المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

شرح سنن النسائي المسَمَّى ذخيرة العقبى في شرح المجتبى لجامعه الفقير إلى مولاه الغني - ذخيرة العقبى في شرح المجتبى - جـ ٣٩

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

شرح

سنن النسائي

المسَمَّى

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى

لجامعه الفقير إلى مولاه الغني القدير

محمد ابن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى الأتيوبي الوَلَّوِي

المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة

عفا الله عنه وعن والديه آمين

الجزء التاسع والثلاثون

ص: 1

شرح

سنن النسائيّ

ص: 2

جميع الحقوق محفوظة

الطبعة الأولى

1424 هـ - 2003 م

دَار آل بروم للنشر والتوزيع

المملكة العربية السعودية - مكة المكرمة - المكتب الرئيسي التنعيم

صَ بُ: 4145 - (تلفاكس 5211576 - جوال 055541026)

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 4

‌83 - (ذِكْرِ النَّهْيُ عَنْ لُبْسِ السِّيَرَاءِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "السيراءُ" -بكسر السين المهملة، وفتح المثنّاة التحتانيّة، وبالمدّ-: ضربٌ منْ البرود، فيه خطوط صُفْرٌ. قاله الفيّوميّ.

واستدلال المصنّف رحمه الله تعالى بحديث الباب عَلَى ما ترجم له ظاهر؛ لأنه صريح فِي تحريم لبس حلّة السيراء. والله تعالى أعلم بالصواب.

5297 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ رَأَى حُلَّةَ سِيَرَاءَ، تُبَاعُ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اشْتَرَيْتَ هَذَا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَلِلْوَفْدِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ، مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ"، قَالَ: فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بَعْدُ مِنْهَا بِحُلَلٍ، فَكَسَانِي مِنْهَا حُلَّةً، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَوْتَنِيهَا، وَقَدْ قُلْتَ فِيهَا: مَا قُلْتَ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا، إِنَّمَا كَسَوْتُكَهَا لِتَكْسُوهَا، أَوْ لِتَبِيعَهَا"، فَكَسَاهَا عُمَرُ أَخًا لَهُ مِنْ أُمِّهِ، مُشْرِكًا).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة. و"إسحاق بن منصور": هو الكوسج الحافظ الثبت [11]. و"عُبيد الله": هو ابن عمر العمريّ الفقيه الحجة [5].

وقوله: "حُلّة سيراء": قَالَ ابن الأثير رحمه الله تعالى: "السِّيَراءُ": بكسر السين، وفتح الياء، والمدّ: نوع منْ البرود، يُخالطه حرير، كالسيور، فهو فِعَلاءُ، منْ السَّيْرِ: القَدِّ. هكذا يُروَى عَلَى الصفة، وَقَالَ بعض المتأخّرين: إنما هو حلّة سِيَراءَ عَلَى الإضافة، واحتجّ بأن سيبويه قَالَ: لم يأت فِعَلاءُ صفةً، ولكن اسمًا، وشرح السِّيَراءَ بالحرير الصافي، ومعناه: حُلّةَ حرير. انتهى "النهاية" 2/ 433.

وقوله: "منْ لا خَلاق له": أي لا نصيب له فِي لبس حرير الجنة، كما جاء التصريح به. قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: ويمكن تحقّق ذلك مع الدخول فِي الجنّة بأن يصرف الله تعالى الاشتهاء عنه، فلا ينافيه قوله تعالى:{وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ} الآية [فُصّلت: 31]، بل هَذَا لازم فِي الجنّة، وإلا لاشتهى كلّ أحد درجة نبيّنا صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم. انتهى "شرح السنديّ" 8/ 197.

وقوله: "فكساني": أي فأعطاني.

ص: 5

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي "كتاب الجمعة" 11/ 1382 شرحه، وبيان مسائله، فارجع إليه تزدد علماً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌84 - (ذِكْرِ الرُّخْصَةِ لِلنِّسَاءِ فِي لُبْسِ السِّيَرَاءِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: إنما خصّ المصنّف رحمه الله تعالى لبس السيراء، وإن كَانَ لبس الحرير مطلقاً جائزًا للنساء؛ لمقابلة الباب الماضي، حيث إنه خاصّ بالسيراء.

وَقَدْ ترجم الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" بأعم منْ هَذَا، فَقَالَ:"باب الحرير للنساء"، ثم ساق تحته حديث عليّ، وأنس رضي الله تعالى عنهما، المذكورين فِي الباب، وحديث عمر رضي الله عنه المذكور فِي الباب الماضي.

قَالَ فِي "الفتح": قوله: "باب الحرير للنساء"، كأنه لم يثبت عنده الحديثان المشهوران، فِي تخصيص النهي بالرجال صريحا، فاكتفى بما يدلّ عَلَى ذلك، وَقَدْ أخرج أحمد، وأصحاب السنن، وصححه ابن حبّان، والحاكم، منْ حديث عليّ رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أخذ حريرا وذهبا، فَقَالَ:"هذان حرامان عَلَى ذكور أمتي، حِلٌّ لإناثهم"، وأخرج أبو داود، والنسائي، وصححه الترمذيّ، والحاكم، منْ حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، وأعله ابن حبّان وغيره بالانقطاع، وأن راويه سعيد بن أبي هند، لم يسمع منْ أبي موسى رضي الله عنه، وأخرج أحمد، والطحاوي، وصححه، منْ حديث مَسْلَمَة بن مُخَلَّد، أنه قَالَ لعقبة ابن عامر رضي الله تعالى عنهما: قم فحدث بما سمعت منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: سمعته يقول: "الذهب والحرير حرام عَلَى ذكور أمتي، حِلٌّ لإناثهم".

قَالَ الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: إن قلنا: إن تخصيص النهي للرجال لحكمة، فالذي يظهر أنه سبحانه وتعالى، علم قِلَّة صبرهن عن التزين، فلطف بهن فِي إباحته،

ص: 6

ولأن تزيينهن غالبا إنما هو للأزواج، وَقَدْ ورد أن حسن التبعل منْ الإيمان

(1)

، قَالَ: ويستنبط منْ هَذَا أن الفحل، لا يصلح له أن يبالغ فِي استعمال الملذوذات؛ لكون ذلك منْ صفات الإناث. انتهى "فتح" 11/ 478. والله تعالى أعلم بالصواب.

5298 -

(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَمِيصَ حَرِيرٍ سِيَرَاءَ).

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(الحسين بن حُريث) الخزاعيّ مولاهم، أبو عمّار المروزيّ، ثقة [10] 44/ 52.

2 -

(عيسى بن يونس) بن أبي إسحاق السبيعيّ الكوفيّ، ثقة مأمون [8] 8/ 8.

3 -

(معمر) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقة ثبت [7] 10/ 10.

4 -

(الزهريّ) محمد بن مسلم الإمام الحجة الشهير [4] 1/ 1.

5 -

(أنس) بن مالك رضي الله تعالى عنه 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله تعالى عنه منْ المكثرين السبعة، وآخر منْ مات منْ الصحابة بالبصرة، وَقَدْ سبق هَذَا غير مرّة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَنَسٍ) بن مالك رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) هي أكبر بناته صلى الله عليه وسلم، وأول منْ تزوّج منهنّ، وُلدت قبل البعثة بمدّة، قيل: إنها عشر سنين، واختُلف هل القاسم قبلها، أم بعدها؟، وتزوّجها ابن خالتها أبو العاص بن الربيع العَبْشميّ. تُوفّيت فِي أول سنة ثمان منْ الهجرة. أفاده فِي "الإصابة" 12/ 273 - 274.

وفي رواية الزُّبيديّ التالية: "عَلَى أم كلثوم" وهي المحفوظة، كما سيأتي تحقيقه قريباً، إن شاء الله تعالى (قَمِيصَ حَرِيرٍ سِيَرَاءَ) وفي رواية الزُّبيديّ:"بُرد سيراء"، وفي رواية شعيب ابن أبي حمزة، وابن جريج، كلاهما عن الزهريّ:"برد حرير سيراء".

(1)

يُنظر منْ أخرجه؟.

ص: 7

قَالَ فِي "الفتح": وَقَدْ غفل الطحاويّ، فَقَالَ: إن كَانَ أنس رأى ذلك فِي زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيعارض حديث عقبة رضي الله عنه، يعني الذي أخرجه النسائيّ، وصححه ابن حبّان:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يمنع أهله الحرير، والحلْية"، وَقَدْ تقدّم فِي 39/ 5138 - وإن كَانَ بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ دليلاً عَلَى نسخ حديث عقبة، كذا قَالَ، وخفي عليه أن أم كلثوم ماتت فِي حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذلك زينب، فبطل التردّد، وأما دعوى المعارضة، فمردودة، وكذا النسخ، والجمع بينهما واضحٌ بحمل النهي فِي حديث عقبة عَلَى التنزيه، وإقرار أم كلثوم عَلَى ذلك، إما لبيان الجواز، وإما لكونها كانت إذ ذاك صغيرة، وعلى هَذَا التقدير، فلا إشكال فِي رؤية أنس رضي الله عنه لها، وعلى تقدير أن تكون كانت كبيرة، فيُحمل عَلَى أن ذلك كَانَ قبل الحجاب، أو بعده، لكن لا يلزم منْ رؤية الثوب عَلَى اللابس رؤية اللابس، فلعله رأى ذيل القميص مثلاً، ويحتمل أيضاً أن السيراء التي كانت عَلَى أم كلثوم كانت منْ غير الحرير الصرف، كما سيأتي فِي حلّة عليّ رضي الله عنه. انتهى "فتح" 11/ 483. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أنس رضي الله تعالى عنه هَذَا رواه البخاريّ.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -84/ 5298 و5299 - وفي "الكبرى" 79/ 9576 و9577 و9578 و9579 و9580. وأخرجه (خ) فِي "اللباس" 5842 (ق) فِي "اللباس" 3598. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي الاختلاف الواقع عَلَى الزهريّ فِي حديث أنس رضي الله عنه هَذَا.

بيّن المصنّف رحمه الله تعالى فِي "الكبرى" 5/ 464 الاختلاف عَلَى الزهريّ، فَقَالَ بعد إخراج رواية معمر هذه: ما نصّه: خالفه الزبيديّ، رَوَى عن الزهريّ، عن أنس رضي الله عنه أنه رأى عَلَى أم كلثوم.

9577 -

أخبرنا عمرو بن عثمان، عن بقية، قَالَ: حدثني الزُّبَيدي، عن الزهريّ، عن أنس ابن مالك، أنه حدثني، أنه رأى عَلَى أم كلثوم، ابنة النبيّ صلى الله عليه وسلم، بُرْد سيراء، والسيراء المضلّع بالقز.

قَالَ أبو عبد الرحمن: وهذا أولى بالصواب منْ الذي قبله. وبالله التوفيق

9578 -

أخبرنا عمران بن بكار الحمصي، قَالَ: ثنا أبو اليمان، قَالَ: أنا شعيب بن

ص: 8

أبي حمزة، قَالَ: سأل الزهريُّ، هل يلبس النِّساء الحرير أم لا؟ فَقَالَ: أخبرني أنس بن مالك، أنه رأى عَلَى أم كلثوم، بنت النبيّ صلى الله عليه وسلم برد حرير سيراء.

9579 -

أخبرنا يوسف بن سعيد، قَالَ: ثنا حجاج، عن ابن جريج، قَالَ ابن شهاب: أخبرني أنس بن مالك، أنه رأى عَلَى أم كلثوم، بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، برد حرير سيراء.

9580 -

أخبرنا محمد بن إسماعيل، قَالَ: أنا أيوب بن سليمان، قَالَ: حدثني أبو بكر، عن سليمان، قَالَ يحيى: قَالَ ابن شهاب: أخبرنى أنس بن مالك، أنه رأى عَلَى أم كلثوم، بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، برد سيراء. انتهى.

و"محمد بن إسماعيل": هو -كما بينه فِي "تحفة الأشراف" 1/ 395 - أبو إسماءيل الترمذيّ، نزيل بغداد الثقة الحافظ [11]. و"أبو بكر": هو عبد الحميد بن أبي أويس الأصبحيّ المدنيّ الثقة [9]. و"سليمان": هو ابن بلال المدنيّ الثقة [8]. و"يحيى": هو ابن سعيد الأنصاريّ.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حاصل ما أشار إليه المصنّف رحمه الله تعالى فِي هَذَا الكلام أنه اختُلف عَلَى الزهريّ فِي هَذَا الْحَدِيث، فرواه معمر عنه، عن أنس رضي الله عنه أنه رأى عَلَى زينب بنت النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورواه محمد بن الوليد الزُّبَيديّ، عنه، عن أنس رضي الله عنه أنه رأى عَلَى أم كلثوم بنت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وصوّب المصنّف هذه الرواية؛ لأنه وافق الزبيديّ عليها شعيب بن أبي حمزة، وابن جريج، ويحيى الأنصاريّ، فرواية هؤلاء الأربعة تقدّم عَلَى رواية معمر، فهي المحفوظة، وتكون رواية معمر شاذة.

وأشار الحافظ إلى هَذَا فِي "الفتح" 11/ 483 حيث قَالَ: والمحفوظ ما قَالَ الأكثر. انتهى.

والحاصل أن صاحبة القصّة التي رأى عليها أنس رضي الله عنه برد حرير سيراء هي أم كلثوم رضي الله تعالى عنها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز لبس السيراء للنساء. (ومنها): جواز لبس النِّساء الحرير مطلقًا، سواء كَانَ الثوب حريرًا كلّه، أو بعضه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5299 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ بَقِيَّةَ، حَدَّثَنِي الزُّبَيْدِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ حَدَّثَنِي أَنَّهُ رَأَى عَلَى أُمِّ كُلْثُومٍ، بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بُرْدَ سِيَرَاءَ، وَالسِّيَرَاءُ الْمُضَلَّعُ بِالْقَزِّ).

ص: 9

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمرو بن عثمان": هو القرشيّ مولاهم، أبو حفص الحِمصيّ، صدوقٌ [10]. و"بقيّة": هو ابن الوليد الكلاعيّ الحمصيّ، صدوقٌ، يدلّس عن الضعفاء، ويُسوّي [8]. و"الزبيديّ": هو محمد بن الوليد، أبو الهذيل الحمصيّ القاضي، ثقة ثبتٌ، منْ كبار أصحاب الزهريّ [7].

وقوله: "عَلَى أمّ كلثوم": سبق قريباً أن هَذَا هو المحفوظ، وأما رواية معمر السابقة:"عَلَى زينب"، فشاذّة.

و"أمّ كلثوم": هي بنت النبيّ صلى الله عليه وسلم، اختُلف هل هي أصغر، أم فاطمة، وتزوّجها عثمان بن عفّان رضي الله عنه بعد موت أختها رُقيّة عنده سنة ثلاث منْ الهجرة، وتوفّيت عنده أيضًا سنة تسع، ولم تلد له. أفاده فِي "الإصابة" 13/ 277.

وقوله: "بُرد سيراء" بالإضافة، و"البُرْدِ" بضم الموحّدة، وسكون الراء-: قَالَ المجد: البرد بالضمّ: ثوبٌ مُخَطّطٌ، جمعه أبراد، وبُرُود، وأَكْسيةٌ يُلتَحَف بها، الواحدة بهاء. انتهى. "قاموس". وَقَالَ الفيّوميّ: البُرْد: معروف، وجمعه أَبراد، وبُرُود، ويضاف للتخصيص، فيقال: بُرْدُ عَصْب، وبُرْدُ وَشْي. والبُرْدةُ كساء صغيرٌ مُربّع، ويقال: كساء أسود صغير. انتهى "المصباح". وتقدّم معنى "السيراء" قريباً.

وقوله: "والسيراء: الْمُضَلَّعُ بالْقَزّ": هَذَا تفسير منْ بعض الرواة، ويمكن أن يكون منْ الزهريّ، فإنه معروف بذلك، كما فِي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها فِي بدء الوحي "وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه" -وهو التعبّد-. ثم رأيت فِي "الفتح" 11/ 479 أن ابن بطّال جزم أنه منْ تفسير الزهريّ. والله تعالى أعلم.

و"المضلّع" -بتشديد اللام بصيغة اسم المفعول: هو الذي فيه خطوط عريضة، مثلُ الأضلاع. وَقَالَ المجد فِي "القاموس": تضليع الثوب: جعلُ وَشْيه عَلَى هيئة الاضلاع، وكمُعَظَّم: الثوب الذي نُسِج بعضه، وتُرك بعضه، والمُسَيَّرُ: المُخَطَّطُ. انتهى.

و"الْقَزّ" -بفتح القاف، وتشديد الزاي-: الحرير. وَقَالَ الفيّوميّ: القزّ: معرّب، قَالَ الليث: هو ما يُعمل منه الإِبْرَيسَمُ، ولهذا قَالَ بعضهم: القزّ، والإِبْرَيْسَمُ مثلُ الحنطة، والدقيق. انتهى. و"الإبريسم" -بفتح السين، وضمّها: الحرير. قاله فِي "القاموس".

والحديث أخرجه البخاريّ، كما سبق بيانه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5300 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا النَّضْرُ، وَأَبُو عَامِرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ الثَّقَفِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ الْحَنَفِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيًّا

ص: 10

يَقُولُ: أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُلَّةُ سِيَرَاءَ، فَبَعَثَ بِهَا إِلَيَّ، فَلَبِسْتُهَا، فَعَرَفْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ:"أَمَا إِنِّي لَمْ أُعْطِكَهَا لِتَلْبَسَهَا"، فَأَمَرَنِي فَأَطَرْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي).

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه المذكور قريباً.

2 -

(النضر) بن شُميل، أبو الحسن البصريّ، نزيل مرو ثقة ثبت، منْ كبار [9] 41/ 45.

3 -

(أبو عامر) عبد الملك بن عمرو القيسيّ العقديّ البصريّ، ثقة [9] 2/ 327.

4 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام المشهور [7] 24/ 27.

5 -

(أبو عون) محمد بن عبيد الله بن أبي سعد الثقفيّ الكوفيّ الأعور، ثقة [4] 74/ 1002.

6 -

(أبو صالح الحنفيّ) هو: عبد الرحمن بن قيس الكوفيّ، ثقة [3].

رَوَى عن أبيه قيس، وأخيه طليق بن قيس، وعن عليّ، وحذيفة، وابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وأبي مسعود البدري، وأبي سعيد الخدريّ، وأبي هريرة، وعائشة، وابن عبّاس. وروى عنه أبو عون، محمد بن عبيد الله الثقفيّ، وسعيد بن مسروق الثوري، وضرار بن مرة الشيباني، وعمرو بن مرة، وإسماعيل بن أبي خالد، وبيان بن بشر، وجماعة. قَالَ إسحاق بن منصور، عن ابن معين: أبو صالح الحنفي ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات".

ورَوَى النسائيّ فِي "الكبرى" 5/ 461 رقم 9566 قَالَ: أخبرنا إسحاق -أي ابن راهويه- ثنا النضر -أي ابن شميل- وأبو عامر، قالا: ثنا شعبة، عن أبي عون الثقفيّ، قَالَ: سمعت أبا صالح الحنفي، واسمه ماهان، يقول: سمعت عليا، يقول أُهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة سيراء

الْحَدِيث، قَالَ: كذا قَالَ إسحاق: ماهان، والصواب: عبد الرحمن بن قيس، أخو طُليق. انتهى. وَقَالَ البخاريّ: قَالَ عليّ: ماهان أبو سالم، فقلت له: إن أحمد يقول: ماهان أبو صالح، فَقَالَ أنا أخبرت أحمد، وكان عندنا كذلك، حَتَّى وجدناه ماهان أبو سالم. وَقَالَ العجليّ: عبد الرحمن، وقيل: ماهان أبو صالح الحنفيّ، كوفيّ ثقة، منْ خيار التابعين، منْ أصحاب عليّ. وذكر ابن أبي حاتم أن روايته عن حذيفة، وابن مسعود مرسلة.

رَوَى له مسلم، والمصنّف، وأبو داود، وله عندهم هَذَا الْحَدِيث فقط، وله عند المصنّف فِي "عمل اليوم والليلة" فِي الذكر.

[تنبيه]: وقع فِي النسخ المطبوعة منْ "المجتبى": "أبو صالح الْخَيفيّ" -بالخاء

ص: 11

المعجمة، والياء الساكنة- ووقع فِي "الهنديّة":"أبو صالح الحنفيّ" -بالحاء المهملة، والنون- وهو الصواب، والأول تصحيف، فقد ذكره كالهنديّة فِي "تحفة الأشراف" 7/ 463، و"تقريب التهذيب" ص 596 نسخة أبي الأشبال، و"تهذيب التهذيب" 2/ 546، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

7 -

(عليّ) بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه 74/ 91. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ) محمد بن عُبيد الله (أَبِي عَوْنٍ الثَّقَفِيِّ) أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ) عبد الرحمن ابن قيس (الْحَنَفِيَّ) نسبة إلى بني حنيفة القبيلة المشهورة (يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيًّا) أي ابن أبي طالب رضي الله عنه (يَقُولُ: أُهْدِيَتْ) بالبناء للمفعول (لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) ولمسلم أيضًا منْ وجه آخر، عن أبي صالح الحنفيّ، عن عليّ رضي الله عنه، "أن أُكيدِر دُومة أهدى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ثوب حرير، فأعطاه عليا"، وفي رواية للطحاوي:"أهدى أمير أذربيجان إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم حلة مُسَيَّرَة بحرير"، وسنده ضعيف. قاله فِي "الفتح".

(حُلَّةُ سِيَرَاءَ) قَالَ أبو عبيد: "الْحُلَل" بُرود اليمن، و"الحلة" إزار ورداء، ونقله ابن الأثير، وزاد إذا كَانَ منْ جنس واحد. وَقَالَ ابن سيده فِي "المحكم": الحلة بُرْد أو غيره. وحكى عياض أن أصل تسمية الثوبين حلة أنهما يكونان جديدين، كما حُلَّ طيهما. وقيل: لا يكون الثوبان حلة، حَتَّى يلبس أحدهما فوق الآخر، فإذا كَانَ فوقه فقد حَلَّ عليه، والأول أشهر.

و"السَّيَراءُ" -بكسر المهملة، وفتح التحتانية والراء، مع المد- قَالَ الخليل: ليس فِي الكلام فِعَلاء -بكسر أوله مع المد- سوى سِيَراء، وحِوَلاء، وهو الماء الذي يخرج عَلَى رأس الولد، وعِنَباء لغة فِي العنب. قَالَ مالك: هو الْوَشْيُ منْ الحرير، كذا قَالَ، و"الوشي" -بفتح الواو، وسكون المعجمة، بعدها تحتانية. وَقَالَ الأصمعي: ثياب فيها خطوط منْ حرير، أو قَزّ، وإنما قيل لها: سيراء لتسيير الخطوط فيها. وَقَالَ الخليل: ثوب مُضَلَّع بالحرير. وقيل: مختلف الألوان، فيه خطوط ممتدة، كأنها السيور.

ووقع عند أبي داود، فِي حديث أنس، أنه رأى عَلَى أم كلثوم، حلة سيراء، والسيراء المضلع بالقز. وَقَدْ جزم ابن بطال أنه منْ تفسير الزهريّ. وَقَالَ ابن سيده هو ضرب منْ

ص: 12

البرود، وقيل: ثوب مُسَيَّر فيه خطوط، يُعمل منْ القز، وقيل: ثياب منْ اليمن. وَقَالَ الجوهري: بُرْد فيه خطوط صُفْر. ونقل عياض عن سيبويه قَالَ: لم يأت فِعَلاء صفة، لكن اسما، وهو الحرير الصافي.

واختلف فِي قوله: "حلة سيراء" هل هو بالإضافة، أو لا، فوقع عند الأكثر بتنوين "حلة" عَلَى أن "سيراء" عطف بيان، أو نعت، وجزم القرطبيّ بأنه الرواية، وَقَالَ الخطّابيّ: قالوا: "حلة سيراء"، كما قالوا:"ناقة عَشَراء. ونقل عياض عن أبي مروان ابن السراج، أنه بالإضافة، قَالَ عياض: وكذا ضبطناه عن متقني شيوخنا، وَقَالَ النوويّ: إنه قول المحققين، ومتقني العربية، وأنه منْ إضافة الشيء لصفته، كما قالوا: ثوبُ خزّ. قاله فِي "الفتح" 11/ 478 - 479.

(فَبَعَثَ بِهَا إِلَيَّ، فَلَبِسْتُهَا) وفي رواية زيد بن وهب عن عليّ رضي الله عنه عند البخاريّ: "فخرجت بها"(فَعَرَفْتُ) وفي رواية زيد المذكورة: "فرأيت"(الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ) صلى الله عليه وسلم؛ أي لكونه ارتكب إثمًا (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَمَا) بفتح الهمزة، وتخفيف الميم: أداة استفتاح، وتنبيه مثل "ألا" (إِنِّي لَمْ أُعْطِكَهَا لِتَلْبَسَهَا) وفي رواية مسلم:"إني لم أبعث بها إليك لتلبسها، وإنما بعثت بها إليك لتشققها خُمُراً بين النِّساء (فَأَمَرَنِي) أي بشقها (فَأَطَرْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي) أي فرّقتها بينهنّ، وقسمتها فيهنّ، وقيل: الهمزة أصليّة. قاله فِي "النهاية" فِي باب الطاء 3/ 152 وَقَالَ فِي باب الهمزة 1/ 54: "فأطرتها بين نسائي": أي شققتها، وقسمتها بينهنّ. وقيل: هو منْ قولهم: طار له فِي القسمة كذا: أي وقع فِي حصّته، فيكون منْ باب الطاء، لا منْ الهمزة. انتهى.

وفي رواية البخاريّ: "فشققتها بين نسائي": أي قطعتها، ففرّقتها عليهنّ خُمُراً، والخُمُر -بضم المعجمة، والميم-: جمع خمار -بكسر أوله، والتخفيف-: ما تغطى به المرأة رأسها، والمراد بقوله:"نسائي": ما فسره فِي رواية أبي صالح، حيث قَالَ:"بين الفواطم"، ووقع فِي رواية النسائيّ، حيث قَالَ:"فرجعت إلى فاطمة، فشققتها، فقالت: ماذا جئت به؟ قلت: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبسها، فالْبسيها، واكْسِي نساءك". وفي هذه الرواية أن عليا إنما شققها بإذن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ أبو محمد بن قتيبة: المراد بالفواطم: فاطمة بنت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفاطمة بنت أسد ابن هاشم، والدة عليّ، ولا أعرف الثالثة. وذكر أبو منصور الأزهري: أنها فاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب. وَقَدْ أخرج الطحاوي، وابن أبي الدنيا، فِي كتاب "الهدايا"، وعبد الغني بن سعيد فِي "المبهمات"، وابن عبد البرّ كلهم منْ طريق يزيد ابن أبي زياد، عن أبي فاختة، عن هبيرة بن يَرِيم -بتحتانية أوله، ثم راء، وزن

ص: 13

عظيم- عن علي فِي نحو هذه القصة، قَالَ:"فشققت منها أربعة أخمرة"، فذكر الثلاث المذكورات، قَالَ ونسي يزيد الرابعة. وفي رواية الطحاوي:"خمارا لفاطمة بنت أسد بن هاشم، أم عليّ، وخمارا لفاطمة بنت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وخمارا لفاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب، وخمارا لفاطمة أخرى، قد نسيتها"، فَقَالَ عياض: لعلها فاطمة امرأة عقيل بن أبي طالب، وهى بنت شيبة بن ربيعة، وقيل: بنت عتبة بن ربيعة، وقيل: بنت الوليد بن عتبة، وامراة عَقِيل هذه، هى التي لَمّا تخاصمت مع عقيل، بعث عثمانُ معاويةَ، وابنَ عبّاس حكمين بينهما، ذكره مالك فِي "المدونة" وغيره. قاله فِي "الفتح" 11/ 479 - 480. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الاولى): فِي درجته:

حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -84/ 5300 - وفي "الكبرى" 78/ 9566 و9567 و9568. وأخرجها (خ) فِي "الهبة" 2614 و"النفقات" 5366 و"اللباس" 5845 (م) فِي "اللباس" 3071 (د) فِي "اللباس" 4043 (ق) فِي "اللباس" 3596 (أحمد) فِي "مسند العشرة" 700 و712 و757 و966 و1175 و1317. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان الترخيص للنساء فِي لبس حلّة السيراء. قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: فيه دليلٌ عَلَى جواز لبس النِّساء الحرير، وهو مجمع عليه اليوم، وَقَدْ كَانَ فيه خلاف لبعض السلف، وزال. انتهى "شرح مسلم" 14/ 41. (ومنها): جواز إهداء ثياب الحرير إلى الرجال؛ لأنها لا تتعيّن للبسهم لها، بل ينتفعون بأثمانها، أو إلباسها النِّساء.

(ومنها): ما قاله فِي "الفتح" 11/ 480: استُدِلَّ بهذا الْحَدِيث عَلَى جواز تأخير البيان، عن وقت الخطاب؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أرسل الحلة إلى عليّ رضي الله عنه، فبنى عليّ عَلَى ظاهر الإرسال، فانتفع بها فِي أشهر ما صُنعت له، وهو اللبس، فبين له النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه لم يُبح له لبسها، وإنما بعث بها إليه ليكسوها غيره، ممن تباح له، وهذا كله إن كانت القصة وقعت بعد النهي، عن لبس الرجال الحرير. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 14

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌85 - (ذِكْرِ النَّهْي عَنْ لُبْسِ الإِسْتَبْرَقِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الإستبرق" -بكسر الهمزة، وسكون السين المهملة، وفتح التاء، وسكون الموحّدة، وفتح الراء، آخره قاف-: الديباج الغليظ، فارسيّ معرّب. قاله ابن منظور فِي "اللسان". وَقَالَ المجد فِي "القاموس": الإسْتبرقُ: الديباج الغليظ، مُعَرّب اسْتَرْوَه، أو دِيباجٌ يُعمل بالذهب، أو ثياب حرير صِفَاقٌ، نحو الديباج، أو قِدّةْ حمراءُ كأنها قِطَعُ الأوتار، وتصغيره: أُبَيْرِقٌ. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.

5301 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ الْمَخْزُومِيُّ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، يُحَدِّثُ أَنَّ عُمَرَ خَرَجَ، فَرَأَى حُلَّةَ إِسْتَبْرَقٍ، تُبَاعُ فِي السُّوقِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اشْتَرِهَا، فَالْبَسْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَحِينَ يَقْدَمُ عَلَيْكَ الْوَفْدُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ"، ثُمَّ أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثِ حُلَلٍ مِنْهَا، فَكَسَا عُمَرَ حُلَّةً، وَكَسَا عَلِيًّا حُلَّةً، وَكَسَا أُسَامَةَ حُلَّةً، فَأَتَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ فِيهَا: مَا قُلْتَ، ثُمَّ بَعَثْتَ إِلَيَّ؟ فَقَالَ: "بِعْهَا وَاقْضِ بِهَا حَاجَتَكَ، أَوْ شَقِّقْهَا خُمُرًا بَيْنَ نِسَائِكَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"عبد الله بن الحارث المخزوميّ": هو أبو محمد المكيّ، ثقة [8] 93/ 2139. و"حنظلة بن أبي سفيان": هو الْجُمَحيّ المكيّ، ثقة حجةٌ [6] 12/ 12.

وسياق الإمام مسلم رحمه الله تعالى للحديث فِي "صحيحه" أتمّ مما هنا، ونصّه:

2068 -

وحدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا جرير بن حازم، حدثنا نافع، عن ابن عمر، قَالَ: رأى عمر عطاردا التميمي، يُقيم بالسوق حلة سيراء، وكان رجلا يَغْشَى الملوك، ويصيب منهم، فَقَالَ عمر يا رسول الله، إني رأيت عطاردا، يقيم فِي السوق حلة سيراء، فلو اشتريتها، فلبستها لوفود العرب، إذا قدموا عليك، وأظنه قَالَ: ولبستها

ص: 15

يوم الجمعة، فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنما يلبس الحرير فِي الدنيا منْ لا خلاق له فِي الآخرة"، فلما كَانَ بعد ذلك أُتي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بحلل سيراء، فبعث إلى عمر بحلة، وبعث إلى أسامة بن زيد بحلة، وأعطى عليّ بن أبى طالب حلة، وَقَالَ:"شَقِّقْها خُمُرا بين نسائك"، قَالَ: فجاء عمر بحلته يحملها، فَقَالَ: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثتَ إلي بهذه، وَقَدْ قلت بالأمس فِي حلة عطارد، ما قلت؟ فَقَالَ:"إني لم أبعث بها إليك لتلبسها، ولكني بعثت بها إليك لتصيب بها"، وأما أسامة فراح فِي حلته، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، نظرا عَرَف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أنكر ما صنع، فَقَالَ: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تنظر إلي؟ فأنت بعثت إلي بها، فَقَالَ:"إني لم أبعث إليك لتلبسها، ولكني بعثت بها إليك لتشققها خمرا بين نسائك". انتهى.

والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي "كتاب الجمعة" 11/ 1382 ومضى هناك شرحه، وبيان مسائله، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌86 - (صِفَةِ الإِسْتَبْرَقِ)

5302 -

(أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى -وَهُوَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ- قَالَ: قَالَ سَالِمٌ: مَا الإِسْتَبْرَقُ؟ قُلْتُ: مَا غَلُظَ مِنَ الدِّيبَاجِ، وَخَشُنَ مِنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: رَأَى عُمَرُ مَعَ رَجُلٍ حُلَّةَ سُنْدُسٍ، فَأَتَى بِهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: اشْتَرِ هَذِهِ

وَسَاقَ الْحَدِيثَ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمران بن موسى": هو القزّاز، أبو عمرو البصريّ، صدوقٌ [10]. و"عبد الوارث": هو ابن سعيد بن ذكوان التّنّوريّ البصريّ الثقة الثبت [8]. و"يحيى بن أبي إسحاق": هو الحضرميّ النحويّ البصريّ، صدوقٌ ربما أخطأ [5]. و"سالم": هو ابن عبد الله بن عمر بن الخطّاب.

وقوله: "ما غلُظ" بضم اللام، يقال: غلُظ الشيء غِلَظاً، وِزان عِنَب: خلاف دقّ. وقوله: "وخشُن" بضم الشين المعجمة، يقال: خشُن الشيء بالضمّ خُشْنَةً بضم، فسكون، وخُشُونةً بضمّتين: خلاف نَعُم.

ص: 16

وقوله: "حُلّة سُندُس" -بضمّ السين، والدال المهملتين، بينهما نون ساكنة-: هو ما رقّ منْ الديباج.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا رواية المصنّف رحمه الله تعالى بلفظ "حلة سندس"، وهي غير مناسبة لسؤال سالم، فإنه سأل عن الإستبرق؛ ليحدّث عن أبيه بقصّة مجيء عمر رضي الله عنه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بحلة إستبرق، والصحيح الموافق للسؤال ما فِي "فى الصحيحين" منْ طريق عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبيه، ولفظها: "رأى عمر عَلَى رجل حُلّةً منْ إستبرق، فأتي بها النبيّ صلى الله عليه وسلم

" الْحَدِيث. فتنبّه.

وقوله: "وساق الْحَدِيث"، الظاهر أن الضمير يرجع إلى عمران بن موسى، شيخ المصنّف، فالاختصار منْ المصنّف، وَقَدْ ساقه البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "كتاب الأدب" منْ "صحيحه" تامًّا، فَقَالَ:

6081 -

حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الصمد، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: حدثني يحيى بن أبي إسحاق، قَالَ: قَالَ لي سالم بن عبد الله، ما الإستبرق؟ قلت: ما غلُظ منْ الديباج، وخشُن منه، قَالَ: سمعت عبد الله يقول: رأى عمر عَلَى رجل حلة منْ إستبرق، فأتى بها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يا رسول الله، اشتر هذه، فالبسها لوفد النَّاس، إذا قدموا عليك، فَقَالَ:"إنما يلبس الحرير منْ لا خلاق له"، فمضى منْ ذلك ما مضى، ثم إن النبيّ صلى الله عليه وسلم، بعث إليه بحلة، فأَتَى بها النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: بعثت إلي بهذه، وَقَدْ قلت فِي مثلها: ما قلت؟ قَالَ: "إنما بعثت إليك؛ لتصيب بها مالاً"، فكان ابن عمر يكره العلم فِي الثوب؛ لهذا الْحَدِيث. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌87 - (ذِكْرِ النَّهْي عَنْ لُبْسِ الدِّيبَاجِ)

5303 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو فَرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ، قَالَ: اسْتَسْقَى حُذَيْفَةُ، فَأَتَاهُ دُهْقَانٌ بِمَاءٍ، فِي إِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ، فَحَذَفَهُ، ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ مِمَّا صَنَعَ بِهِ، وَقَالَ: إِنِّي نَهَيْتُهُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،

ص: 17

يَقُولُ: "لَا تَشْرَبُوا فِي إِنَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَلْبَسُوا الدِّيبَاجَ، وَلَا الْحَرِيرَ، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَنَا فِي الآخِرَةِ").

رجال هَذَا الإسناد: تسعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ) أبو يحيى المكيّ، ثقة [10] 11/ 11.

2 -

(سفيان) بن عُيينة المكيّ الإمام الحجة الثبت [8] 1/ 1.

3 -

(ابن أبي نَجِيج) عبد الله بن أبي نَجيح/ يسار الثقفيّ مولاهم، أبو يسار المكيّ، ثقة رُمي بالقدر، وربّما دلّس [6] 112/ 155.

4 -

(يزيد بن أبي زياد) الهاشميّ مولاهم الكوفيّ، ضعيفٌ، كبر فتغيّر، وصار يتلقّن، وكان شيعيًا [5] 2/ 4874.

5 -

(مجاهد) بن حبر، أبو الحجّاج المخزوميّ المكيّ الإمام المفسّر المهور [3] 27/ 31.

6 -

(ابن أبي ليلى) هو عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاريّ المدنيّ، ثم الكوفيّ، ثقة [2] 86/ 104.

7 -

(أبو فروة) الأصغر، مسلم بن سالم النهديّ، ويقال له: الْجُهَنيّ؛ لنزوله فيهم، مشهور بكنيته، وأكثر ما يجيء عندهم مذكورا بكنيته، صدوقٌ [6].

رَوَى عن عبد الله بن عُكيم الجهني، وعبد الرحمن بن أبي ليلي، وابنه عيسى بن عبد الرحمن، وعبد الله بن أبي الهذيل، وأبي الأحوص الْجُشَمي، وعبد الله بن يسار، وخلق. وعنه ابنه عمر، وحفيده حفص بن عمر بن مسلم، وجعفر بن زياد الأحمر، وشعبة، وفطر بن خليفة، وعمر بن أبي قيس الرازي، وزياد البكائي، وأبو عوانة، وعبد الواحد بن زياد، والسفيانان، وآخرون. قَالَ ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة. وَقَالَ أبو حاتم: صالح الْحَدِيث، ليس به بأس. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ يعقوب بن سفيان: لا بأس به. رَوَى له البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والمصنّف، وابن ماجه، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.

8 -

(عبد الله بن عُكيم) -بالتصغير-: الجهنيّ، أبو معبد الكوفيّ، مخضرم [2]، وَقَدْ سمع كتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى جُهينة، مات فِي إِمْرة الحجّاج 5/ 4249.

9 -

(حُذيفة) بن اليمان العبسيّ، حليف الأنصار الصحابيّ الجليل، منْ السابقين إلى الإسلام، صاحب سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، صحّ فِي "صحيح مسلم" أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أعلمه بما كَانَ، وما يكون إلى أن تقوم الساعة، وأبوه صحابيّ أيضاً، استُشهد رضي الله عنه بأحد، واسمه حُسيل مصغّرًا، ويقال: حِسْل بكسر، فسكون، واليمان لقبه، مات حذيفة رضي الله عنه فِي

ص: 18

أول خلافة عليّ رضي الله عنه سنة (36)، وسبقت ترجمته فِي 2/ 2.

[تنبيه]: قوله: "ويزيد بن أبي زياد" بالرفع عطف عَلَى "ابن أبي نَجِيح"، وكذا قوله:"وأبو فروة"، فسفيان يروي هَذَا الْحَدِيث عن الثلاثة، فيرويه عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، وعن يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي ليلى، وعن أبي فروة، عن عبد الله بن عُكيم، وابن أبي ليلى، وعبد الله بن عُكيم، يرويانه عن حذيفة رضي الله عنه.

وَقَالَ الإمام مسلم رحمه الله تعالى فِي "صحيحه": وحدثني عبد الجبار بن العلاء، حدثنا سفيان، حدثنا ابن أبي نجيح أولاً، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن حذيفة، ثم حدثنا يزيد، سمعه منْ ابن أبي ليلى، عن حذيفة، ثم حدثنا أبو فروة، قَالَ: سمعت ابن عكيم، فظننت أن ابن أبي ليلى إنما سمعه منْ ابن عكيم، قَالَ كنا مع حذيفة بالمدائن

الْحَدِيث.

والحاصل أن لسفيان بن عيينة فِي هَذَا الْحَدِيث ثلاثة شيوخ: ابن أبي نَجيح، ويزيد ابن أبي زياد، وأبو فروة، فطريق الأولى نازل؛ لأنه وصل إلى حذيفة بثلاث وسائط: ابن أبي نجيح، ومجاهد، وابن أبي ليلى، بخلاف الأخيرين، فإنه وصل إليه بواسطتين، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ مُجَاهِدٍ) بن جبر (عَنِ) عبد الرحمن (ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ) تقدّم أنه بالرفع عطفًا عَلَى "ابن أبي نجيح"(عَنِ) عبد الرحمن (ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو فَرْوَةَ) مسلم ابن سالم الجهنيّ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ) بالتصغير الجهنيّ، أنه (قَالَ: اسْتَسْقَى) أي طلب الماء ليشربه (حُذَيْفَةُ) بن اليمان رضي الله تعالى عنه.

وفي رواية البخاريّ: "كَانَ حذيفة بالمدائن، فاستسقى"، والمدائن اسم بلفظ جمع مدينة، وهو بلدة عظيمة عَلَى دجلة، بينها وبين بغداد سبعة فراسخ، كانت مسكن ملوك الفرس، وبها إيوان كسرى المشهور، وكان فتحها عَلَى يد سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه فِي خلافة عمر رضي الله عنه سنة ست عشرة. وقيل: قبل ذلك، وكان حُذيفة عاملاً عليها فِي خلافة عمر، ثم عثمان إلى أن مات بعد قتل عثمان رضي الله عنهم. ذكره فِي "الفتح" 11/ 228.

(فَأَتَاهُ دُهْقَانٌ) بكسر الدال المهملة، ويجوز ضمّها، بعدها هاء ساكنة، ثم قاف، هو كبير القرية بالفارسيّة. قاله فِي "الفتح". وَقَالَ النوويّ فِي "شرح مسلم": هو بكسر الدال عَلَى المشهور، وحكى ضمها، ممن حكاه صاحب "المشارق، والمطالع"، وحكاهما القاضى فِي "الشرح" عن حكاية أبى عبيدة، ووقع فِي نسخ "صحاح الجوهرى"، أو بعضها مفتوحا، وهذا غريب، وهو زعيم فَلّاحى العجم، وقيل: زعيم القرية ورئيسها،

ص: 19

وهو بمعنى الأول، وهو عجمى مُعَرَّب، قيل النون فيه أصلية، مأخوذ منْ الدَّهْقَنَة، وهى الرياسة، وقيل: زائدة منْ الدّهق، وهو الامتلاء، وذكره الجوهريّ فِي "دهقن" لكنه قَالَ: إن جعلت نونه أصلية، منْ قولهم: تدهقن الرجل، صرفته؛ لأنه فعلالٌ، وِإن جعلته منْ الدهق، لم تصرفه؛ لأنه فعلان قَالَ القاضى: يحتمل أنه سُمي به مَنْ جَمَعَ المالَ، وملأ الأوعية منه، يقال: دَهقتُ الماء وأدهقته: إذا أفرغته، ودهق لي دهقة منْ ماله: أي أعطانيها، وأدهقت الإناء: أي ملأته، قالوا: يحتمل أن يكون منْ الدَّهْقَنَة والدَّهْقَمَة، وهي لين الطعام؛ لأنهم يلينون طعامهم، وعيشهم؛ لسعة أيديهم وأحوالهم، وقيل: لحذقه، ودَهائه. والله أعلم. انتهى "شرح مسلم" 14/ 35.

ووقع فِي رواية أحمد عن وكيع، عن شُعبة:"استسقى حذيفة منْ دهقان، أو عِلْج"، وعند البخاريّ فِي "الأطعمة" منْ طريق سيف، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى:"أنهم كانوا عند حُذيفة، فاستسقى، فسقاه مجوسيّ". قَالَ الحافظ: لم أقف عَلَى اسمه. انتهى "فتح" 11/ 339.

(بِمَاءٍ، فِي إِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ) وفي رواية للبخاريّ: "بقدح منْ فضّة"، وفي رواية لمسلم:"بإناء منْ فضّة"(فَحَذَفَهُ) وفي رواية البخاريّ: "فرماه به"، وفي رواية له:"فرمى به وجهه"، ولأحمد منْ رواية يزيد، عن ابن أبي ليلى:"ما يألو أن يُصيب به وجهه"، زاد فِي رواية الإسماعيلي، وأصله عند مسلم:"فرماه به، فكسره". يعني أن حذيفة رضي الله عنه رمى ذلك الدهان بذلك الإناء عقوبة له (ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ) أي إلى النَّاس الذين جلسوا حوله (مِمَّا صَنَعَ بِهِ) أي ذلك الدهقان، منْ الرمي بذلك الإناء (وَقَالَ إِنِّي نَهَيْتُهُ) أي فلم ينته، وفي رواية البخاريّ:"فَقَالَ: إني لم أرمه إلا أني نهيته، فلم ينته"، وفي رواية الإسماعيليّ:"لم أكسره إلا أني نهيته، فلم يَقبَل"، وفي رواية: وكيع: "ثم أقبل عَلَى القوم، فاعتذر"، وفي رواية يزيد:"لولا أني تقدّمت إليه مرّة، أو مرّتين، لم أفعل به هَذَا"، وفي رواية عبد الله بن عُكيم:"إني أمرته أن لا يسقيني فيه". ذكر هَذَا كله فِي "الفتح" 11/ 339.

(سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "لَا تَشْرَبُوا فِي إِنَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَلْبَسُوا الدِّيبَاجَ) بكسر الدال: ثوبٌ سَدَاه، ولُحْمته إبْرَيسمٌ، ويقال: هو معرّب، ثم كثر، حَتَّى اشتَقّت العرب منه، فقالوا: دَبَجَ الغيثُ الأرض دَبْجًا، منْ باب ضرب: إذا سقاها، فأنبتت أزهارًا مختلفةً؛ لأنه عندهم اسم للمُنَقَّش. واختُلف فِي الياء، فقيل: زائدة، ووزنه فِيعال، ولهذا يُجمع بالياء، فيقال: دبابيج، وقيل: هي أصلٌ، والأصل دِبّاجٌ بالتضعيف، فأبدل منْ أحد المضعّفين حرف العلّة، ولهذا يُردّ فِي الجمع إلى أصله،

ص: 20

فيقال: دَبَابيج، بباء موحّدة بعد الدال. قاله الفيّوميّ. وفي "القاموس": الدَّبْجُ: النَّقْشُ، والدِّيباج معرّبٌ، جمعه ديَابيجُ، ودبابيج. انتهى. وَقَالَ ابن الأثير:"الديباج" هو الثياب المتّخذة منْ الإبريسم، فارسيّ معرّبٌ، وَقَدْ تفتح داله، ويُجمع عَلَى ديابيج، ودبابيج، بالياء، والباء؛ لأن أصله دَبّاج. انتهى "النهاية" 2/ 97.

(وَلَا الْحَرِيرَ، فَإِنَّهَا) أي هذه الأشياء، منْ الذهب، والفضّة، والديباج، والحرير (لَهُمْ) أي للكفار بدليل مقابلته بقوله:"لنا": أي للمسلمين (فِي الدُّنْيَا، وَلَنَا) أيها المؤمنون (فِي الْآخِرَةِ) قَالَ الإسماعيلي: المراد بقوله: "فِي الدنيا" إباحة استعمالهم إياه، وإنما المعنى بقوله:"لهم" أي هم الذين يستعملونه؛ مخالفة لزيّ المسلمين، وكذا قوله:"ولكم فِي الآخرة": أي تستعملونه مكافأةً لكم عَلَى تركه فِي الدنيا، ويُمنعه أولئك جزاء لهم عَلَى معصيتهم باستعماله. ويحتمل أن يكون فيه إشارة إلى أن الذي يتعاطى ذلك فِي الدنيا، لا يتعاطاه فِي الآخرة، كما سيأتي بعد باب حديث عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما، مرفوعًا:"منْ لبس الحرير فِي الدنيا، فلن يلبسه فِي الآخرة"، وجاء قوله صلى الله عليه وسلم فِي الخمر:"منْ شرب الخمر فِي الدنيا لم يشربها فِي الآخرة".

وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: أي إن الكفار إنما يحصل لهم ذلك فِي الدنيا، وأما الآخرة فمالهم فيها منْ نصيب، وأما المسلمون فلهم فِي الجنة الحرير، والذهب، وما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر عَلَى قلب بشر.

وليس فِي الْحَدِيث حجة لمن يقول: الكفار غير مخاطبين بالفروع؛ لأنه لم يصرح فيه بإباحته لهم، وإنما أخبر عن الواقع فِي العادة، أنهم هم الذين يستعملونه فِي الدنيا، وإن كَانَ حراما عليهم، كما هو حرام عَلَى المسلمين.

زاد فِي رواية مسلم: "يوم القيامة"، ولفظه:"وهو لكم فِي الآخرة، يوم القيامة"، قَالَ النوويّ: إنما جمع بينهما؛ لأنه قد يُظن أنه بمجرد موته صار فِي حكم الآخرة، فِي هَذَا الإكرام، فبين أنه إنما هو فِي يوم القيامة، وبعده فِي الجنة أبدا، ويحتمل أن المراد أنه لكم فِي الآخرة، منْ حين الموت، ويستمر فِي الجنة أبدا. انتهى "شرح مسلم" 14/ 36 - 37. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

ص: 21

أخرجه هنا -87/ 5301 - وفي "الكبرى" 83/ 9615. وأخرجه (خ) فِي "الأطعمة" 5426 و"الأشربة" 5632 و5633 و"اللباس" 5831 و5837 (م) فِي "اللباس" 2067 (د) فِي "الأشربة" 3723 (ت) فِي "الأشربة" 1878 (ق) فِي "الأشربة" 3414 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 32803 و32848 و32855 و29927 و22954 (الدارميّ) فِي الأشربة" 2037. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان النهي عن لبس الديباج. (ومنها): أن فيه تحريم الشرب فِي إناء الذهب، والفضة. (ومنها)؛ أن فيه تعزيرَ منْ ارتكب معصية، لاسيما إن كاد قد سبق نهيه عنها، كقضية الدهقان مع حذيفة رضي الله عنه. (ومنها): أنه لا بأس أن يُعَزِّرَ الأميرُ بنفسه بعض مستحقي التعزير. (ومنها): أن الأمير، والكبير، إذا فعل شيئا صحيحا فِي نفس الأمر، ولا يكون وجهه ظاهرا لمن حضره ينبغي له أن ينبه بذكر سبب فعله، ويبيّن دليله، حَتَّى لا يحمل منْ يراه عَلَى إساءة الظنّ به، كما صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قوله:"إنها صفيّة". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌88 - (لُبْسِ الدِّيبَاجِ الْمَنْسُوجِ بِالذَّهَبِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر منْ صنيع المصنّف رحمه الله تعالى أنه يرى أن هَذَا الْحَدِيث كَانَ قبل تحريم لبس الحرير والذهب للرجال؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يلبس الديباج، وهو الحرير بعد التحريم، لكن هَذَا عَلَى تقدير أن قوله فِي الْحَدِيث:"فلبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم الخ" محفوظ، والظاهر أنه غير محفوظ؛ لأن الْحَدِيث أخرجه الشيخان فِي "صحيحيهما" منْ طريق شيبان، عن قتادة، وفيه:"وكان ينهى عن الحرير"، فقد صرح أنس رضي الله عنه بأنه كَانَ بعد التحريم، فيتبيّن به أنه قوله:"فلبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم" غير محفوظ، ولعلها منْ أوهام محمد بن عمرو، فإنه ذو أوهام. والله تعالى أعلم بالصواب.

