الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرح
سنن النسائي
المسَمَّى
ذخيرة العقبى في شرح المجتبى
لجامعة الفقير إلى مولاه الغني القدير
محمد ابن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى الأتيوبي الوَلَّوِي
المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة
عفا الله عنه وعن والديه آمين
الجُزْءُ الثامن والثلاثون
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
1424 هـ - 2003 م
دَار آل بروم للنشر والتوزيع
المملكة العربية السعودية - مكة المكرمة - المكتب الرئيسي التنعيم
صَ بُ: 4145 - (تلفاكس 5211576 - جوال 055541026)
شرح
سنن النسائيّ
بسم الله الرحمن الرحيم
2 - (إِحْفَاءِ الشَّارِبِ)
5047 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "أَحْفُوا الشَّوَارِبَ، وَأَعْفُوا اللِّحَى").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. و"سفيان": هو الثوريّ.
و"عبد الرحمن بن علقمة"، ويقال: ابن أبي علقمة، ويقال: ابن أبي عَلْقَم المكيّ، ثقة [4].
روى عن ابن عبّاس، وابن عمر رضي الله عنهم. وعنه الثوريّ. قَالَ ابن شاهين: قَالَ ابن مهديّ: كَانَ منْ الأثبات الثقات. وَقَالَ العجليّ: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". روى له البخاريّ فِي "خلق أفعال العباد"، والمصنّف فِي هَذَا الباب فقط.
وقوله: "أحفوا الشوارب": بقطع الهمزة، أمر منْ الإحفاء، ويقال أيضاً: حفا الرجل شاربه يحفوه حفْواً: إذا استأصل أخذ شعره، فعلى هَذَا تكون همزته همزة وصل، لكن الأول هو الأكثر.
وقوله: "وأعفو اللحى": أي وفّروها بترك التعرّض لها. وهو بقطع الهمزة، ووصلها، كـ"أحفوا" المتقدّم. و"اللِّحى" -بكسر اللام، أفصح منْ ضمها، وهو جمع لحية بكسر اللام، فقط، اسم لما نبت منْ الشعر عَلَى الخدّين والذقن.
والحديث متَّفقٌ عليه، وتقدّم فِي "الطهارة" 15/ 15 وتقدّم البحث فيه مستوفًى هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5048 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَلْقَمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَعْفُوا اللِّحَى، وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمرو بن عليّ": هو الفلّاس، والباقون هم المذكورون فِي السند الماضي، وكذا الْحَدِيث مضى الكلام فيه هناك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5049 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، قَالَ: سَمِعْتُ يُوسُفَ
بْنَ صُهَيْبٍ، يُحَدِّثُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:"مَنْ لَمْ يَأْخُذْ شَارِبَهُ، فَلَيْسَ مِنَّا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن عبد الأعلى": هو الصنعانيّ البصريّ الثقة [10]. و"المعتمر": هو ابن سليمان التيميّ البصريّ، الثقة، منْ كبار [9]. و"يوسف ابن صُهيب": هو الكنديّ الكوفيّ، ثقة [6] 13/ 13. و"حبيب بن يسار": هو الكنديّ الكوفيّ، ثقة [3] 13/ 13.
وقوله: "منْ لم يأخذ شاربه": أي شعره النابت عَلَى الشفة العليا. وقوله: "فليس منّا": أي ليس عَلَى طريقتنا، أو ليس منْ العاملين بسنّتنا المهتدين بهدينا، ولم يُرد خروجه منْ الإسلام، نعم سوق الكلام عَلَى هَذَا الوجه فيه تغليظ لا يخفى، فينبغي الاهتمام به، وعدم التساهل فيه.
والحديث صحيح، وَقَدْ تقدّم فِي "الطهارة" 13/ 13 ومضى شرحه مستوفًى هناك، وكذا بيان مسائله، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
3 - (الرُّخْصَةِ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ)
5050 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، رَأَى صَبِيًّا، حَلَقَ بَعْضَ رَأْسِهِ، وَتَرَكَ بَعْضَ، فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: "احْلِقُوهُ كُلَّهُ، أَوِ اتْرُكُوهُ كُلَّهُ").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(إسحاق بن إبراهيم) المعروف بابن راهويه المروزيّ، ثقة ثبت [10] 2/ 2.
2 -
(عبد الرزاق) بن همّام الصنعانيّ، ثقة حافظ مصنف، لكنه تغير بآخره [9] 61/ 77.
3 -
(معمر) بن راشد، أبو عروة البصريّ، ثم اليمنيّ، ثقة ثبت [7] 10/ 10.
4 -
(أيوب) بن أبي تميمة السختيانيّ البصريّ، ثقة ثبت فقيه [5] 42/ 47.
5 -
(نافع) مولى ابن عمر المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 12/ 12.
6 -
(ابن عمر) عبد الله رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما منْ العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، رَأَى صَبِيًّا، حَلَقَ) بالبناء للفاعل (بَعْضَ رَأْسِهِ، وَتَرَكَ بَعْضَ، فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ) أي عن حلق بعض الرأس، وترك بعضه (وَقَالَ:"احْلِقُوهُ كُلَّهُ، أَوِ اتْرُكُوهُ كُلَّهُ) فيه إذن فِي حلق كلّ الرأس، وهو محلّ استدلال المصنّف رحمه الله تعالى عَلَى الترجمة. واختُلف فِي علة النهي، فقيل: لكونه يُشوّه الخِلْقة، وقيل: لأنه زِيّ الشيطان، وقيل: لأنه زيّ اليهود، وَقَدْ جاء مصرّحًا به فِي حديث أنس رضي الله عنه عند أبي داود منْ طريق يزيد بن هارون، عن الحجاج بن حسان، قَالَ: دخلنا عَلَى أنس بن مالك، فحدثتني أختي المغيرة، قالت: وأنت يومئذ غلام، ولك قرنان، أو قُصّتان، فمسح رأسك، وبرك عليك، وَقَالَ: احلقوا هذين، أو قُصُّوهما، فإن هَذَا زي اليهود. و"المغيرة" أخت الحجاج مجهولة. وَقَالَ شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى فِي "اقتضاء الصراط المستقيم": علّل النهي عنهما بأن ذلك زيّ اليهود، وتعليل النهي بعلّة يوجب أن تكون العلّة مكروهة، مطلوباً عدمها، فعُلم أن زيّ اليهود حَتَّى فِي الشعر مما يُطلب عدمه، وهو المقصود. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -3/ 5050 - وفي "الكبرى" 4/ 9296. وأخرجه (د) فِي "الترجّل" 4193 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 4459. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز حلق الرأس. قَالَ القاري: فيه إشارةٌ إلى أن الحلق فِي غير الحجّ والعمرة جائز، وأن الرجل مخير بين
الحلق وتركه، لكن الأفضل أن لا يحلق، إلا فِي أحد النسكين، كما كَانَ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضي الله عنهم. (ومنها): أن حلق بعض الرأس، وترك بعضه عَلَى أي شكل كَانَ منْ قُبُل، أو دُبُر منهي عنه، وأن الجائز فِي حق الصبيان أن تُحلَقَ رؤوسهم كلها، أو يترك كلها. (ومنها): ما قاله الشوكاني رحمه الله تعالى فِي "النيل": فِي الْحَدِيث رَدٌّ عَلَى منْ كره حلق الرأس؛ لما رواه الدارقطنيّ فِي "الأفراد"، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قَالَ:"لا توضع النواصي إلا فِي حج، أو عمرة"
(1)
، ولقول عمر رضي الله عنه لضُبيع لو وجدتك محلوقا، لضربت الذي فيه عيناك بالسيف، ولحديث الخوارج أن سيماهم التحليق. قَالَ أحمد: إنما كرهوا الحلق بالموسى، أما بالمقراض فليس به بأس؛ لأن أدلة الكراهة تختص بالحلق. انتهى كلام الشوكاني. ولم يُجب عما تمسك به القائلون بالكراهة، وأقواها حديث الخوارج، وأجاب النوويّ عنه بأنه لا دلالة فيه عَلَى كراهة حلق الرأس، وإنما هو علامة لهم، وَقَدْ تكون بحرام، والعلامة قد تكون بمباح، كما قَالَ صلى الله عليه وسلم آيتهم رجل أسود، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، ومعلوم أن هَذَا ليس بحرام، وَقَدْ ثبت فِي "سنن أبي داود" بإسناد عَلَى شرط الشيخين -يعني حديث الباب- قَالَ: وهذا صريح فِي إباحة حلق الرأس، لا يحتمل تأويلا. انتهى "عون المعبود" 11/ 166. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
4 - (النَّهْيُ عَنْ حَلْقِ الْمَرْأَةِ رَأْسَهَا)
5051 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْحَرَشِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ خِلَاسٍ، عَنْ عَلِيٍّ، نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ تَحْلِقَ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا).
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن موسى بن نُفَيع الْحَرَشيّ) -بفتح المهملة، والراء، ثم شين معجمة- أبو عبد الله البصريّ، ليّن الْحَدِيث
(2)
[10].
(1)
يحتاج للنظر فِي إسناده، وكذا أثر عمر بعده، فالله تعالى أعلم.
(2)
هكذا قَالَ عنه فِي (التقريب): لين الْحَدِيث، والذي يظهر لي أنه صدوقٌ، نظراً لصنيع الحافظ =
رَوى عن حماد بن زيد، وجعفر بن سليمان الضبعي، والحسن بن سلم العجليّ، ويزيد بن زريع، وفضيل بن سليمان النميري، وزياد بن عبد الله البكائي، وأبي داود الطيالسي، ويحيى بن سليم الطائفي، وغيرهم. وروى عنه الترمذيّ، والنسائي، وأبو حاتم، وأبو شيخ محمد بن الحسين الأبهري الأصبهاني، والحسن بن علي المعمري، والحسين بن إسحاق التستري، وابن أبي الدنيا، وابن ماجه، ومحمد بن علي الحكيم، وأبو بكر البزار، ومحمد بن يحيى بن منده، وابن صاعد، وغيرهم.
قَالَ الآجري: سألت أبا داود عنه، فوَهّاه، وضعفه. وَقَالَ أبو حاتم: شيخ. وَقَالَ النسائيّ فِي "مشيخته": صالح، أرجو أن يكون صدوقًا. وَقَالَ مسلمة: بصري صالح. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". قَالَ أبو القاسم: مات سنة ثمان وأربعين ومائتين. تفرّد به المصنّف، والترمذيّ، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.
2 -
(أبو داود) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ، ثقة حافظ [9] 13/ 343.
3 -
(همّام) بن يحيى العَوْذيّ البصريّ، ثقة ربما وهم [7] 5/ 465.
4 -
(قتادة) بن دِعامة السدوسيّ البصريّ، ثقة ثبت [4] 30/ 34.
5 -
(خلاس) بن عمرو الْهَجَريّ البصريّ، ثقة، يرسل، وكان عَلَى شُرْطة عليّ رضي الله عنه[2] 46/ 57.
6 -
(عليّ) بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه 74/ 91. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به هو والترمذيّ. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه عليّ رضي الله تعالى عنه أحد الخلفاء الأربعة، والمبشرين العشرة، وابن عمّ الرسول صلى الله عليه وسلم، وزج ابنته، وأبو الحسنين رضي الله تعالى عنهم. والله تعالى أعلم.
= فِي "التقريب" فِي أمثاله الذين يُختلّف فيهم، فإن الذي ضعّفه هو أبو داود، فقط، وَقَدْ قَالَ المصنّف عنه، وهو تلميذه، أعلم النَّاس به، وهو منْ المتشدّدين: صالح، أرجو أن يكون صدوقًا، وَقَالَ أبو حاتم، مع تشدّده: شيخ، ووثقه ابن حبّان، وَقَالَ مسلمة: صالح، فمثله ينبغي أن يوصف بأنه صدوقٌ، فتأمّل. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَلِيٍّ) بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قَالَ (نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ تَحْلِقَ) بالبناء للمفعول، منْ باب ضرب (الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا) أي مطلقاً، سواء كَانَ للتحلّل منْ إحرام الحجّ، أو العمرة، وفيه دليلٌ عَلَى أنه لا يجوز للنساء حلق شُعُورهنّ فِي التحلّل منْ الإحرام، بل المشروع لهنّ التقصير فقط. قَالَ الإمام الترمذيّ رحمه الله تعالى: والعمل عَلَى هَذَا عند أهل العلم، لا يرون عَلَى المراة حلّقًا، ويرون أن عليها التقصير. يعني فِي التحلل منْ الإحرام. وحكى الحافظ فِي "الفتح" الإجماع عَلَى ذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عليّ رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح.
[تنبيه]: قَالَ الإمام الترمذيّ رحمه الله تعالى فِي "جامعه" بعد أن أخرجه: حديث عليّ رضي الله عنه فيه اضطراب؛ أي لأن هماماً رواه مرّة عن قتادة، عن خِلاس، عن عليّ، ومرّة عن خِلاس، ولم يذكر فيه "عن عليّ". وروي هَذَا الْحَدِيث عن حمّاد بن سلمة، عن قتادة، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى أن تحلق المرأة رأسها. انتهى كلام الترمذيّ رحمه الله تعالى.
وَقَالَ عبد الحقّ فِي "أحكامه": هَذَا حديث يرويه همّام، عن يحيى، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن عليّ رضي الله عنه، وخالفه هشام الدستوائيّ، وحمّاد بن سلمة، فروياه عن قتادة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مرسلاً. انتهى.
وفي الباب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، مرفوعًا:"ليس عَلَى النِّساء الحلق، إنما عَلَى النِّساء التقصير". أخرجه أبو داود، والدراقطنيّ، والطبرانيّ، وإسناده حسنٌ، وقوّاه أبو حاتم فِي "العلل"، والبخاريّ فِي "التاريخ"، وأعلّه ابن القطّان
(1)
،
(1)
انظر كتابه "بيان الوهم والإيهام" 2/ 545 - أعله بأن أم عثمان لا يعرف حالها، وجوابه أنها قد ثبت صحبتها، فهي معروفة. وأعله أيضاً بالانقطاع، وجوابه أن الانقطاع فِي سند أبي داود فقط، حيث قَالَ ابن جريج: بلغني عن صفية بنت شيبة، وَقَدْ صح عند الدارقطنيّ وغيره أنه قَالَ: أخبرني عبد الحميد بن جبير، فزال الانقطاع. وأعله بانقطاع آخر أيضًا، حيث قَالَ أبو داود: حدثنا رجل ثقة يكنى أبا يعقوب، وجوابه أنه سمي عند الدارقطنيّ وغيره: إسحاق بن إبراهيم بن أبي إسرائيل، وهو ثقة، كما يأتي بيان ذلك قريبًا.
والحاصل أن إعلال ابن القطّان لأسانيد أبي داود، ومن الغريب أنه ذكر أن الدارقطنيّ أخرج =
وردّ عليه ابن الْمَوّاق، فأصاب. انتهى "التلخيص الحبير" 2/ 498.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما صحيح منْ دون شكّ، فقد أخرجه الدارقطنيّ، والطبرانيّ بإسناد صحيح، ودونك نصّ الدارقطنيّ فِي "سننه" 3/ 271: ثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، إملاء، نا إسحاق بن أبي إسرائيل، نا هشام بن يوسف، عن ابن جريج، أخبرني عبد الحميد بن جُبير، عن صفيّة بنت شيبة، قالت: أخبرتني أم عثمان بنت أبي سفيان، أن ابن عبّاس قَالَ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ليس عَلَى النِّساء حلق، إنما عَلَى النِّساء التقصير". انتهى.
وهذا الإسناد إسناد صحيح، فأم عثمان هذه جزم ابن عبد البرّ بصحبتها، وتبعه الحافظ فِي "الإصابة"، و"التقريب"، وصفيّة بنت شيبة معروفة روى لها الشيخان، وعبد الحميد بن جُبير ثقة، وابن جريج صرّح بالإخبار، فزال ما يُخشى منْ تدليسه، وهشام ابن يوسف منْ رجال البخاريّ، وإسحاق بن أبي إسرائيل وثقه ابن معين، والدارقطنيّ، والبغويّ، وغيرهم، وإنما تكلم فيه منْ تكلّم لوقفه فِي القرآن. وعبد الله بن محمد بن عبد العزيز هو الحافظ الحجة الثقة البغويّ، قَالَ عنه الدارقطنيّ: ثقة جبلٌ إمام منْ الأئمة، ثبتٌ، أقل المشايخ خطأ. انظر "لسان الميزان" 3/ 396 - 398. وَقَدْ تابعه إبراهيم بن موسى الحافظ، فرواه عن هشام بن يوسف انظر "العلل" لابن أبي حاتم 1/ 281.
والحديث صححه أبو حاتم فِي "العلل" 1/ 281، وحسنه الحافظ فِي "التلخيص"، كما سبق قريباً.
والحاصل أن حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما صحيح، وكذا حديث عليّ رضي الله عنه المذكور فِي الباب؛ لأنه إنما ضعّفه منْ ضعّفه للاضطراب فِي الوصل والإرسال، فرواه همام موصولاً، وخالفه هشام الدستوائيّ، وحمّاد بن سلمة، فروياه مرسلاً، وهذا لا يضرّ، فإن الموصول يشهد له حديث ابن عبّاس المذكور، وعلى تقدير ترجيح الإرسال عَلَى الوصل، فالمرسل إذا اعتضد بموصول صحيح، لا شكّ أنه يقوى به، فيصحّ.
وخلاصة القول أن حديث عليّ رضي الله عنه هَذَا صحيح. والله تعالى أعلم بالصواب،
= الْحَدِيث منْ طريقه، وَقَدْ عرفت أنه صحيح منْ روايته، ومع هَذَا فلم يعبأ به ابن القطّان، بل أصرّ عَلَى تضعيف أسانيد أبي داود، إن هَذَا لهو العجب العجاب، ولقد أنصف أبو حاتم رحمه الله تعالى حيث صحح الْحَدِيث منْ رواية إبراهيم بن موسى، عن هشام بن يوسف، عن ابن جريج، عن عبد الحميد بن جُبير الخ. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -4/ 5051 - وفي "الكبرى" 5/ 9297. وأخرجه (ت) فِي "الحجّ" 914. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي أقوال أهل العلم فِي حكم حلق المرأة شعرها فِي الحجّ والعمرة:
قَالَ فِي "المغني" 5/ 310 - 311 - : المشروع للمرأة التقصير، دون الحلق، لا خلاف فِي ذلك. قَالَ ابن المنذر رحمه الله تعالى: أجمع عَلَى هَذَا أهل العلم؛ وذلك لأن الحلق فِي حقهن مُثْلة؛ لحديثي عليّ، وابن عبّاس رضي الله عنهم المذكورين آنفاً، قَالَ: وكان أحمد يقول: تُقصِّر منْ كل قرن قدر الأنملة، وهو قول ابن عمر، والشافعي، وإسحاق، وأبي ثور. وَقَالَ أبو داود: سمعت أحمد سُئل عن المرأة تُقصِّر، منْ كل رأسها؟ قَالَ: نعم، تجمع شعرها إلى مقدم رأسها، ثم تأخذ منْ أطراف شعرها، قدر أنملة، والرجل الذي يقصر فِي ذلك كالمرأة. انتهى ما فِي "المغني" بتصرّف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
5 - (النَّهْيُ عَنِ الْقَزَعِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "القزع"-بفتح القاف والزاي، ثم المهملة-: جمع قَزَعَة، وهي القطعة منْ السحاب، وسُمِّي شعر الرأس إذا حُلِق بعضه، وترك بعضه قَزَعاً؛ تشبيها بالسحاب المتفرق. قاله فِي "الفتح" 11/ 558. والله تعالى أعلم بالصواب.
5052 -
(أَخْبَرَنِي عِمْرَانُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الرِّجَالِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "نَهَانِي اللَّهُ عز وجل، عَنِ الْقَزَعِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمران بن يزيد": هو عمران بن خالد بن يزيد بن مسلم القرشيّ، ويقال: الطائيّ الدمشقيّ، نُسب لجدّه، صدوقٌ [10] 18/ 422 منْ أفراد المصنّف. و"عبد الرحمن بن محمد بن أبي الرجال": هو الأنصاريّ المدنيّ،
نزيل الثغور، صدوقٌ، ربما أخطأ [8] 43/ 949.
[تنبيه]: هكذا وقع هَذَا الاسم عند المصنّف عبد الرحمن بن محمد بن أبي الرجال، والظاهر أن لفظة "ابن" زائدة؛ لأن أبا الرجال كنية محمد، لا كنية أبيه، فإنه محمد بن عبد الرحمن بن حارثة الأنصاريّ، أبو الرجال، وهي لقبه، لُقّب بها؛ لأن له عشرة أولاد ذكور، وكنيته أبو عبد الرحمن. انظر "التقريب"، وغيره. والله تعالى أعلم.
و"عمر بن نافع". هو العدويّ، ولد نافع شيخه فِي هَذَا السند، مولى ابن عمر المدنيّ، ثقة [6] 60/ 1770. والله تعالى أعلم.
والحديث بهذا اللفظ منكر؛ لمخالفة عبد الرحمن بن أبي الرجال لعبيد الله بن عمر، وغيره، وإنما الصحيح باللفظ الآتي فِي الْحَدِيث التالي، ويأتي شرحه هناك، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5053 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رضى الله عنهما، قَالَ:"نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الْقَزَعِ".
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: حَدِيثُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ أَوْلَى بِالصَّوَابِ).
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(أحمد بن سليمان) بن عبد الملك، أبو الحسين الرُّهاويّ، ثقة حافظ [11] 38/ 42.
2 -
(أبو داود) عمر بن سعد -بفتح، فسكون- بن عُبيد الْحَفَريّ -بفتحتين- الكوفيّ، ثقة عابد [9] 15/ 523.
3 -
(سفيان) بن سعيد الثوريّ الكوفيّ الثقة الثبت الحجة [7] 33/ 37.
4 -
(عبيد الله بن عمر) بن حفص بن عاصم العمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقة ثبت [5] 15/ 15. والباقيان تقدّما قبل باب. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين منْ عُبيد الله. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رضى الله عنهما) أنه (قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْقَزَعِ) -بفتح القاف والزاي، ثم المهملة-: جمع قزعة، وهي القطعة منْ السحاب، وسُمّي شعر الرأس إذا حُلِق بعضه، وترك بعضه قَزَعاً؛ تشبيها بالسحاب المتفرق. والقَزَع أن يُحلَق رأس الصبي الخ هَذَا التفسير منْ كلام نافع، كما فِي رواية مسلم، قَالَ النوويّ: الأصح أن القزع ما فسره به نافع، وهو حلق بعض رأس الصبي مطلقا، ومنهم منْ قَالَ: هو حلق مواضع متفرقة منه، والصحيح الأول؛ لأنه تفسير الراوي، وهو غير مخالف للظاهر، فوجب العمل به. قَالَ الحافظ: إلا أن تخصيصه بالصبي، ليس قيدا.
قَالَ النوويّ: وأجمع العلماء عَلَى كراهة القزع، إذا كَانَ فِي مواضع متفرقة، إلا أن يكون لمداواة، ونحوها، وهي كراهة تنزيه، وكرهه مالك فِي الجارية والغلام، مطلقا، وَقَالَ بعض أصحابه: لا بأس به فِي القُصَّة، أو القفا للغلام، ومذهبنا كراهته مطلقا، للرجل والمرأة؛ لعموم الْحَدِيث. انتهى. قَالَ الحافظ: حجته ظاهرة؛ لأنه تفسير الراوي. واختُلف فِي علة النهي؛ لكونه يُشوّه الخِلْقةَ، وقيل: زيُّ الشيطان، وقيل: زِيّ اليهود، وَقَدْ جاء هَذَا فِي رواية لأبي داود. انتهى "فتح" 11/ 559 - 560.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أبي داود المشار إليه، تقدّم أنه حديث ضعيف. والله تعالى أعلم.
وقوله: (قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أي النسائيّ رحمه الله تعالى (حَدِيثُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) القطّان الذي سيأتي فِي 58/ 5233 - (وَمُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ) الآتي فِي 58/ 5232 - (أَوْلَى بِالصَّوَابِ) أي أحقّ بأن يكون صواباً منْ هذه الرواية التي خالفهما فيها الثوريّ، فأسقط عمر بن بن نافع بين عبيد الله، ونافع.
وإنما رجّح المصنّف رحمه الله تعالى روايتهما بإثباته عَلَى الإسقاط؛ لأن منْ أثبت عنده زيادة علم؛ ولاسيّما وهم حفّاظ أثبات، كثيرون، وهم يحيى بن سعيد القطّان، ومحمد بن بشر عند المصنّف، وابن جريج عند الشيخين، وابو أسامة، وعبد الله بن نمير عند مسلم، وفيهم منْ سمع عن نافع نفسه، كابن جريج.
والحاصل أن المحفوظ هو ما رواه هؤلاء الحفاظ بذكر عمر بن نافع؛ لما ذكرناه. وسيأتي مزيد بسط فِي هَذَا، فِي المسألة الثالثة، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -3/ 5050 و5/ 5052 و5053 و58/ 530 و531 و532 و533 - وفي "الكبرى" 4/ 9296 و6/ 9298 و9399 و7/ 9300 و9301 و9302 و9303 و9304 و9305 و9306. وأخرجه (خ) فِي "اللباس" 5920 و5921 (م) فِي "اللباس والزينة" 2120 (د) فِي "الترجل" 4193 و4194 و4195 (ق) فِي "اللباس" 3637 و3638 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 4459 و4493 و5153 و5333 و5523 و5525 و5736 و6177 و6258 و6384. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): أخرج الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا فِي "صحيحه"، فَقَالَ:
5920 -
حدثني محمد
(1)
، قَالَ: أخبرني مخلد، قَالَ: أخبرني ابن جريج، قَالَ: أخبرني عبيد الله ابن حفص، أن عمر بن نافع، أخبره عن نافع، مولى عبد الله، أنه سمع ابن عمر، رضي الله عنهما، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينهى عن القزع، قَالَ عبيد الله: قلت: وما القزع، فأشار لنا عبيد الله، قَالَ: إذا حَلَقَ الصبي، وترك هاهنا شعرة، وهاهنا وهاهنا، فأشار لنا عبيد الله إلى ناصيته، وجانبي رأسه، قيل لعبيد الله: فالجارية والغلام؟ قَالَ. لا أدري هكذا قَالَ: الصبي، قَالَ عبيد الله: وعاودته، فَقَالَ: أما القصة، والقفا للغلام فلا بأس بهما، ولكن القزع أن يُترك بناصيته شعر، وليس فِي رأسه غيره وكذلك شق رأسه، هَذَا وهذا.
قَالَ فِي "الفتح": قوله: أخبرني عبيد الله بن حفص": هو عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وهو العمري المشهور، نسبه ابن جريج فِي هذه الرواية إلى جده، وَقَدْ أخرجه أبو قُرَّة فِي "السنن" عن ابن جريج، وأبو عوانة منْ طريقه، فَقَالَ: "عن عبيد الله بن عمر بن حفص"، وعبيد الله بن عمر، وشيخه هنا عمر ابن نافع، والراوي عنه هو ابن جريج أقران، متقاربون فِي السن، واللقاء، والوفاة، واشترك الثلاثة فِي الرواية عن نافع، فقد نزل ابن جريج فِي هَذَا الإسناد درجتين، وفيه دلالة عَلَى قلة تدليسه، وَقَدْ وافق مخلد بن يزيد عَلَى هذه الرواية أبو قرة، موسى بن
(1)
"محمد": هو ابن سلام. و"مخلد": هو ابن يزيد. و"عبيد الله بن حفص": هو عبيد الله بن عمر بن حفص.
طارق، فِي "السنن" عن ابن جريج، وأخرجه أبو عوانة، وابن حبّان فِي "صحيحهما" منْ طريقه، وأخرجه أبو عوانة أيضًا منْ طريق هشام بن سليمان، عن ابن جريج، وكذلك قَالَ حجاج بن محمد، عن ابن جريج، وأخرجه النسائيّ، والإسماعيلي، وأبو عوانة، وأبو نعيم، فِي "المستخرج" منْ طريقه، لكن سقط ذكر عمر بن نافع، منْ رواية النسائيّ
(1)
ومن رواية لأبي عوانة أيضًا، وَقَدْ صرح الدارقطنيّ فِي "العلل" بأن حجاج بن محمد وافق مخلد بن يزيد عَلَى ذكر عمر بن نافع، وأخرجه النسائيّ، منْ رواية سفيان الثوري، عَلَى الاختلاف عليه، فِي إسقاط عمر بن نافع، وإثباته، وَقَالَ إثباته أولى بالصواب، وأخرجه الترمذيّ منْ رواية حماد بن زيد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، لم يذكر عمر بن نافع، وهو مقلوب، وإنما هو عند حماد بن زيد، عن عبد الرحمن السراج، عن نافع، أخرجه مسلم، وَقَدْ أخرجه مسلم، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبّان، وغيرهم، منْ طرق متعددة، عن عبيد الله بن عمر بإثبات عمر بن نافع، وراء سفيان بن عيينة، ومعتمر بن سليمان، ومحمد بن عبيد، عن عبيد الله بن عمر بإسقاطه، وكأنهم سلكوا الجادة؛ لأن عبيد الله بن عمر، معروف بالرواية عن نافع، مكثر عنه، والعمدة عَلَى منْ زاد عمر بن نافع بينهما؛ لأنهم حفاظ، ولاسيما فيهم منْ سمع عن نافع نفسه، كابن جريج. والله أعلم.
وقوله: قَالَ عبيد الله: قلت: وما القزع؟ هو موصول بالإسناد المذكور، وظاهره أن المسئول هو عمر بن نافع، لكن بيَّن مسلم أن عبيد الله، إنما سأل نافعا، وذلك أنه أخرجه منْ طريق يحيى القطّان، عن عبيد الله بن عمر، أخبرني عمر بن نافع، عن أبيه، فذكر الْحَدِيث، قَالَ: قلت لنافع: وما القزع؟ فذكر الجواب، وأشار لنا عبيد الله قَالَ: إذا حلق الصبي، وترك هاهنا شعرة، وهاهنا وهاهنا، فأشار لنا عبيد الله إلى ناصيته، وجانبي رأسه، المجيب بقوله: قَالَ: إذا حلق هو نافع، وهو ظاهر سياق مسلم، منْ طريق يحيى القطّان المذكورة لفظه، قَالَ: يحلق بعض رأس الصبي، ويترك بعضا.
وقوله: "فالجارية والغلام": كَانَ السائل فَهِم التخصيص بالصبي الصغير، فسأل عن الجارية الأنثى وعن الغلام، والمراد به غالبا المراهق.
وقوله: قَالَ عبيد الله: وعاودته، هو موصول بالسند المذكور، كأن عبيد الله لَمّا أجاب السائل بقوله: لا أدري، أعاد سؤال شيخه عنه، وهذا يشعر بأنه حدث عنه به فِي حال حياته، وَقَدْ أخرج مسلم الْحَدِيث منْ طريق أبي اسامة، عن عبيد الله بن عمر،
(1)
يعني الْحَدِيث المذكور هنا.
قَالَ: وجعل التفسير منْ قول عبيد الله بن عمر، ثم أخرجه منْ طريق عثمان الغطفاني، ورَوْح بن القاسم، كلاهما عن عمر بن نافع، قَالَ: وألحقا التفسير فِي الْحَدِيث -يعني أدرجاه- ولم يسق مسلم لفظه، وَقَدْ أخرجه أحمد عن عثمان الغطفاني، ولفظه: نَهَى عن القزع، والقزع أن يحلق، فذكر التفسير مدرجًا، وأخرجه أبو داود، عن أحمد، وأما رواية روح بن القاسم، فأخرجها مسلم، وأبو نعيم فِي "المستخرج"، وَقَدْ أخرجه مسلم، منْ طريق عبد الرحمن السراج، عن نافع، ولم يسق لفظه، وأخرجه أبو نعيم فِي "المستخرج"، منْ هَذَا الوجه، فحذف التفسير، وأخرجه مسلم أيضًا، منْ طريق معمر، عن أيوب، عن نافع، ولم يسق لفظه، وهو عند عبد الرزاق فِي "مصنفه"، عن معمر، وأخرجه أبو داود، والنسائي، وفي سياقه ما يدلّ عَلَى مستند منْ رفع تفسير القزع، ولفظه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، رأى صبيا قد حلق بعض رأسه، وترك بعضه، فنهاهم عن ذلك، فَقَالَ:"احلقوا كله، أو ذروا كله".
وقوله: "أما القصة، والقفا للغلام، فلا بأس بهما": القصة -بضم القاف، ثم المهملة- والمراد بها هنا شعر الصدغين، والمراد بالقفا شعر القفا، والحاصل منه أن القزع، مخصوص بشعر الرأس، وليس شعر الصدغين، والقفا منْ الرأس، وأخرج بن أبي شيبة، منْ طريق إبراهيم النخعي، قَالَ: لا بأس بالقصة، وسنده صحيح، وَقَدْ تُطلق القصة عَلَى الشعر المجتمع الذي، يوضع عَلَى الأذن منْ غير أن يوصل شعر الرأس، وليس هو المراد هنا.
وأما ما أخرجه أبو داود، منْ طريق حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قَالَ: نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن القزع، وهو أن يُحلق رأس الصبي، ويتخذ له ذؤابة، فما أعرف الذي فسر القزع بذلك، فقد أخرج أبو داود عقب هَذَا، منْ حديث أنس رضي الله عنه، فقالت أمي: لا أَجُزُّها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كَانَ يمُدُّها، ويأخذ بها، وأخرج النسائيّ بسند صحيح -10/ 5067 - عن زياد بن حصين، عن أبيه، أنه أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فوضع يده عَلَى ذؤابته، وسمت عليه، ودعا له، ومن حديث ابن مسعود -10/ 5065 - وأصله فِي "الصحيحين" قَالَ قرأت منْ فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبعين سورة، وإن زيد بن ثابت لَمَعَ الغلمان، له ذؤابتان.
ويمكن الجمع بأن الذؤابة الجائز اتخاذها، ما يفرد منْ الشعر، فيرسل، ويجمع ما عداها بالضفر، وغيره، والتي تمنع أن يحلق الرأس كله، ويترك ما فِي وسطه، فيتخذ ذؤابة، وَقَدْ صرح الخطّابيّ بأن هَذَا مما يدخل فِي معنى القزع. والله أعلم. انتهى ما فِي "الفتح" 11/ 558 - 560.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وإنما نقلت رواية البخاريّ مع شرحها؛ لكثرة فوائدها الإسناديّة والمتنيّة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
6 - (الأَخْذِ مِنَ الشَّعْرِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا وقع فِي بعض نسخ "المجتبى" بلفظ "الشعر"، وهو الذي فِي "الكبرى"، وهو الصواب، ووقع فِي بعض النسخ بلفظ "الشارب"، والظاهر أنه تصحيف. والله تعالى أعلم بالصواب.
5054 -
(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، أَخُو قَبِيصَةَ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَلِي شَعْرٌ، فَقَالَ: "ذُبَابٌ"، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْنِينِي، فَأَخَذْتُ مِنْ شَعْرِي، ثُمَّ أَتَيْتُهُ، فَقَالَ لِي: "لَمْ أَعْنِكَ، وَهَذَا أَحْسَنُ").
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(محمود بن غيلان) العدويّ مولاهم، أبو أحمد المروزيّ، نزيل بغداد، ثقة [10] 33/ 37.
2 -
(سفيان) بن عُقبة السُّوائي الكوفيّ، أخو قَبِيصة، صدوقٌ [9].
روى عن الثوري، والجرّاح بن مَلِيح، وحسين المعلم، وحمزة الزيات، ومِسْعَر، وسعد بن أوس الكاتب. وعنه ابن أخيه عقبة بن قبيصة بن عقبة، وعلي بن المديني، وابنا أبي شيبة، وأبو كريب، ومحمود بن غيلان، وأبو يحيى الْحِمّاني، وأبو البختري، عبد الله بن محمد بن شاكر، وغيرهم.
قَالَ عثمان الدارمي، عن ابن معين: لا بأس به. وكذا قَالَ ابن نمير، وابن عدي. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وفي "سؤالات عثمان الدارمي"، عن ابن معين: سألت يحيى عنه؟ فَقَالَ: لا أعرفه، وكذا نقله ابن أبي حاتم فِي "الجرح والتعديل"، وابن عدي فِي "الكامل" عن عثمان: زاد ابن عدي: يعني أنه لم يَرَهُ، ولم يكتب عنه، فلم يَخْبُر أمره. انتهى. وَقَالَ العجليّ: كوفيّ ثقة. روى له مسلم فِي "المقدّمة"، والأربعة، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.
3 -
(معاوية بن هشام) أبو الحسن القصّار الكوفيّ، صدوقٌ، له أوهام، منْ صغار [9] 39/ 1704.
4 -
(سفيان) الثوريّ المذكور فِي الباب الماضى.
5 -
(عاصم بن كُليب) الْجَرْميّ الكوفيّ، صدوقٌ، رُمي بالإرجاء [5] 11/ 889.
6 -
(أبوه) كُليب بن شهاب الكوفيّ، صدوقٌ [2] 11/ 889 ووهم منْ ذكره فِي الصحابة.
7 -
(وائل بن حُجر) -بضم المهملة، وسكون الجيم- ابن سعد بن مسروق الحضرميّ الصحابيّ الجليل، وكان منْ ملوك اليمن، ثم سكن الكوفة، ومات فِي ولاية معاوية رضي الله تعالى عنهما، وتقدّمت ترجمته فِي 4/ 879. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَلِي شَعْرٌ) أي طويلٌ، ففي رواية أبي داود:"أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولي شعرٌ طويل"(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (ذُبَابٌ) وفي رواية أبي داود: "فلمّا رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "ذبابٌ ذبابٌ". بذال معجمة، مضمومة، وموحّدتين: قَالَ الخطّابيّ: الذباب الشؤم. وقيل فِي "المجمع": الشرّ الدائم: أي هَذَا شؤم، أو شرّ دائم. انتهى. وفي "النهاية": الذباب هو الشؤم، أي هَذَا مشؤم، وقيل: هو الشرّ الدائم، يقال: أصابك ذبابٌ منْ هذا الأمر. انتهى (فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْنِينِي) أي يقصدني بهذا الكلام (فَأَخَذْتُ مِنْ شَعْرِي) أي بعضه، فـ"منْ" تبعيضيّة. وفي رواية أبي داود: "فرجعت، فجززته" (ثُمَّ أتَيْتُهُ) صلى الله عليه وسلم زاد فِي رواية أبي داود:"منْ الغد"(فَقَالَ لِي: "لَمْ أَعْنِكَ) أي لم أقصدك بقولي: "ذباب"، وإنما قصدت أمراً آخر (وَهَذَا أَحْسَنُ) أي هَذَا الذي فعلته، منْ أخذ ما طال شعرك أحسن منْ تركه طويلاً، يعني أنه أخطأ فِي الفهم، وأصاب فِي الفعل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث وائل بن حُجر رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -6/ 5054 و11/ 5068 - وفي "الكبرى" 8/ 9307. وأخرجه (د) فِي "الترجّل" 4190 (ق) فِي "اللباس" 3636. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز الأخذ منْ الشعر. (ومنها): ما كَانَ عليه الصحابة رضي الله عنهم منْ المبادرة لامتثال أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن وائلاً رضي الله عنه لَمّا سمع قوله صلى الله عليه وسلم:"ذباب" ظنّ أنه المقصود بهذا الذمّ، فبادر إلى إزالة ما ظنه منكرًا، فوافق أن كَانَ فعله مما يسحسنه الشارع. (ومنها): أنه لا ينبغي تطويل الشعر حَتَّى يخرج عن حدّ العدالة، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم استحسن جزّ وائل ما طال منْ شعره، وكان هو صلى الله عليه وسلم إذا طال شعره وصل إلى منكبه، فينبغي الاقتداء به صلى الله عليه وسلم فِي ذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5055 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ شَعْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، شَعْرًا رَجِلاً، لَيْسَ بِالْجَعْدِ، وَلَا بِالسَّبْطِ، بَيْنَ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(محمد بن المثنّى) الْعَنَزيّ، أبو موسى البصريّ، ثقة حافظ [10] 64/ 80.
2 -
(وهب بن جرير) بن حازم الأزديّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقة [9] 196/ 1178.
3 -
(أبو وهب) هو: جرير بن حازم بن زيد بن عبد الله الأزديّ، أبو النضر البصريّ، ثقة، لكن فِي حديثه عن قتادة ضعف، وله أوهام إذا حدّث منْ حفظه [6] 82/ 1014.
4 -
(قتادة) بن دِعامة المذكور قبل باب.
5 -
(أنس) بن مالك رضي الله تعالى عنه 6/ 6. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين. (ومنها): أن فيه أنساً رضي الله تعالى عنه منْ المكثرين السبعة، روى (2286) حديثاً، وهو آخر منْ مات منْ الصحابة رضي الله تعالى عنهم بالبصرة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَنَس) بن مالك رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: كَانَ شَعْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية البخاريّ: عن قتادة قَالَ: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: كَانَ شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم الْحَدِيث (شَعْراً رَجِلاً) بفتح الراء، وكسر الجيم، ومنهم منْ يُسكّنها، وَقَدْ تُضمّ، وتفتح: أي فيه تكسّر يسير، يقال: رجل شعره: إذا مشطه، فكان بين السُّبُوطة والْجُعُودة، وَقَدْ فسّره الراوي كذلك فِي بقيّة الْحَدِيث، حيث قَالَ (لَيْسَ بِالْجَعْدِ) بفتح الجيم، وسكون المهملة، وبكسرها، يقال: جعُد الشعر بضم العين، وكسرها جُعُودةً: إذا كَانَ فيه الْتِوَاء، وتقبّض، فهو جَعْدٌ، وذلك خلاف المسترسل. قاله الفيّوميّ. وفي رواية للبخاريّ:"ليس بالجعد القَطَط" بفتح الطاء: هو البالغ فِي الجعودة، بحيث يتفلفل (وَلَا بِالسَّبْطِ) بفتح السين المهملة، وكسر الموحّدة: ضد الجعودة، وَقَالَ الفيّوميّ: سبِط الشعر سَبَطًا، منْ باب تعِب، فهو سَبِطٌ بكسر الباء، وربّما قيل: سَبِطٌ بالفتح، وصفٌ بالمصدر: إذا كَانَ مُسترسلاً، وسبُط سُبُوطةً، فهو سَبْطٌ، مثلُ سَهُلَ سُهُولَةً، فهو سهل لغةٌ فيه. انتهى. وَقَالَ فِي "الفتح" 7/ 264 فِي "المناقب": الجعودة فِي الشعر أن لا يتكسّر، ولا يسترسل، والسبُوطة ضدّه، فكأنه أراد أنه وسطٌ بينهما. انتهى. وَقَالَ فِي موضع آخر 11/ 550 فِي "اللباس": أي أن شعره صلى الله عليه وسلم كَانَ بين الجعودة، والسبوطة، والشعر الجعد: هو الذي يتجعّد، كشعور السودان، والسبط: هو الذي يسترسل، فلا يتكسّر منه شيء، كشعور الهنود. والْقَطَط: هو البالغ فِي الجعودة بحيت يتفلفل. انتهى. وقوله: (بَيْنَ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ) وفي رواية همّام، عن قتادة:"كَانَ يضرب شعر رأس النبيّ صلى الله عليه وسلم منكبيه". وفي رواية عند البخاريّ: "يضرب شعره منكبيه". وَقَدْ أخرج مسلم، وأبو داود منْ رواية إسماعيل ابن علية، عن حميد، عن أنس رضي الله عنه:"كَانَ شعر النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أنصاف أذنيه". ووقع عند أبي داود، وابن ماجه، وصححه الترمذيّ، منْ طريق أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها:"كَانَ شعر النبيّ صلى الله عليه وسلم فوق الوفرة، ودون الجُمّة"، لفظ أبي داود، ولفظ ابن ماجه بنحوه، ولفظ الترمذيّ عكسه:"فوق الجمة، ودون الوفرة". وجمع العراقيّ فِي "شرح الترمذيّ" بأن المراد بقوله: "فوق"، و"دون" بالنسبة إلى المحلّ، وتارة بالنسبة إلى الكثرة والقلّة، فقوله:"فوق الجمة": أي أرفع فِي المحلّ. وقوله: "دون الجمة": أي فِي القدر، وكذا بالعكس. قَالَ الحافظ: وهو جمع جيّدٌ، لولا أن مخرج الْحَدِيث متّحد. انتهى.
وفي حديث البراء رضي الله عنه الآتي 9/ 5062 - : "وجُمّته تضرب منكبيه"، وفي 9/
5064 -
"إن لِمّته لتضرب قريباً منْ منكبيه" وفي رواية البخاريّ بلفظ: "إن جُمّته لتضرب الخ". وفي رواية: "شعره يبلغ شحمة أذنيه". والجمّة -بضمّ الجيم، وتشديد الميم: شعر الرأس إذا نزل إلى قرب المنكبين. قَالَ الجوهريّ فِي حرف الواو: والوفرة: الشعر إلى شحمة الأذن، ثمّ الجمّة، ثم اللِّمّة، إذا ألمّت بالمنكبين، وَقَدْ خالف هَذَا فِي حرف الجيم، فَقَالَ: إذا بلغت المنكبين، فهي جمّة، واللمة إذا جاوزت شحمة الأذن. قَالَ الحافظ العراقيّ فِي "شرح الترمذيّ": كلام الجوهريّ الثاني هو الموافق لكلام أهل اللغة. وجمع ابن بطّال بين اللفظين المختلفين فِي الْحَدِيث بأن ذلك إخبار عن وقتين، فكان إذا غفل عن تقصيره، بلغ قريب المنكبين، وإذا قصّه لم يُجاوز الأذنين. وجمع غيره بأن الثاني كَانَ إذا اعتمر يقصر، والأول فِي غير تلك الحالة. قَالَ الحافظ: وفيه بعد. ثم هَذَا الجمع إنما يصلح لو اختلفت الأحاديث، وأما هنا فاللفظان وردا فِي حديث واحد، متّحد المخرج، وهما منْ رواية أبي إسحاق، عن البراء، فالأولى فِي الجمع بينهما الحمل عَلَى المقاربة. انتهى.
وَقَالَ فِي "الفتح" أيضًا 11/ 553 فِي "اللباس": وما دلّ عليه الْحَدِيث منْ كون شعر النبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إلى قرب منكبيه كَانَ غالب أحواله، وكان ربّما طال، حَتَّى يصير ذؤابة، ويتّخذ منه عقائص، وضفائر، كما أخرج أبو داود، والترمذيّ بسند حسن، منْ حديث أم هانىء رضي الله تعالى عنها، قالت:"قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وله أربع غدائر"، وفي لفظ:"أربع ضفائر"، وفي رواية ابن ماجه:"أربع غدائر -يعني ضفائر"، والغدائر -بالغين المعجمة- جمع غَديرة بوزن عظيمة، والضفائر بوزنه، فالغدائر هي الذوائب، والضفائر هي العقائص.
فحاصل الخبر أن شعره صلى الله عليه وسلم طال، حَتَّى صار ذوائب، فضفره أربع عقائص، وهذا محمول عَلَى الحال التي يبعد عهده بتعهّد شعره فيها، وهي حالة الشغل بالسفر، ونحوه. والله أعلم. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أنس رضي الله تعالى عنه متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -6/ 5055 و9/ 5061 و59/ 5236 و5237 - وفي "الكبرى" 8/ 9308 و13/ 9323 و9324. وأخرجه (خ) فِي "المناقب" 3547 و3548 و"اللباس" 5900
و5903 و5904 و5906 (م) فِي "الفضائل" 2338 و2347 (د) فِي "الترجّل" 4185 و4186 (ت) فِي "اللباس" 1754 و"المناقب" 3623 و (ق) فِي "اللباس" 3634 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 11856 و11974 و12693 و13107 و13152 و13429 (الموطأ) فِي "الجامع"1707. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز الأخذ منْ الشعر. (ومنها): أن إطالة الشعر حَتَّى يكون جمّةً، أو لِمّةً منْ هديه صلى الله عليه وسلم. (ومنها): أن فيه بيان أن شعر الرأس يخالف شعر اللحية، حيث جاز تقصيره، بخلاف اللحية، فقد أمر صلى الله عليه وسلم بتوفيرها، وعدم التعرّض لها. (ومنها): بيان ما كَانَ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ جمال الخِلقة، فإن هَذَا النوع منْ الشعر هو المحمود عند النَّاس، فإن كلاًّ منْ الجعودة، والسبوطة البحتين غير محمود، وإنما المحمود هو الوسط بينهما، كما كَانَ عليه شعر النبيّ صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5056 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ دَاوُدَ الأَوْدِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيِّ، قَالَ: لَقِيتُ رَجُلاً صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَمَا صَحِبَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَرْبَعَ سِنِينَ، قَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يَمْتَشِطَ أَحَدُنَا كُلَّ يَوْمٍ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو عوانة": هو الوضاح بن عبد الله اليشكريّ. و"داود الأوديّ": هو داود بن عبد الله الزَّعافريّ، أبو العلاء الكوفيّ، ثقة [6] 147/ 238.
وقوله: "رجلاً صحب النبيّ صلى الله عليه وسلم": لم يُعرف اسمه، وقيل: هو الحكم بن عمرو الغفاريّ. وقيل: عبد الله بن سرجِس. وقيل: عبد الله بن مغفّل.
وقوله: "أن يمتشط أحدنا" فِي تأويل المصدر مجرور بـ"عن" محذوفة؛ قياساً لكونها مع "أن": أي نهانا عن امتشاط أحدنا كلّ يوم. والامتشاط: تسريح الشعر بالمشط لتحسينه.
والحديث صحيح، وَقَدْ تقدّم فِي "الطهارة" 147/ 238 وَقَدْ استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
[تنبيه]: مناسبة هَذَا الْحَدِيث للترجمة فيه بعد، اللَّهمّ إلا إذا أراد الإشارة إلى أنه وإن كَانَ الأخذ منْ الشعر جائزاً، إلا أنه لا ينبغي أن يُفعل كلّ يوم، وفيه نظرٌ لا يخفى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
***
7 - (التَّرَجُّلِ غِبًّا)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الترجّل": مصدر ترجّلت: إذا سرّحت شعرك، قَالَ الفيّوميّ: رجّلتُ الشعر ترجيلاً: سرّحته، سواء كَانَ شعرك، أو شعر غيرك، وترجّلْتُ: إذا كَانَ شعر نفسك. انتهى.
و"الغِبّ" -بكسر الغين المعجمة، وتشديد الموحّدة- يقال: غَبَبْتُ عن القوم أغُبُّ، منْ باب قتل غِبًّا بالكسر: أتيتهم يومًا بعد يوم، ومنه حُمَّى الْغِبّ، يقال: غَبّت عليه تغُبُّ: إذا أتت يومًا، وتركت يومًا، وغَبّت الماشية تَغِبّ، منْ باب ضرب غِبّا أيضًا، وغُبُوباً: إذا شربت يومًا، وظَمِئَتْ، وأغبّها صاحبها بالألف: إذا ترك سقيها يوما، وليلتين. وغبّ الطعام يغِبّ غِبّاً: إذا بات ليلةً، سواء فسد، أم لا. وللأمر غِبٌّ بالكسر، ومَغَبَّةٌ: أي عاقبةٌ. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.
5057 -
(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ التَّرَجُّلِ إِلاَّ غِبًّا").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(عليّ بن حُجر) السعديّ المروزيّ، ثقة حافظ، منْ صغار [91] 13/ 13.
[تنبيه]: جميع نسخ "المجتبى"، و"الكبرى" التي عندي كلها وقع فيها "عليّ بن حجر"، والذي ذكره الحافظ المزي فِي "تحفة الأشراف" هو "عليّ بن خشرم"، لكنه أشار إلى الاختلاف، حيث قَالَ: قَالَ أبو القاسم: وفي كتابي "عن عليّ بن حجر"، بدل "ابن خشرم"، والظاهر أن "ابن خشرم" تصحيف. والله تعالى أعلم.
2 -
(عيسى بن يونس) بن أبي إسحاق السبيعيّ الكوفيّ، نزل الشام مرابطاً، ثقة مأمون [8] 8/ 8.
3 -
(هشام بن حسّان) الأزديّ الْقُرْدُوسيّ البصريّ، ثقة، منْ أثبت النَّاس فِي ابن سيرين، وفي روايته عن الحسن وعطاء مقال؛ لأنه قيل: كَانَ يرسل عنهما [6] 188/ 300.
4 -
(الحسن) بن أبي الحسن يسار البصريّ، ثقة فقيه فاضل يرسل كثيرًا ويدلّس [3] 32/ 36.
5 -
(عبد الله بن مغفّل) -بتشديد الفاء، بصيغة اسم المفعول- ابن عُبيد بن نَهْم، أبي عبد الرحمن المزنيّ الصحابيّ، بايع تحت الشجرة، ونزل البصرة، ومات رضي الله عنه سنة
(57)
وقيل: بعد ذلك، تقدّمت ترجمته فِي 32/ 36. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فمروزيّ، وعيسى، فكوفيّ. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ:"نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ التَّرَجُّلِ) أي تسريح الشعر، وتنظيفه، وتحسينه، كذا فِي "النهاية"، وفي "القاموس": التسريح: حَلُّ الشعر، وإرساله، وهو إنما يكون بإصلاحها بالامتشاط، ولذلك يُفسّرون الترجيل بالامتشاط، ثم الغالب استعمال الترجيل فِي الرأس، والتسريح فِي اللحية. (إِلَّا غِبًّا) بكسر الغين المعجمة، وتشديد الباء الموحّدة-: أن يُفعل يومًا، ويُترك يومًا، والمراد كراهة المداومة عليه، وخُصوصيّة الفعل يومًا، والترك يومًا غير مراد. قاله السنديّ.
وَقَالَ فِي "عون المعبود": قَالَ فِي "النهاية": يقال: غَبَّ الرجلُ: إذا جاء زائرا بعد أيام. وَقَالَ الحسن: أي فِي كل أسبوع مرة. انتهى. وفسره الإمام أحمد بأن يُسَرِّحه يوما، وَيَدَعَه يوما، وتبعه غيره. وقيل: المراد به فِي وقت دون وقت، وأصل الغِبِّ فِي إيراد الإبل، أن ترد الماءّ يوما، وتدعه يوما. وفي "القاموس": الغِبُّ فِي الزيارة أن تكون كل أسبوع، ومن الْحُمَّى ما تأخذ يوما، وتدع يوما. وَقَالَ العلقمي: قَالَ عبد الغافر الفارسي فِي "مجمع الغرائب": أراد الامتشاط، وتعهد الشعر، وتربيته، كأنه كره المداومة. وَقَالَ ابن رسلان: ترجيل الشعر مشطه، وتسريحه.
وَقَالَ المناوي فِي "فيض القدير": نهى عن الترجل: أي التمشط: أي تسريح الشعر، فيكره؛ لأنه منْ زي العجم، وأهل الدنيا. وقوله:"إلا غبا": أي يوما بعد يوم، فلا يكره، بل يسن، فالمراد النهي عن المواظبة عليه، والاهتمام به؛ لأنه مبالغة فِي التزيين، وأما خبر النسائيّ، عن أبي قتادة رضي الله عنه:"أنه كانت له جُمّة، فأمره أن يُحسن إليها، وأن يترجل كل يوم"، فيُحمل عَلَى أنه كَانَ محتاجا لذلك؛ لغزارة شعره، أو هو لبيان الجواز. انتهى. والحديث الذي أشار إليه، سيأتي للمصنّف 60/ 5238 بلفظ: "عن أبي قتادة أنه كانت له جمة ضخمة، فسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يحسن إليها، وأن يترجل كل يوم. ورجال إسناده كلهم رجال الصحيح، لكنه معلول، وسيأتي الكلام عليه
هناك، إن شاء الله تعالى. وأخرجه أيضًا مالك فِي "الموطإ"، ولفظه: عن أبي قتادة، قَالَ: قلت: يا رسول الله، إن لي جمة، أفأرجلها؟ قَالَ:"نعم، وأكرمها"، فكان أبو قتادة ربما دهنها فِي اليوم مرتين، منْ أجل قوله صلى الله عليه وسلم:"نعم، وأكرمها". انتهى.
وسيجيء الجمع بين حديث ابن مغفل وأبي قتادة رضي الله تعالى عنهما فِي كلام المنذري رحمه الله تعالى.
وَقَالَ الحافظ وليّ الدين العراقي رحمه الله تعالى: ولا فرق فِي النهي عن التسريح كل يوم، بين الرأس واللحية، وأما حديث أنه كَانَ يُسَرِّح لحيته كل يوم مرتين، فلم أقف عليه بإسناد، ولم أراه إلا فِي "الإحياء"، ولا يخفى ما فيها منْ الاحاديث التي لا أصل لها، ولا فرق بين الرجل والمرأة، لكن الكراهة فيها أخف؛ لأن باب التزيين فِي حقهن، أوسع منه فِي حق الرجال، ومع هَذَا فترك الترفه، والتنعم لهن أولى، كذا فِي "شرح المناوي". أفاده فِي "عون المعبود" 11/ 144 - 145. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عبد الله بن مغفّل رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح.
[تنبيه]: قَالَ المنذري رحمه الله تعالى: وأخرجه الترمذيّ، والنسائي، وَقَالَ الترمذيّ: حسن صحيح، وأخرجه النسائي أيضًا مرسلا، وأخرجه عن الحسن البصريّ، ومحمد بن سيرين قولهما. وَقَالَ أبو الوليد الباجي: وهذا الْحَدِيث، وإن كَانَ رواته ثقات، إلا أنه لا يثبت، وأحاديث الحسن، عن عبد الله بن مغفل، فيها نظر. هَذَا آخر كلامه. وفيما قاله نظر، وَقَدْ قَالَ الإمام أحمد، ويحيى بن معين، وأبو حاتم الرازي: إن الحسن سمع منْ عبد الله بن مغفل، وَقَدْ صحح الترمذيّ حديثه عنه، كما ذكرنا، غير أن الْحَدِيث فِي إسناده اضطراب. انتهى كلام المنذريّ رحمه الله تعالى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: أشار بالاضطراب إلى روايات المصنّف فِي هَذَا الباب، حيث رواه منْ طريق هشام بن حسّان موصولاً مرفوعًا، ورواه منْ طريق حماد ابن سلمة، عن قتادة، عن الحسن، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مرسلاً، ورواه منْ طريق يونس بن عُبيد، عن الحسن، وابن سيرين قولهما.
لكن الموصول هو الأرجح هنا؛ لأن له شاهدًا صحيحًا، وهو الْحَدِيث الآتي فِي آخر هَذَا الباب عن رجل منْ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"كَانَ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ينهانا عن الإرفاه، قلنا: وما الإرفاه؟ قَالَ: الترجّل كلّ يوم". وذكر له الشيخ الألبانيّ شاهدًا آخر منْ
حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أخرجه العقيلي، لكنه قَالَ: محمد بن موسى لا يتابع عليه، فالظاهر ضعفه.
والحاصل أن الْحَدِيث مرفوعًا صحيح؛ لما ذُكر آنفاً. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -7/ 5057 و5059 و5060 - وفي "الكبرى" 11/ 9315 و9316 و9317. وأخرجه (د) فِي "الترجّل" 4159 (ت) فِي "اللباس" 1756. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان استحباب الترجّل يوماً بعد يوم. (ومنها): أنه يدلّ عَلَى كراهة الاشتغال بالترجيل، فِي كل يوم؛ لأنه نوع منْ التَّرَفُّه، وَقَدْ ثبت النهى عن كثير منْ الإرفاه فِي الْحَدِيث الآتي بعد حديثين. (ومنها): أن فيه استحباب تنظيف الشعر، منْ القمل، والدرن ونحوهما؛ لإزالة التفث؛ ولِما رَوَى الترمذيّ عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كَانَ يكثر دهن رأسه، وتسريح لحيته. ذكره فِي الشمائل، وإسناده ضعيف، لكن له شاهد يتقوّى به منْ حديث سهل بن سعد الساعديّ رضي الله عنه، أورده الشيخ الألباني فِي "السلسلة الصحيحة" 2/ 351 رقم 720، وعزاه إلى ابن الأعرابيّ فِي "المعجم"، وذكر إسناده، وَقَالَ: هَذَا إسناد حسن، ولفظه:"كَانَ يكثر دهن رأسه، ويسرّح لحيته بالماء".
وبهذا يتبيّن أن حديث أنس رضي الله عنه عند الترمذيّ حسن؛ لهذا الشاهد، فتأمّل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5058 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنِ التَّرَجُّلِ إِلاَّ غِبًّا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"أبو داود": هو سليمان بن داود الطيالسيّ البصريّ الحافظ.
والحديث مرسل صحيح بما قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5059 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، وَمُحَمَّدٍ، قَالَا: "التَّرَجُّلُ غِبٌّ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"بشر": هو ابن المفضّل. و"يونس": هو ابن عُبيد. و"محمد": هو ابن سيرين. والحديث
مقطوع صحيح. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5060 -
(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ كَهْمَسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَامِلاً بِمِصْرَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَإِذَا هُوَ شَعِثُ الرَّأْسِ، مُشْعَانٌّ، قَالَ: مَا لِي أَرَاكَ مُشْعَانًّا، وَأَنْتَ أَمِيرٌ؟ قَالَ: كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَنْهَانَا عَنِ الإِرْفَاهِ، قُلْنَا: وَمَا الإِرْفَاهُ؟ قَالَ: التَّرَجُّلُ كُلَّ يَوْمٍ).
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(إسماعيل بن مسعود) الْجَحْدريّ البصريّ، ثقة [10] 42/ 47 منْ أفراد المصنّف.
2 -
(خالد بن الحارث) الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.
3 -
(كهمس) بن الحسن التميميّ، أبو الحسن البصريّ، ثقة [5] 39/ 2579.
4 -
(عبد الله بن شقيق) الْعُقَيليّ البصريّ، ثقة فيه نَصْبٌ [3] 17/ 1544.
5 -
(رجل منْ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم) لم يُسمّ، ولكن لا تضرّ جهالة الصحابة؛ لأنهم عدول بإجماع منْ يُعتدّ بإجماعه، كما قَالَ السيوطيّ فِي "ألفية الْحَدِيث":
وَهُمْ عُدُولٌ كُلُّهُمْ لَا يَشْتَبِهْ
…
النَّوَوِي أَجْمَعَ مْنْ يُعْتَدُّ بِه
والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فمن أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ) الْعُقيليّ، أنه (قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَامِلاً بِمِصْرَ) أي والياً عَلَى المدينة المعروفة، وفي رواية أبي داود منْ طريق الجُريريّ، عن عبد الله بن بُريدة أن رجلاً منْ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم رحل إلى فضالة بن عُبيد، وهو بمصر، فقدِمَ عليه، فَقَالَ: أما إني لم آتك زائراً، ولكنّي سمعت أنا، وأنت حديثًا منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجوت أن يكون عندك منه علم، قَالَ: ما هو؟ قَالَ: كذا وكذا، قَالَ: وما لي أراك شَعِثاً، وأنت أمير الأرض
…
الْحَدِيث (فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ) أي منْ
أصحاب ذلك الصحابيّ، وَقَدْ سبق آنفاً منْ رواية أبي داود أنه صحابيّ أيضًا (فَإِذَا) هي الفجائية (هُوَ شَعِثُ الرَّأْسِ) بفتح، فكسر: أي متفرّق الشعر، يعني أنه غير مترجّل الرأس، ولا مسرّح اللحية (مُشْعَانٌّ) بضمّ الميم، وسكون الشين المعجمة، وعين مهملة، وآخره نون مشدّدة، وهو المنتفش الشعر، الثائر الرأس، يقال: رجل مُشْعانّ، ومُشْعانّ الرأس، وشعرٌ مُشْعانٌّ، والميم زائدة. قاله فِي "النهاية" 2/ 482 (قَالَ: مَا لِي أَرَاكَ مُشْعَانًّا، وَأَنْتَ أَمِيرٌ؟) وفي رواية أحمد:"وأنت أمير البلد"، وفي رواية أبي داود:"وأنت أمير الأرض"(قَالَ: كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَانَا عَنِ الإِرْفَاهِ) ولأبي داود: "عن كثير منْ الإرفاه" بكسر الهمزة عَلَى المصدر: بمعنى التنعّم، أصله منْ الرفه، وهو أن ترد الإبل الماء، متى شاءت، ومنه أُخذت الرفاهية، وهي السعة والدعة، والتنعّم، كره النبيّ صلى الله عليه وسلم الإفراط فِي التنعّم منْ التدهين والترجيل عَلَى ما هو عادة الأعاجم، وأمر بالقصد فِي ذلك، وليس فِي معناه الطهارة، والنظافة؛ فإن النظافة منْ الدين. قَالَ الحافظ: القيد بالكثير إشارة إلى أن التوسّط المعتدل منْ الإرفاه لا يذمّ، وبذلك يُجمع بين الأخبار. انتهى. (قُلْنَا: وَمَا الإِرْفَاهُ؟ قَالَ: التَّرَجُّلُ) أي تسريح الشعر، وتنظيفه (كُلَّ يَوْمٍ) والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث رجل منْ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -7/ 5060 و62/ 5241 - وفي "الكبرى" 11/ 9318 و9319. وأخرجه (د) فِي "الترجّل" 4160 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 23449. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
***
8 - (التَّيَامُنِ فِي التَّرَجُّلِ)
5061 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُحِبُّ التَّيَامُنَ، يَأْخُذُ بِيَمِينِهِ، وَيُعْطِي بِيَمِينِهِ، وَيُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن معمر": هو القيسيّ البحرانيّ البصريّ، أحد مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة. و"أبو عاصم": هو الضحّاك بن مخلد النبيل.
و"محمد بن بشر" بن بَشير -بفتح أوله- ابن معبد الأسلميّ الكوفيّ، ولجدّه بشير صحبة، صدوقٌ [7].
روى عن أبيه، وأشعث بن أبي الشعثاء، وإياس بن سلمة بن الأكوع، وعبد العزيز ابن حكيم الحضرميّ، ومحمد بن عامر، وزياد بن عِلاقة. وروى عنه ابن المبارك، وطلق بن غَنّام، وأبو أحمد الزُّبيريّ، وأبو عاصم. ذكره ابن حبّان فِي "الثقات". تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.
وقوله: "يحبّ التيامن": أي استعمال اليمين فِي الأشياء التي يليق أن تزاول باليمين. وقوله: "ويحب التيمّن فِي جميع أموره": أي البداءة باليمين فِي أموره اللائقة بذلك، ومنها الترجّل الذي ترجم له المصنّف هنا.
والحديث متَّفقٌ عليه، منْ رواية شعبة، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن أبيه، عن مسروق، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وتقدّم فِي "الطهارة " 90/ 112 ومضى شرحه، وبيان مسائله هناك.
قَالَ فِي "الكبرى" -بعد أن خرجه منْ طريق شعبة المذكورة، ثم أخرجه منْ هَذَا الطريق-: قَالَ أبو عبد الرحمن: والذي قبله أولى بالصواب. انتهى. يعني أن رواية شعبة، عن الأشعث، عن أبيه، عن مسروق هي الصواب. وَقَالَ الدارقطنيّ رحمه الله تعالى: لم يُتابع محمد بن بشر عليه -يعني روايته عن أشعث، عن الأسود، عن عائشة- والمحفوظ رواية شعبة وغيره، عن أشعث، عن أبيه، عن مسروق، عن عائشة رضي الله تعالى عنها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
***
9 - (اتِّخَاذِ الشَّعْرِ)
5062 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعَافَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا، أَحْسَنَ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ، مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَجُمَّتُهُ تَضْرِبُ مَنْكِبَيْهِ).
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(محمد بن عبد الله بن عمّار) الْمُخَرّميّ الأزديّ، أبو جعفر، نزيل الموصل، ثقة حافظ [10] 20/ 1220.
2 -
(المعافَى) بن عمران الأزديّ الفهميّ، أبو مسعود الموصليّ، ثقة عابد فقيه، منْ كبار [9] 36/ 1271.
3 -
(إسرائيل) بن يونس بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ، أبو يوسف الكوفيّ، ثقة [7] 75/ 1066.
4 -
(أبو إسحاق) عمرو بن عبد الله بن عبيد الهمدانيّ البيعيّ الكوفيّ، ثقة عابد، اختلط بآخره [3] 38/ 42.
5 -
(البراء) بن عازب بن الحارث بن عديّ الأنصاريّ الأوسيّ الصحابيّ ابن الصحابيّن نزل الكوفة رضي الله عنه 86/ 105. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، وشيخ شيخه، فموصليان. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنِ الْبَرَاءِ) بن عازب رضي الله تعالى عنهما. قَالَ فِي "الفتح": كذا قَالَ أكثر أصحاب أبي إسحاق، وخالفهم أشعث، فَقَالَ:"عن أبي إسحاق، عن جابر بن سمرة"، أخرجه النسائيّ، والترمذي، وحسنه، ونقل عن البخاريّ أنه قَالَ: حديث أبي إسحاق، عن البراء، وعن جابر بن سمرة، صحيحان، وصححه الحاكم. انتهى.
(قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا، أَحْسَنَ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ) الظاهر أن الجارّ والمجرور حال منْ "رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وهذا بيان الحال التي رآه عليها، متفكّرًا فِي جماله. ويحتمل أنه حال
منْ "أحد"؛ لكونه فِي حيّز النفي، فصح وقوعه ذا حال، أو متعلّق بـ"رأيت"، لا لكون الرؤية كانت فِي الحلّة، بل لكون مفعولها كَانَ فِي الحلّة، حال الرؤية، مثلُ رأيت زيداً فِي المسجد، ومثله كثير.
و"الحُلّة" بضم المهملة، وتشديد اللام: هي البرد اليمنيّة، ولا تسمّى حُلّة إلا أن تكون ثوبين منْ جنس واحد. قاله فِي "النهاية" 1/ 432. وَقَالَ الخطّابيّ: الحلّة ثوبان: إزار ورداء، ولا تكون حلّة إلا وهي جديدة، تحُلّ منْ طيّها، فتُلبس. انتهى. قاله فِي الدّرّ النثير".
والمراد بالحمراء المخطّطة، لا الحمراء الخالصة، كما ذكره كثيرون. قاله السنديّ رحمه الله تعالى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وفي قوله: "لا الحمراء الخالصة" نظر، وسيأتي الكلام عليه، إن شاء الله تعالى (مِنْ رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَجُمَّتُهُ) بضم الجيم، وتشديد الميم: قَالَ الفيّوميّ: الجمّة منْ الإنسان: مُجتمع شعر ناصيته، يقال: هي التي تبلغ المنكبين، والجمع جُمَم، مثل غُرْفة وغُرَف. انتهى (تَضْرِبُ مَنْكِبَيْهِ) وفي رواية البخاريّ منْ طريق شعبة، عن أبي إسحاق:"له شعر يبلغ شحمة أذنيه"، وهو مغاير لهذه الرواية، وجُمع بينهما بأن المراد أن معظم شعره، كَانَ عند شحمة أذنه، وما استرسل منه متّصل إلى المنكب، أو يُحمل عَلَى حالتين. وَقَدْ وقع نظير ذلك فِي حديث أنس عند مسلم منْ رواية قتادة عنه أن شعره:"كَانَ بين أذنيه وعاتقه"، وفي حديث حميد، عن ثابت، عنه:"إلى أنصاف أذنيه"، ومثله عند الترمذيّ منْ رواية ثابت عنه. وعند ابن سعد منْ رواية حمّاد، عن ثابت عنه:"لا يُجاوز شعره أذنيه"، وهو محمول عَلَى ما تقدّم، أو عَلَى أحوال متغايرة. وروى أبو داود منْ طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت:"كَانَ شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق الوفرة، ودون الجمّة". وفي حديث هند بن أبي هالة فِي صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الترمذيّ وغيره: "فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه، إذا هو وفّره": أي جعله وفرة، فهذا القيد يؤيّد الجمع المتقدّم. قاله فِي "الفتح" 7/ 268. "كتاب المناقب". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث البراء رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -9/ 5062 و5064 و59/ 5234 و5235 و5236 - وفي "الكبرى" 13/ 9325 و9326 و9327 و9328. وأخرجه (خ) فِي "المناقب" 3551 و"اللباس" 5848 (م) فِي "الفضائل" 2337 (د) فِي "الترجّل" 4183 (ت) فِي "اللباس" 1724 (ق) فِي "اللباس" 3599 (أحمد) فِي "مسند الكوفيين" 18086 و18191. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز اتّخاذ الشعر، فقد اتّخذ صلى الله عليه وسلم جمّة، وهو ما نزل منْ شعر الرأس عَلَى المنكبين. (ومنها): ما كَانَ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ الجمال، فقد قَالَ الصحابيّ: لم أر قبله، ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم. (ومنها): جواز لبس الحلّة، وهي البرود اليمنية، وتقدّم أنها لا تكون إلا ثوبين، منْ جنس واحد. (ومنها): جواز لبس الأحمر، وفيه خلاف للعلماء، يأتي تحقيقه فِي باب "لبس الحلل" 93/ 5316 - إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5063 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: "كَانَ شَعْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"إسحاق": هو ابن راهويه. و"عبد الرزاق": هو ابن همّام. و"معمر": هو ابن راشد. و"ثابت": هو البنانيّ.
وقوله: "إلى أنصاف أذنيه": قد تقدّم أنه لا ينافي قول البراء رضي الله عنه: "يضرب منكبيه"؛ إذ يمكن حمله عَلَى اختلاف الأوقات. والله تعالى أعلم.
والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي 6/ 5055 قبل بابين. واستدلال المصنّف رحمه الله تعالى به عَلَى الترجمة واضح، حيث دلّ عَلَى جواز اتّخاذ الشعر إلى أنصاف أذنيه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5064 -
(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَخْلَدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ، قَالَ: "مَا رَأَيْتُ رَجُلاً أَحْسَنَ، فِي حُلَّةٍ، مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ" وَرَأَيْتُ لَهُ لِمَّةً، تَضْرِبُ قَرِيبًا مِنْ مَنْكِبَيْهِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: كَانَ الأولى للمصنّف رحمه الله تعالى تقديم حديث البراء رضي الله عنه هَذَا عَلَى حديث أنس رضي الله عنه.
و"عبد الحميد بن محمد": هو الحرّانيّ الثقة [11] منْ أفراد المصنّف. و"مخلد":
هو ابن يزيد الحرّانيّ، صدوقٌ، له أوهامٌ، منْ كبار [9].
وقوله: "رأيت له لِمّة الخ" -بكسر اللام، وتشديد الميم-: هي شعر الرأس إذا نزل عن شحمة الأذن، وألمّ بالمنكبين، وعلى هَذَا فإطلاق الجمّة، إما مجازٌ، أو باعتبار حال آخر. قاله السنديّ رحمه الله تعالى.
والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم تمام البحث فيه قبل حديث. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
10 - (الذُّؤَابَةُ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: بضم الذال المعجمة: الناصية، أو مَنْبَتُها منْ الرأس، وشعر فِي أعلى ناصية الفرس. قاله فِي "القاموس". والله تعالى أعلم بالصواب.
5065 -
(أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ هُبَيْرَةَ بْنِ يَرِيمَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ تَأْمُرُونِّي أَقْرَأُ، لَقَدْ قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً، وَإِنَّ زَيْدًا لَصَاحِبُ ذُؤَابَتَيْنِ، يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ).
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(الحسن بن إسماعيل بن سليمان) بن مجالد أبي سعيد المجالديّ المِصِّيصيّ، ثقة [10] 26/ 432.
2 -
(عبدة بن سُليمان) الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، يقال: اسمه عبد الرحمن، ثقة ثبت، منْ صغار [8] 7/ 339.
3 -
(الأعمش) سليمان بن مِهْران الكوفيّ، ثقة ثبت ورع، لكنه يدلّس [5] 17/ 18.
4 -
(أبو إسحاق) السبيعيّ عمرو بن عبد الله المذكور فِي السند الماضي.
5 -
(هُبيرة بن يَرِيم) الشيبانيّ، ويقال: الخارفيّ، أبو الحارث الكوفيّ، لا بأس به، وَقَدْ عِيب بالتشيّع [2] 27/ 4018.
6 -
(عبد الله بن مسعود) رضي الله تعالى عنه 35/ 39. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح غير شيخه فإنه منْ أفراده، وهُبَيرة، فمن رجال الأربعة، (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيحه، فمصّيصيّ. (ومنها): أن فيه ثلاثة منْ التابعين يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن أبي إسحاق، عن هُبيرة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ هُبَيْرَةَ) بضم الهاء، مصغّرًا (ابْنِ يَرِيمَ) بفتح المثنّاة التحتانيّة، وكسر الراء، بوزن عظيم.
[تنبيه]: أشار فِي "الفتح" إلى أن هذه الرواية شاذّة، وذلك أن البخاريّ أخرج الْحَدِيث منْ طريق الأعمش، عن شقيق بن سلمة، وهي الطريق التالية للمصنّف، فَقَالَ فِي "الفتح": قوله: "حدثنا شقيق بن سلمة": فِي رواية مسلم، والنسائيّ
(1)
، جميعًا عن إسحاق، عن عبدة بن سليمان، عن الأعمش، عن أبي وائل، وهو شقيق المذكور، وجاء عن الأعمش فيه شيخ آخر، أخرجه النسائيّ، عن الحسن بن إسماعيل، عن عبدة ابن سُليمان، عنه، عن أبي إسحاق، عن هُبيرة بن يَريم، عن ابن مسعود، فإن كَانَ محفوظاً، احتمل أن يكون للأعمش فيه طريقان، وإلا فإسحاق، وهو ابن راهويه أتقن منْ الحسن بن إسماعيل، مع أن المحفوظ عن أبي إسحاق فيه ما أخرجه أحمد، وابن أبي داود، منْ طريق الثوريّ، وإسرائيل، وغيرهما عن أبي إسحاق، عن خُمير -بالخاء المعجمة، مصغّرًا- عن ابن مسعود رضي الله عنه، فحصل الشذوذ فِي رواية الحسن بن إسماعيل فِي موضعين. انتهى. "فتح" 7/ 58.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "وهو أتقن منْ الحسن"، لاسيّما وَقَدْ تابعه إبراهيم بن يعقوب عن عبدة فِي السند التالي.
والحاصل أن المحفوظ رواية الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي وائل، ورواية أبي إسحاق، عن خُمير بن مالك عند أحمد، وأما رواية الحسن بن إسماعيل، فإنها شاذّة. والله تعالى أعلم.
(قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه لَمّا أنكروا عليه قراءته، ففي رواية البخاريّ منْ
(1)
أي فِي "الكبرى" فِي "فضائل القرآن" 5/ 8 برقم 7997. وأما فِي "المجتبى" فقد رواه عن إبراهيم ابن يعقوب، عن عبدة بن سليمان، وهو الْحَدِيث الآتي بعد هَذَا، وهو أيضًا فِي "الكبرى" بهذا السند، فتنبّه.
طريق شقيق بن سلمة، قَالَ: خطبنا عبد الله بن مسعود، فَقَالَ: والله لقد أخذت منْ فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة، والله لقد عدم أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أني منْ أعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم
(1)
، قَالَ شقيق: فجلست فِي الْحَلَق، أسمع ما يقولون، فما سمعت رادًّا يقول غير ذلك.
قَالَ فِي "الفتح": قوله: "خطبنا عبد الله بن مسعود، فَقَالَ: والله لقد أخذت منْ فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعًا وسبعين سورة": زاد عاصم، عن بدر، عن عبد الله:"وأخذت بقية القرآن عن أصحابه"، وعند إسحاق بن راهويه فِي روايته المذكورة فِي أوله:{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161]، ثم قَالَ: عَلَى قراءة منْ تأمرونني أن أقرأ، وَقَدْ قرأت عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، فذكر الْحَدِيث. وفي رواية النسائيّ، وأبي عوانة، وابن أبي داود، منْ طريق أبي شهاب
(2)
عن الأعمش، عن أبي وائل، قَالَ: خطبنا عبد الله بن مسعود، عَلَى المنبر، فَقَالَ:{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، غُلُّوا مصاحفكم، وكيف تأمرونني أن أقرأ عَلَى قراءة زيد بن ثابت؟ وَقَدْ قرأت منْ فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
مثله. وفي رواية خُمير بن مالك المذكورة بيان السبب، فِي قول ابن مسعود هَذَا، ولفظه: لَمّا أمر بالمصاحف أن تُغَيَّر، ساء ذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فَقَالَ: منْ استطاع
…
وَقَالَ فِي آخره: أفأترك ما أخذت منْ فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية له، فَقَالَ: إني غالٌّ مصحفي، فمن استطاع أن يَغُلَّ مصحفه فليفعل. وعند الحاكم منْ طريق أبي ميسرة، قَالَ: رُحت، فإذا أنا بالأشعري، وحذيفة، وابن مسعود رضي الله عنه، فَقَالَ ابن مسعود: والله لا أدفعه -يعني مصحغه- أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره.
وقوله: قَالَ شقيق: فجلست فِي الحَلَق -بفتح المهملة واللام- فما سمعت رادا يقول غير ذلك. يعني لم يسمع منْ يخالف ابن مسعود يقول غير ذلك، أو المراد منْ يرد قوله ذلك. ووقع فِي رواية مسلم: قَالَ شقيق: فجلست فِي حلق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فما سمعت أحدا يرد ذلك، ولا يعيبه. وفي رواية أبي شهاب: فلما نزل عن المنبر جلست فِي الحلق، فما أحد ينكر ما قَالَ، وهذا يخصص عموم قوله. "أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم"
(1)
قوله: "وما أنا بخيرهم": يستفاد منه أن الزيادة فِي صفة منْ صفات الفضل، لا تقتضي الأفضلية المطلقة، فالأعلمية بكتاب الله، لا تستلزم الأعلمية المطلقة، بل يحتمل أن يكون غيره أعلم منه بعلوم أخرى، فلهذا قَالَ: وما أنا بخيرهم. قاله فِي "الفتح" 7/ 59.
(2)
وقع فِي "الفتح" تصحيف فِي هَذَا الاسم، فَقَالَ:"عن ابن شهاب"، وهو غلط، والصواب "عن أبي شهاب"، فتنبّه.
بمن كَانَ منهم بالكوفة، ولا يعارض ذلك ما أخرجه ابن أبي داود، منْ طريق الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عبد الله بن مسعود، فذكر نحو حديث الباب، وفيه قَالَ الزهريّ: فبلغني أن ذلك كرهه منْ قول ابن مسعود رجال منْ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه محمول عَلَى أن الذين كرهوا ذلك، منْ غير الصحابة الذين شاهدهم شقيق بالكوفة، ويحتمل اختلاف الجهة، فالذي نفى شقيق أن أحدا ردّه، أو عابه وصف ابن مسعود بأنه أعلمهم بالقرآن، والذي أثبته الزهريّ ما يتعلق بأمره بِغَلّ المصاحف، وكأن مراد ابن مسعود بغل المصاحف كتمها، وإخفاؤها؛ لئلا تُخَرج، فتُعْدَم، وكأن ابن مسعود رأى خلاف ما رأى عثمان، ومن وافقه فِي الاقتصار عَلَى قراءة واحدة، وإلغاء ما عدا ذلك، أو كَانَ لا ينكر الاقتصار؛ لما فِي عدمه منْ الاختلاف، بل كَانَ يريد أن تكون قراءته، هي التي يُعَوَّل عليها، دون غيرها؛ لما له منْ المزية فِي ذلك، مما ليس لغيره، كما يؤخذ ذلك منْ ظاهر كلامه، فلَمّا فاته ذلك، ورأى أن الاقتصار عَلَى قراءة زيد ترجيح بغير مرجح عنده، اختار استمرار القراءة عَلَى ما كانت عليه، عَلَى أن ابن أبي داود ترجم باب رِضَى ابن مسعود رضي الله عنه بعد ذلك بما صَنَع عثمان رضي الله عنه، لكن لم يورد ما يُصَرِّح بمطابقة ما ترجم به. انتهى "فتح" 7/ 58 - 59.
وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "غُلّوا مصاحفكم الخ": أي اكتموها، ولا تسلّموها، والتزموها إلى أن تلقوا الله تعالى بها، كما يفعل منْ غلّ شيئًا، فإنه يأتي به يوم القيامة، ويحمله، وكان هَذَا رأياً منه انفرد به عن الصحابة رضي الله عنهم، ولم يوافقه أحدٌ منهم عليه، فإنه كتم مصحفه، ولم يُظهره، ولم يقدِر عثمان رضي الله عنه، ولا غيره عليه أن يظهره، وانتشرت المصاحف التي كتبها عثمان، واجتمع عليها الصحابة فِي الآفاق، وقرأ المسلمون عليها، وتُرك مصحف عبد الله، وخَفِي إلى أن وُجد فِي خزائن بني عُبيد بمصر عند انقراض دولتهم، وابتداء دولة المعزّ، فأمر بإحراقه قاضي القضاة بها صدر الدين عَلَى ما سمعناه منْ بعض مشايخنا، فأُحرق. انتهى "المفهم" 5/ 373 - 374.
(عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ تَأْمُرُونِّي) بتشديد النون، ولفظ "الكبرى":"تأمرونني" بنونين (أَقْرَأُ) بالرفع، وهو عَلَى تقدير حرف مصدريّ: أي أن أقرأ، أي بالقراءة، وحذف الحرف المصدريّ، ورفع الفعل قياسيّ عَلَى الأرجح، كما فِي قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} الآية [الروم: 24]، وَقَدْ تقدّم غير مرّة. وفي رواية مسلم:"أن أقرأ" بإثبات "أن".
قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: هَذَا إنكار منه عَلَى منْ يأمره بترك قراءته، ورجوعه إلى قراءة زيد، مع أنه سابقٌ له إلى حفظ القرآن، وإلى أخذه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فصعُب عليه أن يترك قراءةً قرأها عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقرأ بما قرأه زيد، أو غيره، فتمسك بمصحفه، وقراءته، وخفي عليه الوجه الذي ظهر لجميع الصحابة رضي الله عنهم منْ المصلحة التي هي منْ أعظم ما حفظ الله بها القرآن عن الاختلاف المخلّ به، والتغيير بالزيادة والنقصان، قَالَ: وكان منْ أعظم الأمور عَلَى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن الصحابة رضي الله عنهم لَمّا عزموا عَلَى كتب المصحف بلغة قريش، عيّنوا لذلك أربعةً لم يكن منهم ابن مسعود، فكتبوه عَلَى لغة قريش، ولم يُعَرِّجوا عَلَى ابن مسعود، مع أنه أسبقهم لحفظ القرآن، ومن أعلمهم به، كما شهدوا له بذلك، غير أنه رضي الله عنه كَانَ هُذلَيًّا، وكانت قراءته عَلَى لغتهم، وبينها وبين لغة قريش تباينٌ عظيم، فلذلك لم يُدخلوه معهم. والله تعالى أعلم. انتهى "المفهم" 5/ 374.
(لَقَدْ قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً)، "البِضع" بالكسر، وبعض العرب يفتحه، منْ الثلاثة إلى التسعة، وعن ثعلب: منْ الأربعة إلى التسعة، يستوى فيه المذكّر والمؤنّث، فيقال: بضع رجال، وبضع نسوة، ويُستعمل أيضًا منْ ثلاثة عشر إلى تسعة عشر، لكن تثبت الهاء فِي "بضع" مع المذكّر، وتُحذف مع المؤنّث، كالنيّف، ولا يُستعمل فيما زاد عَلَى العشرين، وأجازه بعض المشايخ، فيقول: بضعة وعشرون رجلاً، وبضع وعشرون امرأةً، وهكذا قاله أبو زيد، وقالوا عَلَى هَذَا معنى البضع، والبضعة فِي العدد قطعة مبهمة، غير محدودة. قاله الفيّوميّ.
(وَإِنَّ زَيْدًا) يعني ابن ثابت رضي الله عنه الفرضيّ، كاتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكاتب المصحف العثمانيّ رضي الله تعالى عنهما (لَصَاحِبُ ذُؤَابَتَيْنِ) بذال معجمة، بعدها همزة: هي الشعر المضفور، منْ شعر الرأس. وقوله (يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ) جملة فِي محلّ نصب عَلَى الحال منْ "زيداً".
غرض ابن مسعود رضي الله عنه بهذا أنه أعلى منْ زيد الذي هو كاتب مصحف عثمان رضي الله عنه منزلةً فِي القراءة، وأقدم أخذاً منه، فليس عليه الرجوع إلى ما كتبه زيد رضي الله عنه مما عنده، وما نظر رضي الله عنه أن هَذَا المصحف مما اتّفق المسلمون عليه فِي المدينة، وهذا اجتهاد منه رضي الله عنه، لم يوافق عليه، كما سبق، فقد كَانَ جلّ الصحابة رضي الله عنهم عَلَى ما رآه عثمان رضي الله عنه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هَذَا متَّفقٌ عليه، منْ رواية الأعمش، عن أبي
وائل، كما يأتي فِي السند التالي، وأما منْ رويته عن أبي إسحاق، عن هبيرة هذه، فقد تقدّم أنها شاذّة، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -10/ 5065 و5066 - وفي "الكبرى" 14/ 9329 و9330. وأخرجه (خ) فِي "فضائل القرآن" 5000 (م) فِي "فضائل الصحابة" 2462. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز اتّخاذ الذؤابة، فقد كَانَ لزيد بن ثابت رضي الله عنه، وهو مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ذؤابتان، أقرّه عليهما النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدلّ عَلَى جواز اتخاذهما. (ومنها): فضيلة ابن مسعود رضي الله عنه، حيث كَانَ منْ أقدم الصحابة رضي الله عنهم أخذاً للقرآن منْ فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أعلمهم به، وَقَدْ أخرج البخاريّ منْ طريق مسروق، قَالَ: قَالَ عبد الله رضي الله عنه: "والله الذي لا إله غيره، ما أُنزلت سورة منْ كتاب الله، إلا أنا أعلم، أين أنزلت؟ ولا أنزلت آية منْ كتاب الله، إلا أنا أعلم فيما أنزلت؟ ولو أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله، تبلغه الإبل لركبت إليه". وفي رواية: "لرحلت إليه"، ولأبي عبيدة منْ طريق ابن سيرين:"نُبِّئتُ أن ابن مسعود قَالَ: لو أعلم أحدا تُبْلِغُنيه الإبل، أحدث عهدا بالعرضة الآخيرة مني، لأتيه، أو قَالَ: لتكلفت أن آتيه".
وكأنه احترز بقوله: "تبلغنيه الإبل" عمن لا يَصِل إليه عَلَى الرواحل، إما لكونه كَانَ لا يركب البحر، فقيد بالبر، أو لأنه كَانَ جازما بأنه لا أحد يفوقه فِي ذلك منْ البشر، فاحترز عن سكان السماء. قاله فِي "الفتح".
(ومنها): أن فيه جواز ذكر الإنسان نفسه بما فيه، منْ الفضيلة بقدر الحاجة، ويحمل ما ورد منْ ذمّ ذلك عَلَى منْ وقع ذلك منه فخراً، أو إعجاباً.
[تنبيه]: أخرج البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" بسنده عن علقمة، قَالَ: كنا بحمص، فقرأ ابن مسعود رضي الله عنه سورة يوسف، فَقَالَ رجل: ما هكذا أنزلت، قَالَ: قرأت عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أحسنت ووجد منه ريح الخمر، فَقَالَ: أتجمع أن تكذب بكتاب الله، وتشرب الخمر، فضربه الحدّ. انتهى.
قوله: "فضربه الحد": قَالَ النوويّ: هَذَا محمول عَلَى أن ابن مسعود كانت له ولاية إقامة الحدود، نيابة عن الإمام، إما عموما، وإما خصوصا، وعلى أن الرجل اعترف بشربها بلا عذر، وإلا فلا يجب الحد بمجرد ريحها، وعلى أن التكذيب كَانَ بإنكار بعضه جاهلا، إذ لو كذّب حقيقة لكفر، فقد أجمعوا عَلَى أن منْ جحد حرفا مجمعا عليه
منْ القرآن كفر. انتهى.
قَالَ الحافظ: والاحتمال الأول جيد، ويحتمل أيضًا أن يكون قوله:"فضربه الحد"، أي رفعه إلى الأمير فضربه، فأسند الضرب إلى نفسه مجازا؛ لكونه كَانَ سبباً فيه.
وَقَالَ القرطبيّ: إنما أقام عليه الحد؛ لأنه جعل له ذلك منْ له الولاية، أو لأنه رأى أنه قام عن الإمام بواجب، أو لأنه كَانَ ذلك فِي زمان ولايته عَلَى الكوفة، فإنه وليها فِي زمن عمر، وصدرا منْ خلافة عثمان. انتهى.
قَالَ الحافظ: والاحتمال الثاني مُوجّه، وفي الأخير غفلة عما فِي أول الخبر أن ذلك كَانَ بحمص، ولم يلها ابن مسعود رضي الله عنه، وإنما دخلها غازيا، وكان ذلك فِي خلافة عمر.
وأما الجواب الثاني عن الرائحة، فيرده النقل عن ابن مسعود، أنه كَانَ يَرَى وجوب الحد بمجرد وجود الرائحة، وَقَدْ وقع مثل ذلك لعثمان رضي الله عنه فِي قصة الوليد بن عقبة. ووقع عند الإسماعيلي إِثر هَذَا الْحَدِيث النقلُ عن عليّ، أنه أنكر عَلَى ابن مسعود جلده الرجل بالرائحة وحدها، إذ لم يُقِرَّ، ولم يُشهَد عليه.
وَقَالَ القرطبيّ: فِي الْحَدِيث حجة عَلَى منْ يمنع وجوب الحد بالرائحة، كالحنفية، وَقَدْ قَالَ به مالك وأصحابه، وجماعة منْ أهل الحجاز.
قَالَ الحافظ: والمسألة خلافية، شهيرة، وللمانع أن يقول: إذا احتمل أن يكون أقرّ، سقط الاستدلال بذلك، ولما حكى الموفق فِي "المغني" الخلاف فِي وجوب الحد بمجرد الرائحة، اختار أن لا يُحَدَّ بالرائحة وحدها، بل لابد معها منْ قرينة، كأن يوجد سكران، أو يتقيأها، ونحوُهُ أن يوجد جماعة شهروا بالفسق، ويوجد معهم خمر، ويوجد منْ أحدهم رائحة الخمر.
وحكى ابن المنذر عن بعض السلف، أن الذي يجب عليه الحد بمجرد الرائحة، منْ يكون مشهورا بإدمان الخمر، وقيل بنحو هَذَا التفصيل فيمن شَكَّ وهو فِي الصلاة، هل خرج منه ريح، أو لا؟ فإن قارن ذلك وجود رائحة، دل ذلك عَلَى وجود الحدث فيتوضأ، وإن كَانَ فِي الصلاة فلينصرف، ويحمل ما ورد منْ ترك الوضوء مع الشك، عَلَى ما إذا تجرد الظن عن القرينة.
قَالَ: وأما الجواب عن الثالث، فجيد أيضًا، لكن يحتمل أن يكون ابن مسعود رضي الله عنه كَانَ لا يرى بمؤاخذة السكران بما يصدر منه منْ الكلام، فِي حال سكره. وَقَالَ القرطبيّ: يحتمل أن يكون الرجل كَذّب ابنّ مسعود رضي الله عنه، ولم يُكذِّب القرآن، وهو الذي يظهر منْ قوله: ما هكذا أُنزلت، فإن ظاهره أنه أثبت إنزالها، ونفي الكيفية التي
أوردها ابن مسعود رضي الله عنه، وَقَالَ الرجل ذلك إما جهلا منه، أو قلة حفظ، أو عدم تثبت، بَعَثَه عليه السكر. انتهى "فتح" 7/ 60 - 61. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5066 -
(أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: خَطَبَنَا ابْنُ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: كَيْفَ تَأْمُرُونِّي أَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، بَعْدَمَا قَرَأْتُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً، وَإِنَّ زَيْدًا مَعَ الْغِلْمَانِ، لَهُ ذُؤَابَتَانِ؟).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "إبراهيم بن يعقوب": هو الجُوزجانيّ الحافظ الثبت [11]. و"سعيد بن سُليمان": هو الضبّيّ، أبو عثمان الواسطيّ، نزيل بغداد، لقبه سعدويه، ثقة حافظ، منْ كبار [10] 15/ 1854. و"أبو شهاب": هو عبد ربه بن نافع الكنانيّ الحنّاط -بالمهلمة، والنون- نزيل المدائن، وهو أبو شهاب الأصغر، صدوقٌ يهم [8].
روى عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ، والأعمش، وعاصم بن بهدلة، وعاصم الأحول، وعوف الأعرابيّ، وابن إسحاق، ويونس بن عبيد، وإسماعيل بن أبي خالد، وخالد الحذّاء، وابن عون، وشعبة، وغيرهم.
وعنه يحيى بن آدم، ومحمد بن الصلت الأسدي، وسعيد بن سليمان الواسطى، وأبو داود المباركي، وعاصم بن يوسف اليربوعي، ومسدد، وأحمد بن يونس، وسعيد بن سليمان بن محمد بن منصور، وخلف بن هشام البزار، وأبو الربيع الزهراني، ومحمد ابن جعفر الْوَرْكاني، وغيرهم.
قَالَ عليّ، عن يحيى: لم يكن بالحافظ، قَالَ. ولم يرض يحيى أمره. وَقَالَ الميموني، عن أحمد: كَانَ كوفيا، ما علمت إلا خيرا. وَقَالَ عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ما بحديثه بأس، فقلت: إن يحيى بن سعيد قَالَ: ليس بالحافظ، فلم يرض بذلك. وَقَالَ ابن معين: ثقة. وَقَالَ عثمان الدارمي، عن ابن معين: أبو شهاب أحب إلى منْ أبي بكر بن عياش، فِي كل شيء. وَقَالَ يعقوب بن شيبة: كَانَ ثقة، وكان كثير الْحَدِيث، وكان رجلا صالحا، لم يكن بالمتين، وَقَدْ تكلموا فِي حفظه. وَقَالَ النسائيّ: ليس بالقوي. وَقَالَ العجليّ: لا بأس، به وَقَالَ مرة: ثقة. وَقَالَ ابن خراش: صدوقٌ. وَقَالَ الساجي: صدوقٌ يهم فِي حديثه، وكذا قَالَ الأزدي، وزاد: يخطيء. وَقَالَ ابن نمير: ثقة صدوقٌ. وَقَالَ البزار: ثقة. وَقَالَ الحاكم أبو أحمد: ليس بالحافظ عندهم. وَقَالَ ابن سعد: كَانَ ثقة. وَقَالَ البزار: ثقة. وَقَالَ ابن سعد: كَانَ ثقة، كثير الْحَدِيث،
ذكره فِي الطبقة السابعة. وذكر الخطيب فِي "مقدمة تاريخ بغداد" منْ رواية الحسن بن الربيع، عنه، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن جرير، حديث: "تُبْنَى مدينة بين دِجْلَة ودُجَيل
…
" الْحَدِيث، وأشار إلى أن أبا شهاب، سمعه منْ سيف بن محمد ابن أخت الثوري، عن عاصم، فدَلَّسه، ثم حكى عن الإمام أحمد، أنه قَالَ: هَذَا الْحَدِيث لا أصل له. والله أعلم.
قَالَ عبد الله بن أحمد، عن أبي داود المباركي: مات سنة إحدى، أو اثنتين وسبعين ومائة. شك عبد الله. وَقَالَ مسلم، عن أحمد بن حنبل: مات سنة (71) رواه إسحاق القَرّاب فِي "تاريخه". روى له البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والمصنّف، وابن ماجه، وله فِي مسلم حديث واحد، وكذا له فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.
و"أبو وائل": هو شقيق بن سلمة.
والحديث تقدّم أنه منْ هَذَا الوجه متّفقٌ عليه، وتقدّم شرحه، وبيان مسائله فِي الْحَدِيث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5067 -
(أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُسْتَمِرِ الْعُرُوقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا غَسَّانُ بْنُ الأَغَرِّ بْنِ حُصَيْنٍ النَّهْشَلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، زِيَادُ بْنُ الْحُصَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ادْنُ مِنِّي"، فَدَنَا مِنْهُ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى ذُؤَابَتِهِ، ثُمَّ أَجْرَى يَدَهُ، وَسَمَّتَ عَلَيْهِ، وَدَعَا لَهُ).
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(إبراهيم بن المستمِرّ الْعُرُوقيّ) -بالقاف-: هو الناجيّ البصريّ، صدوقٌ [11] 2/ 3998.
2 -
(الصلت بن محمد) بن عبد الرحمن بن أبي المغيرة البصريّ، أبو هَمّام الْخَارِكِيّ -بخاء معجمة-
(1)
، صدوقٌ، منْ كبار [10].
روى عن مهدي بن ميمون، وحماد بن زيد، ويزيد بن زريع، وعبد الواحد بن زياد، وغيرهم. وعنه البخاريّ، وروى له النسائيّ بواسطة إبراهيم بن المستمر العروقي، وأبو غسان، رَوْح بن حاتم البصريّ، وعباس العنبري، ومحمد بن مرزوق، وغيرهم.
قَالَ أبو حاتم: صالح الْحَدِيث، أتيته أيام الأنصاريّ، فلم يتفق لي أن أسمع منه. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ أبو بكر البزار: كَانَ ثقة. وَقَالَ الدارقطنيّ: ثقة،
(1)
"الخاركي" بخاء معجمة، وراء آخره كاف: نسبة إلى جزيرة فِي البحر قريبة منْ عمان. قاله فِي "اللباب" جـ 1 ص 410.
وصحح له فِي "الأفراد" حديثا تفرد به. روى له البخاريّ، والمصنّف، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.
3 -
(غسّان بن الأغرّ) بن حُصين بن أوس النهشليّ، أبو الأغرّ الكوفيّ، صدوقٌ [7].
روى عن عمه زياد بن الحصين، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقيل: عن غسّان، عن أبيه، عن جدّه. وعنه بهز بن أسد، وأبو همام الصلت بن محمد الخاركيّ، وحبّان هلال، وأبو الهيثم خلف بن الهيثم النهشليّ القصّاب، وموسى بن إسماعيل. ذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: ثقة. تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.
4 -
(زياد بن الحصين) بن أوس، ويقال: ابن قيس النهشليّ، ثقة [4].
روى عن أبيه. وعنه ابن أخيه غسّان بن الأغرّ. قَالَ النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.
5 -
(أبوه) الحصين بن أوس، ويقال: قيس بن حجير بن بكر، ويقال: ابن صُخير ابن طلق بن بكر بن صخر بن نهشل بن دارم، النهشلي، والد زياد بن الحصين، قَدِم عَلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عنه، وعنه ابنه، وليس بأبي جَهْمَة، له عند النسائيّ حديث واحد.
قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: وذكر المزي فِي "الأطراف" أن حديثه رُوي منْ طريق نعيم بن حصين السدوسي، عن عمه، وعن جده، والسدوسي لا يجتمع مع النهشلي، فيغلب عَلَى الظن أنه غيره، وَقَدْ أوضحت ذلك فِي "كتاب الصحابة"، وذكره ابن حبّان فِي ثقات التابعين، وَقَالَ: روى عن ابن عباس، وعنه ابنه زياد، كذا قَالَ. والذي رَوَى عن ابن اعباس هو أبو جَهْمَة، كما سيأتي. انتهى كلام الحافظ فِي "تهذيب التهذيب" 1/ 440 - 441.
ونصّه فِي "الإصابة". حصين -بالتصغير- ابن أوس، ويقال: ابن أويس، ويقال بن قيس بن حجير بن بكر بن صخر بن نهشل بن دارم، وَقَالَ خليفة، والعسكري: هو ابن أوس بن صخير بن طلق بن بكر، والباقي مثله، يُكنى أبا زياد، روى حديثه النسائيّ، منْ طريق غسان بن الأغر بن حصين النهشلي، حدثني عمي زياد بن حصين، عن أبيه، أنه قدم عَلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ له:"ادن مني"، فدنا منه، فوضع يده عَلَى ذؤابته، ودعا له. رواه الطبراني منْ وجه آخر، عن غسان بن الأغر، قَالَ: حدثنا عمي، زياد بن حصين، عن حصين بن قيس، فذكره، ومن طريق عبد الله بن معاوية الجمحي، عن نعيم بن حصين السدوسي، عن عمه زياد، عن جده نحو هذه القصة، ولفظه: "أتيت المدينة، والنبي صلى الله عليه وسلم بها، ومعي إبل لي، فقلت: يا رسول الله مُرْ أهل الغائط أن يحسنوا
مخالطتي، وأن يعينوني، قَالَ: فقاموا معي، فلما بعت إبلي، أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"ادنه"، فمسح عَلَى ناصيتي، ودعا لي ثلاث مرات، قَالَ الطبراني فِي "الأوسط": لم يروه عن نعيم بن حصين، إلا عبد الله بن معاوية، وهو نعيم بن فلان بن حصين، وجده هو حصين السدوسي. انتهى.
ويحتمل أن يكون هَذَا آخر؛ لاختلاف النسبتين، والمخرجين، والاختلاف فِي تسمية أبيه، فالله أعلم. انتهى ما فِي "الإصابة" 2/ 254. تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم موثّقون. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
قَالَ (زِيَادُ بْنُ الْحُصَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ) الحصين بن أوس رضي الله عنه، أنه (قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عَلَي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) ولفظ "الكبرى": أنه قَدِمَ عَلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم" (بِالْمَدِينَةِ) متعلّق بحال محذوف: أي حال كونه مقيما بالمدينة. وقوله: (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) جواب "لَمّا"، والفاء زائدة فيه زائدة، وعلى رواية "الكبرى" الفاء عاطفة لـ"قَالَ" عَلَى "قدِم" (ادْنُ مِنِّي) فعل أمر منْ الدّنُوّ، وهو القرب (فَدَنَا مِنْهُ) أي قرب الحصين منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَوَضَعَ) صلى الله عليه وسلم (يَدَهُ عَلَى ذُؤَابَتِهِ) أي عَلَى شعر رأس الحصين المضفور (ثُمَّ أجْرَى يَدَهُ) أي مدّ صلى الله عليه وسلم يده الشريفة إلى نواحي رأسه؛ لتعم البركة جميعه (وَسَمَّتَ عَلَيْهِ) بتشديد الميم، منْ التسميت، وهو الدعاء بالخير، قَالَ الفيّوميّ رحمه الله تعالى: التسميت ذكر الله تعالى عَلَى الشيء، وتسميت العاطس: الدعاء له، والشين المعجمة مثله. وَقَالَ فِي "التهذيب": سمّتهُ بالسين والشين: إذا دعا له. وَقَالَ أبو عُبيد: الشين المعجمة أعلى وأفشى. وَقَالَ ثعلبٌ: المهملة هي الأصل؛ أخذاً منْ السَّمْت، وهو القصد، والهديُ، والاستقامة، وكلُّ داع بخير، فهو مُسَمِّتٌ: أي داع بالْعَوْد، والبقاء إلى سمته، مأخوذ منْ ذلك. انتهى. فقوله:(وَدَعَا لَهُ) عطف تفسير لما قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث الحصين بن أوس رضي الله عنه هَذَا صحيح، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله
تعالى، أخرجه هنا -10/ 5067 - وفي "الكبرى" 14/ 9331. وأخرجه الطبرانيّ، كما سبق آنفاً فِي ترجمته. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو مشروعية اتّخاذ الذؤابة. (ومنها): ما كَانَ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ مكارم الأخلاق، والتواضع مع كلّ النَّاس. (ومنها): مشروعية دعاء الإمام لأحد رعيّته بالخير. (ومنها): منقبة هَذَا الصحابيّ رضي الله عنه، حيث مسح النبيّ صلى الله عليه وسلم رأسه، ودعا له. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
11 - (تَطْوِيلِ الْجُمَّةِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الجُمّة" بضم الجيم، وتشديد الميم-: مُجْتَمَعُ شعر الرأس. قاله فِي "القاموس"، وفي "المصباح": الجمّة منْ الإنسان مُجْتَمَعُ شعر ناصيته، يقال: هي التي تبلغ المنكبين، والجمع جُممٌ، كغُرفة وغُرَف.
وأما "اللِّمَّة" -بالكسر-: فَقَالَ فِي "القاموس": الشعر المجاوز شحمةَ الأذن، جمعه لِمَمٌ، ولِمَامٌ. انتهى. وَقَالَ فِي "المصباح":"الِّمَّةُ" بالكسر: الشعر يُلِمُّ بالمنكب: أي يقرب، والجمع لِمَامٌ، ولِمَمٌ، مثلُ قِطَّة، وقِطَاط، وقِطَطٍ. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.
5068 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَاسِمٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَلِي جُمَّةٌ، قَالَ: "ذُبَابٌ"، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْنِينِي، فَانْطَلَقْتُ، فَأَخَذْتُ مِنْ شَعْرِي، فَقَالَ: "إِنِّي لَمْ أَعْنِكَ، وَهَذَا أَحْسَنُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أحمد بن حرب": هو الطائيّ الموصليّ، صدوقٌ [10] منْ أفراد المصنّف. و"قاسم": هو ابن يزيد الجرميّ، أبو يزيد الموصليّ، ثقة عابد [9] 102/ 135. منْ أفراد المصنّف أيضًا. و"سفيان": هو الثوريّ.
والحديث صحيحٌ، وَقَدْ تقدّم قبل أربعة أبواب، ومضى شرحه، ومسائله هناك، واستدلال المصنّف رحمه الله تعالى به هنا عَلَى الترجمة واضح، حيث إن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أقرّ وائلاً رضي الله عنه عَلَى تطويله جُمّته، ولم يُنكر عليه، بل قَالَ حين قصّره:"وهذا أحسن"،
فمفهوم أفعل التفضيل يدلّ عَلَى أن تطويله حسنٌ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
…
12 - (عَقْدِ اللِّحْيَةِ)
5069 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ -وَذَكَرَ آخَرَ قَبْلَهُ- عَنْ عَيَّاشِ بْنِ عَبَّاسٍ الْقِتْبَانِيِّ، أَنَّ شُيَيْمَ بْنَ بَيْتَانَ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رُوَيْفِعَ بْنَ ثَابِتٍ، يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَا رُوَيْفِعُ، لَعَلَّ الْحَيَاةَ سَتَطُولُ بِكَ بَعْدِي، فَأَخْبِرِ النَّاسَ أَنَّهُ مَنْ عَقَدَ لِحْيَتَهُ، أَوْ تَقَلَّدَ وَتَرًا، أَوِ اسْتَنْجَى بِرَجِيعِ دَابَّةٍ، أَوْ عَظْمٍ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا بَرِىءٌ مِنْهُ").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن سلمة) بن أبي فاطمة المراديّ الْجَمَليّ، أبو الحارث المصريّ، ثقة ثبت [11] 19/ 20.
2 -
(ابن وهب) عبد الله القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقة ثبت فقيه [9] 9/ 9.
3 -
(حَيْوة بن شُريح) التجيبيّ أبو زرعة المصريّ، ثقة ثبت فقيه زاهد [7] 17/ 478.
[تنبيه]: قوله: "وذكر آخر قبله: الضمير لابن وهب: أي ذكر ابن وهب قبل حيوة ابن شُريح رجلاً آخر، وَقَدْ تقدّم فِي مقدّمة هَذَا الشرح أن المراد بالآخر هو عبد الله بن لهيعة المصريّ الفقيه، وإنما يُبهمه المصنّف؛ لضعفه، وكذا فعل البخاريّ فِي "صحيحه". والله تعالى أعلم.
4 -
(عيّاش بن عبّاس) الأول بتشديد التحتانيّة، آخره شين معجمة، والثاني بتشديد الموحّدة، آخره سين مهملة، و"القتبانيّ" بكسر القاف، وسكون المثنّاة- المصريّ، الثقة [5]
(1)
2/ 1371.
5 -
(شِييم) -بكسر أوله، وضمّها، وفتح التحتانيّة، وسكون مثلِهَا بعدها -ابن بيتان- بلفظ تثنية بيت القِتْبانيّ البلويّ المصريّ، ثقة [3].
(1)
جعله فِي "التقريب" منْ السادسة، وعندي أنه منْ الخامسة؛ لأنه رأى عبد الله بن الحارث بن جَزْء الصحابيّ، فيكون مثل الأعمش، فتنبّه.
رَوَى عن أبيه، وجُنادة بن أبي أمية، ورُوَيفع بن ثابت، وأبي سالم الجيشاني، وشُبيل ابن أمية القتباني، وغيرهم. وعنه عياش بن عباس القتباني، وخير بن نعيم. قَالَ عثمان الدارمي، عن ابن معين: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ ابن سعد: له أحاديث. وَقَالَ أبو بكر البزار فِي "مسنده ": شِيَيم غير مشهور. روى له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وله عند المصنّف هَذَا الْحَدِيث فقط.
6 -
(رُوَيفع بن ثابت) بن السكن بن عديّ بن حارثة الأنصاريّ المدنيّ، صحابيّ سكن مصر، وأمّره مُعاوية أطرابلس سنة (46)، فغزا إفريقية. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وعنه بُسر بن عُبيد الله الحضرميّ، وشييم بن بيتان، وحَنَش الصنعانيّ، وأبو الخير مرثد بن عبد الله، وغيرهم. قَالَ أحمد بن الْبَرْقيّ: توفّي بِبَرْقَةَ، وهو أمير عليها، وَقَدْ رأيت قبره بها. وكذا قَالَ ابن يونس فِي وفاته، وزاد: سنة (56)، وهو أمير عليها لمَسْلَمَة بن مُخَلَّد. روى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وله عند المصنّف هَذَا الْحَدِيث فقط. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح غير شُيَيَم كما سبق آنفاً. (ومنها): أنه مسلسل بثقات المصريين، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَيَّاشِ بْنِ عَبَّاسٍ الْقِتْبَانِيِّ، أَنَّ شُيَيْمَ بْنَ بَيْتَانَ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رُوَيْفِعَ بْنَ ثَابِتٍ) رضي الله عنه (يَقُولُ) الْحَدِيث فيه قصة، ساقها أبو داود فِي "سننه" فِي "كتاب الطهارة"، فَقَالَ:
36 -
حدثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الهمداني، حدثنا المفضل -يعني ابن فضالة المصريّ، عن عياش بن عباس القتباني، أن شييم بن بيتان أخبره، عن شيبان القتباني، قَالَ: إن مَسْلَمَة بن مُخَلَّد
(1)
استعمل رُويفع بن ثابت عَلَى أسفل الأرض
(2)
، قَالَ: شيبان: فسرنا معه منْ كُوم شريك إلى عَلْقماء
(3)
، أو منْ علقماء إلى كوم شريك، يريد عَلْقَام
(4)
، فَقَالَ رويفع: إن كَانَ أحدنا فِي زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليأخذ نِضْو
(1)
"مُخَلَّد": بوزن محمد.
(2)
أي أرض مصر.
(3)
كوم شريك بضم الكاف، و"علقماء": اسما موضعين.
(4)
"علقام" اسم موضع غير علقماء.
أخيه
(1)
، عَلَى أن له النصف مما يغنم، ولنا النصف، وإن كَانَ أحدنا ليطير له النصل والريش، وللآخر القِدْحُ
(2)
، ثم قَالَ: قَالَ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا رُويفع لعل الحياة ستطول بك بعدي، فأخبر النَّاس أنه منْ عَقَد لحيته، أو تقلد وترا، أو استنجى برجيع دابة، أو عظم، فإن محمدا صلى الله عليه وسلم منه بريء".
(إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَا رُوَيْفِعُ) بضمّ الراء، وكسر الفاء، مصغّرًا (لَعَلَّ الْحَيَاةَ سَتَطُولُ بِكَ بَعْدِي)"لعلّ" للترجّي، والمعنى أرجو أن تطول بك الحياة بعد موتي، فإذا طالت بك، ورأيت النَّاس، قد ارتكبوا أشياء منْ المخالفات، فأخبرهم، وَقَدْ حقّق الله تعالى له رجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم، فطالت به الحياة، حَتَّى مات سنة (56) بإفريقية، وهو آخر منْ مات بها منْ الصحابة رضي الله عنهم.
ويحتمل أن تكون "لعلّ" هنا للتحقيق، ففيه إخبار منه صلى الله عليه وسلم بالغيب، معجزةً له، فقد طالت به الحياة، كما أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى رآى كثيرًا منْ المخالفات (فَأَخْبِرِ النَّاسَ أَنَّهُ) الضمير للشأن: أي أن الشأن والحال، وجملة قوله:(مَنْ عَقَدَ لِحْيَتَهُ) الخ تفسير للضمير، والعقد فِي الأصل الربط، يقال: عقدت الحبل عقداً، منْ باب ضرب: إذا ربطته. و"اللحية" بكسر اللام: شعر الخدّين، والذَّقَن، وتجمع عَلَى لِحًى بكسر اللام، كسدرة وسدَر، وبضمّها أيضًا، مثل حِلية وحُلًى. و"اللِّحَى": عظم الحنك الذي عليه الأسنان، وهو منْ الإنسان حيث ينبت الشعر، وهو أعلى، وأسفلُ.
و"عقد اللحية": قيل: هو معالجتها حَتَّى تتعقّد، وتتجعّد. وقيل: كانوا يعقدونها فِي الحروب، فأمرهم بإرسالها، كانوا يفعلون ذلك تكبّراً، وعُجباً. قاله فِي "النهاية" 3/ 270. وَقَالَ فِي "المرقاة": قَالَ الأكثرون: هو معالجتها، حتّى تتعقّد، وتتجعّد، وهذا مخالف للسنّة التي هي تسريح اللحية. وقيل: كانوا يعقِدونها فِي الحرب زمن الجاهليّة، فأمرهم صلى الله عليه وسلم بإرسالها؛ لما فِي عقدها منْ التشبّه بالنساء. وقيل: كَانَ ذلك منْ دأب العجم أيضاً، فنُهُوا عنه؛ لأنه تغيير لخلق الله عز وجل. وَقَالَ الأبهريّ: كَانَ منْ عادة العرب أن منْ له زوجة واحدة عقد عَقْدَةً واحدة صغيرة، ومن كَانَ له زوجتان عقد عقدتين. انتهى.
وذكر السيوطيّ فِي "شرحه" 8/ 136 - فَقَالَ: وفي رواية لمحمد بن الربيع الجيزيّ فِي "كتاب منْ دخل مصر، منْ الصحابة": "منْ عقد لحيته فِي الصلاة". وَقَالَ ثابت بن
(1)
"النضو" بالكسر: البعير المهزول، والمعنى أنه يستأجر البعير المهزول ليغزو عليه، فيغنم.
(2)
"النصل": حديدة السهم. و"الريش" بالكسر: سن السهم. و"القدح" بكسر، فسكون: خشب السهم.
قاسم السرقسطيّ فِي "كتاب الدلائل" فِي غريب الْحَدِيث: "منْ عقد لحيته"، وصوابه -والله أعلم-:"منْ عقد لحاء"، منْ قولك: لحيت الشجر، ولحوته: إذا قشرته، وكانوا فِي الجاهليّة يعقدون لحاء الحرم، فيقلّدونه أعناقهم، فيأمنون بذلك، وهو قوله تعالى:{لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ} الآية [المائدة: 2]، فلما ظهر الإسلام نهي عن ذلك منْ فعلهم. وروى أسباط، عن السدّيّ فِي هذه الآية: أما شعائر الله، فحرم الله، وأما الهدي والقلائد، فإن العرب كانوا يقلّدون منْ لحاء الشجر، شجر مكة، فيقيم الرجل بمكة حَتَّى إذا انقضت الأشهر الحرم، وأراد أن يرجع إلى أهله، قلّد نفسه، وناقته منْ لحاء الشجر، فيأمن حَتَّى يأتي أهله.
قَالَ ابن دقيق العيد: وما أشبه ما قاله بالصواب، لكن لم نره فِي رواية مما وقفنا عليه. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي ادّعاه السرقسطي منْ تصحيف اللحية منْ اللحاء مما لا يُلتفت إليه، حيث لم يثبت رواية، كما قاله ابن دقيق العيد، فالصواب ما فِي الرواية، ولا حاجة إلى ما ذكره؛ فإن معنى الْحَدِيث صحيح، كما أسلفناه آنفاً. والله تعالى أعلم.
(أَوْ تَقَلَّدَ وَتَرًا) أي جعل الوتر فِي عنقه، كالقلادة، و"الوتر" بفتحتين: ما يُشدّ به القوس، أو مطلق الحبل. وقيل: المراد به الخيط الذي يُعلّق فيه التمائم، أو خرزات؛ لدفع العين، والحفظ منْ الآفات، كانوا يعلّقونها فِي رقاب الأولاد، والخيل. وفي "شرح العينيّ": هي التمائم التي يشدّونها بالأوتار، وكانوا يرون أنها تعصمهم منْ الآفات، وتدفع عنهم المكاره، فأبطل النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك. انتهى. وَقَالَ أبو عُبيدة: الأشبه أنه نهى عن تقليد الخيل أوتار القسيّ، نُهُوا عن ذلك؛ إما لاعتقادهم أن تقليدها بذلك يدفع عنها العين، وإما لمخافة اختناقها به، لاسيما عند شدّة الركض، بدليل ما روي أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقطع الأوتار عن أعناق الخيل؛ تنبيهاً أنها لا تردّ القدر. انتهى ملخّصاً. انتهى "المنهل العذب المورود فِي شرح سنن أبي داود" 1/ 136 - 137.
(أَوِ اسْتَنْجَى بِرَجِيعِ دَابَّةٍ)"الرجيع": الروث، والْعَذِرة، سُمّي رجيعاً؛ لأنه رجع عن حالته الأولى، منْ كونه طعاماً، أو عَلَفًا. ونهي عن الاستنجاء بالروث؛ إما لكونه نجسًا، عند منْ يقول به، أو لكونه طعام دوابّ الجنّ، وهو أولى؛ لوروده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج أبو داود بسند صحيح، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قَالَ: قَدِم وَفْد الجن عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد، انْهَ أمتك أن يستنجوا بعظم، أو روثة، أو حُمَمَة، فإن الله تعالى جعل لنا فيها رزقا، قَالَ: فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
وأخرج مسلم فِي "صحيحه" منْ طريق عامر الشعبيّ، قَالَ: سألت علقمة، هل كَانَ ابن مسعود، شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قَالَ: فَقَالَ علقمة: أنا سألت ابن مسعود، فقلت: هل شهد أحد منكم، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليلة الجن؟ قَالَ: لا، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذات ليلة، ففقدناه، فالتمسناه فِي الأودية والشعاب، فقلنا: استطير، أو اغتيل، قَالَ: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا، إذا هو جاءٍ منْ قبل حراء، قَالَ: فقلنا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدناك، فطلبناك، فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فَقَالَ:"أتاني داعي الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن"، قَالَ: فانطلق بنا، فأرانا آثارهم، وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد؟ فَقَالَ:"لكم كل عظم ذُكر اسم الله عليه، يقع فِي أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة علفٌ لدوابكم"، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فلا تستنجوا بهما، فإنهما طعام إخوانكم"
(1)
.
(أَوْ عَظْمٍ) بالجرّ عطفًا عَلَى "رجيع"، ونُهي عنه؛ لأنه زاد الجنّ، والتنكير فيه للتعميم، فيشمل عظم الميتة، والمذكّى، هكذا قيل، وفيه نظر لما سبق فِي حديث مسلم:"لكم كُلُّ عظم ذُكِر اسمُ الله عليه" فإنه ظاهر فِي كونه مُذكًّى، فليُتَأَمل .. وجملة قوله:(فَإِنَّ مُحَمَّداً) صلى الله عليه وسلم (بَرِيءٌ مِنْهُ) خبر "منْ" فِي قوله: "منْ عَقَد لحيته"، إن كانت موصولةٌ، أو جوابها، إن كانت شرطيّةً. وهو وعيد شديد عَلَى فعل أيّ واحد مما ذُكر، نعوذ بالله تعالى منْ كلّ ما لا يُرضي الله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وإنما قَالَ صلى الله عليه وسلم: "فإن محمداً صلى الله عليه وسلم" دون أن يقول: فأنا، أو فإني؛ لئلا يُتوهّم أن البراءة منْ الراوي المخبر، مع الإشارة إلى أن المسمّى بهذا الاسم المعظّم الذي حمده الأولون والآخرون بريء منه، فيكون دلالة عَلَى غاية ذمّه، وأنه صلى الله عليه وسلم لا يتبرّأ إلا منْ مذموم. أفاده فِي "المنهل العذب المورود" 1/ 136 - 137. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث رويفع بن ثابت رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح.
(1)
وَقَالَ بعده: وحدثنيه عليّ بن حجر السعدي، حدثنا إسمعيل بن إبراهيم، عن داود بهذا الإسناد، إلى قوله:"وآثار نيرانهم"، قَالَ الشعبي: وسألوه الزاد، وكانوا منْ جن الجزيرة .. إلى آخر الْحَدِيث، منْ قول الشعبي، مفصلا منْ حديث عبد الله. وحدثناه أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن داود، عن الشعبي، عن علقمة، عن عبد الله، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، إلى قوله:"وآثار نيرانهم"، ولم يذكر ما بعده.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -12/ 5069 - وفي "الكبرى" 17/ 9336. وأخرجه (د) فِي "الطهارة" 36 (أحمد) فِي "مسند الشاميين" 16546 و16552. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم عقد اللحية، وهو التحريم. (ومنها): أن فيه معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث تحقّق ما رجاه فِي هَذَا الصحابيّ رضي الله عنه، قَالَ الحافظ السيوطيّ فِي "شرحه" 8/ 135: قد ظهر مصداق ذلك، فطالت به الحياة، حَتَّى مات سنة ثلاث وخمسين بإفريقية، وهو آخر منْ مات بها منْ الصحابة رضي الله عنهم، كما ذكره أبو زكريّا ابن منده. انتهى. (ومنها): النهي عن تقليد الوتر. (ومنها): النهي عن الاستنجاء برجيع، أو عظم. (ومنها): أن ارتكاب الجرائم سبب لهلاك الدين، حيث يترتّب عليه براءة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا هلاك أخطر منْ هَذَا، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا المخالفات بأسرها، ويرحمنا بأن يُحبّب إلينا الإيمان، ويزيّنه فِي قلوبنا، ويكرّه إلينا الكفر، والفسوق، والعصيان، بمنه، وكرمه، إنه بعباده رءوف رحيم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
13 - (النَّهْيُ عَنْ نَتْفِ الشَّيْبِ)
5070 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ نَتْفِ الشَّيْبِ").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.
2 -
(عبد العزيز) بن محمد بن عُبيد الدراورديّ المدنيّ، صدوقٌ، كَانَ يحدّث منْ كتب غيره، فيُخطيء [8] 84/ 101.
3 -
(عمارة بن غزية) الأنصاريّ المازنيّ المدنيّ، لا بأس به [6] 168/ 1137.
4 -
(عمرو بن شعيب) المدنيّ، أو الطائفيّ، صدوقٌ [5] 105/ 140.
5 -
(أبوه) شعيب بن محمد الطائفيّ، صدوقٌ [3] 105/ 140.
6 -
(جدّه) عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما 89/ 111. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، عن جدّه، وتابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ) شعيب بن محمد (عَنْ جَدِّهِ) عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ نَتْفِ) بفتح، فسكون: مصدر نتف الشعر، منْ باب ضرب: إذا نزعه، أي نهى عن نزع (الشَّيْبِ) أي الشعر الأبيض، يقال: شاب يشيب شيباً، وشَيبةً، فالرجل أشيب، عَلَى غير قياس، والجمع شِيبٌ بالكسر، وشيبان مشتقّ منْ ذلك، وبه سُمّي، ولا يقال: امرأة شيباء، وإن قيل: شاب رأسها، والمشيب: الدخول فِي حدّ الشَّيْب، وَقَدْ يُستعمل المشيب بمعنى الشيب، وهو ابيِضَاض الشعر المسَوَّد. قاله فِي "المصباح".
والحديث مختصر، وَقَدْ رواه أبو داود فِي "سننه"، فَقَالَ: حدّثنا مسدّد، أخبرنا يحيى ح وأخبرنا مسدّد، قَالَ: أخبرنا سفيان -المعنى- عن ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنتفوا الشيب، ما منْ مسلم يشيب شيبة فِي الإسلام -قَالَ عن سفيان-: إلا كانت له نورا يوم القيامة"- وَقَالَ فِي حديث يحيى: "إلا كتب الله له بها حسنة، وحَطَّ عنه بها خطيئة".
[فإن قيل]: إذا كَانَ حال الشيب كذلك، فلم شُرع ستره بالخضاب؟.
[قيل]: ذلك لمصلحة اخرى دينيّة، وهو إرغام الأعداء، وإظهار الجلادة لهم. وَقَالَ ابن العربيّ: إنما نُهي عن النتف، دون الخضب؛ لأن فيه تغيير الخلقة منْ أصلها، بخلاف الخضب، فإنه لا يغيّر الخلقة عَلَى الناظر إليه. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله نعالى عنه: هكذا قالوا، وعندي أن الأودى أن يُعلّل بأن فيه مصلحةً دينيّة، وهي مخالفة اليهود والنصارى، كما أمره النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، فهذا أولى ما يُعلّل به تغيير الشيب، مع أنه نور يوم القيامة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -13/ 5070 - وفي "الكبرى" 18/ 9336. وأخرجه (د) فِي "الترجّل" 3670 (ت) فِي "الأدب" 2821 (ق) فِي "الأدب" 3721. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان النهي عن نتف الشيب، وفي "صحيح مسلم" عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قَالَ: يكره أن ينتف الرجل الشعرة البيضاء منْ رأسه ولحيته. قَالَ النوويّ: هَذَا متَّفقٌ عليه، قَالَ أصحابنا، وأصحاب مالك: يكره، ولا يحرم. انتهى "شرح مسلم" 15/ 96.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قالوه منْ الكراهة، دون التحريم مما لا دليل عليه، بل ظواهر النصوص تدلّ عَلَى التحريم؛ لأن النهي للتحريم عند جمهور أهل العلم، كما هو مقرّر فِي الأصول، إلا إذا وُجد صارف يصرفه عنه إلى غيره، فإن وُجد فذاك، وإلا فالأصل التحريم، فتبصّر. والله تعالى أعلم.
(ومنها): الترغيب فِي إبقاء الشيب، وترك التعرّض لإزالته. (ومنها): ما أكرم الله سبحانه وتعالى المؤمن بسبب الشيب، وهو أنه يكفّر به خطاياه، ويكتب له به الحسنات. اللَّهم اجعلنا فِي عبادك المكرمين {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النِّساء: 69 - 70]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
***
14 - (الإِذْنِ بِالْخِضَابِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الخِضاب" -بكسر الخاء، وتخفيف الضاد المعجمتين، ككتاب-: هو ما يُخضب به. أفاده فِي "القاموس". وفي "الفتح": "الخِضاب": تغيير شيب الرأس واللحية. انتهى. وهذا معناه المصدريّ، فلا يحتاج إلى تقدير، وعلى الأول يكون المعنى عَلَى حذف مضاف: أي باب الإذن فِي استعمال الخِضَاب.
وَقَالَ الفيّوميّ رحمه الله تعالى: خَضَبتُ اليد، وغيرها خَضْباً، منْ باب ضرب إذا غيّرتها بالخِضاب، وهو الحنّاء، ونحوه، قَالَ ابن القطاع: فإذا لم يذكروا الشيب، والشعر قالوا: خضب خِضاباً، واختضبتُ بالخضاب. وفي نسخة منْ "التهذيب": يقال للرجل: خاضبٌ إذا اختضب بالحنّاء، فإن كَانَ بغير الحنّاء، قيل: صبغ شعره، ولا يقال: اختضب. انتهى بتصرّف يسير.
وَقَالَ ابن منظور رحمه الله تعالى: الخِضاب: ما يُختضب به، منْ حِنّاء، وكَتَم، ونحوه. وفي "الصحاح": الخِضاب: ما يُختضب به. واختضب بالحنّاء، ونحوه، وخَضَب الشيءَ يَخْضِبُهُ خَضْباً، وخَضّبه: غيّر لونه بحمرة، أو صُفْرة، أو غيرهما، قَالَ الأعشى [منْ الطويل]:
أَرَى رَجُلاً مِنْكُمْ أَسِيفًا كَأَنَّمَا
…
يَضُمُّ إِلَى كَشْحَيْهِ كَفًّا مُخَضَّبَا
ذكّره عَلَى إرادة العضو، أو عَلَى قوله [منْ المتقارب]:
فَلَا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا
…
وَلَا أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا
ويجوز أن يكون صفة لرجل، أو حالاً منْ المضمر فِي "يضمّ"، أو المخفوضِ فِي "كشحيه".
وخضب الرجل شيبه بالحنّاء يخضِبه، والْخِضاب: الاسم. قَالَ السهليّ: عبد المطّلب أول منْ خضب بالسواد منْ العرب. ويقال: اختضب الرجل، واختضبت المرأة، منْ غير ذكر الشعر. وكلُّ ما غُيّر لونه فهو مخضوبٌ، وخَضِيبٌ، وكذلك الأنثى، يقال: كفّ خَضِيبٌ، وامرأة خَضِيبٌ، والجمع خُضُبٌ. قَالَ فِي "التهذيب": كلُّ لون غيَّر لونَهُ حمرةٌ فهو مخضوبٌ. انتهى "لسان العرب" 1/ 357 - 358. والله تعالى أعلم بالصواب.
5071 -
(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي،
عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ، إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ح وَأَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَا تَصْبُغُ، فَخَالِفُوهُمْ").
رجال هَذَا الإسناد: عشرة:
1 -
(عبيد الله بن سعد بن إبراهيم) أبو الفضل البغداديّ، قاضي أصبهان، ثقة [11] 17/ 480.
2 -
(عمه) يعقوب بن إبراهيم بن سعد الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة فاضل، منْ صغار [9] 198/ 314.
3 -
(أبوه) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة حجة [8] 198/ 314.
