم كانوا يأمنون فيها، لكن يمكن أن يقال: إنه إنما أخبرهم ببعض الأوامر؛ لكونهم سألوه أن يخبرهم بما يدخلون بفعله الجنة، فاقتصر لهم عَلَى ما يمكنهم فعله فِي الحال، ولم يقصد إعلامهم بجميع الأحكام، التي تجب عليهم فعلا وتركا، ويدل عَلَى ذلك اقتصاره فِي المناهي عَلَى الانتباذ فِي الأوعية، مع أن فِي المناهي ما هو أشد فِي التحريم منْ الانتباذ، لكن اقتصر عليها لكثرة تعاطيهم لها.
وأما ما وقع فِي "كتاب الصيام" منْ "السنن الكبرى" للبيهقى منْ طريق أبي قلابة الرقاشي، عن أبي زيد الهروي، عن قرة فِي هَذَا الْحَدِيث، منْ زيادة ذكر الحجّ،
ولفظه: "وتحجوا البيت الحرام"، ولم يتعرض لعدد، فهي رواية شاذة.
وَقَدْ أخرجه الشيخان، ومن استخرج عليهما، والنسائي، وابن خزيمة، وابن حبّان، منْ طريق قرة، لم يذكر أحد منهم الحجّ، وأبو قلابة تغير حفظه فِي آخر أمره، فلعل هَذَا مما حدث به فِي التغير، وهذا بالنسبة لرواية أبي جمرة، وَقَدْ ورد ذكر الحجّ أيضًا فِي "مسند الإمام أحمد"، منْ رواية أبان العطار، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، وعن عكرمة، عن ابن عباس، فِي قصة وفد عبد القيس، وعلى تقدير أن يكون ذكر الحجّ فيه محفوظا، فيجمع فِي الجواب عنه، بين الجوابين المتقدمين، فيقال: المراد بالاربع ما عدا الشهادتين، وأداء الخمس، والله أعلم.
(وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الدُّبَّاءِ) وهو تفسير لسؤالهم عن الأشربة، ففي رواية البخاريّ:"وسألوه عن الأشربة". وهو منْ إطلاق المحل، وإرادة الحالّ: أي ما فِي الدباء، ونحوه، وَقَدْ صرح بالمراد فِي رواية المصنّف فِي "الأشربة" منْ طريق قرة، فَقَالَ: "وأنهاكم عن أربع: مما يُنتبذ فِي الدبّاء
…
" الْحَدِيث.
و"الدباء" -بضم المهملة، وتشديد الموحدة، والمد- فُعّالٌ، والواحدة: دُبّاءة: هو القرع، قَالَ النوويّ: والمراد اليابس منه، وحكى القزاز فيه القصر (وَالْحَنْتَمِ) -بفتح المهملة، وسكون النون، وفتح المثناة منْ فوق-: هي الجرّة، كذا فسرها ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فِي "صحيح مسلم"، وله عن أبي هريرة رضي الله عنه "الحنتم": الجِرَار الْخُضْرُ، وروى الحربي فِي "الغريب" عن عطاء: أنها جِرار كانت تُعمل منْ طين، وشعر، ودم.
(وَالْمُقَيَّرِ) -بالقاف، والياء الأخير- بصيغة اسم المفعول: هو ما طُلِي بالقار، ويقال له: القير -بكسر القاف-: وهو نبت يُحرَق إذا يبس، تطلى به السفن، وغيرها، كما تطلى بالزِّفت، قاله صاحب "المحكم"، وفي رواية قرّة الآتية فِي "الأشربة":"والنقير" بدل "المقيّر"، وهو -بفتح النون، وكسر القاف-: أصل النخلة، يُنقَر، فيتخذ منه وعاء.
(وَالْمُزَفَّتِ") -بالزاى، والفاء المشدّدة، بصيغة اسم المفعول أيضًا: هو ما طُلِيَ بالزِّفْت، وهو نوع منْ القار، وَقَالَ ابن سيده: هو شيء أسود يُطلَى به الإبل، والسفُنُ. وَقَالَ أبو حنيفة الدِّينوريّ: إنه شجر مرّ.
وفي "مسند أبي داود الطيالسي"، عن أبي بكرة رضي الله عنه قَالَ: "أما الدباء، فإن أهل الطائف كانوا يأخذون القَرْع، فيخرطون فيه العنب، ثم يدفنونه، حَتَّى يهدر، ثم يموت، وأما النقير فإن أهل اليمامة، كانوا يَنقُرون أصل النخلة، ثم ينبذون الرطب والبسر، ثم
يَدَعُونه حَتَّى يهدر، ثم يموت، وأما الحنتم، فجِرَار، كانت تحمل إلينا فيها الخمر، وأما المزفت، فهذه الأوعية التي فيها الزِّفْت. انتهى، وإسناده حسن، وتفسير الصحابيّ أولى أن يُعتَمد عليه منْ غيره؛ لأنه أعلم بالمراد.
ومعنى النهي عن الانتباذ فِي هذه الأوعية بخصوصها؛ لأنه يسرع فيها الإسكار، فربما شرب منها منْ لا يشعر بذلك، ثم ثبتت الرخصة فِي الانتباذ فِي كل وعاء، مع النهي عن شرب كل مسكر، كما سيأتي فِي كتاب الأشربة إن شاء الله تعالى.
زاد فِي رواية الشيخين: "وَقَالَ: احفظوهنّ، وأخبروا بهنّ منْ وراءكم". وقوله: "وأخبروا بهن مَن وراءكم": بفتح "منْ"، وهي موصولة، و"وراءكم": يشمل مَن جاءوا منْ عندهم، وهذا باعتبار المكان، ويشمل منْ يحدُث لهم منْ الأولاد، وغيرهم، وهذا باعتبار الزمان، فيحتمل إعمالها فِي المعنيين معا، حقيقة ومجازا. قاله فِي "الفتح" 1/ 180 - 183. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -25/ 5033 - وأخرجه (خ) فِي "الإيمان" 53 و"العلم" 87 و"مواقيت الصلاة" 523 و"الزكاة" 1398 و"المناقب" 3510 و"الأدب" 6176 و"أخبار الآحاد" 7266 (م) فِي "الإيمان" 17 و"الأشربة" 1990 و1997 و1599 (د) فِي "الأشربة" 3690 و3692 و3696 و"السنة" 4677 (أحمد) فِي "مسند بني هاشم" 1962 و2010 و2472 و2645 و2764 و"مسند المكثرين" 5071 و5918 (الموطأ) فِي "الأشربة"1591. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده
(1)
:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان كون أداء الخمس منْ شعب الإيمان. (ومنها): مشروعيّة وفادة الرؤساء إلى الأئمة عند الأمور المهمة. (ومنها): ما استنبطه ابن التين رحمه الله تعالى منْ قول ابن عبّاس رضي الله تعالى
(1)
ليس المراد فوائد سياق المصنّف فقط، بل فوائد الْحَدِيث برواياته المتنوّعة المذكورة فِي الشرح، فتنبّه.
عنهما: "أجعل لك سهمًا منْ مالي" منْ جواز أخذ الأجرة عَلَى التعليم. لكن فيه نظر. (ومنها): أن فيه استعانة العالم فِي تفهيم الحاضرين، والفهم عنهم ببعضهم، كما فعل ابن عباس رحمه الله تعالى، حيث جعل أبا جمرة رحمه الله تعالى مترجما له. (ومنها): استحباب قول: "مرحبًا"، كما قَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم للوفد:"مرحبًا بالوفد". (ومنها): الأمر بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، وصيام رمضان. (ومنها): وجوب أداء الخمس فِي الغنيمة، قلّت أم كثُرت، وإن لم يكن الإمام فِي السرية الغازية. (ومنها): النهي عن الانتباذ فِي الأوعية الأربعة، وهو أن يُجعل فيها الماء، ويلقى فيه حبوب منْ تمر، أو زبيب، أو نحوهما، حَتَّى يحلو، وُيشرب، وإنما نُهي؛ لإسراع الإسكار فيها، ولا يمنع الانتباذ فِي أسقية الأدم: أي الجلد التي تلاثُ: أي تربط عَلَى أفواهها؛ لأنها لرقّتها لا يبقى فيها المسكر، بل إذا صار مسكرًا شقّها، غالبًا، أو حلّ رباطها، فيعلم أنه مسكر. ثم إن هَذَا النهي كَانَ فِي ابتداء الإسلام، ثم نُسخ، ففي "صحيح مسلم" منْ حديث بُريدة بن الحصيب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كنت نهيتكم عن الانتباذ إلا فِي الأسقية، فانتبذوا فِي كل وعاء، ولا تشربوا مسكرًا"، وسيأتي للمصنّف فِي: كتاب الأشربة" 40/ 5654 - إن شاء الله تعالى.
قَالَ العينيّ: وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعيّ، والجمهور، وذهبت طائفة إلى أن النهي باق، منهم مالك، وأحمد، وإسحاق، حكاه الخطّابيّ عنهم، قَالَ: وهو مرويّ عن عمر، وابن عبّاس رضي الله عنهم، وذِكرُ ابن عباس هَذَا الْحَدِيث لَمّا استُفتي دليلٌ عَلَى أنه يعتقد النهي، ولم يبلغه النسخ، والصواب الجزم بالإباحة؛ لتصريح النصّ بالنسخ. انتهى "عمدة القاري" 1/ 355.
(ومنها): ما قاله ابن أبي جمرة رحمه الله تعالى: فيه
(1)
دليل عَلَى إبداء العذر عند العجز عن توفية الحق واجبا أو مندوبا، وعلى أنه يبدأ بالسؤال عن الأهم، وعلى أن الأعمال الصالحة تُدخل الجنة إذا قُبلت، وقبولها يقع برحمة الله تعالى.
(ومنها): أن البخاريّ رحمه الله تعالى استنبط منْ الْحَدِيث الاعتمادَ عَلَى أخبار الآحاد، أي حيث قَالَ لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم:"احفظوهنّ، وأخبروا بهنّ منْ وراءكم"، فإن الأمر بذلك يتناول كلّ فرد، فلولا أن الحجة تقوم بتبليغ الواحد ما حضّهم عليه، وهو استنباط حسنٌ. (ومنها): جواز قول: "رمضان" منْ غير إضافة لفظة "شهر" إليه، وَقَدْ كرهه بعضهم، ولا وجه له. (ومنها): أن فيه أنه لا عيب عَلَى طالب العلم، أو
(1)
أي فِي قول الوفد: إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا فِي الشهر الحرام إلى آخر كلامهم.
المستفتي أن يقول للعالم: أوضح لي الجواب، ونحو هذه العبارة. (ومنها): أنه يستحب للعالم إكرام أهل الفضل، والثناء عليهم، ومدحهم فِي وجوههم إذا لم يخف مفسدةً، منْ إعجاب، ونحوه، كما أكرم النبيّ صلى الله عليه وسلم هؤلاء الوفد، وأثنى عليهم، ومدحهم. (ومنها): أن فيه دليلاً عَلَى أن الإيمان والإسلام شيء واحد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم فسر الإسلام فيما مضى منْ حديث سؤال جبريل عليه السلام، بما فسّر به الإيمان هنا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
26 - (شُهُودُ الْجَنَائِزِ)
أي باب ذكر الْحَدِيث الدالّ عَلَى أن شهود الجنائز شعبة منْ شعب الإيمان.
5034 -
(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلاَّمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ -يَعْنِي ابْنَ يُوسُفَ بْنِ الأَزْرَقِ- عَنْ عَوْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنِ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ، إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا، فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ انْتَظَرَ حَتَّى يُوضَعَ فِي قَبْرِهِ، كَانَ لَهُ قِيَرَاطَانِ: أَحَدُهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ رَجَعَ، كَانَ لَهُ قِيرَاطٌ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عبد الرحمن بن محمد بن سلّام" -بتشديد اللام-: البغداديّ، ثم الطَّرْسُوسيّ، لا بأس به [11] منْ أفراد المصنّف، وأبي داود. و"إسحاق ابن يوسف الأزرق": هو الواسطيّ الثقة [9].
[تنبيه]: قوله: "ابن الأزرق" هكذا عند المصنّف، لكن المشهور أن الأزرق صفة لإسحاق، ففي "تهذيب التهذيب" جـ 1 ص 131 "إسحاق بن يوسف بن مرداس المخزومي الواسطي المعروف بالأزرق" انتهى. فهذا يدلّ عَلَى أن الأزرق صفة لإسحاق، فليُتَأَمَّل. و"عوف": هو ابن أبي جَمِيلة الأعرابيّ البصريّ، ثقة رُمي بالقدر، والتشيّع [6].
وقوله: "إيمانًا، واحتسابًا": منصوبان عَلَى الحال: أي مصدّقا بحقّيّته، وطالبًا الأجر منْ الله تعالى، لا رياء، ولا سمعةً، وهذا محلّ الترجمة، حيث جعل اتباع جنازة المسلم منْ الإيمان.
وقوله: "فصلّى عليه": أي جنازة المسلم، وإنما ذكّر الضمير باعتبار المضاف إليه، حيث اكتسب المضاف منه التذكير، كما أشار إليه فِي "الخلاصة" بقوله:
وَرُبَّمَا أَكْسَبَ ثَانٍ أَوّلاً
…
تَأْنِيثًا إِنْ كَانَ لِحَذْفٍ مُوهلَا
أي ويُكسب تذكيرًا أيضًا.
والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي "كتاب الجنائز" 79/ 1995 - وَقَدْ استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
27 - (الْحَيَاءُ)
5035 -
(أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْنٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ ح وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، أَخْبَرَنِي مَالِكٌ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَرَّ عَلَى رَجُلٍ، يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ، فَقَالَ: "دَعْهُ، فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ").
رجال هَذَا الإسناد: ثمانية:
1 -
(هارون بن عبد الله) الْحَمّال، أبو موسى البغداديّ، ثقة حافظ [10] 50/ 62.
2 -
(الحارث بن مسكين) بن محمد القاضي المصريّ، ثقة فقيه [10] 9/ 9.
3 -
(معن) بن عيسى القزّاز، أبو يحيى المدنيّ، ثقة ثبت، قَالَ أبو حاتم: هو أثبت أصحاب مالك فِي "الموطإ"، منْ كبار [10] 50/ 62.
4 -
(ابن القاسم) هو عبد الرحمن الْعُتقيّ المصريّ الفقيه، صاحب مالك، ثقة، منْ كبار [10] 9/ 9.
5 -
(مالك) بن أنس، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7] 7/ 7.
6 -
(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهريّ المدنيّ الإمام الحجة الثبت [4] 1/ 1.
7 -
(سالم) بن عبد الله بن عمر المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت عابد [3] 23/ 490.
8 -
(أبوه) عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي رضي الله تعالى عنهما 12/ 12.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه الحارث، فتفرد به هو وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بثقات المدنيين، غير الحارث، وابن القاسم، فمصريّان، وهارون، فبغداديّ، وفيه
رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أحد الفقهاء السبعة عَلَى بعض الأقوال، وهو سالم، وفيه عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، وأحد المكثرين منْ الفتوى منْ الصحابة رضي الله عنهم. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ سَالِم) بن عبد الله (عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، مَرَّ عَلَى رَجُلٍ) ولمسلم منْ طريق معمر: "مر برجل"، و"مر" بمعنى: اجتاز يُعَدى بـ"عَلَى"، وبالباء، قَالَ الحافظ: ولم أعرف اسم هذين الرجلين: الواعظ، وأخيه. (يَعِظُ أَخَاهُ) منْ الوعظ: وهو النصح، والتذكير بالعواقب، وَقَالَ ابن فارس: هو التخويف، والإنذار. وَقَالَ الخليل بن أحمد: هو التذكير بالخير فيما يُرقّ القلب. قاله فِي "عمدة القاري" 1/ 200 - 201.
وَقَالَ فِي "الفتح": أي يَنصَح، أو يُخَوِّف، أو يُذَكِّر، كذا شرحوه، والأولى أن يُشرح بما جاء عند البخاريّ فِي "الأدب" منْ طريق عبد العزيز بن أبي سلمة، عن ابن شهاب، ولفظه:"يُعاتِب أخاه فِي الحياء، يقول: إنك لتستحي، حَتَّى كأنه يقول -قد أَضربك". انتهى. ويحتمل أن يكون جمع له العِتاب، والوعظ، فذكر بعض الرواة ما لم يذكره الآخر، لكن المخرج مُتَّحِد، فالظاهر أنه منْ تصرف الراوي، بحسب ما اعتقد أن كل لفظ منهما يقوم مقام الآخر. قاله فِي "الفتح" 1/ 105.