ص: 22

5304 -

(أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ قَزَعَةَ، عَنْ خَالِدٍ -وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ- قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ وَاقِدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: أَنَا وَاقِدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، قَالَ: إِنَّ سَعْدًا كَانَ أَعْظَمَ النَّاسِ، وَأَطْوَلَهُ، ثُمَّ بَكَى، فَأَكْثَرَ الْبُكَاءَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بَعَثَ إِلَى أُكَيْدِرَ

(1)

، صَاحِبِ دُومَةَ بَعْثًا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِجُبَّةِ دِيبَاجٍ، مَنْسُوجَةٍ، فِيهَا الذَّهَبُ، فَلَبِسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَقَعَدَ، فَلَمْ يَتَكَلَّمْ، وَنَزَلَ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَلْمُسُونَهَا بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ:"أَتَعْجَبُونَ مِنْ هَذِهِ، لَمَنَادِيلُ سَعْدٍ فِي الْجَنَّةِ، أَحْسَنُ مِمَّا تَرَوْنَ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(الْحَسَنُ بْنُ قَزَعَةَ) الهاشميّ مولاهم، البصريّ، صدوقٌ [10] 47/ 1731.

2 -

(خَالِدٍ بْنُ الْحَارِثِ) الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو) بن علقمة بن وقّاص الليثيّ المدنيّ، صدوقٌ، له أوهام [6] 16/ 17.

4 -

(وَاقِدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ) الأنصاريّ الأشهليّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقة [4] 81/ 1999.

5 -

(أنس بن مالك) رضي الله تعالى عنهما 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به هو والترمذيّ، وابن ماجه. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وخالد، فبصريّان، وأنس رضي الله عنه مدنيّ، ثم بصريّ. (ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه منْ المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ وَاقِدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ) الأنصاريّ، أنه (قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ) أي منْ البصرة (فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟) أي منْ أي قبيلة أنت؟ (قُلْتُ: أَنَا وَاقِدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، قَالَ) أنس رضي الله عنه (إِنَّ سَعْداً) أي ابن معاذ بن النعمان بن امرىء القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جُشَم بن الحارث بن

(1)

ظاهر عبارة "القاموس" أنه منصرف، فإنه قَالَ: و"أُكَيْدِرٌ كأُحَيْمِرٍ: صاحبُ دُومَةِ الجندَل". اهـ.

ص: 23

الخزرج بن النبيت بن مالك بن أوس الأشهلي، أبا عمرو، سيد الأوس، وأمُّه كبشة بنت رافع، لها صحبة، شهد بدرًا، وأحدا، والخندق، ورُمي فيه بسهم، فعاش بعد ذلك شهرا، ثم انتقض جرحه، فمات منه سنة (5) منْ الهجرة، وَقَالَ المنافقون لما مات: ما أخف جنازته، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن الملائكة حملته"، وَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رُوي عنه منْ وجوه كثيرة:"اهتز العرش لموت سعد بن معاذ"، وَقَالَ الزهريّ، عن ابن المسيب، عن ابن عبّاس: قَالَ سعد بن معاذ: ثلاث أنا فيهن رجل يعني كما ينبغي- وما سوى ذلك، فأنا رجل منْ النَّاس: ما سمعت منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا قط، إلا علمت أنه حق منْ الله تعالى، ولا كنت فِي صلاة قط، فشغلت نفسي بغيرها، حَتَّى أقضيَها، ولا كنت فِي جنازة قط، فحدثت نفسي بغير ما تقول، ويقال لها، حَتَّى أنصرف عنها، قَالَ ابن المسيب: فهذه الخصال ما كنت أحسبها إلا فِي نبي. وَقَالَ يحيى بن عباد بن عبد الله ابن الزبير، عن أمه، عن عائشة: كَانَ فِي بني عبد الأشهل ثلاثة، لم يكن بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم، أفضل منهم: سعد بن معاذ، وأُسيد بن حُضير، وعباد بن بشر. تفرّد به البخاريّ بحديثين: أحدهما: منْ طريق ابن مسعود: "انطلق سعد بن معاذ معتمرا

" الْحَدِيث، وآخر، رُوي عنه أنس فِي قصة قتل سعد بن الربيع بأحد.

(كَانَ أَعْظَمَ النَّاسِ) أي درجةً ومكانة عند الله تعالى؛ لما له منْ اليد الطولى فِي الدين (وَأَطْوَلَهُ) قَالَ السنديّ: الظاهر أطولهم، ولعل الإفراد لمراعاة إفراد النَّاس لفظًا. انتهى.

وهو منْ الطَّوْل بالفتح، وهو الفضل: أي أفضل النَّاس (ثُمَّ بَكَى) أي بكى أنس رضي الله عنه لَمّا تذكّر سعدًا، وما كَانَ عليه منْ نصرة الإسلام والمسلمين (فَأَكْثَرَ الْبُكَاءَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بَعَثَ إِلَى أُكَيْدِرَ) بضم الهمزة، وفتح الكاف، وبعدها ياء التصغير: تصغير أكدر، والكدرة لون بين السواد والبياض، وهو الأغبر، وهو أُكيدر بن عبد الملك الكندي (صَاحِبِ دُومَةَ) بفتح الدال، وضمها، وأنكر ابن دُريد الفتح، وَقَالَ: أهل اللغة يقولونه بالضمّ، والمحدّثون بالفتح، وهو خطأ، وَقَالَ: و"دُومةُ الجندل": مجتمعه، ومستداره، وهو منْ بلاد الشام، قرب تبوك، كَانَ أُكيدر ملكها، وكان خالد بن الوليد، قد أسره فِي غزوة تبوك، وسلبه قباءً منْ ديباج، مُخَوَّصاً بالذهب، فأمّنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وردّه إلى موضعه، وضرب عليه الجزية. انتهى "المفهم" 6/ 384.

وَقَالَ فِي "الفتح": و"أكيدر دومة": هو أكيدر تصغير أكدر، ودومة بضم المهملة، وسكون الواو: بلد بين الحجاز والشام، وهي دومة الجندل، مدينة بقرب تبوك، بها نخل، وزرع، وحصن عَلَى عشر مراحل منْ المدينة، وثمان منْ دمشق، وكان أكيدر ملكها، وهو أكيدر بن عبد الملك بن عبد الجن -بالجيم والنون- ابن أعباء بن الحارث

ص: 24

ابن معاوية، ينسب إلى كندة، وكان نصرانيا، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم، أرسل إليه خالد بن الوليد فِي سرية، فأسره، وقتل أخاه حسان، وقدم به المدينة، فصالحه النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الجزية، وأطلقه، ذكر ابن إسحاق قصته مطولة فِي "المغازي". ورَوَى أبو يعلى بإسناد قوي، منْ حديث قيس بن النعمان: أنه لَمّا قَدِم أخرج قباء منْ ديباج، منسوجا بالذهب، فرَدّه النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه، ثم إنه وجد فِي نفسه منْ رد هديته، فرجع به، فَقَالَ له النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ادفعه إلى عمر

" الْحَدِيث. وفي حديث عليّ عند مسلم: "أن أكيدر دومة أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم، ثوب حرير، فأعطاه عليا، فَقَالَ: شققه خمرا بين الفواطم".

فيستفاد منه أن الحلة التي ذكرها عليّ رضي الله عنه فِي حديثه السابق هي هذه التي أهداها أُكيدر. انتهى "فتح""كتاب الهبة" 5/ 552 ببعض تصرّف.

وَقَالَ النوويّ فِي شرحه: "وأما أُكيدر" -فهو بضم الهمزة، وفتح الكاف- وهو أُكيدر ابن عبد الملك الكنديّ، قَالَ الخطيب البغداديّ فِي كتابه "المبهمات": كَانَ نصرانيًّا، ثم أسلم، قَالَ: وقيل: بل مات نصرانيّا. وَقَالَ ابن منده، وأبو نُعيم الأصبهانيّ فِي كتابيهما فِي معرفة الصحابة: إن أُكيدراً هَذَا أسلم، وأهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حلّة سيراء. قَالَ ابن الأثير فِي كتابه "معرفة الصحابة": أما الهديّة، والمصالحة، فصحيحان، وأما الإسلام فغلط، قَالَ: لأنه لم يُسلم بلا خلاف بين أهل السير، ومن قَالَ: أسلم فقد أخطأ خطأ فاحشًا، قَالَ: وكان أكيدر نصرانيًّا، فلما صالحه النبيّ صلى الله عليه وسلم عاد إلى حصنه، وبقي فيه، ثم حاصره خالد بن الوليد فِي زمان أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، فقتله مشركًا نصرانيًّا -يعني لنقضه العهد- قَالَ: وذكر البلاذري أنه قدم عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاد إلى دومة، فلما توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدّ أكيدر، فلما سار خالد منْ العراق إلى الشام قتله. وعلى هَذَا القول لا ينبغي عدّه فِي الصحابة. هَذَا كلام ابن الأثير. انتهى "شرح مسلم" 14/ 50.

(بَعْثًا) أي جيشًا، تسميةً بالمصدر، إذ أصله مصدر بعث، منْ باب نفع، وجمعه بُعُوثٌ، وذلك البعث هو خالد بن الوليد، كما سبق آنفاً (فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ) أي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم (بِجُبَّةِ دِيبَاجٍ)"الْجُبّة" بضم الجيم، وتشديد الموحّدة-: ثوب معروفٌ، جمعه جُبَبٌ، بضم، ففتح، كغرفة وغُرف، وجِباب بالكسر (مَنْسُوجَةٍ، فِيهَا الذَّهَبُ) يعني أن تلك الجبّة نُسجت مخلوطةً بالذهب. وفي رواية الشيخين: "أُهدي للنبي صلى الله عليه وسلم جبة سُندس"، وفي حديث البراء رضي الله عنه عندهما:"أُهديت لرسول الله حُلّة حرير .. " الْحَدِيث.

قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: رواية "جبة سندس" أوجه، وأصوب؛ لأن الحلّة لا تكون عند العرب ثوبًا واحدًا، وإنما هي لباس ثوبين، يحُلّ أحدهما عَلَى الآخر، وأن الثوب الفرد لا يُسمّى حُلّةً. وَقَدْ جاء فِي "السير" أنها قباء منْ ديباج، مخوّصٌ بالذهب.

ص: 25

انتهى "المفهم" 6/ 383.

وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: قوله: "حلّة حرير"، وفي الرواية الأخرى:"ثوب حرير"، وفي الأخرى:"جُبّة"، قَالَ القاضي: رواية الجبّة بالجيم والباء؛ لأنه كَانَ ثوباً واحدًا، كما صُرّح به فِي الرواية الأخرى، والأكثرون يقولون:"الحلّة" لا تكون إلا ثوبين، يحلّ أحدهما عَلَى الآخر، فلا يصحّ الحلّة هنا. وأما منْ يقول: الحلّة ثوب واحدٌ جديدٌ، قريب العهد بحلّه منْ طيّه، فيصحّ، وَقَدْ جاء فِي "كتب السير" أنها قباء. انتهى "شرح مسلم" 15/ 23 - 24.

(فَلَبِسَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) هَذَا محلّ الترجمة، حيث إنه صلى الله عليه وسلم لبس الديباج المنسوج بالذهب، وأن هَذَا كَانَ قبل التحريم، وهذا رأي المصنّف رحمه الله تعالى، ولذا أورد بعده باب النسخ، حيث قَالَ:"نسخ ذلك".

لكن تقدّم أن هَذَا فيه نظر؛ لأن فِي رواية الشيخين أنه كَانَ بعد التحريم، فقد رواياه منْ طريق شيبان، عن قتادة، عن أنس بلفظ: "أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم جبة سُندس، وكان ينهى عن الحرير

" الْحَدِيث، فإنها ظاهرة فِي كونه بعد التحريم.

والظاهر أن قوله: "فلبسه الخ" غير محفوظ، ولعلها منْ أوهام محمد بن عمرو، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَقَعَدَ، فَلَمْ يَتَكَلَّمْ، وَنَزَلَ) يعني أنه صعد المنبر مريدًا الكلام، لكنه لم يتكلم، بل نزل عنه، ولم يُذكر سبب تركه الكلام (فَجَعَلَ النَّاسُ يَلْمُسُونَهَا) بضمّ الميم، وكسرها، يقال: لمسه لَمْسًا، منْ بابي قتل، وضرب: إذا أفضى إليه بيده (بِأَيْدِيهِمْ) تعجّبًا منْ حسنها، ولينها، ونعومتها، إذ لم يسبق لهم عهد بمثلها (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم خوفًا عليهم منْ أن يميلوا بذلك إلى الدنيا، ويستحسنونها فِي طباعهم، فزهّدهم عنها، ورغّبهم فِي الآخرة، حيث قَالَ لهم:(أَتَعْجَبُونَ) بفتح الجيم، منْ باب تَعِبَ (مِنْ هَذِهِ) الجبة (لَمَنَادِيلُ سَعْدٍ فِي الْجَنَّةِ، أَحْسَنُ مِمَّا تَرَوْنَ") أي هَذَا فِي الدنيا قد أُعدّ للبس الملوك، ومع ذلك لا يساوي مناديل سعد فِي الآخرة التي أُعدّت لإزالة الوسخ، وتنظيف الأيدي، فأيّ نسبة بين الدنيا والآخرة، فلا ينبغي للمرء الرغبة فِي الدنيا، وعن الآخرة.

قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: "المناديل" جمع مِنْدل -بكسر الميم- فِي المفرد، وهو الذي يُحمل فِي اليد. قَالَ ابن الأعرابيّ، وابن فارس، وغيرهما: هو مشتقّ منْ الندل، وهو النقل؛ لأنه يُنقل منْ واحد إلى واحد، وقيل: منْ الندل، وهو الوسخ؛ لأنه يُندل به، قَالَ أهل العربية: يقال منه: تندّلت بالمنديل. قَالَ الجوهريّ: ويقال أيضًا: تمندلت، وأنكره الكسائيّ، قَالَ: ويقال أيضًا: تمدلت. انتهى "شرح مسلم" 15/ 23.

ص: 26

وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: هذه إشارة إلى أدنى ثياب سعد؛ لأن المناديل إنما هي مُمتهنَةٌ، مُتّخذةٌ لمسح الأيدي بها منْ الدنس، والوسخ، وإذا كَانَ هَذَا حال المناديل، فما ظنك بالعمامة، والحُلّة؟، ولا يُظنّ أن طعام الجنّة، وشرابها فيهما ما يُدنّس يد المتناول حَتَّى يحتاج إلى منديل، فإن هَذَا ظنّ منْ لا يعرف الجنّة، ولا طعامها، ولا شرابها، إذ قد نزّه الله الجنّة عن ذلك كله، وإنما ذلك إخبار بأن الله تعالى أعدّ فِي الجنّة كلّ ما كَانَ يُحتاج إليه فِي الدنيا، لكن هي عَلَى حالة هي أعلى، وأشرف، فأَعدّ فيها أمشاطاً، ومجامر، وأُلُوّةً، ومناديل، وأسواقًا، وغير ذلك مما تعارفناه فِي الدنيا، وإن لم نَحتج له فِي الجنّة؛ إتمامًا للنعمة، وإكمالاً للمنّة. انتهى "المفهم" 6/ 384.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى فِي توجيه المناديل لأهل الجنة كلام نفيسٌ جدًّا، وحاصله أن الله سبحانه وتعالى جعل فِي الجنة كل ما كَانَ كمالاً فِي الدنيا، وإن لم يكن لأهل الجنّة حاجة إلى ذلك؛ فالمناديل، والأمشاط، والمجامر كانت لأهل الدنيا منْ الكمالات، بحيث إنها تكون لأهل الشرف، منْ الملوك، وأهل الفضل، إلا أنهم فِي الدنيا يحتاجون إليها لما يُصيبهم منْ الأوساخ، ونحوها، وأما أهل الجنة، فلا يبولون، ولا يتغوّطون، ولا يبصقون، ولا يمتخطون، وإنما هذه الأشياء مجرّد كمالات لهم. اللَّهم إنا نسألك الجنة، وما قرب إليها منْ قول، أو عمل، ونعوذ بك منْ النار، وما قرّب إليها منْ قول، أو عمل. آمين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -88/ 5304 - وفي "الكبرى" 84/ 9617. وأخرجه (خ) فِي "الهبة" 2616 (م) فِي "فضائل الصحابة" 2469 (ت) فِي "اللباس" 1722 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 11814 و12736 و12776 و12982 و13043 و13080 و13526.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان لبس الديباج المنسوج بالذهب، هَذَا عَلَى ما يراه المصنّف رحمه الله تعالى، منْ أن هَذَا كَانَ قبل تحريم لبس

ص: 27

الحرير، بدليل قوله:"فلبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم"، لكن قد عرفت أن الظاهر أنه غير محفوظ؛ لأنه ثبت فِي "الصحيحين"، فى نفس الْحَدِيث قول أنس رضي الله عنه:"وكان ينهى عن الحرير"، فهو صريح فِي كونه بعد التحريم، لا قبله، فقوله:"فلبسه الخ" شاذّ، فتأمّل.

(ومنها): أن فيه إشارةً إلى عظيم منزلة سعد رضي الله عنه فِي الجنّة، وأن أدنى ثيابه فيها خير منْ حرير الدنيا؛ لأن المنديل أدنى الثياب؛ لأنه معدّ للوسخ، والامتهان، فغيره أفضل. (ومنها): أن فيه إثبات الجنّة لسعد رضي الله عنه. (ومنها): أن فيه جوازَ قبول هديّة المشرك، وَقَدْ ترجم الإمام البخاريّ فِي "كتاب الهبة" منْ "صحيحه":"قبول هديّة المشرك":

قَالَ فِي "الفتح": قوله: "باب قبول الهدية منْ المشركين": أي جواز ذلك، وكأنه أشار إلى ضعف الْحَدِيث الوارد فِي رد هدية المشرك، وهو ما أخرجه موسى بن عقبة فِي "المغازي" عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، ورجال منْ أهل العلم: أن عامر بن مالك الذي يُدْعَى مُلاعِب الأسِنَّة، قدم عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مشرك، فأهدى له، فَقَالَ: "إني لا أقبل هدية مشرك

" الْحَدِيث، ورجاله ثقات، إلا أنه مرسل، وَقَدْ وصله بعضهم عن الزهريّ، ولا يصح، وفي الباب حديث عياض بن حمار، أخرجه أبو داود، والترمذي، وغيرهما، منْ طريق قتادة، عن يزيد بن عبد الله، عن عياض، قَالَ: أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة، فَقَالَ: "أسلمت؟ " قلت: لا، قَالَ: "إني نهُيت عن زَبْد المشركين"، و"الزبد" -بفتح الزاي، وسكون الموحدة- الرِّفْدُ، صححه الترمذيّ، وابن خزيمة.

وأورد البخاريّ فِي الباب عدة أحاديث، دالة عَلَى الجواز.

فجمع بينها الطبري، بأن الامتناع فيما أُهدي له خاصة، والقبول فيما أُهدي للمسلمين، وتعقّبه الحافظ بأن منْ جملة أدلة الجواز، ما وقعت الهدية فيه له خاصة. وجمع غيره بأن الامتناع فِي حق منْ يريد بهديته التودد والموالاة، والقبول فِي حق منْ يُرجى بذلك تأنيسه، وتأليفه عَلَى الإسلام، وهذا أقوى منْ الأول. وقيل: يُحمل القبول عَلَى منْ كَانَ منْ أهل الكتاب، والرد عَلَى منْ كَانَ منْ أهل الأوثان. وقيل: يمتنع ذلك لغيره منْ الأمراء، وأن ذلك منْ خصائصه. ومنهم منْ ادَّعَى نسخ المنع، بأحاديث القبول. ومنهم منْ عكس. وهذه الأجوبة الثلاثة ضعيفة، فالنسخ لا يثبت بالاحتمال، ولا التخصيص. انتهى "فتح" 5/ 551 فِي "كتاب الهبة" رقم 2615. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

ص: 28

‌89 - (ذِكْرِ نَسْخِ ذَلِكَ)

5305 -

(حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا، يَقُولُ: لَبِسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قِبَاءً، مِنْ دِيبَاجٍ، أُهْدِيَ لَهُ، ثُمَّ أَوْشَكَ أَنْ نَزَعَهُ، فَأَرْسَلَ بِهِ إِلَى عُمَرَ، فَقِيلَ لَهُ: قَدْ أَوْشَكَ مَا نَزَعْتَهُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "نَهَانِي عَنْهُ جِبْرِيلُ عليه السلام"، فَجَاءَ عُمَرُ يَبْكِي، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَرِهْتَ أَمْرًا، وَأَعْطَيْتَنِيهِ، قَالَ: "إِنِّي لَمْ أُعْطِكَهُ لِتَلْبَسَهُ، إِنَّمَا أَعْطَيْتُكَهُ لِتَبِيعَهُ"، فَبَاعَهُ عُمَرُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ).

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(يوسف بن سعيد) بن مسلم المصّيصيّ، ثقة حافظ [11] 131/ 198.

2 -

(حجاج) بن محمد الأعور، أبو محمد المصيصيّ، ترمذيّ الأصل، ثم نزل بغداد، ثم المصّيصة، ثقة ثبت، لكنه اختلط بآخره لما قدم بغداد [9] 28/ 32.

3 -

(ابن جريج) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقة فقيه فاضل، لكنه يدلّس [6] 28/ 32.

4 -

(أبو الزبير) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، صدوقٌ يُدلّس [4] 31/ 35.

5 -

(جابر) بن عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله تعالى عنهما 31/ 35. والله

تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمكيين، غير شيخه، وحجاج، فمصيصيان. (ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله عنه منْ المكثرين السبعة، رَوَى (1540) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَن) عبد الملك بن عبد العزيز (ابْنِ جُرَيْجٍ) أنه (قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا) رضي الله عنه (يَقُولُ: لَبِسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قِبَاءً) بالفتح، قَالَ الفيّوميّ: الْقَبْوُ: معروفٌ، والجمع أَقْباءٌ، والْقَبَاءُ ممدودٌ عربيّ، والجمع أَقْبية، وكأنه مشتقّ منْ قبوتُ الحرفّ أَقبُوه: إذا ضممتَه. انتهى. وَقَالَ فِي "اللسان": والْقَبْوَةُ: انضمام ما بين الشفتين، والقَباء ممدود، منْ الثياب الذي يُلبس، مشتقّ منْ ذلك؛ لاجتماع أطرافه، والجمع

ص: 29

أقبية. انتهى. (مِنْ دِيبَاجٍ) بالكسر: أي حرير (أُهْدِيَ لَهُ) بالبناء للمفعول، والجملة فِي محلّ نصب عَلَى الحال، أو صفة بعد صفة لـ"قباءً".

قَالَ القرطبيّ: كَانَ هَذَا اللبس منه صلى الله عليه وسلم قبل أن يُحرّم الحرير، ثم لَمّا لبسه أُعلم بالتحريم، فخلعه مُسرعًا، وَقَدْ دلّ عَلَى هَذَا قوله:"فنهاني عنه جبريل". انتهى "المفهم" 5/ 397.

(ثُمَّ أَوْشَكَ أَنْ نَزَعَهُ)"أن" مصدريّة: أي قارب نزعه لبسه، يعني أنه لم يلبث بعد لبسه، بل نزعه فورا (فَأَرْسَلَ بِهِ إِلَى عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنه (فَقِيلَ لَهُ) أي قَالَ له الصحابة الحاضرون لديه (قَدْ أَوْشَكَ مَا نَزَعْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ) "ما" مصدريّة: أي قارب نزعك إياه اللبس. وَقَالَ القرطبيّ: وقع فِي بعض روايات مسلم: "أوشك ما نزعته"، وعند بعضهم:"قد أوشك"، وهو كلام غير مستقيم، وصوابه -والله أعلم-:"ما أوشك ما نزعته" عَلَى جهة التعجّب، فسقطت "ما" عند بعضهم، وتصحّفت بـ"قد" عند آخرين. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما تبين لي دعوى القرطبيّ كون الكلام غير مستقيم؛ فإن الكلام واضح المعنى، سواء مع "قد"، أو مع سقوطها، فلا حاجة لدعوى السقوط، أو التصحيف، فتأمّل. والله تعالى أعلم.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (نَهَانِي عَنْهُ جِبْرِيلُ عليه السلام هَذَا محلّ الترجمة، فإنه صريح فِي أن لبس الحرير كَانَ جائزًا، ثم نُسخ، حيث إنه صلى الله عليه وسلم لبس ما أُهدي إليه منْ قباء الديباج؛ لكون مما يجوز لبسه، ثم أوحي إليه بالنهي عنه، وهذا هو معنى النسخ، إذ هو رفع حكم شرعيّ بخطاب شرعيّ متأخّر عنه (فَجَاءَ عُمَرُ) رضي الله عنه (يَبْكِي، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَرِهْتَ أَمْرًا، وَأَعْطَيْتَنِيهِ، قَالَ: "إِنِّي لَمْ أُعْطِكَهُ لِتَلْبَسَهُ، إِنَّمَا أَعْطَيْتُكَهُ لِتَبِيعَهُ"، فَبَاعَهُ عُمَرُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ) الظاهر أن هذه الواقعة غير الواقعة التي كانت فِي حلة عطارد بن الحاجب؛ لأن فيها أن عمر رضي الله عنه لم يبع الحلة، بل أهداها إلى أخ له مشرك بمكة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث جابر رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -89/ 5305 - وفي "الكبرى" 85/ 9618. أخرجه (م) فِي "اللباس" 2070 والله تعالى أعلم.

ص: 30

(المسألة الثالثة): فى فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان نسخ جواز لبس الديباج. (ومنها). جواز النسخِ فِي الشرع. (ومنها): منْ لبس ثوب حرير غلطًا، أو سهوًا، وجب عليه نزعه أول أوقات إمكانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌90 - (التَّشْدِيدِ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ، وَأَنَّ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الحرير" -بفتح الحاء المهملة، وكسر الراء-: معروف، وهو عربي، سُمّي بذلك؛ لخلوصه، يقال لكل خالص: مُحَرَّر، وحَرَّرتُ الشيءَ: خلصته منْ الاختلاط بغيره. وقيل: هو فارسي مُعَرَّب. قاله فِي "الفتح" 11/ 463. والله تعالى أعلم بالصواب.

5306 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ، وَيَقُولُ: قَالَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا، فَلَنْ يَلْبَسَهُ فِي الآخِرَةِ").

رجال هَذَا الإسناد: أربعة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(حماد) بن زيد بن درهم الأزديّ الْجَهْمضيّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقة ثبت فقيه، منْ كبار [8] 3/ 3.

3 -

(ثابت) بن أسلم البنانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقة عابد [4] 45/ 54.

4 -

(عبد الله بن الزبير) بن العوّام القرشيّ الأسديّ، أبو خُبيب، كَانَ أول مولود فِي الإسلام فِي المدينة منْ المهاجرين، وولي الخلافة تسع سنين، وقُتل فِي ذي الحجة سنة (73)، وسبقت ترجمته فِي 189/ 1161. والله تعالى أعلم.

ص: 31

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (252) منْ رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن صحابيّه أول مولود وُلد فِي الإسلام بعد الهجرة، ففرح به المسلمون؛ لأن المنافقين أشاعوا بأنه لا يولد لهم؛ لأن اليهود سحرتهم، فأبطل الله تلك المزاعم الباطلة بولادته رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ ثَابِتٍ) البنانيّ البصريّ، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ) رضي الله تعالى عنهما (وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ) متعلّق بـ (يَخْطُبُ) وفي رواية أحمد: "يخطبنا"(وَيَقُولُ: قَالَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم) هَذَا مرسل ابن الزبير، ومراسيل الصحابة محتجّ بها عند جمهور منْ لا يحتجّ بالمراسيل؛ لأنهم إما أن يكون عند الواحد منهم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو عن صحابيّ آخر، واحتمال كونها عن تابعيّ لوجود رواية بعض الصحابة، عن بعض التابعين نادر، لكن تبيّن أنه أخذه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بواسطة عمر رضي الله عنه، فقد أخرج البخاريّ منْ طريق شعبة، عن خليفة بن كعب، قَالَ: سمعت ابن الزبير، يقول: سمعت عمر رضي الله عنه يقول: قَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "منْ لبس الحرير فِي الدنيا لم يلبسه فِي الآخرة".

وَقَدْ حفظ ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم عدّة أحاديث، منها: حديثه: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح الصلاة، فرفع يديه"، أخرجه أحمد. ومنها: حديثه "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو هكذا، وعقد ابن الزبير"، أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائيّ. ومنها: حديثه: "أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم ينهى عن نبيذ الجرّ"، أخرجه أحمد أيضاً. قاله فِي "الفتح" 11/ 468.

(مَنْ) شرطية (لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا، فَلَنْ يَلْبَسَهُ فِي الآخِرَةِ) يحتمل أن يكون المعنى أنه لا يدخل الجنة فلا يلبسه، وهذا هو الذي نُقل عن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما فِي حديثه عن عمر رضي الله عنه الآتي، فعند المصنّف فِي "الكبرى" (9584) منْ رواية جعفر بن ميمون فِي آخره زيادة:"ومن لم يلبسه فِي الآخرة لم يدخل الجنّة، قَالَ الله تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحجّ: 23]، وهذه الزيادة مدرجة فِي الخبر، وهي موقوفة عَلَى ابن الزبير، بين ذلك المصنّف فِي "الكبرى" (11343) أيضاً منْ طريق شعبة، فذكر فِي آخره: "قَالَ ابن الزبير، فذكر الزيادة، وكذا أخرجه الإسماعيليّ منْ طريق عليّ بن الجعد، عن شعبة، ولفظه:"فَقَالَ ابن الزبير منْ رأيه: ومن لم يلبس الحرير فِي الآخرة، لم يدخل الجنّة"، وذلك لقوله تعالى:{وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}

ص: 32

[الحجّ: 23]. وَقَدْ جاء مثل ذلك عن ابن عمر أيضًا، أخرجه المصنّف فِي "الكبرى"(9586) منْ طريق حفصة بنت سيرين، عن خليفة بن كعب، قَالَ:"خطبنا ابن الزبير"، فذكر الْحَدِيث المرفوع، وزاد: "فَقَالَ ابن عمر: إذًا والله لا يدخل الجنة، قَالَ الله:{وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحجّ: 23].

ويحتمل أنه وإن دخلها لا يلبسه، ولا ينافي هَذَا قوله تعالى فِي وصف أهل الجنّة:{لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} الآية [الفرقان: 16]، وقوله:{وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصّلت: 31]؛ لأنه يرفع عنه الاشتهاء، فلا رغبة له فِي لباس الحرير.

ويؤيّد هَذَا ما أخرجه أحمد، والمصنّف فِي "الكبرى"(9611)، وصححه الحاكم منْ طريق داود السرّاج، عن أبي سعيد، فذكر الْحَدِيث المرفوع مثل حديث عمر الآتي، وزاد:"وإن دخل الجنّة لبسه أهل الجنّة، ولم يلبسه هو".

قَالَ الحافظ: وهذا يحتمل أن يكون أيضًا مدرجًا، وعلى تقدير أن يكون الرفع محفوظًا، فهو منْ العامّ المخصوص بالمكلّفين منْ الرجال؛ للأدلّة الأخرى بجوازه للنساء. أفاده فِي "الفتح" 11/ 469.

وَقَالَ القاضي عياض رحمه الله تعالى فِي "شرح مسلم": وروى عن ابن الزبير أنه قَالَ: "منْ لم يلبسه فِي الآخرة لم يدخل الجنّة، قَالَ الله تعالى:{وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحجّ: 23]. يحتمل أنه يريد بالحديث كفّار ملوك العجم، والأمم الذين كَانَ زيّهم. ويحتمل أنه يريد منْ أراد الله عقابه بذلك منْ مذنبي المؤمنين، فتحريمه فِي الآخرة وقفه قبل دخول الجنّة، وإمساكه عنها مدّة حسابه. وَقَدْ يحتمل أنه يُمنع منْ لباسه بعد دخول الجنّة، لكن يُنسيه الله تعالى أمره، ويشغله عن ذكره بلذّات أخرى عنه حَتَّى يقضي الله أمر حبسه عنه، أو أبدًا، ويكون هو راضيًا أثناء ذلك بحاله، غير ملتفت إلى ما نقصه منْ لباسه، ولا حاسد غيره عليه، ولا منتغص بذلك، ولا ذاكر له؛ ليتمّ لذّته دون نغص، ولا حسد، ولا رؤية نقص لحاله؛ إذ لا حُزن، ولا نغص فِي الجنّة، ولا يرى أحد منهم أن منزلة غيره فوقه، ولا لذّة فوق لذّته، كما أن أهل الغرف فِي عليّين يراهم منْ دونهم كالكوكب الدّرّيّ فى أفق السماء، ثم منْ دونهم لا نقص عنده بحالهم، ولا نقص لحاله دونهم.

وَقَدْ يكون معنى قوله: "لم يلبسه فِي الآخرة"، إذا حرم أن يلبسه فِي الآخرة مدّة عقابه إذا عوقب عَلَى معصيته بارتكاب النهي. انتهى كلام عياض فِي "إكمال المعلم" 6/ 582 - 583.

ص: 33

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: أعدل الأقوال عندي فِي معنى الْحَدِيث -كما قَالَ فِي "الفتح" 11/ 470 - أن لبس الحرير فِي الدنيا مقتض للعقوبة بحرمانه لبسه فِي الآخرة، كما هو ظاهر النصوص، لكن قد يتخلّف ذلك لمانع، كالتوبة، والحسنات التي توازن، والمصائب التي تكفّر، وكدعاء الولد بشرطه، وكذا شفاعة منْ يؤذن له فِي الشفاعة، وأعمّ منْ ذلك عفو أرحم الراحمين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما هَذَا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -90/ 5306 - وفي "الكبرى" 9583 و9584 و9585 و9586 و9587 وفي "التفسير" 11343 و11344. (خ) فِي "اللباس" 5833 (أحمد) فِي "مسند المدنيين" 15686. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان التشديد فِي لبس الحرير. (ومنها): أن هَذَا الْحَدِيث، وشبهه يدلّ عَلَى تحريم لباسه عَلَى الذكور خاصّة؛ للنصوص الأخرى، كقوله صلى الله عليه وسلم:"حرام عَلَى ذكور أمتى، حلّ لإناثها". (ومنها): أن الجزاء يكون بنقيض العمل، كما يكون كثيرًا منْ جنس العمل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي لبس الحرير:

قَالَ ابن بطال رحمه الله تعالى: اختُلف فِي الحرير، فَقَالَ قوم: يحرم لبسه فِي كل الأحوال، حَتَّى عَلَى النِّساء، نُقل ذلك عن عليّ، وابن عمر، وحذيفة، وأبي موسى، وابن الزبير رضي الله عنهم، ومن التابعين عن الحسن، وابن سيرين. وَقَالَ قوم: يجوز لبسه مطلقا، وحملوا الأحاديث الواردة فِي النهي عن لبسه، عَلَى منْ لبسه خُيلاء، أو عَلَى التنزيه.

قَالَ الحافظ: وهذا الثاني ساقط؛ لثبوت الوعيد عَلَى لبسه، وأما قول عياض: حمل بعضهم النهي العام فِي ذلك عَلَى الكراهة، لا عَلَى التحريم، فقد تعقبه ابن دقيق العيد، فَقَالَ: قد قَالَ القاضي عياض: إن الإجماع انعقد بعد ابن الزبير، ومن وافقه عَلَى تحريم الحرير عَلَى الرجال، وإباحته للنساء، ذكر ذلك فِي الكلام عَلَى قول ابن الزبير، فِي

ص: 34

الطريق التي أخرجها مسلم: "ألا لا تلبسوا نساءكم الحرير، فإني سمعت عمر

فذكر الْحَدِيث الآتي فِي الباب بعد هَذَا الْحَدِيث، قَالَ: فإثبات قول بالكراهة دون التحريم، إما أن ينقض ما نقله منْ الإجماع، وإما أن يثبت أن الحكم العام قبل التحريم عَلَى الرجال، كَانَ هو الكراهة، ثم انعقد الإجماع عَلَى التحريم عَلَى الرجال، والإباحة للنساء، ومقتضاه نسخ الكراهة السابقة، وهو بعيد جدا.

وأما ما أخرجه عبد الرزاق، عن معمر، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه قَالَ:"لقي عمر عبد الرحمن بن عوف، فنهاه عن لبس الحرير، فَقَالَ: لو أطعتنا للبسته معنا، وهو يضحك"، فهو محمول عَلَى أن عبد الرحمن، فهم منْ إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم له، فِي لبس الحرير نسخ التحريم، ولم ير تقييد الإباحة بالحاجة، كما سيأتي. قاله فِي "الفتح" 11/ 463 - 464.

وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: واختلف النَّاس فِي لباس الحرير، فمن مانع، ومن مجوّز عَلَى الإطلاق، وجمهور العلماء عَلَى منعه للرجال، وإباحته للنساء، وهو الصحيح لهذا الْحَدِيث -يعني حديث عمر رضي الله عنه المتقدّم- وما فِي بابه، وهي كثيرة، وأما إباحته للنساء، فيدلّ عليها قوله فِي هَذَا الْحَدِيث:"إنما بعثت بها إليك لتشقّقها خُمُرًا بين نسائك"، ولِمَا خرّجه النسائيّ منْ حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قَالَ: إن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريرًا فِي يمينه، وذهبًا فِي شماله، ثم قَالَ:"إن هذين حرام عَلَى ذكر أمتي، حلّ لإناثها"، قَالَ عليّ بن المدينيّ: حديث حسنٌ، ورجاله معروفون.

وهذا كلّه فِي الحرير الخالص المصمت، فأما الذي سَداه حرير، ولُحمته غيره، فكرهه مالك، وإليه ذهب ابن عمر، وأجازه ابن عبّاس. والْخَزّ، فاختُلف فيه عَلَى ثلاثة أقوال: الحظر، والإباحة، والكراهة، وجُلّ المذهب عَلَى الكراهة. واختُلف فيه ما هو؟ فقيل: ما سَداه حرير، قَالَ ابن حبيب: ليس بين الخزّ وما سداه حرير، ولحمته قطن، أو غيره فرقٌ إلا الاتّباع، فإنه حُكي إباحة الخزّ عن خمسة وعشرين منْ الصحابة، منهم: عثمان بن عفّان، وسعيد بن زيد، وعبد الله بن عبّاس، وخمسة عشر تابعيًا، وكان عبد الله بن عمر يكسو بنيه الخزّ. وقيل: فِي الخزّ: إنه يُشبه الحرير، وليس به، ويكره لشبهه بالحرير، وللسرف.

قَالَ: واختُلف فِي علّة تحريم الحرير للرجال، فَقَالَ الأبهريّ: هي التشبه بالنساء. وقيل: ما يجرّه منْ الخيلاء. وقيل: التشبّه بالكفار الذين لا حظّ لهم فِي الآخرة، وهذا هو الذي دلّ عليه الْحَدِيث. انتهى "المفهم" 5/ 386 - 387.

وَقَالَ فِي "الفتح": واختلف فِي علة تحريم الحرير عَلَى رأيين مشهورين: [أحدهما]:

ص: 35

الفخر والخيلاء. [والثاني]: لكونه ثوب رفاهية وزينة، فيليق بزي النِّساء، دون شهامة الرجال. ويحتمل علةً ثالثة، وهي التشبه بالمشركين، قَالَ ابن دقيق العيد: وهذا قد يرجع إلى الأول؛ لأنه منْ سمة المشركين، وَقَدْ يكون المعنيان معتبرين، إلا أن المعنى الثاني، لا يقتضي التحريم؛ لأن الشافعيّ قَالَ فِي "الأم": ولا أكره لباس اللؤلؤ، إلا للأدب، فإنه زيّ النِّساء. واستشكل بثبوت اللعن للمتشبهين منْ الرجال بالنساء، فإنه يقتضي منع ما كَانَ مخصوصا بالنساء، فِي جسمه وهيئته. وذكر بعضهم علة أخرى، وهي السرف. ذكره فِي "الفتح" 11/ 463 - 464.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بأن العلة هي التشبّه بالكفّار هو الأقرب عندي؛ لدلالة الْحَدِيث عليه، كما سبق عن القرطبيّ رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5307 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَلِيفَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ: لَا تُلْبِسُوا نِسَاءَكُمُ الْحَرِيرَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا، لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ").

رجال هَذَا الإسناد. خمسة:

1 -

(محمود بن غيلان) العدويّ مولاهم، أبو أحمد المروزيّ، نزيل بغداد، ثقة [10] 33/ 37.

2 -

(النضر بن شُمَيل) المازنيّ، أبو الحسن النحوي البصريّ، ثم المروزيّ، ثقة ثبت، منْ كبار [9] 41/ 45.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت [7] 24/ 27.

4 -

(خليفة بن كعب) التميميّ، أبو ذِنْيان -بكسر الذال المعجمة، وسكون الموحّدة، بعدها تحتانية- البصريّ، ثقة [4].

رَوَى عن ابن الزبير، والأحنف بن قيس. وعنه حفصة بنت سيرين، وشعبة، وجعفر ابن ميمون الأنماطيّ. قَالَ النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". رَوَى له البخاريّ، ومسلم، والمصنّف هَذَا الْحَدِيث فقط. والصحابيّ سبق فِي السند الماضي. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

عن خليفة بن كعب رحمه الله تعالى، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ) رضي

ص: 36

الله تعالى عنهما (قَالَ: لَا تُلْبِسُوا نِسَاءَكُمُ الْحَرِيرَ) قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: هَذَا مذهب ابن الزبير، وأجمعوا بعده عَلَى إباحة الحرير للنساء، كما سبق، وهذا الْحَدِيث الذي احتجّ به إنما ورد فِي لبس الرجال؛ لوجهين:[أحدهما]: أنه خطاب للذكور

(1)

، ومذهبنا، ومذهب محقّقي الأصوليين أن النِّساء لا يدخلن فِي خطاب الرجال عند الإطلاق. [والثاني]: أن الأحاديث الصحيحة التي ذكرها مسلم قبل هَذَا، وبعده صريحة فِي إباحته للنساء، وأمره صلى الله عليه وسلم عليًّا، وأسامة بأن يكسواه نساءهما مع الْحَدِيث المشهور أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الحرير والذهب:"إن هذين حرام عَلَى ذكور أمتي، حِلّ لإناثها". انتهى "شرح مسلم" 14/ 44 - 45.

(فَإِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَبِسَهُ) أي الحرير (فِي الدُّنْيَا، لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ") زاد فِي "الكبرى" -كما تقدّم-: قَالَ ابن الزبير: منْ لبسه فِي الدنيا لم يدخل الجنة، قَالَ الله تعالى:{وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحجّ: 23]. قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: وهذا منه رضي الله عنه استنباط لطيفٌ، لكن دلالة هَذَا الكلام عَلَى الحصر غير لازم. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عمر رضي الله عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -90/ 5307 - وفي "الكبرى" 86/ 9622. وأخرجه (خ) فِي "اللباس" 5834 (م) فِي "اللباس" 2089. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5308 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حَرْبٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ، أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ؟ فَقَالَ: سَلْ عَائِشَةَ، فَسَأَلْتُ عَائِشَةَ؟ قَالَتْ: سَلْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ

(1)

أراد الخطاب الواقع فِي سياق مسلم رحمه الله تعالى، ونصّه:

3856 -

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبيد بن سعيد، عن شعبة، عن خليفة بن كعب أبي ذبيان، قَالَ: سمعت عبد الله بن الزبير يخطب، يقول: ألا لا تلبسوا نساءكم الحرير، فإني سمعت عمر بن الخطاب يقول: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلبسوا الحرير، فإنه منْ لبسه فِي الدنيا لم يلبسه فِي الآخرة".

ص: 37

عُمَرَ، فَسَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ؟ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَفْصٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا، فَلَا خَلَاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ").

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(عمرو بن منصور) أبو سعيد النسائيّ ثقة ثبتٌ [11] 108/ 147.

2 -

(عبد الله بن رجاء) بن عمرو الْعُدَانيّ

(1)

البصريّ، صدوقٌ يَهِم قليلاً [9] 75/ 1006.

3 -

(حرب) بن شدّاد اليشكريّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقة [7] 96/ 119.

4 -

(يحيى بن أيي كثير) الطائيّ مولاهم، أبو نصر اليماميّ، ثقة ثبت، لكنه يدلّس ويُرسل [5] 23/ 24.

5 -

(عمران بن حطّان) -بكسر الحاء، وتشديد الطاء المهملتين- ابن ظبيان بن لوذان ابن عمرو بن الحارث بن سَدُوس، وقيل: غير ذلك فِي نسبة، السُّدُوسي، أبو سماك، ويقال: أبو شهاب البصريّ، ويقال: غير ذلك، صدوقٌ، إلا أنه عَلَى مذهب الخوارج، ويقال: رجع عن ذلك [3].

رَوَى عن أبي موسى الأشعري، وابن عبّاس، وابن عمر، وجماعة. وعنه يحيى بن أبي كثير، وقتادة، ومحارب بن دثار، وغيرهم. قَالَ العجليّ: بصري تابعيّ ثقة. وَقَالَ أبو داود: ليس فِي أهل الأهواء أصح حديثا منْ الخوارج، ثم ذكر عمران بن حطان وغيره. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ أبو سلمة، عن أبان بن يزيد: سألت قتادة؟ فَقَالَ: كَانَ عمران بن حطان لا يُتَّهَم فِي الْحَدِيث. وَقَالَ يعقوب بن شبية: أدرك جماعة منْ الصحابة، وصار فِي آخر أمره، أن رأى رأي الخوارج، وكان سبب ذلك فيما بلغنا، أن ابنة عمه، رأت رأي الخوارج، فتزوجها ليردها عن ذلك، فصرفته إلى مذهبها. قَالَ: وحُدِّثت عن الأصمعي، عن عثمان البتيّ، قَالَ: كَانَ عمران بن حطان منْ أهل السنة، فقدم غلام منْ عمان، كأنه نَصْل، فَقَلَبه

(2)

فِي مجلس.

وَقَالَ محمد بن أبي رجاء: أخبرني رجل منْ أهل الكوفة، قَالَ: تزوّج عمران بن حطان امرأة منْ الخوارج ليردّها عن دين الخوارج، فغيّرته إلى رأي الخوارج، وكانت منْ أجمل النَّاس، وأحسنهم عقلاً، وكان عمران منْ أسمج النَّاس، وأقبحهم وجهًا، فقالت له ذات يوم: إني نظرت فِي أمري وأمرك، فإذا أنا وأنت فِي الجنّة، قَالَ: وكيف؟

(1)

"الْغُدَانيّ" بضم الغين المعجمة، وتخفيف الدال المهملة-: نسبة إلى غُدانة بن يربوع بن حنظلة. أفاده فِي "لبّ اللباب" 2/ 129.

(2)

وفي نسخة: "فغلبه" بالغين المعجمة.

ص: 38

قالت: لأني أعطيت مثلك، فصبرتُ، وأُعطيت مثلي، فشكرتَ، فالصابر والشاكر فِي الجنّة. قَالَ: فمات عنها عمران، فخطبها سُويد بن منجوف السدوسيّ، فأبت أن تَزَوّجه، وكان فِي وجهها خالٌ، كَانَ عمران يستحسنه، ويُقبّله، فشدّت عليه، فقطعته، وقالت: والله لا ينظر إليه أحد بعد عمران، وما تزوجت حَتَّى ماتت.

وذكر المبرد أن اسم امرأة عمران حمزة

(1)

. وَقَالَ حلبس الكلبي عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة: لقيني عمران بن حطان، فَقَالَ: يا أعمى إني عالم بخلافك، غير أنك رجل تحفظ، فاحفظ عني هذه الأبيات:

حَتَّى مَتَى تُسْقَى النُّفُوسُ بِكَأْسِهَا

رَيْبَ الْمَنُونِ وَأَنْتَ لَاهٍ تَرْتَعُ

أَفَقَدْ رَضِيتَ بِأَنْ تُعَلَّلَ بِالْمُنَى

وَإِلَى الْمَنِيَّةِ كُلَّ يَوْمٍ تُدْفَعُ

أَحْلَامُ نَوْمٍ أَوْ كَظِلٍّ زَائِلِ

إِنَّ اللَّبِيبَ بِمِثْلِهَا لا يُخْدَعُ

فَتَزَوَّدَنَّ لِيْوْمِ فَقْرِك دَائِبَا

وَاجْمَعْ لِنَفْسِكَ لَا لِغَيْرِك تَجْمَعُ

ذكر أبو زكريا الموصلي فِي "تاريخ الموصل" عن محمد بن بشر العبدي الموصلي، قَالَ: لم يمت عمران بن حطان، حَتَّى رجع عن رأي الخوارج

(2)

. انتهى، هَذَا أحسن ما يُعتذر به عن تخريج البخاريّ له، وأما قول منْ قَالَ: إنه خَرّج ما حُمِل عنه قبل أن يرى ما رأى، ففيه نظر؛ لأنه أخرج له منْ رواية يحيى بن أبي كثير عنه، ويحيى إنما سمع منه فِي حال هربه منْ الحجاج، وكان الحجاج يطلبه ليقتله منْ أجل المذهب، وقصته فِي هربه مشهورة. وأما قول أبي داود: إن الخوارج أصح أهل الأهواء حديثا، فليس عَلَى إطلاقه، فقد حكى ابن أبي حاتم عن القاضي عبد الله بن عقبة المصريّ، وهو ابن لهيعة، عن بعض الخوارج ممن تاب، أنهم كانوا إذا هووا أمرا صيروه حديثا. وَقَالَ العقيلي: عمران بن حطان لا يتابع، وكان يرى رأي الخوارج، يحدث عن عائشة، ولم يتبين سماعه منها. انتهى. وكذا جزم ابن عبد البرّ بأنه لم يسمع منها، وليس كذلك، فإن الْحَدِيث الذي أخرجه له البخاريّ، وقع عنده التصريح بسماعه منها، وَقَدْ وقع التصريح بسماعه منها فِي "المعجم الصغير": للطبراني، بإسناد صحيح، وكذا رَوَى الرياشي، عن أبي الوليد الطيالسي، عن أبي عمرو بن العلاء، عن صالح بن سرح

(1)

هكذا فِي بعض نسخ "تهذيب التهذيب" 3/ 317، وفي بعضها:"أن اسمها حمنة" بالنون، والأول هو الذي فِي "تهذيب الكمال" 22/ 324.

(2)

وَقَالَ فِي "الفتح" 11/ 470: إنما أخرج له البخاريّ عَلَى قاعدته فِي تخريج أحاديث المبتدع إذا كَانَ صادق اللَّهجة، متديّنًا، وَقَدْ قيل: إن عمران تاب منْ بدعته، وهو بعيد. انتهى.

ص: 39

اليشكري، عن عمران بن حطان، قَالَ: كنت عند عائشة. وَقَالَ ابن حبّان فِي "الثقات": كَانَ يميل إلى مذهب الشُّرَاة وَقَالَ ابن الْبَرْقِي: كَانَ حروريا. وَقَالَ الدارقطنيّ: متروك؛ لسوء اعتقاده، وخبث مذهبه. وَقَالَ المبرد فِي "الكامل" كَانَ رأس القعد منْ الصُّفْريّة، وفقيههم، وخطيبهم، وشاعرهم. انتهى. والقعد: الخوارج كانوا لا يرون الحرب، بل ينكرون عَلَى أمراء الجور، حسب الطاقة، ويدعون إلى رأيهم، ويزينون مع ذلك الخروج، ويحسنونه. وَقَالَ أبو نواس:

فَكَأَنِّي وَمَا أُحْسِنُ مِنْهَا

قَعْدِي يُزَيِّنُ التَّحْكِيمَا

لكن ذكر أبو الفرج الأصبهاني، أنه إنما صار قعديا لما عجز عن الحرب. والله أعلم.

وكان منْ المعروفين فِي مذهب الخوارج، وكان قبل ذلك مشهورا بطلب العلم والحديث، ثم ابتُلي، وساق بسند صحيح، عن ابن سيرين، قَالَ: تزوج عمران امرأة منْ الخوارج؛ ليردها عن مذهبها، فذهبت به، وسماها فِي رواية أخرى حمزة، وأنشد له منْ شعره.

لَا يُعْجِزُ الْمَوْتَ شَيْءٌ دُونَ خَالِقِهِ

وَالْمَوْتُ يَفْنَى إِذَا مَا نَالَهُ الأَجَلَ

وَكُلُّ كَرْبٍ أَمَامَ الْمَوْتِ مُنْقَشِعُ

وَالْكَرْبُ وَالْمَوْتُ فِيمَا بَعْدَهُ جَلَلُ

وكان سفيان الثوريّ يُنشد هذين البيتين فِي الدنيا، وهما لعمران بن حطّان:

أَرَى أَشْقِيَاءَ الْقَوْمِ لَا يَسْأَمُونَهَا

عَلَى أَنَّهُمْ فِيهَا عُرَاةٌ وَجُوَّعُ

أَرَاهَا وَإِنْ كَانَتْ تُحَبُّ فَإِنَّهَا

سَحَابَةُ صَيْفٍ عَنْ قَلِيلٍ تَقَشَّعُ

قَالَ ابن قانع: توفي سنة (84). رَوَى له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، وله عند المصنّف هَذَا الْحَدِيث فقط، وله عند البخاريّ هَذَا، وحديث آخر فِي نقض الصورة، يشاركه فيه أبو داود

(1)

.