4 -
(صالح) بن كيسان الغفاريّ، أبو محمد، أو أبو الحارث المدنيّ، مؤدّب ولد عمر بن عبد العزيز، ثقة ثبت فقيه [4] 198/ 314.
5 -
(يونس بن عبد الأعلى) الصدفيّ، أبو موسى المصريّ، ثقة، منْ صغار [10] 1/ 449.
6 -
(ابن وهب) عبد الله المصريّ الحافظ، ثقة عابد [9] 9/ 9.
7 -
(يونس) بن يزيد الأيليّ، أبو يزيد الأمويّ مولاهم، ثقة [7] 9/ 9.
8 -
(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهريّ المدنيّ الإمام الحجة الثبت [4] 1/ 1.
9 -
(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 1/ 1.
10 -
(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى بالنسبة للسند الأول، ومن سداسياته بالنسبة للثاني، فهو أعلى بدرجة منْ الأول. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه ثلاثة منْ التابعين يروي بعضهم عن بعض: صالح، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، وهو أحد الفقهاء السبعة عَلَى بعض الأقوال، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ منْ روى الْحَدِيث فِي دهره. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف (أَخْبَرَهُ) أي أخبر ابن شهاب الزهريّ (عَنْ
أبي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَا تَصْبُغُ) بضم الباء الموحّدة، وفتحها، يقال: صبغتُ الثوب صَبْغاً، منْ بابي نَفَعَ، ونَصَر، وفي لغة منْ باب ضرب. قاله الفيّوميّ. وإنما أفرد الضمير، وأنّثه باعتبار كلتا القبيلتين. وفي رواية الشيخين:"لا يصبغون": أي لا يخضبون، والمراد أنهم لا يصبغون لِحَاهم، ورءوسهم، فأمرنا بصبغهما، وأما خضب اليدين والرجلين فلا يجوز للرجال إلا فِي التداوي. قاله فِي "الفتح" 11/ 547 - 548.
(فَخَالِفُوهُمْ) ولفظ الرواية التالية: "إن اليهود، والنصارى لا تصبغ، فخالفوا عليهم، فاصبغوا".
قَالَ فِي "الفتح": هكذا أطلق، ولأحمد بسند حسن، عن أبي أمامة رضي الله عنه، قَالَ: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، عَلَى مشيخة منْ الأنصار، بِيضٍ لِحاهم، فَقَالَ:"يا معشر الأنصار حَمِّروا، وصَفِّروا، وخالفوا أهل الكتاب"، وأخرج الطبراني فِي "الأوسط" نحوه، منْ حديث أنس رضي الله عنه، وفي "الكبير" منْ حديث عتبة بن عبد، كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتغيير الشعر، مخالفة للأعاجم.
وفي حديث ابن عمر رفعه: "غيروا الشيب، ولا تشبهوا باليهود"، ورجاله ثقات، لكن اختلف عَلَى هشام بن عروة فيه، كما بينه النسائيّ، وَقَالَ: إنه غير محفوظ، وأخرجه الطبراني فِي "الأوسط" منْ حديث عائشة، وزاد:"والنصارى". ولأصحاب "السنن"، وصححه الترمذيّ، منْ حديث أبي ذر رضي الله عنه رفعه:"إن أحسن ما غيرتم به الشيب الحناء والكتم"، وهذا يحتمل أن يكون عَلَى التعاقب، ويحتمل الجمع، وَقَدْ أخرج مسلم منْ حديث أنس رضي الله عنه قَالَ:"اختضب أبو بكر بالحناء والكتم، واختضب عمر بالحناء بحتا". وقوله: "بحتا" بموحدة مفتوحة، ومهملة ساكنة، بعدها مثناة: أي صرفا، وهذا يشعر بأن أبا بكر كَانَ يجمع بينهما دائما.
و"الكتم": نبات باليمن، يخرج الصبغ أسود يميل إلى الحمرة، وصبغ الحناء أحمر، فالصبغ بهما معا يخرج بين السواد والحمرة. قاله فِي "الفتح" 11/ 548. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي هرير رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -14/ 5071 و5072 و5073 و5074 و64/ 5243 - وفي "الكبرى"
19/ 9338 و9339 و9340 و9341 و9342 و9343. وأخرجه (خ) فِي "أحاديث الأنبياء" 3462 و"اللباس" 5899 (م) فِي "اللباس" 2103 (د) فِي "الترجّل" 4203 (ت) فِي "اللباس" 1752 (ق) فِي "اللباس" 3621 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 7232 و7489 و8022 و8956. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان الإذن بالخضاب.
(ومنها): أن فِي الصبغ مخالفة لليهود والنصارى، وهو منْ الأمور المهمّة فِي الشرع، حيث إن فيه مباينة للأمة الخائنة لأنبيائها، ودينها، فلا ينبغي التشبه بهم فِي أيّ نوع منْ أنواع سلوكهم الأخلاقية، والعادات؛ لكونها ضدّ الشريعة الإسلاميّة. (ومنها): أن فيه الأمر بالصبغ، والأمر للوجوب عند جمهور الأصولين، إلا إذا كَانَ له صارف يصرفه عن الوجوب إلى غيره، والقول بالوجوب منقول عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وهو الحقّ؛ إذ لا صارف للأمر عن الوجوب. وسيأتي تمام البحث فِي هَذَا فِي المسألة التالية، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي خضب اللحية والرأس، وتركه:
قَالَ فِي "الفتح": وَقَدْ اختُلف فِي الخضب، وتركه، فخضب أبو بكر، وعمر وغيرهما رضي الله عنهم، كما تقدّم، وترك الخضاب عليّ، وأبي بن كعب، وسلمة بن الأكوع، وأنس، وجماعة رضي الله عنهم.
وجمع الطبري بأن منْ صبغ منهم كَانَ اللائقَ به كمن يستشنع شيبه، ومن ترك كَانَ اللائقَ به، كمن لا يُستشنع شيبه، وعلى ذلك حمل قوله صلى الله عليه وسلم فِي حديث جابر رضي الله عنه الذي أخرجه مسلم فِي قصة أبي قحافة رضي الله عنه، حيث قَالَ صلى الله عليه وسلم لَمّا رأى رأسه كأنها الثُّغَامة بياضا:"غَيِّروا هَذَا، وجنبوه السواد"، ومثله حديث أنس رضي الله عنه الذي تقدّمت الإشارة إليه أوّل "باب ما يُذكر فِي الشيب"
(1)
. وزاد الطبري، وابن أبي عاصم منْ وجه آخر، عن جابر:"فذهبوا به، فحقروه". و"الثغامة" -بضم المثلثة، وتخفيف المعجمة-: نبات شديد البياض زهره وثمره، قَالَ: فمن كَانَ فِي مثل حال أبي قحافة استُحِبّ له الخضاب؛ لأنه لا يحصل به الغرور لأحد، ومن كَانَ بخلافه فلا يستحب فِي حقه،
(1)
يعني الْحَدِيث الذي أخرجه البخاريّ منْ طريق حماد بن زيد، عن ثابت، قَالَ: سُئل أنس رضي الله عنه عن خضاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"إنه لم يبلغ ما يُخضَبُ، لو شئت أن أعدّ شَمَطاته فِي لحيته". وفي رواية ابن سيرين، قَالَ: سألت أنساً رضي الله عنه أخضب النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: "لم يبلغ الشيب إلا قليلاً". انتهى.
ولكن الخضاب مطلقا أولى؛ لأنه فيه امتثال الامر فِي مخالفة أهل الكتاب، وفيه صيانة للشعر عن تعلق الغبار وغيره به، إلا إن كَانَ منْ عادة أهل البلد ترك الصبغ، وأن الذي ينفرد بدونهم بذلك يصير فِي مقام الشهرة، فالترك فِي حقه أولى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: فالترك أولى، هَذَا الكلام فيه خطر؛ لأنه يؤدّي إلى ترك السنة، متعلّلاً بعدم عمل النَّاس بها، والواجب عَلَى المسلم إذا ترك النَّاس العمل بها إحياؤها، وأي كتاب نطق، وأيّ سنة أمرت بترك السنة؛ لأجل ترك النَّاس لها؛ خوفاً منْ الشهرة؟، إن هَذَا لهو العجب منْ مثل الحافظ المدافع عن السنة، والقائم بالذّبّ عنها أن يتكلّم به، أو ينقله منْ غيره، ويسكت عليه. والله المستعان.
قَالَ: ونقل الطبري بعد أن أورد حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رفعه، بلفظ: "منْ شاب شيبة، فهي له نور، إلى أن ينتفها، أو يخضبها
(1)
"، وحديث ابن مسعود رضي الله عنه إن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يكره خصالا، فذكر منها تغيير الشيب، إذ بعضهم ذهب إلى أن هذه الكراهة تستحب
(2)
بحديث الباب، ثم ذكر الجمع، وَقَالَ دعوى النسخ لا دليل عليها.
قَالَ الحافظ: وجنح إلى النسخ الطحاوي، وتمسك بالحديث الآتي قريبا، أنه كَانَ صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب، فيما لم ينزل عليه، ثم صار يخالفهم، ويحث عَلَى مخالفتهم"، كما سيأتي تقريره فِي "باب الفرق"، إن شاء الله تعالى.
وحديث عمرو بن شعيب المشار إليه، أخرجه الترمذيّ، وحسنه، ولم أر فِي شيء منْ طرقه الاستثناء المذكور، فالله أعلم.
قَالَ ابن العربي: وإنما نُهي عن النتف، دون الخضب؛ لأن فيه تغيير الخلقة منْ أصلها، بخلاف الخضب، فإنه لا يغير الخلقة عَلَى الناظر إليه. والله أعلم.
وَقَدْ نقل عن أحمد أنه يجب، وعنه يجب ولو مرة، وعنه لا احب لأحد ترك الخضب، ويتشبه بأهل الكتاب، وفي السواد عنه كالشافعية روايتان: المشهورة يكره، وقيل: يحرم، ويتأكد المنع لمن دلس به. "فتح" 11/ 548.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما نُقل عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى منْ القول
(1)
قوله: "أو يخضبها" هَذَا اللفظ لا يصحّ، بل الذي يصحّ النهي عن النتف فقط، ولفظ الْحَدِيث عند أبى داود:"عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنتفوا الشيب، ما منْ مسلم يشيب شيبة فِي الإسلام إلا كانت له نوراً يوم القيامة"، وفي لفظ: "إلا كتب الله له بها حسنة، وحطّ عنه بها خطيئة".
(2)
هكذا نسخة "الفتح" بلفظ "تستحبّ"، والظاهر أنه تصحيف منْ "تنسخ"، والله أعلم.
بوجوب الخضب هو الظاهر؛ لظواهر النصوص، وأما الخضب بالسواد، فتحريمه أظهر؛ كما سيأتي فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5072 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "إسحاق بن إبراهيم": هو ابن راهويه. و"عبد الرزاق": هو ابن همام. و"معمر": هو ابن راشد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5073 -
(أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا تَصْبُغُ، فَخَالِفُوا عَلَيْهِمْ، فَاصْبُغُوا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الحسين بن حُريث": هو أبو عمّار الْخزاعيّ المروزيّ الثقة [10]. و"الفضل بن موسى": هو أبو عبد الله السِّيناني المروزيّ الثقة الثبت، منْ كبار [9].
وقوله: "فخالفوا عليهم": هكذا فِي هذه الرواية بـ"عَلَى"، والظاهر أن "عَلَى" زائدة، بدليل الروايات الأخرى بلفظ:"فخالفوهم"، وفيه الأمر بالمخالفة، وهو للوجوب، إذا لم يثبت له صارف. وقوله:"فاصبغوا": أمر بالصبغ، وتقدم أنه منْ باب نفع، ونصر، وضرب. وهذا الأمر تأكيد لما قبله. والحديث متَّفقٌ عليه، كما سبق قريباً.
[تنبيه]: أورد فِي "الكبرى" الْحَدِيث هنا بسند آخر، ونصّه 5/ 415:
9342 -
أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قَالَ: أنا سفيان، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، وسليمان بن يسار، أنهما سمعا أبا هريرة يُخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"إن اليهود والنصارى، لا يصبغون، فخالفوهم". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5074 -
(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى -وَهُوَ ابْنُ يُونُسَ- عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ، وَأَبِى سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، لَا تَصْبُغُ فَخَالِفُوهُمْ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عليّ بن خشرم" -بوزن جعفر-: هو المروزيّ الثقة، منْ صغار [10]. و"عيسى بن يونس": هو ابن أبي إسحاق السبيعيّ الكوفيّ الثقة المأمون [8]. و"سليمان": هو ابن يسار المدنيّ الثقة، أحد الفقهاء السبعة [3].
والحديث متّفق عليه، كما سبق بيانه قريباً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5075 -
(أَخْبَرَنِي عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَنَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "غَيِّرُوا الشَّيْبَ، وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عثمان بن عبد الله": هو ابن محمد بن خُرَّزاد، أبو عمرو البصريّ، نزيل أنطاكية، ثقة، منْ صغار [11] 112/ 155 منْ أفراد المصنّف. و"أحمد بن جناب" -بفتح الجيم، وتخفيف النون- ابن المغيرة الْمِصِّيصيّ، أبو الوليد الْحَدَثيّ، يقال: إنه بغدادي الأصل، صدوقٌ [10].
رَوَى عن عيسى بن يونس، والحكم بن ظهير، وغيرهما. وعنه مسلم، وأبو داود، والنسائي بواسطة، ويعقوب بن شيبة، وصاعقة، وأبو زرعة، وعثمان بن خُرَّزاد، والدّراوردي، وكتب عنه أحمد بن حنبل، وابنه عبد الله، وآخر منْ روى عنه أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي. ونقل الذهبيّ أن آخر منْ روى عنه أبو يعلى الموصلي. قَالَ صالح جزرة: صدوقٌ. وَقَالَ الحاكم: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ ابن أبي حاتم: رَوَى عنه أبي، وَقَالَ: هو صدوقٌ. وَقَالَ ابن أبي عاصم: مات سنة (230). روى له مسلم، وأبو داود، والمصنّف، وله عنده هَذَا الْحَدِيث فقط.
والحديث تفرد به المصنّف هنا -14/ 5075 وفي "الكبرى" 19/ 9344. ورجاله ثقات، إلا أن المصنّف رحمه الله تعالى قَالَ: هو غير محفوظ، يعني أن المحفوظ أنه منْ مرسل عروة، وليس منْ روايته عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.
قَالَ الحافظ المزّيّ رحمه الله تعالى فِي "تحفة الأشراف" 3/ 184 - 185 - بعد قوله: هو غير محفوظ: ما نصّه: رواه وُهيب بن خالد، ومحمد بن بشر، عن هشام بن عروة، عن أخيه عثمان بن عروة، عن أبيه عروة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مرسلاً. ورواه زيد بن الْحَرِيش، عن عبد الله بن رجاء، عن سفيان الثوريّ، عن هشام بن عروة، عن عائشة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ورواه وكيع، وأبو معاوية، وعبد الله بن نمير، ومحاضر بن الْمُوَرِّع فِي جماعة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ليس فيه "عثمان"، ولا "الزبير". انتهى "تحفة الأشراف" 3/ 184 - 185.
قَالَ فِي "النكت الظراف": أخرجه ابن المقرىء فِي "فوائده" عن عبدان الأهوازيّ، عن زيد بن الْحَرِيش، وَقَالَ: حدّث به ابن صاعد، وغيره منْ الأكابر، عن عبدان،
وهكذا رواه أبو زكريّا الغسّانيّ، وحفص بن عمر الحبطيّ، عن هشام بن عروة. انتهى "النكت الظراف" 3/ 185.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: تبيّن بما ذُكر أن الْحَدِيث محفوظ منْ مرسل عروة؛ لأن أكثر الحفّاظ عليه.
وَقَدْ تقدّم قريباً فِي الروايات السابقة أنه صحيح مرفوعًا منْ حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وَقَدْ أخرجه أيضًا منْ حديثه أحمد 1/ 261 و499 وابن سعد 1/ 1/ 439 عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا، بلفظ:"غيّروا الشيب، ولا تشبّهوا باليهود، والنصارى". وتابعه عمر بن أبي سلمة، عن أبيه به، دون ذكر النصارى، أخرجه الترمذيّ 1/ 325، وَقَالَ: حديث حسن صحيح، وَقَدْ روي منْ غير وجه عن أبي هريرة رضي الله عنه.
والحاصل أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه هَذَا صحيح، كما قَالَ الترمذيّ رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5076 -
(أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَخْلَدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كُنَاسَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "غَيِّرُوا الشَّيْبَ، وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ". وَكِلَاهُمَا غَيْرُ مَحْفُوظٍ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "حُميد بن مخلد بن الحسين": هو حميد بن مخلد بن قُتيبة بن عبد الله الأزديّ، أبو أحمد بن زنجويه، النسائيّ الحافظ، وزنجويه: لقب أبيه، ثقة ثبتٌ، له تصانيف [11].
رَوَى عن عثمان بن عمر بن فارس، وجعفر بن عون، والنضر بن شُميل، ويحيى بن حميد، ويزيد بن هارون، وأبي عاصم، وأبي صالح كاتب الليث، وسعيد بن أبي مريم، وعلي بن المديني، وأبي نعيم، وسليمان بن عبد الرحمن، وأبي عبيد القاسم بن سلام، ومحمد بن عبد الله بن كناسة، والفريابي، فِي آخرين. وروى عنه أبو داود، والنسائي، وأبو زرعة الدمشقي، وأبو حاتم، وعبد الله بن أحمد، والحسن المعمري، والحسن بن سفيان، وابن أبي الدنيا، والسراج، وابن صاعد، والحسين بن إسماعيل المحاملي، وغيرهم.
قَالَ النسائيّ: ثقة. وَقَالَ أحمد بن سيار: وكان حسن الفقه، قد كتب، ورحل، وكان رأسا فِي العلم. وَقَالَ أبو عبيد: ما قدم علينا منْ فتيان خراسان مثل ابن زنجويه، وابن شبويه. وَقَالَ الخطيب: كَانَ ثقة ثبتا حجة، كثير الْحَدِيث، قديم الرحلة، رَوَى عنه البخاريّ، ومسلم. قَالَ الحافظ: وكان ذلك فِي غير "الصحيحين"، وكذا ذكر روايتهما
عنه الحاكم، وأبو الحسين بن أبي يعلى الفراء، فِي "طبقات الحنابلة". وَقَالَ الحاكم: محدث، كثير الْحَدِيث، قديم الرحلة، إلى أن قَالَ: قرأت بخط أبي عمرو المستملي: ثنا حميد بن زنجويه، سنة (27). وَقَالَ ابن أبي حاتم: كتب عنه أبي، وَقَالَ: صدوقٌ.
وفرق الحافظ عبد الغني بينه، وبين حميد بن مخلد بن الحسين، وَقَالَ: رَوَى عن ابن كناسة، وعنه النسائيّ، والذي فِي النسائيّ فِي "كتاب الزينة": ثنا حميد بن مخلد، ثنا ابن كناسة، لم يذكر جده.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا نصّ "الكبرى"، وأما فِي "المجتبى"، فقد نصّ عَلَى اسم جدّه، كما ترى، والظاهر أنه مختلف فِي اسم جدّه، أو وقع فيه تصحيف، فإني لم أر منْ ترجم لحميد بن مخلد بن الحسين، وإنما ترجم أهل كتب الرجال لحسين بن مخلد بن قتيبة فقط. والله تعالى أعلم.
وَقَالَ ابن حبّان فِي "الثقات": كَانَ منْ سادات أهل بلده فقها وعلما، وهو الذي أظهر السنة بنسا، مات سنة (247) وَقَالَ غيره: سنة (48) وَقَالَ ابن يونس: قدم إلى مصر، وكتب بها، وكُتِبَ عنه، عن أبي عبيد، وخرج عن مصر، وتوفي سنة (51). وصحح هَذَا الذهبيّ فِي "سير أعلام النبلاء" 12/ 21.
تفرد به أبو داود، والمصنّف، وله عنده حديثان: هَذَا، وفي "كتاب الأشربة" باب "تحريم كلّ شراب أسكر كثيره" حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره".
و"محمد بن كُناسة": هو محمد بن عبد الله بن عبد الأعلى بن عبد الله بن خليفة بن زُهير بن نَضْلة بن معاوية بن مازن الأسدي، أسد خزيمة، أبو يحيى، ويقال: أبو عبد الله الكوفيّ، المعروف بابن كُناسة -بضم الكاف، وتخفيف النون، وبمهملة- وهو لقب أبيه، وقيل: لقب جدّه، صدوقٌ، عارف بالآداب [9].
روى عن هشام بن عروة، ويحيى بن أبي الهيثم العطار، وإسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، وفطر بن خليفة، والمبارك بن فَضَالة، والكلبي، وغيرهم.
رَوَى عنه أحمد بن حنبل، وأبو خيثمة، وأبو كريب، ومؤمل بن إهاب، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وأبو بكر بن أبي شيبة، وحميد بن زنجويه، وآخرون. قَالَ ابن معين، وأبو داود، والعجلي: ثقة. وَقَالَ عبد الله بن عليّ بن المديني، عن أبيه: كَانَ شيخا ثقة صدوقا. وَقَالَ أبو حاتم: كَانَ صاحب أخبار، يكتب حديثه، ولا يحتج به. وَقَالَ يعقوب بن شيبة: ثقة صالح الْحَدِيث، وهو ابن أخت إبراهيم بن أدهم الزاهد، وكان له علم بالعربية، والشعر، وأيام النَّاس. وَقَالَ: ذكره عليّ بن المديني يوما، فَقَالَ: هو ثقة صدوقٌ. وذكره
ابن حبّان فِي "الثقات". قَالَ يعقوب بن شيبة: مات فِي شوال سنة سبع ومائتين. وَقَالَ ابن قانع: مات سنة تسع. قَالَ الخطيب: ونرى الأول أصح. وقيل: إن مولده سنة (123). وَقَالَ ابن سعد: كَانَ عالما بالعربية، وأيام النَّاس، وتوفي فِي شوال، سنة تسع ومائتين. وَقَالَ المرزباني: كَانَ منْ شعراء الكوفيين، وعلمائهم، وعُمِّر عمرا طويلا، قارب التسعين. وَقَالَ ابن قانع: كوفيّ صالح. وجزم أبو الفرج فِي "الأغاني" بأن كُناسة لقب والده عبد الله، وَقَالَ: كَانَ منْ شعراء الدولة العباسية، وكان صالحا، لا يتصدى لمدح، ولا هجاء، ومن محاسن قوله [منْ الطويل]:
وَمِنْ عَجَبِ الدُّنْيَا تَيَقُّنُكَ الْبَلَا
…
وَأَنَّكَ فِيهَا لِلْبَقَاءِ تُرِيدُ
إِذَا اعْتَادَتِ النَّفْسُ الرِّضَاعَ مِنَ الْهَوَى
…
فَإِنَّ فِطَامَ النَّفْسِ عَنْهُ شَدِيدُ
تفرد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.
وقوله: "وكلاهما غير محفوظ": يعنى أن كلا حديثي عيسى بن يونس، عن هشام ابن عروة، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وحديث محمد بن كُناسة عن هشام بن عروة، عن أخيه عثمان بن عروة، عن أبيه، عن الزبير بن العوّام رضي الله عنه غير محفوظ.
وهذا الذي قاله المصنّف رحمه الله تعالى قاله غيره منْ الحفّاظ أيضًا، قَالَ فِي "تهذيب التهذيب 3/ 607": روى له النسائيّ حديثه عن هشام، عن أخيه عثمان، عن أبيه عروة، عن الزبير، حديثَ:"غَيِّروا الشيب، ولا تشبهوا باليهود". قَالَ ابن معين: إنما هو عن عروة، مرسل. وَقَالَ الدارقطنيّ: لم يتابع عليه، ورواه الحفاظ منْ أصحاب هشام، عن عروة، مرسلا. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث الزبير بن العوّام رضي الله تعالى عنه هَذَا الصحيح أنه مرسل، وهو صحيح مُتَّصِلٌ، منْ حديث أبي هريرة رضي الله عنه، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -14/ 5076 - وفي "الكبرى" 19/ 9345. وأخرجه (أحمد) فِي "مسند العشرة" 1418. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
***
15 - (النَّهْيُ عَنِ الْخِضَابِ بِالسَّوَادِ)
5077 -
(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْحَلَبِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ -وَهُوَ ابْنُ عَمْرٍو- عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَفَعَهُ، أَنَّهُ قَالَ: "قَوْمٌ يَخْضِبُونَ بِهَذَا السَّوَادِ، آخِرَ الزَّمَانِ، كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ، لَا يَرِيحُونَ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(عبد الرحمن بن عُبيد الله) بن حكيم الأسديّ، أبو محمد "الْحَلَبيّ"، الكبير
(1)
المعروف بابن أخي الإمام بحلب، صدوقٌ [10].
رَوَى عن عبيد الله بن عمرو الرَّقّيّ، وأبي المديح الحسن بن عمر الرقي، وخلف بن خليفة، ويحيى بن أبي زائدة، وعيسى بن يوسى، والوليد بن مسلم، وعبد الله بن المبارك، والدراوردي، وابن عيينة، وإبراهيم بن سعد، وعمر بن عبيد الطنافسي، وغيرهم. وعنه أبو داود، والنسائي، وأحمد بن عليّ الأبار، وبَقِيّ بن مخلد، والحسن ابن عليّ المعمري، وحفيده محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن، المعروف بالأسير، وأبو حاتم الرازي، وعبد الرحمن بن عبيد الله بن عبد العزيز الهاشمي، المعروف أيضًا بابن أخي الإمام، وعمر بن سعيد بن سنان الطائي، ومحمد بن محمد بن سليمان الباغندي، وغيرهم.
قَالَ أبو حاتم: صدوقٌ. وَقَالَ النسائيّ: لا بأس به. وَقَالَ أحمد بن إسحاق، أبو صالح الوزان: ثنا عبد الرحمن بن عبيد الله، أخو الإمام، ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: ربما أخطأ. وَقَالَ أبو حاتم فِي "العلل": سألته، وكان يفهم الْحَدِيث. تفرّد به أبو داود، والمصنّف، وله عنده هَذَا الْحَدِيث فقط.
2 -
(عبيد الله بن عمرو) الرّقّيّ، أبو وهب الأسديّ، ثقة فقيه، ربّما وهِم [8] 177/ 280.
3 -
(عبد الكريم) بن مالك الجزريّ، أبو سعيد، مولى بني أميّة، وهو الْخِضْرميّ -بالخاء، والضاد المعجمتين: نسبة إلى قرية باليمامة- ثقة [6] 96/ 2852.
[تنبيه]: وقع فِي "الكبرى": ما نصّه "عن عبيد الله بن عبد الكريم"، وهو غلط
(1)
وأما الصغير، فهو عبد الرحمن بن عبيد الله بن عبد العزيز بن الفضل بن صالح بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس، أبو محمد ابن أخي الإمام الحلبيّ، مقبول [12] مات بعد (300)، وليس له فِي الكتب الستة رواية، وإنما يذكر فِي كتب الرجال للتمييز، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
فاحش، والصواب:"عن عبيد الله، عن عبد الكريم"، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
4 -
(سعيد بن جُبير) الأسديّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 28/ 436.
5 -
(ابن عبّاس) عبد الله البحر رضي الله تعالى عنهما 27/ 31. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به هو وأبو داود. (ومنها): أن فيه ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما منْ العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، رَوَى (1696) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما. وقوله: (رَفَعَهُ) جملة فِي محلّ نصب عَلَى الحال: أي حال كون ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما رافعاً هَذَا الْحَدِيث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونكتة عدول الراوي عن قوله:"قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم"، أو نحوه منْ الألفاظ الصريحة فِي الرفع كونه نسي، أو شكّ فِي صيغة الصحابيّ الذي رواه عنه، هل هي "قَالَ رسول الله"، أو "قَالَ النبيّ"، أو نحو ذلك، مع أنه متثبّت فِي رفعه الْحَدِيث إليه صلى الله عليه وسلم، فأتى بصيغة تشمل جميع الصيغ الصالحة لذلك. والله تعالى أعلم.
ولفظ أبي داود: "عن ابن عبّاس، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
" (أَنَّهُ قَالَ) الضمير للنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن قوله: "رفعه" فِي قوّة "قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم" (قَوْمٌ) الظاهر أنه مبتدأ، خبره قوله: "لا يريحون الخ"، وجملة قوله: (يَخْضِبُون) صفة لـ"قوم"، وهو بكسر الضاد المعجمة، منْ باب ضرب: أي يغيّرون الشعر الأبيض منْ الشيب الواقع فِي الرأس، واللحية (بِهَذَا السَّوَادِ) أي باللون الأسود (آخِرَ الزَّمَانِ) ظرف لـ"يخضبون" (كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ) قَالَ فِي "القاموس": الْحَوْصَلُ، والْحَوْصَلاءُ، والْحَوْصَلَةُ، وتُشدّد لامها، منْ الطير، كالمعدة للإنسان. انتهى. و"الحمام" بتخفيف الميم: الطائر المعروف، فالمراد بقوله: "كحواصل الحمام": أي كصدورها، فإنها سُودٌ غالبًا، وأصل الحوصلة: المعدة، لكن المراد هنا الصدر. قَالَ الطيبيّ: معناه كحواصل الحمام فِي الغالب؛ لأن حواصل بعض الحمامات ليست بسود. انتهى. وقيل: يريد بالتشبيه أن المراد السواد الصِّرْف، غير المشوب بلون آخر. (لا يَرِيحُونَ) أي لا يشمّون، يقال: راح يَريح، وراح يراح، وأراح يُريح: إذا وجد رائحة الشيء (رَائِحَةَ الْجَنَّةِ) يعني "وإن ريحها ليوجد منْ مسيرة خمسمائة عام"، كما جاء فِي الْحَدِيث. قيل: المراد أنهم، وإن دخلوا الجنّة، لا
يجدون ريحها، ولا يتلذّذون به. وقيل: هو تغليظٌ، وتشديد. أو المراد أنهم لا يجدون ريحها مع السابقين. قاله السنديّ. وَقَالَ فِي "عون المعبود" 11/ 178: فالمراد به التهديد، أو محمول عَلَى المستحلّ، أو مقيّد بما قبل دخول الجنّة منْ القبر، أو الموقف، أو النار. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح.
[تنبيه]: قَالَ الحافظ المنذريّ رحمه الله تعالى فِي "مختصر سنن أبي داود" 6/ 108 - : فِي إسناده عبد الكريم، ولم ينسبه أبو داود، ولا النسائيّ، فذكر بعضهم أنه عبد الكريم بن أبي الْمُخارق، أبو أميّة، وضعّف الْحَدِيث بسببه، وذكر بعضهم أنه عبد الكريم بن مالك الجزريّ، أبو سعيد، وهو منْ الثقات، لاتفاق البخاريّ، ومسلم عَلَى الاحتجاج بحديثه. وقول منْ قَالَ: إنه عبد الكريم بن مالك الجزريّ هو الصواب، فإنه قد نسبه بعض الرواة فِي هَذَا الْحَدِيث، فَقَالَ فيه:"عن عبد الكريم الجزريّ"، وعبد الكريم بن أبي المخارق منْ أهل البصرة، نزل مكة، وأيضًا فإن الذي رَوَى عن عبد الكريم هَذَا الْحَدِيث هو عبيد الله بن عمرو الرَّقّيّ، وهو مشهور بالرواية عن عبد الكريم الجزريّ، وهو أيضاً منْ أهل الجزيرة. انتهى كلام المنذريّ.
وَقَالَ السنديّ: قد صحح الْحَدِيث غير واحد، وحسّنه، وخطّؤوا ابن الجوزيّ فِي نسبته إلى الوضع. والله تعالى أعلم. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: كون عبد الكريم هو الجزري هو الحقّ، والحديث صحيح دون شك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -15/ 5077 - وفي "الكبرى" 20/ 9346. وأخرجه (د) فِي "الترجّل" 4312 (أحمد) فِي "مسند بني هاشم" 2466. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان النهي عن الخضاب بالسواد، وسيأتي فِي المسألة التالية -إن شاء الله تعالى- وأن الصواب تحريمه. (ومنها): بيان شؤم هَذَا الذنب، وهو حرمان متعاطيه، عن الاستمتاع برائحة الجنة. (ومنها): إثبات رائحة للجنة، وَقَدْ ثبت أنه يوجد منْ مسافة بعيدة، فقد أخرج البخاريّ فِي
"صحيحه" منْ حديث عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"منْ قتل معاهدا، لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد منْ مسيرة أربعين عاما"، وتقدّم للمصنّف رحمه الله تعالى فِي "القسامة" برقم 4752. وتقدّم عنده أيضًا 4751 - بلفظ "سبعين عامًا". وورد فِي "مسند أحمد" منْ حديث أبي بكرة بلفظ: و"إن ريحها ليوجد منْ مسيرة مائة عام". وورد عنده أيضاً بلفظ: "وإن ريحها ليوجد منْ مسيرة خمسمائة عام". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم خضاب الشيب:
قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: ويحرم خضابه -يعني الشيب- بالسواد عَلَى الأصح، وقيل: يكره كراهة تنزيه، والمختار التحريم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: واجتنبوا السواد"، هَذَا مذهبنا، وَقَالَ القاضي: اختلف السلف، منْ الصحابة، والتابعين فِي الخضاب، وفي جنسه، فَقَالَ بعضهم: ترك الخضاب أفضل، ورووا فِي ذلك حديثًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي النهي عن تغيير الشيب، ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يغيّر شيبه، ورُوي هَذَا عن عمر، وعليّ، وأُبيّ، وآخرين رضي الله عنهم. وَقَالَ آخرون: الخضاب أفضل، وخضب جماعة منْ الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم؛ للأحاديث التي ذكرها مسلم، وغيره، ثم اختلف هؤلاء، فكان أكثرهم يخضب بالصفرة، منهم ابن عمر، وأبو هريرة، وآخرون، ورُوي ذلك عن عليّ. وخضب جماعة منهم بالحناء والكتم، وبعضهم بالزعفران، وخضب جماعة بالسواد، رُوي ذلك عن عثمان، والحسن، والحسين ابني عليّ، وعقبة بن عامر، وابن سيرين، وأبي بُردة، وآخرين، قَالَ القاضي: قَالَ الطبريّ: الصواب أن الآثار المروية عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بتغيير الشيب، وبالنهي عنه كلّها صحيحة، وليس فيها تناقض، بل الأمر بالتغيير لمن شيبه كشيب أبي قُحافة، والنهي لمن له شمط فقط، قَالَ: واختلاف السلف فِي فعل الأمرين بحسب اختلاف أحوالهم فِي ذلك، مع أن الأمر، والنهي فِي ذلك ليس للوجوب بالإجماع، ولهذا لم يُنكر بعضهم عَلَى بعض خلافه فِي ذلك، قَالَ: ولا يجوز أن يقال: فيهما ناسخ ومنسوخٌ.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: دعوى الإجماع فِي عدم الوجوب غير صحيحة؛ لما سبق منْ أن القول بالوجوب منقول عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
قَالَ القاضي: وَقَالَ غيره: هو عَلَى حالين: فمن كَانَ فِي موضع عادةُ أهلِهِ الصبغُ، أو تركه، فخروجه عن العادة شهرة، ومكروه.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله مما زل به القدم، وطغى فيه القلم، فهل إذا ترك أهل بلد سنّة منْ سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون إحياء تلك السنة، والعمل بها
شهرة ومكروهًا؟ إن هَذَا لهو الفساد العريض، إذ يترتّب عليه أنه لا وجه فِي هَذَا الزمن الذي ترك فيه معظم النَّاس كثيرًا منْ السنن، وأحدثوا بدلها بدعاً أن يقوم أحد بإحياء تلك السنن، بل يهجرها، إن هَذَا لهو العجب العجاب!!!.
قَالَ: والثاني: أنه يختلف باختلاف نظافة الشيب، فمن كانت شيبته تكون نقيّة أحسن منها مصبوغةً، فالترك أولى، ومن كانت شيبته تُستبشع، فالصبغ أولى. هَذَا ما نقله القاضي. قَالَ النوويّ: والأصح الأوفق للسنّة ما قدّمناه عن مذهبنا. والله أعلم. انتهى كلام النوويّ فِي "شرح مسلم" 14/ 80.
وَقَالَ فِي "الفتح": عند قوله: "إن اليهود، والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم": ما نصّه: هكذا أطلق، ولأحمد بسند حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه، قَالَ:"خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى مشيخة منْ الأنصار، بِيضٍ لحاهُم، فَقَالَ: يا معشر الأنصار حمّروا، وصفّروا، وخالفوا أهل الكتاب"، وأخرج الطبرانيّ فِي "الأوسط" نحوه منْ حديث أنس رضي الله عنه، وفي "الكبير" منْ حديث عتبة بن عبد رضي الله عنه:"كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتغيير الشيب، مخالفة للأعاجم".
وَقَدْ تمسك به منْ أجاز الخضاب بالسواد.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا عجيب، وكيف يصحّ الاحتجاج بهذا الْحَدِيث المطلق؟، وَقَدْ قُيد فِي الْحَدِيث الذي قبله بقوله:"حمّروا، وصفِّروا"، و"ثبت النهي عن الخضاب بالسواد صريحًا، كما سيأتي قريبًا.
قَالَ: منْ العلماء منْ رخص فيه -أي الخضاب بالسواد- فِي الجهاد، ومنهم منْ رخص فيه مطلقا، وأن الأولى كراهته، وجنح النوويّ إلى أنه كراهة تحريم.
وَقَدْ رخص فيه طائفة منْ السلف، منهم سعد بن أبي وقاص، وعقبة بن عامر، والحسن، والحسين، وجرير، وغير واحد، واختاره ابن أبي عاصم فِي "كتاب الخضاب" له، وأجاب عن حديث ابن عباس رفعه:"يكون قوم يخضبون بالسواد، لا يجدون ريح الجنة"، بأنه لا دلالة فيه عَلَى كراهة الخضاب بالسواد، بل فيه الإخبار عن قوم، هذه صفتهم، وعن حديث جابر رضي الله عنه:"جنبوه السواد" بأنه فِي حق منْ صار شيب رأسه مستبشعا، ولا يطرد ذلك فِي حق كل أحد، انتهى.
قَالَ الحافظ: وما قاله خلاف ما يتبادر منْ سياق الحديثين، نعم يشهد له ما أخرجه هو، عن ابن شهاب قَالَ: كنا نخضب بالسواد، إذ كَانَ الوجه جديدا، فلما نغض الوجه، والأسنان تركناه.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا عجيب منْ الحافظ، كيف يستشهد بفعل ابن
شهاب، وأصحابه منْ الصبغ بالسواد عَلَى معارضة ما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منْ قوله:"جنّبوه السواد"، هَذَا شيء عجيب.
قَالَ: وَقَدْ أخرج الطبراني، وابن أبي عاصم، منْ حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، رفعه:"منْ خضب بالسواد، سود الله وجهه يوم القيامة"، وسنده لين.
ومنهم منْ فرق فِي ذلك بين الرجل والمرأة، فأجازه لها دون الرجل، واختاره الحليمي. انتهى "فتح" 11/ 547 - 548.
وَقَالَ العلاَّمة ابن القيّم رحمه الله تعالى: والصواب أن الأحاديث فِي هَذَا الباب، لا اختلاف بينها بوجه، فإن الذي نهى عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ تغيير الشيب أمران:[أحدهما]: نتفه. [والثاني]: خصابه بالسواد، والذي أذن فيه هو صبغه، وتغييره بغير السواد، كالحنّاء، والصفرة، وهو الذي عمله الصحابة رضي الله عنهم، قَالَ الحكم بن عمرو الغفاري رضي الله عنه: دخلت أنا، وأخي رافع عَلَى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، وأنا مخضوبٌ بالحناء، وأخي مخضوب بالصفرة، فَقَالَ عمر رضي الله عنه: هَذَا خضاب الإسلام، وَقَالَ لأخي: هَذَا خضاب الإيمان.
وأما الخضاب بالسواد، فكرهه جماعة منْ أهل العلم، وهو الصواب بلا ريب؛ لما تقدّم، وقيل للإمام أحمد: تكره الخضاب بالسواد؟ قَالَ: إي والله. وهذه المسألة منْ المسائل التي حلف عليها، وَقَدْ جمعها أبو الحسن، ولأنه يتضمّن التلبيس، بخلاف الصفرة.
ورخّص فيه آخرون، منهم أصحاب أبي حنيفة، وروي ذلك عن الحسن، والحسين، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن جعفر، وعقبة بن عامر، وفي ثبوته عنهم نظر، ولو ثبت فلا قول لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنّته أحقّ بالاتّباع، ولو خالفها منْ خالفها.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لقد أجاد ابن القيّم رحمه الله تعالى فِي هَذَا الكلام، فإن الله سبحانه وتعالى أوجب اتّباع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عز وجل:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الآية [الحشر: 7]، فالواجب عَلَى المكلّف اتباع سنته، ولا ينظر إلى خلاف منْ خالفها، وإن كَانَ منْ الأكابر، بل يعتذر عن هؤلاء الذين ذكر أنهم صبغوا بالسواد -إن ثبت عنهم- بأن النهي لم يصل إليهم، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتحير بالاعتساف، اللَّهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، آمين.
ورخّص فيه آخرون للمرأة تتزيّن به لبعلها، دون الرجل، وهذا قول إسحاق ابن
راهويه، وكأنه رأى أن النهي إنما جاء فِي حقّ الرجال، وَقَدْ جوّز للمرأة منْ خضاب اليدين، والرجلين ما لم يُجوّز للرجل، والله تعالى أعلم. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله تعالى "تهذيب السنن" 11/ 172 - 173 منْ هامش "عون المعبود".
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي وجّه به ابن القيم مذهب إسحاق رحمهما الله تعالى بأن المرأة تخالف الرجل فِي هَذَا الباب، حيث إن الشارع نهى الرجال منْ خضاب اليد والرجل، وأباحه للمرأة، فقصر النهي عن الخضاب بالسواد عَلَى الرجل فقط، دون المرأة وجه وجيه.
والحاصل أن الذي تدلّ عليه الأدلة الصحيحة الصريحة هو تحريمُ الخضاب بالسواد
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5078 -
(أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: أُتِيَ بِأَبِي قُحَافَةَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "غَيِّرُوا هَذَا بِشَيْءٍ، وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأمويّ مولاهم المكّيّ، ثقة فاضل يدلّس [6] 28/ 32.
2 -
(أبو الزبير) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، صدوقٌ يُدلّس [4] 31/ 35.
3 -
(جابر) بن عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله تعالى عنهما 31/ 35. والباقيان تقدّما فِي الباب الماضي. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمكيين منْ ابن جريج، والباقيان مصريان. (ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله عنه منْ المكثرين السبعة، رَوَى (1540) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ جَابِرٍ) بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: أُتِيَ) بالبناء للمفعول (بِأَبِي قُحَافَةَ) -بضم القاف، وتخفيف الحاء المهملة-: هو والد أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى
(1)
وَقَدْ ألف بعض المعاضرين فِي ذلك، ومن أحسن ما أُلّفَ فيه رسالةُ "إتحاف الأمجاد باجتناب تغيير الشيب بالسواد" للشيخ فريح بن صالح الهلال، وقدم لها سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، وهي رسالة مفيدة كافية فِي الموضوع، ومنهم المحدث الكبير والعلامة النحرير الشيخ مقبل بن هادي اليمني رحمه الله قد ألف فِي ذلك رسالة مفيدة أيضًا، فعليك بمراجعتهما تستفد، والله تعالى الهادي الى سواء السبيل.
عنهما، واسمه: عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، القرشي التيمي، أمه آمنة بنت عبد الْعُزَّى العدوية، عدي قريش، وقيل: اسمها قيلة، قَالَ الفاكهي: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن أبي حمزة الثمالي، قَالَ: قَالَ عبد الله: لما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الغار، ذهبت أستخبر، وأنظر هل أحد يخبرني عنه، فأتيت دار أبي بكر، فوجدت أبا قحافة، فخرج عليّ، ومعه هراوة، فلما رآني اشتد نحوي، وهو يقول: هَذَا منْ الصُّبَاة الذي أفسدوا عليّ ابني، تأخر إسلامه إلى يوم الفتح، فروى ابن إسحاق فِي "المغازي" بإسناد صحيح، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: لما كَانَ عام الفتح، ونزل النبيّ صلى الله عليه وسلم طوى، قَالَ أبو قحافة لابنة له، كانت منْ أصغر ولده: أي بنيةُ أشرقي بي عَلَى أبي قبيس، وكان قد كُفّ بصره، فأشرفت به عليه، فذكر الْحَدِيث بطوله، وفيه: فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، خرج أبو بكر حَتَّى جاء بأبيه يقوده، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"هلا تركت الشيخ فِي بيته حَتَّى آتيه"، فَقَالَ: يمشي هو إليك يا رسول الله أحق، منْ أن تمشي إليه، وأجلسه بين يديه، ثم مسح عَلَى صدره، فَقَالَ: أسلم تسلم، ثم قام أبو بكر
…
الْحَدِيث، أخرجه ابن حبّان فِي "صحيحه"، منْ حديث ابن إسحاق. وروى مسلم منْ طريق أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، قَالَ: أُتى بأبي قُحافة عام الفتح، ورأسه ولحيته مثل الثُّغامة، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"غيروا هَذَا بشيء، وجنبوه السواد". وروى أحمد منْ طريق هشام، عن محمد بن سيرين، عن أنس رضي الله عنه، أنه سئل عن خضاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: لم يكن شاب إلا يسيرا، ولكن خضب أبو بكر، وعمر بالحناء والكتم، قَالَ: وجاء أبو بكر بأبيه، أبي قحافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم فتح مكة، يحمده حَتَّى وضعه بين يديه، فَقَالَ لأبي بكر: لو أقررت الشيخ فِي بيته، لأتيناه تكرمة لأبي بكر، فأسلم، ورأسه ولحيته كالثغامة بياضا، فَقَالَ:"غيروهما، وجنبوه السواد"، صححه ابن حبّان منْ هَذَا الوجه، قَالَ: قتادة: هو أول مخضوب فِي الإسلام، وهو أول منْ ورث خليفة فِي الإسلام، مات أبو قحافة سنة أربع عشرة، وله سبع وتسعون سنة. قاله فِي "الإصابة فِي تمييز الصحابة" 6/ 389 - 390.
وَقَالَ القرطبيّ: مات فِي المحرّم سنة أربع عشرة منْ الهجرة، وهو ابن سبع وتسعين سنة، بعد وفاة ابنه أبي بكر رضي الله عنه بأشهر. انتهى (يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ) ظرف لـ "أُتي"(وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثَّغَامَةِ) -بمثلّثة مفتوحة، وغين معجمة- قَالَ فِي "النهاية" 1/ 214: هو نبت أبيض الزَّهْر والثمرِ، يُشبّه به الشيب. وقيل: شجرة تبيضّ، كأنها الثلج. انتهى. وَقَالَ فِي "القاموس": الثَّغَام، كسحاب: نبت، واحدته ثغامة بالهاء. وَقَالَ فِي "المصباح":"الثَّغَام" مثلُ سَلام: نبتٌ يكون بالجبال غالبًا، إذا يبس ابيضَّ، ويُشبّه به الشيب. وَقَالَ ابن فارس: شجرة بيضاء الثمر والزَّهْر. انتهى (بَيَاضًا) منصوب عَلَى التمييز (فَقَالَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "غَيِّرُوا هَذَا بِشَيْءٍ) قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: أمرٌ بتغيير
الشيب، قَالَ به جماعة منْ الخلفاء، والصحابة، لكن لم يصر أحد إلى أنه عَلَى الوجوب، وإنما هو مستحبّ.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: فيه أنه نقل عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى القول بالوجوب، كما تقدّم، وهو الظاهر؛ لظاهر الأمر، فتنبّه.
قَالَ: وَقَدْ رأى بعضهم أنّ ترك الخضاب أفضل، وبقاء الشيب أولى منْ تغييره، متمسّكين فِي ذلك بنهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن تغيير الشيب عَلَى ما ذكروه، وبأنه صلى الله عليه وسلم لم يُغيّر شيبه، ولا اختضب.
قَالَ القرطبيّ: وهذا القول ليس بشيء، أما الْحَدِيث الذي ذكروه، فليس بمعروف، ولو كَانَ معروفًا، فلا يبلغ فِي الصحّة إلى هَذَا الْحَدِيث، وأما قولهم: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يَخضِب، فليس بصحيح، بل قد صحّ عنه أنه خضب بالحنّاء، وبالصفرة. انتهى "المفهم" 5/ 418.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: اختلفت الروايات فِي كونه صلى الله عليه وسلم خضب، فثبت عن أنس رضي الله عنه أنه سُئل أخضب النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: لم يبلغ الشيب إلا قليلاً، وفي رواية: إنه لم يبلغ ما يَخضِب، لو شئت أن أعُدّ شمطاته فِي لحيته"، أي لعددتها. وثبت فِي حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم خضب بالصفرة، وفي حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها أنها أخرجت شعراً منْ شعر النبيّ صلى الله عليه وسلم، مخضوباً.
والجمع بين هذه الروايات، أن يقال: إن منْ جزم بأنه صلى الله عليه وسلم حضب، كابن عمر رضي الله تعالى عنهما، حكى ما شاهده، وكان ذلك فِي بعض الأحيان، ومن نفى، كأنس رضي الله عنه، فهو محمول عَلَى الأكثر الأغلب منْ حاله صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ أخرج مسلم، والترمذيّ، والنسائيّ منْ حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه، قَالَ: ما كَانَ فِي رأس النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولحيته منْ الشيب إلا شعرات، كَانَ إذا دهن واراهُنّ الدهن. قَالَ فِي "الفتح" 11/ 546 - : فيحتمل أن يكون الذين أثبتوا الخضاب شاهدوا الشعر الأبيض، ثم لَمّا واراه الدهن ظنّوا أنه خضبه. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الاحتمال بعيد، يبعده ما يأتي للمصنّف بعد باب منْ حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: "لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفّر بها -يعني الخلوق- لحيته
…
" الْحَدِيث. فالصحيح منْ الجمع الاحتمال الأول. والله تعالى أعلم.
(وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ) قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: أمر باجتناب السواد، وكرهه جماعة، منهم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ومالك، قَالَ: وهو الظاهر منْ هَذَا الْحَدِيث،
وَقَدْ عُلّل ذلك بأنه منْ باب التدليس عَلَى النِّساء، وبأنه سواد فِي الوجه، فيُكره لأنه تشبّه بسيما أهل النار. ثم ذكر حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المذكور قبل هَذَا، ثم قَالَ: غير أنه لم يُسمع أن أحدًا منْ العلماء قَالَ بتحريم ذلك.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد عرفت أن هَذَا غير صحيح، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر القرطبيّ منْ كَانَ يصبغ بالسواد، كما تقدّم ذكرهم، ثم قَالَ: ولا أدري عذر هؤلاء عن حديث أبي قحافة ما هو؟، فأقلّ درجاته الكراهة، كما ذهب إليه مالك. انتهى "المفهم" 5/ 418 - 419.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدّم أنه يُعتذر لهم بأنه لم يبلغهم النهي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث جابر رضي الله عنه هَذَا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -15/ 5078 و64/ 5244 - وفي "الكبرى" 20/ 9347 و9348. وأخرجه (م) فِي "اللباس" 2102 (د) فِي "الترجل" 4204 (ق) فِي "اللباس" 3624 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 13993 و14046 و14231. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان النهي عن الخضاب بالسواد، وهو ظاهر. (ومنها): أن فيه الأمر بتغيير الشيب، لكن يكون بغير السواد؛ لهذا الْحَدِيث. (ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى: للخضاب فائدتان: [إحداهما]: تنظيف الشعر مما يتعلّق به منْ الغبار، والدخان. [والأخرى]: مخالفة أهل الكتاب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "خالفوا اليهود والنصارى، فإنهم لا يصبغون". انتهى "المفهم" 5/ 420. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
***
16 - (الْخِضَابِ بِالْحِنَّاءِ، وَالْكَتَمِ)
5079 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا بِهِ أَبِي، عَنْ غَيْلَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "أَفْضَلُ مَا غَيَّرْتُمْ بِهِ الشَّمَطَ الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ").
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(محمد بن مسلم) بن عثمان بن عبد الله الرازيّ، المعروف بابن وارة -بفتح الراء المخفّفة- ثقة حافظ [11].
رَوَى عن محمد بن المبارك الصوري، ومحمد بن سابق القزويني، وهشام بن عبد الله الرازي، وهوذة بن خديفة، والهيثم بن جميل، ومحمد بن موسى بن أعين الجزري، وإسحاق بن إبراهيم بن العلاء، وإسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة الحراني، وحجاج بن أبي منيع، ومحمد بن عبد الله الأنصاريّ الرصافي، وخالد بن عليّ الحمصي، وسعيد ابن سليمان الواسطي، وعاصم بن عليّ بن عاصم، وأبي مسهر، وأبي المغيرة، والأصمعي، وعمرو بن أبي سلمة التنيسي، وأبي نعيم، وأبي عاصم والفريابي، وأبي سلمة التبوذكي، ويحيى بن يعلى المحاربي، وآدم بن أبي إياس، وحجاج بن المنهال، وسعيد بن أبي مريم، وأبي صالح المصريّ، ومحمد بن عبد العزيز الرملي، وخلق.
ورَوَى عنه النسائيّ، والبخاري فِي غير "الجامع"، والذهلي، وهو أكبر منه، وأحمد ابن سلمة، وابن أبي عاصم، وعلي بن الحسين بن الجنيد، والهيثم بن خلف، وابن أبي الدنيا، وابن ناجية، ومحمد بن المنذر الهروي، وأبو عوانة الإسفرائيني، ويحيى بن صاعد، وأبو بكر بن أبي داود، والقاسم بن أخي أبي زرعة، وأبو محمد بن أبي حاتم، ومحمد بن إسحاق السراج، وأبو القاسم الحامض، وعبد الرحمن بن يوسف بن خراش، وأبو عمرو، أحمد بن إبراهيم بن حكيم، والحسين بن إسماعيل المحاملي، ومحمد بن مخلد الدوري، وآخرون.
قَالَ النسائيّ: ثقة، صاحب حديث. وَقَالَ ابن أبي حاتم: سمعت منه، وهو صدوقٌ ثقة، وجدت أبا زرعة، قد كتب عنه، وكان أبو زرعة يبجله، ويكرمه. وَقَالَ عبد المؤمن بن أحمد بن حوثرة: كَانَ أبو زرعة لا يقوم لأحد، ولا يجلس أحدا فِي مكانه، إلا ابن وارة، وَقَالَ فضلك الرازي: أحفظ منْ رأيت ثلاثة: أبو مسعود، وابن وارة، وأبو زرعة. وَقَالَ الطحاوي: ثلاثة منْ علماء الزمان بالحديث، اتفقوا بالري، لم يكن
فِي الأرض فِي وقتهم مثلهم: أبو زرعة، وأبو حاتم، وابن وارة. وَقَالَ ابن عقدة، عن ابن خراش: كَانَ محمد بن مسلم، منْ أهل هَذَا الشأن، المتقنين الأمناء، قَالَ: وكنت عند محمد بن مسلم ليلة، فذكر أبا إسحاق السبيعي، فذكر شيوخه، فذكر فِي طَلَقٍ واحد سبعين ومائتي رجل، ثم قَالَ: كَانَ غاية، كَانَ شيئا عجيبا. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: كَانَ صاحب حديث، يحفظ عَلَى صَلَفٍ
(1)
فيه. وَقَالَ الخطيب: كَانَ متقنا، عالما، حافظا فهما. وَقَالَ الطبراني: ثنا زكريا بن يحيى الساجي، قَالَ: جاء ابن وارة إلى أبي كريب، وكان فِي ابن وارة بَأْءٌ
(2)
، فَقَالَ لأبي كريب: ألم يبلغك خبري؟، ألم يأتك نبائي؟ أنا ذو الرحلتين، أنا محمد بن مسلم بن وارة، فَقَالَ له أبو كريب: وارة، وما وارة؟ وما أدراك ما وارة؟ قم فوالله لا حدثتك. وَقَالَ عثمان بن خُرَّزاد: سمعت سليمان الشاذكوني بقول: جاءني ابن وارة، فقعد يَتَقَعَّرُ
(3)
فِي كلامه، فقلت: منْ رَوَى: "إن منْ الشعر حكمةً، وإن منْ البيان لسحرا"؟ قَالَ: فَقَالَ: حدثني بعض أصحابنا، فقلت: منْ هم؟ قَالَ: أبو نعيم، وقبيصة، قلت: هات يا غلام الدِّرَّة، فضربته، وقلت ما آمن، إذا خرجت منْ عندي، أن تقول: حدثنا بعض علمائنا. وَقَالَ مسلمة بن قاسم: كَانَ ثقة، منْ الحفاظ، ومن أئمة المسلمين، صاحب سنة. وَقَالَ الحاكم: كَانَ أحد أئمة الْحَدِيث، ويُروى أنه طرق باب رجل منْ المحدثين، فَقَالَ: منْ؟ قَالَ: ابن وارة، أبو الْحَدِيث وأمه. قَالَ ابن المنادي: مات سنة خمس وستين. وَقَالَ ابن مخلد، وابن قانع: مات سنة سبعين ومائتين. تفرّد به النسائيّ بهذا الْحَدِيث فقط.
2 -
(يحيى بن يعلى) بن الحارث بن حرب بن جرير بن عبد الحارث المحاربيّ، أبو زكريّا الكوفيّ، ثقة، منْ صغار [9].
رَوَى عن أبيه، وزائدة بن قُدامة. وعنه البخاريّ، وروى الباقون سوى الترمذيّ له بواسطة أبي كُريب، ومحمد بن أبي بكر بن أبي شيبة، وعثمان بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله بن نُمير، ومحمد يحيى بن كثير الْحَرّانيّ، ومحمد بن مسلم بن وَارَة، وإبراهيم ابن يعقوب الْجُوزجانيّ، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وأحمد بن إبراهيم الدَّوْرقيّ، وعبّاس الدَّوريّ، وعبّاس الترفقيّ، ويعقوب بن سفيان، وإسماعيل سمويه، ومحمد بن الحسين ابن أبي الْحُنين، وأحمد بن مُلاعب، وجعفر بن محمد بن
(1)
الصلف بفتحتين: التمدّح بما ليس فيه. اهـ "قاموس".
(2)
أي تكبّر، يقال: بأى فِي نفسه: رفعها، وفخر بها. اهـ "قاموس".
(3)
أي يتشدّق، ويتكلّم بأقصى فمه. اهـ "قاموس".
شاكر الصائغ، وآخرون. قَالَ أبو حاتم: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". قَالَ ابن سعد، ومطيّن: مات سنة (216)، رَوَى له الجماعة، سوى الترمذيّ، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.
3 -
(أبوه) يعلى بن الحارث بن حرب المحاربيّ الكوفيّ، ثقة [8] 14/ 1391. رَوَى له الجماعة، سوى الترمذيّ، وله عند المصنّف هَذَا الْحَدِيث، وآخر فِي "كتاب الصلاة" 14/ 1391 حديث سلمة بن الأكوع: "كنا نصلي مع رسول صلى الله عليه وسلم الجمعة، ثم نرجع، وليس للحيطان فيء، يُستَظَلُّ به".
4 -
(غيلان) بن جامع بن أشعث المحاربيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، قاضيها، ثقة [6].
رَوَى عن أبي وائل، شقيق بن سلمة، وأبي إسحاق السبيعي، وإسماعيل بن أبي خالد، وعلقمة بن مرثد، وإياس بن سلمة بن الأكوع، وليث بن أبي سليم، وقتادة، وسماك بن حرب، وسليمان بن بريدة، وأبي الزبير المكيّ، وقيس بن وهب، وطائفة.
وعنه يعلى بن الحارث المحاربي، وعمرو بن أبي قيس، وشعبة، والثوري، وشريك، وعلي بن عاصم الواسطي، وآخرون.
قَالَ ابن معين، وابن المديني، ويعقوب بن شيبة، وأبو داود: ثقة. وَقَالَ أبو حاتم: شيخ. وَقَالَ محمد بن حُميد الرازي، عن جرير: رأيت غيلان بن جامع، عَلَى قضاء الكوفة، وكان أخذ منْ محمد بن أبي ليلى. وَقَالَ الآجري، عن أبي داود: جاء غيلان ابن حصين، فسأل رجل أبا حصين، عن مسألة؟ فَقَالَ: اسكت، أما ترى القاضي، فَقَالَ: إنه أمرني، وجعل أبو داود يثني عليه. وَقَالَ أبو حاتم: أرسل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ الحافظ: وفرق بعض النَّاس بينهما، وهما واحد عندي. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: مات فِي ولاية يزيد بن هبيرة عَلَى العراق. وَقَالَ ابن سعد: قتلته المسوّدة أولّ ما جاءوا، بين واسط والكوفة، وكان ثقة -إن شاء الله تعالى- قَالَ الحافظ: كَانَ ذلك سنة اثنتين وثلاثين ومائة. رَوَى له مسلم، وأبو داود، والمصنف، وابن ماجه، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.
5 -
(أبو إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعيّ الهمدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ، مدلّسٌ، واختلط بآخره [3] 38/ 42.
6 -
(ابن أبي ليلى) عبد الرحمن الأنصاريّ المدنيّ، ثم الكوفيّ، ثقة [2] 86/ 104.
[تنبيه]: اختلُف فِي اسم أبي ليلى، قيل: بلال، وقيل بُليل -بالتصغير- وقيل: داود، وقيل: يسار، وقيل: أوس، صحابيّ، شهد أحداً، وما بعدها، وعاش إلى
خلافة عليّ رضي الله عنه.
7 -
(أبو ذرّ) الغفاريّ الصحابيّ المشهور، اختُلف فِي اسمه، والأصحّ أنه جندب بن جُنادة، وقيل: برير -مصغّرًا، ومكبّرًا- واختلف فِي اسم أبيه، فقيل: جندب، وقيل: عشرقة، وقيل: عبد الله، وقيل: السكن، تقدّم إسلامه، وتأخرت هجرته، فلم يشهد بدراً، ومناقبه كثيرة جدًّا، مات رضي الله عنه سنة (32) فِي خلافة عثمان رضي الله عنه، تقدّمت ترجمته مستوفاةً فِي 203/ 322. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، سوى شيخه، وشيخ شيخه، فمن أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فرازيّ، والصحابيّ رضي الله عنه فمدنيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي ذَرٍّ) الغفاريّ رضي الله تعالى عنه (عنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "أَفْضَلُ مَا غَيَّرْتُمْ بِهِ)"أفضل": مبتدأ، خبره "الحناء، والكتم"(الشَّمَطَ) قَالَ المجد فِي "القاموس": الشَّمَطُ -محرّكةً-: بياض الرأس، يُخالط سواده، شَمِطَ، كفرِح، وأشمط، واشمطّ، واشماطّ، واشمأطّ، كاطمأنّ، فهو أشمط. انتهى. (الْحِنَّاءُ) بكسر الحاء المهملة، وتشديد النون، والمد-: معروفٌ، والحنّاءة أخصّ منه، والجمع حِنّانٌ، قَالَ الشاعر [منْ الكامل]:
وَلَقَدْ أَرُوحُ بِلِمَّةِ فَيْنَانَةٍ
…
سَوْدَاءُ لَمْ تُخْضَبْ مِنَ الْحِبَّانِ
قاله فِي "اللسان"(وَالْكَتَمُ) بفتحتين: نبتٌ فيه حمرة، يُخلَطُ بالْوَسْمَة، ويُختضَبُ به للسواد، وفي كتب الطبّ: الكتم منْ نبات الجبال، ورقه كورق الآس، يُخضب به مدقوقًا، وله ثمرٌ كقدر الْفُلفُل، ويسوَدُّ إذا نضج، وَقَدْ يُعتصر منه دهنٌ، يُستصبح به فِي البوادي. قاله الفيّوميّ.
وَقَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: "الكتم" بكاف، وتاء مثنّاة منْ فوقُ، مفتوحتين، والمشهور تخفيف التاء، وبعضهم يُشدّدها: نبت يُخلط بالحنّاء، ويُخضَبُ به الشعر، ثم قيل: المراد هاهنا استعمال كلّ منهما بالانفراد؛ لأن اجتماعهما يحصل به السواد، وهو منهيّ عنه، ويحتمل أن المراد المجموع، والنهي عن السواد الخالص. والله تعالى أعلم. انتهى.
وَقَالَ فِي "عون المعبود" -11/ 173: الكتم -بفتحتين-: نبات باليمين، يخرج الصبغ أسود يميل إلى الحمرة، وصبغ الحناء أحمر، والصبغ بهما معا يخرج بين السواد والحمرة.
وَقَدْ أخرج مسلم منْ حديث أنس رضي الله عنه: قَالَ: "واختضب أبو بكر بالحناء والكتم، واختضب عمر بالحناء بحتا"، أي منفردا، وهذا يشعر بأن أبا بكر كَانَ يجمع بينهما دائما. قَالَ الإمام ابن الأثير: الكتم هو نبت يُخلط مع الوَسِمَة، ويُصبغ به الشعر أسود، وقيل: هو الوسمة، ومنه الْحَدِيث:"إن أبا بكر كَانَ يصبغ بالحناء والكتم"، ويُشبه أن يراد به استعمال الكتم مفردا عن الحناء، فإن الحناء إذا خُضب به مع الكتم جاء أسود، وَقَدْ صح النهي عن السواد، ولعل الْحَدِيث بالحناء، أو الكتم، عَلَى التخيير، ولكن الروايات عَلَى اختلافها بالحناء والكتم. وَقَالَ أبو عبيد:"الكتم": مشددة التاء، والمشهور التخفيف، و"الوسمة" -بكسر السين: نبت، وقيل: شجر باليمن يُخضب بورقه الشعر أسود. انتهى.
وَقَالَ الأردبيلي فِي "الأزهار": ويشبه أن يكون المراد استعمال الكتم مفردا عن الحناء، وبه قطع الخطّابيّ؛ لأنهما إذا خُلطا، أو خضب بالحناء، ثم بالكتم جاء أسود، وَقَدْ نُهي عن الأسود. وَقَالَ بعض العلماء: المراد بالحديث تفضيل الحناء والكتم، عَلَى غيرهما فِي تغيير الشيب، لا بيان كيفية التغيير، فلا بأس بالواو، ويكون معنى الْحَدِيث: الحناء والكتم منْ أفضل ما غُير به الشيب، لا بيان كيفية التغيير. انتهى كلام الأردبيلي.
وَقَالَ العلامة المناوي فِي "شرح الجامع الصغير": الكتم -بالتحريك-: نبت يخلط بالوسمة، ويخضب به، ذكره فِي "الصحاح"، وورقه كورق الزيتون، وثمره قدر الفلفل، وليس هو ورق النيل، كما تُوُهّم، ولا يشكل بالنهي عن الخضاب بالسواد؛ لأن الكتم إنما يسود منفردا، فإذا ضم للحناء صير الشعر بين أحمر وأسود، والمنهي عنه الأسود البحت.
وَقَالَ المناوي فِي "شرح الشمائل": الكتم -بفتحتين، ومثناة فوقية، وأبو عبيد شدّدها: نبت فيه حمرة، يُخلط بالوسمة، ويخضب به.
وفي كتب الطب: الكتم منْ نبات الجبال، ورقه كورق الآس يُخضب به مدقوقا، وله ثمر كقدر الفلفل، ويَسْودُّ إذا نَضِجَ، ويعتصر منه دهن يستصبح به فِي البوادي، ثم قَالَ: ففيه إشعار بأن أبا بكر كَانَ يجمع بينهما، لا بالكتم الصرف الموجب للسواد الصرف؛ لأنه مذموم. انتهى. وفي "القاموس": نبت يخلط بالحناء، ويخضب به الشعر، فيبقى لونه، وأصله إذا طُبخ بالماء كَانَ منه مداد للكتابة. انتهى.
وَقَالَ الحافظ: الكتم الصرف يوجب سوادا مائلا إلى الحمرة، والحناء يوجب الحمرة، فاستعمالهما يوجب ما بين السواد والحمرة. انتهى. "عون المعبود" 11/ 173 - 174.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: إن الخضب بالحناء، والكتم جائزٌ، مطلقًا، سواء كانا مخلوطين، أو استُعمل كلّ منهما منفرداً؛ لإطلاق النصّ، ولا يقال: يشمله النهي عن الخضاب بالسواد؛ لأن المراد به السواد البحت، فتأمّل. والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: وأما الصباغ بالحنّاء، والكتم، فلا ينبغي أن يُختلف فيه؛ لصحّة الأحاديث بذلك، غير أنه قد قَالَ بعض العلماء: إن الأمر فِي ذلك محمولٌ عَلَى حالين: [أحدهما]: عادة البلد، فمن كانت عادة موضعه ترك الصبغ، فخروجه عن المعتاد شُهرة، تَقبُحُ، وتُكره.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: كلام هَذَا البعض باطلٌ، فهل إذا ترك أهل بلدة، أو بعض النَّاس سنة النبيّ صلى الله عليه وسلم الصحيحة، يسع أحداً أن يحتجّ بذلك، ويتركها؟، إن هَذَا لشيء عجاب، وأعجب منه سكوت القرطبيّ عليه مع جلالته، فإنا لله، وإنا إليه راجعون.
قَالَ: [وثانيهما]: اختلاف حال النَّاس فِي شيبهم، فربّ شيبة نقيّة، هي أجمل بيضاء منها مصبوغة، وبالعكس، فمن قبّحه الخضاب اجتنبه، ومن حسّنه استعمله. انتهى "المفهم" 5/ 420.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا التفصيل أيضًا فيه نظرٌ لا يخفى؛ لأن النصّ لم يفصّل هَذَا التفصيل، ويردّه أيضًا تعليل الشارع الأمر بمخالفة اليهود، والنصارى، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"إن اليهود، والنصارى، لا يصبغون، فخالفوهم"، فمخالفتهم تنافي التفصيل المذكور، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتحيّر بالاعتساف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي ذرّ رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -16/ 5079 و5080 و5081 و5082 - وفي "الكبرى" 21/ 9349 و9350 و9351 و9352. وأخرجه (د) فِي "الترجّل" 4205 (ت) فِي "اللباس" 1753 (ق) فِي "اللباس" 3632 (أحمد) فِي "مسند الأنصار" 20800 و20830
و20855 و20878 و20978. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز الخضاب بالحنّاء، والكتم. (ومنها): أنه يدلّ عَلَى أن الحناء والكتم منْ أفضل الصباغات التي يُغَيَّر بها الشيب. (ومنها): أنه يدلّ عَلَى أن الخضاب غير مقصور عليهما؛ لدلالة أفعل التفضيل عَلَى مشاركة غيرهما منْ الصباغات لهما فِي أصل الحسن، إلا السواد البحت، كما مرّ التنبيه عليه. (ومنها): ان الْحَدِيث يحتمل أن يكون الخضاب عَلَى التعاقب، بأن يخضب بأحدهما تارة، وبالآخر تارة، ويحتمل الجمع بينهما، بأن يستعملهما مخلوطين، وَقَدْ تقدّم أنه لا يشمله النهي عن الخضب بالسواد؛ لأن هَذَا ليس سواداً بحتاً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5080 -
(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ الأَجْلَحِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ الدِّيلِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَحْسَنَ مَا غَيَّرْتُمْ بِهِ الشَّيْبَ، الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "يعقوب بن إبراهيم": هو الدَّورقيّ. و"يحيى بن سعيد": هو القطّان. و"الأجلح": هو ابن عبد الله بن حُجَيّة -بالمهملة، والجيم، مصغّراً- أبو حُجيّة الكنديّ، ويقال: اسمه يحيى، صدوقٌ شيعيّ [7] 50/ 3516. و"عبد الله بن بُريدة": هو ابن الحصيب الأسلميّ المروزيّ الثقة [3]. و"أبو الأسود الدِّيليّ" -بكسر الدال المهملة، ويقال: الدُّؤليّ بالضمّ، بعدها همزة مفتوحة، البصريّ، اسمه ظالم بن عمرو بن سفيان، ويقال: عمرو بن ظالم، ويقال: بالتصغير فيهما، ويقال: عمرو بن عثمان، أو عثمان بن عمرو، ثقة، فاضلٌ، مخضرمٌ [2] 5/ 1934.
والحديث صحيح، كما سبق الكلام عليه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5081 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَشْعَثَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الأَجْلَحِ، فَلَقِيتُ الأَجْلَحَ، فَحَدَّثَنِى عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ الدِّيلِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "إِنَّ مِنْ أَحْسَنِ مَا غَيَّرْتُمْ بِهِ الشَّيْبَ، الْحِنَّاءَ وَالْكَتَمَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن عبد الرحمن بن أشعث": هو العجليّ، أبو بكر الدمشقيّ، إمام الجامع، ثقة [11] 29/ 4785 منْ أفراد المصنّف. و"محمد بن عيسى": هو ابن نَجيح، أبو جعفر ابن الطبّاع البغداديّ، نزيل أَذَنَةَ، ثقة فقيه، كَانَ منْ
أعلم النَّاس بحديث هُشيم [10] 39/ 3278. و"هشيم": هو ابن بَشير الواسطيّ الحافظ المشهور. و"ابن أبي ليلى": هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاريّ الكوفيّ القاضي، أبو عبد الرحمن، صدوقٌ، سيّء الحفظ جدًّا [7] 19/ 2149.
وقوله: "منْ أحسن" الجارّ والمجرور خبر مقدّم لـ"إن"، و"الحنّاءَ، والكتمَ" بالنصب اسم "إنّ" مؤخّراً.
والحديث صحيح، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5082 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْثَرٌ، عَنِ الأَجْلَحِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ الدِّيلِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَحْسَنَ مَا غَيَّرْتُمْ بِهِ الشَّيْبَ، الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ".
خَالَفَهُ الْجُرَيْرِيُّ وَكَهْمَسٌ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عَبْثر" -بفتح أوله، وسكون ثانيه، وفتح المثلّثة-: هو ابن القاسم الزُّبيديّ -بالضمّ- أبو زُبيد الكوفيّ، ثقة [8] 190/ 1164. والحديث صحيح. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وقوله: (خَالَفَهُ الْجُرَيْرِيُّ وَكَهْمَسٌ) أي خالف سعيدٌ الجريريُّ، وكهمسُ بن الحسن الأجلحَ فِي روايته هَذَا الْحَدِيث، عن عبد الله بن بُريدة، عن أبي الأسود، عن أبي ذرّ رضي الله عنه، متصلاً، فروياه عن ابن بُريدة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مرسلاً.
والظاهر أنه يرى ترجيح روايتهما عَلَى روايته؛ لتفرده، لكن الإرسال هنا لا يضرّ بصحة الْحَدِيث؛ لأن رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى الموصولة السابقة تشهد له. والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: أشار الحافظ المزّيّ رحمه الله تعالى فِي "تحفة الأشراف" إلى اختلاف آخر فِي رواية ابن بُريدة، فَقَالَ: رواه المسعوديّ، عن الأجلح، عن ابن بُريدة، عن أبيه. ورواه يزيد بن هارون، عن الجريريّ، عن ابن بُريدة، عن عمران بن حُصين. انتهى. ثم بين رواية الجُريريّ، فَقَالَ:
5083 -
(أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَحْسَنَ مَا غَيَّرْتُمْ بِهِ الشَّيْبَ الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "حُميد بن مسعدة": هو الساميّ الباهليّ البصريّ، صدوقٌ [10] 5/ 5. و"عبد الوارث": هو ابن سعيد بن ذكوان العنبريّ مولاهم،
أبو عُبيدة التَّنُّوريّ البصريّ، ثقة ثبتٌ [8] 6/ 6. و"الْجُريريّ": هو سعيد بن إياس، أبو مسعود البصريّ، ثقة، اختلط قبل موته بثلاث سنين [5] 32/ 672.
والحديث مرسلٌ، صحيح بما تقدّم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
ثم بين رواية كهمس، فَقَالَ:
5084 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، قَالَ: سَمِعْتُ كَهْمَسًا، يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِنَّ أَحْسَنَ مَا غَيَّرْتُمْ بِهِ الشَّيْبَ، الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن عبد الأعلى": هو الصنعانيّ البصريّ الثقة [10]. و"المعتمر": هو ابن سُليمان بن طرخان التيميّ البصريّ الثقة، منْ كبار [9]. و"كهمس": هو ابن الحسن التميميّ، أبو الحسن البصريّ الثقة [5].
والحديث مرسلٌ صحيح بما تقدّم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5085 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ إِيَادِ بْنِ لَقِيطٍ، عَنْ أَبِي رِمْثَةَ، قَالَ: أَتَيْتُ أَنَا وَأَبِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ قَدْ لَطَخَ لِحْيَتَهُ بِالْحِنَّاءِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا. و"عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. و"سفيان": هو الثوريّ. و"إياد -بكسر الهمزة، وتخفيف التحتانيّة- ابن لقيط": هو السَّدُوسيّ البصريّ، ثقة [4] 16/ 1572.
و"أبو رِمْثة" -بكسر أوله، وسكون الميم، بعدها مثلّثة-: هو الْبَلَويّ، ويقال: التيميّ، ويقال: هما اثنان، قيل: اسمه رِفاعة بن يَثْربيّ، ويقال: عكسه، ويقال: عمارة بن يثربيّ، ويقال: حيّان وهب، وقيل: حبيب بن حيّان. وقيل: خشخاش، صحابيّ، قَالَ ابن سعد: مات رضي الله عنه بإفريقية.
وقوله: "وَقَدْ لطخ لحيته بالحنّاء": قد تقدّم الجمع بين حديث أنس رضي الله عنه فِي نفي خضابه رضي الله عنه، وبين الأحاديث المثبتة بكون النفي لعلمه، والإثبات فِي بعض الأحيان، فلا تغفل.
وحديث أبي رِمْثة رضي الله عنه هَذَا صحيحٌ، وَقَدْ تقدّم تخريجه فِي "كتاب العيد"، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5086 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ إِيَادِ بْنِ
لَقِيطٍ، عَنْ أَبِي رِمْثَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَرَأَيْتُهُ قَدْ لَطَخَ لِحْيَتَهُ بِالصُّفْرَةِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا السند هو السند الماضي، إلا أن شيخه هنا عمرو ابن عليّ الفلّاس.
وقوله: "بالصفرة": لا تنافي بينه وبين قوله فِي الْحَدِيث الماضي: "بالحنّاء"؛ لأن الصفرة لون الحناء، قَالَ الفيّوميّ:"الصفرة": لون دون الحمرة، والأصفر الأسود أيضاً. انتهى. فلون الحنّاء يميل إلى الحمرة، فتنبّه.
والحديث صحيح، سبق الكلام عليه فيما قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
17 - (الْخِضَابِ بِالصُّفْرَةِ)
5087 -
(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ بِالْخَلُوقِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّكَ تُصَفِّرُ لِحْيَتَكَ بِالْخَلُوقِ؟ قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُصَفِّرُ بِهَا لِحْيَتَهُ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنَ الصِّبْغِ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهَا، وَلَقَدْ كَانَ يَصْبُغُ بِهَا ثِيَابَهُ كُلَّهَا، حَتَّى عِمَامَتَهُ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَهَذَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ حَدِيثِ قُتَيْبَةَ).
رجال هَذَا الإسناد: أربعة:
1 -
(يعقوب بن إبراهيم) الدورقيّ، أبو يوسف البغداديّ الحافظ، ثقة [10] 21/ 22.
2 -
(الدراورديّ) هو: عبد العزيز بن محمد بن عبيد الجهنيّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، صدوقٌ، كَانَ يُحدّث منْ كتب غيره، فيُخطيء [8] 84/ 101.
3 -
(زيد بن أسلم) العدوي المدنيّ الفقيه، ثقة [3] 64/ 80.
4 -
(ابن عمر) عبد الله رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (242) منْ رباعيات
الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين غير شيخه فبغداديّ. (ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، ومن المشهورين فِي الفتاوى. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) العدويّ رحمه الله تعالى، أنه (قَالَ: رَأَيْتُ) عبد الله (بْنَ عُمَرَ) ابن الخطّاب رضي الله تعالى عنهما (يُصَفِّرُ) بضم أوله، وتشديد الفاء، منْ التصفير، يقال: صفّره تصفيراً: إذا صبغه بالصفرة، أفاده فِي "القاموس": أي يصبغ (لِحْيَتَهُ بِالْخَلُوقِ) بفتح الخاء المعجمة، وضمّ اللام- قَالَ فِي "المصباح": الخلوق، مثلُ رسول: ما يُتخلّق به منْ الطيب، قَالَ بعض الفقهاء: هو مائع فيه صُفْرة، والْخِلاق، مثلُ كتاب بمعناه. انتهى. وَقَالَ ابن الأثير: الخلوق: طيب معروفٌ مركّبٌ، يُتّخذ منْ الزعفران، وغيره منْ أنواع الطيب، وتغلب عليه الحمرة والصفرة، وَقَدْ ورد تارةً بإباحته، وتارة بالنهي عنه، والنهي أكثر، وأثبت، وإنما نهُي عنه لأنه منْ طيب النِّساء، وهنّ أكثر استعمالا له منهم، والظاهر أن أحاديث النهي ناسخة. انتهى "النهاية" 2/ 71.
وفي رواية أبي داود: "كَانَ يصبغ لحيته بالصفرة"(فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ) كنية ابن عمر (إِنَّكَ تُصَفِّرُ لِحْيَتَكَ بِالْخَلُوقِ؟ قَالَ) ابن عمر (إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُصَفِّرُ بِهَا لِحْيَتَهُ) فيه جواز الخضاب بالخلوق، وهو المراد بقوله فِي الترجمة "الخضاب بالصفرة".
قَالَ المنذريّ رحمه الله تعالى: واختلف النَّاس فِي ذلك، فَقَالَ بعضهم: أراد الخضاب للحيته بالصفرة، وَقَالَ آخرون: أراد كَانَ يصفّر ثيابه، ويلبس ثيابًا صفرًا. انتهى. قَالَ الشوكانيّ: ويؤيد الثاني تلك الزيادة التي أخرجها أبو داود، والنسائيّ. انتهى. والزيادة التي أشار إليها هي قوله:"وَقَدْ كَانَ يصبغ بها ثيابه كلّها حَتَّى عمامته"، وهذه الزيادة ليست فِي رواية الشيخين.
وَقَالَ فِي "فتح الودود": الظاهر أن المراد يصبغ بها الشعر، وأما الثياب، فذكر صبغها فيما بعدُ، ولعله كَانَ يصبغ بالورس، فقد جاء ذلك، وجاء أنه لبس مِلحفة ورسيّة. رواه ابن سعد. فلا ينافي نهي التزعفر، وجاء أن الملائكة لا تحضر جنازة المتضمّخ بالزعفران، لكن يُشكل عليه ما جاء أنه يصبغ بالورس والزعفران ثيابه، حَتَّى عمامته. وفي "المواهب": جاء ذلك منْ حديث زيد بن أسلم، وأمّ سلمة، وابن عمر. وأجيب لعله يصبغ بالزعفران بعض الثوب، والنهي عن استيعاب الثوب بالصبغ، كذا ذكره فِي "حاشية المواهب".
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: أخرج الحاكم منْ حديث عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما، قَالَ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه ثوبان مصبوغان بالزعفران"، لكن فِي سنده عبد الله بن مصعب الزبيريّ، وفيه ضعف. وأخرج الطبرانيّ منْ حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صبغ إزاره ورداءه بزعفران. وفيه راو مجهول. قاله فِي "الفتح" 11/ 488.
وأجاب ابن بطّال، وابن التين بأن النهي عن التزعفر مخصوص بالجسد، ومحمول عَلَى الكراهة؛ لأن تزعفر الجسد منْ الرفاهية التي نهى الشارع عنها، دون التحريم؛ لحديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه أنه قدم عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه أثر صفرة: أي زعفران، كما فِي رواية، فلم ينكر عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا أمره بغسلها. انتهى. ذكره فِي "عون المعبود" 11/ 77.
وَقَالَ فِي "الفتح" عند شرح قصة عبد الرحمن بن عوف أنه تزوّج امرأة، فجاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبه أثر صفرة
…
الْحَدِيث: ما نصّه: واستدل به عَلَى جواز التزعفر للعروس، وخص به عموم النهي عن التزعفر للرجال. وتُعُقّب باحتمال أن تكون تلك الصفرة كانت فِي ثيابه، دون جسده، وهذا الجواب للمالكية، عَلَى طريقتهم فِي جوازه فِي الثوب، دون البدن، وَقَدْ نقل ذلك مالك عن علماء المدينة، وفيه حديث أبي موسى رضي الله عنه، رفعه:"لا يقبل الله صلاة رجل فِي جسده شيء منْ خلوق"، أخرجه أبو داود، فإن مفهومه أن ما عدا الجسد لا يتناوله الوعيد، ومنع منْ ذلك أبو حنيفة، والشافعي، ومن تبعهما فِي الثوب أيضًا، وتمسكوا بالأحاديث فِي ذلك، وهي صحيحة، وفيها ما هو صريح فِي المدعى.
وعلى هَذَا فأجيب عن قصة عبد الرحمن بأجوبة:
[أحدها]: أن ذلك كَانَ قبل النهي، وهذا يحتاج إلى تاريخ، ويؤيده أن سياق قصة عبد الرحمن، يشعر بأنها كانت فِي أوائل الهجرة، وأكثر منْ رَوَى النهي ممن تأخرت هجرته.
[ثانيها]: أن أثر الصفرة التي كانت عَلَى عبد الرحمن، تعلقت به منْ جهة زوجته، فكان ذلك غير مقصود له، ورجحه النوويّ، وعزاه للمحققين، وجعله البيضاوي أصلا رد إليه أحد الاحتمالين أبداهما فِي قوله:"مهيم؟ "، فَقَالَ: معناه: ما السبب فِي الذي أراه عليك؟، فلذلك أجاب بأنه تزوج، قَالَ: ويحتمل أن يكون استفهام إنكار؛ لما تقدّم منْ النهي عن التضمخ بالخلوق، فأجاب بقوله:"تزوجت"، أي فتعلق بي منها، ولم أقصد إليه.
[ثالثها]: أنه كَانَ قد احتاج إلى التطيب للدخول عَلَى أهله، فلم يجد منْ طيب الرجال حينئذ شيئا، فتطيب منْ طيب المرأة، وصادف أنه كَانَ فيه صفرة، فاستباح القليل منه عند عدم غيره؛ جمعا بين الدليلين، وَقَدْ ورد الأمر فِي التطيب للجمعة، ولو منْ طيب المرأة، فبقي أثر ذلك عليه.
[رابعها]: كَانَ يسيرا، ولم يبق إلا أثره، فلذلك لم ينكر.
[خامسها]: وبه جزم الباجي: أن الذي يُكره منْ ذلك ما كَانَ منْ زعفران، وغيره منْ أنواع الطيب، وأما ما كَانَ ليس بطيب، فهو جائز.
[سادسها]: أن النهي عن التزعفر للرجال، ليس عَلَى التحريم، بدلالة تقريره لعبد الرحمن بن عوف فِي هَذَا الْحَدِيث.
[سابعها]: أن العروس يستثنى منْ ذلك، ولاسيما إذا كَانَ شابا، ذكر ذلك أبو عبيد، قَالَ: وكانوا يرخصون للشاب فِي ذلك أيام عرسه، قَالَ: وقيل: كَانَ فِي أول الإسلام منْ تزوج لبس ثوبا مصبوغا، علامة لزواجه؛ ليعان عَلَى وليمة عرسه، قَالَ: وهذا غير معروف.
قَالَ الحافظ: وفي استفهام النبيّ صلى الله عليه وسلم له عن ذلك، دلالة عليّ أنه لا يختص بالتزويج، لكن وقع فِي بعض طرقه، عند أبي عوانة، منْ طريق شعبة، عن حميد، بلفظ:"فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فرأى عليّ بشاشة العرس، فَقَالَ: أتزوجت؟، قلت: تزوجت امرأة منْ الأنصار"، فقد يتمسك بهذا السياق للمدعى، ولكن القصة واحدة، وفي أكثر الروايات أنه قَالَ له:"مهيم؟ " أو "ما هَذَا؟ "، فهو المعتمد. و"بشاشة العرس": أثره، وحسنه، أو فرحه، وسروره، يقال: بشَّ فلان بفلان: أي أقبل عليه فرحا به، ملطفا به. انتهى "الفتح" 10/ 294 - 295 "كتاب النكاح".
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الأقرب كون هَذَا الذي فِي قصّة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه علِق به منْ امرأته، ولم يفعله قصداً، كما رجحه النوويّ، وعزاه للمحققين، وأيضًا أنه كَانَ فِي ثيابه، لا فِي جسده، والكراهة لمن تزعفر فِي بدنه أشدّ منْ الكراهة لمن تزعفر فِي ثوبه، وَقَدْ أخرج أبو داود، والترمذيّ فِي "الشمائل"، والنسائيّ فِي "الكبرى" منْ طريق سَلْم العلويّ، عن أنس رضي الله عنه قَالَ: دخل رجلٌ عَلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعليه أثر صفرة، فكره ذلك، وقلّما كَانَ يواجه أحداً بشيء يكرهه، فلما قام، قَالَ: لو أمرتم هَذَا أن يترك هذه الصفرة". وسلم -بفتح المهملة، وسكون اللام- فيه لين. ولأبي داود منْ حديث عمّار رضي الله عنه، رفعه: "لا تحضر الملائكة جنازة كافر، ولا متضمّخ بالزعفران". وأخرج أيضًا منْ حديث عمّار رضي الله عنه، قَالَ: قدِمت عَلَى أهلي
ليلاً، وَقَدْ تشقّقت يداي، فخلّقوني بزعفران، فسلّمت عَلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يُرحّب بي، وَقَالَ: اذهب، فاغسل عنك هَذَا"، ذكره فِي "الفتح" 11/ 487 - 488 "كتاب اللباس".
(وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنَ الصِّبْغِ أَحَبَّ إِلَيْهِ) أي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم (مِنْهَا) أي منْ الخلوق، وإنما أنثها لعله باعتبار أنها صفرة، كما تقدّم منْ رواية أبي داود (وَلَقَدْ كَانَ يَصْبُغُ بِهَا ثِيَابَهُ كُلَّهَا، حَتَّى عِمَامَتَهُ) بالنصب معطوف عَلَى "ثيابه".
وقوله: (قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَهَذَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ حَدِيثِ قُتَيْبَةَ) اختَلَفت النسخ فِي كلام المصنّف هَذَا، ففي بعضها هكذا، وفي بعضها بلفظ:"وهذا أولى بالصواب منْ الذي قبله"، وهو الذي فِي "الهنديّة"، وفي بعضها:"وهذا أولى بالصواب منْ حديث أبي قُتيبة"، بزيادة لفظة "أبي"، وهو الذي فِي "شرح السنديّ"، هَذَا كله فِي نسخ "المجتبى".
وأما فِي "الكبرى"، فقد أخرج أوّلاً رواية الدراورديّ التي أخرجها هنا، ثم قَالَ: خالفه عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، ورواه عن زيد بن أسلم، عن عُبيد بن جُريج، عن ابن عمر. ثم قَالَ: قَالَ أبو عبد الرحمن: وهذا أولى بالصواب منْ حديث قتيبة.
أخبرنا يحيى بن حكيم البصريّ، قَالَ: ثنا أبو قتيبة، قَالَ: ثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن زيد بن أسلم، عن عُبيد هو ابن جريج، قَالَ: رأيت ابن عمر يُصفّر لحيته، فقلت له فِي ذلك؟ فَقَالَ: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، يُصفّر بها. قَالَ أبو عبد الرحمن: وهذا أولى بالصواب منْ الذي قبله. انتهى. وهذه الرواية ستأتي فِي "المجتبى" فِي باب "تصفير اللحية" 65/ 5245.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن ما فِي "الكبرى"، هو الصواب إلا قوله الأول:"وهذا أولى بالصواب منْ حديث قتيبة"، فلا وجه له.
وحاصله أن المصنّف يرى ترجيح رواية عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار التي فيها ذكر عبيد بن جُريج فِي السند عَلَى رواية الدراورديّ التي ليس فيها ذكره، فقوله:"وهذا أولى بالصواب الخ"، يعني أن رواية عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، بذكر عبيد بن جريج بين زيد بن أسلم، وبين ابن عمر هو الصواب، وأما رواية الدراورديّ بحذفه فخطأ، وإنما رجحها؛ لموافقتها لرواية الحفّاظ الذين رووا حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما منْ طريق عبيد بن جريج عنه، فقد رَوَى الْحَدِيث مالك عند الشيخين والمصنّف، ويزيد بن قُسيط عند مسلم، وعبيد الله بن عمر، وابن جريج عند المصنّف فِي "الطهارة" أربعتهم عن سعيد المقبريّ، عن عُبيد ابن جُريج، عن ابن عمر رضي الله
تعالى عنهما
(1)
.
وأما قوله: "منْ حديث قتيبة" فلم يظهر لي وجهه، إلا أن يكون مصحّفًا منْ "أبي قتيبة"، كما هو موجود فِي "شرح السنديّ"، وهو أيضًا مشكل؛ لأن رواية أبي قتيبة هي الراجحة، كما قرّرناه آنفاً، فليُتأمّل. والله تعالى أعلم بالصواب.
والحديث صحيح، وَقَدْ تقدّم تخريجه فِي "الطهارة" 95/ 117، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5088 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّهُ سَأَلَهُ هَلْ خَضَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ، إِنَّمَا كَانَ شَيْءٌ فِي صُدْغَيْهِ).
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(محمد بن المثنّى) أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ، ثقة ثبت [10] 64/ 80.
2 -
(أبو داود) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ، ثقة حافظ [9] 13/ 343.
3 -
(همّام) بن يحيى بن دينار الْعَوْذيّ البصريّ، ثقة ربما وهم [7] 5/ 465.
4 -
(قتادة) بن دعامة السدوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقة ثبت يُدلّس [7] 30/ 34.
5 -
(أنس) بن مالك الأنصاريّ الخادم المشهور رضي الله تعالى عنه 6/ 6. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه أنساً رضي الله تعالى عنه أحد المكثرين السبعة، وآخر منْ مات منْ الصحابة بالبصرة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَنَسٍ) بن مالك رضي الله عنه (أَنَّهُ سَأَلَهُ) أي أن قتادة سأل أنساً رضي الله عنه (هَلْ خَضَبَ) منْ باب ضرب (رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ) أنس رضي الله عنه (لَمْ يَبْلُغْ) صلى الله عليه وسلم (ذَلِكَ) أي حال الخضب، فإنه لم يشب شيباً يحتاج معه إلى الخضاب (إِنَّمَا كَانَ شَيْءٌ فِي صُدْغَيْهِ)"كَانَ" يحتمل أن تكون ناقصةً، و"شيء" اسمها، والجارّ والمجرور خبرها: أي كَانَ شيء منْ الشيب
(1)
راجع "تحفة الأشراف" 6/ 6.
موجوداً فِي صدغيه، ويحتمل أن تكون تامّة، بمعنى حصل، ووُجد، و"شيء" فاعلها، والجارّ والمجرور يتعلّق به.
و"الصُّدْغُ" -بضم الصاد، وسكون الدال المهملتين، وآخره غين معجمة-: هو ما بين لَحْظ العين إلى أصل الأذن، وجمعه أَصْداغ، مثلُ قُفْل وأقفال، ويُسمّى الشعر الذي تدلّى عَلَى هَذَا الموضع صُدْغًا. قاله فِي "المصباح". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أنس رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -17/ 5088 و5089 - وفي "الكبرى" 22/ 9361 و9362. وأخرجه (خ) فِي "المناقب" 3550 (م) فِي "الفضائل" 2341 (د) فِي "الترجّل" 4209 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 12582 و12959. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي اختلاف الروايات فِي شيبه صلى الله عليه وسلم:
فِي حديث أنس رضي الله عنه: "لم يبلغ الخضاب، كَانَ فِي لحيته شعرات بيض"، وفي رواية:"لم ير منْ الشيب إلا قليلا"، وفي رواية:"لو شئت أن أعد شمطات، كن فِي رأسه، ولم يخضب"، وفي رواية:"لم يخضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما كَانَ البياض فِي عنفقته، وفي الصدغين، وفي الرأس نبذ"، وفي رواية:"ما شانه الله ببيضاء"، وفي رواية أبي جحيفة رضي الله عنه:"رأيت رسول الله رضي الله عنه، هذه منه بيضاء، ووضع الراوي بعض أصابعه عَلَى عنفقته"، وفي رواية له:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض، قد شاب"، وفي رواية جابر بن سمرة رضي الله عنه أنه سئل عن شيب النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: كَانَ إذا دهن رأسه، لم ير منه شيء، وإذا لم يدهن رُئى منه"، وفي رواية له: "كَانَ قد شَمِط مقدم رأسه ولحيته"، وفي رواية لأنس رضي الله عنه: يُعدُّ عَدّاً، توفي وليس فِي رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء"، وفي حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها: أنها أخرجت لهم شعرات، منْ شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم حمراً، مخضوبة بالحناء والكتم.
قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: وأما اختلاف الرواية فِي قدر شيبه، فالجمع بينها، أنه رأى شيئا يسيرا، فمن أثبت شيبه، أخبر عن ذلك اليسير، ومن نفاه أراد أنه لم يكثر فيه، كما قَالَ فِي الرواية الأخرى: لم يشتد الشيب: أي لم يكثر، ولم يخرج شعره عن سواده، وحسنه، كما قَالَ فِي الرواية الأخرى: لم ير منْ الشيب إلا قليلا. انتهى "شرح
مسلم" 15/ 95.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي ذكره النوويّ رضي الله تعالى عنه فِي جه الجمع حسنٌ جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم هل خضب النبيّ صلى الله عليه وسلم، أم لا؟:
قَالَ النوويّ فِي "شرح مسلم" رحمه الله تعالى: قَالَ القاضي: اختلف العلماء، هل خضب النبيّ صلى الله عليه وسلم، أم لا؟:
فمنعه الأكثرون بحديث أنس رضي الله عنه، وهو مذهب مالك. وَقَالَ بعض المحدثين: خضب؛ لحديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها أنها أخرجت لهم شعرات، منْ شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم حمراً، مخضوبة بالحناء والكتم، ولحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، يصبغ بالصفرة، قَالَ: وجمع بعضهم بين الأحاديث بما أشار إليه فِي حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها، منْ كلام أنس رضي الله عنه فِي قوله: فَقَالَ: ما أدرى فِي هَذَا الذي يحدثون، إلا أن يكون شيء منْ الطيب الذي كَانَ يطيب به شعره؛ لأنه صلى الله عليه وسلم، كَانَ يستعمل الطيب كثيرا، وهو يزيل سواد الشعر، فأشار أنس رضي الله عنه إلى أن تغيير ذلك ليس بصبغ، وإنما هو لضعف لون سواده بسبب الطيب، قَالَ: ويحتمل أن تلك الشعرات تغيرت بعده؛ لكثرة تَطْيِيب أم سلمة لها؛ إكراما. هَذَا آخر كلام القاضي.
قَالَ النوويّ: والمختار أنه صلى الله عليه وسلم صبغ فِي وقت، وتركه فِي معظم الأوقات، فأخبر كُلٌّ بما رأى، وهو صادق، وهذا التأويل كالمتعين، فحديث ابن عمر فِي "الصحيحين"، ولا يمكن تركه، ولا تأويل له، والله أعلم. انتهى "شرح مسلم" 15/ 95.
وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى عند قول أنس رضي الله عنه: "لو شئت أن أعدّ شمطات كنّ فِي رأسه، فعلت": ما نصّه: ظاهره أنه لم يكن يختضب، كما قد نصّ عليه فِي بقية الْحَدِيث، وبهذا الظاهر أخذ مالك، فَقَالَ: لم يختضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإليه ذهب أبو عمر بن عبد البرّ.
وذهب بعض أصحاب الْحَدِيث إلى أنه خضَبَ، متمسّكين فِي ذلك بما رواه أبو داود، عن أبي رِمْثَة، قَالَ: انطلقت مع أبي نحو النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإذا هو ذو وفرة، وبها رَدعٌ منْ حنّاء، وعليه بُردان أخضران. وروى أبو داود أيضاً عن زيد بن أسلم أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كَانَ يصبغ لحيته بالصفرة حَتَّى تمتليء ثيابه منْ الصفرة، فَقَالَ: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها
…
الْحَدِيث. ويعتضد هَذَا بأمره صلى الله عليه وسلم بتغيير الشيب، كما قَالَ:"غيّروا هَذَا الشيب، واجتبوا السواد"، وَقَالَ:"غيّروا الشيب، ولا تشبّهوا باليهود"، وما كَانَ صلى الله عليه وسلم يأمر بشيء إلا كَانَ أول آخذ به. ومما يعتضد به ذلك ما رواه
البخاريّ عن عبد الله بن موهب، قَالَ:"دخلت عَلَى أم سلمة رضي الله تعالى عنها، فأخرجت لنا شعرات منْ شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، مخضوبًا"، زاد ابن أبي شيبة:"بالحنّاء والكتم"، والإسناد واحد. ومما يعتضد به هؤلاء خضاب الخليفتين رضي الله تعالى عنهما، فلو علما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يختضب لما اختضبا، فإنهما ما كانا باللذين يَعدِلان عن سنّته، ولا عن اتباعه، والفصل لهؤلاء منْ أحاديث أنس، وما فِي معناه بأن الخضاب لم يكن منه صلى الله عليه وسلم دائمًا، ولا فِي كلّ حالٍ، وإنما كَانَ فِي بعض الأوقات، فلم يلتفت أنس رضي الله عنه لهذه الأوقات القليلة، وأطلق القول. وأولى منْ هَذَا أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم لما لم يكن شيبه كثيرًا، وإنما كَانَ فِي لحيته، وصُدْغيه نحو العشرين شعرةً بيضاً، لم يكن الخضاب يظهر فيها غالبًا، والله تعالى أعلم.
وَقَدْ اعتذر أصحاب القول الأول عن حديث أبي رِمثة، وابن عمر رضي الله عنهم بأن ذلك لم يكن خضابًا بالحنّاء، وإنما كَانَ تغييرًا بالطيب، ولذلك قَالَ ابن عمر رضي الله تعالى عنهما:"كَانَ يصبغ بالصفرة"، ولم يقل: بالحنّاء، وهذه الصفرة هي التي قَالَ عنها أبو رمثة رضي الله عنه:"ردْعٌ منْ حنّاء"؛ لأنه شبّهها بها، وأما حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها، فيحتمل أن يكون ذلك فُعل بشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده بطيب، أو غيره؛ احترامًا، وإكرامًا. والله أعلم. انتهى "المفهم" 5/ 131 - 132.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأرجح ما تقدّم عن النوويّ رحمه الله تعالى أنه المختار، وهو أنه صلى الله عليه وسلم صبغ فِي وقت، وتركه فِي معظم الأوقات، فأخبر كُلٌّ بما رأى، وهو صادق، وهذا التأويل كالمتعين، فحديث ابن عمر فِي "الصحيحين"، ولا يمكن تركه، ولا تأويل له، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5089 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى -يَعْنِي ابْنَ سَعِيدٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَمْ يَكُنْ يَخْضِبُ، إِنَّمَا كَانَ الشَّمَطُ عِنْدَ الْعَنْفَقَةِ يَسِيرًا، وَفِي الصُّدْغَيْنِ يَسِيرًا، وَفِي الرَّأْسِ يَسِيرًا).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. "عبد الصمد": هو ابن عبد الوارث التَّنُّوريّ، أبو سهل البصريّ، صدوقٌ، ثبت فِي شعبة [9] 122/ 174. و"المثنى بن سعيد": هو الضُّبَعيّ، أبو سعيد البصريّ الْقَسّام القصير، ثقة [6] 5/ 1828. والسند مسلسل بثقات البصريين، وفيه أنس رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، رَوَى (2286) حديثًا، وهو آخر منْ مات منْ الصحابة بالبصرة، سنة (93) وقيل: غير ذلك، وَقَدْ جاوز مائة. والله تعالى أعلم.
وقوله: "إنما كَانَ الشمط" -بفتحتين-: هو بياض الرأس، يخالط سواده، والفعل كفرح.
وقوله: "عند العنفقة" -بفتح العين المهملة، والفاء، بينهما نون ساكنة-: شُعيرات بين الشفة السفلى والذَّقَنِ. أفاده فِي "القاموس". وَقَالَ ابن الأثير: العَنْفَقَة: الشعر الذي فِي الشفة السفلى. وقيل: الشعر الذي بينها وبين الذَّقَن، وأصل العَنْفَقة: خفّة الشيء، وقلّته. انتهى "النهاية" 3/ 309. وَقَالَ فِي "اللسان": الْعَنْفَقُ: خفّة الشيء وقلّته، والعَنفقة: ما بين الشفة السفلى والذقن منه؛ لخفّة شعرها. وقيل: العَنفقة: ما بين الذقن وطرف الشفة السفلى، كَانَ عليها شعرٌ، أو لم يكن. وقيل: العَنْفقة: ما نبت عَلَى الشفة السفلى منْ الشعر، قَالَ الشاعر:
أَعْرِفُ مِنْكُمْ جُدُلَ الْعَوَاتِقِ
…
وَشَعَرَ الأَقْفَاءِ وَالْعَنَافِقِ
قَالَ الأزهريّ: هي شَعَراتٌ منْ مقدمة الشفة السفلى، ورجلٌ بادي الْعَنْفقة: إذا عَرِي موضعها منْ الشعر. انتهى.
قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: اتفق العلماء عَلَى أن المراد بالشَّمَط هنا ابتداءُ الشيب، يقال منه: شمِط -أي كفرح- وأشمط. انتهى.
والحديث صحيح، وَقَدْ سبق تمام البحث فيه فِي الْحَدِيث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5090 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، قَالَ: سَمِعْتُ الرُّكَيْنَ، يُحَدِّثُ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: "أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَكْرَهُ عَشْرَ خِصَالٍ: الصُّفْرَةَ -يَعْنِي الْخَلُوقَ- وَتَغْيِيرَ الشَّيْبِ، وَجَرَّ الإِزَارِ، وَالتَّخَتُّمَ بِالذَّهَبِ، وَالضَّرْبَ بِالْكِعَابِ، وَالتَّبَرُّجَ بِالزِّينَةِ لِغَيْرِ مَحِلِّهَا، وَالرُّقَى، إِلاَّ بِالْمُعَوِّذَاتِ، وَتَعْلِيقَ التَّمَائِمِ، وَعَزْلَ الْمَاءِ بِغَيْرِ مَحِلِّهِ، وَإِفْسَادَ الصَّبِيِّ غَيْرَ مُحَرِّمِهِ").
رجال هدا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن عبد الأعلى) الصنعانيّ، ثم البصريّ، ثقة [10] 5/ 5.
2 -
(المعتمر) بن سليمان التيميّ، أبو محمد البصريّ، ثقة، منْ كبار [9] 10/ 10.
3 -
(الرُّكين) -مصغّراً-: هو ابن الربيع بن عَمِيلة -بفتح المهملة، مكبّرًا- الفزاريّ، أبو الربيع الكوفيّ، ثقة [4] 17/ 1531.
4 -
(القاسم بن حسّان) هو: العامريّ الكوفيّ، مقبول [3] 17/ 1531.
5 -
(عبد الرحمن بن حرملة) الكوفيّ، مقبول [3].
رَوَى عن ابن مسعود هَذَا الْحَدِيث، وعنه ابن أخيه القاسم بن حسّان. قَالَ ابن المدينيّ: لا أعلم رُوي عنه شيء إلا منْ هَذَا الطريق، ولا نعرفه منْ أصحاب عبد الله. وَقَالَ البخاريّ: لم يصحّ حديثه. وَقَالَ ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فَقَالَ: ليس بحديثه بأس، وإنما رَوَى حديثًا واحداً ما يمكن أن يُعتبر به، ولم أسمع أحداً يُنكره، أو يطعن عليه. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". تفرّد به أبو داود، والمصنف بهذا الْحَدِيث فقط.
6 -
(عبد الله بن مسعود) الصحابيّ الشهير رضي الله تعالى عنه 35/ 39. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ) رضي الله تعالى عنه (أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَكْرَهُ) بفتح أوله، وثالثه، يقال: كرهت الأمر أكرهه، منْ باب تعب، كُرْهاً بضمّ الكاف، وفتحها: ضدّ أحببته، فهو مكروه. وكرُه الأمرُ، والمنظرُ كراهةً، فهو كريةٌ، مثلُ قَبُحَ قَبَاحةٌ، فهو قَبيحٌ، وزناً ومعنًى، وكراهية بالتخفيف أيضاً. قاله الفيّوميّ. (عَشْرَ خِصَالٍ: الصُّفْرَةَ) بالنصب بدل تفصيل منْ "عشر"، ويجوز جره، بدلاً منْ "خصال"، ويجوز قطعه إلى الرفع، بتقدير "أحدها"، أو نحو ذلك، وإلى النصب بتقدير "أعني"، أو نحوه. وقوله:(يَعْنِي الْخَلُوقَ) تفسير منْ ابن مسعود رضي الله عنه، أو ممن بعده منْ الرواة. و"الخلوق" -بفتح الخاء المعجمة، وضمّ اللام: تقدّم أنه طيب مركّبٌ منْ الزعفران، وغيره منْ أنواع الطيب، وتغلب عليه الحمرة، والصفرة، وكراهيته مختصّة بالرجال (وَتَغْيِيرَ الشَّيْبِ) هَذَا محمول عَلَى التغيير بالسواد، بدليل الأمر بتغييره، فِي قوله صلى الله عليه وسلم:"غيّروا هَذَا الشيب، واجتبوا السواد"، متَّفقٌ عليه، وقيل: المراد تغييره بالنتف، وَقَدْ تقدّم تمام البحث فيه قريباً، ولله الحمد (وَجَرَّ الإِزَارِ) أي إسباله، والمراد إطالته تحت الكعبين؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، الآتي فِي 103/ 5332 - مرفوعًا:"ما أسفل منْ الكعبين، فهو فِي النار". رواه البخاريّ، وسيأتي تمام البحث فيه فِي بابه، إن شاء الله تعالى (وَالتَّخَتُّمَ بِالذَّهَبِ) أي للرجال، وأما النِّساء، فيحلّ لهن أن يتختّمن به؛ لحديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه الآتي 76/ 5265 - : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: إن الله عز وجل أحلّ لإناث أمتي الحرير، والذهب، وحرّمه عَلَى ذكورها"، وسيأتي تمام البحث فيه فِي بابه، إن شاء الله تعالى (وَالضَّرْبَ بِالْكِعَابِ) بكسر الكاف: هي فُصوص النرد، جمع كعب، وكعبة، والمراد النهي عن اللعب بالنرد، فهو حرام، وسيأتي تمام البحث فيه فِي المسألة الثالثة، إن شاء الله تعالى (وَالتَّبَرُّجَ بِالزِّينَةِ) أي إظهار المرأة الزينة للناس الأجانب، وأما للزوج، فإنها
مأمورة بإظهار التزيّن له، وهذا معنى قوله:(لِغَيْرِ مَحِلِّهَا) أي لغير محل جواز إظهار الزينة، وهو حضور الأجانب عندها (وَالرُّقَى) بضم الراء، وفتح القاف، مقصورًا: جمع رُقية بضم، فسكون: هي العَوْذة، قَالَ فِي "المصباح": رقيته أَرْقيه رَقْياً، منْ باب رمى: عَوَّذته بالله، والاسم الرُّقيا عَلَى فُعْلَى، والمرّة رُقية، والجمع رُقًى، مثلُ مُدْية ومُدًى. انتهى (إِلاَّ بِالْمُعَوِّذَاتِ) بكسر الواو المشدّدة: الاسماء التي تعصم صاحبها منْ كلّ سوء، والمعوّذتان: هما {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، والمراد بها هنا ذكر الله تعالى التي يُعتصم بها منْ المكروهات، مثل السورتين المذكورتين، ونحوهما منْ أسماء الله تعالى، والأدعية المأثورة (وَتَعْلِيقَ التَّمَائِمِ) ولفظ أبي داود:"وعقد التمائم": وهي جمع تميمة، والمراد بها التعاويذ التي تحتوي عَلَى رقى الجاهليّة، منْ أسماء الشياطين، وألفاظ لا يُعرف معناها. وقيل: التمائم: خرزات كانت العرب فِي الجاهليّة تُعلّقها عَلَى أولادهم، يتقون بها العين فِي زعمهم، فأبطله الإسلام، وسيأتي تمام البحث فِي الرقَى فِي المسألة الرابعة، إن شاء الله تعالى.
(وَعَزْلَ الْمَاءِ) أي عزل المنيّ منْ إقراره فِي فرج المرأة، وهو محلّه، وفي قوله:(بِغَيْرِ مَحِلِّهِ) يعني إنزال المني خارج الفرج، وفيه كراهية العزل، ويحتمل أن يكون فيه تعريض بإتيان الدبر، فلا يحلّ للرجل أن يجامع امرأته فِي دبرها، فينزل منيّه فيه، فإنه ليس محلاً له.
ولفظ أبي داود: "وعزل الماء لغير، أو غير محلّه، أو عن محلّه". قَالَ فِي "عون المعبود" 11/ 188 - : شكّ منْ الراوي بين هذه الألفاظ الثلاثة: أي قَالَ: "عزل الماء لغير محلّه" باللام، أو قَالَ:"عزل الماء غير محلّه" بحذف اللام، أو قَالَ:"عزل الماء عن محلّه". قَالَ الخطّابيّ فِي "المعالم": قد سمعت فِي هَذَا الْحَدِيث: "عزل الماء عن محلّه"، وهو أن يعزل الرجل ماءه عن فرج المرأة، وهو محلّ الماء، وإنما كُره ذلك؛ لأن فيه قطع النسل، والمكروه منه ما كَانَ منْ ذلك فِي الحرائر، بغير إذنهنّ، فأما المماليك، فلا بأس بالعزل عنهنّ. انتهى. وَقَالَ الطيبيّ: يرجع معنى الروايتين: أعني إثبات لفظ "عن" وغيره إلى معنى واحد؛ لأن الضمير المجرور فِي "محله" يرجع إلى لفظ "الماء"، وإذا رُوي "لغير محلّه" يرجع إلى لفظ "العزل". ذكره فِي "المرقاة". وتقدّم تمام البحث فِي العزل فِي محلّه منْ "كتاب النكاح"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
(وَإِفْسَادَ الصَّبِيِّ) قَالَ الخطّابيّ: هو أن يطأ المرأة المرضع، فإذا حملت فسد لبنها، وكان ذلك فساداً للصبيّ. انتهى، وَقَدْ تقدّم تمام البحث فِي هَذَا فِي محلّه منْ "كتاب النكاح"، فراجعه تستفد.
وقوله: (غَيْرَ مُحَرِّمِهِ) بتشديد الراء المكسورة، منصوب عَلَى الحال منْ فاعل "يكره": أي يكرهه حال كونه غير محرّم إياه، والضمير المجرور لـ"فساد الصبيّ"، فإنه أقرب مذكور. وَقَالَ فِي "جامع الأصول": يعني يكره جميع هذه الخصال، ولم يبلغ حدّ التحريم. كذا قَالَ فِي "المرقاة".
وَقَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: "غيرَ محرّمه" حال منْ ضمير "يَكره"، والضمير للأخير فقط، أو للمجموع بتأويل المجموع، أو المذكور، والمعنى: كرهه، ولم يبلغ به حدّ التحريم، وبعض المذكورات حرام، فالوجه هو الأول. والله تعالى أعلم. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله السنديّ رحمه الله تعالى هو الحقّ، وأما ما قاله نقلاً عن "جامع الأصول"، فإنه غير مقبول، فتبصّر. والله تعالى أعلم.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه هَذَا ضعيف؛ لجهالة عبد الرحمن بن حرملة؛ لأنه لم يرو عنه إلا القاسم بن حسّان، كما تقدّم فِي ترجمته. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -17/ 5090 وفي "الكبرى" 22/ 9363. وأخرجه (د) فِي "الخاتم" 4222 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 2594 و3765 و4168. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي اللعب بالنرد:
قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: كل لعب فيه قمار، فهو محرم، أيَّ لَعِبٍ كَانَ، وهو منْ الميسر الذي أمر الله تعالى باجتنابه، ومن تكرر منه ذلك ردت شهادته، وما خلا منْ القمار، وهو اللعب الذي لا عوض فيه منْ الجانبين، ولا منْ أحدهما، فمنه ما هو محرم، ومنه ما هو مباح، فأما المحرم فاللعب بالنرد، وهذا قول أبي حنيفة، وأكثر أصحاب الشافعيّ، وَقَالَ بعضهم: هو مكروه، غير محرم.
ولنا ما رَوَى أبو موسى رضي الله عنه، قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "منْ لعب بالنردشير، فقد عصى الله ورسوله"، حديث حسن رواه أبو داود، ورَوَى بُريدة رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "منْ لعب بالنردشير، فكأنما غمس يده فِي لحم الخنزير ودمه"، رواه مسلم، وأبو داود، وكان سعيد بن جبير إذا مر عَلَى أصحاب النردشير، لم يسلم عليهم.
إذا ثبت هَذَا فمن تكرر منه اللعب به، لم تقبل شهادته، سواء لعب به قمارا، أو غير
قمار، وهذا قول أبي حنيفة، ومالك، وظاهر مذهب الشافعيّ، قَالَ مالك: منْ لعب بالنرد، والشطرنج فلا أرى شهادته طائلة؛ لأن الله تعالى قَالَ:{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} الآية [يونس: 32] وهذا ليس منْ الحق، فيكون منْ الضلال.
قَالَ: فأما الشطرنج، فهو كالنرد فِي التحريم، إلا أن النرد آكد منه فِي التحريم؛ لورود النص فِي تحريمه، لكن هَذَا فِي معناه، فيثبت فيه حكمه؛ قياسا عليه. وذكر القاضي أبو حسين، ممن ذهب إلى تحريمه عليّ بنَ أبي طالب، وابن عمر، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والقاسم، وسالما، وعروة، ومحمد بن عليّ بن الحسين، ومطرا الوراق، ومالكا، وهو قول أبي حنيفة، وذهب الشافعيّ إلى إباحته، وحكى ذلك أصحابه عن أبي هريرة، وسعيد بن المسميب، وسعيد بن جبير، واحتجوا بأن الأصل الإباحة، ولم يرد بتحريمها نص، ولا هي فِي معنى المنصوص عليه، فتبقى عَلَى الإباحة، ويفارق الشطرنج النرد منْ وجهين:[أحدها]: أن فِي الشطرنج تدبير الحرب، فأشبه اللعب بالحراب، والرمي بالنشاب، والمسابقة بالخيل. [والثاني]: أن المعول فِي النرد ما يخرجه الكعبتان
(1)
، فأشبه الأزلام، والمعول فِي الشطرنج عَلَى حذقه، وتدبيره، فأشبه المسابقة بالسهام.
ولنا قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} الآية [المائدة: 90] قَالَ عليّ رضي الله عنه: الشطرنج منْ الميسر. ومر عليّ رضي الله عنه عَلَى قوم يلعبون بالشطرنج، فَقَالَ:{مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52]، قَالَ أحمد: أصح ما فِي الشطرنج قول عليّ رضي الله عنه. ورَوَى واثلة ابن الأسقع رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل ينظر فِي كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة، ليس لصاحب الشاه
(2)
فيها نصيب"، رواه أبو بكر بإسناده
(3)
ولأنه لعب يصدّ عن ذكر الله تعالى، وعن الصلاة، فأشبه اللعب بالنرد.
وقولهم: لا نص فيها قد ذكرنا ليها نصا، وهي أيضًا فِي معنى النرد المنصوص عَلَى تحريمه، وقولهم: إن فيها تدبير الحرب. قلنا لا يُقصد هَذَا منها، وأكثر اللاعبين بها إنما يقصدون منها اللعب، أو القمار. وقولهم: إن المعول فيها عَلَى تدبيره، فهذا أبلغ فِي
(1)
كتب فِي هامش "المغني": ما نصّه: الكعبة فِي النرد: ما يُعرف اليوم بالزهرة، وهي قطعة مكعّبة يبين عَلَى كلّ وجه منها نقاط تمثل رقماً. انتهى.
(2)
يعني الشطرنج.
(3)
رواه ابن حبّان فِي "المجروحين" 2/ 297 وابن الجوزيّ فِي "العلل المتناهية" 2/ 297 فِي سنده خذام بن يحيى قَالَ الدارقطنيّ: لا أعرفه.
اشتغاله بها، وصدها عن ذكر الله والصلاة.
إذا ثبت هَذَا، فَقَالَ أحمد: النرد أشد منْ الشطرنج، وإنما قَالَ ذلك؛ لورود النص فِي النرد، والإجماع عَلَى تحريمها، بخلاف الشطرنج.
وإذا ثبت تحريمها، فَقَالَ القاضي: هو كالنرد فِي رد الشهادة به، وهذا قول مالك، وأبي حنيفة؛ لأنه محرم مثله. وَقَالَ أبو بكر: إن فعله منْ يعتقد تحريمه، فهو كالنرد فِي حقه، وإن فعله منْ يعتقد إباحته، لم ترد شهادته، إلا أن يشغله عن الصلاة فِي أوقاتها، أو يخرجه إلى الحلف الكاذب، ونحوه منْ المحرمات، أو يلعب بها عَلَى الطريق، أو يفعل فِي لعبه ما يستخف به منْ اجله، ونحو هَذَا مما يخرجه عن المروءة، وهذا مذهب الشافعيّ، وذلك لأنه مختلف فيه، فأشبه سائر المختلف فيه. انتهى "المغني" 14/ 154 - 156.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى منْ تحريم الشطرنج، كالنرد هو الأرجح؛ لوضوح حجّته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي حكم الرُّقَى، والتَّعْوِيذَات:
قَالَ الإمام البخاريّ فِي "صحيحه" 5/ 2165: "باب الرقَى بالقرآن، والمعوّذات":
5403 -
حدثني إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام، عن معمر، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ ينفث عَلَى نفسه، فِي المرض الذي مات فيه بالمعوذات، فلما ثقل كنت أنفث عليه بهن، وأمسح بيد نفسه؛ لبركتها. فسألت الزهريّ كيف ينفث؟ قَالَ: كَانَ ينفث عَلَى يديه، ثم يمسح بهما وجهه. انتهى.
قَالَ فِي "الفتح": قوله: "باب الرقي" -بضم الراء، وبالقاف، مقصور- جمع رقية - بسكون القاف- يقال: رقى بالفتح- فِي الماضي يَرقِي بالكسر فِي المستقبل، ورقيت فلانا بكسر القاف أرقيه، واسترقى: طلب الرقية، والجمع بغير همز، وهو بمعنى التعويذ بالذال المعجمة. وقوله:"بالقرآن، والمعوذات" هو منْ عطف الخاص عَلَى العام؛ لأن المراد بالمعوذات، سورة الفلق، والناس، والإخلاص، كما تقدّم فِي أواخر "التفسير"، فيكون منْ باب التغليب، أو المراد الفلق والناس، وكل ما ورد منْ التعويذ فِي القرآن، كقوله تعالى:{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} [المؤمنون: 97]، {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]، وغير ذلك، والأول أولى، فقد أخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، وصححه ابن حبّان، والحاكم منْ رواية عبد الرحمن بن حرملة، عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يكره عشر خصال
…
فذكر فيها
"الرقي إلا بالمعوذات"، وعبد الرحمن بن حرملة، قَالَ البخاريّ: لا يصح حديثه، وَقَالَ الطبري: لا يحتج بهذا الخبر؛ لجهالة راويه، وعلى تقدير صحته، فهو منسوخ بالإذن فِي الرقية بفاتحة الكتاب، وأشار المهلب إلى الجواب عن ذلك، بأن فِي الفاتحة معنى الاستعاذة، وهو الاستعانة، فعلى هَذَا يختص الجواز بما يشتمل عَلَى هَذَا المعنى.
وَقَدْ أخرج الترمذيّ، وحسنه، والنسائي
(1)
منْ حديث أبي سعيد: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ منْ الجان، وعين الإنسان، حَتَّى نزلت المعوذات، فأخذ بها، وترك ما سواها.
وهذا لا يدلّ عَلَى المنع منْ التعوذ، بغير هاتين السورتين، بل يدلّ عَلَى الأولوية، ولاسيما مع ثبوت التعوذ بغيرهما، وإنما اجتزأ بهما؛ لما اشتملتا عليه منْ جوامع الاستعاذة منْ كل مكروه، جملة وتفصيلاً.
وَقَدْ أجمع العلماء عَلَى جواز الرقَى، عند اجتماع ثلاثة شروط: أن يكون بكلام الله تعالى، أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي، أو بما يعرف معناه منْ غيره، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بذات الله تعالى، واختلفوا فِي كونها شرطا، والراجح أنه لابد منْ اعتبار الشروط المذكورة، ففي "صحيح مسلم"، منْ حديث عوف بن مالك رضي الله عنه، قَالَ: كنا نرقِي فِي الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف ترى فِي ذلك؟ فَقَالَ:"اعرضوا عليّ رُقاكم، لا بأس بالرقى، ما لم يكن فيه شرك"، وله منْ حديث جابر رضي الله عنه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقَى، فجاء آل عمرو بن حزم، فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه كانت عندنا رقية، نرقي بها منْ العقرب، قَالَ: فعرضوا عليه، فَقَالَ: ما أرى بأسا، منْ استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه".
وَقَدْ تمسك قوم بهذا العموم، فأجازوا كل رقية، جُرِّبت منفعتها، ولو لم يُعقل معناها، لكن دل حديث عوف رضي الله عنه أنها مهما كَانَ منْ الرقَى يؤدي إلى الشرك يمنع، وما لا يعقل معناه، لا يؤمن أن يؤدي إلى الشرك، فيمتنع احتياطا. والشرط الآخر لابد منه.
وَقَالَ قوم: لا تجوز الرقية، إلا منْ العين واللدغة؛ لحديث عمران بن حصين:"لا رقية إلا منْ عين، أو حمة".
وأجيب: بأن معنى الحصر فيه أنهما أصل كل ما يحتاج إلى الرقية، فيلتحق بالعين جواز رقية منْ به خَبَل، أو مَسّ، ونحو ذلك؛ لاشتراكها فِي كونها تنشأ عن أحوال
(1)
سيأتي برقم 37/ 5496.
شيطانية، منْ إنسي، أو جني، ويلتحق بالسم كل ما عرص للبدن، منْ قرح ونحوه، منْ المواد السمية، وَقَدْ وقع عند أبي داود، فِي حديث أنس رضي الله عنه مثل حديث عمران رضي الله عنه، وزاد:"أو دم"، وفي مسلم منْ طريق يوسف بن عبد الله بن الحارث، عن أنس رضي الله عنه قَالَ:"رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي الرقَى منْ العين، والحمة، والنملة". وفي حديث آخر: "والأذن"، ولأبي داود منْ حديث الشفاء بنت عبد الله: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لها: "ألا تعلمين هذه؟ يعني حفصة رقية النملة"، والنملة قروح تخرج فِي الجنب وغيره منْ الجسد. وقيل: المراد بالحصر معنى الأفضل: أي لا رقية أنفع، كما قيل: لا سيف إلا ذو الفَقَار، وَقَالَ قوم: المنهي عنه منْ الرقي، ما يكون قبل وقوع البلاء، والمأذون فيه ما كَانَ بعد وقوعه، ذكره ابن عبد البرّ، والبيهقي، وغيرهما. وفيه نظر، وكأنه مأخوذ منْ الخبر الذي قُرنت فيه التمائم بالرقى، فأخرج أبو داود، وابن ماجه، وصححه الحاكم، منْ طريق ابن أخي زينب امرأة ابن مسعود عنها، عن ابن مسعود رضي الله عنه، رفعه:"إن الرقَى، والتمائم، والتولة شرك"، وفي الْحَدِيث قصة.
و"التمائم": جمع تميمة، وهي خرز، أو قلادة، تُعَلَّق فِي الرأس، كانوا فِي الجاهلية يعتقدون أن ذلك يدفع الآفات.
و"التِّوَلَة" -بكسر المثناة، وفتح الواو واللام، مخففا-: شيء كانت المرأة تَجلب به محبّة زوجها، وهو ضرب منْ السحر، وإنما كَانَ ذلك منْ الشرك؛ لأنهم أرادوا دفع المضار، وجلب المنافع منْ عند غير الله، ولا يدخل فِي ذلك ما كَانَ بأسماء الله، وكلامه، فقد ثبت فِي الأحاديث استعمال ذلك قبل وقوعه، كما ثبت منْ حديث عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم، كَانَ إذا أوى إلى فراشه، ينفث بالمعَوِّذات، ويمسح بهما وجهه
…
الْحَدِيث وفي حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم، كَانَ يعوذ الحسن والحسين بكلمات الله التامة، منْ كل شيطان وهامة
…
الْحَدِيث، وكلاهما فِي "الصحيح"، وصحح الترمذيّ منْ حديث خولة بنت حكيم، مرفوعا:"منْ نزل منزلا، فَقَالَ: أعوذ بكلمات الله التامات منْ شر ما خلق، لم يضره شيء، حَتَّى يتحول"، وعند أبي داود، والنسائي، بسند صحيح، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن رجل منْ أسلم، جاء رجل، فَقَالَ: لُدِغت الليلة، فلم أَنَم، فَقَالَ له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات منْ شر ما خلق، لم يضرك"، والأحاديث فِي هَذَا المعنى موجودة بكثرة.
لكن يحتمل أن يقال: إن الرقي أخص منْ التعوذ، وإلا فالخلاف فِي الرقي مشهور، ولا خلاف فِي مشروعية الفزع إلى الله تعالى، والالتجاء إليه، فِي كل ما وقع، وما
يتوقع.
وَقَالَ ابن التين: الرقي بالمعوذات، وغيرها منْ أسماء الله، هو الطب الروحاني، إذا كَانَ عَلَى لسان الأبرار منْ الخلق، حصل الشفاء بإذن الله تعالى، فلما عز هَذَا النوع، فزع النَّاس إلى الطب الجسماني، وتلك الرُّقَى المنهي عنها، التي يستعملها المعزم وغيره، ممن يدعي تسخير الجن له، فيأتي بأمور مشتبهة، مركبة منْ حق وباطل، يجمع إلى ذكر الله، وأسمائه ما يشوبه منْ ذكر الشياطين، والاستعانة بهم، والتعوذ بمردتهم.
ويقال: إن الحية لعداوتها للإنسان بالطبع، تصادق الشياطين؛ لكونهم أعداء بني آدم، فإذا عزم عَلَى الحية، بأسماء الشياطين أجابت، وخرجت منْ مكانها، وكذا اللديغ إذا رُقي بتلك الأسماء، سألت سمومها منْ بدن الإنسان، فلذلك كُره منْ الرقَى ما لم يكن بذكر الله، وأسمائه خاصة، وباللسان العربي الذي يُعرف معناه؛ ليكون بريئا منْ الشرك، وعلى كراهة الرُّقَى بغير كتاب الله علماء الأمة.
وَقَالَ القرطبيّ: الرقي ثلاثة أقسام: [أحدها]: ما كَانَ يرقى به فِي الجاهلية، مما لا يعقل معناه، فيجب اجتنابه؛ لئلا يكون فيه شرك، أو يؤدي إلى الشرك. [الثاني]: ما كَانَ بكلام الله، أو بأسمائه، فيجوز، فإن كَانَ مأثورا، فيستحب. [الثالث]: ما كَانَ بأسماء غير الله، منْ ملك، أو صالح، أو معظم منْ المخلوقات كالعرش، قَالَ: فهذا ليس منْ الواجب اجتنابه، ولا منْ المشروع الذي يتضمن الالتجاء إلى الله، والتبرك بأسمائه، فيكون تركه أولى، إلا أن يتضمن تعظيم المرقَى به، فينبغي أن يجتنب كالحلف بغير الله تعالى.
قَالَ الجامع: قوله: ليس منْ الواجب اجتنابه، فيه نظر لا يخفى، فكيف لا يجب اجتنابه وفيه منْ المفسدة ما لا يخفى. والله تعالى المستعان.
وَقَالَ الربيع: سألت الشافعيّ عن الرقية؟، فَقَالَ: لا بأس أن يرقى بكتاب الله، وما يعرف منْ ذكر الله، قلت: أيرقى أهل الكتاب المسلمين؟ قَالَ: نعم إذا رقوا بما يعرف منْ كتاب الله، وبذكر الله. انتهى.
وفي "الموطإ": إن أبا بكر قَالَ لليهوديّة التي كانت ترقي عائشة: ارقيها بكتاب الله. وروى ابن وهب، عن مالك: كراهة الرقية بالحديدة، والملح، وعقد الخيط، والذي يكتب خاتم سليمان، وَقَالَ: لم يكن ذلك منْ أمر النَّاس القديم.
وَقَالَ المازري: اختُلِف فِي استرقاء أهل الكتاب، فأجازها قوم، وكرهها مالك؛ لئلا يكون مما بدلوه، وأجاب منْ أجاز بأن مثل هَذَا يبعد أن يقولوه، وهو كالطب سواء، كَانَ غير الحاذق لا يحسن أن يقول، والحاذق يَأنف أن يُبَدِّل؛ حرصا عَلَى استمرار
وصفه بالحذق؛ لترويج صناعته، والحق أنه يختلف باختلاف الأشخاص، والأحوال.
وسئل ابن عبد السلام عن الحروف المقطعة، فمنع منها ما لا يُعرف؛ لئلا يكون فيها كفر. انتهى "فتح" 11/ 351 - 354.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد اتّضح بما ذُكر منْ أقوال أهل العلم، وأدلّتهم فِي الرقَى، والتعويذات، أن ما كَانَ بأسماء الله تعالى، والمعوِّذات، والأدعية المأثورة جائزٌ، فقوله صلى الله عليه وسلم فِي حديث مسلم المتقدّم:"لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك" موضّح لهذا المعنى، وما كَانَ بخلافه، مما ليس معروف المعنى، فلا يجوز استعماله، وهو محمل قوله صلى الله عليه وسلم:"إن الرقَى، والتمائم، والتولة شرك". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: ثبت فِي "الصحيح" فِي وصف الذين يدخلون الجنة بغير حساب أنهم "لا يتطيّرون، ولا يكتوون، ولا يسترقون، وعلى ربّهم يتوكّلون"، فتمسك بهذا الْحَدِيث منْ كره الرُّقَى، والكيّ، منْ بين سائر الأدوية، وزعم أنهما قادحان فِي التوكل، دون غيرهما.