وجملة "يعظ أخاه" فِي محلّ جرّ صفة لـ"ـرجل". وقوله: (فِي الْحَيَاءِ) متعلّق بـ"يعِظ"، و"فِي" سببية، فكأن الرجل كَانَ كثير الحياء، فكان ذلك يمنعه منْ استيفاء حقوقه، فعاتبه أخوه عَلَى ذلك (فَقَالَ) له النبيّ صلى الله عليه وسلم (دَعْهُ) أي اتركه عَلَى هَذَا الخلق السَّنِيّ، ثم علّل ذلك أمره بالترك بما ذكره بالفاء التعليليّة، فَقَالَ:(فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الْإيمَانِ) أي وإذا كَانَ الحياء، يمنع صاحبه منْ استيفاء حق نفسه، جر له ذلك تحصيل أجر ذلك الحق، لاسيما إذا كَانَ المتروك له مستحقا.
وَقَالَ ابن قتيبة: معناه إن الحياء يمنع صاحبه منْ ارتكاب المعاصي، كما يمنع الإيمان، فسُمّى إيمانا، كما يسمى الشيء باسم ما قام مقامه، وحاصله أن إطلاق كونه منْ الإيمان مجاز
(1)
، والظاهر أن الناهي ما كَانَ يعرف أن الحياء منْ مكملات الإيمان، فلهذا وقع التأكيد، وَقَدْ يكون التأكيد منْ جهة أن القضية فِي نفسها مما يهتم به، وإن لم
(1)
كونه مجازًا فيه نظر؛ لأنه جزء منْ أجزاء الإيمان، وجزء الشيء لا يسمى مجازًا، وإنما هو جزء حقيقة، فتنبّه.
يكن هناك منكر.
قَالَ الراغب: الحياء انقباض النفس عن القبيح، وهو منْ خصائص الإنسان؛ ليرتدع عن ارتكاب كل ما يَشتهي، فلا يكون كالبهيمة، وهو مركب منْ جُبن وعفة، فلذلك لا يكون المستحي فاسقا، وقَلَّما يكون الشجاع مُسْتَحِيًا، وَقَدْ يكون لمطلق الانقباض، كما فِي بعض الصبيان. انتهى ملخصا.
وَقَالَ غيره: هو انقباض النفس، خشية ارتكاب ما يُكرَه، أعم منْ أن يكون شرعيا، أو عقليا، أو عرفيا، ومقابل الأول فاسق، والثاني مجنون، والثالث أَبْلَهُ، قَالَ: وقوله صلى الله عليه وسلم: "الحياء شعبة منْ الإيمان": أي أثر منْ آثار الإيمان. وَقَالَ الحليمي: حقيقة الحياء: خوف الذم بنسبة الشر إليه. وَقَالَ غيره: إن كَانَ فِي مُحَرَّم فهو واجب، وإن كَانَ فِي مكروه، فهو مندوب، وإن كَانَ فِي مباح، فهو العرفي، وهو المراد بقوله:"الحياء لا يأتي إلا بخير"، ويجمع كل ذلك أن المباح إنما هو ما يقع عَلَى وفق الشرع، إثباتا ونفيا. وحُكِي عن بعض السلف: رأيت المعاصي مَذَلَّةً، فتركتها مروأة، فصارت ديانةً. وَقَدْ يتولد الحياء منْ الله تعالى منْ التقلب فِي نعمه، فيستحي العاقل أن يستعين بها عَلَى معصيته. وَقَدْ قَالَ بعض السلف: خَفِ اللهَ عَلَى قَدْرِ قُدْرَته عليك، واستحي منه عَلَى قَدْر قُرْبه منك. والله تعالى أعلم. قاله فِي "الفتح" 105 - 106. وهو بحث نفيس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -27/ 5035 - وأخرجه (خ) فِي "الإيمان" 24 و"الأدب" 6118 (م) فِي "الإيمان" 36 (د) فِي "الأدب" 4795 (ت) فِي "الإيمان" 2615 (ق) فِي "المقدمة" 58 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 5161 و6305. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان كون الحياء شعبة منْ شعب الإيمان. (ومنها): أن فيه بيان عظم شأن الحياء، وأنه منْ أعلى الصفات الحميدة التي يتحلّى بها المؤمن، وَقَدْ ورد فِي مدحه أحاديث كثيرة، منها هَذَا الْحَدِيث، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه الماضي:"والحياء شعبة منْ الإيمان"، وحديث عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قَالَ:"الحياء لا يأتي إلا بخير"، وفي رواية عنه:
"الحياء خير كلّه"، رواه مسلم. (ومنها): ما قاله الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى فِي شرح هَذَا الْحَدِيث: والحياء نوعان: [أحدهما]: غريزي، وهو خُلُقٌ يمنحه الله تعالى العبد، ويَجبُلُهُ عليه، فيكُفّه عن ارتكاب القبائح، والرذائل، ويحثّه عَلَى فعل الجميل، وهو منْ أعلى مواهب الله تعالى للعبد، فهذا منْ الإيمان باعتبار أنه يؤثّر ما يؤثّره الإيمان منْ فعل الجميل، والكفّ عن القبيح، وربما ارتقى صاحبه بعده إلى درجة الإيمان، فهو وسيلة إليه، كما قَالَ عمر رضي الله عنه: منْ استحى اختفَى، ومن اختفى اتّقَى، ومن اتّقى وُقي. وَقَالَ بعض التابعين: تركت الذنوب حياءً أربعين سنة، ثم أدركني الورع. وَقَالَ ابن سَمْعُون: رأيت المعاصي نَذَالةٌ، فتركتها مروءة، فاستحالت ديانةً.
[والنوع الثاني]: أن يكون مُكتسبًا، إما منْ مقام الإيمان، كحياء العبد منْ مقامه بين يدي الله تعالى يوم القيامة، فيوجب له ذلك الاستعداد للقائه، أو منْ مقام الإحسان، كحياء العبد منْ اطّلاع الله تعالى عليه، وقربه منه، فهذا منْ أعلى خصال الإيمان. وفي حديث مرسل:"استحي منْ الله، كما تستحيي منْ رجلين منْ صالحي عشيرتك، لا يفارقانك"، ورُوي موصولاً
(1)
. وسُئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن كشف العورة خاليًا؟ فَقَالَ: "الله أحقّ أن يُستحيى منه منْ النَّاس"
(2)
. وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه المرفوع: "الاستحياء منْ الله أن تحفظ الرأس، وما وعَى، والبطن، وما حوى، وأن تذكر الموت، والبِلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيى منْ الله حق الحياء". رواه الترمذيّ، وغيره
(3)
. وأخرج البخاريّ فِي "التفسير" عن ابن عباس فِي قوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} الآية [هود: 5] إنها نزلت فِي قوم كانوا يُجامعون نساءهم، ويتخلّون، فيستحيون منْ الله، فنزلت الآية. وكان الصّدّيق رضي الله عنه يقول: استحيوا منْ الله، فإني أذهب إلى الغائط، فأظلّ متقنّعًا بثوبي حياء منْ ربّي عز وجل. وكان موسى عليه السلام إذا اغتسل فِي بيت مظلم لا يُقيم صلبه حياء منْ الله عز وجل. قَالَ بعض السلف: خَفِ الله عَلَى قدر قدرته عليك، واستحي منه عَلَى قدر
(1)
رواه الطبرانيّ فِي "الكبير" 8/ 229 منْ طريق أبي عبد الملك علي بن يزيد الألهانيّ، عن القاسم، عن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعًا، وفيه عليّ بن يزيد ضعيف.
(2)
علقه البخاريّ فِي "كتاب الغسل" 278 وأخرجه أحمد 5/ 4 وأبو داود 4017 والترمذيّ 2794 والحاكم 4/ 179.
(3)
رواه الترمذيّ 2458 وأحمد 1/ 387 منْ طريق الصباح بن محمد، عن مرة الهمدانيّ، عن ابن مسعود رضي الله عنه، والصباح ضعيف، واستنكروا عليه هَذَا الْحَدِيث، وصوّبوا وقفه عَلَى ابن مسعود رضي الله عنه، ولكن الشيخ الألباني رحمه الله تعالى حسّنه، انظر "صحيح الجامع الصغير" 1/ 222 رقم 935.
قُربه منك. وَقَدْ يتولّد الحياء منْ الله منْ مطالعة النعم، فيستحيي العبد منْ الله أن يستعين بنعمته عَلَى معاصيه، فهذا كله منْ أعلى خصال الإيمان. انتهى كلام ابن رَجَب رحمه الله تعالى فِي "شرح البخاريّ" 1/ 102 - 104. وهو بحث نفيس والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
28 - (الدِّينُ يُسْرٌ)
5036 -
(أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ مَعْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا، وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَيَسِّرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ، وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(أبو بكر بن نافع) هو محمد بن أحمد بن نافع العبديّ البصريّ، مشهور بكنيته، صدوقٌ، منْ صغار [10] 27/ 813.
2 -
(عمر بن عليّ) بن عطاء بن مُقَدَّم البصريّ، واسطيّ الأصل، ثقة، وكان يدلّس تدليسًا شديدًا [8] 36/ 3694.
3 -
(معن بن محمد) بن معن بن نَضْلَةَ بن عمرو الغفاريّ، أبو محمد الحجازيّ، مقبول
(1)
[6].
روى عن حنظلة بن علي الأسلميّ، وسعيد المقبريّ. وعنه ابنه محمد، وابن جُريج، وعبد الله بن عبد الله الأشعريّ، وعمر بن عليّ المقدّميّ. ذكره ابن حبّان فِي "الثقات". روى له البخاريّ، والمصنّف، والترمذيّ، وابن ماجه، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.
4 -
(سعيد) بن أبي سعيد كيسان المقبريّ المدنيّ، ثقة تغير قبل موته بأربع سنين [3] 95/ 117.
5 -
(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.
(1)
هكذا قَالَ فِي "التقريب": مقبول، وسيأتي أن الحافظ قَالَ فِي "الفتح": مدني ثقة. فلْيُتَأَمَّل.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه منْ المكثرين السبعة، روى (5374) حديثا. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ) بضم المثنّاة التحتانيّة، وسكون السين المهملة-: ضدّ العسر، أي إن دين الإسلام ذو يسر، أو سُمي الدين يسرا؛ مبالغة بالنسبة إلى الأديان قبله؛ لأن الله تعالى رفع عن هذه الأمة الإصر الذي كَانَ عَلَى منْ قبلهم، ومن أوضح الأمثلة له أن توبتهم كانت بقتل أنفسهم، وتوبة هذه الأمة بالإقلاع، والعزم، والندم. قاله فِي "الفتح" 1/ 130.
(وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ) وفي رواية البخاريّ: "ولن يشاد الدين إلا غلبة"، بحذف الفاعل، قَالَ فِي "الفتح": هكذا فِي روايتنا بإضمار الفاعل، وثبت فِي رواية ابن السكن، وفي بعض الروايات عن الأصيلي بلفظ:"ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه"، وكذا هو فِي طرق هذ! الْحَدِيث عند الإسماعيلي، وأبي نعيم، وابن حبّان، وغيرهم.
و"الدين": منصوب عَلَى المفعولية، وكذا فِي روايتنا أيضًا، وأضمر الفاعل للعلم به، وحَكَى صاحب "المطالع" أن اكثر الروايات برفع "الدين" عَلَى أن "يُشاد" مبني لما لم يسم فاعله، وعارضه النوويّ بأن أكثر الروايات بالنصب، ويجمع بين كلاميهما، بأنه بالنسبة إلى روايات المغاربة والمشارقة، ويؤيد النصب لفظ حديث بُريدة رضي الله عنه عند أحمد:"إنه منْ شاد هَذَا الدين يغلبه"، ذكره فِي حديث آخر، يصلح أن يكون هو سبب حديث الباب، والمُشَادّة بالتشديد: المغالبة، يقال: شادّه يُشادّه مُشادّة: إذا قاواه.
والمعنى لا يتعمق أحد فِي الأعمال الدينية، ويترك الرفق إلا عجز، وانقطع، فيُغلَب.
وَقَالَ الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى: معنى الْحَدِيث النهي عن التشدّد فِي الدين، بأن يحمِل الإنسان نفسه منْ العبادة ما لا يحتمله، إلا بكلفة شديدة، وهذا هو المراد بقوله:"لن يُشادّ الدين أحد إلا غلبه": يعني أن الدين لا يؤخذ بالمغالبة، فمن شادّ الدين غلبه، وقطعه. وفي "مسند الإمام أحمد" عن مِحجن بن الأدرع رضي الله عنه، قَالَ: أقبلت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إذا كنا بباب المسجد إذا رجلٌ يُصلي، قَالَ:"أتقوله صادقًا؟ "، قلت: يا نبيّ الله هَذَا فلان، وهذا منْ أحسن أهل المدينة، أو منْ أكثر أهل المدينة
صلاةً، قَالَ:"لا تُسمعه، فتهلكه -مرّتين، أو ثلاثًا- إنكم أمة أُريد بكم اليسر". وفي رواية له: قَالَ: "إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره ". وفي رواية له أيضاً: قَالَ: "إنكم لن تنالوا هَذَا الأمر بالمغالبة". وأخرجه حميد بن زنجويه، وزاد:"اكلفُوا منْ العمل ما تُطيقون، فإن الله لا يملّ حَتَّى تملّوا، الغُدوةُ، والروحةُ، وشيءٌ منْ الدُّلْجة". وأخرجه ابن مَردويه، وعنده: قَالَ: "إن الله إنما أراد بهذه الأمة اليسر، ولم يرد بها العسر". وفي "المسند" 5/ 350 - 361 أيضًا: عن بُريدة رضي الله عنه قَالَ: خرجت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي، فلحِقته، فإذا نحن بين أيدينا برجل يُصلّي، يُكثر الركوع والسجود، فَقَالَ لي:"أتُراه يُرائي؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قَالَ: فترك يده منْ يدي، ثم جمع بين يديه، فجعل يُصوِّبهما، ويرفعهما، ويقول:"عليكم هدياً قاصداً، عليكم هدياً قاصداً، فإنه منْ يُشادّ هَذَا الدين يغلبه ". وفي "المسند" أيضاً 5/ 69: عن عاصم ابن هلال، عن غاضرة بن عروة الفُقَيميّ، عن أبيه رضي الله عنه، قَالَ: كنّا ننتظر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فخرج، فصلّى، فلَمَّا قضى الصلاة جعل النَّاس يسألونه: علينا حرجٌ فِي كذا؟ فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دين الله فِي يسر"، قالها ثلاثًا. وفي المعنى أحاديث أُخر. انتهى كلام ابن رَجَب فِي "شرح البخاريّ" 1/ 149 - 151.
(فَسَدِّدُوا) أي الزموا السَّدَاد، وهو الصواب، منْ غير إفراط، ولا تفريط، قَالَ أهل اللغة: السَّدَاد -بالفتح-. الصواب منْ القول والفعل، وأما السِّداد -بالكسر- فهو ما تُسدّ به القارورة، ونحوها، ومن سِدَاد الثَّغْر، واختلفوا فِي سِداد منْ عَيشٍ، وسِدَاد منْ عَوَزٍ لما يُرمق به العيش، وتُسدّ به الْخَلَّةُ، فَقَالَ ابن السِّكِّيت، والفارابيّ، وتبعه الجوهريّ بالفتح، والكسر، واقتصر الأكثرون عَلَى الكسر، منهم ابن قُتيبة، وثعلبٌ، والأزهريّ؛ لأنه مستعار منْ سِداد القارورة، فلا يُغيّر، وزاد جماعة، فقالوا: الفتح لحنٌ. وعن النضر بن شُميل: سِدادٌ منْ عَوَز: إذا لم يكن تامًا، ولا يجوز فتحه. ونقل فِي "البارع" عن الأصمعيّ: سِدَادٌ منْ عَوَزٍ بالكسر، ولا يُقال بالفتح، ومعناه: إن أعوز الأمر كلُّهُ ففي هَذَا ما يسُدّ بعض الأمر. أفاده فِي "المصباح".
ولشيخنا عبد الباسط المناسيّ النحويّ اللغويّ رحمه الله تعالى:
إِنَّ السِّدَادَ كَكِتَابٍ بُلْغَةُ
…
وَمَا بِهِ يُسَدُّ شَيْءٌ ثَابِتُ
أَمَّا الَّذِي بِالْفَتْحِ كَالسَّحَابِ
…
فَقَصْدُ دِينٍ وَسَبِيلِ الْبَابِ
واختصرهما فِي بيت، فَقَالَ:
سِدَادُكَ الْمَكسُورُ سِينًا بُلْغَتُكْ
…
وَمَا بِمَعْنَى الْقَصْدِ فِيهَا فَتْحَتُكْ
(وَقَارِبُوا) أي إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل، فاعملوا بما يقرُب منه.