6 -

(ابن عمر) عبد الله رضي الله تعالى عنهما 12/ 12.

7 -

(أبو حفص) عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه 60/ 75. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال

(1)

راجع "تهذيب الكمال" 22/ 322 - 325 و"تهذيب التهذيب" 3/ 317 - 318.

ص: 40

الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وصحابيّ، عن صحابيّ، والابن عن أبيه. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ) أنه (قَالَ: حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ، أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما (عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ) أي عن حكم لبسه.

[تنبيه]: رواية المصنّف رحمه الله تعالى هذه منْ طريق حرب بن شدّاد، عن يحيى ابن أبي كثير صريحة فِي أن سؤال عمران أوّلاً كَانَ لابن عبّاس، فدله عَلَى عائشة، وهي مخالفة لرواية البخاريّ منْ طريق عليّ بن المبارك، عن يحيى، ونصّها: "عن عمران بن حطان، قَالَ: سألت عائشة عن الحرير؟، فقالت: ائت ابن عبّاس، فسله، قَالَ: فسألته؟ فَقَالَ: سل ابن عمر

" الْحَدِيث.

ففيها أن سؤال عمران أولا كَانَ لعائشة، وَقَدْ علّق البخاريّ رواية حرب هذه فِي "صحيحه" عقب رواية عليّ بن المبارك، فَقَالَ: وَقَالَ عبد الله بن رجاء: حدثنا حرب، عن يحيى، حدثني عمران

وقصّ الْحَدِيث. انتهى. فَقَالَ فِي "الفتح" بعد أن ذكر أن النسائيّ وصله: ما نصّه: وَقَدْ ذكر الدارقطنيّ أن هَذَا اللفظ فِي حديث عمر خطأ، ولعلّ البخاريّ لم يسق اللفظ لهذا المعنى. انتهى.

فيظهر مما ذكر أن رواية البخاريّ هي الراجحة. والله تعالى أعلم.

(فَقَالَ: سَلْ عَائِشَةَ) رضي الله تعالى عنها (فَسَأَلْتُ عَائِشَةَ؟ قَالَتْ: سَلْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما (فَسَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ) فيه أنه ينبغي للعالم إذا سُئل عن مسألة، وغيره أعلم بها منه أن يدلّ السائل عليه؛ لأنه منْ باب النصيحة (فَقَالَ) ابن عمر (حَدَّثَنِي أَبُو حَفْصٍ) يعني أباه عمر بن الخطّاب رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا، فَلَا خَلَاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ) زاد فِي رواية البخاريّ منْ طريق عليّ بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير:"فقلتُ: صدق، وما كذب أبو حفص عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: "فلا خلاق له الخ": قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: الخلاق قيل فيه: الحظّ، والنصيب، والقدر، ويعني بذلك أنه لباس الكفّار والمشركين فِي الدنيا، وهم الذين لا حظّ لهم فِي الآخرة. انتهى. "المفهم" 5/ 386.

وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: قيل: معنى منْ لا خلاق له: منْ لا نصيب له فِي الآخرة. وقيل: منْ لا حرمة له. وليل: منْ لا دين له، فعلى الأول يكون محمولاً عَلَى الكفّار، وعلى القولين الأخيرين يتناول المسلم، والكافر. انتهى "شرح مسلم" 14/ 38. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 41

مسألتان تتعلقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عمر رضي الله عنه هَذَا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -90/ 5307 - وفي "الكبرى" 86/ 9623. وأخرجه (خ) فِي "اللباس" 5835. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5309 -

(أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سَلْمٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا النَّضْرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَبِشْرِ بْنِ الْمُحْتَفِزِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "سليمان بن سُليم": هو الْهَدَاديّ، أبو داود المصاحفيّ البلخيّ، ثقة [11]. و"النضر": هو ابن شُميل. و"بكر بن عبد الله": هو المزنيّ البصريّ.

و"بِشر بن الْمُحْتَفِز" -بمهملة، وآخره زاي- البصريّ، مجهول

(1)

[3].

رَوَى عن عبد الله بن عمر، فِي لبس الحرير، وعنه قتادة مقرونا ببكر بن عبد الله، قاله شعبة عن قتادة، وَقَالَ همام عنه: عن بشر بن عائذ، وحكى البخاريّ فِي "التاريخ" عن مجاهد، قَالَ: استعمل عمر بن الخطاب بشر بن المحتفز عَلَى السُّوس، قَالَ البخاريّ: بشر قديم الموت، لا يشبه أن قتادة أدركه. وَقَالَ أبو زرعة: لا أعرفه، إلا فِي هَذَا الْحَدِيث. وَقَالَ الحاكم فِي "تاريخ نيسابور": المحتفز بن أوس بن الضرير بن زياد، والد بشر بن المحتفز له صحبة، كانا بخراسان فِي جيش عبد الرحمن بن سمرة، وساق فِي ترجمته منْ طريق عيسى ابن عبيد الكندي، عن الحسين بن عثمان بن بشر بن المحتفز بن أوس المزني، عن أبيه عثمان، عن بشر، عن جده، أنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات": وَقَالَ: هو بشر بن المحتفز بن أوس بن زياد بن أسحم بن ربيعة بن عدي بن ثعلبة بن ذويب بن سعد. انتهى. تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح؛ لشواهده، فإن أحاديث الباب تشهد له، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى أخرجه هنا 90/ 5309 - وفي "الكبرى" 86/ 9624. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

وقول صاحب "التقريب": "صدوقٌ" فيه نظر لا يخفى؛ لأنه تفرد بالرواية عنه قتادة، ولا يعرف إلا بهذا الْحَدِيث، ولم يوثقه سوى ابن حبّان عَلَى عادته فِي توثيق المجاهيل، فتأمل. والله تعالى أعلم.

ص: 42

5310 -

(أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، سَنَةَ سَبْعٍ وَمِائَتَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الصَّعْقُ بْنُ حَزْنٍ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَلِيٍّ الْبَارِقِيِّ، قَالَ: أَتَتْنِي امْرَأَةٌ تَسْتَفْتِينِي، فَقُلْتُ لَهَا: هَذَا ابْنُ عُمَرَ، فَاتَّبَعَتْهُ تَسْأَلُهُ، وَاتَّبَعْتُهَا أَسْمَعُ مَا يَقُولُ، قَالَتْ: أَفْتِنِي فِي الْحَرِيرِ، قَالَ: "نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "إبراهيم بن يعقوب": هو الجوزجانيّ الحافظ. و"أبو النعمان": هو محمد بن الفضل الملقّب بعارم الثقة الثبت.

وقوله: "سنة سبع ومائتين" منصوب عَلَى الظرفيّة، متعلّق بـ"حدّثنا".

و"الصعق بن حزن" -بفتح المهملة، وسكون الزاي- ابن قيس البكريّ، أبو عبد الله البصريّ، صدوقٌ يَهِم، وكان زاهدًا [7].

رَوَى عن الحسن البصريّ، ومطر الوراق، وقتادة، وأبي جمرة الضبعي، والقاسم بن مطيب العجليّ، وغيرهم. وعنه ابن المبارك، ويونس بن محمد، وأبو أسامة، ويزيد بن هارون، وعارم، وموسى بن إسماعيل، وشيان بن فَرُّوخ، وغيرهم. قَالَ إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ليس به بأس. وَقَالَ الدُّوري، عن ابن معين: ثقة. وكذا قَالَ أبو زرعة، وأبو داود، والنسائي، وَقَالَ أبو حاتم: ما به بأس. وَقَالَ الآجري، عن أبي داود: قُرّة فوقه. وَقَالَ محمد بن الحسين بن أبي الحُنَين: حدثنا عارم، عن الصعق، وكانوا يرونه منْ الأبدال. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ موسى بن إسماعيل: ثنا الصعق، وكان صدوقا. وَقَالَ يعقوب بن سفيان: صالح الْحَدِيث. وَقَالَ العجليّ: ثقة. وَقَالَ الدارقطنيّ: ليس بالقوي.

رَوَى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، ومسلم، وأبو داود فِي "المراسيل"، والمصنّف، وله عنده هَذَا الْحَدِيث، وفي "كتاب الأشربة" 23/ 5603 حديث:"كتب عمر بن عبد العزيز إلى عديّ بن أرطاة كلُّ مسكر حرام".

و"عليّ البارقيّ": هو عليّ بن عبد الله البارقيّ الأزديّ، أبو عبد الله بن أبي الوليد، صدوقٌ، ربّما أخطأ [3] 26/ 1666.

وقوله: "نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم": تقدّم أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ممن يرى تحريم الحرير عَلَى النِّساء، كابن الزبير رضي الله تعالى عنهما، لكن الجمهور عَلَى أنه حلال لهنّ، وهو الحقّ؛ لما سبق منْ الأحاديث الصحيحة الدالّة عَلَى ذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا 90/ 5310 - وفي "الكبرى" 86/

ص: 43

9625.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌91 - (ذِكْرِ النَّهْي عَنِ الثِّيَابِ الْقِسِّيَّةِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الْقَسِّيّة" -بفتح القاف، وتشديد المهملة، بعدها ياء نسبة- وذكر أبو عبيد فِي "غريب الْحَدِيث" أن أهل الْحَدِيث يقولونه بكسر القاف، وأهل مصر يفتحونها، وهي نسبة إلى بلد، يقال لها: القس رأيتها، ولم يعرفها الأصمعي، وكذا قَالَ الأكثر: هي نسبة للقس قرية بمصر، منهم الطبري، وابن سيده، وَقَالَ الحازمي: هي منْ بلاد الساحل. وَقَالَ المهلب: هي عَلَى ساحل مصر، وهي حصن بالقرب منْ الفَرَما، منْ جهة الشام، وكذا وقع فِي حديث ابن وهب أنها تلي الفرما، و"الفرما" -بالفاء وراء مفتوحة. وَقَالَ النوويّ: هي بقرب تِنِّيس، وهو متقارب، وحكى أبو عبيد الهروي، عن شَمِر اللغوي أنها بالزاي، لا بالسين، نسبة إلى القز وهو الحرير، فأبدلت الزاي سينا. وحكى ابن الأثير فِي "النهاية" أن القس الذي نسب إليه هو الصّقيع، سمي بذلك لبياضه، وهو والذي قَبْلَهُ كلام منْ لم يعرف القَسَّ القرية. قاله فِي "الفتح" 11/ 473. والله تعالى أعلم بالصواب.

5311 -

(أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ، نَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمِ الذَّهَبِ، وَعَنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ، وَعَنِ الْمَيَاثِرِ، وَالْقِسِّيَّةِ، وَالإِسْتَبْرَقِ، وَالدِّيبَاجِ، وَالْحَرِيرِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "سُلَيْمَانُ بْنُ مَنْصُورٍ": هو الْبَلْخيّ البزّاز الدُّهني الْجَرميّ، لقبه زَرْغَنْده، لا بأس به [10] 70/ 75 منْ أفراد المصنّف. و"أبو الأحوص": هو سلّام بن سُليم الحنفيّ مولاهم الكوفيّ ثقة متقنٌ، صاحب حديث [7] 79/ 96. و"أشعث بن أبي الشعثاء": هو المحاربيّ الكوفيّ، ثقة [6] 90/ 112 واسم أبي الشَّعْثَاءِ سليم بن الأسود. و"معاوية بن سُويد": هو ابن مُقَرّن المزنيّ، أبو سعيد الكوفيّ، ثقة [3] 52/ 1939.

وقوله: "المياثر": جمع مِيثرة بالكسر، مِفْعلة منْ الوَثارة، يقال: وثُر الشيءُ، فهو

ص: 44

وَثيرٌ: وَطيء ليّنٌ، وهي منْ مراكب العجم تُعمل منْ حرير، أو ديباج"، وتقدّم الكلام عليها مستوفى فِي "كتاب الجنائز" 52/ 1939.

وقوله: "نهانا عن سبع الخ": لم يسق المأمورات هنا، بل اقتصر عَلَى ذكر المنهيّات اقتصارًا عَلَى الأهم المناسب للباب، وَقَدْ ساق الْحَدِيث بتمامه فِي "كتاب الجنائز"، ولفظه:"أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض، وتشميت العاطس، وإبرار القسم، ونُصرة المظلوم، وإفشاء السلام، وإجابة الداعي، واتّباع الجنائز، ونهانا عن خواتيم الذهب، وعن آنية الفضّة، وعن المياثير، والْقَسّيّة، والإستبرق، والحرير، والديباج".

وقوله: و"القَسّيّة": قيل: هي ثياب مُضلّعة: أي فيها خطوط عريضة، كالأضلاع، فيها حرير، وفيها أمثال الأُترُنج، وقيل: غير ذلك، وَقَدْ تقدّم بعض ذلك فِي أول الباب.

وقوله: "والإستبرق": بكسر الهمزة: غليظ الحرير، فارسيّ معرّب. وقوله:"والديباج" بكسر الدال، أفصح منْ فتحها: هي الثياب المتّخذة منْ الإبريسم، وهو الحرير، فعطف الحرير عَلَى الإستبرق، والديباج منْ عطف العامّ عَلَى الخاصّ.

والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي "كتاب الجنائز" 52/ 1939، وتقدّم شرحه، وبيان مسائله هناك، وفي 43/ 5167 فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌92 - (الرُّخْصَةِ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: المراد لبسه عند الضرورة، كما يؤخذ منْ حديث أنس رضي الله عنه، أو ما كَانَ قليلاً، كما يؤخذ منْ حديث عمر رضي الله عنه. والله تعالى أعلم بالصواب.

5312 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَرْخَصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، فِي قُمُصِ حَرِيرٍ، مِنْ حِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا").

ص: 45

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) المعروف بابن راهويه المروزيّ الحافظ الحجة [10] 2/ 2.

2 -

(عيسى بن يونس) بن أبي إسحاق السبيعي الكوفيّ، ثقة مأمون [8] 8/ 8.

3 -

(سعيد) بن أبي عروبة مِهْران اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقة ثبت، اختلط بآخره، ويدلّس، أثبت النَّاس فِي قتادة [6] 34/ 38.

4 -

(قتادة) بن دعامة السدوسيّ، أبو الخطاب البصريّ، ثقة ثبت يُدلّس [4] 30/ 34.

5 -

(أنس) بن مالك رضي الله تعالى عنه 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين، غير شيخه، فمروزيّ. (ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه منْ المكثرين السبعة، ومن المعمرين منْ الصحابة رضي الله تعالى عنهم، عاش فوق مائة، وهو آخر منْ مات منهم بالبصرة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَنَسٍ) بن مالك رضي الله تعالى عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَرْخَصَ) أي سهّل، يقال: رخّص الشرع لنا فِي كذا ترخيصًا، وأرخص إرخاصًا: إذا يسّره، وسهّله. قاله فِي "المصباح"(لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ) رضي الله عنهما (فِي قُمُصِ حَرِيرٍ) أي فِي لبسه (مِنْ حِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا)"منْ" تعليليّةٌ؛ لأجل حكّة كانت بهما.

و"الحكّة" -بالكسر: الْجَرَبُ. قاله فِي "القاموس". وفي "المصباح": داء يكون بالجسد، وفي كتب الطبّ: هي خِلْطٌ رَقيقٌ، بُرَقِيٌّ، يحدُث تحت الجلد، ولا يحدُث منه مِدَةٌ، بل شيء كالنخالة، وهو سريع الزوال. وفي رواية أنهما شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القمل، فرخّص لهما فِي قميص الحرير، فِي غَزاة لهما.

قَالَ السنديّ: والظاهر أن الحكّة هي علّة الرخصة، وَقَدْ جاء أن الواقعة كانت فِي السفر، لكن السفر اتفاقيّ، لا دخل له فِي العلة، ويحتمل أن العلّة مجموعهما، أو كلّ واحد منهما، وكأن منْ جوّز للحرب رأى أن العلّة كلّ منهما. والله تعالى أعلم. انتهى.

قَالَ فِي "الفتح": ذكر البخاريّ حديث أنس رضي الله عنه فِي الرخصة للزبير وعبد الرحمن ابن عوف، فِي قميص الحرير منْ خمسة طرق، ففي رواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة:"منْ حكة كانت بهما"، وكذا قَالَ شعبة فِي أحد الطريقين، وفي رواية همام، عن قتادة فِي أحد الطريقين:"يعني القمل"، ورجح ابن التين الرواية التي فيه "الحكة"،

ص: 46

وَقَالَ: لعل أحد الرواة تأولها فأخطأ. وجمع الداودي باحتمال أن يكون إحدى العلتين بأحد الرجلين. وَقَالَ ابن العربي: قد ورد أنه أرخص لكل منهما، فالإفراد يقتضي أن لكل حكّة. قَالَ الحافظ: ويمكن الجمع بأن الحكة حصلت منْ القمل، فنسبت العلة تارة إلى السبب، وتارة إلى سبب السبب. ووقع فِي رواية محمد بن بشار، عن غندر:"رخص، أو أرخص"، كذا بالشك، وَقَدْ أخرجه أحمد عن غندر بلفظ: "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا قَالَ وكيع عن شعبة.

قَالَ: وجعل الطبري جوازه فِي الغزو، مستنبطا منْ جوازه للحكة، فَقَالَ: دلت الرخصة فِي لبسه بسبب الحكة، أن منْ قصد بلبسه ما هو أعظم، منْ أذى الحكّة، كدفع سلاح العدو، ونحو ذلك، فإنه يجوز.

قَالَ: ثم المشهور عن القائلين بالجواز، أنه لا يختص بالسفر، وعن بعض الشافعيّة يختص. وَقَالَ القرطبيّ الْحَدِيث حجة عَلَى منْ منع، إلا أن يدعي الخصوصية بالزبير وعبد الرحمن، ولا تصح تلك الدعوى.

وَقَدْ جنح إلى ذلك عمر رضي الله عنه، فروى ابن عساكر منْ طريق ابن عوف

(1)

، عن ابن سيرين، أن عمر رأى عَلَى خالد بن الوليد، قميص حرير، فَقَالَ: ما هَذَا؟ فذكر له خالد قصة عبد الرحمن بن عوف، فَقَالَ: وأنت مثل عبد الرحمن؟، أو لك مثل ما لعبد الرحمن؟ ثم أمر منْ حضره فمزقوه، رجاله ثقات، إلا أن فيه انقطاعا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أنس رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -92/ 5312 و5313 - وفي "الكبرى" 87/ 9635 و9636. وأخرجه (خ) فِي "الجهاد والسير" 2919 و2920 و2922 و"اللباس" 5839 (م) فِي "اللباس" 2076 (د) فِي " اللباس" 4056 (ت) فِي "اللباس" 1722 (ق) فِي "اللباس" 3592 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 11821 و11879 و12580 و13228 و13473.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان الرخصة فِي لبس الحرير

(1)

هكذا نسخة "الفتح"، ولعل الصواب "عوف" بإسقاط لفظة "ابن"، وهو عوف الأعرابيّ.

ص: 47

للضرورة، وسيأتي اختلاف العلماء فِي ذلك فِي المسألة التالية، إن شاء الله تعالى. (ومنها): سماحة الشريعة، وسهولتها، حيث تراعي حاجات المكلّفين، فمهما اتّفق لهم ضرر يُلجؤهم إلى ارتكاب المحظور تُوَسّع عليهم، وتُبيح ذلك المحظور؛ رفقًا بهم، قَالَ الله تعالى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} الآية [الأنعام: 119]. (ومنها)؛ أن فيه بيان خاصيّة الحرير، حيث أنه يدفع أذى القمل، وضرر الحكّة.

وَقَالَ فِي "الفتح": ووقع فِي كلام النوويّ تبعا لغيره، أن الحكمة فِي لبس الحرير للحكة؛ لما فيه منْ البرودة. وتُعُقّب بأن الحرير حارّ، فالصواب أن الحكمة فيه لخاصة فيه؛ لدفع ما تنشأ عنه الحكة كالقمل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي لبس الحرير للضرورة:

قد اختلف السلف فِي لباسه، فمنع مالك، وأبو حنيفة مطلقا، وَقَالَ الشافعيّ، وأبو يوسف: بالجواز للضرورة، وحكى ابن حبيب، عن ابن الماجشون، أنه يستحب فِي الحرب، وَقَالَ المهلب: لباسه فِي الحرب؛ لإرهاب العدو، وهو مثل الرخصة فِي الاختيال فِي الحرب. قاله فِي "الفتح" 6/ 199 - 200 فِي "كتاب الجهاد".

وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: ترخيص النبيّ صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن، والزبير فِي لباس الحرير للحكّة، أو للقمل يدلّ عَلَى جواز ذلك للضرورة، وبه قَالَ جماعة منْ أهل العلم، وبعض أصحاب مالك، وأما مالك: فمنعه فِي الوجهين، والحديث واضح الحجة عليه، إلا أن يدّعي الخصوصية بهما، ولا يصحّ، أو لعلّ الْحَدِيث لم يبلغه. انتهى "المفهم" 5/ 398.

وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: هَذَا الْحَدِيث صريحٌ فِي الدلالة لمذهب الشافعيّ، وموافقيه أنه يجوز لبس الحرير للرجل، إذا كانت به حكّة؛ لما فيه منْ البرودة

(1)

، وكذلك للقمل، وما فِي معنى ذلك. وَقَالَ مالك: لا يجوز، وهذا الْحَدِيث دليلٌ لجواز لبس الحرير عند الضرورة، كمن فاجأته الحرب، ولم يجد غيره. قَالَ: والصحيح عند أصحابنا، والذي قطع به جماهيرهم أنه يجوز لبس الحرير للحكّة، ونحوها فِي السفر، والحضر جميعاً. وَقَالَ بعض أصحابنا: يختصّ بالسفر، وهو ضعيف. انتهى "شرح مسلم" 14/ 52 - 53.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن ما ذهب إليه الجمهور منْ جواز لبس الحرير للضرورة هو الحقّ؛ لقوّة دليله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

قد عرفت فيما مر آنفاً أنه حارّ، لا بارد، فتنبّه.

ص: 48

5313 -

(أَخْبَرَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالزُّبَيْرِ، فِي قُمُصِ حَرِيرٍ، كَانَتْ بِهِمَا يَعْنِي لِحِكَّةٍ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

و"نصر بن عليّ": هو: الجهضميّ البصريّ، الثقة الثبت، أحد مشايخ الأئمة الستة، دون واسطة [10]. و"خالد": هو ابن الحارث الْهُجيميّ البصريّ الثقة الثبت [8].

قلت: الظاهر أن نصّ الْحَدِيث: "رخصّ لعبد الرحمن، والزبير فِي قميص حرير كانت بهما"، ليس فيه لفظة:"لحكة"، فأراد بعض الرواة أن يوضّح أن الكلام فيه محذوفٌ، وهو كلمة "لحكّة"، إذ لا يستقيم الكلام بدونه، فبيّن ذلك بقوله: يعني لحكة.

والحديث متَّفقٌ عليه، كما سبق بيانه فيما قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5314 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، قَالَ: كُنَّا مَعَ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ، فَجَاءَ كِتَابُ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ، إِلاَّ مَنْ لَيْسَ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الآخِرَةِ، إِلاَّ هَكَذَا"، وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ بِأُصْبُعَيْهِ اللَّتَيْنِ تَلِيَانِ الإِبْهَامَ، فَرَأَيْتُهُمَا أَزْرَارَ الطَّيَالِسَةِ، حَتَّى رَأَيْتُ الطَّيَالِسَةَ).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه المذكور قريبًا.

2 -

(جرير) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبيّ الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقة صحيح الكتاب [8] 2/ 2.

3 -

(سليمان) بن طرخان التيميّ، أبو المعتمر البصريّ، ثقة عابد [4] 87/ 107.

4 -

(أبو عثمان النهديّ) عبد الرحمن بن ملّ -بتثليث الميم، وتشديد اللام- ابن عمرو الكوفيّ، مشهور بكنيته، مخضرم، ثقة ثبتٌ، منْ كبار [2] مات سنة (95) وقيل: بعدها، وعاش (130) سنة، وقيل: أكثر 11/ 641.

5 -

(عُتبة بن فَرْقَد) صحابيّ مشهور، سُمّي أبوه باسم النجم، واسم جدّه يربوع بن حبيب بن مالك السلميّ، ويقال: إن يربوع هو فرقد، وإنه لقب له، وكان عتبة أميرًا لعُمَر فِي فتوح بلاد الجزيرة. قاله فِي "الفتح" 11/ 464. وتقدّمت ترجمته فِي 5/ 2107. وعمر بن الخطاب رضي الله عنه تقدّم قريباً. والله تعالى أعلم.

ص: 49

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ) -بفتح النون، وسكون الهاء-: نسبة إلى نهد بن زيد بن ليث ابن سود بن أسلم بن الحاف بن قُضاعة، قاله فِي "اللباب" 3/ 336 أنه (قَالَ: كُنَّا مَعَ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ) رضي الله تعالى عنه (فَجَاءَ كِتَابُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنه. قَالَ فِي "الفتح": كذا قَالَ أكثر أصحاب قتادة، وشذّ عمر بن عامر، فَقَالَ: عن أبي عثمان، عن عثمان، فذكر المرفوع، أخرجه البزّار، وأشار إلى تفرّده به، فلو كَانَ ضابطًا لقلنا: سمعه أبو عثمان منْ كتاب عمر، ثم سمعه منْ عثمان بن عفّان، لكن طرق الْحَدِيث تدلّ عَلَى أنه عن عمر، لا عن عثمان، وَقَدْ ذكره أصحاب "الأطراف" فِي ترجمة أبي عثمان، عن عمر، وفيه نظر؛ لأن المقصود بالكتابة إليه هو عتبة بن فرقد، وأبو عثمان سمع الكتاب يُقرأ، فإما أن تكون روايته له عن عمر بطريق الوجادة، وإما أن يكون بواسطة المكتوب إليه، وهو عتبة بن فرقد، ولم يذكروه فِي رواية أبي عثمان، عن عتبة. وَقَدْ نبّه الدارقطنيّ عَلَى أن هَذَا الْحَدِيث أصلٌ فِي جواز الرواية بالكتابة عند الشيخين، قَالَ ذلك بعد أن استدركه عليهما، وفي ذلك رجوع منه عن الاستدراك عليهما. انتهى "فتح" 11/ 464. وسيأتي كلام النوويّ قريباً، إن شاء الله تعالى.

[تنبيه]: زاد فِي "الكبرى" منْ رواية قتادة، عن أبي عثمان، وهي عند الشيخين:"ونحن بأذربيجان"، قَالَ النوويّ: هي إقليم معروفٌ، وراء العراق، وفي ضبطها وجهان مشهوران:[أشهرهما]: وأفصحهما، وقول الأكثرين: أذربيجان -بفتح الهمزة، بغير مدّة، وإسكان الذال، وفتح الراء، وكسر الباء. قَالَ صاحب "المطالع"، وآخرون: هَذَا هو المشهور. [والثاني]: مدّ الهمزة، وفتح الذال، والراء، وكسر الباء. وحكى صاحب "المشارق"، و"المطالع" أن جماعة فتحوا الباء عَلَى هَذَا الثاني، والمشهور كسرها. انتهى "شرح مسلم" 14/ 45 - 46.

وَقَالَ فِي "الفتح": وذكر المعافَى فِي "تاريخ الموصل" أن عُتبة هو الذي افتتح أذربيجان سنة ثمان عشرة. وروى شعبة، عن حُصين بن عبد الرحمن السُّلميّ، عن أم عاصم امرأة عتبة:"أن عتبة غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوتين"، وأما قول المعافى: إنه شهد خيبر، وقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، فلم يُوافَق عَلَى ذلك، وإنما أول مشاهده حنينٌ. وروينا فِي "المعجم الصغير" للطبرانيّ منْ طريق أم عاصم، امرأة عتبة، عن

ص: 50

عتبة، قَالَ: أخذني الشر عَلَى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرني، فتجرّدت، فوضع يده عَلَى بطني، وظهري، فعبق بي الطيب منْ يومئذ، قالت: أم عاصم: كنّا عنده أربع نسوة، فكنّا نجتهد فِي الطيب، وما كَانَ هو يمسّه، وإنه كَانَ لأطيبا ريحاً. انتهى.

(أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية مسلم منْ طريق عاصم الأحول، عن أبي عثمان، قَالَ: كتب إلينا عمر، ونحن بأذربيجان، يا عتبة بن فرقد، إنه ليس منْ كدّك، ولا منْ كدّ أبيك، ولا منْ كدّ أمك، فأشبع المسلمين فِي رحالهم مما تشبع منه فِي رحلك، وإياكم، والتنعّم، وزيّ أهل الشرك، ولبوس الحرير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبوس الحرير

" الْحَدِيث.

قَالَ النوويّ: رحمه الله تعالى: ومقصود عمر رضي الله عنه حثّهم عَلَى خشونة العيش، وصلابتهم فِي ذلك، ومحافظتهم عَلَى طريقة العرب فِي ذلك. انتهى.

وفي رواية الإسماعيليّ فيه منْ طريق عليّ بن الجعد، عن شعبة بعد قوله: مع عتبة ابن فرقد زيادةُ: "أما بعد، فاتزروا، وارتَدُوا، وانتعلوا، وألقوا الخفاف، والسراويلات، وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل عليه السلام، وإياكم والتنعّم، وزيّ العجم، وعليكم بالشمس، فإنها حمّام العرب، وتمعددوا، واخشوشنوا، واخلولقوا، واقطعوا الركب، وانزوا نزوًا، وارموا الأغراض، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم

" الْحَدِيث.

وبيّن أبو عوانة فِي "صحيحه" منْ وجه آخر سبب قول عمر ذلك، فعنده فِي أوله: "أن عتبة بن فرقد بعث إلى عمر مع غلام له بسلال فيها خَبِيص

(1)

، عليها اللبود، فلما رآه عمر رضي الله عنه قَالَ: أيشبع المسلمون فِي رحالهم منْ هَذَا؟ قَالَ: لا، فَقَالَ عمر: لا أريده، وكتب إلى عتبة: إنه ليس منْ كدّك

" الْحَدِيث. ذكره فِي "الفتح" 11/ 465.

(قَالَ: "لَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ، إِلاَّ مَنْ لَيْسَ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الآخِرَةِ) أي منْ يُحرم لبس الحرير فيها (إِلاَّ هَكَذَا"، وَقَالَ) أي أشار، ففيه إطلاق القول عَلَى الفعل مجازا (أَبُو عُثْمَانَ) النهدي (بِأُصْبُعَيْهِ) بكسر الهمزة، وفتح الموحّدة، أفصح منْ ضم الهمزة، وفتحها، مع تثليث الموحّدة (اللَّتَيْنِ تَلِيَانِ الإِبْهَامَ) وفي رواية البخاريّ:"وأشار أبو عثمان بإصبعيه المسبّحة، والوسطى"(فَرَأَيْتُهُمَا أَزْرَارَ الطَّيَالِسَةِ) ببناء الفعل للفاعل، وذكر النوويّ فِي "شرح مسلم" أنه بضم الراء، وكسر الهمزة، أي مبنيًا للمفعول. قَالَ السنديّ: قوله: فرأيتهما أزرار الطيالسة: أي رأيت أنهما إشارة إلى أزرار الطيالسة، فيجوز أن يكون الزّرّان منْ الحرير (حَتَّى رَأَيْتُ الطَّيَالِسَةَ) فعلمت بذلك أن المراد

(1)

"الخبيص": المعمول منْ التمر والسمن. قاله فِي "القاموس".

ص: 51

الإشارة إلى أعلام الطيالسة، والحاصل أنه تحقّق عنده بعد ذلك أن المراد جواز قدر الإصبَعين للأعلام، بعد أن اشتبه عليه أوّلاً. انتهى.

وَقَالَ القرطبيّ: "الأزرار": جمع زِرّ بتقديم الزاي: ما يُزرّر به الثوب بعضه عَلَى بعض، والمراد به هنا أطراف الطيالسة. و"الطيالسة": جمع طيلسان، وهو الثوب الذي له علمٌ، وَقَدْ يكون كساءً، وكان للطيالسة التي رآها أعلام حرير فِي أطرافها. قَالَ الحافظ: وَقَدْ أغفل صاحب "المشارق"، و"النهاية" فِي مادّة ط ل س ذكر الطيالسة، وكأنهما تركا ذلك لشهرته، لكن المعهود الآن ليس عَلَى الصفة المذكورة، وَقَدْ قَالَ عياض فِي "شرح مسلم": المراد بأزرار الطيالسة أطرافها. ووقع فِي حديث أسماء بنت أبي بكر عند مسلم أنها أخرجت جبّة طيالسة كسروانية، فقالت: هذه جبّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدلّ عَلَى أن المراد بالطيالسة فِي هَذَا الْحَدِيث ما يُلبَس، فيشمل الجسد، لا المعهود الآن. قاله فِي "الفتح" 11/ 466 - 467. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عمر رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -92/ 5314 و5315 - وفي "الكبرى" 87/ 9626 و9627 و9628 و9629 و9630 و9631 و9632 و9633 و9634. وأخرجه (خ) فِي "اللباس" 5828 و5829 و5830 (م) فِي "اللباس" 2067 (د) فِي "اللباس" 4042 (ق) فِي "الجهاد" 2820 و"اللباس" 3593. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان الرخصة فِي لبس الحرير قدر إصبَعَين. (ومنها): أن فِي هَذَا الْحَدِيث، وأمثاله بيانًا واضحًا لمن قَالَ: يحرم عَلَى الرجال لبس الحرير؛ للوعيد المذكور. (ومنها): أن فيه حجةً لمن أجاز لبس العلم منْ الحرير، إذا كَانَ فِي الثوب، وخصه بالقدر المذكور، وهو إصبعان، كما فِي هَذَا الْحَدِيث، أو أربع، كما فِي الْحَدِيث التالي، وهذا هو الأصح عند الشافعيّة. (ومنها): أن فيه حجة عَلَى منْ أجاز العلم فِي الثوب مطلقا، ولو زاد عَلَى أربعة أصابع، وهو منقول عن بعض المالكية. (ومنها): أن فيه حجةً عَلَى منْ منع العلم فِي الثوب مطلقا، وهو ثابت عن الحسن، وابن سيرين، وغيرهما، لكن يَحْتَمِل أن يكونوا منعوه ورعاً،

ص: 52

وإلا فالحديث حجة عليهم، فلعلهم لم يبلغهم، قَالَ النوويّ: وَقَدْ نُقل مثلُ ذلك عن مالك، وهو مذهب مردود، وكذا مذهب منْ أجاز بغير تقدير. والله أعلم. (ومنها): أنه استُدِلّ به عَلَى جواز لبس الثوب الْمُطرَّز بالحرير، وهو ما جُعل عليه طراز حرير مركب، وكذلك الْمُطْرَف، وهو ما سُجفت أطرافه بسجف منْ حرير بالتقدير المذكور، وَقَدْ يكون التطريز فِي نفمس الثوب، بعد النسج. (ومنها): أنه استُدِلّ به أيضًا عَلَى جواز لبس الثوب الذي يخالطه منْ الحرير مقدار العلم، سواء كَانَ ذلك القدر مجموعا، أو مفرقا، وهو قوي. ذكره فِي "الفتح" 11/ 470 - 471.

(المسألة الرابعة): فِي قوله: "جاءنا كتاب عمر رضي الله عنه" دلالة عَلَى أنهم كانوا يعملون بالمكاتبة، وَقَدْ سبق أن الدارقطنيّ نبّه عَلَى أن هَذَا الْحَدِيث أصل فِي جواز الرواية بالكتابة عند الشيخين، قَالَ ذلك بعد أن استدرك عليهما، وفي ذلك رجوع منه عن الاستدراك عليهما. أفاده فِي "الفتح" 11/ 464.

وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: هَذَا الْحَدِيث مما استدركه الدارقطنيّ

(1)

عَلَى البخاريّ ومسلم، وَقَالَ: هَذَا الْحَدِيث لم يسمعه أبو عثمان منْ عمر رضي الله عنه، بل أخبر عن كتاب عمر، وهذا الاستدراك باطلٌ، فإن الصحيح الذي عليه جماهير المحدثين، ومحقّقوا الفقهاء، والأصوليين جواز العمل بالكتاب، وروايته عن الكاتب، سواء قَالَ فِي الكتاب أذِنت له فِي رواية هَذَا عنّي، أو أجزتك روايته عنّي، أو لم يقُل شيئًا، وَقَدْ أكثر البخاريّ، ومسلم، وسائر المحدّثين، والمصنّفين فِي تصانيفهم منْ الاحتجاج بالمكاتبة، فيقول الراوي منهم، وممن قبلهم كتب إليّ فلان كذا، أو كتب إليّ فلان، قَالَ: حدّثنا فلان، أو أخبرني فلان مكاتبة، والمراد به هَذَا الذي نحن فيه، وذلك معمول به عندهم، معدود فِي المتّصل لإشعاره بمعنى الإجازة، وزاد السمعانيّ، فَقَالَ: هي أقوى منْ الإجازة، ودليلهم فِي المسألة الأحاديث الصحيحة المشهورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كَانَ يكتب إلى عُمّاله، ونوّابه، وأمرائه، ويفعلون ما فيها، وكذلك الخلفاء، ومن ذلك كتاب عمر رضي الله عنه هَذَا، فإنه كتبه إلى جيشه، وفيه خلائق منْ الصحابة، فدلّ عَلَى حصول الاتفاق منه، وممن عنده فِي المدينة، ومن فِي الجيش عَلَى العمل بالكتاب. والله أعلم.

وأما قول أبي عثمان كتب إلينا عمر، فهكذا ينبغي للراوي بالمكاتبة أن يقول: كتب إلي فلان، قَالَ: حدّثنا، أو أخبرنا فلانٌ، مكاتبةً، أو فِي كتابه، أو فيما كتب به إليّ،

(1)

ما سبق عن "الفتح" ظاهر فِي أن الدارقطنيّ رجع عن استدراكه عليهما، فلعلّ النوويّ ما رأى كلامه، والله تعالى أعلم.

ص: 53

ونحو هَذَا، ولا يجوز أن يطلق قوله: حدّثنا، ولا أخبرنا، هَذَا هو الصحيح، وجوّزه طائفة منْ متقدّمي أهل الْحَدِيث، وكبارهم، منهم منصور، والليث، وغيرهما. والله أعلم. انتهى "شرح مسلم" 14/ 45. وإلى هَذَا أشار الحافظ السيوطيّ رحمه الله تعالى فِي "ألفية الْحَدِيث"، حيث قَالَ:

خَامِسُهَا كِتَابَةُ الشَّيْخِ لِمَنْ

يَغِيبُ أَوْ يَحْضُرُ أَوْ يَأْذَنُ أَنْ

يُكْتَبَ عَنْهُ فَمَتَى أَجَازَا

فَهْيَ كَمَنْ نَاوَلَ حَيْثُ امْتَازَا

أَوْ لا فَقِيلَ لَا تَصِحُّ وَالأَصَحُّ

صِحَّتُهَا بَلْ وَإجَازَةً رَجَحْ

وَيَكْتَفِي الْمَكْتُوبُ أَنْ يَعْرِف خَطّ

كَاتِبِهِ وَشَاهِدًا بَعْضٌ شَرَطْ

ثُمَّ لْيَقُلْ حَدَّثَنِي أَخْبَرَنِي

كِتَابَةً وَالْمُطْلِقِينَ وَهِّنِ

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5315 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَخْلَدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ وَبَرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ ح وَأَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ، عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ فِي الدِّيبَاجِ، إِلاَّ مَوْضِعَ أَرْبَعِ أَصَابِعَ).

رجال هَذَا الإسناد: اثنا عشر:

1 -

(عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ مُحَمَّدٍ) بن الْمُسْتَام، أبو عمرو الحرّانيّ، إمام مسجدها، ثقة [11] 22/ 93.

2 -

(أحمد بن سليمان) بن عبد الملك، أبو الحسين الرُّهاويّ، ثقة حافظ [11] 38/ 42.

3 -

(مخلد) بن يزيد القرشيّ الحرانيّ، صدوقٌ، له أوهام، منْ كبار [9] 141/ 222.

4 -

(عبيد الله) بن موسى بن أبي المختار باذام الْعَبْسيّ الكوفيّ، ثقة، كَانَ يتشيّع، قَالَ أبو حاتم: كَانَ أثبت فِي إسرائيل منْ أبي نُعيم، واستُصغر فِي سفيان الثوريّ [9] 72/ 1326.

5 -

(إسرائيل) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعيّ، أبو يوسف الكوفيّ، ثقة [7] 75/ 1006.

6 -

(مسعر) بن كِدام بن ظُهير الهلاليّ، أبو سلمة الكوفيّ الثقة الثبت الفاضل [7] 8/ 8.

7 -

(أبو حَصِين) -بفتح الحاء، وكسر الصاد المهملتين- عثمان بن عاصم بن حَصِين الأسديّ الكوفيّ، ثقة ثبت سنّيّ، وربّما دلّس [4] 102/ 152.

ص: 54

8 -

(وَبَرة) بفتحات -ابن عبد الرحمن الْمُسْملِيّ، أبو خُزيمة، أو أبو العبّاس الكوفيّ، ثقة [4] 5/ 1457.

9 -

(الشعبيّ) عامر بن شَرَاحيل الهمدانيّ، أبو عمرو الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 66/ 82.

10 -

(إبراهيم) بن يزيد بن قيس النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقة فقيه يرسل كثيرًا [5] 29/ 33.

11 -

(سُويد بن غَفَلة) -بفتح المعجمة، والفاء- أبو أمية الجعفيّ الكوفيّ، مخضرم ثقة، منْ كبار التابعين، قدِم المدينة يوم دُفن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان مسلمًا فِي حياته، ثم نزل الكوفة، ومات سنة (80) وله (130) سنة 63/ 1686. والصحابيّ رضي الله عنه تقدّم فِي السند الماضي. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخيه، فإنهما منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخيه أيضاً، فالأول حراني، والثاني رُهاويّ. (ومنها): أن فيه ثلاثة منْ التابعين يروي بعضهم عن بعض: وبرة، عن الشعبيّ، عن سُويد، وكذا أبو حصِين، عن إبراهيم، عن سُويد. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنه (أَنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ) بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير عمر رضي الله عنه (فِي الدِّيْبَاجِ) أي فِي لبس الحرير (إِلاَّ مَوْضِعَ أَرْبَعِ أَصَابِعَ) وفي رواية أبي عثمان الماضية أن المستثنى قدر إصبعين فقط، ووقع عند أبي داود منْ طريق حمّاد سلمة، عن عاصم الأحول فِي هَذَا الْحَدِيث:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الحرير إلا ما كَانَ هكذا وهكذا، إصبعين، وثلاثة، وأربعة". ولمسلم، والمصنّف فِي "الكبرى" منْ طريق سُويد بن غَفَلَة: أن عمر خطب بالجابية، فَقَالَ:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير إلا موضع إصبَعين، أو ثلاثة، أو أربعة"، و"أو" هنا للتنويع والتخيير. وَقَدْ أخرجه ابن أبي شيبة منْ هَذَا الوجه بلفظ:"إن الحرير لا يصلح منه إلا هكذا، وهكذا، وهكذا" يعني إصبعين، وثلاثا، وأربعًا. وجنح الحليميّ إلى أن المراد بما وقع فِي رواية مسلم أن يكون فِي كلّ قدر إصبعين، وهو تأويل بعيد منْ سياق الْحَدِيث. أفاده فِي "الفتح" 11/ 467. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 55

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عمر رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -92/ 5315 - وفي 87/ 9634. وأخرجه (م) فِي "اللباس" 2067 (ت) فِي "اللباس" 1721.

(المسألة الثالثة): فِي الاختلاف الواقع فِي هَذَا الْحَدِيث:

(اعلم): أنه وقع اختلاف فِي هَذَا الْحَدِيث رفعًا ووقفًا، وَقَدْ بيّنه المصنّف رحمه الله تعالى فِي "الكبرى" 5/ 474 فَقَالَ:

"ما رُخّص فيه للرجال منْ لبس الحرير":

9626 -

أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قَالَ: أنا جرير، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن عمر قَالَ:"إياكم ولباس الحرير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نهى عن لباس الحرير، إلا هكذا، ورفع إصبعيه السبابة والوسطى".

9627 -

أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قَالَ: أنا جرير عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، قَالَ: كنا مع عتبة بن فرقد

(1)

فجاء كتاب عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"لا يلبس الحرير إلا منْ ليس له منه فِي الآخرة شيء، إلا هكذا"، وَقَالَ أبو عثمان بإصبعيه اللتين تليان الإبهام، فرأيتهما أزرار الطيالسة، حَتَّى رأيت الطيالسة.

9628 -

أخبرنا محمد بن المثنى، قَالَ: ثنا محمد، قَالَ: ثنا شعبة، عن قتادة، قَالَ: سمعت أبا عثمان، قَالَ: جاءنا كتاب عمر، ونحن بأذربيجان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نهى عن الحرير، إلا هكذا إصبعين.

9629 -

أخبرنا عمرو بن عليّ، ثنا معاذ بن هشام، قَالَ: حدثني أبي، عن قتادة، عن أبي عثمان، عن عمر، قَالَ: نهاني نبي الله صلى الله عليه وسلم، عن لبس الحرير، إلا موضع إصبعين.

9630 -

أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قَالَ: أنا معاذ بن هشام، قَالَ: ثنا أبي، عن قتادة، عن عامر الشعبي، عن سويد بن غفلة، أن عمر حنطب بالجابية، فَقَالَ: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن لبس الحرير، إلا موضع إصبعين، أو ثلاثة، أو أربعة.

وقفه داود بن أبي هند، وإسماعيل، ووَبَرَة:

(1)

وقع فِي النسخة: "عتبة بن يزيد"، والصواب "ابن فرقد".

ص: 56

9631 -

أخبرنا أحمد بن سليمان، قَالَ: ثنا يزيد بن هارون، قَالَ: ثنا داود، عن عامر، عن سويد بن غفلة، أن عمر قَالَ:"لا تلبسوا الحرير، إلا ما كَانَ هكذا وهكذا"، قَالَ يزيد: لا أدري كيف قَالَ؟.

9632 -

أخبرنا محمود بن غيلان، قَالَ: أنا الفضل يعني ابن موسى- عن إسماعيل، عن عامر، عن سُويد بن غفلة، قَالَ: قَالَ عمر: البسوا منْ الحرير هكذا وهكذا، إصبعين، أو ثلاثة، أو أربعة.

9633 -

أخبرنا عبد الحميد بن محمد، قَالَ: ثنا مخلد، قَالَ: ثنا مسعر، عن وبرة، عن الشعبي، عن سويد بن غفلة قَالَ: قَالَ عمر: "لا يحل، أو لا ينبغي منْ الحرير، إلا هكذا وهكذا، إصبعين عرضا، أو ثلاثة، أو أربعة، فِي لفاف، أو زرار

(1)

.

تابعه إبراهيم النخعي عَلَى ذلك:

9634 -

وأخبرنا أحمد بن سليمان، قَالَ: ثنا عبيد الله بن موسى، قَالَ: أنا إسرائيل، عن أبي حَصِين، عن إبراهيم، عن سُويد بن غَفَلة، عن عمر، أنه لم يُرَخِّص فِي الديباج إلى موضع أربعة أصابع. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: حاصل ما بيّنه المصنّف رحمه الله تعالى فِي هذه الرويات منْ الاختلاف أن عاصماً الأحول، وسليمان التيميّ، وقتادة رووه عن أبي عثمان النهديّ، عن عمر رضي الله عنه، مرفوعًا، وكذلك رفعه قتادة عن الشعبيّ، عن سُويد بن غفلة، ورواه داود بن أبي هند، وإسماعيل بن أبي خالد، وَوَبَرَة بن عبد الرحمن، ثلاثتهم عن الشعبيّ، عن سويد بن غَفَلة، عن عمر رضي الله عنه، موقوفًا، وكذلك رواه إبراهيم النخعيّ، عن سُويد، عن عمر رضي الله عنه موقوفًا.

لكن الاختلاف هَذَا لا يضرّ بصحّة الْحَدِيث؛ لأن الحكم لمن رفع، ولذا اتفقا الشيخان بإخراج الْحَدِيث مرفوعًا ترجيحاً له، ويحمل مثل هَذَا عَلَى أَنَّ المرفوع مرويّ عمر رضي الله عنه، والموقوف فتواه، فلا تنافي بينهما، فكان رضي الله عنه تارة يرويه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتارة يفتي به النَّاس، ومثل هَذَا كثير، فِي كتب السنّة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

(1)

هكذا النسخة، ولعلّه "إزار"، فليُحرّر.

ص: 57

‌93 - (لُبْسِ الْحُلَلِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هو -بضم الحاء المهملة، وفتح اللام-: جمع حُلّة، كغُرفة وغُرَف، وهي بُرُود اليمن، ولا تسمّى حُلّة، إلا ثوبين منْ جنس واحد قاله فِي "النهاية" 1/ 432. والله تعالى أعلم بالصواب.

5316 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ، مُتَرَجِّلاً، لَمْ أَرَ قَبْلَهُ، وَلَا بَعْدَهُ أَحَدًا، هُوَ أَجْمَلُ مِنْهُ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"يعقوب بن إبراهيم": هو الدّورقيّ. و"هُشيمٌ": هو ابن بَشير. و"أبو إسحاق": هو عمرو بن عبد الله السبيعيّ.

والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي 9/ 5062 ومضى شرحه، وبيان مسائله هناك، وبقي الكلام فِي مسألتين منْ المسائل المعتلّقة به:

(المسألة الأولى): قد ذكر المصنّف رحمه الله تعالى فِي "الكبرى" 5/ 476 الاختلاف الواقع فِي هَذَا الْحَدِيث، فساق طريق شعبة، عن أبي إسحاق التي أوردها هنا، ثم قَالَ: خالفه أشعث بن سَوّار، رواه عن أبي إسحاق، عن جابر بن سمرة:

9640 -

أخبرنا هناد بن السري، عن عَبْثَر، عن أشعث بن سَوّار، كوفيّ، عن أبي إسحاق، عن جابر بن سمرة، قَالَ: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فِي ليلة فِي حلة حمراء

(1)

فجعلت أنظر إليه وإلى القمر، فلهو أجمل عندي منْ القمر.

قَالَ لنا أبو عبد الرحمن: هَذَا خطأ، والصواب الذي قبله، وأشعث ضعيف.

يعني أن الصواب رواية شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء رضي الله عنه. ثم قَالَ:

9641 -

أخبرنا محمد بن بشار، قَالَ: ثنا عبد الرحمن، قَالَ: ثنا سفيان، عن عون ابن أبي جحيفة، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج فِي حلة حمراء، فركز عَنَزَة، يصلي إليها، يمرّ منْ وراثها الكلب، والمرأة، والحمار. انتهى.

و"عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. و"سفيان": هو الثوريّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

هكذا النسخة، والظاهر أنه تصحيف منْ "قَمْراء"، والله تعالى أعلم.

ص: 58

(المسألة الثانية): فِي اختلاف أهل العلم فِي لبس الأحمر:

قد اختلف السلف، فِي لبس الثوب الأحمر، عَلَى سبعة أقوال:[الأول]: الجواز مطلقا، جاء عن عليّ، وطلحة، وعبد الله بن جعفر، والبراء، وغير واحد منْ الصحابة رضي الله عنهم، وعن سعيد بن المسيب، والنخعي، والشعبي، وأبي قلابة، وأبي وائل، وطائفة منْ التابعين رحمهم الله تعالى.

[القول الثاني]: المنع مطلقا؛ لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، قَالَ:"مرّ عَلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل، وعليه ثوبان أحمران، فسلّم عليه، فلم يردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم"، رواه أبو داود، والترمذيّ، وحسّنه، والبزار، وَقَالَ: لا نعلمه إلا بهذا الإسناد، وفي إسناده أبو يحيى القتّات، قَالَ المنذريّ: لا يُحتجّ بحديثه، وَقَالَ فِي "الفتح": هو حديث ضعيف الإسناد، وإن وقع فِي نسخ الترمذيّ: أنه حسن. وَلِمَا أخرجه ابن ماجه منْ حديث ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الْمُفَدَّم"، وهو بالفاء، وتشديد الدال-: وهو المشبع بالعصفر، فسره فِي الْحَدِيث. وعن عمر: أنه كَانَ إذا رأى عَلَى الرجل ثوبا معصفرا جذبه، وَقَالَ: دعوا هَذَا للنساء، أخرجه الطبري. وأخرج ابن أبي شيبة منْ مرسل الحسن:"الحمرة منْ زينة الشيطان، والشيطان يحب الحمرة"، وصله أبو عليّ بن السكن، وأبو محمد بن عدي، ومن طريق البيهقي

(1)

فِي "الشعب"، منْ رواية أبي بكر الْهُذَلي، وهو ضعيف، عن الحسن، عن رافع بن يزيد الثقفيّ، رفعه:"إن الشيطان يحب الحمرة، وإياكم والحمرة، وكل ثوب ذي شهرة"، وأخرجه ابن منده، وأدخل فِي رواية له بين الحسن ورافع رجلا، فالحديث ضعيف، وبالغ الجوزقاني، فَقَالَ: إنه باطل. قَالَ الحافظ: وَقَدْ وقفت عَلَى كتاب الجوزقاني المذكور، وترجمه بـ"الأباطيل"، وهو بخط ابن الجوزي، وَقَدْ تبعه عَلَى ما ذكر فِي أكثر كتابه فِي "الموضوعات"، لكنه لم يوافقه عَلَى هَذَا الْحَدِيث، فإنه ما ذكره فِي "الموضوعات"، فأصاب.