وأجاب العلماء عن ذلك بأجوبة: [أحدها]: قاله الطبري، والمازري، وطائفة: أنه محمول عَلَى منْ جانب اعتقاد الطبائعيين، فِي أن الأدوية تنفع بطبعها، كما كَانَ أهل الجاهلية يعتقدون. وَقَالَ غيره الرقَى التي يحمد تركها، ما كَانَ منْ كلام الجاهلية، ومِن الذي لا يُعقل معناه؛ لاحتمال أن يكون كفرا، بخلاف الرقَى بالذكر ونحوه.
وتعقبه عياض وغيره، بأن الْحَدِيث يدلّ عَلَى أن للسبعين ألفا مزية عَلَى غيرهم، وفضيلة، انفردوا بها عمن شاركهم فِي أصل الفضل، والديانة، ومن كَانَ يعتقد أن الأدوية تؤثر بطبعها، أو يستعمل رُقَى الجاهلية ونحوها، فليس مسلما، فلم يُسلّم هَذَا الجواب.
[ثانيها]: قَالَ الداودي، وطائفة: إن المراد بالحديث الذين يجتنبون فعل ذلك فِي الصحة؛ خشية وقوع الداء، وأما منْ يستعمل الدواء بعد وقوع الداء به فلا، وَقَدْ قَالَ بهذا ابن قتيبة وغيره، وهذا اختيار ابن عبد البرّ، غير أنه معترض بما ثبت منْ الاستعاذة قبل وقوع الداء. [ثالثها]: قَالَ الحليمي: يحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المذكورين فِي الْحَدِيث، منْ غفل عن أحوال الدنيا، وما فيها منْ الأسباب المعدة لدفع العوارض، فهم لا يعرفون الاكتواء، ولا الاسترقاء، وليس لهم ملجأ فيما يعتريهم إلا الدعاء، والاعتصام بالله، والرضا بقضائه، فهم غافلون عن طب الأطباء، ورُقَى الرُّقَاة، ولا يحسنون منْ ذلك شيئا. والله أعلم.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا أقرب الأجوبة عندي، والله تعالى أعلم.
[رابعها]: أن المراد بترك الرقَى، والكي الاعتماد عَلَى الله فِي دفع الداء، والرضا بقدره، لا القدح فِي جواز ذلك؛ لثبوت وقوعه فِي الأحاديث الصحيحة، وعن السلف الصالح، لكن مقام الرضا والتسليم، أعلى منْ تعاطي الأسباب، وإلى هَذَا نحا الخطّابيّ، ومن تبعه. قَالَ ابن الأثير: هَذَا منْ صفة الأولياء، المعرضين عن الدنيا، وأسبابها، وعلائقها، وهؤلاء هم خواص الأولياء، ولا يَرِد عَلَى هَذَا وقوع ذلك منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فعلا، وأمرًا؛ لأنه كَانَ فِي أعلى مقامات العرفان، ودرجات التوكل، فكان ذلك منه للتشريع، وبيان الجواز، ومع ذلك فلا ينقص ذلك منْ توكله؛ لأنه كَانَ كامل التوكل يقينا، فلا يؤثر فيه تعاطي الأسباب شيئا، بخلاف غيره، ولو كَانَ كثير التوكل، لكن منْ ترك الأسباب، وفَوَّض، وأخلص فِي ذلك، كَانَ أرفع مقاما.
قَالَ الطبري: قيل: لا يستحق التوكل إلا منْ لم يخالط قلبه خوفٌ منْ شيء البتة، حَتَّى السبع الضاري، والعدو العادي، ولا منْ لم يَسْعَ فِي طلب رزق، ولا فِي مداواة ألم.
والحق أن منْ وَثِقَ بالله، وأيقن أن قضاءه عليه ماض، لم يقدح فِي توكله تعاطيه الأسباب؛ اتّباعا لسنته، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد ظاهر صلى الله عليه وسلم فِي الحرب بين درعين، ولبس عَلَى رأسه المغفر، وأقعد الرُّماة عَلَى فم الشِّعْب، وخَنْدَق حول المدينة، وأذن فِي الهجرة إلى الحبشة، والى المدينة، وهاجر هو، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادّخر لأهله قوتهم، ولم ينتظر أن ينزل عليه منْ السماء، وهو كَانَ أحق الخلق أن يحصل له ذلك، وَقَالَ للذي سأله، أعقل ناقتي، أو أدعها؟ قَالَ:"اعقلها، وتوكل"، فأشار إلى أن الاحتراز لا يدفع التوكل. والله أعلم. انتهى "فتح" 11/ 372 - 373.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "والحقّ أن منْ وثِقَ الخ" هَذَا هو الصواب، وأما الذي قبله منْ قوله:"لا يستحق التوكّل الخ، فكلام باطل، منابذ لهدي رسول صلى الله عليه وسلم، فإنه سيّد المتوكّلين، وسيّد الخلق أجمعين، ولم يسلك هَذَا المسلك، ولا حثّ عليه أمته، وَقَدْ سلك هَذَا المسلك قوم منْ العبّاد المتأخّرين؛ جهلاً منهم بالسنّة، فضلّوا، وأضلّوا، فهديه صلى الله عليه وسلم الأخذ بالأسباب، والتوكّل الكامل عَلَى ربّ الأسباب، "وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها"، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الاتّباع، ويُجنّبنا الابتداع، اللَّهمّ أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه. آمين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
***
18 - (الْخِضَابِ لِلنِّسَاءِ)
5091 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُطِيعُ بْنُ مَيْمُونٍ، حَدَّثَتْنَا صَفِيَّةُ بِنْتُ عِصْمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ امْرَأَةً مَدَّتْ يَدَهَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِكِتَابٍ، فَقَبَضَ يَدَهُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَدَدْتُ يَدِي إِلَيْكَ بِكِتَابٍ، فَلَمْ تَأْخُذْهُ؟، فَقَالَ: "إِنِّي لَمْ أَدْرِ أَيَدُ امْرَأَةٍ هِيَ أَوْ رَجُلٍ؟ " قَالَتْ: بَلْ يَدُ امْرَأَةٍ، قَالَ: "لَوْ كُنْتِ امْرَأَةً لَغَيَّرْتِ أَظْفَارَكِ بِالْحِنَّاءِ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(عمرو بن منصور) أبو سعيد النسائيّ، ثقة ثبت [11] 108/ 147 منْ أفراد المصنّف.
2 -
(المعلّى بن أسد) الْعَمّيّ، أبو الْهَيثم البصريّ، أخو بهز، ثقة ثبت، قَالَ أبو حاتم: لم يُخطيء إلا فِي حديث واحد، منْ كبار [10] 134/ 1097.
3 -
(مُطيع بن ميمون) الْعَنْبَريّ، أبو سعيد البصريّ، لين الْحَدِيث [7].
رَوَى عن صفيّة بنت عصمة. وعنه خالد بن عبد الرحمن الخراسانيّ، والحسن بن موسى الأشيب، ومُعَلَّى بن أسد، وطالوت بن عبّاد الصيرفيّ. قَالَ ابن عديّ: له حديثان غير محفوظين. قَالَ الحافظ: أحدهما فِي اختضاب النِّساء بالحنّاء، والآخر فِي التّرجّل والزينة. انتهى.
وفي "سؤلات محمد بن عثمان بن أبي شيبة" لعلي بن المدينيّ ص 78: وسئل عليّ، وأنا أسمع عن مطيع بن ميمون؟ فَقَالَ: ذاك شيخ عندنا ثقة. انتهى. تفرد به المصنّف، وأبو داود، وله عندهما هَذَا الْحَدِيث فقط.
4 -
(صفية بنت عصمة) روت عن عائشة، وعنها مُطيع بن ميمون العنبريّ، لا تعرف [3] تفرّد بها المصنّف، وأبو داود بهذا الْحَدِيث فقط.
5 -
(عائشة) رضي الله تعالى عنها 5/ 5. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَائِشَةَ) بنت الصديق، أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ امْرَأَةً مَدَّتْ يَدَهَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِكِتَابٍ) أي بشيء مكتوب. وفي رواية أبي داود: "أومأت امرأة منْ وراء سِتر، بيدها كتابٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
" (فَقَبَضَ يَدَهُ) أي عن أخذ الكتاب منْ يدها (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَدَدْتُ يَدِي إِلَيْكَ بِكِتَابٍ، فَلَمْ تَأْخُذْهُ؟) أي فما السبب لذلك؟
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (إِنِّي لَمْ أَدْرِ أَيَدُ امْرَأَةٍ هِيَ) أي اليد التي مدّت بالكتاب، واليد مؤنّثة، قَالَ فِي "المصباح": اليد مؤنّثة، وهي منْ المنكب إلى أطراف الأصابع، ولامها محذوفةٌ، والأصل يَدْيٌ، قيل: بفتح الدال، وقيل: بسكونها. انتهى (أَوْ رَجُلٍ) أو هي يد رجل (قَالَتْ: بَلْ يَدُ امْرَأَةٍ) أي بل هي يد امرأة (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَوْ كُنْتِ امْرَأَةً لَغَيَّرْتِ أَظْفَارَكِ بِالْحِنَّاءِ) أي لو كنت تراعين شعار النِّساء، لخضبت يدك بالحناء. وفيه شدّة استحباب الخضاب بالحنّاء للنساء. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هَذَا ضعيف
(1)
؛ لجهالة صفية بنت عصمة.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -18/ 5091 - وفي "الكبرى" 23/ 9364، وأخرجه (د) فِي "الترجّل" 4166 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار"25726.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
19 - (كَرَاهِيَةِ رِيحِ الْحِنَّاءِ)
5092 -
(أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ، سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: سَمِعْتُ كَرِيمَةَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ، سَأَلَتْهَا امْرَأَةٌ عَنِ الْخِضَابِ بِالْحِنَّاءِ؟ قَالَتْ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَكِنْ أَكْرَهُ هَذَا؛ لأَنَّ حِبِّي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَكْرَهُ رِيحَهُ. -تَعْنِى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم).
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(إبراهيم بن يعقوب) الْجُوزجانيّ الحافظ الثبت رُمي بالنصب [11] 122/ 174.
2 -
(أبو زيد سعيد بن الربيع) العامريّ الْحَرَشيّ الهرويّ البصريّ، ثقة منْ صغار [9]
(1)
وَقَدْ حسنه الشيخ الألباني رحمه الله لشواهد أوردها الحافظ أبو بكر الهيثمي رحمه الله فِي "مجمع الزوائد" جـ 5 ص 171 - 172 لكنها لا تطمئن النفس إليها؛ لكونها كلها أحاديث ضعيفة، كما يظهر لمن راجع الكتاب المذكور. والله تعالى أعلم.
13/ 1481 وهو أقدم شيخ للبخاريّ وفاة، مات سنة (211).
3 -
(عليّ بن المبارك) الْهُنائيّ البصريّ، ثقة، كَانَ له عن يحيى بن أبي كثير كتابان: أحدهما سماعٌ، والآخر إرسال، فحديث الكوفيين عنه فيه شيء، منْ كبار [7] 28/ 1411.
4 -
(كريمة) بنت هُمام -بضم الهاء، وتخفيف الميم- كذا ضبطه مؤلّف "المشكاة". قاله القاري. روت عن عائشة حديثًا فِي الخضاب -أي حديث الباب-. وروى عنها يحيى بن أبي كثير، ومحمد بن مِهْزَم العبديّ، وعلي بن المبارك، مقبولة [3]، تفرّد بها المصنّف، وأبو داود بهذا الْحَدِيث فقط.
5 -
(عائشة) رضي الله تعالى عنها 5/ 5. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
عن كريمة بنت هُمَام أنها قَالَتْ: (سَمِعْتُ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها (سَأَلَتْهَا امْرَأَةٌ) جملة فِي محلّ نصب عَلَى الحال منْ "عائشة"(عَنِ الْخِضَابِ بِالْحِنَّاءِ) أي عن حكمه. قَالَ أبو داود رحمه الله تعالى: تعني خضاب شعر الرأس".
وَقَالَ السنديّ فِي "شرحه" 8/ 142 - 143: الظاهر أن السؤال عن خضاب اليدين والرجلين بالحنّاء، كما هو المعتاد فِي النِّساء، ويؤيّده قولها:"ولكني أكرهه"؛ لأن عائشة رضي الله تعالى عنها ما بلغت أوان خضاب الرأس، كذا قيل. وقيل: المراد خضاب شعر الرأس؛ توفيقًا بين هَذَا الْحَدِيث، وبين الأحاديث التي تفيد الترغيب فِي استعمال الحنّاء فِي اليدين، فإما أن يقال: كراهته ريحه لا يقتضي ترك استعمال النِّساء؛ للاحتراز عن التشبّه بالرجال، أو يقال: كراهة عائشة خضاب الرأس لا يتوقّف عَلَى بلوغها أوان خضاب الرأس؛ لجواز أنها تكره ذلك قبل بلوغ ذلك السنّ فِي غيرها، أو فِي نفسها إن بلغت ذلك. والله تعالى أعلم. انتهى كلام السنديّ.
(قَالَتْ) عائشة رضي الله تعالى عنها (لَا بَأْسَ بِهِ) أي لا بأس بفعله، فإنه مباح (وَلَكِنْ أَكْرَهُ هَذَا) ولفظ أبي داود:"ولكني أكرهه"(لِأنَّ حِبِّي) -بكسر الحاء المهملة، وتشديد الموحّدة-. أي محبوبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض نسخ أبي داود:"كَانَ حبيبي"(صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَكْرَهُ رِيحَهُ -تَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) استدلّ به الشافعيّ رحمه الله تعالى عَلَى أن الحنّاء ليس بطيب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كَانَ يحبّ الطيب. وفيه أنه لا دلالة فيه، لاحتمال أن هَذَا النوع منْ الطيب لم يكن يلائم طبعه، كما لا يلائم الزباد مثلاً طبع البعض. كذا قَالَ القاري.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: استدلال الشافعيّ رحمه الله تعالى ظاهرٌ، وما ذُكر منْ الاحتمال ليس ظاهراً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هَذَا ضعيفٌ؛ لجهالة كريمة. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -19/ 5092 - وفي "الكبرى" 24/ 9365. وأخرجه (د) فِي "الترجّل" 4164 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 24340 و25232. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
20 - (النَّتْفُ)
5093 -
(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، وَأَبُو الأَسْوَدِ النَّضْرُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَا: حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ عَيَّاشِ بْنِ عَبَّاسٍ الْقِتْبَانِيِّ، عَنْ أَبِي الْحُصَيْنِ الْهَيْثَمِ بْنِ شُفَيٍّ، وَقَالَ أَبُو الأَسْوَدِ شَفِيٌّ: إِنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: خَرَجْتُ أَنَا، وَصَاحِبٌ لِي، يُسَمَّى أَبَا عَامِرٍ، رَجُلٌ مِنَ الْمَعَافِرِ، لِنُصَلِّيَ بِإِيلِيَاءَ، وَكَانَ قَاصُّهُمْ رَجُلاً مِنَ الأَزْدِ، يُقَالُ لَهُ: أَبُو رَيْحَانَةَ مِنَ الصَّحَابَةِ، قَالَ أَبُو الْحُصَيْنِ، فَسَبَقَنِي صَاحِبِي إِلَى الْمَسْجِدِ، ثُمَّ أَدْرَكْتُهُ، فَجَلَسْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ: هَلْ أَدْرَكْتَ قَصَصَ أَبِي رَيْحَانَةَ؟ فَقُلْتُ: لَا، فَقَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ عَشْرٍ: عَنِ الْوَشْرِ، وَالْوَشْمِ، وَالنَّتْفِ، وَعَنْ مُكَامَعَةِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ بِغَيْرِ شِعَارٍ، وَعَنْ مُكَامَعَةِ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ بِغَيْرِ شِعَارٍ، وَأَنْ يَجْعَلَ الرَّجُلُ أَسْفَلَ ثِيَابِهِ حَرِيرًا، مِثْلَ الأَعَاجِمِ، أَوْ يَجْعَلَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ حَرِيرًا، أَمْثَالَ الأَعَاجِمِ، وَعَنِ النُّهْبَى، وَعَنْ رُكُوبِ النُّمُورِ، وَلُبُوسِ الْخَوَاتِيمِ، إِلاَّ لِذِي سُلْطَانٍ").
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم) أبو القاسم المصريّ، ثقة [11] 152/ 1944 منْ أفراد المصنّف.
2 -
(أبوه) عبد الله بن عبد الحكم بن أعين بن ليث الفقيه المالكيّ، أبو محمد
المصريّ، يقال: إنه مولى عثمان، صدوقٌ، أنكر عليه ابن معين شيئا، منْ كبار [10].
رَوَى عن مالك، والليث، ومفضل بن فضالة، وبكر بن مصر، وابن لهيعة، ومسلم ابن خالد الزنجي، وجماعة. وعنه أولاده: عبد الحكم، ومحمد، وعبد الرحمن، وسعد، والربيع بن سليمان الجيزي، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ومحمد بن مسلم بن وَارَة، ومحمد بن سهل بن عسكر، والمقدام بن داود الرُّعيني، وأبو يزيد يونس بن يزيد القراطيسي، وغيرهم.
قَالَ أبو زرعة: ثقة. وَقَالَ أبو حاتم: صدوقٌ. وَقَالَ ابن وارة: كَانَ شيخ مصر. وَقَالَ العجليّ: لم أر بمصر أعقل منه، ومن سعيد بن أبي مريم. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: كَانَ ممن عَقَد عَلَى مذهب مالك، وفرَّع عَلَى أصوله. وَقَالَ أبو عمر الكندي فِي "الموالي": وُلد سنة خمس وخمسين ومائة فِي الإسكندرية، وكان فقيها، وتوفي فِي رمضان سنة أربع عشرة ومائتين. وَقَالَ ابن عبد البرّ: سمع منْ مالك سماعا، نحو ثلاثة أجزاء، وسمع "الموطأ"، ثم رَوَى عن ابن وهب، وابن القاسم، وأشهب، كثيرا منْ رأي مالك، وصَنَّف كتابا اختصر فيه تلك الأسمعة، بألفاظ مُقَرَّبة، ثم اختصره، وعليهما معول البغداديين المالكية، وإياهما شرح أبو بكر الأبهري، قَالَ: ومات وهو ابن ستين سنة، وإليه أوصى ابن القاسم، وأشهب، وابن وهب، وكان رجلا صالحا ثقة. وَقَالَ ابن يونس: كَانَ فقيها، حسن العقل. وَقَالَ العجليّ: مصري ثقة. وَقَالَ الساجي فِي "الجرح والتعديل": كذبه يحيى ابن معين. وَقَالَ محمد بن قاسم: لما قَدِم يحيى بن معين مصر، حضر مجلس عبد الله، فأول ما حدث به كتاب فضائل عمر ابن عبد العزيز، فَقَالَ: حدثني مالك، وعبد الرحمن بن زيد، وفلان، وفلان، فمضى فِي ذلك ورقة، ثم قَالَ: كل حدثني هَذَا الْحَدِيث، فَقَالَ له يحيى: حدثك بعض هؤلاء بجميعه، وبعضهم ببعضه؟ فَقَالَ: لا، حدثني جميعهم بجميعه، فراجعه، فأصرّ، فقام يحيى، وَقَالَ للناس: يكذب. وَقَالَ الخليلي فِي "الإرشاد": ثقة، كبير، مشهور، وله تصانيف، وله ثلاثة أولاد ثقات: محمد، وسعد، وعبد الرحمن، وأرخ ابن حبّان وفاته سنة (13). تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.
3 -
(أبو الأسود النضر بن عبد الجبّار) المراديّ مولاهم المصريّ، مشهورٌ بكنيته، ثقة، منْ كبار [10] 66/ 1801.
4 -
(المفضّل بن فضالة القِتبانيّ) أبو معاوية المصريّ القاضي، ثقة فاضلٌ، عابدٌ، أخطأ ابن سعد فِي تضعيفه [8] 42/ 586.
5 -
(عيّاش بن عبّاس القِتْبانيّ) المصريّ، ثقة [5] 2/ 1371.
6 -
(أبو الحصين الهيثم بن شَفِيّ) -بفتح الشين المعجمة، وتخفيف الفاء، وزان علِيّ عَلَى الأصحّ- ضبطه الدارقطنيّ، وَقَالَ: منْ ضمّ الشين، وثقّل، فقد وَهِم -الرُّعينيّ الْحَجْريّ -بفتح المهملة، وسكون الجيم- المصريّ، ثقة [2].
رَوَى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن سعد بن أبي سَرْح، وفَضَالة بن عُبيد، وأبي رَيحانة، وعبد الرحمن بن عُدَيس الْبَلَويّ، وأبي عامر الْحَجْريّ. وعنه يزيد ابن أبي حبيب، وعيّاش بن عبّاس القِتْبانيّ، وسَوَادة الرَّقّيّ، وأبو الخير مَرْثَد بن عبد الله الْيَزَنيّ. ذكره يعقوب بن سُفيان فِي ثقات المصريين. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ أبو سعيد بن يونس: شهد فتح مصر. رَوَى له المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط، كرره أربع مرّات هنا وفي 5112 و5113 و5114.
7 -
(أبو ريحانة) -بفتح الراء، وسكون الياء التحتانيّة- واسمه شَمَعون بن زيد، حليف الأنصار، ويقال: مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، صحابيّ، شهِد فتح دمشق، وقدِم مصر، وسكن بيت المقدس، ويقال: اسمه سمغون -بمهملة أوله، ثم معجمة-، وَقَدْ تقدّمت ترجمته فِي 9/ 3117. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي الْحُصَيْنِ) بضم الحاء المهملة، مصغّرًا (الْهَيْثَمِ بْنِ شُفَيٍّ) تقدّم أن الأصحّ أنه بوزن عليّ (وَقَالَ أَبُو الأَسْوَدِ) هو النضر بن عبد الجبّار، ثاني شيخي عبد الرحمن بن عبد الله (شُفَيٌّ) بالجر عَلَى الحكاية، ويحتمل أن يكون بالرفع عَلَى أنه خبر لمبتدأ محذوف: أي هو شُفيّ، والظاهر أنه أراد أن عبد الله بن عبد الحكم، والنضر بن عبد الجبّار اختلفا فِي ضبط "شفيّ"، فذكره عبد الله مكبّراً بوزن عليّ، والنضر مصغّراً بوزن حُييّ، ويحتمل العكس، والله تعالى أعلم.
(إِنَّهُ) أي المفضّلَ بن فضالة (سَمِعَهُ) أي سمع أبا الحصين الهيثم بن شَفِيّ (يَقُولُ: خَرَجْتُ أَنَا، وَصَاحِبٌ لِي، يُسَمَّى) بالبناء للمفعول (أَبَا عَامِرٍ، رَجُلٌ) بالرفع خبر لمحذوف: أي هو رجلٌ، ويحتمل النصب عَلَى البدليّة، ولم أر منْ ترجم هَذَا الرجل، فالله تعالى أعلم (مِنَ الْمَعَافِرِ) قَالَ فِي "القاموس":"مَعافر": بلدٌ، وأبو حيّ؛ منْ هَمْدان، لا ينصرف، وإلى أحدهما تُنسب الثياب المعافريّة، ولا تُضمّ الميم. انتهى. ولم يتبيّن إلى أيهما يُنسب هَذَا الرجل، وأما قول صاحب "عون المعبود": والظاهر أن المراد هاهنا هو الأول. فلم يذكر دليل ظهوره. فتأمل. (لِنُصَلِّيَ بِإيلِيَاءَ) بكسر الهمزة، واللام، بينهما تحتانيّة ساكنة، والمدّ والقصر، بوزن كِيمياء: اسم مدينة بيت المقدس
(وَكَانَ قَاصُّهُمْ رَجُلاً) ولفظ أبي داود: "وكان قاصّهم رجلٌ" برفع "رجل" اسم "كَانَ مؤخّرًا (مِنَ الأَزْدِ) بفتح الهمزة، وسكون الزاي: اسم قبيلة، قَالَ فِي "القاموس": أزد بن الْغَوْث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان ابن سبأ، وبالسين أفصح، أبو حيّ باليمن، ومن أولاده الأنصار كلّهم، ويقال: أزدُ شَنُوءةَ، وعُمَانَ، والسَّرَاةِ. انتهى بزيادة منْ "اللباب" 1/ 120 - 121.
(يُقَالُ لَهُ) أي لذلك الرجل القاصّ (أبُو رَيْحَانَةَ) بفتح الراء، وسكون التحتانيّة، بعدها حاء مهملة (مِنَ الصَّحَابَةِ) رضي الله تعالى عنهم (قَالَ أبُو الْحُصَيْنِ) الهيثم بن شفيّ (فَسَبَقَنِي صَاحِبِي) أي أبو عامر المعافريّ (إِلَى الْمَسْجِدِ، ثُمَّ أَدْرَكْتُهُ) أي لحقت به (فَجَلَسْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ) ذلك الصاحب (هَلْ أَدْرَكْتَ قَصَصَ أَبِي رَيْحَانَةَ؟، فَقُلْتُ: لَا، فَقَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَشْرٍ) أي عشر خصال (عَنِ الْوَشْرِ) بفتح الواو، وسكون الشين المعجمة، بعدها راء-: معالجة الأسنان بما يُحدّدها، تفعله المرأة المسنّة تَشَبّهُ بالشوابّ الحديثات السنّ. قاله الخطّابيّ. وَقَالَ ابن الأثير: هو تحديد الأسنان، وترقيق أطرافها، تفعله المرأة الكبيرة تتشبّه بالشوابّ، والْمُوتَشِرَةُ: هي التي تأمر منْ يفعل بها ذلك، وكأنه منْ وشَرَت الخشبةَ بالميشار، غير مهموز، لغة فِي أَشَرَت. قاله فِي "النهاية" 5/ 188. وفي "المصباح": وشَرت المرأة أنيابها وَشْراً، منْ باب وَعَد: إذا حدّدتها، ورقّقتها، فهي واشرةٌ، واستوشرت: سألت أن يُفعل بها ذلك. انتهى. وإنما نُهي عنه؛ لما فيه منْ التغرير، وتغيير خلق الله تعالى.
(وَالْوَشْمِ) بفتح الواو، وسكون المعجمة، آخره ميم: أن تُغرز اليدُ بالإبرة، ثم يحشى كُحلاً، أو غيره، منْ خضرة، أو سواد. قاله الخطّابيّ. وَقَالَ ابن الأثير: هو أن يُغرز الجلدُ بإبرة، ثم يُحشى بكحل، أو نِيل، فيَزْرَقُ أثره، أو يخضرّ، وَقَدْ وشمت تَشِم وَشْمًا، فهي واشمة، والمستوشِمة، والموتشمة: هي التي يُفعل بها ذلك. قاله فِي "النهاية" 5/ 189. وَقَالَ فِي "المصباح": وَشَمت المرأة يدها وَشْمًا، منْ باب وعد: غرزتها بإبرة، ثم ذرّت عليها النَّثُور، ويسمى النِّيلَجَ، وهو دخان الشحم، حَتَّى يخضرّ، واستوشمت: سألت أن يُفعل بها ذلك. انتهى.
(وَالنَّتْفِ) بفتح، فسكون-: أي عن نتف البياض عن اللحية، والرأس، أو نتف الشعر عن الحاجب وغيره؛ للزينة، أو نتف الشعر عند المصيبة (وَعَنْ مُكَامَعَةِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ) قَالَ فِي "النهاية": هو أن يضاجع الرجل صاحبه فِي ثوب واحد، لا حاجز بينهما. وَقَالَ الخطّابيّ: المكامعة: هي المضاجعة. وروى أبو العبّاس أحمد بن يحيى، عن ابن الأعرابيّ، قَالَ: المكامعة: مضاجعة العراة المجرمين، والمكاعمة: تقبيل أفواه
المحظورين، وأخذ الأول منْ الكميع، والكِمْع، وهو الضجيع، والأخرى منْ الكَعْم، وهو شدّ فم البعير لئلا يعضّ، وفم الكلب لئلا ينبح، وأنشدنا:
هَجَمْنَا عَلَيْهِ وَهُوَ يَكْعَمُ كَلْبَهُ
…
دَعِ الْكَلْبِ يَنْبَحْ إِنَّمَا الْكَلْبُ نَابِحُ
انتهى "معالم السنن" 6/ 32.
(بِغَيْرِ شِعَارٍ) بكسر الشين المعجمة: هو ما يلي الجسد منْ الثوب، أي بلا حاجب بينهما منْ الثياب (وَعَنْ مُكَامَعَةِ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ بِغَيْرِ شِعَارٍ) أي مضاجعة إحداهما الأخرى بلا ساتر بينهما (وَأَنْ يَجْعَلَ الرَّجُلُ أَسْفَلَ ثِيَابِهِ) أي فِي ذيلها، وأطرافها (حَرِيرًا) أي كثيرًا، زائدًا عَلَى أربع أصابع؛ لأن قدرها يجوز، كما سيأتي فِي باب "الرخصة فِي لبس الحرير" 92/ 5315 - إن شاء الله تعالى. قَالَ فِي "عون المعبود" 11/ 66 - 67: ويدلّ عليه تقييده بقوله: (مِثْلَ الأَعَاجِمِ) أي مثل ثيابهم فِي تكثير سجافها، ولعلّهم كانوا يفعلونها أيضاً عَلَى ظهارة ثيابهم؛ تكبّراً، وافتخاراً. قَالَ المظهريّ: يعني أن لبس الحرير حرام عَلَى الرجال، سواء كانت تحت الثياب، أو فوقها، وعادة جهّال العجم أن يلبسوا تحت الثياب ثوبًا قصيرًا، منْ حرير ليلين أعضاؤهم. انتهى.
(أَوْ يَجْعَلَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ حَرِيرًا) أي علَماً منْ حرير، زائدًا عَلَى قدر أربع أصابع، قاله فِي "العون"، وَقَالَ السنديّ: هو أن يُلقي الثوب الحرير عَلَى الكتفين. انتهى (أَمْثَالَ الأَعَاجِمِ، وَعَنِ النُّهْبَى) بضم النون، والقصر: هو النهب، والإغارة، وَقَدْ يكون اسمًا لما يُنهَب، كالعُمْرى، والرُّقْبَى، والمراد النهي عن إغارة المسلمين. قاله فِي "العون" 11/ 67 (وَعَنْ رُكُوبِ النُّمُورِ) بضمتين: جع نَمِر بفتح، فكسر: سبع أخبث، وأجرأ منْ الأسد، ويجوز التخفيف بكسر النون، وسكون الميم، والأنثى نمرة بالهاء، ويجمع أيضاً عَلَى أنمار. والمراد بركوبها: ركوب جلودها مُلقاة عَلَى السُّرُج، والرِّحَال؛ لما فيه منْ التكبّر؛ أو لأنه زيّ الأعاجم، أو لأن الشعر نجس، لا يقبل الدباغ. قاله السنديّ.
وَقَالَ السيوطيّ: وإنما نُهي عن استعمالها؛ لما فيها منْ الزينة، والخيلاء، ولأنه زيّ العجم، ولأن شعره لا يقبل الدباغ عند بعض الأئمة، إذا كَانَ غير ذكيّ، ولعلّ أكثر ما كانوا يأخذون جلود النمور إذا ماتت؛ لأن اصطيادها عسير. انتهى.
وَقَالَ الخطّابيّ: ونهيه عن ركوب النمور، قد يكون لما فيه منْ الزينة، والخيلاء، وَقَدْ يكون لأنه غير مدبوغ؛ لأنه إنما يراد لشعره، والشعر لا يقبل الدباغ. انتهى "المعالم" 6/ 32.
(وَلُبُوسِ الْخَوَاتِيمِ)"اللبوس" -بفتح اللام: اسم لما يُلبس، و"الخواتم" -بكسر
التاء: جمع خاتم -بفتح التاء، وكسرها- وإضافة "لبوس" إلى "الخواتم" بمعنى "منْ"، ويحتمل أن يكون منْ باب إضافة الصفة إلى الموصوف.
[تنبيه]: ما ذكرته منْ ضبط "لبوس" بفتح اللام هو الموافق لما فِي كتب اللغة، وأما ما قاله صاحب "عون المعبود" منْ أنه بضم اللام، مصدر، كالدخول، ونحوه للسنديّ، فمما لا ذكر له فِي كتب اللغة، فليُتنبّه. والله تعالى أعلم.
(إِلاَّ لِذِي سُلْطَانٍ) قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: المراد بذي سلطان منْ يحتاج إليه للمعاملة مع النَّاس، ولغيره يكون زينة محضةً، فالأولى تركه، فالنهي للتنزيه. وقيل: فِي إسناده رجلٌ مبهم، فلم يصحّ الْحَدِيث. والله تعالى أعلم. انتهى "شرح السنديّ" 8/ 144.
وَقَالَ السيوطيّ رحمه الله تعالى: قَالَ الخطّابيّ: ويشبه أن يكون إنما كره الخاتم لغير ذي سلطان؛ لأنه حينئذ يكون زينة محضةً، لا لحاجة، ولا لأرَبٍ غير الزينة. انتهى "المعالم" 6/ 32. وَقَالَ البيهقيّ: هَذَا النهي يحتمل أن يكون للتنزيه. وَقَالَ الحَلِيميّ: يحتمل أن يكون المراد أن السلطان يحتاج إلى الخاتم؛ ليختم به كتبه، ويختم به أموال العامّة، والطينة التي ينفذها إلى الذين يستعدي عليهم، وكل منْ كانت بينه وبين النَّاس معاملات يحتاج لأجلها إلى الكتابة، فهو فِي معنى السلطان، فأما منْ لا يمسك الخاتم إلا للتحلّي به، دون غرض آخر، فهو منهيّ عنه. انتهى "زهر الربى" 8/ 144 - 145.
وسيأتي بيان اختلاف العلماء فِي كراهة الخاتم لغير ذي السلطان، فِي المسألة الثالثة، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي ريحانة رضي الله عنه هَذَا ضعيف؛ لجهالة صاحب أبي الأسود الذي حدّثه بهذا الْحَدِيث عن أبي ريحانة رضي الله عنه.
[تنبيه]: قَالَ فِي "زهر الرُّبَى" 8/ 145: الْحَدِيث أعلّه ابن القطّان بالهيثم بن شَفِيّ، وَقَالَ: رَوَى عنه جماعة، ولا يُعرف حاله. وَقَالَ ابن الموّاق: بل هو معروف الحال، ثقة، وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ الحافظ ابن حجر: فِي إسناده رجلٌ مبهم، فلم يصحّ الْحَدِيث -يعني شيخ الهيثم. انتهى.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -20/ 5093 و27/ 5112 و5113 و5114 - وفي الكبرى" 25/ 9366 و34/ 9401 و9402 و9403. وأخرجه (د) فِي "اللباس" 4049 (ق) فِي "اللباس"
3655 (أحمد) فِي "مسند الشاميين" 16757 و16763 (الدارمي) فِي "الاستئذان"2534.
(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي لبس الخاتم لغير ذي سلطان:
قَالَ الطحاويّ رحمه الله تعالى: ذهب قوم إلى كراهة لبس الخاتم، إلا لذي سلطان، وخالفهم آخرون، فأباحوه، ومن حجتهم حديث أنس رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما ألقى خاتمه، ألقى النَّاس خواتيمهم، فإنه يدلّ عَلَى أنه كَانَ يلبس الخاتم فِي العهد النبوي، منْ ليس ذا سلطان.
[فإن قيل]: هو منسوخ، [قلنا]: الذي نُسخ منه لبس خاتم الذهب، قَالَ الحافظ: أو لبس خاتم المنقوش عليه نقش خاتم النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم أورد الطحاويّ عن جماعة منْ الصحابة والتابعين، أنهم كانوا يلبسون الخواتم، ممن ليس له سلطان. انتهى.
ولم يجب عما فِي حديث أبي ريحانة رضي الله عنه منْ النهي إلا لذي سلطان، قَالَ الحافظ: والذي يظهر أن لبسه لغير ذي سلطان خلاف الأولى؛ لأنه ضرب منْ التزين، واللائق بالرجال خلافه، وتكون الأدلة الدالة عَلَى الجواز، هي الصارفة للنهي عن التحريم، ويؤيده أن فِي بعض طرقه: "نهي عن الزينة، والخاتم
…
" الْحَدِيث، ويمكن أن يكون المراد بالسلطان منْ له سلطنة عَلَى شيء ما، يحتاج إلى الختم عليه، لا السلطان الأكبر خاصة، والمراد بالخاتم ما يختم به، فيكون لبسه عبثا، وأما منْ لبس الخاتم الذي لا يختم به، وكان منْ الفضة للزينة، فلا يدخل فِي النهي، وعلى ذلك يحمل حال منْ لبسه، ويؤيده ما ورد منْ صفة نقش خواتم بعض منْ كَانَ يلبس الخواتم، مما يدلّ عَلَى أنها لم تكن بصفة ما يختم به.
وَقَدْ سئل مالك عن حديث أبي ريحانة، فضعفه، وَقَالَ: سأل صدقةُ بنُ يسار سعيد ابنَ المسيب؟، فَقَالَ: البس الخاتم، وأخبر النَّاس أني قد أفتيتك. والله أعلم. ذكره فِي "الفتح" 11/ 511 - 512.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قاله ابن المسيّب رحمه الله تعالى هو الحقّ؛ لأن النهي يعتمد عَلَى دليل صحيح، ولم يصحّ حديث أبي ريحانة رضي الله عنه، لما عرفت منْ جهالة الراوي عنه، وعلى تقدير صحّته يُحمل النهي عَلَى خلاف الأولى، كما سبق عن الحافظ رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
***
21 - (وَصْلِ الشَّعْرِ بِالْخِرَقِ)
5094 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنِ الزُّورِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة. و"خالد": هو ابن الحارث الهجيميّ. و"هشام ": هو الدستوائيّ. والسند مسلسل بثقات البصريين إلى قتادة، وسعيد مدنيّ، ومعاوية رضي الله عنه مدنيّ، ثم دمشقيّ، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.
وقوله "نهى عن الزور": المراد بالزور هنا الباطل، والكذب، وأصل التزوير: التمويه بما ليس بصحيح، والحديث متَّفقٌ عليه، وتمام شرحه يأتي فِي الْحَدِيث التالي -إن شاء الله تعالى-. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5095 -
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، عَلَى الْمِنْبَرِ، وَمَعَهُ فِي يَدِهِ كُبَّةٌ، مِنْ كُبَبِ النِّسَاءِ، مِنْ شَعْرٍ، فَقَالَ: مَا بَالُ الْمُسْلِمَاتِ، يَصْنَعْنَ مِثْلَ هَذَا، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:"أَيُّمَا امْرَأَةٍ زَادَتْ فِي رَأْسِهَا شَعْرًا، لَيْسَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ زُورٌ، تَزِيدُ فِيهِ").
رجال هدا الإسناد: ستة:
1 -
(أحمد بن عمرو بن السرح) أبو الطاهر المصريّ، ثقة [10] 35/ 39.
2 -
(ابن وهب) عبد الله القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقة حافظ عابد [9] 9/ 9.
3 -
(مخرمة بن بُكير) أبو المسور المدنيّ، صدوقٌ، وروايته عن أبيه وجادة منْ كتابه، قاله أحمد، وابن معين، وغيرهما، وَقَالَ ابن المدينيّ: سمع منْ أبيه قليلاً [7] 28/ 438.
4 -
(أبوه) بُكير بن عبد الله بن الأشجّ، مولى بني مخزوم، أبو عبد الله، أو أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقة [5] 135/ 211.
5 -
(سعيد المقبريّ) ابن أبي سعيد كيسان، أبو سَعْد المدنيّ، ثقة، تغيّر قبل موته بأربع سنين [3] 95/ 117.
6 -
(معاوية بن أبي سفيان) صخر بن حرب الأمويّ الصحابيّ المشهور، أبو عبد الرحمن الخليفة، أسلم قبل الفتح، وكتب الوحي للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ومات صلى الله عليه وسلم فِي رَجَب سنة (60) وَقَدْ قارب (80). والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وابن وهب، فمصريان. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعي عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ سَعِيدٍ) بن أبي سعيد (الْمَقْبُرِيِّ) بفتح الميم، وسكون القاف، وضمّ الموحّدة: نسبة إلى مقبرة المدينة؛ لمجاورته لها، أو لأن عمر رضي الله عنه ولّاه شؤون الموتى بها (قَالَ: رَأَيْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ) صخر بن حرب رضي الله تعالى عنهما (عَلَى الْمِنْبَرِ) النبويّ، وكان ذلك فِي آخر قَدْمة قدمها، وكان فِي سنة إحدى وخمسين منْ الهجرة، وهي آخر حجة حجّها فِي خلافته رضي الله عنه، قاله فِي "الفتح" 7/ 197 - 198 فِي "كتاب أحاديث الأنبياء" الْحَدِيث رقم (3468)(وَمَعَهُ فِي يَدِهِ كُبَّةٌ) بضمّ الكاف، وتشديد الموحّدة: هي الشعر المكفوف بعضه عَلَى بعض. وفي الرواية الآتية فِي 67/ 5247 - منْ طريق الزهريّ، عن حميد بن عبد الرحمن، قَالَ: سمعت معاوية، وهو عَلَى المنبر، وأخرج منْ كُمّه قُصّة منْ شعر
…
"، وهي بضم القاف، وتشديد الصاد المهملة: الْخُصْلة منْ الشعر. قاله فِي "الفتح"، وَقَالَ الأصمعيّ، وغيره: هي شعر مقدّم الرأس المقبل عَلَى الجبهة، وقيل: شعر الناصية. ذكره النوويّ فِي شرحه لصحيح مسلم 14/ 108 (مِنْ كُبَبِ النِّسَاءِ) بضم، ففتح: جمع كُبّة، كغُرف وغُرْفة (مِنْ شَعْرٍ) بيان للكبب، و"الشعر" بفتحتين، أو بفتح، فسكون (فَقَالَ: مَا بَالُ الْمُسْلِمَاتِ) أي ما حالهنّ، وما شأنهنّ (يَصْنَعْنَ مِثْلَ هَذَا) الصنيع المنكر (إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ زَادَتْ فِي رَأْسِهَا شَعْرًا لَيْسَ مِنْهُ) هَذَا يفهم منه أنه لو تقطّع منْ شعرها شيء، فوصلته به جاز (فَإِنَّهُ زُورٌ) بضم الزاي، وسكون الواو: أي باطل وكذبٌ محرّم، قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: الزور فِي هَذَا الْحَدِيث قول الباطل، والشهادة بالكذب، وأصل التزوير: التمويه بما ليس بصحيح. انتهى "المفهم" 5/ 448. وذكر المجد فِي "القاموس" للزور معاني كثيرة، منها: الكذب، والشرك بالله تعالى، وأعياد اليهود والنصارى، والباطل، وغير ذلك. انتهى. وَقَالَ الفيّوميّ: الزُّور: الكذب، قَالَ الله عز
وجل: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} الآية [الفرقان: 72]، وزوّر كلامه: أي زخرفه. (تَزِيدُ فِيهِ) أي فِي رأسها، يعني أنه زيادة محرّمة، لا يجوز لها أن تتعاطاه. وفي رواية حميد المذكورة:"فَقَالَ: يا أهل المدينة أين علماؤكم، سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذه، وَقَالَ: إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتّخذ نساؤهم مثل هَذَا". وفي الرواية الآتية منْ طريق قتادة، عن ابن المسيّب، عن معاوية رضي الله عنه أنه قَالَ: يا أيها النَّاس إن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهاكم عن الزور، قَالَ: وجاء بخرقة سوداء، فألقاها بين أيديهم، فَقَالَ: هَذَا تجعله المرأة فِي رأسها، ثم تختمر عليه". وفي رواية البخاريّ:"وتناول قُصّةً منْ شعر، كانت بيد حرسيّ، أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذه، ويقول: إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم".
وقوله: "وتناول قصة": "القصة" -بضم القاف، وتشديد المهملة: الخصلة منْ الشعر. و"الحرسي" -بفتح الحاء والراء، وبالسين المهملات-: نسبة إلى الْحَرَس، وهم خَدَم الأمير، الذين يحرسونه، ويقال للواحد حَرَسيّ؛ لأنه اسم جنس. وعند الطبراني، منْ طريق عروة، عن معاوية منْ الزيادة، قَالَ:"وجدت هذه عند أهلي، وزعموا أن النِّساء يزدنه فِي شعورهن"، وهذا يدلّ عَلَى أنه لم يكن يُعرف ذلك فِي النِّساء قبل ذلك. وفي رواية سعيد بن المسيب:"ما كنت أرى يفعل ذلك إلا اليهود".
وقوله: "أين علماؤكم؟ ": فيه إشارة إلى قلة العلماء يومئذ بالمدينة، ويحتمل أنه أراد بذلك إحضارهم؛ ليستعين بهم عَلَى ما أراد منْ إنكار ذلك، أو لينكر عليهم سكوتهم عن إنكارهم هَذَا الفعل قبل ذلك.
وقوله: "إنما هلكت بنو إسرائيل"، فِي رواية معمر عند مسلم:"إنما عُذّب بنو إسرائيل"، ووقع فِي رواية سعيد بن المسيب المذكورة:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه، فسماه الزور"، وفي رواية قتادة، عن سعيد، عند مسلم:"نهى عن الزور"، وفي آخره:"ألا وهذا الزور"، قَالَ قتادة: يعني ما تكثر به النِّساء أشعارهن منْ الخرق. قاله فِي "الفتح" 11/ 571. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث معاوية رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -21/ 5094 و5095 و67/ 5247 و5248 و68/ 5249 و5250 -
وفي "الكبرى" 27/ 9369 و9370 و9371. وأخرجه (خ) فِي "أحاديث الأنبياء" 3468 و3488 و"اللباس" 5933 و5938 (م) فِي "اللباس" 2127 (د) فِي "الترجّل" 4167 (ت) فِي "الأدب" 2781 (أحمد) فِي "مسند الشاميين" 16388 و16401 و16423 و16482 (الموطأ) فِي "الجامع" 1765. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم وصل الشعر بالشعر، وهو التحريم. (ومنها): أنه يدلّ عَلَى تحريم الغشّ، وأنوع الخِداع، والتدليس. (ومنها): أن فيه جواز إبقاء الشعر، وعدم وجوب دفنه. (ومنها): أن فيه قيام الإمام بالنهي عَلَى المنبر، ولاسيما إذا رآه فاشيا، فيفشي إنكاره تأكيدا؛ ليحذر منه. (ومنها): أن فيه إنذارَ مَنْ عمل المعصية، بوقوع الهلاك بمن فعلها قبله، كما قَالَ تعالى:{وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83]. (ومنها): فيه جواز تناول الشيء فِي الخطبة؛ ليراه منْ لم يكن رآه للمصلحة الدينية. (ومنها): أن فيه إباحة الْحَدِيث عن بني إسرائيل، وكذا غيرهم منْ الأمم؛ للتحذير مما عصوا فيه. (ومنها): ما قيل: إن فيه طهارةَ شعر الآدمي؛ لعدم الاستفصال، وإيقاع المنع عَلَى فعل الوصل، لا عَلَى كون الشعر نجسا. وفيه نظر. قاله فِي "الفتح" 11/ 574.
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى: هَذَا الْحَدِيث حجة واضحة عَلَى إبطال قول منْ قصر التحريم عَلَى وصل الشعر، وذلك لأن معاوية رضي الله عنه فسّر الزور المنهيّ عنه فِي هَذَا الْحَدِيث بالخِرَق التي يكثر النِّساء بها شعورهنّ بقوله:"ألا وهذا الزور"، وذلك فِي رواية قتادة، عن ابن المسيّب المتقدّمة، وعند مسلم: أنه قَالَ ذات يوم: إنكم قد أحدثتم زِيَّ سوء، وإن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الزور، قَالَ: وجاء رجلٌ بعصًا عَلَى رأسها خرقةٌ، قَالَ معاوية: ألا وهذا الزور"، وزاده قتادة وضوحًا، فَقَالَ: يعني ما يكثّر به النِّساء أشعارهنّ منْ الخرق. انتهى.
(ومنها): أنه يستفاد منْ رواية قتادة المتقدّمة التي فيها زيادة منعِ تكثير شعر الرأس بالخرق، منع المرأة فيما لو كانت مثلا، قد تمزق شعرها، فتضع عوضه خرقا، توهم أنها شعر، وَقَدْ أخرج مسلم عقب حديث معاوية رضي الله عنه هَذَا حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه:"ونساء كاسيات، عاريات، رءوسهن كأسنمة الْبُخْتِ"، قَالَ النوويّ: يعني يُكَبّرنها، ويعظمنها بلف عمامة، أو عصابة، أو نحوها، قَالَ: وفي الْحَدِيث ذم ذلك. وَقَالَ القرطبيّ: "البخت" -بضم الموحدة، وسكون المعجمة، ثم مثناة-: جمع بختية، وهي ضرب منْ الإبل، عظام الأسنمة، والأسمنة -بالنون-: جمع سنام، وهو أعلى ما
فِي ظهر الجمل، شبّه رءوسهن بها؛ لما رفعن منْ ضفائر شعورهن، عَلَى أوساط رءوسهن، تزيينا وتصنعا، وَقَدْ يفعلن ذلك بما يكثرن به شعورهن. انتهى.
(ومنها): ما قاله فِي "الفتح" 11/ 574: وفي هذه الأحاديث -أي أحاديث النهي عن الوصل، والوشم- حجة لمن قَالَ: يحرم الوصل فِي الشعر، والوشم، والنمص عَلَى الفاعل، والمفعول به، وهي حجة عَلَى منْ حمل النهي فيه عَلَى التنزيه؛ لأن دلالة اللعن عَلَى التحريم، منْ أقوى الدلالات، بل عند بعضهم أنه منْ علامات الكبيرة، وفي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها -يعني الآتي بعد باب- دلالة عَلَى بطلان ما رُوي عنها أنها رخصت فِي وصل الشعر بالشعر، وقالت: إن المراد بالواصل المرأة تفجُر فِي شبابها، ثم تصل ذلك بالقيادة، وَقَدْ ردّ ذلك الطبري، وأبطله بما جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها فِي قصة المرأة المذكورة فِي الباب الثالث. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي وصل الشعر:
ذهب الجمهور إلى تحريم الوصل مطلقاً، قَالَ فِي "الفتح" 11/ 571 - 572: وهذا الْحَدِيث حجة للجمهور فِي منع وصل الشعر بشيء آخر، سواء كَانَ شعرا أم لا، ويؤيده حديث جابر رضي الله عنه زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن تصل المرأة بشعرها شيئًا، أخرجه مسلم.
وذهب الليث، ونقله أبو عبيدة عن كثير منْ الفقهاء، أن الممتنع منْ ذلك وصل الشعر بالشعر، وأما إذا وصلت شعرها بغير الشعر، منْ خرقة وغيرها، فلا يدخل فِي النهي، وأخرج أبو داود بسند صحيح، عن سعيد بن جبير، قَالَ: لا بأس بالقرامل، وبه قَالَ أحمد، و"القوامل": جمع قَرْمل -بفتح القاف، وسكون الراء-: نبات طويل الفروع، لين، والمراد به هنا خيوط منْ حرير، أو صوف يُعمل ضفائر تصل به المرأة شعرها.
وفصل بعضهم بين ما إذا كَانَ ما وُصل به الشعر، منْ غير الشعر مستورا، بعد عقده مع الشعر، بحيث يُظَنّ أنه منْ الشعر، وبين ما إذا كَانَ ظاهرا، فمنع الأول قوم فقط؛ لما فيه منْ التدليس، وهو قوي.
ومنهم منْ أجاز الوصل مطلقا، سواء كَانَ بشعر آخر، أو بغير شعر، إذا كَانَ بعلم الزوج، وبإذنه، وأحاديث الباب حجة عليه. انتهى "فتح" 11/ 571 - 572.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الحقّ هو ما عليه الجمهور منْ تحريم الوصل مطلقاً، سواء كَانَ بشعر، أم بغيره، إلا للضرورة؛ للأحاديث الصحيحة بذلك، كما سبق بيانها، ومنها حديث معاوية رضي الله عنه المتقدّم فِي قصّة الخرقة، ومنها ما أخرجه مسلم فِي "صحيحه" منْ حديث جابر رضي الله عنه:"زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة بشعرها شيئًا".
و"شيئًا" نكرة يعمّ الشعر، وغيره. فتبصّر، ولا تتحيّر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
22 - (الْوَاصِلَةُ)
5096 -
(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنِ امْرَأَتِهِ، فَاطِمَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَعَنَ الْوَاصِلَةَ، وَالْمُسْتَوْصِلَةَ").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن إسماعيل بن إبراهيم) المعروف أبوه بابن عليّة البصريّ، نزيل دمشق وقاضيها، ثقة [11] 22/ 489.
2 -
(أبو النصر) هاشم بن القاسم بن مسلم الليثيّ مولاهم البغداديّ الملقّب قيصر، ثقة ثبتٌ [9] 71/ 2407.
3 -
(شعبة) بن الحجّاج البصريّ الإمام الحجة الثبت [7] 24/ 27.
4 -
(هشام بن عروة) الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقة فقيه ربما دلّس [5] 49/ 61.
5 -
(فاطمة) بنت المنذر بن الزبير بن العوّام المدنيّة، ثقة [3] 185/ 293.
6 -
(أسماء بنت أبي بكر) الصدّيق، زوج الزبير بن العوّام رضي الله تعالى عنهم، منْ كبار الصحابيات، عاشت مائة سنة، وماتت سنة (3) أو (74)، وتقدمت فِي 185/ 293. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين منْ هشام. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّة، ورواية الرجل عن امرأته، عن جدّتهما، فإن أسماء جدة لهشام، وزوجه فاطمة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ) بن الزبير (عَنِ امْرَأَتِهِ، فَاطِمَةَ) بنت المنذر بن الزبير (عَنْ) جدّتهما (أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ) أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ الْوَاصِلَةَ) أي التي تصل شعرها بشعر آخر، سواء كانت تصل بشعر نفسها، أو بشعر غيرها (وَالْمُسْتَوْصِلَةَ) أي التي تأمر منْ يفعل بها ذلك. قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: هَذَا الْحَدِيث نصّ فِي تحريم وصل الشعر بالشعر، وبه قَالَ مالك، وجماعة العلماء، ومنعوا الوصل بكلّ شيء، منْ الصوف، والخرق، وغيرها؛ لأن ذلك كلّه فِي معنى وصله بالشعر، ولعموم نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة شعرها، وَقَدْ شذّ الليث ابن سعد، فأجاز وصله بالصوف، والخِرَق، وما ليس بشعرٍ، وهو محجوج بما تقدّم. وأباح آخرون وضع الشعر عَلَى الرأس، وقالوا: إنما نُهي عن الوصل خاصّةً، وهذه ظاهريّة محضة، وإعراضٌ عن المعنى. وَقَدْ شذّ قومٌ، فأجازوا الوصل مطلقًا، وتأوّلوا الْحَدِيث عَلَى غير وصل الشعر، وهو قولٌ باطلٌ. وَقَدْ روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها، ولم يصحّ عنها.
ولا يدخل فِي هَذَا النهي ما رُبط منْ الشعر بخيوط الحرير الملوّنة، وما لا يُشبه الشعر، ولا يكثّره، وإنما يُفعل ذلك للتجمّل، والزينة. انتهى "المفهم" 5/ 443.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "ولا يدخل الخ" هَذَا عندي محلّ توقّف.
[تنبيه]: قوله: "الواصلة، والمستوصلة": هَذَا القدر هو الذي وُجد منْ حديث أسماء رضي الله تعالى عنها، فكأنها ما سمعت الزيادة التي فِي حديث أبي هريرة، وابن عمر رضي الله عنهم فِي الواشمة، والمستوشمة، فقد أخرج الطبريّ بسند صحيح، عن قيس بن أبي حازم، قَالَ:"دخلت مع أبي عَلَى أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، فرأيت يد أسماء موشومة"، قَالَ الطبريّ: كأنها كانت صنعته قبل النهي، فاستمرّ فِي يدها، قَالَ: ولا يُظنّ بها أنها فعلته بعد النهي؛ لثبوت النهي عن ذلك. قَالَ الحافظ: ويحتمل أنها لم تسمعه، أو كانت بيدها جراحة، فداوتها، فبقي الأثر مثلُ الوشم فِي يدها. انتهى "فتح" 11/ 574. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهدا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -22/ 5096 و70/ 5252 - وفي "الكبرى" 28/ 9373 و9374. وأخرجه (خ) فِي "اللباس" 5935 و5936 و5941 (م) فِي "اللباس" 3122 (ق) فِي "النكاح" 1988 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 24282 و26378 و26391 و26439. وفوائد الْحَدِيث، وبيان اختلاف العلماء فِي حكم الوصل، قد تقدّم فِي الباب الماضي، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
23 - (الْمُسْتَوْصِلَةُ)
5097 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ:"لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْوَاصِلَةَ، وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَالْوَاشِمَةَ، وَالْمُوتَشِمَةَ".
أَرْسَلَهُ الْوَلِيدُ بْنُ أَبِي هِشَامٍ).
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(إسحاق بن إبراهيم) الإمام الحافظ الحجة الحنظليّ المروزيّ، المعروف بابن راهويه، ثقة ثبت [10] 2/ 2.
2 -
(محمد بن بشر) العبديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة حافظ [9] 5/ 882.
3 -
(عبيد الله) بن عمر بن حفص بن عاصم العمريّ المدنيّ، لثقة ثبت فقيه [5] 15/ 15.
4 -
(نافع) مولى ابن ابن عمر المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 12/ 12.
5 -
(ابن عمر) عبد الله رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فمروزيّ، وشيخ شيخه، فكوفيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما منْ العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، رَوَى (2630) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ:"لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) ذكر السنديّ رحمه الله تعالى فِي "شرحه" 8/ 145 - 146: ما حاصله: أن هَذَا اللعن، وأمثاله إخبار بأن الله تعالى لعن هؤلاء، لا دعاء منه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يُبعث لعّاناً، وَقَدْ قَالَ: "المؤمن لا يكون لعّاناً". قَالَ: وورد لعن الشيطان وغيره، فالظاهر أن اللعن عَلَى منْ يستحقّه عَلَى قلة لا يضرّ، فلذلك قيل: لم يبعث لعّاناً، بصيغة المبالغة، ووجه اللعن ما فيه منْ تغيير الخلق بتكلّف، ومثله قد حزم الشارع، فيمكن توجيه اللعن إلى فاعله، بخلاف التغيير بالخضاب، ونحوه، مما لم يحرّمه الشارع؛ لعدم التكلّف فيه. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: استدلاله بكونه صلى الله عليه وسلم لم يبعث لعانا، وكون المؤمن لا يكون لعانًا عَلَى ما ذكره فيه نظر؛ لأن هَذَا فيمن لا يستحقّ، وأما المستحقّ، كالكافر، والظالم، ومرتكب بعض الكبائر، فإنه صلى الله عليه وسلم كَانَ كثيرًا ما يلعنهم، قَالَ الله عز وجل:{أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} كما كَانَ صلى الله عليه وسلم يدعو فِي قنوته كثيرًا: "اللَّهم العن فلانا، وفلانا"، وغير ذلك، فتبصّر. والله تعالى أعلم.
(الْوَاصِلَةَ، وَالْمُسْتَوْصِلَةَ) تقدّم تفسيرهما فِي الباب الماضي، ولفظ "الكبرى": والموصَلة" (وَالْوَاشِمَةَ) بالشين المعجمة: هي التي تَشِمُ (والْمُوتَشِمَةَ") ولفظ "الكبرى": "والموشَمة". وهي التي تطلب الوشم، ونقل ابن التين، عن الداودي، أنه قَالَ: الواشمة التي يُفعل بها الوشم، والمستوشمة: التي تفعله، ورد عليه ذلك وفي رواية عند البخاريّ بلفظ:"المستوشمات": وهو بكسر الشين: التي تَفعل ذلك، وبفتحها التي تطلب ذلك، ولمسلم بلفظ:"والموشومات": وهي منْ يُفعل بها الوشم.
قَالَ أهل اللغة: "الوشم" -بفتح، ثم سكون-: أن يُغرز فِي العضو إبرة، أو نحوها، حَتَّى يسيل الدم، ثم يُحشَى بنُورة، أو غيرها، فيخضر. وَقَالَ أبو داود فِي "السنن":"الواشمة": التي تجعل الْخِيلان فِي وجهها بكحل، أو مداد، و"المستوشمة": المعمول بها. انتهى. وذِكرُ الوجه للغالب، وأكثر ما يكون فِي الشفة. وعن نافع: أنه يكون فِي اللِّثَة، فذِكرُ الوجه، ليس قيدًا، وَقَدْ يكون فِي اليد وغيرها منْ الجسد، وَقَدْ يفعل ذلك نَقْشاً، وَقَدْ يُجعل دوائر، وَقَدْ يُكتب اسم المحبوب، وتعاطيه حرام؛ بدلالة اللعن، كما فِي حديث الباب، ويصير الموضع الموشوم نجساً؛ لأن الدم انحبس فيه، فتجب إزالته
إن أمكنت، ولو بالجرح، إلا إن خاف منه تلفاً، أو شيناً، أو فوات منفعة عضو، فيجوز إبقاؤه، وتكفي التوبة فِي سقوط الإثم، ويستوي فِي ذلك الرجل والمرأة. قاله فِي "الفتح" 11/ 568.
وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى فِي "شرح مسلم": أما الواشمة -بالشين المعجمة- ففاعلة الوشم، وهى أن تغرز إبرة، أو مسلة، أو نحوهما، فى ظهر الكف، أو الْمِعصَم، أو الشفة، أو غير ذلك، منْ بدن المرأة، حَتَّى يسيل الدم، ثم تحشو ذلك الموضع بالكحل، أو النورة، فيخضرّ، وَقَدْ يفعل ذلك بدارات، ونقوش، وَقَدْ تُكَثِّره، وَقَدْ تقللَّه، وفاعلة هَذَا واشمة، وَقَدْ وَشَمَت تَشِمُ وَشْماً -أي منْ باب وعد- والمفعول بها موشومة، فإن طلبت فعل ذلك بها، فهى مستوشمة، وهو حرام عَلَى الفاعلة، والمفعول بها باختيارها، والطالبة له، وَقَدْ يُفعل بالبنت، وهى طفلة، فتأثم الفاعلة، ولا تأثم البنت؛ لعدم تكليفها حينئذ، قَالَ أصحابنا: هَذَا الموضع الذي وُشِم يصير نجسا، فإن أمكن إزالته بالعلاج وجبت إزالته، وإن لم يمكن إلا بالجرح، فإن خاف منه التلف، أو فوات عضو، أو منفعة عضو، أو شينًا فاحشا فى عضو ظاهر، لم تجب إزالته، فإذا بان لم يبق عليه إثم، وإن لم يخف شيئا منْ ذلك ونحوه، لزمه إزالته، ويعصي بتأخيره، وسواء فى هَذَا كله الرجل والمرأة. والله أعلم. انتهى "شرح مسلم" 14/ 106.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بنجاسة الدم الخارج منْ الجسد غير الحيض ونحوه محل نظر، وَقَدْ تقدّم تحقيقه فِي أبواب الطهارة، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهدا الْحَدِيث.
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -23/ 5097 و5099 - وفي "الكبرى" 29/ 9376 و9378. وأخرجه (خ) فِي "اللباس" 5947 (م) فِي "اللباس" 2124 (د) فِي "الترجل" 4168 (ت) فِي "الأدب" 2784. وفوائد الْحَدِيث، وبيان اختلاف العلماء تقدما قبل باب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله: (أَرْسَلَهُ الْوَلِيدُ بْنُ أَبِي هِشَامٍ) يعني أن الوليد بن أبي هشام خالف عُبيد الله بن عمر، فرواه عن نافع مرسلاً، لكن عبيد الله مقدم فِي نافع عَلَى غيره، فوصله هو المحفوظ، ثم بيّن رواية الوليد بقوله:
5098 -
(أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي هِشَامٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَعَنَ الْوَاصِلَةَ، وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَالْوَاشِمَةَ، وَالْمُسْتَوْشِمَةَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"الوليد بن أبي هشام"/ زياد، أخو هشام أبي المقدام، المدنيّ، صدوقٌ [6] 1/ 1598.
والحديث مرسل، والموصول الذي قبله، هو المحفوظ الصحيح المتّفق عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5099 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْكِينُ بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ، وَالْمُسْتَوْصِلَةَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن وهب": هو أبو عمران الْحَرّانيّ، صدوقٌ [10] 191/ 306 منْ أفراد المصنّف. و"مسكين بن بُكير": هو أبو عبد الرحمن الحذّاء، صدوقٌ يُخطيء [9] 93/ 2602. و"عمرو بن مُرّة": هو الجَمَليّ المراديّ، أبو عبد الله الكوفيّ الأعمى، ثقة عابدٌ، كَانَ لا يدلّس، ورُمي بالإرجاء [5] 171/ 265. و"الحسن بن مسلم": هو ابن ينّاق المكيّ، ثقة [5] 61/ 2547. و"صفيّة بنت شيبة" بن عثمان بن أبي طلحة العبدريّة، لها رؤية، حدّثت عن عائشة، وغيرها منْ الصحابة، وفي البخاريّ التصريح بسماعها منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنكر الدارقطنيّ إدراكها 159/ 251.
والسند فيه رواية ثلاثة منْ التابعين عَلَى قول منْ يقول: إن صفيّة تابعيّة، أو رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وصحابيّة، عن صحابيّة. وشرح الْحَدِيث تقدّم قريباً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -23/ 5099 و5103 - وفي "الكبرى" 29/ 9378 و30/ 9383. وأخرجه (خ) فِي "النكاح" 5205 و"اللباس" 5934 (م) فِي "اللباس" 2123 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 24282 و4329 و25381 و25597. وفوائد الْحَدِيث تقدّمت قريباً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم
الوكيل.
5100 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَزْرَةَ، عَنِ الْحَسَنِ الْعُرَنِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، عَنْ مَسْرُوقٍ، أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، فَقَالَتْ: إِنِّي امْرَأَةٌ زَعْرَاءُ، أَيَصْلُحُ أَنْ أَصِلَ فِي شَعْرِي؟ فَقَالَ: لَا، قَالَتْ: أَشَيْءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ تَجِدُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا، بَلْ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَجِدُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ
…
" وَسَاقَ الْحَدِيثَ).
رجال هَذَا الإسناد: تسعة:
1 -
(عمرو بن منصور) أبو سعيد النسائيّ، ثقة ثبت [11] 108/ 147 منْ أفراد المصنّف.
2 -
(خلف بن موسى) بن خلف الْعَمّيّ -بفتح المهملة، وتشديد الميم- البصريّ صدوقٌ يُخطيء [10].
رَوَى عن أبيه، وحفص بن غياث. وعنه البخاريّ فِي "الأدب" حديثًا واحدًا فِي النهي عن الاضطجاع عَلَى الوجه، وروى عنه النسائيّ بواسطة عمرو بن منصور، وأبو حاتم، وعليّ بن عبد العزيز، وتمتام، وإسماعيل سمّويه، وغيرهم. وثّقه العجليّ. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: ربما أخطأ، مات سنة (220). وَقَالَ ابن أبي عاصم: مات سنة (21). وأرخه البخاريّ، وابن قانع، والقرّاب سنة (20). تفرد به البخاريّ فِي "الأدب المفرد" بحديث واحد سبق بيانه آنفاً، والمصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.
3 -
(أبوه) موسى بن خلف الْعَمّيّ، أبو خلف البصريّ، صدوقٌ، عابدٌ، له أوهامٌ [7].
رَوَى عن قتادة، وعاصم الأحول، وعاصم بن بهدلة، وأيوب، ويحيى بن أبي كثير، وليث بن أبي سليم، وأبي عامر الخزاز، وحماد بن أبي سليمان، وغيرهم، وأرسل عن سعيد بن يسار. وعنه ابناه: خلف، وعبد الحميد، وعفان، والوليد بن صالح النخاس، وأبو سلمة، ومحمد بن عبد الله الخزاعي، وأبو ظفر عبد السلام بن مطهر، وغيرهم.
قَالَ إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ليس به بأس. وَقَالَ أبو حاتم: صالح الْحَدِيث. وَقَالَ يعقوب بن شيبة: ثقة. وَقَالَ الجوزجاني: حدثنا عفان، ثنا موسى، وأثنى عليه عفان ثناء حسنا، وَقَالَ: ما رأيت مثله قط. وَقَالَ أحمد بن حنبل، عن عفان: حدثنا موسى بن خلف، وكان يُعَدُّ منْ الأبدال. وَقَالَ الآجري، عن أبي داود: ليس به بأس، ليس بذلك القوي. وعن ابن معين أيضًا: ضعيف، نقله ابن عدي. وَقَالَ
ابن حبّان: أكثر منْ المناكير. وَقَالَ العجليّ: ثقة. وَقَالَ الدارقطنيّ: ليس بالقوي، يعتبر به. رَوَى له البخاريّ فِي التعاليق، وأبو داود، والمصنّف، وله عنده فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.
4 -
(قتادة) بن دعامة السدوسيّ البصريّ، ثقة ثبت يدلّس [4] 30/ 34.
5 -
(عزرة) بن عبد الرحمن بن زُرارة الخُزاعيّ الكوفيّ الأعور، ثقةٌ [6] 37/ 1701.
6 -
(الحسن الْعُرَنيّ) -بضم المهملة، وفتح الراء، بعدها نون-: هو ابن عبد الله الكوفيّ، ثقة [4] 222/ 3064.
7 -
(يحيى بن الْجَزّار) العُرنيّ الكوفيّ، قيل: اسم أبيه زَبّان -بزاي، وموحّدة- وقيل: بل لقبه، صدوقٌ، رُمي بالغلوّ فِي التشيّع [3] 29/ 1707.
8 -
(مسروق) بن الأجدع بن مالك الهمدانيّ الوادعيّ، أبو عائشة الكوفيّ، ثقة فقيه عابد مخضرم [2] 90/ 112.
9 -
(عبد الله بن مسعود) الصحابيّ المشهور رضي الله تعالى عنه 35/ 39. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ تساعيّات المصنّف رحمه الله تعالى، فهو سند نازل له، وأنزل أسانيده الْعُشَاريات، وله بها حديثان فِي هَذَا الكتاب، وَقَدْ سبق بيانهما فِي 69/ 996. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين منْ عزرة، وشيخه نسائيّ، والباقون بصريون. (ومنها): أن فيه ثلاثة منْ التابعين يروي بعضهم عن بعض: الحسن العرنيّ، عن يحيى بن الجزّار، عن مسروق، وأن رواية قتادة، عن عزرة منْ رواية الأكابر عن الأصاغر؛ لأنه منْ الطبقة الرابعة، وعزرة منْ السادسة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ مَسْرُوقٍ) بن الأجدع رحمه الله تعالى (أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه (فَقَالَتْ: إِنِّي امْرَأَةٌ زَعْرَاءُ) كحمراء: تأنيث أزعر، أي قليلة الشعر، قَالَ فِي "المصباح" 2/ 253 - : زَعِرَ زَعَرًا، منْ باب تعب: قلّ شعره، فالذكر زَعِرٌ، وأزعرُ، والأنثى: زَعْراءُ. انتهى. وَقَالَ فِي "اللسان" 4/ 323 - : الزّعَرُ فِي شعر الرأس، وفي ريش الطائر: قلّةٌ، ورِقّةٌ، وتفرّقٌ، وذلك إذا ذهبت أصول الشعر، وبقي شَكِيره، قَالَ
ذو الرُّمّة:
كَأَنَّهَا خَاضِبٌ زُعْرٌ قَوَادِمُهُ
…
أَجْنَا لَهُ بِاللِّوَى آءٌ وَتَنُّومُ
ومنه قيل للأحداث: زُعْرَانٌ. وزَعِرَ الشعر، والرِّيشُ، والوَبَرُ زَعَرًا، وهو زَعِرٌ، وأزعرُ، والجمع زُعْرٌ، وازْعَرَّ: قَلَّ، وتفرّقَ. انتهى.
(أَيَصْلُحُ) بضم اللام، وفتحها، يقال: صَلَح الشيء صُلُوحاً، منْ باب قعد، وصَلاحاً أيضًا، وصَلُح بالضمّ لغة، وهو خلاف فسد، وصَلَحَ يصلَحُ بفتحتين لغة ثالثةٌ. قاله الفيّوميّ (أَنْ أَصِلَ) بكسر الصاد المهملة، منْ باب وعد (فِي شَعْرِي؟) أي أيجوز لي وصل شعر رأسي بشعر آخر؛ لكونه قليلاً؟ (فَقَالَ) عبد الله رضي الله عنه (لا) يجوز أن تكون نافية: أي لا يجوز لك ذلك، ويجوز أن تكون ناهية: أي لا تفعلي (قَالَتْ: أَشَيْءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي هَذَا الذي أخبرتني به منْ عدم جواز الوصل، أو منْ النهي عنه قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسمعته منه؟ (أَوْ تَجِدُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟) أي أو ذُكر فِي القرآن، ووجدته فيه؟ (قَالَ) عبد الله رضي الله عنه (بَلْ سمِعتُهُ) أي سمعت هَذَا الذي قلت لكِ (مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) حيث لعن صلى الله عليه وسلم الواصلة (وَأَجِدُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ) سبحانه وتعالى، حيث إنه أمر بالانتهاء عما نهى عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم.
[تنبيه]: وقع فِي معظم نسخ "المجتبى" التي بين يديّ: ما لفظه: "قَالَ: لا، بل سمعته الخ"، ووقع فِي بعض النسخ، وهو الذي فِي "الكبرى" بحذف كلمة "لا"، وهو الظاهر، وللأول وجه أيضًا، وذلك أن يقدّر المنفيّ: أي لا أقوله منْ رأيي، بل سمعته منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخ. والله تعالى أعلم بالصواب.
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) أي ساق الراوي الْحَدِيث بتمامه، وفيه أن الْحَدِيث مختصرٌ منْ مطوّل، وَقَدْ ساقه الإمام أحمد رحمه الله تعالى فِي "مسنده"
(1)
بتمامه، ونصّه:
3935 -
حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، أنبأنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عزرة، عن الحسن العُرَني، عن يحيى بن الجزار، عن مسروق: أن امرأة جاءت إلى ابن مسعود، فقالت: أُنبئت أنك تنهى عن الواصلة، قَالَ: نعم، فقالت: أشيء تجده فِي كتاب الله، أم سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أجده فِي كتاب الله، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: والله لقد تصفحت ما بين دَفَّتي المصحف، فما وجدت فيه الذي تقول،
(1)
إنما عدلت لرواية أحمد، مع أن الْحَدِيث فِي "الصحيحين"، كما يأتي قريباً؛ لأن رواية أحمد منْ طريق المصنّف، فيتناسب مع قوله:"وساق الْحَدِيث"، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
قَالَ: فهل وجدت فيه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ؟ [الحشر: 7] قالت: نعم، قَالَ: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، نهى عن النامصة، والواشرة، والواصلة، والواشمة، إلا منْ داء، قالت: المرأة: فلعله فِي بعض نسائك، قَالَ لها: ادخلي، فدخلت، ثم خرجت، فقالت: ما رأيت بأسا، قَالَ: ما حفظت إذًا وصيةَ العبد الصالح: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88]. انتهى.
وفي رواية الطبرانيّ: فَقَالَ عبد الله: ما حفظت وصيّة شعيب إذا": يعني الآية المذكورة.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لا تنافي بين رواية المصنّف، وأحمد فِي كون المرأة سألت ابن مسعود رضي الله عنه عن حكم الوصل، وكونها قالت له: أُنبئت الخ؛ لإمكان الجمع بأنها أرادت أن تصل، ثم سمعت أن ابن مسعود ينهى عنه، فأتته، فاستفتته عن حكم وصلها، وعما بلغلها عنه منْ النهي، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: حديث ابن مسعود رضي الله عنه هَذَا أخرجه الشيخان مطوّلاً، ومختصرًا، وسياق الإمام مسلم رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" أتمّ، ولفظه:
2125 -
حدثنا إسحق بن إبراهيم، وعثمان بن أبي شيبة، واللفظ لإسحق، أخبرنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قَالَ: لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والنامصات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله، قَالَ: فبلغ ذلك امرأة، منْ بني أسد، يقال لها: أم يعقوب، وكانت تقرأ القران، فأتته، فقالت: ما حديث بلغني عنك؛ أنك لعنت الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله، فَقَالَ عبد الله: وما لي لا ألعن، منْ لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، وهو فِي كتاب الله، فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف، فما وجدته، فَقَالَ: لئن كنت قرأتيه، لقد وجدتيه، قَالَ الله عز وجل:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، فقالت المرأة: فإني أرى شيئا منْ هَذَا عَلَى امرأتك الآن، قَالَ: اذهبي فانظري، قَالَ: فدخلت عَلَى امرأة عبد الله، فلم تر شيئا، فجاءت إليه، فقالت: ما رأيت شيئا، فَقَالَ: أما لو كَانَ ذلك لم نجامعها. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أن أم يعقوب هذه المرأة المبهمة فِي رواية أحمد، والمصنّف، ولا بعد فِي هَذَا، كما مرّ توجيهه آنفاً. قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: أم يعقوب المذكورة فِي هَذَا الْحَدِيث لا يُعرف اسمها، وهي منْ بني أسد بن خزيمة، ولم أقف لها عَلَى ترجمة، ومراجعتها ابن مسعود رضي الله عنه تدلّ عَلَى أن لها إدراكًا.
انتهى "فتح" 11/ 569. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -23/ 5100 - وفي "الكبرى" 29/ 9379. وأخرجه (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 3935. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان تحريم فعل المستوصلة. (ومنها): ما كَانَ عليه ابن مسعود رضي الله عنه منْ العلم والفقه، حيث استنبط منْ كتاب الله تعالى لعن الواصلة والمستوصلة، دون أن يكون ذلك منصوصا عليه. (ومنها): ما قاله فِي "الفتح" 11/ 569 - : فِي إطلاق ابن مسعود رضي الله عنه نسبة لعن منْ فعل ذلك إلى كتاب الله، وفهم أم يعقوب منه أنه أراد بكتاب الله القرآن، وتقريره لها عَلَى هَذَا الفهم، ومعارضتها له بأنه ليس فِي القران، وجوابه بما أجاب دلالةٌ عَلَى جواز نسبة ما يدلّ عليه الاستنباط إلى كتاب الله تعالى، وإلى سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم نسبةً قوليّةً، فكما جاز نسبة لعن الواشمة إلى كونه فِي القرآن؛ لعموم قوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} ، مع ثبوت لعنه صلى الله عليه وسلم منْ فعل ذلك يجوز نسبة مَنْ فعل أمرًّا مندرجًا فِي عموم خبر نبويّ ما يدلّ عَلَى منعه إلى القرآن، فيقول القائل مثلاً: لعن الله منْ غيّر منار الأرض فِي القرآن، ويستند فِي ذلك إلى أنه صلى الله عليه وسلم لعن منْ فعل ذلك. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله فِي "الفتح" استدلال قويّ جداً، لكنه مقيّدٌ بما إذا كَانَ ذلك الأمر منصوصا عليه فِي السنّة، أما نسبة الأمور المستنبطة بالاجتهاد، كالمسائل القياسيّة، فلا يجوز نسبتها إلى الكتاب، والسنّة، إلا مع بيان كونها مستنبطة منهما، كما يعزى ذلك إلى بعض فقهاء أهل الرأي فِي مسألة يستنبطها بالاجتهاد، فقد أجاز أن يقال فيها: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا. قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ، صاحب "المفهم": استجاز بعض فقهاء أهل الرأي نسبة الحكم الذي دلّ عليه القياس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبةً قوليّةً، فيقول: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، ولذا ترى كتبهم مشحونةً بأحاديث تشهد متونها بأنها موضوعة؛ لأنها تُشبه فتاوى الفقهاء، ولأنهم لا يقيمون لها سنداً. انتهى.
فهذا يعدّ منْ أقسام الوضع عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قلت فِي منظومتي "الجليس الأمين فِي بيان الموضوع، وأصناف الوضّاعين":
وَبَعْضُ أَهْلِ الرَّأْيِ قَالَ يُنْسَبُ
…
إِلَى النَّبِيِّ مَا بِالْقِيَاسِ يُجْلَبُ
لِذَا تُرَى كُتُبُهُمْ تَشْتَمِلُ
…
مَا لا يُرَى بِسَنَدٍ يَتَّصِلُ
وَهُوَ حَرَامٌ دَاخِلٌ فِي الْكَذِبِ
…
قَدِ افْتَرَاهُ مُجْرِمًا هَذَا الْغَبِي
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
24 - (الْمُتَنَمِّصَاتُ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هي جمع "متنمصة"، وحكى ابن الجوزي ممتنصة بتقديم الميم عَلَى النون، وهو مقلوب، والمتنمصة: التي تطلب النِّماص، والنامصة: التي تفعله: والنِّماص: إزالة شعر الوجه بالمنقاش، ويسمى المنقاش مِنْماصا لذلك، ويقال: إن النماص يختص بإزالة شعر الحاجبين؛ لترفيعهما
(1)
، أو تسويتهما، قَالَ أبو داود رحمه الله تعالى فِي "سننه": النامصة التي تنقش الحاجب حَتَّى تُرِقُّه.
وَقَالَ المجد فِي "القاموس": النَّمصُ" -بفتح، فسكون-: نَتْفُ الشعر، و"لُعِنَت النامصة" وهي مُزَيّنة النِّساء بالنَّمْص، و"المُتَنَمِّصَة": وهي المزيّنة به، و"النَّمَصُ" محرّكة: رقّة الشعر، ودِقّته حَتَّى تراه كالزَّغَبِ، والقِصَارُ منْ الرِّيش، ونَباتٌ يُعمَل منه الإطباق، والْغُلُب، ووَهِم الجوهريّ، فكسره، والنَّمِيص: المنتوف. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.
5101 -
(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلاَّمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، الْوَاشِمَاتِ، وَالْمُوتَشِمَاتِ، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، الْمُغَيِّرَاتِ").
(1)
هكذا نسخة "الفتح"، ولعله لترقيقهما بالقاف. والله أعلم.
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(عبد الرحمن بن محمد بن سلّام) -بتشديد اللام- ابن ناصح، أبو القاسم البغداديّ، ثم الطَرَسُوسيّ، لا بأس به [11] 172/ 1141.
2 -
(أبو داود الْحَفريّ) عمر بن سَعْد بن عبيد الكوفيّ، ثقة عابد [9] 15/ 523.
3 -
(سفيان) بن سعيد الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ الثقة الثبت الحجة [7] 33/ 37.
4 -
(منصور) بن المعتمر بن عبد الله السلميّ، أبو عَتّاب الكوفيّ، ثقة ثبت [6] 2/ 2.
5 -
(إبراهيم) بن يزيد النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ الفقيه، ثقة يرسل كثيرًا [5] 29/ 33.
6 -
(علقمة) بن قيس بن عبد الله النخعيّ الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه عابد [2] 61/ 77.
7 -
(عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه المذكور فِي الباب الماضي. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، فإنه ممن انفرد به هو، وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين، غير شيخه، فبغدادي، ثم طَرَسُوسيّ. (ومنها): أن فيه ثلاثة منْ التابعين، يروي بعضهم عن بعض، عند منْ يجعل منصوراً منْ التابعين، وإلا ففيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ. (ومنها): أن هَذَا السند منْ أصح الأسانيد، قَالَ الحافظ الذهبيّ رحمه الله تعالى فِي "سير أعلام النبلاء" 5/ 402 - : وقيل: أصحّ الأسانيد مطلقاً: سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود رضي الله عنه. انتهى. (ومنها): أن فيه "عبد الله" مهملاً، وَقَدْ ثبت فِي كتب "المصطلح" أنه إذا أُطلق "عبد الله" فِي الصحابة يُنظر إلى الراوي عنه، فإن كَانَ كوفيًّا، كهذا السند، فهو ابن مسعود رضي الله عنه، وإن كَانَ مدنيًّا، فهو ابن عمر، وإن كَانَ مكيًّا، فهو ابن الزبير، وإن كَانَ بصريًّا، فهو ابن عباس، وإن كَانَ مصريًّا، أو شاميًّا، فهو ابن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهم، وَقَدْ أوضح ذلك الحافظ السيوطيّ فِي "ألفية الْحَدِيث"، حيث قَالَ:
وَحَيْثُمّا أُطْلِقَ "عَبْدُ اللهِ" فِي
…
طَيْبَةَ فَابْنُ عُمَرِ وَإِنْ يَفِي
بِمَكَّةٍ فَابْنُ الزُّبَيْرِ أَوْ جَرَى
…
بِكُوفَةٍ فَهْوَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُرَى
وَالْبَصْرَةِ الْبَحْرُ وَعِنْدَ مِصْرِ
…
وَالشَّامِ مَهْمَا أُطْلِقَ ابْنُ عَمْرِو
والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: لَعَنَ) أي دعا باللعن، وهو الطرد والإبعاد، قَالَ ابن الأثير رحمه الله تعالى: أصل اللعن: الطرد، والإبعاد منْ الله، ومن الخلق: السبّ، والدعاء. انتهى "النهاية" 4/ 255. وفي "المصباح": لعنه لَعْنًا، منْ باب نفع: طرده، وأبعده، أو سبّه، فهو لعينٌ، وملعونٌ. انتهى. وفي "اللسان": اللعنُ: الإبعاد، والطرد منْ الخير، وقيل: الطرد، والإبعاد منْ الله، ومن الخلق السبّ، والدعاء، واللعنةُ الاسم. انتهى. (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، الْوَاشِمَاتِ) هي التي تفعل الوشم -بفتح، فسكون-: وهو غرز الإبرة، أو نحوها فِي العضو حَتَّى يسيل الدم، ثم يُحشى بنورة، أو غيرها، حَتَّى يخضرّ (وَالْمُوتَشِمَاتِ) بضم الميم، وفتح المثنّاة الفوقية، بينهما واو ساكنة، والظاهر أنه مشتقّ منْ الايتشام، افتعالٌ منْ الوشم، وأصله ايتشم، ياتشم، ايتشاماً، فهو مُوتَشِم، ويقال أيضًا: اتّشم يتّشم اتّشامًا، فهو متّشم، بإبدال الواو تاء، وإدغامها فِي تاء الافتعال، ونظيره: ايتصل ياتصل ايتصالا، فهو موتصل، واتصل يتّصل اتِّصالاً، فهو متّصلٌ، قَالَ ابن مالك فِي "خلاصته":
ذُو اللِّينِ فَا تَا فِي افْتِعَالٍ أُبْدِلَا
…
وَشّذَّ فِي ذِي الْهَمْزِ نَحْوُ ائْتَكَلَا
وفي رواية: "والمستوشمات": وهي التي تطلب أن يُفعل بها ذلك (وَالْمُتَنَمِّصَاتِ) جمع متنمّصة، وهي التي تقلع الشعر منْ وجهها بالمِنماص، وهو الذي يَقلع الشعر، ويقال لها: النامصة (وَالْمُتَفَلِّجَاتِ) جمع متفلّجة، وهي التي تطلب الفَلَج، أو تصنعه، و"الفَلَج" بالفاء، واللام المفتوحتين، ثم جيم-: انفراج ما بين الثنايا، والرباعيات، والتفليج أن يفرج بين المتلاصقين بالمبرد، ونحوه، وهو مختصّ عادةً بالثنايا، والرباعيات، ويُستحسن منْ المرأة، فربما صنعته المرأة التي تكون أسنانها متلاصقة؛ لتصير متفلّجةً، وَقَدْ تفعله الكبيرة توهم أنها صغيرة؛ لأن الصغيرة غالبًا تكون مفلّجةً، حديدة السنّ، ويذهب ذلك فِي الكبر، وتحديد الأسنان يُسمّى الوشر بالراء، وَقَدْ تقدّم النهي عنه أيضًا فِي 20/ 5093 منْ حديث أبي ريحانة رضي الله تعالى عنه، لكنه ضعيف، كما سبق بيانه.
وقوله: (لِلْحُسْنِ) قَالَ السنديّ: متعلّق بـ"المتفلّجات" فقط، أو بالكلّ. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الاحتمال الثانيّ أولى. والله تعالى أعلم.
وقوله: (الْمُغَيِّرَاتِ) وفي رواية: "المغيّرات خلق الله تعالى" صفة لازمة لمن يصنع الوشم، والنَّمْصَ، والفَلَج، وكذا الوصل عَلَى إحدى الروايات، وفي هَذَا إشارة إلى أن سبب النهي عن هذه الأشياء ما فيها منْ تغيير خلق الله تعالى. والله تعالى أعلم
بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -24/ 5101 وفي "الطلاق" 13/ 3444 و25/ 5104 و26/ 5109 و110 و5111 و72/ 5254 و5255 و5256 و5257 - وفي "الكبرى" فِي 30/ 9380 و9381 و32/ 9389 و"الطلاق" 14/ 5609. وأخرجه (خ) فِي "التفسير" 4886 (م) فِي "اللباس" 2125 (د) فِي "البيوع" 3233 و"الترجّل" 4168 (ت) فِي "النكاح" 1120 و"البيوع" 1206 و"الأدب" 2782 (ق) فِي "النكاح" 1989 و"التجارات" 2277 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 3717 و3729 و3799 و3871 و3935 و4079 و4118 و4218 و4271 و4414 و4420 (الدارميّ) فِي "النكاح" 2158 و"البيوع" 2423 و"الاستئذان" 2532. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان تحريم النَّمَص. (ومنها): تحريم الوشم. (ومنها): تحريم الفَلَج. (ومنها): أنه يُفهم منْ قوله: "للحسن": أن المذمومة هي التي تفعل ذلك لطلب الحسن، أما لو احتاجت إليه لعلاج، أو عيب فِي السنّ، ونحوه فلا بأس به قاله النوويّ فِي "شرح مسلم" 14/ 107.
(ومنها): أن فِي قوله: "المغيرات خلق الله"، بيان سبب النهي عن هذه الأمور، وهو تغيير خلق الله تعالى، وأيضًا ففيه تزويرٌ، وتدليس.
قَالَ الطبري رحمه الله تعالى: لا يجوز للمرأة تغيير شيء منْ خلقتها، التي خلقها الله عليها، بزيادة أو نقص؛ التماسَ الحسن، لا للزوج، ولا لغيره، كمن تكون مقرونة الحاجبين، فتزيل ما بينهما، توهم البلج، أو عكسه، ومن تكون لها سن زائدة، فتقلعها، أو طويلة فتقطع منها، أو لحية، أو شارب، أو عَنفَقَة، فتزيلها بالنتف، ومن يكون شعرها قصيرا، أو حقيرا، فتطوله، أو تغزره بشعر غيرها، فكل ذلك داخل فِي النهي، وهو منْ تغيير خلق الله تعالى، قَالَ: ويستثنى منْ ذلك ما يحصل به الضرر، والأذية، كمن يكون لها سن زائدة، أو طويلة، تعيقها فِي الأكل، أو إصبع زائدة تؤذيها، أو تؤلمها، فيجوز ذلك، والرجل فِي هَذَا الأخير كالمرأة.
وَقَالَ النوويّ: يُستثنَى منْ النماص ما إذا نبت للمرأة لحية، أو شارب، أو عنفقة،
فلا يحرم عليها إزالتها، بل يستحب. قَالَ الحافظ: وإطلاقه مقيد بإذن الزوج وعلمه، وإلا فمتى خلا عن ذلك منع؛ للتدليس.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: إن ما قاله النوويّ، ووافقه عليه الحافظ مقيّدا بإذن الزوج يحتاج إلى دليل، فإن وُجد، وإلا فما قاله الطبريّ هو الحقّ، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
وَقَالَ بعض الحنابلة: إن كَانَ النمص أشهر شِعار للفواجر امتنع، وإلا فيكره تنزيها، وفي رواية: يجوز بإذن الزوج، إلا إن وقع به تدليس فيحرم، قالوا: ويجوز الْحَفّ
(1)
والتحمير، والنقش، والتطريف، إذا كَانَ بإذن الزوج؛ لأنه منْ الزينة. وَقَدْ أخرج الطبري منْ طريق أبي إسحاق، عن امرأته، أنها دخلت عَلَى عائشة، وكانت شابة يعجبها الجمال، فقالت: المرأة تَحُفّ جبينها لزوجها؟ فقالت: أميطي عنك الأذى ما استطعت. وَقَالَ النوويّ: يجوز التزين بما ذُكر إلا الحَفّ، فإنه منْ جملة النماص. ذكره فِي "الفتح" 11/ 574 - 575.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله بعض الحنابلة، وكذا ما قاله النوويّ محلّ نظر، فليُتأمّل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5102 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "الْمُتَفَلِّجَاتِ
…
" وَسَاقَ الْحَدِيثَ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أحمد بن حرب": هو الطائيّ الموصليّ، صدوقٌ [11] منْ أفراد المصنّف. و"أبو معاوية": هو محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، منْ أحفظ منْ رَوَى عن الأعمش.
وقوله: "المتفلّجات" بالجرّ عَلَى الحكاية: أي قَالَ عبد الله: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتفلّجات الخ، يعني أنه قدم "المتفلّجات" عَلَى "الواشمات" الخ.
والحديث فيه انقطاعٌ؛ لأن إبراهيم لم يلق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، لكن منْ القاعدة أن مرسلات إبراهيم النخعي عن ابن مسعود رضي الله عنه أصحّ منْ مسنداته؛ لأنه لا يرسل إلا إذا أخذه منْ أكثر منْ واحد؛ بخلاف ما وصله، فإنه لم يأخذه إلا عمن سمّاه، قَالَ الإمام الترمذيّ رحمه الله تعالى فِي "عللَّه الصغير" الذي ألحقه فِي آخر "الجامع": حدّثنا أبو عبيدة بن أبي السّفَر الكوفيّ، ثنا سعيد بن عامر، عن شعبة، عن سليمان الأعمش، قَالَ: قلت لإبراهيم النخعيّ: أسنِدْ لي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فَقَالَ
(1)
الحفّ القشر، يقال: حفت المرأة وجهها منْ الشعر حِفَافاً: قشَرَته. انتهى "قاموس".
إبراهيم: إذا حدّثتك عن رجل، عن عبد الله، فهو الذي سمّيتُ، وإذا قلت: قَالَ عبد الله، فهو عن غير واحد، عن عبد الله. انتهى.
ونقل الحافظ ابن رَجَب حمه الله تعالى فِي "شرحه" عن ابن معين، أنه قَالَ: مرسلات إبراهيم صحيحة، إلا حديث تاجر البحرين، وحديث الضحك فِي الصلاة. انتهى.
وحديث تاجر البحرين هو ما رواه ابن أبي شيبة فِي "مصنفه" 1/ 448: ثنا وكيع، ثنا الأعمش، عن إبراهيم، قَالَ:"جاء رجل، فَقَالَ: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني تاجرٌ أختلف إلى البحرين، فأمره أن يُصلّي ركعتين". يعني القصر.
وحديث الضحك فِي الصلاة رواه الدارقطنيّ فِي "سننه" 1/ 171 عن إبراهيم، جاء رجل ضرير البصر، والنبيّ صلى الله عليه وسلم فِي الصلاة، فعثر، فتردّى فِي بئر، فضحكوا، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا الوضوء".
وإلى هَذَا أشرت فِي "ألفية العلل"، حيث قلت:
وَمُرْسَلاتُ النَّخَعِيِّ صُحِّحَتْ
…
سِوَى حَدِيثَينِ لَدَى يَحْيَى الثَّبَتْ
حَدِيثُ إِيجَابِ الْوُضُوءِ بِالضَّحِكْ
…
وَتَاجِرِ الْبَحْريْنِ فَاهْجُرْ مَا تُرِكْ
وَكَوْنُهَا أَعْلَى مِنَ الْمُسْنَدِ إِنْ
…
إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ عَزَاهَا قُلْ قَمِنْ
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5103 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ صَمْعَةَ، عَنْ أُمِّهِ، قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ، تَقُولُ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الْوَاشِمَةِ، وَالْمُسْتَوْشِمَةِ، وَالْوَاصِلَةِ، وَالْمُسْتَوْصِلَةِ، وَالنَّامِصَةِ، وَالْمُتَنَمِّصَةِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "خالد": هو ابن الحارث الْهُجَيميّ.
و"أبان بن صَمْعَة" -بمهملتين مفتوحتين- الأنصاريّ، البصريّ، قيل: إنه والد عتبة الغُلام الزهد، صدوقٌ، تغيّر آخرًا [7].
رَوَى عن عكرمة، ومحمد بن سيرين، وأبي الوازع. وعنه خالد بن الحارث، ووكيع، ويحيى، وأبو عاصم، وغيرهم. قَالَ ابن القطّان: تغير بآخره. وَقَالَ ابن مهدي: أتيته، وَقَدْ اختلط البتة. قَالَ ابن المديني: قلت له: بكم؟ قَالَ: بزمان. وَقَالَ ابن معين: ثقة. وَقَالَ ابن عدي: إنما عيب عليه الاختلاط، لما كبر، ولم يُنسب إلى الضعف؛ لأن مقدار ما يرويه مستقيم. قَالَ ابن منجويه: مات سنة (153). وَقَالَ عبد الله بن أحمد، عن أبيه: صالح. قَالَ: فقلت له: أليس قد تغير بآخره؟ قَالَ: نعم. وَقَالَ أبو حاتم: صدوقٌ. وَقَالَ أبو داود: ثقة أنكر فِي آخر أيامه. وَقَالَ العجليّ، والنسائي:
ثقة. وَقَالَ النسائيّ فِي موضع آخر: ليس به بأس، إلا أنه كَانَ اختلط. وَقَالَ العقيلي، والحربي: اختلط بآخره. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وأرخ وفاته، ومنه نقل ابن منجويه.
رَوَى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، ومسلم، والمصنّف، وابن ماجه، وليس له عند مسلم سوى حديث واحد فِي "الأدب"، وله عند المصنّف حديثان: هَذَا، وفي كتاب "الأشربة" 48/ 5684 حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها سئلت عن الأشربة، فقالت:"كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن كلّ مسكر".
و"أمه" لم أجد ترجمتها، فالله تعالى أعلم.
وقوله: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الواشمة الخ": هو عَلَى حذف مضاف: أي عن فعل الواشمة الخ، وقوله:"والنامصة": هي فاعلة النِّماص، وهو نتف شعر الجبهة؛ ليتوسّع الوجه. و"المتنمّصة": هي التي تأمر منْ يفعل بها ذلك. وبعضهم يرويه: "المنتمصة" بتقديم النون عَلَى التاء، وَقَدْ مضى تمام شرح الْحَدِيث قريباً.
وهذا الإسناد ضعيف؛ لجهالة أم أبان، وهو أيضًا قد تغيّر فِي آخره، لكن الْحَدِيث تقدّم أنه متَّفقٌ عليه منْ رواية صفيّة بنت شيبة، عن عائشة رضي الله عنها بلفظ:"لعن الله الواصلة، والمستوصلة"، وَقَدْ تقدّم تمام البحث فيه فِي الباب الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
25 - (الْمُوتَشِمَاتِ، وَذِكْرِ الاِخْتِلَافِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، وَالشَّعْبِيِّ فِي هَذَا)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا نسخ "المجتبى"، ولفظ "الكبرى": "الموتشمات، وذكر اختلاف عبد الله
(1)
بن مرّة، والشعبيّ عن
(2)
الحارث فِي هَذَا".
(1)
وقع فِي النسخة "عبيد الله" مصغّراً، وهو تصحيف، والصواب "عبد الله" مكبّرًا، كما هو فِي "المجتبى".
(2)
هكذا النسخة، والظاهر أن الأولى "عَلَى" بدل "عن"؛ فتأمل. والله تعالى أعلم.
وجه الاختلاف المذكور أن الأعمش رواه عن عبد الله بن مرة، عن الحارث الأعور، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وخالفه أصحاب الشعبيّ: حصين، ومغيرة، وابن عون، فرووه عن الشعبي، عن الحارث، عن عليّ رضي الله عنه، وخالف ابن عون صاحبيه فِي رواية، فَقَالَ: "عن الشعبيّ، عن الحارث، قَالَ: لَعَنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
…
"، الْحَدِيث مرسلاً، وخالفهم عطاء بن السائب، فَقَالَ: "عن الشعبيّ، قَالَ: لَعَنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
…
الْحَدِيث مرسلاً أيضاً. والله تعالى أعلم بالصواب.
5104 -
(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُرَّةَ، يُحَدِّثُ عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: آكِلُ الرِّبَا، وَمُوكِلُهُ، وَكَاتِبُهُ، إِذَا عَلِمُوا ذَلِكَ، وَالْوَاشِمَةُ، وَالْمَوْشُومَةُ لِلْحُسْنِ، وَلَاوِي الصَّدَقَةِ، وَالْمُرْتَدُّ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ، مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْقِيَامَةِ").
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(إسماعيل بن مسعود) الْجَحْدريّ، أبو مسعود البصريّ، ثقة [10] 42/ 47.
2 -
(خالد) بن الحارث الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.
3 -
(شعبة) بن الحجّاج البصريّ الإمام الحجة المشهور [7] 24/ 27.
4 -
(الأعمش) سليمان بن مِهران الكوفيّ، ثقة فاضل ورع، يدلّس [5] 17/ 18.
5 -
(عبد الله بن مرّة) الهمدانيّ الخارفيّ الكوفيّ، ثقة عابد [3] 17/ 1860.
6 -
(الحارث) بن عبد الله، ويقال: الحارث بن عبيد الله الأعور الهمدانيّ -بسكون الميم- الخارفيّ الْحُوتيّ -بضم المهملة، وبالمثنّاة فوقُ- وحُوت بطن منْ هَمْدان، الكوفيّ، أبو زُهير، صاحب عليّ رضي الله عنه، كذّبه الشعبيّ فِي رأيه، ورُمي بالرفض، وفي حديثه ضعف، مات فِي خلافة ابن الزبير رضي الله عنه[2].
رَوَى عن عليّ، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وبُقَيرة امرأة سلمان. وروى عنه الشعبي، وأبو إسحاق السبيعي، وأبو البختري الطائي، وعطاء بن أبي رباح، وعبد الله ابن مرة، وجماعة.
قَالَ مسلم فِي "مقدمة صحيحه": ثنا قتيبة، ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، حدثني الحارث الأعور، وكان كذابا. وَقَالَ منصور، ومغيرة، عن إبراهيم، إن الحارث اتُّهِم. وَقَالَ أبو معاوية، عن محمد بن شيبة الضبي، عن أبي إسحاق، زعم الحارث الأعور وكان كذابا. وَقَالَ يوسف بن موسى، عن جرير، كَانَ الحارث زَيْفاً. وَقَالَ أبو بكر بن عياش: لم يكن الحارث بأرضاهم. وَقَالَ الثوري: كنا نعرف فضل حديث عاصم بن ضمرة عَلَى حديث الحارث. وَقَالَ عمرو بن عليّ: كَانَ يحيى، وعبد الرحمن
لا يحدثان عنه، غير أن يحيى حدثنا يوما، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن الحارث -يعني عن عليّ-:"لا يجد عبد طعم الإيمان حَتَّى يؤمن بالقدر"، فَقَالَ: هَذَا خطأ منْ شعبة، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن عبد الله، وهو الصواب. وَقَالَ أبو خيثمة: كَانَ يحيى بن سعيد يحدث عن حديث الحارث ما قَالَ فيه أبو إسحاق: سمعت الحارث. وَقَالَ الجوزجاني: سألت عليّ بن المديني عن عاصم، والحارث، فَقَالَ: مثلك يسأل عن ذا؟ الحارث كذّاب. وَقَالَ الدُّوري، عن ابن معين: الحارث قد سمع منْ ابن مسعود، وليس به بأس. وَقَالَ عثمان الدارمي، عن ابن معين: ثقة، قَالَ عثمان: ليس يتابع ابن معين عَلَى هَذَا. وَقَالَ أبو زرعة: لا يحتج بحديثه. وَقَالَ أبو حاتم: ليس بقوي، ولا ممن يحتج بحديثه. وَقَالَ النسائيّ: ليس بالقوي، وَقَالَ فِي موضع آخر: ليس به بأس. وَقَالَ مجالد: وقيل للشعبي: كنت تختلف إلى الحارث؟ قَالَ: نعم، أَختَلِف إليه، أتعلم منه الحساب، كَانَ أحسب النَّاس. وَقَالَ أشعث بن سوار، عن ابن سيرين: أدركت الكوفة، وهم يُقَدِّمون خمسة، منْ بدأ بالحارث ثَنَّى بعَبِيدة، ومن بدأ بعَبيدة ثَنَّى بالحارث. وَقَالَ عليّ بن مجاهد، عن أبي جَنَاب الكلبي، عن الشعبي: شهد عندي ثمانية منْ التابعين الْخُيَّر، فالْخُيَّر، منهم سُويد ابن غَفَلَة، والحارث الهمداني، حَتَّى عد ثمانية، أنهم سمعوا عليا يقول، فذكر خبرًا. وَقَالَ ابن أبي داود: كَانَ الحارث أفقه النَّاس، وأحسب النَّاس، وأفرض النَّاس، تعلم الفرائض منْ عليّ. وَقَالَ البخاريّ فِي "التاريخ" عن أبي إسحاق: إن الحارث أوصى أن يصلي عليه عبد الله بن يزيد الخطمي. وفي "مسند أحمد" عن وكيع، عن أبيه، قَالَ حبيب بن أبي ثابت لأبي إسحاق، حين حَدَّث عن الحارث، عن عليّ فِي الوتر: يا أبا إسحاق يُساوي حديثك هَذَا مليء مسجدك ذهبا. وَقَالَ الدارقطنيّ: الحارث ضعيف. وَقَالَ ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ. وَقَالَ ابن حبّان: وكان الحارث غاليا فِي التشيع، واهيا فِي الْحَدِيث، مات سنة (65) وكذا ذكر وفاته إسحاق القراب فِي "تاريخه". وَقَالَ ابن أبي خيثمة: قيل ليحيى: يحتج بالحارث؟ فَقَالَ: ما زال المحدثون يقبلون حديثه. وَقَالَ ابن عبد البرّ فِي "كتاب العلم" له: لمّا حكى عن إبراهيم أنه كذب الحارث: أظن الشعبي عوقب بقوله فِي الحارث: كذاب، ولم يبن منْ الحارث كذبه، وإنما نُقِم عليه إفراطه فِي حب عليّ. وَقَالَ ابن سعد: كَانَ له قول سوء، وهو ضعيف فِي رأيه، توفي أيام ابن الزبير. وَقَالَ ابن شاهين فِي "الثقات": قَالَ أحمد بن صالح المصريّ: الحارث الأعور ثقة، ما أحفَظه، وما أحسن ما رَوَى عن عليّ، وأثنى عليه، قيل له: فقد قَالَ الشعبي: كَانَ يكذب، قَالَ: لم يكن يكذب فِي الْحَدِيث، إنما كَانَ
كذبه فِي رأيه. وَقَالَ الذهبيّ فِي "الميزان": والنسائي مع تعنته فِي الرجال قد احتج به، والجمهور عَلَى توهينه، مع روايتهم لحديثه فِي الأبواب، وهذا الشعبي يكذبه، ثم يروي عنه، والظاهر أنه يُكَذِّب حكاياته، لا فِي الْحَدِيث. وَقَالَ الحافظ: لم يحتج به النسائيّ، وإنما أخرج له فِي "السنن" حديثا واحدا مقرونا بابن ميسرة، وآخر فِي اليوم والليلة متابعة، هَذَا جميع ما له عنده.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قول الحافظ هَذَا الظاهر أراد فِي "السنن الكبرى"، والحديث الذي أشار إليه غير هَذَا الْحَدِيث المذكور فِي هَذَا الباب فِي "المجتبى"، و"الكبرى"؛ لأنه لم يقرن الحارث هنا بابن ميسرة، فالله تعالى أعلم.
وذكر الحافظ المنذري أن ابن حبّان احتج به فِي "صحيحه"، قَالَ الحافظ: ولم أر ذلك لابن حبّان، وإنما أخرج منْ طريق عمرو بن مرة، عن الحارث بن عبد الله الكوفيّ، عن ابن مسعود حديثا، والحارث بن عبد الله الكوفيّ هَذَا، هو عند ابن حبّان رجل ثقة، غير الحارث الأعور، كذا ذكر فِي "الثقات"، وإن كَانَ قوله هَذَا ليس بصواب
(1)
. انتهى كلام الحافظ. رَوَى له الأربعة، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط، كرره ثلاث مرّات برقم 5104 و5105 و5106. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: آكِلُ الرِّبَا) أي آخذ الربا، سواء أكله، أم لم يأكله، وإنما عبّر بالأكل؛ لأن الأكل معظم مقاصده، وهو مبتدأ خبره قول:"ملعنون الخ"(وَمُوكِلُهُ) أي معطيه (وَكَاتِبُهُ) أي الذي يكتب العقد بينهما، زاد فِي الرواية الآتية:"وشاهده"، وفي رواية لأحمد:"وشاهداه"(إِذَا عَلِمُوا ذَلِكَ) أي إذا علم كلّ منْ الآكل، والموكل، والكاتب كونه ربًا، وكونه حرامًا، وَقَدْ تقدّم البحث فِي الربا مستوفًى فِي بابه، ولله الحمد والمنّة (وَالْواشِمَةُ) أي فاعدة الوشم، وتقدّم معناه قريباً (وَالْمَوْشُومَةُ) أي التي يُفعل بها ذلك (لِلْحُسْنِ) متعلّق بكلّ منْ الواشمة، والموشومة، وتقدّم تمام البحث فيه قريباً (وَلَاوِي الصَّدَقَةِ) اسم فاعل منْ لواه: إذا صرفه، والمراد مانع الصدقة، وَقَدْ تقدّم ما يتعلّق بمانعها فِي "كتاب الزكاة"(وَالْمُرْتَدُّ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ)
(1)
كتب بعض المحققين فِي هامش "تهذيب التهذيب" 1/ 332 - : ما نصّه: حديثه عن ابن مسعود فِي "صحيح ابن حبّان"(3252) عن الحارث بن عبد الله، غير منسوب، ونسبَهُ فِي "ثقاته" 4/ 130: الكوفيّ، ولكن جاء مصرّحًا به أنه الأعور عند أحمد فِي "المسند"(3881). انتهى.
أي الذي يصير أعرابيًّا يسكن البادية، وَقَدْ تقدّم البحث فيه مستوفًى فِي "كتاب البَيعة"(مَلْعُونُون) أي مُبعَدون عن رحمة الله تعالى (عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم) يعني أنه دعا عليهم أن يُبعدهم الله تعالى منْ رحمته (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) إنما قيّده به لأنه وقت المجازاة عَلَى الأعمال بكمالها.
زاد فِي رواية أحمد منْ طريق الثوريّ، عن الأعمش، قَالَ: فذكرته لإبراهيم، فَقَالَ: حدثني علقمة، قَالَ: قَالَ عبد الله: "آكل الربا وموكله سواء". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح.
[فإن قلت]: كيف يصحّ، وهو منْ رواية الحارث الأعور، وهو ضعيفٌ؟:
[قلت]: إنما صحّ لأجل شواهده، فقد تقدّم الْحَدِيث للمصنّف فِي "كتاب الطلاق" 13/ 3444 - بسند صحيح، عن ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ:"لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة، والموتشمة، والواصلة، والموصولة، وآكل الربا، وموكله، والمحلِّل، والمحلَّل له".
وكذلك الوعيد الوارد فِي مانع الصدقة تقدّم فِي "كتاب الزكاة". والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -25/ 5104 و5105 و5106 - وفي "الكبرى" 32/ 9389 و9390 و9391. وأخرجه (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 3871 و4079 و4414. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان تحريم الوشم. (ومنها): تحريم الربا، ولعن آكله، ومعطيه، والكاتب لهما، إذا علموا تحريمه. (ومنها): تحريم منع الصدقة، وَقَدْ تقدّم فِي "الزكاة" الأحاديث المشتملة عَلَى الوعيد لمانع الزكاة. (ومنها): تحريم الرجوع إلى البادية بعد الهجرة، وَقَدْ تقدّم تمام البحث فيه فِي "كتاب البيعة" 23/ 4188، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5105 -
(أَخْبَرَنِي زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حُصَيْنٌ، وَمُغِيرَةُ، وَابْنُ عَوْنٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا،
وَمُوكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَمَانِعَ الصَّدَقَةِ، وَكَانَ يَنْهَى عَنِ النَّوْحِ".
أَرْسَلَهُ ابْنُ عَوْنٍ، وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير الحارث، كما سبق قريباً. و"زياد بن أيوب": هو الحافظ المعروف بدلّويه. و"هشيم": هو ابن بَشِير. و"حُصين": هو ابن عبد الرحمن. و"مغيرة": هو ابن مِقسم. و"ابن عون": هو عبد الله.
وقوله: "وكان ينهى عن النوح": بفتح النون: مصدر ناحت المرأة عَلَى الميت، منْ باب قَالَ، والاسم النُّوَاح، كالغُرَاب، وربما قيل: النياح بالكسر، فهي نائحةٌ، والنياحة بالكسر اسم منه. قاله فِي "المصباح".
والحديث صحيح، والظاهر أن الحارث يرويه عن ابن مسعود، وعليّ رضي الله تعالى عنهما جميعاً.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وهذا أحد أوجه الاختلاف الذي أشار إليه فِي الترجمة، حيث خالف الشعبيّ عبد الله بن مرّة، فجعله عن الحارث، عن عليّ رضي الله عنه، ثم أشار إلى اختلاف آخر، بقوله:(أَرْسَلَهُ ابْنُ عَوْنٍ، وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ) يعني أن عبد الله بن عون فِي رواية عنه خالف الرواة عن الشعبيّ الذين مرّ ذكرهم فِي السند الماضي، فجعله منْ مرسل الحارث، وكذا خالف عطاء بن السائب، فجعله منْ مسند الشعبيّ، كما سيأتي فِي الرواية التالية، ثم ذكر رواية ابن عون، فَقَالَ:
5106 -
(أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ، قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: آكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَشَاهِدَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَالْوَاشِمَةَ، وَالْمُوتَشِمَةَ، قَالَ: إِلاَّ مِنْ دَاءٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَالْحَالُّ، وَالْمُحَلَّلُ لَهُ، وَمَانِعُ الصَّدَقَةِ، وَكَانَ يَنْهَى عَنِ النَّوْحِ، وَلَمْ يَقُلْ: لَعَنَ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، والسند مسلسل بثقات البصريين، إلى الشعبيّ، فإنه والحارث كوفيّان.
وقوله: "قَالَ: إلا منْ داء الخ" الظاهر أن القائل هو الشعبي، يقول للحارث: هل استثنى منْ الواشمة، والموتشمة مَنْ تَشِم منْ أجل داء بها؟، فَقَالَ الحارث: نعم. وقوله: "والحالَّ الخ" بالنصب عطفًا عَلَى المنصوبات السابقة. ثم إن لفظ "الحالّ"، فيه إشكال، لأن الظاهر أن يكون بلفظ "المحلّ، أو المحلّل، منْ أحلّ، أو حلّل، كما فِي الروايات الأخرى؛ لأن "الحالّ" أنه اسم فاعل منْ حَلَّ الشيءُ يحلّ، فهو حالّ، وهو لازم، ولا يناسب معناه هنا، فليُتأمّل.
وقوله: "ولم يقل: لعن" يعني أنه لم يقل فِي النوح "لعن"، وإنما قَالَ:"وكان ينهى".
والحديث مرسل صحيح الإسناد إلى الحارث، وَقَدْ تقدّم قبله موصولاً، وهو الأصحّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
ثم ذكر مخالفة عطاء بن السائب، فَقَالَ:
5107 -
(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَلَفٌ -يَعْنِي ابْنَ خَلِيفَةَ- عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، آكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَشَاهِدَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَالْوَاشِمَةَ، وَالْمُوتَشِمَةَ، وَنَهَى عَنِ النَّوْحِ، وَلَمْ يَقُلْ: لَعَنَ صَاحِبَ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "خلف بن خليفة": هو الأشجعيّ مولاهم، أبو أحمد الكوفيّ، نزيل واسط، ثم بغداد، صدوقٌ اختلط فِي آخره، وادّعى أنه رأى عمرو بن حريث الصحابيّ رضي الله عنه، فأنكر عليه ذلك ابن عيينة، وأحمد [8] 110/ 149. و"عطاء بن السائب": هو أبو محمد، أو أبو السائب الكوفيّ، صدوقٌ، اختلط [5] 152/ 243.
وقوله: "ولم يقل: لعن صاحبه" هكذا فِي بعض نسخ "المجتبى" بإضافة "صاحب" إلى الضمير، وهو الذي فِي "الكبرى"، ووقع فِي معظم نسخ "المجتبى" التي بين يديّ بلفظ:"لَعَنَ صَاحِبَ" بدون ذكر الضمير المضاف إليه، والأولى فِي مثل هَذَا ذكر المضاف إليه، فتأمّل.
والمعنى: أنه لم يذكر لعن صاحب النوح، وإنما ذكره بلفظ "ونهى عن النوح".
والحديث بهذا السند مرسل ضعيف الإسناد؛ لاختلاط عطاء، والراوي عنه، وَقَدْ تقدّم موصولاً، وهو الأرجح. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5108 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أُتِيَ عُمَرُ بِامْرَأَةٍ تَشِمُ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ، هَلْ سَمِعَ أَحَدٌ مِنْكُمْ، مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُمْتُ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَا سَمِعْتُهُ، قَالَ: فَمَا سَمِعْتَهُ؟ قُلْتُ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "لَا تَشِمْنَ، وَلَا تَسْتَوْشِمْنَ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(إسحاق بن إبراهيم) الحنظليّ المعروف بابن راهويه، ثقة ثبت [10] 2/ 2.
2 -
(جرير) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبيّ الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقة
صحيح الكتاب، قيل: كَانَ فِي آخره يَهِم منْ حفظه [8] 2/ 2.
3 -
(عمارة) بن القعقاع بن شُبْرُمة الضّبّيّ الكوفيّ، ثقة [6] 48/ 60.
4 -
(أبو زرعة) بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجليّ الكوفيّ، قيل: اسمه هرم، وقيل: غير ذلك، ثقة [3] 43/ 50.
5 -
(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين، غير شيخه، وَقَدْ دخلها. (ومنها): أن فيه أبا هريرة رأس المكثرين منْ الرواية، رَوَى (5374) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ أُتِيَ عُمَرُ) بالبناء للمفعول، أي ابن الخطّاب رضي الله عنه (بِامْرَأَةٍ) لم تسمّ هذه المرأة. قاله فِي "الفتح"(تَشِمُ) بفتح أوله، وكسر ثانيه، منْ باب وعد: أن تفعل الوشم، وَقَدْ تقدّم أنه غرز الإبرة، أو نحوها فِي العضو حَتَّى يسيل منه الدم، ثم يُحشى بنورة، أو غيرها، حَتَّى يخضرّ (فَقَالَ) عمر رضي الله عنه (أَنْشُدُكُمْ بِاللهِ) بضمّ الدال المهملة، يقال: نشدته اللهَ، وبالله أنشدُه، منْ باب نصر: أي سألته به مقسماً عليه.
(هَلْ سَمِعَ أَحَدٌ مِنْكُمْ، مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟) أي حكمه فِي شأن الوشم، وفي رواية البخاريّ:"أنشدكم بالله منْ سمع منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي الوشم".
قَالَ فِي "الفتح" 11/ 578: يحتمل أن يكون عمر رضي الله عنه سمع الزجر عن ذلك، فأراد أن يستثبت فيه، أو كَانَ نسيه، فأراد أن يتذكّره، أو بلغه ممن لم يصرّح بسماعه منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يسمعه ممن سمعه منه صلى الله عليه وسلم. انتهى.
(قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (فَقُمْتُ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَا سَمِعْتُهُ) صلى الله عليه وسلم (قَالَ) عمر رضي الله عنه (فَمَا سَمِعْتَهُ؟) أي فأي شيء سمعته منه صلى الله عليه وسلم فِي ذلك؟ (قُلْتُ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "لَا) ناهية (تَشِمْنَ) بفتح أوله، وكسر المعجمة، وسكون الميم، ثم نون خطاب جمع المؤنّث، والفعل معها فِي محل جزم مبنيّ عَلَى السكون، كما قَالَ فِي "الخلاصة":
وَأَعْرَبُوا مُضَارِعاً إِنْ عَرِيَا
مِنْ نُونِ تَؤْكِيدٍ مُبَاشِرٍ وَمِنْ
…
نُونِ إنَاثٍ كَـ"يَرُعْنَ منْ فُتِنْ"
أي لا تفعلن الوشم (وَلَا تَسْتَوْشِمْنَ) أي لا تطلبن أن يُفعل بكنّ ذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه البخاريّ.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -25/ 5108 - وفي "الكبرى" 31/ 9393. وأخرجه (خ) فِي "اللباس" 5946. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان تحريم الوشم. (ومنها): ما كَانَ عليه عمر رضي الله عنه منْ طلب النصوص، حَتَّى يستغني عن الكلام باجتهاده. (ومنها): ما قاله الخطّابيّ رحمه الله تعالى: إنما ورد الوعيد فِي هذه الأشياء؛ لما فيها منْ الغِشّ، والْخِداع، ولو رُخّص فِي شيء منها، لكان وسيلةً إلى استجازة غيرها، منْ أنواع الغشّ، ولما فيها منْ تغيير الخلقة، وإلى ذلك الإشارة فِي حديث ابن مسعود رضي الله عنه بقوله:"المغيّرات خلق الله". (ومنها): ما قاله فِي "الفتح": فائدة ذكر أبي هريرة رضي الله عنه قصة عمر رضي الله عنه إظهار ضبطه، وأن عمر رضي الله عنه كَانَ يستثبته فِي الأحاديث مع تشدّد عمر، ولو أنكر عليه عمر ذلك لنُقل. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
26 - (الْمُتَفَلِّجَاتِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هي جمع متفلّجة، وهي التي تطلب الْفَلَجَ، أو تصنعه، و"الفلَجُ" بفتحتين: انفراج ما بين الثنيّتين، وَقَدْ تقدّم تمام المعنى فيه فيما سبق. والله تعالى أعلم بالصواب.
5109 -
(أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ،
عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ الْعُرْيَانِ بْنِ الْهَيْثَمِ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ جَابِرٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَلْعَنُ الْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ، وَالْمُوتَشِمَاتِ، اللاَّتِي يُغَيِّرْنَ خَلْقَ اللَّهِ عز وجل.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو عليّ بن يحيى المروزيّ": هو اليشكريّ الصائغ، ثقة [11] 53/ 3524. و"عبد الله بن عثمان": هو أبو عبد الرحمن المروزيّ الملقّب بعبدان، ثقة حافظ [10] 6/ 4022. و"أبو حمزة": هو محمد بن ميمون السكّريّ المروزيذ، ثقة فاضل [7] 22/ 206. و"عبد الملك بن عُمير": هو اللَّخْمىّ الكوفيّ، ويقال له: الفَرَسيّ، نسبة إلى فرَس له سابق، كَانَ يقال له: القِبطيّ، وربّما قيل: ذلك لعبد الملك، ثقة فقيهٌ تغير حفظه، وربّما دلّس [3] 41/ 947.
و"عريان -بضم أوله، وسكون، بعدها تحتانية-: هو ابن الْهَيثَم" بن الأسود بن أقيش ابن معاوية بن سفيان بن هلال بن عمرو بن جُشَم بن عوف بن النخع النخعي الكوفيّ الأعور، لا بأس به
(1)
[3].
رَوَى عن أبيه، ومعاوية، وعبد الله بن عمرو، وقبيصة بن جابر الأسدي. وعنه عبد الله بن مضارب، وعبد الملك بن عمير، ومحمد بن شبيب الزهراني، وهلال بن خباب، والوضيء الْعَوْذِيّ، وعلي بن زيد بن جُدْعان. قَالَ ابن سعد: كَانَ منْ رجال مَذْحِج، وأشرافهم، ولِي الشُّرَط لخالد القسري بالكوفة. وَقَالَ ابن خراش: جليل منْ التابعين. وذكره ابن حبّان فى "الثقات". رَوَى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، والمصنّف، له عنده هَذَا الْحَدِيث فقط.
و"قبيصة بن جابر": هو ابن وهب بن مالك بن عَمِيرة بن حُذار بن مرة بن الحارث بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة الأسديّ، أبو العلاء الكوفيّ، ثقة [2].
رَوَى عن عمر، وشهد خطبته بالجابية، وعلي، وابن مسعود، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف، وعمرو بن العاص، ومعاوية، والمغيرة بن شعبة، وزياد. ورَوَى عنه الشعبي، وعبد الملك بن عمير، والْعُرْيان بن الهيثم، ومحمد بن عبد الله بن قارب الثقفيّ، وأبو حَصِين عثمان بن عاصم الأسدي. قَالَ ابن سعد: كَانَ ثقة، وله أحاديث. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ يعقوب بن شيبة: يُعَدُّ فِي الطبقة الأولى منْ فقهاء أهل الكوفة، بعد الصحابة، وهو أخو معاوية منْ الرضاعة. وَقَالَ العجليّ: كَانَ يُعَدّ منْ الفصحاء. وَقَالَ ابن خراش: جليل، منْ نبلاء التابعين، أحاديثه عن ابن
(1)
قَالَ عنه فِي "ت": مقبول، والظاهر أن الأولى ما قلته، فقد رَوَى عنه جماعة ووثقة ابن حبّان، وأثنى عليه ابن خراش والله أعلم.
مسعود صحاح. وَقَالَ يعقوب بن سفيان: شهد مع عليّ الجمل. وَقَالَ ابن المديني عن ابن عيينة: اختاره أهل الكوفة، وافدا إلى عثمان. وَقَالَ عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر: ألا أخبركم بمن صحبت، صحبت عمر، فما رأيت أفقه فِي كتاب الله تعالى منه، وصحبت طلحة، فما رأيت أحدا أعطى للجزيل منه، وصحبت عمرو بن العاص، فما رأيت أتم ظَرْفا منه، وصحبت معاوية، فما رأيت أكثر حلما منه، وصحبت زيادا، فما رأيت أكرم جليسا منه، وصحبت المغيرة، فلو أن مدينة لها أبواب، لا يُخرَج منْ كل باب منها إلا بالمكر، لخرج منْ أبوابها كلها. قَالَ قيس بن الربيع: مات قبل الجماجم. وَقَالَ خليفة فِي "الطبقات": مات سنة (69). رَوَى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، والمصنّف هَذَا الْحَدِيث فقط.
والحديث صحيح، وتقدّم شرحه، وتخريجه فِي الأبواب السابقة، فراجعها تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5110 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ الْعُرْيَانِ بْنِ الْهَيْثَمِ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَلْعَنُ الْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ، وَالْمُوتَشِمَاتِ، اللاَّتِي يُغَيِّرْنَ خَلْقَ اللَّهِ عز وجل.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن معمر": هو القيسيّ البحرانيّ البصريّ، صدوقٌ، منْ كبار [11] منْ مشايخ الأئمة الستّة، بلا واسطة، وَقَدْ تقدّم غير مرّة أنهم تسعة. و"يحيى بن حمّاد": هو الشيبانيّ مولاهم البصريّ، ختن أبي عوانة، ثقة عابدٌ، منْ صغار [9]. و"أبو عوانة": هو الوضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ الثقة الثبت [7].
والحديث صحيح، كما سبق بيانه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5111 -
(أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنِ الْعُرْيَانِ بْنِ الْهَيْثَمِ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "لَعَنَ اللَّهُ الْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُوتَشِمَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ، اللاَّتِي يُغَيِّرْنَ خَلْقَ اللَّهِ عز وجل").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "إبراهيم بن يعقوب": هو الْجُوزجانيّ الثقة الثبت الحافظ [11]. و"عليّ بن الحسن بن شقيق": هو أبو عبد الرحمن المروزيّ الثقة الحافظ، منْ كبار [10]. و"الحسين بن واقد": هو أبو عبد الله القاضي المروزيّ، ثقة،
له أوهام [7].
والحديث صحيح، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
27 - (تَحْرِيمِ الْوَشْرِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هو -بفتح الواو، وسكون الشين المعجمة، آخره راء-: هو معالجة الأسنان بما يُحدّدها، ويُرقّق أطرافها، تفعله المرأة المسنّة، تشبّهًا بالشوابّ. وَقَالَ الفيّوميّ: وَشَرَت المرأة أنيابها وَشْراً، منْ باب وعد: إذا حدّدتها، ورقّقتها، فهي واشرةٌ، واستوشرت: سألت أن يُفعَلَ بها ذلك. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.
5112 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حِبَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَيَّاشُ بْنُ عَبَّاسٍ الْقِتْبَانِيُّ، عَنْ أَبِي الْحُصَيْنِ الْحِمْيَرِيِّ، أَنَّهُ كَانَ هُوَ وَصَاحِبٌ لَهُ، يَلْزَمَانِ أَبَا رَيْحَانَةَ، يَتَعَلَّمَانِ مِنْهُ خَيْرًا، قَالَ: فَحَضَرَ صَاحِبِي يَوْمًا، فَأَخْبَرَنِي صَاحِبِي، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا رَيْحَانَةَ، يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَرَّمَ الْوَشْرَ، وَالْوَشْمَ، وَالنَّتْفَ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد حاتم": هو ابن نعيم المروزيّ الثقة [12] منْ أفراد المصنّف. و"حِبّان" -بكسر الحاء المهملة، وتشديد الموحّدة-: هو ابن موسى ابن سَوّار السلميّ، أبو محمد المروزيّ، ثقة [10]. و"عبد الله": هو ابن المبارك الإمام الحجة المشهور. و"حيوة بن شُريح": التُّجيبيّ، أبو زرعة المصريّ، ثقة ثبتٌ، فقيه، زاهدٌ [7]. و"أبو الحُصين الْحِمْيَريّ": هو الهيثم بن شَفِيّ. و"أبو ريحانة": هو شمعون بن زيد بن خفافة الصحابيّ رضي الله عنه، و"عيّاش بن عباس"، ومن بعده تقدّمت ترجمتهم قبل ستة أبواب.
وقوله: "الوشر": تقدّم معناه أول الباب، وكذا الوشم فِي الأبواب التي قبله، و"النتف": هو نتف البياض عن اللحية، والرأس، أو نتف الشعر عن الحاجب وغيره للزينة، أو نتف الشعر عند المصيبة.
والحديث ضعيف؛ لجهالة صاحب أبي الحصين الذي رَوَى له عن أبي ريحانة، وَقَدْ تقدّم شرحه، ومسائله فِي باب "النتف"، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5113 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْحُصَيْنِ الْحِمْيَرِيِّ، عَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ، قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنِ الْوَشْرِ، وَالْوَشْمِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، إلى يزيد، وتقدّموا غير مرّة. و"ابن وهب": هو عبد الله. و"الليث": هو ابن سعد.
والحديث ضعيف، كما سبق بيانه فِي الذي قبله.
[تنبيه]: هَذَا الطريق، هو الطريق السابق، إلا أن فيه إسقاط شيخ أبي الحصين، وهو أبو عامر الْحَجْريّ، وهو صاحب له، وهو مجهول كما مرّ.
قَالَ الحافظ فِي "النكت الظراف" 9/ 210 - 211: أخرجه الطبرانيّ فِي "المعجم الكبير" منْ طريق سوادة الرّقّيّ، عن أبي الحصين، قَالَ: أتينا بيت المقدس، فجلسنا إلى أبي ريحانة، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّم عشر أشياء، وهذا ظاهر أن أبا الحصين سمعه منْ أبي ريحانة، وليس كذلك؛ لما فِي رواية حيوة، عن عياش، عن أبي الحصين، أنه كَانَ، وصاحبٌ له يلزمان أبا ريحانة، قَالَ: فحضر صاحبي، ولم أحضر، فأخبرني صاحبي أنه سمع أبا ريحانة، فعرف منْ رواية أبي داود أن صاحبه هو أبو عامر المعافريّ، وأن سياق سوادة معلولٌ؛ لأنه حذف موضع العلّة، وهي قوله:"فحضر صاحبي، ولم أحضر"، وهذا منْ دقائق العلّة الخفيّة التي يصير بها الْحَدِيث معلولاً اصطلاحاً. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بهذا أن هذه الرواية، والتي بعدها منْ طريق يزيد بن أبي حبيب معلولتان؛ لأن فيهما حذف الواسطة بين أبي الحصين، وأبي ريحانة، وَقَدْ صحح الروايتين الشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى، ولا وجه للتصحيح؛ لما عرفت، فتبصّر.
وأما قول أبي ريحانة: "بلغنا" فليس علة فِي صحة الْحَدِيث؛ لأنه يكون منْ مرسل الصحابة، ومراسيلهم صحاح، كما هو معلوم فِي "كتب مصطلح الْحَدِيث"، قَالَ السيوطيّ فِي "ألفيته":
وَمُرْسَلُ الصَّاحِبِ وَصْلٌ فِي الأَصَحُّ
…
كَسَامِعٍ فِي كُفْرِهِ ثُمَّ اتَّضَحْ
إِسْلامُهُ بَعْدَ وَفَاةٍ وَالَّذِي
…
رَآهُ لا مُمَيِّزًا لا تَحْتَ ذِي
وإنما العلة ما تقدّم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5114 -
(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْحُصَيْنِ الْحِمْيَرِيِّ، عَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ، قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنِ الْوَشْرِ، وَالْوَشْمِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث هو الْحَدِيث الذي قبله، إلا أنه أعلى سندًا منه؛ لأن المصنّف وصل إلى الليث فيه بواسطة، بخلافه هناك، فإنه بواسطتين، والكلام عليه كالكلام عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
28 - (الْكُحْلُ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هو -بضم الكاف، وسكون الحاء المهملة، آخره لام-: المراد به ما وُضع فِي العين يُستشفى به، مما ليس بسائل، كالإثمد، ونحوه
(1)
.