وَقَالَ الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى: قوله: "فسدّدوا، وقاربوا": التسديد: هو إصابة الغرض المقصود، وأصله منْ تسديد السهم: إذا أصاب الغرض الْمَرْميَّ إليه، ولم يُخطئه. والمقاربة: أن يقارب الغرض، وإن لم يُصبه، لكن يكون مجتهداً عَلَى الإصابة، فيُصيب تارةً، ويقارب أُخْرَى، أو تكون المقاربة لمن عجز عن الإصابة، كما قَالَ تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} الآية [التغابن: 16]، وَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم"، متَّفقٌ عليه. وفي "المسند" 4/ 212، و"سنن أبي داود" 1096 عن الحكم بن حَزْن الْكُلَفيّ أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول عَلَى المنبر، يوم الجمعة:"يا أيها النَّاس، إنكم لن تُطيقوا -أو لن تفعلوا- كلّ ما أمرتكم، ولكن سدّدوا، وأبشروا".
وقيل: أراد بالتسديد: العمل بالسداد، وهو القصد، والتوسّط فِي العبادة، فلا يُقصّر فيما أُمر به، ولا يتحمّل منها ما لا يُطيقه. قَالَ النضر بن شُميل: السَّدَاد: القصد فِي الدين والسبيل، وكذلك المقاربة المراد بهما التوسط بين التفريط والإفراط، فهما كلمتان بمعنىً واحدٍ.
وقيل: بل المراد بالتسديد التوسّط فِي الطاعات بالنسبة إلى الواجبات والمندوبات، وبالمقاربة: الاقتصار عَلَى الواجبات. وقيل فيهما غير ذلك. انتهى "شرح البخاريّ" 1/ 151 - 152.
(وَأَبْشِرُوا) بقطع الهمزة، منْ الإبشار، يقال: أبشر: إذا فرِح، ومنه أبشر بخير. قاله فِي "القاموس"، وَقَالَ أيضاً: بشرت به، كعلم، وضرب: سُرِرتُ. انتهى. وفي "المصباح": بَشِر بكذا، مثل فرح يفرَح وزنًا ومعنى، وهو الاستبشار أيضًا، والمصدر البُشُور، ويتعدّى بالحركة، فيقال: بَشَرتَهُ أبشُرُه بشرا، منْ باب قتل فِي لغة تهامة، وما والاها. انتهى.
والمعنى: استبشروا بالثواب عَلَى العمل الدائم، وإن قَلَّ، والمراد تبشير منْ عجز عن العمل بالأكمل، بأن العجز إذا لم يكن منْ صنيعه، لا يستلزم نقص أجره، وأبهم المبشر به؛ تعظيما له، وتفخيمًا (وَيَسِّرُوا) عَلَى أنفسكم، وعلى غيركم فِي أمور الدين (وَاسْتَعِينُوا بِالْغُدْوَةِ) بضم الغين المعجمة، وسكون الدال المهملة، وضبطه الكرماني، والحافظ بالفتح، وتعقّبهما العينيّ، وهو كما قَالَ: وهو سير أول النهار إلى الزوال، وَقَالَ الجوهري: ما بين صلاة الغداة، وطلوع الشمس، (وَالرَّوْحَةِ) -بالفتح: السير بعد الزوال (وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ") -بضم أوله، وفتحه، وإسكان اللام-: سير آخر الليل، وقيل: سير الليل كله، وعَبَّر فيه بـ"منْ" التبعيضية؛ لأن عمل الليل أشق منْ عمل النهار.
والمعنى: استعينوا عَلَى مداومة العبادة، بإيقاعها فِي الأوقات الْمُنَشِّطَة، فإن هذه الأوقات أطيب أوقات المسافر، وكأنه صلى الله عليه وسلم خاطب مسافرا إلى مقصد، فنبهه عَلَى أوقات نشاطه؛ لأن المسافر إذا سافر الليل والنهار جميعا، عجز وانقطع، وإذا تحرى السير فِي هذه الأوقات المنشطه، أمكنته المداومة، منْ غير مشقة. وحَسَّنَ هذه الاستعارة، أن الدنيا فِي الحقيقة، دار نقلة إلى الآخرة، وأن هذه الأوقات بخصوصها أروح ما يكون فيها البدن للعبادة.
وقوله فِي رواية ابن أبي ذئب: "القصدَ القصدَ" -بالنصب فيهما عَلَى الإغراء، والقصد الأخذ بالأمر الأوسط. قاله فِي "الفتح".
وَقَالَ الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى: يعني أن هذه الأوقات الثلاثة أوقات العمل، والسير إلى الله تعالى، وهي أول النهار، وآخره، فالغُدوة أول النهار، والروحة آخره، والدُّلْجة سير آخر الليل. وفي "سنن أبي داود" 2571: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذا سافرتم، فعليكم بالدُّلْجة، فإن الأرض تُطوى بالليل". فسير آخر الليل محمود فِي سير الدنيا بالأبدان، وفي سير القدوب إلى الله بالأعمال. وأخرج البخاريّ هَذَا الْحَدِيث فِي أواخر كتابه، وزاد فيه:"القصدَ القصدَ تبلغوا". يعني أن منْ دام عَلَى سيره إلى الله فِي هذه الأوقات الثلاثة، مع الاقتصاد بلغ، ومن لم يقتصد، بل بالغ، واجتهد، فربّما انقطع فِي الطريق، ولم يبلغ. وَقَدْ جاء منْ رواية عبد الله بن عمرو بن العاص، مرفوعاً:"إن هَذَا الدين متينٌ، فأوغِل فيه برفق، ولا تُبغّض إلى نفسك عبادة الله، فإن الْمُنْبَتَّ لا سفراً قطع، ولا ظهرًا أبقى"
(1)
. والمنبت هو المنقطع فِي سفره قبل وصوله، فلا سفره قطع، ولا ظهره الذي يسير عليه أبقى، حَتَّى يمكنه السير عليه بعد ذلك، بل هو كالمنقطع فِي المفاوز، فهو إلى الهلاك أقرب، ولو أنه رفَق براحلته، واقتصد فِي سيره عليها، لقطعت به سفره، وبلغ إلى المنزل. انتهى "شرح البخاريّ لابن رَجَب" 1/ 152 - 153.
[تنبيه]: أورد البخاريّ هَذَا الْحَدِيث بعد حديث الجهاد، وقيام رمضان، وصومه، فَقَالَ الحافظ رحمه الله تعالى فِي "الفتح": ومناسبة إيراد المصنّف لهذا الْحَدِيث، عقب الأحاديث التي قبله ظاهرة، منْ حيث إنها تضمنت الترغيب فِي القيام، والصيام، والجهاد، فأراد أن يبين أن الأولى للعامل بذلك، أن لا يُجهِد نفسه، بحيث يَعجَز،
(1)
أخرجه ابن المبارك فِي "الزهد" ص 469 والبيهقي 3/ 19. وحسنه الشيخ الألبانيّ بمجموع طرقه، انظر "صحيح الجامع الصغير" 1/ 447 رقم 2246 و"السلسلة الضعيفة" 5/ 501 - 503 رقم 2480.
وينقطع، بل يَعمَل بتلطف، وتدرج؛ ليدوم عمله، ولا ينقطع. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وقريب منه صنيع المصنّف رحمه الله تعالى، أورد هَذَا الباب بعد الأبواب الماضية، منْ قيام رمضان، وليلة القدر، والزكاة، والجهاد، وأداء الخمس، وشهود الجنائز، والحياء، فالمناسبة المذكورة واضحة فيه أيضاً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه البخاريّ.
[تنبيه]: قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: هَذَا الْحَدِيث منْ أفراد البخاريّ عن مسلم
(1)
، وصححه، وإن كَانَ منْ رواية مُدّلس -يعني عمر بن محمد المقدّميّ، فإنه وإن كَانَ ثقة، لكنه مدلّس، شديد التدليس، وصفه بذلك ابن سعد، وغيره- وَقَدْ رواه بالعنعنة؛ لتصريحه فيه بالسماع، منْ طريق أخرى، فقد رواه ابن حبّان فِي "صحيحه" منْ طريق أحمد بن الْمِقْدَام، أحد شيوخ البخاريّ، عن عمر بن عَلَى المذكور، قَالَ: سمعت معن بن محمد، فذكره، وهو منْ أفراد معن بن محمد، وهو مدني ثقة، قليل الْحَدِيث، لكن تابعه عَلَى شقه الثاني ابن أبي ذئب، عن سعيد، أخرجه البخاريّ فِي "كتاب الرقاق" بمعناه، ولفظه:"سَدِّدوا، وقربوا"، وزاد فِي آخره:"والقصدَ القصدَ، تبلغوا"، ولم يذكر شقه الأول، وَقَدْ أشرنا إلى بعض شواهده، ومنها حديث عروة الفُقَيمي بضم الفاء، وفتح القاف- عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"إن دين الله يسر"، ومنها حديث بُرَيدة، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم هديًا قاصدًا، فإنه منْ يُشادَّ هَذَا الدين يغلبه"، رواهما أحمد، وإسناد كل منهما حسن. انتهى "فتح" 1/ 131. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -28/ 5036 - وأخرجه (خ) فِي "الإيمان" 39 و"المرضى" 5673 و"الرقاق" 6463 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 27470 و9521 و9681
(1)
هكذا قَالَ فِي "الفتح": إنه منْ أفراد البخاريّ، وتبعه العينيّ فِي "عمدته"، وفيه نظر، فإنه إن أراد بتمام لفظه، فمسلّم، وإن أراد أصل الْحَدِيث، فقد أخرجه مسلم أيضًا، فِي "صفة القيامة" منْ "صحيحه"، منْ رواية أبي هريرة رضي الله عنه، ونصّه:
2816 -
حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث، عن بكير، عن بسر بن سعيد، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قَالَ:"لن ينجي أحدا منكم عمله"، قَالَ رجل: ولا إياك يا رسول الله؟ قَالَ: "ولا إياي، إلا أن يتغمدني الله منه برحمة، ولكن سددوا". والله تعالى أعلم.
و10556. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان أن الدين يسر. (ومنها): الحضّ عَلَى الرفق فِي العمل، والاقتصاد فيه، وترك حمل النفس عَلَى المشقّة؛ لأن الله تعالى أوجب عليها وظائف منْ الطاعات، فِي وقت دون وقت، تيسرًا منه، ورحمة. (ومنها): التنبيه عَلَى أوقات النشاط؛ لأن الغَدْوة، والروحة، والدلجة أفضل أوقات المسافر؛ لأنها أوقات نشاطه، بل عَلَى الحقيقة الدنيا دار نُقلة، وطريقٌ إلى الآخرة، فنبه صلى الله عليه وسلم أمته أن يغتنموا أوقات فُرَصهم، وفراغهم.
(ومنها): ما قاله ابن الْمُنَيِّر رحمه الله تعالى: فِي هَذَا الْحَدِيث عَلَمٌ منْ أعلام النبوة، فقد رأينا ورَأى الناسُ قبلنا أن كل مُتَنَطِّع فِي الدين ينقطع، وليس المراد منع طلب الأكمل فِي العبادة، فإنه منْ الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال، أو المبالغة فِي التطوع، المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته، كمن بات يصلي الليل كله، ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه، فِي آخر الليل، فنام عن صلاة الصبح فِي الجماعة، أو إلى أن خرج الوقت المختار، أو إلى أن طلعت الشمس، فخرج وقت الفريضة، وفي حديث مِحْجَن بن الأردع رضي الله عنه عند أحمد:"إنكم لن تنالوا هَذَا الأمر بالمبالغة، وخير دينكم اليسرة".
(ومنها): أن فيه الإشارةَ إلى الأخذ بالرخصة الشرعية، فإن الأخذ بالعزيمة فِي موضع الرخصة قد يكون تَنَطُّعاً، كمن يترك التيمم عند العجز عن استعمال الماء، فيفضي به استعماله إلى حصول الضرر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
29 - (أَحَبِّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ عز وجل
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: أي هَذَا باب ذكر الْحَدِيث الدّالّ عَلَى أحب الدين إلى الله تعالى، وهو ما داوم عليه صاحبه. وَقَدْ ترجم الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى
فِي "صحيحه" بقوله: "باب أحبّ الدين إلى الله أدومه"، فَقَالَ فِي "الفتح": مراد المصنّف بهذا الاستدلال عَلَى أن الإيمان يُطلق عَلَى الأعمال؛ لأن المراد بالدين هنا العمل، والدين الحقيقي هو الإسلام، والإسلام الحقيقي، مرادف للإيمان، فيصح بهذا مقصوده.
وَقَدْ علّق البخاريّ رحمه الله تعالى فِي موضع حديث: "أحبّ الدين إلى الله الحنيفيّة السمحة".
فَقَالَ فِي "الفتح": ومعنى أحبّ الدين: أي خصال الدين؛ لأن خصال الدين كلها محبوبة، لكن ما كَانَ منها سمحا: أي سهلا، فهو أحب إلى الله، ويدل عليه ما أخرجه أحمد، بسند صحيح، منْ حديث أعرابي لم يسمه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:"خير دينكم أيسره"، أو الدين جنس: أي أحب الأديان إلى الله الحنيفية، والمراد بالأديان الشرائع الماضية، قبل أن تُبَدَّل، وتنسخ، والحنيفية ملة إبراهيم، والحنيف فِي اللغة: منْ كَانَ عَلَى ملة إبراهيم، وسمي إبراهيم حنيفا؛ لميله عن الباطل إلى الحق؛ لأن أصل الْحَنَف: الميل، والسمحة: السهلة: أي أنها مبنيةُ عَلَى السهولة؛ لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} الآية [الحجّ: 78].
وهذا الْحَدِيث المعلق، لم يسنده البخاريّ فِي "صحيحه"؛ لأنه ليس عَلَى شرطه، نعم وصله فِي "كتاب الأدب المفرد"، وكذا وصله أحمد بن حنبل وغيره، منْ طريق محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، وإسناده حسن، استعمله البخاريّ فِي الترجمة؛ لكونه متقاصرا عن شرطه، وقَوّاه بما دل عَلَى معناه؛ لتناسب السهولة واليسر. انتهى "الفتح" 1/ 130 - 131. والله تعالى أعلم بالصواب.
5037 -
(أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ يَحْيَى -وَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ- عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، دَخَلَ عَلَيْهَا، وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ، فَقَالَ: "مَنْ هَذِهِ؟ " قَالَتْ: فُلَانَةُ، لَا تَنَامُ، تَذْكُرُ مِنْ صَلَاتِهَا، فَقَالَ: "مَهْ عَلَيْكُمْ مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لَا يَمَلُّ اللَّهُ عز وجل، حَتَّى تَمَلُّوا، وَكَانَ أَحَبُّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده، وهو نسائي ثقة. و"يحيى بن سعيد": هو القطّان.
وقوله: "أخبرني أبي" يقدر قبله لفظ: "أنه قَالَ"، كما سبق نظيره غير مرّة.
وقوله: "فلانة" كناية عن كلّ علم مؤنّث، فلا ينصرف، وهذه المرأة هي الْحَوْلاء بنت تُويت بن حبيب بن أسد بن عبد العزّى، منْ رهط خديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهما. وقوله:"لا تنام" وفي رواية "الموطإ": "لا تنام بالليل".
وقوله: "مه": هي كلمة مبنيّة عَلَى السكون، وهي اسم فعل، بمعنى اكفف، وهذا الزجر يحتمل أن يكون لعائشة، زجرًا عن مدح المرأة بما ذَكَرت، ويحتمل أن يكون للمرأة زجرًا عن فعلها هَذَا. أفاده فِي "الفتح".
وَقَالَ الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى: وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "مه" زجرٌ لعائشة عن قولها عن هذه المرأة فِي كثرة صلاتها، وأنها لا تنام الليل، وأمرٌ لها بالكفّ عمّا قالته فِي حقها، فيحتمل أن ذلك كراهية للمدح فِي وجهها، حيث كانت المرأة حاضرةً. ويحتمل -وهو الأظهر، وعليه يدلّ سياق الْحَدِيث- أن النهي إنما هو لمدحها بعمل ليس بممدوح فِي الشرع. وعلى هَذَا فكثيرا ما يُذكر فِي مناقب العبّاد منْ الاجتهاد المخالف للشرع يُنهَى عن ذكره عَلَى جهة التمدّح به، والثناء به عَلَى فاعله، وَقَدْ سبق شرح هَذَا المعنى فِي قوله صلى الله عليه وسلم:"الدين يُسر"، فإن المراد بهذا الْحَدِيث الاقتصاد فِي العمل، والأخذ منه بما يتمكن صاحبه منْ المداومة عليه، وأن أحبّ العمل إلى الله تعالى ما دام صاحبه عليه، وإن قلّ. وَقَدْ رُوي ذلك فِي حديث آخر، وكذلك كَانَ حال النبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ عمله ديمة، وكان إذا عمل عملاً أثبته. وَقَدْ كَانَ ينهى عن قطع العمل وتركه، كما قَالَ لعبد الله بن عمرو:"لا تكن مثل فلان، كَانَ يقوم الليل، فترك قيام الليل". متّفقٌ عليه. انتهى.