وعن رافع بن خديج رضي الله عنه، قَالَ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي سفر، فرأى عَلَى رواحلنا أكسية، فيها خطوط عِهْن حُمْر، فَقَالَ:"ألا أرى هذه الحمرة قد غلبتكم"، قَالَ: فقمنا سِرَاعا فنزعناها، حَتَّى نفر بعض إبلنا، أخرجه أبو داود، وفي سنده روا لم يسم.

وعن امرأة منْ بني أسد قالت: كنت عند زينب، أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، ونحن نصبغ ثيابا لها بِمَغَرة، إذ طلع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما رأى المغرة رجع، فلما رأت ذلك زينب، غسلت ثيابها، ووارت كل حمرة، فجاء فدخل، أخرجه أبو داود، وفي سنده ضعف.

(1)

هكذا نسخة "الفتح"، والظاهر أن الصواب: ومن طريقه البيهقي. فليحرر.

ص: 59

[القول الثالث]: يكره لبس الثوب المتشبع بالحمرة، دون ما كَانَ صبغه خفيفا، جاء ذلك عن عطاء، وطاوس، ومجاهد، وكان الحجة فيه حديث ابن عمر المذكور قريبا فِي "الْمُفَدّم".

[القول الرابع]: يكره لبس الأحمر مطلقا؛ لقصد الزينة والشهرة، ويجوز فِي البيوت والمهنة، جاء ذلك عن ابن عبّاس، وَقَدْ تقدّم قول مالك فِي "باب التزعفر".

[القول الخامس]: يجوز لبس ما كَانَ صبغ غزله، ثم نُسج، ويمنع ما صبغ بعد النسج، جنح إلى ذلك الخطّابيّ، واحتج بأن الحلة الواردة فِي الأخبار الواردة، فِي لبسه صلى الله عليه وسلم الحلة الحمراء، إحدى حلل اليمن، وكذلك البرد الأحمر، وبرود اليمن يصبغ غزلها، ثم ينسج.

[القول السادس]: اختصاص النهي بما يُصبغ بالمعصفر؛ لورود النهي عنه، ولا يمنع ما صبغ بغيره منْ الأصباغ، ويعكُر عليه حديث المغيرة المتقدم.

[القول السابع]: تخصيص المنع بالثوب الذي يُصبغ كله، وأما ما فيه لون آخر غير الأحمر، منْ بياض وسواد، وغيرهما فلا، وعلى ذلك تُحمل الأحاديث الواردة فِي الحلة الحمراء، فإن الحلل اليمانية، غالبا تكون ذات خطوط حمر وغيرها. قَالَ ابن القيم: كَانَ بعض العلماء يلبس ثوبا مشبعا بالحمرة، يزعم أنه يتبع السنة، وهو غلط، فإن الحلة الحمراء منْ برود اليمن، والبرد لا يصبغ أحمر صرفا، كذا قَالَ.

وَقَالَ الطبري بعد أن ذكر غالب هذه الأقوال: الذي أراه جواز لبس الثياب المصبغة، بكل لون إلا أني لا أحب لبس ما كَانَ مشبعا بالحمرة، ولا لبس الأحمر مطلقا ظاهراً، فوق الثياب، لكونه ليس منْ لباس أهل المروءة فِي زماننا، فإن مراعاة زِيّ الزمان منْ المروءة، ما لم يكن إثما، وفي مخالفة الزي ضرب منْ الشهرة، وهذا يمكن أن يلخص منه قول ثامن.

ثم قَالَ الحافظ: والتحقيق فِي هَذَا المقام، أن النهي عن لبس الأحمر، إن كَانَ منْ أجل أنه لبس الكفار، فالقول فيه كالقول فِي الميثرة الحمراء، وإن كَانَ منْ أجل أنه زِيّ النِّساء، فهو راجع إلى الزجر عن التشبه بالنساء، فيكون النهي عنه لا لذاته، وإن كَانَ منْ أجل الشهرة، أو خرم المروءة، فيمنع حيث يقع ذلك، وإلا فَيَقْوَى ما ذهب إليه مالك منْ التفرقة بين المحافل والبيوت. أفاده فِي "الفتح" 11/ 489 - 490.

وَقَالَ العلّامة الشوكانيّ رحمه الله تعالى فِي شرح حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما، المذكور فِي الباب بلفظ:"كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مربوعا، بعيد ما بين المنكبين، له شعر يبلغ شحمة أذنيه، رأيته فِي حلة حمراء، لم أر شيئا قط أحسن منه"، متَّفقٌ عليه.

ص: 60

قَالَ: وفي الباب عن أبي جحيفة، عند البخاريّ وغيره:"أنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج فِي حلة حمراء، مشمرًا، صلى إلى العنزة بالناس ركعتين". وعن عامر المزني عند أبي داود، بإسناد فيه اختلاف، قَالَ: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى، وهو يخطب عَلَى بغلة، وعليه برد أحمر، وعليٌّ رضي الله عنه أمامه يُعَبّر عنه"، قَالَ فِي "البدر المنير": وإسناده حسن. وأخرج البيهقي عن جابر رضي الله عنه أنه كَانَ له ثوب أحمر، يلبسه فِي العيدين والجمعة. وروى ابن خزيمة فِي "صحيحه" نحوه بدون ذكر الأحمر.

والحديث احتج به منْ قَالَ: بجواز لبس الأحمر، وهم الشافعيّة، والمالكية، وغيرهم. وذهبت العترة، والحنفية إلى كراهة ذلك، واحتجوا بحديث عبد الله بن عمرو قَالَ:"مر عَلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل عليه ثوبان أحمران، فسلم، فلم يرد النبيّ صلى الله عليه وسلم". رواه الترمذيّ، وأبو داود، وَقَالَ: معناه عند أهل الْحَدِيث: أنه كره المعصفر، وَقَالَ: ورأوا أن ما صبغ بالحمرة منْ مَدَر، أو غيره فلا بأس، به إذا لم يكن معصفرا.

الْحَدِيث قَالَ الترمذيّ: إنه حسن غريب منْ هَذَا الوجه انتهى. وفي إسناده أبو يحيى القتات، وَقَدْ اختُلف فِي اسمه، فقيل: عبد الرحمن بن دينار، وقيل: زازان، وقيل: عمران، وقيل: مسلم، وقيل: زياد، وقيل: يزيد. قَالَ المنذري: وهو كوفيّ لا يحتج بحديثه، وَقَالَ أبو بكر البزار: وهذا الْحَدِيث لا نعلمه يُروى بهذا اللفظ، إلا عن عبد الله ابن عمرو، ولا نعلم له طريقا، إلا هَذَا الطريق، ولا نعلم رواه عن إسرائيل إلا إسحاق ابن منصور، قَالَ الحافظ فِي "الفتح": هو حديث ضعيف الإسناد، وإن وقع فِي نسخ الترمذيّ: إنه حسن.

وأجاب المبيحون عنه، بأنه لا ينهض للاستدلال به، فِي مقابلة الأحاديث القاضية بالإباحة؛ لما فيه منْ المقال، وبأنه واقعة عين، فيحتمل أن يكون ترك الرد عليه بسبب آخر، وحمله البيهقي عَلَى ما صُبغ بعد النسج، لا ما صبغ غزلا، ثم نسج، فلا كراهة فيه.

واحتجوا أيضًا بالأحاديث الواردة فِي تحريم المصبوغ بالعصفر، قالوا: لأن العصفر يصبغ صباغا أحمر، وهي أخص منْ الدعوى، وَقَدْ عرّفناك أن الحق، أن ذلك النوع منْ الأحمر لا يحل لبسه.

ومن أدلتهم حديث رافع بن خَدِيج رضي الله عنه عند أبي داود، قَالَ: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي سفر، فرأى عَلَى رواحلنا، وعلى إبلنا أكسية فيها خيوط عِهْنٍ أحمر، فَقَالَ:"ألا أرى هذه الحمرة قد علتكم"، فقمنا سراعا؛ لقول رسول الله، فأخذنا الأكسية، فنزعناها عنها، وهذا الْحَدِيث لا تقوم به حجة؛ لأن فِي إسناده رجلا مجهولاً.

ص: 61

ومن أدلتهم حديث أن امرأة منْ بني أسد، قالت: كنت يوما عند زينب، امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نصبغ ثيابها بمَغَرَةٍ -والمغرة صباغ أحمر- قالت: فبينا نحن كذلك، إذ طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى المغرة رجع، فلما رأت ذلك زينب، علمت أنه قد كره ما فعلت، وأخذت فغسلت ثيابها، ووارت كل حمرة، ثم إن رسول الله رجع، فاطلع، فلما لم ير شيئا دخل

الْحَدِيث، أخرجه أبو داود، وفي إسناده إسماعيل بن عياش، وابنه، وفيهما مقال مشهور.

وهذه الأدلة غاية ما فيها، لو سُلّمت صحتها، وعدم وجدان معارض لها الكراهة، لا التحريم، فكيف وهي غير صالحة للاحتجاج بها؛ لما فِي أسانيدها منْ المقال الذي ذكرنا، ومعارَضَةٌ بتلك الأحاديث الصحيحة.

نعم منْ أقوى حججهم ما فِي "صحيح البخاريّ" منْ النهي عن المياثر الحمر، وكذلك ما فِي سنن أبي داود، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي، منْ حديث عليّ رضي الله عنه قَالَ:"نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس القسي، والميثرة الحمراء"، ولكنه لا يخفى عليك، أن هَذَا الدليل أخص منْ الدعوى، وغاية ما فِي ذلك تحريم الميثرة الحمراء، فما الدليل عَلَى تحريم ما عداها، مع ثبوت لبس النبيّ صلى الله عليه وسلم له مرات؟.

ومن أصرح أدلتهم، حديث رافع بن برد، أو رافع بن خديج، كما قَالَ ابن قانع، مرفوعا، بلفظ:"إن الشيطان يحب الحمرة، فإياكم والحمرة، وكل ثوب ذي شهرة"، أخرجه الحاكم فِي "الكنى"، وأبو نعيم فِي "المعرفة"، وابن قانع، وابن السكن، وابن منده، وابن عدي، ويشهد له ما أخرجه الطبراني، عن عمران بن حصين، مرفوعا، بلفظ:"إياكم والحمرة، فإنها أحب الزينة إلى الشيطان"، وأخرج نحوه عبد الرزاق، منْ حديث الحسن مرسلا، وهذا إن صح، كَانَ أنص أدلتهم عَلَى المنع، ولكنك قد عرفت لبسه للحلة الحمراء فِي غير مرّة، ويبعد منه أن يلبس ما حذرنا منْ لبسه، معللا ذلك بأن الشيطان يحب الحمرة، ولا يصح أن يقال هاهنا: فعله لا يعارض القول الخاص بنا، كما صرح بذلك أئمة الأصول؛ لأن تلك العلة مشعرة بعدم اختصاص الخطاب بنا، إذ تجنب ما يلابسه الشيطان، هو أحق النَّاس به.

[فإن قلت]: فما الراجح إن صح ذلك الْحَدِيث؟.

[قلت]: قد تقرر فِي الأصول أن النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا فعل فعلا، لم يصاحبه دليل خاص، يدلّ عَلَى التأسي به فيه، كَانَ مخصصا له عن عموم القول الشامل له، بطريق الظهور، فيكون عَلَى هَذَا لبس الأحمر مختصا به، ولكن ذلك الْحَدِيث غير صالح للاحتجاج به، كما صرح بذلك الحافظ، وجزم بضعفه؛ لأنه منْ رواية أبي بكر الْهُذَلِيّ، وَقَدْ بالغ

ص: 62

الجوزقاني، فَقَالَ باطل، فالواجب البقاء عَلَى البراءة الأصلية، المعتضدة بأفعاله الثابتة فِي "الصحيح"، لاسيما مع ثبوت لبسه لذلك، بعد حجة الوداع، ولم يلبث بعدها إلا أياما يسيرة.

وَقَدْ زعم ابن القيم أن الحلة الحمراء، بردان يمانيان، منسوجان بخطوط حمر، مع الأسود، وغَلَّط منْ قَالَ: إنها كانت حمراء بحتا، قَالَ: وهي معروفة بهذا الاسم. ولا يخفاك أن الصحابيّ قد وصفها بأنها حمراء، وهو منْ أهل اللسان، والواجب الحمل عَلَى المعنى الحقيقي، وهو الحمراء البحت -والمصير إلى المجاز، أعني كون بعضها أحمر دون بعض- لا يحمل ذلك الوصف عليه، إلا لموجب، فإن أراد أن ذلك معنى الحلة الحمراء لغة، فليس فِي كتب اللغة ما يشهد لذلك، وإن أراد أن ذلك حقيقة شرعية فيها، فالحقائق الشرعية لا تثبت بمجرد الدعوى، والواجب حمل مقالة ذلك الصحابيّ عَلَى لغة العرب؛ لأنها لسانه ولسان قومه. فإن قَالَ: إنما فسرها بذلك التفسير؛ للجمع بين الأدلة، فمع كون كلامه آبيا عن ذلك؛ لتصريحه بتغليط منْ قَالَ: إنها الحمراء البحت، لا مُلجىء إليه، لإمكان الجمع بدونه كما ذكرنا، مع أن حمله الحلة الحمراء عَلَى ما ذكر، ينافي ما احتج به فِي أثناء كلامه، منْ إنكاره عَلَى القوم الذين رأى عَلَى رواحلهم أكسية فيها خطوط حمر، وفيه دليل عَلَى كراهية ما فيه الخطوط، وتلك الحلة كذلك بتأويله. انتهى "نيل الأوطار" 2/ 184 - 186.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح عندي ما ذهب إليه الشافعيّة، والمالكيّة، وبعض أهل العلم منْ جواز لبس الأحمر، إلا ما ورد النصّ الصحيح بتحريمه، كالميثرة الحمراء، فيحرم، وأما غير ما ورد به النصّ، فجائزٌ لبسه، للأحاديث الصحيحة الكثيرة منْ كونه صلى الله عليه وسلم لبس الحلة الحمراء، والأحاديث التي أوردها المانعون لا تصحّ، كما سبق لك بيان ذلك، وعلى تقدير صحّتها، فيُحمل النهي فيها عَلَى التنزيه؛ جمعًا بين الأدلّة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌94 - (لُبْسُ الْحِبَرَةِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الْحِبرَةَ" -بكسر الحاء المهملة، وفتح الموحّدة، بوزن عِنَبَة-: ثوبٌ يمانيّ، منْ قطن، أو كتّان، مُخطّطٌ، يقال: بردٌ حِبَرٌ، عَلَى

ص: 63

الوصف، وبُرْدُ حِبَرٍ عَلَى الإضافة، والجمع حِبَرٌ، وحِبَرَاتٌ، مثلُ عِنَبٍ، وعِنَبات، قَالَ الأزهريّ: ليس حِبَرةٌ موضعًا، أو شيئًا معلومًا، إنما هو وَشْيٌ معلومٌ، أُضيف الثوب إليه، كما قيل: ثوبُ قِرْمِزٍ بالإضافة، والقِرْمِزُ صبغُهُ، فأُضيف الثوب إلى الوَشْيِ، والصِّبْغِ للتوضيح. قاله الفيّوميّ.

وفي "اللسان": ما يفيد أن الحبرة بكسر، ففتح، أو بفتحات، وهي ضرب منْ برد اليمن، مُنَمَّر. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.

5317 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: "كَانَ أَحَبُّ الثِّيَابِ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحِبَرَةَ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(عبيد الله بن سعيد) أبو قُدامة السرخسيّ، ثقة ثبت سنّيّ [10] 15/ 15.

2 -

(معاذ بن هشام) الدستوائيّ البصريّ، وَقَدْ سكن اليمن، صدوقٌ، ربّما وَهِم [9] 30/ 34.

3 -

(أبوه) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر كجعفر -الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت، وَقَدْ رُميّ بالقدر، منْ كبار [7] 30/ 34.

4 -

(قتادة) بن دِعامة السدوسيّ، أبو الخطاب البصريّ، ثقة ثبت مدلّس [4] 30/ 34.

5 -

(أنس) بن مالك رضي الله تعالى عنه 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين، غير شيخه، فسرخسيّ. (ومنها): أن فيه روايه الابن عن أبيه. (ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، رَوَى (2286) وهو آخر منْ مات بالبصرة منْ الصحابة رضي الله عنهم، مات سنة (2) وقيل:(93)، وَقَدْ جاوز مائة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَنَس) بن مالك رضي الله تعالى عنه، وفي رواية للبخاريّ منْ طريق همام، عن قتادة، عن أنس، قَالَ: قلت له: أيُّ الثياب كَانَ أحبّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: الحبرة. قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: هذه الرواية تضمّنت السلامة منْ تدليس قتادة. (قَالَ: "كَانَ أَحَبُّ الثِّيَابِ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحِبَرَةَ) بكسر، ففتح، أو بفتحات: قَالَ القرطبيّ رحمه

ص: 64

الله تعالى: هي ثياب مُخطّطةٌ، يؤتى بها منْ اليمن، وسُمّيت بالحِبَرة؛ لأنها محبّرةٌ: أي مزيَنةٌ، والتحبير: التزيين. انتهى "المفهم" 5/ 401 - 402.

وَقَالَ فِي "الفتح" 11/ 453: قَالَ الجوهريّ: الحبرة بوزن عِنَبة برد يمان. وَقَالَ الهرويّ: مَوْشيّة مخطّطة. وَقَالَ الداوديّ: لونها أخضر؛ لأنها لباس أهل الجنّة. كذا قَالَ. وَقَالَ ابن بطّال: هي منْ بُرود اليمن تُصنع منْ قطن، وكانت أشرف الثياب عندهم. انتهى. وأخرج البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" منْ طريق الزهريّ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، أن عائشة رضي الله تعالى عنها أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تُوفّي، سُجّي ببُرْد حِبَرة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أنس رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -94/ 5317 - وفي "الكبرى" 91/ 9646. وأخرجه (خ) فِي "اللباس" 5812 و5813 (م) فِي "اللباس" 2079 (د) فِي "اللباس" 4060 (ت) فِي "اللباس" 1787 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 11969 و12494 و13694.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان استحباب لبس الحِبَرة. (ومنها): جواز لبس المخطّط، قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: وهو مجمع عليه. انتهى. وأخرج الإمام أحمد رحمه الله تعالى منْ طريق الحسن البصريّ: أن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أراد أن ينهى عن حُلَل الحبرة؛ لأنها تُصبغ بالبول، فَقَالَ له أُبيّ رضي الله عنه: ليس ذلك لك، فقد لبسهنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولبسناهنّ فِي عهده. وفيه انقطاع؛ لأن الحسن لم يسمع منْ عمر رضي الله عنه. قاله فِي "الفتح" 11/ 453. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إِلَّا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 65

‌95 - (ذِكْرِ النَّهْي عَنْ لُبْسِ الْمُعَصْفَرِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الْمُعَصْفَرِ": اسم مفعول، منْ عَصْفَرتُ الثوب: إذا صبغته بالْعُصْفُر، وهو نبتٌ معروف. أفاده فِي "المصباح"، وفي "اللسان": الْعُصفر هَذَا الذي يُصبغ به منه رِيفيّ، ومنه برّيّ، وكلاهما نبتٌ بأرض العرب. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.

5318 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ -وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ- قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَنَّ خَالِدَ بْنَ مَعْدَانَ، أَخْبَرَهُ أَنَّ جُبَيْرَ بْنَ نُفَيْرٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ مُعَصْفَرَانِ، فَقَالَ: "هَذِهِ ثِيَابُ الْكُفَّارِ، فَلَا تَلْبَسْهَا").

رجال هَذَا الإسناد: ثمانية:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الجحدريّ، أبو مسعود البصريّ، ثقة [10] 42/ 47.

2 -

(خالد بن الحارث) الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.

3 -

(هشام) الدستوائيّ المذكور فِي الباب الماضي.

4 -

(يحيى بن أبي كثير) الطائيّ مولاهم، أبو نصر اليماميّ، ثقة ثبت، يدلس ويرسل [5] 23/ 24.

5 -

(محمد بن إبراهيم) بن الحارث التيميّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقة له أفراد [4] 60/ 75.

6 -

(خالد بن معدان) الكلاعيّ، أبو عبد الله الحمصيّ، ثقة عابد يرسل كثيرًا [3] 1/ 688.

7 -

(جُبير بن نُفير) بن مالك بن عامر الحضرميّ الحمصيّ، ثقة مضرم فاضل [2] 50/ 62.

8 -

(عبد الله بن عمرو) بن العاص رضي الله تعالى عنهما 89/ 111. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ ثمانيات المصنّف رحمه الله تعالى فهو سند نازل. (ومنها): أن رجاله

ص: 66

كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين إلى هشام. (ومنها): أن فيه أربعة منْ التابعين يروي بعضهم عن بعض: يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم، عن خالد بن معدان، عن جُبير بن نُفير. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

عن جُبير بن نُفير رحمه الله تعالى (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو) بن العاص رضي الله تعالى عنهما (أَخْبَرَهُ) أي أخبر جبيرًا (أَنَّهُ رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ مُعَصْفَرَانِ) جملة فِي محلّ نصب عَلَى الحال منْ المفعول (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (هَذِهِ ثِيَابُ الْكُفَّارِ، فَلَا تَلْبَسْهَا) قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: هَذَا يدلّ عَلَى أن علّة النهي منْ لباسهما التشبّه بالكفّار. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -95/ 5318 و5319 - وفي "الكبرى" 92/ 9647 و9648. وأخرجه (م) فِي "اللباس" 2077 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 6477 و6500 و6782 و6892 و6933.

(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي لبس المعصفر:

قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: وَقَدْ اختَلف العلماء فِي جواز لبس المعصفر، فرُوي كراهته عن ابن عمر، وأجازه جماعة منْ الصحابة، والتابعين، والفقهاء، وهو قول مالك، والشافعيّ، وكره ما اشتدّت حمرته عطاء، وطاوس، وأباحا ما خفّ منها، وفرّق بعضهم بين أن يُمتهن، فيجوز، أو يُلبس، فيكره، وهو قول ابن عبّاس، والطبريّ، وكره بعض أهل العلم جميع ألوان الحمرة، وَقَدْ صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه لبس حلّة حمراء، وَقَدْ لبس النبيّ صلى الله عليه وسلم ما صُبغ بالصفرة عَلَى ما جاء عن ابن عمر، فلا وجه لكراهة الحمرة مطلقًا، وإنما المكروه للرجال المعصفر، والمزعفر؛ لنهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك للرجال. وكره المعصفر بعض أهل العلم مطلقًا، وأجازه مالكٌ تمسّكًا بحديث ابن عمر المتقدّم. وَقَدْ حمل بعضهم النهي عَلَى الْمُحْرِم. قَالَ القرطبيّ: وهذا فيه بُعدٌ؛ لأن النِّساء والرجال ممنوعون منْ التطيّب فِي الإحرام، فلا معنى لتخصيصه

ص: 67

بالرجال، وإنما علّة الكراهة فِي ذلك أنه صبغ النِّساء، وطيب النِّساء، وَقَدْ قَالَ:"طيب الرجال ما ظهر ريحه، وخَفي لونه، وطيب النِّساء ما ظهر لونه، وخفي ريحه"

(1)

. والله تعالى أعلم. انتهى "المفهم" 6/ 399 - 400.

وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى فِي "شرح مسلم" 14/ 54: اختلف العلماء فِي الثياب المعصفرة، وهى المصبوغة بعُصفُر، فأباحها جمهور العلماء، منْ الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، وبه قَالَ الشافعيّ، وأبو حنيفة، ومالك، لكنه قَالَ: غيرها أفضل منها، وفى رواية عنه أنه أجاز لبسها فِي البيوت، وأفنية الدور، وكرهه فِي المحافل، والأسواق، ونحوها. وَقَالَ جماعة منْ العلماء: هو مكروه كراهة تنزيه، وحملوا النهى عَلَى هَذَا؛ لأنه ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لبس حلة حمراء، وفي "الصحيحين" عن ابن عمر رضى الله عنهما قَالَ: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة. وَقَالَ الخطّابيّ: النهي منصرف إلى ما صُبغ منْ الثياب بعد النسج، فأما ما صُبغ غزله ثم نسج، فليس بداخل فِي النهي، وحمل بعض العلماء النهى هنا عَلَى الْمُحرِم بالحج أو العمرة؛ ليكون موافقا لحديث ابن عمر رضي الله عنهما نُهي المحرم أن يلبس ثوبا مسه ورس، أو زعفران، وأما البيهقي رحمه الله عنه، فأتقن المسألة، فَقَالَ فِي كتابه "معرفة السنن": نهى الشافعيّ الرجل عن المزعفر، وأباح المعصفر، قَالَ الشافعيّ: وإنما رخصت فِي المعصفر؛ لأني لم أجد أحدا يحكي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم النهي عنه، إلا ما قَالَ عليّ رضي الله عنه: نهاني، ولا أقول: نهاكم، قَالَ البيهقيّ: وَقَدْ جاءت أحاديث تدلّ عَلَى النهي عَلَى العموم، ثم ذكر حديث عبد الله بن عمرو بن العاص هَذَا الذي ذكره مسلم، ثم أحاديث أُخَر، ثم قَالَ: لو بلغت هذه الأحاديث الشافعيّ، لقال بها إن شاء الله -ثم ذكر بإسناده ما صح عن الشافعيّ، أنه قَالَ: إذا كَانَ حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم خلاف قولي، فاعملو بالحديث، ودعوا قولي، وفي رواية فهو مذهبي، قَالَ البيهقيّ: قَالَ الشافعيّ: وأنهى الرجل الحلال بكل حال أن يتزعفر، قَالَ: وآمره إذا تزعفر أن يغسله، قَالَ البيهقيّ: فتبع السنة فِي المزعفر، فمتابعتها فِي المعصفر أولى، قَالَ: وَقَدْ كره المعصفر بعض السلف، وبه قَالَ أبو عبد الله الْحَليِميّ منْ أصحابنا، ورخص فيه جماعة، والسنة أولى بالاتباع. والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن القول بتحريم لبس المعصفر للرجال هو الصواب؛ لصحة الأحاديث بذلك، وأما حديث ابن عمر رضي الله تعالى

(1)

تقدّم أنه حديث صحيح، أخرجه المصنّف 32/ 5119 والترمذيّ رقم 2788.

ص: 68

عنهما أنه صلى الله عليه وسلم كَانَ يحبّ الصفرة، ويصبغ بالصفرة، فلا يسلتزم أن يكون معصفرًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجِع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5319 -

(أَخْبَرَنِي حَاجِبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي رَوَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ مُعَصْفَرَانِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: "اذْهَبْ، فَاطْرَحْهُمَا عَنْكَ"، قَالَ: أَيْنَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "فِي النَّارِ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(حاجب بن سُليمان) أبو سعيد الْمَنْبِجيّ، مولى بني شيبان، صدوقٌ يَهِمُ [10] 7/ 634.

2 -

(ابن أبي رَوّاد) هو عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رَوّاد المكيّ، صدوقٌ يخطيء، وكان مرجئا، أفرط ابن حبّان، فَقَالَ: متروك [9] 127/ 2910.

3 -

(ابن جريج) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأمويّ مولاهم المكيّ الثقة الفاضل الفقيه، وكان يدلّس، ويُرسل [6] 28/ 32.

4 -

(ابن طاوس) عبد الله، أبو محمد اليمانيّ، ثقة فاضل عابد [6] 11/ 514.

5 -

(أبوه) طاوس بن كيسان الحميريّ مولاهم، أبو عبد الرحمن اليمانيّ، ثقة فقيه فاضل [3] 27/ 31. والصحابيّ تقدّم فِي السند الماضي. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمكيين، غير شيخه، وفيه رواية الابن عن أبيه. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بن العاص رضي الله تعالى عنهما المذكور فِي الْحَدِيث الماضي (أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ مُعَصْفَرَانِ) أي مصبوغان بالعُصفُر، والجملة فِي محلّ نصب عَلَى الحال منْ الفاعل (فَغَضِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أي لكونه لبس ثوبين معصفرين (وَقَالَ: "اذْهَبْ، فَاطْرَحْهُمَا عَنْكَ) أي ارم الثوبين عنك؛ لكونهما مما لا يجوز لبسهما لك (قَالَ) عبد الله رضي الله عنه (أَيْنَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟) أي فِي أيّ مكان أطرحهما؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فِي النَّارِ) أي اطرحهما فِي النار. وفي رواية مسلم منْ طريق سليمان الأحول، عن طاوس، عن عبد الله بن عمرو، قَالَ: رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، عليّ ثوبين، معصفرين، فَقَالَ:

ص: 69

"أأُمّك أمرتك بهذا؟ " قلت: أغسلهما؟ قَالَ: بل أحرقهما.

قوله صلى الله عليه وسلم: "أأمك أمرتك بهذا؟ ": معناه أن هَذَا منْ لباس النِّساء، وزِيِّهن، وأخلاقهن، وأما الأمر بإحراقهما، فقيل: هو عقوبة، وتغليظ لزجره، وزجر غيره عن مثل هَذَا الفعل، وهذا نظير أمر تلك المرأة التي لعنت الناقة بإرسالها، وأمر أصحاب بريرة ببيعها، وأنكر عليهم اشتراط الولاء، ونحو ذلك، والله أعلم. انتهى "شرح مسلم" 14/ 55 - 56.

وأخرج أحمد، وأبو داود بإسناد صحيح، منْ طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قَالَ: هبطنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منْ ثنية، فالتفت إليّ، وعلي رَيْطَة

(1)

مُضَرَّجة

(2)

بالعُصفُر، فَقَالَ:"ما هذه الريطة عليك؟ "، فعرفت ما كره، فأتيت أهلي، وهم يسجُرون

(3)

تنورا لهم، فقذفتها فيه، ثم أتيته منْ الغد، فَقَالَ:"يا عبد الله، ما فعلت الريطة؟ " فأخبرته، فَقَالَ: "ألا كسوتها بعض أهلك

(4)

، فإنه لا بأس به للنساء". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -95/ 5319 - وفي "الكبرى" 92/ 9648. وأخرجه (م) فِي "اللباس" 2077 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 6477 و6500 و6782 و6892 و6933. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان النهي عن لبس المعصفر. قَالَ الشوكانيّ رحمه الله تعالى: وَقَدْ استدل بهذا الْحَدِيث منْ قَالَ بتحريم لبس الثوب المصبوغ بعصفر وهم العترة، واستدلوا أيضًا عَلَى ذلك بحديث ابن عمرو، وحديث عليّ المذكورين بعد هَذَا وغيرهما، وسيأتي بعض ذلك.

(1)

قوله: "ريطة" -بفتح الراء المهملة، وسكون المثناة تحتُ، ثم طاء مهملة- ويقال: رائطة، قَالَ المنذري: جاءت الرواية بهما، وهي كل مُلاءة منسوجة بنسج واحد. وقيل: كل ثوب رقيق لين، والجمع رَيْط، ورِيَاط.

(2)

وقوله: "مُضَرّجة" -بفتح الراء المشددة-: أي ملطخة.

(3)

قوله: "يَسجُرون": أي يوقدون.

(4)

قوله: "بعض أهلك": يعني زوجته، أو بعض نساء محارمه، وأقاربه.

ص: 70

وذهب جمهور العلماء منْ الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم، وبه قَالَ الشافعيّ، وأبو حنيفة، ومالك إلى الإباحة، كذا قَالَ ابن رسلان فِي "شرح السنن"، قَالَ: وَقَالَ جماعة منْ العلماء بالكراهة للتنزيه، وحملوا النهي عَلَى هَذَا؛ لما فِي "الصحيحين" منْ حديث ابن عمر، قَالَ:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة"، زاد فِي رواية أبي داود، والنسائي:"وَقَدْ كَانَ يصبغ بها ثيابه كلها".

وَقَالَ الخطّابيّ: النهي منصرف إلى ما صبغ منْ الثياب، وكأنه نظر إلى ما فِي "الصحيحين" منْ ذكر مطلق الصبغ بالصفرة، فقصره عَلَى صبغ اللحية، دون الثياب، وجعل النهي متوجها إلى الثياب، ولم يلتفت إلى تلك الزيادة المصرحة بأنه كَانَ يصبغ ثيابه بالصفرة.

ويمكن الجمع بأن الصفرة التي كَانَ يصبغ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير صفرة العصفر المنهي عنه، ويؤيد ذلك حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يصبغ بالزعفران".

وَقَدْ أجاب منْ لم يقل بالتحريم، عن حديث ابن عمرو المذكور فِي الباب، وحديثه الذي بعده، بأنه لا يلزم منْ نهيه له نهي سائر الأمة، وكذلك أجاب عن حديث عليّ الآتي بأن ظاهر قوله:"نهاني" أن ذلك مختص به، ولهذا ثبت فِي رواية عنه أنه قَالَ:"ولا أقول: نهاكم".

وهذا الجواب ينبني عَلَى الخلاف المشهور بين أهل الأصول فِي حكمه صلى الله عليه وسلم عَلَى الواحد منْ الأمة، هل يكون حكما عَلَى بقيتهم أو لا، والحق الأول، فيكون نهيه لعلي وعبد الله نهيا لجميع الأمة.

ولا يعارضه صبغه بالصفرة، عَلَى تسليم أنها منْ العصفر؛ لما تقرر فِي الأصول منْ أن فعله الخالي عن دليل التأسي الخاص، لا يعارض قوله الخاص بأمته، فالراجح تحريم الثياب المعصفرة، والعصفرُ وإن كَانَ يصبغ صبغا أحمر، كما قَالَ ابن القيم، فلا معارضة بينه وبين ما ثبت فِي "الصحيحين" منْ أنه كَانَ يلبس حلة حمراء؛ لأن النهي فِي هذه الأحاديث يتوجه إلى نوع خاص منْ الحمرة، وهي الحمرة الحاصلة عن صباغ العصفر، وسيأتي ما حكاه الترمذيّ عن أهل الْحَدِيث بمعنى هَذَا. انتهى "نيل الأوطار" 2/ 181 - 182.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الأرجح القول بتحريم لبس المعصفر عَلَى الرجال، كما سبق قريباً، ولا يستلزم ذلك تحريم المصبوغ بالصفرة؛ لما ذكر منْ أن ذلك جائز بحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما المتّفق عليه، فتبصّر.

(ومنها): أن فِي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما المتقدّم عند

ص: 71

أحمد، وأبي داود دليلاً عَلَى جواز لبس المعصفر للنساء. (ومنها): الإنكار عَلَى إحراق الثوب المنتفع به لبعض النَّاس، دون بعض؛ لأنه منْ إضاعة المال المنهي عنها، ولكنه يعارض هَذَا حديثه المذكور فِي الباب، فقد أمره النبيّ صلى الله عليه وسلم بالإحراق.

وَقَدْ جمع بعضهم بين الروايتين، بأنه أمر أولا بإحراقهما ندبا، ثم لما أحرقهما قَالَ له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لو كسوتهما بعض أهلك"، إعلاما له بأن هَذَا كَانَ كافيا لو فعله، وأن الأمر للندب.

قَالَ الشوكانيّ: ولا يخفى ما فِي هَذَا منْ التكلف الذي عنه مندوحة؛ لأن القضية لم تكن واحدة، حَتَّى يُجمع بين الروايتين بمثل هَذَا، بل هما قضيتان مختلفتان، وغايته أنه فِي إحدى القضيتين غلّظ عليه، وعاقبه، فأمره بإحراقهما، ولعل هذه المرة التي أمره فيها بالإحراق، كانت بعد تلك المرة التي أخبره فيها بأن ذلك غير واجب، وهذا وإن كَانَ بعيدا منْ جهة أن صاحب القصة يبعد أن يقع منه اللبس للمعصفر مرة أخرى، بعد أن سمع فيه ما سمع فِي المرة الأولى، ولكنه دون البعد الذي فِي الجمع الأول؛ لأن احتمال النسيان، وكذا احتمال عروض شبهة، توجب الظن بعدم التحريم، ولاسيما وَقَدْ وقعت منه المعاتبة عَلَى الإحراق.

قَالَ القاضي عياض: أَمرُه بإحراقهما منْ باب التغليظ والعقوبة. انتهى "نيل الأوطار" 2/ 182 - 183.

(ومنها): أنه احتج بمن يرى جواز المعاقبة بالمال، ولكن الراجح عدم جوازه إلا فيما ورد به النصّ، وَقَدْ تقدّم تمام البحث فيه فِي "كتاب الزكاة"، فارجع إليه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5320 -

(أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيًّا يَقُولُ: "نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ، وَعَنْ لَبُوسِ الْقَسِّيِّ، وَالْمُعَصْفَرِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَأَنَا رَاكِعٌ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"عيسى بن حمّاد": هو أبو موسى المصريّ، الملقب زُغبة، ثقة [10]. والسند مسلسلٌ بثقات المصريين إلى إبراهيم، ومنه مدنيّون.

وقوله: "لبوس القسيّ": بفتح اللام-: أي ما يُلبس منْ القسّيّ، قَالَ فِي "القاموس": اللِّبَاسُ، واللَّبُوسُ، واللِّبْسُ بالكسر، والْمَلْبَسُ، كمقعد، ومِنْبَر: ما يُلبس. انتهى. وتقدّم معنى "القَسّيّ"، و"الْمُعصفَر"، ومناسبة الْحَدِيث للباب واضحة، حيث إن فيه

ص: 72

النهي عن لبس المعصفر.

والحديث أخرجه مسلم، وَقَدْ تقدّم فِي "كتاب الصلاة" 97/ 1041. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌96 - (لُبْسِ الْخُضْرِ مِنَ الثِّيَابِ)

5321 -

(أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو نُوحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ إِيَادِ بْنِ لَقِيطٍ، عَنْ أَبِي رِمْثَةَ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "العبّاس بن محمد": هو الدُّوريّ، أبو الفضل البغداديّ، خُوَارَزْميّ الأصل، ثقة حافظ، منْ كبار [11] 102/ 135. و"أبو نوح": هو عبد الرحمن بن غَزْوان المعروف بقُرَاد الضبيّ، ثقة له أفراد [9] 75/ 5266. و"عبد الملك بن عُمير": هو الفرَسيّ الكوفيّ، ثقة فقيه، تغير حفظه، وربما دلّس [3] 41/ 947. و"إياد بن لقيط ": هو السدوسيّ، ثقة [4]. و"أبو رِمثة": قيل: اسمه رفاعة بن يَثْربيّ، ويقال: عكسه، ويقال: عمارة بن يثربيّ، وقيل: غير ذلك، صحابيّ مات بإفريقية.

والحديث صحيحٌ، وتقدّم فِي "صلاة العيدين" 16/ 1572. وتقدّم شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌97 - (لُبْسِ الْبُرُودِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هو: جمع بُردة بضم الموحّدة، وسكون الراء، بعدها

ص: 73

مهملة-: قَالَ الجوهريّ: كساء أسود، مربّع، فيه صور، تلبسه الأعراب. قاله فِي "الفتح" 11/ 452. والله تعالى أعلم بالصواب.

5322 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَيْسٌ، عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ، قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ، فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: "أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(يعقوب بن إبراهيم) الدَّوْرقيّ، أبو يوسف البغداديّ، ثقة حافظ [10] 21/ 22.

2 -

(محمد بن المثنى) الْعَنَزيّ، أبو موسى البصريّ، ثقة ثبت [10] 64/ 80.

3 -

(يحيى) بن سعيد القطّان، أبو سعيد البصريّ، ثقة ثبت حجة [9] 4/ 4.

4 -

(إسماعيل) بن أبي خالد البجليّ الأحمسيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبت [4] 13/ 471.

5 -

(قيس) بن أبي حازم البجليّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة مخضرم [2] 46/ 954.

6 -

(خبّاب بن الأرتّ) التميميّ، أبو عبد الله، الصحابيّ الشهير، منْ السابقين الأولين، وكان يُعذّب فِي الله، وشهد بدرًا، ثم نزل الكوفة، ومات بها رضي الله عنه سنة (37 هـ) وتقدّمت ترجمته فِي "كتاب المواقيت" 2/ 497. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين منْ إسماعيل. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ (ومنها): أن شيخيه منْ التسعة الذين يروي عنهم الجماعة بلا واسطة. (ومنها): أن قيسًا هو التابعي الذي انفرد بالرواية عن العشرة المبشَرين بالجنّة رضي الله تعالى عنهم، فلا يوجد منْ التابعين رَوَى عنهم جميعاً غيره. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ خَبَّابِ) بموحدتين الأولى مثقّلة (بْنِ الأَرَتِّ) بفتح الهمزة، والراء، وتشديد المثنّاة الفوقيّة- رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ) أي متكيء (بُرْدَةً لَهُ) بضم الموحّدة، وسكون الراء: كساء صغير، مربّع، ويقال: كساء أسود صغير. قاله فِي "المصباح"، وفي "القاموس": البُرْد بالضمّ: ثوب مُخطّط، جمعه أبراد، وبُرُود، وأكسية يُلتحف بها، الواحدة بهاء. انتهى والجملة فِي محل نصب عَلَى الحال. (فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: "أَلَا) بفتح الهمزة، وتخفيف اللام:

ص: 74

هي هنا للعرض، وهو طلب الشيء بلين، بخلاف التحضيض، فإنه طلبه بحثّ، وتختصّ "ألا" هذه بالجملة الفعلية، نحو قوله عز وجل:{أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} الآية [النور: 22]، وقوله:{أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} الآية [التوبة: 13]، ومنه هَذَا الْحَدِيث، ومنه عند الخليل قول الشاعر [منْ الوافر]:

أَلَا رَجُلاً جَزَاهُ اللهُ خَيْرًا

يَدُلُّ عَلَى مُحَصِّلَةٍ تَبِيتُ

والتقدير: ألا تُرُونني رجلاً هذه صفته.

(تَسْتَنْصِرُ لَنَا) أي تطلب لنا النصر عَلَى أعدائنا المشركين (أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا) بالنصر. والحديث مختصر، وَقَدْ ساقه البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" مطولاً، فَقَالَ:

3612 -

حدثني محمد بن المثنى، حدثنا يحيى، عن إسماعيل، حدثنا قيس، عن خباب بن الأرت، قَالَ: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له، فِي ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا، قَالَ: كَانَ الرجل فيمن قبلكم يُحفَر له فِي الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار، فيوضع عَلَى رأسه، فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه، منْ عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتِمَّنّ هَذَا الأمرُ، حَتَّى يسير الراكب منْ صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب عَلَى غنمه، ولكنكم تستعجلون".

وفي رواية له منْ طريق سفيان بن عيينة، عن بيان بن بشر، وإسماعيل بن خالد، كلاهما عن قيس، قَالَ: سمعت خبابا يقول: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة، وهو فِي ظل الكعبة، وَقَدْ لقينا منْ المشركين شدة، فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا تدعو الله، فقعد، وهو محمر وجهه، فَقَالَ: "لقد كَانَ منْ قبلكم، ليُمْشَط بمشاط الحديد ما دون عظامه، منْ لحم أو عصب

" الْحَدِيث.

وقوله: "منْ صنعاء الخ" يحتمل أن يريد صنعاء اليمن، وبينها وبين حضرموت منْ اليمن أيضًا مسافةٌ بعيدةٌ، نحو خمسة أيام. ويحتمل أن يريد صنعاء الشام، والمسافة بينهما أبعد بكثير، والأول أقرب، قَالَ ياقوت: هي قرية عَلَى باب دمشق، عند باب الفراديس، تتّصل بالعقيبة. قَالَ الحافظ: وسُمّيت باسم منْ نزلها منْ أهل صنعاء اليمن. قاله فِي "الفتح" 7/ 326. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث خبّاب بن الأرتّ رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه البخاريّ.

ص: 75

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -97/ 5322 - وفي "الكبرى" 94/ 9658. وأخرجه (خ) فِي "المناقب" 3612 و3852 و"الإكراه" 6943 (د) فِي "الجهاد" 2649 (أحمد) فِي "مسند القبائل" 2667. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز لبس البرود. (ومنها): جواز الاتّكاء. (ومنها): الصبر عَلَى مقساة الشدائد فِي الدعوة إلى الله تعالى. (ومنها): البشارة بالنصر والعزّ لمن صبر عَلَى دينه. (ومنها): أن فيه علمًا منْ أعلام النبوّة، فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه سيتمّ الله تعالى هَذَا الدين، ويكون المؤمنون آمنين، لا يخافون أعداءهم، وَقَدْ وقع ذلك كذلك بعد موته صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5323 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ بِبُرْدَةٍ، قَالَ سَهْلٌ: هَلْ تَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، هَذِهِ الشَّمْلَةُ، مَنْسُوجٌ فِي حَاشِيَتِهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي نَسَجْتُ هَذِهِ بِيَدِي، أَكْسُوكَهَا، فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا، وَإِنَّهَا لإِزَارُهُ).

رجال هَذَا الإسناد: أربعة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(يعقوب) بن عبد الرحمن بن محمد بن عبدٍ القاريّ المدنيّ، نزيل الإسكندريّة، حليف بني زُهرة، ثقة [8] 45/ 739.

3 -

(أبو حازم) سلمة بن دينار التمار الأعرج المدنيّ، ثقة عابد [5] 40/ 44.

4 -

(سهل بن سعد) بن مالك بن خالد الأنصاريّ الخزرجيّ الساعديّ، أبو العبّاس، الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما، مات رضي الله عنه سنة (88) وقيل: بعدها، وَقَدْ جاوز المائة. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (253) منْ رباعيّات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات المدنيين، غير شيخه، والظاهر أنه دخلها. (ومنها): أن صحابيه آخر منْ مات منْ الصحابة بالمدينة، وهو منْ المعمّرين، فقد جاوز عمره المائة، كما سبق آنفاً، وقيل: آخر منْ مات بها السائب بن يزيد رضي الله عنه مات سنة (91) وقيل: قبل ذلك. والله تعالى أعلم.

ص: 76

شرح الْحَدِيث

(عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) الساعديّ رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ) لا يعرف اسمها، قاله فِي "الفتح"(بِبُرْدَةٍ، قَالَ سَهْلٌ) رضي الله عنه (هَلْ تَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، هَذِهِ الشَّمْلَةُ) بفتح، فسكون: كساء صغير يُؤتر به، والجمع شَمَلات، مثلُ سَجْدة وسَجَدات، وشِمال أيضاً، مثلُ كلبة وكلاب. وَقَالَ فِي "الفتح": فِي تفسير البردة بالشملة تجوّز؛ لأن البردة كساء، والشملة ما يُشتَمَل به، فهي أعم، لكن لما كَانَ أكثر اشتمالهم بها، أطلقوا عليها اسمها (مَنْسُوجٌ فِي حَاشِيَتِهَا) قَالَ الداودي: يعني أنها لم تُقطع منْ ثوب، فتكونَ بلا حاشيه، وَقَالَ غيره: حاشية الثوب: هدبه، فكأنه قَالَ: إنها جديدة لم يقطع هدبها، ولم تُلبَس بعدُ، وَقَالَ القزاز: حاشيتا الثوب: ناحيتاه اللتان فِي طرفهما الهدب.

(فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي نَسَجْتُ) منْ باب ضرب: أي صنعت (هَذِهِ) الشملة (بِيَدِي، أَكْسُوكَهَا، فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مُحْتَاجًا إِلَيْهَا) كأنهم عرفوا ذلك بقرينة حال، أو تقدّم قول صريح (فَخَرَجَ إِلَيْنَا، وَإِنَّهَا لإِزَارُهُ) وفي رواية ابن ماجه، عن هشام بن عمار، عن عبد العزيز:"فخرج إلينا فيها"، وفي رواية هشام بن سعد، عن أبي حازم، عند الطبراني:"فاتزر بها، ثم خرج".

[تنبيه]: هَذَا الْحَدِيث مختصر، وتمامه، كما عند البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه":"فحسّنها فلان، فَقَالَ: اكسنيها، ما أحسنها، قَالَ القوم: ما أحسنت، لبسها النبيّ صلى الله عليه وسلم مُحتاجاً إليها، ثم سألته، وعلمت أنه لا يردّ، قَالَ: إني والله ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كفني، قَالَ: سهلٌ: فكانت كفنه". انتهى.

وينبغي لي أن أذكر شرحه تكميلاً للفائدة، قَالَ فِي "الفتح":

"قوله": "فحسنها فلان، فَقَالَ اكسنيها، ما أحسنها": كذا فِي جميع الروايات هنا بالمهملتين، منْ التحسين، وللمصنف فِي "اللباس" منْ طريق يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم:"فجَسّها" بالجيم بغير نون، وكذا للطبراني، والإسماعيلي، منْ طريق أخرى عن أبي حازم.

وقوله: "فلان": أفاد المحب الطبري فِي "الأحكام" له: أنه عبد الرحمن بن عوف، وعزاه للطبراني، قَالَ الحافظ: ولم أره فِي "المعجم الكبير"، لا فِي مسند سهل، ولا عبد الرحمن، ونقله شيخنا ابن الملقن، عن المحب فِي "شرح العمدة"، وكذا قَالَ لنا شيخنا الحافظ، أبو الحسن الهيثمي: إنه وقف عليه، لكن لم يستحضر مكانه، ووقع لشيخنا ابن الملقن فِي "شرح التنبيه": أنه سهل بن سعد، وهو غلط، فكأنه التبس عَلَى

ص: 77

شيخنا اسم القائل باسم الراوي، نعم أخرج الطبراني الْحَدِيث المذكور، عن أحمد بن عبد الرحمن بن يسار، عن قتيبة بن سعيد، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن سهل، وَقَالَ فِي آخره: قَالَ قتيبة: هو سعد بن أبي وقاص. انتهى. وَقَدْ أخرجه البخاريّ فِي "اللباس"، والنسائي فِي "الزينة" عن قتيبة، ولم يذكرا عنه ذلك، وَقَدْ رواه ابن ماجه بسنده المتقدم، وَقَالَ فيه:"فجاء فلان، رجل سماه يومئذ"، وهو دال عَلَى أن الراوي كَانَ ربما سماه، ووقع فِي رواية أخرى للطبراني، منْ طريق زمعة بن صالح، عن أبي حازم، أن السائل المذكور أعرابي، فلو لم يكن زمعة ضعيفا، لانتفى أن يكون هو عبد الرحمن بن عوف، أو سعد بن أبي وقاص، أو يقال تعددت القصة، عَلَى ما فيه منْ بعد. والله أعلم.

وقوله: "ما أحسنها": بنصب النون، و"ما" للتعجب، وفي رواية ابن ماجه، والطبراني منْ هَذَا الوجه، قَالَ:"نعم، فلما دخل طواها، وأرسل بها إليه"، وهو للبخاريّ فِي "اللباس" منْ طريق يعقوب بن عبد الرحمن، بلفظ:"فَقَالَ: نعم، فجلس ما شاء الله فِي المجلس، ثم رجع، فطواها، ثم أرسل بها إليه".

وقوله: "قَالَ القوم: ما أحسنت": "ما": نافيه، وَقَدْ وقعت تسمية المعاتب له منْ الصحابة، فِي طريق هشام بن سعد المذكورة، ولفظه:"قَالَ سهل: فقلت للرجل: لم سألته، وَقَدْ رأيت حاجته إليها؟ فَقَالَ: رأيت ما رأيتم، ولكن أردت أن أخبأها، حَتَّى أكفن فيها". وقوله: "أنه لا يرد": كذا وقع هنا بحذف المفعول، وثبت فِي رواية ابن ماجه بلفظ:"لا يرد سائلا"، ونحوه فِي رواية يعقوب عند البخاريّ فِي "البيوع"، وفي رواية أبي غسان فِي "الأدب":"لا يسأل شيئا فيمنعه".