وَقَالَ المجد فِي "القاموس": الكحل بالضمّ: المال الكثير، والإثمد، كالْكِحَال، ككتاب، وكلُّ ما وُضِع فِي العين يُستشفى به. وكُحل السُّودان: الْبَشْمة، وكحلُ فارس: الأنْزروت، وكحلُ خَوْلان: الْخُضْخُضُ. وكَحَلَ العينَ، كمنع، ونصر، فهي مكحولة، وكحيلٌ، وكَحيِلة، وكَحِل، كخَجِلٍ، منْ أعيُنٍ كحْلَى، وكَحَائل. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.
5115 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ -وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارُ- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"إِنَّ مِنْ خَيْرِ أَكْحَالِكُمُ الإِثْمِدَ، إِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ، وَيُنْبِتُ الشَّعَرَ".
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ لَيِّنُ الْحَدِيثِ).
(1)
راجع "لسان العرب" 11/ 584 و"المعجم الوسيط" 2/ 778.
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.
2 -
(داود بن عبد الرحمن العطّار) أبو سليمان المكيّ، ثقة، لم يثبت أن ابن معين تكلّم فيه [8] 29/ 442.
3 -
(عبد الله بن عثمان بن خُثيم) أبو عثمان القاريء المكيّ، صدوقٌ [5] 187/ 2993.
4 -
(سعيد بن جُببر) الأسديّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه عابد [3] 28/ 436.
5 -
(ابن عباس) عبد الله البحر الحبر رضي الله تعالى عنهما 28/ 31. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عباس رضى الله تعالى عنهما حبر الأمة وبحرها، وترجمان القرآن، وأحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِنَّ مِنْ خَيْرِ أَكْحَالِكُمُ) جمع كحل (الإِثْمِدَ) بالنصب اسم "إنّ" مؤخّراً، قَالَ فِي "الفتح" 11/ 306 - :"الإثمد" -بكسر الهمزة والميم، بينهما ثاء مثلثة ساكنة، وحكى فيه ضم الهمزة-: حجرٌ معروف أسود، يَضرِب إلى الحمرة، يكون فِي بلاد الحجاز، وأجوده يُؤتى به منْ اصبهان، واختُلف هل هو اسم الحجر الذي يتخذ منه الكحل، أو هو نفس الكحل، ذكره ابن سِيدَهْ، وأشار إليه الجوهري. انتهى.
وَقَالَ الفيّوميّ: "الإثمِد": الكحل الأسود، ويقال: إنه معرّبٌ، قَالَ ابن البيطار فِي "المنهاج": هو الكحل الأصفهانيّ، ويؤيده قول بعضهم: ومعادنه بالمشرق. انتهى.
(إِنَّهُ) أي: الإثمد (يَجْلُو الْبَصَرَ) بفتح أوله، منْ الجلاء: أي: يزيده نوراً (وَيُنْبِتُ) بضم أوله، منْ الإنبات (الشَّعَرَ) بفتح الشين المعجمة، والعين المهملة، ويجوز تسكينها: المراد شعر أهداب العين.
والحديث مختصر عند المصنّف، وَقَدْ أخرجه أبو داود فِي "سننه" مطوّلا، فَقَالَ: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد
ابن جبير، عن ابن عباس، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البسوا منْ ثيابكم البياض، فإنها منْ خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم، وإن خير أكحالكم الإثمد، يجلو البصر، وينبت الشعر". انتهى.
وقوله: (قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أي النسائيّ رحمه الله تعالى: (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ لَيِّنُ الْحَدِيثِ) أي فِي حديثه ضعف، وهذا الذي قاله تقدّم له نحوه فِي "كتاب الحجّ" 187/ 2994 - حيث أخرج حديثًا منْ رواية ابن جريج عنه، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، قَالَ: ابن خثيم ليس بالقويّ، إنما أخرجت هَذَا لئلا يُجعل ابن جريج، عن أبي الزبير، ثم قَالَ: لم يترُك يحيى، ولا عبد الرحمن حديث ابن خُثَيم، إلا أن عليّ بن المدينيّ قَالَ: ابنُ خُثيم منكر الْحَدِيث، وكان عليّ خُلق للحديث. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله منْ تضعيف ابن خيثم نُقل نحوه عن ابن معين، فَقَالَ فِي "تهذيب التهذيب" 2/ 383: وَقَالَ عبد الله بن الدورقيّ، عن ابن معين: أحاديثه ليست بالقوية.
والجمهور عَلَى توثيقه، فقد قَالَ ابن أبي مريم، عن ابن معين: ثقة حجة. وَقَالَ أبو حاتم: ما به بأسٌ، صالح الْحَدِيث. وَقَالَ النسائيّ مرّة: ثقة. وَقَالَ العجليّ: ثقة. وَقَالَ ابن عديّ: هو عزيز الْحَدِيث، وأحاديثه أحاديث حسان. وَقَالَ ابن سعد: كَانَ ثقةً، وله أحاديث حسنة.
فتبيّن بما ذكر أن لابن معين، والمصنّف، قولين: قول وافقا به الجمهور فِي توثيقه، وقول خالفا فيه، والذي وافقا فيه هو الأرجح، فابن خُثيم ثقة، وحديثه صحيح.
والحاصل أن أحاديث ابن خثيم صحيحة؛ ترجيحًا لتوثيق الجمهور عَلَى قول منْ ضعّفه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -28/ 5115 - وفي "الكبرى" 35/ 9404. وأخرجه (د) فِي "الطبّ" 3878 و"اللباس" 4061 (ت) فِي "اللباس" 1757 و"الطب" 2048 (ق) فِي "الطب" 3497 (أحمد) فِي "مسند بني هاشم" 2048 و2220 و2475 و3332 و3416.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان استحباب الكحل، وهو للرجال والنساء. (ومنها): تأكّد الاستحباب فِي الاكتحال بالإثمد، وَقَدْ ورد التنصيص عليه بلفظ الأمر، فقد أخرج الترمذيّ، وحسّنه، واللفظ له، وابن ماجه، وصححه ابن حبّان منْ حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، رفعه:"اكتحلوا بالإثمد، فإنه يجلو البصر، ويُنبت الشعر"، وأخرجه الترمذيّ، منْ وجه آخر، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فِي "الشمائل". وَقَدْ جاء منْ حديث جابر رضي الله عنه، أخرجه فِي "الشمائل"، وابن ماجه، وابن عدي، منْ ثلاث طرق، عن ابن المنكدر عنه، بلفظ:"عليكم بالإثمد، فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر"، وعن عليّ رضي الله عنه عند ابن أبي عاصم، والطبراني، ولفظه:"عليكم بالأثمد، فإنه مَنْبَتَةٌ للشعر، مَذْهَبَةٌ للقَذَي مَصْفَاة للبصر"، وسنده حسن. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بنحوه عند الترمذيّ، فِي "الشمائل"، وعن أنس رضي الله عنه فِي "غريب مالك" للدارقطني، بلفظ:"كَانَ يأمرنا بالإثمد". وعن سعيد بن هَوْذة، عند أحمد، بلفظ: "اكتحلوا بالإثمد، فإنه
…
" الْحَدِيث، وهو عند أبي داود، منْ حديثه، بلفظ: "إنه أمر بالإثمد الْمُرَوّح عند النوم". وعن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: "خير أكحالكم الإثمد، فإنه
…
" الْحَدِيث، أخرجه البزار، وفي سنده مقال. وعن أبي رافع رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "كَانَ يكتحل بالإثمد"، أخرجه البيهقي، وفي سنده مقال. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: "كَانَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم إثمد يكتحل به، عند منامه، فِي كل عين ثلاثا"، أخرجه أبو الشيخ فِي "كتاب أخلاق النبيّ صلى الله عليه وسلم"، بسند ضعيف.
[تنبيه]: قَالَ فِي "الفتح" 11/ 306 - : ما معناه: ورد الأمر بالاكتحال وترا منْ حديث أبي هريرة رضي الله عنه فِي "سنن أبي داود"، ووقع فِي بعض الأحاديث التي تقدّمت الإشارة إليها كيفية الاكتحال، وحاصله ثلاثا فِي كل عين، فيكون الوتر فِي كل واحدة عَلَى حدة، أو اثنتين فِي كل عين، وواحدة بينهما، أو فِي اليمين ثلاثا، وفي اليسرى ثنتين، فيكون الوتر بالنسبة لهما جميعا، وأرجحها الأول. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
***
29 - (الدُّهْنُ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هو -بضمّ الدال المهملة، وسكون الهاء-: ما يُدهن به، منْ زيت، وغيره، وجمعه دِهَانٌ بالكسر. ودَهَنتُ الشعر، وغيره دَهْناً، منْ باب قتل، وادّهَنَ افتعل: تطلَّى بالدهن، وأدهن عَلَى أفعل. والْمُدْهُنُ بضم الميم والهاء: ما يُجعل فيه الدهن، وهو منْ النوادر التي جاءت بالضمّ، وقياسه الكسر؛ لأنه اسم آلة.
قَالَ ابن مالك رحمه الله تعالى فِي "لاميّته":
كَمِفْعَلٍ وَكَمِفْعَالٍ وَمِفْعَلَةٍ
…
مِنَ الثُّلاثِي صُغِ اسْمَ مَا بِهِ عُمِلا
شَذَّ الْمُدُقُّ ومُسْعُطٌ وُمُكْحُلَةٌ
…
وَمُدْهُنٌ مُنْصُلٌ وَالآتِي مِنْ نَخَلا
وَمَنْ نَوَى عَمَلاً بِهنَّ جَازَ لَهُ
…
فِيهِنَّ كَسْرٌ وَلَمْ يَعْبَأ بِمَنْ عَذَلا
والله تعالى أعلم بالصواب.
5116 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ، سُئِلَ عَنْ شَيْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: "كَانَ إِذَا ادُّهِنَ رَأْسُهُ، لَمْ يُرَ مِنْهُ، وَإِذَا لَمْ يُدَّهَنْ رُئِيَ مِنْهُ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(محمد بن المثنى) أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ، ثقة حافظ [10] 64/ 80.
2 -
(أبو داود) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ، ثقة حافظ [9] 13/ 343.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت [7] 24/ 27.
4 -
(سماك) بن حرب بن أوس بن خالد الذُّهْليّ البكريّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوقٌ، وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وَقَدْ تغيّر بآخره، فكان ربّما يُلقّن [4] 2/ 325.
5 -
(جابر سمرة) بن جُنادة السُّوَائيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما، نزل الكوفة، ومات بعد سنة سبعين، وتقدّم فِي 28/ 816. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخه محمد بن المثنّى أحد التسعة الذين رَوَى عنهم الجماعة أصحاب الأصول الستة بلا واسطة، وَقَدْ جمعتهم بقولي:
اشْتَرَكَ الأئِمَّةُ الْهُدَاةُ
…
ذَوُو الأُصُولِ السِّتَّةِ الْوُعَاةُ
فِي تِسْعَةٍ مِنَ الشُّيُوخِ الْمَهَرَهْ
…
الْحَافِظِين النَّاقِدِينَ الْبَرَرَه
أُولَئِكَ الأَشَجُّ وابْنُ مَعْمَرِ
…
نَصْرٌ وَيَعْقُوبُ وَعَمْرٌو السَّرِي
وَابْنُ الْعَلَاءِ وَابْنُ بشَّارٍ كَذَا
…
ابْنُ الْمُثَنَّى وَزِيَادٌ يُحْتَذَى
وَقَدْ تقدّم بيان هَذَا كله غير مرّة، وإنما أعدته تنبيهاً، وتذكيرًا لطول العهد به. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ سِمَاكٍ) بن حرب، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ) رضي الله تعالى عنهما (سُئِلَ) بالبناء للمفعول، والجملة فِي محلّ نصب عَلَى الحال منْ المفعول (عَنْ شَيْبِ) بفتح، فسكون-: أي بياض شعر (رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟، قَالَ) جابر رضي الله عنه (كَانَ) صلى الله عليه وسلم (إِذَا ادَّهَنَ رَأْسَهُ) بالبناء للفاعل، وهو بتشديد الدال، افتعال منْ الدهن، والظاهر أن "رأسه" منصوب بنزع الخافظ؛ لأن "ادّهن" مشدّد الدال لازم، كما فِي "اللسان" وغيره، وفي رواية مسلم:"إذا دَهَن" بتخفيف الدال، وعليه فـ"رأسه" منصوب عَلَى المفعوليّة، والمعنى: أنه إذا اطّلَى بالدهن (لَمْ يُرَ مِنْهُ) ببناء الفعل للمفعول، يعني أنه لم يُر شيب صلى الله عليه وسلم، ولمسلم:"لم يُر منه شيء"(وَإِذَا لَمْ يُدَّهَنْ) بتشديد الدال، والبناء للفاعل أيضًا (رُئِيَ مِنْهُ) بالبناء للمفعول: أي رئي منه صلى الله عليه وسلم الشيب. وفي رواية لمسلم: "إذا ادّهن لم يتبيّن، وإذا شَعِثَ تَبيّن"، قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: يعني أنه كَانَ إذا تطيّب بطيب يكون فيه دُهنٌ، فيه صُفرة خفي لونه، وهذه هي الصفرة التي رأى عليه ابن عمر، وأبو رِمْثة رضي الله عنهم. انتهى "المفهم" 6/ 134. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث حابر بن سمرة رضي الله تعالى عنهما هَذَا أخرجه مسلم.
[فإن قلت]: فِي سنده سماك بن حرب، وَقَدْ تقدّم أنه تغيّر فِي آخره، فكيف يصحّ حديثه؟.
[قلت]: هَذَا الْحَدِيث منْ رواية منْ رَوَى عنه قبل اختلاطه، وهو شعبة، فقد قَالَ فِي "تهذيب التهذيب" -2/ 115 - : منْ سمع منه قديماً، مثلُ شعبة، وسفيان، فحديثه عنه صحيح، مستقيم. انتهى. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -29/ 5116 - وفي "الكبرى" 36/ 9405. وأخرجه (م) فِي "الفضائل" 2244 (أحمد) فِي "مسند البصريين" 20282 و20300.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان استحباب استعمال الدهن. (ومنها): استحباب إزالة الشعث منْ الرأس، واللحية بالدهن، ونحوه. (ومنها): أن فيه إثبات شيبه صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ جاء فِي رواية لمسلم لهذا الْحَدِيث منْ طريق إسرائيل، عن سماك، أنه سمع جابر بن سمرة، يقول: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد شَمِطَ مُقَدَّم رأسه ولحيته، وكان إذا ادّهن لم يتبين، وإذا شَعِثَ رأسه تَبَيَّن، وكان كثير شعر اللحية، فَقَالَ رجل: وجهه مثل السيف؟ قَالَ: لا، بل كَانَ مثل الشمس والقمر، وكان مستديرا، ورأيت الخاتم عند كتفه، مثل بيضة الحمامة، يشبه جسده.
وَقَدْ جاء فِي مسلم أيضًا عن أنس رضي الله عنه أنه نفى شيبه صلى الله عليه وسلم، فقد سئل عن شيب النبيّ صلى الله عليه وسلم؟، فَقَالَ: ما شانه الله ببيضاء.
قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى فِي "شرحه" 15/ 95: وأما اختلاف الرواية فِي قدر شيبه صلى الله عليه وسلم، فالجمع بينها أنه رأى شيئًا يسيرًا، فمن أثبت شيبه أخبر عن ذلك اليسير، ومن نفاه أراد أنه لم يكثر فيه، كما قَالَ فِي الرواية الأخرى:"لم يشتدّ الشيب": أي لم يكثر، ولم يخرج شعره عن سواده، وحسنه، كما قَالَ فِي الرواية الأخرى:"لم ير منْ الشيب إلا قليلاً". انتهى.
وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى فِي "المفهم" 6/ 133 - : قول أنس رضي الله عنه: ما شانه الله ببيضاء": أي لم يكن شيبه كثيرًا بيّنًا، حَتَّى تزول عنه بهجة الشباب، ورونقه، ويُلحق بالشيوخ الذين يكون الشيب لهم عيبا، فإنه يدلّ عَلَى ضعفهم، ومفارقة قوة الشباب، ونشاطه. ويحتمل أن يريد أن ما ظهر عليه منْ الشيب اليسير زاده ذلك فِي عين الناظر إليه أُبَّهَةً، وتوقيرًا، وتعظيمًا. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
***
30 - (الزَّعْفَرَانِ)
ولفظ "الكبرى": "أبواب الطيب" - "الزعفران".
5117 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ، كَانَ يَصْبُغُ ثِيَابَهُ بِالزَّعْفَرَانِ، فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْبُغُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن عليّ بن ميمون" العطّار، أبو العبّاس الرقّيّ ثقة [11] منْ أفراد المصنّف. و"القعنبيّ": هو عبد الله بن مسلمة البصريّ الثقة الثبت العابد منْ صغار [9].
و"عبد الله بن زيد" بن أسلم العدوي، أبو محمد المدنيّ، مولى عمر، صدوقٌ فيه لين [7].
رَوَى عن أبيه، وعنه ابن المبارك، وابن مهدي، والوليد بن مسلم، ويحيى بن حسان، وعبد الملك بن مسلمة المصريّ، وعبد الله بن مسلمة بن قعنب، وقتيبة، وغيرهم. قَالَ أبو طالب، عن أحمد: ثقة. وَقَالَ أبو حاتم: سألت أحمد عن ولد زيد، فَقَالَ: أسامة، ثم عبد الله. وَقَالَ معاوية بن صالح، عن ابن معين: ضعيف. وَقَالَ الدوري، عن ابن معين: أولاد زيد، ثلاثتهم حديثهم ليس بشيء، ضعفاء. وَقَالَ عمرو ابن عليّ: سمعت ابن مهدي يحدث عنه، وعن أسامة، ولم أسمعه يحدث عن عبد الرحمن. وَقَالَ الحاكم، أبو أحمد: ثبته عليّ بن المديني، وقيل عن عليّ: ليس فِي ولد زيد بن أسلم ثقة. وَقَالَ الجوزجاني: بنو زيد ضعفاء فِي الْحَدِيث. وَقَالَ أبو حاتم: ليس به بأس. وَقَالَ معن بن عيسى القزاز: ثقة. وَقَالَ الآجري عن أبي داود: أنا لا أكتب حديث عبد الرحمن، وعبدُ الله أمثل منه، وأسامة ضعيف، قليل الْحَدِيث. وَقَالَ النسائيّ: ليس بالقوي. وَقَالَ ابن عدي: وهو مع ضعفه يكتب حديثه.
وَقَالَ ابن أبي مريم، عن يحيى: عبد الله بن زيد بن أسلم ضعيف، يكتب حديثه. وَقَالَ أبو زرعة: ضعيف. وَقَالَ البخاريّ: ضَعَّفَ عليٌّ عبد الرحمن بن زيد، وأما أخواه فذكر عنهما صحة. وَقَالَ ابن سعد: كَانَ عبد الله أثبت ولد زيد، تُوفّي بالمدينة فِي أول خلافة المهدي. وَقَالَ الساجي: بنو زيد ثلاثة، عبد الله أرفعهم، ورَوَى عن أبيه حديثا منكراً، فِي دهن الخلوق. وَقَالَ ابن قانع: مات سنة أربع وستين ومائة. رَوَى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، والمصنّف، والترمذي، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.
و"أبوه": هو زيد بن أسلم العدوى مولاهم المدنيّ الثقة الفقيه [3].
والحديث صحيح، وَقَدْ تقدّم فِي 17/ 5087. وتقدّم شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
31 - (الْعَنْبَرِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الْعَنْبَرِ" فَنْعَلٌ: طِيبٌ معروفٌ يُذكّر، ويؤنّث، فيقال: هو العنبرُ، وهي العنبر، والْعنبر: حوتٌ عظيم. قاله فِي "المصباح".
وَقَالَ فِي "القاموس" ص 402 - : "العَنْبَر" منْ الطيب: رَوْث دابّة بحريّة، أو نَبْع عينٍ فيه، ويؤنّث. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.
5118 -
(أَخْبَرَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ أَبِي السَّفَرِ، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَكْرٌ الْمُزَلِّقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَطَاءٍ الْهَاشِمِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ، أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَطَيَّبُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ بِذِكَارَةِ الطِّيبِ، الْمِسْكِ، وَالْعَنْبَرِ).
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(أبو عبيدة بن أبي السفر) -بفتح الفاء- هو: أحمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي السفّر سعيد بن يُحمِد الكوفيّ، صدوقٌ يهم [11] 29/ 4134.
2 -
(عبد الصمد بن عبد الوارث) التَّنُّوريّ، أبو سهل البصريّ، صدوقٌ [9] 122/ 174.
3 -
(بكر الْمُزَلِّق) -بالزاي، والقاف، وتشديد اللام- هو: بكر بن الحكم التميميّ اليربوعيّ، أبو بشر، صاحب البصريّ، جار حمّاد بن زيد فِي السوق، صدوقٌ، فيه لينٌ [7].
رَوَى عن عبد الله بن عطاء المكيّ، وثابت البناني، ويزيد الرَّقَاشي. وعنه حَبَّان بن هلال، وعبد الصمد بن عبد الوارث، وحرمي بن عمارة، وأبو عبيدة الحداد، وَقَالَ: كَانَ ثقة، وأبو سلمة التبوذكي، وَقَالَ: كَانَ ثقة. وَقَالَ أبو زرعة: شيخ، ليس بالقوي.
وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ البزار فِي "مسنده": حدثنا سهل بن بحر، ثنا سعيد ابن محمد الجرمي، ثنا أبو بشر الْمُزَلّق، وكان ثقة، عن ثابت، فذكر حديثا. تفرد به المصنّف بحديث الباب فقط.
4 -
(عبد الله بن عطاء الهاشميّ) الطائفيّ، المكيّ، ويقال: الكوفيّ، ويقال: الواسطي، ويقال: المدنيّ، أبو عطاء، مولى المطلب بن عبد الله بن قيس بن مَخْرمة، وقيل: مولى بني هاشم، ومنهم منْ جعلهما اثنين، وقيل: ثلاثة، صدوقٌ يُخطيء، ويدلّس [6].
رَوَى عن أبي الطفيل، وسليمان، وعبد الله ابني بريدة، وعقبة بن عامر مرسلا، وعكرمة بن خالد، ونافع مولى ابن عمر، وسعد بن إبراهيم، وعدة. وعنه أبو إسحاق السبيعي، وزهير ابن معاوية، والثوري، وابن أبي ليلى، وأبو بشر الْمُزَلّق، وجعفر بن زياد، وعلي بن مسهر، وعبد الملك بن أبي سليمان، وشعبة، وعبد الله بن نمير، ومروان بن معاوية، وأبو معاوية الضرير، وعدة.
قَالَ الدوري عن ابن معين: هو كوفيّ، كَانَ ينزل بمكة. وَقَالَ الترمذيّ: ثقة عند أهل الْحَدِيث. وَقَالَ النسائيّ: ضعيف، وَقَالَ فِي موضع آخر: ليس بالقوي. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ الدوري عن ابن معين: عبد الله بن عطاء، صاحب ابن بريدة ثقة، كذا هو فِي "تاريخ الدوري"، رواية ابن سعيد بن الأعرابيّ، عنه. رَوَى له مسلم، والأربعة، له فِي هَذَا الكتاب حديث الباب فقط.
5 -
(محمد بن عليّ) ابن الحنفيّة الهاشميّ، أبو القاسم المدنيّ، ثقةٌ عالمٌ [2] 112/ 157.
[تنبيه]: كون محمد بن عليّ هَذَا هو ابنَ الحنفيّة هو الذي نصّ عليه الحافظ فِي "النكت الظّراف" 12/ 298 متعقّبًا قول الحافظ المزيّ: إنه محمد بن عليّ بن الحسين ابن عليّ بن أبي طالب، أبو جعفر، فَقَالَ الحافظ: محمد بن عليّ فِي هَذَا الْحَدِيث هو ابن الحنفيّة، خلاف الأول
(1)
، فإنه ابن أبن أخيه، وإني لأتعجّب كيف خفي عَلَى المصنّف -يعني المزّيّ- ذلك مع جزمه فِي الترجمة بأن أبا جعفر لم يُدرك عائشة، فكيف يجوز عليه أن يقول: سألت عائشة. انتهى.
6 -
(عائشة) رضي الله تعالى عنها 5/ 5. والله تعالى أعلم.
(1)
أراد بالحديث الأول الْحَدِيث الذي أورده المزيّ فِي "تحفته" قبل هَذَا، وهو حديث: "سُئلت عائشة ما كَانَ فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
" الْحَدِيث. راجع "تحفة الأشراف" 12/ 298.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ) ابن الحنفيّة عَلَى الصواب، لا محمد بن عليّ بن الحسين، كما ظُنّ؛ لأنه لم يُدرك عائشة رضي الله تعالى عنها، كما مرّ آنفاً، أنه (قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها (أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَطَيَّبُ؟) أي يستعمل الطيب (قَالَتْ: نَعَمْ) أي كَانَ يتطيب (بِذِكَارَةِ الطِّيبِ) قَالَ ابن الأثير رحمه الله تعالى: "الذّكارة بالكسر: ما يصلح للرجال، كالمسك، والعنبر، والْعُود، وهي جمع ذكر، والذّكورة مثله. ومنه الْحَدِيث: "كانوا يكرهون المؤنّث منْ الطيب، ولا يرون بذُكُورته بأسًا"، وهو ما لا لون له يَنفُض، كالعود، والكافور، والعنبر، والمؤنّث طيب النِّساء، كالْخَلُوق، والزعفران. انتهى "النهاية" 2/ 164 (الْمِسْكِ) بالجرّ بدل منْ "ذكارة الطيب، بكسر الميم، وسكون المهملة-: طيب معروف، وهو معرّبٌ، والعرب تسمّيه المشموم، وهو عندهم أفضل الطيب، ولهذا جاء فِي الْحَدِيث:"لخُلُوف فم الصائم عند الله أطيب منْ ريح المسك"، وهو مذكّرٌ عند الفرّاء، وعند غيره يذكّر، ويؤنّث. أفاده فِي "المصباح"(وَالْعَنْبَرِ) تقدّم معناه فِي أول الباب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: تفرد به المصنّف رحمه الله تعالى أخرجه هنا -31/ 5118 - وفي "الكبرى" 38/ 9407. وهو ضعيف؛ لأن فيه عبد الله بن عطاء، وهو مدلّسٌ، وَقَدْ عنعنه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
32 - (الْفَصْلِ بَيْنَ طِيبِ الرِّجَالِ، وَطِيبِ النِّسَاءِ)
" الفَصْل" -بفتح، فسكون-: معناه الفرق.
5119 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ -يَعْنِي الْحَفَرِيَّ- عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صلى الله عليه وسلم: "طِيبُ الرِّجَالِ مَا ظَهَرَ رِيحُهُ، وَخَفِيَ لَوْنُهُ، وَطِيبُ النِّسَاءِ مَا ظَهَرَ لَوْنُهُ، وَخَفِيَ رِيحُهُ").
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(أحمد بن سليمان) أبو الحسين الرُّهاويّ، ثقة حافظ [11] 38/ 42 منْ أفراد المصنّف.
2 -
(أبو داود الْحَفَريّ) عمر بن سَعْد بن عبيد الكوفيّ، ثقة عابد [9] 15/ 523.
3 -
(سفيان) بن سعيد الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة ثبت حجة [7] 33/ 37.
4 -
(الْجُريريّ) سعيد بن إياس، أبو مسعود البصريّ، ثقة اختلط قبل موته بثلاث سنين [5] 32/ 672.
5 -
(أبو نضرة) المنذر بن مالك بن قُطَعة العبديّ الْعَوَقيّ البصريّ، ثقة [3] 21/ 538.
6 -
(رجل) هو الطفاويّ، لا يُعرَف [3].
7 -
(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ رَجُلٍ) وفي الرواية التالية: "عن الطفاوي"، قَالَ فِي "التقريب":"الطفاوي" شيخ لأبي نضرة، لا يعرف منْ الثالثة. انتهى (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "طِيبُ الرِّجَالِ مَا ظَهَرَ رِيحُهُ، وَخَفِيَ لَوْنُهُ) كماء الورد، والمسك، والعنبر (وَطِيبُ النِّسَاءِ مَا ظَهَرَ لَوْنُهُ) أي ما يكون له لون مطلوبٌ؛ لكونه زينة، وإلا فالمسك وغيره منْ طيب الرجال له لون. قاله السنديّ (وَخَفِيَ رِيحُهُ) كالحنّاء، قَالَ القاري فِي "المرقاة": فِي "شرح السنّة": حملوا قوله: "وطيب النِّساء" عَلَى ما إذا أرادت أن تخرج، فأما إذا كانت عند زوجها، فلتطيب بما شاءت. انتهى. ويؤيّده حديث: "أيّما امرأة أصابت بُخُوراً، فلا تشهد معنا العشاء". انتهى ملخّصاً.
وفيه أنه ينبغي الفرق بين طيب الرجال والنساء، وذلك عَلَى حسب المصالح المترتّبة عليه، فيكون طيب الرجال يظهر ريحه، ولا يظهر لونه، حيث لا ضر يترتّب عَلَى وجود الريح منهم، وأما ظهور اللون ففيه مشابهة للنساء، فينبغي البعد عنه، وأما طيب النِّساء، فيستحسن فيه ظهور لونه، لا ريحه؛ وذلك لئلا يفتتن بها الرجال، إذا وجدوا منها ريحه، وأما لونه فإنها تستره بلباسها، إلا عمن لا يحرم تبرّجها عنده.
والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: هَذَا الْحَدِيث مختصر، وَقَدْ ساقه الإمام أبو داود رحمه الله تعالى مطوّلاً فِي "كتاب النكاح" منْ "سننه"، فَقَالَ:
2174 -
حدثنا مسدد، ثنا بشر، ثنا الجريري ح وثنا مؤمل، ثنا إسماعيل ح وثنا موسى، ثنا حماد، كلهم عن الجريري، عن أبي نضرة، حدثني شيخ منْ طفاوة، قَالَ: تثويت أبا هريرة بالمدينة، فلم أر رجلا منْ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، أشد تشميرا، ولا أقوم عَلَى ضيف منه، فبينما أنا عنده يوما، وهو عَلَى سرير له، ومعه كيس فيه حصى، أو نوى، وأسفل منه جارية له سوداء، وهو يسبح بها، حَتَّى إذا أنفد ما فِي الكيس، ألقاه إليها، فجمعته، فأعادته فِي الكيس، فدفعته إليه، فَقَالَ: ألا أحدثك عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: قلت: بلى، قَالَ: بينا أنا أُوعَك فِي المسجد، إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، حَتَّى دخل المسجد، فَقَالَ:"منْ أحس الفتى الدوسي؟ " ثلاث مرات، فَقَالَ رجل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو ذا يُوعَك فِي جانب المسجد، فأقبل يمشي حَتَّى انتهى إلي، فوضع يده عليّ، فَقَالَ لي: معروفا، فنهضت، فانطلق يمشي حَتَّى أتى مقامه الذي يصلي فيه، فأقبل عليهم، ومعه صفان منْ رجال، وصف منْ نساء، أو صفان منْ نساء، وصف منْ رجال، فَقَالَ:"إن أنساني الشيطان شيئا منْ صلاتي، فليسبح القوم، وليصفق النِّساء"، قَالَ: فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينس منْ صلاته شيئا، فَقَالَ:"مجالسكم مجالِسَكُم"، زاد موسى هاهنا:"ثم حمد الله تعالى، وأثنى عليه، ثم قَالَ: أما بعد"، ثم اتفقوا:"ثم أقبل عَلَى الرجال، فَقَالَ: هل منكم الرجل إذا أتى أهله، فأغلق عليه بابه، وألقى عليه ستره، واستتر بستر الله؟، قالوا: نعم، قال: ثم يجلس بعد ذلك، فيقول: فعلت كذا، فعلت كذا، قَالَ: فسكتوا، قَالَ: فأقبل عَلَى النِّساء، فَقَالَ: هل منكن منْ تحدث؟ فسكتن، فجثت فتاة"، قَالَ مؤمل فِي حديثه:"فتاة كَعَاب عَلَى إحدى ركبتيها، وتطاولت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليراها، ويسمع كلامها، فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنهم ليتحدثون، وإنهن ليتحدثنه، فَقَالَ: هل تدرون ما مثل ذلك؟، فَقَالَ: إنما ذلك مثل شيطانة، لقيت شيطانا فِي السكة، فقضى منها حاجته، والناس ينظرون إليه، ألا وإن طيب الرجال ما ظهر ريحه، ولم يظهر لونه، ألا إن طيب النِّساء ما ظهر لونه، ولم يظهر ريحه". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح.
[فإن قلت]: كيف يصح، وفيه شيخ أبي نضرة، وهو مجهول، قَالَ المنذريّ رحمه الله تعالى: وَقَالَ الترمذيّ: هَذَا حديث حسنٌ، إلا أن الطفاويّ، لا نعرفه إلا فِي هَذَا الْحَدِيث، ولا يُعرف اسمه. وَقَالَ أبو الفضل محمد بن طاهر: والطفاويّ مجهول. انتهى؟.
[قلت]: الْحَدِيث له شاهد منْ حديث أنس رضي الله عنه أخرجه الطبراني فِي "المعجم الكبير"، والضياء المقدسيّ فِي "الأحاديث المختارة"
(1)
منْ طريقه عن محمد بن الحسين الأنماطي، عن سعيد بن سليمان الواسطي، عن إسماعيل بن زكريا، عن عاصم الأحول، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طيب الرجال ما ظهر ريحه، وخفي لونه، وطيب النِّساء ما ظهر لونه، وخفي ريحه". وهذا إسناد حسن، وإسماعيل بن زكريا هو المعروف بشَقُوصَا صدوقٌ يهم قليلاً، وهو منْ رجال الجماعة.
والحاصل أن الْحَدِيث صحيح. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -32/ 5119 و5120 - وفي "الكبرى" 39/ 9408 و9409. وأخرجه (د) فِي "النكاح" 2174 مطولاً كما سبق آنفاً، وفي "الحمّام" 4019 مختصراً (ت) فِي "الأدب" 2787. ت والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5120 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ الرَّقِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنِ الطُّفَاوِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "طِيبُ الرِّجَالِ مَا ظَهَرَ رِيحُهُ، وَخَفِيَ لَوْنُهُ، وَطِيبُ النِّسَاءِ مَا ظَهَرَ لَوْنُهُ، وَخَفِيَ رِيحُهُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: شيخ المصنّف تقدّم قبل بابين. و"محمد بن يوسف الفريابيّ"
(2)
: هو الضبيّ مولاهم الثقة الفاضل [9]. و"الطُّفاويّ" بضم الطاء المهملة،
(1)
راجع "الأحاديث المختارة" 6/ 294.
(2)
"الفريابيّ -بكسر الفاء، وسكون الراء، بعدها تحتانيّة، وبعد الألف موحّدة-: نسبة إلى فارياب بُليدة بنواحي بَلْخَ، وينسب إليها أيضًا الفاريابيّ، والفيريابيّ، يُنسب إليها جماعة، منهم: أبو عبد الله محمد بن يوسف الفريابيّ، سكن قيسارية، مدينة عَلَى ساحل الشام. قاله فِي "اللباب" 2/ 427.
بعدها فاء: نسبة إلى طُفاوة منْ قيس عَيْلان. أفاده فِي "لبّ اللباب" 2/ 92. والباقون تقدّموا فِي السند الماضى.
والحديث صحيح، كما سبق بيانه فِي الْحَدِيث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
33 - (أَطْيَبِ الطِّيبِ)
5121 -
(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلاَّمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ خُلَيْدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، اتَّخَذَتْ خَاتِمًا مِنَ ذَهَبٍ، وَحَشَتْهُ مِسْكًا"، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "هُوَ أَطْيَبُ الطِّيبِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عبد الرحمن بن محمد بن سلّام" -بتشديد اللام-: هو البغداديّ، ثم الطَّرسوسيّ، أبو القاسم، لا بأس به [11] منْ أفراد المصنّف، وأبي داود. و"شبابة": هو ابن سوّار المدائنيّ، خراسانيّ الأصل، ويقال: اسمه مروان، منْ بني فزارة، ثقة حافظٌ، رُمي بالإرجاء [9] 50/ 1743. و"خُليد بن جعفر": هو أبو سليمان البصريّ، صدوقٌ [6] 42/ 1905. و"أبو نضرة": المنذر بن مالك بن قُطعة، تقدّم فِي الباب الماضي.
وقوله: "وحشته مسكاً": أي ملأته بالمسك، والحديث مختصر، وَقَدْ ساقه الإمام أحمد رحمه الله تعالى فِي "المسند"، فَقَالَ:
11034 -
حدثنا عبد الصمد، حدثنا الْمُسْتَمِر بن الرَّيَان الإيادي، حدثنا أبو نضرة العبدي، عن أبي سعيد الخدريّ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر الدنيا، فَقَالَ:"إن الدنيا خضرة حلوة، فاتقوها، واتقوا النِّساء"، ثم ذكر نسوة ثلاثا، منْ بني إسرائيل، امرأتين طويلتين تعرفان، وامرأة قصيرة لا تعرف، فاتخذت رجلين منْ خشب، وصاغت خاتمًا، فحشته منْ أطيب الطيب، المسكِ، وجعلت له غَلَقاً، فإذا مرّت بالملإ، أو بالمجلس، قالت به، ففتحته، ففاح ريحه"، قَالَ المستمر بخنصره اليسرى، فأشخصها دون أصابعه
الثلاث شيئا، وقبض الثلاثة. انتهى.
وقوله: "أطيب الطيب": أي منْ أطيب الطيب، كما هو فِي رواية أحمد، وَقَدْ سبق للمصنّف فِي "الجنائز" 142/ 906 - حديث أنس رضي الله عنه، مرفوعًا بلفظ:"منْ خير طيبكم المسك".
والحديث أخرجه مسلم، وَقَدْ تقدّم للمصنف فِي "كتاب الجنائز" 42/ 1905 ومضى شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
34 - (التَّزَعْفُرِ، وَالْخَلُوقِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ترجم المصنّف رحمه الله تعالى للتزعفر، والخلوق، ولم يذكر فِي "المجتبى" هنا حديثاً فِي التزعفر، وإنما ذكره فِي الباب (73)"التزعفر للرجال"، وذكره فِي "الكبرى" هنا حيث قَالَ:"التزعفر والخلوق"، أخبرنا محمد بن عُمر بن عليّ بن مُقَدَّم، قَالَ: ثنا زكريّا بن يحيى بن عُمارة الأنصاريّ، عن عبد العزيز بن صُهَيب، عن أنسّ، قَالَ:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل". وسيأتي شرحه، والكلام عليه فِي الباب (73) منْ هَذَا الكتاب، إن شاء الله تعالى.
و"الْخَلوقُ -بفتح الخاء المعجمة، وضمّ اللام، وزانُ رسول: ما يُتخلّق به منْ الطيب، قَالَ بعض الفقهاء: وهو مائع، فيه صُفْرة، والخِلاق مثلُ الكِتاب بمعناه. قاله فِي "المصباح".
وَقَالَ ابن الأثير رحمه الله تعالى: الْخَلُوقُ: طيب معروفٌ، مركّبٌ منْ الزعفران وغيره، منْ أنواع الطيب، وتغلب عليه الحمرة، والصفرة، وَقَدْ ورد الْحَدِيث تارة بإباحته، وتارة بالنهي عنه، والنهي أكثر، وأثبت، وإنما نُهي عنه؛ لأنه منْ طيب النِّساء، وكنّ أكثر استعمالاً له منهم، والظاهر أن أحاديث النهي ناسخة. انتهى "النهاية" 2/ 71. والله تعالى أعلم بالصواب.
5122 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ ظَبْيَانَ، عَنْ
حُكَيْمِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بِهِ رَدْعٌ مِنْ خَلُوقٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"اذْهَبْ فَانْهَكْهُ"، ثُمَّ أَتَاهُ، فَقَالَ:"اذْهَبْ فَانْهَكْهُ"، ثُمَّ أَتَاهُ، فَقَالَ:"اذْهَبْ فَانْهَكْهُ، ثُمَّ لَا تَعُدْ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(محمد بن منصور) الْجوّاز المكيّ الثقة [10] 21/ 22 منْ أفراد المصنّف.
2 -
(سفيان) بن عُيينة الهلاليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ الإمام الحجة الثبت [8] 1/ 1.
3 -
(عمران بن ظبيان) -بفتح الظاء المعجمة، وسكون الموحّدة، بعدها تحتانيّة- الحنفيّ الكوفيّ ضعيف، ورمي بالتشيّع [7].
رَوَى عن أبي يحيى حُكَيم بن سَعْد، وعديّ بن ثابت، ويحيى بن عُقيل. وعنه قيس ابن الربيع، وعبد الملك بن مسلم بن سلاّم، وإسرائيل، وشَريك، والسفيانان، وغيرهم. قَالَ البخاريّ: فيه نظر. وَقَالَ أبو حاتم: يُكتب حديثه. وَقَالَ يعقوب بن سفيان: ثقة منْ كبراء أهل الكوفة، يميل إلى التشيّع. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: مات سنة (157)، وَقَالَ فِي "الضعفاء": فَحُش خطؤه، حَتَّى بطل الاحتجاج به. وذكره الْعُقيليّ، وابن عديّ فِي "الضعفاء". رَوَى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد" حديثًا واحداً، والمصنّف، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.
4 -
(حُكيم بن سَعْد) الحنفيّ، أبو تحِيء -بمثتاة فوقيّة مكسورة- الكوفيّ، صدوقٌ [3].
رَوَى عن عمار، وأبي موسى، وعلي، وأبي هريرة، وأم سلمة. وعنه أبو إسحاق السبيعي، وعمران بن ظبيان، وليث بن أبي سليم، وجعفر بن عبد الرحمن الأنصاريّ، شيخ للأعمش، والأعمش فيما قَالَ البخاريّ. قَالَ ابن معين: محله الصدق، يكتب حديثه. وَقَالَ العجليّ: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ فيها: ومنهم منْ قَالَ حكِيم -يعني بالفتح- قَالَ: والأصح حُكيم -بالضم-. وَقَالَ ابن أبي حاتم: ذكر أبي عن إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين، قَالَ: حُكيم بن سعد ليس به بأس. قَالَ: وسألت أبي عنه؟ فَقَالَ: يكتب حديثه، محله الصدق. رَوَى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، والمصنّف هَذَا الْحَدِيث فقط.
5 -
(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بِهِ رَدْعٌ) بفتح الراء، وسكون الدال المهملة، بعدها عين مهملة، وقيل: معجمة: أي لَطْخٌ، لم يعمّ البدن كلّه (مِنْ خَلُوقٍ) بفتح الخاء المعجمة، وضمّ اللام، آخره قاف، تقدّم تفسيره أول الباب (فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اذْهَبْ فَانْهَكْهُ) بوصل الهمزة، وقطعها، يقال: نَهكتُ الشيءَ نَهْكًا، منْ بابي نفع، وتعِب: إذا بالغت فيه، ونهكته الْحُمّى: هَزَلته، ونَهَكه السلطان عقوبةٌ: بالغ فِي ذلك، وأنهكه بالألف لغة، أفاده فِي "المصباح". والمعنى هنا: بالغ فِي غسلك إياه (ثُمَّ أَتَاهُ) أي بعدما غسله، ولكنه ما أنقاه (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (اذْهَبْ فَانْهَكْهُ"، ثُمَّ أَتَاهُ) أي بعد ما غسله المرّة الثانية، ولكنه ما أزاله بالكليّة (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (اذْهَبْ فَانْهَكْهُ، ثُمَّ لَا تَعُدْ) أي لا ترجع إلى استعماله مرّةً أخرى، فإنه لا يليق بالرجال. قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: يدلّ الْحَدِيث عَلَى شدّة كراهة استعمال ما له لونٌ للرجال. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
والحديث تفرد به المصنّف هنا -34/ 5122 - وفي "الكبرى" 42/ 9415، وهو ضعيف؛ لضعف عمران بن ظبيان، كما مرّ فِي ترجمته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5123 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَفْصِ بْنَ عَمْرٍو، وَقَالَ عَلَى إِثْرِهِ: يُحَدِّثُ عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ، أَنَّهُ مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُتَخَلِّقٌ، فَقَالَ لَهُ: "هَلْ لَكَ امْرَأَةٌ". قُلْتُ: لَا. قَالَ: "فَاغْسِلْهُ، ثُمَّ اغْسِلْهُ، ثُمَّ لَا تَعُدْ").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني البصريّ، ثقة [10] 5/ 5.
2 -
(خالد) بن الحارث الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.
3 -
(شبعة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت [7] 24/ 27.
4 -
(عطاء بن السائب) الثقفيّ، أبو محمد الكوفيّ، صدوقٌ اختلط [5] 152/ 243.
5 -
(أبو حفص بن عمرو) وقيل: عبد الله بن حفص، وقيل: حفص بن عبد الله،
مجهول، لم يرو عنه غير عطاء بن السائب [4].
وفي "تهذيب التهذيب": عبد الله بن حفص، عن يعلى بن مرة، فِي النهي عن الخلوق، وعنه عطاء بن السائب، قاله ابن عيينة وغيره عنه. وَقَالَ حماد بن سلمة عنه: عن حفص بن عبد الله. ورواه شعبة عن عطاء بن السائب، عن أبي حفص بن عمرو، وقيل عنه غير ذلك، وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ عليّ بن المديني: عبد الله بن حفص لا نعرفه، ولم يرو عنه غير عطاء بن السائب. ونقل ابن عدي عن عثمان الدارمي قَالَ: قلت ليحيى بن معين: فعبد الله بن حفص الذي يُروَى عنه؟ فَقَالَ: شيخ لا أعرفه، قَالَ ابن عدي، وأنا أيضًا لا أعرفه، لا أدري منْ أين عرفه عثمان، حَتَّى سأل عنه؟ كذا قَالَ. تفرد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.
6 -
(يعلى بن مرة) بن وهب بن جابر بن عتاب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد ابن عوف بن قيسي، وهو ثقيف، أبو المرازم -بضمّ أوله، وتخفيف الراء، وكسر الزاي- الثقفيّ، وهو يعلى بن سيابة، وفرق أبو حاتم بينهما، وسيابة -بكسر المهملة، وتخفيف التحتانيّة، ثم موحّدة- أمه، شهد الحديبية، وخيبر، والفتح مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، رَوَى عنه أحاديث، وعن أبيه، وهو وهم، وعلي بن أبي طالب. وعنه ابناه عبد الله، وعثمان، وراشد بن سعد، وعبد الله بن حفص بن أبي عقيل، وأبو البختري، وجماعة، منهم منْ أرسل عنه، كعطاء بن السائب، والمنهال بن عمرو، قَالَ ابن سعد: أَمَره النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الطائف، بقطع أعناب ثقيف.
رَوَى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود فِي "القدر"، والترمذي، وابن ماجه، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب حديث الباب فقط، كرّره أربع مرّات. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ) الثقفيّ الكوفيّ، صدوقٌ اختلط [5] 152/ 243، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَفْصِ بْنَ عَمْرٍو، وَقَالَ عَلَى إِثْرِهِ) وقوله:"وَقَالَ عَلَى إثره" -بفتحتين- أو بكسر الهمزة، وسكون المثلّثة-: أي عقبه، يعني أنه بعد أن قَالَ: سمعت أبا حفص بن عمرو، قَالَ: يُحدّث الخ (يُحَدِّثُ عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ) رضي الله عنه (أَنَّهُ مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَخَلِّقٌ) أي متلطّخ بالخلوق (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَهُ: هَلْ لَكَ امْرَأَةٌ؟) فيه إشارة إلى أن هَذَا منْ طيب النِّساء، لا منْ طيب الرجال، قَالَ يعلى رضي الله عنه (قُلتُ: لَا، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَاغْسِلْهُ، ثُمَّ
اغْسِلْهُ) أي أعد غسله مبالغةً فِي إزالته، وفي الرواية الآتية آخر الباب كرّر الأمر بالغسل ثلاث مرّات، قَالَ المظهر: أمره بغسله ثلاث مرّات للمبالغة، وقيل: الأظهر أنه لا يذهب لونه إلا بغسله ثلاثًا. ذكره فِي "تحفة الأحوذيّ" 8/ 86 (ثُمَّ لا تَعُدْ) بفتح أوله، وضمّ ثانيه: أي لا ترجع إلى استعماله مرّةً أخرى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث يعلى بن مرّة رضي الله عنه هَذَا ضعيفٌ؛ لجهالة أبي حفص بن عمرو، ولا يقال: إن فيه أيضًا عطاء بن السائب، وَقَدْ اختلط بآخره؛ لأن الراوي عنه شعبة، وهو ممن رووا عنه قبل اختلاطه، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -34/ 5122 و5123 و5124 و5125 و5126 و5127 - وفي "الكبرى" 42/ 9416 و9417 و9418 و9419 و9420. وأخرجه (ت) فِي "الأدب" 2816 (أحمد) فِي "مسند الشاميين" 17099 و17120. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5124 -
(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَفْصِ بْنَ عَمْرٍو، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَبْصَرَ رَجُلاً مُتَخَلِّقًا، قَالَ: "اذْهَبْ فَاغْسِلْهُ، ثُمَّ اغْسِلْهُ، وَلَا تَعُدْ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو داود": هو سليمان بن داود الطيالسيّ. والحديث ضعيفٌ؛ لجهالة شيخ عطاء، كما سبق فِي الْحَدِيث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5125 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَمْرٍو، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ يَعْلَى نَحْوَهُ. خَالَفَهُ سُفْيَانُ، رَوَاهُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ يَعْلَى).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: غرض المصنّف بسوق هذه الرواية بيان الاختلاف فِي الْحَدِيث، ففي رواية محمد بن عبد الأعلى، عن خالد الهجيميّ، عن شعبة، سمّى شيخ عطاء أبا حفص بن عمر، وفي رواية أبي داود الطيالسيّ، عن شعبة، سماه حفص بن عمرو، وفي رواية أخرى لأبي داود، عن شعبة، سماه ابن عمرو، وأدخل بينه وبين
يعلى رجلاً. والله تعالى أعلم.
ثم بين اختلافًا آخر، فَقَالَ:
(خَالَفَهُ سُفْيَانُ) أي خالف شعبةَ سفيانُ بنُ عُيينة فـ (رَوَاهُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ يَعْلَى) يعني أنه سمّى شيخ عطاء عبد الله بن حفص، مخالفًا لشعبة، حيث سمّاه تارة أبا حفص بن عمر، وتارةً حفص بن عمرو، وتارةً ابن عمرو، عن رجل. ثم ساق رواية سفيان، فَقَالَ:
5126 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ النَّضْرِ بْنِ مُسَاوِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ الثَّقَفِيِّ، قَالَ: أَبْصَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَبِي رَدْعٌ مِنْ خَلُوقٍ، قَالَ: "يَا يَعْلَى لَكَ امْرَأَةٌ؟ "، قُلْتُ: لَا، قَالَ: "اغْسِلْهُ ثُمَّ لَا تَعُدْ، ثُمَّ اغْسِلْهُ ثُمَّ لَا تَعُدْ، ثُمَّ اغْسِلْهُ ثُمَّ لَا تَعُدْ"، قَالَ: فَغَسَلْتُهُ ثُمَّ لَمْ أَعُدْ، ثُمَّ غَسَلْتُهُ ثُمَّ لَمْ أَعُدْ، ثُمَّ غَسَلْتُهُ ثُمَّ لَمْ أَعُدْ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن النضر بن مساور": هو المروزيّ، صدوقٌ [10] منْ أفراد المصنّف، وأبي داود. و"سفيان": هو ابن عُيينة.
والحديث ضعيف؛ لجهالة شيخ عطاء، كما سبق بيانه قريباً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5127 -
(أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَعْقُوبَ الصَّبِيحِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ مُوسَى -يَعْنِي مُحَمَّدًا- قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ يَعْلَى، قَالَ: مَرَرْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَا مُتَخَلِّقٌ، فَقَالَ: "أَيْ يَعْلَى هَلْ لَكَ امْرَأَةٌ؟ "، قُلْتُ: لَا، قَالَ: "اذْهَبْ فَاغْسِلْهُ، ثُمَّ اغْسِلْهُ، ثُمَّ اغْسِلْهُ، ثُمَّ لَا تَعُدْ"، قَالَ: فَذَهَبْتُ، فَغَسَلْتُهُ، ثُمَّ غَسَلْتُهُ، ثُمَّ غَسَلْتُهُ، ثُمَّ لَمْ أَعُدْ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "إسماعيل بن يعقوب الصَّبِيحيّ" -بفتح الصاد المهملة، وكسر الموحّدة-: نسبة إلى جدّه صَبِيح، وهو أبو محمد الْحَرّانيّ، ثقة [11] 70/ 2376 منْ أفراد المصنّف. و"محمد بن موسى": هو ابن أعين الْجَزَريّ، أبو يحيى الْحَرَانيّ، صدوقٌ، منْ كبار [10] 4/ 403 منْ أفراد البخاريّ، والمصنّف. و"أبوه": هو موسى بن أعين الْجَزَريّ، مولى قريش، أبو سعيد، ثقة عابد [8] 11/ 415.
[تنبيه]: زاد الحافظ المزيّ رحمه الله تعالى منْ بيان الاختلاف عَلَى ما هنا، فَقَالَ فِي "تحفة الأشراف" 9/ 118 - 119 - بعدما ذكر الاختلاف المذكور هنا: ما نصّه: رواه
روح بن عبادة، عن شعبة، عن عطاء، قَالَ: سمعت أبا حفص بن عمرو، أو أبا عمرو ابن حفص الثقفيّ. ورواه ورقاء بن عُمر، عن عطاء، فَقَالَ: عبد الله بن حفص بن أبي عقيل. ورواه حمّاد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن حفص بن عبد الله، عن يعلى. انتهى.
والحديث ضعيفٌ، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
35 - (مَا يُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ مِنَ الطِّيبِ)
5128 -
(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ثَابِتٌ -وَهُوَ ابْنُ عُمَارَةَ- عَنْ غُنَيْمِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ الأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ، فَمَرَّتْ عَلَى قَوْمٍ؛ لِيَجِدُوا مِنْ رِيحِهَا، فَهِيَ زَانِيَةٌ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(إسماعيل بن مسعود) الْجَحْدريّ البصريّ، ثقة [10] 42/ 47 منْ أفراد المصنّف.
2 -
(خالد) الْهُجَيميّ المذكور فِي الباب الماضي.
3 -
(ثابت عُمارة) الحنفيّ، أبو مالك البصريّ، صدوقٌ
(1)
[6].
رَوَى عن غُنيم بن قيس، وأبي تميمة الهجيمي، وأبي الحوراء السعدي، وريطة بنت حريث، وغيرهم. وعنه شعبة، وأبو بحر البكراوي، ويحيى بن سعيد، وعثمان بن عمر ابن فارس، والنضر بن شميل، ومحمد بن عبد الله الأنصاريّ، وجماعة.
قَالَ عليّ بن المديني: سألت يحيى بن سعيد عنه؟ فَقَالَ: هؤلاء أقوى منه -يعني عبد المؤمن، وعبد ربه-. وَقَالَ عبد الله بن أحمد عن أبيه: ليس به بأس. وَقَالَ ابن
(1)
هكذا قَالَ فِي "التقريب": صدوقٌ فيه لين، وعندي أن الأولى فيه أن يقال: صدوقٌ، فقط؛ إذ أكثر النقّاد عَلَى توثيقه، وأبو حاتم معروف بالتشدّد، فلا اعتبار بمخالفته، ويكفيه فِي المقابل كلام شعبة، فتفطّن.
معين: ثقة. وَقَالَ أبو حاتم: ليس عندي بالمتين. وَقَالَ النسائيّ: لا بأس به. وَقَالَ ابن حبّان فِي "الثقات": تُوفّي سنة (149). وَقَالَ البزار: مشهور. وَقَالَ البخاريّ: حدثنا حسين ابن حريث، سمعت النضر بن شميل، يقول: قَالَ شعبة: تأتوني، وتدعون ثابت ابن عمارة؟. وَقَالَ الدارقطنيّ فِي "الجرح والتعديل": ثقة. رَوَى له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وله عند فِي هَذَا الكتاب حديث الباب فقط.
4 -
(غُنيم بن قيس) المازنيّ الكعبيّ، أبو العنبر البصريّ، ثقة مخضرم [2].
أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يره، ووفد عَلَى عُمَر، وغزا مع عقبة بن غزوان. رَوَى عن أبيه، وله صحبة، وسعد بن أبي وقاص، وأبي موسى الأشعري، وابن عمر، وأبي العوّام، مؤذن بيت المقدس. ورَوَى عنه سليمان التيمي، وعاصم الأحول، وخالد الحذّاء، وثابت بن عمارة الحنفي، وأبو السَّلِيل، ضُرَيب بن نُقَير، ويزيد الرَّقَاشي. ذكره ابن سعد فِي الطبقة الأولى، منْ أهل البصرة، وَقَالَ: كَانَ ثقة، قليل الْحَدِيث. وَقَالَ النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ شعبة، عن عاصم الأحول، عن غنيم بن قيس: إني أذكر أبياتا، قالها أبي، عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم[منْ مشطور الرجز]:
أَلَا لِيَ الْوَيْلُ عَلَى مُحَمَّدِ
…
قَدْ كُنْتُ مِنْ جَنَابِهِ بِمُقْعَدِ
…
أَنَامُ لَيْلِي آمِنًا إِلَى الْغَدِ
قَالَ ابن حبّان فِي "الثقات": مات سنة تسعين. وَقَالَ عبد الغني بن سعيد المصريّ: له رؤية، وكذا قَالَ ابن ماكولا، قَالَ الحافظ: وهو وارد عَلَى جزم المزي بأنه لم يره. يعني الكلام الماضي فِي أول الترجمة.
رَوَى له مسلم، والأربعة، له عند مسلم حديثٌ واحدٌ فِي المتعة، وعند الثلاثة حديث الباب، وعند ابن ماجه حديث:"مَثَلُ القلب مثل رِيشة".
5 -
(الأشعريّ) عبد الله بن قيس بن سُليم بن حضّار، أبو موسى الصحابيّ الشهير رضي الله تعالى عنه 3/ 3. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فمن أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَن) أبي موسى عبد الله بن قيس، أبو موسى رضي الله عنه (الأشعريّ) -بفتح الهمزة-: نسبة إلى قبيلة مشهورة باليمن، والأشعر هو نَبْت بن أُدَد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، سمي بذلك لأن أمه ولدته والشعر عَلَى بدنه. قاله فِي "لبّ اللباب" 1/ 63. أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ) أي استعملت العطر، وهو الطيب الذي يظهر ريحه، ولفظ الترمذيّ: "كلُّ عين زانية، والمرأة إذا استعطرت، فمرّت بالمجلس، فهي كذا وكذا" -يعني زانية"(فَمَرَّتْ عَلَى قَوْمٍ؛ لِيَجِدُوا مِنْ رِيحِهَا) أي لأجل أن يشمّوا منْ عطرها (فَهِيَ زَانِيَةٌ) أي فعليها إثم الزانية؛ لأنها هيّجت شهوة الرجال بعطرها، وحملتهم عَلَى النظر إليها، ومن نظر إليها، فقد زنى بعينيه، فهي سبب زنى العين، فهي آثمة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيحٌ، وَقَدْ حسّنه بعضهم، والظاهر أن تحسينه لقول الحافظ فِي "التقريب" فِي ثابت بن عُمارة: فيه لين، وهذا عندي محل نظر، إذ الأكثرون عَلَى توثيقه، وأما أبو حاتم، فمعروف بالتشدّد، فلا تضرّ مخالفته فِي مثل هَذَا، وأما كلام يحيى القطّان الماضي، فلا يؤدّي إلى هَذَا، كما هو ظاهر، وَقَدْ وُجد فِي المقابل كلام شعبة: تأتوني، وتدَعون عمارة، وهذا غاية فِي التوثيق.
والحاصل أنه ثقة، فكان أولى العبارة للحافظ أن يقول: صدوقٌ، فقط، نظرًا لكلام أبي حاتم، دون زيادة "فيه لين". فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -35/ 5128 - وفي "الكبرى" 43/ 9422. وأخرجه (د) فِي "الترجّل" 4173 (ت) فِي "الأدب" 2786 (أحمد) فِي "مسند الكوفيين" 19081 و19212 و19248 (الدارميّ) فِي "الاستئذان" 2532.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان ما يُكره للنساء منْ الطيب، وهو الذي تتعطر به عند خروجها منْ بيتها. (ومنها): أن فيه تحريم خروج المرأة
متعطّرة. (ومنها): أن كلّ ما يكون سببا إلى الشيء، فله حكمه، حيث جعل النبيّ صلى الله عليه وسلم المرأة زانية، بسبب أنها تسبّبت لحمل الرجال عَلَى أن يزنوا بها بالنظر بأعينهم؛ لأن العين إذا نظرت إلى الأجنبيّة تكون زانية. (ومنها): تحريم شمّ ريح المرأة إذا مرّت متعطّرة، بل الواجب أن يسدّ أنفه؛ لئلا يكون زانيًا بأنفه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
36 - (اغْتِسَالِ الْمَرْأَةِ مِنَ الطِّيبِ)
5129 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْهَاشِمِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ صَفْوَانَ بْنَ سُلَيْمٍ، وَلَمْ أَسْمَعْ مِنْ صَفْوَانَ غَيْرَهُ، يُحَدِّثُ عَنْ رَجُلٍ ثِقَةٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا خَرَجَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَلْتَغْتَسِلْ مِنَ الطِّيبِ، كَمَا تَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ
…
". مُخْتَصَرٌ).
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن إسماعيل بن إبراهيم) المعروف أبوه بابن عليّة البصريّ، نزيل دمشق، وقاضيها، ثقة [11] 22/ 489 منْ أفراد المصنّف.
2 -
(سليمان بن داود بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس الهاشميّ) أبو أيوب البغداديّ الفقيه الثقة الجليل، قَالَ الإمام أحمد: يصلح للخلافة [10] 68/ 1316.
3 -
(إبراهيم بن سعد) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة حجة [8] 196/ 314.
4 -
(صفوان بن سُليم) أبو عبد الله الزهريّ مولاهم المدنيّ، ثقة مفتٍ عابدٌ، رُمي بالقدر [4] 47/ 59.
5 -
(رجل ثقة) هو عبيد بن أبي عبيد، واسم أبي عبيد كثير، مولى أبي رُهم -بضم الراء، وسكون الهاء- صدوقٌ
(1)
[3].
(1)
قَالَ عنه فِي "ت": مقبول، وما قلته أولى؛ لأنه رَوَى عنه جماعة، ووثقه العجليّ، وابن حبّان، ولم يتكلم أحد بجرحه. فتنبّه.
رَوَى عن أبي هريرة. وعنه عاصم بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن الحارث بن عُبيد، وعبد الكريم شيخ لليث بن أبي سُليم، وفُليح بن الشماسيّ. قَالَ البخاريّ: وَقَالَ مؤمّل: عُبيد بن كثير. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وجزم بما حكاه البخاريّ، عن مؤمّل منْ أن اسم أبي عُبيد كثير. وَقَالَ العجليّ: تابعيّ ثقة. رَوَى له أبو داود، والنسائي، وابن ماجه حديثًا واحداً فِي ذمّ تطيّب المرأة إذا خرجت إلى المسجد -يعني حديث الباب- قاله فِي "تهذيب التهذيب" 3/ 38.
6 -
(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ منْ رَوَى الْحَدِيث فِي عصره.
(ومنها): أن فيه قوله: "عن رجل ثقة" بالإبهام، وَقَدْ اختَلَفَ العلماء فِي توثيق المبهم، هل يُقبل، أم لا؟:
قَالَ فِي "التقريب" مع شرحه "التدريب": وإذا قَالَ: حدّثني الثقة، أو نحوه، منْ غير أن يسمّيه، لم يُكتفَ به فِي التعديل عَلَى الصحيح، حَتَّى يسميه؛ لأنه وإن كَانَ ثقة عنده، فربما لو سمّاه لكان ممن جرحه غيره بجرح قادح، بل إضرابه عن تسميته ريبة توقع تردّداً فِي القلب، بل زاد الخطيب أنه لو صرّح بأن كلّ شيوخه ثقات، ثم رَوَى عمن لم يسمه لم يُعمل بتزكيته؛ لجواز أن يُعرف إذا ذكره بغير العدالة. وقيل: يُكتفى بذلك مطلقًا، كما لو عيّنه؛ لأنه مأمون فِي الحالتين. فإن كَانَ القائل عالمًا مجتهدًا، كمالك، والشافعيّ، وكثيرًا ما يفعلان ذلك، كَفَى فِي حقّ موافقه فِي المذهب، لا غيره عند بعض المحققين، قَالَ ابن الصبّاغ: لأنه لم يورد ذلك احتجاجاً بالخبر عَلَى غيره، بل يذكر لأصحابه قيام الحجة عنده عَلَى الحكم، وَقَدْ عَرف هو منْ رَوَى عنه ذلك، واختاره إمام الحرمين، ورجحه الرافعيّ فِي "شرح المسند"، وفرضه فِي صدور ذلك منْ أهل التعديل. وقيل: لا يكفي أيضًا حَتَّى يقول: كل منْ أروي لكم عنه، ولم أسمه فهو عدل. قَالَ الخطيب: وَقَدْ يوجد فِي بعض منْ أبهموه الضعف؛ لخفاء حاله، كرواية مالك عن عبد الكريم بن أبي المخارق. انتهى "التقريب مع شرحه التدريب" 1/ 310 - 311.
وإلى هَذَا أشار الحافظ السيوطيّ رحمه الله تعالى فِي "ألفية الْحَدِيث"، حيث قَالَ:
وَإِنْ يَقُلْ حَدَّثَ مَنْ لا أتَّهِمْ
…
أَوْ ثِقَةٌ أَوْ كُلُّ شَيْخٍ لِي وُسِمْ
بِثِقَةٍ ثُمَّ رَوَى عَنْ مُبْهَمِ
…
لا يُكْتَفَى عَلَى الصَّحِيحِ فَاعْلَمِ
وَيُكْتَفَى مِنْ عَالِمٍ فِي حَقِّ مَنْ
…
قَلَّدَهُ وقِيلَ لا مَا لَمْ يُبَنْ
والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ رَجُلٍ ثِقَةٍ) غير مسمّى، قَالَ الحافظ فِي "النكت الظِّراف": هَذَا الذي لم يسمّه صفوان بن سليم، سمّاه عاصم بن عُبيد الله بن عاصم، عن عمّه، عن أبي هريرة، أخرجه أحمد منْ وجه آخر عن شعبة، وعن سفيان، وأخرجه أيضاً ابن عيينة، عن عاصم، لكن عنده عن مولى ابن أبي رُهْم. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "عن عمّه" هكذا نسخة "النكت"، والظاهر أنه مصحّف عن "عُبيد"؛ لأنه الذي عند الإمام أحمد رحمه الله تعالى، فقد رواه فِي "مسنده" 2/ 461: عن عبد الرحمن بن مهديّ، عن سفيان الثوريّ، عن عاصم بن عبيد الله، عن عُبيد، مولى أبي رهم، قَالَ: خرجت مع أبي هريرة رضي الله عنه منْ المسجد
…
الْحَدِيث. و2/ 444 عن وكيع، عن سفيان، عن عاصم، عن عبيد، مولى أبي رُهم. ورواه فِي 2/ 297 - عن محمد بن جعفر -غندر- عن شعبة، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبيد، مولى لأبي رهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه
…
الْحَدِيث. ورواه عن ابن عيينة، عن عاصم، عن مولى ابن أبي رهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.
(عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا خَرَجَتِ الْمَرْأَةُ) أي منْ بيتها (إِلَى الْمَسْجِدِ، فَلْتَغْتَسِلْ مِنَ الطِّيبِ) قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: ظاهر أنها إذا أرادت الخروج إلى المسجد، وهي قد استُعملت الطيب فِي البدن، فلتغتسل منه، وتبالغ فيه، كما تبالغ فِي غسل الجنابة، حَتَّى يزول عنها الطيب بالكلّيّة، ثم لتخرج، ومثله قوله تعالى: {فإِذا قرأت القُرآن فاستعِذ بِاللهِ} الآية [النحل: 98]، لا أنها إذا خرجت بطيب، ثم رجعت، فعليها الغسل لذلك، لكن رواية أبي داود ظاهرة فِي الثاني، فقيل: أمرها بذلك تشديدًا عليها، وتشنيعًا لفعلها، وتشبيهًا له بالزنا، وذلك لأنها هيّجت بالتعطّر شهوات الرجال، وفتحت باب عيونهم التي بمنزلة بريد الزنا، فحكم عليها بما يحكم عَلَى الزاني منْ الاغتسال منْ الجنابة. والله تعالى أعلم. انتهى "شرح السنديّ" 8/ 154.
(كَمَا تَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ) أي غسلاً مماثلاً لغسل الجنابة فِي استيعاب جميع الجسد، قَالَ القاري: بأن تَعُمّ جميع بدنها بالماء، إن كانت تطيّبت فِي جميع بدنها؛ ليزول عنها
الطيب، وأما إذا أصاب موضعًا مخصوصًا، فتغسل ذلك الموضع. انتهى. وتعقّبه صاحب "عون المعبود" 11/ 154، فَقَالَ: ظاهر الْحَدِيث يدلّ عَلَى الاغتسال فِي كلتا الصورتين. والله أعلم. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله صاحب "العون" هو الحقّ؛ إذ يحتمل أن يكون غرض الاغتسال مع إزالته الطيب تكفير معصيتها، كما يكون الوضوء مكفّراً للذنوب. والله تعالى أعلم.
وقوله: (مُخْتَصَرٌ) خبر لمبتدإ محذوف: أي هَذَا الْحَدِيث مختصر منْ حديث مطوّل، وَقَدْ ساقه الإمام أحمد فِي "مسنده"، وأبو داود فِي "سننه" مطوّلاً، ونصّ أحمد 2/ 461:
حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبيد مولى أبي رهم، قَالَ: خرجت مع أبي هريرة رضي الله عنه منْ المسجد، فرأى امرأة تَنضَخ طيبا، لذيلها إعصار، قَالَ: يا أمة الجبار، منْ المسجد جئتِ؟، قالت: نعم، قَالَ: وله تطيبتِ؟ قالت: نعم، قَالَ: فارجعي، فإني سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يقبل الله لامرأة صلاة تطيبت للمسجد"، أو "لهذا المسجد، حَتَّى تغتسل غسلها منْ الجنابة".
وفي رواية عن عبيد مولى لأبي رهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه لقي امرأة، فوجد منها ريح إعصار طيبة، فَقَالَ لها أبو هريرة: المسجد تريدين؟ قالت: نعم، قَالَ: وله تطيبت؟ قالت: نعم، قَالَ أبو هريرة: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منْ امرأة تطيبت للمسجد، فيقبل الله لها صلاة، حَتَّى تغتسل منه اغتسالها منْ الجنابة"، فاذهبي، فاغتسلي.
وَقَالَ الإمام أبو داود رحمه الله تعالى:
حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سفيان، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبيد مولى أبي رُهْم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: لقيته امرأة، وجد منها ريح الطيب ينفح، ولذيلها إعصار، فَقَالَ: يا أمة الجبار، جئت منْ المسجد؟ قالت: نعم، قَالَ: وله تطيبت؟ قالت: نعم، قَالَ: إني سمعت حِبِّي أبا القاسم، صلى الله عليه وسلم يقول:"لا تُقبل صلاة لامرأة تطيبت لهذا المسجد، حَتَّى ترجع، فتغتسل غسلها منْ الجنابة". قَالَ أبو داود: الإعصار غُبار. انتهى.
وأخرج البيهقيّ فِي "السنن الكبرى" 3/ 133 - منْ طريق بشر بن بكر، عن الأوزاعي، عن موسى بن يسار، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أنه لقي امرأة، تعصف ريحها، فَقَالَ: يا أمة الجبار، تريدين المسجد؟ قالت: نعم، قَالَ: وله تطيبت، قالت: نعم، قَالَ: فارجعي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "ما منْ امرأة تخرج إلى
المسجد، فتعصف ريحها، فيقبل الله منها صلاة، حَتَّى ترجع فتغتسل".
وأخرج أيضًا منْ طريق العبّاس بن الوليد بن مزيد، عن أبيه، عن الأوزاعي، عن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي عبيد، منْ أشياخ كوثى
(1)
، مولى أبي رهم الغفاري، عن جده، قَالَ: خرجت مع أبي هريرة، منْ المسجد ضحى، فلقيتنا امرأة بها منْ العطر شيء، لم أجد بأنفي مثله قط، فَقَالَ لها أبو هريرة: عليك السلام، فقالت: وعليك، قَالَ: فأين تريدين؟ قالت: المسجد، قَالَ: ولأي شيء تطيبت بهذا الطيب؟، قالت: للمسجد، قَالَ آلله؟ قالت: الله، قَالَ آلله، قالت: الله، قَالَ: فإن حبي أبا القاسم، صلى الله عليه وسلم، أخبرني، أنه لا تُقبل لامرأة صلاة، تطيبت بطيب لغير زوجها، حَتَّى تغتسل منه غسلها منْ الجنابة، فاذهبي، فاغتسلي منه، ثم ارجعي، فصلي. قَالَ البيهقيّ: جده أبو الحارث، عبيد بن أبي عبيد، وهو عبد الرحمن بن الحارث بن أبي الحارث بن أبي عبيد. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح.
[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه رجل لم يُسمّ، وهو وإن وثّقه الراوي عنه، إلا أن توثيق المبهم لا يكفي عَلَى الصحيح منْ أقوال المحدّثين، كما تقدّم قريباً؟.
[قلت]: إنما صحّ لأمرين: [أحدهما]: أنه سُمّي عُبيدًا مولى أبي رُهم، عند الإمام أحمد، كما سبق بيانه، فهو، وإن كَانَ منْ رواية عاصم إلا أنه لم ينفرد بتسميته، فقد سمّاه عبد الرحمن بن بن الحارث بن أبي عبيد فِي رواية البيهقيّ المتقدّمة، وعبد الرحمن قَالَ عنه ابن أبي حاتم عن أبي زرعة: لا بأس به. ثم إن عبيداً هَذَا رَوَى عنه جماعة، ووثقه العجليّ، وابن حبّان، كما تقدّم.
[والثاني]: أنه لم ينفرد به الرجل عن أبي هريرة، بل تابعه عليه موسى بن يسار، وهو مدنيّ ثقة، منْ رجال الصحيح، كما سبق منْ رواية البيهقيّ أيضًا.
والحاصل أن حديث الباب صحيح. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -36/ 51229 - وفي "الكبرى" 44/ 9423. وأخرجه (د) فِي "الترجّل"
(1)
"كُوثَى" بالضمّ والقصر: قرية بالعراق، ومَحِلّة بمكة لبني عبد الدار. أفاده فِي "القاموس".
4174 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 7309 و7899 و7975 و8555 و9434 و9621. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان مشروعيّة الاغتسال للمرأة التي خرجت منْ بيتها متعطّرة. (ومنها): أنه يحرم عَلَى المرأة خروجها متعطّرةً، ولو إلى محلّ العبادة، كالمسجد؛ لأنه يؤدّي إلى افتتان الرجال بها. (ومنها): أنها إذا فعلت ذلك ينبغي لها أن ترجع، ويكون منْ تمام توبتها الاغتسال الكامل، وهو غسل الجنابة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
37 - (النَّهْيُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَشْهَدَ الصَّلَاةَ إِذَا أَصَابَتْ مِنَ الْبَخُورِ)
5130 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عِيسَى الْبَغْدَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلْقَمَةَ الْفَرْوِيُّ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا، فَلَا تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ الآخِرَةَ".
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا تَابَعَ يَزِيدَ بْنَ خُصَيْفَةَ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَلَى قَوْلِهِ:"عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ"، وَقَدْ خَالَفَهُ يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ، رَوَاهُ عَنْ زَيْنَبَ الثَّقَفِيَّةِ).
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(محمد بن هشام بن عيسى بن عبد الرحمن البغداديّ) الطالَقانيّ المرُّوذيّ -بتشديد الرء المضمومة- القصير نزيل بغداد ثقة [10].
رَوَى عن هشيم، وأبي بكر بن عياش، وأبي معاوية، وعلي بن ثابت الجزري، وحفص بن غياث، وابن عُلية وأبي علقمة الفروي، وعمر بن أيوب الموصلي، وجعفر بن عون، وعدة. وعنه البخاريّ، وأبو داود، والنسائي، وابن ابنه أبو نصر محمد، وابن ناجية، والبُجيري، وأحمد بن عبد الله بن بجير الذهلي، وابن المسيب الأرغياني،
ومحمد بن هشام بن أبي الزميل، ومحمد بن إسحاق السراج، وابن صاعد، ومحمد بن هارون الحضرميّ، وآخرون. وسمع منه أحمد، ويحيى. قَالَ ابن حبّان فِي "الثقات": مستقيم الْحَدِيث. وَقَالَ الخطيب: كَانَ ثقة. وَقَالَ السراج: سمعته يقول: وُلدت فِي آخر سنة ستين ومائة، أو أول سنة إحدى، وتُوفّي ببغداد سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وفيها أرّخه البغوي، وزاد فِي رَجَب. وأرّخه بن قانع فِي سنة إحدى وخمسين. وفي "الزهرة": رَوَى عنه البخاريّ ثلاثة أحاديث، لكنه جعله الذي قبله -يعني محمد بن هشام بن شَبيب- فوهم. رَوَى عنه البخاريّ، ومسلم، والمصنّف، وأبو داود، وله فِي هَذَا الكتاب حديث الباب فقط.
2 -
(أبو علقمة الفرويّ، عبد الله بن محمد) بن عبد الله بن أبي فروة الأمويّ مولاهم المدنيّ، صدوقٌ، عُمّر مائة سنة، ومات سنة (190)[8] 8/ 510.
3 -
(يزيد بن خُصيفة) هو يزيد بن عبد الله بن خُصيفة بن عبد الله بن يزيد الكنديّ المدنيّ، نُسب لجدّه، ثقة [5] 50/ 960.
4 -
(بُسر بن سعيد) المدنيّ العابد، مولى الحضرميّ، ثقة جليلٌ [2] 11/ 517.
5 -
(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، كما مرّ آنفاً. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، كما مرّ آنفاً أيضًا. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ) "أيما" شرطيّة، جوابها قوله: "فلا تشهد" (أَصَابَتْ بَخُورًا) بفتح الباء الموحّدة، وضمّ الخاء المعجمة، كصبور: ما يُتبخّر به، والمراد به هنا ما ظهر ريحه (فَلَا) ناهية، ولذا جُزم بها قوله (تَشْهَدْ) أي لا تحضر (مَعَنَا الْعِشَاءَ الآخِرَةَ) أي لأن الليل مظنّة الفتنة، فالتخصيص بالعشاء الآخرة لمزيد التأكيد، أو لأن النِّساء يخرجن فِي العشاء الآخرة إلى المسجد، فنهاهنّ عن الحضور متطيبّات. وَقَالَ السنديّ: لعلّ التخصيص به؛ لأن الخوف عليهنّ فِي الليل أكثر، أو لأن عادتهنّ استعمال البخُور فِي الليل لأزواجهنّ. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -37/ 5130 و5265 - وفي "الكبرى" 45/ 9424 وأخرجه (م) فِي "الصلاة" 444 (د) فِي "الترجّل" 4175 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين"7975.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان نهي المرأة عن شهود الصلوات إذا أصابت شيئًا منْ البَخُور. (ومنها): أن فيه إشارة إلى جواز حضور النِّساء المساجد للصلاة، إذا لم يتطيّبن، وَقَدْ سبق فِي "كتاب الصلاة" حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، مرفوعًا:"إذا استأذنت أحدَكم امرأته إلى المسجد، فلا يمنعها"، وحديثه:"لا تمعنوا إماء الله مساجد الله"، وَقَدْ شرط العلماء لذلك شروطًا، مأخوذة منْ الأحاديث، وهي: أن لا تكون متطيّبة، ولا متزيّنةً، ولا ذات خلاخل، يُسمع صوتها، ولا ثياب فاخرة، ولا مختلطةً بالرجال، ولا شابّةً، ونحوها ممن يُفتتن بها، وأن لا يكون فِي الطريق ما يُخاف به مفسدة، ونحوها، والنهي عن منعهنّ منْ الخروج محمول عَلَى كراهة التنزيه، إذا كانت ذات زوج، أو سيّد، ووُجدت الشروط المذكورة، فإن لم يكن لها زوجٌ، ولا سيّدٌ حرُم المنع، إذا وُجدت الشروط. هكذا قاله النوويّ رحمه الله تعالى فِي "شرح مسلم" 4/ 161 - 162.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "ولا شابّة" فيه نظر؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم حينما أمر بالإذن للنساء بالخروج إلى المساجد، ما شرط أن لا تكون شابّة، وإنما شرط أن لا تكون متطيّبة، فالحقّ جوازه لها أيضًا بشروطه. وقوله:"محمول عَلَى الكراهة" فيه نظر أيضًا، فإنه صلى الله عليه وسلم نهى عن منع النِّساء عن الخروج إلى المساجد، والنهي للتحريم، ما لم يصرفه صارف، ولا صارف هنا، فالزوج، والسيّد هما منْ جملة منْ نُهي عن منعهنّ المساجد، فالتفريق بينهما، وبين غيرهما منْ الأولياء مما لا دليل عليه، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتحيّر بالاعتساف. والله تعالى أعلم.
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله تعالى: فيه دليلٌ عَلَى جواز قول الإنسان: العشاء الآخرة، وأما ما نقل عن الأصمعيّ أنه قَالَ: منْ المحال قول العامّة: العشاء الآخرة؛ لأنه ليس لنا إلا عشاء واحدة، فلا توصف بالآخرة، فهذا القول غلط؛ لهذا الْحَدِيث، وَقَدْ ثبت فِي "صحيح مسلم" عن جماعات منْ الصحابة رضي الله عنهم وصفها بالعشاء الآخرة،
وألفاظهم بهذا مشهورة. انتهى "شرح مسلم" 4/ 163. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله: (قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أي النسائيّ رحمه الله تعالى (لَا أَعْلَمُ أَحَدًا تَابَعَ يَزِيدَ بْنَ خُصَيْفَةَ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَلَى قَوْلِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) يعني أن يزيد بن عبد الله ابن خصيفة خالف فِي هَذَا الْحَدِيث حيث جعله منْ مسند أبي هريرة رضي الله عنه، وغيره جعله منْ مسند زينب الثقفيّة رضي الله تعالى عنها، كما بينه بقوله (وَقَدْ خَالَفَهُ يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ، رَوَاهُ عَنْ زَيْنَبَ الثَّقَفِيَّةِ) رضي الله تعالى عنها، وجملة "رواه الخ" فِي محل نصب عَلَى الحال منْ "يعقوب".
وحاصل ما أشار إليه المصنّف رحمه الله تعالى ترجيح رواية يعقوب منْ حديث زينب الثقفيّة؛ لموافقة بكير بن الأشجّ له، عَلَى رواية يزيد منْ حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ لتفرّده، لكن الظاهر أنه لا يضرّ التفرّد فِي ذلك؛ لأن يزيد بن خصيفة ثقة حجة، كما قَالَ ابن معين، فزيادته مقبولة، ولهذا أخرج الإمام مسلم رحمه الله تعالى روايته هذه فِي "صحيحه"، كما أسلفته آنفاً. فتأمّل.
ثم بيّن رواية يعقوب التي أشار إليها بقوله:
5131 -
(أَخْبَرَنِي هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ هِلَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زَيْنَبَ، امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ صَلَاةَ الْعِشَاءِ، فَلَا تَمَسَّ طِيبًا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "هلال بن العلاء بن هلال": هو أبو عمرو الرّقّيّ، صدوقٌ [11] منْ أفراد المصنّف. و"مُعلّى بن أسد": هو الْعَمّيّ، أبو الْهَيثم البصريّ، أخو بهز، ثقة ثبت، منْ كبار [10]. و"وُهيب": هو ابن خالد الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبتٌ، تغيّر بآخره قليلاً [7]. و"محمد بن عجلان ": هو المدنيّ، صدوقٌ، اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة، وهذا ليس منها [5].
و"يعقوب بن عبد الله بن الأشجّ"، مولى بني مخزوم، ويقال: مولى المسور بن مخرمة، ويقال: مولى أشجع، أبو يوسف المدنيّ، وهو أخو بكير بن الأشجّ الآتي فِي السند التالي، ثقة [5].
رَوَى عن أبي أُمامة بن سهل بن حُنيف، وسعيد بن المسيب، وبُسر بن سعيد، والقعقاع بن حَكيم، وكُريب مولى ابن عباس، وأبي صالح السمان، وغيرهم. وعنه جعفر بن ربيعة، والحارث بن يعقوب، ويزيد بن أبي حبيب، وابن عجلان، وابن
إسحاق، والليث بن سعد، وآخرون.
قَالَ ابن معين، والنسائي: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ ابن سعد: قُتل فِي البحر شهيدا، سنة اثنتين وعشرين ومائة، فِي آخر خلافة هشام، وَقَدْ رُويَ عنه، وكان ثقة، وله أحاديث، وكذا قَالَ غير واحد، فِي تاريخ وفاته. وَقَالَ العجليّ: مدني ثقة، نزل مصر. وَقَالَ يحيى بن بكير: كَانَ بالمدينة ثلاثة إخوة، بنو الأشج، لا يُدْرَى أيهم أفضل؟: يعقوب، وعمر، وبكير. وَقَالَ عيسى بن دينار: سمعت ابن القاسم، يقول: بلغني عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج، وكان منْ خيار هذه الأمة، فذكر قصة، قَالَ: ولقد سمعت مالكا وغيره، أن يعقوب قَالَ فِي غزاته التي قتل فيها: إني رأيت أني دخلت الجنة، فسُقيت فيها لبنا، قَالَ: فاستقاء، فقاء اللبن، قَالَ أبو القاسم: وكان فِي البحر بموضع لا لبن فيه. رَوَى له البخاريّ فِي "خلق أفعال العباد"، ومسلم، والمصنف، والترمذي، وابن ماجه، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.
"وزينب امرأة عبد الله": هي بنت معاوية، ويقال: بنت عبد الله بن معاوية، ويقال: زينب بنت أبي معاوية الثقفيّة، زوج عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنهما، ولها رواية عن زوجها، تقدّمت ترجمتها فِي 83/ 2583.
وقوله: "إذا شهدت إحداكن العشاء الخ": قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: معناه: أرادت شهودها، أما منْ شهدتها، ثم عادت إلى بيتها، فلا تُمنع منْ الطيب بعد ذلك. انتهى "شرح مسلم" 4/ 163.
[فائدة مهمّة]: قوله: "فلا تمسّ": "لا" ناهية، والفعل مجزوم بها، فيجوز فِي سينه المشدّدة الكسر، وهو الأصل، والفتح للتخفيف، وذلك أن القاعدة أنه إذا لم يتّصل بآخر الفعل المدغم المجزوم، وشبهه شيء منْ الضمائر جاز فيه ثلاث لغات: الفتح للخفّة مطلقًا، أي فِي مضموم الفاء، كرُدّ، ومكسورها، كفِرّ، ومفتوحها، كعَضّ، وهو لغة بني أسد، وغيرهم، والكسر مطلقًا عَلَى أصل التخلّص منْ التقاء الساكنين، وهو لغة كعب، والإتباع بحركة الفاء، كرُدُ بالضمّ، وفِرِّ بالكسر، وعَضَّ بالفتح، وهذا أكثر فِي كلامهم. قاله الخضريّ فِي "حاشية ابن عقيل عَلَى ألفية ابن مالك" فِي باب الإدّغام 2/ 329.
وهذه القاعدة قد تقدمت مطولة فِي "كتاب الصلاة" برقم 15/ 522 عند شرح قوله: "ما لم تصفرّ الشمس"، وهي مهمة جدًّا؛ لكثرة ما يرد فِي الأحاديث منْ هَذَا النوع، فاحفظها تنفعك فِي مواطن كثيرة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث زينب رضي الله تعالى عنها هَذَا أخرجه مسلم أيضًا.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -132/ 537 و5133 و5134 و5135 و5136 و74/ 5262 و5263 و5264 - وفي "الكبرى" 45/ 9425 و9426 و9427 و46/ 9428 و9429 و47/ 9431 و9432 و9433 و9434. وأخرجه (م) فِي "الصلاة" 443 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 26506. وفوائد الْحَدِيث تقدّمت فِي الْحَدِيث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5132 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا جَرِيرٌ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْعِشَاءَ، فَلَا تَمَسَّ طِيبًا".
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: حَدِيثُ يَحْيَى، وَجَرِيرٍ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ حَدِيثِ وُهَيْبِ بْنِ خَالِدٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "إسحاق بن إبراهيم": هو ابن راهويه. و"جرير": هو ابن عبد الحميد. و"بُكير بن عبد الله بن الأشجّ": هو المدنيّ، نزيل مصر، ثقة [5] وَقَدْ ينُسب لجدّه، وهو أخو يعقوب المذكور فِي السند الماضي.
وقول: (قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: حَدِيثُ يَحْيَى، وَجَرِيرٍ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ حَدِيثِ وُهَيْبِ بْنِ خَالِدٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ).
هكذا فِي نسخ "المجتبى" التي بين يديّ، والظاهر أنه سقط منْ النُّسّاخ رواية يحيى منْ هَذَا الباب، وستأتي فِي 74/ 5262 - وَقَدْ ذكرها فِي "الكبرى"، هنا، ونصّها -بعد أن أخرج طريق يعقوب التي قبل هَذَا-: خالفه يحيى، رواه عن ابن عجلان، عن بُكير ابن عبد الله.
9426 -
أخبرنا عُبيد الله بن سعيد، قَالَ: حدّثنا يحيى بن سعيد، عن ابن عجلان، قَالَ: حدّثني بُكير بن عبد الله بن الأشجّ، عن بسر بن سعيد، عن زينب امرأة عبد الله، قالت: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شَهِدت إحداكنّ العشاء، فلا تمسّ طيبًا".
ثم أخرج طريق جرير التالية، ثم قَالَ: قَالَ أبو عبد الرحمن: وحديث يحيى بن سعيد، وجرير أولى بالصواب منْ حديث وُهيب بن خالد، والله تعالى أعلم. انتهى.
وحاصل ما أشار إليه المصنّف رحمه الله تعالى أن رواية يحيى القطّان، وجرير بن عبد الحميد، كلاهما عن ابن عجلان، عن بُكير بن عبد الله بن الأشجّ، هي المحفوظة، وأما رواية وُهيب بن خالد الماضية، عن ابن عجلان، عن يعقوب بن
عبد الله بن الأشجّ، فغير محفوظة؛ لمخالفتها لروايتهما، فيرجحان عليه؛ لكونهما اثنين، ولموافقة محمد بن عبد الله القرشيّ، وكذا الليث إن صحت روايته لهما فِي ذلك، كما سيأتي بيانه قريباً، إن شاء الله تعالى. والحديث صحيح، كما تقدّم البحث عنه قريباً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5133 -
(أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْحِمْصِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زَيْنَبَ الثَّقَفِيَّةِ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "أَيَّتُكُنَّ خَرَجَتْ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَلَا تَقْرَبَنَّ طِيبًا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أحمد بن سعيد بن يعقوب" الكنديّ، أبو العبّاس الحمصيّ، صدوقٌ [10].
رَوَى عن بقيّة، وعثمان بن سعيد الحمصيّ. وعنه النسائيّ، وسعيد بن عمرو الْبَرْدَعيّ. قَالَ ابن أبي حاتم: كتب إليّ ببعض حديثه عَلَى يدي سعيد. وَقَالَ النسائيّ: لا بأس به. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: حدّثنا عنه مكحول، وغيره. تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.
و"عثمان بن سعيد": هو القرشيّ مولاهم، أبو عمرو الحمصيّ، ثقة عابدٌ [9]. و"الليث": هو ابن سعد الإمام الحجة المصريّ [7].
وقوله: "أيّتكنّ": هي تأنيث "أيّ" الموصولة، مبتدأ، خبرها قوله:"فلا تقربَنّ طيبًا".
وتأنيث "أيّ" الموصولة لغة، قَالَ الفيّوميّ: وإذا كانت "أيّ" موصولة فالأحسن استعمالها بلفظ واحد، وبعضهم يقول: هو الأفصح، وتجوز المطابقة، نحو مررت بأيّهم قام، وبأيتهنّ قامت. انتهى.
ويحتمل أن تكون شرطيّةً، وجوابها "فلا تقربنّ"، و"أيّ" الموصولة تضاف إلى المعارف، بخلاف الشرطيّة، فتضاف إلى النكرات أيضاً، كما قَالَ ابن مالك فِي "الخلاصة":
وَلا تُضِفْ لِمُفْردٍ مُعَرَّفِ
…
"أيّاً" فَإِنْ كَرَّرْتَهَا فَأضِفِ
أَوْ تَنْوِ الاجْزَا واخْصُصَن بِالْمَعْرِفَه
…
مَوْصُولَةً أَيْضًا وَبِالْعَكْسِ الصِّفَهْ
وَإِنْ تَكُنْ شَرْطًا أَوِ اسْتِفْهَامَا
…
فَمُطْلَقَا كَمِّلْ بِهَا الْكَلامَا
وقوله: "فلا تقربنّ" بفتح الراء، منْ باب تعب، ولا يجوز ضمّ الراء هنا؛ لأن قرُب بالضم منْ باب كرُم لازم، ويتعدّى بـ"منْ"، نحو قرُبت منْ زيد، والأول متعدّ بنفسه،
فلذا نصب هنا "طيباً"، كقوله تعالى:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الآية [النِّساء: 43]، وقوله:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} الآية [الإسراء: 32]، فتنبّه.
[تنبيه]: صنيع المصنّف رحمه الله تعالى فِي "الكبرى" أولى مما هنا، فإنه ترجم لهذا الْحَدِيث بما نصّه:
"ذِكرُ الاختلاف عَلَى الليث بن سعد":
9428 -
أخبرنا قتيبة بن سعيد، قَالَ: ثنا الليث، عن عُبيد الله بن أبي جعفر
(1)
، عن بُكير بن عبد الله بن الأشجّ، عن بشر بن سعيد، عن زينب الثقفيّة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أيّتُكنّ خرجت إلى المسجد، فلا تقرَبنّ طيباً".
خالفه عثمان بن سعيد، رواه عن الليث، عن بُكير، ثم ساق رواية عثمان الماضية، ثم قَالَ: قَالَ أبو عبد الرحمن: وحديث قتيبة أولى بالصواب منْ الذي بعده. والله أعلم.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه؛ حاصل ما أشار إليه المصنّف رحمه الله تعالى أنه وقع اختلاف عَلَى الليث بن سعد فِي هَذَا الْحَدِيث، فرواه قتيبة عنه، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن بُكير، فأثبت الواسطة بين الليث، وبين بُكير، وخالفه عثمان بن سعيد، فرواه عن الليث، عن بُكير نفسه، فأسقط الواسطة، والصواب رواية قتيبة بإثبات الواسطة؛ لأنه أحفظ، وأثبت منْ عثمان بن سعيد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5134 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيِّ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ زَيْنَبَ الثَّقَفِيَّةِ، امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَمَرَهَا أَنْ لَا تَمَسَّ الطِّيبَ، إِذَا خَرَجَتْ إِلَى الْعِشَاءِ الآخِرَةِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمرو بن عليّ": هو الفلّاس. و"أبو داود": هو سليمان بن داود الطيالسيّ. و"إبراهيم بن سعد": هو الزهريّ المدنيّ المذكور فِي الباب الماضي.
و"محمد بن عبد الله" بن عمرو بن هشام القرشيّ العامريّ، الحجازيّ مقبول [7].
رَوَى عن بُكير بن عبد الله بن الأشجّ. وعنه صالح بن كيسان، وسعد بن إبراهيم، وعبد الرحمن بن إسحاق المدنيّ، وإبراهيم بن سعد بن إبراهيم، إن كَانَ محفوظًا. ذكره ابن حبّان فِي "الثقات". تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث، كرره ثلاث مرّات:
(1)
"عبيد الله بن أبي جعفر" المصريّ، أبو بكر الفقيه، مولى بني كنانة، أو أمية، قيل: اسم أبيه يسار، ثقة فقيه عابد [5] 83/ 2585.
5134 و5135 و74/ 5263.
[تنبيه]: لقد أجاد المصنّف رحمه الله تعالى فِي "الكبرى"، حيث ترجم لهذا الْحَدِيث بقوله: 47 - "ذكر الاختلاف عَلَى إبراهيم بن سعد"، ثم ساق هذه الرواية، ثم قَالَ: خالفه يعقوب بن إبراهيم بن سعد، رواه عن أبيه، عن صالح -يعني ابن كيسان-، عن محمد بن عبد الله:
9432 -
أخبرنا أحمد بن سعيد الرِّباطيّ، قَالَ: ثنا يعقوب بن إبراهيم، قَالَ: ثنا أبي، عن صالح، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن هشام، عن بُكير بن عبد الله بن الأشجّ، عن بُسر بن سعيد، قَالَ: أخبرتني زينب الثقفية، امرأة عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ لها:"إذا خرجت إلى العشاء، فلا تمسّي طيبًا". ثم ساق رواية أبي بكر بن عليّ التالية، ثم قَالَ: قَالَ أبو عبد الرحمن: وحديث يعقوب أولى بالصواب، والله أعلم. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حاصل ما أشار إليه رحمه الله تعالى وقوع الاختلاف فِي هَذَا الْحَدِيث عَلَى إبراهيم بن سعد، فرواه أبو داود عنه، عن محمد بن عبد الله القرشي، عن بكير بن الأشج، وخالفه يعقوب بن إبراهيم، فرواه عنه، عن صالح بن كيسان، عن محمد بن عبد الله، فأدخل بين إبراهيم وبين محمد بن عبد الله واسطتين: أباه، وصالحاً، وخالفهما منصور بن أبي مزاحم، فرواه عنه، عن أبيه، عن محمد بن عبد الله، عن بكير، فأدخل واسطة بين إبراهيم، وبين محمد بن عبد الله أباه، ثم رجّح المصنّف رحمه الله تعالى رواية يعقوب عَلَى رواية أبي داود، ومنصور؛ لأن يعقوب أثبت فِي والده منهما. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5135 -
(أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هِشَامٍ، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زَيْنَبَ الثَّقَفِيَّةِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِذَا خَرَجَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى الْعِشَاءِ الآخِرَةِ، فَلَا تَمَسَّ طِيبًا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو بكر بن عليّ المروزيّ": هو أحمد بن عليّ بن سعيد بن إبراهيم القاضي، ثقة حافظ [12] 1/ 2094 منْ أفراد المصنّف.
و"منصور بن أبي مُزاحم" بشير التركيّ، أبو نصر البغداديّ الكاتب، مولى الأزد، ثقة [10].
رَأى شعبةَ، وروى عن مالك، وفليح بن سليمان، وأبي أويس، وأبي سعيد بن أبي الوضاح، ويحيى بن حمزة الحضرميّ، وابن المبارك، وأبي حفص الأبّار، وابن أبي
الزناد، وأبي الأحوص، وأبي المحياة، يحيى بن يعلى التيمي، وأبي بكر بن عياش، وإبراهيم بن سعد، وعدة. وروى عنه مسلم، وأبو داود، وروى النسائيّ، عن أحمد بن عليّ المروزي، عنه، وحفيده أبو طالب، أحمد بن محمد بن منصور بن أبى مزاحم، وأبو زرعة الرازي، وعثمان بن خرزاذ، وأبو حاتم، وأبو معاوية بن صالح الأشعري، وموسى بن هارون، والحسن بن عليّ بن شبيب المعمري، وأحمد بن محمد بن الجعد الوشاء، وأحمد بن يونس الضبي، وإبراهيم بن إسحاق الحربي، وأبو بكر بن أبي الدنيا، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وأحمد بن عليّ بن المثنى الموصلي، وأحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي، وأبو القاسم البغوي، وآخرون.
قَالَ عبد الله بن أحمد: حدثنا منصور بن بشير، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن قتادة، عن أنس فِي الافتتاح بالحمد لله، قَالَ عبد الله: فحدثت به أبي، فَقَالَ: ثنا إسماعيل ابن علية، عن سعيد، وليس هو عن أيوب، فأنكر. وَقَالَ عثمان الدارمي، عن ابن معين: صدوقٌ إن شاء الله تعالى. وَقَالَ عبد الخالق: سئل ابن معين عنه؟ فَقَالَ: صدوقٌ، قيل: منْ أين تعرفه؟ قَالَ: أعرفه وهو كاتب. وَقَالَ ابن محرز، عن ابن معين: لا بأس به. وَقَالَ أبو زرعة، عن ابن معين: تركي ثبت. وَقَالَ أحمد بن أبي يحيى، عن ابن معين: ليس به بأس، إذا حدث عن الثقات. وَقَالَ أبو حاتم: سألت ابن معين عنه؟ فأثنى عليه، وَقَالَ: كتبت عنه، قَالَ: وسئل أبي عنه؟ فَقَالَ: صدوقٌ. وَقَالَ الدارقطنيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ الحسين بن فهم: منصور بن بشير، وهو ابن أبي مزاحم، كَانَ له ديوان، فتركه، وكان ثقة، صاحب سنة، تُوفي فِي ذي القعدة، سنة خمس وثلاثين ومائتين، وهو ابن ثمانين سنة، أو أكثر، وفيها أرخه ابن أبي خيثمة، وغير واحد. تفرّد به مسلم، وأبو داود، والمصنّف، وله عنده فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.
و"أبو إبراهيم": هو سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف المدنيّ، قاضيها، ثقة فاضلٌ عابد [5] 11/ 518.
والحديث قد تقدّم أن المصنّف رحمه الله تعالى يرى أنه غير محفوظ، والصواب رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن صالح بن كيسان، عن محمد بن عبد الله بن هشام، عن بُكير، وَقَدْ قدّمناها عن "الكبرى"، وستأتي فِي "المجتبى" برقم 74/ 5263. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5136 -
(أَخْبَرَنِى يُوسُفُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ بَلَغَنِي عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ،
أَخْبَرَنِي زِيَادُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زَيْنَبَ الثَّقَفِيَّةِ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الصَّلَاةَ، فَلَا تَمَسَّ طِيبًا".
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَهَذَا غَيْرُ مَحْفُوظٍ، مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "يوسف بن سعيد": هو الْمِصّيصيّ الثقة الحافظ [11] منْ أفراد المصنّف. و"حجّاجٌ": هو ابن محمد الأعور. و"زياد بن سعد": هو الخراسانيّ، نزيل مكة، ثم اليمن الثقة الثبت، قَالَ ابن عيينة: كَانَ أثبت أصحاب الزهريّ [6].
وقوله: (قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أي النسائيّ (وَهَذَا) أي الْحَدِيث المذكور (غير محفوظ منْ حديث الزهريّ) يعني أن كونه منْ حديث الزهريّ، عن بُسر غير صحيح، وإنما الصحيح أنه منْ حديث بكير، عن بسر، وذلك لأن الحفّاظ رووه هكذا، وأما طريق الزهريّ، فهي منْ رواية سُنيدٍ كما سيأتي، وَقَدْ تفرد بها، وهو ضعيف، مع مخالفته للأثبات الحفّاظ. والله تعالى أعلم.
(تنبيهات):
[الأول]: كتب الحافظ رحمه الله تعالى فِي "النكت الظراف" 11/ 328 عند قوله: "وعن يوسف بن سعيد، بلغني عن حجاج"-: ما نصّه:
قَالَ ابن أبي حاتم فِي "العلل" 1/ 79 - : حدثنا أبي قَالَ: سُنيد بن داود، قَالَ: حدثنا حجّاج، عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن ابن شهاب الزهريّ، عن بُسر بن سعيد، عن زينب الثقفيّة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إذا شهدت إحداكنّ العشاء، فلا تمسّ طيباً"، قَالَ أبي: لم يرو هَذَا الْحَدِيث عن ابن شهاب سوى زياد بن سعد، ولا رَوَى عن زياد بن سعد غير ابن جُريج، ولا عن ابن جريج إلا الحجاج، ولا عن حجاج إلا سُنيد، غير أن أبا زرعة حدّثني بعورته، أخبرني أنه ذكر هَذَا الْحَدِيث ليحيى بن معين، فَقَالَ: رأيت هَذَا الْحَدِيث فِي كتاب حجّاج، عن ابن جريج، عن زياد، عن بُسر، ليس فيه "الزهريّ"، قَالَ أبو محمد: وقرأ علينا أبو زرعة هَذَا الْحَدِيث عن سُنيد هكذا، فأملى علينا أبو زرعة، وَقَالَ: أخبرتُ بهذا الْحَدِيث يحيى بن معين، فَقَالَ: كتبته منْ كتاب حجاج، عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن بُسر بن سعيد، عن زينب الثقفيّة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ليس فيه "الزهريّ ". انتهى كلام ابن أبي حاتم فِي "العلل".
قَالَ الحافظ بعد الحكاية المذكورة: ويستفاد منْ هَذَا تسمية منْ بلّغ يوسف بن سعيد، عن حجاج، ويوسف كثير الرواية عن حجاج، إلا أنه كَانَ لا يدلّس، ولم يسمع هَذَا منْ حجاج، فكأنه سمعه منْ سُنيد، فاتّهمه. انتهى "النكت".
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: سُنيد هَذَا قَالَ عنه فِي "التقريب" سُنيد -بنون، ثم دال، مصغّراً- ابن داود المصّيصّي المحتسب، واسمه حسين، ضعيف، مع إمامته، ومعرفته؛ لكونه كَانَ يُلقّن حجاج بن محمد، شيخه [10] مات سنة (226) تفرّد به ابن ماجه.
فتبيّن بهذا أن طريق الزهريّ غير صحيحة، بل منكرة؛ لأنه تفرّد بها سُنيد، وهو ضعيف، مع مخالفته لرواية الجماعة. والله تعالى أعلم.
[الثاني]: ذكر الحافظ المزيّ رحمه الله تعالى اختلافا آخر فِي هَذَا الْحَدِيث، فَقَالَ -بعد أن ذكر الاختلافات التي أوردها المصنّف فِي هَذَا الباب-: ما نصّه: رواه يعقوب بن إبراهيم الدورقيّ، عن إسماعيل ابن عُليّة، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن محمد عبد الله بن عمرو بن هشام، عن بُكير بن الأشجّ، عن بسر بن سعيد، عن زيد بن خالد الجُهَنيّ، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرُجن تَفِلات". انتهى. "تحفة الأشراف" 11/ 329.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث زيد بن خالد رضي الله عنه هَذَا أخرجه الإمام أحمد فِي "مسنده" 5/ 192، فَقَالَ:
21166 -
حدثنا إسماعيل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن هشام، عن بسر بن سعيد، عن زيد بن خالد الجهني، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله المساجد، وليخرجن تَفِلات".
وأخرجه أيضاً 5/ 193 عن ربعيّ بن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن إسحاق به.
و"إسماعيل" شيخ أحمد هو ابن عُليّة. و"رِبعيّ" شيخه الثاني: هو أخو إسماعيل ابن علية، أصغر منه، وهو بصريّ ثقة صالح [9] مات سنة (197). و"عبد الرحمن بن إسحاق": هو القرشيّ العامريّ، نزيل البصرة، صدوقٌ، رُمي بالقدر [6].
وأخرجه أيضاً ابن حبّان فِي "صحيحه" 5/ 589 رقم 2211 منْ طريق مسدّد، عن بشر بن المفضّل، عن عبد الرحمن بن إسحاق به. وَقَالَ الحافظ أبو بكر الْهَيثميّ رحمه الله تعالى فِي "مجمع الزوائد" 2/ 33: ما حاصله: حديث زيد بن خالد الجُهنيّ رضي الله عنه رواه أحمد، والبزّار، والطبرانيّ فِي "الكبير"، وإسناده حسن.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه الحاصل أن الْحَدِيث ثابت منْ مسند أبي هريرة، ومن مسند زينب الثقفيّة، كما هو عند مسلم فِي "صحيحه"، وعند المصنّف، وغيرهما، ومن مسند زيد بن خالد الْجُهنيّ، كما فِي "مسند أحمد"، وصححه ابن حبّان. والله تعالى أعلم.
(الثالث): أنه وقع فِي "صحيح" ابن حبّان، و"المعجم الكبير" للطبراني "محمد بن عبد الله بن عثمان"، بدل "محمد بن عبد الله بن عمرو بن هشام"، فليُحرّر، فالله تعالى أعلم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
38 - (الْبَخُورُ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هو -بفتح الباء الموحّدة، وضمّ الخاء المعجمة، كصبور-: ما يُتبخّر به، كما سبق فِي الباب الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب.
5137 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، أَبُو طَاهِرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ، إِذَا اسْتَجْمَرَ اسْتَجْمَرَ بِالأُلُوَّةِ، غَيْرَ مُطَرَّاةٍ، وَبِكَافُورٍ، يَطْرَحُهُ مَعَ الأُلُوَّةِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا كَانَ يَسْتَجْمِرُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هَذَا الإسناد: ستة.
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، أَبُو طَاهِرٍ) المصريّ، ثقة [10] 35/ 39.
2 -
(ابن وهب) عبد الله القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقة حافظ عابد [9] 9/ 9.
3 -
(مخرمة) بن بُكير بن عبد الله بن الأشجّ، أبو المسور المدنيّ، صدوقٌ، وروايته عن أبيه وِجادة منْ كتابه، قاله أحمد، وابن معين، وغيرهما، وَقَالَ ابن المدينيّ: سمع منْ أبيه قليلاً [7] 28/ 438.
4 -
(أبوه) بكير بن الأشجّ المذكور فِي الباب الماضي.
5 -
(نافع) العدوي مولى ابن عمر المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 12/ 12.
6 -
(ابن عمر) عبد الله رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالمصريين، والثاني بالمدنيين، وبكير مدنيّ، ثم مصريّ. (ومنها"): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ:
بكير، عن نافع. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ نَافِعٍ) العدويّ المدنيّ رحمه الله تعالى، أنه (قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهما (إِذَا اسْتَجْمَرَ) أي إذا تبخّر، قَالَ النوويّ: الاستجمار هنا: استعمال الطيب، والتبخّر به، مأخوذ منْ المِجْمر، وهو البَخُور. وَقَالَ القرطبيّ: يستجمر: يتبخّر، وأصله منْ المِجمر، والمِجمرة، فاستُعير له ذلك؛ لأنه وضع الْبَخور عَلَى الجمر فِي المِجمرة. انتهى "المفهم" 5/ 559 (اسْتَجْمَرَ بِالأَلُوَّةِ) قَالَ الأصمعيّ، وأبو عُبيد، وسائر أهل اللغة، والغريب: هي العُود، يُتَبَخّر به، قَالَ الأصمعيّ: أُراها فارسيّةً، معرّبة، وهي بضمّ اللام، وفتح الهمزة، وضمها لغتان مشهورتان، وحكى الأزهريّ كسر اللام، قَالَ القاضي: وحُكي عن الكسائيّ "ألية"، قَالَ القاضي: قَالَ غيره: وتُشدّد، وتُخفّف، وتُكسر الهمزة، وتُضمّ، وقيل: لوة، ولية. قاله النوويّ فِي "شرح مسلم" 15/ 10 (غَيْرَ مُطَرَّاةٍ) -بضمّ الميم، وفتح الطاء، والراء المشدّدة: أي غير مخلوطة، أو غير مُرَبّاة بشيء آخر منْ جنس الطيب، يعني أنه كَانَ يتبخّر أحيانًا بالعُود الخالص غير المخلوط بشيء.
قَالَ فِي "اللسان": المطرَّاة: ضرب منْ الطيب، وَقَالَ أيضاً: الْمُطَرَّاة التي يُعمل عليها ألوان الطيب غيرها، كالعنبر، والمسك، والكافور. قَالَ: وطرَّى الطيب: فَتَقَه بأخلاط، وخلّصه، وَقَالَ: أبو منصور: يقال: للألُوّة: مُطَرَّاة: إذا طُرّيت بطيب، أو عنبر، أو غيره. انتهى بتصرّف.
وَقَالَ القرطبيّ: قَالَ القاضي عياض: أصل مطرّاة: مُطرّرة، منْ طرّرت الحائطَ: إذا غَشَيته بجصّ، أو حَسَّنته، وجدّدته، قَالَ: ويحتمل أن تكون مُطرّاةً محسّنة مُبالغة، وذلك منْ الإطراء، وهو المبالغة فِي المدح. انتهى "المفهم" 5/ 559.
(وَبِكَافُورٍ) أي وأحياناً يتبخّر بعود مخلوط بكافور.
قَالَ فِي "القاموس": الكافورُ: نبتٌ طيّبٌ، نَوْرُه كنور الأُقْحُوان، والطَّلع، أو وِعَاؤه، وطيبٌ معروفٌ يكون منْ شجر بجبال بحر الهند، والصين، يُظلّ خلقًا كثيرًا، وتَأْلَفُه النُّمُورةُ، وخشبه أبيض هَشٌّ، ويوجد فِي أجوافه الكافور، وهو أنواعٌ، ولونها أحمر، وإنما يبيضّ بالتصعيد. انتهى. (يَطْرَحُهُ مَعَ الأُلُوَّةِ) أي يجعل الكافور مع الألُوّة (ثُمَّ قَالَ) أي ابن عمر رضي الله تعالى عنهما (هَكَذَا كَانَ يَسْتَجْمِرُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) يعني أنه صلى الله عليه وسلم كَانَ يتبخّر مثل هَذَا التبخّر، فكان أحيانا يتبخّر بالألوّة، وهي العود وحدها، وأحيانًا بالألوّة مخلوطة بالكافور. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب،
وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -38/ 5137 - وفي "الكبرى" 48/ 9435. وأخرجه (م) فِي "الأدب" 2254.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان مشروعيّة استعمال البَخُور. (ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله تعالى: فيه استحباب الطيب للرجال، كما هو مستحبّ للنساء، لكن يُستحبّ للرجال منْ الطيب ما ظهر ريحه، وخفي لونه، وأما المرأة، فإذا أرادت الخروج إلى المسجد، أو غيره كُره لها كلّ طيب له ريح، ويتأكّد استحبابه للرجال يوم الجمعة، والعيد، عند حضور مجامع المسلمين، ومجالس الذكر، والعلم، وعند إرادة معاشرة زوجته، ونحو ذلك. انتهى "شرح مسلم" 15/ 10.
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى: وهذه الأحاديث كلّها تدلّ عَلَى أن استعمال الطيب، والبَخور مُرغّبٌ فيه، مندوبٌ إليه، لكن إذا قصد به الأمور الشرعيّة، مثل الجماعات، والجمعات، والمواضع المعظّمات، وفعل العبادات عَلَى أشرف الحالات، فلو قصد بذلك المباهات، والفخر، والاختيال، لكان ذلك منْ أسوأ الذنوب، وأقبح الحالات. انتهى "المفهم" 5/ 559. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
39 - (الْكَرَاهِيَةِ لِلنِّسَاءِ فِي إِظْهَارِ الْحُلِيِّ وَالذَّهَبِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ذهب المصنّف رحمه الله تعالى إلى أن أحاديث
النهي عن لبس الذهب للنساء محمول عَلَى منْ أظهرت زينتها، وَقَدْ سبقه إلى ذلك الإمام الدارميّ فِي "مسنده"، حيث قَالَ:"باب كراهة إظهار الزينة"، واستدلّ بحديث أخت حذيفة الآتي، وَقَدْ سلك العلماء فِي تأويل تلك الأحاديث مسالك.
قَالَ الحافظ المنذريّ رحمه الله تعالى فِي "الترغيب والترهيب" 1/ 274 - 275: وهذه الأحاديث التي ورد فيها الوعيد عَلَى تحلّي النِّساء بالذهب تحتمل وجوهًا منْ التأويل: (أحدها): أن ذلك منسوخ، فإنه قد ثبت إباحة تحلّي النِّساء بالذهب. (والثاني): أن هَذَا فِي حقّ منْ لا تؤدّي زكاته، دون منْ أدّتها، ويدلّ عَلَى هذ حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، وعائشة، وأسماء رضي الله تعالى عنهم. (الثالث): أنها فِي حقّ منْ تزيّنت به، وأظهرته، ثم استدلّ لذلك بحديث أخت حذيفة الآتي. (الرابع): أنه إنما منع منه فِي حديث الأسورة، والفتخات لما رأى منْ غلظه، فإنه مظنّة الفخر والخيلاء، وبقية الأحاديث محمولة عَلَى هَذَا. انتهى كلام المنذريّ باختصار
(1)
.
وَقَالَ الإمام ابن القيّم رحمه الله تعالى فِي "تهذيب السنن": اختلف النَّاس فِي هذه الأحاديث، وأشكلت عليهم، فطائفة سلكت مسلك التضعيف، وعلّلتها كلها. وطائفة ادّعت أن ذلك كَانَ أول الإسلام ثم نُسخ، واحتجّت بحديث أبي موسى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أُحلّ الذهب للإناث منْ أُمّتي، وحُرّم عَلَى ذكورها". قَالَ الترمذيّ: حديث صحيح، ورواه ابن ماجه فِي "سننه" منْ حديث عليّ، وعبد الله بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وطائفة حملت هَذَا الوعيد عَلَى منْ لم تؤدّ زكاة حليّها، فأما منْ أدّته، فلا يلحقها هَذَا الوعيد، واحتجّوا بحديث عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدّه: أن امرأة منْ اليمن أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان منْ ذهب، فَقَالَ لها:"أتؤدّين زكاة هَذَا؟ "، قالت: لا، قَالَ:"أيسُرُّك أن يسوّرك الله بسوارين منْ نار؟ "، قَالَ: فخلعتهما، فألقتهما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقالت: هما لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
وبما رَوَى أبو داود عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها، قالت: كنت ألبس أوضاحاً منْ ذهب، فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكنز هو؟ فَقَالَ: ما بلغ أن تؤدّي زكاته، فزُكّي فليس بكنز". وهذا منْ أفراد ثابت بن عجلان، والذي قبله منْ أفراد عمرو بن شعيب.
وطائفة منْ أهل العلم حملت أحاديث الوعيد عَلَى منْ أظهرت حليتها، وتبرّجت بها دون منْ تزيّنت بها لزوجها، قَالَ النسائيّ فِي "سننه"، وَقَدْ ترجم عَلَى ذلك: "الكراهية للنساء فِي
(1)
راجع "الترغيب والترهيب" 1/ 274 - 275.
(2)
حديث صحيح تقدّم للمصنف فِي "الزكاة" برقم 19/ 2479.
إظهار الحلي والذهب"، ثم ساق أحاديث الوعيد. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله تعالى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن قول منْ حمل أحاديث الوعيد عَلَى منْ لم تؤدِّ زكاته أرجح. والله تعالى أعلم بالصواب.
5138 -
(أَخْبَرَنَا وَهْبُ بْنُ بَيَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ أَبَا عُشَّانَةَ -هُوَ الْمَعَافِرِيُّ- حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، يُخْبِرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَمْنَعُ أَهْلَهُ الْحِلْيَةَ وَالْحَرِيرَ، وَيَقُولُ: "إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ حِلْيَةَ الْجَنَّةِ، وَحَرِيرَهَا، فَلَا تَلْبَسُوهَا فِي الدُّنْيَا").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(وهب بن بيان) أبو عبد الله الواسطيّ، نزيل مصر، ثقة عابد [10] 20/ 1399.
2 -
(ابن وهب) عبد الله المذكور فِي الباب الماضي.
3 -
(عمرو بن الحارث) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقة ثبت فقيه [7] 63/ 79.
4 -
(أبو عُشّانة) -بضم المهملة، وتشديد الشين المعجمة-: هو حَيّ -بفتح أوله، وتشديد التحتانيّة- ابن يُومن -بضم التحتانيّة، وسكون الواو، وكسر الميم- الْمَعافريّ -بفتح الميم- المصريّ، ثقة، مشهور بكنيته [3] 26/ 666.
5 -
(عقبة بن عامر) الجُهني الصحابيّ المشهور، ولي إِمْرَة مصر لمعاوية رضي الله تعالى عنهما ثلاث سنين، وكان فقيهًا فاضلاً، مات فِي قرب الستّين، وتقدمت ترجمته فِي 108/ 14. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير أبي عُشّانة، وهو ثقة. (ومنها): أنه مسلسل بثقات المصريين، والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
عن أبي عُشّانة المعافريّ رحمه الله تعالى (أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ) رضي الله تعالى عنه (يُخْبِرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَمْنَعُ أَهْلَهُ الْحِلْيَةَ) بكسر الحاء المهملة، وسكون اللام: أي الزينة، وجمعها حلى، مقصورًا، وتضمّ حاؤه، وتكسر (وَالْحَرِيرَ) قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: الظاهر أنه يمنع أزواجه الحِلية مطلقاً، سواء كَانَ منْ ذهب، أو فضة، ولعلّ ذلك مخصوص بهنّ؛ ليؤثرن الآخرة عَلَى الدنيا، وكذا الحرير، ويحتمل أن المراد
بالأهل الرجال منْ أهل البيت، فالأمر واضحٌ. انتهى "شرح السنديّ" 8/ 156.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الثاني بعيد، كما لا يخفى، فالأشبه ما ذكره أوّلاً، فيكون هَذَا منْ خصوصيات أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن ينبغي لغيرهنّ منْ نساء المؤمنات أن يقتدين بهنّ. والله تعالى أعلم.
(وَيَقُولُ: "إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ) بضم أوله، وكسر ثانيه، منْ أحبّ الرباعيّ، ويجوز فتح، أوله أيضاً، منْ حبّه ثلاثيًا، قَالَ الفيّوميّ رحمه الله تعالى: أحببتُ الشيءَ بالألف، فهو مُحَبّ، واستحببته مثله، ويكون الاستحباب بمعنى الاستحسان، وحَبَبْتُهُ أحِبّه، منْ باب ضرب، والقياس أَحُبّه بالضم، لكنه غير مستعمل، وحبِبتْه أَحَبّه، منْ باب تعِبَ لغةٌ، وفيه لغة لهُذيل: حاببته حِبابًا، منْ باب قاتل. انتهى (حِلْيَةَ الْجَنَّةِ، وَحَرِيرَهَا، فَلَا تَلْبَسُوهَا فِي الدُّنْيَا) أي لا تلبسوا حلية الدنيا، وحريرها، حَتَّى تلبسوا حلية الجنة، وحريرها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، لم يُخرجه منْ أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (أحمد) فِي "مسند الشاميين" 16859 و (ابن حبّان) فِي "صحيحه" 1463 و (الحاكم) فِي "المستدرك" 4/ 191. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان كراهية إظهار النِّساء الحلية، والذهب، عَلَى ما مال إليه هو فِي تأويل أحاديث الوعيد فِي لبس الذهب للنساء، وَقَدْ تقدّم بيان أقوال أهل العلم فِي ذلك، أول الباب .. ويحتمل أن يكون هَذَا الْحَدِيث خاصًّا بأهل بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن لهنّ منْ المكانة عند الله تعالى ما ليس لغيرهنّ، فيخالفن سائر نساء المؤمنات، قَالَ الله تعالى مبيّنا رفعتهنّ، وتخصّصهن، وتميّزهنّ عن سائر نساء المؤمنات:{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 30، 31].
قَالَ الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى فِي "تفسيره" 3/ 490: يقول الله تعالى واعظًا نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم اللاتي اخترن الله، ورسوله، والدار الآخرة، واستقرّ أمرهنّ تحت رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فناسب أن يُخبرهنّ بحكمهن، وتخصيصهنّ، دون سائر النِّساء، بأن منْ تأت منهنّ بفاحشة مبيّنة، قَالَ ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: هي النشوز، وسوء الخلق، وعلى كلّ تقدير فهو شرط، والشرط لا يقتضي الوقوع، كقوله تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} الآية [الزمر: 65]. قَالَ: فلما كانت محلتهنّ رفيعة ناسب أن يُجعل الذنب لو وقع منهنّ مغلظًا؛ صيانة لجنابهنّ الرفيع. انتهى كلام ابن كثير باختصار.
(ومنها): أنه وإن احتمل اختصاصه بنساء النبيّ صلى الله عليه وسلم، إلا أنه ينبغي للنساء المسلمات أن يقتدين بهنّ فِي ترك الحلية، والحرير، وإن لم يحرم عليهنّ؛ رغبة فِي حلية الجنة وحريرها، ولما أخرجه ابن حبّان فِي "صحيحه" منْ حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: ويلٌ للنساء منْ الأحمرين: الذهب والفضّة"، ونقل المناويّ فِي "فيض القدير" فِي معنى الْحَدِيث عن "مسند الفردوس": يعني يتحلّين بحلي الذهب، ويلبسن الثياب المزعفرة، ويتبرّجن متعطرات، متبخترات، كأكثر نساء زماننا، فيَفتِنّ بهنّ. انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5139 -
(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ ح وَأَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنِ امْرَأَتِهِ، عَنْ أُخْتِ حُذَيْفَةَ، قَالَتْ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، أَمَا لَكُنَّ فِي الْفِضَّةِ مَا تَحَلَّيْنَ، أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ مِنِ امْرَأَةٍ، تَحَلَّتْ ذَهَبًا تُظْهِرُهُ، إِلاَّ عُذِّبَتْ بِهِ").
رجال هَذَا الإسناد: تسعة:
1 -
(عليّ بن حُجْر) السعديّ المروزيّ، ثقة حافظ، منْ صغار [9] 13/ 13.
2 -
(جرير) بن عبد الحميد المذكور قبل باب.
3 -
(منصور) بن المعتمر السلميّ، أبو عتاب الكوفيّ، ثقة ثبت [6] 2/ 2.
4 -
(عبد الرحمن) بن مهديّ بن حسّان، أبو سعيد البصريّ، ثقة ثبت [9] 42/ 49.
5 -
(سفيان) الثوريّ الإمام الحجة الثبت الكوفيّ [7] 33/ 37.
6 -
(رِبعيّ) -بكسر الراء، وسكون الموحّدة- ابن حِراش -بكسر الحاء المهملة، آخره شين معجمة- العبسيّ الكوفيّ، ثقة عابد مخضرم [2] 8/ 508.
7 -
(امرأته) لم يُعرف اسمها، قَالَ فِي "التقريب": امراة ربعيّ بن حِرَاش، عن أخت حذيفة، لا يحضرني اسمها. انتهى.
(1)
راجع "السلسلة الصحيحة" للشيخ الألباني رحمه الله تعالى 1/ 598 - 599. رقم الْحَدِيث 339.
8 -
(أُخت حُذيفة) هي فاطمة بنت اليمان، وهو حُسيل، ويقال: حِسْل بن جابر بن أسيد ابن عمرو بن مالك العبسيّة، روت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها دخلت عليه تعوده فِي نسوة، فإذا سقاء معلّق، يَقطُر ماؤه عليه، منْ شدّة ما يجد منْ حرّ الْحُمّى، وفيه "إن أشدّ النَّاس بلاءً الأنبياء، ثم الذين يلونهم"، رَوَى عنها ابن أخيها أبو عبيدة بن حذيفة بن اليمان، وروى ربعيّ بن حِراش، عن امرأته، عنها، قَالَ ابن سعد: أسلمت، وبايعت. وَقَالَ منصور، عن ربعيّ حِراش، قلت لمجاهد: حدثني ربعيّ، عن امرأة، عن أخت حذيفة، وكانت له أخوات، قد أدركن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ منصورٌ: فذكرت لمجاهد، فَقَالَ: قد أدركتهنّ
…
الْحَدِيث فِي ذمّ التحلّي بالذهب. أفاده فِي "الإصابة" 13/ 88. وفي "التقريب": فاطمة بنت اليمان العبسيّة أخت حذيفة صحابيّة لها حديث، ويقال: اسمها خولة. انتهى. تفرد بها المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ رِبْعِيٍّ) بن حِراش (عَنِ امْرَأَتِهِ) لم يُعرف اسمها، كما سبق آنفاً (عَنْ أُخْتِ حُذَيْفَةَ) هي فاطمة بنت اليمان رضي الله تعالى عنهما، أنها (قَالَتْ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ) "المعشر" -بفتح الميم، وسكون العين المهملة، وفتح الشين المعجمة: الجماعة منْ النَّاس، والجمع معاشر: أي جماعة النِّساء (أَمَا) بفتح الهمزة، وتخفيف الميم: أداة استفتاح، وتنبيه، مثلُ "ألا"، قَالَ فِي "اللسان": معناهما حقًّا، وَقَالَ فِي موضع آخر: "وأما" مخفّفٌ، تحقيقٌ للكلام الذي يتلوه، تقول: أما إنّ زيدًا عاقلٌ، يعني أنه عاقل عَلَى الحقيقة، لا عَلَى المجاز، وتقول: أَمَا والله قد ضرب زيدٌ عمرًا. انتهى (لَكُنَّ) بفتح اللام، وهي لام الجرّ دخلت عَلَى ضمير المخاطبات (فِي الْفِضَّةِ مَا تَحَلَّيْنَ) بفتح التاء الفوقية، أصله تتحلّين، حُذفت منه إحدى التاءين تخفيفًا، كقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} الآية [القدر: 4]، وقوله: {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} [عبس: 6]، قَالَ فِي "الخلاصة":
وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ
…
فِيهِ عَلَى تَا كَتَبَيَّنُ الْعِبَرْ
ثم إن فيه حذف العائد إلى الموصول، أي تتحلّين به، والمعنى: ما تتّخذنه حلية لكنّ.
(أَمَا) هي أداة استفتاح مثل سابقتها (إِنَّهُ) جوّز سيبويه كسر همزة "إنّ"، وفتحها بعد "أما"، و"ألا"، كما نقله ابن منظور عنه فِي "اللسان". والضمير للشأن: أي إن الشأن والحال (لَيْسَ مِنِ) زائدة، وقوله (امْرَأةٍ) اسم "ليس" مجرور لفظًا، مرفوعٌ
محلاً (تَحَلَّتْ ذَهَبًا) الظاهر أن "ذهبًا" منصوب بنزع الخافظ؛ لأن تحلّى لازم، يقال: تحلّت المرأة: لبست الْحُليّ، أو اتخذته، وحلْيتها بالتشديد: ألبستها الْحُليّ، أو اتّخذتُهُ لها لتلبسه. قاله الفيّوميّ. والجملة فِي محلّ رفع صفة لـ"امراة"(تُظْهِرُهُ) بضمّ أوله، منْ الإظهار: أي تظهره للناس افتخاراً (إِلاَّ عُذِّبَتْ بِهِ) أي بسبب ذلك الذهب الذي أظهرته للناس افتخارًا، وهذا هو محل الترجمة للمصنّف، فإنه رحمه الله تعالى يرى أن الأحاديث الواردة فِي نهي المرأة عن التحلّي بالذهب محمول عَلَى منْ أظهرته افتخارًا، وهذا أحد المحامل التي ذكرها العلماء فِي الباب، كما سيأتي تحقّيقه قريباً، إن شاء الله تعالى.
وَقَالَ السنديّ رحمه الله تعالى فِي "شرحه" 8/ 157: يحتمل أن تكون الكراهة إذا أظهرته، وافتخرت به، لكن الفضّة مثلُ الذهب فِي ذلك، فالظاهر أن هَذَا لزيادة التقبيح، والتوبيخ، والكلام لإفادة حرمة الذهب عَلَى النِّساء، مع قطع النظر عن الإظهار، والافتخار، ويؤيّده الرواية الآتية، لكن المشهور جواز الذهب للنساء، ولذلك قَالَ السيوطيّ: هَذَا منسوخ بحديث: "إن هذين حرام عَلَى ذكور أمتي، حِلّ لإناثها"، قَالَ ابن شاهين فِي "ناسخه": كَانَ فِي أول الأمر يلبس الرجال خواتيم الذهب، وغير ذلك، وكان الحظر قد وقع عَلَى النَّاس كلهم، ثم أباحه رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء دون الرجال، فصار ما كَانَ عَلَى النِّساء منْ الحظر مباحاً لهنّ، فنَسَخَت الإباحةُ الحظرّ. وحكى النوويّ فِي "شرح مسلم" إجماع المسلمين عَلَى ذلك. قَالَ السنديّ: ولولا الإجماع لكان الظاهر أن يقال: أوّلاً كَانَ الذهب حلالاً للكلّ، ثم حُرّم عَلَى الرجال فقط، ثم حرّم عَلَى النِّساء أيضًا، وقول ابن شاهين: إنه كَانَ أوّلاً حلالاً للكلّ، ثم أبيح للنساء دون الرجال باعتبار النسخ مرّتين، مع أن العلماء عَلَى أنه إذا دار الأمر بين نسخ واحد ونسخين لا يُحكم بنسخين، فإن الأصل عدم النسخ، فتقليله أليق بالأصل، لكن الإجماع هاهنا داع إلى اعتبار النسخين. والله تعالى أعلم. انتهى كلام السنديّ رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أخت حذيفة رضي الله تعالى عنهما هَذَا ضعيفٌ؛ لجهالة امرأة رِبْعيّ.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -39/ 5139 و5140 - وفي "الكبرى" 49/ 9437 و9438. وأخرجه (د) فِي "الخاتم" 4237 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 26471 (الدارميّ) فِي "الاستئذان" 2531.
(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي جواز خاتم الذهب ونحوه للنساء:
قَالَ الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه": "باب الخاتم للنساء"، وكان عَلَى عائشة -رضي الله تعالى عنها- خواتيم الذهب. انتهى. وهذا الأثر وصله ابن سعد منْ طريق عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب، قَالَ: سألت القاسم بن محمد؟ فَقَالَ: لقد رأيت -والله- عائشة تلبس المعصفر، وتلبس خواتيم الذهب. انتهى
(1)
.
وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى فِي "المجموع" 4/ 327: يجوز للنساء لبس الحرير، والتحلّي بالفضّة، والذهب بالإجماع؛ للأحاديث الصحيحة. انتهى. وَقَالَ أيضًا 5/ 522 - 523: أجمع المسلمون عَلَى أنه يجوز للنساء لبس أنواع الحليّ منْ الفضّة، والذهب جميعًا، كالطوق، والعقد، والخاتم، والسوار، والخلخال، والتعاويذ، والدمالج، والقلائد، والمخانق، وكلّ ما يُتخذ فِي العنق، وغيره، وكلّ ما يعتدن لبسه، ولا خلاف فِي شيء منْ هَذَا. انتهى.
وَقَالَ فِي "شرح مسلم": أجمع المسلمون عَلَى إباحة خاتم الذهب للنساء. انتهى.
وَقَالَ الحافظ رحمه الله تعالى فِي شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه: "نهى عن خاتم الذهب
…
" الْحَدِيث: ما معناه: النهي عن خاتم الذهب، أو التختّم به مختصّ بالرجال، دون النِّساء، فقد نُقِل الإجماع عَلَى إباحته للنساء، ثم أيّده بما أخرجه ابن أبي شيبة منْ حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النجاشيّ أهدى للنبيّ صلى الله عليه وسلم حلية فيها خاتم منْ الذهب، فأخذه، وإنه لمعرضٌ عنه، ثم دعا أمامة بنت بنته، فَقَالَ: تَحلَّي به. انتهى "فتح" 11/ 502.
وَقَالَ البيهقيّ فِي "السنن الكبرى" -بعد أن ساق أحاديث الوعيد-: "باب سياق أخبار تدلّ عَلَى إباحته للنساء" ثم ساق أحاديث الإباحة، ثم قَالَ: هذه الأخبار وما فِي معناها تدلّ عَلَى إباحة التحلّي بالذهب للنساء، واستدللنا بحصول الإجماع عَلَى إباحته لهنّ عَلَى نسخ الأخبار الدّالّة عَلَى تحريمه فيهنّ خاصّة. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: دعوى الإجماع محلّ نظر؛ لأن الخلاف قائم، كما سيأتي.
(1)
راجع نسخة "الفتح" 10/ 342 طبعة دار الريّان.
وَقَالَ الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى فِي كتابه الممتع "المحلّى":
[مسألة]: ولباس المرأة الحرير والذهب فِي الصلاة وغيرها حلال، قد اختلف فِي ذلك فلم يُجَوِّز ذلك قوم لهنّ، كما روينا منْ طريق أحمد بن شعيب، حدثنا أبو بكر بن عليّ المروزي، نا شريح بن يونس، نا هشيم، عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، أن امراة سألت ابن عمر عن الحرير؟ فَقَالَ لها ابن عمر:"منْ لبسه فِي الدنيا لم يلبسه فِي الآخرة"
(1)
. ومن طريق مسلم، نا ابن أبي شيبة، نا عبيد بن سعيد، عن شعبة، عن خليفة بن كعب أبي ذبيان، قَالَ: سمعت عبد الله بن الزبير يخطب يقول: "ألا لا تلبسوا نساءكم الحرير، فإن منْ لبس الحرير فِي الدنيا لم يلبسه فِي الآخرة". ومن طريق عبد الرزاق، نا معمر، عن أيوب السختياني، عن ابن سيرين، أن أبا هريرة كَانَ يقول لابنته: لا تلبسي الذهب، فإني أخاف عليك حر اللَّهب". ومن طريق وكيع، عن مبارك هو ابن فضالة، عن الحسن، أنه كره الذهب للنساء.
واحتج أهل هذه المقالة بخبر منْ طريق الحسن، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ -يعني النِّساء-:"أهلكهن الأحمران: الذهب والزعفران"، وهذا مرسل لا حجة فيه. وبخبر رويناه منْ طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى عَلَى عائشة قلابين منْ فضة، ملونين بذهب، فأمرها أن تلقيهما، وتجعل قلابين منْ فضة، وتصفرهما بالزعفران، وهذا مرسل، ولا حجة فِي مرسل. وبخبر رويناه منْ طريق شعبة وسميان، والمعتمر بن سليمان، وجرير كلهم عن منصور بن المعتمر، عن ربعي بن حِرَاش عن امرأته، عن أخت حذيفة، قالت: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فَقَالَ:"يا معشر النِّساء، أما لكن فِي الفضة ما تحلين، أما إنه ليس منْ امراة تلبس ذهبا تظهره، إلا عُذّبت به"، وهذا عن امرأة ربعي، وهي مجهولة.
وبخبر فيه ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف، عن شهر بن حوشب، وهو مثله، أو أسقط منه
(2)
، عن أسماء بنت يزيد بن السكن، قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عليّ سوارين منْ ذهب، وخواتم منْ ذهب، فَقَالَ لي عليه الصلاة والسلام:"أتحبين أن يُسوِّرك الله بسوارين منْ نار، وخواتم منْ نار؟ "، قالت: لا، قَالَ: "فانزعي هذين،
(1)
أخرجه فِي "الكبرى" 5/ 467 برقم (9595).
(2)
قلت: ما قاله ابن حزم فِي شهر ليس كما قَالَ؛ لأن ليثًا متروك الْحَدِيث، وأما شهر فقد وثّقه ابن معين، وأحمد، وقَوَّى أمره البخاريّ، وَقَالَ أبو الحسن ابن القطّان الفاسيّ: لم أسمع لمضعّفه حجة. راجع ترجمته فِي "تهذيب التهذيب" 2/ 182 - 183، فكيف يكون مثل هَذَا أسقط منْ ليث؟، فتبصّر. والله تعالى أعلم.
أتعجز إحداكن أن تتخذ حلقتين، أو تومتين منْ فضة، ثم تلطخهما بعبير، أو ورس، أو زعفران؟ ".
وخبر آخر فيه محمود بن عمرو الأنصاريّ، عن شهر، أن أسماء بنت يزيد بن السكن حدثته، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"أيما امرأة تقلدت قلادة منْ ذهب، قُلِّدت فِي عنقها مثلها منْ النار يوم القيامة، وأيما امرأة جعلت فِي أذنها خرصا منْ ذهب، جعله الله فِي أذنها منْ النار يوم القيامة"، ومحمود بن عمرو ضعيف. وآخر منْ طريق أبي زيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه كَانَ مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجاءته امرأة عليها سواران منْ ذهب، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام:"سواران منْ نار"، فقالت: ما ترى فِي طوق منْ ذهب؟ قَالَ: "طوق منْ نار"، قالت: فما ترى لي قرطين منْ ذهب؟ قَالَ: قرطان منْ نار"، وأبو زيد مجهول.
وبخبر صحيح
(1)
رويناه منْ طريق أحمد بن شعيب، أخبرني الربيع بن سليمان بن داود، نا إسحاق بن بكر، حدثني أبي، عن عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أم المؤمنين، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، رأى عليها مَسَكَتي ذهب، فَقَالَ لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:"ألا أخبرك بما هو أحسن منْ هَذَا؟ لو نزعت هَذَا، وجعلت مسكتين منْ ورق، ثم صفرتهما بزعفران، كانتا حسنتين".
وهذا الخبر حجة لنا؛ لأنه ليس فِي هَذَا الخبر أنه صلى الله عليه وسلم نهاها عن مَسَكتي الذهب، إنما فيه أنه عليه الصلاة والسلام اختار لها غيره، ونحن نقول بهذا.
واحتجوا بخبر رويناه منْ طريق أبي داود، نا عبد الله بن مسلمة -هو القعنبي- نا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن أسيد بن أبي أسيد البراد، عن نافع، عن ابن عباس، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "منْ أحب أن يحلق حبيبه
(2)
حلقة منْ نار، فلْيُحَلِّقه حلقة منْ ذهب، ومن أحب أن يُطَوَّق حبيبه طوقا منْ نار، فليطوقه طوقا منْ ذهب، ومن أحب أن يسور حبيبه بسوار منْ نار، فليسوره سوارا منْ ذهب، ولكن عليكم بالفضة، فالعبوا بها".
قَالَ ابن حزم: هَذَا مجمل يجب أن يُخَصَّ منه قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الذهب حرام عَلَى ذكور أمتي، حلال لإناثها"؛ لأنه أقل معان منه، ومستثنى
(1)
هو الْحَدِيث الآتي للمصنف آخر الباب برقم (5145).
(2)
وقع فِي نسخة "المحلّى""جبينه" بالجيم، والذي فِي "سنن أبي داود":"حبيبه" بالحاء المهملة، والظاهر أن ما فِي "المحلّى" تصحيف، والله تعالى أعلم.
بعض ما فيه.
ثم أورد الْحَدِيث الذي أخرجه المصنّف قبل هَذَا، منْ طريق عمرو بن الحارث، أن أبا عُشّانة حدثه، أنه سمع عقبة بن عامر يخبر، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كَانَ يمنع أهله الحلية والحرير
…
" الْحَدِيث.
قَالَ: أبو عشانة غير مشهور بالنقل
(1)
، ثم لو صح لكان عاما للرجال والنساء، يخصه الخبر الذي فيه:"إن الذهب والحرير حرام عَلَى ذكور أمتي، حلال لإناثها".
ثم أورد حديث ثوبان رضي الله عنه فِي قصّة ابنة هبيرة الآتي للمصنف بعد حديثين، ثم قَالَ: قَالَ أبو محمد: أما ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسدم يدي بنت هبيرة، فليس فيه أنه عليه الصلاة والسلام إنما ضربها منْ أجل الخواتم، ولا فيه أيضًا أن تلك الخواتم كانت منْ ذهب، ومن زاد هذين المعنيين فِي الخبر، فقد كذب بلا شك، وقفا ما لا علم له به، وما لم يخبر به راوى الخبر، وهذا حرام بحت.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا فيه نظر، فقد ذكر فِي الرواية التالية بلفظ:"وفي يدها فتخ منْ ذهب"، فلا يصحّ إنكار كونه الخواتم منْ الذهب، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
قَالَ: وَقَدْ يمكن أن يكون عليه الصلاة والسلام ضرب يديها؛ لأنها أبرزت عن ذراعيها ما لا يحل لها إبرازه، أو لغير ذلك مما هو عليه الصلاة والسلام أعلم به.
وأما قوله: "أيَسُرُّك أن يقول النَّاس: ابنة رسول الله، وفي يدك سلسلة منْ نار"، فظاهر اللفظ الذي ليس يفهم منه سواه، أنه عليه الصلاة والسلام، إنما أنكر إمساكها إياها بيدها، ليس فِي لفظ الخبر نص بغير هَذَا، ولا دليل عليه، وليس فيه أنه عليه الصلاة والسلام نهاها عن لباسها، ولا عن تملكها، هَذَا لا شك فيه، وَقَدْ يمكن أنه عليه الصلاة والسلام علم أنها لم تزكها، وكانت مما تجب فيه الزكاة، كما قَالَ عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} ، والله أعلم لأي وجه أنكر كون السلسلة فِي يدها رضي الله عنها، إلا أنه ليس فيه البتة تحريم لباسها لها، بل فيه نصا أنه عليه الصلاة والسلام أباح لها ملكها، يقينا لا شك فيه؛ لأنه جوز بيعها للسلسلة، وجوز للمشتري
(1)
هَذَا فيه نظر؛ بل هو مشهور، كما سبق فِي ترجمته، والحديث صحيح، وإنما الصواب هو التخصيص الذي ذكره بعدُ، فتنبّه.
لها منها شراءها، ولو كَانَ لباسها حراما، أو ملكها لم يجز للذي اشتراها شراؤها، وأما إمساكها باليد الذي فِي هَذَا الخبر إنكاره، فقد نسخ بيقين لا شك فيه؛ لإيجاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الزكاة فِي الذهب، وإباحته عليه الصلاة والسلام بيع الذهب بالذهب مثلا بمثل وزنا بوزن، وإباحته عليه الصلاة والسلام بيع قلادة الذهب التي أُصيبت بخيبر، بعد أن أمر بنزع الخرز عنها، وبيع الذهب بالذهب مثلا بمثل، ولم يحرم بيع القلادة التي فيها الذهب، ولا ابتياعها، ولا أمر بكسرها، ولا خلاف فِي أن إيجاب الزكاة فِي الذهب، وإباحة بيعه بالذهب مثلا بمثل باق إلى يوم القيامة لم ينسخ.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام -إذ بلغه بيع فاطمة رضي الله عنها السلسلة الذهب، وابتياعها بثمنها غلاما، فأعتقته-:"الحمد لله الذي أنقذ فاطمة منْ النار"، فالذي لا شك فيه فهو أنه قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ما رويناه فِي "صحيح مسلم".
منْ طريق سعيد بن مرجانة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ:"منْ أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منْ النار، حَتَّى فرجه بفرجه"، فنحن عَلَى يقين منْ أن الله تعالى أنقذها منْ النار بعتقها للغلام، ومن ادعى أنه إنما أنقذها منْ النار ببيعها السلسلة، فقد قفا ما لا علم له به، وَقَالَ ما لا دليل له عليه، ولا برهان عنده بصحته، وما ليس فِي الخبر منه نص، ولا دليل إلا بالظن الذي هو أكذب الْحَدِيث.
وَقَدْ جاء فِي كراهة مس حلي الذهب أثر صحيح، كما روينا فِي "سنن أبي داود"، منْ طريق يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة أم المؤمنين، قالت: قدمت عَلَى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حلية منْ عند النجاشي، أهداها له، فيها خاتم منْ ذهب، فيه فَصّ حبشي، قالت: فأخذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعود معرضا أو ببعض أصابعه، ثم دَعَى أمامة بنت أبي العاص، ابنة ابنته زينب، فَقَالَ تَحلَّي بهذا يا بنية".
فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قد كره مس خاتم الذهب، فلعله كرهه لفاطمة أيضًا، ومع ذلك حلاه أمامة بنت أبي العاص.
قَالَ ابن حزم رحمه الله تعالى: والحاكم عَلَى كل ذلك هو ما رويناه منْ طريق أحمد ابن شعيب -يعني النسائيّ- أنا عمرو بن عليّ، نا يحيى هو ابن سعيد القطّان، ويزيد هو ابن زريع، ومعتمر هو ابن سليمان التيمي، وبشر بن المفضل، قالوا كلهم: نا عبيد الله ابن عمر، عن نافع مولى ابن عمر، عن سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى الأشعري،
أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: "إن الله أحل لإناث أمتي الحرير والذهب، وحرمه عَلَى ذكورها"
(1)
. ورويناه أيضًا منْ طريق حماد بن سلمة، وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفيّ، وأبي معاوية الضرير، وحماد بن مسعدة، كلهم عن عبيد الله بن عمر بإسناده، إلا أنهم اقتصروا عَلَى ذكر الحرير فقط، إلا حماد بن سلمة، فإنه ذكر الحرير والذهب. ورويناه أيضًا منْ طريق سعيد بن أبي عروبة، ومعمر كلاهما عن أيوب السختياني، عن نافع بإسناده، وذكر الحرير والذهب، وهو أثر صحيح؛ لأن سعيد بن أبي هند ثقة مشهور، رَوَى عنه نافع، وموسى بن ميسرة. ومن طريق أبي داود، نا أحمد بن حنبل، نا يعقوب هو ابن إبراهيم بن سَعْد بن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف، نا أبي، عن ابن إسحاق، قَالَ: إن نافعا مولى ابن عمر حدثني، عن عبد الله ابن عمر قَالَ: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، نهى النِّساء فِي إحرامهن عن القفازين والنقاب، وما مس الورس أو الزعفران منْ الثياب، ولتلبس بعد ذلك ما أحبت منْ معصفر، أو حذاء، أو حلى، أو سراويل، أو قميص، أو خف، فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم لها جميع الحلى، ولو كَانَ الذهب حراما عليهن لبينه عليه الصلاة والسلام بلا شك، فإذ لم ينص عَلَى منعه، فهذا حلال لهن. وبالله تعالى التوفيق.
وبهذا تقول جماعة منْ السلف، روينا منْ طريق حماد بن سلمة، وقتادة، قَالَ قتادة: عن عليّ بن عبد الله البارقي، وَقَالَ حماد: عن عقبة بن وشاح، كلاهما عن ابن عمر، أنهما سألاه عن الحرير والذهب، فَقَالَ: يكرهان للرجال، ولا يكرهان للنساء. ومن طريق شعبة، عن سليمان بن أبي المغيرة البزار، عن سعيد بن جبير، قَالَ: رأى حذيفة صبيانا، عليهم قمص حرير، فنزعه عن الغلمان، وأمر بنزعه عنهم، وتركه عَلَى الجواري. وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، ومالك، وأبي سليمان -يعني داود الظاهريّ- وأصحابه. انتهى كلام ابن حزم رحمه الله تعالى
(2)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما سبق منْ البحث فِي أقوال أهل العلم وأدلّتهم أن ما ذهب إليه الجمهور منْ جواز التحلّي بالذهب مطلقًا هو الحقّ؛ لقوة أدلّته الكثيرة:
(فمنها): قوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18] قَالَ ابن عباس وغيره: هن الجواري زيّهنّ غير زيّ الرجال. وَقَالَ مجاهد: رُخّص للنساء فِي الذهب والحرير، وقرأ هذه الآية. وَقَالَ إِلْكِيا: فيه دلالة عَلَى
(1)
راجع "السنن الكبرى" للنسائيّ 5/ 437 رقم 9449.
(2)
راجع "المحلّى" 10/ 82/ 86.
إباحة الحليّ للنساء، والإجماع منعقد عليه، والأخبار فيه لا تُحصى
(1)
.
(ومنها): ما أخرجه أبو داود، بإسناد صحيح
(2)
، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: قَدِمت عَلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم حلية منْ عند النجاشيّ، أهداها له، فيها خاتم منْ ذهب، فيه فصّ حبشيّ، قالت: فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود مُعرضًا -أو ببعض أصابعه- ثم دعا أمامة بنت أبي العاص ابنة ابنته زينب، فَقَالَ:"تَحَلَّي بهذا يا بُنيّة". وأعلّه بعضهم بأن ابن إسحاق مدلّس، ورُدّ بأنه صرح فِي "سنن أبي داود" بالتحديث، فزالت تهمة تدليسه.
(ومنها): حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعًا: "أحل الذهب والحرير لإناث أمتي، وحُرّم عَلَى ذكورها"، وهو حديث صحيح، سيأتي للمصنّف فِي الباب التالي بألفاظ.
(ومنها): حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، مرفوعًا:"ولتلبس بعد ذلك ما أحبت منْ معصفر، أو حذاء، أو حلي، أو سراويل، أو قميص، أو خف"، فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم لها جميع الحلي، ولم يخصّ نوعًا دون نوع، كما سبق تقريره فِي كلام ابن حزم المتقدّم.
(ومنها): أحاديث زكاة الحليّ التي تقدّمت فِي "كتاب الزكاة". وبالجملة فأحاديث الإباحة كثيرة.
وَقَدْ ذهب الشيخ الألباني إلى تحريم الذهب المحلّق عَلَى النِّساء، وكتب فِي ذلك بحثًا مطولاً فِي كتابه "آداب الزفاف"، وتمسّك بأحاديث:
(منها): حديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق، مرفوعًا: "منْ أحبّ أن يُحلّق حبيبه بحلقة منْ نار، فليُحلّقه حلقة منْ ذهب
…
" الْحَدِيث، وهذا فِي سنده أسيد بن أبي أُسيد، لم يوثّقه أحد منْ المتقدّمين المعتبرين، وغاية ما نقل عنهم قول الدارقطنيّ: يُعتبر به، وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وعلى فرض صحّته، فليس دليلاً لتحريم الذهب عَلَى النِّساء؛ لأن حبيياً فعيل بمعنى مفعول، والقاعدة أن فعيلاً بمعنى مفعول إذا استُعمل استعمال الأسماء، أي بأن لم يتبع موصوفه لحقته التاء للمؤنّث، نحو هذه ذبيحة، ونطيحة، وأكلية: أي مذبوحة الخ، وإذا لم يُستعمل استعمال الأسماء، كما هنا لم تلحقه التاء إلا نادراً، فيقال: مررت بامرأة جريح، أي مجروحة، فـ"حبيبه" هنا للذكر، بمعنى محبوبه؛ إذ لو كَانَ المراد به المؤنّث لقيل: "حبيبته"، فلا يُطلق "حبيب" فِي هَذَا الْحَدِيث إلا عَلَى الذكر، ولا ينبغي حمل الْحَدِيث عَلَى النادر، راجع ما كتبه شُرّاح "خلاصة ابن مالك" رحمه الله تعالى عند قوله:
(1)
راجع "تفسير القرطبيّ" 16/ 71.
(2)
رقم الْحَدِيث (3697).
وَمِنْ فَعِيلٍ كَقَتِيلٍ إِنْ تَبِعْ
…
مَوْصُوفَهُ غَالِبًا التَّا تَمْتَنِعْ
فما ذكره الشيخ الألباني منْ أن "حبيبه" يشمل المرأة، فليس عَلَى ما ينبغي، فتبصّر.
وَقَدْ ذكر أيضاً أحاديث أخر، منْ حديث ثوبان، وعائشة، وأم سلمة رضي الله تعالى عنهم، وكلها فيها مقال، وإن صححها الشيخ، فلا تقوى عَلَى معارضة أحاديث الإباحة، كما لا يخفى عَلَى منصف.
وَقَدْ ردّ عليه الشيخ إسماعيل الأنصاريّ، وكتب فِي الردّ عليه رسالة، وكذا كتب الشيخ أرشد الهنديّ رسالة فِي الردّ عليه، وكلاهما مطبوعان، فراجع ما كتاباه تستفد.
والحاصل أن ما ذهب إليه الجمهور منْ جواز التحلّي للنساء بالذهب مطلقًا، هو الحقّ؛ لظهور أدلّته، كما سبق بيانه، وأما أدلة منْ قَالَ بالتحريم فإنها لا تصل إلى درجة أن يعارض بها أحاديث الإباحة، فتبصر بالإنصاف، ولا تتحيّر بالاعتساف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5140 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، قَالَ: سَمِعْتُ مَنْصُورًا، يُحَدِّثُ عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنِ امْرَأَتِهِ، عَنْ أُخْتِ حُذَيْفَةَ، قَالَتْ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، أَمَا لَكُنَّ فِي الْفِضَّةِ مَا تَحَلَّيْنَ، أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُحَلَّى ذَهَبًا تُظْهِرُهُ، إِلاَّ عُذِّبَتْ بِهِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن عبد الأعلى": هو الصنعاني، ثم البصريّ الثقة [10]. و"المعتمر": هو ابن سليمان التيميّ البصريّ الثقة، منْ كبار [9].
والحديث ضعيف؛ لأنّ فِي إسناده مجهولة، كما تقدّم الكلام فيه، فيما قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5141 -
(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ عَمْرٍو، أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ يَزِيدَ، حَدَّثَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ تَحَلَّتْ -يَعْنِي بِقِلَادَةٍ مِنْ ذَهَبٍ- جُعِلَ فِي عُنُقِهَا مِثْلُهَا مِنَ النَّارِ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ جَعَلَتْ فِي أُذُنِهَا خُرْصًا مِنْ ذَهَبٍ، جَعَلَ اللَّهُ عز وجل فِي أُذُنِهَا مِثْلَهُ خُرْصًا مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(عبيد الله بن سعيد) أبو قُدامة السرخسيّ الثقة المأمون السنّي [10] 15/ 15.
2 -
(معاذ بن هشام) الدستوائيّ البصريّ، صدوقٌ، ربّما وهم [9] 30/ 34.
3 -
(أبوه) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائيّ البصريّ الثقة الثبت [7] 30/ 34.
4 -
(يحيى بن أبي كثير) أبو نصر اليماميّ البصريّ، ثقة ثبت، ربما دلّس [5]
24/ 23.
5 -
(محمود بن عمرو) بن يزيد بن السكن الأنصاريّ المدنيّ، مقبول [3].
رَوَى عن عمته أسماء بنت يزيد بن السكن، وجدّه يزيد بن السكن، وسعد بن أبي وقّاص، وأبي هريرة، ومعاذ بن عفراء، والنعمان بن أبي فاطمة. وعنه يحيى ابن أبي كثير، وحُصين بن عبد الرحمن الأشهليّ، ذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ ابن حزم: محمود ضعيف. وَقَالَ أبو الحسن بن القطّان: مجهول الحال. وَقَالَ الذهبيّ: فيه جهالة. رَوَى له المصنّف، وأبو داود، وله عندهما هَذَا الْحَدِيث فقط.
6 -
(أسماء بنت بنت يزيد) بن السكن بن رافع بن امرىء القيس بن زيد بن عبد الأشهل الأنصارية الأشهلية، أم سلمة، ويقال: أم عامر، روت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنها ابن أختها محمود بن عمرو الأنصاريّ، ومولاها مهاجر بن أبي مسلم، وشهر ابن حوشب، وغيرهم. بايعت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وشهدت اليرموك. ولها ذكر فِي "صحيح مسلم" فِي الغسل منْ الحيض، فِي حديث صفية، عن عائشة، قالت: دخلت أسماء بنت شكل، فقالت: يا رسول الله، كيف تغتسل إحدانا منْ المحيض؟ كذا وقع عنده، وَقَالَ الخطيب: هو وَهَمٌ، والصواب أسماء بنت السكن، وهي بنت يزيد بن السكن، خطيبة الأنصار، وتبع الخطيب عَلَى ذلك جماعة، قَالَ الحافظ: وهو متجه، فَقَالَ الحافظ أبو أحمد الدمياطي: ليس فِي الأنصار منْ اسمه شكل، ففي البخاريّ فِي هَذَا الْحَدِيث بعينه: أن امرأة منْ الأنصار، سألت. قَالَ الحافظ: وليس الوهم فِي اسم أبيها منْ مسلم، وإنما هو ممن فوقه، فقد رواه كذلك أبو بكر بن أبي شيبة فِي "مسنده"، وأبو عوانة، وأبو نعيم فِي "مستخرجيهما" منْ طريق أبي الأحوص، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن صفية، وذكر أسماء بنت شكل جماعة فِي الصحابة، منهم بن سعد، والباوردي، والطبراني، وابن منده، وغيرهم. رَوَى لها البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، والأربعة، لها عند المصنّف هَذَا الْحَدِيث فقط. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ) أنه (قَالَ: حَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ عَمْرٍو، أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ يَزِيدَ) بن السكن رضي الله تعالى عنها (حَدَّثَتْهُ) أي حدّثت محمود بن عمرو (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ تَحَلَّتْ) أي تزينت (يَعْنِي بِقِلَادَةٍ مِنْ ذَهَبٍ) هذه العناية منْ بعض الرواة
(جُعِلَ فِي عُنُقِهَا مِثْلُهَا) أي مثل تلك القلادة (مِنَ النَّارِ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ جَعَلَتْ فِي أُذُنِهَا خُرْصًا) بضم الخاء المعجمة، وتكسر، وسكون الراء، آخره صاد مهملة: حَلْقة الذهب والفضّة، أو حلْقة الْقُرط، أو الحلقة الصغيرة منْ الْحُلِيّ، جمعه خُرْصانٌ. أفاده فِي "القاموس". وَقَالَ ابن الأثير فِي "النهاية" 2/ 22:"الْخُرْص" بالضمّ، والكسر: الحلْقة الصغيرة منْ الْحَلْي، وهو منْ حَلْي الأذن. انتهى. (مِنْ ذَهَبٍ، جَعَلَ اللَّهُ عز وجل فِي أُذُنِهَا مِثْلَهُ خُرْصًا مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فيه أن الجزاء منْ جنس العمل. قَالَ ابن الأثير رحمه الله تعالى: قيل: كَانَ هَذَا قبل النسخ، فإنه قد ثبت إباحة الذهب للنساء. وقيل: هو خاصّ بمن لم تؤدّ زكاة حليها. انتهى. وَقَالَ الخطّابيّ رحمه الله تعالى: هَذَا الْحَدِيث يتأول عَلَى وجهين: [أحدهما]: أنه إنما قَالَ ذلك فِي الزمان الأول، ثم نُسخ، وأُبيح للنساء التحلّي بالذهب. [والوجه الآخر]: أن هَذَا الوعيد إنما جاء فيمن لا تؤدّي زكاة الذهب، دون منْ أدّاها. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا عَلَى تقدير صحة الْحَدِيث، وإلا فهو ضعيف، كما سيأتي قريباً، ومعارض بالأحاديث الصحيحة، كالحديث الآتي فِي الباب التالي:"هذان حرام عَلَى ذكور أمتي، حِلٌّ لإناثها". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أسماء بن يزيد رضي الله تعالى عنها هَذَا ضعيفٌ؛ لجهالة محمود بن عمرو، والمراد جهالة حاله، لا عينه، فقد رَوَى عنه يحيى بن أبي كثير، وحصين ابن عبد الرحمن الأشهليّ، كما سبق فِي ترجمته، لكنه مجهول الحال. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -39/ 5141 - وفي "الكبرى" 49/ 9439. وأخرجه (د) فِي "الخاتم" 4238 (أحمد) فِي "مسند القبائل" 27057. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5142 -
(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِى كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدٌ، عَنْ أَبِى سَلاَّمٍ، عَنْ أَبِى أَسْمَاءَ الرَّحَبِيِّ، أَنَّ ثَوْبَانَ، مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَهُ، قَالَ: جَاءَتْ بِنْتُ هُبَيْرَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِى يَدِهَا فَتَخٌ، فَقَالَ: كَذَا فِى كِتَابِ أَبِي -أَيْ خَوَاتِيمَ ضِخَامٍ- فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،
يَضْرِبُ يَدَهَا، فَدَخَلَتْ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، تَشْكُو إِلَيْهَا الَّذِي صَنَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَانْتَزَعَتْ فَاطِمَةُ سِلْسِلَةً فِي عُنُقِهَا مِنْ ذَهَبٍ، وَقَالَتْ: هَذِهِ أَهْدَاهَا إِلَيَّ أَبُو حَسَنٍ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالسِّلْسِلَةُ فِي يَدِهَا، فَقَالَ:"يَا فَاطِمَةُ أَيَغُرُّكِ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ، وَفِي يَدِهَا سِلْسِلَةٌ مِنْ نَارٍ؟ "، ثُمَّ خَرَجَ، وَلَمْ يَقْعُدْ، فَأَرْسَلَتْ فَاطِمَةُ بِالسِّلْسِلَةِ إِلَى السُّوقِ فَبَاعَتْهَا، وَاشْتَرَتْ بِثَمَنِهَا غُلَامًا، وَقَالَ مَرَّةً: عَبْدًا، وَذَكَرَ كَلِمَةً مَعْنَاهَا: فَأَعْتَقَتْهُ، فَحُدِّثَ بِذَلِكَ، فَقَالَ:"الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْجَى فَاطِمَةَ مِنَ النَّارِ").
رجال هَذَا الإسناد: ثمانية:
1 -
(زيد) بن سلام بن أبي سلّام الدمشقيّ، ثقة [6] 2/ 1370.
2 -
(أبو سلّام) ممطور الأسود الحبشيّ، ثقة، يرسل [3] 2/ 1370.
3 -
(أبو أسماء الرَّحَبيّ) عمرو بن مَرْثد الدمشقيّ، ويقال: اسمه عبد الله، ثقة [3] 81/ 1337.
4 -
(ثوبان) مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، صحبه، ولازمه، ونزل بعده الشام، ومات رضي الله عنه بحمص، سنة (54)، وتقدّمت ترجمته 170/ 1139. والباقون تقدّموا فِي السند الماضي والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ ثُمانيات المصنّف رحمه الله تعالى فهو سند نازل. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فسرخسيّ، ثم نيسابوريّ، ونصفه الثاني مسلسل بالشاميين، وفيه أربعة منْ التابعين يروي بعضهم عن بعض: يحيى، فمن بعده، وفيه رواية الابن عن أبيه. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ) عمرو بن مَرْثد (الرَّحَبِيِّ) بفتح الراء، وحاء المهملة، بعدها موحّدة: نسبة إلى بطن منْ حمير. قاله فِي "لبّ اللباب" 1/ 348. (أَنَّ ثَوْبَانَ، مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) رضي الله تعالى عنه (حَدَّثَهُ) أي حدّث أبا أسماء (قَالَ: جَاءَتْ بِنْتُ هُبَيْرَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي يَدِهَا فَتَخٌ) بفتح الفاء، والتاء المثنّاة منْ فوقُ، آخره خاء معجمة: جمع فتَخَة، وهي خواتيم كبار تُلبَس فِي الأيدي، وربّما وُضعت فِي أصابع الأرجل، وقيل: هي خواتيم لا فُصُوص لها، وتُجمع أيضاً عَلَى فَتَخات. انتهى "النهاية" 3/ 408. وَقَالَ فِي "القاموس": "الفتخة" -أي بفتح، فسكون- ويُحرّك: خاتم كبير
يكون فِي اليد والرجل، أو حَلْقَة منْ فضّة، كالخاتم، جمعه فَتَخٌ -أي بفتحتين- وفُتُوخٌ -أي بالضمّ -وفَتَخَات- أي بفتحات-. انتهى.
[تنبيه]: وقع فِي "الكبرى" بلفظ "فطخ" بالطاء المهملة بدل "فتخ"، وهو تصحيف، والصواب بالتاء المثناة الفوقيّة، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
وقوله: (فَقَالَ: كَذَا فِي كِتَابِ أَبِي أَيْ: خَوَاتِيمَ ضِخَامٍ) القائل هو معاذ بن هشام، كما صرّح به ابن حزم فِي "المحلّى"
(1)
يعني أنه وجد فِي كتاب أبيه تفسير "فتخ" بقوله: أي خواتيم ضخام، وهذا التفسير بمعنى ما سبق نقله آنفاً منْ "النهاية"، و"القاموس"(فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَضْرِبُ يَدَهَا) أي منكراً عليها، وتعزيراً لها؛ للبسها ذلك (فَدَخَلَتْ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، تَشْكُو إِلَيْهَا الَّذِي صَنَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي منْ ضربه يدها (فَانْتَزَعَتْ فَاطِمَةُ) قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: ظاهر هَذَا أن السلسلة كانت باقية عندها حين كانت هذه القضيّة، لكن آخر الْحَدِيث يدلّ عَلَى أنها باعتها قبل ذلك، والأقرب أن يقال: ضمير فِي عنقها لبنت هُبيرة، ولعلّ تلك السلسلة اشترتها بنت هبيرة حين باعتها فاطمة، وكانت فِي عنقها حينئذ، فرأتها فاطمة، فانتزعتها منْ عنقها لتذكر لها حالها، فتقيس عليها حال الْفَتَخ. والله تعالى أعلم. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا التأويل الذي ذكره السنديّ غير صحيح، فأين آخر الْحَدِيث الذي يدلّ عَلَى أنها باعت قبل ذلك؟ وكيف يدّعي أن الضمير لبنت هُبيرة، وأنها هي التي اشترت سلسلة فاطمة، وسياق الْحَدِيث بعيد عن هَذَا كلّه، فإنه صريح فِي أن سلسلة فاطمة كانت موجودة حينئذ فِي عنق فاطمة رضي الله تعالى عنها، ولا يدلّ عَلَى أنها باعتها لبنت هُبيرة، ولفظ الإمام أحمد فِي "مسنده" عن ثوبان رضي الله عنه أن ابنة هبيرة دخلت عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي يدها خواتيم منْ ذهب، يقال لها: الفتخ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرع يدها بعُصَيّة معه، يقول لها:"يَسُرُّكِ أن يجعل الله فِي يدك خواتيم منْ نار؟ " فأتت فاطمة، فشكت إليها ما صنع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وانطلقتُ أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام خلف الباب، وكان إذا استأذن قام خلف الباب، قَالَ: فقالت لها فاطمة: انظري إلى هذه السلسلة التي أهداها إلي أبو حسن، قَالَ: وفي يدها سلسلة منْ ذهب، فدخل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يا فاطمة بالعدل
(2)
، أن يقول النَّاس: فاطمة بنت محمد، وفي يدك سلسلة منْ نار، ثم عَذَمَها عَذْماً شديدا
(3)
، ثم خرج، ولم يقعد،
(1)
راجع "المحلّى"10/ 84 ولفظه: "قَالَ معاذ: كذا فِي كتاب أبي أي خواتم كبار".
(2)
هكذا نسخة "المسند"، والله أعدم.
(3)
منْ باب ضرب: أي لامها لوماً شديداً.
فأمرت بالسلسلة فبيعت، فاشترت بثمنها عبدا، فأعتقته، فلما سمع بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم كبر، وَقَالَ:"الحمد لله الذي نجى فاطمة منْ النار". انتهى.
والحاصل أن سياق الْحَدِيث صريح فِي أن سلسلة فاطمة رضي الله تعالى عنها إنما بعيت بعد قصّة بنت هُبيرة، فتبصّر. والله تعالى أعلم.
(سِلْسِلَةً) بكسر المهملتين، ويجوز فتحهما، قَالَ فِي "القاموس": السلسلةُ -أي بالفتح-: إيصال الشيء بالشيء، والقطعة الطويلة منْ السَّنَام، ويُكسر، وبالكسر: دائرة منْ حديث ونحوه. انتهى. والمعنى الأخير هو المناسب هنا. والله تعالى أعلم. (فِي عُنُقِهَا مِنْ ذَهَبٍ، وَقَالَتْ: هَذِهِ أَهْدَاهَا إِلَيَّ أَبُو حَسَنٍ) تريد زوجها عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم (فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالسِّلْسِلَةُ فِي يَدِهَا) جملة فِي محلّ نصب عَلَى الحال: أي دخل صلى الله عليه وسلم عَلَى فاطمة بعد أن شكت إليها بنت هُبيرة ما صنعه صلى الله عليه وسلم بها بسبب الفتخ (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (يَا فَاطِمَةُ أَيَغُرُّكِ) بضم الغين المعجمة مضارع غرّه، يقال: غرّته الدنيا غُرُورًا، منْ باب قعد: خدعته بزينتها، فهي غَرور، مثلُ رَسول. قاله فِي "المصباح". وَقَالَ السنديّ: أيغرّك منْ الغُرُور: أي أيسرّك هَذَا القول، فتصيري بذلك مغرورة، فتقعي فِي هَذَا الأمر القبيح بسببه. والله تعالى أعلم. انتهى. (أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ، وَفِي يَدِهَا سِلْسِلَةٌ مِنْ نَارٍ"؟ ثُمَّ خَرَجَ) صلى الله عليه وسلم منْ بيت فاطمة رضي الله تعالى عنها (وَلَمْ يَقْعُدْ) فيه لإنكاره عليها (فَأَرْسَلَتْ فَاطِمَةُ بِالسِّلْسِلَةِ إِلَى السُّوقِ فَبَاعَتْهَا، وَاشْتَرَتْ بِثَمَنِهَا غُلَامًا، وَقَالَ) الراوي، ولم يتبيّن لي منْ هو؟ (مَرَّةً عَبْدًا، وَذَكَرَ كَلِمَةً مَعْنَاهَا: فَأَعْتَقَتْهُ، فَحُدِّثَ بِذَلِكَ) ببناء الفعل للمفعول: أي أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بما فعلته فاطمة رضي الله تعالى عنها منْ بيع السلسلة، وشراء العبد بثمنها، وعتقها له (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْجَى فَاطِمَةَ مِنَ النَّارِ) قد تقدّم قبل حديثين ما قاله العلماء فِي تأويل هَذَا الْحَدِيث ونحوه، فلا تغفل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث ثوبان رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح.
[تنبيه]: أعلّ بعض العلماء هَذَا الْحَدِيث بأن رواية يحيى بن أبي كثير هذه منقطعة؛ لأنه لم يسمع منْ زيد بن سلام، كما قاله ابن معين، لكن الصحيح أنه سمع منه، كما قاله أبو حاتم
(1)
، ويؤيّد هَذَا هَذَا تصريحه بالتحديث فِي رواية المصنّف هنا، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
والحديث منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -39/ 5142 - وفي "الكبرى" 49/ 9440. وأخرجه أحمد فِي "مسنده" رقم (21364). والله تعالى أعلم.
(1)
راجع ترجمته فِي "تهذيب التهذيب" 4/ 383 - 384.
5143 -
(أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سَلْمٍ الْبَلْخِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلاَّمٍ
(1)
، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ، عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: جَاءَتْ بِنْتُ هُبَيْرَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي يَدِهَا فَتَخٌ
(2)
مِنْ ذَهَبٍ، أَيْ خَوَاتِيمَ ضِخَامٍ، نَحْوَهُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "سليمان" بن سلم البلخي: هو أبو داود الْهَدَديّ المصاحفيّ، ثقة [11] 118/ 1075. و"النضر بن شُميل": هو أبو الحسن البصريّ، نزيل مرو، ثقة ثبت، منْ كبار [9] 41/ 45. والباقون تقدّموا فِي السند الماضي.
والحديث فيه انقطاع؛ لأن يحيى بن أبي كثير لم يسمع منْ أبي سلام، وهو منْ أفراد المصنّف أيضًا، أخرجه هنا -39/ 5143 - وفي "الكبرى" 49/ 9441. وأخرجه (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 21892. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5144 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ شَاهِينَ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا خَالِدٌ، عَنْ مُطَرِّفٍ ح وَأَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ أَبِي الْجَهْمِ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كُنْتُ قَاعِدًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: "سِوَارَانِ مِنْ نَارٍ"، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَوْقٌ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: "طَوْقٌ مِنْ نَارٍ"، قَالَتْ: قُرْطَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: "قُرْطَيْنِ مِنْ نَارٍ"، قَالَ: وَكَانَ عَلَيْهِمَا سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَرَمَتْ بِهِمَا، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا لَمْ تَتَزَيَّنْ لِزَوْجِهَا صَلِفَتْ عِنْدَهُ، قَالَ: "مَا يَمْنَعُ إِحْدَاكُنَّ أَنْ تَصْنَعَ قُرْطَيْنِ مِنْ فِضَّةٍ، ثُمَّ تُصَفِّرَهُ بِزَعْفَرَانٍ، أَوْ بِعَبِيرٍ"، اللَّفْظُ لاِبْنِ حَرْبٍ).
رجال هَذَا الإسناد: ثمانية:
1 -
(إسحاق بن شاهين الواسطيّ) أبو بشر بن أبي عمران، صدوقٌ [10] 50/ 3518.
2 -
(أحمد بن حرب) بن محمد بن عليّ بن حيّان بن مازن الطائيّ الموصليّ، صدوقٌ [10] 102/ 135 منْ أفراد المصنّف.
3 -
(خالد) بن عبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد الطحّان المزنيّ مولاهم الواسطيّ، ثقة ثبت [8] 67/ 1807.
[تنبيه]: وقع فِي "تحفة الأشراف" 10/ 453: "خالد بن عبيد الله" مصغّرًا، وهو تصحيف، والصواب "ابن عبد الله" مكبّراً، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
(1)
وقع فِي "الكبرى""عن أبي سلام، واسمه معفور"، وهو تصحيف، والصواب:"واسمه ممطور" بميمين، فطاء. فتنبّه.
(2)
وقع فِي "الكبرى" بلفظ "فطع" بالطاء بدل التاء، وهو تصحيف، فتنبّه.
4 -
(أسباط) بن محمد بن عبد الرحمن القرشيّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقة، ضُعّف فِي الثوريّ [9] 92/ 1349.
5 -
(مُطرّف) بن طَرِيف، أبو بكر، أو أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقة فاضل، منْ صغار [6] 2/ 327.
6 -
(أبو الجهم) سليمان بن الجهم بن أبي الجهم الأنصاريّ الحارثيّ الجرجاني، مولى البراء ابن عازب، ثقة [3].
رَوَى عن مولاه البراء، وأبي مسعود الأنصاريّ البدريّن وأبي زيد، صاحب أبي هريرة، وخالد بن وُهبان، وغيرهم. وعنه رَوْح بن جناح، ومُطرّف بن طَرِيف، وأثنى عليه خيراً. قَالَ ابن المدينيّ: لا أعلم رَوَى عنه غير مطرّف. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: عِدَاده فِي أهل جُرْجَان، كذا قَالَ، وأما البخاريّ، فَقَالَ فيه: الجُوزجانيّ، ويقال: الجرجانيّ. وَقَالَ العجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقة. ونقل ابن خلفون عن ابن عُمير
(1)
توثيقه. رَوَى له المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.
7 -
(أبو زيد) شيخ لأبي الجهم مجهول [3].
وفي "تهذيب التهذيب": عن أبي هريرة فِي تحريم الذهب، وعنه أبو الجهم سليمان ابن الجهم، أخرج أحمد منْ طريق شعبة عن أبي زيد مولى الحسن بن عليّ، عن أبي هريرة حديثًا غير هَذَا، فكأنه هو، ورواية شعبة عنه مما يُقوّي أمره. انتهى. تفرد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.
8 -
(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: كُنْتُ قَاعِدًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ) هكذا النسخة بنصب "سوارين" وهو منصوب بفعل مقدّر: أي ألبس سوارين منْ ذهب. والسوار بالكسر ككتاب، وبالضمّ كغُراب: الْقُلْبُ، كالأُسوار بالضمّ، جمعه أَسْوِرة، وأَساور، وأَساورة، وسُوْرٌ، وسُؤُرٌ. قاله فِي "القاموس". (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (سِوَارَانِ مِنْ نَارٍ) هكذا نسخ "المجتبى" برفع "سواران" عَلَى أنه مبتدأ خبره محذوف: أي لك سواران منْ نار (قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَوْقٌ مِنْ
(1)
هكذا نسخة "تهذيب التهذيب" 2/ 87 "ابن عمير" بالعين المهملة، ولعله مصحّف منْ "ابن نمير" بالنون، فليُحرّر.
ذَهَبٍ؟) بالرفع أي أيحلّ طوقٌ منْ ذهب؟. و"الطَّوْق" بفتح، فسكون: حَلْيٌ للعنق، وكلُّ ما استدار بشيء، جمعه أَطْوَاق. أفاده فِي "القاموس"، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (طَوْقٌ مِنْ نَارٍ) أي لك طوق منْ نار (قَالَتْ: قُرْطَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ) بالنصب عَلَى الوجه المتقدّم فِي "سوارين": أي ألبس قُرطين منْ ذهب. و"القرط" بضم، فسكون: ما يُعلّق فِي شحمة الأذن، وجمعه أَقْرِطةٌ، وقِرَطَة وزان عِنَبَة. قاله فِي "المصباح". (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (قُرْطَيْنِ مِنْ نَارٍ) منصوب بفعل مقدّر: أي يُبدلهما الله تعالى قُرطين منْ نار (قَالَ) أي أبو هريرة رضي الله عنه (وَكَانَ عَلَيْهِا) أي عَلَى تلك المرأة، وهذا هو الذي فِي النسخة "الهنديّة" ووقع فِي النسخ المطبوعة:"عليهما" بالتثنية وهو غلط، والصواب الأول (سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَرَمَتْ بِهِمَا) أي لما سمعت الوعيد (قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا لَمْ تَتَزَيَّنْ لِزَوْجِهَا صَلِفَتْ عِنْدَهُ) بكسر اللام، منْ باب تَعِب، كما يُستفاد منْ عبارة "القاموس": قَالَ: ابن الأثير رحمه الله تعالى: أي ثقُلت عليه، ولم تَحْظَ عنده، وولاّها صَلِيف عُنُقه: أي جانبه. انتهى "النهاية" 3/ 47. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَا يَمْنَعُ إِحْدَاكُنَّ أَنْ تَصْنَعَ) منْ باب نفع (قُرْطَيْنِ مِنْ فِضَّةٍ، ثُمَّ تُصَفِّرَهُ) بتشديد الفاء، منْ التصفير: يقال: صفّره تصفيرًا: صبغه بصُفْرة. قاله فِي "القاموس"(بِزَعْفَرَانٍ) قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: أي فتجمع صفرة الزعفران مع بريق الفضّة، فيُخيّل إلى النفوس أنه منْ ذهب، ويؤدّي منْ الزينة ما يؤدّيه الذهب. انتهى. وقوله:(أَوْ بِعَبِيرٍ) شكّ منْ الراوي، و"العبير" -بفتح العين المهملة، وكسر الموحّدة، وزان كَرِيم-: أخلاط تُجمَع منْ الطيب. قاله الفيّوميّ.
وقوله: (اللَّفْظُ لاِبْنِ حَرْبٍ) يعني أن هَذَا السياق لشيخه أحمد بن حرب، وأما إسحاق، فساقه بغير هَذَا اللفط. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا ضعيف؛ لجهالة أبي زيد الراوي عنه، كما سبق فِي ترجمته.
والحديث منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا 39/ 5144 - وفي "الكبرى" جـ 5/ ص 434 رقم 49/ 9443. وأخرجه (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 9385. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5145 -
(أَخْبَرَنِي الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، رَأَى عَلَيْهَا مَسَكَتَيْ ذَهَبٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلَا أُخْبِرُكِ بِمَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْ
هَذَا، لَوْ نَزَعْتِ هَذَا، وَجَعَلْتِ مَسَكَتَيْنِ مِنْ وَرِقٍ، ثُمَّ صَفَّرْتِهِمَا بِزَعْفَرَانٍ، كَانَتَا حَسَنَتَيْنِ".
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا غَيْرُ مَحْفُوظٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ).
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(الربيع بن سليمان) بن داود الجيزيّ، أبو محمد الأعرج المصريّ، ثقة [11] 122/ 173.
2 -
(إسحاق بن بكر) بن مضر، أبو يعقوب المصريّ، صدوقٌ فقيه [10] 122/ 173.
3 -
(أبوه) بكر بن مضر بن محمد بن حكيم المصريّ، ثقة ثبت [8] 122/ 173.
4 -
(عمرو بن الحارث) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقة فقيه حافظ [7] 63/ 79.
5 -
(ابن شهاب) محمد بن مسلم الإمام الحافظ الحجة المدنيّ [4] 1/ 1.
6 -
(عروة) بن الزبير بن العوّام المدنيّ الفقيه الثقة الثبت [3] 40/ 44.
7 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها 5/ 5. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بثقات المصريين إلى عمرو، والباقون مدنيون. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وعائشة رضي الله تعالى عنها منْ المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله تعالى عنها (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، رَأَى عَلَيْهَا مَسَكَتَيْ ذَهَبٍ) -بفتح الميم، والسين المهملة-: تثنية مسكة، قَالَ الفيّوميّ: المسك بفتحتين: أسورة منْ ذَبْلٍ
(1)
، أو عاج. انتهى. وفي "القاموس": الْمَسَك بالتحريك: الذّبْل، والأسورة، والخلاخيل منْ القرون، والعاج، الواحد بهاء. انتهى. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلَا
(1)
"الذبل" بفتح، فسكون، وزان فَلْس: شيء كالعاج، وقيل: هو ظهر السُّلحفاة البحريّة. و"العاج": أنياب الفيل، قَالَ الليث: ولا يسمّى غير الناب عاجاً، والعاج: ظهر السلحفاة البحريّة. قاله فِي "المصباح" 2/ 436.
أُخْبِرُكِ بِمَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا، لَوْ نَزَعْتِ هَذَا وَجَعَلْتِ مَسَكَتَيْنِ مِنْ وَرِقٍ) -بفتح الواو، وكسر الراء، وَقَدْ يُخفّف بالتسكين-: الفضّة (ثُمَّ صَفَّرْتِهِمَا) أي صبغتهما (بِزَعْفَرَانٍ، كَانَتَا حَسَنَتَيْنِ) هَذَا يدلّ عَلَى جواز لبس مَسَكة الذهب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ألا أخبرك بما هو أحسن منْ هَذَا"؛ فإنه ظاهر فِي أن ما لبسته حسن جائز، إلا أن الأحسن منه أن تلبس مسكة الفضّة. والله تعالى أعلم.
وقوله: (قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أي النسائيّ رحمه الله تعالى (هَذَا غَيْرُ مَحْفُوظٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ) يعني أن هَذَا الْحَدِيث بهذا السياق غير محفوظ.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لم يظهر لي وجه كونه غير محفوظ، فإن ظاهر الإسناد أنّه صحيح، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -39/ 5145 - وفي "الكبرى" 49/ 9444. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
38 -
(تَحْرِيمِ الذَّهَبِ عَلَى الرِّجَالِ)
5146 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي أَفْلَحَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ زُرَيْرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، يَقُولُ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَخَذَ حَرِيرًا، فَجَعَلَهُ فِي يَمِينِهِ، وَأَخَذَ ذَهَبًا فَجَعَلَهُ فِي شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.
2 -
(الليث) بن سعد الفهميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقة ثبت فقيه [7] 31/ 35.
3 -
(يزيد بن أبي حبيب) سُويد، أبو رجاء المصريّ، ثقة فقيه يرسل [5] 134/ 207.
4 -
(أبو أفلح الهمدانيّ) المصريّ، مقبول [5].
رَوَى عن عبد الله بن زُرير الغافقيّ المصريّ، عن عليّ هَذَا الْحَدِيث. وعنه أبو الصعبة عبد العزيز بن أبي الصعبة، ويزيد بن أبي حبيب، وبكر بن سَوَادة،. وَقَالَ ابن
يونس: رَوَى عن رجل منْ همدان، وآخر منْ مراد، عن أبي الدرداء. قَالَ العجليّ: بصريّ
(1)
تابعيّ ثقة. أخرج له المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه هَذَا الْحَدِيث فقط، وكرره المصنّف فِي هَذَا الباب أربع مرّات.
5 -
(ابن زُرير) هو عبد الله بن زُرير الغافقيّ المصريّ، ثقة رُمي بالتشيّع [2] 10/ 3607.
6 -
(عليّ بن أبي طالب) رضي الله تعالى عنه 74/ 91. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنِ) عبد الله (بْنِ زُرَيْرِ) -بتقديم الزاي، مصغّرًا- (أَنَّهُ سَمِعَ عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ) رضي الله عنه (يَقُولُ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَخَذَ حَرِيرًا، فَجَعَلَهُ فِى يَمِينِهِ، وَأَخَذَ ذَهَبًا فَجَعَلَهُ فِى شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ:"إِنَّ هَذَيْنِ) المراد الإشارة إلى جنسهما، لا عينهما فقط (حَرَامٌ) قَالَ السنديّ: قيل: القياس "حرامان"، إلا أنه مصدرٌ، وهو لا يُثنّى، ولا يُجمع، أو التقدير: كلّ واحد منهما حرامٌ، فأفرد لئلا يتوهّم الجمع. وَقَالَ السيوطيّ: قَالَ ابن مالك فِي "شرح الكافية": أراد استعمال هذين، فحذف "استعمال"، وأقام "هذين" مقامه، فأفرد الخبر. انتهى.
وعلى كلّ تقدير فالمراد استعمالهما لبساً، وإلا فالاستعمال صَرْفًا، وإنفاقًا، وبيعًا جائزٌ للكلّ، واستعمال الذهب باتّخاذ الأواني منه، واستعمالها حرام للكلّ. قاله السنديّ (عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي") زاد فِي رواية ابن ماجه:"حِلّ لنسائهم". والحديث دليلٌ للجماهير القائلين بتحريم الحرير، والذهب عَلَى الرجال، وتحليلهما للنساء. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عليّ رضي الله عنه هَذَا صحيح بالأسانيد التي بعده، وأما هَذَا الإسناد ففيه انقطاع بين يزيد بن أبي حبيب، وأبي أفلح، كما سيشير المصنّف رحمه الله تعالى إليه قريبًا.
[فإن قلت]: فِي سنده أبو أفلح الهمدانيّ، وَقَالَ عنه فِي "التقريب": مقبول، فكيف يصحّ؟:
(1)
هكذا نسخة "تهذيب التهذيب" 4/ 482 "بصريّ" بالباء، والظاهر أنه مصحّف منْ "مصريّ" بالميم، فالله تعالى أعلم.
[قلت]: أبو أفلح هَذَا تابعيّ، رَوَى عنه جماعة، ووثّقه العجليّ، ولحديثه هدا شواهد منْ حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، كما سيأتي، وغيره، فحديثه صحيح بلا شكّ. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -40/ 5146 و5147 و5148 و5149 - وفي "الكبرى" 50/ 9445 و9446 و9447 و9448. وأخرجه (د) فِي "اللباس" 4057 (ق) فِي "اللباس" 3595.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان تحريم الذهب عَلَى الرجال، وهو مجمع عليه، قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى فِي "شرح المجموع" 4/ 326 - 327 - : أجمع العلماء عَلَى تحريم استعمال حليّ الذهب عَلَى الرجال؛ للأحاديث الصحيحة، واتفق أصحابنا عَلَى تحريم قليله، وكثيره، ولو كَانَ الخاتم فضّة، وفيه سنّ منْ ذهب، أو فصّ حرم بالاتفاق؛ للحديث، هكذا قطع به الأصحاب -أي الشافعيّة- ونقلوا الاتفاق عليه، وَقَالَ إمام الحرمين: لا يبعد تشبيهه بالضبّة الصغيرة فِي الإناء، وهذا الذي قاله شاذٌ ضعيف، والفرق أن الشرع حرّم استعمال الذهب، ومن لبس هَذَا الخاتم يُعدّ لابس ذهب، وهناك حرّم إناء الذهب والفضّة، وهذا ليس بإناء. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى.
(منها): أن فيه جواز التحلّي بالذهب والحرير للنساء، وبه يقول عامّة أهل العلم، وَقَدْ تقدّم البحث عنه فِي الباب الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5147 -
(أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي الصَّعْبَةِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ هَمْدَانَ، يُقَالُ لَهُ أَبُو صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ زُرَيْرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَخَذَ حَرِيرًا، فَجَعَلَهُ فِي يَمِينِهِ، وَأَخَذَ ذَهَبًا، فَجَعَلَهُ فِي شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عيسى بن حمّاد": هو التجيبيّ، أبو موسى المصريّ الملقّب زُغْبة، وهو لقب أبيه أيضًا، ثقة [10].
و"ابن أبي الصعبة": هو عبد العزيز بن أبي الصعبة التيميّ مولاهم، أبو الصعبة المصريّ، لا بأس به [6].
رَوَى أبيه، وأبي الأفلح الهمدانيّ، وأبي عليّ الهمدانيّ، وحَنَش الصنعانيّ. وعنه
يزيد بن أبي حبيب، وعمران بن موسى. ذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ ابن المدينيّ: ليس به بأس، معروفٌ. وذكر ابن يونس أن يزيد بن أبي حبيب تفرّد بالرواية عنه. رَوَى له المصنّف، وابن ماجه هَذَا الْحَدِيث فقط.
وقوله: "يقال له: أبو صالح" سيأتي أن الصواب "أبو أفلح".
والحديث صحيح، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5148 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حِبَّانُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ لَيْثِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي الصَّعْبَةِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ هَمْدَانَ، يُقَالُ لَهُ أَفْلَحُ، عَنِ ابْنِ زُرَيْرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيًّا يَقُولُ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ حَرِيرًا، فَجَعَلَهُ فِي يَمِينِهِ، وَأَخَذَ ذَهَبًا فَجَعَلَهُ فِي شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ:"إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي".
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَحَدِيثُ ابْنُ الْمُبَارَكِ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، إِلاَّ قَوْلَهُ:"أَفْلَحَ"، فَإِنَّ أَبَا أَفْلَحَ أَشْبَهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن حاتم" هو: أبو عبد الله المروزيُّ الثقة [12] منْ أفراد المصنّف. و"حِبّان" -بكسر الحاء المهملة-: هو ابن موسى المروزيّ الثقة [10]. "وعبد الله": هو ابن المبارك الإمام المشهور [8].
وهذا الإسناد أنزل منْ الإسنادين السابقين بدرجة؛ إذ وصل المصنّف فيه إلى الليث بواسطتين، بخلافهما فبواسطة واحدة.
وقوله: "قَالَ أبو عبد الرحمن": هو النسائيّ: وقوله: "وحديث ابن المبارك أولى بالصواب"، وعبارته فِي "الكبرى" 5/ 436:"وحديث ابن المبارك أشبه بالصواب منْ الذي قبله، إلا قوله: "عن أفلح"، فإن أبا أفلح أولى بالصواب". انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أنه أراد تصويب الرواية التي فيها إدخال الواسطة بين يزيد بن أبي حبيب، وأبي أفلح، وهو ابن أبي الصعبة، وهي رواية عيسى ابن حماد، وابن المبارك، عَلَى الرواية التي أسقطته، وهي رواية قتيبة، وإنما أفرد رواية ابن المبارك، وإن كانت رواية عيسى مثلها؛ لأن روايته فيها خطأ؛ حيث قَالَ:"يقال له: أبو صالح"، إذ الصواب "أبو أفلح"، ورواية ابن المبارك، وإن كَانَ فيه خطأ أيضًا، إلا أنه أخفّ، إذ هو إسقاط لفظة "أبو" فقط.
وإنما رجّح رواية إدخال الواسط؛ لاتفاق ابن المبارك، وعيسى عليه، وَقَدْ تابع الليث فِي ذلك ابن إسحاق، كما فِي الرواية التالية.
والحديث صحيح، كما سبق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب،
وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5149 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي الصَّعْبَةِ، عَنْ أَبِي أَفْلَحَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُرَيْرٍ الْغَافِقِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَهَبًا بِيَمِينِهِ، وَحَرِيرًا بِشِمَالِهِ، فَقَالَ: "هَذَا حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمرو بن عليّ": هو الفلّاس. والحديث صحيح، كما سبق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5150 -
(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الدِّرْهَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُحِلَّ الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لإِنَاثِ أُمَّتِي، وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَا").
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(عليّ بن الحسين) بن مطر الدرهميّ البصريّ، صدوقٌ، منْ كبار [11] 17/ 1547 منْ أفراد المصنّف، وأبي داود.
2 -
(عبد الأعلى) بن عبد الأعلى الساميّ البصريّ الثقة [8] 20/ 386.
3 -
(سعيد) بن أبي عروبة مِهران اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقة ثبت، إلا أنه يدلّس، واختلط بآخره [6] 34/ 38.
4 -
(أيوب) بن أبي تميمة السختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت فقيه [5] 42/ 48.
5 -
(نافع) مولى ابن عمر المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 12/ 12.
6 -
(سعيد بن أبي هند) الفزاريّ مولاهم المدنيّ، ثقة [3] 43/ 2230.
7 -
(أبو موسى الأشعريّ) عبد بن قيس الصحابيّ الشهير رضي الله تعالى عنه 3/ 3. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي مُوسَى) عبد الله بن قيس الأشعريّ الصحابيّ المشهور رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُحِلَّ) بضم أوّله، وكسر ثانيه، فعل ماض مغيّر الصيغة منْ الحلّ، ضدّ الحرمة (الذَّهَبُ) بالرفع عَلَى أنه نائب فاعل "أُحلّ"، والمراد حلية الذهب، وإلا فالأواني منْ الذهب والفضّة حرام عَلَى الذكور والإناث، وكذا حلية الفضّة مختصّ بالنساء، إلا ما استُثني للرجال، منْ الخاتم، وغيره. قاله فِي "تحفة الأحوذيّ" 5/ 315
(وَالْحَرِيرُ لإِنَاثِ أُمَّتِي) بكسر الهمزة (وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَا) هَذَا بعمومه يشمل الصبيان أيضًا، لكنهم حيث لم يكونوا منْ أهل التكليف حرم عَلَى منْ ألبسهم.
قَالَ الشوكانيّ رحمه الله تعالى: والحديث دليلٌ للجماهير القائلين بتحريم الحرير، والذهب عَلَى الرجال، وتحليلهما للنساء. انتهى "نيل" 2/ 168. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي مولى الأشعريّ رضي الله عنه هَذَا صحيح.
[تنبيه]: الْحَدِيث وإن قَالَ فيه الترمذيّ: حسنٌ صحيحٌ، إلا أن فيه انقطاعًا؛ لأن سعيد بن أبي هند لم يسمع منْ أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه شيئًا، كما قاله الدارقطنيّ، وتبعه الحافظ فِي "الدراية" ص 328، وغيره، ويؤيّد ذلك أن كثيرًا منْ الرواة عن نافع أدخلوا فِي إسناده بين سعيد وأبي موسى رجلاً، وصفه بعضهم بأنه منْ أهل البصرة، كذلك رواه معمر، عن أيوب، وعبد الله بن عمر العمريّ، كلاهما عن نافع به، أخرجه أحمد فِي "مسنده" 4/ 392 - 393، ورواه الجرجانيّ فِي "تاريخ جرجان" عن سعيد بن أبي عروبة، عن أيوب به. وَقَدْ تابعه عبد الله بن سعيد بن أبي هند، فَقَالَ:"عن أبيه، عن رجل، عن أبي موسى" أخرجه أحمد أيضاً، وكذا الطحاويّ 2/ 346. وعبد الله ابن سعيد ثقة محتجّ به فِي "الصحيحين"، وهو أعرف بحديث أبيه منْ غيره، ولم يُختلف عليه فِي إسناده، كما اختُلف عَلَى نافع، فتكون روايته أرجح، فيكون الإسناد عن رجل مجهول.
لكن الْحَدِيث له شواهد، يصحّ بها، فقد روي عن جماعة آخرين منْ الصحابة، منهم: عليّ، وعمر بن الخطّاب، وعبد الله بن عمرو، وابن عباس، وعقبة بن عامر، وزيد بن أرقم رضي الله عنهم.
فأما حديث عليّ رضي الله عنه، فهو حديثٌ صحيح، وَقَدْ تقدّم قبل هَذَا الْحَدِيث.
وأما حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، فأخرجه الطحاويّ 2/ 345 - 346 والبيهقي 2/ 275 - 275 وفيه هشام بن أبي رقبة، رَوَى عنه ثقتان، ووثّقه ابن حبّان، وَقَالَ الحافظ: إسناد حسن.
وأما حديث ابن عمرو رضي الله تعالى عنهما، فأخرجه ابن ماجه (3597) والطحاويّ فِي "شرح معاني الآثار" 2/ 345 وفي إسناده عبد الرحمن ين زياد بن أنعم الإفريقي، وشيخه عبد الرحمن بن رافع التنوخيّ، وكلاهما ضعيفان.
وأما حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، فأخرجه البزار، والطبرانيّ، وفي إسناده إسماعيل بن مسلم المكيّ، وهو ضعيف.
وأما حديث عمر رضي الله عنه، فأخرجه الطبرانيّ فِي "الصغير" ص 94، و"الأوسط"، وكذا البزّار، وفيه عمرو بن جرير، وهو متروكٌ، كما قَالَ الهيثميّ.
وأما حديث زيد بن أرقم، فأخرجه الطحاويّ 2/ 345 وفي إسناده ثابت بن أرقم، قَالَ عنه الإمام أحمد: حدثنا عنه معتمر أحاديث منكرة. وفي الباب عن جماعة منْ الصحابة، أسانيدها ضعيفة أيضًا، تجدها فِي "مجمع الزوائد"، و"نصب الراية"، و"نيل الأوطار"، وَقَدْ عقّب عليها الشوكانيّ رحمه الله تعالى بقوله: وهذه الطرق متعاضدة بكثرتها، ينجبر الضعف الذي لم تخل منه واحدة منها. انتهى "نيل الأوطار" 2/ 168
(1)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هَذَا صحيح؛ لهذه الأحاديث المذكورة، ولاسيما حديث عليّ رضي الله عنه، فإنه صحيح، وحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، فإنه حسن، وبقيّة الأحاديث، وإن كانت ضعيفة، لكنها تصلح للتقوية، فتبصّر. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -40/ 5150 و76/ 5267 - وفي "الكبرى" 50/ 9449 و9450.
وأخرجه (ت) فِي "اللباس"1720. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5151 -
(أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ قَزَعَةَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ، إِلاَّ مُقَطَّعًا". خَالَفَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ، رَوَاهُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ مَيْمُونٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ).
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(الحسن بن قَزَعة) الهاشميّ مولاهم البصريّ، صدوقٌ [10] 47/ 1731.
2 -
(سفيان بن حبيب) أبو محمد البزار البصريّ، ثقة [9] 67/ 82.
3 -
(خالد) بن مِهْران الحذّاء، أبو المنازل البصريّ، الثقة [5] 7/ 634.
4 -
(أبو قِلابة) عبد الله بن زيد بن عمرو الجرميّ البصريّ، ثقة فاضل [3] 103/ 322.
(1)
راجع "إرواء الغليل" 1/ 305 - 308.
5 -
(معاوية) بن أبي سفيان صخر بن حرب الأمويّ الخليفة المشهور رضي الله تعالى عنهما 286/ 294.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ مُعَاوِيَةَ) بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ، إِلاَّ مُقَطَّعًا) بضمّ الميم، وفتح الطاء المهملة المشدّدة، بصيغة اسم المفعول: أي مكسّراً مقطوعًا، والمراد الشيء اليسير، مثلُ السنّ، والأنف. قاله السنديّ. وَقَالَ فِي "النيل": لابد فيه منْ تقييد القطع بالقدر المعفوِّ عنه، لا بما فوقُه؛ جمعا بين الأحاديث. وَقَالَ ابن رسلان فِي "شرح سنن أبي داود": والمراد بالنهي الذهب الكثير، لا المقطع قطعا يسيرة منه، تجعل حلقة، أو قرطا، أو خاتما للنساء، أو فِي سيف الرجل، وكره الكثير منه الذي هو عادة أهل السرف، والخيلاء، والتكبر، وَقَدْ يُضبط الكثير منه بما كَانَ نصابا، تجب فيه الزكاة، واليسير بما لا تجب فيه. انتهى، وَقَدْ ذكر مثل هَذَا الكلام الخطّابيّ فِي "المعالم"، وجعل هَذَا الاستثناء خاصا بالنساء، قَالَ: لأن جنس الذهب ليس بمحرم عليهنّ، كما حرم عَلَى الرجال، قليله وكثيره. وَقَالَ ابن الأثير فِي "النهاية": أراد الشيء اليسير، كالحلقة، والشنف، ونحو ذلك، وكره الكثير الذي هو عادة أهل السرف والخيلاء، والكبر، واليسير هو ما لا تجب فيه الزكاة، ويشبه أن يكون إنما كره استعمال الكثير منه؛ لأن صاحبه ربما بَخِل بإخراج زكاته، فيأثم بذلك عند منْ أوجب فيه الزكاة. انتهى.
وَقَالَ الحافظ ابن القيم فِي "تهذيب السنن": وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: حديث معاوية رضي الله عنه فِي إباحة الذهب مقطعًا، هو فِي التابع غير الفرد، كالزّرّ، والعَلَم، ونحوه. انتهى. ذكره فِي "عون المعبود" 11/ 203. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث معاوية رضي الله عنه هَذَا ضعيف؛ للانقطاع؛ لأن أبا قلابة لم يسمع منْ معاوية رضي الله عنه شيئًا، كما نصّ عَلَى ذلك أبو داود فِي "سننه"، وابن أبي حاتم فِي "المراسيل". والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: صحح الشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى حديث معاوية رضي الله عنه هَذَا بجميع طرقه الآتية، كما هو منصوصه فِي "صحيح النسائيّ" 4/ 1052 - 1054. وهذا فيه نظر
لا يخفى، فإن الروايات كلها مضطربة، معلولة، عَلَى ما يأتي بيانه، إلا رواية قتادة، ومطر الورّاق، وبيهس بن فهدان، فإنها صحيحة، كما سيأتي بيان ذلك مفصّلاً، فكان الأولى أن يُنبّه عَلَى ذلك. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -40/ 5151 و5152 و5153 و5154 و5155 و5156 و5157 و5158 و5159 و5160 و5161 و5162 - وفي "الكبرى" 50/ 9451 و9452 و9453 و9454 و9455 و9456 و9457 و9458 و9459 و9460 و9461 و9462. وأخرجه (د) فِي "المناسك" 1794 و"الخاتم" 4239 (أحمد) فِي "مسند الشاميين" 16391 و16398 و16422 و16430 و16458 و16466 و16478 و16483. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله: (خَالَفَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ، رَوَاهُ عَنْ خَالِدٍ، عَنْ مَيْمُونٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ) أشار به إلى أنه وقع اختلاف فِي هَذَا الْحَدِيث، وذلك أن عبد الوهّاب الثقفيّ خالف سفيان بن حبيب، فرواه عن خالد الحذّاء، عن ميمون القنّاد، عن أبي قلابة، فأدخل بين خالد، وأبي قلابة واسطةً، كما بيّن ذلك بقوله:
5152 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ مَيْمُونٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ لُبْسِ الذَّهَبِ إِلاَّ مُقَطَّعًا، وَعَنْ رُكُوبِ الْمَيَاثِرِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عبد الوهّاب": هو ابن عبد المجيد الثقفيّ البصريّ الثقة [8]. و"خالد": هو الحذّاء المذكور فِي السند السابق.
و"ميمون" القنّاد -بالقاف، والنون المشدّدة- البصريّ، مقبول [6].
رَوَى عن سعيد بن المسيّب، وأبي قلابة الجرميّ. وعنه خالد الحذّاء، وسعيد بن أبي عروبة، وكهمس بن الحسن، وموسى بن سَعْد البصريّون. قَالَ صالح بن أحمد، عن أبيه: قد رَوَى هَذَا الْحَدِيث، ليس بمعروف. وَقَالَ البخاريّ: رَوَى عن سعيد، وأبي قلابة المراسيل، وَقَالَ بعضهم: مسلم، ولا يصحّ. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". تفرّد به المصنّف، وأبو داود بهذا الْحَدِيث فقط.
وقوله: "وعن ركوب المياثر" -بفتح الميم: جمع ميثرة بالكسر، مِفعلة منْ الْوَثَارة، يقال: وَثُرَ وَثَارَةً، فهو وَثِيرٌ: أي وَطِيْ لَيِّنٌ، وأصلها مِوْثَرةٌ، فقُلبت الواو ياءً؛ لكسرة الميم، وهي منْ مراكب العجم، تُعمْلُ منْ حرير، أو دِيباجٍ. قاله فِي "النهاية" 5/ 150.
وَقَالَ فِي "المصباح": وثُر الشيءُ بالضمّ وَثَارَةً: لان وسَهُل، فهو وثير، وفِراشٌ وَثِيرٌ: ثَخِينٌ ليّنٌ، وامرأةٌ وَثِيرةٌ: كثيرة اللحم، ووَثَّرَ مَرْكبه بالتشديد: إذا وطّأهُ، ومنه مِيثرةُ السرج بكسر الميم، وأصلها الواو، وجمعها مَيَاثِر، ومَوَاثِر عَلَى لفظ المفرد، وعلى الأصل. انتهى.
وسيأتي تمام البحث فيه فِي 91/ 5311 "ذكرُ النهي عن الثياب القَسّيّة"، إن شاء الله تعالى.
ولفظ أبي داود: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ركوب النّمار، وعن لبس الذهب إلا مقطّعًا".
و"النمار" -بالكسر-: جمع نَمِر، وهو الحيوان المعروف، والمراد جلودها ملقاةً عَلَى السرج، والرِّحال؛ لما فيه منْ التكبّر؛ أو لأنه زيّ الأعاجم، وَقَدْ تقدّم البحث عنه فِي 20/ 5093. فراجعه تستفد.
وحديث معاوية رضي الله عنه هَذَا عن رواية ميمون القنّاد، عن أبي قلابة، عنه ضعيف أيضاً؛ لأن أبا قلابة لم يسمع منْ معاوية، رضي الله عنه، ولجهالة ميمون المذكور، قَالَ الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: ميمون القنّاد قد رَوَى هَذَا الْحَدِيث، وليس بمعروف. وَقَالَ البخاريّ: ميمون القنّاد عن سعيد بن المسيّب، وأبي قلابة مراسيلُ، وَقَالَ أبو حاتم الرازيّ: أبو قلابة لم يسمع منْ معاوية بن أبي سفيان، ذكره المنذريّ فِي "مختصر السنن" 6/ 128. وَقَالَ الذهبيّ فِي "ميزان الاعتدال" 4/ 236: رَوَى حديثه الحذّاء عنه عن أبي قلابة، عن معاوية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ركوب النمار، وعن لبس الذهب إلا مقطّعًا، وثقه ابن حبّان، والحديث منكر. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5153 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي شَيْخٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ، وَعِنْدَهُ جَمْعٌ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ لُبْسِ الذَّهَبِ إِلاَّ مُقَطَّعًا، قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "ابن أبي عديّ": هو محمد بن إبراهيم، أبو عمرو البصريّ الثقة [9]. و"سعيد": هو ابن أبي عروبة. و"قتادة": هو ابن دِعامة.
و"أبو شيخ" الْهُنائيّ -بضمّ الهاء، وتخفيف النون- البصريّ، قيل: اسمه حَيَوان -بالحاء المهملة، أو الخاء المعجمة- ابن خالد، وهو ثقة [3].
قَالَ: أتانا كتاب عُمر، ونحن مع عثمان بن أبي العاص، وقرأ عَلَى أبي موسى
الأشعريّ. وروى عن ابن عمر، ومعاوية، وقيل: عن أخيه، عن معاوية. وروى عنه مولاه عُبيد، وبَيْهَس بن فَهْدَان، وقتادة، ويحيى بن أبي كثير، ومَطَر الورّاق. ذكره خليفة فِي الطبقة الثانية منْ قُرّاء أهل البصرة، وَقَالَ: مات بعد المائة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ ابن سعد: أبو شيخ الْهُنَائيّ منْ الأزد، كَانَ ثقة، وله أحاديث، مات قبل الحسن، أخبرنا عَمرو بن عاصم بن أبي هلال أن ابن سيرين اعتراه نسيان، فأمر أبا شيخ أن يُلقّنه فِي الصلاة. وَقَالَ العجليّ: مصريّ
(1)
تابعيّ ثقة.
والحديث بهذا الإسناد صحيح، ولا يقال: إن فيه قتادة، وهو مدلّس، وَقَدْ رواه بالعنعنة؛ لأنا نقول لم ينفرد هو به، بل تابعه عليه مطر الورّاق، كما فِي الرواية التالية، وبيهس بن فَهْدان، كما سيأتي فِي 5161 إن شاء الله تعالى.
[تنبيه]: رواية أبي شيخ هذه قد وقع فيها اضطراب، كما سيبينه المصنّف فِي الروايات الآتية، قَالَ الإمام ابن أبي حاتم رحمه الله تعالى فِي "العلل" 1/ 484: سألت أبي عن حديث رواه معمر، عن قتادة، عن أبي شيخ الهنائيّ، عن معاوية، قَالَ:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذهب إلا مقطّعاً، وعن ركوب النمور"، قَالَ: رواه يحيى بن أبي كثير، حدثني أبو شيخ، عن أخيه حمان، عن معاوية، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: أدخل أخاه، وهو مجهول، فأفسد الْحَدِيث. انتهى كلام ابن أبي حاتم.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لكن رواية قتادة هذه صحيحة، كما سبق آنفاً، فلا يفسد الْحَدِيث بسبب رواية يحيى، فتأمّل.
وَقَالَ الحافظ الأمير ابن ماكولا فِي كتابه "الإكمال" 2/ 554 (طبعة حيدر آباد) فِي ترجمة حمان بن خالد أخي أبي شيخ الْهُنَائيّ، رَوَى عن معاوية حديثًا فيه اختلاف كثير، فَقَالَ قتادة -وهو حافظ-: عن أبي شيخ عن معاوية، ولم يذكر أخاه -يعني حمان- وتابعه بيهس بن فهدان منْ رواية النضر بن شُمَيل عنه، وَقَالَ عليّ بن غُراب، عن بيهس، عن أبي شيخ، عن ابن عمر. ورواه يحيى بن أبي كثير، فاختلف عليه فيه، فقيل: عنه، عن أبي شيخ، عن أخيه، وقيل: عنه، عن أبي إسحاق، عن حمان. انتهى المراد منْ كلام ابن ماكولا.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لكن ترجّح رواية قتادة؛ لأنه أحفظ منْ يحيى بن أبي كثير، كما سيذكره المصنّف رحمه الله تعالى، فتكون روايته صحيحة.
(1)
هكذا نسخة "تهذيب التهذيب": "مصريّ" بالميم، والظاهر أنه مصحّف، وصوابه:"بصريّ" بالباء، والله تعالى أعلم.
والحاصل أن الْحَدِيث منْ رواية أبي شيخ، عن معاوية رضي الله عنه بدون واسطة بينهما صحيحة. والله تعالى أعلم بالصواب.
[تنبيه آخر]: يستفاد منْ صنيع المصنّف رحمه الله تعالى أن الاستثناء فِي قوله: "إلا مقطّعًا" فِي حقّ الرجال، لا فِي حقّ النِّساء، وهذا هو الراجح، وهو الذي مشى عليه شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى حيث قَالَ فِي "الفتاوى الكبرى" 2/ 356: وفي يسير الذهب فِي باب اللباس -أي بالنسبة للرجال- عن أحمد أقوال: (أحدها): الرخصة مطلقًا؛ لحديث معاوية رضي الله عنه: "نهى عن لبس الذهب إلا مقطّعًا"، ولعلّ هَذَا القول أقوى منْ غيره، وهو قول أبي بكر. (والثاني): الرخصة فِي السلاح فقط. (والثالث): فِي السيف خاصّة. وفيه وجه بتحريمه مطلقاً؛ لحديث أسماء "لا يباح منْ ذهب ولا خَرْبَصيصة"
(1)
، و"الْخَرْبَصِيصة": عين الجرادة، لكن هَذَا قد يُحمل عَلَى الذهب المفرد دون التابع. انتهى.
وَقَالَ قبل هَذَا فِي ص 353 منْ نفس الجزء الثاني منْ "الفتاوى": أُبيح للنساء لبس الذهب والحرير؛ لحاجتهنّ إلى التزيّن، وحرّم ذلك عَلَى الرجال، وأُبيح للرجال منْ ذلك اليسير، كالعلَم، ونحو ذلك، مما ثبت فِي السنّة. انتهى.
وَقَدْ سلك الآخرون مسلكًا آخر فِي تأويل الْحَدِيث، فقالوا: المستفاد منْ الْحَدِيث ما أُبيح للنساء منْ الذهب، والمراد بالمقطّع أن يُجعل قطعًا يسيرة، مثل القرط، والحلقة، والخاتم، وهذا هو الذي مال إليه الخطّابيّ فِي "معالم السنن"، والمنذريّ فِي "مختصر سنن أبي داود"، وابن الأثير فِي "جامع الأصول"، و"النهاية"، وابن الديبع فِي "تيسير
(1)
حديث الخربصيصة أخرجه أحمد فِي "مسنده"، فَقَالَ:
26320 -
حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، أخبرنا عبد الجليل القيسي، عن شهر بن حوشب، أن أسماء بنت يزيد، كانت تخدم النبيّ صلى الله عليه وسلم، قالت: فبينما أنا عنده إذ جاءته خالتي، قالت: فجعلت تسائله وعليها سواران منْ ذهب، فَقَالَ لها النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أيسرك أن عليك سوارين منْ نار؟ " قالت: قلت: يا خالتي إنما يعني سواريك هذين، قالت: فألقتهما، قالت: يا نبي الله إنهن إذا لم يتحلين صَلِفْن عند أزواجهن، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ:"أما تستطيع إحداكن أن تجعل طوقا منْ فضة، وجمانة منْ فضة، ثم تخلقه بزعفران، فيكون كأنه منْ ذهب، فإن منْ تحلى وزن عين جرادة منْ ذهب، أو خرْبصِيصة كُوي بها يوم القيامة". والحديث ضعيف؛ لأن فِي سنده عبد الجليل بن عطيّة، وَقَدْ عنعنه، وهو مدلّس، كما أشار إليه ابن حبّان، انظر ترجمته فى "تهذيب التهذيب" 2/ 471. وذكره الحافظ فِي رسالته فِي المدلسين ص 91. و"الْخَرْبَصيصة"-بفتح الخاء المعجمة، وسكون الراء، وفتح الباء، وصادين مهملتين، بينهما ياء-: هي الْهَنَة التي تُتَراءى فِي الرمل لها بصيص كأنها عين جرادة. قاله فِي "النهاية" 2/ 19.
الوصول"، وابن رسلان فِي "شرح السنن". وضبطوا اليسير بأنه ما لا تجب فيه الزكاة. قالوا: ويشبه أن يكون إنما كره صلى الله عليه وسلم استعمال الكثير منه لأن صاحبه ربما ضنّ بإخراج الزكاة منه، فيأثم بذلك عند منْ أوجب فيه الزكاة
(1)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه المصنّف رحمه الله تعالى، وهو أن الْحَدِيث فِي الرجال، لا فِي النِّساء، ولذلك أورده فِي باب "تحريم الذهب عَلَى الرجال"، وقوّاه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فِي كلامه السابق هو الأرجح.
وحاصله أن الْحَدِيث وارد فِي الرجال، وأن المراد بالمقطّع هو الشيء اليسير التابع، مثل الزّرّ والعلَم، ونحو ذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5154 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَسْبَاطٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ مَطَرٍ، عَنْ أَبِي شَيْخٍ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ مُعَاوِيَةَ، فِي بَعْضِ حَجَّاتِهِ، إِذْ جَمَعَ رَهْطًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُمْ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ لُبْسِ الذَّهَبِ إِلاَّ مُقَطَّعًا؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.
خَالَفَهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أحمد بن حرب": هو الطائيّ الْمَوْصِليّ، صدوقٌ [10] منْ أفراد المصنّف. و"أسباط": هو ابن محمد بن عبد الرحمن القرشيّ مولاهم، أبو محمد ثقة، ضُعّف فِي الثوريّ [9]. و"مغيرة": هو ابن مسلم الْقَسْمليّ، أبو سلمة السّرّاج المدائنيّ، صدوقٌ [6]. و"مطر": هو ابن طهمان الْوَرّاق، أبو رجاء الخراسانيّ، نزيل البصرة، صدوقٌ كثير الخطأ، [6]. والله تعالى أعلم.
والحديث صحيح، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله: (خَالَفَهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِ) أشار به إلى أن يحيى بن أبي كثير خالف مطرًا الورّاق فِي روايته عن أبي شيخ، فأدخل بينه وبين معاوية رضي الله عنه واسطة، وهو أخو أبي شيخ، عَلَى أن يحيى أيضًا اختلف عليه الرواة عنه فِي ذلك، فقد رواه عليّ بن المبارك، عنه، عن أبي شيخ الهنائيّ، عن أبي حمان، عن معاوية، ورواه حرب بن شدّاد، عنه، عن أبي شيخ، عن أخيه حمان، وسيأتي اختلاف
(1)
انظر ما كتبه الشيخ إسماعيل الأنصاريّ فِي الردّ عَلَى الشيخ الألبانيّ ص 134 - 135.
آخر عَلَى الأوزاعيّ فِي روايته عن يحيى أيضًا.
ثم أشار إلى مخالفة يحيى، مع اختلاف الرواة عنه، فبيّن رواية عليّ بن المبارك، فَقَالَ:
5155 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى، حَدَّثَنِي أَبُو شَيْخٍ الْهُنَائِيُّ، عَنْ أَبِي حِمَّانَ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ عَامَ حَجَّ، جَمَعَ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْكَعْبَةِ، فَقَالَ لَهُمْ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ، أَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ لُبْسِ الذَّهَبِ، قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ وَأَنَا أَشْهَدُ.
خَالَفَهُ حَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ، رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي شَيْخٍ، عَنْ أَخِيهِ حِمَّانَ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "يحيى بن كثير": هو العنبريّ موهم، أبو غسّان البصريّ، ثقة [9].
[تنبيه]: وقع فِي "الكبرى" فِي هَذَا الاسم غلطٌ، حيث قَالَ:"حدّثنا يحيى بن أبي كثير"، والصواب ما فِي "المجتبى" حدثنا "يحيى بن كثير" بإسقاط لفظ "أبي"، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
و"عليّ بن المبارك": هو الهُنائيّ البصريّ، ثقة، كَانَ له عن يحيى بن أبي كثير كتابان: أحدهما سماع، والآخر إرسال، فحديث الكوفيين عنه فيه شيء، منْ كبار [7].
و"أبو حمان" -بكسر أوّله، ويقال: بفتحه، وبضمّه، وآخره نون، ويقال: جمّان بالجيم، وآخره نون، أو جمّاز آخره زايٌ، ويقال: حمران، ويقال: بصيغة الكنية فِي الجميع، وهو أخو أبي شيخ الْهُنائيّ -بضم الهاء، وتخفيف النون، بعدها مدّة، مستور [3].
رَوَى عن معاوية. وروى عنه أبو شيخٌ أخوه، وأبو إسحاق السبيعيّ. وَقَالَ ابن حبّان فِي "الثقات": حمان الهنائيّ شيخ بصريّ، يروي عن معاوية المراسيل، وَقَالَ الذهبيّ: لا يُدرى منْ هو؟. تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.
والحاصل أن أبا حمان مجهول الحال، كما قَالَ فِي "التقريب": مستور.
والحديث بهذا الإسناد ضعيف؛ لجهالة أبي حمان، وللاضطراب المتقدّم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله: (خَالَفَهُ حَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ، رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي شَيْخٍ، عَنْ أَخِيهِ حِمَّانَ) أشار به إلى الاختلاف عَلَى يحيى بن أبي كثير، فقد رواه عليّ بن المبارك، عنه، عن أبي شيخ، عن أبي حمّان، كما فِي الرواية الماضية، وخالفه حرب بن شدّاد، فَقَالَ:
"عن أخيه حمان"، كما بيّنه بقوله:
5156 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو شَيْخٍ، عَنْ أَخِيهِ حِمَّانَ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ عَامَ حَجَّ، جَمَعَ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْكَعْبَةِ، فَقَالَ لَهُمْ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ، هَلْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُبُوسِ الذَّهَبِ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: وَأَنَا أَشْهَدُ.
خَالَفَهُ الأَوْزَاعِيُّ، عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِ فِيهِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عبد الصمد": هو ابن عبد الوارث. و"حرب بن شدّاد": هو اليشكريّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقة [7]. و"يحيى": هو ابن أبي كثير المتقدّم.
والحديث بهذا الإسناد ضعيف، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله: (خَالَفَهُ الأَوْزَاعِيُّ، عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِ فِيهِ) أشار به إلى أن الأوزاعيّ خالف حرب بن شدّاد فِي روايته عن يحيى بن أبي كثير، فَقَالَ:"حدّثني حمان"، بدل قوله:"عن أخيه حمان"، كما بيّنه بقوله:
5157 -
(أَخْبَرَنِي شُعَيْبُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو شَيْخٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي حِمَّانُ، قَالَ: حَجَّ مُعَاوِيَةُ، فَدَعَا نَفَرًا مِنَ الأَنْصَارِ، فِي الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ، أَلَمْ تَسْمَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَنْهَى عَنِ الذَّهَبِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: وَأَنَا أَشْهَدُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه "شعيب بن شعيب بن إسحاق": هو الدمشقيّ، صدوقٌ [11] منْ أفراد المصنّف.
[تنبيه]: شعيب هَذَا مات أبوه، وهو حملٌ، فسُمّي باسمه. قاله فِي "التقريب".
و"عبد الوهّاب بن سعيد": هو السلميّ، أبو محمد الدمشقيّ، يُعرف بوهب، صدوقٌ [10] منْ أفراد المصنّف، وابن ماجه. و"شعيب": هو ابن إسحاق بن عبد الرحمن الأمويّ مولاهم البصريّ، ثم الدمشقيّ، ثقة، رمي بالإرجاء، منْ كبار [9]، وهو والد شعيب شيخ المصنّف.
وقوله: "عن حديث يحيى" ولفظ "الكبرى": "حدثنا يحيى".
والحديث بهذا الإسناد ضعيف، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
ثم بين الاختلاف بين أصحاب الأوزاعيّ عليه، فقد رواه شعيب بن إسحاق، عنه، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي شيخ، عن حمّان، وخالفه عمارة بن بشر، فرواه عنه، عن يحيى، عن أبي إسحاق السبيعيّ، عن حمّان، كما أشار إلى ذلك بقوله:
5158 -
(أَخْبَرَنَا نُصَيْرُ بْنُ الْفَرَجِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ بِشْرٍ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حِمَّانُ، قَالَ: حَجَّ مُعَاوِيَةُ، فَدَعَا نَفَرًا مِنَ الأَنْصَارِ فِي الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ، أَلَمْ تَسْمَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنِ الذَّهَبِ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: وَأَنَا أَشْهَدُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "نُصير بن الفرج": هو الأسلميّ، أبو حمزة الثَّغْريّ، ثقة [11] منْ أفراد المصنّف، وأبي داود.
[تنبيه]: وقع فِي معظم نسخ "المجتبى""نُصير بن الفرح" بالحاء المهملة، والصواب "ابن الفرَج" بالجيم، كما فِي "الهنديّة"، و"الكبرى"، فتنبّه.
و"عُمارة بن بشر" -بكسر الموحّدة، وسكون المعجمة- الشامّي الدمشقيّ، مقبول [9].
رَوَى عن الأوزاعيّ، وعبد الملك بن حُميد بن أبي غنيّة، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وعبد الرحمن بن يزيد بن تميم، ومعاوية بن يحيى الصدفيّ، وأبي بشر البصريّ. وعنه عليّ بن سهل الرمليّ، وأبو عديّ عوف بن عبد الرحمن الغسَّانيّ، ونُصير بن الفرَج، ويوسف بن سعيد بن مسلم، سمع منه سنة مائتين. تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.
و"أبو إسحاق": هو عمرو بن عبد الله السبيعيّ المشهور. والحديث بهذا الإسناد ضعيف كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
ثم ذكر اختلافا آخر لأصحاب الأوزاعيّ عليه أيضًا، وذلك أن عقبة بن علقمة خالف عمارة بن بشر فِي شيخ أبي إسحاق، حيث قَالَ:"حدّثني ابن حمّان"، بدل قوله:"حدّثني حمان"، كما بيّنه بقوله:
5159 -
(وَأَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ مَزْيَدٍ، عَنْ عُقْبَةَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، حَدَّثَنِي يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حِمَّانَ، قَالَ: حَجَّ مُعَاوِيَةُ، فَدَعَا نَفَرًا مِنَ الأَنْصَارِ فِي الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: أَلَمْ تَسْمَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنِ الذَّهَبِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: وَأَنَا أَشْهَدُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "العبّاس بن الوليد بن مزيد": هو الْعُذْريّ البيروتيّ،
صدوقٌ عابدٌ [11] منْ أفراد المصنّف، وأبي داود.
و"عقبة": هو ابن علقمة المعافريّ البيروتيّ، صدوقٌ [9]. و"يحيى": هو ابن أبي كثير.
وقوله: "حدثني ابن حمان"، هكذا نسخ "المجتبى"، ووقع فِي "الكبرى":"حدثني حمان" بإسقاط لفظة "ابن"، ووقع فِي "تحفة الأشراف" 8/ 436:"حدّثني أبو حمان"، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.
والحديث بهذا الإسناد ضعيف، كما سبق بيانه مفصّلاً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5160 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْبَرْقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنِي حِمَّانُ، قَالَ: حَجَّ مُعَاوِيَةُ، فَدَعَا نَفَرًا مِنَ الأَنْصَارِ فِي الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ، أَلَمْ تَسْمَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَنْهَى عَنِ الذَّهَبِ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: وَأَنَا أَشْهَدُ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: عُمَارَةُ
(1)
أَحْفَظُ مِنْ يَحْيَى، وَحَدِيثُهُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن عبد الله بن عبد الرحيم الْبَرْقيّ": هو ابن سَعْيَةَ المصريّ، ثقة [11] منْ أفراد المصنّف، وأبي داود.
[تنبيه]: "الْبَرْقيّ" -بفتح الموحّدة، وسكون الراء، ثم قاف-: نسبة إلى بَرْقة بلدة بالمغرب، وقرية بقُمّ. قاله فِي "لبّ اللباب" 1/ 119.
و"عبد الله بن يوسف": هو التِّنِّيسيّ، أبو محمد الْكَلاعيّ، دمشقيّ الأصل، ثقة متقنٌ، منْ أثبت النَّاس فِي "الموطّإ"، منْ كبار [10]. و"يحيى بن حمزة": هو الحضرميّ، أبو عبد الرحمن الدمشقيّ القاضي، ثقة، رُمي بالقدر [8]. و"يحيى": هو ابن أبي كثير.
والحديث ضعيف؛ لجهالة حمان، وللاضطراب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله: (قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: عُمَارَةُ أَحْفَظُ مِنْ يَحْيَى، وَحَدِيثُهُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ) هكذا وقع فِي "نسخ المجتبى""عمارة"، والصواب كما فِي "الكبرى" 5/ 439 و"تحفة الأشراف" 8/ 436:"قتادة".
(1)
سيأتي أن الصواب "قتادة"، فتنبّه.
وأشار المصنّف رحمه الله تعالى بهذا إلى أن رواية قتادة الماضية عن أبي شيخ، عن معاوية رضي الله عنه بلا واسطة بينهما أولى بالصواب، منْ رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي شيخ، عن أبي حمان، أو ابن حمان، أو حمان، عن معاوية رضي الله عنه، بإدخال واسطة بينهما؛ وذلك لأن قتادة أحفظ منْ يحيى، فترجّح روايته، فتكون محفوظة صحيحة.
[فإن قلت]: كيف تصحّ روايته، وهو معروف بالتدليس، وَقَدْ عنعنه؟.
[قلت]: لم ينفرد به، بل تابعه عليه مطر الورّاق، كما سبق فِي 5154 - وبيهس بن فهدان، كما فِي الرواية التالية.
والحاصل أن رواية قتادة، عن أبي شيخ، عن معاوية رضي الله عنه بلا واسطة هي الصحيحة، كما أشار إليه المصنّف رحمه الله تعالى فِي كلامه هَذَا، ولهذا أورد رواية بَيْهَسٍ بعده تقويةً لما ذكره. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5161 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَيْهَسُ بْنُ فَهْدَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو شَيْخٍ الْهُنَائِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ، وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، فَقَالَ لَهُمْ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ؟ فَقَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: وَنَهَى عَنْ لُبْسِ الذَّهَبِ إِلاَّ مُقَطَّعًا؟ قَالُوا: نَعَمْ.
خَالَفَهُ عَلِيُّ بْنُ غُرَابٍ، رَوَاهُ عَنْ بَيْهَسٍ، عَنْ أَبِي شَيْخٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "إسحاق بن إبراهيم": هو ابن راهويه. و"النضر بن شُميل": هو أبو الحسن النحويّ البصريّ، نزيل مرو، ثقة ثبت، منْ كبار [9] 41/ 45.
و"بيهس -بفتح أوله، ثم تحتانيّة ساكنة، وفتح الهاء، بعدها مهملة- ابن فهدان" -بفتح الفاء، وسكون الهاء- الأزديّ الْهُنائيّ، ثقة [6].
رَوَى عن أبي شيخ، وروى عنه شعبة، ووكيعٌ، والنضر بن شُميل، وعليّ بن غُراب. قَالَ ابن معين ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.
والحديث صحيح بهذا الإسناد، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله: (خَالَفَهُ عَلِيُّ بْنُ غُرَابٍ، رَوَاهُ عَنْ بَيْهَسٍ، عَنْ أَبِي شَيْخٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ) أشار به إلى أن عليّ بن غراب خالف النضر بن شُميل، فجعل شيخ أبي شيخٍ ابنَ عمر رضي الله تعالى عنهما بدل معاوية رضي الله عنه، كما بيّنه بقوله:
5162 -
(أَخْبَرَنِي زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ غُرَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَيْهَسُ بْنُ
فَهْدَانَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو شَيْخٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُبْسِ الذَّهَبِ إِلاَّ مُقَطَّعًا".
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: حَدِيثُ النَّضْرِ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "زياد بن أيوب": هو الحافظ الثبت المعروف بدلويه [10] 101/ 132. و"عليّ بن غراب": هو الفزاريّ مولاهم الكوفيّ القاضي، صدوقٌ يُدلّس، ويتشيّع، وأفرط ابن حبّان فِي تضعيفه [8] 36/ 3270.
والحديث ضعيف، كما نبّه عليه المصنّف رحمه الله تعالى بقوله:
(قَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: حَدِيثُ النَّضْرِ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ) يعني أن رواية النضر التي قبل هذه الرواية هي الصواب.
وحاصل ما أشار إليه أن رواية النضر بن شُميل، عن بيهَس بن فَهْدان، عن أبي شيخ، عن معاوية أرجح منْ رواية عليّ بن غراب، عن بيهس، عن أبي شيخ، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما؛ لأن النضر أحفظ، وأثبت منْ عليّ غراب، كما يظهر منْ ترجمتيهما المذكورتين آنفاً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
41 - (مَنْ أُصِيبَ أَنْفُهُ هَلْ يَتَّخِذُ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ؟)
الجواب نعم؛ لحديث الباب. والله تعالى أعلم.
5163 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَبَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلْمُ بْنُ زَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ طَرَفَةَ، عَنْ جَدِّهِ عَرْفَجَةَ بْنِ أَسْعَدَ، أَنَّهُ أُصِيبَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلَابِ، فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ، فَأَنْتَنَ عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَّخِذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ).
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(محمد بن معمر) الْحضرميّ، صدوقٌ، منْ صغار [11] 2/ 1370 منْ أفراد
المصنّف، وأبي داود، وَقَدْ رَوَى عنه المصنّف فِي ثمانية فِي 1370 و2421 و2422 و2870 و3361 و3526 و4404 و5163 وهو آخرها.
2 -
(حَبّان) -بفتح المهملة، وتشديد الموحدة- ابن هلال، أبو حبيب البصريّ ثقة ثبت [9] 44/ 590.
3 -
(سلم بن زَرير) -بفتح الزاي، وراءين- العُطارديّ، أبو يونس البصريّ، وثّقه أبو حاتم، وَقَالَ النسائيّ: ليس بالقويّ [6].
رَوَى عن أبي رجاء العطاردي، وعبد الرحمن بن طرَفة، وبُريد بن أبي مريم السلولي، وغيرهم. وعنه أبو داود، وأبو الوليد الطيالسيان، وحَبّان بن هلال، ويعقوب ابن إسحاق الحضرميّ، وأبو عليّ الحنفي، وعدة. قَالَ البخاريّ، عن عليّ بن المديني: له نحو عشرة أحاديث. وَقَالَ أبو حاتم: ثقة، ما به بأس. وَقَالَ ابن معين: ضعيف. وَقَالَ أبو داود: ليس بذاك. وَقَالَ ابن عديّ: أحاديثه قليلة، وليس فِي مقدارها أن يعتبر ضعفها. وَقَالَ أبو زرعة: صدوقٌ. وَقَالَ النسائيّ: ليس بالقوي. وَقَالَ العجليّ: فِي عداد الشيوخ، ثقة. وَقَالَ ابن الجنيد، عن ابن معين: كَانَ يحيى بن سعيد يضعفه. وَقَالَ الحاكم: أخرجه محمد -يعني البخاريّ- فِي الأصول، ومسلم فِي الشواهد، وضعفه يحيى بن معين؛ لقلة اشتغاله بالحديث، وَقَدْ حدث بأحاديث مستقيمة. وَقَالَ ابن حبّان فِي "الضعفاء": لم يكن الْحَدِيث صناعته، وكان الغالب عليه الصلاح، يخطيء خطأ فاحشا، لا يجوز الاحتجاج به، إلا فيما وافق الثقات، وذكره أيضًا فِي "الثقات"، وسكت عنه.
وَقَالَ أبو إسحاق الصَّرِيفيني: بقي إلى حدود الستين ومائة. وفي "تاريخ البخاريّ": قَالَ ابن مهدي: سلم بن رَزِين -يعني بالنون، وتقديم الراء- قَالَ أبو أحمد الحاكم: وهو وَهَمٌ. وَقَالَ أبو عليّ الْجَيّاني: وقع لبعض رواة الجامع زُرَير -بضم الزاي- وهو خطأ، والصواب الفتح. رَوَى له البخاريّ، ومسلم، والمصنّف، رَوَى له مسلم حديثا واحدا، والبخاري ثلاثة
(1)
، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.
4 -
(عبد الرحمن بن طَرَفَة) -بفتح الطاء المهملة، والراء، والفاء، بعدها هاء التأنيث- ابن عرفجة بن سعد التميميّ العُطارديّ البصريّ، وثقه العجليّ [4].
رَوَى عن جدّه، وعنه سلم بن زَرير، وأبو الأشهب، قَالَ العجليّ: ثقة. وذكره ابن حبّان
(1)
راجع "تهذيب التهذيب" فِي ترجمته 2/ 65.
فِي "الثقات". رَوَى له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وله عندهم هَذَا الْحَدِيث فقط.
5 -
(عرفجة بن أسعد) بن كَرِب، وقيل: ابن صفوان التميميّ العُطارديّ، صحابيّ نزل البصرة، وَقَالَ ابن حبّان: عرفجة بن أسعد بن كَرِب بن صفوان بن حِبّان بن شَجَرة ابن عُطارد، عداده فِي أهل البصرة. انتهى. رَوَى عنه ابنه طرفة، وابن ابنه عبد الرحمن ابن طرَفة، أنه أُصيب أنفه يوم الكلاب، وفي إسناد حديثه اختلاف، وروى عنه الْفَرَزْدق الشاعر أيضًا. رَوَى له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ حديث الباب فقط. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه رواية الراوي عن جدّه. (ومنها): أن صحابيه منْ المقلّين منْ الرواية، فليس له إلا حديث الباب فقط. راجع "تحفة الأشراف" 7/ 290 - 291. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَرْفَجَةَ بْنِ أَسْعَدَ) التميميّ العُطارديّ رضي الله عنه (أَنَّهُ أُصِيبَ) بالبناء للمفعول أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلابِ) بضم الكاف، وتخفيف اللام-: يوم مشهور منْ أيام العرب، والْكُلاب أيضًا ماءٌ عن اليمامة نحوَ ستّ ليال. قاله الفيّوميّ. وَقَالَ فِي "اللسان": الكُلاب: اسم ماء، كانت عنده وقعة العرب، قَالَ السّفَاح بن خالد التغلَبيّ:
إِنَّ الْكُلابَ مَاؤُنَا فَخَلُّوهُ
…
وَسَاجِراً وَاللهِ لَنْ تَحُلُّوهُ
وساجر اسم ماء يجتمع منْ السيل، وقالوا: الْكُلاب الأول، والكلابُ الثاني، وهما يومان مشهوران للعرب. قَالَ أبو عُبيد: كُلَابٌ الأول، وكلابٌ الثاني يومان، كانا بين ملوك كِنْدة، وبني تَمِيم، قَالَ: والْكُلاب موضعٌ، أو ماءٌ معروفٌ، وبين الدَّهْناء واليمامة موضع يقال له: الكُلاب أيضًا. انتهى.
وَقَالَ المنذريّ: والكلاب: موضعٌ كَانَ فيه يومان منْ أيّام العرب المشهورة، الكلاب الأول، والكلاب الثاني، واليومان فِي موضع واحد. وقيل: هو ما بين الكوفة والبصرة عَلَى سبع ليالٍ منْ اليمامة، فكانت به وقعةٌ فِي الجاهلية. والكلاب أيضًا اسم واد بثهلال، لبني العرجاء، منْ بني نمير، به نخلٌ ومياه. انتهى.
[فائدة]: رُوي أن حيّان بن بشير ولي القضاء بأصبهان، فحدّث بهذا الْحَدِيث، وقرأ "يوم الكِلاب" بكسر الكاف، فردّ عليه رجلٌ، وَقَالَ: هو الكُلاب بضم الكاف، فأمر
بحبسه، فرآه بعض أصحابه، فَقَالَ له: فيم حُبستَ؟ فَقَالَ: حربٌ كانت فِي الجاهليّة، حُبست بسببها فِي الإسلام. ذكره السنديّ فِي "شرحِه" 8/ 164.
(فِي الْجَاهِلِيَّةِ) أي فِي الأيام التي قبل الإسلام (فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ) بفتح، فكسر: أي منْ فضّة، قَالَ الخطّابيّ: الورِق مكسور الراء: الفضّة، وبفتح الراء: المال، منْ الإبل، والغنم. انتهى (فَأَنْتَنَ عَلَيْهِ) بهمزة قطع، منْ الإنتان، وهو ضدّ الفَوْح، يقال: نَتُنَ الشيءُ بالضمّ نُتُونةً، ونَتانةً، فهو نَتين، مثلُ قرُبَ، ونَتَنَ نَتْنًا، منْ باب ضرب، ونَتِنَ يَنْتِنُ فهو نَتِنٌ، منْ باب تَعِبَ، وأنتن إنتانًا، فهو مُنتِن، وَقَدْ تُكسر الميم للإتباعِ، فيقال: مِنْتِنٌ، وضمُّ التاء إتباعاً للميم قليل. قاله فِي "المصباح"(فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَّخِذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ) وبهذا الْحَدِيث أباح أكثر العلماء اتخاذ الأنف منْ ذهب، وربط الأسنان به. قاله السنديّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عرفجَة بن أسعد رضي الله عنه صحيحٌ.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -41/ 5163 و5164 - وفي "الكبرى" 51/ 9463 و9464. وأخرجه (د) فِي "الخاتم" 4232 (ت) فِي "اللباس" 1770.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز اتّخاذ منْ قُطع أنفه أنفًا منْ ذهب. (ومنها): ما قاله الخطّابيّ رحمه الله تعالى: فيه استباحة استعمال اليسير منْ الذهب للرجال، عند الضرورة، كربط الأسنان به، وما جرى مجراه، مما لا يجري غيره فيه مجراه. انتهى.
وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى فِي "المجموع" 4/ 327: يجوز لمن قُطع أنفه، أو سنّه، أو أنملته أن يتّخذ مكانها ذهباً، سواء أمكنه فضّةٌ، وغيرها، أم لا؟ وهذا متَّفقٌ عليه، ويجوز له شدّ السنّ، والأنملة، ونحوهما بخيط ذهب؛ لأنه أقلّ منْ الأنف المنصوص عليه. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5164 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ أَبِي الأَشْهَبِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ طَرَفَةَ، عَنْ عَرْفَجَةَ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ كَرِبٍ، قَالَ: وَكَانَ جَدُّهُ، قَالَ: حَدَّثَنِي
أَنَّهُ رَأَى جَدَّهُ قَالَ أُصِيبَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلَابِ، فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ: فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ فِضَّةٍ، فَأَنْتَنَ عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يَتَّخِذَهُ مِنْ ذَهَبٍ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو الأشهب": هو جعفر بن حيّان السعديّ العُطارديّ، مشهورٌ بكنيته، ثقة [6] 17/ 795.
[تنبيه]: أبو الأشهب هنا هو العطارديّ، كما ذكرت ترجمته آنفاً، ولهم أبو الأشهب آخر، وهو جعفر بن الحارث الواسطيّ، قَالَ عنه فِي "التقريب": صدوقٌ كثير الخطإ [7].
وإنما نبّهت عليه؛ لأني رأيت "مختصر السنن للمنذريّ" 6/ 123، وتبعه فِي "عون المعبود" 11/ 198 أن المراد به فِي هَذَا الْحَدِيث الثاني، وترجم له، وهذا غلطٌ، فقد صرّح فِي "تحفة الأشراف" 7/ 291 بأنه العطارديّ، ومما يؤكّد كونه غلطًا أنه لا رواية للثاني فِي الكتب الستّة أصلاً، وإنما ذُكر فِي كتب الرجال للتمييز، كما نبّه عليه فِي "تهذيب التهذيب" 1/ 303 و"التقريب" 55، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
وقوله: "ابن كَرِب" -بفتح الكاف، وكسر الراء- كما هو فِي بعض نسخ "المجتبى"، وهو الصواب، كما فِي "تهذيب الكمال" 19/ 554 - 555، و"التقريب" ص 237، و"تهذيب التهذيب" 3/ 90، و"الإصابة" 6/ 411 ووقع فِي معظم نسخ "المجتبى"، وفي "الكبرى":"ابن كُريب" بياء مثنّاة تحتانيّة بعد الراء، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
وقوله: "قَالَ: وكان جدّه" القائل هو أبو الأشهب: أي كَانَ عرفجة جدّ عبد الرحمن ابن طَرَفَة. وكذا قوله: "قَالَ: حدّثني أنه رأى جدّه": أي قَالَ أبو الأشهب: حدّثني عبد الرحمن أنه رأى جدّه عرفجة.
وقوله: "قَالَ: أُصيب أنفه الخ": القائل هو عبد الرحمن: أي قَالَ عبد الرحمن: أصيب أنفه: أي أنف عرفجة، وظاهر هذه الرواية أنه مرسلٌ؛ لأن عبد الرحمن لم يحضر حين أُصيب جدّه بذلك، ولا أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم له بذلك، لكنّه يحمل عَلَى أنه أخبره جدّه بذلك، كما فِي الرواية الماضية، فإنها بلفظ:"عن جدّه عرفجة بن أسعد أنه أُصيب أنفه الخ"، فإنها ظاهرة فِي كونه أخذه منه، ويؤيد ذلك قوله:"رأى جدّه". والله تعالى أعلم.
[تنبيه مهمّ]: اختُلف فِي قول الراوي: "أنّ فلانًا قَالَ كذا"، هل هو متّصلٌ، أم لا؟:
قَالَ الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى فِي "شرح علل الترمذيّ" ص 22 - 225: فأما قول الراوي: أن فلانا قَالَ، فهل يُحمل عَلَى الاتّصال، أم لا؟، فهذا عَلَى قسمين:
[أحدهما]: أن يكون ذلك القول المحكيّ عن فلان، أو الفعل المحكيّ عنه بالقول مما يُمكن أن يكون الراوي قد شهده، وسمعه منه، فهذا حكمه حكم قول الراوي: قَالَ فلان كذا، أو فعل فلان كذا.
[القسم الثاني]: أن يكون ذلك القول المحكيّ عن المرويّ عنه، أو الفعل مما لا يمكن أن يكون قد شهده الراوي، مثل أن لا يكون قد أدرك زمانه، كقول عروة: إن عائشة قالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فهل هو مرسلٌ؛ لعدم الإتيان بما يبيّن أنه رواه عن عائشة، أم هو متِّصلٌ؛ لأن عروة قد عُرِف بالرواية عن عائشة، فالظاهر أنه سمع ذلك منها، هَذَا فيه خلاف. قَالَ أبو داود: سمعت أبا عبد الله -يعني أحمد- قَالَ: كَانَ مالكٌ زعموا أنه يَرى "عن فلان"، و"أن فلانًا" سواء، وذكر أحمد مثل حديث جابر رضي الله عنه أن سُليكا رضي الله عنه جاء، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب، وعن جابر، عن سُليك أنه جاء، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب، قَالَ: وسمعت أحمد قيل له: إنّ رجلاً قَالَ: "عن عروة قالت عائشة: يا رسول الله"، و"عن عروة، عن عائشة" سواء، قَالَ: كيف هَذَا سواء؟، ليس هَذَا بسواء، فذكر أحمد القسمين اللذين أشرنا إليهما.
فأما رواية جابر أن سُليكًا جاء، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب، وروايته عن سُليك أنه جاء، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب، فهذا منْ القسم الأول؛ لأنه يمكن أن يكون جابر شهد ذلك، وحضره، ويمكن أن يكون رواه عن سُليك، ومثلُ هَذَا كثير فِي الْحَدِيث، مثلُ رواية ابن عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لعمر: كذا وكذا فِي أحاديث متعدّدة، ورُوي بعضها عن ابن عمر، عن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فمن رواه عن ابن عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لعمر، جعله منْ مسند ابن عمر، ومن رواه عن ابن عمر، عن عمر، جعله منْ مسند عمر، ولكن كَانَ القدماء كثيرًا ما يقولون:"عن فلان"، ويُريدون الحكاية عن قصّته، والتحديث عن شأنه، لا يقصدون الرواية عنه. وَقَدْ حكى الدارقطنيّ، عن موسى بن هارون الحافظ، أن المتقدّمين كانوا يفعلون ذلك.
وأما إذا رَوَى الزهريّ، عن سعيد بن المسيّب مثلاً، ثم قَالَ مرّةً: إن سعيد بن المسيّب قَالَ، فهذا محمولٌ عَلَى الرواية عنه، دون الانقطاع، ولعلّ هَذَا هو مراد مالك الذي حكاه أحمد عنه، ولم يُخالفه، وَقَدْ حكى ابن عبد البرّ هَذَا القول عن جمهور العلماء، وحَكَى عن البرديجيّ خلاف ذلك، وأنه قَالَ: هو محمولٌ عَلَى الانقطاع، إلا أن يُعلم اتّصاله منْ وجه آخر، وَقَالَ: لا وجه لذلك، ولم يذكر لفظ البرديجيّ، فلعله قَالَ ذلك فِي القسم الثاني، كما سنذكره.
وأما رواية عروة، عن عائشة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعروة أن عائشة قالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فهذا
هو [القسم الثاني]، وهو الذي أنكر أحمد التسوية بينهما، والحفّاظ كثيرًا ما يذكرون مثل هَذَا، ويعدّونه اختلافًا فِي إرسال الْحَدِيث، واتّصاله، وهو موجود كثيرًا فِي كلام أحمد، وأبي زرعة، وأبي حاتم، والدارقطنيّ، وغيرهم منْ الأئمّة.
ومن النَّاس منْ يقول: هما سواء، كما ذُكر ذلك لأحمد، وهذا إنما يكون فيمن اشتهر بالرواية عن المحكيّ قصّته، كعروة، مع عائشة، أما منْ لم يُعرف له سماعٌ منه، فلا ينبغي أن يُحمل عَلَى الاتصال، ولا عند منْ يكتفي بإمكان اللقيّ، والبخاريّ قد يُخرج منْ هَذَا القسم فِي "صحيحه"، كحديث عكرمة أن عائشة قالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم فِي قصّة امرأة رفاعة، عَلَى تقدير أن يكون عكرمة سمع منْ عائشة، وَقَدْ ذكر الإسماعيليّ فِي "صحيحه" أن المتقدّمين كانوا لا يفرّقون بين هاتين العبارتين، وكذلك ذكر أحمد أيضاً أنهم كانوا يتساهلون فِي ذلك، مع قوله: إنهما ليسا سواء، وأن حكمهما مختلفٌ، لكن كَانَ يقع ذلك منهم أحيانًا عَلَى وجه التسامح، وعدم التحرير. قَالَ أحمد فِي رواية الأثرم فِي حديث سفيان، عن أبي النضر، عن سليمان بن يسار، عن عبد الله بن حُذافة فِي النهي عن صيام أيام التشريق، ومالك قَالَ فيه: عن سليمان بن يسار أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن حُذافة، قَالَ أحمد: هو مرسلٌ، سليمان لم يدرك عبد الله بن حذافة، قَالَ: وهم كانوا يتساهلون بين "عن عبد الله بن حُذافة"، وبين "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن حُذافة"، قيل له: وحديث أبي رافع أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعثه يخطب ميمونة، وَقَالَ مطر: عن أبي رافع؟ قَالَ: نعم، وذاك أيضاً. انتهى كلام ابن رَجَب رحمه الله تعالى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا البحثُ نفيسٌ جدًّا، فاغتنمه ينفعك فِي مواطن كثيرة، إذ العبارة "عن فلان قَالَ كذا"، و"أن فلانًا قَالَ كذا"، كثيرة الوقوع فِي الأحاديث. ويُستفاد منه أن قول عبد الرحمن بن طرفة: قَالَ: أصيب أنفه الخ متّصلٌ؛ لأنه أدرك جدّه عرفجة، ولهذا كَانَ فِي رواية سلم بن زرير:"عن جدّه عرفجة بن أسعد أنه أصيب أنفه الخ". والله تعالى أعلم.
والحديث صحيحٌ، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
***
42 - (الرُّخْصَةِ فِي خَاتَمِ الذَّهَبِ لِلرِّجَالِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ظاهر عبارة المصنّف رحمه الله تعالى يدلّ عَلَى أن رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم للبس صهيب رضي الله عنه خاتم الذهب كَانَ بعد التحريم، وفيه نظر؛ إذ يحتمل أن يكون قبل التحريم، وإنما لبسه فِي عهد عمر رضي الله عنه لكونه لم يبلغه النسخ، فلا يكون الْحَدِيث دليلاً عَلَى الرخصة، وأيضًا الْحَدِيث غير صحيح، كما سيأتي قريباً، فلا يُعارض أدلة التحريم، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: الخاتم فيه ثماني لغات: فتح التاء، وكسرها، وهما واضحتان، وبتقديمها عَلَى الألف، مع كسر الخاء، ختام، وبفتحها، وسكون التحتانيّة، وضمّ المثنّاة، بعدها واو، خيتوم، وبحذف الياء، والواو، مع سكون المثتاة، خَتْمٌ، وبألف بعد الخاء، وأخرى بعد التاء، خاتام، وبزيادة تحتانيّة، بعد المثنّاة المكسورة، خاتيام، وبحذف الأولى، وتقديم التحتانيّة، خيتام، وَقَدْ نظمها فِي "الفتح"، فَقَالَ [منْ البسيط]:
خُذْ نَظْمَ عَدِّ لُغَاتِ الْخَاتَمِ انْتَظَمَتْ
…
ثَمَانِيا مَا حَوَاهَا قَبْلُ نِظَامُ
خَاتَامُ خَاتَمٌ خَتْمٌ خَاتِمٌ وَخِتَا
…
مٌ خَاتِيَامٌ وَخَيْتُومٌ وَخَيْتَامُ
وَهَمْزُ مَفْتُوحِ تَاءٍ تَاسِعٌ وَإِذَا
…
ساَغَ الْقِيَاسُ أَتَمَّ الْعَشْرَ خَأْتَامُ
أما الأول فذكر أبو البقاء فِي إعراب الشواذّ فِي الكلام عَلَى منْ قرأ "العألمين" بالهمز، قَالَ: ومثله الخأتم بالهمز. وأما الثاني فهو عَلَى الاحتمال، واقتصر كثيرون، منهم النوويّ عَلَى أربعة، والحقّ أن الْخَتْم، والْخِتَام مختصّ بما يُختم به، فتكمل الثمان فيه، وأما ما يُتزيّن به، فليس فيه إلا ستّة، وأنشدوا فِي الخاتيام، وهو أغربها قوله [منْ الرجز]:
أَخَذْتُ مِنْ سَعْدَاك خَاتِيَامَا
…
لِمَوْعِدٍ تَكْتَسِبُ الآثَامَا
وجمع خاتم خواتيم، ويجمع أيضًا عَلَى خواتم، بلا ياء، وعلى خياتيم بياء بدل الواو، وبلا ياء أيضًا. قاله فِي "الفتح" 11/ 500 - 501 "كتاب اللباس" رقم 5863. والله تعالى أعلم بالصواب.
5165 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ الْحَرَّانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ حَفْصٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِصُهَيْبٍ: مَا لِي أَرَى عَلَيْكَ خَاتَمَ الذَّهَبِ؟ قَالَ: قَدْ رَآهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، فَلَمْ يَعِبْهُ، قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هَذَا الإسناد: ثمانية:
1 -
(محمد بن يحيى بن محمد بن كثير الْحَرّانيّ) الكلبيّ، لقبه لُؤلُؤ، ثقة، صاحب حديث [11] 4/ 403.
2 -
(سعيد بن حفص) بن عُمَر، ويقال: عَمْرو بن نُفيل -بالنون، والفاء، مصغّرًا- النفيليّ، الهذلي، أبو عمرو الْحَرّانيّ، خال أبي جعفر النفيلي، صدوقٌ تغيّر فِي آخر عمره [10].
رَوَى عن موسى بن أعين، وأبي الْمَليح الرَّقّي، وزهير بن معاوية، ومعقل بن عبيد الله، وعبيد الله بن عمرو، وشريك بن عبد الله النخعي، وعدة. وعنه إبراهيم بن عبد السلام الجزري، وأحمد بن سليمان الرُّهَاوي، وبَقِيّ بن مخلد، وأبو الأحوص القاضي، ومحمد بن يحيى بن كثير الحراني، وهلال بن العلاء الرقي، وغيرهم. ذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ مسلمة بن قاسم: ثقة. وَقَالَ أبو عَرُوبة الحراني: كَانَ قد كَبِر، ولزم البيت، وتغير فِي آخر عمره. وَقَالَ عليّ بن عثمان النفيلي: مات يوم الجمعة، فِي رمضان سنة سبع وثلاثين ومائتين. تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.
3 -
(موسى بن أعين) الْجَزَريّ، مولى قريش، أبو سعيد، ثقة عابد [8] 11/ 415.
4 -
(عيسى بن يونس) السبيعيّ الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقة مأمون [8] 8/ 8.
5 -
(الضحّاك بن عبد الرحمن) بن أبي حوشب النّصْريّ -بالنون- أبو زرعة، ويقال: أبو بشر الدمشقيّ، ثقة [6].
رَأى واثلة، ورَوَى عن مكحول، وعطاء بن أبي مسلم الخراساني، وبلال بن سعد، وعبد الله بن أبي زكريا، والقاسم بن مخيمرة، وغيرهم. وعنه صدقة بن المنتصر، وعيسى بن يونس، ومحمد بن شعيب بن شابور، والوليد بن مسلم، والوليد بن مَزْيد، وَقَالَ أبو زرعة الدمشقي، عن دحيم: ثقة ثبت. وَقَالَ أبو حاتم. هو منْ أجلة أهل الشام. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". تفرد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.
6 -
(عطاء الخراسانيّ) هو عطاء بن أبي مسلم، أبو عثمان، واسم أبيه ميسرة، وقيل: عبد الله، صدوقٌ يَهِم كثيرًا، ويُرسل، ويُدلّس [5] 131/ 198.
7 -
(سعيد بن المسيّب) بن حَزْن بن أبي وهب المخزومي، أحد العلماء الأثبات الفقهاء الكبار، ثقة حجة، منْ كبار [3] 9/ 9.
8 -
(عمر) بن الخطّاب بن نُفيل العدويّ الخليفة الراشد، أمير المؤمنين، استُشهد رضي الله تعالى عنه فِي ذي الحجة سنة (23)، وولي الخلافة عشر سنين ونصفاً 60/ 75. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) بكسر الياء المشدّدة، وفتحها، والكسر أولى؛ لأنه كَانَ يكره الفتح، أنه (قَالَ: قَالَ عُمَرُ) بن الخطاب رضي الله عنه (لِصُهَيْب) بن سنان، أبي يحيى الرُّوميّ، أصله منْ النمر، يقال: كَانَ اسمه عبد الملك، وصُهيبٌ لقبه، صحابيّ مشهور، مات رضي الله عنه بالمدينة سنة (38)، وتقدّمت ترجمته فِي 89/ 1346 (مَا لِي أَرَى عَلَيْكَ خَاتَمَ الذَّهَبِ؟) هَذَا استفهام إنكاريّ، والظاهر أن عمر رضي الله عنه لم يُغلظ عليه؛ لاحتمال أن لا يكون وصل إليه خبر تحريم خاتم الذهب الناسخ للإباحة التي تمسّك بها صُهيب رضي الله عنه (قَالَ) صُهيب رضي الله عنه (قَدْ رَآهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ) يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم، (فَلَمْ يَعِبْهُ) بفتح أوله، مضارع عابه، منْ باب باع: أي لم يعب النبيّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الخاتم (قَالَ) أي عمر رضي الله عنه (مَنْ هُوَ؟) أي منْ الذي هو خير مني، إنما قَالَ ذلك؛ لاحتمال أن يريد أبا بكر رضي الله عنه (قَالَ) صهيب (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بالرفع خبر لمحذوف: أي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا محمول عَلَى أنه صلى الله عليه وسلم رآى خاتم الذهب عَلَى صهيب رضي الله عنه فِي الوقت الذي كَانَ التختّم بالذهب جائزًا، ثم لم يبلغ صُهيباً خبر التحريم، فاستمرّ عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث تفرد به المصنّف رحمه الله تعالى هنا 42/ 5165 - وفي "الكبرى" 52/ 9465. وَقَالَ فيه: ما نصّه: قَالَ أبو عبد الرحمن: هَذَا حديث منكر انتهى. وهو كما قَالَ منكر؛ لأن فِي سنده عطاء الخراسانيّ مدلّسٌ، وَقَدْ رواه بالعنعنة، ولأنه يعارض الأحاديث الصحيحة فِي تحريم خاتم الذهب، كالأحاديث الآتية فِي الباب التالي، وغيرها.
[فإن قلت]: فيه أيضاً انقطاع، فإن سعيد بن المسيّب لم يسمع منْ عمر، عند الأكثرين.
[أُجيب]: بأن مراسيل سعيد صحيحة لكونها عن الثقات، كما هو مشهور فِي كتب المصطلح، فلا يضرّ ذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
***
43 - (خَاتَمِ الذَّهَبِ)
أي هَذَا باب ذكر الأحاديث الدّالّة عَلَى تحريم لبس خاتم الذهب.
5166 -
(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمَ الذَّهَبِ، فَلَبِسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيِمَ الذَّهَبِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي كُنْتُ أَلْبَسُ هَذَا الْخَاتَمَ، وَإِنِّي لَنْ أَلْبَسَهُ أَبَدًا"، فَنَبَذَهُ، فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ).
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(عليّ بن حجر) السعديّ المروزيّ، ثقة حافظ، منْ صغار [9] 13/ 13.
2 -
(إسماعيل) بن جعفر بن أبي كثير الأنصاريّ الزرقيّ، أبو إسحاق القارىء المدنيّ، ثقة ثبت [8] 16/ 17.
3 -
(عبد الله بن دينار) العدوي مولى ابن عمر، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقة [4] 167/ 260.
4 -
(ابن عمر) عبد الله رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (243) منْ رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات المدنيين، غير شيخه، فإنه مروزيّ. (ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، رَوَى (2635) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عن) عبد الله (بْنِ عُمَرَ) بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمَ الذَّهَبِ) معنى "اتّخذ" أمر بصياغته، فصِيغ، فلبسه، أو وجده مصوغًا، فاتّخذه. قاله فِي "الفتح" 11/ 504.
وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: الحامل له صلى الله عليه وسلم عَلَى اتّخاذ الخاتم هو السبب الذي ذكره أنس رضي الله عنه، منْ أنه لَمّا أراد أن يكتُب إلى كسرى، وقيصر، والنجاشيّ، وقيل له: إنهم لا يقرؤون كتابًا إلا مختومًا، اتّخذ الخاتم ليختم به، هَذَا هو المقصود الأول فيه، ثم إنه جعله فِي يده، مستصحبًا له، حفظاً، وصيانةً منْ أن يتوصّل إليه غيره، ولذلك منع
منْ أن يَنقُش أحدٌ عَلَى نقشه، فإنه إذا نقش غيرُه مثله، اختلطت الخواتم، وارتفعت الخصوصيّة، وحصلت المفسدة العامّة، وَقَدْ بالغ أهل الشام، فمنعوا الخواتم لغير ذي سلطان، وَقَدْ أجمع العلماء عَلَى جواز التختّم بالورق عَلَى الجملة للرجال، قَالَ الخطّابيّ: وكره للنساء التختّم بالفضّة؛ لأنه منْ زيّ الرجال، فإن لم يجدن ذهبًا، فليُصفِّرنه بزعفران، أو شبهه. انتهى "المفهم" 5/ 410 - 411.
(فَلَبِسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي لبس ذلك الخاتم الذي اتّخذه، وفيه الإظهار فِي مقام الإضمار؛ للإيضاح، إذ الظاهر أن يقول:"فلبسه صلى الله عليه وسلم" بالضمير (فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيِمَ الذَّهَبِ) فيه ما كَانَ عليه الصحابة رضي الله عنهم منْ المبادرة إلى امتثال أمره، ونهيه صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بأفعاله (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي كُنْتُ أَلْبَسُ هَذَا الْخَاتَمَ) أي لكونه حلالاً (وَإِنِّي لَنْ أَلْبَسَهُ أَبَدًا) أي لأنه جاءه الوحي بالنهي عن لبسه، وهذا بداية التحريم (فَنَبَذَهُ) أي طرح ذلك الخاتم؛ لحرمة لبسه (فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ) أي اقتداء به صلى الله عليه وسلم.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -43/ 5166 و53/ 5216 و5217 و5218 و5219 و5225 و5221 - وفي "الكبرى" 53/ 9466 و73/ 9545 و9546 و9547 و9548 و9549 و9550 و9551. وأخرجه (خ) فِي "اللباس" 5865 و5867 و5873 و5876 و"الأيمان والنذور" 6651 و"الاعتصام بالكتاب والسنّة" 7298 (م) فِي "اللباس" 2091 (د) فِي "الخاتم" 4227 (ت) فِي "اللباس" 1741 (ق) فِي "اللباس" 3645 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 4663 و4889 و5227 و5343 و5558 و5673 و5817 و5853 و5935 و5971 و6072 و6083 و6295 و6376 و6938. (الموطأ)1743.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان النهي عن لبس خاتم الذهب. (ومنها): بيان ما كَانَ عليه الصحابة رضي الله عنهم منْ الحرص عَلَى متابعته صلى الله عليه وسلم فِي جميع ما يصدر منه، قولاً، أو فعلاً، أو نحوهما، إلا ما كَانَ خصوصيّةً له صلى الله عليه وسلم. (ومنها): أن
فيه جواز خاتم الفضّة، قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: وَقَدْ أجمع المسلمون عَلَى جواز خاتم الفضّة للرجال، وكره بعض علماء الشام المتقدّمين لبسه لغير ذي سلطان، ورووا فيه أثرًا، وهذا شاذّ مردود. وَقَالَ الخطابيّ: ويكره للنساء خاتم الفضّة؛ لأنه منْ شعار الرجال، قَالَ: فإن لم تجد خاتم ذهب، فلتُصفّره بزعفران، وشبهه. قَالَ النوويّ: وهذا الذي قاله ضعيفٌ، أو باطلٌ، لا أصل له، والصواب أنه لا كراهة فِي لبسها خاتم الفضّة. انتهى "شرح مسلم" 14/ 67.