وقوله: فوالله لا يملّ الله حَتَّى تملّوا": قَالَ ابن رَجَب رحمه الله تعالى: الملل، والسآمة للعمل يوجب قطعه وتركه، فقطع الله عنه ثواب ذلك العمل، فإن العبد إنما يُجازى بعمله، فمن ترك عمله انقطع عنه ثوابه وأجره، إذا كَانَ قطعه لغير عذر، منْ مرض، أو سفر، أو هَرَم، كما قَالَ الحسن: إن دُور الجنة تبنيها الملائكة بالذكر، فإذا فتر العبد انقطع الملك عن البناء، فتقول له الملائكة: ما شأنك يا فلان؟ فيقول: إن صاحبي فَتَر، قَالَ الحسن: أمدّوهم -رحمكم الله- بالنفقة. وأيضًا فإن دوام العمل، وإيصاله ربّما حصل للعبد به فِي عمده الماضي ما لا يحصل له فيه عند قطعه، فإن الله تعالى يحبّ مواصلة العمل، ومداومته، ويجزي عَلَى دوامه ما لا يجزي عَلَى المنقطع منه. وَقَدْ صحّ هَذَا المعنى فِي الدعاء، وأن العبد يُستجاب له ما لم يعجَل، فيقول: قد دعوت، فلم يُستجب لي، فيدع الدعاءَ، فدلّ هَذَا عَلَى أن العبد إذا أدام الدعاء، وألحّ فيه أجيب، وإن قطعه، واستحسر، مُنع إجابته.
وسُمّي هَذَا المنع منْ الله تعالى مللاً، وسآمةً، مقابلةً للعبد عَلَى ملله، وسآمته، كما قَالَ تعالى:{نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} الآية [التوبة: 67]، فسُمّي إهمالهم، وتركهم نسيانًا، مقابلةً لنسيانهم له. هَذَا أظهر ما قيل فِي هَذَا. ويشهد له أنه قد رُوي منْ حديث عائشة
رضي الله عنها، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:"اكلَفُوا منْ العمل ما تُطيقون، فإن الله لا يملّ منْ الثواب، حَتَّى تملّوا منْ العمل". أخرجه بقيّ بن مَخْلّد، وفي إسناده موسى بن عُبيدة. أي وهو ضعيف
(1)
.
وَقَدْ قيل: إنَّ "حَتَّى" هاهنا بمعنى واو العطف، ولكن لا يصحّ دعوى كون "حَتَّى" عاطفة؛ لأنها إنما تعطف المفردات، لا الجمل، هَذَا هو المعروف عند النحويين، وخالف فيه بعضهم. وقيل: إن "حَتَّى" فيه بمعنى "حين"، وهذا غير معروف. وزعم ابن قُتيبة أن المعنى:"لا يملّ إذا مللتم"، وزعم أن هَذَا الاستعمال معروفٌ فِي كلام العرب. وَقَدْ يقال: إن "حَتَّى" بمعنى لام التعليل، وأن المراد أن الله لا يمل لكي تملوا أنتم منْ العمل. وفيه بُعدٌ أيضًا. ولو كَانَ كذلك لقال: حَتَّى لا تملّوا، ويكون التعليل حينئذ بإعلامهم بأن الله لا يملّ منْ العطاء، فيكون إخبارهم بذلك مقتضيًا لمداومتهم عَلَى العمل، وعدم مللهم، وسآمتهم. وَقَدْ يقال: إنما يدلّ هَذَا الكلام عَلَى نسبة الملل، والسآمة إلى الله بطريق مفهوم الغاية، ومن يقول: إنه لا مفهوم لها، فإنه يمنع منْ دلالة الكلام عَلَى ذلك بالكلّيّة. ومن يقول بالمفهوم، فإنه يقول: متى دلّ الدليل عَلَى انتفائه لم يكن مراداً منْ الكلام، وَقَدْ دلت الأدلّة عَلَى انتفاء النقائص والعيوب عن الله تعالى، ومن جملة ذلك لحوق السآمة والملل له. ولكن بعض أصحابنا ذكر أن دلالة مفهوم الغاية كالمنطوق، بمعنى أنه لا يجوز أن يكون ما بعد الغاية موافقًا لما قبلها بمفهوم الموافقة، أو غيره. فعلى قوله يتعيّن فِي هَذَا الْحَدِيث أحد الأجوبة المتقدّمة. والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى كلام ابن رَجَب رحمه الله تعالى فِي "شرح البخاريّ" 1/ 165 - 167.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدّم هَذَا البحث فِي 9/ 484 - 487 فِي "كتاب الصلاة" -31/ 762 - باب "المصلّي يكون بينه وبين الإمام سترة"، وذكرت هناك ما قاله العلماء منْ التأويلات لهذا الْحَدِيث، وقلت: إنه ليس فى هَذَا الْحَدِيث إثبات الملل لله عز وجل صريحًا، بل هو منْ باب مفهوم المخالفة، وأما صريحه، فنفي الملل عنه، فلا ينبغي أن نثبت به صفة الملل، فالأولى عندي قول بعضهم: إن "حَتَّى" بمعنى الواو، وليست للغاية، وهو قول ابن السيد، قاله فِي قول امرىء القيس [منْ الطويل]:
سَرَيتُ بِهمْ حَتَّى تَكِلُّ مَطِيُّهُمْ
…
وَحَتَّى الْجِيَادُ مَا يُقَدْنَ بِأَرْسَانِ
فيمن رفع "تكلّ"، قَالَ: جملة "تكلّ مطيُّهم" معطوفةٌ عَلَى "سريت بهم". ذكره ابن
(1)
هَذَا يدلّ عَلَى أنه لا ينفع فِي تقوية الاحتمال المذكور؛ لكونه ضعيفًا، فليتنبّه.
هشام الأنصاريّ فِي "مغني اللبيب" 1/ 127 - وصحح خلافه.
فيكون المعنى: إن الله تعالى لا يملّ، وأنتم تملون، وأولى منه تأويل ابن قتيبة الماضي قريبًا: أي لا يمل الله تعالى إذا ملِلتم، فيكون منْ باب المقابلة، وهذا المعنى هو الذي استظهره ابن رَجَب فِي أول كلامه. والله تعالى أعلم.
وقوله: "وكان أحب الدين إليه الخ" أي إلى الله تعالى، كما صرح به فِي رواية عند الشيخين، أو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما صرح به عند البخاريّ فِي "الرقاق"، ولا تخالف بين الروايتين؛ لأن ما كَانَ أحبّ إلى الله تعالى، كَانَ أحبّ إلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي "كتاب قيام الليل" 17/ 1642 وَقَدْ استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
30 - (الْفِرَارِ بِالدِّينِ مِنَ الْفِتَنِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: غرض المصنّف رحمه الله تعالى بهذه الترجمة كون الفرار بالدين منْ الفتن منْ الإيمان، لكن الاستدلال بحديث الباب عَلَى هَذَا محل نظر، وَقَدْ سبقه الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى إلى ذلك فِي "صحيحه" فَقَالَ:"باب منْ الدين الفرار منْ الفتن"، وسيأتي ما ذكره الشراح عَلَى كلامه هَذَا فِي المسألة الثالثة، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب.
5038 -
(أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْنٌ ح وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَا: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ مُسْلِمٍ، غَنَمٌ يَتَّبِعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ، وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ").
رجال هَذَا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة) الأنصاريّ المازنيّ، ثقة [6] 14/ 1724.
2 -
(أبوه) عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصاريّ المدنيّ، ثقة [3]
14/ 644.
3 -
(أبو سعيد الخدريّ) سعد بن مالك بن سنان رضي الله تعالى عنهما 169/ 262. والباقون ترجموا قبل باب. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه الحارث، فقد تفرّد به هو وأبو داود (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير هارون، فبغداديّ، والحارث، فمصريّ. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه. (ومنها): أن فيه أبا سعيد رضي الله عنه منْ المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ) هو عبد الله ابن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي صعصعة، فسقط "الحارث" منْ الرواية، واسم أبي صعصعة عمرو بن زيد بن عوف الأنصاريّ، ثم المازنيّ، هلك فِي الجاهليّة، وشهد ابنه الحارث أُحُداً، واستُشهد باليمامة. قاله فِي "الفتح" 1/ 98 (عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) اسمه سعد عَلَى الصحيح، وقيل: سنان بن مالك بن سنان سعد، استُشهد أبوه بأحد، وكان منْ المكثرين. قاله فِي "الفتح" 1/ 98 أنه (قَالَ: قَالَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُوشِكُ) بكسر الشين المعجمة: أي يقرب، ويقال فِي ماضيه: أوشك، ومن أنكر استعماله ماضيًا، فقد غلِط، فقد كثُر استعماله. قَالَ الجوهريّ: أوشك فلان يوشك إيشاكًا: أي أسرع. قَالَ جرير [منْ الوافر]:
إِذَا جَهِلَ اللَّئِيمُ وَلَمْ يُقَدِّرْ
…
لِبَعْضِ الأَمْرِ أَوْشَكَ أن يُصَابَا
قَالَ: والعامّة تقول يُوشك بفتح الشين، وهي لغة رديئة. انتهى.
(أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ مُسْلِمٍ) بالنصب عَلَى أنه خبر "يكون"، واسمها قوله:(غَنَمٌ) ووقع عند البخاريّ فِي رواية الأصيليّ برفع "خير"، ونصب، "غنمًا" عَلَى الخبريّة، ويجوز رفعهما عَلَى الابتداء والخبر، ويقدّر فِي "يكون" ضمير الشأن. قاله ابن مالك، لكن لم تجيء به الرواية. قاله فِي "الفتح" 1/ 99.
[فإن قيل]: لماذا قيّد المال بالغنم؟. [أجيب]: بأن هَذَا النوع منْ المال نموّه وزيادته أبعد منْ الشوائب المحرمة، كالربا والشبهات المكروهة، وخصّت الغنم بذلك لما فيها منْ السكينة، والبركة، وَقَدْ رعاها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، مع أنها سهلة
الانقياد، خفيفة المؤنة، كثيرة النفع.
(يَتَّبعُ بِهَا) بتشديد التاء، ويجوز إسكانها (شَعَفَ الْجِبَالِ) بفتح المعجمة، والعين المهملة: جمع شَعَفَة، كأَكَمٍ وأَكَمَةٍ: وهي رءوس الجبال، والمرعى فيها والماء، ولاسيما فِي بلاد الحجاز أيسر منْ غيرها. ووقع عند بعض رواة "الموطإ" -بضم أوله، وفتح ثانيه، وبالموحدة بدل الفاء، جمع شعبة-: وهي ما انفرج بين جبلين، ولم يختلفوا فِي أن الشين معجمة، ووقع لغير مالك كالأول، لكن السين مهملة. وَقَدْ وقع فِي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم نحو هَذَا الْحَدِيث، ولفظه:"ورجل فِي رأس شعبة منْ هذه الشعاب". قاله فِي "الفتح" 14/ 541 "كتاب الفتن".
(وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ) بالنصب عطفًا عَلَى "شَعَف": أي بطون الأودية، وخصّهما بالذكر؛ لأنهما مظانّ المرعى.
[فإن قيل]: لم قيّد الاتباع بشعف الجبال، ومواقع القطر؟. [أجيب]: بأنها أسلم غالبًا منْ المعادات المؤدّية إلى الكدورات.
(يَفِرُّ بِدِينِهِ) أي بسبب دينه، أو للمصاحبة، كما قوله تعالى:{اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا} [هود: 48]: أي يفرّ مصحبا دينه (مِنَ الْفِتَنِ)"منْ" ابتدائيّة.
والجملة الفعليّة فِي محلّ نصب عَلَى الحال، منْ الضمير المستتر فِي "يتبع"، أو منْ "مسلم"، ووقوع الحال منْ المضاف إليه جائز، إذا كَانَ المضاف يصحّ عمله فِي الحال، كالمصدر، واسم الفاعل، ونحوهما، نحو قوله تعالى:{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} [يونس: 4]، أو كَانَ المضاف جزءًا منْ المضاف إليه، نحو قوله تعالى:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} [الحجر: 47]، ورأيت وجه هند قائمة، أو مثل جزء المضاف إليه فِي صحة الاستغناء بالمضاف إليه عنه، نحو قوله تعالى:{اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123]، إذ الملة كجزء منْ المضاف إليه، إذ يصحّ أن يقال فِي غير القرآن: اتبع إبراهيم حنيفًا، قَالَ فِي "الخلاصة":
وَلَا تُجِزْ حَالاً مِنَ الْمُضَافِ لَه
…
إِلَّا إِذَا اقْتَضَى المُضَافُ عَمَلَه
أَوْ كَانَ جُزْءَ مَا لَهُ أُضِيفَا
…
أَوْ مِثْلَ جُزْئِهِ فَلَا تَحِيفَا
وهنا المال لشدّة ملابسته لصاحبه كأنه جزء منه، فصح مجيء الحال منه. ويجوز أن تكون مستأنفة، استئنافا بيانيا، وهو ما وقع جوابا لسؤال مقدّر، تقديره هنا: لماذا يتبع شعف الجبال، ومواقع القطر، فَقَالَ: يفر بدينه منْ الفتن.
[فإن قيل]: لم قيّد الاتباع المذكور بالفرار بالدين؟. [أجيب]: بأنه للإشعار بأن هَذَا الاتباع ينبغي أن يكون استعصامًا للدين، لا للأمر الدنيويّ، كطلب كثرة العلف، وقلّة
أطماع النَّاس فيه.
[فإن قيل]: كيف يُجمع بين هَذَا الْحَدِيث الدالّ عَلَى اختيار العزلة، وبين ما ندب إليه الشارع منْ الاختلاط بالناس لإقامة الجماعة، والجمعة، والعيد، ونحو ذلك؟. [أجيب]: بأن ما ندب إليه الشارع عند أمن الفتنة، وعدم الوقوع فِي المعاصي، وأما اتباع الشعف، ومواضع القطر يكون فِي أيام الفتن. أفاده العينيّ فِي "عمدته" 1/ 186.
وَقَالَ الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى: فقوله صلى الله عليه وسلم: "يوشك" تقريب للفتنة، وَقَدْ وقع ذلك فِي زمن عثمان رضي الله عنه كما أخبر به صلى الله عليه وسلم، وهذا منْ جملة أعلام نبوّته صلى الله عليه وسلم. وإنما كانت الغنم خير مال المسلم حيئذ؛ لأن المعتزل عن النَّاس بالغنم، يأكل منْ لحومها، ونتاجها، ويشرب منْ ألبانها، ويستمتع بأصوافها باللبس وغيره، وهي ترعى الكلأ فِي الجبال، وترد المياه، وهذه المنافع، والمرافق لا توجد فِي غير الغنم، ولهذا قَالَ:"يتبع بها شَعَف الجبال"، وهي رءوسها، وأعاليها، فإنها تعصم منْ لجأ إليها منْ عدوّ. و"مواقع القطر" لأنه يجد فيها الكلأ، فيشرب منها، ويسقي غنمه، وترعى غنمه منْ الكلإ. قَالَ: وفي هَذَا دلالةٌ عَلَى أن منْ خرج منْ الأمصار، فإنه يخرج معه بزاد، وما يُقتات منه.
وقوله: "يفرّ بدينه منْ الفتن": يعني يهرب خشية عَلَى دينه منْ الوقوع فِي الفتن، فإن منْ خالط الفتن، وأهل القتال عَلَى الملك، لم يسلم دينه منْ الإثم، إما بقتل معصوم، أو أخذ مال معصوم، أو المساعدة عَلَى ذلك بقول، ونحوه، وكذلك لو غلب عَلَى النَّاس منْ يدعوهم إلى الدخول فِي كفر، أو معصية حسُن الفرار منه.
وَقَدْ مدح الله تعالى منْ فرّ بدينه؛ خشية الفتنة عليه، فَقَالَ -حكاية عن أصحاب الكهف:{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} الآية [الكهف: 16].