وقوله: "ما سألته لألبسها": فِي رواية أبي غسان: "فَقَالَ: رجوت بركتها، حين لبسها النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وأفاد الطبراني فِي رواية زمعة بن صالح:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أمر أن يصنع له غيرها، فمات قبل أن تفرغ". انتهى "فتح" 3/ 486 - 488. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -97/ 5323 - وفي "الكبرى" 94/ 9659. وأخرجه (خ) فِي "الجنائز" 1277 و"البيوع" 2092 و"اللباس" 5810 و"الأدب" 6036 (ق) فِي "اللباس" 3555

ص: 78

(أحمد) فِي "باقي الأنصار"22318. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز لبس البرود. (ومنها): حسن خلق النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسعة جوده. (ومنها): استحباب قبوله الهدية. (ومنها): ما استنبطه المهلب منه، وهو جواز ترك مكافأة الفقير عَلَى هديته. وتُعُقّب بأنه ليس ذلك بظاهر منه، فإن المكافاة كانت عادة النبيّ صلى الله عليه وسلم مستمرة، فلا يلزم منْ السكوت عنهاهنا، أن لا يكون فعلها، بل ليس فِي سياق هَذَا الْحَدِيث الجزم بكون ذلك كَانَ هدية، فيحتمل أن تكون عرضتها عليه؛ ليشتريها منها. (ومنها): جواز الاعتماد عَلَى القرائن، ولو تجردت، لقولهم:"فأخذها محتاجا إليها"، وفيه نظر؛ لاحتمال أن يكون سبق لهم منه قول، يدلّ عَلَى ذلك، كما تقدّم. (ومنها): الترغيب فِي المصنوع بالنسبة إلى صانعه، إذا كَانَ ماهرا، ويحتمل أن تكون أرادت بنسبته إليها، إزالة ما يخشى منْ التدليس. (ومنها): جواز استحسان الإنسان ما يراه عَلَى غيره، منْ الملابس، وغيرها، إما لِيُعرّفه قدرها، وإما لِيُعَرِّض له بطلبه منه، حيث يسوغ له ذلك. (ومنها): أنّ فيه مشروعية الإنكار عند مخالفة الأدب ظاهرا، وإن لم يبلغ المنكر درجة التحريم. (ومنها): التبرك بآثار النبيّ صلى الله عليه وسلم. (ومنها): ما قاله ابن بطال: فيه جواز إعداد الشيء قبل وقت الحاجة إليه، قَالَ: وَقَدْ حفر جماعة منْ الصالحين قبورهم قبل الموت. وتعقبه الزين ابن المنير: بأن ذلك لم يقع منْ أحد منْ الصحابة، قَالَ: ولو كَانَ مستحبا لكثر فيهم. وَقَالَ بعض الشافعيّة: ينبغي لمن أعَدَّ شيئا منْ ذلك، أن يجتهد فِي تحصيله منْ جهة يثق بحلها، أو منْ أثر منْ يعتقد فيه الصلاح والبركة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌98 - (الأَمْرِ بِلُبْسِ الْبِيضِ مِنَ الثِّيَابِ)

5324 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ أَبِي عَرُوبَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ، عَنْ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم،

ص: 79

قَالَ: "الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ، فَإِنَّهَا أَطْهَرُ، وَأَطْيَبُ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ". قَالَ يَحْيَى: لَمْ أَكْتُبْهُ، قُلْتُ: لِمَ؟ قَالَ: اسْتَغْنَيْتُ بِحَدِيثِ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ، عَنْ سَمُرَةَ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا. و"عمرو بن عليّ": هو الفلّاس. و"يحيى بن سعيد": هو القطّان. و"أيوب": هو ابن أبي تميمة السختيانيّ البصريّ. و"أبو قِلابة": هو عبد الله بن زيد بن عمرو الجرميّ البصريّ. و"أبو الْمُهَلَّب": هو عمرو، أو عبد الرحمن بن معاوية، أو ابن عمرو، وقيل: النضر، وقيل: معاوية، ثقة [2].

وقوله: "فإنها أطهر وأطيب": أي لأنه يلوح فيها أدنى وسخ، فيُزال، بخلاف سائر الألوان.

وقوله: (قَالَ يَحْيَى) أي ابن سعيد القطّان (لَمْ أَكْتُبْهُ) أي لم أكتب هَذَا الْحَدِيث بهذا السند قَالَ عمرو بن عليّ (قُلْتُ: لِمَ؟) أي لِم لم تكتبه؟ (قَالَ: اسْتَغْنَيْتُ بِحَدِيثِ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ) الرَّبعيّ، أبي نصر الكوفيّ، صدوقٌ، كثير الإرسال [3] 43/ 2224 (عَنْ سَمُرَةَ) بن جندب رضي الله عنه يعني أنه استغنى عن كتابة هَذَا الْحَدِيث منْ طريق سعيد بن أبي عروبة، عن أيوب بكتابة حديث ميمون بن أبي شبيب، وحديث ميمون لم يذكره هنا، وإنما أخرجه فِي "الكبرى": 5/ 477 قَالَ:

9642 -

أخبرنا أبو الأشعث، أحمد بن المقدام العجليّ، عن يزيد بن زريع، قَالَ: ثنا سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ميمون بن أبي شبيب، عن سمرة بن جندب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"البسوا الثياب البياض، وكفنوا فيها أمواتكم، فإنها أطيب وأطهر".

9643 -

أخبرنا عليّ بن حجر، قَالَ: ثنا إسماعيل -يعني ابن علية- وعبيد الله بن عمرو الرَّقّيّ، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن سمرة بن جندب، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بثياب البياض، ليلبسها أحياؤكم، وكفنوا فيها موتاكم، فإنها منْ خير ثيابكم". ثم أورد رواية حماد بن زيد الآتية بعد هَذَا.

والظاهر أن يحيى بن سعيد يرى ترجيح رواية ميمون بن أبي شبيب عَلَى رواية أبي الْمُهلّب؛ لوقوع الاختلاف فيها، فقد رواه إسماعيل ابن عليّة، وعُبيد الله بن عمرو الرّقّيّ، وحماد بن زيد، ثلاثتهم عن أيوب، عن أبي قلابة، عن سمرة، وخالفهم سعيد ابن أبي عروبة، فرواه عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عمه أبي المهلّب، عن سمرة. لكن لم يظهر لي وجه ترجيح رواية ميمون؛ إذ الظاهر أن رواية هؤلاء الثلاثة أرجح، ولاسيما وَقَدْ قَالَ عمرو بن عليّ الفلّاس -كما فِي "تهذيب التهذيب" 4/ 198: وليس

ص: 80

يقول فِي شيء منْ حديثه: "سمعت"، ولم أُخبّر أن أحداً يزعم أنه سمع منْ الصحابة. انتهى.

فالذي يظهر أن رواية أبي قلابة، عن سمرة هي الراجحة؛ لأن سماع أبي قلابة عن سمرة ثابت، كما فِي "تهذيب التهذيب" 2/ 340. فليُتأمّل. والله تعالى أعلم.

والحديث صحيحٌ، وَقَدْ تقدّم فِي "كتاب الجنائز" 38/ 1896. ومضى شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5325 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكُمْ بِالْبَيَاضِ مِنَ الثِّيَابِ، فَلْيَلْبَسْهَا أَحْيَاؤُكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ، فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا أيضاً. و"حماد": هو ابن زيد.

والحديث صحيح، كما سبق بيانه فِي الْحَدِيث الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌99 - (لُبْسُ الأَقْبِيَةِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الأَقبية" -بالفتح: جمع قَبَاء بالمدّ- قَالَ الفيّوميّ: والقباء عربيّ، والجمع أقبيةٌ، وكأنه مشتقٌ منْ قبوتُ الحرف أَقْبُوه قَبْواً: إذا ضممته. انتهى.

وَقَالَ الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه": "باب القباء، وفَرُّوج حرير، وهو القباء، ويقال: هو الذي له شِقّ منْ خلفه". انتهى.

قَالَ فِي "الفتح" 11/ 444: قوله: "القباء" -بفتح القاف، وبالموحدة، ممدود، فارسي، مُعَرَّب، وقيل: عربي، واشتقاقه منْ القَبْو: وهو الضم.

وقوله: "وفَرُّوج حرير" -بفتح الفاء، وتشديد الراء المضمومة، وآخره جيم-.

وقوله: "وهو القباء": ووقع كذلك مُفَسَّرا فِي بعض طرق الْحَدِيث، كما سأبينه

ص: 81

وقوله: "ويقال: هو الذي له شق منْ خلفه"، أي فهو قباء مخصوص، وبهذا جزم أبو عبيد، ومن تبعه منْ أصحاب الغريب؛ نظرا لاشتقاقه، وَقَالَ ابن فارس: هو قميص الصبي الصغير، وَقَالَ القرطبيّ: القباء، والفروج كلاهما ثوب ضيق الكمين، والوسط مشقوق منْ خلف، يُلبَس فِي السفر والحرب؛ لأنه أعون عَلَى الحركة. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.

5326 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْبِيَةً، وَلَمْ يُعْطِ مَخْرَمَةَ شَيْئًا، فَقَالَ مَخْرَمَةُ: يَا بُنَيَّ انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، قَالَ: ادْخُلْ، فَادْعُهُ لِي، قَالَ: فَدَعَوْتُهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، وَعَلَيْهِ قِبَاءٌ مِنْهَا، فَقَالَ: "خَبَّأْتُ هَذَا لَكَ"، فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَلَبِسَهُ مَخْرَمَةُ).

رجال هَذَا الإسناد: أربعة:

1 -

(قتيبة بن سعيد) المذكور فِي الباب الماضي.

2 -

(الليث) بن سعد الفهميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقة ثبت إمام [7] 31/ 35.

3 -

(ابن أبي مُليكة) هو عبد الله بن عُبيد الله بن عبد الله بن أبي مُليكة زُهير بن عبد الله بن جُدعان التيميّ المكيّ، ثقة فقيه، أدرك ثلاثين منْ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم[3] 101/ 132.

4 -

(الْمِسْوَر بن مخرمة) الزهريّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما، مات سنة (64)، وتقدّمت ترجمته فِي 37/ 936. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (254) منْ رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه مصريين، وهما: شيخه، والليث، ومكيّ، وهو ابن أبي مليكة، ومدنيّ، وهو المسور رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) فِي رواية أحمد، عن أبي النضر هاشم، عن الليث، حدثني عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة (عَنِ الْمِسْوَرِ) بكسر الميم، وسكون السين المهملة، وفتح الواو (ابْنِ مَخْرَمَةَ) بفتح الميم، وسكون الخاء المعجمة، وفتح الراء- الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما.

[تنبيه]: قوله: "عن المسور بن مَخْرَمة الخ": هكذا أسنده الليث بن سعد، وتابعه

ص: 82

حاتم بن وردان، عن أيوب، عن ابن أبي مُليكة، كما عند البخاريّ فِي "الشهادات"، وأرسله حماد بن زيد، كما عنده أيضًا فِي "الخمس"، وتابعه ابن عليّة، كما عنده أيضًا فِي "الأدب"، كلاهما عن أيوب، وَقَدْ رجّح الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى الموصول؛ لحفظ منْ وصله. أفاده فِي "الفتح" 6/ 353 فِي "كتاب فرض الخمس"، و11/ 444 "كتاب اللباس".

(قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْبِيَةً) وفي رواية حاتم المذكورة: "قَدِمت عَلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم أقبيةٌ"، وفي رواية حماد:"أُهديت للنبيّ صلى الله عليه وسلم أقبية منْ ديباج، مزرورة بالذهب، فقسمها فِي ناس منْ أصحابه".

(وَلَمْ يُعْطِ مَخْرَمَةَ شَيْئًا) أي فِي حال تلك القسمة، وإلا فقد وقع فِي رواية حماد بن زيد، عند البخاريّ متصلا بقوله:"منْ أصحابه، وعزل منها واحدا لمخرمة".

ومخرمة هو والد المسور وهو ابن نوفل الزهريّ، كَانَ منْ رؤساء قريش، ومن العارفين بالنسب، وأنصاب الحرم، وتأخر إسلامه إلى الفتح، وشهد حنينا، وأُعطي منْ تلك الغنيمة مع المؤلفة، ومات سنة أربع وخمسين، وهو ابن مائة وخمس عشرة سنة، ذكره ابن سعد. قاله فِي "الفتح" 11/ 444.

وفي "الإصابة" 6/ 50: 7845 - مخرمة بن نوفل بن أُهيب بن عبد مناف بن زُهرة ابن كلاب، أبو صفوان، وأبو المسور الزهريّ، أمه رُقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، وهو والد المسور بن مخرمة الصحابيّ المشهور، قَالَ الزبير بن بكار: كَانَ منْ مسلمة الفتح، وكانت له سن عالية، وعلم بالنسب، فكان يؤخذ عنه النسب. وزاد ابن سعد: وكان عالما بأنصاب الحرم، فبعثه عمر، هو وسعيد ابن يربوع، وأزهر بن عبد عوف، وحويطب بن عبد العزى، فجددوها، وذكر أن عثمان بعثهم أيضًا، وأخرج الزبير بن بكار، منْ حديث ابن عبّاس: أن جبريل عليه السلام أَرى إبراهيم عليه السلام، أنصاب الحرم، فنصبها، ثم جددها إسماعيل عليه السلام، ثم جددها قصي بن كلاب، ثم جددها النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم بعث عمر الأربعة المذكورين، فجددوها، وفي سنده عبد العزيز بن عمران، وفيه ضعف. انتهى المقصود منْ "الإصابة" 6/ 50.

(فَقَالَ مَخْرَمَةُ: يَا بُنَيَّ) بضم أوله: تصغير "ابن"(انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية حاتم: "عسى أن يُعطينا منها شيئًا"(فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، قَالَ: ادْخُلْ، فَادْعُهُ لِي) فِي رواية حاتم: "فقام أبي عَلَى الباب، فتكلم، فعرف النبيّ صلى الله عليه وسلم صوته"، قَالَ ابن التين: لعل خروج النبيّ صلى الله عليه وسلم، عند سماع صوت مخرمة، صادف دخول المسور إليه. (قَالَ: فَدَعَوْتُهُ) أي النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَخَرَجَ إِلَيْهِ) أي إلى مخرمة (وَعَلَيْهِ قِبَاءٌ مِنْهَا) جملة فِي

ص: 83

محل نصب عَلَى الحال.

ثم إن ظاهره استعمالُ الحرير، قيل: ويجوز أن يكون قبل النهي، ويحتمل أن يكون المواد أنه نشره عَلَى أكتافه؛ ديراه مخرمة كُلَّه، ولم يقصد لبسه، ولا يتعين -كما قَالَ الحافظ- كونه عَلَى أكتافه، بل يكفي أن يكون منشورا عَلَى يديه، فيكون قوله:"عليه" منْ إطلاق الكل عَلَى البعض، وَقَدْ وقع فِي رواية حاتم:"فخرج، ومعه قباء، وهو يريه محاسنه"، وفي رواية حماد:"فتلقاه به، واستقبله بأزراره".

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (خَبَّأْتُ هَذَا لَكَ) وفي رواية حاتم، تكرار ذلك، زاد فِي رواية حماد:"يا أبا المسور"، هكذا دعاه أبا المسور، وكأنه عَلَى سبيل التأنيس له، ذكر ولده الذي جاء صحبته، وإلا فكنيته فِي الأصل أبا صفوان، وهو أكبر أولاده، ذكر ذلك ابن سعد.

(فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَلَبِسَهُ مَخْرَمَةُ) هكذا رواية المصنّف رحمه الله تعالى، فيكون كلٌّ منْ "نظر"، و"لبس" قد تنازعا فِي "مخرمة"، عَلَى الفاعلية، وفي رواية البخاريّ:"فنظر إليه مخرمة، فَقَالَ: رضي مخرمة"، قَالَ فِي "الفتح": زاد فِي رواية هاشم: "فأعطاه إياه"، وجزم الداودي أن قوله:"رضي مخرمة" منْ كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى جهة الاستفهام: أي هل رضيت؟ وَقَالَ ابن التين: يحتمل أن يكون منْ قول مخرمة، قَالَ الحافظ: وهو المتبادر للذهن. وزاد حماد فِي آخر الْحَدِيث: "وكان فِي خلقه شدة". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث المِسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنهما هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -99/ 5326 - وفي "الكبرى" 95/ 9663. وأخرجه (خ) فِي "الهبة" 2599 و"الشهادات" 2657 و"فرض الخمس" 3127 و"اللباس" 5800 و"الأدب" 6132 (م) فِي "الزكاة" 1058 (د) فِي "اللباس" 4028 (ت) "الأدب" 2818. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز لبس الأقبية.

(ومنها): استئلاف منْ كَانَ سيّء الأخلاق بالعطية، والكلام الطيب، كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم مع مخرمة، حيث كَانَ فِي خلقه شدّة. (ومنها): أن فيه الاكتفاء فِي الهبة بالقبض. (ومنها): أن البخاريّ رضي الله عنه استدلّ به عَلَى جواز شهادة الأعمى؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، عرف

ص: 84

صوت مخرمة، فاعتمد عَلَى معرفته به، وخرج إليه، ومعه القباء الذي خبأه له. (ومنها): أن بعض المالكية استنبط منه جواز الشهادة عَلَى الخط. وتُعُقّب بأن الخطوط تشتبه أكثر مما تشتبه الأصوات. (ومنها): أن فيه ردًّا عَلَى منْ زعم أن المسور لا صحبة له. قاله فِي "الفتح" 11/ 445. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌100 - (لُبْسِ السَّرَاوِيلِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "السراويل": فارسيّ مُعرّبٌ، يذكّر، ويؤنّث، ولم يعرف الأصمعي فيها إلا التأنيث، قَالَ قيس بن عُبادة:

أَرَدتُ لِكَيْمَا يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهَا

سَرَاوِيلُ قَيْسٍ وَالْوُفُودُ شُهُودُ

وَأَنْ لا يَقُولُوا غَابَ قَيْسٌ وَهَذِهِ

سَرَاوِيلُ عَادِيٍّ نَمَتْهُ ثَمُودُ

قَالَ ابن سِيدهْ: بلغنا أن قيساً طاول رُوميّا بين يدي معاوية، أو غيره منْ الأمراء، فتجرّد قيسٌ منْ سراويله، وألقاها إلى الروميّ، ففَضِلَت عنه، فعل ذلك بين يدي معاوية، فَقَالَ هذين البيتين، يعتذر منْ إلقاء سراويله فِي المشهد المجموع. وَقَالَ الليث:"السروايل": أعجميّة، أُعربت، وأُنّثت، والجمع سراويلات. قَالَ سيبويه: ولا يُكسّر؛ لأنه لو كُسّر لم يرجع إلا إلى لفظ الواحد، فتُرك، وَقَدْ قيل: سراويل جمعٌ واحدته سِرْوالةٌ، قَالَ:

عَلَيْهِ مِنَ اللُّؤْمِ سِرْوَالَةٌ

فَلَيْسَ يَرِقُّ لِمُسْتَعطِفِ

وَقَالَ سيبويه: سراويل واحدة، وهي أعجميّة أُعربت، فأشبهت منْ كلامهم ما لا ينصرف فِي معرفة، ولا نكرة، قَالَ: وإن سمّيت بها رجلاً لم تصرفها، وكذلك إن حقّرتها -أي صغّرتها- اسم رجل؛ لأنها مؤنّثة عَلَى أكثر منْ ثلاثة أحرف، مثلُ عناق. أفاده فِي "لسان العرب".

وإلى ذلك أشار ابن مالك فِي "الخلاصة"، حيث قَالَ بعد ذكر صيغتي منتهى الجموع:

وَلِسَرَاوِيلَ بِهَذَا الْجَمْعِ

شَبَهٌ اقْتَضَى عُمُومَ الْمَنْعِ

ص: 85

والله تعالى أعلم بالصواب.

5327 -

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ بِعَرَفَاتٍ، فَقَالَ: "مَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"محمد": هو ابن جعفر المعروف بغندر. و"جابر بن زيد": هو أبو الشعثاء الأزديّ البصريّ الثقة الفقيه [3]. والسند مسلسل بثقات البصريين، غير عمرو بن دينار، فإنه مكيّ، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

والحديث متَّفقٌ عليه، وتقدّم فِي "كتاب الحجّ" 32/ 2671 وَقَدْ استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. واستدلال المصنّف رحمه الله تعالى عَلَى ما ترجم له هنا واضحة، حيث أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم المحرم الذي لا يجد الإزار أن يلبس السراويل، فدلّ عَلَى أنه منْ الثياب التي يجوز لبسها. لكن الْحَدِيث مقيد بالمحرم، إذا لم يجد إزارًا، وَقَدْ أجاد فِي "الكبرى" 5/ 482 حيث ترجم بقوله:"السراويل":

9670 -

أخبرنا يعقوب بن إبراهيم، عن عبد الرحمن، عن سفيان، عن سماك، عن سويد بن قيس، قَالَ: جلبت أنا ومَخْرَفة العبدي بَزّا منْ هَجَر، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن بمنى، ووزان يزن بالأجر، فاشترى منا سراويلا، فَقَالَ للوزان:"زِنْ، وأَرْجِحْ".

"عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. و"سفيان": هو الثوريّ. و"سماك": هو ابن حرب. والحديث صحيح، وَقَدْ تقدّم فِي "المجتبى" فِي "كتاب البيوع" 54/ 4594.

9671 -

أخبرنا محمود بن غيلان، قَالَ: ثنا أبو داود، قَالَ: أنا شعبة، عن سماك، قَالَ: سمعت أبا صفوان، يقول: بعت منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم رِجْلا منْ سراويل، قبل الهجرة بثلاثة دراهم، فوزن لي، فأرجح لي.

9672 -

أخبرنا محمد بن المثنى، ومحمد بن بشار، عن محمد، قَالَ: ثنا شعبة، عن سماك بن حرب، قَالَ: سمعت مالكا أبا صفوان بن عميرة، قَالَ: بعت منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل سراويل، قبل الهجرة، فأرجح لي.

والحديث صحيح، وَقَدْ تقدّم فِي "المجتبى" فِي "البيوع" أيضًا 54/ 4595.

9673 -

أخبرني إبراهيم بن يعقوب، قَالَ: حدثني سهل بن حماد، وأبو عَتّاب الدلال، قَالَ: ثنا شعبة، قَالَ: ثنا سماك بن حرب، قَالَ: سمعت مالكا أبا صفوان، يقول: أتيت مكة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بها، فاشترى مني رجل سراويل، فوزن، فأرجح.

ص: 86

ثم ساق حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما المذكور فِي الباب، ثم قَالَ:"لبس السراويل لمن لم يجد الإزار"

9675 -

أخبرني عمرو بن منصور، قَالَ: ثنا أبو نعيم، قَالَ: ثنا سفيان، عن عمرو ابن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عبّاس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"منْ لم يجد إزارا، فليلبس سراويل، ومن لم يجد نعلين، فليلبس خفين". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌101 - (التَّغْلِيظِ فِي جَرِّ الإِزَارِ)

5328 -

(أَخْبَرَنَا وَهْبُ بْنُ بَيَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ سَالِمًا أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "بَيْنَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ مِنَ الْخُيَلَاءِ، خَسَفَ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(وهب بن بيان) أبو عبد الله الواسطيّ، نزيل مصر، ثقة عابد [10] 20/ 1399.

2 -

(ابن وهب) عبد الله المصريّ، ثقة حافظ عابد [9] 9/ 9.

3 -

(يونس) بن يزيد الأيليّ، أبو يزيد، ثقة [7] 9/ 9.

4 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهريّ الإمام الحجة الثبت [4] 1/ 1.

5 -

(سالم) بن عبد الله بن عمر المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت عابد 23/ 490.

6 -

(عبد الله بن عمر) بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به هو، وأبو داود. (ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بثقات المصريين، والثاني بثقات المدنيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه. (ومنها): أن فيه سالماً أحد الفقهاء السبعة عَلَى بعض الأقوال. والله تعالى أعلم.

ص: 87

شرح الْحَدِيث

عن سالم بن عبد الله رحمه الله تعالى (أَنَّ) أباه (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ) بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما (حَدَّثَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "بَيْنَا) وفي نسخة: "بينما"(رَجُلٌ) زاد مسلم فِي حديث أبي هريرة رضي الله عنه-منْ طريق أبي رافع عنه: "ممن كَانَ قبلكم"، وَقَدْ أخرجه أحمد منْ حديث أبي سعيد، وأبو يعلى منْ حديث أنس، وفي روايتهما أيضًا:"ممن كَانَ قبلكم"، وبذلك جزم النوويّ، وأما ما أخرجه أبو يعلى منْ طريق كريب، قَالَ: كنت أقود ابن عبّاس، فَقَالَ: حدثني العبّاس، قَالَ: "بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل رجل يتبختر بين ثوبين

" الْحَدِيث، فهو ظاهر فِي أنه وقع فِي زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسنده ضعيف، والأول صحيح. ويحتمل التعدد، أو الجمع بأن المراد منْ كَانَ قبل المخاطبين بذلك، كأبي هريرة، فقد أخرج أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو يعلى، وأصله عند أحمد، ومسلم: "أن رجلا منْ قريش أتى أبا هريرة، فِي حلة يتبختر فيها، فَقَالَ: يا أبا هريرة، إنك تكثر الْحَدِيث، فهل سمعته يقول فِي حلتي هذه: شيئا؟ فَقَالَ: والله إنكم لتؤذوننا، ولولا ما أخذ الله عَلَى أهل الكتاب ليبيننه للناس، ولا يكتمونه، ما حدثتكم بشيء، سمعت

" فذكر الْحَدِيث، وَقَالَ فِي آخره: "فوالله ما أدري لعله كَانَ منْ قومك". وذكر السهيلي فِي "مبهمات القرآن" فِي "سورة والصافات" عن الطبري أن اسم الرجل المذكور الهيزن، وأنه منْ أعراب فارس، وهذا أخرجه الطبري فِي "التاريخ" منْ طريق ابن جريج، عن شعيب الجياني. وجزم الكلاباذي فِي "معاني الأخبار" بأنه قارون، وكذا ذكر الجوهري فِي "الصحاح"، وكأن المستند فِي ذلك ما أخرجه الحارث بن أبي أسامة، منْ حديث أبي هريرة، وابن عبّاس، بسند ضعيف جدا، قالا: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الْحَدِيث الطويل، وفيه: "ومن لبس ثوبا، فاختال فيه، خُسف به منْ شفير جهنم، فيتجلجل فيها؛ لأن قارون لبس حلة، فاختال فيها، فخسف به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة". وروى الطبري فِي "التاريخ" منْ طريق سعيد ابن أبي عروبة، عن قتادة، قَالَ: ذُكر لنا أنه يُخسف بقارون كل يوم قامة، وأنه يتجلجل فيما لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة".

(يَجُرُّ إِزَارَهُ) قَالَ فِي "الفتح": الاقتصار عَلَى الإزار، لا يدفع وجود الرداء، وإنما خص الإزار بالذكر؛ لأنه هو الذي يظهر به الخيلاء غالبا. انتهى.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "يمشي فِي حلة"، والحلة ثوبان أحدهما فوق الآخر، وقيل: إزار ورداء، وهو الأشهر، ووقع فِي رواية الأعرج وهمام جميعا عن أبي هريرة، عند مسلم:"بينما رجل يتبختر فِي برديه". وفي حديث أبي سعيد، عند أحمد، وأنس

ص: 88

عند أبي يعلى: "خرج فِي بردين، يختال فيهما".

(مِنَ الْخُيَلَاءِ)"منْ" تعليليّة: أي لأجل الخيلاء، وهو بضمّ الخاء المعجمة، وتخفيف المثنّاة التحتيّة، والمدّ-: الكبر، والإعجاب بالنفس، ومنه سُمّيت الخيل؛ لاختيالها، وهو إعجابها بنفسها مَرَحًا. وَقَالَ النوويّ: قَالَ العلماء: الخيلاء بالمدّ، والْمَخِيلة، والْبَطَرُ، والكِبرُ، والزهو، والتبختر كلها بمعنًى واحد، وهو حرام، ويقال: خال الرجل خالاً، واختال اختيالاً: إذا تكبّر، وهو رجل خال: أي متكبّرٌ، وصاحب خال: أي صاحب كبر. انتهى "شرح مسلم" 14/ 61.

وَقَالَ القرطبيّ: المشهور فِي "الخيلاء" بضم الخاء، وَقَدْ قيلت بكسرها. انتهى "المفهم" 5/ 405.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاريّ: "تُعجبه نفسه"، وفي رواية:"فأعجبته جُمّته، وبُرداه".

قَالَ القرطبيّ: إعجاب المرء بنفسه، هو ملاحظته لها بعين الكمال، مع نسيان نعمة الله، فإن احتقر غيره مع ذلك، فهو الكبر المذموم. انتهى.

(خُسِفَ بِهِ) بالبناء للمفعول، يقال: خَسَفَ المكانُ خَسْفاً، منْ باب ضرب، وخُسُوفًا أيضًا: غار فِي الأرض، وخسفه الله يتعدّى، ولا يتعدّى. قاله الفيّوميّ.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "إذ خسف الله به"، وفي رواية:"فخسف الله به الأرض"، والأول أظهر فِي سرعة وقوع ذلك به.

(فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ") وفي رواية الربيع بن مسلم، عند مسلم:"فهو يتجلجل فِي الأرض حَتَّى تقوم الساعة"، ومثله فِي رواية أبي رافع، ووقع فِي رواية همام، عن أبي هريرة، عند أحمد:"حَتَّى يوم القيامة".

و"التجلجل"- بجيمين-: التحرك، وقيل: الجلجلة الحركة مع صوت، وَقَالَ ابن دُريد: كل شيء خلطت بعضه ببعض، فقد جلجلته، وَقَالَ ابن فارس: التجلجل: أن يسوخ فِي الأرض، مع اضطراب شديد، ويندفع منْ شق إلى شق.

فالمعنى يتجلجل فِي الأرض: أي ينزل فيها مضطربا، متدافعا. وحكى عياض أنه رُوي "يَتَجَلَّل" بجيم واحدة، ولام ثقيلة، وهو بمعنى يتغطى: أي تُغطّيه الأرضُ. وحكى عن بعض الروايات أيضًا: "يتخلخل" بخاءين معجمتين، واستبعدها، إلا أن يكون منْ قولهم: خلخلت العظم: إذا أخذت ما عليه منْ اللحم. وجاء فِي غير "الصحيحين": "يتحلحل" بحاءين مهملتين. قَالَ الحافظ: والكل تصحيف إلا الأول.

ومقتضى هَذَا الْحَدِيث أن الأرض لا تأكل جسد هَذَا الرجل، فيمكن أن يُلغَز به،

ص: 89

فيقال: كافر لا يبلى جسده بعد الموت. قاله فِي "الفتح" 11/ 433. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -101/ 5328 - وفي "الكبرى" 100/ 9676. وأخرجه (خ) فِي "أحاديث الأنبياء" 3485 و"اللباس" 5790 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 5318. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان تغليظ الوعيد فِي جرّ الإزار. (ومنها): تحريم جرّ الإزار تحت الكعبين، ولو لم يكن بقصد الخيلاء؛ للأحاديث الدالة عليه، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي قريباً، مرفوعًا:"ما تحت الكعبين ففي النار". (ومنها): تحريم الخيلاء؛ لأنه منْ صفات أهل النار، لما أخرجه الشيخان فِي "صحيحيهما" منْ حديث حارثة بن وهب الخزاعي رضي الله عنه، قَالَ: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم، يقول: ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف، مُتَضَعِّف، لو أقسم عَلَى الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عُتُلّ، جَوّاظ، مستكبر". (ومنها): أن الله سبحانه وتعالى يعاقب المختال بخسف به، فهو ينزل إلى قعر الأض إلى يوم القيامة، وهذا وعيد شديد. (ومنها): جواز الخسف فِي هذه الأمة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ما ذكر ذلك إلا لتحذير أمته أن يصيبها ما أصاب الأمم السابقة.

(ومنها): ما قاله فِي "الفتح" 11/ 431 - 432: يُستنبط منْ سياق الأحاديث، أن التقييد بالجر خرج للغالب، وأن البطر، والتبختر مذموم، ولو لمن شَمَّر ثوبه، والذي يجتمع منْ الأدلة أن منْ قصد بالملبوس الحسن إظهار نعمة الله عليه، مستحضرا لها، شاكرا عليها، غير محتقر لمن ليس له مثله، لا يضره ما لبس منْ المباحات، ولو كَانَ فِي غاية النفاسة، ففي "صحيح مسلم" عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لا يدخل الجنة منْ كَانَ فِي قلبه مثقال ذرة منْ كبر"، فَقَالَ رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنة؟، فَقَالَ:"إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بَطَر الحق، وغَمْطُ النَّاس". وقوله: "وغمط" -بفتح المعجمة، وسكون الميم، ثم مهلمة-: الاحتقار.

ص: 90

وأما ما أخرجه الطبري، منْ حديث عليّ رضي الله عنه: إن الرجل يعجبه أن يكون شراك نعله أجود، منْ شراك صاحبه، فيدخل فِي قوله تعالى:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ} الآية [القصص: 83]، فقد جمع الطبري بينه، وبين حديث ابن مسعود رضي الله عنه بأن حديث عليّ رضي الله عنه محمول عَلَى منْ أحب ذلك؛ ليتعظم به عَلَى صاحبه، لا منْ أحب ذلك؛ ابتهاجا بنعمة الله عليه، فقد أخرج الترمذيّ، وحسّنه، منْ رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، رفعه:"إن الله يحب أن يَرَى أثر نعمته عَلَى عبده"، وله شاهد عند أبي يعلى، منْ حديث أبي سعيد رضي الله عنه. وأخرج النسائيّ (5225)، وأبو داود، وصححه ابن حبّان، والحاكم، منْ حديث أبي الأحوص، عوف بن مالك الجشمي، عن أبيه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ له -ورآه رَثّ الثياب-:"إذا آتاك الله ما لا، فلْيُرَ أثره عليك"، أي بأن يلبس ثيابا تليق بحاله، منْ النفاسة والنظافة؛ ليعرفه المحتاجون للطلب منه، مع مراعاة القصد، وترك الإسراف؛ جمعا بين الأدلة.

[تكملة]: الرجل الذي أُبهِم فِي حديث ابن مسعود صلى الله عليه وسلم هو سَوَاد بن عمرو الأنصاريّ رضي الله عنه، وأخرجه الطبري منْ طريقه، ووقع ذلك لجماعة غيره. قاله فِي "الفتح" 11/ 432. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم الإسبال تحت الكعبين:

قَالَ فِي "الفتح": فِي هذه الأحاديث أن إسبال الإزار للخيلاء كبيرة، وأما الإسبال لغير الخيلاء، فظاهر الأحاديث تحريمه أيضًا، ولكن استُدلّ بالتقييد فِي هذه الأحاديث بالخيلاء، عَلَى أن الإطلاق فِي الزجر الوارد فِي ذم الإسبال، محمول عَلَى المقيد هنا، فلا يحرم الجر والاسبال، إذا سلم منْ الخيلاء، قَالَ ابن عبد البرّ: مفهومه أن الجر لغير الخيلاء لا يلحقه الوعيد، إلا أنّ جر القميص وغيره منْ الثياب مذموم، عَلَى كل حال. وَقَالَ النوويّ: لا يجوز الإسبال تحت الكعبين للخيلاء، فإن كَانَ لغيرها فهو مكروه، وهكذا نص الشافعيّ عَلَى الفرق بين الجر للخيلاء، ولغير الخيلاء، قَالَ: والمستحب أن يكون الإازار إلى نصف الساق، والجائز بلا كراهية ما تحته إلى الكعبين، وما نزل عن الكعبين ممنوع، منع تحريم إن كَانَ للخيلاء، وإلا فمنع تنزيه؛ لأن الأحاديث الواردة فِي الزجر عن الإسبال مطلقة، فيجب تقيدها بالإسبال للخيلاء. انتهى.

والنص الذي أشار إليه ذكره البويطي فِي "مختصره" عن الشافعيّ، قَالَ: لا يجوز السدل فِي الصلاة، ولا فِي غيرها للخيلاء، ولغيرها خفيف؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكر

(1)

. انتهى.

(1)

يعني قوله: "لَسْتَ منهم".

ص: 91

وقوله: "خفيف" ليس صريحا فِي نفي التحريم، بل هو محمول عَلَى أن ذلك بالنسبة للجر خيلاء، فأما لغير الخيلاء فيختلف الحال، فإن كَانَ الثوب عَلَى قدر لابسه، لكنه يسدله فهذا لا يظهر فيه تحريم، ولاسيما إن كَانَ عن غير قصد، كالذي وقع لأبي بكر رضي الله عنه، وإن كَانَ الثوب زائدا عَلَى قدر لابسه، فهذا قد يتجه المنع فيه، منْ جهة الإسراف، فينتهي إلى التحريم، وَقَدْ يتجه المنع فيه منْ جهة التشبه بالنساء، وهو أمكن فيه منْ الأول. وَقَدْ صحح الحاكم منْ حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعن الرجل يلبس لِبْسة المرأة". وَقَدْ يتجه المنع فيه منْ جهة أن لابسه لا يأمن منْ تعلق النجاسة به، وإلى ذلك يشير الْحَدِيث الذي أخرجه الترمذيّ فِي "الشمائل"، والنسائي، منْ طريق أشعث بن أبي الشعثاء -وأسم أبيه سليم المحاربي- عن عمته -واسمها رُهْم بضم الراء، وسكون الهاء، وهي بنت الأسود بن حنظلة- عن عمها -واسمه عبيد بن خالد- قَالَ: كنت أمشي، وعلي بُرد أجره، فَقَالَ لي رجل:"ارفع ثوبك، فإنه أنقى، وأبقى"، فنظرت، فإذا هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلت: إنما هي بردة ملحاء، فَقَالَ:"أما لك فيّ أسوة؟ " قَالَ: فنظرت، فإذا إزاره إلى أنصاف ساقيه، وسنده قبلها جيد.

وقوله: "ملحاء" -بفتح الميم، وبمهملة قبلها سكون، ممدودة: أي فيها خطوط سود، وبيض.

وفي قصة قتل عمر رضي الله عنه أنه قَالَ للشاب الذي دخل عليه: "ارفع ثوبك، فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك".

ويتجه المنع أيضًا فِي الإسبال منْ جهة أخرى، وهي كونه مظنة الخيلاء.

قَالَ ابن العربي رحمه الله تعالى: لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه، ويقول: لا أجره خيلاء؛ لأن النهي قد تناوله لفظا، ولا يجوز لمن تناوله اللفظ حكما، أن يقول: لا أمتثله؛ لأن تلك العلة ليست فيّ؛ فإنها دعوى غير مسلمة، بل إطالته ذيله دالة عَلَى تكبره. انتهى ملخصا.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله ابن العربيّ رحمه الله تعالى هو عين التحقيق، الذي لا يستقيم غيره مع هذه النصوص الظاهرة فِي التحريم، وحاصله أن الإسبال يستلزم جر الثوب، وجر الثوب يستلزم الخيلاء، ولو لم يقصد اللابس الخيلاء، فيحرم عليه؛ كما دلّت عَلَى ذلك ظواهر النصوص الواردة فِي النهي عن الإسبال.

ويؤيده ما أخرجه أحمد بن منيع، منْ وجه آخر، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فِي أثناء حديث رفعه:"وإياك وجرَّ الإزار، فإن جر الإزار منْ المخيلة"، وأخرج الطبراني منْ حديث أبي أمامة رضي الله عنه: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لحقنا عمرو بن

ص: 92

زُرارة الأنصاريّ، فِي حلة إزار ورداء، قد أسبل، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ بناحية ثوبه، ويتواضع لله، ويقول: عبدك وابن عبدك وأمتك، حَتَّى سمعها عمرو، فَقَالَ: يا رسول الله، إني حَمْشُ الساقين

(1)

، فَقَالَ: يا عمرو، إن الله قد أحسن كل شيء خلقه، يا عمرو، إن الله لا يحب المسبل

" الْحَدِيث، وأخرجه أحمد منْ حديث عمرو نفسه، لكن قَالَ فِي روايته، عن عمرو بن فلان، وأخرجه الطبراني أيضًا، فَقَالَ: عن عمرو بن زرارة، وفيه: "وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأربع أصابع تحت ركبة عمرو، فَقَالَ: يا عمرو هَذَا موضع الإزار، ثم ضرب بأربع أصابع، تحت الأربع، فَقَالَ: يا عمرو هَذَا موضع الإزار

" الْحَدِيث، ورجاله ثقات، وظاهره أن عمرا المذكور، لم يقصد بإسباله الخيلاء، وَقَدْ منعه منْ ذلك؛ لكونه مظنة. وأخرج الطبراني، منْ حديث الشريد الثقفيّ، قَالَ: أبصر النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلا، قد أسبل إزاره، فَقَالَ: "ارفع إزارك"، فَقَالَ: إني أحنف تَصطكّ ركبتاي، فَقَالَ: "ارفع إزارك، فكل خلق الله حسن"، أخرجه مسدد، وأبو بكر بن أبي شيبة، منْ طرق عن رجل منْ ثقيف، لم يُسم، وفي آخره: "ذاك أقبح مما بساقك".

وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة، عن ابن مسعود رضي الله عنه بسند جيد أنه كَانَ يُسبل إزاره، فقيل له فِي ذلك؛ فَقَالَ: إني حَمْشُ الساقين، فهو محمول عَلَى أنه أسبله زيادة عَلَى المستحب، وهو أن يكون إلى نصف الساق، ولا يظن به أنه جاوز به الكعبين، والتعليل يرشد إليه، ومع ذلك فلعله لم تبلغه قصة عمرو بن زرارة. والله أعلم.

وأخرج النسائيّ فِي "الكبرى" 5/ 488، وابن ماجه، وصححه ابن حبّان، منْ حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذ برداء سفيان بن سهيل، وهو يقول:"يا سفيان لا تسبل، فإن الله لا يحب المسبلين". قاله فِي "الفتح" 11/ 436 - 437.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تلخّص مما ذُكر منْ الأدلة أن جرّ الإزار تحت الكعبين حرام، ولو لم يكن بقصد الخيلاء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جعله منْ المخيلة، وأما إذا كَانَ بقصد الخيلاء، فهو أشدّ تحريماً، وله الوعيد المذكور فِي حديث الباب، وأما ما تقدّم منْ قول النوويّ: إنه مكروه تنزيهًا، فلا يخفى ضعفه، فتبصّر.

ومما يؤيّد أن الجر المذكور محرّم مطلقاً فهم أم سلمة رضي الله تعالى عنها، كما سيأتي فِي 105/ 5338 - حينما سمعت منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم قوله: "منْ جرّ ثوبه منْ الخيلاء لم

(1)

"حَمْشُ الساقين" بفتح الحاء المهملة، وسكون الميم، وزان فَلْس: أي دقيقهما.

ص: 93

ينظر الله إليه" قالت: فكيف تصنع النِّساء بذيولهنّ؟، قَالَ: "يرخينه شبراً

" الْحَدِيث.

قَالَ فِي "الفتح": يستفاد منْ هَذَا الفهم -يعني فهم أم سلمة هَذَا- التعقبُ عَلَى منْ قَالَ: إن الأحاديث المطلقة فِي الزجر عن الإسبال، مقيدة بالأحاديث الأخرى المصرحة بمن فعله خيلاء، قَالَ النوويّ: ظواهر الأحاديث فِي تقييدها بالجر خيلاء، يقتضي أن التحريم مختص بالخيلاء.

ووجه التعقب أنه لو كَانَ كذلك، لما كَانَ فِي استفسار أم سلمة، عن حكم النِّساء فِي جر ذيولهن معنى، بل فهمت الزجر عن الإسبال مطلقا، سواء كَانَ عن مَخِيلة أم لا، فسألت عن حكم النِّساء فِي ذلك؛ لاحتياجهن إلى الإسبال، منْ أجل ستر العورة؛ لأن جميع قدمها عورة، فبَيَّن لها أن حكمهن فِي ذلك خارج عن حكم الرجال فِي هَذَا المعنى فقط، وَقَدْ نقل عياض الإجماع عَلَى أن المنع فِي حق الرجال دون النِّساء، ومراده منع الإسبال؛ لتقريره صلى الله عليه وسلم أم سلمة عَلَى فهمها، إلا أنه بيّن لها أنه عام مخصوص؛ لتفرقته فِي الجواب بين الرجال والنساء فِي الإسبال، وتبيينه القدر الذي يمنع ما بعده فِي حقهن، كما بَيَّن ذلك فِي حق الرجال. انتهى.

وخلاصة القول فِي هذه المسألة أن الإسبال محرّم مطلقاً، سواء كَانَ خيلاء، وهو أشد تحريمًا، أم لا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5329 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ ح وَأَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ" أَوْ قَالَ: "إِنَّ الَّذِي يَجُرُّ ثَوْبَهُ مِنَ الْخُيَلَاءِ، لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ").

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(قتيبة بن سعيد) المذكور قبل باب.

2 -

(الليث) بن سعد المذكور قبل باب أيضاً.

3 -

(إسماعيل) بن مسعود الجحدريّ البصريّ، ثقة [10] 42/ 47.

4 -

(بشر) بن المفضّل بن لاحق الرقاشيّ البصريّ، ثقة ثبت عابد [8] 66/ 82.

5 -

(عبيد الله) بن عمر العمريّ المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [5] 15/ 15.

6 -

(نافع) مولى ابن عمر المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 12/ 12.

7 -

(عبد الله) بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.

ص: 94

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى بالنسبة للسند الأول، وهو (255) منْ رباعيات الكتاب، ومن خماسياته بالنسبة للسند الثاني. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه إسماعيل بن مسعود، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين منْ عبيد الله. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: عبيد الله، عن نافع. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) بن عمر رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ) "منْ" يتناول الرجال والنساء فِي الوعيد المذكور، عَلَى هَذَا الفعل المخصوص، فقد فَهِمَت ذلك أم سلمة رضي الله عنها، كما فِي حديثها الآتي بعد ثلاثة أبواب، منْ طريق أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما متصلا بحديثه المذكور فِي الباب: فقالت أم سلمة: فكيف تصنع النِّساء بذيولهن؟ فَقَالَ: "يرخين شبرا

" الْحَدِيث (أو) للشكّ منْ الراوي (قَالَ: "إِنَّ الَّذِي يَجُرُّ ثَوْبَهُ مِنَ الْخُيَلَاءِ، لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ) أي ومن نظر الله تعالى إليه يرحمه، ففيه إثبات صفة النظر لله تعالى عَلَى ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، وَقَالَ فِي "الفتح": قوله: "لا ينظر الله": أي لا يرحمه، فالنظر إذا أضيف إلى الله كَانَ مجازًا، وإذا اضيف إلى المخلوق، كَانَ كناية، ويحتمل أن يكون المراد: لا ينظر الله إليه نظر رحمة، وَقَالَ شيخنا -يعني الحافظ العراقيّ- فِي "شرح الترمذيّ": عبر عن المعنى الكائن عند النظر بالنظر؛ لأن منْ نظر إلى متواضع رحمه، ومن نظر إلى متكبر مقته، فالرحمة والمقت متسببان عن النظر، وَقَالَ الكرماني: نسبة النظر لمن يجوز عليه النظر كناية؛ لأن منْ اعتدّ بالشخص التفت إليه، ثم كثُر حَتَّى صار عبارة عن الإحسان، وإن لم يكن هناك نظر، ولمن لا يجوز عليه حقيقة النظر، وهو تقليب الحدقة، والله منزه عن ذلك، فهو بمعنى الإحسان، مجاز عما وقع فِي حق غيره كناية. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي ذكره الكرمانيّ، والعراقيّ والحافظ منْ تفسير النظر بالرحمة تفسير باللازم، وهو مخالف لما أطبق عليه المحدثون منْ السلف الصالحين، منْ إثبات الصفات لله سبحانه وتعالى عَلَى ظواهرها، منْ غير تشبيه، ولا تمثيل، ومن غير تأويل، ولا تعطيل، لكن هؤلاء هكذا عادتهم فِي أحاديث الصفات، مع أنهم منْ أكابر المحدّثين، يرغبون عن مذهب المحدّثين، ويسلكون فيها مسلك المتكلّمين، وما أدّاهم إلى هَذَا التأويل المتكلّف به إلا تشبيه الغائب بالشاهد، فإنهم لما

ص: 95

اعتقدوا أن النظر فِي المخلوق لا يحصل إلا بتقليب الحدقة، قالوا: هَذَا محال عَلَى الله تعالى، نعم هو محالٌ، ولكن منْ الذي قَالَ لكم: إنه لا يحصل النظر إلا بهذا؟ أليس الله تعالى مباينا لخلقه فِي ذاته وصفاته؟، فهو سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى، والصفات العُلَى، فالواجب علينا أن نعتقد أنه سبحانه وتعالى ينظر إلى عباده نظرًا حقيقيًا كما يليق بجلاله، ولا يلزمنا أن نعرف حقيقة نظره، إذ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فكما أننا نثبت له ذاتاً، لا تشبه ذوات مخلوقه، كذلك نثبت له ما أثبت لنفسه منْ الصفات حقيقةً، لا مجازًا؛ لأن المجاز لا يصار إليه إلا عند تعذّر الحقيقة، ولم تتعذّر هنا، وأيضًا المعنى المجازيّ الذي أولوا به يلزم منه التشبيه، فإن الرحمة هي رقة القلب، التي تقتضي العطف عَلَى المرحوم، وهذا فيه منْ التشبيه نظير ما وقع فِي معنى النظر بلا فرق، فتأمّل بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، فإنه حجة البليد، وملجأ العنيد.

وَقَالَ فِي "الفتح" أيضاً: ويؤيد ما ذُكر منْ حمل النظر عَلَى الرحمة، أو المقت ما أخرجه الطبراني، وأصله فِي أبي داود، منْ حديث أبي جُرَيّ: "أن رجلا ممن كَانَ قبلكم، لبس بردة، فتبختر فيها، فنظر الله إليه، فمقته، فأمر الأرض فأخذته

" الْحَدِيث. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي ادّعاه منْ تأييد الحمل المذكور فيه نظرٌ لا يخفى، فإنه أثبت لله سبحانه وتعالى النظر، ثم بيّن ما ترتّب عَلَى ذلك، وهو المقت، وما بعده، ولا تعرّض فيه للحمل المذكور، فتأمل بإنصاف، ولا تتحيّر بالاعتساف، والله سبحانه وتعالى الهادي إلى سواء السبيل. اللَّهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، آمين.

وقوله: (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) إنما خصّ يوم القيامة إشارة إلى أنه محل تمام النعم، بخلاف الدنيا، فإن نعمها مهما كثُرت تنقطع بما يتجدد منْ الحوادث. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهدا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -5329 و5330 و104/ 5336 و5337 و105/ 5338 - وأخرجه (خ) فِي "المناقب" 2665 و"اللباس" 5783 و5784 و5791 (م) فِي "اللباس" 2085 (د)

ص: 96

فِي "اللباس" 4085 و4094 (ت) فِي "اللباس" 1730 (ق) فِي "اللباس" 3569 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 4475 و4553 و4994 و5018 و5035. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5330 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَارِبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ مِنْ مَخِيلَةٍ، فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل لَمْ يَنْظُرْ إِلَيْهِ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة. و"خالد": هو ابن الحارث الْهُجيميّ البصريّ الثقة الثبت [8]. و"محارب" -بصيغة اسم الفاعل-: هو ابن دثار السدوسيّ الثقة الإمام الزاهد [4]. وكان محارب قد ولي قضاء الكوفة، قَالَ عبد الله بن إدريس الأودي، عن أبيه: رأيت الحكم، وحمادا فِي مجلس قضائه. وَقَالَ سماك بن حرب: كَانَ أهل الجاهلية، إذا كَانَ فِي الرجل ست خصال سَوَّدوه: الحلم، والعقل، والسخاء، والشجاعة، والبيان، والتواضع، ولا يَكْمُلْنَ فِي الإسلام إلا بالعفاف، وَقَدْ اجتمعن فِي هَذَا الرجل -يعني محارب بن دثار. ذكره فِي "الفتح" 11/ 434.

وقوله: "منْ مخيلة": "منْ" فيه للتعليل، و"الْمَخِيلة" -بفتح الميم، وكسر الخاء المعجمة-: الكبر، كالخيلاء.

والحديث متَّفقٌ عليه، ولفظ البخاريّ منْ طريق شبابة بن سَوّار، قَالَ: حدثنا شعبة، قَالَ: لقيت محارب بن دثار، عَلَى فرس، وهو يأتي مكانه الذي يقضي فيه، فسألته عن هَذَا الْحَدِيث، فحدثني، فَقَالَ: سمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منْ جر ثوبه مخيلة، لم ينظر الله إليه يوم القيامة"، فقلت لمحارب: أذكر إزاره؟ قَالَ: ما خص إزارا، ولا قميصا.