(ومنها): أن فيه الردّ عَلَى منْ يزعم منْ الأصوليين أن أفعاله صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى عبادة، وعادة، فيقصرون الاتّباع عَلَى القسم الأول، دون الثاني، وهي قسمة ضيزى، ما أنزل الله بها منْ سلطان، فقد كَانَ الصحابة رضي الله عنهم حريصين عَلَى اتّباعه صلى الله عليه وسلم فِي جميع ما يصدر عنه منْ العبادة، والعادة، فهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: إن خياطا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لطعام صنعه، قَالَ: فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الطعام، فقرّب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبزا، ومرقا فيه دُبّاء وقديد، فرأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، يتتبع الدباء منْ حوالي القصعة، قَالَ: فلم أزل أحب الدباء منْ يومئذ. متّفقٌ عليه، وهذا جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما يقول: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، ذات يوم، إلى منزله، فأخرج إليه فلقا منْ خبز، فَقَالَ:"ما منْ أدم؟ " فقالوا: لا إلا شيء منْ خل، قَالَ:"فإن الخل نعم الأدم"، قَالَ جابر: فما زلت أحب الخل، منذ سمعتها منْ نبي الله صلى الله عليه وسلم، وقَالَ طلحة -الراوي عن جابر-: ما زلت أحب الخل منذ سمعتها منْ جابر. رواه مسلم. وهؤلاء أصحابه الكرام لَمّا اتخذ صلى الله عليه وسلم خاتمًا منْ ذهب، اتخذوا كلهم خواتم منْ ذهب، ولَمّا رماه، رموه، ثم لَمّا اتخذ خاتما منْ فضّة، اتخذوا كلهم خواتم منْ فضّة، ولقد أجاد الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه"، حيث ترجم بقوله:"باب الاقتداء بأفعال النبيّ صلى الله عليه وسلم"، ثم أورد فيه حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فِي قصّة الخاتم، المذكور فِي هَذَا الباب.
وَقَالَ فِي "الفتح": والأصل فِي ذلك قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، وَقَدْ ذهب جمع إلى وجوبه؛ لدخوله فِي عموم الأمر بقوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7]، وبقوله:{فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، وبقوله تعالى:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، فيجب اتباعه فِي فعله، كما يجب فِي قوله، حَتَّى يقوم دليل عَلَى الندب، أو الخصوصية. وَقَالَ آخرون: يحتمل الوجوب، والندب، والإباحة، فيحتاج إلى القرينة، والجمهور للندب
إذا ظهر وجه القربة، وقيل: ولو لم يظهر، وهو الحقّ، ومنهم منْ فصل بين التكرار وعدمه. وَقَالَ آخرون ما يفعله صلى الله عليه وسلم، إن كَانَ بيانا لمجمل، فحكمه حكم ذلك المجمل، وجوبا، أو ندبا، أو إباحة، فإن ظهر وجه القربة فللندب، وما لم يظهر فيه وجه التقرب فللإباحة، وأما تقريره عَلَى ما يفعل بحضرته، فيدل عَلَى الجواز.
والمسألة مبسوطة فِي أصول الفقه، ويتعلق بها تعارض قوله وفعله، ويتفرع منْ ذلك حكم الخصائص، وَقَدْ أفردت بالتصنيف، ولشيخ شيوخنا الحافظ صلاح الدين العلائي فيه مصنف جليل، وحاصل ما ذكر فيه ثلاثة أقوال:[أحدها]: يُقَدَّم القول؛ لأن له صيغة تتضمن المعاني، بخلاف الفعل. [ثانيها]: الفعل لأنه لا يطرقه منْ الاحتمال ما يطرق القول. [ثالثها]: يفزع إلى الترجيح، وكل ذلك محله ما لم تقم قرينة، تدلّ عَلَى الخصوصية.
وذهب الجمهور إلى الأول، والحجة له أن القول يعبر به عن المحسوس والمعقول، بخلاف الفعل، فيختص بالمحسوس، فكان القول أتم، وبأن القول متَّفقٌ عَلَى أنه دليل، بخلاف الفعل، ولأن القول يدلّ بنفسه، بخلاف الفعل فيحتاج إلى واسطة، وبأن تقديم الفعل يفضي إلى ترك العمل بالقول، والعمل بالقول يمكن معه العمل بما دل عليه الفعل، فكان القول أرجح بهذه الاعتبارات.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي القول الثالث هو الأرجح؛ بدليل أن الصحابة رضي الله عنهم، وهم أعلم النَّاس بمقاصد الشريعة كانوا إذا احتجّ بعضهم بالقول عارضه الآخر بالفعل، وهذا دليلٌ عَلَى أن القول والفعل فِي درجة واحدة لا ترجيح لأحدهما عَلَى الآخر إلا بمرجّح، فهذا ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما سمع أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن أجرة الحجام، قَالَ: احتجم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأعطى الحجّام أجره، ولو كَانَ حرامًا ما أعطاه، متَّفقٌ عليه، وهذا عليّ رضي الله عنه لما سمع كراهية الشرب منْ قيام، توضأ، ثم شرب قائمًا، فَقَالَ: هكذا رأيته صلى الله عليه وسلم يفعل، إلى غير ذلك مما كانوا يحتجون به منْ أفعاله صلى الله عليه وسلم.
قَالَ ابن بطال رحمه الله تعالى، بعد أن حكى الاختلاف فِي أفعاله عليه الصلاة والسلام، محتجا لمن قَالَ بالوجوب بحديث الباب؛ لأنه خلع خاتمه، فخلعوا خواتمهم، ونزع نعله فِي الصلاة، فنزعوا، ولما أمرهم عام الحديبية بالتحلل، وتأخروا عن المبادرة، رجاء أن يأذن لهم فِي القتال، وأن ينصروا، فيكملوا عمرتهم، قالت له أم سلمة رضي الله تعالى عنها: اخرج إليهم، واحلِق، واذبح، ففعل، فتابعوه مسرعين،
فدل ذلك عَلَى أن الفعل أبلغ منْ القول، ولما نهاهم عن الوصال، قالوا: إنك تواصل، فَقَالَ:"إني أطعم وأسقى"، فلولا أن لهم الاقتداء به لقال، وما فِي مواصلتي ما يبيح لكم الوصال، لكنه عدل عن ذلك، وبين لهم وجه اختصاصه بالمواصلة. انتهى.
قَالَ الحافظ: وليس فِي جميع ما ذكره ما يدلّ عَلَى الْمُدَّعَى منْ الوجوب، بل عَلَى مطلق التأسي به، والعلم عند الله تعالى. انتهى "فتح" 15/ 204 - 205.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح عندي أن أفعاله صلى الله عليه وسلم إن كانت بيانًا لمجمل، فهي بحسب ذلك المجمل، وجوبًا، أو ندبًا، أو إباحةً، والا فهي للاستحباب، ما لم يقم دليل الوجوب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5167 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ هُبَيْرَةَ بْنِ يَرِيمَ، قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: نَهَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، عَنْ خَاتِمَ الذَّهَبِ، وَعَنِ الْقَسِّيِّ، وَعَنِ الْمَيَاثِرِ الْحُمْرِ، وَعَنِ الْجِعَةِ).
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.
2 -
(أبو الأحوص) سلّام بن سُليم الحنفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة متقنٌ [7] 79/ 96.
3 -
(أبو إسحاق) عمرو بن عبد الله بن عُبيد الهمدانيّ السبيعيّ الكوفيّ، ثقة عابد مكثر، اختلط بآخره، ويُدلّس [3] 38/ 42.
4 -
(هُبيرة بن يريم) الشيبانيّ، أو الخارفيّ، أبو الحارث الكوفيّ، لا بأس به، وَقَدْ عِيب بالتشيّع [2] 27/ 4108.
5 -
(عليّ) بن أبي طالب الهاشميّ الخلفية الراشد رضي الله تعالى عنه 74/ 91. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير هُبيرة، فمن رجال الأربعة. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فبغلانيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. (ومنها): أن صحابيّه أحد الخلفاء الراشدين الأربعة، والعشرة المبشّرين بالجنّة، وأبو الحسنين، وأول منْ آمن منْ الصبيان، وابن عم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته، والملقّب بأبي تُراب، لقّبه به النبيّ صلى الله عليه وسلم لما
وجده نائمًا فِي المسجد، وَقَدْ أصابه تراب، كما هو مشهور فِي "الصحيح"
(1)
. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ هُبَيْرَةَ) بضم الهاء، وفتح الموحدة، مصغراً (بْنِ يَرِيمَ) بفتح المثنّاة التحتانيّة، وكسر الراء، بوزن عَظِيم، أنه (قَالَ: قَالَ عَلِيّ) بن أبي طالب رضي الله عنه (نَهَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ خَاتِمَ الذَّهَبِ) أي عن لبسه، وإضافة "لبس" إلى "خاتم" منْ إضافة المصدر إلى مفعوله، وإضافة "خاتم" إلى "الذهب" منْ إضافة العامّ إلى الخاصّ (وَعَنِ الْقَسِّيِّ) أي وعن لبس القسيّ، وهو بفتح القاف، وكسر الراء المشدّدة: نسبة إلى القسّ، وهي ثياب منْ كتّان مخلوط بحرير، يؤتى بها منْ مصر، نُسبت إلى قرية عَلَى ساحل البحر، قريباً منْ تِنّيس، يقال لها: القسّ بالفتح، وقيل: القَسّ أصله القرّ، وهو ضرب منْ الإِبريسم، أُبدلت الزاي سيناً.
وفي "صحيح البخاريّ" 5/ 2195: وَقَالَ عاصم
(2)
، عن أبي بردة
(3)
، قَالَ: قلت لعلي: ما القسية؟ قَالَ: ثياب أتتنا منْ الشام، أو منْ مصر، مُضَلَّعة، فيها حرير، فيها أمثال الأترج
(4)
، والميثرة: كانت النِّساء تصنعه لبعولتهن، مثل القطائف، يَصُفُّونها. وَقَالَ جرير، عن يزيد فِي حديثه: القسية ثياب مُضّلَّعة يُجاء بها منْ مصر، فيها الحرير، والميثرة: جلود السباع.
وَقَالَ فِي "الفتح": "القسي": -بفتح القاف، وتشديد المهملة، بعدها ياء نسبة،
(1)
أخرج الشيخان رحمهما الله تعالى فِي "صحيحيهما" منْ طريق أبي حازم، عن سهل بن سعد، قَالَ: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة، فلم يجد عليا فِي البيت، فَقَالَ:"أين ابن عمك؟ " قالت: كَانَ بيني وبينه شيء، فغاضبني، فخرج، فلم يَقِل عندي، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان:"انظر أين هو؟ " فجاء، فَقَالَ: يا رسول الله هو فِي المسجد راقد، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مضطجع، قد سقط رداؤه عن شقه، وأصابه تراب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه، ويقول:"قم أبا تراب، قم أبا تراب".
(2)
هو ابن كُليب.
(3)
هو ابن أبي موسى الأشعريّ.
(4)
قوله: "ثياب أتتنا منْ الشام، أو منْ مصر"، فِي رواية مسلم:"منْ مصر والشام". وقوله: "مُضلّعة فيها حرير": أي فيها خطوط عريضة كالأضلاع. وحكى المنذري: أن المراد بالمضلع ما نُسج بعضه، وتُرك بعضه. وقوله:"فيها حرير": يشعر بأنها ليست حريرا صرفا. وحكى النوويّ عن العلماء أنها ثياب مخلوطة بالحرير، وقيل: منْ الخز، وهو رديء الحرير. وقوله:"وفيها أمثال الأترج": أي أن الأضلاع التي فيها غليظة معوجة. قاله فِي "الفتح" 11/ 473 - 474.
وذكر أبو عبيد فِي "غريب الْحَدِيث" أن أهل الْحَدِيث يقولونه بكسر القاف، وأهل مصر يفتحونها، وهي نسبة إلى بلد، يقال لها: القس رأيتها، ولم يعرفها الأصمعي، وكذا قَالَ الأكثر، هي نسبة للقس قرية بمصر، منهم الطبري، وابن سِيدَهْ، وَقَالَ الحازمي: هي منْ بلاد الساحل، وَقَالَ المهلب: هي عَلَى ساحل مصر، وهي حصن بالقرب منْ الفَرَما، منْ جهة الشام، وكذا وقع فِي حديث ابن وهب أنها تلي الفرما، و"الفَرَما" بالفاء، وراء مفتوحة، وَقَالَ النوويّ: هي بقرب تِنِّيس، وهو متقارب. وحكى أبو عبيد الهروي، عن شَمِر اللغوي: إنها بالزاي، لا بالسين، نسبة إلى الْقَزّ، وهو الحرير، فأبدلت الزاي سينا. وحكى ابن الأثير فِي "النهاية": أن القس الذي نسب إليه هو الصقيع، سُمي بذلك لبياضه، وهو والذي قَبلَه كلام منْ لم يعرف القس القرية.
(وَعَنِ الْمَيَاثِرِ الْحُمْرِ)"المياثر": هي جمع مِيثرة بكسر الميم، وسكون التحتانيّة، وفتح المثلّثة، بعدها راء، ثمّ هاءٌ، ولا همز فيها، وأصلها منْ الوثارة، أو الوِثرة -بكسر الواو، وسكون المثلّثة- والوَثِير: هو الفراش الوطيء، وامرأة وَثيرة كثيرة اللحم. وَقَالَ أبو عبيد:"المياثر الْحُمْر" التي جاء النهي عنها، كانت منْ مراكب العجم، منْ ديباج، وحرير. وَقَالَ الطبري: هي وِعاء يوضع عَلَى سُرُج الفرس، أو رَحْل البعير، منْ الأرجوان. وحكى فِي "المشارق" قولا: إنها سروج منْ ديباج، وقولا: إنها أغشية للسروج منْ حرير، وقولاً: إنها تشبه الْمِخَدَّة، تُحْشَى بقطن، أو رِيش، يجعلها الراكب تحته، وهذا يوافق تفسير الطبري، والأقوال الثلاثة يحتمل أن لا تكون متخالفة، بل الْمِيثرة تطلق عَلَى كل منها، وتفسير أبي عبيد يحتمل الثاني، والثالث.
وتقدّم منْ "صحيح البخاريّ": قوله: والميثرة كانت النِّساء تصنعه لبعولتهن، مثل القطائف، يصفونها: قَالَ فِي "الفتح": أي يجعلونها كالصفة، وحكى عياض فِي رواية "يصفرنها" بكسر الفاء، ثم راء، قَالَ الحافظ: وأظنه تصحيفا، وإنما قَالَ:"يصفونها" بلفظ المذكر للإشارة إلى أن النِّساء يصنعن ذلك، والرجال هم الذين يستعملونها فِي ذلك. وَقَالَ الزبيدي اللغوي: والميثرة مِرْفَقة كصفة السرج. وَقَالَ الطبري: هو وطاء يوضع عَلَى سرج الفرس، أو رحل البعير، كانت النِّساء تصنعه لأزواجهن منْ الأرجوان الأحمر، ومن الديباج، وكانت مراكب العجم، وقيل: هي أغشية للسروج منْ الحرير، وقيل: هي سروج منْ الديباج، فحصلنا عَلَى أربعة أقوال فِي تفسير المثيرة: هل هي وطاء للدابة، أو لراكبها، أو هي السرج نفسه، أو غشاوة؟. وَقَالَ أبو عبيد: المياثر الحمر كانت منْ مراكب العجم، منْ حرير، أو ديباج. انتهى "فتح" 11/ 474.
قَالَ الحافظ: وعلى كل تقدير فالميثرة، إن كانت منْ حرير، فالنهي فيها كالنهي عن
الجلوس عَلَى الحرير، وهو مذهب الجمهور، خلافا لبعضهم؛ لحديث حذيفة رضي الله عنه "نهانا النبيّ صلى الله عليه وسلم أن نشرب فِي آنية الذهب والفضّة، وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير، والديباج، وأن نجلس عليه". رواه البخاريّ.
ولكن تقييدها بالأحمر أخص منْ مطلق الحرير، فيمتنع إن كانت حريرا، ويتأكد المنع إن كانت مع ذلك حمراء، وإن كانت منْ غير حرير، فالنهي فيها للزجر عن التشبه بالأعاجم. قَالَ ابن بطال: كلام الطبري يقتضي التسوية فِي المنع منْ الركوب عليه، سواء كانت منْ حرير، أم منْ غيره، فكان النهي عنها إذا لم يكن منْ حرير للتشبه، أو للسرف، أو التزين، وبحسب ذلك تفصيل الكراهة، بين التحريم، والتنزيه. وأما تقييدها بالحمرة، فمن يحمل المطلق عَلَى المقيد، وهم الأكثر يخص المنع بما كَانَ أحمر. قاله فِي "الفتح" 11/ 490 - 491. "كتاب اللباس".
(وَعَنِ الْجِعَةِ) بكسر الجيم، وتخفيف العين المهملة: هي النبيذ المتّخذ منْ الشعير. قَالَ الجوهريّ عن أبي عُبيد: الجِعة نبيذ الشعير، قَالَ: ولست أدري ما نُقصانه؟ قَالَ ابن بَرّيّ: الجِعَة لامها واو، منْ جعوت: أي جمعتُ، كأنها سمّيت بذلك لكونها تجعو النَّاس عَلَى شربها: أي تجمعهم. قاله فِي "اللسان" فِي حرف العين. وَقَالَ فِي حرف الواو: والْجِعْو -بالكسر-: الجِعَةُ، والفتح أكثر: نبيذ الشعير، وفي الْحَدِيث: شرابٌ يُتّخذ منْ الشعير، والحنطة، حَتَّى يُسكر. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عليّ رضي الله عنه هَذَا أخرجه مسلم، وَقَدْ تقدّم تخريجه فِي "كتاب الصلاة" 97/ 1040 فلا حاجة إلى إعادته هنا.
(المسألة الثانية): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان النهي عن لبس خاتم الذهب. (ومنها): النهي عن لبس القَسّيّ، وَقَدْ تقدّم الخلاف فِي تفسيرها آنفاً. (ومنها): ما قاله فِي "الفتح": استُدلَّ بالنهي عن لبس القسي، عَلَى منع لبس ما خالطه الحرير منْ الثياب، لتفسير القسي بأنه ما خالط غيرُ الحرير فيه الحريرَ، ويؤيده عطف الحرير عَلَى القسي، فِي حديث البراء رضي الله عنه، ووقع كذلك فِي حديث عليّ رضي الله عنه عند أبي داود، والنسائي 44/ 5185 - وأحمد، بسند صحيح عَلَى شرط الشيخين، منْ طريق عبيدة بن عمرو، عن عليّ رضي الله عنه قَالَ:"نهاني النبيّ صلى الله عليه وسلم، عن القسي، والحرير".
ويحتمل أن تكون المغايرة باعتبار النوع، فيكون الكل منْ الحرير، كما وقع عطف الديباج عَلَى الحرير، فِي حديث حذيفة رضي الله عنه المتقدّم ذكره، ولكن الذي يظهر منْ سياق طرق الْحَدِيث فِي تفسير القسي: أنه الذي يخالط الحرير، لا أنه الحرير الصِّرْف، فعلى هَذَا يحرم لبس الثوب الذي خالطه الحرير، وهو قول بعض الصحابة، كابن عمر، والتابعين، كابن سيرين، وذهب الجمهور إلى جواز لبس ما خالطه الحرير، إذا كَانَ غير الحرير الأغلبَ، وعمدتهم فِي ذلك ما تقدّم فِي تفسير الحلة السيراء، وما انضاف إلى ذلك منْ الرخصة فِي العلم فِي الثوب، إذا كَانَ منْ حرير، كما تقدّم تقريره فِي حديث عمر رضي الله عنه. قَالَ ابن دقيق العيد: وهو قياس فِي معنى الأصل، لكن لا يلزم منْ جواز ذلك جواز كل مختلط، وإنما يجوز منه ما كَانَ مجموع الحرير فيه قدر أربع أصابع، لو كانت منفردة بالنسبة لجميع الثوب، فيكون المنع منْ لبس الحرير شاملا للخالص والمختلط، وبعد الاستثناء يقتصر عَلَى القدر المستثنى، وهو أربع أصابع، إذا كانت منفردة، ويلتحق بها فِي المعنى ما إذا كانت مختلطة، قَالَ: وَقَدْ توسع الشافعيّة فِي ذلك، ولهم طريقان:[أحدهما]: وهو الراجح اعتبار الوزن، فإن كَانَ الحرير أقل وزنا لم يحرم، أو أكثر حرم، وإن استويا فوجهان، اختلف الترجيح فيهما عندهم.
[والطريق الثاني]: أن الاعتبار بالقلة والكثرة بالظهور، وهذا اختيار القفال ومن تبعه، وعند المالكية فِي المختلط أقوال:[ثالثها]: الكراهة، ومنهم منْ فرّق بين الخز وبين المختلط بقطن ونحوه، فأجاز الخز، ومنع الآخر، وهذا مبني عَلَى تفسير الخز، وَقَدْ تقدّم فِي بعض تفاسير القسي أنه الخز، فمن قَالَ: إنه رديء الحرير، فهو الذي يتنزل عليه القول المذكور، ومن قَالَ: إنه ما كَانَ منْ وبر، فخلط بحرير، لم يتجه التفصيل المذكور.
واحتج أيضًا منْ أجاز لبس المختلط، بحديث ابن عباس: إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت منْ الحرير، فأما العلم منْ الحرير، وسَدَى الثوب، فلا بأس به، أخرجه الطبراني بسند حسن هكذا، وأصله عند أبي داود، وأخرجه الحاكم بسند صحيح بلفظ:"إنما نُهي عن المصمت إذا كَانَ حريرا"، وللطبراني منْ طريق ثالث:"نُهَي عن مصمت الحرير، فأما ما كَانَ سَدَاه منْ قطن، أو كَتّان فلا بأس به".
واستدل ابن العربي للجواز أيضًا بأن النهي عن الحرير حقيقة فِي الخالص، والأذن فِي القطن ونحوه صريح، فإذا خُلط بحيث لا يسمى حريرا، بحيث لا يتناوله الاسم، ولا تشمله علة التحريم، خرج عن الممنوع فجاز، وَقَدْ ثبت لبس الخز عن جماعة منْ الصحابة، وغيرهم، قَالَ أبو داود: لبسه عشرون نفسا منْ الصحابة، وأكثر، وأورده ابن
أبي شيبة عن جمع منهم، وعن طائفة منْ التابعين، بأسانيد جياد، وأعلى ما ورد فِي ذلك، ما أخرجه أبو داود، والنسائي، منْ طريق عبد الله بن سعد الدَّشْتَكي عن أبيه، قَالَ: رأيت رجلا عَلَى بغلة، وعليه عمامة خز سوداء، وهو يقول: كسانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن أبي شيبة منْ طريق عمار بن أبي عمار، قَالَ: أتت مروانَ بن الحكم مطارف خز، فكساها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والأصح فِي تفسير الخز أنه ثياب سَدَاها منْ حرير، ولحمتها منْ غيره. وقيل: تنسج مخلوطة منْ حرير، وصوف، أو نحوه. وقيل: أصله اسم دابة، يقال لها: الخز، سُمي الثوب المتخذ منْ وبرها خزا؛ لنعومته، ثم أطلق عَلَى ما يخلط بالحرير؛ لنعومة الحرير، وعلى هَذَا فلا يصح الاستدلال بلبسه، عَلَى جواز لبس ما يخالطه الحرير، ما لم يتحقق أن الخز الذي لبسه السلف، كَانَ منْ المخلوط بالحرير. والله أعلم.
وأجاز الحنفية، والحنابلة لبس الخز، ما لم يكن فيه شهرة، وعن مالك الكراهة، وهذا كله فِي الخز.
وأما "الْقَزّ" بالقاف، بدل الخاء المعجمة، فَقَالَ الرافعي: عد الأئمة القز منْ الحرير، وحرموه عَلَى الرجال، ولو كَانَ كَمِد اللون، ونقل الإمام الاتفاق عليه، لكن حكى المتولي فِي "التتمة" وجها أنه لا يحرم؛ لأنه ليس منْ ثياب الزينة. قَالَ ابن دقيق العيد: إن كَانَ مراده بالقز ما نطلقه نحن الآن عليه، فليس يخرج عن اسم الحرير فيحرم، ولا اعتبار بكمودة اللون، ولا بكونه ليس منْ ثياب الزينة، فإن كلا منهما تعليل ضعيف، لا أثر له بعد انطلاق الاسم عليه. انتهى كلامه.
ولم يتعرض لمقابل التقسيم، وهو وإن كَانَ المراد به شيئا آخر، فيتجه كلامه، والذي يظهر أن مراده به رديء الحرير، وهو نحو ما تقدّم فِي الخز، ولأجل ذلك وصفه بكمودة اللون. والله أعلم. انتهى "فتح" 11/ 475 - 476.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما تقدّم عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما منْ تقييد التحريم بما إذا كَانَ حريرًا خالصًا، هو الأرجح لوضوح حجته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5168 -
(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ هُبَيْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ، وَعَنِ الْقَسِّيِّ، وَعَنِ الْمَيَاثِرِ الْحُمْرِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن آدم": هو الْجُهَنيّ المِصّيصيّ، صدوقٌ [10] منْ أفراد المصنّف، وأبي داود. و"عبد الرحيم": هو ابن سُليمان الكنانيّ، أبو
عليّ الأشلّ المروزيّ، نزيل الكوفة، ثقة له تصانيف، منْ صغار [8]. و"زكريّا": هو ابن أبي زائدة/ خالد، أو هُبيرة بن ميمون بن فَيروز الهمدانيّ الوادعيّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقة مدلّسٌ، وسماعه منْ أبي إسحاق بأخرة [6].
والحديث صحيح، ولا يضرّه الكلام فِي زكريّا، وأبي إسحاق، فإن له طرقًا كثيرة، كما ستأتي بعد هَذَا -إن شاء الله تعالى-. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5169 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى -وهُوَ ابْنُ آدَمَ- قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ هُبَيْرَةَ، سَمِعَهُ مِنْ عَلِيٍّ، يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ حَلْقَةِ الذَّهَبِ، وَعَنِ الْمِيثَرَةِ الْحَمْرَاءِ، وَعَنِ الثِّيَابِ الْقَسِّيَّةِ، وَعَنِ الْجِعَةِ، شَرَابٌ يُصْنَعُ مِنَ الشَّعِيرِ وَالْحِنْطَةِ، وَذَكَرَ مِنْ شِدَّتِهِ.
خَالَفَهُ عَمَّارُ بْنُ رُزَيْقٍ، رَوَاهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ صَعْصَعَةَ، عَنْ عَلِيٍّ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن عبد الله بن المبارك": هو الْمُخَرِّميّ، أبو جعفر البغداديّ الثقة الحافظ [11]. و"يحيى بن آدم": هو أبو زكريا الكوفيّ، مولى بني أمية الثقة الحافظ الفاضل، منْ كبار [9]. و"زُهير": هو ابن معاوية بن حُدَيج الجعفيّ، أبو خيثمة الكوفيّ، نزيل الجزيرة، الثقة الثبت، إلا أن سماعه منْ أبي إسحاق بأخرَة [7].
وقوله: "عن حَلْقة الذهب" بفتح الحاء المهملة، وسكون اللام، قيل: وتُفتح: المراد هنا الخاتم، فهو بمعنى الروايات الأخرى:"نهى عن خاتم الذهب".
وقوله: "شراب الخ" يحتمل الجرّ عَلَى البدليّة، والرفع عَلَى أنه خبر لمحذوف: أي هو. وهذا التفسير منْ بعض الرواة.
والحديث صحيح، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله: (خَالَفَهُ عَمَّارُ بْنُ رُزَيْقٍ، رَوَاهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ صَعْصَعَةَ، عَنْ عَلِيٍّ) يعني أن عمّار بن رُزيق خالف زهير بن معاوية فِي روايته لهذا الْحَدِيث عن أبي إسحاق، فجعله عنه، عن صعصعة بن صُوحان، عن عليّ رضي الله عنه، كما بيّنه بقوله:
5170 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ رُزَيْقٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ صَعْصَعَةَ بْنِ صُوحَانَ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ حَلْقَةِ الذَّهَبِ، وَالْقَسِّيِّ، وَالْمِيثَرَةِ، وَالْجِعَةِ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: الَّذِي قَبْلَهُ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمّار بن رُزيق" -بتقديم الراء عَلَى الزاي، مصغّرًا-: الضبّيّ، أو التميميّ، أبو الأحوص الكوفيّ، لا بأس به [8].
و"صعصعة بن صُوحان" -بضم الصاد المهملة، وبالحاء المهملة- ابن حُجْر بن الحارث بن هِجْرَس أبو عمر، ويقال: أبو طلحة، أو أبو عكرمة، العبديّ الكوفيّ أخو زيد، تابعيّ كبير، مخضرمٌ، فصيحٌ، ثقة [2].
رَوَى عن عثمان، وعلي، وابن عباس، وشهد مع عليّ صِفِّين، وكان أميرا عَلَى بعض الصف، وعنه أبو إسحاق السبيعي، وابن بُريدة، والشعبي، ومالك بن عمير، والمنهال بن عمرو، وغيرهم. قَالَ النسائيّ: ثقة. وَقَالَ ابن سعد: كَانَ ثقة، قليل الْحَدِيث، توفي بالكوفة فِي خلافة معاوية. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: يخطيء. وذكره ابن عبد البرّ فِي "الصحابة"، وَقَالَ: كَانَ مسلما عَلَى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يره، وكان سيدا، فصيحا، خطيبا، دَيِّنًا. وَقَالَ الشعبي: كنت أتعلم منه الْخُطَب. قَالَ الحافظ: ولعبد الله بن بريدة عنه رواية فِي "سنن أبي داود" فِي "كتاب الأدب" منه فِي "باب قول الشعر"، وأغفل ذلك المزي. رَوَى له المصنّف فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.
وقوله: (قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أي النسائيّ (الَّذِي قَبْلَهُ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ) يعني الرواية السابقة التي هي منْ رواية أبي إسحاق، عن هُبيرة بن يرِيم، عن عليّ رضي الله عنه أرجح منْ هذه الرواية التي هي عن أبي إسحاق، عن صعصعة، عن عليّ رضي الله عنه، وإنما رجّح الرواية السابقة عَلَى هذه؛ لمحالفة عمّار بن رزيق للجماعة منْ أصحاب أبي إسحاق، فقد رَوَى هَذَا الْحَدِيث أبو الأحوص، وزكريا بن أبي زائدة، وزُهير بن معاوية الثلاثة عند المصنّف، وتابعهم شعبة عند أبي داود، فكلّهم رووه عن أبي إسحاق، عن هُبيرة، عن عليّ رضي الله عنه، فخالفهم عمّار بن رُزيق، فرواه عن أبي إسحاق، عن صعصعة، عن عليّ رضي الله عنه، فتكون روايته شاذّة، ورواية الجماعة هي المحفوظة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5171 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سُمَيْعٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ صَعْصَعَةَ بْنِ صُوحَانَ، قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ: انْهَنَا عَمَّا نَهَاكَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: نَهَانِي عَنِ الدُّبَّاءِ، وَالْحَنْتَمِ، وَحَلْقَةِ الذَّهَبِ، وَلُبْسِ الْحَرِيرِ، وَالْقَسِّيِّ، وَالْمِيثَرَةِ الْحَمْرَاءِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "إسحاق بن إبراهيم": هو ابن راهويه. و"عُبيد الله ابن موسى": هو ابن أبي المختار/ باذام الْعَبْسيّ أبو محمد الكوفيّ، ثقة، يتشيّع [9].
و"إسرائيل": هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعيّ الكوفيّ، ثقة [7].
و"إسماعيل بن سُميع": هو الحنفيّ، أبو محمد الكوفيّ، بيّاع السَّابِرِيّ
(1)
، صدوقٌ، تُكلّم فيه لبدعة الخوارج [4].
رَوَى عن أنس، ومالك بن عمير الحنفي، وأبي رزين، ومسلم البطين، وعبد الملك ابن أعين، وغيرهم. وعنه شعبة، والثوري، وإسرائيل، وأبو إسحاق الفزاري، وحفص ابن غياث، وجماعة. قَالَ القطّان: لم يكن به بأس فِي الْحَدِيث. وَقَالَ أحمد: ثقة، وتركه زائدة لمذهبه. وَقَالَ مرة: صالح. وَقَالَ ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة مأمون. وَقَالَ ابن أبي مريم، عنه: ثقة. وَقَالَ أبوحاتم: صدوقٌ صالح. وَقَالَ النسائيّ: ليس به بأس. وَقَالَ محمد بن حميد، عن جرير: كَانَ يرى رأي الخوارج، كتبت عنه، ثم تركته. وَقَالَ أبو نعيم: إسماعيل بيهسي، جاور المسجد أربعين سنة، لم يُرَ فِي جمعة، ولا جماعة. وَقَالَ ابن عدي: حسن الْحَدِيث، يَعِزّ حديثه، وهو عندي لا بأس به.
قَالَ الحافظ: والبيهسية طائفة منْ الخوارج، ينسبون إلى أبي بيهس -بموحدة مفتوحة، بعدها مثناة منْ تحت ساكنة، وهاء مفتوحة، وسين ممهملة- وهو رأس فرقة منْ طوائف الخوارج، منْ الصُّفْرية، وهو موافق لهم فِي وجوب الخروج، عَلَى أئمة الجور، وكلُّ منْ لا يعتقد معتقدهم عندهم كافر، لكن خالفهم بأنه يقول: إن صاحب الكبيرة لا يكفّر، إلا إذا رُفع إلى الإمام، فأُقيم عليه الحد، فإنه حينئذ يحكم بكفره. وَقَالَ ابن عيينة: كَانَ بيهسيا، فلم أذهب إليه، ولم أقربَه. وَقَالَ الأزدي: كَانَ مذموم الرأي، غير مرضي المذهب، يرى رأي الخوارج، فأما الْحَدِيث فلم يكن به بأس فيه. وَقَالَ الفسوي: لا بأس به. وَقَالَ ابن نمير، والعجلي: ثقة. وَقَالَ الحاكم: قرأت بخط أبي عمرو المستملي: سُئل محمد بن يحيى، عن إسماعيل بن سُميع، فَقَالَ: كَانَ بيهسيا، كَانَ ممن يُبْغِض عليا، قَالَ: وسمعت أبا عَلَى الحافظ يقول: كوفيّ قليل الْحَدِيث ثقة. وَقَالَ الآجري، عن أبي داود: ثقة. وَقَالَ هو، وابن حبّان فِي "الثقات": كَانَ بيهسيا، يرى رأي الخوارج، وكذا قَالَ العقيلي، وَقَالَ الساجي: كَانَ مذموما فِي رأيه. وَقَالَ ابن سعد: كَانَ ثقة، إن شاء الله. وَقَالَ البخاريّ: أما فِي الْحَدِيث، فلم يكن به بأس به، وَقَالَ البخاريّ فِي "تفسير سورة نوح" فِي قوله تعالى:{لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] قَالَ: عظمة، وهذا وصله ابن أبي حاتم، منْ طريق إسماعيل هَذَا، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(1)
"السابِريّ" بالسين المهملة، والموحّدة المكسورة: ثوب رقيق، وتمرٌ طيّبٌ، ودِرْعٌ دقيقة النسج فِي إحكام. أفاده فِي "القاموس".
رَوَى له مسلم، والمصنّف، وأبو داود هَذَا الْحَدِيث فقط، كرّره المصنّف أربع مرّات.
و"مالك بن عُمير" -بضم العين، مصغّرًا- الحنفيّ الكوفيّ، مخضرم أدرك الجاهليّة، رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عليّ، وصعصعة بن صُوحان، ووالان
(1)
العجليّ، صاحب ابن مسعود. وروى عنه إسماعيل بن سُميع الحنفيّ، وعمّار بن معاوية الدهنيّ. وذكره يعقوب بن سُفيان فِي الصحابة. وَقَالَ ابن أبي حاتم، عن أبي زرعة: روايته عن عليّ مرسلة. وَقَالَ ابن القطّان: حاله مجهولة، وهو مخضرم. رَوَى له المصنّف، وأبو داود هَذَا الْحَدِيث فقط، كرره المصنّف أربع مرّات.
وقوله: "انهنا" بوصل الهمزة، وفتح الهاء: أمر منْ نهى ينهى، منْ باب سعى يسعى. وقوله:"عن الدبّاء": أي عن الانتباذ فِي الدبّاء، وهي القرعة. وقوله:"والحنتم" بفتح الحاء المهملة، وسكون النون، وفتح التاء-: هي الجرار الْخُضْر، وقيل: غير ذلك، وَقَدْ تقدّم أن النهي عن الانتباذ فِي الدبّاء، والحنتم، ونحوهما منسوخ.
والحديث بهذا السند فيه مالك بن عُمير مجهول الحال، كما سبق آنفاً، لكنه صحيح بما سبق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5172 -
(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، دُحَيْمٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ -هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ- قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -هُوَ ابْنُ سُمَيْعٍ الْحَنَفِيُّ- عَنْ مَالِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: جَاءَ صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ إِلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ: انْهَنَا عَمَّا نَهَاكَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الدُّبَّاءِ، وَالْحَنْتَمِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْجِعَةِ، وَنَهَانَا عَنْ حَلْقَةِ الذَّهَبِ، وَلُبْسِ الْحَرِيرِ، وَلُبْسِ الْقَسِّيِّ، وَالْمِيثَرَةِ الْحَمْرَاءِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عبد الرحمن بن إبراهيم": أبو سعيد الدمشقيّ لقبه دُحيم -مصغّرًا- ابن اليتيم، ثقة حافظ، متقنٌ [10]. و"مروان بن معاوية": هو الفزاريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل مكة، ثم دمشق، ثقة حافظٌ، وكان يدلّس أسماء الشيوخ [8].
والحديث تقدّم الكلام عليه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5173 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سُمَيْعٍ،
(1)
هكذا نسخة "التهذيبيين"، وليُحرّر.
عَنْ مَالِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: قَالَ صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ لِعَلِيٍّ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، انْهَنَا عَمَّا نَهَاكَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الدُّبَّاءِ، وَالْحَنْتَمِ، وَالْجِعَةِ، وَعَنْ حِلَقِ الذَّهَبِ، وَلُبْسِ الْحَرِيرِ، وَعَنِ الْمِيثَرَةِ الْحَمْرَاءِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: حَدِيثُ مَرْوَانَ، وَعَبْدِ الْوَاحِدِ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عبد الواحد": هو ابن زياد العبديّ مولاهم البصريّ، ثقة [8].
والحديث تقدّم الكلام عليه قريباً، وزيادة عَلَى ما مضى أن أبا زرعة قَالَ: رواية مالك ابن عُمير عن عليّ مرسلة. أي منقطعة، ففيه جهالة، وانقطاع، فتنبّه.
وقوله: (قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ) النسائيّ (حَدِيثُ مَرْوَانَ) بن معاوية الذي قبل هَذَا (وَعَبْدِ الْوَاحِدِ) أي هَذَا الْحَدِيث (أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ) يعني أن رواية مروان بن معاوية، وعبد الواحد بن زياد أرجح منْ رواية إسرائيل، والفرق بين الروايتين أن رواية إسرائيل فيها أن مالك بن عُمير يرويه عن صعصعة بن صُوحان، عن عليّ رضي الله عنه، بخلاف روايتهما، فإن فيها أن مالكًا يرويه عن عليّ رضي الله عنه، وإنما رجح روايتهما عَلَى روايته؛ لكونهما اثنين، وتفرّده.
ثم إن ترجيح المصنّف رحمه الله تعالى لروايتهما عَلَى روايته لا يدلّ عَلَى صحّة الْحَدِيث، بل هو بالعكس، فإن رواية إسرائيل متصلة، وإن كَانَ فيها جهالة مالك، وأما روايتهما ففيها الجهالة، والانقطاع، حيث إن مالكًا عن عليّ منقطع، كما قَالَ أبو زرعة الرازيّ رحمه الله تعالى، كما سبق آنفاً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5174 -
(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ، وَعُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: أَبُو عَلِيٍّ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ عُثْمَانُ: أَنْبَأَنَا دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: نَهَانِي حِبِّي صلى الله عليه وسلم، عَنْ ثَلَاثٍ -لَا أَقُولُ نَهَى النَّاسَ-: نَهَانِي عَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ، وَعَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ، وَعَنِ الْمُعَصْفَرِ الْمُفَدَّمَةِ، وَلَا أَقْرَأُ سَاجِدًا، وَلَا رَاكِعًا. تَابَعَهُ الضَّحَّاكُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو داود": هو سليمان بن سيف الحرّانيّ، ثقة حافظ [11]. و"أبو عليّ الحنفيّ": هو عبيد الله بن عبد المجيد، أبو عليّ البصريّ، صدوقٌ [9]. و"عثمان بن عمر": هو العبديّ البصريّ، بخاريّ الأصل، ثقة، قيل: كَانَ يحيى بن سعيد لا يرضاه [9]. و"داود بن قيس": هو الفرّاء الدبّاغ، أبو سليمان
القرشيّ مولاهم المدنيّ، ثقة، فاضلٌ [5]. و"إبراهيم بن عبد الله بن حُنين": هو الهاشميّ مولاهم، أبو إسحاق المدنيّ، ثقة [3]. و"أبوه": هو عبد الله بن حُنين الهاشميّ مولاهم المدنيّ، ثقة [3].
وقوله: "حِبّي" -بكسر الحاء المهملة، وتشديد الموحّدة-: أي محبوبي.
وقوله: "لا أقول: نهى النَّاس": قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: هَذَا لا يدلّ عَلَى خصوصيّته بهذا الحكم، وإنما أخبر بكيفيّة صيغة النهي الذي سمعه، وكان صيغة النهي الذي سمعه: لا تقرإ القرآن فِي الركوع، فحافظ حالة التبليغ عَلَى كيفية ما سمع حالة التحمّل، وهذا منْ باب نقل الْحَدِيث بلفظه كما سُمع، ولا شكّ أن مثل هَذَا اللفظ مقصورٌ عَلَى المخاطبين منْ حيث اللغة، ولا يتعدّى إلى غيره، إلا بدليل منْ خارج، إما عامّ، كقوله صلى الله عليه وسلم:"حكمي عَلَى الواحد، كحكمي عَلَى الجميع"، أو خاصّ فِي ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم:"نُهيت أن أقرأ القران راكعًا، أو ساجداً". انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث الذي ذكره القرطبيّ بلفظ: "حكمي عَلَى الواحد الخ" ليس له أصل بهذا اللفظ، كما قَالَ الحافظ العراقيّ رحمه الله تعالى، وسئل عنه الحافظان: المزيّ، والذهبيّ رحمهما الله تعالى، فأنكراه، بل الذي ثبت هو ما أخرجه المصنّف فِي "كتاب البيعة" رقم 4181، والترمذيّ فِي "السير منْ جامعه" رقم 1598، منْ حديث أُميمة بنت رُقيقة رضي الله تعالى عنها، مرفوعاً:"إنما قولي لمائة امرأة، كقولي لامرأة واحدة"، أو مثل "قولي لامرأة واحدة".
قَالَ الحافظ السخاويّ رحمه الله تعالى: وهو منْ الأحاديث التي ألزم الدارقطنيّ الشيخين بإخراجها؛ لثبوتها عَلَى شرطهما. انتهى "المقاصد الحسنة" ص 192 - 193.
وَقَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: إنما قَالَ هَذَا؛ إما لأن مراده حكاية اللفظ، وكان اللفظ مخصوصاً، غير عامّ، أو لأنه جوّز الخصوص حكماً، فَقَالَ ذلك. انتهى.
وَقَالَ ابن العربي رحمه الله تعالى: هَذَا دليلٌ عَلَى منع نقل الْحَدِيث بالمعنى، واتّباع اللفظ، قَالَ: ولا شكّ فِي أن نهيه لعليّ نهيٌ لسواه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كَانَ يُخاطب الواحد، ويريد الجماعة فِي بيان الشرع، انتهى.
فال الجامع عفا الله تعالى عنه: فيما قاله ابن العربيّ نظرٌ لا يخفى، بل الحقّ أن نقل الْحَدِيث بالمعنى جائز بشروطه المذكورة فِي محلّها، إلا أن الأولى المحافظة عَلَى اللفظ، كما فعل عليّ رضي الله عنه هنا. والله تعالى أعلم.
وقوله: "وعن المعصفَر الْمُفَدَّم"، وفي نسخة:"والمعصفرة الْمُفَدَّمة"، وفي "الكبرى":"والمعصفر، والمفدّمة" بالعطف، والعطف هو الذي فِي رواية الضحّاك بن
عثمان التالية، وعلى الأول فـ"المفدّم" صفة لـ "المعصفر"، والمعصفر -بصيغة اسم المفعول-: هو الثوب الذي صُبغ بالْعُصْفر -بضم العين، وسكون الصاد المهملتين، وضم الفاء- قَالَ ابن سِيده: العصفر هو الذي يُصبغ به، منه رِيفيّ، ومنه بَرّيّ، وكلاهما نبت بأرض العرب. قاله فِي "اللسان". و"المفدّم" بصيغة اسم المفعول أيضًا، مشدد الدال، أو مخفّفها: هو المشبع حمرة، كأنه الذي لا يُقدَر عَلَى الزيادة عليه؛ لتناهي حمرته، فهو كالممتنع منْ قبول الصِّبْغ. أفاده فِي "اللسان". وقوله:"والمعصفرة المفدمة": صفة لموصوف محذوف: أي الثياب المعصفرة المفدّمة.
وقوله: "ولا أقرأ ساجداً، ولا راكعاً": فيه تحريم قراءة القرآن فِي الركوع، والسجود، وَقَدْ تقدّم تمام البحث فيه فِي "كتاب الصلاة".
والحديث صحيح، كما سيأتي بيانه قريباً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله: (تَابَعَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ) أشار به إلى رواية أخرى فيها متابعة الضحّاك بن عثمان لداود بن قيس فِي ذكر ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما بين عبد الله بن حنين، وعليّ رضي الله عنه، كما بيّنه بقوله:
5175 -
(أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ دَاوُدَ الْمُنْكَدِرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَقُولُ: نَهَاكُمْ- عَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ، وَعَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ، وَعَنْ لُبْسِ الْمُفَدَّمِ، وَالْمُعَصْفَرِ، وَعَنِ الْقِرَاءَةِ رَاكِعًا).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الحسن بن داود المنكدريّ": هو أبو محمد المدنيّ، منسوب إلى جدّه، لا بأس به [10]. و"ابن أبي فُديك": هو محمد إسماعيل ابن مسلم، أبو إسماعيل المدنيّ، صدوقٌ، منْ صغار [8]. و"الضّحّاك بن عثمان": هو الأسديّ الحِزاميّ، أبو عثمان المدنيّ، صدوقٌ يَهِم [8].
والحديث صحيح، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
[تنبيهان]: (الأول): أن المصنّف رحمه الله تعالى ذكر الاختلاف فِي حديث عبد الله ابن حنين، هل رواه عن عليّ رضي الله عنه بواسطة ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، أم رواه عنه مباشرة، فرواه داود بن قيس، والضحاك بن عثمان، وتابعهما محمد بن عجلان فِي "الكبرى"، فرووه جميعًا عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه، عن ابن عبّاس، عن عليّ رضي الله عنه، وخالفهما ابن شهاب، ومحمد بن عمرو، ونافع مولى ابن عمر، وتابعهم
يزيد بن أبي حبيب فِي "الكبرى"، فروه جميعًا عن إبراهيم، عن أبيه، عن عليّ رضي الله عنه.
قَالَ الدارقطنيّ رحمه الله تعالى: منْ أسقط "ابن عبّاس" أكثر، وأحفظ. قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: وهذا الاختلاف لا يضرّ فِي صحّة الْحَدِيث، فقد يكون عبد الله بن حنين سمعه منْ ابن عبّاس، ثم سمعه منْ عليّ نفسه. انتهى "شرح مسلم" 4/ 200.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله النوويّ رحمه الله تعالى منْ تصحيح الروايتين هو الحقّ، ولذا أخرج مسلم رحمه الله تعالى الْحَدِيث فِي "صحيحه" منْ كلتا الطريقين. والله تعالى أعلم.
[الثاني]: صنيع المصنّف رحمه الله تعالى فِي "الكبرى" فِي حديث عبد الله بن حُنين أحسن مما هنا، حيث بين الاختلافات بيانًا واضحًا، فترجم بقوله:
54 -
"ذكرُ اختلاف الناقلين لخبر عبد الله بن حنين فِي خاتم الذهب".
9476 -
أخبرنا محمد بن الوليد، قَالَ: ثنا محمد بن جعفر غندر، قَالَ. ثنا شعبة، عن أبي بكر بن حفص، عن عبد الله بن حُنين، عن ابن عبّاس، قَالَ:"نُهيتُ عن الثوب الأحمر، وخاتم الذهب، وأن أقرأ، وأنا راكع".
ثم قَالَ: خالفه داود بن قيس، رواه عن إبراهيم بن عبد الله بن حُنين، عن أبيه، عن ابن عبّاس، عن عليّ، ثم ساق رواية داود المتقدّمة، ثم قَالَ: تابعه الضّحّاك بن عثمان، فساق رواية الضحّاك المذكورة.
ثم قَالَ: وافقه محمد بن عجلان:
9479 -
أخبرنا يعقوب بن إبراهيم، قَالَ: ثنا يحيى، عن ابن عجلان، قَالَ: حدثني إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه، عن ابن عبّاس، عن عليّ، قَالَ:"نهاني النبيّ صلى الله عليه وسلم، عن خاتم الذهب، وأن أقرأ، وأنا راكع، وعن القسّيّ، وعن المعصفر".
ثم قَالَ: خالفهم الزهريّ، رواه عن إبراهيم، عن أبيه، عن عليّ، ثم ساق رواية الزهريّ التالية.
ثم قَالَ: تابعه يزيد بن أبي حبيب:
9481 -
أخبرنا عيسى بن حماد، عن الليث، عن يزيد، أن إبراهيم بن عبد الله بن حنين حدثه، أن أباه حدثه، أنه سمع عليا يقول: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن خاتم الذهب، وعن لَبُوس القسي، والمعصفر، وقراءة القرآن، وأنا راكع.
ثم قَالَ: وافقه محمد بن عمرو، ثم ساق رواية الحسن بن قزعة الآتية بعد حديث (5177)، ثم قَالَ:
"باب ذكر الاختلاف عَلَى نافع فِي هَذَا الْحَدِيث":
9483 -
الحارث بن مسكين، قراءة عليه، وأنا أسمع، عن ابن القاسم، قَالَ: حدثني مالك، وَقَالَ مرة أخرى: أنا مالك، عن نافع، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه، عن عليّ، قَالَ: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ مرة أخرى: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نهى عن لبس القسّيّ، والمعصفر، وعن تختم الذهب، وعن القرآن فِي الركوع، وَقَالَ مرة أخرى: وعن قراءة القرآن فِي الركوع.
ثم قَالَ: خالفه زيد بن واقد، رواه عن نافع، عن إبراهيم، عن عليّ، ثم ساق رواية هارون بن محمد الآتية (5178).
ثم قَالَ: "ذكر الاختلاف عَلَى عبيد الله بن عمر"، ثم ساق رواية أبي بكر بن عليّ الآتية (5179)، ورواية إسماعيل بن مسعود الآتية (5180). انتهى ما فِي "الكبرى" 5/ 442 - 445. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5176 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْبَرْقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَسْوَدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيًّا، يَقُولُ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الْقِرَاءَةِ وَأَنَا رَاكِعٌ، وَعَنْ لُبْسِ الذَّهَبِ، وَالْمُعَصْفَرِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن عبد الله بن عبد الرحيم الْبَرْقيّ" -بفتح الموحّدة، وسكون الراء-
(1)
: هو المصريّ الثقة [11] منْ أفراد المصنّف، وأبي داود. و"أبو الأسود": هو النضر بن عبد الجبّار المراديّ مولاهم المصريّ الثقة، منْ كبار [10] 66/ 1801. و"نافع بن يزيد": هو الْكَلَاعيّ، أبو يزيد المصريّ الثقة العابد [7] 3/ 2098. و"يونس": هو ابن يزيد الأيليّ الثقة الثبت [7].
والحديث صحيح، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5177 -
(أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ قَزَعَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا، يَقُولُ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَقُولُ: نَهَاكُمْ- عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ، وَعَنِ الْقَسِّيِّ، وَالْمُعَصْفَرِ، وَأَنْ لَا أَقْرَأَ وَأَنَا رَاكِعٌ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الحسن بن قَزَعَة": هو الهاشميّ مولاهم البصريّ،
(1)
نسبة إلى بلد بالغرب، وإلى قرية بقُمّ. قاله فِي "لبّ اللباب".
صدوقٌ [10] منْ أفراد المصنّف، والترمذيّ، وابن ماجه. و"خالد بن الحارث": هو الهُجيميّ البصريّ الثقة الثبت [8]. و"محمد بن عمرو": هو ابن علقمة بن وقّاص الليثيّ المدنيّ، صدوقٌ، له أوهامٌ [6].
والحديث صحيح، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5178 -
(أَخْبَرَنِي هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بَكَّارِ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى -وَهُوَ ابْنُ الْقَاسِمِ بْنِ سُمَيْعٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، مَوْلَى عَلِيٍّ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ، وَعَنِ الْمُعَصْفَرِ، وَعَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ، وَعَنِ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "هارون بن محمد بن بكّار بن بلال": هو العامليّ الدمشقيّ، صدوقٌ [11] منْ أفراد المصنّف، وأبي داود. و"محمد بن عيسى بن القاسم ابن سُميع": هو الأمويّ مولاهم الدمشقيّ، صدوقٌ يُخطيء، ويُدلّس، ورُمي بالقدر [9]. و"زيد بن واقد": هو القرشيّ الدمشقيّ، ثقة [6]. و"نافع": هو مولى ابن عمر المدنيّ الثقة الفقيه [3]. و"إبراهيم مولى عليّ": هو إبراهيم بن عبد الله بن حُنين المتقدّم، ويقال له: مولى ابن عبّاس أيضاً.
والحديث فيه انقطاعٌ؛ لأن إبراهيم لم يلق عليًّا رضي الله عنه، والصواب ما تقدّم:"عن إبراهيم، عن أبيه، عن عليّ رضي الله عنه".
[تنبيه]: صنيع المصنّف رحمه الله تعالى فِي "الكبرى" أحسن مما هنا، حيث ترجم فيه لهذا الْحَدِيث بقوله:"باب ذكر الاختلاف عَلَى نافع فِي هَذَا الْحَدِيث"، ثم ذكر الاختلاف، فَقَالَ:
9483 -
الحارث بن مسكين، قراءةً عليه، وأنا أسمع، عن ابن القاسم، قَالَ: حدّثني مالك، وَقَالَ مرّةً: أنا مالك، عن نافع، عن إبراهيم بن عبد الله بن حُنين، عن أبيه، عليّ، قَالَ: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ مرّة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس القسيّ، والمعصفر، وعن تختّم الذهب، وعن القرآن فِي الركوع، وَقَالَ مرّة أخرى: وعن قراءة القرآن فِي الركوع.
ثم قَالَ: خالفه زيد بن واقد، رواه عن نافع، عن إبراهيم، عن عليّ رضي الله عنه:
أخبرني هارون بن محمد بن بكار بن بلال، عن محمد بن عيسى
…
الخ.
فبهذا يتبيّن أن رواية زيد بن واقد، عن نافع هذه منقطعة شاذّة، وإنما المحفوظ -كما قَالَ فِي "تحفة الأشراف" 7/ 346 - رواية مالك، عن نافع التي ذكرها فِي "الكبرى"،
وهي متصلة صحيحة؛ لأن عبد الله بن حنين سمع منْ عليّ رضي الله عنه، فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5179 -
(أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ حُنَيْنٍ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عَلِيًّا، قَالَ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ، وَالْمُعَصْفَرِ، وَعَنِ التَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو بكر بن عليّ": هو أحمد بن عليّ بن سعيد المروزيّ القاضي، ثقة حافظ [12] منْ أفراد المصنّف. و"إبراهيم بن الحجّاج": هو الساميّ، أبو إسحاق البصريّ، ثقة يَهِم قليلاً [10] 37/ 3274 منْ أفراد المصنّف.
[تنبيه]: إبراهيم بن الحجاج هَذَا غير إبراهيم بن الحجاج النِّيليّ -بكسر النون- أبي إسحاق البصريّ، وهو أيضًا ممن تفرد المصنّف بالرواية له، إلا أنه لم يرو له إلا حديثًا واحداً، سيأتي فِي "كتاب الأشربة" برقم 48/ 5681 - عن أبي عوانة، عن سماك، عن قرصافة امرأة منهم، عن عائشة، قالت:"اشربوا، ولا تسكروا".
وأما إبراهيم المذكور هنا فقد أخرج له المصنّف ثلاثة أحاديث: فِي "كتاب النكاح" 37/ 3273 حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما فِي نكاح النبيّ صلى الله عليه وسلم ميمونة رضي الله تعالى عنها، وهذا الْحَدِيث، وفي "الأشربة" 40/ 5656 - حديث بُريدة بن الحصيب رضي الله عنه فِي الأوعية.
وإنما نبّهت عليه؛ لكونه مما يلتبس؛ إذ كلّ منهما يروي عنه أبو بكر بن عليّ شيخ المصنّف، وَقَدْ وقع فِي بعض نسخ "التقريب" الإشارة إلى أن إبراهيم بن الحجّاج النيليّ ليس منْ رجال الكتب الستة، حيث كتب كلمة "تمييز"، وهو غلط، فقد نبّه فِي "تهذيب الكمال" 2/ 71 - 72 عَلَى أن المصنّف رَوَى له حديثًا واحداً، وهو الْحَدِيث المذكور، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
وقوله "عن ابن حُنين" هكذا فِي نسخ "المجتبى"، وهو الصواب، ووقع فِي "الكبرى""حنين" بإسقاط كلمة "ابن"، وهو غلطٌ، وهو عبد الله بن حنين المذكور سابقاً. وقوله:"مولى ابن عبّاس": ويقال له أيضاً: مولى عليّ، ويقال: الهاشميّ مولاهم.
والحديث صحيح، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5180 -
(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ -وَهُوَ ابْنُ الْمُفَضَّلِ- قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ حُنَيْنٍ، مَوْلَى عَلِيٍّ، عَنْ عَلِيٍّ رضى الله عنه، قَالَ:
نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَرْبَعٍ: عَنِ التَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ، وَعَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ، وَعَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَأَنَا رَاكِعٌ، وَعَنْ لُبْسِ الْمُعَصْفَرِ. وَوَافَقَهُ أَيُّوبُ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ الْمَوْلَى).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، وهو الجحدريّ البصريّ الثقة [10]، وهو منْ أفراده.
وقوله: "مولى عليّ": هَذَا لا ينافي ما سبق فِي السند الماضي منْ أنه مولى ابن عبّاس، وفي السند التالي منْ أنه مولى للعبّاس، إذ كونه مولى للعباس يستلزم أن يكون مولى لأولاده، وأما كونه مولى لعليّ، فلا ينافي أيضًا؛ لاحتمال أن يكون معنى المولى لأحدهما بمعنى الملازمة له، كما هو مشهور فِي "مصطلح الْحَدِيث"، فقد كَانَ يقال لمقسم بن بُجْرة، أو نجدة: مولى ابن عبّاس؛ لملازمته له، وهو مولى عبد الله بن الحارث، كما فِي "التقريب" ص 346، ويقال لنافع بن عبّاس، أو عَيّاش، أبي محمد الأقرع المدنيّ: مولى أبي قتادة؛ للزومه إياه، وهو مولى عقيلة الغفاريّة، كما فِي "التقريب" ص 355. وهذا معدود فِي "مصلح الْحَدِيث" فِي قسم "المنسوبين إلى خلاف الظاهر"، قَالَ السيوطيّ فِي "ألفية الْحَدِيث":
وَنَسَبُوا الْبَدْرِيَّ وَالْخُوزِيَّا
…
لِكَونِهِ جَاوَرَ وَالتَّيْمِيَّا
كَذلِكَ الْحَذَّاءُ لِلْجَلَّاسِ
…
وَمِقْسَمٌ مَوْلَى بَنِي عَبَّاسِ
والحديث صحيح، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله: (وَوَافَقَهُ أَيُّوبُ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ الْمَوْلَى) يعني أن أيوب بن أبي تميمة وافق عبيد الله بن عمر فِي روايته لهذا الْحَدِيث، فقد رواه عن نافع، عن مولى للعباس، وهو ابن حنين الذي سمّاه عبيد الله، عن عليّ رضي الله عنه، كما بيّنه بقوله:
5181 -
(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ جَعْفَرٍ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَلْخِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ مَوْلًى لِلْعَبَّاسِ، أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ لُبْسِ الْمُعَصْفَرِ، وَعَنِ الْقَسِّيِّ، وَعَنِ التَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ، وَأَنْ أَقْرَأَ وَأَنَا رَاكِعٌ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الحسين بن منصور بن جعفر النيسابوريّ": هو أبو عليّ السلميّ الثقة الفقيه [10] منْ أفراد البخاريّ، والمصنّف. و"حفص بن عبد الرحمن البلخيّ": هو الفقيه النيسابوريّ، قاضيها، صدوقٌ، عابدٌ، ورمي بالإرجاء [9] منْ أفراد المصنّف، وأخرج له أبو داود فِي "القدر". و"سعيد": هو ابن أبي عروبة. و"أيوب": هو ابن أبي تميمة السختيانيّ.
وقوله: "عن مولى للعباس": هو عبد الله بن حُنين، كما أسلفته آنفاً.
والحديث صحيحٌ، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
44 -
(الاِخْتِلَافِ عَلَى يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ فِيهِ)
(*)
5182 -
(أَخْبَرَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَرْبٌ -وَهُوَ ابْنُ شَدَّادٍ- عَنْ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ سَعْدٍ الْفَدَكِيُّ، أَنَّ نَافِعًا أَخْبَرَهُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ حُنَيْنٍ، أَنَّ عَلِيًّا حَدَّثَهُ، قَالَ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ ثِيَابِ الْمُعَصْفَرِ، وَعَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ، وَعَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ، وَأَنْ أَقْرَأَ وَأَنَا رَاكِعٌ. خَالَفَهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير عمرو ابن سعد الفَدَكيّ، أو اليماميّ، فإنه ممن انفرد به المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، وهو ثقة [6] 18/ 422.
[تنبيه]: وقع فِي جميع نسخ "المجتبى"، و"الكبرى""عمرو بن سعيد" بالياء، وهو غلطٌ، والصواب:"ابن سعد" بفتح السين، وسكون العين المهملتين، كما فِي "تحفة الأشراف" 7/ 405 وكتب الرجال، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
وقوله: "ثياب المعصفر" منْ إضافة الموصوف إلى الصفة، وهو جائز، وإن كَانَ الأكثر العكس: أي الثياب المعصفرة.
والحديث صحيحٌ، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله: (خَالَفَهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ) أشار به إلى أن الليث بن سعد، خالف عمرو بن سعد، فرواه عن نافع، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن بعض موالي العبّاس، عن عليّ، ووجه المخالفة أن عمرو بن سعد جعله عن نافع، عن ابن حنين، وهو عبد الله
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذا الباب ليس مرقما في طبعة أبي غدة، وازداد ترقيم الأبواب بهذا (هنا) رقما، ثم تكرر بابان برقم 46، فصار الترقيم هنا [43، 44، 45، 46، 46، 47]، وأصله [43،. . .، 44، 45، 46، 47]، وقد أبقينا على ترقيم أبي غدة في شجرة العناوين
والد إبراهيم، عن عليّ رضي الله عنه، وَقَدْ صرّح نافع بتحديث عبد الله له، والليث جعله عن نافع، عن إبراهيم، ولد عبد الله، عن بعض موالي العبّاس.
والظاهر أن الاختلاف هَذَا لا يضرّ؛ إذ يحتمل أن يكون نافع سمعه منْ إبراهيم، عن أبيه، ثم سمعه منْ أبيه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: إيراد المصنّف رحمه الله تعالى لرواية الليث تحت ترجمة "الاختلاف عَلَى يحيى بن أبي كثير فيه"، فيه نظرٌ لا يخفى؛ لأن رواية الليث ليس فِي طريقها يحيى بن أبي كثير، فكان الأولى له أن يقدّم رواية الأوزاعيّ التالية؛ لأنها هي التي وقع فيها الاختلاف عَلَى يحيى مع رواية حرب بن شداد، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
ثم بيّن رواية الليث، فَقَالَ:
5183 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ بَعْضِ مَوَالِى الْعَبَّاسِ، عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنِ الْمُعَصْفَرِ، وَالثِّيَابِ الْقَسِّيَّةِ، وَعَنْ أَنْ يَقْرَأَ، وَهُوَ رَاكِعٌ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "عن بعض موالي العبّاس": هو عبد الله بن حنين، ولا ينافي ما سبق أنه مولى ابن عبّاس، ومولى عليّ رضي الله عنه؛ لما سبق منْ التوفيق بينها، فلا تغفل.
والحديث صحيح، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5184 -
(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَسَاقَ الْحَدِيثَ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمود بن خالد": هو أبو عليّ السلميّ الدمشقيّ الثقة، منْ صغار [10].
[تنبيه]: وقع فِي جميع نسخ "المجتبى" التي عندي، و"الكبرى":"محمود بن خالد"، ووقع فِي "تحفة الأشراف" 7/ 405 "محمود بن خِداش"، وهو الطالقانيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ [10]، والظاهر أن ما فِي "المجتبى"، و"الكبرى" هو الصواب؛ لأن ابن خالد دمشقيّ، معروف بالرواية عن الوليد بن مسلم الدمشقيّ بلديّه، بخلاف ابن خداش، فإنه بغداديّ، ولم يُذكر فِي تلامذة الوليد، ولا الوليد فِي شيوخه، وأيضاً إنما رَوَى عنه المصنّف فِي "مسند عليّ"، كما أشار إليه فِي "تهذيب التهذيب"، و"التقريب"، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
و"الوليد": هو ابن مسلم الدمشقيّ. و"يحيى": هو ابن أبي كثير المتقدّم.
وقوله: "وساق الْحَدِيث": الضمير للأوزاعيّ، وزاد فِي "الكبرى" "مرسلٌ": أي هَذَا الْحَدِيث مرسلٌ: أي منقطع؛ لأن يحيى لم يلق عليًّا رضي الله عنه.
[تنبيه]: ذكر فِي "الكبرى" اختلافًا آخر عَلَى يحيى بن أبي كثير، فَقَالَ بعد أن أخرج رواية حرب، ومخالفة الليث: ما نصّه: خالفه أبو إسماعيل، رواه عن يحيى، عن محمد بن إبراهيم، عن ابن حنين:
9490 -
أخبرنا يحيى بن دُرُسْتْ، قَالَ: ثنا أبو إسماعيل، قَالَ: ثنا يحيى بن أبي كثير، أن محمد بن إبراهيم حدثه، عن ابن حنين، عن عليّ، أنه قَالَ: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن لبس ثوب معصفر، وعن التختم بخاتم الذهب، وعن لبس القسية، وأن أقرأ القرآن وأنا راكع. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أن الضمير فِي "خالفه" يعود إلى حرب بن شدّاد، ووجه المخالفة ظاهر. و"أبو إسماعيل": هو إبراهيم بن عبد الملك القنّاد البصريّ، صدوقٌ فِي حفظه شيء [7]. والله تعالى أعلم.
ثم قَالَ: "ذكر الاختلاف عَلَى شيبان فِي هَذَا الْحَدِيث":
9492 -
أخبرني إبراهيم بن يعقوب، قَالَ: ثنا الحسن بن موسى، قَالَ: ثنا شيبان، عن يحيى، قَالَ: أخبرني خالد بن سعدان، أن ابن حنين أخبره، أن عليا قَالَ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نهى عن ثياب المعصفر، وعن الحرير، وأن يقرأ وهو راكع، وعن خاتم الذهب.
"إبراهيم بن يعقوب": هو الْجُوزجانيّ الحافظ. و"شيبان": هو ابن عبد الرحمن النحويّ البصريّ الثقة [7]. و"يحيى": هو ابن أبي كثير. و"الحسن بن موسى": هو الأشيب البغداديّ الثقة [9]. و"خالد بن معدان": هو الحمصيّ الثقة العابد [3].
[تنبيه]: وقع فِي نسخة "الكبرى": "خالد بن سعدان"، بدل "خالد بن معدان"، وهو تصحيف، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
ثم قَالَ: خالفه أبو نعيم، رواه عن شيبان، عن يحيى، عن ابن حنين، عن عليّ، ذكره خالدا
(1)
.
9493 -
أخبرنا إسحاق بن منصور، قَالَ: أنا أبو نعيم، قَالَ: ثنا شيبان، عن يحيى، عن ابن حنين، أن عليا أخبره نحوه.
و"أبو نُعيم": هو الفضل بن دُكين.
(1)
هكذا نسخة "الكبرى": "ذكره خالدا"، والظاهر أنه مصحّفٌ منْ قوله:"ولم يذكر خالداً": أي لم يذكر أبو نعيم "خالدًا" بين يحيى، وابن حُنين. والله تعالى أعلم.
ثم قَالَ: "أرسله الأوزاعي"، ثم ساق رواية محمود بن خالد الماضية. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
45 -
(حَدِيثِ عَبِيدَةَ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عَبِيدة" -بفتح العين المهملة، وكسر الموحّدة-: هو ابن عمرو السَّلْمانيّ -بسكون اللام، ويقال: بفتحها- المراديّ، أبو عمرو الكوفيّ التابعيّ الكبير المخضرم، ثقة ثبتٌ، كَانَ شُريح إذا أشكل عليه سأله، والصحيح أنه مات قبل سنة (70)، وتقدّمت ترجمته فِي 14/ 473. والله تعالى أعلم بالصواب.
5185 -
(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: نَهَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الْقَسِّيِّ، وَالْحَرِيرِ، وَخَاتَمِ الذَّهَبِ، وَأَنْ أَقْرَأَ رَاكِعًا". خَالَفَهُ هِشَامٌ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عُبيد الله بن سعيد": هو أبو قُدامة السرخسيّ الثقة الثبت السنّيّ [10]. و"حماد بن مسعدة": هو التميميّ، أبو سعيد البصريّ، ثقة [9]. و"أشعث": هو ابن عبد الملك الْحُمْرانيّ البصريّ الثقة الفقيه [6]. و"محمد": هو ابن سيرين.
والحديث أخرجه مسلم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله: (خَالَفَهُ هِشَامٌ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ) أشار به إلى أن هشام بن حسان خالف أشعث بن عبد الملك، فرواه موقوفًا.
وقوله: "ولم يرفعه": إن ضُبط قوله: "نهى عن مياثر الأرجوان" ببناء الفعل للفاعل، وكان ضمير "قَالَ" لعبيدة: أي قَالَ عبيدة: نَهَى عليّ رضي الله عنه الخ فعدم رفعه واضح، وإن ضبط بالبناء للمفعول، وضمير "قَالَ" لعليّ رضي الله عنه، أي قَالَ عليّ رضي الله عنه: نُهِيَ الخ فيكون غير مرفوع لفظًا، لكن له حكم الرفع، كما هو مشهور فِي مصطلح الْحَدِيث. والله تعالى أعلم.
ثم بيّن رواية هشام، فَقَالَ:
5186 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا هِشَامٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: نَهَى عَنْ مَيَاثِرِ الأُرْجُوَانِ، وَلُبْسِ الْقَسِّيِّ، وَخَاتَمِ الذَّهَبِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه "أحمد بن سليمان": هو الرُّهاويّ الحافظ [11] منْ أفراد المصنّف. و"يزيد": هو ابن هارون. و"هشام": هو ابن حسّان الْقُرْدوسيّ.
وقوله: "عن مياثر الأرجوان": "المياثر": جمع مِيثرة بكسر الميم، وفتح المثلّثة: وهي وِطاء مَحشُوّ، يُجعل عَلَى رحل البعير تحت الراكب، وَقَدْ تقدّم البحث عنها بأتمّ منْ هَذَا. وأما "الأُرْجُوان": فهي بضم الهمزة والجيم، بينهما راء ساكنة، ثم واو خفيفة، وحكى عياض، ثم القرطبيّ، فتح الهمزة، وأنكره النوويّ، وصَوّب أن الضم هو المعروف، فِي كتب الْحَدِيث، واللغة، والغريب، واختلفوا فِي المراد به، فقيل: هو صبغ أحمر، شديد الحمرة، وهو نَوْر شجر، منْ أحسن الألوان، وقيل: الصوف الأحمر، وقيل: كل شيء أحمر فهو أرجوان، ويقال: ثوب أرجوان، وقطيفة أرجوان، وحكى السيرافي أحمر أرجوان، فكأنه وُصف للمبالغة فِي الحمرة، كما يقال: أبيض يَقَقٌ، وأصفر فاقع. واختلفوا هل الكلمة عربية، أو مُعَرَّبة، فإن قلنا: باختصاص النهي بالأحمر منْ المياثر، فالمعنى فِي النهي عنها ما فِي غيرها كما سيأتي فِي محلّه 93/ 5316 - وإن قلنا: لا يختص بالأحمر، فالمعنى بالنهي عنها ما فيه منْ التَّرفُّه، وَقَدْ يعتادها الشخص، فتُعوزه، فيشق عليه تركها، فيكون النهي نهي إرشاد؛ لمصلحة دنيوية، وإن قلنا: النهي عنها منْ أجل التشبه بالأعاجم، فهو لمصلحة دينية، لكن كَانَ ذلك شعارهم حينئذ، وهم كفار، ثم لما لم يصر الآن يختص بشعارهم زال ذلك المعنى، فتزول الكراهة. قاله فِي "الفتح" 11/ 491.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: دعوى زوال الكراهة لما ذُكر فيه نظر لا يخفى، بل الحقّ بقاء النهي عَلَى ما هو عليه؛ لأن الشارع ما ذكر وجه النهي، فلا ينبغي تعليله بذلك، حَتَّى يخرج منْ إطلاقه، فتبصّر.
والحديث بهذا السند موقوفٌ عَلَى ما بينّاه آنفاً، والأرجح أنه مرفوعٌ، كما رواه أشعث الْحُمْرانيّ؛ لأن الروايات السابقة تشهد له. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5187 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبِيدَةَ، قَالَ: نَهَى عَنْ مَيَاثِرِ الأُرْجُوَانِ، وَخَوَاتِيمِ الذَّهَبِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "حمّاد": هو ابن زيد. و"أيوب": هو السختيانيّ.
والحديث موقوفٌ عَلَى عَبيدة، والأصحّ أنه مرفوعٌ، كما سبق بيانه فيما قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
46 -
(حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، وَالاِخْتِلَافِ عَلَى قَتَادَةَ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: سيأتي الكلام عَلَى الاختلاف المذكور قريباً إن شاء الله تعالى.
5188 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، عَنِ الْحَجَّاجِ -هُوَ ابْنُ الْحَجَّاجِ- عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أحمد بن حفص": هو أبو عليّ بن أبي عمرو النيسابوريّ، صدوقٌ [11] منْ أفراد البخاريّ، والمصنّف، وأبي داود. و"أبوه": هو حفص بن عبد الله بن راشد السلميّ، أبو عمرو النيسابوريّ قاضيها، صدوقٌ [9]. و"إبراهيم": هو ابن طهمان الخراسانيّ، نزيل مكة، ثقة يُغرِب، وتُكلّم فيه بالإرجاء، ويقال: رجع عنه [7]. و"الحجّاج بن الحجّاج": هو الباهليّ البصريّ الأحول، ثقة [6]. و"قتادة": هو ابن دِعامة السدوسيّ البصريّ الإمام المشهور.
و"عبد الملك بن عبيد" السدوسيّ، مجهول الحال [6].
رَوَى عن بَشير بن نهيك، وحُمران مولى عثمان. وعنه عِمران حُدير، وقتادة. قَالَ ابن المدينيّ: هو رجل مجهول. تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط. و"بشير بن نَهيك": هو السدوسيّ، أو السَّلُوليّ، أبو الشعثاء البصريّ، ثقة [3].
وقوله: "عن تختّم الذهب"، وفي رواية شعبة":"عن خاتم الذهب": والكلام فيه عَلَى حذف مضاف، تقديرُه نهى عن لبس خاتم الذهب.
[تنبيه]: "بَشير" بفتح الموحدة، وكسر الشين المعجمة. و"نَهِيك" -بفتح النون، وكسر الهاء، وإنما نبّهتُ عليه؛ لأني وجدته فِي نسخ النسائيّ مصغّرًا بضبط القلم، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: لم يذكر المصنّف رحمه الله تعالى هنا ما يُبيّن الاختلاف عَلَى قتادة،
وسيأتي 77/ 5273، وَقَدْ أجاد فِي "الكبرى"-5/ 447 - حيث ساقه هنا بعد إخراج رواية الحجاج بن الحجاج، فَقَالَ:
خالفه شعبة، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشِير بن نهيك، عن أبي هريرة:
9499 -
أخبرنا محمد بن المثنّى، قَالَ: ثنا محمد، قَالَ: ثنا شعبة، عن قتادة، قَالَ: سمعت النضر بن أنس، عن بَشِير بن نهيك، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن خاتم الذهب.
قَالَ أبو عبد الرحمن: حديث شعبة أولى بالصواب، منْ حديث الحجاج بن الحجّاج. والله أعلم. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد" شيخ ابن المثنّى: هو ابن جعفر المعروف بغندر. ووجه الاختلاف عَلَى قتادة فِي هَذَا الْحَدِيث أن الحجاج بن الحجاج أدخل بين قتادة وبشير بن نَهِيك واسطة، وهو عبد الملك بن عبيد، وهو مجهول، ورواية شعبة هي الصحيحة، كما قَالَ المصنّف رحمه الله تعالى، ولذا اتفق الشيخان عَلَى إخراجها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه، منْ طريق شعبة، عن قتادة، كما نبّهت عليه آنفاً. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -45/ 5188 و76/ 5275 و5276 - وفي "الكبرى" 60/ 9498 و9499. وأخرجه (خ) فِي "اللباس" 5864 (م) فِي "اللباس" 2089 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 9709.
(المسألة الثالثة): قَالَ الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى بعد إخراج حديث أبي هريرة رضي الله عنه هَذَا منْ طريق شعبة المذكورة: ما نصّه: "وَقَالَ عمرو: أخبرنا شعبة، عن قتادة، سمع النّضْرَ، سمع بَشِيراً مثله". انتهى.
قَالَ فِي "الفتح": قوله: "وَقَالَ عمرو" هو ابن مرزوق "أخبرنا شعبة" ساق هَذَا الإسناد لما فيه منْ بيان سماع قتادة منْ النضر، وهو ابن أنس بن مالك المذكور فِي السند الذي قبله، وسماع النضر منْ بشير بن نهيك، وَقَدْ وصله أبو عوانة فِي "صحيحه" عن أبي قلابة الرَّقَاشي، وقاسم بن أصبغ فِي "مصنفه" عن محمد بن غالب بن حرب، كلاهما عن عمرو بن مرزوق به. ووقع التصريح بسماع قتادة منْ النضر بهذا الْحَدِيث أيضًا فِي رواية أبي داود الطيالسي، عن شعبة، وأخرجه الإسماعيلي كذلك.
قَالَ ابن دقيق العيد: إخبار الصحابيّ عن الأمر والنهي عَلَى ثلاث مراتب: [الأولى]: أن يأتي بالصيغة، كقوله: افعلوا، أو لا تفعلوا. [الثانية]: قوله: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، ونهانا عن كذا، وهو كالمرتبة الأولى فِي العمل به، أمرا أو نهيا، وإنما نزل عنها؛ لاحتمال أن يكون ظنَّ ما ليس بأمر أمرا، إلا أن هَذَا الاحتمال مرجوح؛ للعلم بعدالته، ومعرفته بمدلولات الألفاظ لغة. [المرتبة الثالثة]: أُمِرنا، ونُهِينا، عَلَى البناء للمجهول، وهي كالثانية، وإنما نزلت عنها؛ لاحتمال أن يكون الآمر غير النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وإذا تقرر هَذَا فالنهي عن خاتم الذهب، أو التختم به، مختص بالرجال دون النِّساء، فقد نُقِل الإجماعُ عَلَى إباحته للنساء.
قَالَ الحافظ: وَقَدْ أخرج ابن أبي شيبة، منْ حديث عائشة، أن النجاشي أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حليةِ فيها خاتم منْ ذهب، فأخذه، وإنه لمعرض عنه، ثم دعا أمامة بنت ابنته، فَقَالَ:"تَحَلّيْ به".
قَالَ ابن دقيق العيد: وظاهر النهي التحريم، وهو قول الأئمة، واستقر الأمر عليه. قَالَ عياض: وما نُقل عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، منْ تختمه بالذهب، فشذوذ، والأشبه أنه لم تبلغه السنة فيه، فالناس بعده مجمعون عَلَى خلافه، وكذا ما رُوي فيه عن خبّاب، وَقَدْ قَالَ له ابن مسعود: أما آن لهذا الخاتم أن يُلقَى؟ فَقَالَ: إنك لن تراه عليّ بعد اليوم، فكأنه ما كَانَ بلغه النهي، فلما بلغه رجع، قَالَ: وَقَدْ ذهب بعضهم إلى أن لبسه للرجال مكروه، كراهة تنزيه، لا تحريم، كما قَالَ مثل ذلك فِي الحرير، قَالَ ابن دقيق العيد: هَذَا يقتضي إثبات الخلاف فِي التحريم، وهو يناقض القول بالإجماع عَلَى التحريم، ولابد منْ اعتبار وصف كونه خاتما.
قَالَ الحافظ: التوفيق بين الكلامين ممكن، بأن يكون القائل بكراهة التنزيه انقرض، واستقر الإجماع بعده عَلَى التحريم. وَقَدْ جاء عن جماعة منْ الصحابة لبس خاتم الذهب، منْ ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة، منْ طريق محمد بن أبي إسماعيل، أنه رأى ذلك عَلَى سعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وصهيب، وذكر ستة، أو سبعة، وأخرج ابن أبي شيبة أيضًا، عن حذيفة، وعن جابر بن سمرة، وعن عبد الله بن يزيد الخطمي نحوه، ومن طريق حمزة بن أبي أسيد: نزعنا منْ يدي أبي أسيد خاتما منْ ذهب، وأغربُ ما ورد منْ ذلك ما جاء عن البراء الذي رَوَى النهي، فأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح، عن أبي السفر، قَالَ: رأيت عَلَى البراء خاتما منْ ذهب، وعن شعبة، عن أبي إسحاق نحوه، أخرجه البغوي فِي "الجعديات"، وأخرج أحمد منْ طريق محمد بن مالك، قَالَ: رأيت عَلَى البراء خاتما منْ ذهب، فَقَالَ: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما،
فألبسنيه، فَقَالَ: البَسْ ما كساك الله ورسوله، قَالَ الحازمي: إسناده ليس بذاك، ولو صح فهو منسوخ.
قَالَ الحافظ: لو ثبت النسخ عند البراء ما لبسه بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ رُوي حديثُ النهي المتفق عَلَى صحته عنه، فالجمع بين روايته وفعله، إما بأن يكون حمله عَلَى التنزيه، أو فهم الخصوصية له منْ قوله:"البَسْ ما كساك الله ورسوله"، وهذا أولى منْ قول الحازمي: لعل البراء لم يبلغه النهي، ويؤيد الاحتمال الثاني أنه وقع فِي رواية أحمد، كَانَ النَّاس يقولون للبراء: لم تتختم بالذهب، وَقَدْ نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيذكر لهم هَذَا الْحَدِيث، ثم يقول: كيف تأمرونني أن أضع ما قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البَسْ ما كساك الله ورسوله".
ومن أدلة النهي أيضًا ما رواه يونس، عن الزهريّ، عن أبي إدريس، عن رجل له صحبة، قَالَ: جلس رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي يده خاتم منْ ذهب، فقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يده بقضيب، فَقَالَ:"أَلْقِ هَذَا"، وعموم الأحاديث التي فيها تحريم لبس الذهب، كقوله صلى الله عليه وسلم فِي الذهب والحرير:"هذان حرامان عَلَى رجال أمتي، حِلّ لإناثها"، وحديث عبد الله بن عمرو رفعه: "منْ مات منْ أمتي، وهو يلبس الذهب حرم الله عليه ذهب الجنة
…
" الْحَدِيث، أخرجه أحمد، والطبراني.
واستُدل به عَلَى تحريم الذهب عَلَى الرجال قليله وكثيره؛ للنهي عن التختم، وهو قليل، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن التحريم يتناول ما هو فِي قدر الخاتم، وما فوقه، كالدملج، والمعضد، وغيرهما، فأما ما هو دونه فلا دلالة منْ الْحَدِيث عليه.
وتَنَاوَلَ النهي جميع الأحوال، فلا يجوز لبس خاتم الذهب لمن فاجأه الحرب؛ لأنه لا تعلق له بالحرب، بخلاف ما جاء فِي الحرير منْ الرخصة فِي لبسه بسبب الحرب، وبخلاف ما عَلَى السيف، أو الترس، أو المنطقة منْ حلية الذهب، فإنه لو فجأه الحرب جاز له الضرب بذلك السيف، فإذا انقضت الحرب فلينتقض؛ لأنه كله منْ متعلقات الحرب، بخلاف الخاتم. أفاده فِي "الفتح" 11/ 502 - 503. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5189 -
(أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ حَمَّادٍ الْمَعْنِيُّ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصٌ اللَّيْثِيُّ، قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى عِمْرَانَ، أَنَّهُ حَدَّثَنَا، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ، وَعَنِ التَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ، وَعَنِ الشُّرْبِ فِي الْحَنَاتِمِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "يوسف بن حمّاد الْمَعْنيّ البصريّ": هو أبو يعقوب، ثقة [10]. و"المعني" بفتح الميم، وسكون الهملة، ثم نون-: نسبة إلى معن بطنٌ منْ
الأزد، ومن قيس عَيْلان، ومن طيّء. قاله فِي "لبّ اللباب" 2/ 267.
و"عبد الوارث": هو ابن سعيد البصريّ الثقة الثبت [8]. و"أبو التيّاح": هو يزيد بن حُميد الضُّبعيّ البصريّ الثقة الثبت [5].
و"حفص الليثيّ" البصريّ، مقبول [3].
رَوَى عن عمران بن حُصين رضي الله تعالى عنهما، وعنه أبو التيّاح، ذكره ابن حبّان فِي الثقات، ونسبه، وذكره غيره فيمن لا يُنسب. تفرد به المصنّف، والترمذيّ بهذا الْحَدِيث فقط. و"عمران": هو ابن حُصين رضي الله تعالى عنهما.
وقوله: "وعن الشرب فِي الحناتم": أي شرب النبيذ المنتبذ فيها. و"الحناتم"، كالْحَنْتَم، الواحدة حنتمة بالهاء. قَالَ ابن الأثير: الحَنتم: جِرارٌ مدهونة خُضْرٌ، كانت تُحمل الخمر فيها إلى المدينة، ثم اتُّسِعَ فيها، فقيل للخزف كلّه حنتم، واحدتها حنتمة، وإنما نُهي الانتباذ فيها؛ لأنها تُسرع الشدّة فيها؛ لأجل دَهْنِها، وقيل: لأنها كانت تُعمل منْ طين يُعجَن بالدم، والشعر، فنُهي عنها ليُمتَنَعَ منْ عملها، والأول أوجه. انتهى "النهاية" 1/ 448.
وَقَالَ الفيّوميّ: الحنتم: الخزف الأخضر، والمراد الجَرّة، ويقال لكلّ أسود: حَنتمٌ، والأخضر عند العرب أسود. انتهى.
والنهي عن الانتباذ بالحناتم، ونحوها منسوخ، كما سيأتي فِي محلّه منْ "كتاب الأشربة"، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عمران رضي الله عنه هَذَا صحيح.
[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده حفص الليثيّ، مجهول؟.
[قلت]: حفصٌ وثّقه ابن حبّان، ولم يجرحه أحد، وتشهد لحديثه هَذَا أحاديث الباب، وغيرها، ولذا صححه الترمذيّ. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -45/ 5189 - وفي "الكبرى" 61/ 9500. وأخرجه (ت) فِي "اللباس" 1738. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5190 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي
عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ سَوَادَةَ، أَنَّ أَبَا النَّجِيبِ حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَجُلاً قَدِمَ مِنْ نَجْرَانَ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ:"إِنَّكَ جِئْتَنِي، وَفِي يَدِكَ جَمْرَةٌ مِنْ نَارٍ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح. وتقدّموا غير: "أبي النجيب" بالنون -العامريّ السرخسي المصريّ، ويقال: أبو التُّجِيب بالتاء المثناة الموضمومة، مولى ابن أبي سَرْح، يقال: اسمه ظُلَيم، مقبول [4].
رَوَى عن أبي سعيد، وابن عمر، وعنه بكر بن سوادة. قَالَ ابن يونس فِي حرف الظاء المعجمة: ظُليم أبو النَّجِيب، مولى ابن أبي سرح، كَانَ أحد الفقهاء فِي أيامه، قَالَ لي أبو عمر: ثنا ابن فُديك، ثنا يحيى بن عمرو بن سواد، عن اسم أبي النجيب، فَقَالَ: اسمه ظليم. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وضبطه أبو أحمد الحاكم، وابن عبد البرّ، وغير واحد بالتاء المثناة المضمومة، قبل الجيم، وكذا وقع فِي رواية النسائيّ، فِي نسخة أبي الأحمر
(1)
. وَقَالَ عمرو بن سواد: توفي بإفريقية سنة ثمان وثمانين، وكان فقيها.
رَوَى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، والمصنّف، وله عنده هَذَا الْحَدِيث فقط، وأبو داود، له عنده حديث واحد فِي أكل الثوم والبصل.
[تنبيه]: وقع فِي نسخ "المجتبى" كلها التي بين يديّ "أبو الْبَختريّ" بدل أبي النجيب، وهو تصحيفٌ والصواب ما فِي "الكبرى":"أن أبا النجيب"، نبّه عَلَى ذلك فِي "تحفة الأشراف" 3/ 500، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقوله: "منْ نجران" -بفتح النون، وسكون الجيم- قَالَ الفيّوميّ: ونجران بلدٌ منْ بلاد هَمْدان، منْ اليمن، قَالَ البكريّ: سُمّيت باسم بانيها نجران بن زيد بن يَشْجُب بن يَعْرُب ابن قحطان. انتهى. ووقع فِي رواية الليث، عن عمرو بن الحارث الآتية فِي 50/ 5208 - "أقبل رجل منْ البحرين" بدلاً منْ "نجران"، والله تعالى أعلم.
وقوله: "فأعرض عنه": فيه الإعراض عمن ارتكب حراماً. وقوله: "وفي يدك جمرة منْ نار": يحتمل أن يكون المعنى أنه سبب للتعذيب بجمرة منْ نار، ويحتمل -وهو الظاهر- أن يكون نفس الخاتم جمرة يُعذّب به يوم القيامة، كما صحّ ذلك فِي الكنز، منْ حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منْ صاحب ذهب، ولا فضة، لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كَانَ يوم القيامة، صُفِّحَت له صفائح منْ نار، فأُحمي عليها فِي نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بَرَدت أعيدت له، فِي يوم كَانَ مقداره
(1)
لعل هَذَا فِي بعض النسخ، وإلا فالذي فِي النسخة التي عندي منْ "الكبرى" فإنه بلفظ:"أبا النجيب" بالنون، لا بالتاء، فتأمّل.
خمسين ألف سنة، حَتَّى يُقضَى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار
…
" الْحَدِيث، أخرجه مسلم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أبي سعيد هَذَا ضعيف؛ لجهالة أبي النجيب، إذ لم يرو عنه إلا بكر بن سوادة، وصححه الشيخ الألبانيّ، ومن الغريب أنه ضعفه فِي الباب الآتي 50/ 5208 مع كونه حديثًا واحدًا، ثم رأيته ضعّفه فِي "آداب الزفاف" له ص 220.
والحديث منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، لم يروه منْ أصحاب الأصول غيره،
أخرجه هنا -45/ 5190 و50/ 5208 - وفي "الكبرى" 61/ 9501 و67/ 9532. وأخرجه (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 10725. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5191 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ رَجُلٍ حَدَّثَهُ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، أَنَّ رَجُلاً كَانَ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَفِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِخْصَرَةٌ، أَوْ جَرِيدَةٌ، فَضَرَبَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِصْبَعَهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَلَا تَطْرَحُ هَذَا الَّذِي فِي إِصْبَعِكَ"، فَأَخَذَهُ الرَّجُلُ، فَرَمَى بِهِ، فَرَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ:"مَا فَعَلَ الْخَاتَمُ؟ " قَالَ: رَمَيْتُ بِهِ، قَالَ:"مَا بِهَذَا أَمَرْتُكَ، إِنَّمَا أَمَرْتُكَ أَنْ تَبِيعَهُ، فَتَسْتَعِينَ بِثَمَنِهِ".
وَهَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ).
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(أحمد بن سليمان) تقدّم فِي الباب الماضي.
2 -
(عبيد الله) بن موسى بن أبي الختار باذام العبسيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقة كَانَ يتشيّع [9] 72/ 1326.
3 -
(إسرائيل) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعيّ الكوفيّ، ثقة [7] 75/ 1006.
4 -
(منصور) بن المعتمر، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقة ثبت [6] 2/ 2.
5 -
(سالم) بن أبي الجعد رافع الغطفانيّ الأشجعيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة يرسل كثيرًا [3] 61/ 77. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ) رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ رَجُلاً) لم يُسمّ (كَانَ جَالِسًا عِنْدَ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ ذَهَبٍ) جملة فِي محلّ نصب عَلَى الحال (وَفِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِخْصَرَةٌ) بكسر الميم، وسكون الخاء المعجمة، وفتح الصاد المهملة: ما يَختصره الإنسان بيده، فيُمسكه منْ عصاً، أو عُكّازة، أو مِقْرَعة، أو قضيب، وَقَدْ يتّكيء عليه. أفاده فِي "النهاية" 2/ 36. وَقَالَ الفيّوميّ: المِخْصرة بكسر الميم: قَضِيبٌ، أو عَنَزَةٌ، ونحوه يُشير به الخَطيب إذا خاطب النَّاس. انتهى. (أَوْ) للشكّ منْ بعض الرواة (جَرِيدَةٌ) بفتح الجيم، وكسر الراء: فعيلة بمعنى مفعولة، واحد الْجَرِيد، وهو سَعَفُ النخل، وإنما تُسَمّى جَرِيدةً: إذا جُرِدَ عنها خُصُها. أفاده فِي "المصباح"(فَضَرَبَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِصْبَعَهُ) بكسر، فسكون، أفصح منْ غيره، إذ فيها عشر لغات: تثليث الهمزة، مع تثليث الباء الموحّدة، والعاشرة: أُصبُوع بوزن أُسْبُوع (فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟) أي أيّ شيء منْ الذنب حصل لي، حَتَّى أستحقّ الضرب؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَلَا تَطْرَحُ هَذَا الَّذِي فِي إِصْبَعِكَ) يعني خاتم الذهب (فَأَخَذَهُ الرَّجُلُ، فَرَمَى بِهِ، فَرَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ) أي بعد رميه الخاتم (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَا فَعَلَ الْخَاتَمُ؟) فيه مجاز فِي الإسناد، إذ الفاعل صاحبه: أي ماذا فعلت بخاتمك؟ (قَالَ) الرجل (رَمَيْتُ بِهِ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَا بِهَذَا أَمَرْتُكَ) أي لم آمرك برميه (إِنَّمَا أَمَرْتُكَ أَنْ تَبِيعَهُ، فَتَسْتَعِينَ بِثَمَنِهِ) وفي نسخة: "وتستعين" بالواو: أي تستعين بثمنه عَلَى قضاء حوائجك. وفيه أن المحرّم فِي خاتم الذهب للرجال إنما هو اللبس فقط، فأما سائر المنافع، منْ البيع، والإجارة، والهبة، ونحوها فإنه يجوز. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما هَذَا ضعيفٌ؛ لجهالة الراوي عنه، ولهذا قَالَ المصنّف رحمه الله تعالى:(وَهَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ) والظاهر أنه إنما جعله منكرًا؛ لتفرّد هَذَا المجهول به. والله تعالى أعلم.
والحديث منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -45/ 5191 - وفي "الكبرى" 62/ 9502. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5192 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَبْصَرَ فِي يَدِهِ خَاتَمًا، مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَقْرَعُهُ بِقَضِيبٍ مَعَهُ، فَلَمَّا غَفَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَلْقَاهُ، قَالَ:"مَا أُرَانَا إِلاَّ قَدْ أَوْجَعْنَاكَ، وَأَغْرَمْنَاكَ".
خَالَفَهُ يُونُسُ، رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، مُرْسَلاً).
رجال هَذَا الإسناد: سبعة:
1 -
(عمرو بن منصور) أبو سعيد النسائيّ، ثقة ثبت [11] 108/ 147 منْ أفراد المصنّف.
2 -
(عفّان) بن مسلم بن عبد الله الصفّار البصريّ، ثقة ثبت، منْ كبار [10] 21/ 427.
3 -
(وُهيب) بن خالد بن عجلان الباهلي مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت، لكنه تغير قليلاً بآخره [7] 21/ 427.
4 -
(النعمان بن راشد) الْجَزريّ، أبو إسحاق الرَّقّيّ، مولى بني أُميّة، صدوقٌ، سيّء الحفظ [6] 171/ 1140.
5 -
(عطاء بن يزيد) الليثيّ المدنيّ، نزيل الشام، ثقة [3] 20/ 21.
6 -
(أبو ثعلبة الْخُشَنيّ) -بضمّ الخاء، وفتح الشين المعجمتين، بعدهما نون- صحابيّ مشهور بكنيته، قيل: اسمه جُرثوم، أو جُرثومة، أو جُرْهم، أو لاشر، وقيل: غير ذلك، مات سنة (75) وقيل: قبل ذلك بكثير فِي أول خلافة معاوية بعد الأربعين، وتقدّمت ترجمته 4/ 4268. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ) رضي الله تعالى عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَبْصَرَ فِي يَدِهِ) أي فِي يد أبي ثعلبة رضي الله عنه (خَاتَمًا، مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَقْرَعُهُ) بفتح أوله، منْ قرع، منْ باب نفع: إذا ضربه (بِقَضِيبٍ) بفتح، فكسر: الغُصن المقطوع، فعِيل بمعنى مفعول، منْ قضبتُ الشيء قَضْباً، منْ باب ضرب، فانقضب: إذا قطعته، فانقطع، واقتضبته مثلُ اقتطعته وزناً ومعنًى. وقوله (مَعَهُ) أي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، متعلّق بصفة "قضيب" (فَلَمَّا غَفَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أي اشتغل بشغل آخر (أَلْقَاهُ) أي رمى أبو ثعلبة رضي الله عنه خاتم الذهب منْ يده؛ مبادرة إلى إزالة ما أنكره النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَا أُرَانَا) بضمّ الهمزة: أي أظنّنا، أو بفتح الهمزة: أي أعلمنا (إِلاَّ قَدْ أَوْجَعْنَاكَ) أي بالقرع بالقضيب (وَأَغْرَمْنَاكَ) أي بالتسبّب لإلقاء خاتمك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أبي ثعلبة الخُشَنيّ رضي الله عنه هَذَا ضعيف؛ لمخالفة النعمان بن راشد ليونس بن يزيد، وهو أثبت فِي الزهريّ منه، كما سيشير إليه المصنّف قريباً.
وَقَدْ صحّح الشيخ الألباني الْحَدِيث، وذكر فِي "أدب الزفاف" له أن عبد الرحمن بن
راشد تابع النعمان بن راشد، عند المحامليّ فِي "الأمالي"، لكن لم أر منْ ترجم عبد الرحمن هَذَا، ففي تصححيه نظر، لا يخفى.
والحديث منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -45/ 5192 - وفي "الكبرى" 61/ 9503. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله: (خَالَفَهُ يُونُسُ، رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، مُرْسَلاً) يعني أن يونس ابن يزيد الأيليّ خالف النعمان بن راشد، فِي رواية هَذَا الْحَدِيث، فرواه عن الزهريّ، عن أبي إدريس الْخَوْلانيّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مرسلاً، كما بينه بقوله:
5193 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ، أَنَّ رَجُلاً مِمَّنْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، لَبِسَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، نَحْوَهُ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَحَدِيثُ يُونُسَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو إدريس الْخَوْلَانِيُّ": هو عائذ الله بن عبد الله، وُلد عام حُنين، وسمع منْ كبار الصحابة، وكان أعلم أهل الشام بعد أبي الدرداء رضي الله عنه.
والحديث مرسلٌ؛ لأن أبا إدريس لم يدرك القصّة، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -45/ 5193 - وفي "الكبرى" 61/ 9504. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله: (قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أي النسائيّ (وَحَدِيثُ يُونُسَ) بن يزيد، يعني هذه الرواية (أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ) بن راشد، وإنما رجّح المصنّف رحمه الله تعالى رواية يونس، مع أنها مرسلة، عَلَى رواية النعمان؛ لأن يونس أوثق، وأثبت فِي الزهريّ منه، فقد تكلّم النَّاس فيه، فضعّفه ابن معين فِي رواية، وأبو داود، والنسائيّ، وَقَالَ: ضعيف كثير الغلط، وَقَالَ أيضاً: أحاديثه مقلوبة، وَقَالَ أحمد: مضطرب الْحَدِيث، رَوَى أحاديث مناكير، وَقَالَ البخاريّ، وأبو حاتم: فِي حديثه وَهَمٌ كثير، وهو فِي الأصل صدوقٌ، وَقَالَ العقيليّ: ليس بالقويّ، تعرف فيه الضعف، وَقَالَ ابن معين مرةً: ضعيف، مضطرب الْحَدِيث، وَقَالَ مرة: ثقة. وَقَالَ ابن عديّ: احتمله النَّاس، راجع ترجمته فِي "تهذيب التهذيب" 4/ 230 - 231.
وأيضًا فقد تابع يونسَ الأوزاعيّ، وإبراهيم بن سعد الزهريّ، كما سيأتي فِي
الروايتين التاليتين.
والحاصل أن رواية النعمان بن راشد الموصولة غير محفوظة، وإنما المحفوظ هو المرسل، كما سينبّه عليه المصنّف رحمه الله تعالى قريبا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5194 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ الدِّمَشْقِيُّ، أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ قِرَاءَةً، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَائِذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، رَأَى عَلَى رَجُلٍ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، نَحْوَهُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ الدِّمَشْقِيُّ، أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ": هو البُسْريّ
(1)
الدمشقيّ، صدوقٌ [11] 71/ 2377 منْ أفراد المصنّف. و"ابن عائذ": هو محمد بن عائذ أبو أحمد الدمشقيّ، صاحب المغازي، صدوقٌ، رُمي بالقدر [10] 71/ 2377 منْ أفراد المصنّف، وأبي داود. و"يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ": هو الحضرميّ، أبو عبد الرحمن الدمشقيّ القاضي، ثقة، رُمي بالقدر [8] 60/ 1768.
والحديث مرسلٌ صحيح الإسناد، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5195 -
(أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ الْعُمَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، رَأَى فِي يَدِ رَجُلٍ خَاتَمَ ذَهَبٍ، فَضَرَبَ إِصْبَعَهُ بِقَضِيبٍ، كَانَ مَعَهُ حَتَّى رَمَى بِهِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أَبُو بَكْرِ بْنُ عَلِيٍّ": هو أحمد بن عليّ بن سعيد بن إبراهيم المروزيّ القاضي الثقة الحافظ [12] منْ أفراد المصنّف.
و"عَبْدُ الْعَزِيزِ الْعُمَرِيُّ": هو عبد العزيز بن أبي سلمة بن عبيد الله بن عُمر بن الخطّاب، أبو عبد الرحمن المدنيّ، نزيل بغداد، لا بأس [10].
رَوَى عن أبي أويس، وإبراهيم بن سعد، ومحمد بن عون مولى أم حكيم. وعنه الصاغانيّ، وأبو زرعة، وإبراهيم بن الحارث، وأبو بكر أحمد بن عليّ المروزيّ، وموسى بن هارون، وموسى بن إسحاق الأنصاريّ، وأبو يعلى الموصليّ. ذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ الدارقطنيّ: ليس به بأس. وَقَالَ الخطيب: روايته مستقيمة. تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.
(1)
"البُسْريّ" -بضم الباء، وسكون السين-: نسبة إلى جدّه الأعلى بُسْر بن أطاة الصحابيّ رضي الله عنه.
و"إبراهيم بن سعد": هو الزهريّ المدنيّ الثقة الثبت [8].
[تنبيه]: وقع فِي "الكبرى" بدل قوله: "عن أبي إدريس""عن أنس"، وهو غلط فاحشٌ، كما نبّه عليه فِي "تحفة الأشراف" 9/ 133.
والحديث مرسلٌ، صحيح الإسناد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5196 -
(أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ، أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَرَكَانِيُّ
(1)
، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مُرْسَلٌ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَالْمَرَاسِيلُ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الْوَرْكانيّ ": هو محمد بن جعفر بن زياد بن أبي هاشم، أبو عمران الْخُرَاسانيّ، نزيل بغداد، ثقة [10].
رَوَى عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، ومالك بن أنس، وفضيل بن عياض، وشّريك ابن عبد الله، وأبي معشر المدنيّ، وأيوب بن جابر اليمامي، ومعمر بن سليمان الرَّقّي، والمعافى بن عمران الموصلي، ومعتمر بن سليمان التيمي، فِي آخرين. وروى عنه مسلم، وأبو داود، وروى النسائيّ عن أبي بكر بن عليّ المروزي عنه، ويحيى بن معين، وابن أبي خيثمة، وابن أبي الدنيا، وعبد الله بن أحمد، وموسى بن هارون، وإبراهيم بن الجنيد الختلي، والمعمري، وعباس الدوري، والحارث بن أبي أسامة، وأحمد بن عليّ الأَبَّارُ، وأبو يعلى، وأبو القاسم البغوي، وآخرون. قَالَ أبو داود: رأيت أحمد بن حنبل يكتب عنه. وَقَالَ أبو زرعة: كَانَ جار أحمد بن حنبل، وكان يرضاه، وكان صدوقا ما علمته. وَقَالَ صالح بن محمد: كَانَ أحمد يوثقه، ويشير به. وَقَالَ عبد الخالق بن منصور، عن ابن معين: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ ابن سعد، وغيره: مات فِي رمضان سنة ثمان وعشرين ومائتين. وفيها أرخه ابن قانع، وَقَالَ: كَانَ ثقة. أخرج له مسلم، وأبو داود، والمصنف، وله عنده هَذَا الْحَدِيث فقط.
وقوله: "مرسلٌ": خبر لمحذوف: أي هَذَا الْحَدِيث مرسل، وهو صحيح الإسناد.
وقوله: (قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أي النسائيّ (وَالْمَرَاسِيلُ) الثلاثة، وهي رواية يونس بن يزيد، والأوزاعيّ، وإبراهيم بن سعد (أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ) أي لأنهم أوثق، وأحفظ، وأثبت ممن رواه موصولاً، وهو النعمان بن راشد، كما سبق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"الوركاني" ضبطه فِي "التقريب" بفتحتين، وضبطه فِي "لبّ اللباب" 2/ 318 بفتح الواو، وسكون الراء، وهو ظاهر عبارة "القاموس": نسبة إلى وَرْكان محلّة بأصبهان، وقرية بقاسان.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
46 - (مِقْدَارِ مَا يُجْعَلُ فِي الْخَاتَمِ مِنَ الْفِضَّةِ)
5197 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ، مِنْ أَهْلِ مَرْوَ، أَبُو طَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ، فَقَالَ: "مَا لِي أَرَى عَلَيْكَ حِلْيَةَ أَهْلِ النَّارِ؟ "، فَطَرَحَهُ ثُمَّ جَاءَهُ، وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ شَبَهٍ، فَقَالَ: "مَا لِي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ الأَصْنَامِ؟ "، فَطَرَحَهُ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مِنْ أَىِّ شَيْءٍ أَتَّخِذُهُ؟ قَالَ: "مِنْ وَرِقٍ، وَلَا تُتِمَّهُ مِثْقَالاً").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ) بن عبد الملك، أبو الحسين الرُّهاويّ، ثقة حافظ [11] 38/ 42 منْ أفراد المصنّف.
2 -
(زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ) أبو الحسين الْعُكْليّ الكوفيّ، خراسانيّ الأصل، صدوقٌ، يُخطيء فِي حديث الثوريّ [9] 33/ 37.
3 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ، مِنْ أَهْلِ مَرْوَ، أَبُو طَيْبَةَ) -بفتح الطاء المهمدة، بعدها تحتانية ساكنة، ثم موحّدة- قاضي مرو، صدوقٌ يَهِم [8].
رَوَى عن عبد الله بن بُريدة، وإبراهيم بن عُبيد، وشُقير الكوفيّ مولى سعد، وأبي مِجْلَز. وعنه زيد بن الحباب، وأبو تُميلة، وعيسى بن موسى غُنْجار، وابن ناجية، وعبدان بن عثمان، وغيرهم. قَالَ أبو حاتم: يُكتب حديثه، ولا يُحتجّ به. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: يُخطيء، ويخالف، وأخرج له فِي "صحيحه" حديثًا انفرد به عن عبد الله بن بُريدة، عن أبيه، فِي الخاتم -يعني حديث الباب-. رَوَى له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وله عندهم هَذَا الْحَدِيث، وعند الترمذيّ أيضاً آخر.
4 -
(عبد الله بن بُريدة) الأسلميّ، أبو سهل المروزيّ قاضيها، ثقة [3] 25/ 393.
5 -
(أبوه) بُريدة بن الحصيب، أبو سهل الأسلميّ، الصحابيّ المشهور، أسلم قبل
بدر، مات سنة (63) تقدّم فِي 101/ 133. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ بُريدة) بن الحُصيب رضي الله تعالى عنه (أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ) جملة اسمية فِي محلّ نصب عَلَى الحال (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَا لِي)"ما" استفهاميّة، والاستفهام للإنكار (أَرَى عَلَيْكَ حِلْيَةَ أَهْلِ النَّارِ؟) بكسر الحاء المهملة: أي زيّ الكفّار، فإن سلاسلهم، وأغلالهم فِي النار منْ الحديد (فَطَرَحَهُ) أي رمى الرجل الخاتم منْ يده (ثُمَّ جَاءَهُ) أي جاء الرجل النبيّ صلى الله عليه وسلم (وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ شَبَهٍ) بفتحتين: منْ المعادن ما يُشبه الذهب فِي لونه، وهو أرفع الصُّفْر. قاله فِي "المصباح"، وَقَالَ فِي "القاموس": الشَّبهُ، والشَّبَهَانُ محرّكتين: النحاس الأصفر، ويُكسَرُ، جمعه أَشْباه. انتهى (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَا لِي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ الأَصْنَامِ؟) ذلك لأنهم كانوا يتّخذون منه الأصنام (فَطَرَحَهُ، قَالَ) وفي "الكبرى": "فَقَالَ" بالفاء (يَا رَسُولَ اللَّهِ، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَتَّخِذُهُ؟) أي الخاتم (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (مِنْ وَرِقٍ) متعلّق بمحذوف، دلّ عليه السؤال: أي اتخذه منْ ورق، والوَرِق بفتح الواو، وكسر الراء، وتسكن تخفيفًا: الفضّة المضروبة، وقيل: الفضّة مضروبةً كانت، أو غير مضروبة. أفاده فِي "المصباح"(وَلَا تُتِمَّهُ مِثْقَالاً) بكسر الميم، وسكون الثاء المثلّثة: أي وزن مثقال، وهو درهم، وثلاثة أسباع درهم، وكلّ سبعة مثاقيل عشرة دراهم. قَالَ الفارابيّ: ومثقال الشيء: ميزانه منْ مثله، ويقال: أعطه ثِقْله وزانُ حِمْل: أي وزنه. أفاده فِي "المصباح". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه هَذَا ضعيف؛ لتفرّد عبد الله بن مسلم به، وهو سيّء الحفظ، ولذا قَالَ المصنّف فِي "الكبرى": هَذَا حديث منكر. وَقَالَ الترمذيّ: حديث غريب، وذكر الحافظ ابن رَجَب فِي "كتاب أحكام الخواتيم" ص 44. أن أحمد سئل عن عبد الله بن مسلم هَذَا؟ فَقَالَ: لا أعرفه. قَالَ: وَقَالَ أحمد فِي موضع آخر: هو حديث منكر. انتهى. وَقَالَ فِي "الفتح" 11/ 509 - 510 - : بعد أن أورد الْحَدِيث: وفي سنده أبو طيبة عبد الله بن مسلم المروزيّ، قَالَ أبو حاتم الرازيّ: يكتب حديثه ولا يُحتجّ به. وَقَالَ ابن حبّان فِي "الثقات": يخطيء، ويخالف، فإن كَانَ محفوظًا حُمل المنع عَلَى ما كَانَ حديداً صِرْفاً. انتهى.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -46/ 5197 - وفي "الكبرى" 62/ 9508. وأخرجه (د) فِي "الخاتم" 4223 (ت) فِي "اللباس" 1785.
(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي خاتم الحديد:
قَالَ الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى: وأما الخاتم، والصُّفر، والنحاس، فالمذهب -أي مذهب أحمد- كراهته للرجال، والنساء. قَالَ مُهنّا: سألت أحمد عن خاتم الحديد؟ فَقَالَ: أكرهه، وهو حلية أهل النار، قلت: الشَّبَهُ؟ قَالَ: لم تكن خواتيم النَّاس إلا فضّة. وَقَالَ فِي رواية أبي طالب -وسأله عن الحديد، والصفر، والرصاص، فكرهه، فَقَالَ-: أما الحديد، والصفر، فنعم، وأما الرصاص فلست أعلم فيه شيئًا، وله رائحة إذا كَانَ فِي اليد- كأنه كرهه. قَالَ: وكذلك كره مالك، وأبو حنيفة خاتم الحديد، والصفر، والرصاص.
قَالَ: ثم هذه الكراهة كراهة تنزيه عند أكثر الأصحاب، وظاهر كلام ابن أبي موسى تحريمه عَلَى الرجال والنساء، وحُكي عن أبي بكر عبد العزيز أن منْ صلى وفي يده خاتم حديد، أو صُفر أعاد الصلاة. وَقَالَ أحمد فِي رواية، وَقَدْ سُئل عن رجل يلبس خاتم الحديد، فيصلي؟ قَالَ: لا.
قَالَ ابن رَجَب رحمه الله تعالى: والصحيح عدم التحريم فإن الأحاديث فيه -يعني أحاديث النهي عن خاتم الحديد- لا تخلو عن مقال، وَقَدْ عارضها ما هو أثبت منها، كالحديث الذي فِي "الصحيحين" أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لخاطب المرأة التي عرضت نفسها عليه:"التمس ولو خاتمًا منْ حديد". انتهى كلام ابن رَجَب رحمه الله تعالى منْ "كتاب أحكام الخواتيم" له ملخّصًا.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى منْ ترجيح عدم تحريم خاتم الحديد هو الأرجح عندي، وَقَدْ سبقه إلى ذلك الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه"، حيث قَالَ:"باب خاتم الحديد"، ثم أورد بسنده حديث:"اذهب فالتمس، ولو خاتمًا منْ حديد"، لكن اعترض عليه الحافظ فِي "الفتح"، فَقَالَ: استدلّ به عَلَى جواز لبس خاتم الحديد، ولا حجة فيه؛ لأنه لا يلزم منْ جواز الاتّخاذ جواز اللبس، فيحتمل أنه أراد وجوده لتنتفع المرأة بقيمته. انتهى.
لكن الذي يظهر لي أن احتجاج البخاريّ به عَلَى الجواز هو الظاهر؛ لأن الذين منعوا لبس خاتم الحديد منعوه للرجال والنساء، لا للرجال فقط، فلو كَانَ ممنوعًا مطلقًا لبينه صلى الله عليه وسلم، ولا يقال: إنه صلى الله عليه وسلم أهدى لعمر رضي الله عنه حلة حرير، فَقَالَ عمر: يا رسول الله كسوتنيها، وَقَدْ قلت فِي حلة عطارد: ما قلت؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: "إني لم أكسكها لتلبسها"
الْحَدِيث، لأنا نقول إنه صلى الله عليه وسلم بيّن تحريم الحرير عَلَى الرجال سابقًا، فمعلوم لدى عمر رضي الله عنه أنه لا يحلّ له لبسه، وأما خاتم الحديد، فلم يثبت ما يقتضي تحريم لبسه؛ لأن الأحاديث فِي ذلك لا يثبت شيء منها، كما أشار إليه ابن رَجَب فِي كلامه السابق، فأمره صلى الله عليه وسلم بإعطاء الخاطبِ المرأة خاتمَ الحديد فيه إباحةٌ لاستعمالهما له مطلقًا، فتبصّر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
47 - (صِفَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
-)
5198 -
(أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ، فَصُّهُ حَبَشِيٌّ، وَنُقِشَ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ).
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيُّ) أبو الفضل البصريّ، ثقة حافظ، منْ كبار [11] 96/ 119.
2 -
(عثمان بن عمر) بن فارس العبديّ البصريّ، بخاريّ الأصل، ثقة [9] 151/ 1118.
3 -
(يونس) بن يزيد بن أبي النجاد الأمويّ مولاهم، أبو يزيد الأيليّ، ثقة، منْ كبار [7] 9/ 9.
4 -
(الزهريّ) محمد بن مسلم الإمام الحجة الثبت المشهور [4] 1/ 1.
5 -
(أنس) بن مالك الصحابيّ الخادم الشهير رضي الله تعالى عنه 6/ 6. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه بصريين، وأيليّا، ومدنيين. (ومنها): أن فيه أنساً رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، رَوَى (2286) حديثًا، وهو آخر منْ مات منْ الصحابة
رضي الله تعالى عنهم بالبصرة، مات سنة (92) أو (93). والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَنَس) بن مالك رضي الله تعالى عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، اتَّخَذَ) معنى "اتّخذ": أمر بصياغته، فصيغ، فلبسه، أو وجده مصنوعًا، فاتّخذه قاله فِي "الفتح"(خَاتَمًا) سيأتي سبب اتخاذه قريبًا، إن شاء الله تعالى.
[تنبيه]: جزم أبو الفتح اليعمريّ أن اتخاذ الخاتم كَانَ فِي السنة السابعة، وجزم غيره بأنه كَانَ فِي السادسة، ويُجمع بأنه كَانَ فِي أواخر السادسة، وأوائل السابعة؛ لأنه إنما اتّخذه عند إرادته مكاتبة الملوك، كما سيأتي، وكان إرساله إلى الملوك فِي مُدّة الْهُدنة، وكان فِي ذي القعدة سنة ستّ، ورجع إلى المدينة فِي ذي الحجة، وَوَجّهَ الرسل فِي المحرّم منْ السابعة، وكان اتّخاذه الخاتم قبل إرساله الرسل إلى الملوك. والله تعالى أعلم. أفاده فِي "الفتح".
(مِنْ وَرِقٍ) بكسر الراء، وتسكن تخفيفا: أي فضة (فَصُّهُ) بفتح الفاء، وتكسر، وتشديد الصاد المهملة: قَالَ الفيّوميّ: فصّ الخاتم: ما يُركّب فيه منْ غيره، وجمعه فُصُوص، مثلُ فَلْس وفُلُوس، قَالَ الفارابيّ، وابن السّكّيت: وكسر الفاء رديء. انتهى. وذكر فِي "القاموس" أن فصّ الخاتم مثلثة، والكسر غير لحن، ووَهِمَ الجوهريّ، والجمع فُصُوص. انتهى. (حَبَشِيٍّ) هَذَا لا يُعارض ما سيأتي قريبًا منْ قول أنس رضي الله عنه:"كَانَ خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم منْ فضّة، وكان فصّه منه"؛ لأنه إما أن يُحمل عَلَى تعدّد الواقعة، وحينئذ، فمعنى قوله:"حبشيّ": أي كَانَ حجرًا منْ بلاد الحبشة، أو عَلَى لون الحبشة، أو كَانَ جَزَعًا، أو عقيقًا؛ لأن ذلك قد يُؤتى به منْ بلاد الحبشة. ويحتمل أن يكون هو الذي فصّه منه، ونسبه إلى الحبشة؛ لصفة فيه، إما الصياغة، وإما النقش. أفاده فِي "الفتح" 11/ 508 - 509.
(وَنُقِشَ فِيهِ) بالبناء للفاعل: أي أمر بالنقش فِي ذلك الخاتم، ويحتمل أن يكون بالبناء للمفعول. وقوله (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) مفعول به عَلَى الأول، ونائب فاعل عَلَى الثاني، وهو محكيّ؛ لإرادة لفظه، وأصله جملة منْ مبتدإ وخبر. قَالَ فِي "الفتح": زاد ابن سعد منْ مرسل ابن سيرين: "بسم الله، محمد رسول الله"، ولم يُتابع عَلَى هذه الزيادة، وَقَدْ أورده منْ مرسل طاوس، والحسن البصريّ، وإبراهيم النخعيّ، وسالم بن أبي الجعد، وغيرهم، ليس فيه الزيادة، وكذا وقع فِي الباب منْ حديث ابن عمر، وأما ما أخرجه عبد الرزّاق، عن معمر، عن عبد الله بن محمد بن عَقِيل أنه أخرج لهم خاتماً، فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يلبسه، فيها تمثال أسد، قَالَ معمر: فغسله بعض أصحابنا، فشربه،
ففيه مع إرساله ضعف؛ لأن ابن عقيل مختلفٌ فِي الاحتجاج به، إذا انفرد، فكيف إذا خالف، وعلى تقدير ثبوته، فلعلّه لبسه مرّةً قبل النهي. انتهى "فتح" 11/ 510 - 511.
[تنبيه]: كَانَ نقش خاتمه صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشطر، فقد أخرج البخاريّ فِي "صحيحه" منْ حديث أنس رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه لَمّا استُخلف كتب له
(1)
، وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر:"محمد" سطر، و"رسول" سطرٌ، و"الله" سطر. قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: هَذَا ظاهره أنه لم يكن فيه زيادة عَلَى ذلك، لكن أخرج أبو الشيخ فِي "أخلاق النبيّ صلى الله عليه وسلم" منْ رواية عرعرة بن الْبِرِند بكسر الموحّدة، والراء، بعدهما نون ساكنة، ثم دالٌ- عن عَزْرة -بفتح المهملة، وسكون الزاي، بعدها راء- ابن ثابت، عن ثُمامة، عن أنس رضي الله عنه قَالَ:"كَانَ فصّ خاتم النبيّ صلى الله عليه وسلم حبشيًّا، مكتوبا عليه لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، وعرعرة ضعّفه ابن المدينيّ، وزيادته هذه شاذّة. وظاهره أيضاً أنه كَانَ عَلَى هَذَا الترتيب، لكن لم تكن كتابته عَلَى السياق العاديّ، فإن ضرورة الاحتياج إلى أن يختم به يقتضي أن تكون الأحرف المنقوشة مقلوبة؛ ليخرج الختم مستويًا. وأما قول بعض الشيوخ: إن كتابته كانت منْ أسفل إلى فوق -يعني أن الجلالة فِي أعلى الأسطر الثلاثة، ومحمد فِي أسفلها، فلم أر التصريح بذلك فِي شيء منْ الأحاديث، بل رواية الإسماعيليّ يُخالف ظاهرها ذلك، فإنه قَالَ فيها:"محمد" سطر، والسطر الثاني "رسول"، والسطر الثالث "الله". ولك أن تقرأ "محمد" بالتنوين، وعدمه، و"الله" بالرفع، والجرّ. انتهى "فتح" 11/ 516/ 517. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أنس رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -47/ 5198 و5199 و5200 و5201 و5202 و5203 و78/ 5279 و5280 و5281 و5282 و5283 و79/ 5284 و5285 و5286 و5287 - وفي "الكبرى" 63/ 9509 و9010 و64/ 9512 و9513 و9514 و9515 و9516 و9517 و9518 و9519 و9520 و9521 و9522 و9523. وأخرجه (خ) فِي "العلم" 65 و"الجهاد والسير" 2938 و"اللباس" 5872 و5874 و5875 و5877 و"الأحكام"
(1)
أي كتب أبو بكر لأنس رضي الله عنهما، والذي كتب له هو مقادير الزكاة.
7162 (م) فِي "اللباس" 2092 و2094 (د) فِي "الخاتم" 4216 و4217 (ت) فِي "اللباس" 1739 و1740 و1745 و1747 و"الاستئذان" 2718 (ق) فِي "اللباس" 3641 و3646 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 11540 و12309 و12453 و12771 و12914 و13504. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان صفة خاتم النبيّ صلى الله عليه وسلم. (ومنها): مشروعية لبس خاتم الفضّة، وَقَدْ تقدّم الجمع بينه وبين النهي الوارد فِي لبسه لغير ذي سلطان، وأن الأولى تركه لغيره. (ومنها): جواز كون الفصّ منْ غير الفضة. (ومنها): مشروعيّة النقش فيه، وسيأتي تمام البحث فيه بعد ثلاثة أبواب، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5199 -
(أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمُ فِضَّةٍ، يَتَخَتَّمُ بِهِ فِي يَمِينِهِ، فَصُّهُ حَبَشِيٌّ، يَجْعَلُ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي كَفَّهُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو بكر بن عليّ ": هو أحمد بن عليّ المروزيّ الثقة الحافظ [12] منْ أفراد المصنّف. و"عَبّاد بن موسى": هو الْخُتَّليّ، أبو محمد، نزيل بغداد، ثقة [10] 16/ 4072.
و"طلحة بن يحيى": هو ابن عيّاش الزرقيّ الأنصاريّ المدنيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ يَهِم [7].
رَوَى عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند، ويونس بن يزيد الأيلي، والضحاك بن عثمان الحزامي، وعبد الواحد مولى عروة، ومحمد بن أبي بكر الثقفيّ، وعنه ابن أبي فديك، ويعقوب بن محمد الزهريّ، وعباد بن موسى الْخُتَّلي، وعثمان بن محمد بن أبي شيبة، ومحمد بن عباد المكيّ، وغيرهم. قَالَ أبو داود عن أحمد: مقارب الْحَدِيث. وَقَالَ ابن معين: ثقة. وكذا قَالَ حنبل بن إسحاق عن عثمان بن أبي شيبة. وَقَالَ الآجري عن أبي داود: لا بأس به. وَقَالَ أبو حاتم: ليس بقوي. وَقَالَ يعقوب بن شيبة: شيخ ضعيف جدا، ومنهم منْ لا يكتب حديثه لضعفه. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". ونقل الخطيب عن عبد الله بن محمد بن عمارة بن القداح، أنه قَالَ: يقال: إنه مات بالمدينة. رَوَى له الجماعة، سوى الترمذيّ، له عند المصنّف هَذَا الْحَدِيث فقط.
وقوله: "فِي يمينه" قد صحّ تختمه أيضًا فِي يساره، وسيأتي الجمع بين الروايتين فِي
الباب التالي، إن شاء الله تعالى.
وقوله: "يجعل فصّه مما يلي كفّه": قَالَ ابن بطّال: قيل لمالك: يجعل الفصّ فِي باطن الكفّ؟ قَالَ: لا. قَالَ ابن بطّال: ليس فِي كون فصّ الخاتم فِي بطن الكفّ، ولا ظهرها أمرٌ، ولا نهيٌ. وَقَالَ غيره: السرّ فِي ذلك أن جعله فِي بطن الكفّ أبعد منْ أن يُظن أنه فعله للتزيّن. وَقَدْ أخرج أبو داود منْ حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما جَعْله فِي ظاهر الكفّ، وسيأتي قريباً، إن شاء الله تعالى.
والحديث صحيح، يشهد له ما قبله. وَقَدْ سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5200 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ خَلِيٍّ الْحِمْصِيُّ، وَكَانَ أَبُوهُ خَالِدٌ عَلَى قَضَاءِ حِمْصَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ -وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْعَوْصِيُّ- عَنِ الْحَسَنِ -وَهُوَ ابْنُ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ- عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ خَاتَمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فِضَّةٍ، وَكَانَ فَصُّهُ مِنْهُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن خالد بن خَليّ الحِمْصيّ": هو أبو الحسين الْكَلاعيّ، صدوقٌ [11] 7/ 1466. و"أبوه": هو خالد بن خليّ -بورن عليّ- الْكَلاعيّ، أبو القاسم الحمصيّ، صدوقٌ [10] 13/ 4963.
وقوله: "وكان أبو خالد عَلَى قضاء حمص" جملة معترضة، و"حمص" -بكسر، فسكون-: كُورة بالشام أهلها يمانون، وَقَدْ تذكّر. أفاده فِي "القاموس"، يعني أنه ممنوع منْ الصرف، ويجوز صرفه عَلَى قلّة.
و"سلمة بن عبد الملك الْعَوْصيّ": هو الحمصيّ، صدوقٌ، يخالف [9] 13/ 4962 منْ أفراد المصنّف.
وقوله: "الْعَوْصيّ": -بفتح، فسكون-: نسبة إلى عَوْص بطن منْ كلب. قاله فِي "لبّ اللباب" 2/ 124.
و"الحسن بن صالح بن حيّ": هو ابن صالح بن صالح بن حيّان، و-"حيّ" لقب "حيّان"- الهمدانيّ الثوريّ الكوفيّ، ثقة فقيه عابدٌ رُمي بالتشيّع [7] 160/ 252.
و"عاصم": هو ابن بَهْدلة، وهو ابن أبي النجود الكوفيّ المقريء المشهور، صدوقٌ، له أوهام [6]. و"حُميد الطويل": هو ابن أبي حميد البصريّ، ثقة يدلّس [5].
وقوله: "وكان فصّه منه" تقدّم أن هَذَا لا ينافي ما سبق منْ قوله: "فصّه حبشيّ"؛ لإمكان الجمع بالتعدّد، أو أنه نسبه إلى الحبشة؛ لصفة فيه، إما الصياغة، وإما النقش. وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: وَقَدْ رُوي أنه كَانَ فصّه منه، وخرّجه البخاريّ، قَالَ
أبو عمر: وهو أصحّ، وَقَالَ غيره: ليس بخلاف، كَانَ للنبيّ صلى الله عليه وسلم خواتيم، فصّ أحدها حبشيّ، والآخر فصّه منه، وَقَدْ روي أنه تختّم بفصّ عقيق، وكلّ ذلك صحيح. انتهى "المفهم" 5/ 412.
والحديث أخرجه البخاريّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5201 -
(أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، قَالَ: سَمِعْتُ حُمَيْدًا، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ خَاتَمُهُ مِنْ وَرِقٍ، فَصُّهُ مِنْهُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو بكر بن عليّ": تقدّم قبل حديث. و"أُميّة بن بِسطام": هو العيشيّ، أبو بكر البصريّ، صدوقٌ [10]. و"معتمر": هو ابن سليمان بن طرخان التيميّ البصريّ، ثقة، منْ كبار [9].
وقوله: "منْ ورق": أي فضّة. والحديث أخرجه البخاريّ أيضاً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5202 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، مِنْ فِضَّةٍ، فَصُّهُ مِنْهُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أحمد بن سليمان": هو أبو الحسين الرُّهاويّ الثقة الحافظ [11] منْ أفراد المصنّف. و"موسى بن داود": هو الضبيّ، أبو عبد الله الطَّرَسوسيّ، نزيل بغداد الْخُلقانيّ، صدوقٌ، فقيه، زاهدٌ، له أوهامٌ، منْ صغار [9]. و"زُهير بن معاوية": هو أبو خيثمة الْجُعْفيّ الكوفيّ الثقة [7]. والحديث أخرجه البخاريّ أيضاً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5203 -
(أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ بِشْرٍ -وَهُوَ ابْنُ الْمُفَضَّلِ- قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ، فَقَالُوا: إِنَّهُمْ لَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلاَّ مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ، وَنُقِشَ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ).
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(حُميد بن مَسْعَدة) بن المبارك الساميّ الباهليّ البصريّ، صدوقٌ [10] 5/ 5.
2 -
(بشر بن المفضّل) بن لاحق الرقاشيّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقة ثبت عابد [8] 66/ 82.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت الشهير [7] 24/ 27.
4 -
(قتادة) بن دعامة السدوسيّ، أبو الخطاب البصريّ، ثقة ثبت، يدلّس [4] 30/ 34.
5 -
(أنس) بن مالك رضي الله تعالى عنه 6/ 6. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين، وفيه قتادة، وهو مدلّس، وَقَدْ عنعنه، إلا أن الراوي عنه شعبة، وهو لا يروي عن المدلسين إلا ما صرّحوا فيه بالتحديث، وفيه أنس رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، رَوَى (2286) حديثًا، وهو آخر منْ مات منْ الصحابة بالبصرة، مات سنة (2) أو (93) وَقَدْ جاوز مائة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يَكْتُبَ) نسبة الكتابة إليه صلى الله عليه وسلم مجازيّة، أي أراد أن يأمر الكاتب ليكتب له (إِلَى الرُّومِ) بالضمّ: جِيلٌ منْ ولد الرُّوم بن عيصو. قاله فِي "القاموس"(فَقَالُوا) فِي مرسل طاوس عند ابن سعد أن قريشًا هم الذين قالوا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم. قاله فِي "الفتح". وفيه دليلٌ عَلَى أنه صلى الله عليه وسلم ما اتخذ خاتماً إلا عند الحاجة إليه، فالأصل تركه. وَقَالَ الخطّابيّ: وذلك لأن الخاتم ما كَانَ منْ عادة العرب لبسه. انتهى (إِنّهُمْ) أي الروم (لَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلاَّ مَخْتُومًا) قَالَ الفيّوميّ: ختمت الكتابَ، ونحوه خَتْماً، وختمت عليه، منْ باب ضرب: طبعتُ، ومنه الخاتم حَلْقة ذات فصّ منْ غيرها، فإن يكن لها فصّ، فهي فَتَخَةٌ، بفاء، وتاء مثنّاة منْ فوقُ، وخاء معجمة، وزانُ قَصَبَة. وَقَالَ الأزهريّ: الخاتِم بالكسر الفاعل، وبالفتح ما يوضع عليّ الطينة، والخِتام ككتاب: الطين الذي يُختم به عَلَى الكتاب. انتهى بزيادة يسيرة. (فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ) أي أمر بصياغة خاتم منْ فضة، فلبسه، أو وجده مصوغًا، فاتّخذه (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ) وفي رواية للبخاريّ:"إلى وبيص خاتمه"، وهو بفتح الواو، وكسر الموحّدة، كالبَريق وزناً ومعنًى، وفي رواية له:"إلى بريقه"(فِي يَدِهِ) صلى الله عليه وسلم (وَنَقَشَ فِيهِ) بالبناء للفاعل: أي أمر بنقشه، وقوله:(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) مبتدأ وخبر، محكيّ لقصد لفظه، مفعول به لـ"نقش". قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: فيه دليل عَلَى جواز نقش اسم صاحب الخاتم عَلَى خاتمه، إلا أن يكون اسمه محمداً، فلا يجوز النقش عليه للنهي عن ذلك، وعلى جواز نقش اسم الله تعالى عليه، أو كلمة حكمة، أو كلمات منْ القرآن، ثم إذا نقش عليه اسم الله تعالى، وجعله فِي شماله، فهل يدخل به
الخلاء، ويستنجي بشماله؟ خفّفه سعيد بن المسيّب، ومالك، وبعض أصحابه، وروي عنه الكراهة، وهي الأولى. انتهى "المفهم" 5/ 411.