ورَوَى عروة، عن كرز الخزاعيّ رضي الله عنه قَالَ: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابيّ: هل لهذا الإسلام منْ منتهى؟ قَالَ: "منْ يُرد الله به خيرًا منْ عرب، أو عجم أدخله عليه"، قَالَ: ثم ماذا؟ قَالَ: "تقع فِتَنٌ كالظُّلَل"، قَالَ: كلّا يا نبيّ الله، قَالَ:"بلى" والذي نفسي بيده، لتعودنّ فيها أَسَاوِدَ صُبّا، يضرب بعضكم رقاب بعض، وخير النَّاس يومئذ رجلٌ يتّقي ربّه، ويَدَعُ النَّاس منْ شرّه". رواه أحمد فِي "مسنده" 3/ 477 وابن حبّان فِي "صحيحه" 13/ 287.
الأساود جمع أسود، وهو أخبث الحيّان، وأعظمها. والصُّبّ جمع صَبُوب عَلَى أن أصله صُبُبٌ كرسول ورُسُل، ثم خفّف كرُسْل، وذلك أن الأسود إذا أراد أن ينهش ارتفع، ثم انصبّ عَلَى الملدوغ، ويُروى "صُبّى" عَلَى وزن "حُبْلى".
وفي "الصحيحين" منْ طريق بسر بن عبيد الله الحضرميّ، أنه سمع أبا إدريس
الخولاني، أنه سمع حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما، يقول: كَانَ النَّاس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا فِي جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هَذَا الخير منْ شر؟ قَالَ:"نعم"، قلت: وهل بعد ذلك الشر منْ خير؟ قَالَ: "نعم، وفيه دَخَنٌ"، قلت: وما دخنه؟ قَالَ: "قوم يهدون بغير هديي، تَعْرِف منهم وتنكر"، قلت: فهل بعد ذلك الخير منْ شر؟ قَالَ: "نعم، دُعاة عَلَى أبواب جهنم، منْ أجابهم إليها قذفوه فيها" قلت: يا رسول الله صفهم لنا؟، قَالَ:"هم منْ جِلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا"، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قَالَ: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم"، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة، ولا إمام؟ قَالَ:"فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تَعَضَّ بأصل شجرة، حَتَّى يُدركك الموت، وأنت عَلَى ذلك". انتهى "شرح البخاريّ لابن رَجَب" 1/ 107 - 109. بزيادة يسيرة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه البخاريّ.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -30/ 5038 - وأخرجه (خ) فِي "الإيمان" 19 و"بدء الخلق" 3300 و"المناقب" 3600 و"الرقاق" 6495 و"الفتن" 7088 و (د) فِي "الفتن والملاحم" 4267 (ق) فِي "الفتن" 3980 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 10649 و10861. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان أن الفرار منْ الفتن شعبة منْ شعب الإيمان، وَقَدْ تقدّم أن الإيمان والدين شيء واحد. وَقَدْ اعترض النوويّ رحمه الله تعالى فِي استدلال البخاريّ بهذا الْحَدِيث للترجمة؛ لأنه لا يلزم منْ لفظ الْحَدِيث عدّ الفرار دينًا، وإنما هو صيانة للدين. قَالَ: فلعلّه لما رآه صيانة للدين أطلق عليه اسم الدين. وَقَالَ غيره: إن أريد بـ"منْ" كونها جنسية، أو تبعيضيّة، فالنظر متّجه، وإن أُريد كونها ابتدائيّة: أي الفرار منْ الفتنة منشؤه الدين، فلا يتّجه النظر. أفاده فِي "الفتح" 1/ 99.
وَقَالَ الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى: بوّب البخاريّ رحمه الله تعالى عَلَى أن الفرار منْ الفتن منْ الدين، وليس فِي الْحَدِيث إلا الأشعار بفضل منْ يفرّ بدينه منْ
الفتن، لكن لما جعل الغنم خير مال المسلم فِي هذه الحال، دلّ عَلَى أن هَذَا الفعل منْ خصال الإسلام، والإسلام هو الدين. وأصرح منْ دلالة هَذَا الْحَدِيث الذي خرّجه هنا الْحَدِيث الذي خرّجه فِي أول "الجهاد" منْ رواية الزهريّ، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد رضي الله عنه، قَالَ: قيل: يا رسول الله، أي النَّاس أفضل؟ فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مؤمنٌ يُجاهد فِي سبيل الله بنفسه وماله"، قالوا: ثمّ منْ؟ قَالَ: "مؤمن فِي شِعب منْ الشعاب، يتقي الله، ويدَعُ النَّاس منْ شره"، وليس فِي هَذَا الْحَدِيث ذكر الفتن. وأخرجه أبو داود، وعنده: سُئل النبيّ صلى الله عليه وسلم: أيّ المؤمنين أكمل إيمانًا؟
…
فذكره. وهذا فيه دلالة عَلَى أن الاعتزال عن الشرّ منْ الإيمان. وفي "المسند" 6/ 419، و"جامع الترمذيّ":
2177 -
واللفظ لأحمد، عن طاوس، عن أم مالك البهزيّة، قالت: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير النَّاس فِي الفتنة رجلٌ معتزلٌ فِي ماله، يعبد ربّه، ويؤدّي حقّه، ورجلٌ آخذ بعِنان فرسه فِي سبيل الله". ورُوي عن طاوس، عن ابن عبّاس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. أخرجه الحاكم 4/ 446. وروي عن طاوس مرسلاً. وأخرج الحاكم أيضًا 2/ 93 منْ حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"أظلّتكم فتنٌ كقطع الليل المظلم، أنجى النَّاس منها: صاحب شاهقة يأكل منْ رِسْل غنمها، ورجل منْ وراء الدروب، آخذ بعنان فرسه، يأكل منْ فيْىءِ سيفه". وَقَدْ وقفه بعضهم.
فهذه الروايات المقيّدة بالفتن تقضي عَلَى الروايات المطلقة. انتهى كلام ابن رَجَب فِي "شرح البخاريّ" 1/ 105 - 107.
(ومنها): الاحتراز عن الفتن، وَقَدْ خرج جماعة منْ السلف رضي الله عنهم عن أوطانهم، وتفرّقوا فِي البلدان خوفا منْ الفتنة، وَقَدْ خرج سلمة بن الأكوع رضي الله عنه إلى الربذة فِي فتنة عثمان رضي الله عنه.
(ومنها): أن هَذَا الخبر دالّ عَلَى فضيلة العزلة لمن خاف عَلَى دينه، وَقَدْ اختُلف فيه، وسيأتي بيان ذلك فِي المسألة التالية، إن شاء الله تعالى. (ومنها): أنه يدلّ عَلَى فضيلة الغنم، واقتنائها. (ومنها): أن فيه علماً منْ أعلام النبوّة، حيث أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بما يقع فِي آخر الزمان منْ الفتن، فوقع كما أخبر به. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قد كتب الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى فِي "شرحه للبخاريّ" بحثا نفسيا يتعلّق فِي العزلة، أحببت إيراده هنا لنفاسته، قَالَ رحمه الله تعالى:
وَقَدْ اعتزل جماعة منْ الصحابة رضي الله عنهم فِي الفتن فِي البوادي. وَقَالَ الإمام أحمد: إذا كانت الفتنة، فلا بأس أن يعتزل الرجل حيث شاء، فأما إذا لم يكن فتنة، فالأمصار
خير. فأما سُكنى البوادي عَلَى وجه العبادة، وطلب السياحة، والعزلة، فمنهيّ عنه، كما فِي الترمذيّ -165، والحاكم 2/ 68 عن أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: مرّ رجل منْ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشِعْب فيه عُيينةٌ، منْ ماء عذبةٍ، فأعجبته لطيبها، فَقَالَ: لو اعتزلت النَّاس، فأقمت فِي هَذَا الشعب، ولن أفعل حَتَّى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"لا تفعل، فإن مقام أحدكم فِي سبيل الله، أفضل منْ صلاته فِي بيته سبعين عاما، ألا تحبون أن يغفر الله لكم، ويدخلكم الجنة، اغزو فِي سبيل الله، منْ قاتل فِي سبيل الله فُوَاق ناقة، وجبت له الجنة". قَالَ أبو عيسى: هَذَا حديث حسن.
وأخرج الإمام أحمد 5/ 266 نحوه منْ حديث أبي أمامة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفيه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لم أُبعث باليهوديّة، ولا بالنصرانيّة، ولكنّي بُعثت بالحنيفيّة السمحة .... "وذكر باقيه بمعناه. وأخرج أبو داود 2486 - منْ حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن رجلاً قَالَ: يا رسول الله، ايذن لي بالسياحة، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن سياحة أمتي الجهاد فِي سبيل الله". وفي "المسند" 3/ 82 عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "عليك بالجهاد، فإنه رهبانية الإسلام". وفي مراسيل طاوس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لا رهبانية فِي الإسلام، ولا سياحة". وفي المعنى مراسيل أُخر متعدّدة.
قَالَ الإمام أحمد: ليست السياحة منْ الإسلام فِي شيء، ولا منْ فعل النبيّين، ولا الصالحين. والسياحة عَلَى هَذَا الوجه قد فعلها طوائف ممن يُنسب إلى عبادة، واجتهاد بغير علم، ومنهم منْ رجع لَمّا عرف ذلك. وَقَدْ كَانَ فِي زمن ابن مسعود رضي الله عنه جماعة منْ المتعبّدين خرجوا إلى ظاهر الكوفة، وبنوا مسجدًا يتعبّدون فيه، منهم عمرو بن عُتبة، ومُفضّل العجليّ، فخرج إليهم ابن مسعود رضي الله عنه، وردّهم إلى الكوفة، وهدم مسجدهم، وَقَالَ: إما أن تكونوا أهدى منْ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أو تكونوا متسمكين بذَنَب الضلالة. وإسناده صحيح عن الشعبيّ أنه حكى ذلك. وَقَدْ رأى عبد الله بن غالب الحدانيّ رجلاً فِي فلاة، يأتيه رزقه، لا يدري منْ أين يأتيه، فَقَالَ له: إن هذه الأمة لم تؤمر بهذا، إنما أمرت بالجمعة، والجماعة، وعيادة المرضى، وتشييع الجنائز، فقبل منه، وانتقل منْ ساعته إلى قرية فيها هَذَا كلّه. أخرج حكايته ابن أبي الدنيا. ورُوي نحو هذه الحكاية أيضًا عن أبي غالب، صاحب أبي أمامة الباهليّ رضي الله عنه. أخرجها حُميد بن زنجويه.
وكذلك سُكنى البوادي لتنمية المواشي، والأموال -كما جرى لثعلبة فِي ماله- فمذموم أيضًا. وفي "سنن ابن ماجه" 1127 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا: "ألا هل عسى أحدكم أن يتخذ الصَّبَّةَ منْ الغنم، عَلَى رأس ميل، أو ميلين، فيتعذّر عليه الكلأ،
فيرتفع، ثم تجيء الجمعة، فلا يشهدها، وتجيء الجمعة، فلا يشهدها، وتجيء الجمعة، فلا يشهدها، حَتَّى يُطبع عَلَى قلبه" وفي سنده معديّ بن سليمان، وهو ضعيف. وأخرجه الخلال منْ حديث جابر رضي الله عنه بمعناه أيضاً. وأخرج حُميد بن زنجويه منْ رواية ابن لَهيعة، ثنا عمر مولى غُفرة، أنه سمع ثعلبة بن أبي مالك الأنصاريّ، يقول: قَالَ حارثة ابن النعمان رضي الله عنه: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرج الرجل فِي حاشية القرية، فِي غُنيمة يشهد الصلوات، ويؤوب إلى أهله، حَتَّى إذا أُكل ما حوله، وتعذّرت عليه الأرض، قَالَ: لو ارتفعت إلى ردعة هي أعفى كلأً منْ هذه، فيرتفع حَتَّى لا يشهدُ منْ الصلوات إلا الجمعة، حَتَّى إذا أُكل ما حوله، وتعذّرت عليه الأرض، قَالَ: لو ارتفعت إلى رَدعة هي أعفى كلأً منْ هذه، فيرتفع، حَتَّى لا يشهدُ جمعةً، ولا يدري متى الجمعة، حَتَّى يطبع الله عَلَى قلبه". وأخرجه أحمد 5/ 433 - 434 - بمعناه
(1)
.
وفي "سنن أبي داود"، وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"منْ سكن البادية جفا"
(2)
.
وَقَالَ ابن مسعود رضي الله عنه فِي الذي يعود أعرابيًّا بعد هجرته: إنه ملعون عَلَى لسان محمد صلى الله عليه وسلم. وفي "الصحيحين" أن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قَالَ: أذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي البدو. وفي رواية للبخاريّ: أن سلمة رضي الله عنه لَمّا قُتل عثمان رضي الله عنه خرج إلى الربذة، فلم يزل بها حَتَّى قبل أن يموت بليال، نزل المدينة. وفي "المسند" أن سلمة رضي الله عنه قدم المدينة، فقيل له: ارتددت عن هجرتك يا سلمة؟ فَقَالَ: معاذ الله، إني فِي إذن منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ابدوا يا أسلم، فتنسّموا الرياح، واسكنوا الشعاب"، فقالوا: يا رسول الله، إنا نخاف أن يضرّنا ذلك فِي هجرتنا، قَالَ:"أنتم مهاجرون حيثما كنتم". وفي الطبرانيّ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قيل
(1)
أخرجه أحمد بإسناد حسن، ليس فيه ابن لهيعة، ونصّه:
23166 -
حدثنا أبو سعيد، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال، قَالَ: سمعت عمر مولى غفرة، يحدث عن ثعلبة بن أبي مالك، عن حارثة بن النعمان، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يتخذ أحدكم السائمة، فيشهد الصلاة فِي جماعة، فتتعذر عليه سائمته، فيقول: لو طلبت لسائمتي مكانا، هو أكلأ منْ هَذَا، فيتحول، ولا يشهد إلا الجمعة، فتتعذر عليه سائمته، فيقول: لو طلبت لسائمتي مكانا، هو أكلأ منْ هَذَا، فيتحول فلا يشهد الجمعة، ولا الجماعة، فيطبع عَلَى قلبه". وأبو سعيد اسمه عبد الرحمن بن عبد الله بن عُبيد مولى بني هاشم وثقه أحمد، وغيره.
(2)
حديث صحيح، أخرجه أحمد منْ حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ولفظه:"منْ سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتَتَن". انظر "صحيح الجامع" للشيخ الألباني رحمه الله تعالى 2/ 1079 رقم 6296.
له: يا أبا عبد الرحمن قد أعشبت القفار، فلو ابتعت أعنُزًا، فتنزّهت تصحّ، فَقَالَ: لم يؤذن لأحد منا فِي البداءة، غير أسلم". وأسلم هي قبيلة سلمة بن الأكوع.
وَقَدْ ترخّص كثير منْ الصحابة منْ المهاجرين، وغيرهم فِي سُكنى البادية، كسعد بن أبي وقّاص، وسعيد بن زيد، فإنهما لزما منزلهما بالعقيق، فلم يكونا يأتيان المدينة فِي جمعة، ولا فِي غيرها، حَتَّى لحقا بالله عز وجل. أخرجه ابن أبي الدنيا فِي "كتاب العزلة". وكان أبو هريرة رضي الله عنه ينزل بالشجرة، وهي ذو الحليفة. وفي "صحيح البخاريّ" عن عطاء، قَالَ: ذهبت مع عُبيد بن عُمير إلى عائشة، وهي مجاورة بثَبِير، فقالت لنا: انقطعت الهجرة منذ فتح الله عَلَى نبيّه صلى الله عليه وسلم مكة. وفي رواية له: قَالَ: فسألناها عن الهجرة، فقالت: لا هجرة اليوم، كَانَ المؤمنون يفرّ أحدهم بدينه إلى الله، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ مخافة أن يُفتن عديه، فأما اليوم، فقد أظهر الله الإسلام، والمؤمن يعبد ربه حيث شاء، ولكن جهاد ونية، وهذا يشعر بأنها إنما كانت تبدو؛ لاعتقادها انقطاع الهجرة بالفتح. وكان أنس بن مالك رضي الله عنه يسكن البصرة بالزاوية، خارج البصرة، وكان ربّما شهد الجمعة، وربّما لم يشهدها.
وَقَدْ نصّ أحمد عَلَى كراهة المقام بقرية لا يُقام فيها الجمعة، وإن أُقيمت فيها الجماعة. وَقَدْ يُحمل ذلك عَلَى منْ كَانَ بمصر جامع يُجمّع فيه، ثم تركه، وأقام بمكان، لا جمعة فيه. وفي كلامه إيماء إليه أيضاً. وَقَدْ يُحمل كلامه عَلَى كراهة التنزيه، دون التحريم.