وسبب سؤال شعبة عن الإزار، أن أكثر الطرق جاءت بلفظ "الإزار"، وجواب محارب حاصله أن التعبير بالثوب، يشمل الإزار وغيره، وَقَدْ جاء التصريح بما اقتضاه ذلك، فقد أخرج أصحاب السنن، إلا الترمذيّ، واستغربه ابن أبي شيبة، منْ طريق عبد العزيز بن أبي رَوّاد، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "الإسبال فِي الإزار، والقميص، والعمامة، منْ جر منها شيئا خيلاء

" الْحَدِيث، وسيأتي للمصنّف بعد بابين، ويأتي تمام البحث فيه هناك، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

ص: 97

‌102 - (مَوْضِعِ الإِزَارِ)

5331 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ نُذَيْرٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَوْضِعُ الإِزَارِ إِلَى أَنْصَافِ السَّاقَيْنِ، وَالْعَضَلَةِ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَأَسْفَلَ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَمِنْ وَرَاءِ السَّاقِ، وَلَا حَقَّ لِلْكَعْبَيْنِ فِي الإِزَارِ"، وَاللَّفْظُ لِمُحَمَّدٍ).

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) الحنظليّ المروزيّ المعروف بابن راهويه الإمام الحجة الثبت [10] 2/ 2.

2 -

(محمد بن قُدَامة) بن أعين الهاشميّ مولاهم الْمِصِّيصيّ، ثقة [10] 137/ 214.

3 -

(جرير) بن عبد الحميد الضبيّ الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقة ثبت [9] 2/ 2.

4 -

(الأعمش) سليمان بن مِهرْان الكوفيّ، ثقة فقيه ورع، لكنه يدلّس [5] 17/ 18.

5 -

(أبو إسحاق) عمرو بن عبد الله بن زيد السبيعيّ الهمدانيّ الكوفيّ، ثقة عابد، اختلط بآخره [3] 38/ 42.

6 -

(مسلم بن نُذير) -بالنون، مصغّرًا، ويقال: ابن يزيد، ويقال: مسلم بن نُذير بن يزيد بن شِبْل بن حيّان السعديّ، أبو نذير، ويقال: أبو يزيد، ويقال: أبو عياض الكوفيّ، وهو ابن عمّ عُتَيّ بن ضَمْرَة السعديّ، صدوقٌ

(1)

[3].

رَوَى عن حُذيفة، وعليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما. وعنه أبو إسحاق السبيعيّ، وزياد بن فيّاض، والعبّاس بن ذَرِيح، وعيّاش العامريّ عَلَى خلاف فيهما، وأبو الأحوص الْجُشَميّ. قَالَ ابن أبي حاتم: سُئل أبي عن أبي عِيَاض، صاحب عليّ، فَقَالَ: لا بأس به. وَقَالَ الآجريّ: سألت أبا داود، عن اسم أبي صادق، فَقَالَ: مسلم ابن يزيد. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ ابن سعد فِي الأول: هو منْ أهل الكوفة، كَانَ قليل الْحَدِيث، ويذكرون أنه كَانَ يقول بالرجعة. انتهى. أخرج له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، والمصنّف، والترمذي، وابن ماجه، وله عندهم هَذَا الْحَدِيث فقط.

7 -

(حُذيفة) بن اليمان، واسم اليمان حُسيل -مصغّرًا- أو حِسْل -بكسر، فسكون-

(1)

وقول صاحب "التقريب": مقبول فيه نظر؛ لأنه رَوَى عنه جماعة، وَقَالَ أبو حاتم: لا بأس به، ووثقه ابن حبّان، وَقَالَ والذهبي فِي "الكاشف": صالح، فمثل هَذَا ينبغي أن يقال فيه: صدوقٌ فتأمل والله تعالى أعلم.

ص: 98

العبسيّ الصحابيّ الشهير ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما، حليف الأنصار، مات فِي أول خلافة عليّ رضي الله عنه سنة (36 هـ) وتقدّم فِي 2/ 2. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه ابن قُدامة، فقد تفرّد به هو وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفين منْ الأعمش. (ومنها): أن فيه ثلاثة منْ التابعين يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن أبي إسحاق، عن مسلم بن نُذير. (ومنها): أنَّ صحابيّه رضي الله عنه كَانَ صاحب سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت فِي "صحيح مسلم": أنه صلى الله عليه وسلم أعلمه بما كَانَ، وما يكون إلى أن تقوم الساعة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ حُذَيْفَةَ) بن اليمان رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَوْضِعُ الإِزَارِ) أي الموضع المحبوب للإزار، والمراد به إزار الرجل، إِذِ المرأة ليست مثله فِي ذلك، كما سيأتي بعد بابين (إِلَى أَنْصَافِ السَّاقَيْنِ) قَالَ السنديّ: الظاهر "أنصاف الساقين" بدون "إلى"؛ لتكون محمولاً عَلَى الموضع، فلعلّ التقدير: موضع الإزار موضع أن يكون الإزار إلى أنصاف الساقين، ثم حُذف ما حُذف لدلالة المذكور عليه. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا التقدير الذي ذكره السنديّ غير واضح المعنى، بل المعنى الذي يظهر: موضع الإزار المحبوب شرعًا منْ وسط الرجل إلى نصف ساقه، وإنما لم يذكر ابتداءه؛ لكونه معلومًا لا يقع فيه محذورٌ، وإنما يقع المذكور منْ جهة نهايته، فبيّنه. والله تعالى أعلم.

(وَالْعَضَلَةِ) بفتحات: هي كلُّ لحم صلبة مكتنزة فِي البدن، ومنه عضلة الساق، وهو المراد هنا (فَإِنْ أَبَيْتَ) الاتّزار إلى الموضع المذكور، بل أردت الزيادة عليه (فَأَسْفَلَ) أي فزد إلى أسفل نصف الساق (فَإِنْ أَبَيْتَ) إلا الزيادة (فَمِنْ وَرَاءِ السَّاقِ) أي إلى نهاية الساق (وَلَا حَقَّ لِلْكَعْبَيْنِ فِي الإِزَارِ) أي لا حقّ للكعبين أن تسترهما بإزارك، فإن ذلك هو الإسبال الممنوع، وفيه أن الكعبين هما الحدان لجواز تطويل الإزار، فإذا جاوز ذلك فقد دخل فِي الإسبال المنهيّ عنه، وَقَدْ تقدّم أنه محرّم عَلَى الراجح، وإن لم يكن معه خيلاء، فإن كَانَ مع الخيلاء، فهو أشدّ تحريماً، وفيه الوعيد الشديد المذكور فِي أحاديث الباب السابق.

وقوله: (وَاللَّفْظُ لِمُحَمَّدٍ) يعني أن لفظ هَذَا الْحَدِيث لشيخه محمد بن قُدامة، وأما شيخه إسحاق، فرواه بالمعنى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب،

ص: 99

وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث حُذيفة رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -102/ 5331 - وفي "الكبرى" 101/ 9682. وأخرجه (ت) فِي "اللباس" 1783 (ق) فِي "اللباس" 3572. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌103 - (مَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الإِزَارِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: أي هَذَا باب ذكر الْحَدِيث الدّالّ عَلَى حكم ما تحت الكعبين منْ الإزار.

وَقَدْ ترجم الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" بقوله: "باب ما أسفل منْ الكعبين فهو فِي النار".

قَالَ فِي "الفتح": كذا أطلق فِي الترجمة، لم يقيده بالإزار كما فِي الخبر؛ إشارة إلى التعميم فِي الإزار، والقميص، وغيرهما، وكأنه أشار إلى لفظ حديث أبي سعيد، وَقَدْ أخرجه مالك، وأبو داود، والنسائي -فِي "الكبرى" 9714 - وابن ماجه، وصححه أبو عوانة، وابن حبّان، كلهم منْ طريق العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن أبي سعيد، ورجاله رجال مسلم، وكأنه أعرض عنه؛ لاختلاف فيه، وقع عَلَى العلاء، وعلى أبيه، فرواه أكثر اصحاب العلاء عنه هكذا، وخالفهم زيد بن أبي أنيسة، فَقَالَ:"عن العلاء، عن نعيم المجمر، عن ابن عمر"، أخرجه الطبراني، ورواه محمد بن عمرو، ومحمد بن إبراهيم التيمي، جميعا عن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبي هريرة، أخرجه النسائيّ، وصحح الطريقين النسائيّ، ورجح الدارقطنيّ الأول، وأخرج أبو داود، والنسائي- فِي "الكبرى" 9691، وصححه الحاكم، منْ حديث أبي جُرَيّ -بالجيم والراء، مصغّراً- واسمه جابر بن سُليم رفعه، قَالَ فِي أثناء حديث مرفوع: "وارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار، فإنه منْ

ص: 100

الْمَخِيلة، وإن الله لا يحب المخيلة"، وأخرج النسائيّ وصحح الحاكم أيضًا منْ حديث حذيفة بلفظ: "الإزار إلى أنصاف الساقين، فإن أبيت فأسفل، فإن أبيت فمن وراء الساقين، ولا حق للكعبين فِي الإزار". انتهى "فتح" 11/ 428. والله تعالى أعلم بالصواب.

5332 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ -وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ- قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو يَعْقُوبَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الإِزَارِ، فَفِى النَّارِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الإسناد تقدّم قريباً. و"إسماعيل بن مسعود": هو الْجَحْدريّ المذكور قبل باب. و"هشام": هو الدستوائيّ. و"يحيى": هو ابن أبي كثير. و"محمد بن إبراهيم": هو التيميّ. و"ابنُ يعقوب": هو عبد الرحمن الْجُهنيّ المدنيّ، مولى الْحُرَقة، ثقة [3] 107/ 143.

[تنبيه]: وقع فِي نسخ "المجتبى": "حدّثني أبو يعقوب"، ووقع فِي "الكبرى":"حدّثني ابن يعقوب"

(1)

، وعندي أن هَذَا هو الصواب، والأول غلطٌ؛ لأني لم أر أحدًا كناه بأبي يعقوب، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) التيمي، أنه (قَالَ: حَدَّثَنِي) عبد الرحمن (ابن يَعْقُوبَ) تقدّم آنفاً أنه وقع فِي نسخ "المجتبى" التصحيف إلى "أبي يعقوب"، فتنبّه (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الإِزَارِ) "ما" موصولة مبتدأ، والظرف صلتها، وخبرها قوله (فَفِي النَّارِ) ودخلت الفاء لما فِي المبتدإ منْ معنى العموم أي الذي استقرّ، وثبت تحت الكعبين، منْ قدم صاحب الإزار المسبل، فهو فِي النار، عقوبةً له عَلَى فعله.

وللطبراني منْ حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، رفعه:"كل شيء جاوز الكعبين، منْ الإزار فِي النار"، وله منْ حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه، رفعه:"إِزرة المؤمن إلى أنصاف الساقين، وليس عليه حرج فيما بينه وبين الكعبين، وما أسفل منْ ذلك ففي النار".

قيل: هَذَا الإطلاق محمول عَلَى ما ورد منْ قيد الخيلاء، فهو الذي ورد فيه الوعيد بالاتّفاق، لا مجرد الإسبال.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدّم أن الصواب كونه عَلَى إطلاقه؛ لما سبق منْ

(1)

راجع "تحفة الأشراف" 10/ 239 ففيه: "عبد الرحمن بن يعقوب".

ص: 101

الأدلّة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

ويستثنى منْ إسبال الإزار مطلقا ما أسبله لضرورة، كمن يكون بكعبيه جرح مثلاً، يؤذيه الذباب مثلا إن لم يستره بإزاره، حيث لا يجد غيره، نبه عَلَى ذلك الحافظ العراقيّ رحمه الله تعالى فِي "شرح الترمذيّ"، واستَدَلَّ عَلَى ذلك بإذنه صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن ابن عوف، فِي لبس قميص الحرير، منْ أجل الحكة، والجامع بينهما جواز تعاطي ما نُهي عنه منْ أجل الضرورة، كما يجوز كشف العورة للتداوي. ويستثنى أيضًا منْ الوعيد فِي ذلك النِّساء، كما سيأتي البحث فيه بعد باب، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهدا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هَذَا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -103/ 5332 - وأخرجه (خ) فِي "اللباس"5787. وفوائده تقدّمت قريباً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5333 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ، وَقَدْ كَانَ يُخْبِرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، مِنَ الإِزَارِ، فَفِى النَّارِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"أبو داود": هو سليمان بن داود الطيالسيّ.

وقوله: "وَقَدْ كَانَ يُخبر عن أبي هريرة" هكذا نسخ "المجتبى"، و"الكبرى"، ووقع فِي "تحفة الأشراف" 9/ 473 بلفظ:"قَالَ: أخبرنا سعيد المقبريّ، وكان قد كبر".

وفي رواية الإسماعيليّ، منْ طريق عبد الرحمن بن مهديّ، عن شعبة:"سمعت سعيدًا المقبريّ، سمعت أبا هريرة". قاله فِي "الفتح" 11/ 428.

وقوله: "ما أسفل منْ الكعبين منْ الإزار ففي النار". قَالَ الكرمانيّ: "ما" موصولة، وبعض صلته محذوف، وهو "كَانَ"، و"أسفل" خبره، ويجوز أن يُرفَع "أسفل"، وهو أفعل، ويحتمل أن يكون فعلاً ماضيًا. وَقَالَ الزركشيّ "منْ" الأولى لابتداء الغاية، والثانية للبيان. ذكره السيوطيّ فِي "شرحه" 8/ 207.

وَقَالَ فِي "الفتح": قوله: "ما أسفل منْ الكعبين، منْ الإزار، فِي النار". "ما" موصولة، وبعض الصلة محذوف، وهو "كَانَ" و"أسفل" خبره، وهو منصوب، ويجوز

ص: 102

الرفع: أي ما هو أسفل، وهو أفعل تفضيل، ويحتمل أن يكون فعلا ماضيا، ويجوز أن تكون "ما" نكرة موصوفة بـ"أسفل".

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ويحتمل أن يكون "أسفل" منصوبًا عَلَى الظرفيّة، وعليه فلا داعي لحذف بعض الصلة؛ لصلاحيته أن يكون صلة، بل هَذَا هو الأولى منْ دعوى الحذف، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

قَالَ الخطّابيّ: يريد أن الموضع الذي يناله الإزار، منْ أسفل الكعبين فِي النار، فكنى بالثوب عن بدن لابسه، ومعناه أن الذي دون الكعبين منْ القدم، يعذب عقوبة، وحاصله أنه منْ تسمية الشيء باسم ما جاوره، أو حل فيه، وتكون "منْ" بيانية، ويحتمل أن تكون سببية، ويكون المراد الشخص نفسه، أو المعنى: ما أسفل منْ الكعبين منْ الذي يسامت الإزار فِي النار، أو التقدير: لابس ما أسفل منْ الكعبين

الخ، أو التقدير: أن فعل ذلك محسوب فِي أفعال أهل النار، أو فيه تقديم وتأخير: أي ما أسفل منْ الإزار منْ الكعبين فِي النار، وكل هَذَا استبعاد ممن قاله لوقوع الإزار حقيقة فِي النار، وأصله ما أخرج عبد الرزاق، عن عبد العزيز بن أبي رَوّاد، أن نافعا سُئل عن ذلك، فَقَالَ: وما ذنب الثياب، بل هو منْ القدمين. انتهى.

لكن أخرج الطبراني، منْ طريق عبد الله بن محمد بن عقيل، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قَالَ: رآني النبيّ صلى الله عليه وسلم، أسبلت إزاري، فَقَالَ:"يا ابن عمر، كلُّ شيء يمس الأرض منْ الثياب فِي النار"، وأخرج الطبراني، بسند حسن، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه رأى أعرابيا يصلي، قد أسبل، فَقَالَ:"المسبل فِي الصلاة ليس منْ الله فِي حِلّ، ولا حرام"، ومثل هَذَا لا يقال بالرأي، فعلى هَذَا لا مانع منْ حمل الْحَدِيث عَلَى ظاهره، ويكون منْ وادي:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} الآية [الأنبياء: 98]، أو يكون فِي الوعيد لما وقعت به المعصية، إشارة إلى أن الذي يتعاطى المعصية أحق بذلك. انتهى "فتح" 11/ 428 - 429. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 103

‌104 - (إِسْبَالِ الإِزَارِ)

5334 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَقِيلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَدِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَشْعَثَ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عز وجل، لَا يَنْظُرُ إِلَى مُسْبِلِ الإِزَارِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن عبد الله بن عُبيد بن عَقِيل" -بفتح العين-: هو الهلاليّ، أبو مسعود البصريّ، صدوقٌ [11] 19/ 4766. و"جدّه": هو عُبيد بن عَقِيل الهلاليّ، أبو عمرو البصريُّ الضرير المعلّم، صدوقٌ، منْ صغار [9] 19/ 4766. و"أشعث": هو ابن أبي الشعثاء سُليم بن الأسود المحاربيّ الكوفيّ، ثقة [6] 90/ 112.

"وقوله: "إلى مسبل الإزار": المراد المسبل إلى ما تحت الكعبين، وَقَدْ تقدّم الكلام فِي معنى نظر الله تعالى قبل بابين، فلا تنس.

والحديث صحيح، تفرّد به المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -104/ 5334 - وفي "الكبرى" 103/ 9699. وأخرجه (أحمد) فِي "مسند بني هاشم" 2950. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5335 -

(أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ مِهْرَانَ الأَعْمَشَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الْحُرِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ عز وجل، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: الْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى، وَالْمُسْبِلُ إِزَارَهُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا. و"بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ": هو العسكريّ، أبو محمد الفرائضيّ، نزيل البصرة، ثقة يُغْرب [10]. و"سُلَيْمَانَ بْنِ مُسْهِرٍ": هو الفزاريّ الكوفيّ، ثقة [4]. و"خَرَشَةُ -بفتحات- ابْنُ الْحُرِّ": هو الفزاريّ، كَانَ يتيماً فِي حجر عمر رضي الله عنه، ثقة [2].

وقوله: "المنّان بما أعطى": أي الذي إذا أعطى مَنَّ، واعتدّ به عليّ منْ أعطاه. وقيل: الذي إذا كال، أو وزن نقص منْ الحقّ، ومنه قوله تعالى:{لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الانشقاق: 25]: أي غير منقوص.

وقوله: "والْمُسْبِل إزاره" منْ الإسبال بمعنى الإرخاء عن الحدّ الذي ينبغي الوقوف عنده، وهو الكعبان.

ص: 104

وقوله: "والمنفّق سلعته" بضم أوله، وتشديد الفاء: أي المروّج، وهذا هو المشهور روايةً، وإلا فيجوز أن يكون بتخفيف الفاء، منْ الإنفاق، بمعنى الترويج أيضاً. والسلعة بكسر، فسكون: أي مبيعه.

والحديث أخرجه مسلم، وَقَدْ تقدّم فِي "كتاب الزكاة" 69/ 2563 ومضى شرحه مستوفى هناك، وكذا بيان مسائله، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5336 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الإِسْبَالُ فِي الإِزَارِ، وَالْقَمِيصِ، وَالْعِمَامَةِ، مَنْ جَرَّ مِنْهَا شَيْئًا خُيَلَاءَ، لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن رافع) القشيريّ النيسابوريّ، ثقة عابد [11] 92/ 114.

2 -

(حسين بن عليّ) بن الوليد الجعفيّ الكوفيّ المقرىء، ثقة عابد [9] 74/ 91.

3 -

(عبد العزيز بن أي رَوّاد) -بفتح الراء، وتشديد والواو: هو المكيّ، صدوقٌ، عابدٌ، ربّما وَهِمَ، ورُمي بالإرجاء [7] 93/ 1351.

4 -

(سالم) بن عبد الله المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت عابد [3] 23/ 490.

5 -

(ابن عمر) عبد الله رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وفيه سالم منْ الفقهاء السبعة، وأبوه منْ المكثرين السبعة، والعبادلة الأربعة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ) عبد الله (ابْنِ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الإِسْبَالُ فِي الإِزَارِ) مبتدأ وخبرٌ: أي يتحقّق الإسبال فِي الإزار (وَالْقَمِيصِ، وَالْعِمَامَةِ) معنى الإسبال فيها إرخاء عذبتها زيادة عَلَى العادة.

(مَنْ جَرَّ مِنْهَا شَيْئًا خُيَلَاءَ) أي تكبرا (لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) تقدّم شرح هذه الجملة، فلا تغفل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 105

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا حسنٌ، منْ أجل الكلام فِي عبد العزيز ابن أبي روّاد. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -104/ 5335 - وفي "الكبرى" 104/ 9720. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): تحريم جر الإزار، ونحوه خيلاء، (ومنها): أن عقوبة منْ جرّ ثوبه خيلاء أن لا ينظر الله عز وجل إليه. و (منها): أن فيه دلالة واضحة عَلَى عدم اختصاص الإسبال بالإزار، بل يكون فِي القميص، والعمامة، كما ذكره فِي هَذَا الْحَدِيث، قَالَ ابن رسلان: والطيلسان، والرداء، والشّمْلة. وَقَالَ ابن بطّال: وإسبال العمامة المراد به إرسال العذبة زائداً عَلَى ما جرت به العادة. انتهى. وتطويل أكمام القميص تطويلاً زائداً عَلَى المعتاد منْ الاسبال. وَقَدْ نقل القاضي عياض عن العلماء كراهة كلّ ما زاد عَلَى المعتاد فِي اللباس فِي الطول، والسعة. كذا فِي "نيل الأوطار" 2/ 210. وَقَالَ السنديّ: الإسبال فِي العمامة بإرسال العذبات زيادةً عَلَى العادة عدداً وطولاً، وغايتها إلى نصف الظهر، والزيادة عليه بدعة، كذا ذكروا. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: تحديد الغاية فِي تطويل العذبة بنصف الظهر يحتاج إلى دليل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): أخرج الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا فِي "صحيحه" منْ طريق شبابة بن سوّار، عن شعبة، قَالَ: لقيت محارب بن دثار عَلَى فرس، وهو يأتي مكانه الذي يقضي فيه، فسألته عن هَذَا الْحَدِيث، فحدّثني، فَقَالَ: سمعت عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منْ جرّ ثوبه مَخِيلةً، لم ينظر الله إليه يوم القيامة"، فقلت لمحارب: أذكر "إزاره"؟ قَالَ: ما خصّ إزاراً، ولا قميصاً.

فَقَالَ فِي "الفتح" 11/ 434 - 435: كأن سبب سؤال شعبة عن الإزار، أن أكثر الطرق، جاءت بلفظ "الإزار"، وجواب محارب حاصله: أن التعبير بالثوب يشمل الإزار وغيره، وَقَدْ جاء التصريح بما اقتضاه ذلك، فأخرج أصحاب "السنن"، إلا الترمذيّ، واستغربه ابن أبي شيبة، منْ طريق عبد العزيز بن أبي رَوّاد، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "الإسبال فِي الإزار، والقميص،

ص: 106

والعمامة، منْ جَرّ منها شيئا خيلاء

" الْحَدِيث، كحديث الباب، وعبدُ العزيز فيه مقال، وَقَدْ أخرج أبو داود، منْ رواية يزيد بن أبي سمية، عن ابن عمر، قَالَ: ما قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فِي الإزار، فهو فِي القميص.

وَقَالَ الطبري: إنما ورد الخبر بلفظ "الإزار"؛ لأن أكثر النَّاس فِي عهده كانوا يلبسون الإزار، والأردية، فلما لبس النَّاس القميص، والدراريع، كَانَ حكمها حكم الإزار فِي النهي.

قَالَ ابن بطال: هَذَا قياس صحيح، لو لم يأت النص بالثوب، فإنه يشمل جميع ذلك، وفي تصوير جر العمامة نظر، إلا أن يكون المراد ما جرت به عادة العرب، منْ إرخاء العذبات فمهما زاد عَلَى العادة فِي ذلك، كَانَ منْ الإسبال.

وَقَدْ أخرج النسائيّ (5348) منْ حديث جعفر بن عمرو بن أمية، عن أبيه، قَالَ:"كأني أنظر الساعةَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى المنبر، وعليه عمامة، قد أرخى طرفها بين كتفيه".

وهل يدخل فِي الزجر عن جر الثوب تطويل أكمام القميص ونحوه؛ محل نظر، والذي يظهر أن منْ أطالها حَتَّى خرج عن العادة، كما يفعله بعض الحجازيين، دخل فِي ذلك، قَالَ شيخنا -يعني الحافظ العراقيّ- فِي "شرح الترمذيّ": ما مس الأرض منها خيلاء، لا شك فِي تحريمه، قَالَ: ولو قيل بتحريم ما زاد عَلَى المعتاد، لم يكن بعيدا، ولكن حَدَث للناس اصطلاح بتطويلها، وصار لكل نوع منْ النَّاس شعار يُحرفون به، ومهما كَانَ منْ ذلك عَلَى سبيل الخيلاء، فلا شك فِي تحريمه، وما كَانَ عَلَى طريق العادة فلا تحريم فيه، ما لم يصل إلى جر الذيل الممنوع. ونقل عياض عن العلماء كراهة: كل ما زاد عَلَى العادة، وعلى المعتاد فِي اللباس منْ الطول والسعة. انتهى "فتح" 11/ 434 - 435.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: التفصيل الذي ذكره الحافظ العراقيّ رحمه الله تعالى فِي كلامه المذكور آنفاً، حسن جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5337 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ مِنَ الْخُيَلَاءِ، لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَحَدَ شِقَّيْ إِزَارِى يَسْتَرْخِي، إِلاَّ أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكَ لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ خُيَلَاءَ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(عليّ بن حجر) السعديّ المروزيّ، ثقة حافظ، منْ صغار [9] 13/ 13.

ص: 107

2 -

(إسماعيل) بن جعفر بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرقيّ، أبو إسحاق المدنيّ القاىء، ثقة ثبت [8] 16/ 17.

3 -

(موسى بن عُقبة) بن أبي عيّاش الأسديّ، مولى آل الزبير، ثقة فقيه إمام فِي المغازي [5] 96/ 122. والباقيان تقدّما فِي السند الماضي. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات المدنيين غير شيخه، فمروزيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ سَالِمٍ) بن عبد الله (عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ مِنَ الْخُيَلَاءِ) أي لأجل الكبر، والعجب، فـ"منْ" تعليليّة (لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، قَالَ أَبُو بَكْرٍ) الصديق رضي الله عنه (يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَحَدَ شِقَّيْ إِزَارِي) بتثنية "شقّي"، وكذا عند البخاريّ فِي رواية النسفيّ، والكشميهنيّ، وفي رواية غيرهما "شقّ" بالإفراد، والشِّقّ -بكسر المعجمة: الجانب، ويُطلق أيضًا عَلَى النصف (يَسْتَرْخِي) بالخاء المعجمة: أي ينزل إلى أسفل الكعبين (إِلاَّ أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ) أي يسترخي إذا غفلت عنه، ووقع فِي رواية معمر، عن زيد بن أسلم، عند أحمد:"إن إزاري يسترخي أحيانًا"، فكأن شدّه كَانَ ينحلّ إذا تحرّك بمشي، أو غيره بغير اختياره، فإذا كَانَ محافظًا عليه لا يسترخي؛ لأنه كلّما كاد يسترخي شدّه. وأخرج ابن سعد منْ طريق طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت:"كَانَ أبو بكر أحنى لا يستمسك إزاره، يسترخي عن حِقْويه"، ومن طريق قيس بن أبي حازم، قَالَ:"دخلت عَلَى أبي بكر، وكان رجلاً نَحِيفًا".

(فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكَ لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ خُيَلَاءَ) وفي رواية زيد بن أسلم: "لست منهم". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

ص: 108

أخرجه هنا -104/ 5337 - 104/ 9721. وأخرجه (خ) فِي "الفضائل" 3665 و"اللباس" 5784 و"الأدب" 6062. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم إسبال الإزار، وهو التحريم. (ومنها): أنه لا حرج عَلَى منْ جرّ إزاره بغير قصد مطلقًا، وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كَانَ يكره جرّ الإزار عَلَى كلّ حال، فَقَالَ ابن بطّال: هو منْ تشديداته، وإلا فقد رَوَى هو حديث الباب، فلم يَخْفَ عليه الحكم، قَالَ الحافظ: بل كراهة ابن عمر محمولة عَلَى منْ قصد ذلك، سواء كَانَ عن مَخِيلة، أم لا، وهو المطابق لروايته المذكورة، ولا يُظنّ بابن عمر أنه يؤاخذ منْ لم يقصد شيئًا، وإنما يُريد بالكراهة منْ انجرّ إزاره بغير اختياره، ثم تمادى عَلَى ذلك، ولم يتداركه، وهذا متَّفقٌ عليه، وإن اختلفوا هل الكراهة فيه للتحريم، أو للتنزيه. (ومنها): أن فيه اعتبار أحوال الأشخاص فِي الأحكام باختلافها، وهو أصلٌ مطّردٌ غالبًا. قاله فِي "الفتح" 11/ 426. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌105 - (ذُيُولُ النِّسَاءِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الذيول": جمع ذَيل، كفلس وفُلُوس، يقال: ذال الثوب ذَيْلاً، منْ باب باع: طال، حَتَّى مسّ الأرض، ثمّ أطلق الذيلُ عَلَى طرفه الذي يلي الأرض، وإن لم يمسّها؛ تسميةً بالمصدر، وذال الرجل يَذِيلُ: جرّ أذياله خُيَلاء. قاله الفيّوميّ. والله تعالى أعلم بالصواب.

5338 -

(أَخْبَرَنَا نُوحُ بْنُ حَبِيبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ مِنَ الْخُيَلَاءِ، لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ"، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ تَصْنَعُ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ؟، قَالَ: "تُرْخِينَهُ شِبْرًا"، قَالَتْ: إِذًا تَنْكَشِفَ أَقْدَامُهُنَّ، قَالَ: "تُرْخِينَهُ ذِرَاعًا، لَا تَزِدْنَ عَلَيْهِ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(نوح بن حبيب) الْقُومسيّ، أبو محمد الْبَذَشيّ، ثقة سنّيّ [10] 79/ 1010.

ص: 109

2 -

(عبد الرزاق) بن همّام أبو بكر الصنعانيّ، ثقة حافظ مصنّف مشهور، يتشيّع، وتغيّر بعد أن عمي [9] 61/ 77.

3 -

(معمر) بن راشد، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقة ثبت [7] 10/ 10.

4 -

(أيوب) بن أبي تميمة كيسان السختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت فقيه عابد [5] 42/ 47. والباقيان تقدّما قريبًا. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد انفرد به هو، وأبو داود. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ مِنَ الْخُيَلَاءِ، لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ"، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ) هند بنت أبي أُميّة المخزوميّة، أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها (يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ تَصْنَعُ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ؟) أي أيقصّرنه مثل الرجال، أم يجوز لهن الإسبال؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (تُرْخِينَهُ) بضم أوله منْ الإرخاء: أي ترسلن الذيل، وإنما ذكّر الضمير مع أن مرجعه الذيول، وهو جمع؛ نظراً لكونه جنسًا، إذ الإضافة تأتي لما تأتي له "أل" الجنسية، وهي تبطل معنى الجمعيّة (شِبْراً) أي مقدار شبر، والمراد إرخاؤه منْ نصف الساق (قَالَتْ) أم سلمة رضي الله تعالى عنها (إِذاً) بالتنوين، هي "إذًا" الجوابية، وتنوينها تنوين عوض، والأصل: إذا أرخينه شبراً (تَنْكَشِفَ أَقْدَامُهُنَّ) بنصب الفعل بـ"إذا"؛ لتوفّر شروط عملها، وهي كونها مصدّرة، متصلة، ووليها الفعل المستقبل، دون فاصل بينها وبينه، كما بيّن ذلك بعضهم بقوله:

أَعْمِلْ "إِذُا" إِذَا أَتْتْكَ أَوَّلا

وَسُقْتَ فِعْلاً بَعْدَهَا مُسْتَقْبَلا

وَاحْذَرْ إِذَ أَعْمَلْتَهَا أَنْ تَفْصِلَا

إِلَّا بِحَلْفٍ أَوْ نِدَاءٍ أَوْ بِـ"لَا"

وَافْصِلْ بِظَرْفٍ أَوْ بِمَجْرُورِ عَلَى

رَأْيِ ابْنِ عُصْفُورِ رَئِيس النُّبَلَا

وَإِنْ تَجِىءْ بِحَرْفِ عَطْفٍ أَوَّلَا

فَأَحْسَنُ الْوَجْهَيْنِ أَنْ لَا تَعْمَلَا

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (تُرْخِينَهُ ذِرَاعًا) أي مقدار ذراع (لَا تَزِدْنَ عَلَيْهِ) أي عَلَى مقدار الذراع. قَالَ الطيبيّ: المراد به الذراع الشرعيّ، إذ هو أقصر منْ العرفيّ. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي فيما قاله الطيبيّ نظرٌ، إذ الشارع أطلقه، ولم

ص: 110

يقيّده بنوع منْ الذراع، فالظاهر أراد إحالته عَلَى ما تعارف النَّاس أنه ذراع، ويدلّ عَلَى ذلك ما أخرجه أبو داود منْ طريق أبي الصدّيق الناجيّ، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قَالَ: رخّص رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمهات المؤمنين فِي الذيل شبرًا، ثم استزدنه، فزادهنّ شبرًا، فكنّ يرسلن إلينا، فنذرع لهنّ ذراعاً

(1)

.

فقد عمل الصحابة بمطلق الذراع، قَالَ الحافظ: أفادت هذه الرواية قدر الذراع المأذون فيه، وأنه شبران بشبر اليد المعتدلة. فتبصّر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -105/ 5338 - وفي "الكبرى" 106/ 9735. وأخرجه (ت) فِي "اللباس" 1731. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي بيان الاختلاف الواقع فِي زيادة قصّة أم سلمة رضي الله تعالى عنها فِي هَذَا الْحَدِيث:

(اعلم): أن هَذَا الْحَدِيث أخرجه البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه"، وليست فيه هذه الزيادة:"قالت أم سلمة: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم الخ"، فَقَالَ الحافظ رحمه الله تعالى فِي شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"لا ينظر الله يوم القيامة إلى منْ جرّ إزاره بَطَراً": ما حاصله: قوله: "منْ": يتناول الرجال والنساء فِي الوعيد المذكور، عَلَى هَذَا الفعل المخصوص، وَقَدْ فَهِمَت ذلك أم سلمة رضي الله عنها، فأخرج النسائيّ، والترمذي، وصححه، منْ طريق أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، متصلا بحديثه المذكور فِي الباب الأول:"فقالت أم سلمة: فكيف تصنع النِّساء بذيولهن، فَقَالَ: يرخين شبراً، فقالت: إذا تنكشف أقدامهن، قَالَ: فيرخينه ذراعا، لا يزدن عليه" لفظ الترمذيّ، وَقَدْ عزا بعضهم هذه الزيادة لمسلم، فَوَهِمَ، فإنها ليست عنده، وكأن مسلما أعرض عن هذه الزيادة؛ للاختلاف فيها عَلَى نافع، فقد أخرجه أبو داود،

(1)

حديث صحيح، ولا يقال: فِي إسناد زيد العميّ، وهو ضعيفٌ؛ لأن المصنّف رحمه الله تعالى رواه منْ طريق أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فهو شاهد له، فيصح به، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

ص: 111

والنسائي (5341) وغيرهما، منْ طريق عبيد الله بن عمر، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة. وأخرجه أبو داود، منْ طريق أبي بكر بن نافع، والنسائي منْ طريق أيوب بن موسى، ومحمد بن إسحاق، ثلاثتهم عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد، عن أم سلمة. وأخرجه النسائيّ (5339)، منْ رواية يحيى بن أبي كثير، عن نافع، عن أم سلمة نفسها، وفيه اختلافات أخرى، ومع ذلك فله شاهد منْ حديث ابن عمر، أخرجه أبو داود، منْ رواية أبي الصديق، عن ابن عمر، قَالَ:"رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمهات المؤمنين شبرا، ثم استزدنه، فزادهن شبرا، فكن يُرسلن إلينا، فنذرع لهن ذراعاً"، وأفادت هذه الرواية قدر الذراع المأذون فيه، وأنه شبران بشبر اليد المعتدلة.

ويستفاد منْ هَذَا الفهم التعقبُ عَلَى منْ قَالَ: إن الأحاديث المطلقة فِي الزجر عن الإسبال، مقيدة بالأحاديث الأخرى المصرحة بمن فعله خيلاء، قَالَ النوويّ: ظواهر الأحاديث فِي تقييدها بالجر خيلاء، يقتضي أن التحريم مختص بالخيلاء.

ووجه التعقب أنه لو كَانَ كذلك، لما كَانَ فِي استفسار أم سلمة، عن حكم النِّساء فِي جر ذيولهن معنى، بل فهمت الزجر عن الإسبال مطلقا، سواء كَانَ عن مَخِيلة أم لا، فسألت عن حكم النِّساء فِي ذلك؛ لاحتياجهن إلى الإسبال، منْ أجل ستر العورة؛ لأن جميع قدمها عورة، فبَيَّن لها أن حكمهن فِي ذلك خارج عن حكم الرجال فِي هَذَا المعنى فقط، وَقَدْ نقل عياض الإجماع عَلَى أن المنع فِي حق الرجال دون النِّساء، ومراده منع الإسبال؛ لتقريره صلى الله عليه وسلم أم سلمة عَلَى فهمها، إلا أنه بين لها أنه عام مخصوص؛ لتفرقته فِي الجواب بين الرجال والنساء فِي الإسبال، وتبيينه القدر الذي يمنع ما بعده فِي حقهن، كما بَيَّن ذلك فِي حق الرجال.

والحاصل أن للرجال حالين: حال استحياب، وهو أن يقتصر بالإزار عَلَى نصف الساق، وحال جواز، وهو إلى الكعبين، وكذلك للنساء حالان: حال استحباب، وهو ما يزيد عَلَى ما هو جائز للرجال بقدر الشبر، وحال جواز بقدر ذراع، ويؤيد هَذَا التفصيل فِي حق النِّساء، ما أخرجه الطبراني فِي "الأوسط" منْ طريق معتمر، عن حميد، عن أنس:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم شَبَرَ لفاطمة منْ عَقِبها شبرًا، وَقَالَ: هَذَا ذيل المرأة"، وأخرجه أبو يعلى بلفظ:"شَبَر منْ ذيلها شبرا، أو شبرين، وَقَالَ: لا تزدن عَلَى هَذَا"، ولم يسم فاطمة، قَالَ الطبراني: تفرد به معتمر، عن حميد، قَالَ الحافظ: و"أو" شك منْ الراوي، والذي جزم بالشبر هو المعتمد، ويؤيده ما أخرجه الترمذيّ، منْ حديث أم سلمة:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم شَبَرَ لفاطمة شبرًا". انتهى ما فِي "الفتح" 11/ 430/ 432. وهو بحثٌ نفيس جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا،

ص: 112

ونعم الوكيل.

5339 -

(حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ مَزْيَدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّهَا ذَكَرَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذُيُولَ النِّسَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يُرْخِينَ شِبْرًا"، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: إِذًا يَنْكَشِفَ عَنْهَا، قَالَ: "تُرْخِي ذِرَاعًا، لَا تَزِيدُ عَلَيْهِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "العبّاس بن الوليد بن مَزْيد": البيروتيّ، صدوقٌ عابدٌ [11] منْ أفراد المصنّف، وأبي داود. و"أبوه": هو الوليد بن مَزْيَد -بفتح الميم، وسكون الزاي، وفتح التحتانيّة- الْعُذْريّ، أبو العبّاس البيروتيّ، ثقة ثبت، قَالَ المصنّف: كَانَ لا يُخطيء، ولا يدلّس [8] منْ أفراد المصنّف، وأبي داود أيضًا. و"الأوزاعيّ": هو عبد الرحمن بن عمرو.

وقوله: "إذًا ينكشف عنها" بنصب الفعل، كما سبق، والفاعل ضمير يعود إلى قدمهنّ، كما دلّت عليه الروايات الأخرى.

والحديث صحيح، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -105/ 5339 - وفي "الكبرى" 106/ 9737. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5340 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ صَفِيَّةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، لَمَّا ذَكَرَ فِي الإِزَارِ مَا ذَكَرَ، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَكَيْفَ بِالنِّسَاءِ؟ قَالَ: "يُرْخِينَ شِبْرًا"، قَالَتْ: إِذًا تَبْدُوَ أَقْدَامُهُنَّ، قَالَ: "فَذِرَاعًا لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"سفيان": هو ابن عيينة. و"نافع": هو مولى ابن عمر. و"صفيّة": هي بنت أبي عُبيد بن مسعود الثقفيّة، زوج ابن عمر، قيل: لها إدراك، وأنكره الدارقطنيّ، وَقَالَ العجليّ: ثقة، فهي منْ [2].

وقوله: "إذا تبدو" بنصب الفعل بـ"إذاً"، كما سبق، وتمام شرح الْحَدِيث مضى، وفيه مسألتان:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -105/ 5339 و5340 و5341 - وفي "الكبرى" 106/ 9737 و9740

ص: 113

و9742. وأخرجه (د) فِي "اللباس" 4117 (ت) فِي "اللباس" 1732 (ق) فِي "اللباس" 3580 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 25972 و25992 و26096 و26141 (الموطأ) فِي "الجامع" 1700 (الدارميّ) فِي "الاستئذان" 2530. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5341 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ -وَهُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ- قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَمْ تَجُرُّ الْمَرْأَةُ مِنْ ذَيْلِهَا؟ قَالَ: "شِبْرًا"، قَالَتْ: إِذًا يَنْكَشِفَ عَنْهَا، قَالَ: "ذِرَاعٌ، لَا تَزِيدُ عَلَيْهَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة. و"النضر": هو ابن شُميل.

[تنبيه]: قوله: "حدثنا النضر" هكذا نسخ "المجتبى"، و"الكبرى" بذكر "النضر" بين محمد بن عبد الأعلى، والمعتمر بن سليمان، ولم يذكره فِي "تحفة الأشراف" 13/ 9 حينما عزا الْحَدِيث إلى النسائيِّ فِي "الزينة"، بل قَالَ:"عن محمد بن عبد الأعلى، عن المعتمر، عن عُبيد الله، ولم يذكر فِي "تهذيب الكمال"، ولا فِي "تهذيب التهذيب" النضر منْ شيوخ محمد بن عبد الأعلى، ولا منْ تلاميذ المعتمر بن سليمان، والظاهر أنه النضر بن شُمَيل، والله تعالى أعلم.

و"عبيد الله": هو ابن عمر العمريّ.

وشرح الْحَدِيث سبق، وفيه مسألتان:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -105/ 5340 - وفي "الكبرى" 106/ 9742 و9743 و9745. وأخرجه (د) فِي "اللباس" 4118 (ق) فِي "اللباس" 3580. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 114

‌106 - (النَّهْيُ عَنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ)

5342 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ، وَأَنْ يَحْتَبِىَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد المتقدّم قريبًا.

2 -

(الليث) بن سعد المتقدّم قريبًا أيضاً.

3 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم الإمام الحجة الثبت [4] 1/ 1.

4 -

(عبيد الله بن عبد الله) بن عتبة بن مسعود الهذليّ المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 45/ 56.

5 -

(أبو سعيد) سعد بن مالك بن سنان الخدريّ رضي الله تعالى عنه 169/ 262. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، والليث، فمصريان. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سعيد رضي الله عنه منْ المكثرين السبعة، رَوَى (1170) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) الخدريّ رضي الله تعالى عنه. هكذا رواه الليث، عن ابن شهاب، ووافقه ابن جُريج، كما عند البخاريّ فِي "اللباس". ورواه ابن عيينة، عن الزهريّ، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد رضي الله عنه، كما فِي الرواية التالية. ورواه البخاريّ فِي "اللباس" أيضاً، عن يحيى بن بُكير، عن الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عامر ابن سعد، عن أبي سعيد رضي الله عنه، بسياق أتمّ، ولفظه: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن لبستين، وعن بيعتين: نهى عن الملامسة، والمنابذة فِي البيع، والملامسةُ: لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل، أو بالنهار، ولا يقلبه إلا بذلك، والمنابذةُ: أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه، وينبذ الآخرُ ثوبه، ويكون ذلك بيعهما، عن غير نظر، ولا تراض، واللبستان:

ص: 115

اشتمال الصماء- والصماء: أن يجعل ثوبه عَلَى أحد عاتقيه، فيبدُو أحد شقيه، ليس عليه ثوب، واللبسة الأخرى: احتباؤه بثوبه، وهو جالس ليس عَلَى فرجه منه شيء".

قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: والطرق الثلاثة صحيحة، وابن شهاب سمع حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه منْ ثلاثة منْ أصحابه، فحدّث به عن كلّ منهم بمفرده. انتهى "فتح" 2/ 27 - 28. "كتاب الصلاة".

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: طريق عامر بن سعد تقدّمت للمصنّف فِي "البيوع" 24/ 4512 مختصرةً. والله تعالى أعلم.

(قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ) الاشتمال: الالتفاف، وَقَدْ يُسمّى التحافًا، كما فِي رواية أخرى، قاله القرطبيّ. والصماء -بفتح الصاد المهملة

(1)

والمدّ- اختلف اللغويّون، والفقهاء فِي تفسيرها، فَقَالَ الأصمعيّ: هو أن يشتمل بالثوب، حَتَّى يُجَلِّل به جسده، لا يرفع منه جانبًا، فلا يبقى ما يخرُج منه يده، وهذا يقوله أكثر أهل اللغة. قَالَ ابن قتيبة: سُمّيت صماء؛ لأنه سدّ المنافذ كلها، فتصير كالصخرة الصماء التي ليس فيها خرق، ولا صدع. قَالَ أبو عُبيد: وأما الفقهاء، فيقولون: هو أن يشتمل بثوب، ليس عليه غيره، ثم يرفعه منْ أحد جانبيه، فيضعه عَلَى أحد منكبيه، فيصير فرجه بادياً. قَالَ النوويّ: فعلى تفسير أهل اللغة يكون الاشتمال مكروهُا لئلا تعرِض له حاجة، منْ دفع بعض الهوامّ، ونحوها، أو غير ذلك، فيتعسّر عليه، أو يتعذّر إخراج يده، فيلحقه الضرر، وعلى تفسير الفقهاء يحرم الاشتمال؛ لأجل انكشاف العورة، وإلا فيكره. انتهى شرح مسلم ببعض تصرّف 14/ 76.

ووقع فِي رواية للبخاريّ فِي "كتاب اللباس" منْ طريق يونس، عن ابن شهاب تفسير اشتمال الصمّاء، ولفظه:"والصمّاء أن يجعل ثوبه عَلَى أحد عاتقيه، فيبدوَ أحد شِقّيه، ليس عليه ثوبٌ. قَالَ فِي "الفتح" 2/ 28: ما معناه: ظاهر هَذَا السياق أن التفسير المذكور فِي هذه الرواية مرفوع، وهو موافقٌ لما قَالَ الفقهاء، قَالَ: وعلى تقدير أن يكون موقوفًا، فهو حجة عَلَى الصحيح؛ لأنه تفسير منْ الراوي، لا يُخالف ظاهر الخبر. انتهى.

(وَأَنْ يَحْتَبِيَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ) قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: الاحتباء بالمدّ هو أن يقعد الإنسان عَلَى أليتيه، وينصب ساقيه، ويحتوي عليهما بثوب، أو نحوه، أو بيده، وهذه القِعدة يقال لها: الحبوة -بضم الحاء، وكسرها، وكان

(1)

هَذَا هو الصواب فِي ضبطه، فما وقع قي شرح السيوطيّ منْ ضبطه بالضمّ، فالظاهر أنه سبق قلم، فليس فِي كتب اللغة إلا الفتح، فتنبّه.

ص: 116

هَذَا الاحتباء عادة للعرب فِي مجالسهم، فإن انكشف معه شيء منْ عورته، فهو حرام. انتهى "شرح مسلم" 14/ 76 - 77.

وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: كانت عادة العرب أن يحتبي الرجل بردائه، فيشُدّ عَلَى ظهره، وعلى ركبتيه، كَانَ عليه إزارٌ، أو لم يكن، فإن لم يكن انكشف فرجه مما يلي السماء لمن كَانَ متطلّعًا عليه، متتبعا. انتهى "المفهم" 5/ 416 - 417. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -106/ 5342 و5343 - وفي "الكبرى" 107/ 9746 و9747. وأخرجه (خ) فِي "الصلاة" 367 و"الصوم" 1992 و"اللباس" 5820 و5822 و"الاستئذان" 6284 (م) فِي "الحجّ" 827 و"البيوع" 1512 (د) فِي "البيوع" 3277 و"اللباس" 3559 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 10629 و10710 و11029 و11237 و11489 (الدارميّ) فِي "البيوع" 2449. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان النهي عن اشتمال الصمّاء، وَقَدْ تقدّم اختلاف الفقهاء، واللغويين فِي تفسيره، وعلى كلّ منْ التفسيرين فهي ممنوعة. (ومنها): النهي عن الاحتباء، وسبب النهي عنه انكشاف عورته، فلو كَانَ لابسًا للسراويل، ونحوه، بحيث لا تظهر عورته عند الاحتباء، جاز الاحتباء. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5343 -

(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ، وَأَنْ يَحْتَبِىَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة. و"سفيان": هو ابن عُيينة. والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم تمام البحث فيه فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 117

‌107 - (النَّهْيُ عَنْ الاِحْتِبَاءِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ)

5344 -

(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ، وَأَنْ يَحْتَبِيَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة. و"الليث": هو ابن سعد. و"أبو الزبير": هو محمد بن مسلم بن تَدْرُس.

والسند منْ رباعيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (256) منْ رباعيّات الكتاب، وشرح الْحَدِيث سبق فِي الباب الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث جابر رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه مسلم، مطوّلاً، ونصّه:

2099 -

وحدثنا إسحاق بن إبراهيم، ومحمد بن حاتم، قَالَ إسحاق: أخبرنا، وَقَالَ

ابن حاتم: حدثنا محمد بن بكر، أخبرنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله، يحدث أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"لا تمش فِي نعل واحد، ولا تحتب فِي إزار واحد، ولا تأكل بشمالك، ولا تشتمل الصماء، ولا تضع إحدى رجليك عَلَى الأخرى، إذا استلقيت". انتهى.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -107/ 5346 - فقط، وأخرجه (م) فِي "اللباس" 2099 (د) فِي "اللباس" 4865 (ت) فِي "اللباس"2767. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 118

‌108 - (لُبْسِ الْعَمَائِمِ الْحَرْقَانِيَّةِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الْحَرَقَانيّة" -بفتح الحاء المهملة، والراء- قَالَ فِي "القاموس": عمامة حَرَقانيّة، محرّكةً: عَلَى لون ما أحرقته النار. انتهى. وَقَالَ ابن الأثير: هكذا يُروى، وجاء تفسيرها فِي الْحَدِيث: أنها السوداء، ولا يُدرى ما أصله. وَقَالَ الزمخشريّ: الْحَرَقانيّة: هي التي عَلَى لون ما أحرقته النار، كأنها منسوبة بزيادة الألف والنون إلى الحرق -بفتح الحاء، والراء-. قَالَ: ويقال: الْحَرْقُ بالنار -بفتح، فسكون- والْحَرَق -بفتحتين- معاً. انتهى "النهاية" 1/ 372.

قلت: كون "الحرَقَانيّة بفتحتين هو الذي فِي "القاموس"، و"اللسان"، وأما ما فِي شرح السيوطيّ، وتبعه السنديّ منْ ضبطه بسكون الراء، فلم أره لغيرهما، فتبصّر. والله تعالى أعلم بالصواب.

5345 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُسَاوِرٍ الْوَرَّاقِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: "رَأَيْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِمَامَةً حَرْقَانِيَّةً").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن المسور بن مَخْرَمة الزهريّ البصريّ، صدوقٌ، منْ صغار [10] 42/ 48.

[تنبيه]: وقع فِي نسخ "المجتبى" التي بين يديّ فِي هَذَا السند ما لفظه: "أخبرنا عبد الله بن محمد، قَالَ: حدّثني عبد الرحمن، قَالَ: حدّثنا سفيان الخ"، فجعل "عبد الرحمن" جدّ عبد الله شيخًا له، وكذا وقع فِي "الكبرى"، ما لفظه:"أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن الزهريّ، قَالَ ثنا سفيان الخ" وكلا النسختين غلط، والصواب -كما فِي "تحفة الأشراف" 8/ 144 - : "أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن، قَالَ: حدّثنا سفيان الخ، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

2 -

(سفيان) بن عيينة، أبو محمد المكيّ، ثقة ثبت حجة [8] 1/ 1.

3 -

(مُساور الرّواق) الكوفيّ الشاعر، واسم أبيه سوّار بن عبد الحميد، قاله أسلم الواسطيّ، ثقة

(1)

[7].

(1)

وقول صاحب "التقريب": صدوقٌ فيه نظر؛ لأنه رَوَى عنه جماعة، ووثقه ابن معين، وابن حبّان، وَقَالَ أحمد: ما أرى بحديثه بأساً، وَقَالَ سفيان نحوه، ولم يتكلم فيه أحد بجرح. فتأمل.