والحديث متّفق عليه، وَقَدْ تقدّم تخريجه فِي حديث أول الباب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5204 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ، أَبُو الْجَوْزَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: أَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، صَلَاةَ الْعِشَاءِ الآخِرَةِ، حَتَّى مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ، ثُمَّ خَرَجَ، فَصَلَّى بِنَا، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ خَاتَمِهِ فِي يَدِهِ، مِنْ فِضَّةٍ).
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(أحمد بن عثمان، أبو الجوزاء) أبو عثمان البصريّ، و"أبو الجوزاء" لقبه، ثقة [11] 12/ 2124.
2 -
(أبو داود) سليمان بن داود الطيالسيّ البصريّ، ثقة حافظ [9] 13/ 343.
3 -
(قرّة بن خالد) السدوسيّ البصريّ، ثقة حافظ [6] 4/ 4. والباقيان تقدّما فِي السند الماضي، وكذلك لطائف الإسناد. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: أَخَّرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية الماضية فِي "المواقيت منْ طريق خالد بن الحارث الْهُجيميّ، عن حميد، قَالَ: "سئل أنسٌ، هل اتّخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم خاتمًا؟ قَالَ: "أخّر ليلة
…
" الْحَدِيث (صَلَاةَ الْعِشَاءِ الآخِرَةِ، حَتَّى مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ) المراد قرب نصفه، لا مضيّ النصف حقيقة، يوضّح ذلك ما تقدّم فِي "كتاب المواقيت" منْ رواية حميد، عن أنس المذكورة، قَالَ: أخر ليلةً صلاة العشاء الآخرة إلى قريب منْ شطر الليل"، ولما فِي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما فِي بيان أول الأوقات، وآخرها، وفيه:"فإذا صلّيتم العشاء، فإنه وقت إلى نصف الليل"، رواه مسلم بهذا اللفظ، وفي رواية المصنّف:"ووقت صلاة العشاء ما لم ينتصف الليل"، وأما تأويل منْ أوله كالنووي بأن المراد وقت الاختيار ففيه نظرٌ لا يخفى، بل الحقّ أنه وقت الجواز، وَقَدْ تقدّم تحقيق ذلك فِي "كتاب المواقيت" 15/ 522 فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق (ثُمَّ خَرَجَ) أي منْ حجرته (فَصَلَّى بِنَا) زاد فِي رواية حميد المذكورة:"فلما أن صلّى أقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم علينا بوجهه، ثم قَالَ: إنكم لن تزالوا فِي صلاة ما انتظرتموها، قَالَ أنس: كأني أنظر الخ (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ خَاتَمِهِ فِي يَدِهِ) وفي رواية حميد: "إلى وبيص خاتمه": وهو البريق وزنا ومعنى (مِنْ فِضَّةِ) متعلّق بحال
محذوف: أي حال كون ذلك الخاتم مصنوعاً منْ فضّة.
والحديث متّفق عليه، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
48 - (مَوْضِعِ الْخَاتَمِ مِنَ الْيَدِ -ذِكْرِ حَدِيثِ عَلِيٍّ) بن أبي طالب رضي الله عنه (وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ) بن أبي طالب رضي الله عنهما
-
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ظاهر الترجمة لا يتوافق مع الحديثين المذكورين تحتها؛ لأنهما يبيّنان أن موضع الخاتم هي اليد اليمنى، وظاهر الترجمة لا يفيد هَذَا المعنى، وإنما يبيّن الموضع منْ اليد الواحدة، مثل أن يكون فِي الخنصر مثلاً، وهذا ليس فِي الحديثين، فليُتأمل، وستأتي للمصنّف رقم (79) ترجمة بلفظ:"موضع الخاتم" يسوق فيها الأصابع التي تكون موضعاً للخاتم، والتي لا تكون موضعًا له. والله تعالى أعلم بالصواب.
5205 -
(أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ -هُوَ ابْنُ بِلَالٍ- عَنْ شَرِيكٍ -هُوَ ابْنُ أَبِي نَمِرٍ- عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ شَرِيكٌ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَلْبَسُ خَاتَمَهُ فِي يَمِينِهِ).
رجال هَذَا الإسناد: ثمانية:
1 -
(الربيع بن سليمان) الجِيزيّ المصريّ الأعرج، ثقة [11] 122/ 173 منْ أفراد المصنّف، وأبي داود.
2 -
(ابن وهب) هو عبد الله المصريّ الحافظ الفقيه، ثقة عابد [9] 9/ 9.
3 -
(سليمان بن بلال) التيميّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو أيوب المدنيّ، ثقة [8] 30/ 558.
4 -
(شريك بن أبي نَمِر) هو شريك بن عبد الله بن أبي نَمِر، أبو عبد الله المدنيّ،
صدوقٌ يُخطيء [5] 1/ 1504.
5 -
(إبراهيم بن عبد الله بن حُنين) الهاشميّ مولاهم، أبو إسحاق المدنيّ، ثقة [3] 97/ 1041.
6 -
(أبوه) عبد الله بن حنين الهاشميّ مولاهم المدنيّ، ثقة [3] 97/ 1041.
7 -
(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 1/ 1.
8 -
(عليّ) بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه 74/ 91. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ) بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وقوله: (قَالَ: شَرِيكٌ) أي ابن أبي نمر (وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ) أي ابن عبد الرحمن بن عوف، والمراد أن شريكًا يروى هَذَا الْحَدِيث منْ طريقين: إحداهما: طريق إبراهيم بن عبد الله بن حُنين، عن أبيه، عن عليّ رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي متّصلة، والثانية: طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي مرسلة (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَلْبَسُ خَاتَمَهُ فِي يَمِينِهِ) فيه أن موضع الخاتم هي اليد اليمنى، وهذا ما يدلّ عليه أكثر الأحاديث، وَقَدْ ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كَانَ يتختّم فِي يساره، كما سيأتي تحقيقه قريباً، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عليّ رضي الله عنه هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -48/ 5205 - وفي "الكبرى" 65/ 9526. وأخرجه (د) فِي "الخاتم" 4226. والترمذي فِي "الشمائل"، وصححه ابن حبّان، كما فِي "الفتح".
(المسألة الثالثة): فِي بيان اختلاف الروايات فِي موضع الخاتم، هل هو اليد اليمنى، أم اليسرى؟:
أخرج البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" منْ طريق جويرية بن أسماء، عن نافع، أن عبد الله، حدثه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، اصطنع خاتما منْ ذهب، وجعل فصه فِي بطن كفه إذا لبسه، فاصطنع النَّاس خواتيم منْ ذهب، فرقي المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، فَقَالَ: إني كنت اصطنعته، وإني لا ألبسه فنبذه، فنبذ النَّاس، قَالَ جويرية: ولا أحسبه
إلا قَالَ: "فِي يده اليمنى".
قَالَ فِي "الفتح": قوله: "قَالَ جويرية: ولا أحسبه إلا قَالَ: فِي يده اليمنى": هو موصول بالإسناد المذكور، قَالَ أبو ذر فِي روايته: لم يقع فِي البخاريّ موضع الخاتم، منْ أي اليدين إلا فِي هَذَا، وَقَالَ الداودي: لم يجزم به جويرية، وتواطؤ الروايات عَلَى خلافه يدلّ عَلَى أنه لم يحفظه، وعمل النَّاس عَلَى لبس الخاتم فِي اليسار، يدلّ عَلَى أنه المحفوظ.
قَالَ الحافظ: وكلامه متعقب، فإن الظن فيه منْ موسى شيخ البخاريّ، وَقَدْ أخرجه ابن سعد عن مسلم بن إبراهيم، وأخرجه الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان، عن عبد الله بن محمد بن أسماء، كلاهما عن جويرية، وجزما بأنه لبسه فِي يده اليمنى، وهكذا أخرج مسلم منْ طريق عقبة بن خالد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر فِي قصة اتخاذ الخاتم منْ ذهب، وفيه:"وجعله فِي يده اليمنى". وأخرجه الترمذيّ، وابن سعد منْ طريق موسى بن عقبة، عن نافع، بلفظ: "صنع النبيّ صلى الله عليه وسلم خاتما منْ ذهب، فتختم به فِي يمينه، ثم جلس عَلَى المنبر، فَقَالَ: إني كنت اتخذت هَذَا الخاتم فِي يميني، ثم نبذه
…
" الْحَدِيث، وهذا صريح منْ لفظه صلى الله عليه وسلم، رافع للّبس، وموسى بن عقبة أحد الثقات الأثبات. وأما ما أخرجه ابن عدي، منْ طريق محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، وأبو داود منْ طريق عبد العزيز بن أبي رَوّاد، كلاهما عن نافع، عن ابن عمر، كَانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، يتختم فِي يساره، فقد قَالَ أبو داود بعده: ورواه ابن إسحاق، وأسامة بن زيد، عن نافع: "فِي يمينه". انتهى. ورواية ابن إسحاق قد أخرجها أبو الشيخ فِي "كتاب أخلاق النبيّ صلى الله عليه وسلم" منْ طريقه، وكذا رواية أسامة، وأخرجها محمد بن سعد أيضًا.
فظهر أن رواية اليسار فِي حديث نافع شاذة، ومن رواها أيضًا أقل عددا، وألين حفظا، ممن رَوَى اليمين. وَقَدْ أخرج الطبراني فِي "الأوسط" بسند حسن، عن عبد الله ابن دينار، عن ابن عمر، قَالَ:"كَانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، يتختم فِي يمينه". وأخرج أبو الشيخ فِي "كتاب أخلاق النبيّ صلى الله عليه وسلم" منْ رواية خالد بن أبي بكر، عن سالم، عن ابن عمر نحوه، فرَجَحَتْ رواية اليمين فِي حديث ابن عمر أيضًا.
وَقَدْ ورد التختم فِي اليمين أيضًا، فِي أحاديث أخرى، منها عند مسلم منْ حديث أنس، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لبس خاتما منْ فضة فِي يمينه، فصه حبشي. وأخرج أبو داود أيضًا، منْ طريق ابن إسحاق، قَالَ: "رأيت عَلَى الصلت بن عبد الله خاتما، فِي خنصره اليمين، فسألته، فَقَالَ: رأيت ابن عبّاس، يلبس خاتمه هكذا، وجعل فصه عَلَى
ظهرها، ولا إِخال ابن عبّاس إلا ذكره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وأورده الترمذيّ منْ هَذَا الوجه مختصرا: "رأيت ابن عبّاس يتختم فِي يمينه، ولا إخاله إلا قَالَ: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتختم فِي يمينه"، وللطبراني منْ وجه آخر عن ابن عبّاس: "كَانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، يتختم فِي يمينه"، وفي سنده لين، وأخرج الترمذيّ أيضًا منْ طريق حماد بن سلمة: "رأيت ابن أبي رافع يتختم فِي يمينه، وَقَالَ كَانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، يتختم فِي يمينه"، ثم نقل عن البخاريّ أنه أصح شيء، رُوِي فِي هَذَا الباب، وأخرج أبو داود، والنسائي، والترمذي فِي "الشمائل"، وصححه ابن حبّان، منْ طريق إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه، عن عليّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "كَانَ يتختم فِي يمينه"، وفي الباب عن جابر فِي "الشمائل" بسند لين، وعن عائشة عند البزار بسند لين، وعند أبي الشيخ بسند حسن، وعن أبي أمامة عند الطبراني، بسند ضعيف، وعن أبي هريرة عند الدارقطنيّ فِي "غرائب مالك" بسند ساقط.
وورد التختم فِي اليسار، منْ حديث ابن عمر كما تقدّم، ومن حديث أنس أيضًا، أخرجه مسلم منْ طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس قَالَ:"كَانَ خاتم النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي هذه، وأشار إلى الخنصر اليسرى"، وأخرجه أبو الشيخ، والبيهقي فِي "الشعب"، منْ طريق قتادة، عن أنس، ولأبي الشيخ منْ حديث أبي سعيد، بلفظ:"كَانَ يلبس خاتمه فِي يساره"، وفي سنده لين، وأخرجه ابن سعد أيضًا، وأخرج البيهقي فِي "الأدب" منْ طريق أبي جعفر الباقر، قَالَ:"كَانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعلي، والحسن، والحسين، يتختمون فِي اليسار"، وأخرجه الترمذيّ، موقوفا عَلَى الحسن والحسين حسبُ.
وأما دعوى الداودي، أن العمل عَلَى التختم فِي اليسار، فكأنه توهمه منْ استحباب مالك للتختم، وهو يرجح عمل أهل المدينة، فظن أنه عمل أهل المدينة، وفيه نظر، فإنه جاء عن أبي بكر، وعمر، وجمع جم منْ الصحابة والتابعين بعدهم، منْ أهل المدينة وغيرهم التختم فِي اليمين.
وَقَالَ البيهقي فِي "الأدب": يُجمَع بين هذه الأحاديث بأن الذي لبسه فِي يمينه هو خاتم الذهب، كما صُرّح به فِي حديث ابن عمر، والذي لبسه فِي يساره، هو خاتم الفضة، وأما رواية الزهريّ عن أنس التي فيها التصريح بأنه كَانَ فضة، ولبسه فِي يمينه، فكأنها خطأ، فقد تقدّم أن الزهريّ وقع له وهم فِي الخاتم الذي طرحه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنه وقع فِي روايته أنه الذي كَانَ منْ فضة، وأن الذي فِي رواية غيره أنه الذي كَانَ منْ ذهب، فعلى هَذَا فالذي كَانَ لبسه فِي يمينه هو الذهب. انتهى ملخصا.
وجمع غيره بأنه لبس الخاتم أولا فِي يمينه، ثم حوله إلى يساره، واستدل له بما أخرجه أبو الشيخ، وابن عدي، منْ رواية عبد الله بن عطاء، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، تختم فِي يمينه، ثم إنه حَوّله فِي يساره، فلو صح هَذَا لكان قاطعا للنزاع، ولكن سنده ضعيف. وأخرج ابن سعد منْ طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، قَالَ: طرح رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمه الذهب، ثم تختم خاتما منْ ورق، فجعله فِي يساره، وهذا مرسل، أو معضل.
وَقَدْ جمع البغوي فِي "شرح السنة" بذلك، وأنه تختم أولا فِي يمينه، ثم تختم فِي يساره، وكان ذلك آخر الأمرين. وَقَالَ ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة، عن اختلاف الأحاديث فِي ذلك، فَقَالَ: لا يثبت هَذَا، ولا هَذَا، ولكن فِي يمينه أكثر، وَقَدْ تقدّم قول البخاريّ: إن حديث عبد الله بن جعفر أصح شيء ورد فيه، وصرح فيه بالتختم فِي اليمين.
وفي المسألة عند الشافعيّة اختلاف، والأصح اليمين، قَالَ الحافظ: ويظهر لي أن ذلك يختلف باختلاف القصد، فإن كَانَ اللبس للتزين به، فاليمين أفضل، وإن كَانَ للتختم به فاليسار أولى، لأنه كالمودع فيها، ويحصل تناوله منها باليمين، وكذا وضعه فيها، ويترجح التختم فِي اليمين مطلقا؛ لأن اليسار آلة الاستنجاء، فيصان الخاتم إذا كَانَ فِي اليمين عن أن تصيبه النجاسة، وترجح التختم فِي اليسار بما أشرت إليه منْ التناول، وجنحت طائفة إلى استواء الأمرين، وجمعوا بذلك بين مختلف الأحاديث، وإلى ذلك أشار أبو داود، حيث ترجم باب التختم فِي اليمين واليسار، ثم أورد الأحاديث مع اختلافها فِي ذلك، بغير ترجيح، ونقل النوويّ وغيره الإجماع عَلَى الجواز، ثم قَالَ: ولا كراهة فيه يعني عند الشافعيّة -وإنما الاختلاف فِي الأفضل. وَقَالَ البغوي: كَانَ آخر الأمرين التختم فِي اليسار، وتعقبه الطبري بأن ظاهره النسخ، وليس ذلك مراده، بل الإخبار بالواقع اتفاقا، والذي يظهر أن الحكمة فيه ما تقدّم، والله أعلم. انتهى ما فِي "الفتح" 11/ 513 - 515.
وَقَالَ الإمام أبو داود رحمه الله تعالى فِي "سننه": "باب ما جاء فِي التختم فِي اليمين أو اليسار".
قَالَ صاحب "عون المعبود": أعلم أنه قد ثبتت الأحاديث فِي التختم فِي اليمين واليسار، فاختلف العلماء فِي وجه الجمع، فجنحت طائفة إلى استواء الأمرين، وجمعوا بذلك بين مختلف الأحاديث، وإلى ذلك أشار أبو داود بترجمة بابه، ثم إيراد الأحاديث مع اختلافها فِي ذلك بغير ترجيح.
وجمع بعضهم بأنه لبس الخاتم أولا فِي يمينه، ثم حوّله فِي يساره، واستدل بما أخرجه أبو الشيخ، وابن عدي، عن ابن عمر: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تختم فِي يمينه، ثم إنه حوله فِي يساره، قَالَ الحافظ: لو صح هَذَا لكان قاطعا للنزاع، ولكن سنده ضعيف.
وجمع البيهقي بأن الذي لبسه فِي يمينه، هو خاتم الذهب، والذي فِي يساره هو خاتم الفضّة. قَالَ النوويّ: أجمعوا عَلَى جواز التختم فِي اليمين واليسار، واختلفوا فِي أيتهما أفضل؟ واستحب مالك اليسار، وكره اليمين، قَالَ: والصحيح فِي مذهبنا أن اليمين أفضل.
ورجح بعضهم التختم فِي اليمين، وعلل بأنه زينة، واليمين أحق بالزينة والإكرام، وبأن اليسار آلة الاستنجاء، فيصان الخاتم إذا كَانَ فِي اليمين عن أن تصيبه النجاسة.
وَقَالَ المنذري عند شرح حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما الذي أخرجه أبو داود منْ طريق يونس بن بُكير، عن محمد بن إسحاق، قَالَ: رأيت عَلَى الصلت بن عبد الله بن نوفل بن عبد المطّلب خاتماً فِي خنصره اليمنى، فقلت: ما هَذَا؟ قَالَ: رأيت ابن عبّاس يلبس خاتمه هكذا، وجعل فصّه عَلَى ظهرها، قَالَ: ولا يخال ابن عبّاس إلا قد كَانَ يذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يلبس خاتمه كذلك.
قَالَ المنذري: وأخرجه الترمذيّ، وَقَالَ: قَالَ محمد بن إسماعيل -يعني البخاريّ- حديث محمد بن إسحاق، عن الصلت بن عبد الله بن نوفل، حديث حسن. وأخرج مسلم فِي "صحيحه" منْ حديث ثابت، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قَالَ:"كَانَ خاتم النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي هذه، وأشار إلى الخنصر منْ يده اليسرى"، وأخرجه النسائيّ بنحوه. وأخرج النسائيّ أيضًا منْ حديث قتادة، عن أنس، قَالَ:"كأني أنظر إلى بياض خاتم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فِي إصبعه اليسرى"، ورجال إسناده محتج بهم فِي "الصحيح"، وأخرج الترمذيّ منْ حديث أبي جعفر بن محمد، عن أبيه، قَالَ:"كَانَ الحسن والحسين يتختمان فِي يسارهما"، وَقَالَ: هَذَا صحيح. وأخرجه مسلم أيضًا فِي "صحيحه" منْ حديث يونس، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لبس خاتم فضة فِي يمينه، فيه فصّ حبشي، كَانَ يجعل فصه مما يلي كفه"، قَالَ الدارقطنيّ: وهذا حديث محفوظ عن يونس، حدث به الليث، وابن وهب، وعثمان بن عمر، وغيرهم عنه، ولم يذكروا فيه:"فِي يمينه"، والليث، وابن وهب أحفظ منْ سليمان -يعني ابن بلال- ومن طلحة بن يحيى، ومع ذلك فالراوي له عن سليمان إسماعيل -يعني ابن أبي أويس- وهو ضعيف، رماه النسائيّ بأمر قبيح، حكاه عن سلمة عنه، فلا يحتج براويته إذا انفرد، عن سليمان، ولا عن غيره، وأما طلحة بن يحيى
فشيخ، والليث وابن وهب ثقتان، متقنان، صاحبا كتاب، فلا تُقبل زيادة ابن أبي أويس عن سليمان إذا انفرد بها، فإن كَانَ مسلم أجاز هَذَا، فقد ناقض فِي حديثه بهذا الإسناد، رواه ثقتان حافظان، عن عمرو بن الحارث، عن الزهريّ، عن أنس، فزاد أحدهما عَلَى الآخر زيادة حسنة، غير منكرة، فأخرج الْحَدِيث الناقص دون التام، والرجلان موسى ابن أعين، وعبد الله بن وهب، روياه عن الزهريّ، عن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إذا وضع العشاء -زاد موسى- وأحدكم صائم، فابدؤا به قبل أن تصلوا"، فأخرج حديث ابن وهب، ولم يخرج حديث موسى، اللَّهم إلا أن يكون لم يبلغه حديث موسى بن أعين، الذي فيه الزيادة، فيكون عذرا له فِي تركه.
وأما حديث الخاتم، فقد رواه جماعة عن الزهريّ حفاظ، منهم زياد بن سعد، وعُقيل، وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر، وإبراهيم بن سعد، وابن أخي الزهريّ، وشعيب، وموسى بن عقبة، وابن أبي عَتيق، وغيرهم، ولم يقل أحد منهم:"فِي يمينه"، هَذَا آخر كلامه، وهذا فصل مفيد جدًّا.
وَقَدْ كَانَ الدارقطنيّ رضي الله عنه منْ أئمة هَذَا الشأن، ونُقّاده وبالخصوص فِي معرفة العلل، فإنه مُقدم فيها عَلَى أقرانه.
ويمكن أن يقال: إن مسلما قد أخرج حديث إبراهيم بن سعد، وزياد بن سعد، عن الزهريّ، وليس فيهما ذكر الزيادة، وأخرج أيضًا حديث عبد الله بن وهب، عن يونس ابن يزيد، وليس فيه ذكر الزيادة، وأتى بحديث الزيادة بعد ذلك؛ ليبين اطّلاعه عَلَى ألفاظ الْحَدِيث، واختلاف الرواة، وجاء به فِي الطبقة الثانية.
وأما إسماعيل ابن أبي أويس، فإن البخاريّ ومسلما، قد حَدّثا عنه فِي "صحيحيهما"، محتجين، وروى مسلم عن رجل عنه، وهذا فِي غاية التعظيم له، ولم يُؤَثّر عندهما ما قيل فيه.
وطلحة بن يحيى، قد احتج به مسلم، فالحديث ثابت عَلَى شرطه، عَلَى ما قد قررناه، والزيادة منْ الثقة مقبولة، وهما عنده ثقتان.
وأما إخراج مسلم الزيادة فِي حديث الخاتم، وتركه الزيادة فِي حديث العَشَاء، ففيه ما يدلّ عَلَى تبحره فِي هَذَا الشأن، وجودة قريحته، فإن الزيادة فِي حديث الخاتم، لها شواهد، منها: حديث نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صنع خاتما منْ ذهب، فتختم به فِي يمينه، ثم جلس عَلَى المنبر
…
" الْحَدِيث، أخرجه الترمذيّ، وَقَالَ: حسن صحيح. وَقَدْ رُوي هَذَا الْحَدِيث عن نافع، عن ابن عمر، نحو هَذَا منْ غير هَذَا الوجه، ولم يذكر فيه أنه تختم فِي يمينه. ومنها: حديث حماد بن سلمة، قَالَ:
رأيت ابن أبي رافع يتختم فِي يمينه، فسألته عن ذلك؟ فَقَالَ:"رأيت عبد الله بن جعفر، يتختم فِي يمينه، وَقَالَ عبد الله بن جعفر: كَانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم يتختم فِي يمينه"، أخرجه الترمذيّ، وَقَالَ: قَالَ محمد بن إسماعيل -يعني البخاريّ- هَذَا أصح شيء رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الباب، وأخرج النسائيّ، وابن ماجه المسند منه فقط. ومنها: حديث قتادة، عن أنس:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يتختم فِي يمينه"، أخرجه الترمذيّ فِي "الشمائل"، وأخرجه النسائيّ فِي "سننه"، ورجال إسناده ثقات.
وأما حديث العَشاء فقد رُوي منْ حديث أنس بن مالك، وعبد الله بن عمر، وعائشة، وغيرهم، منْ طرق ليس فِي شيء منها ذكر هذه الزيادة، وهي زيادة غريبة.
وفي كلام الدارقطنيّ ما يدلّ عَلَى غرابتها، فإنه جَوّز عَلَى مسلم، أن لا يكون بلغته، مع معرفة الدارقطنيّ بسعة رحلة مسلم، وكثرة ما حَصّل منْ السنن، وقوله:"صَنّفت هَذَا المسند الصحيح منْ ثلاثمائة ألف حديث مسموعة"، والله عز وجل أعلم. انتهى كلام المنذري رحمه الله تعالى "مختصر السنن" 6/ 117 - 121.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما سبق أن الأرجح جواز التختّم فِي اليمين، واليسار، واليمين أفضل. قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: أجمع الفقهاء عَلَى جواز التختّم فِي اليمين واليسار، ولا كراهة فِي واحدة منهما، واختلفوا فِي أيتهما أفضل؟، فتختّم كثيرون منْ السلف فِي اليمين، وكثيرون فِي اليسار، واستحبّ مالك اليسار، وكره اليمين، وفي مذهبنا وجهان لأصحابنا، الصحيح أن اليمين أفضل؛ لأنه زينة، واليمين أشرف، وأحقّ بالزينة، والإكرام. انتهى "شرح مسلم" 14/ 72 - 73. وهو تحقيق نفيس جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5206 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ الْبَحْرَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَتَخَتَّمُ بِيَمِينِهِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"حَبّان بن هلال" -بفتح الحاء المهملة، وتشديد التحتانيّة-: هو أبو حبيب البصريّ الثقة الثبت [8]. و"ابن أبي رافع": هو عبيد الله بن أبي رافع، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كاتبّ عليّ رضي الله عنه المدنيّ الثقة [3]. "وعبد الله بن جعفر": هو ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما الهاشميّ، أحد الأجواد، وُلد بأرض الحبشة، ومات رضي الله عنه سنة (80)، وهو ابن (80)، وتقدّمت ترجمته فِي 25/ 1248.
والسند مسلسل بثقات البصريين إلى ابن أبي رافع، فإنه والصحابيّ مدنيّان، وفيه أن شيخه هو أحد مشايخ الأئمة الستة الذين رووا عنهم بلا واسطة، وهم تسعة، كما سبق بيانهم غير مرّة.
وقوله: "كَانَ يتختّم فِي يمينه" مختصر، وَقَدْ ساقه الترمذيّ فِي "الجامع" مطوّلاً، فَقَالَ:
1744 -
حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، قَالَ: رأيت ابن أبي رافع يتختم فِي يمينه، فسألته عن ذلك؟ فَقَالَ: رأيت عبد الله بن جعفر يتختم فِي يمينه، وَقَالَ عبد الله بن جعفر: كَانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم يتختم فِي يمينه". قَالَ: وَقَالَ محمد بن إسماعيل: هَذَا أصح شيء، رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الباب. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -48/ 5206 - وفي "الكبرى" 65/ 9527. وأخرجه (ت) فِي "اللباس" 1744 (ق) فِي "اللباس" 3647 (أحمد) فِي "مسند أهل البيت" 1749 و1758. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
49 - (لُبْسِ خَاتَمِ حَدِيدٍ مَلْوِيٍّ) أي معطوفٍ (عَلَيْهِ بِفِضَّةٍ)
5207 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِي عَتَّابٍ، سَهْلِ بْنِ حَمَّادٍ ح وَأَنْبَأَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَتَّابٍ، سَهْلُ بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَكِينٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِيَاسُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْمُعَيْقِيبِ، عَنْ جَدِّهِ مُعَيْقِيبٍ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيدًا، مَلْوِيًّا عَلَيْهِ فِضَّةٌ، قَالَ: وَرُبَّمَا كَانَ فِي يَدِي، فَكَانَ مُعَيْقِيبٌ عَلَى خَاتَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(عمرو بن عليّ) الفلّاس الصيرفيّ البصريّ، ثقة ثبت [10] 4/ 4.
2 -
(وأبو داود) سليمان بن سيف الْحَرّانيّ، ثقة حافظ [11] 103/ 136 منْ أفراد المصنّف.
3 -
(سهل بن حمّاد، أبو عتّاب) الدّلّال البصريّ، صدوقٌ [9] 103/ 136.
[تنبيه]: وقع فِي النسخ المطبوعة منْ "المجتبى" غلط، وهو أنه سقط "سهل بن حمّاد" بعد التحويل، ولفظه:"وأنبأنا أبو داود، قَالَ: حدثنا أبو مكين الخ"، فأسقط سهواً شيخ أبي داود، وهو سهل بن حمّاد، والصواب إثباته، فليُتنبّه. والله تعالى أعلم.
4 -
(أبو مكين) -بفتح الميم، وكسر الكاف- نوح بن ربيعة الأنصاريّ مولاهم البصريّ، صدوقٌ [6].
رَوَى عن أبي مِجْلز، وعكرمة مولى ابن عبّاس، ونافع مولى ابن عمر، وطلحة بن مصرف، وأبي الفضل بن خلف الأنصاريّ، وأبي صالح مولى أم هانىء، وإياس بن الحارث بن معيقيب، وغيرهم. وعنه يزيد بن زريع، والقطان، ووكيع، وأبو أسامة، وخالد بن الحارث، وأبو عتاب سهل بن حماد الدلال، وصفوان بن هُبيرة، ومحمد بن بشر العبدي، وغيرهم. قَالَ عليّ بن المديني عن يحيى بن القطّان: هو فوق عمر بن الوليد الشَّنِّيّ، وَقَالَ أحمد، وابن معين، وأبو داود: ثقة. وذكر أبو زرعة، وأبو حاتم، والدارقطني أن وكيعا وَهِمَ فِي اسم أبيه، فَقَالَ: حدثنا أبو مكين، نوح بن أبان، وإنما هو نوح بن ربيعة، ذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، قَالَ: وكان يخطيء، مات سنة ثلاث وخمسين ومائة، وفيها أرخه خليفة، وَقَالَ البخاريّ: نوح عن أبي مجلز، وعنه ليث بن أبي سليم منكر الْحَدِيث. وَقَالَ العقيلي: لا يتابع عَلَى حديثه، ولا يعرف إلا به، وفرق أبو أحمد الحاكم بين أبي مكين، نوح بن أبي
(1)
ربيعة الأنصاريّ، صاحب الترجمة، وبين أبي مكين بن أبان الراوي عن عكرمة، وعنه وكيع، وَقَالَ: إن الثاني لا يعرف اسمه، وتبع فِي ذلك مسلم بن الحجاج، والصواب أنه هو، وأن وكيعا وهم فِي اسم أبيه، وكذا قَالَ الدُّوري عن ابن معين. رَوَى له المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، له عند المصنّف، وأبي داود هَذَا الْحَدِيث، وله عند أبي داود أيضاً حديث:"لا يمرّ برجل إلا ناداه بالصلاة، أو حرّكه"، وعند ابن ماجه حديث:"إذا اشتهى مريض أحدكم شيئًا، فليُطعمه".
(1)
هكذا نسخة "تهذيب التهذيب" بزيادة لفظة "أبي" والظاهر أنه غلط، فليحرر.
5 -
(إياس بن الحارث) بن مُعيقيب بن أبي فاطمة الدوسيّ الحجازيّ، مجهول
(1)
[3].
رَوَى عن جدّه معيقيب، وعن جدّه لأمه ابن أبي ذُباب. وروى عنه أبو مكين نوح بن ربيعة. ذكره ابن حبّان فِي "الثقات". تفرد به المصنّف، وأبو داود، وله عندهما حديث الباب فقط.
6 -
(جدّه) المعيقيب -بقاف، وآخره موحّدة، مصغّرًا- ابن أبي فاطمة الدوسيّ، حليف بني عبد شمس، منْ السابقين الأولين، هاجر الهجرتين، وشهد المشاهد، وولي بيت المال لعمر رضي الله عنه، ومات فِي خلافة عثمان، أو عليّ رضي الله عنهم، وليس له فِي الكتب الستّة إلا حديثان، هَذَا، وآخر فِي مسح الحصى فِي الصلاة:"إن كنت لابدّ فاعلاً، فمرّة"، وتقدّمت ترجمته فِي 8/ 1192. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ مُعَيْقِيبٍ) بن أبي فاطمة رضي الله تعالى عنه (أَنَّهُ قَالَ: كَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيدًا، مَلْوِيًّا عَلَيْهِ فِضَّةٌ) بفتح الميم، وسكون اللام، اسم مفعول، منْ لوى يلوي، منْ باب رمى: أي معطوفًا عليه فضة (قَالَ) معيقيب رضي الله عنه (وَرُبَّمَا كَانَ) أي ذلك الخاتم (فِي يَدِي، فَكَانَ مُعَيْقِيبٌ) ولفظ أبي داود: "قَالَ: وكان المعيقيب"(عَلَى خَاتَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي أميناً عليه. قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: قيل: هَذَا الْحَدِيث أجود إسنادًا مما قبله
(2)
لأن فِي إسناد الأول عبد الله بن مسلم المروزيّ، وقيل: لا يُحتجّ بحديثه، وقيل: ثقة يُخطيء، سيّما والحديث يعضده حديث:"التمس ولو خاتماً منْ حديد"، ولو كَانَ مكروهًا لم يأذن له، قَالَ: والرواية الآتية
(3)
صريحة فِي الجواز، وقيل: إن كَانَ المنع محفوظًا يُحمل عَلَى ما كَانَ حديدًا صِرفاً، وهاهنا بالفضّة التي لُويت عليه ترتفع الكراهة، انتهى كلام السنديّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
(1)
وَقَالَ فِي "التقريب": صدوقٌ، وفيه نظر؛ بل هو مجهول؛ لأنه لم يرو عنه إلا أبو مكين، ولم يوثقه أحد إلا ابن حبّان عَلَى عادته فِي توثيق المجاهيل، وليس له إلا هَذَا الْحَدِيث. فليُتَأَمَّل.
(2)
يعني حديث بريدة رضي الله عنه الذي تقدّم قبل بابين 46/ 5197: "ما لي أرى عليك حلية أهل النار؟
…
" الْحَدِيث.
(3)
أي فِي الباب التالي حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه: "قَالَ: حلقة منْ حديد
…
" الْحَدِيث، لكن الْحَدِيث ضعيف.
حديث معيقيب رضي الله عنه هَذَا ضعيف الإسناد؛ لجهالة إياس بن الحارث كما سبق فِي ترجمته، إلا أن المتن صحيح؛ لشواهده، فقد أخرج له ابن سعد شاهداً مرسلاً، عن مكحول:"أن خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ منْ حديد، ملويًّا عليه فضّة، غير أن فصّه باد"، وآخر مرسلاً عن إبراهيم النخعيّ مثله
(1)
، دون ما فِي آخره، وثالثًا منْ رواية سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص:"أن خالد بن سعيد -يعني ابن العاص- أتي، وفي يده خاتمٌ، فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هَذَا؟ اطرحه، فطرحه، فإذا خاتم منْ حديد، ملويّ عليه فضّة، قَالَ: فما نقشه؟ قَالَ: محمد رسول الله، قَالَ: فأخذه، فلبسه"
(2)
، ومن وجه آخر عن سعيد بن عمرو المذكور أن ذلك جرى لعمرو بن سعيد، أخي خالد بن سعيد
(3)
. ذكره فِي "الفتح" 11/ 508. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -49/ 5207 - وفي "الكبرى" 66/ 9531. وأخرجه (د) فِي "الخاتم" 4224. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز لبس خاتم الحديد، ملويّاً عليه بفضّة، وبهذا جمع بعضهم بين الأحاديث الواردة فِي النهي عن لبس خاتم الحديد، وجوازه، وَقَدْ تقدّم أن أحاديث النهي لا تصحّ، فالأرجح جواز لبسه مطلقًا، وأن الأولى تركه؛ احتياطًا. (ومنها): استحباب خدمة أهل الفضل، والصلاح. (ومنها): جواز استخدام الحرّ برضاه. (ومنها): الاحتفاظ بالخاتم الذي تُختم به الرسائل ونحوها؛ لئلا يستعملها غير صاحبها، فتخرجَ عما وُضعت له، منْ اعتماد الذين ترسل إليهم الرسائل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
(1)
فِي سنده فرقد السبخي متكلم فيه.
(2)
إسناد صحيح، وهو حديث متصل.
(3)
إسناده صحيح متصل أيضًا. انظر "طبقات ابن سعد" جـ 1 ص 367.
50 - (لُبْسِ خَاتَمِ صُفْرٍ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الصُّفْرُ": بضم، فسكون وزان قُفْل، وكسر الصاد لغة: النحاس. قاله فِي "المصباح". والله تعالى أعلم بالصواب.
5208 -
(أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْمِصِّيصِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ مَنْصُورٍ، مِنْ أَهْلِ ثَغْرٍ ثِقَةٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ سَوَادَةَ، عَنْ أَبِي النَّجِيبِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمَ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، وَكَانَ فِي يَدِهِ خَاتَمٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَجُبَّةُ حَرِيرٍ، فَأَلْقَاهُمَا، ثُمَّ سَلَّمَ، فَرَدَّ عليه السلام، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَيْتُكَ آنِفًا، فَأَعْرَضْتَ عَنِّي؟، فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ فِي يَدِكَ جَمْرَةٌ مِنْ نَارٍ، قَالَ: لَقَدْ جِئْتُ إِذًا بِجَمْرٍ كَثِيرٍ، قَالَ: "إِنَّ مَا جِئْتَ بِهِ لَيْسَ بِأَجْزَأَ عَنَّا، مِنْ حِجَارَةِ الْحَرَّةِ، وَلَكِنَّهُ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا"، قَالَ" فَمَاذَا أَتَخَتَّمُ؟ قَالَ: "حَلْقَةً مِنْ حَدِيدٍ، أَوْ وَرِقٍ، أَوْ صُفْرٍ").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(عليّ بن محمد بن عليّ) بن أبي المضاء المصّيصيّ القاضي، ثقة [11] 83/ 2415 منْ أفراد المصنّف.
2 -
(داود بن منصور) النسائيّ، أبو سليمان الثَّغْريّ، سكن بغداد، ثم ولي قضاء المصيصة، وسكنها، صدوقٌ يَهِم، كرهه أحمد للقضاء [9].
رَوَى عن الليث، وإبراهيم بن طهمان، وجرير بن حازم، وحماد بن زيد، وعبد الوارث بن سعيد، وقيس بن الربيع، وأبي بكر بن عياش، وغيرهم. وعنه إبراهيم بن سعيد الجوهري، وأبو حاتم، وابن أبي المضاء، ويوسف بن سعيد بن مسلم، وغيرهم. قَالَ مهنّا عن أحمد: أعرفه، قلت: كيف هو؟ قَالَ: لا أدري، وكرهه. وَقَالَ النسائيّ: ثقة. وَقَالَ أبو حاتم: صدوقٌ. وَقَالَ ابن أبي حاتم: سمع منه أبي سنة (220) وذكره ابن حيان فِي "الثقات"، وَقَالَ: مات سنة (223) وَقَالَ العقيلي: يخالف فِي حديثه. تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.
[تنبيه]: قوله: "منْ أهل ثَغْرٍ" -بفتح الثاء المثلّثة، وسكون الغين المعجمة، آخره راء مهملة-: ذكر فِي "القاموس" له معاني، منها: أنه ما يلي دار الحرب، وموضع المخافة فِي فُرُوج البلدان، وبلد قرب كِرْمان بساحل بحر الهند. انتهى. والظاهر أن المعنى الأخير هو المراد هنا. والله تعالى أعلم.
3 -
(الليث بن سعد) بن عبد الرحمن، أبو الحارث الفهميّ المصريّ الإمام الحجة [7] 31/ 35.
4 -
(عمرو بن الحارث) بن يعقوب، أبو أيوب المصريّ الفقيه، ثقة ثبت [7] 63/ 79.
5 -
(بكر بن سَوَادة) بن ثُمامة الْجُذاميّ، أبو ثمامة المصريّ، ثقة فقيه [3] 122/ 173.
6 -
(أبو النجيب) العامريّ، مولى عبد الله بن سعد، ويقال: اسمه ظليم، مقبول [4] 45/ 5190.
[تنبيه]: "أبو النجيب" -بالجيم، والموحّدة- هكذا فِي "الكبرى" 67/ 9532، و"تحفة الأشراف" 3/ 500، وهو الصواب، ويقال: فيه أيضًا: "أبو التجيب" بالمثناة المضمومة بدل النون، ووقع فِي نسخ "المجتبى" بدله:"أبو البختريّ" بالموحّدة، والخاء المعجمة، وهو تصحيف فاحش، وَقَدْ نبهت عليه قبل ثلاثة أبواب، فلا تكن منْ الغافلين.
7 -
(أبو سعيد الخدريّ) سعد بن مالك بن سنان رضي الله تعالى عنهما 169/ 262. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَ الْبَحْرَيْنِ) وتقدّم فِي 45/ 5190: "أن رجلاً قدِم منْ نجران"، ولا تنافي بينهما؛ لتقاربهما (إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمَ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ) فيه ترك ردّ السلام عَلَى منْ ارتكب محظورًا؛ عقوبةً له (وَكَانَ فِي يَدِهِ خَاتَمٌ مِنْ ذَهَبٍ) أي وكان مجيؤه بعد تحريم لبسه، وهذا هو السبب فِي ترك ردّ السلام عليه (وَجُبَّةُ حَرِيرٍ) أي وَقَدْ لبسه، وإلا فإمساكه بيده لا يحرم عليه (فَأَلْقَاهُمَا) أي رمى الخاتم، والجبّة (ثُمَّ سَلَّمَ، فَرَدَّ عليه السلام لزوال سبب ترك الردّ عليه (ثُمَّ قَالَ) الرجل (يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَيْتُكَ آنِفًا) قَالَ فِي "القاموس": "آنفاً"، كصاحب، وكَتِفٍ، وقُرىء بهما: أي مذ ساعة، أي فِي أوّل وقتٍ يقرُب منّا. انتهى (فَأَعْرَضْتَ عَنِّي؟) أي أدبرت عنّي، فلم تردّ سلامي، يقال: أعرضت عن الشيء: إذا أضربتَ، وولّيت عنه، وحقيقته جعل الهمزة للصيرورة: أي أخذت عُرْضاً: أي جانباً غير الجانب الذي هو فيه. أفاده فِي "المصباح"(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (إِنَّهُ كَانَ فِي يَدِكَ جَمْرَةٌ مِنْ نَارٍ) يعني خاتم الذهب؛ لأنه يكون سبب دخوله النار فِي الآخرة، أو يُكوى به فيها، كما تقدّم بيانه (قَالَ) الرجل (لَقَدْ جِئْتُ إِذًا بِجَمْرٍ كَثِيرٍ) قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى:
يريد أن ما جاء به منْ الذهب، فهو جمر عَلَى هَذَا، فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أنه جمرٌ فِي حقّ منْ يراه أحسن منْ حجارة الحرّة، فيتزيّن به، وأما منْ يراه مثله، وإنما يَقضى به حاجته الدنيويّة، فلا يكون فِي حقّه جمرًا. انتهى (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (إِنَّ مَا جِئْتَ بِهِ لَيْسَ بِأَجْزَأَ عَنَّا مِنْ حِجَارَةِ الْحَرَّةِ) قَالَ السنديّ:"أجزأ" اسم تفضيل منْ الإجزاء. انتهى فيه أن اسمي التفضيل والتعجب لا يُبنيان منْ أكثر منْ الثلاثي، قَالَ ابن مالك فِي "الخلاصة" مبيّنًا شروط بناء فعل التعجّب، وهي أيضًا شروط أفعل التفضيل:
وَصُغْهُمَا مِنْ ذِي ثَلاثٍ صُرِّفَا
…
قَابِلِ فَضْلٍ تَمَّ غَيْرِ ذِي انْتِفَا
وَغَيْرِ ذِي وَصْفٍ يُضَاهِي أَشْهَلا
…
وَغَيْرِ سِالِكٍ سَبِيل فُعِلا
وَأَشْدِدْ أوْ أَشَدَّ أَوْ شِبهِهِمَا
…
يَخْلُفُ مَا بَيْنَ الشُّرُوطِ عَدِمَا
والأولى هنا أن يقال: إنه منْ جزأ ثلاثيّا، يقال: جزأت الإبل بالرَّطْب عن الماء: إذا اكتفت، وقَنِعت به، كجَزِئَت بالكسر، أفاده فِي "القاموس"، و"اللسان"، والمعنى أن الذي أتيت به منْ الذهب ليس بأقنع، وأنفع منّا منْ حجارة الحرّة. والله تعالى أعلم.
و"الحرّة" -بفتح الحاء المهملة، وتشديد الراء-: أرضٌ ذات حجارة سُود، والجمع حِرَارٌ، مثلُ كَلْبة وكلاب. قاله الفيّوميّ.
والحرّة هذه أرضٌ بظاهر المدينة، بها حجارة سُود كثيرةٌ، وكانت بها الوقعة المشهورة فِي الإسلام، أيام يزيد بن معاوية، لَمّا انتهب عسكره منْ أهل الشام الذين نَدَبهم لقتال أهل المدينة، منْ الصحابة والتابعين، وأمّر عليهم مسلم بن عُقبة الْمُرّيّ فِي ذي الحجة سنة (63)، وعقبها هلك يزيد. ذكره فِي "النهاية" 1/ 365.
(وَلَكِنَّهُ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي ما يُتمتّع به فِي الحياة الدنيا، ولا يتعدّاها إلى الآخرة، و"المتاع" فِي اللغة: كل ما يُنتفع به، كالطعام، والبزّ، وأثاث البيت، وأصل "المتاع": ما يُتبلّغ به منْ الزاد، وهو اسم مِن متّعته بالتثقيل: إذا أعطيتَه ذلك، والجمع أمتعة. قاله الفيّوميّ (قَالَ) الرجل (فَمَاذَا أَتَخَتَّمُ؟) وفي نسخة:"مما أتختّم": أي منْ أيّ نوع أتّخذ خاتما؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (حَلْقَةً) بالنصب أي اتخذ حلقة، ويحتمل الرفع: أي الجائز حلقةٌ.
و"الحلقة" -بفتح الحاء المهملة، وسكون اللام، وحكي فتحها، قَالَ فِي "القاموس": وحلْقةُ الباب، والقوم، وَقَدْ تُفتح لامهما، وتُكسر، أو ليس فِي الكلام "حَلَقَةٌ" محرّكةً، إلا جمعُ حالق، أو لغةٌ ضعيفة، والجمع حَلَقٌ، محرّكةً، وكَبِدَرٍ، وحَلَقاتٌ، محرّكةً، وتكسر الحاء. انتهى.
(مِنْ حَدِيدٍ، أَوْ وَرِقٍ) أي فضة (أَوْ صُفْرٍ) بضم، فسكون: أي نحاس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هَذَا ضعيف؛ لجهالة أبي النجيب؛ لأنه لم يرو عنه غير بكر بن سوادة، وَقَدْ تقدّم بيان ذلك فِي 45/ 5190 - وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5209 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدِ اتَّخَذَ حَلْقَةً مِنْ فِضَّةٍ، فَقَالَ: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَصُوغَ عَلَيْهِ، فَلْيَفْعَلْ، وَلَا تَنْقُشُوا عَلَى نَقْشِهِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أنس رضي الله عنه هَذَا، والذي بعده لا يناسب هذه الترجمة، كما لا يخفى، فكان الأولى للمصنّف رحمه الله تعالى أن يترجم لهما هنا، كما فعل فِي "الكبرى"، حيث ترجم فيه بقوله:"النهي عن أن ينقُش أحد عَلَى خاتمه: محمد رسول الله"، فليُتأمّل.
ورجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(محمد بن بشّار) بُندار، أبو بكر البصريّ، ثقة حافظ [10] 24/ 27.
2 -
(محمد بن عبد الله الأنصاريّ) هو محمد بن عبد الله بن المثنّى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاريّ البصريّ القاضي، ثقة [9] 23/ 1236.
3 -
(هشام بن حسّان) الْقُرْدوسيّ البصريّ، ثقة [6] 188/ 300.
4 -
(عبد العزيز بن صُهيب) البنانيّ البصريّ، ثقة [4] 17/ 1643.
5 -
(أنس) بن مالك رضي الله تعالى عنه 6/ 6. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين، وفيه أن شيخه هو أحد مشايخ الستّة بلا واسطة، كما سبق غير مرّة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَنَسٍ) بن مالك رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي منْ حجرته إلى المسجد؛ لما سبق قبل بابين أخّر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء الآخره حَتَّى مضى شطر الليل، ثم خرج
…
" الْحَدِيث (وَقَدِ اتَّخَذَ حَلْقَةً) أي خاتما (مِنْ فِضَّةٍ) أخرج الدارقطنيّ فِي "الأفراد" منْ طريق سلمة بن وَهْرَام، عن عكرمة، عن يعلى بن أمية
-رضي الله عنه، قَالَ:"أنا صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم خاتما، لم يَشْرَكني فيه أحد، نقش فيه محمد رسول الله"، فيُستفاد منه اسم الذي صاغ خاتم النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونقشه. قاله فِي "الفتح" 11/ 515.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَرَادَ أَنْ يَصُوغَ عَلَيْهِ) أي يتخذ خاتمًا عَلَى صفته (فَلْيَفْعَلْ) أي فليتّخذه (وَلَا تَنْقُشُوا) بضم القاف، منْ باب قتل (عَلَى نَقْشِهِ) أي عَلَى مثل نقش خاتمه، وذلك لئلا تفوت مصلحة نقش اسمه بوقوع الاشتراك فيه، قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: سبب النهي أنه صلى الله عليه وسلم إنما اتّخذ الخاتم، ونقش فيه ليختم به كتُبه إلى ملوك العجم، وغيرهم، فلو نقش غيرُهُ مثله لدخلت المفسدة، وحصل الخلل. انتهى "شرح مسلم" 14/ 68. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أنس رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -50/ 5209 و5210 وأخرجه (خ) فِي "اللباس" 5877 (م) فِي "اللباس"2092. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): النهي عن نقشه بـ"محمد رسول الله"؛ لما سبق قريبًا. (ومنها): جواز النقش فِي الخاتم، وجواز نقش اسم صاحب الخاتم، وجواز نقش اسم الله تعالى، وبهذا قَالَ جمهور العلماء، وروي عن ابن سيرين، وبعضهم كراهة نقش اسم الله تعالى، قَالَ النوويّ: ضعيفٌ، قَالَ العلماء: وله أن ينقُش اسم نفسه، أو ينقش عليه كلمة حكمة، وأن ينفش ذلك مع ذكر الله تعالى. انتهى.
وَقَدْ أخرج بن أبي شيبة فِي "المصنّف" عن ابن عمر، أنه نقش عَلَى خاتمه "عبد الله ابن عمر"، وكذا أخرج عن سالم، عن عبد الله بن عمر، أنه نقش اسمه عَلَى خاتمه، وكذا القاسم بن محمد. قَالَ ابن بطال: وكان مالك يقول: منْ شأن الخلفاء، والقضاة، نقش أسمائهم فِي خواتمهم. وأخرج ابن أبي شيبة عن حذيفة، وأبي عبيدة، أنه كَانَ نقش خاتم كل واحد منهما "الحمد لله"، وعن عليّ "الله الملك"، وعن إبراهيم النخعي "بالله"، وعن مسروق "بسم الله"، وعن أبي جعفر الباقر "العزة لله"، وعن الحسن والحسين: لا بأس بنقش ذكر الله عَلَى الخاتم.
وَقَدْ أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن ابن سيرين أنه لم يكن يرى بأسا أن يكتب الرجل فِي خاتمه "حسبي الله"، ونحوها، فهذا يدلّ عَلَى أن الكراهة التي ذكرها النوويّ
قريبًا عنه لم تثبت، ويمكن الجمع بأن الكراهة حيث يخاف عليه حمله للجنب والحائض، والاستنجاء بالكف التي هو فيها، والجواز حيث حصل الأمن منْ ذلك، فلا تكون الكراهة لذلك، بل منْ جهة ما يعرض لذلك. والله تعالى أعلم. قاله فِي "الفتح" 11/ 515. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5210 -
(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ سَيْفٍ الْحَرَّانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا، وَنَقَشَ عَلَيْهِ نَقْشًا، قَالَ: "إِنَّا قَدِ اتَّخَذْنَا خَاتَمًا، وَنَقَشْنَا فِيهِ نَقْشًا، فَلَا يَنْقُشْ أَحَدٌ عَلَى نَقْشِهِ"، ثُمَّ قَالَ أَنَسٌ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِهِ فِي يَدِهِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: شيخ المصنّف تقدّم فِي الباب الماضي. و"هارون بن إسماعيل ": هو الْخَزّازُ، أبو الحسن البصريّ، ثقة، منْ صغار [9] 5/ 465. و"عليّ ابن المبارك": هو الْهُنائيّ البصريّ، ثقة، منْ كبار [7] 28/ 1411.
وقوله: إنا قد اتّخذنا الخ" بصيغة ضمير الجمع، وهي للتعظيم، والمراد "إني قد اتخذت".
وقوله: "فكأني أنظر إلى وَبيصه" -بفتح الواو، وكسر الموحّدة-: البريق وزنًا ومعنًى.
والحديث متَّفقٌ عليه، كما سبق بيانه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
51 - (قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَنْقُشُوا عَلَى خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبِيًّا")
5211 -
(أَخْبَرَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، الْخُوَارَزْمِيُّ بِبَغْدَادَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ، عَنْ أَزْهَرَ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَا تَنْقُشُوا عَلَى خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبِيًّا).
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(مجاهد بن موسى الْخُوَارَزْميّ)
(1)
أبو عليّ الْخُتَّليّ، نزيل بغداد، ثقة [10] 85/ 102.
[تنبيه]: قوله: "ببغداد" متعلّقٌ بـ"أخبرنا": أي أخبرنا بهذا الْحَدِيث بالمكان المسمّى ببغداد. والله تعالى أعلم.
2 -
(هُشيم) بن بَشير بن القاسم بن دينار، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقة ثبت، كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7] 88/ 109.
3 -
(الْعوّام بن حَوْشَب) الشيبانيّ، أبو عيسى الواسطيّ، ثقة ثبت، فاضلٌ [6] 55/ 2292.
4 -
(أزهر بن راشد) البصريّ، مجهول [5].
رَوَى عن أنس بن مالك، والحسن البصريّ. وعنه الْعَوّام بن حَوْشَب. قَالَ أبو حاتم: مجهول. وَقَالَ ابن حبّان: كَانَ فاحش الوهم. وَقَالَ الأزديّ: منكر الْحَدِيث، إسناده ليس بالمرضيّ. تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط. والصحابيّ تقدّم فِي الباب الماضي. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ) أي لا تقربوهم، وهذا كما فِي الْحَدِيث الآخر:"لا تتراآى ناراهما. وَقَالَ فِي "النهاية": أراد بالنار هنا الرأي: أي لا تُشاوروهم، فجعل الرأي مثل الضوء عند الحيرة. (وَلَا تَنْقُشُوا) بضم القاف (عَلَى خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبِيًّا) قَالَ ابن الأثير رحمه الله تعالى: أي لا تنقشوا فيها "محمد رسول الله"؛ لأنه كَانَ نقش خاتمه صلى الله عليه وسلم، كأنه قَالَ: نبيًّا عربيًّا، يعني نفسه صلى الله عليه وسلم، ومنه حديث عمر رضي الله عنه: "لا تنقشُوا فِي خواتيمك العربيّة"، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يكره أن يُنقش فِي الخاتم القرآن. انتهى"النهاية" 3/ 202 بزيادة منْ "القاموس"، و"شرحه" 1/ 377.
وَقَالَ السنديّ: أي نقشًا معلوماً فِي العرب، ولم يكن ثمة نقش معلومٌ فيهم إلا نقش خاتمه؛ لأنهم ما كانوا يَلبسون الخواتيم، فأراد بذلك إنكم لا تجعلوا نقش خواتيمكم
(1)
"الْخُوَارَزْميّ" -بضم الخاء، وفتح الواو، والراء، وسكون الزاي، آخره ميم-: نسبة إلى بلدة خوارزم، فتحها قتيبة بن مسلم الباهليّ، وكان بها. و"الْخُتَّليّ" -بضم الخاء المعجمة، وتشديد التاء، آخره لام-: نسبة إلى خُتّل كورة خلف جيحون. قاله فِي "اللباب"، و"لب اللباب".
نقشَ خاتمي. كذا فِي "شرح السنديّ"، وكتب فِي هامش "الكبرى" 5/ 454: ما نصّه: أراد بالعربيّ أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم كره نقشه عَلَى الخواتيم. انتهى.
وذكر بعضهم أن معنى "عربيًّا": أي نقشًا مستويًا، غير منكوس؛ لأنه إذا طبع مستويًا ينقلب معكوسًا، فلا يدلّ عَلَى اسم صاحب الخاتم، أو لقبه، وإنما خصّ بذلك العربيّ، لأن خطوط غير العرب فِي ذلك الزمان كانت منكوسة، كخطّ اليهود، والنصارى، وغيرهم.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: أقرب المعاني عندي ما تقدّم عن ابن الأثير رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
والحديث ضعيف؛ لجهالة أزهر بن راشد، كما سبق فِي ترجمته، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -51/ 5211 - وفي "الكبرى" 69/ 9535. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
52 - (النَّهْيُ عَنِ الْخَاتَمِ فِي السَّبَّابَةِ)
5212 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ، قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَلِيُّ سَلِ اللَّهَ الْهُدَى وَالسَّدَادَ"، وَنَهَانِي أَنْ أَجْعَلَ الْخَاتَمَ فِي هَذِهِ وَهَذِهِ، وَأَشَارَ يَعْنِي بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى).
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(محمد بن منصور) الْجَوّاز المكيّ، ثقة [10] 20/ 21.
2 -
(سفيان) بن عيينة الإمام الحجة المشهور [8] 1/ 1.
3 -
(عاصم بن كُليب) الْجرميّ الكوفيّ، صدوقٌ رُمي بالإرجاء [5] 11/ 889.
4 -
(أبو بُردة) بن أبي موسى الأشعريّ، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، الكوفيّ الثقة [3] 3/ 3.
5 -
(عليّ) بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه 74/ 91. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم
رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فمكيّ، وسفيان، فكوفيّ، ثم مكيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعري، أنه (قَالَ: قَالَ عَلِيّ) بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه (قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَلِيُّ سَلِ اللَّهَ الْهُدَى) أي الرشاد (وَالسَّدَادَ) بالفتح: هو الاستقامة، والقصد فِي الأمور، وفي الرواية الآتية فِي 121/ 5368 منْ طريق عبد الله بن إدريس، عن عاصم بن كليب: قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل: اللَّهمّ سدّدني، واهدني"، ولفظ مسلم:"قل: اللَّهم اهدني، وسدّدني، واذكر بالهدى هدايتك الطريق، والسداد سَداد السهم".
قَالَ الخطّابيّ رحمه الله تعالى: قوله: "واذكر بالهدى هداية الطريق": معناه أن سالك الطريق والفلاة إنما يؤمّ سَمْتَ الطريق، ولا يكاد يفارق الجادّة، ولا يَعدِل عنها يَمْنَةً ويَسْرَةً، خوفا منْ الضلال، وبذلك يُصيب الهداية، وينال السلامة.
يقول: إذا سألت الله الهدى، فأخطر بقلبك هداية الطريق، وسل الله الهدى والاستقامة، كما تتحرّاه فِي هداية الطريق إذا سلكتها.
وقوله: "واذكر بالسداد تسديد السهم": معناه أن الرامي إذا رمى غَرَضًا سدّد بالسهم نحو الغرض، ولم يعدل عنه يمينًا ولا شمالاً؛ ليُصيب الرميّةَ، فلا يطيش سهمه، ولا يُخفق سعيه.
يقول: فأخطر المعنى بقلبك، حين تسأل الله السداد؛ ليكون ما تنويه منْ ذلك عَلَى شاكلة ما تستعمله فِي الرمي. انتهى "معالم السنن" 6/ 116.
وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: أما السداد هنا فبفتح السين، وسَداد السهم تقويمه، ومعنى سَدّدني: وفّقني، واجعلني منتصبًا فِي جميع أموري، مستقيمًا، وأصل السداد: الاستقامة، والقصد فِي الأمور، وأما الهدى فهو الرشاد، ويذكّر، ويؤنّث، ومعنى اذكر بالهدى هدايتك الطريق، والسداد سداد السهم: أي تذكّر ذلك فِي حال دعائك بهذين اللفظين؛ لأن هادي الطريق لا يزيغ عنه، ومسدّد السهم يحرص عَلَى تقويمه، ولا يستقيم رميه حَتَّى يقوّمه، وكذا الداعي ينبغي أن يحرص عَلَى تسديد علمه، وتقويمه، ولزومه السنّة. وقيل: ليتذكر بهذا اللفظ السداد والهدى لئلا ينساه. انتهى "شرح مسلم" 16/ 43 - 44.
وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: هَذَا الأمر منه صلى الله عليه وسلم يدلّ عَلَى أن الذي ينبغي له أن
يُهتمّ بدعائه، فيستحضر معاني دعواته فِي قلبه، ويُبالغ فِي ذكرها بلفظه بضرب منْ الأمثال، وتأكيد الأقوال، فإذا قَالَ: اهدني الصراط المستقيم، وسدّدني سَداد السهم الصائب، كَانَ أبلغ، وأهمّ منْ قوله: اهدني، وسدّدني فقط، وهذا واضحٌ. انتهى "المفهم" 7/ 53 - 54.
(وَنَهَانِي أَنْ أَجْعَلَ الْخَاتَمَ فِي هَذِهِ وَهَذِهِ، وَأَشَارَ يَعْنِي بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى) العناية منْ بعض الرواة، يعني أنه ذكر قوله:"هذه، وهذه"، مشيرًا بالسبّابة، والوسطى.
[تنبيه]: هذه الرواية ظاهرة فِي كون النهي عن التختّم فِي الإصبعين، ووقع فِي رواية أبي الأحوص فِي "الكبرى"، و"صحيح مسلم" بـ"أو"، ولفظها:"نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتختّم فِي إصبعي هذه، أو هذه، قَالَ: فأومأ إلى الوُسطى، والتي تليها"، ولا تنافي ما قبلها؛ لأن المراد نهيه عن التختّم فِي الإصبعين، سواء تختّم فيهما جميعاً، أو بانفراد. وأما رواية عبد الله ابن إدريس فِي "صحيح مسلم" بلفظ:"فِي هذه، أو هذه، لم يدر عاصم فِي أيّ الثنتين"، فمعناه أن عاصماً كَانَ أحياناً يتردّد، وأحيانّا يجزم، والجزم أكثر، فقد ثبت فِي رواية الثوريّ، وشعبة، وابن عيينة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عليّ رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه مسلم.
[تنبيه]: هَذَا الْحَدِيث أخرجه المصنّف رحمه الله تعالى فِي "الكبرى" 5/ 455 لكنه جعل شيخ عاصم أبا بكر -يعني ابن أبي موسى الأشعري، وهو أخو أبي بردة المذكور هنا- وَقَالَ بعده: خالفه أبو الأحوص، سَلّام بن سليم، رواه عن عاصم، عن أبي بردة، ثم ساق رواية أبي الأحوص، فَقَالَ:
9537 -
أخبرنا هناد بن السري، عن أبي الأحوص، عن عاصم بن كليب، عن أبي بردة، عن عليّ، قَالَ: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن أتختم فِي إصبعي هذه، وفي الوسطى، أو التي تليها.
قَالَ أبو عبد الرحمن: وهذا أولى بالصواب منْ الذي قبله.
يعني أن رواية أبي الأحوص التي جعل فيها شيخ عاصم أبا بُردة هي الصواب منْ رواية سفيان، عن عاصم، عن أبي بكر، وإنما رجّح رواية أبي الأحوص؛ لأن الحفاظ وافقوه عليها، فقد رواه الثوريّ، كما فِي الرواية التالية، وشعبة، كما أخرجه فِي "الكبرى"، ولفظه:
9540 -
أخبرنا محمد بن بشار، قَالَ: ثنا شعبة، عن عاصم بن كليب، عن أبي بردة، قَالَ: سمعت عليا يقول: نهاني نبي الله صلى الله عليه وسلم، عن الخاتم فِي السبابة، والوسطى.
وبشر بن المفضل، كما فِي الرواية الآتية آخر الباب، وعبد الله بن إدريس عند مسلم فِي "صحيحه"، أربعتهم عن عاصم، عن أبي بردة، كما رواه أبو الأحوص.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ولعل سفيان رواه أيضًا بذكر أبي بردة، فأثبت المصنّف رحمه الله تعالى هنا الرواية الموافقة للجماعة، ويحتمل أن يكون الإثبات منْ غير المصنّف، بل هَذَا هو الذي يميل إليه القلب؛ لأن قوله فِي "الكبرى":"خالفه أبو الأحوص" يؤيّد هَذَا؛ لأنه لو كَانَ لابن عيينة رواية توافق الجماعة لبيّنها، وما جزم بمخالفة أبي الأحوص له.
وَقَدْ رَوَى مسلم رحمه الله تعالى رواية ابن عيينة هذه، إلا أنه لم يسم شيخ عاصم باسمه، بل قَالَ:"عن ابن لأبي موسى". قَالَ الحافظ المزيّ رحمه الله تعالى: قيل: إنما كنى عنه؛ لأن ابن عيينة يقول فيه: "عن أبي بكر بن أبي موسى"، وهو غلطٌ منه. انتهى "تحفة الأشراف" 7/ 459.
والحاصل أن ما فِي "الكبرى" منْ كون رواية سفيان منْ رواية أبي بكر، لا منْ رواية أبي بردة هو الأشبه، فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -52/ 5212 و5213 و5214 و79/ 5288 و5289 و121/ 5378 - وفي "الكبرى" 70/ 9536 و9537 و9538 و9539 و9540 و9541. وأخرجه (م) فِي "الذكر والدعاء" 2725 (د) فِي "الخاتم" 4225 (أحمد) فِي "مسند العشرة" 666 و1127 و1166 و1323.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان النهي عن التختّم فِي السبّابة. (ومنها): النهي عن التختّم فِي الوسطى. (ومنها): جواز التختّم فِي ما عدا هذين الإصبعين، والأولى كونه فِي الخنصر، قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: أجمع المسلمون عَلَى أن السنّة جعل خاتم الرجل فِي الخنصر، وأما المرأة، فإنها تتخذ خواتيم فِي أصابع، قالوا: والحكمة فِي كونه فِي الخنصر أنه أبعد منْ الامتهان فيما يُتعاطى باليد؛ لكونه طرفًا، ولأنه لا يشغل اليد عما تتناوله منْ أشغالها، بخلاف غير الخنصر، ويكره للرجل جعله فِي الوسطى، والتي تليها؛ لهذا الْحَدِيث، وهي كراهة تنزيه. انتهى "شرح مسلم" 14/ 71.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: كون الكراهة للتنزيه محل نظر؛ إذ النهي يقتضي التحريم، إلا لصارف، ولم يذكروا له هنا صارفًا، فتبصّر. والله تعالى أعلم.
(ومنها): استحباب الدعاء بالهدى، والسداد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5213 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: "نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْخَاتَمِ فِي هَذِهِ وَهَذِهِ" -يَعْنِي السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى- وَاللَّفْظُ لاِبْنِ الْمُثَنَّى).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة. و"عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. و"سفيان": هو الثوريّ. والحديث أخرجه مسلم، وَقَدْ سبق شرحه، وبيان مسائله فِي الْحَدِيث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5214 -
(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قُلِ: "اللَّهُمَّ اهْدِنِي، وَسَدِّدْنِي"، وَنَهَانِي أَنْ أَضَعَ الْخَاتَمَ فِي هَذِهِ وَهَذِهِ، وَأَشَارَ بِشْرٌ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، قَالَ: وَقَالَ عَاصِمٌ أَحَدُهُمَا).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده، وهو بصريّ ثقة. و"بشر": هو ابن المفضّل البصريّ الثقة الثبت. وقوله: "وَقَالَ عاصم أحدّهما": أي ذكر عاصم فِي رواية أحد الأصبعين. والحديث صحيح، كما سبق قريباً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
53 - (نَزْعِ الْخَاتَمِ عِنْدَ دُخُولِ الْخَلَاءِ)
5215 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ نَزَعَ خَاتَمَهُ).
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن إسماعيل بن إبراهيم) المعروف أبوه بابن عُليّة البصريّ، نزيل دمشق وقاضيها، ثقة [11] 22/ 489.
2 -
(سعيد بن عامر) الضُّبعيّ، أبو محمد البصريّ، ثقة صالح، ربّما وهم [9] 11/ 518.
3 -
(هَمّام) بن يحيى بن دينار الْعَوْذيّ البصريّ، ثقة، ربّما وهِم [7] 5/ 465.
4 -
(ابن جُريج) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقة فاضل فقيه، يدلّس [6] 28/ 32. والباقيان تقدّما قريبًا. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله تعالى عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ) أي أراد الدخول فيه (نَزَعَ خَاتَمَهُ) ولفظ أبي داود: "وضع خاتمه"، يقال: نزعته منْ موضعه نَزْعًا، منْ باب ضرب: قَلَعته، وانتزعته مثلُهُ. قاله فِي "المصباح". يعني أنه صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يدخل الخلاء أخرج خاتمه منْ يده، ووضعه فِي محلّ خارج موضع الخلاء؛ صيانة لاسم الله سبحانه وتعالى عن محل القاذورات، إذ فيه اسم عز وجل، حيث كَانَ نقشه "محمد رسول الله". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أنس رضي الله عنه هَذَا صححه الترمذيّ، وابن حبّان، والحاكم، والأكثرون عَلَى تضعيفه، قَالَ المصنّف رحمه الله تعالى فِي "الكبرى" بعد إخراجه: وهذا الْحَدِيث غير محفوظ. والله أعلم. انتهى. وَقَالَ أبو داود فِي "سننه" بعد إخراجه: هَذَا حديث منكر، وإنما يعرف عن ابن جريج، عن زياد بن سعيد، عن الزهريّ، عن أنس:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، اتخذ خاتما منْ ورق". والوهم فيه منْ همّام، ولم يروه إلا همّام. انتهى. وَقَالَ الترمذيّ: هَذَا حديث حسنٌ غريب.
قَالَ الحافظ المنذريّ: وهمّام هَذَا، وإن تكلّم فيه بعضهم، فقد اتّفق البخاريّ، ومسلم عَلَى الاحتجاج بحديثه. وَقَالَ يزيد بن هارون: همّام قويّ فِي الْحَدِيث. وَقَالَ يحيى بن معين: ثقة صالح. وقاله أحمد بن حنبل: همام ثبتٌ فِي كلّ المشايخ. وَقَالَ ابن عديّ الجرجانيّ: وهمّام أشهر، وأصدق منْ أن يُذكر له حديث منكر، أو له حديث منكر، وأحاديثه مستقيمة عن قتادة، وهو مقدّم أيضاً فِي يحيى بن أبي كثير، وعامّة ما
يرويه مستقيم. هَذَا آخر كلامه. وإذا كَانَ حال همّام كذلك، فيترجّح ما قاله الترمذيّ، وتفرّده به لا يوهن الْحَدِيث، وإنما يكون غريبًا، كما قَالَ الترمذيّ. والله عز وجل أعلم. انتهى كلام المنذريّ "مختصر السنن" 1/ 26.
وَقَالَ فِي "عون المعبود" 1/ 21 - 23: وَقَالَ السخاويّ فِي "فتح المغيث": وكذا قَالَ النسائيّ: إنه غير محفوظ. انتهى. وهمام ثقة، احتج به أهل الصحيح، ولكنه خالف النَّاس، ولم يوافَق أبو داود عَلَى الحكم عليه بالنكارة، فقد قَالَ موسى بن هارون: لا أدفع أن يكونا حديثين، ومال إليه ابن حبّان، فصححهما معا، ويشهد له أن ابن سعد أخرج بهذا السند، أن أنسا نقش فِي خاتمه محمد رسول الله، قَالَ: فكان إذا أراد الخلاء وضعه، لاسيما وهمام لم ينفرد به، بل تابعه عليه يحيى بن المتوكل، عن ابن جريج، وصححه الحاكم عَلَى شرط الشيخين، ولكنه متعقب، فإنهما لم يخرجا لكل منهما عَلَى انفراده، وقول الترمذيّ: إنه حسن صحيح غريب فيه نظر، وبالجملة فقد قَالَ شيخنا -يعني الحافظ ابن حجر-: إنه لا علة له عندي إلا تدليس ابن جريج، فإن وجد عنه التصريح بالسماع، فلا مانع منْ الحكم بصحته فِي نقدي. انتهى. وَقَدْ رَوَى ابن عدي: حدثنا محمد بن سعد الحراني، حدثنا عبد الله بن محمد بن عيشون، حدثنا أبو قتادة، عن ابن جريج، عن ابن عقيل -يعني عبد الله بن محمد بن عقيل- عن عبد الله بن جعفر، قَالَ:"كَانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم يلبس خاتمه فِي يمينه"، وَقَالَ:"كَانَ ينزع خاتمه إذا أراد الجنابة"، ولكن أبو قتادة، وهو عبد الله بن واقد الحراني، مع كونه صدوقا، كَانَ يخطيء، ولذا أطلق غير واحد تضعيفه، وَقَالَ البخاريّ: منكر الْحَدِيث تركوه، بل قَالَ أحمد: أظنه كَانَ يدلس، وأورده شيخنا فِي "المدلسين"، وَقَالَ: إنه متَّفقٌ عَلَى ضعفه، ووصفه أحمد بالتدليس. انتهى، فروايته لا تُعلي رواية همام. انتهى.
وَقَالَ السيوطي فِي "مرقاة الصعود": أخرجه البيهقي، منْ طريق يحيى بن المتوكل البصريّ، عن ابن جريج، عن الزهريّ، عن أنس:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لبس خاتما، نقشه محمد رسول الله، فكان إذا دخل الخلاء وضعه"، وَقَالَ: وهذا شاهد ضعيف.
وَقَالَ الحافظ بن حجر: وَقَدْ نوزع أبو داود فِي حكمه عَلَى هَذَا الْحَدِيث بالنكارة، مع أن رجاله رجال الصحيح.
والجواب أنه حكم بذلك؛ لأن هماما انفرد به، عن ابن جريج، وهمام وإن كَانَ منْ رجال الصحيح، فإن الشيخين لم يخرجا منْ رواية همام، عن ابن جريج شيئا؛ لأنه لما أخذ عنه كَانَ بالبصرة، والذين سمعوا منْ ابن جريج بالبصرة، فِي حديثهم خلل منْ قبله، والخلل فِي هَذَا الْحَدِيث منْ قبل ابن جريج، دلسه عن الزهريّ، بإسقاط
الواسطة، وهو زياد بن سعد، ووهم همام فِي لفظه، عَلَى ما جزم به أبو داود وغيره، وهذا وجه حكمه عليه بكونه منكرا، قَالَ: وحُكمُ النسائيّ عليه بكونه غير محفوظ أصوب، فإنه شاذ فِي الحقيقة، إذ المنفرد به منْ شرط الصحيح، لكنه بالمخالفة صار حديثه شاذًّا، قَالَ: وأما متابعة يحيى بن المتوكل له، عن ابن جريج، فقد تفيد، لكن يحيى بن معين قَالَ فيه: لا أعرفه، أي إنه مجهول العدالة، وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: كَانَ يخطيء، قَالَ: عَلَى أن للنظر مجالاً فِي تصحيح حديث همام؛ لأنه مبني عَلَى أن أصله حديث الزهريّ عن أنس، فِي اتخاذ الخاتم، ولا مانع أن يكون هَذَا متنًا آخر، غير ذلك المتن، وَقَدْ مال إلى ذلك ابن حبّان، فصححهما جميعا، ولا علة له عندي إلا تدليس ابن جريج، فإن وجد عنه التصريح بالسماع، فلا مانع منْ الحكم بصحته. انتهى كلام الحافظ فِي "نكته عَلَى ابن الصلاح". انتهى.
وَقَالَ الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى -بعد قول الحافظ المنذريّ: "وإنما يكون غريبًا كما قَالَ الترمذيّ الخ: ما نصّه: قلت: هَذَا الْحَدِيث رواه همّام، وهو ثقة، عن ابن جريج، عن الزهريّ، عن أنس. قَالَ الدارقطنيّ فِي "كتاب العلل": رواه سعيد بن عامر، وهُدْبة بن خالد، عن همّام، عن ابن جُريج، عن الزهريّ، عن أنس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وخالفهم عمرو بن عاصم، فرواه عن هَمّام، عن ابن جريج، عن الزهريّ، عن أنس: "أنه كَانَ إذا دخل الخلاء"، موقوفًا، ولم يتابع عليه. ورواه يحيى بن المتوكّل، ويحيى بن الضريس، عن ابن جريج، عن الزهريّ، عن أنس، نحو قول سعيد بن عامر، ومن تابعه عن همّام. ورواه عبد الله بن الحارث المخزوميّ، وأبو عاصم، وهشام بن سُليمان، وموسى بن طارق، عن ابن جُريج، عن زياد بن سعد، عن الزهريّ، عن أنس: "أنه رأى فِي يد النبيّ صلى الله عليه وسلم خاتمًا منْ ذهب، فاضطرب النَّاس الخواتيم، فرمى به النبيّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: لا ألبسه أبدًا". وهذا هو المحفوظ، والصحيح، عن ابن جُريج. انتهى كلام الدارقطنيّ.
وحديث يحيى بن المتوكّل الذي أشار إليه، رواه البيهقيّ منْ حديث يحيى بن المتوكّل، عن ابن جُريج به، ثم قَالَ: هَذَا شاهد ضعيف، وإنما ضعّفه لأن يحيى هَذَا قَالَ فيه الإمام أحمد: واهي الْحَدِيث. وَقَالَ ابن معين: ليس بشيء، وضعّفه الجماعة كلهم.
وأما حديث يحيى بن الضريس، فيحيى هَذَا ثقة، فيُنظر الإسناد إليه، وهمّام، وإن كَانَ ثقة صدوقاً احتجّ به الشيخان فِي الصحيح، فإن يحيى بن سعيد كَانَ لا يُحدّث عنه، ولا يرضى حفظه. قَالَ أحمد: ما رأيت يحيى أسوأ رأياً منه فِي حجاج -يعني أرطاة-
وابن إسحاق، وهمّام، لا يستطيع أحدٌ أن يراجعه فيهم. وَقَالَ يزيد بن زُريع -وسئل عن همّام-: كتابه صالح، وحفظه لا يسوى شيئًا. وَقَالَ عقان: كَانَ همّام لا يكاد يرجع إلى كتابه، ولا ينظر فيه، وكان يخالف، فلا يرجع إلى كتاب، وكان يكره ذلك، قَالَ: ثم رجع بعدُ، فنظر فِي كتبه، فَقَالَ: يا عفّان كنّا نُخطيء كثيرًا، فنستغفر الله عز وجل، ولا ريب أنه ثقة صدوقٌ، ولكنه خُولف فِي هَذَا الْحَدِيث، فلعلّه مما حدّث به منْ حفظه، فغلط فيه، كما قَالَ أبو داود، والنسائيّ، والدارقطنيّ، وكذلك ذكر البيهقيّ أن المشهور عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن الزهريّ، عن أنس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اتّخذ خاتماً منْ ورِقٍ، ثم ألقاه، وعلى هَذَا فالحديث شاذّ، أو منكر، كما قَالَ أبو داود، وغريبٌ، كما قَالَ الترمذيّ.
[فإن قيل]: فغاية ما ذُكر فِي تعليله تفرّد همّام به؟. [وجواب هَذَا]: منْ وجهين: أحدهما: أن همّاماً لم ينفرد به، كما تقدّم. الثاني: أن هَمَّامًا ثقة، وتفرّد الثقة لا يوجب نكارة الْحَدِيث، فقد تفرّد عبد الله بن دينار بحديث النهي عن بيع الولاء وهبته، وتفرّد مالك بحديث دخول النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة، وعلى رأسه المِغفَر، فهذا غايته أن يكون غريبًا، كما قَالَ الترمذيّ، وأما أن يكون منكرًا، أو شاذًّا فلا.
[قيل]: التفرّد نوعان: تفرّد لم يُخالف فيه منْ تفرّد به، كتفرّد مالك، وعبد الله بن دينار بهذين الحديثين، وأشباه ذلك. وتفرّد خولف فيه المتفرّد، كتفرّد همام بهذا المتن عَلَى هَذَا الإسناد، فإن النَّاس خالفوه فيه، وقالوا: "إن النبيّ صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً منْ ورق
…
" الْحَدِيث، فهذا هو المعروف، عن ابن جريج، عن الزهريّ، فلو لم يرو هَذَا عن ابن جريج، وتفرّد همام بحديثه لكان نظير حديث عبد الله بن دينار، ونحوه، فينبغي مراعاة هَذَا الفرق، وعدم إهماله.
وأما متابعة يحيى بن المتوكل، فضعيفة، وحديث ابن الضّريس يُنظر فِي حاله، ومن أخرجه.
[فإن قيل]: هَذَا الْحَدِيث كَانَ عند الزهريّ عَلَى وجوه كثيرة، كلّها قد رُويت عنه فِي قصّة الخاتم، فروى شعيب بن أبي حمزة، وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن الزهريّ كرواية زياد بن سعد هذه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اتّخذ خاتمًا منْ ورق"، ورواه يونس بن يزيد، عن الزهريّ، عن أنس:"كَانَ خاتم النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ ورِق فصّه حبشيّ"، ورواه سليمان بن بلال، وطلحة بن يحيى، ويحيى ين نصر بن حاجب، عن يونس، عن الزهريّ، وقالوا:"إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لبس خاتماً منْ فضّة فِي يمينه، فيه فصّ حبشيّ، جعله فِي باطن كفّه"، ورواه إبراهيم بن سعد، عن الزهريّ بلفظ آخر قريب منْ هَذَا، ورواه
همام، عن ابن جريج، عن الزهريّ، كما ذكره الترمذيّ، وصححه، وإذا كانت هذه الروايات كلّها عند الزهريّ، فالظاهر أنه حدّث بها فِي أوقات، فما الموجب لتغليط همّام وحده؟.
[قيل]: هذه الروايات كلّها تدلّ عَلَى غلط همام، فإنها مجمعة عَلَى أن الْحَدِيث إنما هو فِي اتخاذ الخاتم، ولبسه، وليس فِي شيء منها نزعه إذا دخل الخلاء، فهذا هو الذي حكم لأجله هؤلاء الحفّاظ بنكارة الْحَدِيث، وشذوذه، والمصحّح له لما لم يمكنه دفع هذه العلة حكم بغرابته لأجلها، فلو لم يكن مخالفًا لرواية منْ ذكرنا، فما وجه غرابته؟ ولعلّ الترمذيّ موافقٌ للجماعة، فإنه صحّحه منْ جهة السند لثقة الرواة، واستغربه لهذه العلّة، وهي التي منعت أبا داود منْ تصحيح متنه، فلا يكون بينهما اختلاف، بل هو صحيح السند، لكنه معلول. والله أعلم. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "صحيح السند" فيه نظر؛ إذ فيه عنعنة ابن جريج، وهو مدلّس، فلا يكون السند صحيحًا، بل هو رجاله ثقات، فتبّه.
والحاصل أن الْحَدِيث برواية همّام غير صحيح؛ لما سمعته منْ العلّة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه: أخرجه هنا- (د) فِي "الطهارة" 19 (ت) فِي "اللباس" 1746 (ق) فِي "الطهارة"303.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان استحباب نزع الخاتم عند دخول الخلاء، وَقَدْ عرفت أن الْحَدِيث ضعيف، قَالَ فِي "المنهل العذب المورود": دلّ الْحَدِيث عَلَى أنه يُندب لمن يريد التبرّز أن يُنحّي عنه كلّ ما عليه معظّم منْ اسم الله تعالى، أو اسم نبيّ، أو ملك، وبهذا قالت الحنفيّة، والمالكيّة، والشافعيّة، والحنابلة، فإن خالف كره له ذلك، إلا لحاجة، كَأن يخاف عليه الضياع، وهذا فِي غير القرآن، أما فِي القرآن، فقالوا يحرُم استصحابه فِي تلك الحالة كلاً أو بعضاً، إلا إن خيف عليه الضياع، أو كَانَ حرزاً، فله استصحابه، ويجب ستره حينئذ، إن أمكن. انتهى. (ومنها): مشروعيّة اتخاذ الخاتم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5216 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْمُعْتَمِرُ، قَالَ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، وَجَعَلَ فَصَّهُ مِنْ
قِبَلِ كَفِّهِ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ الذَّهَبِ، فَأَلْقَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمَهُ، وَقَالَ:"لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا"، وَأَلْقَى النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: أحاديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما المذكورة فِي هَذَا الباب ليست مناسبة للترجمة، وسيأتي ذكر بعض أحاديثه فِي الباب 81 "طرح الخاتم، وترك لبسه"، وَقَدْ أجاد فِي "الكبرى"، حيث أوردهاهنا تحت ترجمة 73:"ذكرُ اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر نافع، عن ابن عمر فِي خاتم الذهب"، فكان الأولى له أن يصنع كما صنع فِي "الكبرى"، والله تعالى أعلم.
ورجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"إسحاق بن إبراهيم": هو ابن راهويه. و"المعتمر": هو ابن سليمان التيميّ. و"عبيد الله": هو ابن عمر العمريّ.
وقوله: "فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم" هَذَا أول تحريم لبس خاتم الذهب للرجال.
والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي 43/ 5166 ومضى شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5217 -
(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، وَجَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي كَفَّهُ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ، فَطَرَحَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: "لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده، وهو بصريّ ثقة. و"خالد": هو ابن الحارث الهُجيميّ البصريّ.
والحديث متَّفقٌ عليه، كما سبق بيانه فيما قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5218 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، تَخَتَّمَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، ثُمَّ طَرَحَهُ، وَلَبِسَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ، وَنَقَشَ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَقَالَ: "لَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَنْقُشَ عَلَى نَقْشِ خَاتَمِي هَذَا"، ثُمَّ جَعَلَ فَصَّهُ فِي بَطْنِ كَفِّهِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه تفرّد به هو وابن ماجه، وهو أبو يحيى المكيّ الثقة [10]. و"سفيان": هو ابن عيينة.
والحديث أخرجه مسلم، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع
والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5219 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَبِسَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا رَآهُ أَصْحَابُهُ، فَشَتْ خَوَاتِيمُ الذَّهَبِ، فَرَمَى بِهِ، فَلَا نَدْرِي مَا فَعَلَ، ثُمَّ أَمَرَ بِخَاتَمٍ مِنْ فِضَّةٍ، فَأَمَرَ أَنْ يُنْقَشَ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَكَانَ فِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى مَاتَ، وَفِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى مَاتَ، وَفِي يَدِ عُمَرَ حَتَّى مَاتَ، وَفِي يَدِ عُثْمَانَ سِتَّ سِنِينَ مِنْ عَمَلِهِ، فَلَمَّا كَثُرَتْ عَلَيْهِ الْكُتُبُ دَفَعَهُ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَكَانَ يَخْتِمُ بِهِ، فَخَرَجَ الأَنْصَارِيُّ إِلَى قَلِيبٍ لِعُثْمَانَ، فَسَقَطَ، فَالْتُمِسَ، فَلَمْ يُوجَدْ، فَأَمَرَ بِخَاتَمٍ مِثْلِهِ، وَنَقَشَ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ).
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(محمد بن معمر) القيسيّ البحرانيّ البصريّ، صدوقٌ، منْ كبار [11] 5/ 1829.
2 -
(أبو عاصم) الضحّاك بن مخلد بن الضحاك الشيبانيّ النبيل البصريّ، ثقة ثبت [9] 19/ 424.
3 -
(المغيرة بن زياد) البجليّ، أبو هشام الموصليّ، صدوقٌ له أوهام [6] 66/ 1794 منْ رجال الأربعة.
[تنبيه]: وقع فِي النسخ المطبوعة منْ "المجتبى""المعمر" بدل "المغيرة"، وهو تصحيف فاحش، والصواب، كما فِي النسخة "الهنديّة"، و"الكبرى" 5/ 457 و"تحفة الأشراف" 6/ 233 "المغيرة"، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
4 -
(نافع) العدوي؛ مولى ابن عمر المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 12/ 12.
5 -
(ابن عمر) عبد الله رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الستّة بلا واسطة، كما سبق بيان ذلك غير مرّة. (ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أحد المكثرين السبعة، والعبادلة الأربعة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَبِسَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا رَآهُ أَصْحَابُهُ، فَشَتْ) أي انتشرت، يقال: فشا الشيء يفشُو
فُشُوّا، منْ باب قعد: ظهر، وانتشر (خَوَاتِيمُ الذَّهَبِ) يعني أن الصحابة رضي الله عنهم لما رأوا النبيّ صلى الله عليه وسلم لبس خاتم الذهب اقتدوا به فيه، وهذا يدلّ عَلَى مبادرتهم رضي الله عنهم إلى متابعته صلى الله عليه وسلم فِي كلّ ما يفعله، حَتَّى يتبيّن لهم اختصاصه به (فَرَمَى بِهِ) أي لأنه أُوحي إليه بتحريم لبسه (فَلَا نَدْرِي مَا فَعَلَ) أي لا نعلم أيَّ شيء فعل بذلك الخاتم الذي رمى به (ثُمَّ أَمَرَ بِخَاتَمٍ) أي بصنع خاتم (مِنْ فِضَّةٍ) بدل الذهب المرميّ (فَأَمَرَ أَنْ يُنْقَشَ فِيهِ) بالبناء للمفعول، وقوله (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) نائب الفاعل، محكي لقصد لفظه (وَكَانَ) ذلك الخاتم (فِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى مَاتَ وَفِي يَدِ أَبِى بَكْرٍ) الصديق رضي الله عنه فِي أيام خلافته (حَتَّى مَاتَ) هَذَا دليلٌ عَلَى أن ماله صلى الله عليه وسلم ليس بموروث، بل يتنتفع به المسلمون، فلخليفته أن ينتفع منه بقدر حاجته (وفِي يَدِ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنه فِي أيام خلافته (حَتَّى مَاتَ، وفِي يَدِ عُثْمَانَ) بن عفّان رضي الله عنه (سِتَّ سِنِينَ مِنْ عَمَلِهِ) أراد به عمل الخلافة (فَلَمَّا كَثُرَتْ عَلَيْهِ الْكُتُبُ) أي الكتب المحتاجة إلى الختم (دَفَعَهُ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ) أي ليساعده فِي الختم (فَكَانَ) الأنصاريّ يَخْتِمُ بِهِ (فَخَرَجَ الأَنْصَارِيُّ إِلَى قَلِيبٍ) بفتح القاف، وكسر اللام: هي البئر، وهو مذكّر، قَالَ الأزهريّ: القليب عند العرب: البئر العاديّة القديمة، مطويّةً كانت، أو غير مطويّة، والجمع قُلُبٌ، مثلُ برِيد وبُرُد (لِعُثْمَان) متعلّق بصفة لـ"قليب"(فَسَقَطَ) أي ذلك الخاتم فِي ذلك البئر، قيل: ثم انتقض عليه الأمر، وكان ذلك مبدأ الفتنة إلى قيام الساعة، ومنه أخذ أن خاتمه صلى الله عليه وسلم كَانَ فيه سرّ غريب، كخاتم سليمان عليه الصلاة والسلام، والله تعالى أعلم. قاله السنديّ (فَالْتُمِسَ) بالبناء للمفعول: أي طُلب (فَلَمْ يُوجَدْ، فَأَمَرَ بِخَاتَمٍ مِثْلِهِ) أي أمر عثمان رضي الله عنه بصنع خاتم مثل خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَنَقَشَ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) عطف عَلَى مقدّر: أي فصُنع له، ونقش عليه هذه الجملة؛ اقتداء. قَالَ السيوطيّ رحمه الله تعالى فِي "حاشية أبي داود": كأنه فَهِم أن النهي مخصوص بحياته صلى الله عليه وسلم؛ لزوال المحذور، وهو وقوع الاشتراك، ونظره قول منْ خصّص النهي عن التكنّي بكنيته أيضاً، والمختار فِي الحديثين إطلاق النهي. قَالَ السنديّ: والظاهر أنه فهِم خصوصه مدّة بقاء الخاتم، والأقرب أنه فهم منْ النهي أن المقصود به أن لا تتعدّد الخواتم عَلَى نقش واحد فيما إذا كَانَ الخاتم مقصوداً صونُ نقشه عن الاشتراك، كخواتم الحكام، والأظهر منه أنه فهِم الإطلاق إلا أنه رأى أن خاتمه الجديد نائب عن الخاتم القديم، وللنائب حكم الأصل، فنَقْلُ نقشه إليه لا يُخلّ بإطلاق النهي. والله تعالى أعلم. انتهى "شرح السنديّ" 8/ 179 - 180.
[تنبيه]: هذه الرواية تخالف ما سيأتي له منْ طريق محمد بن بشر، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قَالَ: اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاتما منْ ذهب، وجعل فصه مما يلي
بطن كفه، فاتخذ النَّاس الخواتيم، فألقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"لا ألبسه أبدا"، ثم اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاتما منْ ورق، فأدخله فِي يده، ثم كَانَ فِي يد أبي بكر، ثم كَانَ فِي يد عمر، ثم كَانَ فِي يد عثمان، حَتَّى هلك فِي بئر أريس.
ولفظ البخاريّ منْ طريق أبي أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اتخذ خاتما منْ ذهب، أو فضة، وجعل فصه مما يلي كفه، ونقش فيه محمد رسول الله، فاتخذ النَّاس مثده، فلما رآهم قد اتخذوها، رمى به، وَقَالَ:"لا ألبسه أبدا"، ثم اتخذ خاتما منْ فضة، فاتخذ النَّاس خواتيم الفضة، قَالَ ابن عمر: فلبس الخاتم بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، حَتَّى وقع منْ عثمان فِي بئر أريس.
وفي حديث أنس رضي الله عنه عند البخاريّ منْ طريق ثمامة بن عبد الله، عن أنس، أن أبا بكر رضي الله عنه، لما استُخلف كتب له، وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر:"محمد" سطر، و"رسول" سطر و"الله" سطر، وفي رواية أخرى: قَالَ: كَانَ خاتم النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي يده، وفي يد أبي بكر بعده، وفي يد عمر بعد أبي بكر، فلما كَانَ عثمان جلس عَلَى بئر أريس
(1)
، قَالَ: فأخرج الخاتم، فجعل يعبث به، فسقط، قَالَ فاختلفنا ثلاثة أيام مع عثمان، فنزح البئر، فلم يجده.
وفي رواية لمسلم منْ طريق أيوب بن موسى، عن نافع، نحو حديث عبيد الله بن عمر الماضية، وزاد:"وهو الذي سقط منْ مُعيقيب فِي بئر أريس".
فقد اختلفت الروايات، فرواية المصنّف تدلّ فِي كون الخاتم سقط منْ يد الأنصاريّ فِي بئر عثمان، ورواية الشيخين تدلّ عَلَى أنه سقط منْ يد عثمان رضي الله عنه نفسه فِي بئر أريس، ورواية مسلم تدلّ عَلَى أنه سقط منْ يد مُعيقيب فِي بئر أريس.
ويمكن أن يجمع بينها بأن نسبة السقوط إلى عثمان مجازيّة، أو بالعكس، أو أن عثمان طلبه منْ معيقيب، فختم به شيئًا، واستمرّ فِي يده، وهو مفكّر فِي شيء، يعبث به، فسقط فِي البئر، أو ردّه إليه، فسقط منه، والأول هو الموافق لحديث أنس. أفاده فِي "الفتح" 11/ 505.
وأما الذي وقع فِي رواية المصنّف بأن عثمان رضي الله عنه دفعه إلى رجل منْ الأنصار، فسقط منْ يد الأنصاريّ فِي بئر عثمان رضي الله عنه فالظاهر أنها غير محفوظة؛ لمخالفة المغيرة ابن زياد فيها لعبيد الله بن عمر، وهو منْ أثبت النَّاس فِي نافع، وأما المغيرة، فتقدّم أنه
(1)
"بئر أريس": بوزن أمير: بئر بالمدينة النبويّة عَلَى صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحية.
صدوقٌ له أوهام، فالظاهر أن هَذَا منْ أوهامه، وأيضًا إن رواية عبيد الله موافقة لحديث أنس رضي الله عنه، كما سبق.
[فإن قلت]: ألا يمكن الجمع بحمل الأنصاريّ عَلَى أنه معيقيب، وبئر عثمان عَلَى أنها بئر أريس؟:
[قلت]: هَذَا غير صحيح، لأن معيقيباً مهاجريّ، منْ السابقين الأولين الذين هاجروا إلى الحبشة، وليس أنصاريًّا، وبئر أريس لم أر منْ قَالَ: إنها لعثمان رضي الله عنه، بل هي بئر معروفة قريبة منْ قباء.
والحاصل أن المحفوظ فِي القصّة هو الذي فِي رواية عبيد الله بن عمر، فتبصّر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا حديث صحيح إلا قصّة دفع الخاتم للرجل الأنصاريّ، فإنه غير صحيح؛ لمخالفة المغيرة بن زياد عبيد الله بن عمر، كما سبق آنفاً. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -53/ 5219 - وفي "الكبرى" 73/ 9550 وأخرجه (د)4220. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5220 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، وَكَانَ فَصُّهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ، فَطَرَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَطَرَحَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ، وَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، فَكَانَ يَخْتِمُ بِهِ، وَلَا يَلْبَسُهُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"أبو عوانة": هو الوضّاح بن عبد الله اليشكريّ. و"أبو بشر": هو جعفر بن أبي وَحْشية/ إياس.
قوله: "ولا يلبسه": هذه الزيادة غير صحيحة، لأن الأحاديث الصحيحة السابقة فيها أنه صلى الله عليه وسلم كَانَ يلبسه، ويجعل فصّه فِي باطن كفّه. والله تعالى أعلم.
والحديث صحيحٌ، أخرجه المصنّف هنا -53/ 5220 و81/ 5294 - وفي "الكبرى" 73/ 9551. وأخرجه الترمذيّ فِي "الشمائل" 83. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
54 - (الْجَلَاجِلِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هو جمع جُلْجُل -بضم الجيمين، بينهما لام ساكنة-: الْجَرَسُ الصغير. أفاده فِي "القاموس". والله تعالى أعلم بالصواب.
5221 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي صَفْوَانَ الثَّقَفِيُّ، مِنْ وَلَدِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْوَزِيرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ الْجُمَحِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْخٍ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ سَالِمٍ، فَمَرَّ بِنَا رَكْبٌ لأُمِّ الْبَنِينَ، مَعَهُمْ أَجْرَاسٌ، فَحَدَّثَ نَافِعًا سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رَكْبًا، مَعَهُمْ جُلْجُلٌ"، كَمْ تَرَى مَعَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْجُلْجُلِ؟).
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي صَفْوَانَ) بن مروان بن عثمان بن أبي العاص الثقفيّ، أبو عبد الله، وقيل: أبو صفوان البصريّ، وقيل: محمد بن أبي صفوان عثمان بن عمر، وقيل: ابن عمرو بن صَفوان بن عبد الله بن عثمان بن أبي العاص
(1)
، ثقة [11] 10/ 468.
[تنبيه]: قوله: "مِنْ وَلَدِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ": أي إن محمد بن عثمان هَذَا منْ أحفاد الصحابيّ الجليل عثمان بن أبي العاص رضي الله تعالى عنه، كما أسلفنا نسبه آنفاً.
و"عثمان بن أبي العاص": هو الصحابيّ الشهير، أبو عبد الله الثقفيّ الطائفيّ، استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى الطائف، ومات رضي الله عنه فِي خلافة معاوية رضي الله عنه بالبصرة.
2 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْوَزِيرِ) هو إبراهيم بن عمر بن مطرّف الهاشميّ مولاهم، أبو إسحاق ابن أبي الوزير المكيّ، نزيل البصرة، صدوقٌ [9] 1/ 1600.
3 -
(نافع بن عمر الْجُمَحيّ) المكيّ، ثقة ثبت، منْ كبار [7] 21/ 1498.
4 -
(أبو بكر بن أبي شيخ) السهميّ، ويقال له: بُكير بن موسى، مقبول [7].
(1)
قاله فِي "تهذيب الكمال" 26/ 85 - 86.
رَوَى عن سالم بن عبد الله بن عمر، وروى عنه نافع بن عمر الْجُمَحيّ. تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط، كرّره فِي هَذَا الباب ثلاث مرّات.
5 -
(سالم) بن عبد الله بن عمر العدويّ المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 23/ 490.
6 -
(أبوه) عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْخٍ) هو بُكير بن موسى الآتي بعد الْحَدِيث التالي، أنه (قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ سَالِمٍ) أي ابن عبد الله (فَمَرَّ بِنَا رَكْبٌ) بفتح، فسكون: جمع راكب، كصحب وصاحب، ويُجمع أيضًا عَلَى رُكبان (لأُمِّ الْبَنِينَ) وفي نسخة:"لأم القيس"، ولم يتبيّن لي المراد منه (مَعَهُمْ أَجْرَاسٌ) بفتح الهمزة: جمع جرس بفتحتين، وهو ما يُعلّق بعنق الدابّة، أو برجل البازي، والصبيان.
وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: الجرس: ما يُعلّق فِي أعناق الإبل مما له صلصة، والذي يُضرب به، وهو بفتح الراء، وأما الجَرْس -أي بفتح، فسكون-: فهو الصوت الخفيّ، يقال: بفتح الجيم، وكسرها. انتهى "المفهم" 5/ 434.
وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: الجرس بفتح الراء، وهو معروفٌ، هكذا ضبطه الجمهور، ونقل القاضي أن هذه رواية الأكثرين، قَالَ: وضبطناه عن أبي بحر بإسكان، وهو اسم للصوت، فأصل الجرْس بالإسكان: الصوت الخفي. انتهى "شرح مسلم" 14/ 94 - 95.
(فَحَدَّثَ نَافِعًا) الظاهر أنه مولى ابن عمر، ويبعد أن يكون نافع بن عمر الراوي عن أبي بكر. (سَالِمٌ) بالرفع فاعل مؤخر (عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ) قَالَ النوويّ: المراد بالملائكة ملائكة الرحمة، والاستغفار، لا الحفظة. انتهى (رَكْبًا) أي جماعة (مَعَهُمْ جُلْجُلٌ) تقدّم أول الباب ضبطه، ومعناه، قيل: إنما كرهه؛ لأنه يدلّ عَلَى أصحابه بصوته، وكان صلى الله عليه وسلم يحبّ أن لا يعلم العدوّ به، حَتَّى يأتيهم فَجْأَةً، وقيل: غير ذلك.
قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: وفيه ما يدلّ عَلَى كراهة اتخاذ الأجراس فِي الأسفار، وهو قول مالك، وغيره. قَالَ: وينبغي أن لا تُقصر الكراهة عَلَى الأسفار، بل هي مكروهة فِي الحضر أيضًا، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"الجرس مزامير الشيطان"، رواه مسلم. ومزامير الشيطان مكروهة سفرًا وحضرًا، ثم هَذَا يعمّ الكبير، والصغير منها، وَقَدْ فرّق بعض الشاميين، فأجازوا الصغير، ومنعوا الكبير، ووجه الفرق أن الكبير به يقع
التشويش عَلَى النَّاس، وبه تحصل المشابهة بالنصارى، فإنهم يستعملون النواقيس فِي سفرهم، وحضرهم. انتهى "المفهم" 5/ 435.
وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: وأما الجرَسُ، فقيل: سبب منافرة الملائكة له أنه شبيه بالنواقيس، أو لأنه منْ المعاليق المنهيّ عنها. وقيل: سببه كراهة صوتها، ويؤيده رواية:"مزامير الشيطان"، وهذا الذي ذكرناه منْ كراهة الجرس عَلَى الإطلاق، هو مذهبنا، ومذهب مالك، وآخرين، وهي كراهة تنزيه. وَقَالَ جماعة منْ متقدّمي علماء الشام: يكره الجرس الكبير، دون الصغير. انتهى "شرح مسلم" 14/ 95.
(كَمْ) استفهامية، والاستفهام إنكاريّ (تَرَى) بالبناء للفاعل (مَعَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْجُلْجُلِ؟) الظاهر أن هَذَا الكلام ذكره لتأكيد الإنكار عليهم، فكأنه يقول: إذا كانت الملائكة لا تصحب ركبًا معهم جلجلٌ واحد، فما بالك بأكثر منه، وهؤلاء معهم أكثر منْ واحد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح.
[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده أبو بكر بن أبي شيخ، وهو مجهول؛ لأنه لم يرو عنه غير نافع بن عمر الجمحيّ، ولم يوثّقه أحد؟.
[قلت]: إنما صحّ لشواهده، فقد جاء منْ حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا، أخرجه مسلم 2113، ومن حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها مرفوعا أيضاً الآتي فِي هَذَا الباب، ومن حديث أم حبيبة رضي الله تعالى عنها مرفوعا أيضًا عند أحمد 6/ 326، وأبي داود 2554، وغيرهما، والحاصل أن الْحَدِيث صحيح؛ لما ذكر.
وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -54/ 5221 و5222 و5223 - وفي "الكبرى" 74/ 9553 و9554 و9555. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5222 -
(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلاَّمٍ الطَّرَسُوسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ الْجُمَحِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُوسَى، قَالَ: كُنْتُ مَعَ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَحَدَّثَ سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا جُلْجُلٌ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلاَّمٍ -بتشديد اللام-": هو أبو القاسم، مولى بني هاشم، البغداديّ، ثم الطَّرَسُوسي، لا بأس به [11] 172/ 1141 منْ أفراد المصنّف.
[تنبيه]: قوله: "الطرسوسيّ" -بفتح الطاء المهملة، والراء، وضم السين المهملة الأولى-: نسبة إلى طَرَسُوس مدينة بناحية الروم. أفاده فِي "لبّ اللباب" 2/ 90.
وقوله: "رُفقة" -بضم الراء، وكسرها، مع سكون الفاء: جماعة تُرافقهم فِي سفرك، فإذا تفرّقتم زال اسم الرّفقة، وهي بضمّ الراء فِي لغة بني تميم، والجمع رِفاقٌ، مثلُ بُرْمة وبِرام، وكسرها فِي لغة بني قيس، والجمع رِفَقٌ، مثلُ سِدْرة وسِدَر. أفاده فِي "المصباح".
والحديث صحيح، كما سبق بيانه فيما قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5223 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ مُوسَى، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ رَفَعَهُ، قَالَ: "لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا جُلْجُلٌ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ": هو أبو جعفر الْمُخَرِّميّ البغداديّ الثقة الحافظ [11]. و"أبو هشام المخزوميّ": هو المغيرة بن سلمة البصريّ الثقة الثبت، منْ صغار [9]. و"بُكير بن موسى": هو أبو بكر بن أبي شيخ المذكور قبل حديث.
والحديث صحيح، كما سبق بيانه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5224 -
(أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مُسَلَّمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بَابَيْهِ، مَوْلَى آلِ نَوْفَلٍ، أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ جُلْجُلٌ، وَلَا جَرَسٌ، وَلَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا جَرَسٌ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "يُوسُفُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مُسَلَّمٍ": هو المِصِّيصيّ الثقة الحافظ [11] منْ أفراد المصنّف. و"حجاج": هو ابن محمد الأعور المصّيصيّ الحافظ الثبت [9].
و"سليمان بن بابيه، مَوْلَى آلِ نَوْفَلٍ" المكيّ، مقبول [4].
رَوَى عن أم سلمة، وعنه ابن جُريج، ذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.
[تنبيه]: قَالَ المصنّف رحمه الله تعالى فِي "الكبرى" 5/ 459 رقم 9556: قَالَ أبو عبد الرحمن: سليمان بن بابيه أقدم شيخ، سمع منْ ابن جُريج منْ أهل مكّة. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا نسخة "الكبرى": "منْ ابن جريج"، والظاهر أن هَذَا غلطٌ، والصواب "منه ابن جُريج"؛ لأن ابن جريج تلميذ له، لا العكس، فتأمّل. والله تعالى أعلم.
وقوله: "جُلُجلٌ، ولا جرسٌ": ظاهر العطف يقتضي المغايرة، وَقَدْ تقدّم عن "القاموس" أن الجُلْجُل: هو الجرس الصغير، وعلى هَذَا فيكون الجرس هو الكبير. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
والحديث حسنٌ؛ لشواهده، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -54/ 5224 - وفي "الكبرى" 74/ 9556. وأخرجه (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 26230. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
5225 -
(أَخْبَرَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَآنِي رَثَّ الثِّيَابِ، فَقَالَ: "أَلَكَ مَالٌ؟ "، قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مِنْ كُلِّ الْمَالِ، قَالَ: "فَإِذَا آتَاكَ اللَّهُ مَالاً، فَلْيُرَ أَثَرُهُ عَلَيْكَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أبي الأحوص عن أبيه هَذَا لم يظهر لي وجه إيراد المصنّف له فِي هَذَا الباب؛ إذ لا مناسبة له به، فكان الأولى له أن يترجم له بترجمة مناسبة له، وسنعيده بعد نحو (26) بابًا تحت ترجمة "ذكرُ ما يستحب منْ لبس الثياب، وما يكره منها".
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(أبو كُريب محمد بن العلاء) الهمدانيّ الكوفيّ، ثقة حافظ [10] 95/ 117.
2 -
(أبو بكر بن عيّاش) الأسديّ الكوفيّ المقريء الحنّاط، مشهور بكنيته، والأصحّ أنها اسمه، وقيل: اسمه محمد، أو عبد الله، أو سالم، أو شعبة، أو غير ذلك، ثقة عابدٌ، إلا أنه لَمّا كبر ساء حفظه، وكتابه صحيح [7] 98/ 127.
3 -
(أبو إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعيّ الهمدانيّ الكوفيّ المشهور، ثقة عابد، إلا أنه اختلط بآخره [3] 38/ 42.
4 -
(أبو الأحوص) عوف بن مالك بن نَضْلة الكوفيّ، مشهور بكنيته، ثقة [3] 50/ 849.
5 -
(أبوه) مالك بن نَضْلة -بفتح النون، وسكون الضاد المعجمة- ويقال: ابن عوف الجُشميّ صحابيّ قليل الْحَدِيث، تقدّمت ترجمته فِي 16/ 3815. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير الصحابيّ، فإنه منْ رجال الأربعة. (ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، كما سبق غير مرّة. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ) عوف مالك (عَنْ أَبِيهِ) مالك بن نضّلة رضي الله عنه، أنه (قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَآنِي رَثَّ الثِّيَابِ) بفتح الراء، وتشديد الثاء المثلّثة: أي خَسيس الثياب خَلَقَها، قَالَ الفيّوميّ: رَثَّ الشيءُ يرُثّ، منْ باب قرُب رُثُوثةً، ورَثاثةً: خَلُق، فهو رَثٌّ، وأرثّ بالألف مثله، ورَثّت هيئة الشخص، وأرثّت: ضعُفت، وهانت، وجمع الرّثّ رِثَاثٌ، مثلُ سَهْم وسِهَام. انتهى. وفي "الصحاح"، و"القاموس" ما يفيد أن فعله منْ باب ضرب، وفي "اللسان": ما يُفيد أنه بالوجهين، وعبارته: الرّثّ، والرّثّةُ، والرَّثِيث: الْخَلَقُ الخسيسُ البالي منْ كلّ شيء، تقول ثوبٌ رَثٌّ، وحبلٌ رَثٌّ، ورجلٌ رثّ الهيئة فِي لُبسه، وأكثر ما يُستعمل فيما يُلبس، والجمع رِثَاثٌ، وَقَدْ رثّ الحبلُ وغيرُهُ يَرِثّ -أي منْ باب ضرب-، ويرُثّ -أي منْ باب نصر- رَثَاثةً، ورُثُوثةً، وأرثّ، وأرثّه البلى، قَالَ: ورجلٌ رثّ الهيئة: خَلَقُها، باذّها، قَالَ: والرثّ، والرثّة جميعاً رديء المتاع، وأسقاطُ البيت منْ الْخُلْقَان. انتهى باختصار.
وفي الرواية التالية: "أنه أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي ثوب دُون".
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَلَكَ مَالٌ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مِنْ كُلِّ الْمَالِ) أي لي منْ كلّ أنواع المال المتعارفة فِي ذلك الوقت شيء كثير. وزاد فِي الرواية التالية: قَالَ: منْ أي المال؟، قَالَ: قد آتاني الله منْ الإبل، والغنم، والخيل، والرقيق" (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَإِذَا آتَاكَ) بالمد كأعطاك وزنًا ومعنًى (اللَّهُ مَالاً، فَلْيُرَ) بالبناء للمفعول (أَثَرُهُ عَلَيْكَ") وفي الرواية التالية: "فليُر عليك أثر نعمة الله، وكرامته". والمعنى أي البَسْ ثوبا جديدًا جيّدًا؛ ليعرف النَّاس أنك غنيّ، وليقصدك المحتاجون لطلب الزكاة، والصدقات. قيل: هَذَا فِي تحسين الثياب بالتنظيف، والتجديد عند الإمكان، منْ غير أن يُبالغ فِي النعامة والرقّة، حَتَّى لا يقع فِي لبس ثياب الشهرة.
وفي رواية منْ طريق شعبة، عن أبي إسحاق، قَالَ: سمعت أبا الأحوص يحدث عن أبيه، قَالَ: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا قَشِفُ الهيئة، فَقَالَ:"هل لك مال؟ " قَالَ: قلت: نعم، قَالَ:"منْ أيّ المال؟ " قَالَ: قلت: منْ كل المال، منْ الإبل، والرقيق، والخيل،
والغنم، فَقَالَ:"إذا آتاك الله مالا، فليُرَ عليك"، ثم قَالَ: "هل تُنتَجُ إبل قومك صِحاحا آذانها، فتَعمِد إلى مُوسى، فتقطِع آذانها، فتقول: هذه بُحُرٌ
(1)
، وتشقها، أو تشق جلودها، وتقول: هذه صُرُم، وتُحَرِّمها عليك، وعلى أهلك؟ " قَالَ: نعم، قَالَ:"فإن ما آتاك الله عز وجل لك، وساعِدُ الله أَشَدُّ، ومُوسى الله أَحَدُّ"، وربما قَالَ:"ساعد الله أشدّ منْ ساعدك، وموسى الله أحدّ منْ موساك"، قَالَ: فقلت: يا رسول الله، أرأيت رجلا نزلت به، فلم يُكرمني، ولم يَقرِني، ثم نزل بي أجزيه بما صنع، أم أقْرِيه؟ قَالَ:"اقْرِهِ".
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث مالك بن نضْلَة رضي الله عنه هَذَا صحيح.
[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه أبو إسحاق السبيعيّ، وهو مدلّس، وَقَدْ عنعنه، وهو مختلط بآخره؟.
[قلت]: أما تدليسه، فقد صرّح بالسماع منْ أبي الأحوص فِي رواية أحمد المتقدّمة، وأما اختلاطه، فقد رواه شعبة عنه، وهو ممن رَوَى عنه قبل الاختلاط
(2)
. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -54/ 5225 و5226 و82/ 5296 - وفي "الكبرى" 74/ 9557 و9558 و9559. (د) فِي "اللباس" 4063 (أحمد) فى "مسند المكيين" 15457 و"مسند الشاميين" 16777.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): أنه يستحبّ لبس الثياب النظيفة، والجديدة، والجيّدة؛ لما فيه منْ إظهار نعم الله تعالى عَلَى العبد، ويحصل به أيضاً التوصّل إلى المطالب الدينيّة، منْ أمر بمعروف، أو نهي عن منكر عند منْ لا يلتفت إلا إلى ذوي الهيئات، كما هو الغالب عَلَى عوامّ زماننا، بل وعلى بعض خواصّه.
(1)
بضمتين: جمع بحيرة.
(2)
راجع "شرح علل الترمذيّ" للحافظ ابن رَجَب ص 291 - 293 بتحقيق صبحي السامرّائي.
وينبغي أن يقصد بذلك إظهار نعمة الله تعالى عليه، والتوصّل إلى المقصد المذكور، ولا يلبسه للتكبّر، والخيلاء، فإن ذلك محرّم، ويجتب أيضًا لبس الشهرة، حَتَّى لا يدخل فِي الوعيد الذي ورد فيمن لبس ثوب الشهرة، فقد أخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه بإسناد حسن، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منْ لبس ثوب شهرة، ألبسه الله تبارك وتعالى ثوب مذلة يوم القيامة".
قَالَ الشوكانيّ رحمه الله تعالى فِي شرح هَذَا الْحَدِيث: والحديث يدلّ عَلَى تحريم لبس ثوب الشهرة، وليس هَذَا الْحَدِيث مختصاً بنفيس الثياب، بل قد يحصل ذلك لمن يلبس ثوباً يخالف ملبوس النَّاس منْ الفقراء؛ ليراه النَّاس، فيتعجّبوا منْ لباسه، ويعتقدوه. قاله ابن رسلان. وإذا كَانَ اللبس لقصد الاشتهار فِي النَّاس، فلا فرق بين رفيع الثياب ووضيعها، والموافق لملبوس النَّاس والمخالف؛ لأن التحريم يدور مع الاشتهار، والمعتبر القصد، وأن يطابق الواقع. انتهى "نيل الأوطار" 2/ 207. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5226 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فِي ثَوْبٍ دُونٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَلَكَ مَالٌ؟ "، قَالَ: نَعَمْ مِنْ كُلِّ الْمَالِ، قَالَ: "مِنْ أَيِّ الْمَالِ؟ "، قَالَ قَدْ آتَانِيَ اللَّهُ مِنَ الإِبِلِ، وَالْغَنَمِ، وَالْخَيْلِ، وَالرَّقِيقِ، قَالَ: "فَإِذَا آتَاكَ اللَّهُ مَالاً، فَلْيُرَ عَلَيْكَ أَثَرُ نِعْمَةِ اللَّهِ، وَكَرَامَتِهِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أحمد بن سليمان": أبو الحسين الرُّهاويّ الثقة الحافظ منْ أفراد المصنّف. و"أبو نعيم": هو الضحّاك بن مخلد. و"زُهير": هو ابن معاوية بن حُديج.
وقوله: "دُون" -بضم الدال المهملة-: أي خسيس.
وقوله: "فلير": هكذا النسخ، بحذف الألف للجازم، لكن ذكر السنديّ أنه وقع نسخته بلفظ:"فليرى" بإثباتها، قَالَ: كأنه للإشباع، أو معاملة المعتلّ معاملة الصحيح. انتهى.
وقوله: "وكرامته": فيه أن المال كرامة منْ الله تعالى لعبده، لكن إذا صرفه فِي مصارفه التي أمر الله أن يُصرف فيها، فأما إذا خالف ذلك، فيكون فتنة وعذاباً، كما قَالَ الله عز وجل:{فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
55 - (ذِكْرِ الْفِطْرَةِ)
5227 -
(أَخْبَرَنَا ابْنُ السُّنِّيِّ قِرَاءَةً، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ لَفْظًا، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ -وَهُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ- قَالَ: سَمِعْتُ مَعْمَرًا، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَنَتْفُ الإِبْطِ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، وَالاِسْتِحْدَادُ، وَالْخِتَانُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الباب ومعظم الأبواب الآتية بعده، وأحاديثها قد تقدّمت فِي أوائل "كتاب الزينة"، فلا أدري لماذا أعادها المصنّف هنا؟، وَقَدْ أجاد فِي "الكبرى" حيث اكتفى بذكرها فِي أول الكتاب، وذكر بعد باب "الجلاجل""باب ما يستحبّ منْ الثياب، وما يُكره" الآتي هنا بعد نحو ستة وعشرين بابًا، فكان الأولى له أن يبقي ذلك فِي هَذَا المختصر، كما لا يخفى، فالله تعالى أعلم.
وقوله: "أخبرنا ابن السنّيّ الخ": هو الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الدِّينوريّ المتوفّى سنة (364 هـ).
والقائل: "أخبرنا الظاهر أنه تلميذه القاضي أحمد بن الحسين الكسّار؛ لأنه المشهور برواية "المجتبى" عن ابن السنّيّ.
وقوله: "قراءةً" منصوب عَلَى التمييز، وكذا قوله:"لفظًا"، والمعنى: أن ابن السنيّ قريء عليه هَذَا الْحَدِيث، فأخذه أصحابه عنه بالقراءة عليه، وأما النسائيّ، فقد أسمعهم بلفظه، فأخذوه عنه بالسماع منه، ولهذا اختلفت صيغتا الأداء، ففي الأول قَالَ:"أخبرنا"، وفي الثاني قَالَ:"حدثنا"؛ لأن المصطلح عليه عند المحدّثين أن ما قرأه الطالب بنفسه عَلَى المحدّث يقول فِي أدائه: "أخبرني"، وما سمعه بقراءة غيره عليه، يقول:"أخبرنا"، وما سمعه منْ لفظ المحدّث وحده يقول فِي أدائه:"حدّثني"، وإن كَانَ مع غيره يقول:"حدّثنا"، وهذا منْ باب الاستحباب، لا منْ باب الوجوب، فلو عُكس جاز، كما أشار إلى ذلك السيوطيّ رحمه الله تعالى فِي "ألفية الْحَدِيث"، حيث قَالَ:
وَاسْتَحْسَنُوا لِمُفْرَدٍ حَدَّثَنِي
…
وَقَارِىءِ بِنَفْسِهِ أَخْبَرنِي
وَإِنُ يُحَدِّثْ جُمْلَةً حَدَّثَنَا
…
وَإِنْ سَمِعْتَ قَارِئًا أَخْبَرَنَا
ورجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة.
وقوله: "والاستحداد": هو حلق العانة باستعمال الحديد فيها.
والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم شرحه، وبيان مسائله فِي "الطهارة" 10/ 10 وفي أوائل "كتاب الزينة" 1/ 5046، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
56 - (إِحْفَاءِ الشَّوَارِبِ، وَإِعْفَاءِ اللِّحْيَةِ)
5227 -
(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "أَحْفُوا الشَّوَارِبَ، وَأَعْفُوا اللِّحَى").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الكلام عَلَى هَذَا الباب، وحديثه كالكلام فِي الْحَدِيث الماضي.
ورجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة. و"يحيى": هو القطّان. و"عبيد الله": هو ابن عمر العمريّ.
وقوله: "أحفوا" بقطع الهمزة، منْ الإحفاء، وهو الاستئصال، والمبالغة فِي قصّه. وقوله:"أعفوا" بقطع الهمزة أيضًا: منْ الإعفاء، وهو تركه حَتَّى يكثُر، ويجوز وصلهما، كما تقدّم تحقيقه. وقوله:"اللِّحَى" بكسر اللام، أفصح منْ ضمها.
والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي "الطهارة" 15/ 15، وفي أوائل "كتاب الزينة" 2/ 5047 فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
***
57 - (حَلْقِ رُءُوسِ الصِّبْيَانِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الصبيان" -بكسر الصاد المهملة، وضمها- كما تفيده عبارة "القاموس": جمع صبيّ، وهو الصغير لم يُفْطَم، ويُجمع عَلَى أَصْبِية، وأَصْبٍ بفتح، فسكون، وصِبْوَة بالكسر، وصَبْية بالفتح، وصِبْية بالكسر، وصِبوان بالكسر أيضاً، ويُضمّ الأخيران. والله تعالى أعلم بالصواب.
5229 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي يَعْقُوبَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ، يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَمْهَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، آلَ جَعْفَرٍ ثَلَاثَةً أَنْ يَأْتِيَهُمْ، ثُمَّ أَتَاهُمْ، فَقَالَ: "لَا تَبْكُوا عَلَى أَخِي بَعْدَ الْيَوْمِ"، ثُمَّ قَالَ: "ادْعُوا إِلَيَّ بَنِي أَخِي"، فَجِيءَ بِنَا كَأَنَّا أَفْرُخٌ، فَقَالَ: "ادْعُوا إِلَيَّ الْحَلاَّقَ"، فَأَمَرَ بِحَلْقِ رُءُوسِنَا. مُخْتَصَرٌ).
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(إسحاق بن منصور) الكَوْسج، أبو يعقوب التميمي المروزيّ، ثقة ثبت [11] 72/ 88.
2 -
(وهب بن جرير) بن حازم، أبو عبد الله الأزديّ البصريّ، ثقة [9] 196/ 1178.
3 -
(أبوه) جرير بن حازم بن زيد بن عبد الله الأزديّ، أبو النضر البصريّ، ثقة، إلا فِي قتادة ففي حديثه عنه ضعف، وله أوهام إذا حدّث منْ حفظه [6] 82/ 1014.
4 -
(محمد بن أبي يعقوب) هو محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب التيميّ البصريّ، نُسب لجدّه، ثقة [6] 172/ 1141.
[تنبيه]: وقع فِي بعض النسخ: "محمد بن يعقوب" بحذف لفظة "أبي"، والصواب إثباتها، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
5 -
(الحسن بن سعد) بن معبد الهاشميّ مولاهم الكوفيّ، مولى عليّ، ويقال: مولى الحسن، ثقة [4].
رَوَى عن أبيه، وعن عبد الله بن عبّاس، وعبد الله بن جعفر، وعبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وغيرهم. وعنه أبو إسحاق الشيباني، والمسعودي، وأخوه أبو العميس، والحجاج بن أرطاة، ومحمد بن عبد الله بن أبي يعقوب، وجماعة. قَالَ النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". ووثقه العجليّ، ونقل ابن خلفون أن ابن
نمير وثقه أيضًا.
رَوَى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، ومسلم، وأبو داود، والمصنّف، وابن ماجه، وله فِي "صحيح مسلم" حديث واحد، عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فِي إردافه خلفه، وإسراره إليه.
[تنبيه]: سقط "الحسن بن سعد" منْ هَذَا الإسناد فِي جميع نسخ "المجتبى" التي بين يديّ، والصواب إثباته، كما فِي "الكبرى" 5/ 407 رقم 9295 و"تحفة الأشراف" 4/ 299 - 300 وثبت أيضًا عند أبي داود رقم 4186، فتنبّه.
6 -
(عبد الله بن جعفر) بن أبي طالب الهاشميّ، أحد الأجواد المشهورين، الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما، ولد بأرض الحبشة، ومات سنة (80) وهو ابن (80) سنة، تقدّم فِي 25/ 1248. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن صحابيه منْ المشهورين بالجود، رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ) بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: أَمْهَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، آلَ جَعْفَرٍ) أي تركهم يبكون عليه حين جاءهم خبر استشهاد رضي الله عنه فِي غزوة مؤتة (ثَلَاثَةً) أي ثلاثة أيام، وفي رواية أبي داود:"ثلاثًا": أي ثلاث ليالٍ، وهو ظرف لـ "أمهل" (أَنْ يَأْتِيَهُمْ) فِي تأويل المصدر مجرور بحرف جرّ مقدّر قياساً: أي فِي إتيانه إليهم (ثُمَّ أَتَاهُمْ) أي بعد الثلاث (فَقَالَ: "لَا تَبْكُوا عَلَى أَخِي) يعني جعفراً رضي الله عنه، فإنه أخ للنبيّ صلى الله عليه وسلم رضاعاً، أرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب (بَعْدَ الْيَوْمِ) أي بعد الثالث منْ مجيء خبر استشهاده (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (ادْعُوا إِلَيَّ بَنِي أَخِي) أي بني جعفر، وذكر فِي "الإصابة" 12/ 116 أن أسماء بنت عُميس هاجرت مع جعفر رضي الله تعالى عنهما إلى الحبشة، فولدت له هناك عبد الله، ومحمداً، وعونًا رضي الله عنهم. انتهى (فَجِيءَ بِنَا كَأَنَّا أَفْرُخٌ) بفتح الهمزة، وسكون الفاء، وضمّ الراء: جمع فَرْخ بفتح، فسكون: وهو ولد الطير. وفي نسخة "كأنّا أفراخ"، قَالَ فِي "المصباح": الفرْخُ منْ كلّ بائض، كالولد منْ الإنسان، والجمع أفرُخٌ، وأفراخٌ، وفِرَاخٌ، وفُرُوخٌ، وفِرْخانٌ. انتهى.
ووجه التشبيه أن شعرهم يُشبه زَغَبَ
(1)
الطير، وهو أول ما يطلع منْ ريشه.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (ادْعُوا لِي الْحَلاَّقَ"، فَأَمَرَ) ولفظ أبي داود: "فأمره": أي أمر الحلّاق (بِحَلْقِ رُءُوسِنَا) ولفظ أبي داود: "فحلق رؤوسنا". قيل: إنما أمر بحلق رؤوسهم مع أن إبقاء الشعر أفضل منْ حلقه، إلا فِي النسك؛ لما رأى منْ اشتغال أمهم أسماء بنت عُميس رضي الله تعالى عنها عن ترجيل شعورهم بما أصابها منْ قتل زوجها فِي سبيل الله تعالى، فأشفق عليهم منْ الوسخ، والقمل. أفاده فِي "عون المعبود" 11/ 164 نقلاً عن القاري.
وقوله: (مُخْتَصَرٌ) بالرفع خبر لمحذوف: أي هَذَا الْحَدِيث مختصر منْ حديث مطوّل، وَقَدْ ساقه الإمام أحمد رحمه الله تعالى فِي "مسنده" بطوله، فَقَالَ:
1753 -
حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي، قَالَ: سمعت محمد بن أبي يعقوب، يحدث عن الحسن بن سعد، عن عبد الله بن جعفر، قَالَ: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشًا، استعمل عليهم زيد بن حارثة، وَقَالَ:"فإن قُتل زيد"، أو "استشهد، فأميركم جعفر، فإن قُتل" أو "استشهد، فأميركم عبد الله بن رواحة"، فلقوا العدو، فأخذ الراية زيد، فقاتل حَتَّى قتل، ثم أخذ الراية جعفر، فقاتل حَتَّى قتل، ثم أخذها عبد الله بن رواحة، فقاتل حَتَّى قتل، ثم أخذ الراية خالد بن الوليد، ففتح الله عليه، وأتى خبرُهُم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فخرج إلى النَّاس، فحمد الله، وأثنى عليه، وَقَالَ:"إن إخوانكم لَقُوا العدو، وإن زيدا أخذ الراية، فقاتل حَتَّى قتل، أو استشهد، ثم أخذ الراية بعده جعفر بن أبي طالب، فقاتل حَتَّى قتل"، أو "استشهد، ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة، فقاتل حَتَّى قتل"، أو "استشهد، ثم أخذ الراية سيف منْ سيوف الله، خالد بن الوليد، ففتح الله عليه"، فأمهل، ثم أمهل آل جعفر ثلاثا أن يأتيهم، ثم أتاهم، فَقَالَ:"لا تبكوا عَلَى أخي بعد اليوم"، أو "غد، ادعوا لي بني أخي"، قَالَ: فجيء بنا كأنا أفرُخ، فَقَالَ:"ادعوا إلي الحلاق"، فجيء بالحلاق، فحلق رءوسنا، ثم قَالَ:"أما محمد، فشبيه عمنا أبي طالب، وأما عبد الله فشبيه خَلْقِي وخُلُقي"، ثم أخذ بيدي فأشالها، فَقَالَ:"اللَّهم اخلف جعفرا فِي أهله، وبارك لعبد الله فِي صفقة يمينه"، قالها ثلاث مرار، قَالَ: فجاءت أمنا، فذكرت له يُتْمَنا، وجعلت تفرح له، فَقَالَ:"العيلةَ تخافين عليهم، وأنا وليهم فِي الدنيا والآخرة". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب،
(1)
"الزَّغَبُ" بفتحتين: صغار الشعر، وليّنه حين يبدو منْ الصبيّ، وكذلك منْ الشيخ حين يرقّ شعره، ويضعُف، وهو الريش أولَ ما ينبُت، ودِقاقه أيضًا الذي لا يجود، ولا يطول. انتهى "المصباح".
وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -57/ 5229 - وفي "الكبرى" 3/ 9295. وأخرجه (د) فِي "الترجّل" 4192 (أحمد) فِي "مسند أهل البيت" 1753. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز حلق رؤوس الصبيان. (ومنها): جواز البكاء، والتحزّن عَلَى الميت منْ غير نوح، ونُدبة إلى ثلاثة أيام. (ومنها): جواز حلق جميع الرأس، وإن كَانَ الأولى تركه لمن لا يتضرّر به، إلا فِي حج، أو عمرة؛ اقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنه ما ثبت أنه حلق، إلا فِي حجته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
58 - (ذِكْرِ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يُحْلَقَ بَعْضُ شَعْرِ الصَّبِيِّ، وَيُتْرَكَ بَعْضُهُ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ببناء كلّ منْ "يُحلق"، و"يُترَك" للمفعول. والله تعالى أعلم بالصواب.