فأما المقام بقرية لا جمعة فيها، ولا جماعة، فمكروه. وَقَدْ قَالَ أبو الدرداء لمعدان بن طلحة: أين تنزل؟ فَقَالَ: بقرية دون حمص، فَقَالَ له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ما منْ ثلاثة فِي قرية، ولا بدو، لا يؤذّن، ولا يقام فيهم الصلاة، إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة، فإن الذئب يأكل القاصية". أخرجه النسائيّ -847 - ، وغيره. وأخرجه أحمد 5/ 196 و6/ 446 وأبو داود 547 مختصراً. وفي رواية لأحمد:"فعليك بالمدائن ويحك يا معدان".
وفي "المسند" أيضًا 5/ 232 - 233 عن معاذ رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إن الشيطان ذئب الإنسان، كذئب الغنم، يأخذ الشاة القاصية والناحية، فإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة، والعامة، والمساجد".
فنُهي عن سُكنى الشِّعاب، وهي البوادي، وأمر بسكنى الأماكن التي فيها عامة النَّاس، ومساجدهم، وجماعتهم. وَقَدْ رُوي عن قتادة أنه فسّر الشعاب فِي هَذَا الْحَدِيث بشعاب الأهواء المضلّة المخالفة لطريق الهدي المستقيم. أخرجه أبو موسى المدينيّ
عنه بإسناده. وفي هَذَا بعدٌ، وإنما فُسِّر بهذا المعنى قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"منْ فارق الجماعة قَيدَ شبر، فقد خلع رِبقةَ الإسلام منْ عنقه". رواه أبو داود 4758. فإن الأوزاعيّ فسّره بالبدعة، يخرُج إليها الرجل منْ الجماعة. فأما الخروج إلى البادية أحيانًا للتنزّه، ونحوه فِي أوقات الربيع، وما أشبهه، فقد ورد فيه رُخصة، ففي "سنن أبي داود" عن المقدام بن شُريح، عن أبيه، أنه سأل عائشة، هل كَانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم يبدو؟ فقالت: نعم إلى هذه التلاع، ولقد بدا مرّة، فأُتي بناقة مُجرّسة، فَقَالَ:"اركبيها يا عائشة، وارفُقي، فإن الرفق ما كَانَ فِي شيء إلا زانه، ولا نُزع منه إلا شانه". وأخرج مسلم آخر الْحَدِيث، دون أوله.
وورد النهي عنه، ففي "المسند" عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"هلاك أمتي فِي اللبن"، قيل: يا رسول الله ما اللبن؟ قَالَ: "تُحبّون اللبن، وتَدَعون الجماعات، والْجُمَع، وتَبْدُون". وفي إسناده ابن لَهيعة. وإن صحّ، فيُحمل عَلَى إطالة المقام بالبادية مدّة أيام كثرة اللبن كلّها، وهي مدّة طويلة، يدَعُون فيها الجُمَع، والجماعات. وعن أبي عبد الله الْجَدَليّ، قَالَ: فضل أهل الأمصار عَلَى أهل القرى، كفضل الرجال عَلَى النِّساء، وفضل أهل القرى عَلَى أهل الْكُفُور
(1)
، كفضل الأحياء عَلَى الأموات، وسُكّان الكُفُور كسُكّان القبور، وإن اللبن، والْعُشب ليأكلان إيمان العبد كما تأكل النار الحطب. أخرجه حُميد بن زنجويه، وروى بإسناده عن مكحول معنى أوله.
ونصّ أحمد فِي رواية مهنّا عَلَى كراهة الخروج إلى البادية لشرب اللبن، ونحوه، تنزّهًا لما به منْ ترك الجماعة، إلا أن يخرج لعلة، يعني أنه إذا خرج تداويًا لعلة به جاز، كما أذن النبيّ صلى الله عليه وسلم للعرنيين لَمّا اجتووا المدينة أن يخرجوا إلى البادية؛ ليشربوا منْ ألبان الإبل، وأبوالها.
قَالَ ابو بكر الأثرم: النهي عن التبدّي محمول عَلَى سكنى البادية، والإقامة بها، فأما التبدّي ساعة، أو يومًا، ونحوه فجائز. انتهى.
وَقَدْ كَانَ السلف كثيرٌ منهم يخرج إلى البادية أيام الثمار، واللبن. قَالَ الْجُريريّ: كَانَ النَّاس يبدون هاهنا فِي الثمار، ثمار البصرة، وذكر منهم عبد الله بن شَقيق، وغيره. وكان علقمة يتبدّى إلى ظهر النجف.
وَقَالَ النخعيّ: كانت البداوة إلى أرض السواد أحبّ إليهم منْ البداوة إلى أرض
(1)
جمع كفر، كفلس وفُلُوس، هو ما بعد منْ الأرض عن النَّاس، ولا يمرّ به أحد.
البادية. يعني أن الخروج إلى القرى أهون منْ الخروج إلى البوادي. وكان بعضهم يمتنع منْ ذلك لشهود الجماعة. فروى أبو نُعيم بإسناده، عن أبى حرملة، قَالَ: اشتكى سعيد ابن المسيّب عينه، فقيل له: يا أبا محمد لو خرجت إلى العقيق، فنظرت إلى الخضرة، ووجدت ريح البرّيّة، لنفع ذلك بصرك، فَقَالَ سعيد: وكيف أصنع بشهود العشاء والعتمة؟.
وما ذكره الأثرم منْ التفريق بين قصر المدّة وطولها حسنٌ، لكنه حدّ القليل باليوم، ونحوه، وفيه نظر.
وفي "مراسيل أبي داود" منْ رواية معمر، عن موسى بن شيبة، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منْ بدا أكثر منْ شهرين، فهي أعرابيّة". وروى حُميد بن زنجويه بإسناده، عن خلف بن خليفة، عن أبى هاشم، قَالَ: بلغني أن منْ نزل السواد أربعين ليلةً كُتب عليه الجفا. وعن معاوية بن قُرّة، قَالَ: البداوة شهران، فما زاد فهو تعرُّب. انتهى ما كتبه الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى فِي "شرح البخاريّ" 1/ 109 - 119. وهو بحث نفيسٌ جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي الاجتماع والعزلة، أيهما أفضل؟:
قد تقدّم البحث مستوفًى فيما كتبه ابن رَجَب رحمه الله تعالى، ولكن رأيت تلخيصه فِي مسألة مستقلّة حَتَّى تكون فوائد المسألة سهلة الْمَنَال:
قَالَ فِي "الفتح": ما حاصله: اختلف السلف فِي ذلك، فَقَالَ الجمهور: الاختلاط أولى؛ لما فيه منْ اكتساب الفوائد الدينية، للقيام بشعائر الإسلام، وتكثير سواد المسلمين، وإيصال أنواع الخير إليهم، منْ إعانة، وإغاثة، وعيادة، وغير ذلك.
وَقَالَ قوم: العزلة أولى؛ لتحقق السلامة، بشرط معرفة ما يتعين. قَالَ النوويّ: المختار تفضيل المخالطة، لمن لا يغلب عَلَى ظنه، أنه يقع فِي معصية، فإن أشكل الأمر، فالعزلة أولى. وَقَالَ غيره: يختلف باختلاف الأشخاص، فمنهم: منْ يتحتم عليه أحد الأمرين، ومنهم منْ يترجح، وليس الكلام فيه، بل إذا تساويا، فيختلف باختلاف الأحوال، فإن تعارضا اختلف باختلاف الأوقات، فمن يتحتم عليه المخالطة، وهو منْ كانت له قدرة عَلَى إزالة المنكر، فيجب عليه، إما عينا، وإما كفاية، بحسب الحال والإمكان، وممن يترجح منْ يغلب عَلَى ظنه، أنه يسَلَم فِي نفسه، إذا قام فِي الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. وممن يستوي منْ يَأمن عَلَى نفسه، ولكنه يتحقق أنه لا يطاع، وهذا حيث لا يكون هناك فتنة عامة، فإن وقعت الفتنة، ترجحت العزلة؛ لما ينشأ فيها غالبا منْ الوقوع فِي المحذور، وَقَدْ تقع العقوبة بأصحاب الفتنة، فتعم منْ ليس
منْ أهلها، كما قَالَ تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25].
ويؤيد التفصيل المذكور، حديث أبي سعيد رضي الله عنه أيضًا:"خير النَّاس رجل جاهد بنفسه وماله، ورجل فِي شِعْبٍ منْ الشعاب، يعبد ربه، ويدع النَّاس منْ شره". وحديث أبي هريرة رضي الله عنه، فإن أوله عند مسلم: "إن منْ خير معاش النَّاس لهم، رجل ممسك بعِنان فرسه فِي سبيل الله
…
" الْحَدِيث، وفيه: "ورجل فِي غنيمة
…
" الْحَدِيث، وكأنه ورد فِي أيُّ الكسب أطيب؟ فإن أُخذ عَلَى عمومه، دلَّ عَلَى فضيلة العزلة، لمن لا يتأتي له الجهاد فِي سبيل الله، إلا أن يكون قُيِّد بزمان وقوع الفتن. قاله فِي "الفتح" 14/ 541 - 542.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأرجح فِي المسألة هو التفصيل المذكور، وَقَدْ ذكر الخطّابيّ رحمه الله تعالى فِي "كتاب العزلة" -كما نقله فِي "الفتح"- أن العزلة، والاختلاط يختلف باختلاف متعلّقاتهما، فتُحمل الأدلّة الواردة فِي الحضّ عَلَى الاجتماع عَلَى ما يتعلّق بطاعة الأئمة، وأمور الدين، وعكسها فِي عكسه، وأما الاجتماع، والافتراق بالأبدان، فمن عرف الاكتفاء بنفسه فِي حقّ معاشه، ومحافظة دينه، فالأولى له الانكفاف عن مُخالطة النَّاس بشرط أن يحافظ عَلَى الجماعة، والسلام، والرّدّ، وحقوق المسلمين منْ العيادة، وشهود الجنازة، ونحو ذلك، والمطلوب إنما هو ترك فضول الصحبة؛ لما فِي ذلك منْ شُغل البال، وتضييع الوقت عن المهمات، ويجعل بمنزلة الاحتياج إلى الغداء والعشاء، فيقتصر منه عَلَى ما لابدّ منه، فهو أروح للبدن والقلب. والله تعالى أعلم.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا التفصيل حسنٌ جدًّا، لكن لابدّ فِي حالة العزلة منْ ملاحظة ما ذكره القشيريّ رحمه الله تعالى فِي "الرسالة" حيث قَالَ: طريق منْ آثر العزلة أن يعتقد سلامة النَّاس منْ شرّه، لا العكس، فإن الأول يُنتجه استصغار نفسه، وهي صفة المتواضع، والثاني شهودة مزيّةً له عَلَى غيره، وهذه صفة المتكبر. انتهى. ذكره فِي "الفتح" 13/ 132.
ودليل ما قاله القشيري رحمه الله تعالى حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه المتقدّم، وفيه:"ورجل فِي شعب منْ الشعاب، يعبد ربّه، ويدع النَّاس منْ شرّه" رواه البخاريّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
***
31 - (مَثَلُ الْمُنَافِقِ)
5039 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ، بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ، تَعِيرُ فِي هَذِهِ مَرَّةً، وَفِي هَذِهِ مَرَّةً، لَا تَدْرِي أَيَّهَا تَتْبَعُ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.
2 -
(يعقوب) بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاريّ المدنيّ، نزيل الإسكندريّة، حليف بني زُهرة، ثقة [8] 45/ 739.
3 -
(موسى بن عُقبة) بن أبي عياش الأسديّ مولاهم المدنيّ، ثقة فقيه إمام فِي المغازي [5] 96/ 122.
4 -
(نافع) مولى ابن عمر المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 12/ 12.
5 -
(ابن عمر) عبد الله رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. وفيه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما منْ المكثرين السبعة، والعبادلة الأربعة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَثَلُ الْمُنَافِقِ) أي وصفه الذي يتميّز به منْ المؤمن (كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ، بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ) أي المتردّدة، والمتحيّرة بين قَطِيعين منْ الغنم، لا تدريّ لأيّهما تتبع. وَقَالَ فِي "اللسان": العائرة: التي تخرج منْ الإبل إلى أخرى ليربها الفحل. انتهى. وَقَالَ السنديّ: وهي التي تطلب الفحل، فتردد بين قطيعين، ولا تستقرّ مع إحداهما، والمنافق مع المؤمنين بظاهره، ومع المشركين بباطنه؛ تبعًا لهواه وغرضه الفاسد، فصار بمنزلة تلك الشاة. وفيه سلب الرجوليّة عن المنافقين. والغنمة واحدة، والغنم جمع، ففي هَذَا الْحَدِيث تثنية للجمع بتأوله بالجماعة. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "والغنمة واحدة الخ" هَذَا غلط، فقد صرّح فِي "القاموس"، و"اللسان"، و"المصباح"، وغيرها منْ كتب اللغة أن الغنم لا واحد لها منْ لفظها، وإنما واحدها الشاة منْ غير لفظها، فتبصّر. والله تعالى أعلم.
وَقَالَ السيوطيّ رحمه الله تعالى فِي "شرحه": قَالَ الزمخشريّ فِي "المفصّل": قد يُثنّى الجمع عَلَى تأويل الجماعتين، والفرقتين، ومنه هَذَا الْحَدِيث. انتهى.
(تَعِيرُ) بفتح أوله، منْ باب ضرب يضرب: أي تتردّد، وتذهب (فِي هَذِهِ مَرَّةً) إشارة إلى إحدى الغنمين، وأنث الضمير لأن الغنم اسم جنس مؤنّث، قَالَ الفيّوميّ: الغنم اسم جنس يُطلق عَلَى الضأن، والمعز، وَقَدْ تُجمع عَلَى أغنام، عَلَى معنى قُطَعَاناتٍ منْ الغنم، ولا واحد للغنم منْ لفظها، قاله ابن الأنباريّ. وَقَالَ الأزهريّ أيضًا: الغنم الشاء، الواحدة شاة، وتقول العرب: راح عَلَى فلان غنمان: أي قطِعان منْ الغنم، كلُّ قطيع منفردٌ بمَرْعًى وراعٍ. وَقَالَ الجوهريّ: الغنم اسم مؤنّثٌ، موضوع لجنس الشاء، يقع عَلَى الذكور والإناث، وعليهما، ويُصغّر، فتدخل الهاء، ويقال: غُنيمة؛ لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها منْ لفظها، إذا كانت لغير الآدميين، وصُغّرت، فالتأنيث لازم لها. انتهى.
(وَفِي هَذِهِ مَرَّةً) يعني أنها تارة تذهب إلى هذه الغنم، وأخرى إلى هذه الغنم (لَا تَدْرِي أَيَّهَا تَتْبَعُ) بفتح أوله، وسكون ثانيه، مضارع تبع، وزان تعِب، ويحتمل أن يكون بتشديد الثانية، مضارع اتّبعت منْ باب الافتعال. وفي رواية أخرى لمسلم:"تكِرّ فِي هذه مرّةً، وفي هذه مرّة"، وهو بكسر الكاف: أي تعطِف عَلَى هذه مرّة، وعلى هذه مرّة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -31/ 5039 - وأخرجه (م) فِي "صفات المنافقين" 2784 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 4857 و5059 (الدارمي) فِي "المقدمة"320. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
***
32 - (مَثَلِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مِنْ مُؤْمِنٍ، وَمُنَافِقٍ)
5040 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، مَثَلُ الأُتْرُجَّةِ، طَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَرِيحُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، كَمَثَلِ التَّمْرَةِ، طَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَلَا رِيحَ لَهَا، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ، وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ، طَعْمُهَا مُرٌّ، وَلَا رِيحَ لَهَا").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(عمرو بن عليّ) الفلّاس البصريّ، ثقة ثبت [10] 4/ 4.
2 -
(يزيد بن زُريع) أبو معاوية البصريّ، ثقة ثبت [8] 5/ 5.
3 -
(سعيد) بن أبي عروبة مهران البصريّ، ثقة ثبت، يدلّس، واختلط [6] 34/ 38.
4 -
(قتادة) بن دِعامة السدوسيّ البصريّ، ثقة ثبت يدلّس [4] 30/ 34.
5 -
(أنس بن مالك) رضي الله تعالى عنهما 6/ 6.