ص: 119

رَوَى عن سيار أبي الحكم، ويقال: إنه أخوه لأمه، وجعفر بن عمرو بن حريث، وأبي حَصِين الأسدي، وشعيب بن يسار، مولى ابن عبّاس. وعنه ابن أبي زائدة، وابن عيينة، وعبيد الله الأشجعي، ووكيع، وأبو أسامة. قَالَ عبد الله بن أحمد، عن أبيه: كَانَ يقول الشعر، ما أرى بحديثه بأسا. وَقَالَ إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ محمد بن عبيد المكيّ، عن ابن عيينة: سمعت مساورا الوراق يقول: ما كنت أقول للرجل إني أحبك فِي الله، ثم أمنعه شيئا منْ الدنيا. وذكره أسلم بن سهل الواسطي فِي "تاريخ واسط" فِي أهل القرن الثاني، وجزم بأنه أخو سيار لأمه، ويقال: هو مساور بن سوار بن عبد الحميد، وله أخبار كثيرة، وأشعار شهيرة.

رَوَى له مسلم، والأربعة، له عند المصنّف هَذَا الْحَدِيث، والحديث الذي يأتي بعد باب فقط.

4 -

(جعفر بن عمرو بن حُريث) المخزوميّ، مقبول [3].

رَوَى عن أبيه، وعديّ بن حاتم، وهو جدّه لأمه. وعنه مساور الورّاق، والمسيّب بن شريك، ومعن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود. ذكره ابن حبّان فِي "الثقات". رَوَى له مسلم، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ فِي "الشمائل"، وابن ماجه. له عند المصنّف هَذَا الْحَدِيث، والحديث الذي بعد باب.

5 -

(عمرو بن حُريث) بن عمرو بن عثمان بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشيّ المخزوميّ، صحابيّ صغير، مات رضي الله عنه سنة (85) رَوَى له الجماعة، وليس له عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب إلا هَذَا الْحَدِيث، وحديث آخر تقدّم فِي "كتاب الصلاة" 44/ 951: قَالَ: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ فِي الفجر {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} . والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ:"رَأَيْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِمَامَةً حَرْقَانِيَّةً) تقدّم أول الباب أنها بفتح الحاء، والراء: أي سوداء، عَلَى لون ما أحرقته النار. وفي الرواية الآتية بعد باب، منْ طريق أبي أسامة، عن مساور: "كأني أنظر الساعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى المنبر، وعليه عمامة سوداء، قد أرخى طرفها بين كتفيه". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 120

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عمرو بن حُريث رضي الله عنه هَذَا أخرجه مسلم، باللفظ الآتي بعد باب:"كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عَلَى المنبر، وعليه عمامة سوداء، قد أرخى طرفيها بين كتفيه". والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -108/ 5345 و110/ 5348. وفي "الكبرى" 108/ 9758 و9759 و9760. وأخرجه (م) فِي "الحجّ" 1359 (د) فِي "اللباس" 4077 (ق) فِي "الصلاة" 1104 و"الجهاد" 2821 و"اللباس" 3584 و3587 (أحمد) فِي "مسند الكوفيين"18259. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز لبس العمامة السوداء. (ومنها): استحباب إرخاء طرف العمامة بين الكتفين، وفي حديث جابر رضي الله عنه الآتي فِي الباب التالي:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخل يوم فتح مكة، وعليه عمامة سوداء بغير إحرام"، فَقَالَ الإمام ابن القيّم رحمه الله تعالى فِي "زاد المعاد": لم يُذكر فِي حديث جابر رضي الله عنه ذؤابة، فدلّ عَلَى أن الذؤابة لم يكن يُرخيها دائمًا بين كتفيه. انتهى. وتعقبه فِي "عون المعبود" 11/ 87 فَقَالَ: وفيه نظر، إذ لا يلزم منْ عدم ذكر الذؤابة فِي هَذَا الْحَدِيث عدمها فِي الواقع، حَتَّى يُستدلّ به عَلَى أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يُرخي الذؤابة دائمًا. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: نعم هَذَا مسلّمٌ، ولكن أين النصّ الذي يدلّ عَلَى أنه جمع كَانَ يُرخي دائمًا؟ فالظاهر أن الإرخاء وعدمه جائزان، فتبصّر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌109 - (لُبْسِ الْعَمَائِمِ السُّودِ)

5346 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، دَخَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، بِغَيْرِ إِحْرَامٍ").

ص: 121

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"معاوية بن عمّار": هو الدُّهْنيّ -بضمّ الدال المهملة، وسكون الهاء- صدوقٌ [8].

[تنبيه]: هَذَا السند منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو أعلى الأسانيد له، كما سبق بيانه غير مرّة، وهو (257) منْ رباعيات الكتاب. والله تعالى أعلم.

والحديث أخرجه مسلم، وَقَدْ تقدّم سنداً، ومتنًا فِي "كتاب الحجّ" 107/ 2869. ومضى شرحه، وبيان مسائله هناك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5347 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: "دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمرو بن منصور": هو أبو سعيد النسائيّ الثقة الحافظ [11] منْ أفراد المصنّف. و"الفضل بن دُكين": هو أبو نعيم الحافظ المشهور. و"شريك": هو ابن عبد الله النخعيّ الكوفيّ القاضي.

والحديث أخرجه مسلم، كما تقدّم بيانه فِي الْحَدِيث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌110 - (إِرْخَاءِ طَرَفِ الْعِمَامَةِ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ)

5348 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ مُسَاوِرٍ الْوَرَّاقِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: "كَأَنِّي أَنْظُرُ السَّاعَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، قَدْ أَرْخَى طَرَفَهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمد بن أبان": هو البلخيّ، أبو بكر المستملي الملقّب حمدويه، وكان مستملي وكيع، ثقة حافظ [10] منْ رجال الجماعة، إلا

ص: 122

مسلمًا. و"أبو أُسامة": هو حمّاد بن أسامة الحافظ الثبت الكوفيّ [9].

والحديث أخرجه مسلم، وَقَدْ تقدّم تمام البحث فيه قبل باب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌111 - (التَّصَاوِيرُ)

5349 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا، فِيهِ كَلْبٌ، وَلَا صُورَةٌ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"سفيان": هو ابن عيينة. و"عُبيد الله بن عبد الله": هو ابن عُتبة بن مسعود. و"أبو طلحة": هو زيد بن سهل بن الأسود بن عمرو بن حرام الأنصاريّ النجّاريّ، زوج أم سليم، منْ كبار الصحابة رضي الله عنهم، شهد بدرًا وما بعدها، مات رضي الله عنه سنة (34) وقيل: بعد ذلك، تقدّمت ترجمته فِي 122/ 177. والسند فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، وتابعيّ، عن تابعيّ، وهو مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فبَغْلانيّ، وسفيان فمكيّ.

وقوله: "لا تدخل الملائكة": ظاهره العموم، وقيل: يستثنى منهم الحفظة، فإنهم لا يفارقون الشخص فِي كلّ حالة، وَقَدْ تقدّم فِي "كتاب الصيد" ترجيح القول بالعموم بدليله، فراجعه تستفد.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي "كتاب الصيد والذبائح" 11/ 4284 ومضى شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5350 -

(أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا، فِيهِ كَلْبٌ، وَلَا صُورَةُ تَمَاثِيلَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا

ص: 123

غير مرّة. و"محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب": هو الأمويّ البصريّ، واسم أبي الشوارب: محمد بن عبد الله بن عثمان البصريّ، صدوقٌ، منْ كبار [10]. و"يزيد": هو ابن زُريع الحافظ الثبت. و"معمر": هو ابن راشد.

وقوله: "صورة تماثيل" بفتح التاء: جمع تِمثال بكسرها: قَالَ فِي "اللسان": التِّمْثال: الصورة، والجمع التماثيل، ومثّل له الشيءَ: صوّره، حَتَّى كأنه ينظر إليه. قَالَ: والتِّمْثال: اسم للشيء المصنوع، مشبّهًا بخلق الله تعالى، قَالَ: وأما التَّمْثال بفتح التاء، فهو مصدر مثّلتُ تمثيلاً، وتَمْثالاً. انتهى.

وعلى هَذَا فإضافة "صورة" إليه بيانيّة: أي صورة هي ثمثالٌ.

والحديث متَّفقٌ عليه، كما سبق بيانه فيما قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5351 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ شُعَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْنٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي طَلْحَةَ الأَنْصَارِيِّ يَعُودُهُ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ، فَأَمَرَ أَبُو طَلْحَةَ إِنْسَانًا، يَنْزِعُ نَمَطًا تَحْتَهُ، فَقَالَ لَهُ سَهْلٌ: لِمَ تَنْزِعُ؟ قَالَ: لأَنَّ فِيهِ تَصَاوِيرُ، وَقَدْ قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا قَدْ عَلِمْتَ، قَالَ: أَلَمْ يَقُلْ: "إِلاَّ مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ"؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّهُ أَطْيَبُ لِنَفْسِي).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(عليّ بن شُعيب) بن عديّ السِّمْسَارُ البزّاز البغداديّ، فارسيّ الأصل، ثقة، منْ كبار [11] 176/ 278 منْ أفراد المصنّف.

2 -

(معن) بن عيسى بن يحيى الأشجعيّ مولاهم، أبو يحيى المدنيّ القزّاز، ثقة ثبتٌ، قَالَ أبو حاتم: هو أثبت أصحاب مالك، منْ كبار [10] 50/ 62.

3 -

(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة الحجة الثبت [7] 7/ 7.

4 -

(أبو النضر) سالم بن أبي أميّة، مولى عمر بن عبيد الله التيميّ المدنيّ، ثقة ثبت يرسل [5] 98/ 121.

5 -

(عبيد الله بن عبد الله) بن عتبة بن مسعود الهذليّ المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 45/ 56.

6 -

(أبو طلحة) زيد بن سهل المذكور فِي السند الماضي. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير

ص: 124

شيخه أيضاً، كما مرّ آنفاً. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بن عتبة بن مسعود (أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي طَلْحَةَ الأَنْصَارِيِّ) رضي الله عنه.

هَذَا صريح فِي كون عبيد الله لقي أبا طلحة رضي الله عنه، لكن تكلّموا فيه كما سيأتي بيانه فِي "المسألة الثانية"، إن شاء الله تعالى (يَعُودُهُ) أي يزوره لمرض أصابه (فَوَجَدَ عِنْدَهُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ) بصيغة التصغير- ابن واهب الأنصاريّ الأوسيّ، صحابيّ، منْ أهل بدر، واستخلفه عليّ رضي الله عنه عَلَى البصرة، ومات رضي الله عنه فِي خلافته، سنة (38) وتقدّمت ترجمته فِي 9/ 699.

[تنبيه]: سيأتي فِي كلام أبي عمر ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى أن الصواب أنه عثمان ابن حُنيف، لا سهل أخوه، فتنبّه.

(فَأَمَرَ أَبُو طَلْحَةَ) رضي الله عنه (إِنْسَانًا، يَنْزِعُ) بكسر الزاي، منْ باب ضرب: أي يَقلَع، ويُزيل (نَمَطًا) بفتحتين: ثوب منْ صوف، ذو لون منْ الألوان، ولا يكاد يقال للأبيض نَمَطٌ، والجمع أنماطٌ، مثلُ سبب وأسباب. قاله الفيّوميّ. وَقَالَ ابن الأثير: النمط: ضرب منْ البُسط، له خَمْلٌ رقيقٌ. انتهى "النهاية" 5/ 119 (تَحْتَهُ) متعلّق بصفة "نمطاً": أي كائنًا تحته (فَقَالَ لَهُ) أي لأبي طلحة رضي الله عنه (سَهْلٌ) أي ابن حُنيف رضي الله عنه (لِمَ تَنْزِعُ؟) أي لأيّ غرض تزيل هَذَا النمط؟ (قَالَ) أبو طلحة رضي الله عنه (لأَنَّ فِيهِ تَصَاوِيرُ، وَقَدْ قَالَ فِيهَا) أي فِي حكم التصاوير (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَا قَدْ عَلِمْتَ)"ما" موصولة فِي محلّ نصب مفعول "قَالَ"، والعائد محذوف: أي قد علمته، والذي علمه هو قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تدخل الملائكة بيتًا، فيه كلب، ولا صورة"(قَالَ) سهل (أَلَمْ يَقُلْ) أي النبيّ صلى الله عليه وسلم (إِلاَّ مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ؟) الرقمُ -بفتح، فسكون-: النقش، والْوَشْيُ. قاله فِي "النهاية" 2/ 253 وَقَالَ فِي "القاموس": رَقَمَ الثوبَ: خطّطه، كرَقّمه. انتهى. وَقَالَ فِي "المصباح": رَقَمتُ الثوب رَقْماً، منْ باب قتل: وَشَيْتُهُ، فهو مرقومٌ، ورقَمتُ الكتاب: كتبته، فهو مرقومٌ، ورَقِيمٌ. قَالَ ابن فارس: الرَّقمُ: كلُّ ثوب رُقِم: أي وُشِيَ برقم معلوم، حَتَّى صار علماً، فيقالُ: بُرْدُ رَقْمٍ، وبُرُود رَقْمٍ. وَقَالَ الفارابيّ: الرقم منْ الْخَزّ ما رُقِمَ، ورقمتُ الشيءَ: أعلمته بعلامة تُميّزه عن غيره، كالكتابة، ونحوها، ومنه "لا يباع الثوب برقمه، ولا بلمسه". انتهى.

قَالَ النوويّ: يحتجّ بهذا الْحَدِيث منْ يقول بإباحة ما كَانَ رقماً مطلقًا، وجوابنا، وجواب الجمهور عنه أنه محمول عَلَى رقم عَلَى صورة الشجر، وغيره مما ليس

ص: 125

بحيوان، وهذا جائز عندنا. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله النوويّ منْ أن المراد رقم الشجر ونحوه فيه نظر؛ إذ لا فرق فِي جواز تصوير الشجر، ونحوه مما ليس بحيوان بين ما كَانَ رقمًا فِي ثوب، وبين غيره، فتأمّل بإنصاف.

وَقَالَ فِي "الفتح": قَالَ ابن العربيّ: حاصل ما فِي اتّخاذ الصور أنها إن كانت ذات أجسام حرُم بالإجماع، وإن كانت رقما، فأربعة أقوال:[الأول]: يجوز مطلقًا عَلَى ظاهر قوله فِي حديث الباب: "إلا رقمًا فِي ثوب". [الثاني]: المنع مطلقًا حَتَّى الرقم. [الثالث]: إن كانت الصورة باقية الهيئة، قائمة الشكل حرُم، وإن قُطعت الرأس، أو تفرّقت الأجزاء جاز. [الرابع]: إن كَانَ مما يُمتَهنُ جاز، وإن كَانَ معلّقًا لم يجُز. انتهى. وَقَدْ حكم ابن عبد البرّ عَلَى القول الثالث بأنه أعدل الأقوال، كما سيأتي قوله قريباً، إن شاء الله تعالى.

(قَالَ) أبو طلحة (بَلَى) أي قَالَ ذلك (وَلَكِنَّهُ) أي نزع هَذَا النمط (أَطْيَبُ لِنَفْسِي) أي أطهر للتقوى، واختيار الأولى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي طلحة رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -111/ 5351 - وفي "الكبرى" 109/ 9766. وأخرجه (ت) فِي "اللباس" 1750 (الموطأ) فِي "الجامع" 1802. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان تحريم التصاوير. (ومنها): جوز الصور المرقومة، قَالَ المباركفوريّ رحمه الله تعالى: استُدلّ بهذا الْحَدِيث عَلَى أن التصاوير إذا كانت فِي فراش، أو بساط، أو وسادة، فلا بأس بها. قَالَ: فِي الاستدلال بهذا الْحَدِيث عَلَى هَذَا المطلوب نظر منْ وجهين: [الأول]: أن المراد بقوله: "إلا ما كَانَ رقمًا فِي ثوب" تصوير غير الحيوان؛ جمعًا بين الأحاديث، كما صرّح به النوويّ. [والثاني]؛ أنه لو كَانَ المراد مطلق التصاوير، سواء كانت للحيوان، أو لغيره، لزم أن يكون اتّخاذ التصاوير كلّها جائزاً، سواء كانت فِي الستر، أو فِي ما يُنصب نصباتً، أو فِي البساط، والوسادة؛ لأنه مطلق، ليس فيه تقييد بكونها فِي البساط، أو غيره، وهو

ص: 126

كما ترى. انتهى "تحفة الأحوذي" 5/ 431.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله المباركفوريّ فيه نظر لا يخفى، أما الأول، فحمله عَلَى غير الحيوان قد تقدّم أنه غير صحيح؛ لأنه لا فرق بين الرقم وغيره فِي جواز تصوير غير الحيوان، وَقَدْ استثنى الشارع منْ الصور ما كَانَ رقمًا، كما هو نصّ هَذَا الْحَدِيث، وكذلك ما قُطعت رؤوسها، أو جُعلت بساطًا، يوطأ، كما سيأتي فِي حديث أبي هريرة رضي الله عنه بعد بابين.

وأما الثاني، فنقول: لا مانع منْ جواز اتّخاذ الصور الجائز الاستعمال؛ لأن الشارع إذا جوّز استعمال شيء، فقد جوّز اتّخاذه، فأيّ دليل دلّ عَلَى منع اتّخاذ الصور الجائزة الاستعمال؟. وسيأتي مزيد تحقيق قريباً، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي الاختلاف فِي سند هَذَا الْحَدِيث

قَالَ الحافظ أبو عمر رحمه الله تعالى فِي كتابه "التمهيد" 21/ 192 - 193: لم يختلف الرواة عن مالك فِي إسناد هَذَا الْحَدِيث، ومتنه فِي "الموطإ"، وفيه عن عبيد الله أنه دخل عَلَى أبي طلحة، فأنكر ذلك بعض أهل العلم، وَقَالَ: لم يلق عبيدُ الله أبا طلحة، وما أدري كيف قَالَ ذلك، وهو يروي حديث مالك هَذَا؟، وأظنّ ذلك -والله أعلم- منْ أجل أن بعض أهل السير قَالَ: توفّي أبو طلحة سنة (34) فِي خلافة عثمان رضي الله عنه، وعبيد الله لم يكن فِي ذلك الوقت ممن يصحّ له سماع.

قَالَ أبو عمر: اختُلف فِي وفاة أبي طلحة، وأصح شيء فِي ذلك، ما رواه أبو زرعة، قَالَ: سمعت أبا نعيم يحدث عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، قَالَ: سرد أبو طلحة الصوم بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم أربعين سنة، فكيف يجوز أن يقال: إنه مات سنة أربع وثلاثين، وهو قد صام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة، وإذا كَانَ ذلك كما ذكرنا، صح أن وفاته لم تكن إلا بعد خمسين سنة منْ الهجرة. والله أعلم.

وأما سهل بن حُنيف، فلا يَشُكّ عالم بأن عبيد الله بن عبد الله لم يره، ولا لقيه، ولا سمع منه، وذكره فِي هَذَا الْحَدِيث خطأ، لا شك فيه؛ لأن سهل بن حُنيف توفي سنة ثمان وثلاثين، وصلى عليه عليّ رضي الله عنه، ولا يذكره فِي الأغلب عبيد الله بن عبد الله لصغر سنه يومئذ، والصواب فِي ذلك -والله أعلم- عثمان بن حنيف، وكذلك رواه محمد بن إسحاق، عن أبي النضر سالم، عن عبيد الله بن عبد الله، قَالَ: انصرفت مع عثمان بن حنيف إلى دار أبي طلحة نعوده، فوجدنا تحته نمطا، وساق الْحَدِيث بمعنى حديث مالك، عن أبي النضر، واختُلف فِي وفاة عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، فَقَالَ

ص: 127

ابن بكير، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبيه، قَالَ: مات عبيد الله بن عبد الله قبل عليّ بن حسين، قَالَ أبو عمر: مات عليّ بن حسين رحمه الله سنة أربع وتسعين، وفيها مات عروة، وأبو سلمة، وجماعة منْ الفقهاء. وَقَالَ الواقدي: توفي عبيد الله بن عبد الله سنة ثمان وتسعين. وَقَالَ يحيى بن معين: مات عبيد الله بن عبد الله سنة اثنتين ومائة. قَالَ: ويقال: سنة تسع وتسعين.

قَالَ أبو عمر: قول محمد بن عمر الواقدي أصح ما فِي ذلك عندنا، وهو أعلم بهذا الشأن.

قَالَ أبو عمر: قد يكون إنكار منْ أنكر هَذَا الْحَدِيث، فِي دخول عبيد الله عَلَى أبي طلحة، وسهل بن حنيف، منْ أجل رواية ابن شهاب لهذا الْحَدِيث، عَلَى مارواه ابن أبي ذئب، فصح بهذا وهم مالك، فِي سهل بن حنيف، وكذلك وهم أبو النضر فِي روايته له، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي طلحة، ولم يدخل بينهما ابن عبّاس، فالصحيح فِي هَذَا الْحَدِيث رواية الزهريّ له، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عبّاس، عن أبي طلحة، كذا قَالَ عليّ بن المديني، وغيره، وهو عندي كما قالوه. والله أعلم.

فأما رواية ابن شهاب له، فحدثنا خلف بن القاسم، فساق بسنده إلى أبي الحرث، محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب العامري المدنيّ، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن عبّاس، عن أبي طلحة، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لا تدخل الملائكة بيتا فيه تصاوير".

وأخرج أيضًا بسنده إلى أبي مسلم الكشي، قَالَ: حدثنا أبو عاصم، عن ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عبّاس، عن أبي طلحة، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب، ولا صورة".

قَالَ: وَقَدْ خالف الأوزاعيُّ ابن أبي ذئب فِي هَذَا الْحَدِيث، فساق بسنده إلى بشر بن بكر، قَالَ: حدثنا الأوزاعي، أخبرني الزهريّ، قَالَ: حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قَالَ: حدثني أبو طلحة الأنصاريّ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب، ولا صورة".

قَالَ أبو عمر: هَذَا عندهم خطأ منْ الأوزاعي، وكان فِي حفظه شيء، لم يكن بالحافظ، وَقَدْ تابع ابنَ أبي ذئب عبدُ العزيز بن أبي سلمة الماجشون، ثم ساق بسنده إلى أبي مسلم الكشي، قَالَ: حدثنا عبد الله بن رجاء، قَالَ: حدثنا عبد العزيز بن الماجشون، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عبّاس، عن أبي طلحة، قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب، ولا

ص: 128

صورة".

قَالَ: وحديث معمر رواه عليّ بن المديني وغيره، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، قَالَ: أخبرني عبيد الله بن عبد الله، أنه سمع ابن عبّاس، يقول: سمعت أبا طلحة يقول، فذكره

وَقَدْ يحتمل أن يكون حديث ابن شهاب فِي هَذَا الباب، غير حديث أبي النضر؛ لأن فِي حديث ابن شهاب عمومَ الصور، دون استثناء شيء منها، وفي حديث أبي النضر استثناء ما كَانَ رقما فِي ثوب، وفيه جمع سهل بن حنيف فِي ذلك، مع أبي طلحة، فهو غير حديث أبي النضر، والله أعلم.

وَقَدْ كَانَ ابن شهاب يذهب فِي هَذَا الباب، إلى استعمال العموم فِي كراهة الصور كلها، وحديث نافع عن القاسم بن محمد، بمثل حديث ابن شهاب عام أيضًا فِي الثياب وغيرها، وَقَدْ رَوَى عبد العزيز بن عمران، عن مالك بن أنس، عن الزهريّ، وأبي النضر جميعا، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي طلحة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن التصاوير فِي البيوت، وهو غريب لمالك، عن الزهريّ خاصة، تفرد به عنه عبد العزيز ابن عمران، رواه عنه يعقوب بن محمد الزهريّ. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى "التمهيد" 21/ 192 - 195. وهو بحث نفيس. والله تعالى أعلم.

وَقَالَ الحافظ فِي "الفتح" 11/ 579: ووقع فِي رواية الأوزاعي، عن الزهريّ، عن عبيد الله، عن أبي طلحة، لم يذكر ابن عبّاس بينهما، ورجح الدارقطنيّ رواية منْ أثبته، وَقَدْ أخرجه مالك فِي "الموطإ" عن أبي النضر، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أنه دخل عَلَى أبي طلحة يعوده، فذكر قصة، وفيها المتن المذكور، وزاد فيه استثناء الرقم فِي الثوب، قَالَ: فلعل عبيد الله سمعه منْ ابن عبّاس، عن أبي طلحة، ثم لقي أبا طلحة، لَمّا دخل يعوده، فسمعه منه، ويؤيد ذلك زيادة القصة فِي رواية أبي النضر، لكن قَالَ ابن عبد البرّ: الْحَدِيث لعبيد الله، عن ابن عبّاس، عن أبي طلحة، فإن عبيد الله لم يدرك أبا طلحة، ولا سهل بن حُنيف، كذا قَالَ، وكأن مستنده فِي ذلك أن سهل بن حنيف مات فِي خلافة عليّ، وعبيدُ الله لم يدرك عليا، بل قَالَ عليّ بن المديني: إنه لم يدرك زيد بن ثابت، ولا رآه، وزيد مات بعد سهل بن حنيف بمدة، ولكن رَوَى الْحَدِيث المذكور محمد بن إسحاق، عن أبي النضر، فذكر القصة لعثمان بن حنيف، لا لسهل، أخرجه الطبراني، وعثمان تأخر بعد سهل بمدة، وكذلك أبو طلحة، فلا يبعد أن يكون عبيد الله أدركهما. انتهى كلام الحافظ فِي "الفتح" 11/ 579.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي أشار إليه الحافظان: ابن عبد البرّ، وابن

ص: 129

حجر فِي كلامهما السابق منْ صحة الْحَدِيث بالطريقين هو الأرجح عندي.

وحاصله أن الْحَدِيث صحيح عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي طلحة، كما هو صحيح عن عبيد الله، عن ابن عبّاس، عن أبي طلحة؛ إذ يُحمل عَلَى أن عبيد الله سمعه عن ابن عبّاس، عن أبي طلحة، ثم سمعه بعدُ عن أبي طلحة نفسِه، وأن القصّة المذكورة صحيحة، لكنها لعثمان بن حُنيف، لا لأخيه سهل، فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): فِي ذكر اختلاف أهل العلم فِي حكم استعمال الصور، وَقَدْ تقدّم هَذَا البحث فِي "الطهارة"، و"الصيد والذبائح"، ولكن لأهميّته لا بأس بإعادته هنا، فأقول:

قَالَ الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله تعالى: وللعلماء فِي هَذَا الباب أقاويل، ومذاهب:[منها]: أنه لا يجوز أن يمسك الثوب الذي فيه تصاوير وتماثيل، سواء كَانَ منصوبا، أو مبسوطا، ولا يجوز دخول البيت الذي فيه التصاوير، والتماثيل فِي حيطانه، وذلك مكروه كله؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تدخل الملائكة بيتا فيه تصاوير"، فإن فعل ذلك فاعلٌ بعد علمه بالنهي عن ذلك، كَانَ عاصيا عندهم، ولم يحرم عليه بذلك ملك الثوب، ولا البيت، ولكنه ينبغي له أن يتنزه عن ذلك كله، ويكرهه وينابذه؛ لما ورد منْ النهي فيه.

وحجةُ منْ ذهب هَذَا المذهب فِي الثياب، وفي حيطان البيوت وغيرها، حديثُ ابن شهاب وغيره، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا مستترة بقِرام فيه صور، فتلون وجهه، وتناول الستر فهتكه، ثم قَالَ:"إن منْ أشد النَّاس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله"، وروى نافع هَذَا الخبر، عن القاسم، بهذا المعنى، وزاد: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"إن البيت الذي فيه الصور، لا يدخله الملائكة".

قَالَ: وزيادة منْ زاد فيه منْ الثقات الحفاظ، إباحة ما يُتوسد منْ ذلك، ويُرتفق به، ويُمتهن يجب قبولها، وإن كَانَ ظاهر حديث مالك فِي ذلك كراهية عموم الصور، عَلَى كل حال، وإلى ذلك ذهب ابن شهاب، وهو راوية الْحَدِيث.

قَالَ: ذكر ابن أبي شيبة، عن عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهريّ، أنه كَانَ يكره التصاوير، ما نُصب منها، وما بُسط، وكان مالك لا يرى بذلك بأسا فِي البسط، والوسائد، والثياب عَلَى حديث سهل بن حنيف هَذَا:"إلا ما كَانَ رقما فِي ثوب".

ثم أخرج بسنده، عن حماد بن سلمة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كَانَ

ص: 130

عَلَى بابي درنوك

(1)

، فيه الخيل، ذوات الأجنحة، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ألقوا هَذَا".

وَقَالَ آخرون: إنما يُكره منْ الصور ما كَانَ فِي الحيطان، وصُوّر فِي البيوت، وأما ما كَانَ رقما فِي ثوب فلا، واحتجوا بحديث سهل بن حنيف، وأبي طلحة، وهو حديث أبي النضر المذكور فِي هَذَا الباب، فيه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إلا ما كَانَ رقما فِي ثوب"، فكل صورة مرقومة فِي ثوب، فلا بأس بها عَلَى كل حال؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استثنى الرقم فِي الثوب، ولم يخصّ منْ ذلك شيئا ولا نوعا، وذكروا عن القاسم، وهو راوية حديث عائشة، ما رواه ابن أبي شيبة، عن أزهر، عن ابن عون، قَالَ: دخلت عَلَى القاسم، وهو بأعلى مكة فِي بيته، فرأيت فِي بيته حَجَلة فيه تصاوير السندس، والعنقاء.

وَقَالَ آخرون: لا يجوز استعمال شيء منْ الصور، رقما كَانَ فِي ثوب، أو غير ذلك، إلا أن يكون الثوب يوطأ، ويمتهن، فأما أن ينصب كالستر ونحوه فلا، قالوا: وفي حديث عائشة، منْ رواية ابن شهاب، ما يخص الثياب ويعينها، وهو يعارض حديث سهل بن حنيف، وأبي طلحة، إلا أنا قد روينا عن عائشة، أن ذلك منْ الثياب فيما ينصب، دون ما يُبسط فبان بذلك وجه الحديثين، وأنهما غير متعارضين، وعائشة قد علمت مخرج حديثها، ووقفت عليه، وذكروا منْ الأثر ما رواه وكيع وغيره، عن أسامة ابن زيد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت:"سترت سَهْوة لي بستر فيه تصاوير، فلما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم هتكه، فجعلت منه منبذتين، فرأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم متكئا عَلَى إحداهما"، قالوا: ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره منْ ذلك، ما كَانَ سترا منصوبًا، ولم يكره ما اتكأ عليه منْ ذلك، وامتهنه.

قَالَ أبو عمر: وَقَدْ يحتمل أن يكون الستر لما هتكه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغيرت صورته، وتهتكت، فلما صنع منه ما يتكأ عليه، لم تظهر فيه صورة بتمامها، وإذا احتمل هَذَا لم يكن فِي حديث عائشة هَذَا حجة عَلَى ابن شهاب، ومن ذهب مذهبه، إلا أن ممن سلف منْ العلماء جماعةً ذهبوا إلى ما كَانَ منْ رقم الصور، فيما يوطأ ويمتهن، ويتكأ عليه منْ الثياب، لا بأس به، ذكر ابن أبي شيبة، عن حفص بن غياث، عن الجعد رجل منْ أهل المدينة، قَالَ: حدثتني ابنة سعد، أن أباها جاء منْ فارس بوسائد، فيها تماثيل، فكنا نبسطها. وعن ابن فضيل، عن ليث، قَالَ: رأيت سالم بن عبد الله متكئا عَلَى وسادة حمراء، فيها تماثيل، فقلت له فِي ذلك، فَقَالَ: إنما يكره هَذَا لمن ينصبه، ويصنعه. وعن ابن المبارك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أنه كَانَ يتكىء عَلَى المرافق، فيها

(1)

"الدرنوك": ستر له خمل. انتهى "نهاية" 2/ 115.

ص: 131

التماثيل، الطير، والرجال. وعن ابن علية، عن سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين، قَالَ: كانوا لا يرون ما وُطىء، وبُسط منْ التصاوير مثل الذي نصب. وعن إسماعيل ابن علية أيضًا، عن أيوب، عن عكرمة أنه كَانَ يقول فِي التصاوير، فِي الوسائد، والبسط التي توطأ: هو أذل لها. وعن أبي معاوية، عن عاصم، عن عكرمة، قَالَ كانوا يكرهون ما نُصب منْ التماثيل نصبا، ولا يرون بأسا بما وطئته الأقدام. وعن ابن إدريس، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، أنه كَانَ لا يرى بأسا بما وُطيء منْ التصاوير. وعن ابن يمان، عن عثمان بن الأسود، عن عكرمة بن خالد، قَالَ: لا بأس بالصورة، إذا كانت توطأ. وعن ابن يمان، عن الربيع بن المنذر، عن سعيد بن جبير، قَالَ: لا بأس بالصورة، إذا كانت توطأ. وعن عبد الرحيم بن سليمان، عن عبد الملك، عن عطاء فِي التماثيل، ما كَانَ مبسوطا يوطأ، أو يبسط، فلا بأس به، وما كَانَ منه ينصب، فإني أكرهها. وعن الحسن بن موسى الأشيب، عن حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن سالم بن عبد الله، قَالَ: كانوا لا يرون بما يوطأ منْ التصاوير بأسا.

قَالَ أبو عمر: هَذَا أعدل المذاهب، وأوسطها فِي هَذَا الباب، وعليه أكثر العلماء، ومن حمل عليه الآثار، لم تتعارض عَلَى هَذَا التأويل، وهو أولى ما اعتقد فيه، والله الموفق للصواب.

وَقَدْ ذهب قوم إلى أن ما قُطع رأسه فليس بصورة، رَوَى أبو داود الطيالسي، قَالَ: حدثنا ابن أبي ذئب، عن شعبة، مولى ابن عبّاس، قَالَ: دخل المسور بن مخرمة، عَلَى ابن عبّاس، وهو مريض، وعليه ثوب إستبرق، وبين يديه ثوب، عليه تصاوير، فَقَالَ المسور: ما هَذَا يا ابن عبّاس؟ فَقَالَ ابن عبّاس: ما علمت به، وما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هَذَا، إلا للكبر والتجبر، ولسنا بحمد الله كذلك، فلما خرج المسور أمر ابن عبّاس بالثوب، فنزع عنه، وَقَالَ: اقطعوا رؤوس هذه التصاوير. وروى ابن المبارك، قَالَ: أخبرنا يونس بن أبي إسحاق، قَالَ: حدثنا مجاهد، قَالَ: حدثنا أبو هريرة، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن جبريل أتاني البارحة، فلم يمنعه أن يدخل إليّ، إلا أنه كَانَ فِي البيت حجال وستر، فيه تماثيل، وكلب، فأمر برأس التمثال أن يُقطع، وبالستر أن يُثنَى، ويجعل منه وسادتان توطآن، وبالكلب أن يُخرج".

وذكر ابن ابي شيبة، عن ابن علية، عن أيوب، عن عكرمة، قَالَ: إنما الصورة الرأس، فإذا قُطِع فلا بأس. وعن يحيى بن سعيد، عن سلمة أبي بشر، عن عكرمة، فِي قوله:{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57]، قَالَ: أصحاب التصاوير.

وذهب جماعة منْ أهل العلم إلى أن الصورة المكروهة فِي صنعتها واتخاذها، ما كَانَ له

ص: 132

روح، وحجتهم حديث القاسم، عن عائشة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:"منْ أشد النَّاس عذابا يوم القيامة المصورون، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم"، ففي هَذَا دليل عَلَى أن الحياة، إنما قصد بذكرها إلى الحيوان، ذوات الأرواح.

ثم أخرج بسنده عن عوف، عن سعيد بن أبي الحسن، قَالَ: كنت عند ابن عبّاس، إذ جاءه رجل، فَقَالَ: إني أردت أن أنمي معيشتي منْ صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير، فَقَالَ ابن عبّاس: لا أحدثك إلا ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، سمعته يقول:"منْ صَوّر صورة، فإن الله معذبه يوم القيامة، حَتَّى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبدا"، قَالَ: فكبالها الرجل كبوة شديدة، واصفَرّ وجهه، ثم قَالَ: ويحك، إن أبيت إلا أن تصنع، فعليك بهذه الشجر، وكل شيء ليس فيه روح.

وَقَدْ كَانَ مجاهد، يكره صورة الشجر، قَالَ أبو عمر: وهذا لا أعلم أحدا تابعه عَلَى ذلك. وذكر ابن أبي شيبة، عن عبد السلام، عن ليث، عن مجاهد، أنه كَانَ يكره أن يصور الشجر المثمر.

ومما يدلّ عَلَى أن الاختلاف فِي هَذَا الباب قديم، ما ذكره ابن أبي شيبة، عن ابن علية، عن ابن عون، قَالَ: كَانَ فِي مجلس محمد بن سيرين وسائد، فيها تماثيل عصافير، فكان أناس يقولون فِي ذلك، فَقَالَ محمد: إن هؤلاء قد أكثروا علينا، فلو حولتموها، وهذا منْ ورع ابن سيرين رحمه الله. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى فِي كتابه "التمهيد" 21/ 195 - 201.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما سبق منْ الأقوال وأدلّتها أن أرجحها أن الصور المحرّمة هي ما كانت لذوات الأرواح، وكانت منصوبة، وأما إذا كانت توطأ، وتمتهن، فلا بأس بها، وكذلك ما كَانَ رقمًا فِي ثوب، إلا أن يكون منصوبًا، وكذلك إذ قطع رأسها، وأصرح دليل عَلَى ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي بعد بابين، قَالَ:"استأذن جبريل عليه السلام عَلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: ادخل، فَقَالَ: كيف أدخل، وفي بيتك ستر فيه تصاوير، فإما أن تُقطَع رءوسها، أو تُجعَل بساطا يوطأ، فإنا معشر الملائكة، لا ندخل بيتا فيه تصاوير". فإنه قد استثنى منْ الصور التي تمنع دخول الملائكة ما كانت مقطوعة الرأس، أو بساطًا يوطأ، وكذلك حديث أبي طلحة رضي الله عنه المذكور فِي الباب، فإنه نصّ فِي استثناء ما كان رقما فِي ثوب، وهذا كما سبق عن ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى أعدل الأقوال، وأيسرها فِي الجمع بين أحاديث الباب، وَقَدْ

ص: 133

تقدّم هَذَا البحث بأتمّ مما هنا فِي "الطهارة" 168/ 261 فراجعه تزدد علماً

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5352 -

(أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثَنِي بُكَيْرٌ، عَنْ بُسْرِ

(2)

بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ"، قَالَ بُسْرٌ: ثُمَّ اشْتَكَى زَيْدٌ، فَعُدْنَاهُ، فَإِذَا عَلَى بَابِهِ سِتْرٌ فِيهِ صُورَةٌ، قُلْتُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ الْخَوْلَانِيِّ: أَلَمْ يُخْبِرْنَا زَيْدٌ عَنِ الصُّورَةِ يَوْمَ الأَوَّلِ؟، قَالَ: قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: أَلَمْ تَسْمَعْهُ يَقُولُ: "إِلاَّ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(عيسى بن حمّاد) بن مسلم التجيبيّ، أبو موسى المصريّ المعروف بزُغْبة، ثقة [10] 135/ 211.

2 -

(الليث) بن سعد بن عبد الرحمن المصريّ الإمام الحجة الثبت [7] 31/ 35.

3 -

(بُكير) بن عبد الله بن الأشجّ المخزوميّ مولاهم المدنيّ، ثم المصريّ، ثقة [5] 135/ 211.

4 -

(بسر بن سعيد) العابد المدنيّ، مولى ابن الحضرميّ، ثقة جليل [2] تقدّم فِي 11/ 517.

5 -

(زيد بن خالد) الْجُهَني المدنيّ الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه بالكوفة سنة (68) أو (70)، وله (85) سنة، تقدّم فِي 8/ 756.

6 -

(أبو طلحة) رضي الله تعالى عنه المذكور ترجمته قريباً. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بثقات المصريّين، والثاني بثقات المدنيّين، (ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، وتابعيّ، عن تابعيّ، وعلى رواية بسر، عن عُبيد الله الخولانيّ للزيادة الآتي ذكرها يكون ثلاثة منْ التابعين فِي نسق واحد، وكلهم مدنيّون. والله تعالى أعلم.

(1)

هَذَا البحث تقدّم فِي "الطهارة"، كما أشرت إليه، وإنما أعدته لطول العهد به، مع شدّة الحاجة إليه؛ لابتلاء عامة النَّاس باستعمال الصور، نسأل الله تعالى أن يُلهمنا الرشد والصواب.

(2)

بضم الموحّدة، وسكون السين المهملة، آخره راء.

ص: 134

شرح الْحَدِيث

(عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ) الجهنيّ رضي الله تعالى عنه (عَنْ أَبِى طَلْحَةَ) الأنصاريّ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ"، قَالَ بُسْرٌ) بن سعيد (ثُمَّ) بعد أن حدّثنا بهذا الْحَدِيث (اشْتَكَى زَيْد) أي مرض زيد بن خالد رضي الله عنه (فْعُدْنَاهُ) أي زرناه (فَإِذَا عَلَى بَابِهِ سِتْرٌ)"إذا" هي الفجائيّة، والستر بكسر، فسكون: ما يُستَر به، وجمعه سُتُور: أي فاجأنا وجود ساتر (فِيهِ صُورَةٌ) جملة منْ مبتدأ وخبر فِي محلّ رفع صفة لـ"ستر"(قُلْتُ) القائل هو بسر (لِعُبَيْدِ اللَّهِ الْخَوْلَانِيِّ) أي الذي كَانَ معه، ففي رواية للبخاريّ منْ طريق عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشجّ:"أن بسر بن سعيد حدّثه، أن زيد بن خالد الجهنيّ رضي الله عنه حدّثه، ومع بسر بن سعيد عُبيد الله الْخَوْلانيّ الذي كَانَ فِي حَجْر ميمونة رضي الله عنها، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم".

وعُبيد الله هَذَا هو ابن الأسود، ويقال: ابن اسد، ويقال له: ربيب ميمونة؛ لأنها كانت ربّته، وكان منْ مواليها، ولم يكن ابن زوجها، ثقة منْ الطبقة الثالثة (أَلَمْ يُخْبِرْنَا زَيْدٌ) قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: يعني زيد بن خالد، وذلك أنه لَمّا دخل منزل زيد، فرأى الستر فيه صورٌ ذكّر بسرٌ عبيد الله الخولانيّ بالحديث الذي حدّثهم به زيد عن أبي طلحة، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سمع منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله:"لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة"، وكان أبو طلحة قد ذكر مع ذلك، متّصلاً به قوله صلى الله عليه وسلم:"إلا رقماً فِي ثوب"، فاستثنى المرقوم منْ الصور، فحصل منه أن الملائكة لا تمتنع منْ دخول بيت فيه صورة مرقومة. انتهى "المفهم" 5/ 423 - 424.

(عَنِ الصُّورَةِ) أي عن حكمها، وهو النهي عنها (يَوْمَ الأوَّلِ) أي فِي وقت تقدّم قبل هَذَا. (قَالَ: قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: أَلَمْ تَسْمَعْهُ يَقُولُ: "إِلاَّ رَقْمًا فِى ثَوْبٍ") وفي رواية عمرو بن الحارث، عند البخاريّ:"فَقَالَ: إنه قَالَ: "إلا رقمًا فِي ثوب، ألا سمعته؟ قلت: لا، قَالَ: بلى، قد ذكره". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي طلحة رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -111/ 5352 - وفي "الكبرى" 109/ 9763. وأخرجه (خ) فِي "بدء

ص: 135

الخلق" 3226 و"اللباس" 5958 (م) فِي "اللباس" 2106 (د) فِي "اللباس" 4153. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5353 -

(حَدَّثَنَا مَسْعُودُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: صَنَعْتُ طَعَامًا، فَدَعَوْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ، فَدَخَلَ، فَرَأَى سِتْرًا فِيهِ تَصَاوِيرُ، فَخَرَجَ، وَقَالَ: "إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ تَصَاوِيرُ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(مسعود بن جُويرية) بن داود أبي سعيد المخزوميّ الموصليّ، صدوقٌ [10].

رَوَى عن المعافى بن عمران، وهُشيم، وعَفيف بن سالم، وابن عيينة، وغيرهم. وعنه النسائيّ، وجعفر بن محمد الْبَلَديّ، وعليّ بن الهيثم الفزاريّ، وأحمد بن العبّاس البغداديّ، وغيرهم. قَالَ النسائيّ: لا بأس به. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: مستقيم الْحَدِيث. وَقَالَ مسلمة بن قاسم: لا بأس به. وغفل ابن القطّان، فَقَالَ: لا يُعرف. وَقَالَ أبو زكريّا الأزديّ فِي "تاريخ الموصل": كَانَ نَبِيلاً منْ الرجال، توفّي سنة (248). تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.

2 -

(وكيع) بن الجرّاح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقة ثبت عابد [9] 23/ 25.

3 -

(هشام) بن أبي عبد الله الدستوائيّ البصريّ، ثقة ثبت، منْ كبار [7] 30/ 34.

4 -

(قتادة) بن داعة السدوسيّ البصريّ، ثقه ثبت [4] 30/ 34.

5 -

(سعيد بن المسيِّب) بن حَزْن المخزومي المدنيّ الفقيه، ثقة حجة، منْ كبار [3] 9/ 9.

6 -

(عليّ) بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه 74/ 91. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، كما مرّ آنفاً. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَلِيٍّ) بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه (قَالَ: صَنَعْتُ طَعَامًا) أي هيّأته، وأصلحته (فَدَعَوْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) أي ليأكل منْ ذلك الطعام (فَجَاءَ) صلى الله عليه وسلم (فَدَخَلَ، فَرَأَى سِتْرًا) بكسر، فسكون: أي ساترا (فِيهِ تَصَاوِيرُ) أي تماثيل (فَخَرَجَ) كراهيةً لتلك التصاوير (وَقَالَ: "إِنَّ الْمَلَائِكَةَ) تقدّم أن الأرجح حمله عَلَى عموم الملائكة، لا نوع خاصّ منهم، كما قاله

ص: 136

بعضهم (لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ تَصَاوِيرُ) تقدّم أيضًا أن التصاوير التي تمنع دخول الملائكة، هي الباقية عَلَى هيئتها، غير الممتهنة بالوطء بالأقدام، أو المقطوعة الرأس، كما بيّنه جبريل عليه السلام فِي الْحَدِيث الآتي بعد بابين، حيث قَالَ للنبيّ صلى الله عليه وسلم:"كيف أدخل، وفي بيتك سِتْر، فيه تصاوير، فإما أن تُقطَع رؤوسها، أو تُجعَل بساطًا يوطأ، فإنا معشر الملائكة لا ندخل بيتًا فيه تصاوير"، فدل عَلَى أن الصورة إذا تغيّرت هيئتها لا تمنع منْ دخول البيت. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عليّ رضي الله عنه هَذَا صحيح.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه عنعنة قتادة، وهو مدلّس؟.

[قلت]: إنما صَحَّ بشواهده السابقة واللاحقة، فتبصّر. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -111/ 5353 - وفي "الكبرى" 109/ 9788. وأخرجه (ق) فِي "الأطعمة" 3359. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان تحريم التصاوير. (ومنها): استحباب صنع الطعام لأهل الفضل، ودعوتهم إليه. (ومنها): ما كَانَ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ حسن الخلق، والتواضع، حيث يُجيب دعوة منْ دعاه إلى الطعام. (ومنها): حرمان منْ اتّخذ الصور فِي بيته منْ دخول الملائكة فيه. (ومنها): أن الملائكة؛ لكونهم مجبولين عَلَى الطاعة لربّهم لا يقربون محلاً يُعصى فيه الله سبحانه وتعالى بمخالفة أمره، وانتهاك حرماته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5354 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرْجَةً، ثُمَّ دَخَلَ، وَقَدْ عَلَّقْتُ قِرَامًا، فِيهِ الْخَيْلُ، أُولَاتُ الأَجْنِحَةِ، قَالَتْ: فَلَمَّا رَآهُ، قَالَ: "انْزِعِيهِ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه الحنظلي المروزيّ، ثقة ثبت حجة [10] 2/ 2.

2 -

(أبو معاوية) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقة، منْ كبار [9] 26/ 30.

ص: 137

3 -

(هشام بن عروة) بن الزبير، أبو المنذر المدنيّ، ثقة ربما دلّس [5] 49/ 61.

4 -

(أبو) عروة بن الزبير بن العوّام المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 40/ 44.

5 -

(عائشة) أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها 5/ 5. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين منْ هشام. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه، عن خالته، وفيه عائشة رضي الله تعالى عنها منْ المكثرين السبعة، روت (2210) منْ الأحاديث. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله تعالى عنها، أنها (قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرْجَةً) بوزن فَعْلة بفتح، فسكون: وهي المرة منْ الخروج، كما أن فِعلة بالكسر للهيئة، كما قَالَ فِي "الخلاصة":

وَفَعْلةٌ لِمَرَّةٍ كَجَلْسَهْ

وَفِعْلَةٌ لِهَيئَةٍ كَجِلْسَهْ

وفي نسخة: "خرجته" بالإضافة إلى الضمير: أي خروجه.

(ثُمَّ دَخَلَ) صلى الله عليه وسلم البيت (وَقَدْ عَلَّقْتُ قِرَامًا) بكسر القاف: هو الستر الرقيق، وقيل: الصَّفِيق، منْ صُوف ذي ألوان، والإضافة فيه، كقولك: ثوب قميص. وقيل: القرام: الستر الرقيق وراء الستر الغليظ، ولذلك أضافه. أفاده فِي "النهاية" 4/ 49. وَقَالَ فِي "المصباح": القرام، مثلُ كتاب: الستر الرقيق، وبعضهم يزيد: وفيه رقمٌ، ونقوش، والْمِقْرَم، وازن مِقْود، والْمِقْرمة بالهاء أيضاً مثله. انتهى. والجملة فِي محلّ نصب عَلَى الحال منْ الفاعل، والرابط الواو.

وفي رواية مسلم منْ طريق أبي أُسامة، عن هشام:"قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم منْ سفر، وَقَدْ سترتُ عَلَى بابي دُرْنوكًا، فيه الخيل، ذوات الأجنحة، فأمرني، فنزعته".

و"الدُّرنوك" بضم الدال عَلَى المشهور، وتفتح، ويقال فيه: درموك بالميم: هو سترٌ له خَمْلٌ، جمعه درانك. أفاده النوويّ فِي "شرحه" 14/ 87.

(فِيهِ) أي فِي ذلك القِرام (الْخَيْلُ) أي صورة الخيل (أُولَاتُ الأَجْنِحَةِ) أي صواحبات الأجنحة (قَالَتْ) عائشة رضي الله تعالى عنها (فَلَمَّا رَآهُ) صلى الله عليه وسلم (قَالَ: "انْزِعِيهِ") بكسر الزاي، مضارع نزعت الشيءَ، منْ باب ضرب: إذا قلعته، وأزلته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 138

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -111/ 5354 - وفي "الكبرى" 109/ 9781. وأخرجه (م) فِي "اللباس" 2107 ورواه أحمد 6/ 49 و53. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5355 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَزْرَةُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: كَانَ لَنَا سِتْرٌ فِيهِ تِمْثَالُ طَيْرٍ، مُسْتَقْبِلَ الْبَيْتِ إِذَا دَخَلَ الدَّاخِلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَائِشَةُ حَوِّلِيهِ، فَإِنِّي كُلَّمَا دَخَلْتُ فَرَأَيْتُهُ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا"، قَالَتْ: وَكَانَ لَنَا قَطِيفَةٌ، لَهَا عَلَمٌ، فَكُنَّا نَلْبَسُهَا، فَلَمْ نَقْطَعْهُ).

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ) -بفتح الموحّدة، وكسر الزاي- البصريّ، ثقة [10] 43/ 588.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) -بضم الزاي، وفتح الراء- أبو معاوية البصريّ، ثقة ثبتٌ [8] 5/ 5.

3 -

(دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ) القشيريّ مولاهم البصريّ، ثقة متقنٌ، كَانَ يهم بآخره [5] 21/ 538.

4 -

(عَزْرة) -بفتح، فسكون- ابن عبد الرحمن بن زُرارة الخُزاعيّ الكوفيّ الأعور، ثقة [6] 37/ 1701.

5 -

(حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الْحِمْيريّ البصريّ، ثقة فقيه [3] 6/ 1613.

6 -

(سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ) بن عامر الأنصار المدنيّ، ثقة [3] استُشهد بأرض الهند 67/ 1315.