5230 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حَمَّادٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنِ الْقَزَعِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة. و"أحمد بن عبدة": هو الضبيّ البصريّ، ثقة رُمي بالنصب [10] 3/ 3. و"حماد": هو ابن زيد. و"عُبيد الله": هو ابن عمر العمريّ المذكور قبل باب.
وقوله: "عن القزع" -بفتحتين: هو حلق بعض الرأس، وترك بعضه.
والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي 5/ 5052، وصنيع المصنّف فِي "الكبرى" أولى مما هنا، حيث قدّم هَذَا الباب إلى "باب النهي عن الْقَزَع".
[تنبيه]: تقدّم أن الأرجح فِي هَذَا الإسناد رواية منْ رواه بإدخال عمر بن نافع، بين عييد الله وبين نافع، وهو الذي أخرجه الشيخان، وهو رواية محمد بن بشر، ويحيى بن سعيد القطّان الآتيين بعد حديث، وَقَدْ تقدّم 5/ 5053 - أن المصنّف رحمه الله تعالى نبّه عَلَى ذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5231 -
(أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَنْهَى عَنِ الْقَزَعِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "إبراهيم بن الحسن": هو الْخَثعْميّ، أبو إسحاق المصّيصيّ الْمِقسميّ، ثقة [11] 51/ 64.
و"الحجّاج": هو ابن محمد الأعور.
والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق البحث فيه فِي الْحَدِيث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5232 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْقَزَعِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"إسحاق بن إبراهيم": هو ابن راهويه. و"محمد بن بشر": هو العبديّ. و"عمر بن نافع": هو العدوي الثقة الثبت، ولد نافع مولى ابن عمر الذي هو شيخه فِي هَذَا السند.
والحديث متَّفقٌ عليه، كما سبق بيانه قريباً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5233 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنِ الْقَزَعِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"يحيى": هو القطّان. والحديث متَّفقٌ عليه، كما سبق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
59 - (اتِّخَاذِ الْجُمَّةِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الجمَّة" -بضم الجيم، وتشديد الميم-: قَالَ ابن الأثير فِي "النهاية" 1/ 300: الْجُمّة منْ شعر الرأس: ما سقط عَلَى المنكبين. انتهى. وَقَدْ تقدّم اختلاف أهل اللغة فيه فِي 11/ 5068 - فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب.
5234 -
(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، رَجِلاً مَرْبُوعًا، عَرِيضَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، كَثَّ اللِّحْيَةِ، تَعْلُوهُ حُمْرَةٌ، جُمَّتُهُ إِلَى شَحْمَتَيْ أُذُنَيْهِ، لَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ، مَا رَأَيْتُ أَحْسَنَ مِنْهُ").
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(عليّ بن الحسين) الدرهميّ البصريّ، صدوقٌ، منْ كبار [11] 17/ 1547.
2 -
(أميّة بن خالد) أبو عبد الله القيسيّ البصريّ، أخو هُدْبة، أكبر منه، صدوقٌ [9] 42/ 1906.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة المشهور [7] 24/ 27.
4 -
(أبو إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعيّ الكوفيّ، ثقة عابد مكثر، اختلط [3] 38/ 42.
5 -
(البراء) بن عازب بن الحارث بن عديّ الأنصاريّ الأوسيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ، استُصْغِرَ يوم بدر، ثم نزل الكوفة، ومات سنة (72) وتقدّم فِي 86/ 105. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فتفرد به هو وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، وشعبة، فبصريان. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنِ الْبَرَاءِ) بن عازب رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،
رَجِلاً) قَالَ السنديّ: هو خبر لفظاً، لكن المقصود الإخبار بصفته. انتهى. و"الرجل" -بفتح الراء، وكسر الجيم، وتسكّن تخفيفًا-: منْ رجِل الشعر رَجَلاً، منْ باب تَعِب، فهو رجِلٌ: أي ليس شديد الجعودة، ولا شديد السبوطة، بل بينهما (مَرْبُوعاً) أي متوسّطاً بين الطول والقصر (عَرِيضَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ) أي عريض أعلى الصدر، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"رحب الصدر"(كَثَّ اللِّحْيَةِ) بفتح الكاف، وتشديد الثاء المثلّثة-: هو أن لا تكون اللحية رقيقة، ولا طويلة. قَالَ فِي "النهاية" 4/ 152: الكثافة فِي اللحية أن تكون غير رقيقة، ولا طويلة، ولكن فيها كثافة، يقال: رجلٌ كثّ اللحية بالفتح، وقومٌ كُثٌّ بالضمّ. انتهى (تَعْلُوهُ حُمْرَةٌ) أي أن لونه يميل إلى الحمرة، ولا ينافي هَذَا ما ثبت فِي الروايات الأخرى: أنه أبيض اللون؛ لأن المراد البياض المختلط بالحمرة، ولذا جاء فِي حديث أنس رضي الله عنه فِي "الصحيح":"ليس بالأبيض الأمهق": أي شديد البياض، وفي رواية:"أزهر اللون": أي أبيض مشرّب بحمرة، وفي حديث عليّ رضي الله عنه عند الترمذيّ، وغيره:"كَانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم أبيض مشربا بياضه بحمرة". وفي حديث أنس رضي الله عنه عند أحمد، وغيره بإسناد صحيح:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أسمر". وعند البيهقيّ فِي "الدلائل" عن أنس رضي الله عنه، قَالَ:"كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض بياضه إلى السمرة". وفي حديث يزيد الرقاشيّ، عن ابن عبّاس فِي صفته صلى الله عليه وسلم:"رجل بين رجلين، جسمه، ولحمه أحمر"، وفي لفظ:"أسمر إلى البياض"، أخرجه أحمد، وسنده حسن.
وتبيّن منْ مجموع الروايات أن المراد بالسمرة الحمرة التي تخالط البياض، وأن المراد بالبياض المثبت ما يُخالطه الحمرة، والمنفيّ ما لا يُخالطه، وهو الذي تكره العرب لونه، وتسمّيه أمهق. وفي حديث أبي جُحيفة عند البخاريّ إطلاق كونه أبيض، وكذا فِي حديث أبي الطفيل عند مسلم، وفي رواية عند الطبرانيّ:"ما أنسى شدّة بياض وجهه، مع شدّة سواد شعره"، وكذا فِي شِعْر أبي طالب المتقدّم فِي "الاستسقاء":"وأبيض يُستسقي الغمام بوجهه"، وفي حديث سُراقة عند ابن إسحاق:"فجعلت أنظر إلى ساقه كأنها جُمارة"، ولأحمد منْ حديث محرّش الكعبيّ فِي عمرة الجعرانة أنه قَالَ:"فنظرت إلى ظهره كأنه سبيكة فضّة"، وعن سعيد بن المسيّب أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يصف النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"كَانَ شديد البياض"، أخرجه يعقوب بن سفيان، والبزّار بإسناد قويّ، والجمع بينها بما تقدّم. وَقَالَ البيهقيّ: يقال: إن المشرّب منه حمرةً، وإلى السمرة ما ضحى منه للشمس والريح، وأما ما تحت الثياب فهو الأبيض الأزهر. أفاده فِي "الفتح" 7/ 264.
(جُمَّتُهُ إِلَى شَحْمَتَيْ أُذُنَيْهِ) وفي الرواية التالية: "وله شعر يضرب منكبيه"، وفي حديث
أنس بعدها: "كَانَ يضرب شعره إلى منكبيه"، وللبخاريّ فِي حديث البراء:"له شعر يبلغ شحمة أذنيه إلى منكبيه".
قَالَ فِي "الفتح": قَالَ ابن التين تبعًا للداوديّ: قوله: "يبلغ شحمة أذنيه" مغاير لقوله: "إلى منكبيه"، وأجيب بأن المراد أن معظم شعره كَانَ عند شحمة أذنه، وما استرسل منه متصلٌ إلى المنكب، أو يُحمل عَلَى حالتين. وَقَدْ وقع نظير ذلك فِي حديث أنس عند مسلم، منْ رواية قتادة عنه أن شعره كَانَ بين أذنيه وعاتقه، وفي حديث حُميد عنه:"إلى أنصاف أذنيه"، ومثله عند الترمذيّ منْ رواية ثابت عنه، وعند ابن سعد منْ رواية حمّاد عن ثابت، عنه:"لا يجاوز شعره أذنيه"، وهو محمول عَلَى تقدّم، أو عَلَى أحوال متغايرة.
وروى أبو داود منْ طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت:"كَانَ شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق الوفرة، ودون الْجُمّة"، وفي حديث هند بن أبي هالة فِي صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الترمذيّ وغيره:"فلا يُجاوز شعره شحمة أذنيه، إذا هو وفّره": أي جعله وَفْرَةً، فهذا القيد يؤيّد الجمع المتقدّم. وروى أبو داود، والترمذيّ منْ حديث أم هانىء، قالت:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله أربع غدائر"، ورجاله ثقات. انتهى "فتح" 7/ 268.
(لَقَدْ رَأَيْتُهُ) أي النبيّ صلى الله عليه وسلم (فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ)"الحلة" بالضم لا تكون إلا منْ ثوبين منْ جنس واحد، والجمع حُلَلٌ، مثلُ غُرْفة وغُرَف، وَقَالَ فِي "القاموس": الحلّة بالضمّ إزار ورداء: برد، أو غيره، ولا يكون حلّة إلا منْ ثوبين، أو ثوب له بِطانة. انتهى. وَقَالَ النوويّ: الحلّة هي ثوبان: إزار ورداء، قَالَ أهل اللغة: لا تكون إلا ثوبين، سُمّيت بذلك؛ لأن أحدهما يَحُلّ عَلَى الآخر، وقيل: لا تكون الحلّة إلا الثوب الجديد الذي يُحَلّ منْ طيّه. انتهى.
ووصف الحلّة بالحمرة يدلّ عَلَى جواز لبس الأحمر، وفيه اختلاف بين العلماء سيأتي فِي 93/ 5316 باب "لبس الْحُلَل"، إن شاء الله تعالى (مَا رَأَيْتُ أَحْسَنَ مِنْهُ) أي منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه زانه الله تعالى خَلْقًا، وخُلُقاً، فكان أحسن النَّاس، وإلى ذلك يشير قول منْ قَالَ، وأحسن فِي المقال [منْ الوافر]:
خُلِقْتَ مُبّرّأً مِنْ كُلِّ عَيْبٍ
…
كَأَنّكَ قَدْ خُلِقْتَ كَمَا تَشَاءُ
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي 9/ 5062 وتقدم تخريجه هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5235 -
(أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ مِنْ ذِي لِمَّةٍ، أَحْسَنَ فِي حُلَّةٍ، مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَهُ شَعْرٌ يَضْرِبُ مَنْكِبَيْهِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "حاجب بن سُليمان": هو الْمَنْبِجيّ، أبو سعيد مولى بني هاشم، صدوقٌ يَهِمُ [10] منْ أفراد المصنّف. و"وكيع": هو ابن الجَرّاح. و"سفيان": هو الثوريّ.
وقوله: "منْ ذي لِمّة" -بكسر اللام، وتشديد الميم: هو الشعر الذي يُلم بالمنكب: أي يقرُب منه، والجمع لمام، ولِمَمٌ، مثلُ قطّة، وقِطَاط، وقِطَط.
والحديث متَّفقٌ عليه، كما سبق بيانه فيما قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5236 -
(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: "كَانَ شَعْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى نِصْفِ أُذُنَيْهِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"إسماعيل": هو ابن عليّة. و"حُميد": هو الطويل. والإسناد منْ رباعيّات المصنّف، وهو (244) منْ رباعيات الكتاب.
وقوله: "إلى نصف أذنيه"، وجاء فِي رواية:"إلى شحمة أذنيه"، وشحمة الأذن: هو اللين منها فِي أسفلها، وهو معلّق القرط منها.
والحديث أخرجه مسلم، وتقدّم فِي 9/ 5063 وسبق تمام البحث فيه هناك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5237 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَبَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَضْرِبُ شَعْرُهُ إِلَى مَنْكِبَيْهِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"محمد بن معمر": هو القيسيّ البحرانيّ البصريّ، أحد مشايخ الستّة. و"حَبّان": بفتح الحاء المهملة، وتشديد الباء الموحّدة-: هو ابن هلال البصريّ. و"همّام": هو ابن يحيى.
وقوله: "كَانَ يضرب شعره إلى منكبيه": أي إذا تدلّى شعره الشريف يبلغ إلى منكبيه، ولا تنافي بينه وبين قوله فِي الْحَدِيث الذي قبله:"إلى نصف أذنيه"؛ لإمكان الجمع باختلاف الأوقات، أو بأن القصير منه يصل إلى نصف أذنيه، والطويل منه يصل إلى منبيكه.
وَقَالَ النوويّ تبعاً للقاضي عياض: والجمع بين هذه الرويات أن ما يلي الأذن هو الذي يبلغ شحمة أذنيه، وما خلفه هو الذي يضرب منكبيه، قَالَ: وقيل: بل ذلك لاختلاف الأوقات، فإذا غفل عن تقصيرها، بلغت المنكب، وإذا قصرها كانت إلى أنصاف الأذنين، فكان يقصر، ويطول بحسب ذلك. انتهى.
والحديث متَّفقٌ عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
60 - (تَسْكِينِ الشَّعْرِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: أي استحباب تسكين الشعر: ومعنى تسكينه لَمّ شَعثه، وجمع متفرّقه. والله تعالى أعلم بالصواب.
5238 -
(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عِيسَى، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ قَالَ: أَتَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَرَأَى رَجُلاً ثَائِرَ الرَّأْسِ، فَقَالَ: "أَمَا يَجِدُ هَذَا مَا يُسَكِّنُ بِهِ شَعْرَهُ").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(عليّ بن خشرم) -بخاء، وشين معجمتين، بوزن جعفر- المروزيّ الثقة، منْ صغار [10] 8/ 8.
2 -
(عيسى) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعيّ الكوفيّ، ثقة مأمون [8] 8/ 8.
3 -
(الأوزاعيّ) عبد الرحمن بن عمرو، أبو عمرو الفقيه الإمام، ثقة جليل [7] 45/ 56.
4 -
(حسّان بن عطية) المحاربيّ مولاهم، أبو بكر الدمشقيّ، ثقة فقيه عابد [4] 64/ 1310.
5 -
(محمد بن المنكدر) بن عبد الله بن الْهُدَير التيميّ المدنيّ، ثقة فاضل [3] 103/ 138.
6 -
(جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما 31/ 35. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه جابراً رضي الله عنه منْ المكثرين السبعة، رَوَى (1540) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) رضي الله تعالى عنهما (أَنَّهُ قَالَ: أَتَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَرَأَى رَجُلاً ثَائِرَ الرَّأْسِ) أي منتشر شعر رأسه، منْ قلّة دهنه، وفي رواية أبي داود:"فرأى رجلاً شَعِثاً، قد تفرّق شعره"(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَمَا) الهمزة للاستفهام، و"ما" نافية: أي ألم يكن (يَجِدُ هَذَا) الرجل الثاثر الرأس (مَا يُسَكِّنُ) بتشديد الكاف، منْ التسكين (بِهِ شَعْرَهُ) أي يلُمّ به شعثه، ويجمع به متفرّقه، فعبّر بالتسكين عنه.
زاد فِي رواية أبي داود: "ورأى رجلاً، وعليه ثياب وَسِخَةٌ، فَقَالَ: أما كَانَ هَذَا يجد ما يغسل به ثوبه". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -60/ 5238 - وفي "الكبرى" 10/ 9312. وأخرجه (د) فِي "اللباس" 4062 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 14436. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو استحباب تسكين الشعر بدهنه، وتسريحه. (ومنها): استحباب تنظيف الشعر، بالغسل، والترجيل بالزيت، ونحوه. (ومنها): طلب النظافة منْ الأوساخ الظاهرة عَلَى الثوب، والبدن. قَالَ الشافعيّ رحمه الله تعالى: منْ نظُف ثوبه قَلّ همّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5239 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُقَدَّمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: كَانَتْ لَهُ جُمَّةٌ ضَخْمَةٌ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَهُ أَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهَا، وَأَنْ يَتَرَجَّلَ كُلَّ يَوْمٍ).
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(عمرو بن عليّ) الفلّاس الصيرفيّ، أبو حفص البصريّ، ثقة ثبت [10] 4/ 4.
2 -
(عمر بن عليّ بن مُقَدَّم) هو عمر بن عليّ بن عطاء بن مقدّم -بوزن محمّد- البصريّ، واسطيّ الأصل، ثقة، إلا أنه شديد التدليس [8] 36/ 3494.
3 -
(يحيى بن سعيد) بن قيس الأنصاريّ القاضي، أبو سعيد المدنيّ، ثقة ثبت [5] 22/ 23.
4 -
(محمد بن المنكدر) المذكور فِي السند الماضي.
5 -
(أبو قتادة) الحارث بن رِبْعيّ بن بُلْدُمة، وقيل: غير ذلك الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ المشهور، شهد أُحُداً، وما بعدها، ولم يصحّ شهوده بدراً، ومات رضي الله عنه سنة (54 هـ) وقيل سنة (38 هـ) والأول أصحّ، وأشهر، تقدّم فِي 23/ 24. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي قَتَادَةَ) الأنصاريّ رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: كَانَتْ لَهُ) فيه التفات، ولفظ "الكبرى": عن أبي قتادة، قَالَ: كانت لي جمّة الخ" وهو الظاهر (جُمَّةٌ) بضم الجيم، وتشديد الميم: هو ما سقط عَلَى المنكبين. قاله فِي "النهاية"، وفي "المصباح": "الجمّة منْ الإنسان: مُجتمع شعر ناصيته، يقال: هي التي تبلغ المنكبين، والجمع جُمم، مثلُ غرفة وغُرَف. انتهى (ضَخْمَةٌ) بفتح، فسكون: أي عظيمة، يقال: ضخُم الشيءُ بالضمّ ضِخَماً، وزان عِنَب، وضَخامة: عظُم، فهو ضخمٌ، والجمع ضخام، مثل سهم وسهام، وامرأة ضخمةٌ، والجمع ضَخْمات بالسكون. قاله الفيّوميّ (فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) أي عن الإحسان إليها (فَأَمَرَهُ) صلى الله عليه وسلم (أَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهَا) بضمّ أوله، منْ الإحسان: أي يُحسن إلى تلك الجمّة بإصلاحها بالغسل، والتنظيف، والادّهان، وقوله:(وَأَنْ يَتَرَجَّلَ كُلَّ يَوْمٍ) منْ عطف الخاصّ عَلَى العامّ؛ لأن الترجّل، وهو التسرّح نوع منْ أنواع الإحسان إلى الجمة.
قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: ولعلّ هَذَا مخصوص به، وإلا فقد جاء عنه النهي، أو لأن النهي مخصوص بمن لا يحتاج شعره إلى الترجّل كلّ يوم، وهذا كَانَ شعره محتاجًا إلى ذلك؛ لكثرته، وطوله، والأقرب أن المراد بكلّ يوم أي أيَّ يوم كَانَ، فالمراد بيان أن الترجّل لا يختصّ بيوم دون يوم، بل كلُّ يوم فِي جوازه سواء، وإن كَانَ الإفراط فيه لا ينبغي، بل التوسّط هو المطلوب، وعلى هَذَا المعنى لو جُعل "كلّ يوم" متعلقاً بمقدّر، هو خبرٌ محذوفٌ: أي وذلك جائز كلّ يوم، كَانَ أحسن، وكلُّ ذلك، وإن كَانَ
خلاف الظاهر لكن قد يُرتكب مثله للتوفيق. والله تعالى أعلم. انتهى "شرح السنديّ" 8/ 184. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أبي قتادة رضي الله عنه ضعيف؛ للانقطاع بين محمد ابن المنكدر، وأبي قتادة؛ لأنه لم يسمع منه، كما بُيِّن فِي ترجمته منْ "تهذيب التهذيب" 3/ 710.
وَقَالَ المصنّف رحمه الله تعالى فِي "الكبرى" 5/ 410 رقم 9312 - 9313 بعد حديث جابر المذكور قبل هَذَا منْ طريق حسّان بن عطية، عن محمد بن المنكدر: ما نصّه: خالفه -أي حساناً- يحيى بن سعيد، رواه عن محمد بن المنكدر، عن أبي قتادة، مرسلاً، ثم ساقه منْ هَذَا الوجه، ثم قَالَ: قَالَ أبو عبد الرحمن: وهذا أشبه بالصواب. والله أعلم انتهى.
فأفاد كلامه رحمه الله تعالى أن رواية ابن المنكدر هذه منقطعة. وَقَدْ توسع الشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى فِي الكلام عَلَى هَذَا الْحَدِيث فِي "السلسلة الصحيحة" 5/ 318 - 320. وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، لم يخرجه منْ أصحاب الأصول غيره، وأخرجه هنا -60/ 5239 - وفي "الكبرى" 10/ 9313. وأخرجه (مالك) فِي "الموطإ" 6 "الجامع"1769. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
61 - (فَرْقُ الرَّأْسِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الفرق" -بفتح الفاء، وسكون الراء، بعدها قاف-: أي فرق شعر الرأس، وهو قسمته فِي المفرق، وهو وسط الرأس، يقال: فرق شعره فرقاً -بالسكون- وأصله منْ الفرق بين الشيئين، والمفرق مكان انقسام الشعر، منْ الجبين إلى دارة وسط الرأس، وهو بفتح الميم، وبكسرها، وكذلك الراء تكسر، وتفتح. قاله فِي "الفتح" 11/ 555. والله تعالى أعلم بالصواب.
5240 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَسْدُلُ شَعْرَهُ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ شُعُورَهُمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ، فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ، ثُمَّ فَرَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ).
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن سلمة) المراديّ الْجَمَليّ، أبو الحارث المصريّ الثقة الثبت [11] 19/ 20.
2 -
(ابن وهب) هو عبد الله المصريّ الفقيه، ثقة حافظ عابد [9] 9/ 9.
3 -
(يونس) بن يزيد الأمويّ مولاهم، أبو يزيد الأيليّ، ثقة [7] 9/ 9.
4 -
(الزهريّ) محمد بن مسلم الإمام الحجة الثبت الفقيه [4] 1/ 1.
5 -
(عبيد الله بن عبد الله) بن عتبة بن مسعود الهذليّ، أبو عبد الله المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 45/ 56.
6 -
(ابن عبّاس) عبد الله البحر رضي الله تعالى عنهما 27/ 31. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالمصريين، ويونس نزل مصر أيضًا، والثاني بالمدنيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه أحد الفقهاء السبعة، وهو عبيد الله. (ومنها): أن صحابيه يُلقّب حبر الأمة وبحرها وترجمان القرآن، وهو أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، رَوَى (1696) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما، قَالَ فِي "الفتح": كذا وصله إبراهيم بن سعد، ويونس، وتقدّم -أي عند البخاريّ- فِي "الهجرة، وغيرها، واختُلف عَلَى معمر فِي وصله وإرساله، قَالَ عبد الرزاق فِي "مصنفه": أنبأنا معمر، عن الزهريّ، عن عبيد الله: "لَمّا قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة
…
" فذكره مرسلا، وكذا أرسله مالك، حيث أخرجه فِي "الموطإ" عن زياد بن سعد، عن الزهريّ، ولم يذكر منْ فوقه. انتهى.
وَقَالَ المصنّف فِي "الكبرى" 5/ 413 - 414 بعد إخراجه منْ هَذَا الوجه: ما نصّه: أرسله مالك.
9335 -
الحارث بن مسكين، قراءةً عليه، وأنا أسمع، عن ابن القاسم، عن مالك،
عن زياد بن سعد، عن ابن شهاب، أنه سمعه يقول:"سدل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصيته، ما شاء الله، ثم فرق بعد ذلك". انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الوصل أرجح منْ الإرسال هنا؛ لأن الذي وصله يونس، كما هنا، وإبراهيم بن سعد، كما عند البخاريّ، وهما ثقتان ثبتان، وإن كَانَ مالك، ومعمر كذلك أيضًا، إلا أن معهما زيادة علم، فوجب قبولها، ولذلك اتفق الشيخان عَلَى إخراج الْحَدِيث فِي "صحيحيهما". والله تعالى أعلم.
(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْدُلُ شَعْرَهُ) منْ بابي نصر، وضرب، قَالَ فِي "القاموس": سدل الشعر يسدِله -أي بالكسر- ويسدُله -أي بالضمّ- وأسدله: أرخاه، وأرسله. انتهى. والسدلُ: إرسال الشعر حول الرأس، منْ غير أن يُقسّم بنصفين.
(وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ شُعُورَهُمْ) منْ بابي نصر، وضرب أيضاً، وَقَالَ فِي "المصباح": فرقتُ بين الشيء فَرْقاً، منْ باب قتل: فصلت أبعاضه، وفرَقتُ بين الحقّ والباطل: فصلت أيضًا، هذه هي اللغة العالية، وبها قرأ السبعة فِي قوله تعالى:{فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25]، وفي لغة منْ باب ضرب، وقرأ بها بعض التابعين. انتهى. وَقَالَ فِي "الفتح": قوله: "يفرقون": هو بسكون الفاء، وضم الراء، وَقَدْ شددها بعضهم، حكاه عياض، قَالَ: والتخفيف أشهر. انتهى.
والفرق أن يقسم الشعر نصفين: نصفه منْ يمينه عَلَى الصدر، ونصفه منْ يساره عليه (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ، فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ) وفي رواية معمر: "وكان إذا شك فِي أمر، لم يؤمر فيه بشيء، صنع ما يصنع أهل الكتاب". زاد فِي رواية البخاريّ: "وكان أهل الكتاب يسدُلون أشعارهم"، قَالَ فِي "الفتح": بسكون السين، وكسر الدال المهملتين: أي يرسلونها. انتهى. وَقَالَ النوويّ: قَالَ أهل اللغة: يقال: سدل يسدُل، ويسدِل بضمّ الدال، وكسرها. انتهى، وما قاله أهل اللغة هو المتّبع، فيجوز الوجهان فِي داله، فتنبّه.
(ثُمَّ فَرَقَ) بتخفيف الراء عَلَى الأشهر، منْ بابي نصر، وضرب (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ) وفي رواية معمر:"ثم أُمر بالفرق، ففرق"، وكان الفرق آخر الأمرين.
قَالَ فِي "الفتح": وكأن السر فِي ذلك أن أهل الأوثان، أبعد عن الإيمان، منْ أهل الكتاب، ولأن أهل الكتاب يتمسكون بشريعة فِي الجملة، فكان يُحب موافقتهم؛ ليتألفهم ولو أدت موافقتهم إلى مخالفة أهل الأوثان، فلما أسلم أهل الأوثان الذين معه والذين حوله، واستمر أهل الكتاب عَلَى كفرهم، تمحضت المخالفة لأهل الكتاب.
وَقَالَ عياض: سَدْلُ الشعر إرساله، يقال: سدل شعره، وأسدله، إذا أرسله، ولم
يضم جوانبه، وكذا الثوب. والفرق تفريق الشعر، بعضِهِ منْ بعض، وكشفه عن الجبين، قَالَ: والفرق سنة؛ لأنه الذي استقر عليه الحال، والذي يظهر أن ذلك وقع بوحي؛ لقول الراوي فِي أول الْحَدِيث:"إنه كَانَ يحب موافقة أهل الكتاب، فيما لم يؤمر فيه بشيء"، فالظاهر أنه فرق بأمر منْ الله، حَتَّى ادعى بعضهم فيه النسخ، ومنع السدل، واتخاذ الناصية، وحكى ذلك عن عمر بن عبد العزيز.
وتعقبه القرطبيّ بأن الظاهر، أن الذي كَانَ صلى الله عليه وسلم يفعله، إنما هو لأجل استئلافهم، فلما لم ينجع فيهم، أحب مخالفتهم، فكانت مستحبة، لا واجبة عليه، وقول الراوي:"فيما لم يؤمر فيه بشيء": أي لم يطلب منه، والطلب يشمل الوجوب والندب، وأما توهم النسخ فِي هَذَا، فليس بشيء؛ لإمكان الجمع، بل يحتمل أن لا يكون الموافقة والمخالفة حكما شرعيا، إلا منْ جهة المصلحة، قَالَ: ولو كَانَ السدل منسوخا، لصار إليه الصحابة، أو أكثرهم، والمنقول عنهم أن منهم منْ كَانَ يفرق، ومنهم منْ كَانَ يسدل، ولم يعب بعضهم عَلَى بعض، وَقَدْ صح أنه كانت له صلى الله عليه وسلم لِمّة، فإن انفرقت فرقها، وإلا تركها، فالصحيح أن الفرق مستحب، لا واجب، وهو قول مالك، والجمهور.
قَالَ الحافظ: وَقَدْ جزم الحازمي بأن السدل نسخ بالفرق، واستدل برواية معمر التي أشرت إليها قبلُ، وهو ظاهر.
وَقَالَ النوويّ: الصحيح المختار جواز السدل والفرق، وأن الفرق أفضل. والله أعلم.
قَالَ: واختلفوا فِي معنى قوله: يحب موافقة أهل الكتاب"، فقيل: فعله اسئتلافاً لهم فِي أول الاسلام، وموافقة لهم عَلَى مخالفة عبدة الأوثان، فلما أغنى الله تعالى عن استئلافهم، وأظهر الإسلام عَلَى الدين كله صرّح بمخالفتهم فِي غير شيء، منها صبغ الشيب. وَقَالَ آخرون: يحتمل أنه أُمر باتباع شرائعهم فيما لم يوح إليه شيء، وإنما كَانَ هَذَا فيما عَلِم أنهم لم يبدلوه.
واستدل به بعضهم، عَلَى أن شرع منْ قبلنا شرع لنا، حَتَّى يرد فِي شرعنا ما يخالفه، وعكس بعضهم، فاستدل به عَلَى أنه ليس بشرع لنا؛ لأنه لو كَانَ كذلك، لم يقل:"يحب"، بل كَانَ يتحتم الاتباع، والحق أن لا دليل فِي هَذَا عَلَى المسألة؛ لأن القائل به يقصره عَلَى ما ورد فِي شرعنا أنه شرع لهم، لا ما يؤخذ عنهم هم، إذ لا وثوق بنقلهم. والذي جزم به القرطبيّ أنه كَانَ يوافقهم لمصلحة التأليف محتمل، ويحتمل أيضًا، وهو أقرب أن الحالة التي تدور بين الأمرين، لا ثالث لهما، إذا لم ينزل عَلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم-
شيء، كَانَ يعمل فيه بموافقة أهل الكتاب؛ لأنهم أصحاب شرع، بخلاف عبدة الأوثان، فإنهم ليسوا عَلَى شريعة، فلما أسلم المشركون انحصرت المخالفة فِي أهل الكتاب، فأمر بمخالفتهم.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الاحتمال الأخير الذي أبداه الحافظ رحمه الله تعالى هو الأظهر عندي، مما ذكره القرطبيّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -61/ 5240 - وفي "الكبرى" 16/ 9334 وأخرجه (خ) فِي "المناقب" 3558 و3944 و"اللباس" 5917 (م) فِي "الفضائل" 2336 (د) فِي "الترجل" 4188 (ق) فِي "اللباس" 2632 (أحمد) فِي "مسند بني هاشم"2600. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز فرق شعر الرأس. (ومنها): أنه يؤخذ منْ قول ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما فِي الْحَدِيث: "كَانَ يحب موافقة أهل الكتاب"، وقوله:"ثم فرق بعدُ" نسخ حكم تلك الموافقة، كما تقدّم. (ومنها): أن بعض الأصوليين استدلّ به عَلَى أن شرع منْ قبلنا شرع، ما لم يرد شرعنا بخلافه. وَقَالَ آخرون: بل هَذَا دليلٌ أنه ليس شرعاً لنا؛ لأنه قَالَ: "يحبّ موافقتهم"، فأشار إلى أنه إلى خِيرته، ولو كَانَ شرعاً لنا، لتحتّم اتّباعه. ذكره النوويّ فِي "شرح مسلم" 15/ 90.
(ومنها): ما قاله فِي "الفتح": ومما يشبه الفرق والسدل صبغ الشعر وتركه، كما تقدّم، ومنها صوم عاشوراء، ثم أمر بنوع مخالفة لهم فيه بصوم يوم قبله أو بعده، ومنها استقبال القبلة، ومخالفتهم فِي مخالطة الحائض، حَتَّى قَالَ:"اصنعوا كل شيء إلا الجماع"، فقالوا: ما يدع منْ أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، وَقَدْ تقدّم بيانه فِي "كتاب الحيض"، وهذا الذي استقر عليه الأمر.
(ومنها): فيما يظهر -كما قَالَ الحافظ رحمه الله النهيُ عن صوم يوم السبت، وَقَدْ جاء ذلك منْ طرق متعددة، فِي النسائيّ، وغيره، وصرح أبو داود بأنه منسوخ، وناسخه حديث أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم، كَانَ يصوم يوم السبت والأحد، يتحرى ذلك، ويقول:"إنهما يوما عيد الكفار، وأنا أحب أن أخالفهم"، وفي
لفظ: "ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، حَتَّى كَانَ أكثر صيامه السبت والأحد"، أخرجه أحمد، والنسائي، وأشار بقوله:"يوما عيد" إلى أن يوم السبت عيد عند اليهود، والأحد عيد عند النصارى، وأيام العيد لا تصام، فخالفهم بصيامه، ويستفاد منْ هَذَا أن الذي قاله بعض الشافعيّة، منْ كراهة إفراد السبت، وكذا الأحد، ليس جيدا، بل الأولى فِي المحافظة عَلَى ذلك يوم الجمعة، كما ورد الْحَدِيث الصحيح فيه، وأما السبت والأحد، فالأولى أن يصاما معا، وفرادى؛ امتثالا لعموم الأمر بمخالفة أهل الكتاب.
قَالَ الحافظ: وَقَدْ جمعت المسائل التي وردت الأحاديث فيها، بمخالفة أهل الكتاب، فزادت عَلَى الثلاثين حكما، وَقَدْ أودعتها كتابي الذي سميته "القول الثبت، فِي الصوم يوم السبت". انتهى "فتح" 11/ 556 - 557. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
62 - (التَّرَجُّلُ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هو مصدر ترجّل: إذا سرّح شعره، يقال: رَجَّلتُ الشعر ترجيلاً: سرحته، سواء كَانَ شعرك، أو شعر غيرك، وترجّلتُ: إذا كَانَ شعر نفسك. قاله فِي "المصباح".
وهذا الباب، وحديثه قد سبقا فِي 7/ 5060 - بلفظ:"الترجّل غبّا"، فكان الأولى للمصنف أن لا يكرّره، كما هو صنيعه فِي "الكبرى". والله تعالى أعلم.
5241 -
(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، يُقَالُ لَهُ: عُبَيْدٌ، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَنْهَى عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الإِرْفَاهِ، سُئِلَ ابْنُ بُرَيْدَةَ عَنِ الإِرْفَاهِ؟ قَالَ: مِنْهُ التَّرَجُّلُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "يعقوب بن إبراهيم": هو الجوزجانيّ الحافظ. و "الْجُرَيريّ": هو سعيد بن إياس، أبو مسعود البصريّ.
وقوله: "يقال له: عُبيد" هكذا فِي رواية المصنّف رحمه الله تعالى، وَقَدْ أخرجه أبو داود، منْ رواية الجريريّ، عن عبد الله بن بُريدة، عن فضالة بن عُبيد، وهو الصواب. قاله فِي "تهذيب التهذيب" 3/ 43. وكذا أشار إليه الحافظ المزّيّ فِي "تحفة الأشراف"
7/ 226 حيث قَالَ: "عبيد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو وهمٌ، والصواب "فضالة بن عُبيد". انتهى.
وقوله: "الإرفاه" بكسر الهمزة، قَالَ ابن الأثير رحمه الله تعالى: هو كثرة التدهّن، والتنعّم. وقيل: التوسّع فِي المشرب، والمطعم، وهو منْ الرِّفْه: وِرْدُ الإبل، وذلك أن ترد الماء متى شاءت، أراد ترك التنعّم، والدعة، ولين العيش؛ لأنه منْ زيّ العجم، وأرباب الدنيا. انتهى "النهاية" 2/ 247.
وَقَالَ الفيّوميّ رحمه الله تعالى: رَفُه العيشُ بالضمّ رَفَاهةٌ، ورَفاهيةٌ بالتخفيف: اتّسع، ولان، وهو فِي رفاهية منْ العيش، وَرَفَهْنا رَفْهًا، منْ باب نفع، ورُفُوهًا: أصبنا نعمةً، وسعةً منْ الرزق، ويتعدّى بالهمز، والتضعيف، فيقال: أرفهته، ورفّهته، فترفّه، ورجلٌ رافه، مترفّه: مستمتعٌ بنعمة، ورفّه نفسه ترفيهًا: أراحها، وليلةٌ رافهةٌ: ليّنة. انتهى.
وقوله: "منه الترجّل" هكذا نسخ "المجتبى"، وفي "الكبرى":"الترجّل" بدون "منه".
والحديث صحيح، وَقَدْ تقدّم شرحه، وبيان مسائله فِي 7/ 5060. فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
63 - (التَّيَامُنِ فِي التَّرَجُّلِ)
5242 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الأَشْعَثُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، يُحَدِّثُ عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، وَذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ مَا اسْتَطَاعَ، فِي طُهُورِهِ، وَتَنَعُّلِهِ، وَتَرَجُّلِهِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة. و"خالد": هو ابن الحارث الْهُجيميّ [8]. و"الأشعث": هو ابن سُليم الكوفيّ [6]. و"أبوه": هو أبو الشعثاء/ سُليم ابن الأسود الكوفيّ [3].
والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم تمام البحث فيه فِي "الطهارة" 112، وتقدّم أيضًا فِي 8/ 5061. فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
64 - (الأَمْرِ بِالْخِضَابِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الباب تقدّم فِي "كتاب الزينة" 14/ 5071 بلفظ: "الإذن بالخضاب"، فكان الأولى أن لا يكرّره، كما فعل فِي "الكبرى"، فتأمّل. والله تعالى أعلم بالصواب.
5243 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ، يُخْبِرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ، فَخَالِفُوهُمْ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"إسحاق بن إبراهيم": هو ابن راهويه. و"سفيان": هو ابن عيينة.
وقوله: "لا يصبغون" -بضم الموحدة، وكسرها، منْ بابي نصر، وضرب.
والحديث متَّفقٌ عليه، وتقدّم فِي 14/ 5071 شرحه، وبيان مسائله، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5244 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ -وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ- قَالَ: حَدَّثَنَا عَزْرَةُ -وَهُوَ ابْنُ ثَابِتٍ- عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَبِي قُحَافَةَ، وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَأَنَّهُ ثَغَامَةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "غَيِّرُوا" أَوِ "اخْضِبُوا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة. و"عزرة بن ثابت": هو ابن أبي زيد بن أخطب الأنصاريّ البصريّ الثقة [7].
وقوله: "كأنه ثغامة" -بفتح المثلّثة، والغين المعجمة: نبتٌ أبيض الزهر والثمر، يُشبّه به الشيب، وقيل: هي شجرةٌ تبيضّ، كأنها الثلج. قاله فِي "النهاية" 1/ 214.
وقوله: "أو اخضبوا""أو" فيه للشكّ منْ الراوي. و"اخضبوا" بكسر الضاد: أمر منْ خضبه يخضبه، منْ باب ضرب: إذا لوّنه، كخضّبه. أفاده فِي "القاموس".
والحديث أخرجه مسلم، وَقَدْ تقدّم فِي 15/ 5078. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
***
65 - (تَصْفِيرِ اللِّحْيَةِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الصفرة": لون دون الحمرة، والأصفر الأسود أيضاً. قاله فِي "المصباح". والله تعالى أعلم بالصواب.
5245 -
(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عُبَيْدٍ، قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ، يُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ، فَقُلْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "يحيى بن حكيم": هو المقَوِّم، أبو سعيد البصريّ الثقة الحافظ العابد المصنّف [10]. و"أبو قتيبة": هو سَلْمُ بن قُتيبة الشَّعِيريّ الخراسانيّ، نزيل البصرة، صدوقٌ [9] 55/ 971. و"عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار": هو العدويّ، مولى ابن عمر المدنيّ، صدوقٌ، يخطيء [7] 20/ 2482. و"زيد بن أسلم": هو العدوي، مولى ابن عمر المدنيّ الثقة الفقيه [3]. و"عبيد": هو ابن جريج التيميّ مولاهم المدنيّ الثقة [3] 95/ 117.
والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي 17/ 5087 وتقدم هناك شرحه، وبيان مسائله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
66 - (تَصْفِيرِ اللِّحْيَةِ بِالْوَرْسِ، وَالزَّعْفَرَانِ)
5246 -
(أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، يَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ، وَيُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ"، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ).
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(عبدة بن عبد الرحيم) أبو سعيد المروزيّ، نزيل دمشق، صدوقٌ، منْ صغار [10] 45/ 597.
2 -
(عمرو بن محمد) الْعَنْقَزيّ، أبو سعيد الكوفيّ الثقة [9] 60/ 1782.
3 -
(ابن أبي روّاد) هو: عبد العزيز بن روّاد -بفتح الراء، وتشديد الواو- المكيّ، صدوقٌ عابدٌ، ربّما وَهِم، ورُمي بالإرجاء [7] 93/ 1351.
4 -
(نافع) مولى ابن عمر المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 12/ 12.
5 -
(ابن عمر) عبد الله رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فمن أفراده، وأخرج له البخاريّ فِي "الأدب المفرد". (ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما منْ العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ:"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، يَلْبَسُ النِّعَالَ) بكسر النون: جمع نعل بفتح، فسكون (السِّبْتِيَّة) بكسر السين المهملة، وسكون الموحّدة، بعده تاء مثنّاة منْ فوق: نسبة إلى السِّبْت، قَالَ أبو عُبيد: هي جلد البقر المدبوغ بالقرظ. وَقَالَ أبو عمرو: كلُّ مدبوغ، فهو سبت. وَقَالَ أبو زيد: هي السبت مدبوغة، وغير مدبوغة. وقيل: السبتية: التي لا شعر عليها. وقيل: التي عليها الشعر. وَقَدْ تقدّم فِي "الطهارة" 95/ 117 بأتمّ مما هنا، فراجعه تستفد. (وَيُصَفِّرُ) بتشديد الفاء، منْ التصفير: أي يلوّن (لِحْيَتَهُ بِالْوَرْسِ) بفتح الواو، وسكون الراء: نبت أصفر يكون باليمن، يُصبغ به (وَالزَّعْفَرَانِ) بفتح، فسكون (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ) أي اقتداءً بالنبيّ صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح.
[فإن قلت]: فِي إسناده ابن أبي روّاد، وَقَدْ تُكلّم فيه، فكيف يصح؟.
[قلت]: يشهد له ما أخرجه الشيخان، منْ رواية عبيد بن جريج، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أنه صلى الله عليه وسلم كَانَ يلبس النعال السبتيّة، ويصبغ بالصفرة. فتنبّه. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -66/ 5246 - وفي "الكبرى" 22/ 9360. وأخرجه (د) فِي "الترجّل" 4210. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
67 - (الْوَصْلِ فِي الشَّعْرِ)
5247 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ بِالْمَدِينَةِ، وَأَخْرَجَ مِنْ كُمِّهِ قُصَّةً مِنْ شَعْرٍ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ، وَقَالَ: "إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، حِينَ اتَّخَذَ نِسَاؤُهُمْ مِثْلَ هَذَا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"سفيان": هو ابن عيينة. و"حُميد بن عبد الرحمن": هو ابن عوف الزهريّ المدنيّ.
وقوله: "قُصّة" بضم القاف، وتشديد الصاد المهملة: قَالَ الأصمعيّ، وغيره: هي شعر مقدّم الرأس المقبل عَلَى الجبهة. وقيل: شعر الناصية. قاله النوويّ فِي "شرح مسلم" 14/ 108. وقوله: "أين علماؤكم؟ ": قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: هَذَا السؤال للإنكار عليهم بإهمالهم إنكار المنكر، وغفلتهم عن تغييره. وفي حديث معاوية رضي الله عنه هَذَا اعتناء الخلفاء، وسائر وُلاة الأمور بإنكار المنكر، وإشاعة إزالته، وتوبيخ منْ اهمل إنكاره، ممن توجّه ذلك عليه. انتهى "شرح مسلم" 14/ 108.
وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: هَذَا منْ معاوية رضي الله عنه عَلَى جهة التذكير لأهل المدينة بما يعلمونه، واستعانة عَلَى ما رام تغييره منْ ذلك، لا عَلَى جهة أن يُعلّمهم بما لم يعلموا، فإنهم أعلم النَّاس بأحاديث النبيّ صلى الله عليه وسلم، لاسيّما فِي ذلك العصر. ويحتمل أن يكون ذلك فيه؛ لأن عوامّ أهل المدينة أوّل منْ أحدث الزور، كما قَالَ فِي الرواية الأخرى:"إنكم قد أحدثتم زيّ سَوْءٍ"، يعني الزُّور، فنادى أهل العلم ليوافقوه عَلَى ما سمعه منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ النهي عن ذلك، فينزجر منْ أحدث ذلك منْ العوامّ. وَقَدْ فسّر معاوية رضي الله عنه الزور المنهيّ عنه فِي هَذَا الْحَدِيث بالْخِرَق التي يُكثّر بها النِّساء شعورهنّ
بقوله: "ألا وهذا الزور"، وزاده قتادة وُضوحاً. والزور فِي غير هَذَا الْحَدِيث قول الباطل، والشهادة بالكذب، وأصل التزوير التمويه بما ليس بصحيح.
وهذا القول حجة واضحة عَلَى إبطال قول منْ قصر التحريم عَلَى وصل الشعر، كما تقدّم، وهذا يدلّ عَلَى اعتبار أقوال أهل المدينة عندهم، وأنها مرجع يُعتمد عليه فِي الأحكام، وهو منْ حجج مالك عَلَى أن إجماع أهل المدينة حجة، وَقَدْ حقّقنا ذلك فِي الأصول. انتهى "المفهم" 5/ 448.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: أما الاستدلال بقول معاوية رضي الله عنه هَذَا عَلَى حجيّة إجماع أهل المدينة، فغير واضح، والأرجح أنه لا يكون حجة، كما هو مذهب الجمهور، والمسألة مبسوطة فِي فنّ الأصول، فاستفد منه. والله تعالى أعلم.
وقوله: "إنما هلكت بنو إسرائيل الخ": قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: يظهر منه أن ذلك كَانَ محرّما عليهم، وأن نساءهم ارتكبوا ذلك المحرّم، فأقرهنّ عَلَى ذلك رجالهم، فاستوجب الكلّ العقوبة بذلك، وبما ارتكبوه منْ العظائم. انتهى. "المفهم" 5/ 448.
وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: قَالَ القاضي: قيل: يحتمل أنه كَانَ محرّما عليهم، فعوقبوا باستعماله، وهلكوا بسببه. وقيل: يحتمل أن الهلاك كَانَ به، وبغيره مما ارتكبوه منْ المعاصي، فعند ظهور ذلك فيهم هلكوا، وفيه معاقبة العامّة بظهور المنكر. انتهى "شرح مسلم" 14/ 108 - 109.
والحديث متّفق عليه، وتقدّم فِي 21/ 5094 و5095 مستوفى البحث، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5248 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: قَدِمَ مُعَاوِيَةُ الْمَدِينَةَ، فَخَطَبَنَا، وَأَخَذَ كُبَّةً مِنْ شَعْرٍ، قَالَ: مَا كُنْتُ أَرَى أَحَدًا يَفْعَلُهُ إِلاَّ الْيَهُودَ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَلَغَهُ، فَسَمَّاهُ الزُّورَ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة.
وقوله: "كُبّة" بضم الكاف، وتشديد الموحّدة: هي الشعر المكفوف بعضه عَلَى بعض.
وقوله: "فسمّاه الزور": الزور: المراد به هنا الباطل، أي إن استعمال هَذَا باطلٌ، لا
يحلّ شرعاً.
والحديث سبق تمام البحث فيه فِي الْحَدِيث الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
68 - (وَصْلِ الشَّعْرِ بِالْخِرَقِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الخِرَقُ" بكسر الخاء المعجمة، وفتح الراء: جمع خرقة، كسِدْرة وسِدر: القطعة منْ الثوب، ونحوه. والله تعالى أعلم بالصواب.
5249 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَحْبُوبُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ، أَنَّهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، نَهَاكُمْ عَنِ الزُّورِ، قَالَ: وَجَاءَ بِخِرْقَةٍ سَوْدَاءَ، فَأَلْقَاهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَقَالَ: هُوَ هَذَا، تَجْعَلُهُ الْمَرْأَةُ فِي رَأْسِهَا، ثُمَّ تَخْتَمِرُ عَلَيْهِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمرو بن يحيى بن الحارث": هو الحمصيّ الثقة [12] 67/ 2329 منْ أفراد المصنّف. و"محبوب بن موسى": هو أبو صالح الأنْطاكيّ الفرّاء، صدوقٌ [10] 1/ 3589 منْ أفراد المصنّف، وأبي داود. و"ابن المبارك": هو عبد الله الإمام المشهور [8].
و"يعقوب بن القعقاع" بن الأعلم الأزديّ، أبو الحسن الخراسانيّ، قاضي مرو، ابن عمة القاسم بن الفضل الْحُدّانيّ، ثقة [6].
رَوَى عن الحسن البصريّ، وعطاء، وقتادة، والربيع بن أنس، ومطر الورّاق. وعنه الثوريّ، وابن المبارك. قَالَ ابن معين، والنسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". تفرّد به المصنّف، وأبو داود، وله عند المصنّف هَذَا الْحَدِيث فقط، وعند أبي داود حديث واحد، غير هَذَا.
وقوله: "ثم تختمر عليه": أي تلبس الخمار فوقه، حَتَّى يكون رأسها كبيراً، فيتوهّم النَّاس أنها كثيرة الشعر.
والحديث صحيح، وَقَدْ تقدّم فِي 21/ 5094. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5250 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنِ الزُّورِ، وَالزُّورُ الْمَرْأَةُ تَلِفُّ عَلَى رَأْسِهَا).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ": هو ابن الْبَرْقيّ المصريّ الثقة [11] 17/ 1540. و"أَسَدُ بْنُ مُوسَى": هو الأمويّ المعروف بأسد السنة، صدوقٌ يُغرب، وفيه نَصْبٌ [9] 41/ 3176. و"هِشَامِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ": هو الدستوائيّ.
وقوله: " والزور المرأة": مبتدأ وخبر، عَلَى حذف مضاف منْ الأول، أو الثاني: أي صاحبة الزور المرأة، أو الزور عمل المرأة. وقوله:"تلُفّ عَلَى رأسها": بضم اللام، مضارع لفّ، منْ باب نصر، والجملة فِي محلّ نصب عَلَى الحال منْ "المرأة"، أو صفة لها.
والحديث صحيح، وتقدم فِي 21/ 5095. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
69 - (لَعْنِ الْوَاصِلَةِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الواصلة" هي المرأة التي تصل شعرها بشعر آخر زُورٍ. قاله فِي "النهاية" جـ 5 ص 192. والله تعالى أعلم بالصواب.
5251 -
(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَعَنَ الْوَاصِلَةَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة.
وقوله: "حدثنا عليّ" هكذا وقع فِي نسخ "المجتبى"، و"الكبرى" التي بين يديّ، وأرده فِي "تحفة الأشراف" 6/ 172 فِي ترجمة "يحيى بن سعيد القطّان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر"، وهذا هو الذي يظهر لي أنه الصواب، وَقَدْ كتب فِي هامشه: ما نصّه: هكذا وقع هَذَا الإسناد فِي أصل "ن" و"ل" وكذلك فِي "الأشراف"
لابن عساكر عَلَى الصواب، ووقع فِي "المجتبى" منْ رواية ابن السنّيّ عن أبي قُدامة عبيد الله بن سعيد، "عن عليّ" غير منسوب، بدل "يحيى بن سعيد"، ولعله تصحيف، ولم نجد له أصلاً فِي رواية ابن الأحمر. انتهى.
والحاصل أن الصواب "حدّثنا يحيى"، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي 23/ 5598. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
70 - (لَعْنِ الْوَاصِلَةِ وَالْمُسْتَوْصِلَةِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: تقدّم معنى الواصلة فِي الباب الماضي، و"المستوصلة" هي المرأة التي تأمر غيرها بوصل شعرها بشعر آخرَ زُور. والله تعالى أعلم بالصواب.
5252 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَتْنِى فَاطِمَةُ، عَنْ أَسْمَاءَ، أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ بِنْتًا لِي عَرُوسٌ، وَإِنَّهَا اشْتَكَتْ، فَتَمَزَّقَ شَعْرُهَا، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ، إِنْ وَصَلْتُ لَهَا فِيهِ، فَقَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ، وَالْمُسْتَوْصِلَةَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة. و"يحيى": هو القطّان. و"هشام": هو ابن عروة. و"فاطمة": هي بنت المنذر بن الزبير، زوج هشام الراوي عنها، وبنت عمه. و"أسماء": هي بنت أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنهما، وهي جدة فاطمة، وهشام.
وقولها: "عروس" -بفتح العين المهملة-: يطلق عَلَى الرجل، والمرأة، قَالَ الفيّوميّ: العروس وصف يستوي فيه الذكر والأنثى ما داما فِي إعراسهما، وجمع الرجل عُرُس بضمّتين، مثلُ رَسول ورُسُل، وجمع المرأة عرائس، وعَرِس بالشيء أيضًا: لزمه. انتهى.
وقولها: "اشتكت": أي مرِضت. وقولها: "جناح" بالضم: أي إثم.
والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي 22/ 5096 وتقدّم تمام البحث فيه هناك،
فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
71 - (لَعْنِ الْوَاشِمَةِ، وَالْمُوتَشِمَةِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الواشمة": هي التي تفعل الوشم، وهو بفتح، فسكون أن تغرز الجلد بإبرة، ونحوها، ثم يُحشَى كحلاً، أو غيره منْ خضرة، أو سواد. و"الموتشمة": هي التي تأمر منْ يفعل بها ذلك، وَقَدْ تقدّم البحث عنه مستوفًى 22/ 5096 و23/ 5097 فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
5253 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْوَاصِلَةَ، وَالْمُوتَصِلَةَ، وَالْوَاشِمَةَ، وَالْمُوتَشِمَةَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة.
والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي 23/ 5097 سنداً ومتناً، ومضى البحث عنه هناك مستوفى، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
72 - (لَعْنِ الْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الْمُتَنَمِّصَاتِ": هي التي تأمر منْ يفعل بها النمص، وهو نتف شعر الجبهة لتوسّع الوجه. و"الْمُتَفَلِّجَاتِ": هي التي تتكلّف تحصيل الفلجة بين أسنانها باستعمال بعض الآلات. وَقَدْ تقدّم البحث فيه مستوفًى فِي 24/ 5101 فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
5254 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ، أَلَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"محمد": هو ابن جعفر غندر. و"منصور": هو ابن المعتمر. و"إبراهيم": هو ابن يزيد النخعيّ. و"علقمة": هو ابن قيس النخعيّ. و"عبد الله": هو ابن مسعود رضي الله عنه.
والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي 24/ 5101 وتقدم شرحه، وبيان مسائله هناك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5255 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ الأَعْمَشَ، يُحَدِّثُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْوَاشِمَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ عز وجل").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة. و"أحمد بن سعيد": هو الرباطيّ المروزيّ الأشقر الثقة الحافظ [11]. و"أبو وهب": هو جرير بن حازم بن زيد، أبو النضر البصريّ الثقة [6].
والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5256 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ، وَالْمُتَوَشِّمَاتِ، الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ: كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: وَمَا لِيَ لَا أَقُولُ: مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ": هو الحرّانيّ الكلبيّ، لقبه لؤلؤ، ثقة، صاحب حديث [11] منْ أفراد المصنّف. و"عمر بن حفص": هو ابن غياث النخعيّ الكوفيّ الثقة [10]. و"أبوه": هو حفص بن غياث بن طلق النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ القاضي الثقة الفقيه، تغير آخيراً قليلاً [8]. و"أبو عبيدة": هو ابن عبد الله ابن مسعود، مشهور بكنيته، والأشهر أنه لا اسم له غيرها، ويقال: اسمه عامر، ثقة، منْ كبار [3]، لم يسمع منْ أبيه.
والحديث فيه انقطاع؛ لما ذُكر آنفاً، إلا أنه يشهد له ما مضى منْ الأحاديث، فهو صحيح بها، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -72/ 5255 - وفي
"الكبرى" 31/ 9384. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه الموجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5257 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ: "لَعَنَ اللَّهُ الْمُتَوَشِّمَاتِ، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ، أَلَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، إلا أن فيه انقطاعاً؛ لأن إبراهيم النخعيّ لم يسم منْ ابن مسعود رضي الله عنه، إلا أنه صرح أنه إذا قَالَ: قَالَ عبد الله، فقد حدّثه عنه غير واحد، وإذا قَالَ: عن فلان، عن عبد الله، فإنه الذي حدّثه فقط، وعلى هَذَا فما أرسله أقوى مما أسنده، وَقَدْ تقدّم تمام البحث فيه، فتنبّه.
والحديث صحيح، بما سبقه منْ الطرق، أو بالقاعدة التي ذكرناها آنفاً، وَقَدْ تقدّم فِي 24/ 5102. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
73 - (التَّزَعْفُرُ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ترجم الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" بقوله: "باب النهي عن التزعفر للرجال"، فقيّده بالرجال؛ لموافقة الْحَدِيث، فتخرج المرأة، فلا تُنهى عن التزعفر. والله تعالى أعلم بالصواب.
5258 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"إسماعيل": هو ابن علية. و"عبد العزيز": هو ابن صُهيب البصريّ. والسند منْ رباعيّات المصنّف، وهو (245) منْ رباعيات الكتاب.
وقوله: "أن يتزعفر الرجل"، قَالَ فِي "الفتح": كذا رواه عبد الوارث، وهو ابن سعيد مقيدا، ووافقه إسماعيل ابن علية، وحماد بن زيد، عند مسلم، وأصحاب "السنن"، ووقع فِي رواية حماد بن زيد: نهى عن التزعفر للرجال، ورواه شعبة عن ابن علية عند النسائيّ مطلقا، فَقَالَ:"نهى عن التزعفر"، وكأنه اختصره، وإلا فقد رواه عن إسماعيل
فوق العشرة، منْ الحفاظ، مقيدا بالرجل، ويحتمل أن يكون إسماعيل اختصره، لَمّا حَدّث به شعبة، والمطلق محمول عَلَى المقيد، ورواية شعبة عن إسماعيل، منْ رواية الأكابر عن الأصاغر. واختُلف فِي النهي عن التزعفر، هل هو لرائحته؛ لكونه منْ طيب النِّساء، ولهذا جاء الزجر عن الْخَلُوق، أو للونه، فيلتحق به كل صُفْرة، وَقَدْ نَقَل البيهقي عن الشافعيّ، أنه قَالَ: أنهى الرجل الحلال بكل حال أن يتزعفر، وآمره إذا تزعفر أن يغسله، قَالَ: وأُرَخِّص فِي المعصفر؛ لأنني لم أجد أحدا، يَحكي عنه، إلا ما قَالَ عليّ رضي الله عنه:"نهاني، ولا أقول: نهاكم"، قَالَ البيهقي: قد ورد ذلك عن غير عليّ رضي الله عنه، وساق حديث عبد الله بن عمرو، قَالَ: رأى عَلَيَّ النبىّ صلى الله عليه وسلم، ثوبين معصفرين، فَقَالَ:"إن هذه منْ ثياب الكفار، فلا تلبسهما"، أخرجه مسلم، وفي لفظ له:"فقلت: أغسلهما؟ قَالَ: لا، بل أحرقهما"، قَالَ البيهقي: فلو بلغ ذلك الشافعيَّ لقال به؛ اتباعا للسنة كعادته.
وَقَدْ كره المعصفر جماعة منْ السلف، ورخص فيه جماعة، وممن قَالَ بكراهته منْ أصحابنا -يعني الشافعيّة- الحليمي، واتباع السنة هو الأولى. انتهى. وَقَالَ النوويّ فِي "شرح مسلم": أتقن البيهقي المسألة، والله أعلم.
ورخص مالك فِي المعصفر، والمزعفر فِي البيوت، وكرهه فِي المحافل، وسيأتي قريبا
(1)
حديث ابن عمر فِي الصفرة، وتقدم فِي النكاح، حديث أنس فِي قصة عبد الرحمن بن عوف، حين تزوج، وجاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعليه أثر صفرة، وتقدم الجواب عن ذلك، بأن الخلوق كَانَ فِي ثوبه، عَلِقَ به منْ المرأة، ولم يكن فِي جسده، والكراهة لمن تزعفر فِي بدنه، أشد منْ الكراهة لمن تزعفر فِي ثوبه.
وَقَدْ أخرج أبو داود، والترمذي فِي "الشمائل"، والنسائي فِي "الكبرى" منْ طريق سَلْم العلوي، عن أنس، دخل رجل عَلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعليه أثر صفرة، فكره ذلك، وقَلّما كَانَ يواجه أحدا بشيء يكرهه، فلما قام، قَالَ:"لو أمرتم هَذَا أن يترك هذه الصفرة"، وسَلْم -بفتح المهملة، وسكون اللام- فيه لين، ولأبي داود منْ حديث عمار، رفعه:"لا تحضر الملائكة جنازة كافر، ولا مضمخ بالزعفران"، وأخرج أيضًا منْ حديث عمار: قَالَ: قدمت عَلَى أهلي ليلاً، وَقَدْ تشققت يداي، فخلقوني بزعفران، فسلمت عَلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يُرَحِّب بي، وَقَالَ:"اذهب، فاغسل عنك هَذَا".
ثم قَالَ البخاريّ: "باب الثوب المزعفر"، وذكر فيه حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما:"نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم، أن يلبس المحرم ثوبا مصبوغا بورس، أو زعفران".
(1)
هَذَا بالنسبة للبخاريّ، وأما بالنسبة للنسائيّ فقد تقدّم 66/ 5246 فتنبّه.
قَالَ فِي "الفتح": كذا أورده مختصرا، وَقَدْ تقدّم مطولا، مشروحا فِي "كتاب الحجّ"، وَقَدْ أخذ منْ التقييد بالمحرم، جواز لبس الثوب المزعفر للحلال، قَالَ ابن بطال: أجاز مالك، وجماعة لباس الثوب المزعفر للحلال، وقالوا: إنما وقع النهي عنه للمحرم خاصة، وحمله الشافعيّ، والكوفيون عَلَى المحرم، وغير المحرم، وحديث ابن عمر الآتي فِي "باب النعال السبتية"
(1)
، يدلّ عَلَى الجواز، فإن فيه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يصبغ بالصفرة، وأخرج الحاكم منْ حديث عبد الله بن جعفر، قَالَ: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه ثوبان مصبوغان بالزعفران، وفي سنده عبد الله بن مصعب الزبيري، وفيه ضعف، وأخرج الطبراني منْ حديث أم سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، صبغ إزاره، ورداؤه بزعفران، وفيه روا مجهول.
ومن المستغرب قول ابن العربي: لم يرد فِي الثوب الأصفر حديث، وَقَدْ ورد فيه عدة أحاديث كما ترى. قَالَ المهلب: الصفرة أبهج الألوان إلى النفس، وَقَدْ أشار إلى ذلك ابن عبّاس، فِي قوله تعالى:{صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة: 69]. انتهى "فتح" 11/ 487 - 488.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه المانعون منْ لبس المزعفر هو الأرجح، وَقَدْ تقدّم تحقيقه فِي "كتاب الحجّ" برقم 43/ 2706 فراجعه تستفد.
والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي "كتاب الحجّ" شرحه، وبيان مسائله بالرقم المذكور. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5259 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُقَدَّمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يُزَعْفِرَ الرَّجُلُ جِلْدَهُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُقَدَّمٍ": هو محمد بن عمر بن عليّ بن عطاء بن مقدم الْمُقَدَّميّ البصريّ، صدوقٌ، منْ صغار [10] منْ رجال الأربعة. و"زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ الأَنْصَارِيُّ" أبو يحيى الذّرّاع البصريّ، وَقَدْ يُنسب إلى جدّه، صدوقٌ يُخطيء [7].
رَوَى عن عبد الملك بن عُمير، وعبد العزيز بن صهيب، وثابت البنانيّ، وفائد بن كيسان أبي العوّام الجزّار، وعاصم بن العجّاج الْجَحدريّ. وعنه عليّ بن المدينيّ،
(1)
الْحَدِيث تقدّم للمصنّف فِي 66/ 5246 فتنبّه.
ويحيى بن معين، وبكر بن خلف، وأبو بكر بن أبي الأسود، وعبد الأعلى بن حمّاد، ونصر بن عليّ، وهشام بن عمّار، وأبو موسى، وغيرهم. قَالَ ابن أبي حاتم:. سُئل أبو زرعة عنه فحسّن القول فيه. وَقَالَ أبو حاتم: شيخ. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: كَانَ يُخطيء، ومات سنة (189)، وَقَالَ ابن قانع: مات سنة (187)، وكذا أرّخه الفلّاس، ويعقوب الفسويّ، وابن أبي خيثمة، وغيرهم. رَوَى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود،، وابن ماجه. وله عند المصنّف هَذَا الْحَدِيث فقط.
[تنبيه]: هَذَا السند منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (246) منْ رباعيات الكتاب.
وقوله: "أن يزعفر الرجل جلده"، ولفظ "الكبرى":"أن يتزعفر الرجل"، وهو صريح فِي أن المنهيّ عنه هو استعمال الزعفران فِي البدن.
والحديث صحيح
(1)
، وهو بهذا الإسناد منْ أفراد المصنّف، أخرجه هنا -73/ 5259 - وفي "الكبرى" 42/ 9414. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
74 - (الطِّيبُ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لفظ "الكبرى": "ردّ الطيب". وما ترجم به هنا أعمّ، وهو المناسب للأحاديث الآتية، فإن بعضها فِي عدم ردّ الطيب، كحديث أنس، وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما، وبعضها فِي عدم استعمال الطيب للمرأة إذا شهدت العشاء، كحديث زينب الثقفيّة، وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما. والله تعالى أعلم بالصواب.
5260 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، إِذَا أُتِيَ بِطِيبٍ لَمْ يَرُدَّهُ).
(1)
وَقَالَ الشيخ الألباني: ضعيف الإسناد، ولا أدري منْ أين أتى له ذلك؟، فإن زكريا بن يحيى رَوَى عنه جماعة، وأثنى عليه أبو رزعة، وَقَالَ أبو حاتم: شيخ، ووثقه ابن حبّان، وبقية رجاله ثقات، فليُتأمّل. والله تعالى أعلم.
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(إسحاق) بن إبراهيم المعروف بابن راهويه المروزيّ، ثقة ثبت حجة [10] 2/ 2.
2 -
(وكيع) بن الجرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقة ثبت عابد [9] 23/ 25.
3 -
(عَزْرة) -بفتح المهملة، وسكون الزاي، بعدها راء- ابن ثابت بن أبي زيد عمرو ابن أخطب، الأنصاريّ البصريّ، لجدّه صحبة، ثقة [7] 6/ 2630.
4 -
(ثمامة بن عبد الله بن أنس) الأنصاريّ البصريّ، قاضيها، حفيد أنس مالك رضي الله عنه، شيخه فِي هَذَا الْحَدِيث، صدوقٌ [4] 5/ 2447. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين. (ومنها): أن فيه رواية الراوي عن جدّه، وفيه أنس رضي الله عنه منْ المكثرين السبعة، رَوَى (2286) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، إِذَا أُتِيَ بِطِيبٍ لَمْ يَرُدَّهُ) ولفظ البخاريّ فِي "كتاب الهبة" منْ طريق عبد الوارث، عن عزرة قَالَ: حدّثني ثمامة بن عبد الله، قَالَ: دخلت عليه، فناولني طيباً، قَالَ: كَانَ أنس رضي الله عنه لا يردّ الطيب، قَالَ: وزعم أنسٌ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لا يردّ الطيب".
وأخرجه أبو نعيم، منْ طريق بشر بن معاذ، عن عبد الوارث، عن عزرة بن ثابت، قَالَ: دخلت عَلَى ثمامة، فناولني طيبا، قلت: قد تَطَيّبت، فَقَالَ: كَانَ أنس لا يرد الطيب.
وأخرج البزار منْ وجه آخر، عن أنس بلفظ:"ما عُرِض عَلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم طيب قط فرده"، وسنده حسن، وللإسماعيلي منْ طريق وكيع، عن عزرة بسند حديث الباب نحوه، وزاد:"وَقَالَ: إذا عُرِض عَلَى أحدكم الطيب فلا يرده"، وهذه الزيادة لم يصرح برفعها، لكن ستأتي مرفوعةً صريحاً فِي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي بعد هَذَا، إن شاء الله تعالى.
قَالَ ابن بطال رحمه الله تعالى: إنما كَانَ صلى الله عليه وسلم لا يرد الطيب منْ أجل أنه ملازم لمناجاة الملائكة، ولذلك كَانَ لا يأكل الثوم ونحوه.
وتعقّبه الحافظ، فَقَالَ: لو كَانَ هَذَا هو السبب فِي ذلك، لكان منْ خصائصه، وليس كذلك، فإن أنسا رضي الله عنه اقتدى به فِي ذلك، وَقَدْ ورد النهي عن رده مقرونا ببيان الحكمة فِي ذلك فِي حديث صحيح، رواه أبو داود، والنسائي -يعني الْحَدِيث الآتي بعد هَذَا- وأبو عوانة، منْ طريق عبيد الله بن أبي جعفر، عن الأعرج، عن أبي هريرة، مرفوعا:"منْ عُرض عليه طيب، فلا يرده، فإنه خفيف المحمل، طيب الرائحة". قاله فِي "الفتح" فِي "كتاب الهبة" 5/ 524 - 525 و"كتاب اللباس" 11/ 566 - 567. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه البخاريّ.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -74/ 5260 - وفي "الكبرى" 40/ 9410 وأخرجه (خ) فِي "الهبة" 2582 و"اللباس"5929.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم الطيب، وهو استحباب قبوله، وعدم ردّه، وَقَدْ ترجم الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "كتاب الهبة" منْ "صحيحه" بقوله:"باب ما لا يرد منْ الهدية"، قَالَ فِي "الفتح" 5/ 524: كأنه أشار إلى ما رواه الترمذيّ، منْ حديث ابن عمر، مرفوعا:"ثلاث لا تُرَدُّ: الوسائد، والدهن، واللبن"، قَالَ الترمذيّ: يعني بالدهن الطيب، وإسناده حسن، إلا أنه ليس عَلَى شرط البخاريّ، فأشار إليه، واكتفى بحديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم، كَانَ لا يرد الطيب. (ومنها): استحباب استعمال الطيب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5261 -
(أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ فَضَالَةَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِىءُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ طِيبٌ، فَلَا يَرُدَّهُ، فَإِنَّهُ خَفِيفُ الْمَحْمَلِ، طَيِّبُ الرَّائِحَةِ").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(عُبيد الله بن فَضَالة بن إبراهيم) أبو قُديد النسائيّ، ثقة ثبت [11] 17/ 898.
2 -
(عبد الله بن يزيد) أبو عبد الرحمن المقريء المكيّ، بصريّ الأصل، أو
الأهواز، ثقة فاضلٌ، أقرأ القرآن نيّفًا وسبعين سنة [9] 4/ 746.
3 -
(سعيد) بن أبي أيوب مِقْلاص الخزاعيّ مولاهم، أبو يحيى المصريّ، ثقة ثبت [7] 27/ 1880.
4 -
(عُبيد الله بن أبي جعفر) أبو بكر المصريّ، مولى بني كنانة، أو أميّة، قيل: اسم أبيه يسار، ثقة عابد فقيه [5] 83/ 2585.
5 -
(الأعرج) عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، مولى ربيعة بن الحارث، ثقة ثبت فقيه [3] 7/ 7.
6 -
(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ منْ رَوَى الْحَدِيث فِي دهره. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ طِيبٌ) ببناء الفعل للمفعول، وفي رواية مسلم:"منْ عُرض عليه ريحان" بدل "طيب"، قَالَ فِي "الفتح": ورواية الجماعة أثبت، فإن أحمد، وسبعة أنفس معه، رووه عن عبد الله بن يزيد المقريء، عن سعيد بن أبي أيوب، بلفظ "الطيب"، ووافقه ابن وهب عن سعيد، عند ابن حبّان، والعدد الكثير أولى بالحفظ منْ الواحد، وَقَدْ قَالَ الترمذيّ، عقب حديث أنس، وابن عمر رضي الله عنهم: وفي الباب عن أبي هريرة، فأشار إلى هَذَا الْحَدِيث.
وَقَالَ فِي "الفتح" أيضاً فِي موضع آخر: وَقَدْ أخرج أبو داود، والنسائي، وصححه ابن حبّان، منْ رواية الأعرج، عن أبي هريرة، رفعه:"منْ عُرض عليه طيب فلا يردّه، فإنه طيب الريح، خفيف المحمل"، وأخرجه مسلم منْ هَذَا الوجه، لكن وقع عنده "ريحان"، بدل "طيب"، و"الريحان": كل بَقْلة لها رائحة طيبة، قَالَ المنذري: ويحتمل أن يراد بالريحان جميع أنواع الطيب -يعني مشتقا منْ الرائحة- قَالَ الحافظ: مخرج الْحَدِيث واحد، والذين رووه بلفظ:"الطيب" أكثر عددا، وأحفظ فروايتهم أولى، وكأن منْ رواه بلفظ "ريحان"، أراد التعميم حَتَّى لا يخص بالطيب المصنوع، لكن اللفظ غير واف بالمقصود، وللحديث شاهد عن ابن عبّاس، أخرجه الطبراني، بلفظ:"منْ عُرض عليه الطيب، فليصب منه"، نعم أخرج الترمذيّ منْ مرسل أبي عثمان النهدي: "إذا
أعُطي أحدكم الريحان، فلا يرده، فإنه خرج منْ الجنة". انتهى "فتح" 11/ 566 - 567.
وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: وأما الريحان، فَقَالَ أهل اللغة، وغريب الْحَدِيث فِي تفسير هَذَا الْحَدِيث: هو كلّ نبت مشموم، طيّب الريح. قَالَ القاضي عياض -بعد حكاية ما ذكرنا-: ويحتمل عندي أن يكون المراد به فِي هَذَا الْحَدِيث الطيب كلّه، وَقَدْ وقع فِي رواية أبي داود فِي هَذَا الْحَدِيث:"منْ عُرض عليه طيب"، وفي "صحيح البخاريّ":"كَانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يردّ الطيب". انتهى "شرح مسلم" 15/ 9 - 10.
(فَلَا يَرُدَّهُ) بضمّ الدال؛ وَقَالَ النوويّ فِي "شرح مسلم" 15/ 9 قوله: "فلا يردّه": برفع الدال، عَلَى الفصيح المشهور، وأكثر ما يَستعمله منْ لا يُحقّق العربيّة بفتحها. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: القاعدة فِي هَذَا أنه إذا اتّصل بآخر الفعل المدغم منْ المجزوم، وشبهه هاء الغائب وجب ضمّه، كردُّه، ولم يردّه، أو هاء الغائبة وجب فتحه، كردّها، ولم يردّها؛ لأن الهاء خفية، فلم يُعتدّ بها، فكأن الدال قد وليها الواو، والألف، هَذَا هو مذهب جمهور البصريين، وهو الصحيح. وحكى ثعلب التثليث قبل هاء الغائب، وغُلّط فِي جواز الفتح، وأما الكسر، فالصحيح أنه لغيّة، سمع الأخفش مدِّهِ، وغطِّهِ. وحكى الكوفيّون التثليث قبل كل منهما، راجع شروح "الخلاصة"، و"حواشيها"
(1)
.
(فَإِنَّهُ خَفِيفُ الْمَحْمَلِ) قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: بفتح الميم الأولى، وكسر الثانية، كالمجلس، والمراد به الْحَمل -بفتح الحاء-: أي خفيف الحمل، ليس بثقيل. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "وكسر الثانية" فيه نظر لا يخفى؛ لأن المراد هنا المصدر، والقاعدة أن المصدر الميميّ منْ الثلاثيّ الذي مضارعه بكسر عين الكلمة، يكون بفتحها، كمَضرَب، ومَحْمَل، وأما بكسرها، فإنه للزمان والمكان، ولا يناسبان هنا، فتبصّر. والله تعالى أعلم.
(طَيِّبُ الرَّائِحَةِ) أي لأنه مما يستطيبه الإنسان منْ نفسه، ومن غيره، فلا ينبغيّ ردّه. قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: وَقَدْ أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذا القول إلى العلّة التي تُرغّب فِي قبول الطيب منْ المعطي، وهي أنه لا مؤنة له، ولا منّة تلحق فِي قبوله؛ لجريان عادتهم
(1)
راجع "حاشية الخضريّ عَلَى ابن عقيل" فِي "باب الادغام" 2/ 329.
بذلك، ولسهولته عليهم، ولِنزارة ما يتناول منه عند العرض، ولأنه مما يستطيبه الإنسان منْ نفسه، ويستطيبه منْ غيره. انتهى "المفهم" 5/ 558. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -74/ 5261 - وفي "الكبرى" 40/ 9411. وأخرجه (م) فِي "الأدب" 2253 (د) فِي "الترجّل" 4172 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 8065.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم الطيب، وهو استحباب قبوده، وعدم ردّه. قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: وفي هَذَا الْحَدِيث كراهة ردّ الريحان لمن عُرض عليه، إلا لعذر. انتهى. (ومنها): الترغيب فِي استعمال الطيب. (ومنها): الترغيب فِي عرضه عَلَى منْ يستعمله.
(ومنها): ما قاله ابن العربي رحمه الله تعالى: إنما كَانَ صلى الله عليه وسلم لا يرد الطيب؛ لمحبته فيه، ولحاجته إليه أكثر منْ غيره؛ لأنه يناجي منْ لا نناجي، وأما نهيه عن رد الطيب، فهو محمول عَلَى ما يجوز أخذه، لا عَلَى ما لا يجوز أخذه؛ لأنه مردود بأصل الشرع، ذكره فِي "الفتح" 11/ 566 - 567. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5262 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا جَرِيرٌ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ بُكَيْرٍ ح وَأَنْبَأَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي بُكَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْعِشَاءَ، فَلَا تَمَسَّ طِيبًا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"جرير": هو ابن عبد الحميد. و"ابن عَجلان": هو محمد.
والحديث أخرجه مسلم، وَقَدْ تقدّم فِي 5132 ومضى هناك شرحه، وبيان مسائله، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
[تنبيه]: هَذَا الْحَدِيث، والأحاديث التي بعده مناسبتها للترجمة، منْ حيث إن الطيب، وإن رغّب الشارع فِي استعماله، وقبوله ممن أهداه، إنما يكون فِي حقّ منْ لم يترتّب
عليه باستعماله مفسدة، وإلا فلا يُشرع، وذلك للنساء، إذا أردن حضور المساجد، ونحوها، فلا يجوز لهنّ استعمال الطيب؛ لئلا يفتن الرجال. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5263 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هِشَامٍ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، أَخْبَرَتْنِى زَيْنَبُ الثَّقَفِيَّةُ، امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ لَهَا: "إِذَا خَرَجْتِ إِلَى الْعِشَاءِ، فَلَا تَمَسَّ طِيبًا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"أحمد بن سعيد": هو الرباطيّ المروزيّ الحافظ، تقدّم قبل باب. و"يعقوب بن إبراهيم": هو الزهريّ المدنيّ، نزيل بغداد. و"أبوه": هو إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. و"صالح": هو ابن كيسان. و"محمد بن عبد الله بن عمرو بن هشام": هو العامريّ الحجازيّ، مقبول [7] 37/ 5132.
وقوله: "فلا تمسي طيباً" وقع فِي نسخ "المجتبى" التي بين يديّ بلفظ: "فلا تمسّ" بحذف الياء، ووقع فِي "الكبرى" بإثباتها، وهو الصواب؛ لأنه فعل مسند إلى ضمير المخاطبة، فيكون جزمه بحذف نون الرفع، لا بحذف حرف العلة؛ لأنه منْ الأفعال الخمسة التي ترفع بثبوت النون، وتجزم، وتنصب بحذفها، كما قَالَ ابن مالك رحمه الله تعالى فِي "الخلاصة":
وَاجْعَلْ لِنَحْوِ "يَفْعَلَانِ" النُّونَا
…
رَفْعاً و"تَدَعِينَ" و"تَسْألُونَا"
وَحَذَفُهَا لِلْجَزْمِ والنَّصْبِ سِمَهْ
…
"كَلَمْ تَكُونِي لِتَرُومِي مَظْلَمَهْ"
والحديث أخرجه مسلم، وَقَدْ تقدّم فِي 37/ 5131. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5264 -
(وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زَيْنَبَ الثَّقَفِيَّةِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "أَيَّتُكُنَّ خَرَجَتْ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَلَا تَقْرَبَنَّ طِيبًا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"ابن أبي جعفر": هو عبيد الله المذكور فِي ثاني حديث الباب.
والحديث أخرجه مسلم، وتقدم فِي 5131. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5265 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلْقَمَةَ الْفَرْوِيُّ، عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا، فَلَا تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ الآخِرَةَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عِيسَى": هو الطالقانيّ المروزيّ، نزيل بغداد الثقة [10]. و"أَبُو عَلْقَمَةَ الْفَرْوِيُّ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ": هو المدنيّ، صدوقٌ [8]. و"يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ": هو يزيد بن عبد الله بن خصيفة الكنديّ المدنيّ، ثقة [5].
والحديث أخرجه مسلم، وَقَدْ تقدّم سنداً ومتنًا فِي 37/ 5130 وتقدّم شرحه، وكلام المصنّف فِي إسناده، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
75 - (ذِكْرِ أَطْيَبِ الطِّيبِ)
5266 -
(أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَزْوَانَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ خُلَيْدِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَالْمُسْتَمِرِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةً، حَشَتْ خَاتَمَهَا بِالْمِسْكِ، فَقَالَ: "وَهُوَ أَطْيَبُ الطِّيبِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ": هو محمد بن إسحاق الصغانيّ، نزيل بغداد الثقة الثبت [11].
و"عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَزْوَانَ" -بمعجمة مفتوحة، وزاي ساكنة- الخزاعي، ويقال: الضبّيّ، أبو نوح المعروف بقراد -بضمّ القاف، وتخفيف الراء-، سكن بغداد، ثقة له أفراد [9].
رَوَى عن جرير بن حازم، وشعبة، وعكرمة بن عمار، وعوف الأعرابيّ، والليث بن سعد، ومالك، ويونس بن أبي إسحاق، وغيرهم. وعنه ابناه: محمد وغزوان، وأبو معاوية، وهو أكبر منه، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، ومحمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي، وحجاج بن الشاعر، ومحمد بن رافع، وعباس الدُّوري، وإبراهيم الجوزجاني، والفضل بن سهل الأعرج، ومجاهد بن موسى، والصغاني، ومحمد بن الحسن بن إشكاب، والحارث بن أبي أسامة، وغيرهم. قَالَ عبد الله بن أحمد، عن
أبيه: كَانَ عاقلا منْ الرجال. وَقَالَ ابن معين: صالح ليس به بأس. وَقَالَ أبو حاتم: صالح. وَقَالَ ابن المديني، وابن نمير، ويعقوب بن شيبة: ثقة. وَقَالَ ابن سعد: كَانَ ثقة، رَوَى عن شعبة رواية كثيرة، وكان شعبة ينزل عليه. وَقَالَ مجاهد بن موسى: كَانَ كيسا، ما كتبت عن شيخ كَانَ أحرّ رأسا منه. قَالَ ابن جرير: مات سنة (207) وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: كَانَ يخطيء، يتخالج فِي القلب منه، لروايته عن الليث، عن مالك، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة قصة المماليك. وَقَالَ الخليلي: قراد قديم، رَوَى عنه الأئمة، ينفرد بحديث عن الليث، لا يتابع عليه. وَقَالَ الدارقطنيّ فِي "الجرح والتعديل": ثقة، وله أفراد. وَقَالَ ابن أبي حاتم، عن أبيه: صدوقٌ. رَوَى له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وله عند المصنّف حديثان فقط: هَذَا، و96/ 5321 - حديث أبي رمثة رضي الله عنه، خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه ثوبان أخضران".
و"خُليد بن جعفر": هو أبو سليمان البصريّ، صدوقٌ [6] 42/ 1905. و"المستمرّ": هو ابن الرّيّان الإياديّ الزهرانيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقة عابد
(1)
[5] 42/ 1906. و"أبو نضرة": هو المنذر بن مالك بن قُطَعة العبديّ البصريّ، ثقة [3] 21/ 438.
والحديث أخرجه مسلم، وتقدم فِي 1905 و5121 وَقَدْ مضى شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
76 - (تَحْرِيمِ لُبْسِ الذَّهَبِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدّم للمصنف رحمه الله تعالى ذكر هَذَا الباب، والباب التالي، وأحاديثهما، فكان الأولى له عدم التكرار، كما فعل فِي "الكبرى"، فتأمّل. والله تعالى أعلم بالصواب.
5267 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَيَزِيدُ، وَمُعْتَمِرٌ، وَبِشْرُ بْنُ
(1)
جعله فِي "التقريب" منْ السادسة، والأولى أنه منْ الخامسة، لأنه رأى أنساً رضي الله عنه، فهو منْ طبقة الأعمش، فتأمّل.
الْمُفَضَّلِ، قَالُوا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"إِنَّ اللَّهَ عز وجل أَحَلَّ لإِنَاثِ أُمَّتِي الْحَرِيرَ وَالذَّهَبَ، وَحَرَّمَهُ عَلَى ذُكُورِهَا").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"عمرو بن عليّ": هو الفلّاس. و"يحيى": هو ابن سعيد القطّان. و"يزيد": هو ابن هارون. و"معتمر": هو ابن سليمان بن طرخان. و"عبيد الله": هو ابن عمر العمري. و"أبو موسى": هو عبد الله بن قيس الأشعريّ الصحابيّ الشهير رضي الله عنه.
والحديث صحيح، وَقَدْ تقدّم فِي 40/ 5150 وسبق شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
77 - (النَّهْيُ عَنْ لُبْسِ خَاتَمِ الذَّهَبِ)
5268 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "نُهِيتُ عَنِ الثَّوْبِ الأَحْمَرِ، وَخَاتَمِ الذَّهَبِ، وَأَنْ أَقْرَأَ وَأَنَا رَاكِعٌ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"محمد بن الوليد": الْبُسريّ البصريّ الملقّب بحمدان، ثقة [10]. و"محمد": هو ابن جعفر، غندر. و"أبو بكر بن حفص": هو عبد الله بن حفص بن عمر بن سعد بن أبي وقّاص الزهريّ المدنيّ، مشهور بكنيته، ثقة [5] 122/ 178. و"عبد الله بن حنين": هو الهاشمي المدنيّ، ثقة [3] 97/ 1041.
والحديث أخرجه مسلم، وأخرجه المصنّف هنا فقط 77/ 5268، وفي "الكبرى" 54/ 9476.
لكن قَالَ الحافظ المزّيّ رحمه الله تعالى فِي "تحفة الأشراف": المحفوظ حديث ابن عبّاس، عن عليّ رضي الله عنهم يعني الآتي بعد هَذَا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5269 -
(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: "نَهَانِي
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ، وَأَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ وَأَنَا رَاكِعٌ، وَعَنِ الْقَسِّيِّ، وَعَنِ الْمُعَصْفَرِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.
و"يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ": هو الدورقيّ. و"يحيى": هو القطّان.
والحديث أخرجه مسلم، وتقدم فِي "الصلاة" 1041 وتقدّم أيضاً قريبا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5270 -
(أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيًّا، يَقُولُ: نَهَانِى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ، وَعَنْ لُبُوسِ الْقَسِّيِّ، وَالْمُعَصْفَرِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَأَنَا رَاكِعٌ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"عيسى بن حماد": هو المصريّ المعروف بزُغبة. و"الليث": هو ابن سعد.
والحديث أخرجه مسلم، وتقدم فِي "الصلاة" 1041 وتقدّم أيضًا قريبًا.
[تنبيه]: هَذَا الإسناد مخالف لما قبله، ولما بعده حيث سقط منه الواسطة بين عبد الله بن حُنين وبين عليّ، وهو ابن عبّاس رضي الله عنهم، وهو رواية الأكثرين، قَالَ الدارقطنيّ رحمه الله تعالى: منْ أسقط ابن عبّاس أكثر، وأحفظ. قَالَ النوويّ: وهذا الاختلاف لا يؤثّر فِي صحّة الْحَدِيث، فقد يكون عبد الله بن حُنين سمعه منْ ابن عبّاس، عن عليّ، ثم سمعه منْ عليّ نفسه. انتهى "شرح مسلم" 4/ 200.
وقوله: "وعن لبوس الْقَسيّ" بفتح اللام، بمعنى ملبوس، والإضافة بمعن "منْ". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5271 -
(قَالَ الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: "نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، وهو ثقة حافظ. والحديث أخرجه مسلم، وَقَدْ تقدّم فِي "الصلاة"1041. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5272 -
(أَخْبَرَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَرْبٌ، عَنْ يَحْيَى، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ سَعْدٍ الْفَدَكِيُّ، أَنَّ نَافِعًا أَخْبَرَهُ، حَدَّثَنِي ابْنُ حُنَيْنٍ، أَنَّ عَلِيًّا حَدَّثَهُ، قَالَ: "نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ ثِيَابِ الْمُعَصْفَرِ، وَعَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ، وَلُبْسِ الْقَسِّيِّ، وَأَنْ أَقْرَأَ وَأَنَا رَاكِعٌ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.
و"حرب": هو ابن شدّاد. و"يحيى": هو ابن أبي كثير. و"ابن حنين": هو عبد الله المذكور قبله.
والحديث أخرجه مسلم، وَقَدْ سبق سنداً ومتنًا فِي 43/ 5182 وسبق تمام البحث فيه هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5273 -
(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ دُرُسْتَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: "نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ لُبْسِ ثَوْبٍ مُعَصْفَرٍ، وَعَنِ التَّخَتُّمِ بِخَاتَمِ الذَّهَبِ، وَعَنْ لُبْسِ الْقَسِّيَّةِ، وَأَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ وَأَنَا رَاكِعٌ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "يحيى بن دُرُست" -بضمتين، وسكون السين المهملة، بعدها تاء مثنّاة فوقية-: هو البصريّ الثقة [10]. و"أبو إسماعيل": هو إبراهيم بن عبد الملك القنّاد البصريّ، صدوقٌ فِي حفظه شيء [7].
والحديث أخرجه مسلم، كما سبق بيانه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5274 -
(أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، أَخْبَرَنِي خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ، أَنَّ ابْنَ حُنَيْنٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ ثِيَابِ الْمُعَصْفَرِ، وَعَنِ الْحَرِيرِ، وَأَنْ يَقْرَأَ وَهُوَ رَاكِعٌ، وَعَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "إبراهيم بن يعقوب": هو الْجُوزجانيّ الحافظ. و"الحسن بن موسى": هو الأشيب، أبو عليّ البغداديّ القاضي الثقة [9]. و"شيبان": هو ابن عبد الرحمن النحويّ البصريّ الثقة [7]. و"يحيى": هو ابن أبي كثير الثقة الثبت [5]. و"خالد بن معدان": هو الكلاعيّ الحمصيّ الثقة العابد [3]. و"ابن حنين": هو عبد الله المتقدّم.
وقوله: "وأن يقرأ" بفتح أوله، والفعل ضمير المصليّ المفهوم منْ السياق.
والحديث أخرجه مسلم، كما سبق بيانه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5275 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّضْرَ بْنَ أَنَسٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ نَهَى عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"محمد": هو ابن جعفر، غندر. و"النضر بن أنس": هو ولد أنس بن مالك الصحابيّ رضي الله عنه. و"بَشير بن نَهيك" -بتكبير الاسمين، فما يقع فِي النسخ منْ ضبط "بشير" بالقلم مصغّرًا غلط، فليُتنبّه.
وهذا الإسناد مسلسل بثقات البصريين، وفيه ثلاثة منْ التابعين يروي بعضهم منْ بعض.
والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي 45/ 5186. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5276 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنِ الْحَجَّاجِ -وَهُوَ ابْنُ الْحَجَّاجِ- عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أحمد بن حفص": هو أبو عليّ بن أبي عمرو النيسابوريّ، صدوقٌ [11] منْ أفراد البخاريّ، والمصنّف، وأبي داود. و"أبوه": هو حفص بن عبد الله بن راشد السلميّ، أبو عمرو النيسابوريّ قاضيها، صدوقٌ [9]. و"إبراهيم": هو ابن طهمان الخراسانيّ، نزيل مكة، ثقة يُغرِب، وتُكلّم فيه بالإرجاء، ويقال: رجع عنه [7]. و"الحجّاج بن الحجّاج": هو الباهليّ البصريّ الأحول، ثقة [6]. و"قتادة": هو ابن دِعامة السدوسيّ البصريّ الإمام المشهور.
و"عبد الملك بن عبيد" السدوسيّ، مجهول الحال [6].
والحديث بهذا الإسناد ضعيفٌ؛ لجهالة عبد الملك بن عبيد، وإنما الصحيح حديث شعبة الذي قبله، وهو متَّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
***
78 - (صِفَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَقْشِهِ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الكلام فِي هَذَا الباب كالكلام فيما مضى، فقد سبق قريبا أن ساقه المصنّف بأحاديثه، فيُستغرب منه إعادته هنا، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: ذكر الحافظ العراقيّ رحمه الله تعالى صفة خاتم النبيّ صلى الله عليه وسلم ونقشه فِي "ألفية السيرة" له، حيث قَالَ:
خَاتَمُهُ مِنْ فِضَّةٍ وَفَصُّهُ
…
مِنْهُ وَنَقْشُهُ عَلَيْهِ نَصُّهُ
"مُحَمَّدٌ" سَطْرٌ "رَسُولُ" سَطْرُ
…
"اللهِ" سَطْرٌ لَيْسَ فِيهِ كَسْرُ
وفَصُّهُ لِبَاطِنٍ يَخْتِمُ بِه
…
وَقَالَ لا يُنْقَشْ عَلَيْهِ يَشْتَبِه
يَلْبَسُهُ كَمَا رَوَى الْبُخَارِي
…
فِي خِنْصِرٍ يَمِينٍ أوْ يَسَارِ
كِلَاهُمَا فِي مُسْلِمٍ وَيُجْمَعُ
…
بِأَنَّ ذَا فِي حَالَتَيْنِ يَقَعُ
أَوْ خَاتَمَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ بِيَدْ
…
كَمَا بِفَصٍّ حَبَشِيٍّ قَدْ وَرَدْ
والله تعالى أعلم بالصواب.
5277 -
(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمَ الذَّهَبِ، فَلَبِسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ الذَّهَبِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي كُنْتُ أَلْبَسُ هَذَا الْخَاتَمَ، وَإِنِّي لَنْ أَلْبَسَهُ أَبَدًا، فَنَبَذَهُ، فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"إسماعيل": هو ابن جعفر بن أبي كثير المقريء المدنيّ. والسند منْ رباعيّات المصنّف، وهو (247) منْ رباعيات الكتاب.
والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي 53/ 5214. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5278 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ نَقْشُ خَاتَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"محمد
ابن بشر": هو العبديّ الكوفيّ الثقة الحافظ [9]. و"عبيد الله": هو ابن عمر العمريّ.
والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي 53/ 5218. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5279 -
(أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ، وَفَصُّهُ حَبَشِيٌّ، وَنَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"عثمان بن عُمر": العبديّ البصريّ، بخاريّ الأصل الثقة [9].
والحديث متَّفقٌ عليه، وتقدّم فِي 47/ 5198. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5280 -
(أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ بِشْرٍ -وَهُوَ ابْنُ الْمُفَضَّلِ- قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ، فَقَالُوا: إِنَّهُمْ لَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلاَّ مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ، وَنُقِشَ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. وهو مسلسلٌ بثقات البصريين.
والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي 47/ 5203. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5281 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ، وَفَصُّهُ حَبَشِيٌّ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.
والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق فِي 47/ 5198. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5282 -
(أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنِ الْحَسَنِ -وَهُوَ ابْنُ صَالِحٍ- عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: "كَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ فِضَّةٍ، وَفَصُّهُ مِنْهُ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"القاسم بن زكريّا": هو الطحان الكوفيّ الثقة [11]. و"عبيد الله": هو ابن موسى بن أبي المختار/ باذام العبسيّ الكوفيّ الثقة [9]. و"عاصم": هو ابن أبي النجود
المقريء المشهور الكوفيّ [6]. ويحتمل أن يكون "عاصم" بن سليمان الأحول البصريّ الثقة [4] كما سيأتي منْ رواية أبي الشيخ. والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: أورد الحافظ المزيّ رحمه الله تعالى هَذَا الْحَدِيث فِي "تحفة الأشراف" 1/ 194 - 195 فِي ترجمة عاصم بن أبي النجود، عن حميد، عن أنس. فكتب الحافظ فِي "النكت الظراف": ما نصّه: سقط ذكر عاصم منْ رواية ابن السنّيّ، فصار منْ رواية الحسن بن صالح، عن حميد، لكن ثبت ذكر عاصم فِي رواية غير ابن السّنّيّ، وهو الصواب.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله منْ سقوط عاصم منْ السند ليس فِي النسخ التي بين يديّ، فقد ثبت فيها، ولعله وقع فِي نسخته. والله تعالى أعلم.
قَالَ: ولم أر عاصماً فِي النسائيّ منسوبًا، وَقَدْ رواه أبو الشيخ فِي "كتاب الصلاة" له، وفي "كتاب أخلاق النبيّ صلى الله عليه وسلم" منْ هَذَا الوجه، فَقَالَ:"عن عاصم الأحول". انتهى "النكت" 1/ 194 - 195.
والحديث أخرجه البخاريّ، وَقَدْ مضى فِي 47/ 5200. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5283 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلِىُّ بْنُ حُجْرٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَدِ اصْطَنَعْنَا خَاتَمًا، وَنَقَشْنَا عَلَيْهِ نَقْشًا، فَلَا يَنْقُشْ عَلَيْهِ أَحَدٌ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"إسماعيل": هو ابن عليّة. والسند منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (248) منْ رباعيات الكتاب.
والحديث أخرجه مسلم، وتقدّم فِي 50/ 5210. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
79 - (مَوْضِعُ الْخَاتَمِ)
5284 -
(أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ
أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، اصْطَنَعَ خَاتَمًا، فَقَالَ:"إِنَّا قَدِ اتَّخَذْنَا خَاتَمًا، وَنَقَشْنَا عَلَيْهِ نَقْشًا، فَلَا يَنْقُشْ عَلَيْهِ أَحَدٌ"، وَإِنِّي لأَرَى بَرِيقَهُ فِي خِنْصَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة. و"عمران بن موسى": هو القزّاز البصريّ، صدوقٌ [10]. و"عبد الوارث": هو ابن سعيد التّنّوريّ البصريّ [8]. و"عبد العزيز": هو ابن صهيب. والسند منْ رباعيّات المصنّف، وهو (249) منْ رباعيات الكتاب، وهو مسلسلٌ بثقات البصريين.
والحديث أخرجه البخاريّ، وَقَدْ سبق فِي 50/ 5210. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5285 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَامِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن عامر": هو الأنطاكيّ، نزيل الرملة، ثقة [11] منْ أفراد المصنّف. و"محمد بن عيسى": هو ابن نَجيج، أبو جعفر ابن الطبّاع البغداديّ، نزيل أَذَنَة، ثقة فقيه، كَانَ منْ أعلم النَّاس بحديث هُشيم [10]. و"عبّاد بن العوّام": هو الكلابيّ مولاهم، أبو سهل الواسطيّ، ثقة [8]. و"سعيد": هو ابن أبي عروبة الثقة الثبت، لكنه يدلّس، واختلط [6].
والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي 47/ 5199. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5286 -
(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عِيسَى الْبِسْطَامِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ خَاتَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فِي إِصْبَعِهِ الْيُسْرَى).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"الحسين بن عيسى": هو أبو عليّ البِسْطاميّ الْقُومَسيّ، نزيل نيسابور، صدوقٌ، صاحب حديث [10]. و"سلم بن قُتيبة": هو الشعيريّ، أبو قتيبّة الخراسانيّ، نزيل البصرة، صدوقٌ [9].
وقوله: "فِي إصبعه اليسرى": هَذَا لا ينافي ما تقدّم فِي الْحَدِيث السابق منْ أنه صلى الله عليه وسلم كَانَ يتختّم فِي يمينه؛ لإمكان الجمع بأنه تارة كَانَ يتختّم فِي اليمنى، وتارة فِي اليسرى، وَقَدْ تقدّم البحث فِي هَذَا مستوفًى فِي 47/ 5205 فراجعه تستفد.
والحديث بهذا الإسناد منْ أفراد المصنّف، وهو صحيح. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5287 -
(أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، أَنَّهُمْ سَأَلُوا أَنَسًا عَنْ خَاتَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ خَاتَمِهِ مِنْ فِضَّةٍ، وَرَفَعَ إِصْبَعَهُ الْيُسْرَى الْخِنْصَرَ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"أبو بكر بن نافع": هو محمد أحمد العبديّ البصريّ، صدوقٌ، منْ صغار [10]. و"حمّاد": هو ابن سلمة.
وقوله: "وَبِيص خاتمه" -بفتح الواو، وكسر الموحّدة- كالبريق وزنًا ومعنًى.
وقوله: "الخنصرَ" بالنصب بدلٌ منْ "إصبعه"، وهو -بكسر الخاء المعجمة، والصاد المهملة- مؤنّث، والجمع الخناصر.
والحديث أخرجه مسلم فِي "الصلاة" مطوّلاً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5288 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا، يَقُولُ: نَهَانِي نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الْخَاتَمِ فِي السَّبَّابَةِ، وَالْوُسْطَى).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"محمد": هو ابن جعفر، غندر.
والحديث أخرجه مسلم، وتقدّم فِي 52/ 5211. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5289 -
(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: نَهَانِى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ أَلْبَسَ فِي إِصْبَعِي هَذِهِ، وَفِي الْوُسْطَى، وَالَّتِي تَلِيهَا).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة. و"أبو الأحوص": هو سلّام بن سُليم.
وقوله: " أن ألبس فِي إصبعي هذه": قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: الظاهر أن الإشارة إلى السبّابة، قالوا: يكره للرجل التختّم فِي الوسطى، وتاليتيها كراهة التنزيه، ويجوز للمرأة فِي كلّ الأصابع. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن الواو فِي قوله: "وفي الوُسطى" غلط، بدليل أن رواية أبي الأحوص هذه أخرجها مسلم، فِي "صحيحه"، ولفظه:"نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتختّم فِي إصبعي هذه، أو هذه"، قَالَ: "فأومأ إلى الوسطى،
والتي تليها". وبديل الرواية الأخرى التي تقدّمت، فقد تقدّم الْحَدِيث 52/ 5212 و5213 و5214 وفي كلها التصريح بالسبّابة والوسطى، فينبغي حمل هذه الرواية عليها.
وعلى هَذَا فيكون قوله: "فِي الوسطى" بدلاً منْ "إصبعي هذه"، وقوله:"والتي تليها" عطف عليه، يعني أنه نهاه أن يتختّم فِي الوسطى، والتي تليها، وهي السبّابة، فتأمّل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
80 - (مَوْضِعُ الْفَصِّ)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الفَصّ" -بفتح الفاء، وتشديد الصاد المهملة-: هو ما يُركّب فِي الخاتم منْ غيره، وجمعه فُصوص، مثلُ فلس وفُلُوس. قَالَ الفارابيّ، وابن السّكّيت: وكسر الفاء رديء. قاله فِي "المصباح".
وَقَالَ فِي "القاموس": الفصّ للخاتم مثلثةٌ، والكسر غير لحن، ووهِمَ الجوهريّ. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: فتبيّن بهذا جواز الحركات الثلاث فِي الفاء، إلا أن الأفصح الفتح. والله تعالى أعلم بالصواب.
5290 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، يَتَخَتَّمُ بِخَاتَمٍ مِنْ ذَهَبٍ، ثُمَّ طَرَحَهُ، وَلَبِسَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ، وَنُقِشَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: "لَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَنْقُشَ عَلَى نَقْشِ خَاتَمِي هَذَا"، وَجَعَلَ فَصَّهُ فِي بَطْنِ كَفِّهِ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ": هو أبو يحيى المكيّ، ثقة [10] منْ أفراد المصنّف، وابن ماجه. و"سفيان": هو ابن عيينة.
والحديث أخرجه مسلم، وتقدّم سنداً، ومتنًا فِي 53/ 5215. وتقدّم شرحه، والكلام عَلَى مسائله هناك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أُنيب".
***
81 - (طَرْحِ الْخَاتَمِ، وَتَرْكِ لُبْسِهِ)
5291 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، اتَّخَذَ خَاتَمًا، فَلَبِسَهُ، قَالَ: "شَغَلَنِي هَذَا عَنْكُمْ مُنْذُ الْيَوْمِ، إِلَيْهِ نَظْرَةٌ، وَإِلَيْكُمْ نَظْرَةٌ، ثُمَّ أَلْقَاهُ").
رجال هَذَا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ) المروزيّ المعروف بالتُّرْك، وَقَدْ يُنسب إلى جدّه، ثقة [11] 109/ 148 منْ أفراد المصنّف.
2 -
(عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ) بن فارس العبديّ البصريّ، بخاريّ الأصل، ثقة [9] 151/ 1118.
3 -
(مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ) -بكسر الميم، وسكون العين المعجمة- أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة ثبت، منْ كبار [7] 98/ 127.
4 -
(سُلَيْمَانَ الشَّيْبَانِيِّ) هو سليمان بن أبي سليمان فيروز، أبو إسحاق الشيبانيّ الكوفيّ، ثقة [5] 172/ 267.
5 -
(سعيد بن جبير) الأسديّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 28/ 436.
6 -
(ابن عبّاس) عبد الله البحر رضي الله تعالى عنهما 27/ 31. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، منْ مالك. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، اتَّخَذَ خَاتَمًا) معنى "اتخذ": أمر بصياغته، فصيغ له، فلبسه، أو وجده مصوغا، فاتّخذه (فَلَبِسَهُ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (شَغَلَنِي) منْ باب نفع، ولا يقال: أشغله بالألف، أو هي لغة قليلة، أو رديئة، وأما ما قاله فِي "القاموس" منْ أنه لغة جيّدة، فقد اعترض عليه الشارح بأنه لا يُعرف نقله عن أحد منْ أئمة اللغة. (هَذَا عَنْكُمْ مُنْذُ الْيَوْمِ) أي فِي هَذَا اليوم؛ لأن "منذ"، ومثلها "مُذْ"
إذا كَانَ للحاضر فإنهما بمعنى "فِي"، فتقول: ما رأيته منذ، أو مذ يومنا: أي فِي يومنا، كما أنهما إذا كانا للماضي كانا بمعنى "منْ"، فتقول: ما رأيته منذ، أو مذ يومِ الجمعة، أي منْ يوم الجمعة، وإلى ذلك أشار ابن مالك رحمه الله تعالى فِي "الخلاصة" حيث قَالَ:
وَإِنْ يَجُرَّا فِي مُضِيٍّ فَكَـ"مِنْ"
…
هُمَا وَفِي الْحُضُورِ مَعْنَى "فِي" اسْتَبِنْ
(إِلَيْهِ نَظْرَةٌ) مبتدأ وخبرٌ: أي نظرة مني كائنة إليه تارة (وَإِلَيْكُمْ نَظْرَةٌ) أي ونظرة منّي كائنة إلكم تارة أخر (ثُمَّ أَلْقَاهُ) أي رمى ذلك الخاتم الذي شغله عن مهماته. ثم إنه يحتمل أن يكون هَذَا الخاتم هو الخاتم الذي اتّخذه منْ الذهب، فيكون قد جمع الوصفين، كونه شاغلاً له، وكونه محرماً لبسه، فرماه لهما معاً، ويحتمل أنه خاتم منْ فضّة، وإنما رماه لكونه شغله، لا لتحريمه، كما قَالَ فِي قصّة الخميصة التي ألهته عن صلاته، فعن عائشة رضي الله تعالى عنها، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، صلى فِي خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قَالَ:"اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وأتوني بأنبجانية أبي جهم، فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي"، وفي لفظ:"كنت أنظر إلى علمها، وأنا فِي الصلاة، فأخاف أن تفتنني". متّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق للمصنّف فِي "الصلاة" 20/ 771.
فقد ردّ صلى الله عليه وسلم الخميصة، إلى منْ أهداها له، وليس تحريماً للبسها، وإنما ابتعاداً عن إلهائها فِي الصلاة، فيحتمل أن يكون ما هنا منْ قبيل ذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح، وَقَدْ تفرّد به المصنّف، فأخرجه هنا -81/ 5291 - وفي "الكبرى" 72/ 9543. وأخرجه (أحمد) فِي "مسند بني هاشم" 2955. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5292 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، اصْطَنَعَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، وَكَانَ يَلْبَسُهُ، فَجَعَلَ فَصَّهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ، فَصَنَعَ النَّاسُ، ثُمَّ إِنَّهُ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَنَزَعَهُ، وَقَالَ: "إِنِّي كُنْتُ أَلْبَسُ هَذَا الْخَاتَمَ، وَأَجْعَلُ فَصَّهُ مِنْ دَاخِلٍ"، فَرَمَى بِهِ، ثُمَّ قَالَ: "وَاللَّهِ لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا"، فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة. والسند منْ رباعيّات المصنّف، وهو (250) منْ رباعيات الكتاب.
والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي 53/ 5214، ومضى تمام البحث فيه هناك،
فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5293 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قِرَاءَةً، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّهُ رَأَى فِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ، يَوْمًا وَاحِدًا، فَصَنَعُوهُ، فَلَبِسُوهُ، فَطَرَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَطَرَحَ النَّاسُ).
رجال هَذَا الإسناد: أربعة:
1 -
(محمد بن سليمان) بن حبيب الأسديّ، أبو جعفر العلّاف الكوفيّ، ثم الْمِصّيصيّ، لقبه لُوين -مصغّرًا- ثقة [10] 171/ 1140.
2 -
(إبراهيم بن سعد) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة حجة [8] 196/ 314.
3 -
(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهريّ الإمام الحجة الثبت [4] 1/ 1.
4 -
(أنس) بن مالك رضي الله تعالى عنه 6/ 6. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى، كسابقه، وهو (251) منْ رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به هو، وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، كما سبق آنفاً. (ومنها): أن فيه أنساً رضي الله تعالى عنه منْ المكثرين السبعة، رَوَى (2286) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنْ أَنَسٍ) بن مالك رضي الله تعالى عنه (أَنَّهُ رَأَى فِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ) أي فضة (يوما واحِدا، فصنعُوهُ) أي صنع النَّاس خواتيم مثله (فَلَبِسُوهُ) اقتداء به صلى الله عليه وسلم (فَطَرَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) ذلك الخاتم (وَطَرَحَ النَّاسُ) خواتيمهم.
قَالَ فِي "الفتح" 10/ 332 - 333: هكذا رَوَى الْحَدِيث الزهريّ، عن أنس، واتفق الشيخان عَلَى تخريجه منْ طريقه، ونُسب فيه إلى الغلط؛ لأن المعروف أن الخاتم الذي طرحه النبيّ صلى الله عليه وسلم بسبب اتخاذ النَّاس مثله، إنما هو خاتم الذهب، كما صرح به فِي حديث ابن عمر، قَالَ النوويّ، تبعا لعياض: قَالَ جميع أهل الْحَدِيث: هَذَا وَهَمٌ منْ ابن شهاب؛ لأن المطروح ما كَانَ إلا خاتم الذهب، ومنهم منْ تأوله كما سيأتي.
قَالَ الحافظ: وحاصل الأجوبة ثلاثة:
[أحدها]: قاله الإسماعيلي، فإنه قَالَ -بعد أن ساقه-: إن كَانَ هَذَا الخبر محفوظا،
فينبغي أن يكون تأويله، أنه اتخذ خاتما منْ ورق، عَلَى لون منْ الألوان، وكره أن يتخذ غيره مثله، فلما اتخذوه رمى به، حَتَّى رموا به، ثم اتخذ بعد ذلك ما اتخذه، ونقش عليه مانقش؛ ليختم به.
[ثانيها]: أشار إليه الإسماعيلي أيضًا، أنه اتخذه زينة، فلما تبعه النَّاس فيه، رمى به، فلما احتاج إلى الختم، اتخذه ليختم به، وبهذا جزم المحب الطبري، بعد أن حكى قول المهلب، وذكر أنه مُتكلّف، قَالَ: والظاهر منْ حالهم أنهم اتخذوها للزينة، فطرح خاتمه ليطرحوا، ثم لبسه بعد ذلك، للحاجة إلى الختم به، واستمر ذلك.
[ثالثها]: قَالَ ابن بطال: خالف ابن شهاب رواية قتادة، وثابت، وعبد العزيز بن صهيب، فِي كون الخاتم الفضة استقر فِي يد النبيّ صلى الله عليه وسلم، يختم به الخلفاء بعده، فوجب الحكم للجماعة، وأنه وهِم الزهريّ فيه. لكن قَالَ المهلب: قد يمكن أن يتأول لابن شهاب، ما ينفي عنه الوهم، وإن كَانَ الوهم أظهر، وذلك أنه يحتمل أن يكون لَمّا عزم عَلَى اطراح خاتم الذهب، اصطنع خاتم الفضة، بدليل أنه كَانَ لا يستغنى عن الختم عَلَى الكتب، إلى الملوك وغيرهم، منْ أمراء السرايا والعمال، فلما لبس خاتم الفضة، أراد النَّاس أن يصطنعوا مثله، فطرح عند ذلك خاتم الذهب، فطرح النَّاس خواتيم الذهب.
وتعقبه الحافظ، فَقَالَ: ولا يخفى وَهْيُ هَذَا الجواب، والذي قاله الإسماعيلي أقرب، مع أنه يخدش فيه، أنه يستلزم اتخاذ خاتم الورق مرتين، وَقَدْ نقل عياض نحوا منْ قول ابن بطال، قائلا: قَالَ بعضهم: يمكن الجمع بأنه لما عزم عَلَى تحريم خاتم الذهب، اتخذ خاتم فضة، فلما لبسه أراه النَّاس فِي ذلك اليوم، ليعلموا إباحته، ثم طرح خاتم الذهب، وأعلمهم تحريمه، فطرح النَّاس خواتيمهم منْ الذهب، فيكون قوله:"فطرح خاتمه، وطرحوا خواتيمهم": أي التي منْ الذهب.
وحاصله أنه جعل الموصوف فِي قوله: "فطرح خاتمه، فطرحوا خواتيمهم" خاتم الذهب، وإن لم يجر له ذكر، قَالَ عياض: وهذا يسوغ أن لو جاءت الرواية مجملة، ثم أشار إلى أن رواية ابن شهاب، لا تحتمل هَذَا التأويل. فأما النوويّ، فارتضى هَذَا التأويل، وَقَالَ: هَذَا هو التأويل الصحيح، وليس فِي الْحَدِيث ما يمنعه، قَالَ: وأما قوله: "فصنع النَّاس الخواتيم منْ الورق، فلبسوها"، ثم قَالَ:"فطرح خاتمه، فطرحوا خواتيمهم"، فيحتمل أنهم لما علموا أنه صلى الله عليه وسلم، يريد أن يصطنع لنفسه خاتم فضة، اصطنعوا لأنفسهم خواتيم الفضة، وبقيت معهم خواتيم الذهب، كما بقي معه خاتمه إلى أن استبدل خاتم الفضة، وطرح خاتم الذهب، فاستبدلوا، وطرحوا. انتهى.
وأيده الكرماني بأنه ليس فِي الْحَدِيث، أن الخاتم المطروح كَانَ منْ ورق، بل هو
مطلق، فيحمل عَلَى خاتم الذهب، أو عَلَى ما نُقش عليه نقش خاتمه، قَالَ: ومهما أمكن الجمع، لا يجوز توهيم الراوي.
قَالَ الحافظ: ويحتمل وجها رابعًا، ليس فيه تغير، ولا زيادة اتخاذ، وهو أنه اتخذ خاتم الذهب للزينة، فلما تتابع النَّاس فيه، وافق وقوع تحريمه فطرحه، ولذلك قَالَ:"لا ألبسه أبدا"، وطرح النَّاس خواتيمهم، تبعا له، وصرح بالنهي عن لبس خاتم الذهب، ثم احتاج إلى الخاتم؛ لأجل الختم به، فاتخذه منْ فضة، ونقش فيه اسمه الكريم، فتبعه النَّاس أيضًا فِي ذلك، فرمى به، حَتَّى رمى النَّاس تلك الخواتيم المنقوشة عَلَى اسمه؛ لئلا تفوت مصلحة نقش اسمه، بوقوع الاشتراك، فلما عُدِمت خواتيمهم برميها، رجع إلى خاتمه الخاص به، فصار يختم به، ويشير إلى ذلك قوله فِي رواية عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، كما سيأتي قريبا فِي "باب الخاتم فِي الخنصر":"إنا اتخذنا خاتما، ونقشنا فيه نقشا، فلا ينقُش عليه أحد"، فلعل بعض منْ لم يبلغه النهي، أو بعض منْ بلغه ممن لم يرسخ فِي قلبه الإيمان منْ منافق، ونحوه، اتخذوا، ونقشوا، فوقع ما وقع، ويكون طرحه له غضبا، ممن تشبه به فِي ذلك النقش، وَقَدْ أشار إلى ذلك الكرماني، مختصرا جدا. والله أعلم. وقول الزهريّ فِي روايته:"إنه رآه فِي يده يوما" لا ينافي ذلك، ولا يعارضه قوله -فِي رواية حميد-: "سئل أنس هل اتخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم خاتما؟ قَالَ: أخر ليلة صلاة العشاء
…
إلى أن قَالَ: فكأني أنظر إلى وبيص خاتمه، فإنه يحمل عَلَى أنه رآه كذلك فِي تلك الليلة، واستمر فِي يده بقية يومها، ثم طرحه فِي آخر ذلك اليوم. والله أعلم.
وأما ما أخرجه النسائيّ 53/ 5219 - منْ طريق المغيرة بن زياد، عن نافع، عن ابن عمر:"اتخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم خاتما منْ ذهب، فلبسه ثلاثة أيام"، فيجمع بينه وبين حديث أنس بأحد أمرين، إن قلنا: إن قول الزهريّ فِي حديث أنس: "خاتمًا منْ ورق" سهو، وأن الصواب "خاتمًا منْ ذهب"، فقوله:"يوما واحدا" ظرف لرؤية أنس، لا لمدة اللبس، وقول ابن عمر:"ثلاثة أيام" ظرف لمدة اللبس، وإن قلنا: أن لا وهم فيها، وجمعنا بما تقدّم، فمدة لبس خاتم الذهب ثلاثة أيام، كما فِي حديث ابن عمر هَذَا، ومدة لبس خاتم الورق الأول كانت يوما واحدا، كما فِي حديث أنس، ثم لما رمى النَّاس الخواتيم التي نقشوها عَلَى نقشه، ثم عاد، فلبس خاتيم الفضة، واستمر إلى أن مات. انتهى
(1)
.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أنّ التأويلات السابقة لرواية الزهريّ هذه كلها
(1)
راجع "الفتح" 10/ 332 - 333 طبعة دار الريان للتراث.
لا يخفى ما فيها منْ التكلف والتعسف، وإنما الظاهر توهيم الزهريّ فِي ذلك، ولا استغراب فيه، فإن الغلط منْ طبيعة البشر، فقد سبق أن سعيد بن المسيب وغيره وهّموا ابن عبّاس رضي الله عنهما فِي قوله:"تزوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ميمونة رضي الله عنها، وهو محرم"، وأين الزهريّ منْ ابن عبّاس رضي الله عنهما؟ فليُتأَمَّل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أنس رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -81/ 5293 - وفي "الكبرى" 72/ 9544. وأخرجه (خ) فِي "اللباس" 5868 (م) فِي "اللباس" 2093 (د) فِي "الخاتم" 4221. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان طرح الخاتم، وترك لبسه. (ومنها): ما كَانَ عليه الصحابة رضي الله عنهم منْ المبادرة إلى الاقتداء بأفعاله صلى الله عليه وسلم، فمهما أقر عليه استمروا عليه، ومهما أنكره امتنعوه منه. (ومنها): أن فيه الردّ عَلَى منْ قَالَ منْ الأصوليين بأن أفعاله صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى عادة، وعبادة، وأن قسم العادة ليس مما أُمر بالاقتداء به، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانو يبادرون فِي الاقتداء به فِي أفعاله العاديّة، كما يبادرون فِي أفعاله العباديّة، وكان صلى الله عليه وسلم يقرّهم عَلَى ذلك، ولا ينكر فِي شيء منه إلا ما كَانَ خاصّاً به، ففيه إبطال هَذَا التقسيم الضيزى المذكور آنفاً، اللَّهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، آمين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5294 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، وَكَانَ جَعَلَ فَصَّهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ، فَطَرَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَطَرَحَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ، وَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، فَكَانَ يَخْتِمُ بِهِ، وَلَا يَلْبَسُهُ).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"أبو عوانة": هو الوضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ. و"أبو بشر": هو جعفر بن أبي وحشيّة/ إياس البصريّ، ثم الواسطيّ الثقة الثبت [5].
والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي 53/ 5220 سنداً ومتناً، إلا أن قوله: "ولا
يلبسه" شاذّ، فإن الروايات الصحاح أنه صلى الله عليه وسلم كَانَ يلبسه، كما سبق بيانها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
5295 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، وَجَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي بَطْنَ كَفِّهِ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ الْخَوَاتِيمَ، فَأَلْقَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا"، ثُمَّ اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ، فَأَدْخَلَهُ فِي يَدِهِ، ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ عُمَرَ، ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ عُثْمَانَ، حَتَّى هَلَكَ فِي بِئْرِ أَرِيسٍ).
رجال هَذَا الإسناد: خمسة:
1 -
(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه المروزيّ، ثقة ثبت حجة [10] 2/ 2.
2 -
(محمد بن بشر) العبديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة حافظ [9] 5/ 882.
3 -
(عبيد الله) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [5] 15/ 15.
4 -
(نافع) العدوي، مولى ابن عمر المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 12/ 12.
5 -
(ابن عمر) عبد الله رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.
لطائف هَذَا الإسناد:
(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فمروزيّ، ومحمد بن بشر، فكوفيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.
شرح الْحَدِيث
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، وَجَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي بَطْنَ كَفِّهِ) قيل: السرّ فِي ذلك أنه أبعد منْ أن يُظنّ أنه فعله للتزيّن به. وَقَدْ أخرج أبو داود منْ حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما جعله فِي
ظاهر الكفّ (فَاتَّخَذَ النَّاسُ الْخَوَاتِيمَ) أي اقتداء به صلى الله عليه وسلم (فَأَلْقَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا") هَذَا بداية تحريم لبس خاتم الذهب (ثُمَّ اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ) بكسر الراء، وتسكّن تخفيفًا: أي فضّة (فَأَدْخَلَهُ فِي يَدِهِ، ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ) الصديق رضي الله عنه مدّة خلافته (ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ عُمَرَ) بن الخطاب رضي الله عنه مدة خلافته (ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ عُثْمَانَ) بن عفّان رضي الله عنه ستّ سنين منْ خلافته، فقد أخرج ابن سعد منْ حديث أنس رضي الله عنه: "ثم كَانَ فِي يد عثمان ستّ سنين، فلما كَانَ فِي الستّ الباقية، كنّا معه عَلَى بئر
أريس
…
" الْحَدِيث. أفاده فِي "الفتح" 11/ 517 (حَتَّى هَلَكَ) أي سقط ذلك الخاتم (فِي بِئْرِ أَرِيسٍ) بفتح، فكسر، بوزن أمير: اسم بئر معروفة قريبة منْ مسجد قبا عند المدينة، قاله فِي "النهاية" 1/ 39. قَالَ الكرمانيّ: والأفصح صرفه. ذكره السنديّ فِي "شرحه" 8/ 196.
وفي حديث أنس رضي الله عنه عند البخاريّ: "فلما كَانَ عثمان جلس عَلَى بئر أريس، قَالَ: فأخرج الخاتم، فجعل يعبث به
(1)
، فسقط، قَالَ: فاختلفنا ثلاثة أيام، مع عثمان، فنزح البئر، فلم نجده".
قَالَ فِي "الفتح": قوله: "فاختلفنا ثلاثة أيام مع عثمان، فَنَزَحَ البئرَ، فلم نجده": أي فِي الذهاب، والرجوع، والنزول إلى البئر، والطلوع منها، ووقع فِي رواية ابن سعد:"فطلبناه مع عثمان ثلاثة أيام، فلم نقدر عليه".
قَالَ بعض العلماء: كَانَ فِي خاتمه صلى الله عليه وسلم، منْ السر شيء مما كَانَ فِي خاتم سليمان عليه السلام؛ لأن سليمان لَمّا فقد خاتمه ذهب ملكه، وعثمان لَمّا فقد خاتم النبيّ صلى الله عليه وسلم انتقض عليه الأمر، وخرج عليه الخارجون، وكان ذلك مبدأ الفتنة، التي أفضت إلى قتله، واتصلت إلى آخر الزمان. انتهى "فتح" 11/ 517.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله البعض منْ أن انتظام ملك سليمان عليه السلام كَانَ عَلَى خاتمه يحتاج إلى ثبوت نقل صحيح، ولا أظنه يثبُت، فقد ذكر الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى قصّة خاتم سليمان فِي "تفسيره" عند قوله عز وجل:{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ} الآية [ص: 34]، مطوّلة، ومختصرة عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، ثم قَالَ: إسناده إلى ابن عبّاس رضي الله عنهما قويّ، ولكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، إن صحّ عنه منْ أهل الكتاب، وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوّة سليمان عليه السلام، فالظاهر أنهم يكذبون عليه. انتهى كلام ابن كثير باختصار.
والحاصل أن بُطلان ما يُحكى فِي قصّة خاتم سليمان عز وجل ظاهر، فلا يُغترّ بما كتبه بعض المفسّرين الذين لا هَمّ لهم إلا جمع الغثّ والسمين، وتضخيم كتبهم بالقصص
الباطلة، والترّهات العاطلة، فـ {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} . والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
قَالَ الكرماني رحمه الله تعالى: معنى قوله: "يعبث به": يحركه، أو يخرجه منْ إصبعه، ثم يدخله فيها، وذلك صورة العبث، وانما يفعل الشخص ذلك عند تفكره فِي الأمور.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -81/ 5295 - وفي "الكبرى" 73/ 9548. وأخرجه (د) فِي "اللباس" 5866 (م) فِي "اللباس" 2091. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فِي فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان طرح خاتم الذهب، وترك لبسه. (ومنها): ما قاله ابن بطال: يؤخذ منْ الْحَدِيث أن يسير المال إذا ضاع، يجب البحث فِي طلبه، والاجتهاد فِي تفتيشه، وَقَدْ فعل صلى الله عليه وسلم ذلك لَمّا ضاع عقد عائشة رضي الله تعالى عنها، وحُبِس الجيشُ عَلَى طلبه، حَتَّى وُجد.
واعترضه الحافظ: فَقَالَ: كذا قَالَ، وفيه نظر، فأما عقد عائشة، فقد ظهر أثر ذلك بالفائدة العظيمة، التي نشأت عنه، وهي رخصة التيمم، فكيف يقاس عليه غيره، وأما فعل عثمان فلا ينهض الاحتجاج به أصلا؛ لما ذكر؛ لأن الذي يظهر أنه إنما بالغ فِي التفتيش عليه؛ لكونه أثر النبيّ صلى الله عليه وسلم، قد لبسه، واستعمله، وختم به، ومثل ذلك يساوي فِي العادة قدرا عظيما منْ المال، وإلا لو كَانَ غير خاتم النبيّ صلى الله عليه وسلم، لاكتفى بطلبه بدون ذلك، وبالضرورة يُعلم أن قدر المؤنة التي حصلت فِي الأيام الثلاثة، تزيد عَلَى قيمة الخاتم، لكن اقتضت صفته عِظَمَ قَدْرِهِ، فلا يقاس عليه كل ما ضاع منْ يسير المال. (ومنها): أنه يستفاد منْ قوله فِي حديث أنس رضي الله عنه: "فأخرج الخاتم، فجعل يعبث به" أن منْ فعل الصالحين العبث بخواتيمهم، وما يكون بأيديهم، وليس ذلك بعائب لهم.
قَالَ الحافظ: وإنما كَانَ كذلك؛ لأن ذلك منْ مثلهم، إنما ينشأ عن فكر، وفكرتهم إنما هي فِي الخير. (ومنها): أن العبث اليسير بالشيء حال التفكر لا عيب فيه.
(ومنها): أن منْ طلب شيئا، ولم ينجح فيه بعد ثلاثة أيام، أن له أن يتركه، ولا يكون بعد الثلاث مضيعا، وأن الثلاث حد يقع بها العذر فِي تعذر المطلوبات. قاله ابن بطّال (ومنها): ما كَانَ عليه الصحابة رضي الله عنهم منْ استعمال آثاره صلى الله عليه وسلم، ولبسهم ملابسه عَلَى جهة التبرك، والتيمن بها.
(ومنها) أن فيه أنه صلى الله عليه وسلم لا يورث، وإلا لدُفع خاتمه للورثة، كذا قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى. وتعقّبه فِي "الفتح"، فَقَالَ: وفيه نظر؛ لجواز أن يكون الخاتم اتُّخِذ منْ مال المصالح، فانتقل للإمام؛ لينتفع به فيما صُنع له.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قاله النوويّ رحمه الله تعالى هو الظاهر، فلا معنى لتعقّب صاحب "الفتح" عليه، فتبصّر. والله تعالى أعلم. (ومنها): أن فيه حفظَ الخاتم الذي يُختَم به تحت يد أمين، إذا نزعه الكبير منْ إصبعه؛ لأن عثمان رضي الله عنه كَانَ يدفعه إلى معيقيب رضي الله عنه. (ومنها): أن يسير المال إذا ضاع لا يهمل طلبه، ولاسيما إذا كَانَ منْ أثره صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
82 - (ذِكْرِ مَا يُسْتَحَبُّ مِنْ لُبْسِ الثِّيَابِ، وَمَا يُكْرَهُ مِنْهَا)
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "ما" اسم موصول، بمعنى الذي، وقوله:"منْ لبس الثياب" بيان لـ"ما".
ثم إنّ استدلال المصنّف رحمه الله بحديث الباب عَلَى الترجمة غير واضح؛ لأنه لا يدلّ عَلَى النوع المستحب منْ الثياب والمكروه منها، فالأولى ما فعله فِي "الكبرى" حيث أورد فِي الباب حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا:"منْ لبس ثوب شهرة فِي الدنيا ألبسه الله ثوب مدلة فِي الآخرة". والله تعالى أعلم بالصواب.
5296 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَآنِي سَيِّءَ الْهَيْئَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ لَكَ مِنْ شَيْءٍ؟ "، قَالَ: نَعَمْ، مِنْ كُلِّ الْمَالِ قَدْ آتَانِي اللَّهُ، فَقَالَ: "إِذَا كَانَ لَكَ مَالٌ، فَلْيُرَ عَلَيْكَ").
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن يزيد": هو الْكَلاعيّ الواسطيّ، شاميّ الأصل، ثقة ثبتٌ عابد، منْ كبار [9]. و"أبو إسحاق": هو عمرو بن عبد الله السبيعيّ. و"أبو الأحوص": هو عوف بن مالك بن نَضْلة.
وقوله: "سيّء الهيئة": قَالَ الفيّوميّ: الهيئة: الحالة الظاهرة، يقال: هاء يهوء، ويهيء هَيئةً حسنة: إذا صار إليها. انتهى.
وقوله: "فليُر عليك" بالبناء للمفعول، وفي الرواية الماضية فِي 54/ 5225: "فليُر
أثره عليك"، وفي الرواية التي بعدها: "فلْيُرَ عليك أثر نعمة الله، وكرامته".
والحديث صحيح، وَقَدْ تقدّم فِي 54/ 5225، ومضى شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
قَالَ الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير، محمد ابن الشيخ عليّ بن آدم بن موسى الإِتْيُوبيّ الولّويّ، نزيل مكة المكرّمة، عفا الله تعالى عنه وعن والديه ومشايخه آمين:
قد انتهيت منْ كتابة الجزء الثامن والثلاثين منْ شرح سنن الإمام الحافظ الحجة أبي عبد الرحمن النسائيّ رحمه الله تعالى، المسمّى "ذخيرةَ العُقْبَى فِي شرح المجتبى"، أو "غاية المنى فِي شرح المجتنى".
وذلك بحيّ الزهراء، مخطّط الأمير طلال، فِي مكة المكرمة زادها الله تعالى تشريفًا وتعظيمًا، وجعلني منْ خيار أهلها حيًّا وميتًا، وأُعْظِم به تكريمًا.
وآخر دعوانا {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} .
"اللَّهم صلّ عَلَى محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت عَلَى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللَّهم بارك عَلَى محمد، وعلى آل محمد، كما باركت عَلَى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
"السلام عليك أيها النبيّ، ورحمة الله، وبركاته".
ويليه -إن شاء الله تعالى- الجزء التاسع والثلاثون مفتتحًا بالباب 83 "ذكرُ النهي عن لبس السِّيَرَاء" الْحَدِيث رقم 5297.
"سبحانك اللهمّ، وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".
***