6 -
(أبو موسى الأشعريّ) عبد الله بن قيس بن سُليم بن حضّار الصحابيّ المشهور رضي الله تعالى عنه، أمّره عمر، ثم عثمان، ومات سنة (50) وقيل: بعدها 3/ 3. والله أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين. (ومنها): أن فيه رواية صحابيّ عن صحابيّ، وفيه أن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستة، بلا واسطة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) الصحابيّ رضي الله عنه، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، (أَنَّ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ) عبد الله بن قيس الصحابيّ المشهور رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، مَثَلُ الأُتْرُجَّةِ) -بضم الهمزة والراء، بينهما مثناة ساكنة، وآخره
جيم ثقيلة، وَقَدْ تخفف، ويزاد قبلها نون ساكنة، ويقال: بحذف الألف مع الوجهين، فتلك أربع لغات، وتبلغ مع التخفيف إلى ثمانية.
(طَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَرِيحُهَا طَيِّبٌ) قيل: خص صفة الإيمان بالطعم، وصفة التلاوة بالريح؛ لأن الإيمان ألزم للمؤمن منْ القرآن، إذ يمكن حصول الإيمان بدون القراءة، وكذلك الطعم ألزم للجوهر منْ الريح، فقد يذهب ريح الجوهر، ويبقى طعمه، ثم قيل: الحكمة فِي تخصيص الأترجة بالتمثيل، دون غيرها منْ الفاكهة، التي تجمع طيب الطعم والريح، كالتفاحة لأنه يُتَدَاوى بقشرها، وهو مفرحٌ بالخاصية، ويُستخرج منْ حَبِّها دُهن له منافع، وقيل: إن الجن لا تقرب البيت الذي فيه الأترج، فناسب أن يُمَثَّل به القرآن، الذي لا تقر به الشياطين، وغلاف حبه أبيض، فيناسب قلب المؤمن، وفيها أيضًا منْ المزايا، كبر جرمها، وحسن منظرها، وتفريح لونها، ولين ملمسها، وفي أكلها مع الالتذاذ طيب نكهة، ودباغ مَعِدة، وجودة هضم، ولها منافع أخرى، مذكورة فِي "المفردات".
ووقع فِي رواية شعبة عن قتادة عند البخاريّ: "المؤمن الذي يقرأ القران، ويعمل به"، وهي زيادة مفسرة للمراد، وأن التمثيل وقع بالذي يقرأ القرآن، ولا يخالف ما اشتمل عليه منْ أمر ونهي، لا مطلق التلاوة.
[فإن قيل]: لو كَانَ لكثرة التقسيم، كَانَ يقال: الذي يقرأ، ويعمل، وعكسه، والذي يعمل، ولا يقرأ، وعكسه، والأقاسم الأربعة، ممكنة فِي غير المنافق، وأما المنافق، فليس له إلا قسمان فقط، لأنه لا اعتبار بعمله، إذا كَانَ نفاقه نفاق كفر.
[وكأن الجواب عن ذلك]: أن الذي حُذف منْ التمثيل قسمان: الذي يقرأ ولا يعمل، والذي لا يعمل ولا يقرأ، وهما شبيهان بحال المنافق، فيمكن تشبيه الأول بالريحانة، والثاني بالحنظلة، فاكتفى بذكر المنافق، والقسمان الآخران قد ذكرا.
(وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، كَمَثَلِ التَّمْرَةِ، طَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَلَا رِيحَ لَهَا) وفي رواية للبخاريّ: "ولا ريح فيها"(وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ) بفتح الراء (رِيحُهَا طَيِّبٌ، وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ) وفي رواية للبخاريّ: "ومثل الفاجر (الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ، طَعْمُهَا مُرٌّ، وَلَا رِيحَ لَهَا) وفي رواية للبخاريّ، منْ طريق شعبة: "وريحها مر".
واستشكلت هذه الرواية منْ جهة أن المرارة، منْ أوصاف الطعوم، فكيف يوصف بها الريح.
وأجيب بأن ريحها لما كَانَ كريها، استُعير له وصف المرارة. وأطلق الزركشي هنا أن
هذه الرواية وَهَمٌ، وأن الصواب ما فِي رواية هَذَا الباب:"ولا ريح لها"، ثم قَالَ فِي "كتاب الأطعمة" لَمّا جاء فيه:"ولا ريح لها"، هَذَا أصوب منْ رواية الترمذيّ:"طعمها مر، وريحها مر"، ثم ذكر توجيهها، وكأنه ما استحضر أنها فِي هَذَا الكتاب، وتكلّم عليها، فلذلك نسبها للترمذي. قاله فِي "الفتح" 10/ 82 - 83. "كتاب فضائل القران". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أنس رضي الله تعالى عنه متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -32/ 5040 - وأخرجه (خ) فِي "فضائل القران" 502 و5059 و"الأطعمة" 5427 و"التوحيد" 7560 (م) فِي "الصلاة" 797 (د) فِي "الأدب" 4829 (ت) فِي "الأمثال" 2865 (ق) فِي "المقدمة" 214 (أحمد) فِي "مسند الكوفيين" 19055 و19117 و19165 (الدارمي) فِي "فضائل القرآن"3229. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان مثل قاريء القرآن منْ مؤمن، ومنافق. (ومنها): أن فيه فضيلةَ حاملي القران، وضرب المثل للتقريب للفهم، وأن المقصود منْ تلاوة القرآن العمل بما دل عليه. (ومنها): تشبيه القرآن بالأترجّة؛ لأنها منْ أفضل الثمار؛ لكبر جِرمها، وحسن منظرها، وطيب طعمها، ولين ملمسها، ولونها يسرّ الناظرين. (ومنها): أن فيه تشبيه الإيمان بالطعم الطيبّ؛ لكونه خيرًا باطنيًّا، لا يظهر لكلّ أحد، وتشبيه القرآن بالريح الطيّب، ينتفع بسماعه كلُّ أحد، ويظهر سمحًا لكلّ سامع. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
***
33 - (عَلَامَةِ الْمُؤْمِنِ)
5041 -
(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ".
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث متَّفقٌ عليه، وتقدّم فِي 19/ 5019 ومضى شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى وليّ التوفيق.
قَالَ الْقَاضِى -يَعْنِي ابْنَ الْكَسَّارِ- سَمِعْتُ عَبْدَ الصَّمَدِ الْبُخَارِيَّ، يَقُولُ: حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الَّذِي يَرْوِى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ لَا أَعْرِفُهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ سَقَطَ الْوَاوُ مِنْ حَفْصِ بْنِ عَمْرٍو الرَّبَالِيِّ، الْمَشْهُورُ بِالرِّوَايَةِ عَنِ الْبَصْرِيِّينَ، وَهُوَ ثِقَةٌ، ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ، فِي حَدِيثِ مَنْصُورِ بْنِ سَعْدٍ، فِي "بَابِ صِفَةِ الْمُسْلِمِ" سَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَا أَعْلَمُ، رَوَى حَدِيثَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْمَرْفُوعَ:"أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ"، بِزِيَادَةِ قَوْلِهِ:"وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا، وَأَكَلُوا ذَبِيحَتَنَا، وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا"، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، إِلاَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ، وَيَحْيَى بْنَ أَيُّوبَ الْبَصْرِيَّ، وَهُوَ فِي هَذَا الْجُزْءِ فِي "بَابِ مَا يُقَاتِلُ النَّاسَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "قَالَ القاضي الخ": هَذَا الكلام لا مناسبة بينه وبين حديث الباب؛ بل هو متعلّق بباب 9/ 4999 - "صفة المسلم".
و"القاضي": هو القاصي الجليل العالم، أبو نصر أحمد بن الحسين بن محمد بن عبد الله بن بوّان الكسّار الدِّينوريّ، سمع "سنن النسائيّ" المختصر منْ الحافظ أبي بكر ابن السّنّيّ، وسماعه له فِي سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، وحدّث به فِي جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة. حدّث عنه بدر بن خَلَف الْفَرْكَيّ
(1)
وعَبْدُوس بن عبد الله الْهَمَذَانِيّ، وعبد الرحمن بن حَمْد الدونيّ، وأبو صالح أحمد بن عبد الملك المؤذّن، وكان الكسّار صدوقًا، صحيح السماع، ذا علم وجلالة، مات فِي هَذَا الوقت بعد تحديثه بالكتاب بيسير، وآخر منْ روى عنه بالإجازة مُسند أصبهان أبو عليّ الحدّاد. هكذا ترجمه الحافظ الذهبيّ رحمه الله تعالى فِي "سير أعلام النبلاء" 17/ 514.
وقوله: "سمعت عبد الصمد البخاريّ": الظاهر أنه عبد الصمد بن محمد بن عبد الله ابن حَيُّويه الإمام الحافظ الرحّال النحويّ الأوحد، أبو محمد، وأبو القاسم البخاريّ، حدّث بدمشق، وأماكن عن سهل بن حسن البخاريّ الحافظ، ومكحول البيروتيّ،
(1)
بفتح الفاء، وسكون الراء، كما فِي الأصل، وضبطها السمعانيّ بالفتح، وَقَالَ: هذه النسبة إلى فَرَك، وهي قرية منْ قرى أصبهان. انتهى منْ هامش "سير أعلام النبلاء" 17/ 514.
ومحمد بن محمد بن حاتم السجستاني، وطبقتهم. روى عنه الحاكم، وتمّام الرازيّ، وعبد الغنيّ الأزديّ، وغُنْجار البخاريّ، ومحمد بن عمر بن بُكير المقرىء، وعليّ بن يعقوب بن الْعَقَب أحد شيوخه. قَالَ أبو عبد الله الحاكم: عبد الصمد بن محمد بن حيّويه الحافظ الأديب منْ أعيان الرحالة، قدم علينا نيسابور، وأقام سنوات، ثم دخل العراق ومصر والشام، استخرج عَلَى "صحيح البخاريّ"، وجوّده، اجتمعت به ببغداد وبُخارى. وَقَالَ غنجار: توفّي بالدِّينَوَر فِي سنة (368). قاله فِي "سير أعلام النبلاء" 16/ 290 - 291.
وقوله: "إلا أن يكون سقط الواو منْ حفص بن عمرو الخ" تقدّم أن ابن عساكر ردّ عَلَى هَذَا بأن هَذَا حفص بن عمر أبو عمر الْمَهْرَقَانيّ الرازيّ معروف. انتهى. يعني أنه لا حاجة لدعوى تصحيف عمر بضم العين عن عمرو بفتحها، بل هو خطأ، فإن الراوي عن ابن مهديّ هنا هو حفص عمر بالضم، وَقَدْ تقدّمت ترجمته فِي 9/ 4998 - "صفة المسلم"، فراجعه تستفد.
وقوله: "سمعته يقول: لا أعلم الخ" الظاهر أن القائل: "سمعته" هو القاضي: أي سمعت عبد الصمد البخاريّ يقول الخ.
وقوله: "لا أعلم روى حديث أنس بن مالك الخ" يعني الذي تقدّم فِي 1/ 3968 - "كتاب تحريم الدم" وفي هَذَا الكتاب "15/ 5005 باب "عَلَى ما يقاتل النَّاس؟ ".
وقوله: "إلا عبد الله بن المبارك"، و"يحيى بن أيوب"، أما رواية ابن المبارك، فقد تقدّمت للمصنّف فِي "كتاب تحريم الدم"، وفي باب عَلَى ما يقاتل النَّاس"؟ بالرقمين المذكورين.
وأما رواية يحيى بن أيوب، فقد أخرجها أبو داود فِي "كتاب الجهاد" منْ "سننه" برقم 2271، فَقَالَ بعد أن أخرج رواية المبارك:
حدثنا سليمان بن داود المهري، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يحيى بن أيوب، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُمرت أن أقاتل المشركين
…
" بمعناه. وَقَدْ علّق البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" (393) رواية يحيى بن أيوب منْ طريق سعيد بن أبي مريم عنه.
[تنبيهان]:
(الأول): قوله: "لا أعلم روى الخ" فيه نظر؛ لأنه سبق للمصنّف أن أخرج الْحَدِيث فِي "كتاب تحريم الدم" منْ رواية محمد بن عيسى بن سُميع، عن حميد، ولفظه:
3966 -
أخبرنا هارون بن محمد بن بكار بن بلال، عن محمد بن عيسى، وهو ابن
سُميع، قَالَ: حدثنا حميد الطويل، عن أنس بن مالك، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"أمرت أن أقاتل المشركين، حَتَّى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبائحنا، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها". انتهى.
(الثاني): قوله: "يحيى بن أيوب البصريّ" غلط، والصواب المصريّ بالميم لا بالباء؛ لأن يحيى مصريّ بالميم، لا بصريّ بالباء الموحّدة، فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
47 - (كِتَابُ الزِّينَةِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: المناسبة بين هَذَا الكتاب، والذي قبله ظاهرة، إذ الإيمان حِليةُ القلب، كما أنَ ما يُذْكَرُ فِي "كتاب الزينة" منْ اللباس وغيره حِلْيَةُ البدن.
و"الزينة" -بكسر الزاي-: اسم منْ زان الشيءُ صاحبه زَيْنًا، منْ باب سار، وأزانه إزانةً، مثله، وزيَّنه تزيينًا مثله، والزين نقيض الشين. قاله الفيّوميّ. وَقَالَ المجد فِي "القاموس": الزينة -بالكسر-: ما يُتزيّن به، كالزِّيَان، ككِتاب. قَالَ: والزَّيْنُ ضدّ الشين، جمعه أَزْيَان، وزانه، وأزانه، وزيّنه، وأزينه، فتزيَّنَ هو. انتهى. وَقَالَ فِي "لسان العرب": الزينة: اسم جامع لكلّ شيء يُتزَيَّن به، وَقَالَ أيضًا: الزِّينة، والزُّونة: اسم جامع لما يُتزيّن به، قُلبت الكسرة ضمّةً، فانقلبت الياء واوًا. وقوله تعالى:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} الآية [النور: 31]: معناه: لا يُبدين الزينة الباطنة، كالْمِخْنَقة، والْخَلَخَال، والدُّمْلُج، والسِّوَار، والذي يظهر هو الثياب، والوجه. قَالَ: والزينُ: خلاف الشين، وجمعه أزْيان، قَالَ حُميد بن ثَوْر:
تَصِيدُ الْجَلِيس بِأَزْيَانِهَا
…
وَدَلَّ أَجَابَتْ عَلَيْهِ الرُّقَى
انتهى "لسان العرب" 13/ 201 - 202 بتصرّف. والله تعالى أعلم بالصواب.
1 - (مِنَ السُّنَنِ الْفِطْرَةِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: أي هَذَا باب ذكر الأحاديث الدّالّة عَلَى بعض السنن،
والظاهر أن لفظ "الفطرة" بالجرّ بدلٌ منْ "السنن"؛ لأن "الفطرة" هي "السنن"، وعبّر بـ "منْ" إشارة إلى أن الفطرة لا تنحصر فيما ذُكر. ولفظ "الكبرى":"باب الْفِطْرَة". والله تعالى أعلم بالصواب.
5042 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ، عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "عَشَرَةٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَقَصُّ الأَظْفَارِ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَالاِسْتِنْشَاقُ، وَنَتْفُ الإِبْطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ". قَالَ مُصْعَبٌ: وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ).
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه الحنظليّ المروزيّ، ثقة ثبت [10] 2/ 2.
2 -
(وكيع) بن الجراح أبو سفيان الرُّؤاسي الكوفيّ ثقة ثبت [9] 23/ 25.
3 -
(زكريا بن أبي زائدة) خالد أو هُبّيرة بن ميمون، الهمداني الكوفيّ، ثقة يدلس [6] 93/ 115.
4 -
(مصعب بن شيبة) العبديّ الحجبيّ المكيّ، لين الْحَدِيث [5] 25/ 1250.
5 -
(طلق بن حبيب) العنزيّ البصريّ، صدوقٌ عابدٌ، رُمي بالإرجاء [3] 2/ 4989.
6 -
(عبد الله بن الزبير) بن العوّام رضي الله تعالى عنهما 189/ 1161.
7 -
(عائشة) رضي الله تعالى عنها 5/ 5. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. وصحابيّ، عن صحابيّة، وهي خالته. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ) سقطت لفظة "قَالَ" منْ النسخ المطبوعة (عَشَرَةٌ مِنَ الْفِطْرَةِ) بكسر الفاء، وسكون الطاء المهملة، والمراد بها هنا: السنّة القديمة، التي اختارها الله تعالى للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكأنها أمر جبِليّ، فُطروا عليها، و"منْ" فِي قوله:"منْ الفطرة" للتبعيض، فهي تدلّ عَلَى عدم حصر الفطرة فِي هذه الأشياء، ولذلك جاء فِي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"خمس منْ الفطرة"، فلا تعارض بين الروايتين؛ لعدم الحصر. وقيل: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أُعلم أوّلاً
بالخمس، ثم أُعلم بالعشر، فاستقام الكلام، لو أريد الحصر أيضًا بلا معارضة. وقيل: يحتمل أن تكون الخمس المذكورة فِي حديث أبي هريرة رضي الله عنه آكد، فلمزيد الاهتمام بها أفردها بالذكر. والله تعالى أعلم.
ثم قوله: "عشرة" مبتدأ بتقدير "أفعالٌ عشرةٌ"، أو "عشرة منْ الأفعال"، والجارّ والمجرور خبره، أو هو صفة فِي محلّ رفع صفة له، والخبر قوله:"قصّ الشارب الخ".
(قَصُّ الشَّارِبِ) أي قطعه، و"الشارب": هو الشعر النابت عَلَى الشفة العليا، والقص هو الأكثر فِي الروايات، -كما قَالَ الحافظ- وهو مختار مالك وطائفة، وَقَدْ جاء فِي بعضها بلفظ الإحفاء، وهو مختار أكثر العلماء، والإحفاء هو الاستئصال، وَقَدْ تقدّم تحقيق الخلاف فِي هَذَا فِي "أبواب الطهارة" 13/ 13 باب "قصّ الشارب"، وأن الأرجح هو قول منْ قَالَ بالتخيير؛ لأن السنة دلّت عَلَى الأمرين، فلا تعارض بينها، فإن القصّ يدلّ عَلَى أخذ البعض، والإحفاء عَلَى أخذ الكلّ، وكلاهما ثابت، فيتخيّر فيما شاء.
والحاصل أن العلماء مختلفون فِي حلق الشارب، فمنهم منْ كرهه، كمالك، ومنهم رجحه عَلَى القصّ، ومنهم منْ رجح القصّ عليه، ومنهم منْ خيّر، وهو الأرجح؛ جمعا بين الأدلّة، فإن أردت تحقيق المسألة بأدلّتها فراجع ما سبق فِي "الطهارة" يُشْفَ غَلِيلُك. والله تعالى وليّ التوفيق.
(وَقَصُّ الأَظْفَارِ) أي قطع ما طال منها، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:"تقليم الأظفار"، وهو أعم منْ القصّ، والمراد إزالة ما يزيد عَلَى ما يُلابس رأس الأصابع منْ الظفر؛ لأن الوسخ يجتمع فيه، فيُستقذر، وَقَدْ ينتهي إلى حدّ يمنع منْ وصول الماء إلى ما يجب غسله فِي الطهارة. وَقَدْ تقدّم تمام البحث فِي هَذَا فِي "الطهارة" أيضًا فِي 10/ 10 (وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ) -بفتح الموحّدة، وبالجيم، جمع بُرْجُمة -بضم الموحدة، والجيم، وهي عُقَد الأصابع، ومفاصلها كلها. قاله النوويّ.
وفي "شرح المصابيح" لزين العرب حكاية قول أن المراد بها خطوط الكفّ؛ لمنع الوسخ فيها منْ وصول الماء إلى ما تحتها، وحينئذ لا يصح الوضوء، ولا الغسل.
وَقَالَ النوويّ: قَالَ العلماء: ويلتحق بالبراجم ما يجتمع منْ الوسخ فِي معاطف الأذن، وهو الصِّمَاخ، فيُزيله بالمسح؛ لأنه ربّما أضرّت كثرته بالسمع، وكذلك ما يجتمع فِي داخل الأنف، وكذلك جميع الوسخ المجتمع عَلَى أي موضع كَانَ، منْ البدن بالعرق، والغبار، ونحوهما. والله تعالى أعلم. قاله النوويّ فِي "شرح مسلم" 3/ 141.
(وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ) -بكسر الهمزة-: أي توفيرها، وتكثيرها. قَالَ أبو عُبيدة: يقال:
عفا الشيءُ: إذا كثُر، وزاد، وأعفيته أنا، وعفا: إذا درس، وهو منْ الأضداد. وَقَالَ غيره: يقال: عفوتُ الشعرَ، وأعفيته لغتان، فلا يجوز حلقها، ولا نتفها، ولا قصّ الكثير منها، فأما أخذ ما تطاير منها، وما يُشوّه، ويدعوا إلى الشهرة، طولاً وعرضًا، فحسنٌ عند مالك، وغيره منْ السلف، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يأخذ منْ طولها ما زاد عَلَى القبضة. قاله فِي "المفهم" 1/ 512 - 513، وفيه مباحث كثيرة ذكرتها فِي "الطهارة"، فراجعها تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
(وَالسِّوَاكُ) -بكسر السين-: يطلق عَلَى الفعل، وهو الاستياك، وعلى الآلة التي يُستاك بها، ويقال فِي الالة أيضاً: مِسواك بكسر الميم- وَقَدْ تقدّمت مباحث كثيرة تتعلّق بالسواك فِي "الطهارة" فراجعها تستفد، والله تعالى ولي التوفيق.
(والِاسْتِنْشَاقُ) هو جعل الماء فِي الأنف، وجذبه بالنَّفَس؛ لينزل ما فِي الأنف، وتقدّمت مباحثه فِي "الطهارة "(وَنَتْفُ الإِبْطِ) أي نزع الشعر الذي ينبت فِي باطن المنكب بالأصابع، وهل يكفي فيه الحلق، واستعمال النورة فِي أصل السنّة الظاهر نعم، وخصّ الإبط بالنتف؛ لأنه محلّ الرائحة الكريهة باحتباس الأبخرة عند المسامّ، والنتف يضعف أصول الشعر، والحلق يُقَوِّيها. رُوي أن الشافعيّ رحمه الله تعالى كَانَ يحلق الْمُزيِّن إبطه، ويقول: السنة النتف، لكني لا أقدر عليه، ومذهب جمهور العلماء أنه سنة، وَقَدْ ذهب بعضهم إلى وجوبه، وَقَدْ استوفيت البحث فيه فِي "الطهارة"، فارجع إليه، وبالله تعالى التوفيق (وَحَلْقُ الْعَانَةِ) أي الشعر النابت فوق ذكر الرجل، وقُبُل المراة، وَقَدْ سبق تمام البحث فيه فِي "الطهارة" أيضًا (وانْتِقَاصُ الْمَاءِ) فسّره وكيعٌ بأنه الاستنجاء. وَقَالَ أبو عبيدة وغيره: معناه: انتقاص البول بسبب استعمال الماء فِي غسل مذاكيره. وقيل: هو الانتضاح. وَقَدْ جاء فِي رواية "الانتضاح" بدل انتقاص الماء، قَالَ الجمهور: الانتضاح نضح الفرج بماء قليل بعد الوضوء لينفي عنه الوسواس. وقيل: هو الاسنتجاء بالماء. قَالَ ابن الأثير: إنه رُوي "انتفاص الماء" بالفاء، والصاد المهملة، وَقَالَ فِي "فصل الفاء": قيل: الصواب أنه بالفاء، قَالَ: والمراد نضحه عَلَى الذكر، منْ قولهم: لنضح الدم القليل: نفصة، وجمعها نفص. قَالَ النوويّ: وهذا الذي نقله شاذ، والصواب ما سبق. والله تعالى أعلم. انتهى "شرح مسلم" 3/ 141. وَقَالَ زين العرب فِي "شرح المصابيح": انتقاص الماء بالقاف، والصاد المهملة: هو الاسنتجاء بالماء. وقيل: معناه انتقاص البول بالماء، وهو أن يغسل ذكره بالماء؛ ليرتدع البول بردع الماء، ولو لم يغسل نزل منه شيئًا، شيئًا، فيعسر الاستبراء منه، فالماء عَلَى الأول، هو المستنجى به، وعلى الثاني هو البول، فإن أريد بالماء البول، فالمصدر مضاف إلى
المفعول، وإن أريد به الماء المغسول به، فالإضافة إلى الفاعل: أي وانتقاص الماء البولَ، وانتقص لازم، ومتعدّ. وقيل: هو تصحيف، والصحيح انتفاض الماء -بالفاء، والضاد المعجمة، وهو الانتضاح بالماء عَلَى الذكر، وهذا أقرب؛ لأن فِي "كتاب أبي داود" بدله:"والانتضاح". قاله فِي "زهر الربى" 8/ 127 - 128.
(قَالَ مُصْعَبٌ) أي ابن شيبة (وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ) أي الخصلة العاشرة منْ خصال الفطرة (إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ) قَالَ القاضي عياض: هَذَا شكّ منه فيها، ولعلها الختان المذكور مع الخمس -يعني الآتي ذكرها فِي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وتبعه القرطبيّ، والنوويّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هَذَا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -1/ 5042 و5043 - وفي "الكبرى" 9286 و9227. وأخرجه (م) فِي "الطهارة" 361 (د) فِي "الطهارة" 53 (ت) فِي "الأدب" 2757 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 24539. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان سنن الفطرة. (ومنها): عناية الشريعة بالنظافة، وأنها منْ الأمور التي اتفقت عليها الشرائع. (ومنها): أن فيه إشارة إلى أن الفطرة لا تقتصر عَلَى هذه العشر، بل تزيد، حيث عبّر بـ"منْ" وَقَدْ استوفيت البحث فِي ذلك فيما سبق منْ أبواب الطهارة، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5043 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ طَلْقًا، يَذْكُرُ عَشْرَةً مِنَ الْفِطْرَةِ: السِّوَاكَ، وَقَصَّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمَ الأَظْفَارِ، وَغَسْلَ الْبَرَاجِمِ، وَحَلْقَ الْعَانَةِ، وَالاِسْتِنْشَاقَ، وَأَنَا شَكَكْتُ فِي الْمَضْمَضَةِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"محمد بن عبد الأعلى": هو الصنعانيّ، ثم البصريّ الثقة [10]. و"المعتمر": هو ابن سليمان التيميّ البصريّ الثقة، منْ كبار [9]. و"أبوه": هو سليمان بن طَرْخان التيميّ البصريّ الثقة العابد [4]. و"طلق": هو ابن حبيب المذكور فِي السند السابق.
والحديث صحيح الإسناد، مقطوع، واقتصر عَلَى ذكر ستة أشياء، وشكّ فِي السابع. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5044 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ، قَالَ:"عَشْرَةٌ مِنَ السُّنَّةِ: السِّوَاكُ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَالْمَضْمَضَةُ، وَالاِسْتِنْشَاقُ، وَتَوْفِيرُ اللِّحْيَةِ، وَقَصُّ الأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الإِبْطِ، وَالْخِتَانُ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَغَسْلُ الدُّبُرِ".
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَحَدِيثُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، وَجَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ، أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ مِنْ حَدِيثِ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ، وَمُصْعَبٌ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو عوانة": هو الوضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ الثقة الثبت [7]. و"أبو بشر": هو جعفر بن إياس البصريّ، ثم الواسطيّ الثقة [5].
والحديث مقطوع، صحيح الإسناد.
وقوله: (قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أي النسائيّ (وَحَدِيثُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ) أي الذي ذُكر قبل هَذَا (و) حديث (جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ) أبي بشر: أي هَذَا الْحَدِيث (أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ مِنْ حَدِيثِ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ) ثم علل ذلك بقوله (وَمُصْعَبٌ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ) فالجملة مستأنفة استئنافا بينايًا، فكأنه قيل له: لماذا كَانَ حديثهما أشبه بالصواب، فأجاب بأنهما ثقتان، وهو ضعيف منكر الْحَدِيث.
وحاصل ما أشار إليه ترجيح روايتهما المقطوعة عَلَى روايته المتصلة المرفوعة، وهكذا رجّح أيضًا الدارقطنيّ فِي "العلل" روايتهما، فَقَالَ: وهما أثبت منْ مصعب بن شيبة، وأصحّ حديثًا. ونقل عن الإمام أحمد أنه قَالَ: مصعب بن شيبة أحاديثه مناكير، منها:"عشرة منْ الفطرة". ولَمّا ذكر ابن منده أن مسلمًا أخرجه، وَقَالَ: تركه البخاريّ، فلم يُخرجه، وهو حديث معلول، رواه سليمان التيميّ، عن طلق بن حبيب، مرسلاً. قَالَ ابن دقيق العيد: لم يلتفت مسلم لهذا التعليل؛ لأنه قدّم وصل الثقة عنده عَلَى الإرسال، قَالَ: وَقَدْ يقال فِي تقوية رواية مصعب: إن تثبته فِي الفرق بين ما حفظه، وبين ما شكّ فيه جهةٌ مقويةٌ لعدم الغفلة، ومن لا يُتّهم بالكذب إذا ظهر منه ما يدلّ عَلَى التثبّت، قوِيت روايته، وأيضًا لروايته شاهد صحيح، مرفوع فِي كثير منْ هَذَا العدد، منْ حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه الشيخان. ذكره السيوطيّ فِي "شرحه" 8128 - 129.
وَقَالَ الحافظ رحمه الله تعالى بعد ذكر ترجيح المصنّف للرواية المقطوعة عَلَى الموصولة: ما نصّه: والذي يظهر لي أنها ليست بعلّة قادحة، فإن راويها مصعب بن شيبة
وثّقه ابن معين، والعجليّ، وغيرهما، وليّنه أحمد، وأبو حاتم، وغيرهما، فحديثه حسن، وله شواهد فِي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وغيره، فالحكم بصحّته منْ هذه الحيثيّة سائغ، وقول سليمان التيميّ: سمعت طلق بن حبيب يذكر عشر منْ الفطرة يحتمل أن يريد أنه سمعه يذكرها منْ قبل نفسه عَلَى ظاهر ما فهمه النسائيّ. ويحتمل أن يريد أنه سمعه يذكرها، وسندها، فحذف سليمان السند. انتهى كلام الحافظ باختصار.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الحاصل أن الأرجح صحة الْحَدِيث متصلاً، مرفوعًا، كما صححه الإمام مسلم رحمه الله تعالى، وَقَدْ سبق تمام البحث فِي هَذَا فِي "الطهارة" 9/ 9 - فارجع إليه تزدد علماً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5045 -
(أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ بِشْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: الْخِتَانُ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَنَتْفُ الضَّبْعِ، وَتَقْلِيمُ الظُّفْرِ، وَتَقْصِيرُ الشَّارِبِ". وَقَفَهُ مَالِكٌ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"بشر": هو ابن المفضّل بن لاحق، أبو إسماعيل البصريّ الثقة الثبت العابد [8]. و"عبد الرحمن بن إسحاق": هو المدنيّ، نزيل البصرة، يقال له: عبّاد، صدوقٌ، رُمي بالقدر [6] 100/ 2618.
وقوله: "ونتف الضبع": بفتح الضاد المعجمة، وسكون الموحّدة-: وسط العضُد. وقيل: هو ما تحت الإبط.
والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي "الطهارة" 9/ 9 ومضى شرحه، وبيان مسائله هناك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله: "وقفه مالك": أي خالف مالك بن أنس عبد الرحمن بن إسحاق، فروى الْحَدِيث عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفًا، ولم يرفعه، لكن الحكم هنا للرفع؛ لأن الْحَدِيث مرويّ منْ طريق الزهريّ، عن ابن المسيّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تقدّم فِي "الطهارة" فِي 9 و10 و11 وَقَدْ أخرجه الشيخان منْ هَذَا الوجه. ثم ذكر طريق مالك رحمه الله تعالى، فَقَالَ:
5046 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: تَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَنَتْفُ الإِبْطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَالْخِتَانُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه؛ رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. والسند منْ رباعيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (241) منْ رباعيات
الكتاب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
قَالَ الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير، محمد ابن الشيخ عليّ بن آدم بن موسى الإِتْيُوبيّ الولّويّ، نزيل مكة المكرّمة، عفا الله تعالى عنه وعن والديه ومشايخه آمين:
قد انتهيت منْ كتابة الجزء السابع والثلاثين منْ شرح سنن الإمام الحافظ الحجة أبي عبد الرحمن النسائيّ رحمه الله تعالى، المسمّى "ذخيرة العُقْبَى فِي شرح المجتبى"، أو "غاية المنى فِي شرح المجتنى".
وذلك بحيّ الزهراء، مخطّط الأمير طلال، فى مكة المكرمة زادها الله تعالى تشريفاً وتعظيمًا، وجعلني منْ خيار أهلها حيّاً وميتًا، وأُعْظِمْ به تكريماً.
وأخر دعوانا {أن الحمدُ لِلهِ ربِّ العالمِين} .
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} .
"اللَّهم صلّ عَلَى محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت عَلَى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللَّهم بارك عَلَى محمد، وعلى آل محمد، كما باركت عَلَى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
"السلام عليك أيها النبيّ، ورحمة الله، وبركاته".
ويليه -إن شاء الله تعالى- الجزء الثامن والثلاثون مفتتحاً بالباب 2 "إحفاء الشارب" الْحَدِيث رقم 5047.
"سبحانك اللَّهمّ، وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".
***