7 -

(عائشة) رضي الله تعالى عنها 5/ 5. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى حميد، غير عزرة، فكوفيّ، والباقيان مدنيان. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، ورواية داود بن أبي هند، عن عزرة منْ

ص: 139

رواية الأكابر، عن الأصاغر؛ لأن داود منْ [5]؛ لأنه رأى أنس بن مالك رضي الله عنه، وعزرة منْ [6]. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله تعالى عنها (زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنها (قَالَتْ: كَانَ لَنَا سِتْرٌ فِيهِ تِمْثَالُ طَيْرٍ) أي صورة طير، والجملة صفة "ستر"(مُسْتَقْبِلَ الْبَيْتِ) الظاهر أنه بفتح الموحّدة، منْ استقبلتُ الشيءَ: إذا واجهته: أي فِي مواجهة البيت، وهو منصوب عَلَى الظرفية. والله تعالى أعلم (إِذَا دَخَلَ الدَّاخِلُ) البيت، وفي رواية مسلم:، وكان الداخل إذا دخل استقبله" (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"يَا عَائِشَةُ حَوِّلِيهِ) أمر منْ التحويل، وهو النقل: أي انقليه إلى موضع آخر (فَإِنِّي) الفاء للتعليل؛ أي لأني (كُلَّمَا دَخَلْتُ) البيت (فَرَأَيْتُهُ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا) أي تذكّرت زهرة الدنيا، وبهجتها. قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: لا يلزم منه الميل إليها، بل يجوز أن يذكُرها مع الكراهة، ومع ذلك كرِه أن يحضر لديه صورة الدنيا بأيّ وجه كَانَ، والله تعالى أعلم. انتهى. وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: هَذَا محمولٌ عَلَى أنه كَانَ قبل تحريم اتّخاذ ما فيه صورة، فلهذا كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل، ويراه، ولا يُنكره قبل هذه المرّة الأخيرة. انتهى "شرح مسلم" 14/ 87.

(قَالَتْ) عائشة رضي الله تعالى عنها (وَكَانَ) لفظ مسلم: "وكانت"(لَنَا قَطِيفَةٌ) بفتح القاف، وكسر الطاء: دِثَارٌ له خَمْلٌ، جمعه قطائف، وقُطُفٌ بضمّتين. قاله الفيّوميّ. وَقَالَ فِي "النهاية": القطيفة: كساءٌ له خَمْلٌ. انتهى (لَهَا عَلَمٌ) أي منْ الحرير، ولفظ مسلم:"وكانت لنا قطيفة، كنا نقول: علمها حرير"(فَكُنَّا نَلْبَسُهَا) أي القطيفة (فَلَمْ نَقْطَعْهُ) أي العلم؛ إذ العلم منْ الحرير مباح الاستعمال. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -111/ 5355 - وفي "الكبرى"9775. وأخرجه (م) فِي "اللباس" 2107. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): البعد عن زخارف الدنيا، والزهد فيها. (ومنها): جواز استعمال الستر

ص: 140

للحاجة. (ومنها): جواز لبس القطيفة، وهي كساء له خَمْلٌ، كما تقدّم. (ومنها): إباحة العلم منْ الحرير، وَقَدْ تقدّم حديث عمر رضي الله عنه فِي جوازه مقدار أربع أصابع، فِي 92/ 5315. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5356 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنِ الْقَاسِمِ، يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ فِي بَيْتِي ثَوْبٌ، فِيهِ تَصَاوِيرُ، فَجَعَلْتُهُ إِلَى سَهْوَةٍ فِي الْبَيْتِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُصَلِّي إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "يَا عَائِشَةُ أَخِّرِيهِ عَنِّي، فَنَزَعْتُهُ، فَجَعَلْتُهُ وَسَائِدَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"خالد": هو ابن الحارث الْهُجَيميّ.

وقولها: "إلى سهوة": بفتح المهملة، وسكون الهاء: بيتٌ صغيرٌ، منحدرٌ فِي الأرض قليلاً، شبيهٌ بالْمِخدَعِ، والخِزانة، وقيل: كالصّفّة تكون بين يدي البيت، وقيل: شبيهٌ بالرفّ، أو الطاق يوضع فيه الشيء. قاله فِي "النهاية" 2/ 430.

والحديث متَّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي "كتاب القبلة" 12/ 761 سنداً ومتناً، ومضى هناك شرحه مفصّلاً، وكذا بيان مسائله، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5357 -

(أَخْبَرَنَا وَهْبُ بْنُ بَيَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا بُكَيْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا نَصَبَتْ سِتْرًا، فِيهِ تَصَاوِيرُ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَزَعَهُ، فَقَطَعَتْهُ وِسَادَتَيْنِ، قَالَ رَجُلٌ فِي الْمَجْلِسِ حِينَئِذٍ، يُقَالُ لَهُ: رَبِيعَةُ بْنُ عَطَاءٍ: أَنَا سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ -يَعْنِي الْقَاسِمَ- عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَرْتَفِقُ عَلَيْهِمَا).

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(وهب بن بيان) أبو عبد الله الواسطيّ، نزيل مصر، ثقة عابدٌ [10] 20/ 1399.

2 -

(ابن وهب) هو عبد الله المصريّ الفقيه الحافظ، ثقة عابد [9] 9/ 9.

3 -

(عمرو) بن الحارث بن يعقوب المصريّ، ثقة ثبت [7] 63/ 79.

4 -

(بُكير) بن عبد الله بن الأشجّ المدنيّ، نزيل مصر الثقة [5] 135/ 211.

5 -

(عبد الرحمن بن القاسم) أبو محمد المدنيّ، ثقة ثبت فاضل [6] 120/ 166.

6 -

(أبوه) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصدّيق المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت فاضل، منْ كبار [6] 120/ 166.

7 -

(عائشة) رضي الله تعالى عنها 5/ 5. والله تعالى أعلم.

ص: 141

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو، وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، منْ عبد الرحمن، والباقون مصريون، وبُكير مدنيّ، مصريّ. (ومنها): أن فيه أحد الفقهاء السبعة، وهو القاسم، وفيه رواية الابن، عن أبيه، عن عمّته. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله تعالى عنها (أَنَّهَا نَصَبَتْ سِتْرًا، فِيهِ تَصَاوِيرُ) أي تماثيل (فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بيتها (فَنَزَعَهُ) أي ذلك الستر (فَقَطَعَتْهُ وِسَادَتَيْنِ) أي قطعت ذلك الستر، وجعلته وِسادتين، وهي تثنية وسادة بكسر الواو: وهي الْمِخَدّة، والجمع وِسادات، ووَسَائد، والوِساد بغير هاء: كلُّ ما يُتوسّد به، منْ قُماش، وتُراب، وغير ذلك، والجمع وُسُدٌ، مثلُ كتاب وكُتُب، ويقال: الوِساد لغة فِي الوسادة. قاله فِي "المصباح"(قَالَ رَجُلٌ فِي الْمَجْلِسِ حِينَئِذٍ) أي وقت تحديث عبد الرحمن بن القاسم بهذا الْحَدِيث عن أبيه، ففي رواية مسلم عن هارون بن معروف، عن ابن وهب:"فَقَالَ رجل فِي المجلس حينئذ، يقال له: ربيعة بن عطاء، مولى بني زُهرة: أفما سمعت أبا محمد، يذكر عن عائشة قالت: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتفق بهما؟ قَالَ ابن القاسم: لا، قَالَ: لكني قد سمعته، يريد القاسم بن محمد".

(يُقَالُ لَهُ: رَبِيعَةُ بْنُ عَطَاءٍ) الزهريّ مولاهم المدنيّ، ويقال: إنه ربيعة بن عطاء بن يعقوب، مولى ابن سباع، قاله ابن حبّان فِي "الثقات"، رَوَى عن القاسم بن محمد. وعنه بُكير بن الأشجّ. قَالَ الآجريّ، عن أبي داود: ربيعة بن عطاء حدّث عنه العمري الصغير معروفٌ. وَقَالَ النسائيّ: ثقة. وَقَالَ ابن حبّان فِي "الثقات": رَوَى عن عروة بن محمد، وعنه يحيى بن سعيد الأنصاريّ. وَقَالَ البخاريّ فِي "التاريخ الكبير"، وتبعه أبو حاتم الرازيّ فِي كونه مولى ابن سباع. تفرّد به مسلم، والنسائيّ بهذا الْحَدِيث فقط. وفي "التقريب": ثقة منْ السادسة.

وجملة "يقال له" فِي محل نصب حال منْ "رجل"، أو فِي محل رفع صفة له، ومقول "قَالَ" قوله:(أَنَا سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ -يَعْنِي الْقَاسِمَ) بن محمد والد عبد الرحمن (عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله تعالى عنها، أنها (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَرْتَفِقُ عَلَيْهِمَا) أي يتكيء عَلَى الوسادتين اللتين عملتهما عائشة رضي الله تعالى عنها مما قُطع منْ ذلك الستر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 142

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -111/ 5357 - وفي "الكبرى" 109/ 9776. وأخرجه (م) فِي "اللباس" 2107. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم التصاوير، وهو تحريم استعماله. (ومنها): جواز الستارة للحاجة. (ومنها): إزالة المنكر بيده، حيث إنه صلى الله عليه وسلم قطع الستر بيده الشريفة، وَقَدْ أخرج مسلم، والمصنّف منْ حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قَالَ:

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "منْ رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". (ومنها): جواز استعمال الثياب التي فيها الصور، إذا غُيّرت عن هيئتها، أو كانت ممتهنةً، توطأ بالأقدام، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌112 - (ذِكْرِ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا)

5358 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ سَفَرٍ، وَقَدْ سَتَّرْتُ بِقِرَامٍ عَلَى سَهْوَةٍ لِي، فِيهِ تَصَاوِيرُ، فَنَزَعَهُ، وَقَالَ: "أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الحجة الثبت [8] 1/ 1. والباقون تقدموا فِي السند

ص: 143

الماضي. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ، وسفيان، فمكيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله تعالى عنها، أنها (قَالَتْ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ سَفَرٍ) فِي رواية البيهقيّ أنها غزوة تبوك، وفي رواية أخرى لأبي داود، والنسائيّ:"غزوة تبوك، أو خيبر" بالشكّ. قاله فِي "الفتح" 11/ 586 (وَقَدْ سَتَّرْتُ بِقِرَامٍ) بكسر القاف، وتخفيف الراء: هو سترٌ فيه رقمٌ، ونقشٌ. وقيل: ثوب منْ صوف، ملوّن، يُفرش فِي الهودج، أو يُغطَّى به (عَلَى سَهْوَةٍ لِي) بفتح السين المهملة، وسكون الهاء: هي صُفّة منْ جانب البيت. وقيل: الكوّة. وقيل: الرفّ. وقيل: أربعة أعواد، أو ثلاثة يُعارَض بعضها ببعض، يوضع عليها شيء منْ الأمتعة، وقيل: غير ذلك، وَقَدْ تقدّم بعضه قريبًا، وتقدّم أيضاً مستوفًى فِي "الصلاة" 12/ 761.

(فِيهِ تَصَاوِيرُ) وفي رواية البخاريّ: "فيه تماثيل"، وهو بمعناه (فَنَزَعَهُ) وفي الرواية التالية:"ثم هتكه"، وهو بمعناه، وفي الرواية المتقدّمة منْ طريق عروة:"فَقَالَ: يا عائشة، أخّريه عنّي، فنزعته"(وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَشَدُّ النَّاسِ) مبتدأ، خبره الموصول الآتي (عَذَاباً) منصوب عَلَى التمييز (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ظرف لـ"عذابًا"(الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ) أي يشابهون الله تعالى فِي خلقه، ويعارضون بما يعملون منْ الصور، فالباء بمعنى "فِي"، قَالَ الفيّوميّ: ضاهأه مضاهأةً مهموزٌ: عارضه، وباراه، ويجوز التخفيف، فيقال: ضاهيته مضاهاةً، وقُرىء بهما، وهي مشاكلة الشيء بالشيء. انتهى.

فقوله: "اشدّ النَّاس" عَلَى تقدير معنى "منْ"؛ لأنه لا يكون أشدّ منْ فرعون، ونحوه، ويؤيّد ذلك ما وقع عند مسلم، منْ طريق أبي معاوية، عن الأعمش:"إن منْ أشدّ النَّاس عذاباً" بـ"منْ". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هَذَا متَّفقٌ عليه.

ص: 144

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -112/ 5358 و5359 - وفي "الكبرى" 109/ 9780. وأخرجه (خ) فِي "اللباس" 5954 و5956 و"الأدب" 6109 و"الاعتصام بالكتاب والسنة" 7339 (م) فِي "اللباس" 2107. وفوائده تقدّمت قريباً.

(المسألة الثالثة): فِي أقوال أهل العلم فِي كون المصورين أشدّ النَّاس عذابًا:

قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى فِي "شرح مسلم": قيل: هو محمول عَلَى منْ فعل الصورة لتُعبد، وهو صانع الأصنام، ونحوها، فهذا كافر، وهو أشدّ النَّاس عذابًا. وقيل: هو فيمن قصد المعنى الذي فِي الْحَدِيث، منْ مضاهاة خلق الله تعالى، واعتقد ذلك، فهذا كافر، له منْ أشدّ العذاب ما للكفّار، ويزيد عذابه بزيادة قبح كفره، فأما منْ لم يقصد بها العبادة، ولا المضاهاة، فهو فاسقٌ، صحاب ذنب كبير، ولا يكفر كسائر المعاصي. انتهى "شرح مسلم" 14/ 91.

وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: ما حاصله: مقتضى قوله: "أشدّ النَّاس" أن لا يكون فِي النار أحد يزيد عذابه عَلَى المصوّرين، وهذا يعارضه مواضع أُخر، منها قوله تعالى:{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"أشدّ النَّاس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه"

(1)

وقوله:"أشدّ النَّاس عذابًا يوم القيامة إمام ضلالة"

(2)

ومثله كثير، ووجه التوفيق أن النَّاس الذين أُضيف إليهم أشدّ لا يُراد بهم كلّ نوع منْ النَّاس، بل بعضهم المشاركون فِي ذلك المعنى المتوعّد عليه بالعذاب، ففرعون أشدّ النَّاس المدّعين للإلهية عذاباً، ومن يُقتَدَى به فِي ضلالة كفره أشدّ ممن يُقتَدَى به فِي ضلالة بدعة، ومن صوّر صور ذوات الأرواح أشدّ عذابا ممن يُصوّر ما ليس بذي روح، إن تنزّلنا عَلَى قول منْ رأى تحريم تصوير ما ليس بذي روح، وهو مجاهد، وإن لم نتنزل عليه، فيجوز أن يُعنى بالمصوّرين الذين يصوّرون الأصنام للعبادة، كما كانت الجاهلية تفعل، وكما تفعل النصارى، فإن عذابهم يكون أشدّ ممن يصوّرها لا للعبادة، وهكذا يعتبر هَذَا الباب. والله تعالى أعلم. انتهى "المفهم" 5/ 430 - 431.

وَقَالَ فِي "الفتح" 11/ 582 - 583: وَقَدْ استُشكل كون المصور أشد النَّاس عذابا،

(1)

أخرجه الطبراني فِي "المعجم الصغير" 1/ 182 - 183 والبيهقي فِي "الشعب" 1778 وهو ضعيفٌ جدًّا، انظر "ضعيف الجامع الصغير" للشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى ص 124 رقم 868.

(2)

أخرجه أحمد 3/ 22 والترمذيّ 1329 منْ حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه بلفظ: "أشدّ النَّاس عذاباً يوم القيامة إمام جائر"، وفي سنده عطيّة العوفيّ، وهو ضعيف، لكن قَالَ الشيخ الألباني رحمه الله تعالى فِي "صحيح الجامع الصغير" 1/ 232 رقم 1001: حسن.

ص: 145

مع قوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]، فإنه يقتضي أن يكون المصور أشد عذابا منْ آل فرعون.

وأجاب الطبري، بأن المراد هنا مَنْ يُصَوّر ما يُعبد منْ دون الله، وهو عارف بذلك، قاصد له، فإنه يكفر بذلك، فلا يبعد أن يدخل مدخل آل فرعون، وأما منْ لا يقصد ذلك، فإنه يكون عاصيا بتصويره فقط.

وأجاب غيره بأن الرواية بإثبات "منْ" ثابتة، وبحذفها محمولة عليها، وإذا كَانَ منْ يفعل التصوير منْ أشد النَّاس عذابا، كَانَ مشتركا مع غيره، وليس فِي الآية ما يقتضي اختصاص آل فرعون بأشد العذاب، بل هم فِي العذاب الأشد، فكذلك غيرهم يجوز أن يكون فِي العذاب الأشد، وقوّى الطحاوي ذلك، بما أخرجه منْ وجه آخر، عن ابن مسعود رضي الله عنه رفعه:"إن أشد النَّاس عذابا يوم القيامة، رجل قتل نبيا، أو قتله نبي، وإمام ضلالة، وممثل منْ الممثلين"، وكذا أخرجه أحمد، وأخرج الطحاوي أيضًا منْ حديث عائشة، مرفوعا:"أشد النَّاس عذابا يوم القيامة رجل هجا رجلا، فهجا القبيلة بأسرها"، قَالَ الطحاوي: فكل واحد منْ هؤلاء يشترك مع الآخر فِي شدة العذاب.

وَقَالَ أبو الوليد ابن رشد فِي "مختصر مشكل الطحاوي": ما حاصله: إن الوعيد بهذه الصيغة، إن ورد فِي حق كافر فلا إشكال فيه؛ لأنه يكون مشتركا فِي ذلك مع آل فرعون، ويكون فيه دلالة عَلَى عظم كفر المذكور، وإن ورد فِي حق عاص، فيكون أشد عذابا منْ غيره منْ العصاة، ويكون ذلك دالا عَلَى عظم المعصية المذكورة.

وأجاب القرطبيّ فِي "المفهم" بأن النَّاس الذين أضيف إليهم "أَشَدُّ" لا يراد بهم كل النَّاس، بل بعضهم، وهم منْ يشارك فِي المعنى المتوعد عليه بالعذاب، ففرعون أشد النَّاس الذين ادّعوا الإلهية عذابا، ومن يُقتَدَى به فِي ضلالة كفره أشد عذابا، ممن يُقتَدَى به فِي ضلالة فسقه، ومن صور صورة ذات روح للعبادة، أشد عذابا ممن يصورها لا للعبادة.

[واستشكل]: ظاهر الْحَدِيث أيضًا بإبليس، وبابن آدم الذي سَنّ القتل.

[وأجيب]: بأنه فِي إبليس واضح، ويجاب بأن المراد بالناس، منْ يُنسب إلى آدم، وأما فِي ابن آدم، فأجيب بأن الثابت فِي حقه أن عليه مثل أوزار منْ يَقتل ظلما، ولا يمتنع أن يشاركه فِي مثل تعذيبه منْ ابتدأ الزنا مثلا، فإن عليه مثل أوزار منْ يزني بعده؛ لأنه أول منْ سن ذلك، ولعل عدد الزناة أكثر منْ القاتلين.

قَالَ النوويّ: قَالَ العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم، وهو منْ الكبائر؛ لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد، وسواء صنعه لما يمتهن، أم لغيره،

ص: 146

فصنعه حرام بكل حال، وسواء كَانَ فِي ثوب، أو بساط، أو درهم، أو دينار، أو فلس، أو إناء، أو حائط، أو غيرها.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: [إن قيل]: هَذَا الذي قالوه يستلزم تحريم ما سبق ترجيحه منْ جواز استعمال الصور المستثنيات فِي الْحَدِيث، كالذي تمتهن بالوطء بالأقدام مثلاً.

[قلنا]: حكم التصوير غير حكم استعمال الصور، فالتصوير حرام مطلقاً، واستعمال المستثنيات منْ الصور جائز، فيجوز لمن وجد صورة منْ المستثنيات أن يستعملها؛ للأحاديث الصحاح التي تقدّمت، ولا يجوز له أن يصورها؛ للوعيد المذكور فِي أحاديث الباب، والبابين بعده.

والحاصل أن الأحاديث التي فيها الاستثناء إنما تفيد جواز استعمال الصور، لا جواز التصوير. فليُتنبّه، فإنه منْ مزالّ الأقدام. والله تعالى أعلم بالصواب.

قَالَ: فأما تصوير ما ليس فيه صورة حيوان، فليس بحرام.

قَالَ الحافظ: ويؤيد التعميم فيما له ظل، وفيما لا ظل له، ما أخرجه أحمد، منْ حديث عليّ رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"أيكم ينطلق إلى المدينة، فلا يدع بها وثنا إلا كسره، ولا صورة إلا لطخها" -أي طمسها-

الْحَدِيث، وفيه:"منْ عاد إلى صنعة شيء منْ هَذَا، فقد كفر بما أنزل عَلَى محمد صلى الله عليه وسلم".

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث الذي استدلّ به الحافظ عَلَى التعميم حديث ضعيفٌ؛ لأن فِي سنده رجل يقال له: أبو محمد الهذليّ، وهو مجهول، وفي حديثه اضطراب أيضًا، والله تعالى أعلم.

وَقَالَ الخطّابيّ: إنما عظمت عقوبة المصور؛ لأن الصور كانت تُعبد منْ دون الله، ولأن النظر إليها يَفتن، وبعض النفوس إليها تميل، قَالَ: والمراد بالصور هنا التماثيل التي لها روح. وقيل: يفرق بين العذاب والعقاب، فالعذاب يطلق عَلَى ما يؤلم، منْ قول، أو فعل، كالعتب، والإنكار، والعقابُ يختص بالفعل، فلا يلزم منْ كون المصور أشد النَّاس عذابا، أن يكون أشد النَّاس عقوبة، هكذا ذكره الشريف المرتضى فِي "الغرر".

وتُعُقب بالآية المشار إليها، وعليها انبنى الإشكال، ولم يكن هو عَرَّج عليها، فلهذا ارتضى التفرقة. والله أعلم.

واستَدَلّ به أبو عليّ الفارسي فِي "التذكرة" عَلَى تكفير المشبهة، فحمل الْحَدِيث عليهم، وأنهم المراد بقوله:"المصورون" أي الذين يعتقدون أن لله صورة.

ص: 147

وتُعُقّب بالحديث الذي جاء بلفظ: "إن الذين يصنعون هذه الصور، يعذبون"، وبحديث عائشة رضي الله تعالى عنها بلفظ:"إن أصحاب هذه الصور يعذبون"، وغير ذلك، ولو سُلّم له استدلاله، لم يرد عليه الإشكال المقدم ذكره.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله الفارسيّ منْ تكفير منْ اعتقد أن لله صورة مذهب باطلٌ، فقد ثبت إطلاق الصورة لله تعالى فِي الأحاديث الصحيحة، كالحديث الطويل فِي الشفاعة المتّفق عليه، وفيه: "فيأتيهم الجبّار بصورة غير صورته التي رأوه فيها

"، وغير ذلك، فالواجب عَلَى المسلم أن يعتقد اتصاف الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه عَلَى الوجه الذي أراده، منْ غير تشبيه، ولا تمثيل، ومن غير تأويل، ولا تعطيل، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتحيّر بالاعتساف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وخص بعضهم الوعيد الشديد بمن صَوّر قاصدا أن يضاهي، فإنه يصير بذلك القصد كافرا، وَقَدْ تقدّم حديث عائشة رضي الله تعالى عنها فِي الباب الماضي بلفظ:"أشد النَّاس عذابا الذين يضاهون بخلق الله تعالى"، وأما منْ عداه فيحرم عليه، ويأثم لكن إثمه دون إثم المضاهي. وأشد منه منْ يصور ما يُعبد منْ دون الله كما تقدّم، وذكر القرطبيّ أن أهل الجاهلية كانوا يعملون الأصنام منْ كل شيء، حَتَّى إن بعضهم عمل صنمه منْ عجوة، ثم جاع، فأكله. انتهى "فتح" 11/ 582 - 583. ببعض تصرّف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5359 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يُخْبِرُ عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ سَتَّرْتُ بِقِرَامٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ، فَلَمَّا رَآهُ تَلَوَّنَ وَجْهُهُ، ثُمَّ هَتَكَهُ بِيَدِهِ، وَقَالَ: "إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"سفيان": هو ابن عيينة.

وقولها: "فيه تماثيل" بمعنى تصاوير، كما فِي الرواية الماضية، وَقَالَ فِي "الفتح": بمثنّاة، ثم مثلّثة: جمع تِمثال، وهو الشيء المصوّر، أعمّ منْ أن يكون شاخصاً، أو يكون نقشا، أو دهاناً، أو نسجًا فِي ثوب. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد عرفت فيما سبق منْ الأدلة أن النهي فيما عدا ما كَانَ رقماً فِي ثوب، أو ممتهناً، أو مقطوع الرأس، فإنها جائزة الاستعمال، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

ص: 148

وقولها: "تلوّن": أي تغير غضباً لله تعالى. وقولها: "ثم هتكه": أي نزعه.

والحديث متَّفقٌ عليه، كما سبق فيما قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌113 - (ذِكْرِ مَا يُكَلَّفُ أَصْحَابُ الصُّوَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "ما يُكلّف""ما" مصدريّة حرفيّة، والفعل مبنيّ للمفعول: أي ذكر تكليف أصحاب الصور بنفخ الروح فيها يوم القيامة. والله تعالى أعلم بالصواب.

5360 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ -وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ- قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَقَالَ: إِنِّي أُصَوِّرُ هَذِهِ التَّصَاوِيرَ، فَمَا تَقُولُ فِيهَا؟ فَقَالَ: ادْنُهْ ادْنُهْ، سَمِعْتُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا، كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخِهِ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلّاس الصيرفيّ البصريّ، ثقة حافظ [10] 4/ 4.

2 -

(خالد بن الحارث) بن عبيد الْهُجيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.

3 -

(سعيد بن أبي عروبة) مِهْران اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقة حافظ، كثير التدليس، واختلط [6] 34/ 37.

4 -

(النضر بن أنس) بن مالك الأنصاريّ، أبو مالك البصريّ، ثقة [3] مات سنة بضع ومائة 2/ 3393.

5 -

(ابن عبّاس) عبد الله البحر رضي الله تعالى عنهما 27/ 31. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم

ص: 149

رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات البصريين. (ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستة الذين رووا عنهم بدون واسطة، وَقَدْ تقدموا غير مرّة. (ومنها): أن فيه ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما منْ العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، رَوَى (1696) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ) بن مالك، أنه (قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما، وفي رواية البخاريّ منْ طريق عبد الأعلى، عن سعيد بن أبي عروبة، قَالَ: سمعت النضر بن أنى بن مالك، يحدّث قتادة، قَالَ: كنت عند ابن عبّاس، وهم يسألونه، ولا يذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى سُئل.

قَالَ فِي "الفتح": كَانَ سعيد بن أبي عروبة كثير الملازمة لقتادة، فاتفق أن قتادة والنضر بن أنس اجتمعا، فحدث النضر قتادةَ فسمعه سعيد، وهو معه. ووقع فِي رواية المستملي وغيره:"يحدثه قتادة"، والضمير للحديث، و"قتادةَ" بالنصب عَلَى المفعولية، والفاعل النضر، وضبطه بعضهم بالرفع، عَلَى أن الضمير للنضر، وفاعل "يحدث" قتادة، وهو خطأ؛ لأنه لا يلائم قوله:"سمعت النضر"، ولأن قتادة لم يسمع منْ ابن عبّاس، ولا حضر عنده، وَقَدْ وقع التصريح عند البخاريّ بأن سعيدا سمع منْ النضر هَذَا الْحَدِيث الواحد. ووقع فِي رواية خالد بن الحارث، عن سعيد، عن قتادة، عن النضر بن أنس، أخرجها الإسماعيلي، وقوله:"عن قتادة" منْ المزيد فِي متصل الأسانيد، فإن كَانَ خالد حفظه، احتمل أن يكون سعيد كَانَ سمعه منْ قتادة، عن النضر، ثم لقي النضر، فسمعه منه، فكان يحدثه به عَلَى الوجهين، وَقَدْ حدث به قتادة، عن النضر، منْ غير طريق سعيد، أخرجها الإسماعيلي، منْ رواية هشام الدستوائي، عن قتادة.

وقوله: "وهم يسألونه، ولا يذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم": أي يُجيبهم عما يسألونه بالفتوى، منْ غير أن يذكر الدليل منْ السنة، وَقَدْ وقع بيان ذلك عند الإسماعيلي، منْ رواية ابن أبي عدي، عن سعيد، ولفظه:"فجعلوا يستفتونه، ويُفتيهم، ولم يذكر فيما يفتيهم النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى "فتح" 11/ 595.

(أَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ) زاد فِي رواية: "أُراه نَجّارا"(فَقَالَ: إِنِّي أُصَوِّرُ هَذِهِ التَّصَاوِيرَ، فَمَا تَقُولُ فِيهَا؟) وفي رواية: "فَقَالَ: إني أُصَوِّر هذه التصاوير، فما تأمرني؟، وفي رواية: "قَالَ: كنت عند ابن عبّاس، إذ أتاه رجل، فَقَالَ: يا أبا عبّاس، إني إنسان، إنما معيشتي منْ صنعة يدي" (فَقَالَ) ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما (ادْنُه ادْنُهُ) أمر

ص: 150

بالدّنُوّ منْ دنا يدنو دُنُوًا منْ باب قعد، وإنما أمره بالدنوّ؛ ليكون أوقع فِي زجره، والتكرار للتأكيد، والهاء للسكت، وهي ساكنة، قَالَ فِي "الخلاصة":

وَقِفْ بِهَا السَّكْتِ عَلَى الْفِعْلِ الْمُعَلُّ

بِحَذْفِ آخِرِ كَـ"أَعْطِ مَنْ سَأَلْ"

وَلَيْسَ حَتْمًا فِي سِوَى مَا كَـ"عِ" أَوْ

كَـ"يَعِ" مَجْزُومًا فَراَعِ مَا رَعَوْا

(سَمِعْتُ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "مَنْ صَوَّرَ صُورَةً) أي صورة ذي روح، بدليل ما سيأتي منْ قوله، كما فِي رواية مسلم:"إن كنت لابدّ فاعلاً، فاصنع الشجر، وما لا نفس له"(فِي الدُّنْيَا) قَالَ فِي "الفتح": كذا أطلقه، وظاهره التعميم، فيتناول صورة ما لا روح فيه، لكن الذي فَهِم ابن عبّاس منْ بقية الْحَدِيث التخصيصُ بصورة ذوات الأرواح منْ قوله:"كُلّف أن ينفخ فيها الروح"، فاستثنى ما لا روح فيه، كالشجر (كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ) وفي رواية سعيد بن أبي الحسن عند البخاريّ:"فإن الله يعذبه، حَتَّى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبدا"، واستعمال "حَتَّى" هنا نظير استعمالها فِي قوله تعالى:{حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} الآية [الأعراف: 40]، وكذا قولهم: لا أفعل كذا حَتَّى يشيب الغراب.

قَالَ الكرماني رحمه الله تعالى: ظاهره أنه منْ تكليف ما لا يطاق، وليس كذلك، وإنما القصد طول تعذيبه، وإظهار عجزه عما كَانَ تعاطاه، ومبالغة فِي توبيخه، وبيان قبح فعله.

وقوله: (وَلَيْسَ بِنَافِخِهِ") أي لا يمكنه ذلك، فيكون معذبا دائما، وفي حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما:"أنه يقال للمصورين: أحيوا ما خلقتم"، وأنه أمر تعجيز.

[وَقَدْ استُشكل]: هَذَا الوعيد فِي حق المسلم، فإن وعيد القاتل عمدا ينقطع عند أهل السنة مع ورود تخليده، بحمل التخليد عَلَى مدة مديدة، وهذا الوعيد أشد منه؛ لأنه مغيا بما لا يمكن، وهو نفخ الروح، فلا يصح أن يُحمل عَلَى أن المراد أنه يعذب زمانا طويلا، ثم يتخلص.

[والجواب]: أنه يتعين تأويل الْحَدِيث عَلَى أن المراد به الزجر الشديد، بالوعيد بعقاب الكافر؛ ليكون أبلغ فِي الارتداع، وظاهره غير مراد، وهذا فِي حق العاصي بذلك، وأما منْ فعله مُسْتَحِلاً، فلا إشكال فيه. قاله فِي "الفتح" 11/ 595 - 596. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفقٌ عليه.

ص: 151

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -113/ 5360 و5361 - وفي "الكبرى" 109/ 9782 و9783. وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 2225 و"اللباس" 5963 و"التعبير" 7042 (م) فِي "اللباس والزينة" 2110 و2111 و2112 (د) فِي "الأدب" 5524 (ت) فِي "اللباس" 1751 (أحمد) فِي "مسند بني هاشم" 1869 و2163 و2214 و2262 و2384. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان ما يُعذّب به أصحاب الصور منْ نفخ الروح يوم القيامة. (ومنها): أنه استُدِلّ به عَلَى أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى؛ للحوق الوعيد بمن تشبه بالخالق، فدل عَلَى أن غير الله ليس بخالق حقيقة.

وَقَدْ أجاب بعضهم بأن الوعيد وقع عَلَى خلق الجواهر. ورُدّ بأن الوعيد لاحق باعتبار الشكل والهيئة، وليس ذلك بجوهر، وأما استثناء غير ذي الروح، فورد مورد الرخصة.

(ومنها): أن فِي قوله: "كُلِّف يوم القيامة" ردّ عَلَى منْ زعم أن الآخرة ليست بدار تكليف.

[وأجيب]: بأن المراد بالنفي أنها ليست بدار تكليف، بعمل يترتب عليه ثواب، أو عقاب، وأما مثل هَذَا التكليف، فليس بممتنع؛ لأنه نفسه عذاب، وهو نظير الْحَدِيث الآخر:"منْ قَتَل نفسه بحديدة، فحديدته فِي يده، يَجَأ بها نفسه يوم القيامة"، فالتكليف بالعمل فِي الدنيا حسن، عَلَى مصطلح أهل علم الكلام، بخلاف هَذَا التكليف الذي هو عذاب.

(ومنها): أنه استُدِلّ به عَلَى جواز التكليف بما لا يطاق.

والجواب ما تقدّم، وأيضًا فنفخ الروح فِي الجماد، قد ورد معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو يمكن، وإن كَانَ فِي وقوعه خرق عادة.

والحق أنه خطاب تعجيز، لا تكليف، كما تقدّم. والله أعلم.

(ومنها): أنه استُدِلّ به عَلَى جواز تصوير ما لا روح له، منْ شجر، أو شمس، أو قمر، ونقل الشيخ أبو محمد الجويني وجها بالمنع؛ لأن منْ الكفار منْ عبدها.

قَالَ الحافظ: ولا يلزم منْ تعذيب منْ يُصوّر ما فيه روح بما ذكر، تجويز تصوير ما لا روح فيه، فإن عموم قوله:"الذين يضاهون بخلق الله"، وقوله:"ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي"، يتناول ما فيه روح، وما لا روح فيه، فإن خص ما فيه روح بالمعنى، منْ جهة أنه مما لم تجر عادة الآدميين بصنعته، وجرت عادتهم بغرس الأشجار مثلا،

ص: 152

امتنع ذلك فِي مثل تصوير الشمس والقمر، ويتأكد المنع بما عُبد منْ دون الله، فإنه يضاهي صورة الأصنام التي هي الأصل، فِي منع التصوير، وَقَدْ قيد مجاهد صاحب ابن عبّاس جواز تصوير الشجر بما لا يثمر، وأما ما يثمر فألحقه بما له روح.

قَالَ القاضي عياض: لم يقله أحد غير مجاهد، ورده الطحاوي بأن الصورة لما أبيحت بعد قطع رأسها، التي لو قطعت منْ ذي الروح لما عاش، دل ذلك عَلَى إباحة ما لا روح له أصلا.

قَالَ الحافظ: وقضيته أن تجويز تصوير ما له روح بجميع أعضائه إلا الرأس فيه نظر لا يخفى، وأظن مجاهدا سمع حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ففيه:"فليخلقوا ذَرَّةً، وليخلقوا شعيرةً"، فإن فِي ذكر الذرة إشارة إلى ما له روح، وفي ذكر الشعيرة إشارة إلى ما يَنبُت مما يؤكل، وأما ما لا روح فيه، ولا يثمر فلا تقع الإشارة إليه، ويقابل هَذَا التشديد ما حكاه أبو محمد الجويني، أن نسج الصورة فِي الثوب لا يمتنع؛ لأنه قد يُلبَس، وطرده المتولي فِي التصوير عَلَى الأرض، ونحوها، وصحح النوويّ تحريم جميع ذلك، قَالَ النوويّ: ويُستثنى منْ جواز تصوير ما له ظل، ومن اتخاذه لُعَب البنات؛ لما ورد منْ الرخصة فِي ذلك. ذكره فِي "الفتح" 11/ 596 - 597.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: استثناء اتخاذ لُعب البنات محلّ نظر، فإن النصّ جاء بترخيص استعمالها، لا باتّخاذها، فتأمّل الفرق بينهما. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5361 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَوَّرَ صُورَةً، عُذِّبَ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"حمّاد": هو ابن زيد. و"أيوب": هو السختيانيّ. و"عكرمة": هو مولى ابن عبّاس.

وقوله: "عُذّب حَتَّى ينفخ الخ": قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: قد جعل غاية عذابه نفخ الروح، وأخبر أنه ليس بنافخ، فيلزم أن يكون معذّباً دائمًا، وهذا فِي حقّ منْ كفر بالتصوير، بأن يصوّر مستحلاً، أو لِتُعبد، أو يكون كافرًا فِي الأصل، وأما غيره، وهو العاصي بفعل ذلك، غير مستحلّ له، ولا قاصد أن تُعبد، فيُعذّبُ إن لم يعف الله تعالى عنه عذابًا يستحقّه، ثم يخلص منه، أو المراد به الزجر، والتشديد، والتغليظ؛ ليكون أبلغ فِي الارتداع، وظاهره غير مراد. انتهى.

ص: 153

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدّم تمام البحث فِي ذلك فِي الْحَدِيث الماضي، فلا تنس. والله تعالى وليّ التوفيق.

والحديث أخرجه البخاريّ فِي "التعبير" 7042 مطوّلاً (د) فِي "الأدب" 5024 مطوّلاً (ت) فِي "اللباس" 1751 وفي "الرؤيا" 2238 (ق) فِي "تعبير الرؤيا"3916. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5362 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَوَّرَ صُورَةً، كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"عمرو بن عليّ": هو الفلّاس. و"عفّان": هو ابن مسلم الصفّار الحافظ الثبت. و"همّام": هو ابن يحيى الْعَوْذيّ.

والسند مسلسلٌ بثقات البصريين، غير عكرمة، وأبي هريرة رضي الله عنه فمدنيّان، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أكثر الصحابة رواية للحديث، رَوَى (5374).

والحديث صحيحٌ، وهو بهذا السند منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -113/ 5362 - وفي "الكبرى" 109/ 9784. وأخرجه (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 10171. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5363 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ الَّذِينَ يَصْنَعُونَهَا، يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"حماد"، و"أيوب" هما المذكوران فِي السند السابق قبل سند.

وقوله: "يقال لهم: أحيوا ما خلقتم": أي صوّرتم، فالخلق هنا بمعنى التصوير، وأمرهم بذلك أمر تعجيز، ويستفاد منه صفة تعذيب المصوّر، وهو أن يكلّف نفخ الروح فِي الصورة التي صوّرها، وهو لا يقدر عَلَى ذلك، فيستمرّ تعذيبه. وتمام شرح الْحَدِيث سبق قريباً، وفيه مسألتان:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

ص: 154

أخرجه هنا -113/ 5363 - وفي "الكبرى" 109/ 9787. وأخرجه (خ) فِي "اللباس" 5951 و"التوحيد" 7558 (م) فِي "اللباس والزينة" 2108 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 4461 و4693 و4777 و5146 و5733 و6048 و6205 و6226. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5364 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ، يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة. و"الليث": هو ابن سعد. و"نافع": هو مولى ابن عمر. و"القاسم": هو ابن محمد بن أبي بكر الصدّيق، وشرح الْحَدِيث يُعلم مما سبق، وفيه مسألتان:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -113/ 5364 و5365 - وفي "الكبرى" 109/ 9789 و9790. وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 2105 و"بدء الخلق" 3224 و"النكاح" 5181 و"اللباس" 5957 و5961 و"التوحيد" 7557 (م) فِي "اللباس والزينة" 2107 (ق) فِي "التجارات" 2151 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 25559 (الموطأ) فِي "الجامع" 1803. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5365 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهَا قَالَتْ: "إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الَّذِينَ يُضَاهُونَ اللَّهَ فِي خَلْقِهِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة. و"أبو عوانة": هو الوضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ. و"سماك": هو ابن حرب، أبو المغيرة الكوفيّ.

والحديث موقوف، وَقَدْ صحّ مرفوعًا فِي الروايات السابقة، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -113/ 5365 - وفي "الكبرى" 109/ 9790. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 155

‌114 - (ذِكْرِ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا)

5366 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ ح وَأَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا، قَالَ: حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْمُصَوِّرُونَ"، وَقَالَ أَحْمَدُ: "الْمُصَوِّرِينَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أحمد بن حرب": هو الطائيّ الموصليّ، صدوقٌ [10] منْ أفراد المصنّف. و"محمد بن يحيى بن محمد": هو الحرّانيّ الكلبيّ لقبه لؤلُؤ ثقة صاحب حديث [11] منْ أفراد المصنّف أيضاً. و"أبو معاوية": هو محمد بن خازم الضرير الكوفيّ. و"محمد بن الصبّاح": هو أبو جعفر الدُّولابيّ البغداديّ الثقة الحافظ [10].

و"إسماعيل بن زكريّا" بن مرّة الْخُلْقانيّ -بضم المعجمة، وسكون اللام، بعدها قاف- الأسديّ، أبو زكريّا الكوفيّ الملقّب شَقُوصا -بفتح المعجمة، وضمّ القاف الخفيفة، وبالمهملة- صدوقٌ، يُخطيء قليلاً [8].

رَوَى عن أبي بردة بن أبي موسى، وعاصم الأحول، والأعمش، وإسماعيل بن أبي خالد، وأبي إسحاق الشيباني، وطلحة بن يحيى، ومالك بن مغول، وغيرهم. وعنه سعيد بن منصور، وأبو الربيع الزهراني، ومحمد بن الصياح الدُّولابي، ومحمد بن بكار ابن الريان، ولُوين، وعِدّة.

قَالَ الفضل بن زياد: سألت أحمد عن أبي شهاب، وإسماعيل بن زكريا؟ فَقَالَ: كلاهما ثقة. وَقَالَ أبو داود عنه: ما كَانَ به بأس. وَقَالَ ابن معين: ليس به بأس. وَقَالَ فِي موضع آخر: صالح الْحَدِيث، قيل له: أفحجة هو؟ قَالَ: الحجة شيء آخر. وَقَالَ أبو الحسن الميموني، عن أحمد: أما الأحاديث المشهورة التي يرويها، فهو فيها مقارب الْحَدِيث، صالح، ولكن ليس ينشرح الصدر له، ليس يعرف هكذا، يريد بالطلب. وعن يحيى بن معين: ضعيف الْحَدِيث. وَقَالَ الدارمي، عن ابن معين: يحيى يعني ابن أبي زائدة -أحب إليّ منْ إسماعيل. وَقَالَ الدُّوري، وابن أبي خيثمة: ثقة. وَقَالَ النسائيّ: أرجو أن لا يكون به بأس. وَقَالَ ابن خراش: صدوقٌ. وَقَالَ أبو حاتم: صالح، وحديثه مقارب. وَقَالَ ابن حبّان فِي "الثقات": رَوَى عن يحيى بن سعيد

ص: 156

الأنصاريّ. وَقَالَ الليث بن عَبْدة، عن ابن معين: ضعيف. وَقَالَ أحمد بن ثابت، أبو يحيى: عن أحمد بن حنبل: ضعيف. وَقَالَ محمد بن الصياح: كتب عنّي ابنُ معين حديث الْخُلْقاني. وَقَالَ العجليّ: كوفيّ ضعيف الْحَدِيث. وَقَالَ الآجري، عن أبي داود: ثقة. وَقَالَ النسائيّ فِي "الجرح والتعديل": ليس بالقوي. وَقَالَ ابن عدي: ولإسماعيل منْ الْحَدِيث صدر صالح، وهو حسن الْحَدِيث، يُكتَب حديثه. وَقَالَ العقيلي: حدثنا محمد بن أحمد، ثنا إبراهيم بن الجنيد، ثنا أحمد بن الوليد بن أبان، حدثني حسين بن حسن، حدثني خالي، إبراهيم: سمعت إسماعيل الخلقاني، يقول: الذي نادى منْ جانب الطور عبدَه عليُّ بن أبي طالب، قَالَ: وسمعته يقول: هو الأول، والآخر، عليّ بن أبي طالب.

قَالَ الحافظ: وقرأت بخط الذهبيّ: هَذَا السند مظلم، ولم يصح عن الخلقاني هَذَا الكلام، فإن هَذَا كلام زنديق. انتهى.

قَالَ ابن سعد وغيره: مات فِي أول سنة (173) وَقَالَ أبو الأحوص البغوي: مات سنة (74). رَوَى له الجماعة، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.

و"حُصين بن عبد الرحمن": هو السلميّ، أبو الهذيل الكوفيّ، ثقة تغيّر حفظه فِي الآخر [5].

و"مسلم بن صُبيح" -بضم الصاد المهملة، مصغّرًا-: هو أبو الضُّحى الكوفيّ العطار الثقة الفاضل [4]. و"عبد الله": هو ابن مسعود رضي الله عنه.

وقوله: "المصوّرن" بالرفع عَلَى أن اسم "إنّ" ضمير الشأن، مقدّراً: أي إنه، و"المصوّرون" مبتدأ مؤخر، و"منْ أشدّ النَّاس" خبر مقدّم، والجملة فِي موضع رفع خبر "إنّ".

وقوله: "وَقَالَ أحمد: المصوّرين": أي قَالَ شيخه الأول، وهو أحمد بن حرب فِي روايته:"المصوّرين" بالنصب عَلَى أنه اسم "إنّ" مؤخّراً، و"منْ أشدّ النَّاس" خبرها مقدّماً. وتمام شرح الْحَدِيث سبق قريباً. وفيه مسألتان:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -114/ 5366 - وفي "الكبرى" 109/ 9794 و9795. وأخرجه (خ) فِي "اللباس" 5950 (م) فِي "اللباس والزينة" 2109 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 3547 و4040. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا،

ص: 157

ونعم الوكيل.

5367 -

(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: اسْتَأْذَنَ جِبْرِيلُ عليه السلام عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "ادْخُلْ"، فَقَالَ: كَيْفَ أَدْخُلُ، وَفِي بَيْتِكَ سِتْرٌ فِيهِ تَصَاوِيرُ؟، فَإِمَّا أَنْ تُقْطَعَ رُءُوسُهَا، أَوْ تُجْعَلَ بِسَاطًا يُوطَأُ، فَإِنَّا مَعْشَرَ الْمَلَائِكَةِ، لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ تَصَاوِيرُ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(هنّاد بن السّريّ) بن مصعب التميميّ، أبو السريّ الكوفيّ، ثقة [10] 23/ 25.

2 -

(أبو بكر) بن عيّاش بن سالم الأسديّ مولاهم الكوفيّ المقريء الْحَنّاط، مشهور بكنيته، والأصحّ أنها اسمه، وقيل: محمد، وقيل: شعبة، وقيل: غير ذلك، ثقة عابد، إلا أنه لما كبر ساء حفظه، وكتابه صحيح [7] 98/ 127.

3 -

(أبو إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعيّ الكوفيّ، ثقة عابد، يدلّس، واختلط بآخره [3] 38/ 42.

4 -

(مجاهد) بن جبر المخزوميّ مولاهم، أبو الحجاج المكيّ، ثقة ثبت إمام [3] 27/ 31.

5 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير مجاهد، فمكيّ، وأبي هريرة رضي الله عنه، فمدنيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ منْ رَوَى الْحَدِيث فِي دهره. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، وفي رواية أبي داود، منْ طريق يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، عن مجاهد، "قَالَ: أخبرنا أبو هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتاني جبريل، فَقَالَ لي: أتيتك البارحة، فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كَانَ عَلَى الباب تماثيل

" الْحَدِيث (قَالَ) أي أبو هريرة رضي الله عنه، آخذاً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما أوضحته رواية أبي داود المذكورة (اسْتَأْذَنَ جِبْرِيلُ عليه السلام عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أي فِي دخول بيته صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (ادْخُلْ) بهمزة الوصل، أمر بالدخول (فَقَالَ) جبريل عليه السلام (كَيْفَ أَدْخُلُ، وَفِي بَيْتِكَ سِتْرٌ) بكسر، فسكون، وفي رواية أبي داود: "قرام ستر"،

ص: 158

بكسر القاف، وتخفيف الراء، والتنوين، فيكون "ستر" بالرفع بدلاً منْ "قرام"، ورُوي بحذف التنوين، والإضافة، وهو الستر الرقيق منْ صوف، ذو ألوان. قاله فِي "عون المعبود" 11/ 142 (فِيهِ تَصَاوِيرُ) وفي رواية أبي داود:"فيه تماثيل"، وهو جمع تِمثال بكسر أوله، وهو بمعنى التصاوير، والمراد بها صورة الحيوان (فَإِمَّا أَنْ تُقْطَعَ رُءُوسُهَا) ببناء الفعل للمفعول، وفي رواية أبي داود:"فمر برأس التمثال الذي فِي البيت يُقطع، فيصير كهيئة الشجرة".

(أَوْ تُجْعَلَ بِسَاطًا يُوطَأُ) بالبناء للمفعول أيضًا، وفي رواية أبي داود: "ومر بالستر، فليُقطَع، فيُجعل منه وسادتين منبوذتين

(1)

توطآن، ومر بالكلب، فليُخرج، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا الكلب لحسن، أو حسين، كَانَ تحت نَضَد لهم، فأمر به، فأُخرِج". قَالَ أبو داود: والنضَد: شيء توضع عليه الثياب، شبه السرير. انتهى.

قَالَ الخطّابيّ: فيه دليل عَلَى أن الصورة إذا غُيّرت بأن يُقطع رأسها، أو تُحلّ أوصالها حَتَّى يُغيّر هيئتها عمّا كانت عليه، لم يكن بها بعد ذلك بأس. انتهى "معالم السنن" 6/ 82.

وَقَالَ القاريّ: والمراد بقطع الستر التوصّل إلى جعله وسادتين، كما هو ظاهر منْ الْحَدِيث، فيفيد جواز استعمال ما فيه الصورة بمحو الوسادة، والفراش، والبساط. انتهى.

(فَإِنَّا مَعْشَرَ الْمَلَائِكَةِ) بنصب "معشر" عَلَى الاختصاص، كما قَالَ فِي "الخلاصة":

الاخْتِصَاصُ كَنِدَاءٍ دُونَ "يَا"

كَـ"أيُّهَا الْفَتَى" بِإثْرِ "ارْجُونِيَا"

وَقَدْ يُرَى ذَا دُونَ أَيٍّ تِلْوَ "أَلْ"

كَمِثْلِ "نَحْنُ الْعُرْبَ أَسْخَى مَنْ بَذَلْ

(لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ تَصَاوِيرُ) يعني التصاوير الباقية عَلَى هيئتها، دون تغيير لها، كما بيّنه قوله:"فإما أن تُقطع الخ". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

(1)

هكذا نسخ أبي داود بالياء، والظاهر أنه "وسادتان" بالألف عَلَى أنه نائب فاعل "يُجعل"، فالله تعالى أعلم.

ص: 159

أخرجه هنا -114/ 5367 - وفي "الكبرى" 109/ 9793. وأخرجه (د) فِي "اللباس" 4158 (ت) فِي "الأدب" 2806 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 7985 و8018 و8820 و9837. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌115 - (اللُّحُفُ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "اللُّحُفُ" -بضمّتين: جمع لِحاف، بكسر اللام: وهو كلُّ ثوب يُتغطّى به، ككتاب وكُتُب، وأما الملحفة بكسر الميم: فهي الْمُلاءَةُ التي تلتحف بها المرأة. أفاده الفيّوميّ. والله تعالى أعلم بالصواب.

5368 -

(أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ قَزَعَةَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حَبِيبٍ، وَمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَا يُصَلِّي فِي لُحُفِنَا، قَالَ سُفْيَانُ: مَلَاحِفِنَا).

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(الحسن بن قَزَعة) الهاشميّ مولاهم البصريّ، صدوقٌ [10] 47/ 1731.

2 -

(سفيان بن حبيب) البزاز، أبو محمد البصريّ، ثقة [9] 67/ 82.

3 -

(معتمر بن سليمان) التيميّ، أبو محمد البصريّ الملقّب بالطفيل، ثقة، منْ كبار [9] 10/ 10.

4 -

(أشعث) بن عبد الملك الْحُمْرانيّ، أبو هانىء البصريّ، ثقة فقيه [6] 129/ 191.

5 -

(محمد بن سيرين) الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت عابد [3] 46/ 57.

6 -

(عبد الله بن شقيق) الْعُقَيليّ البصريّ، ثقة، فيه نصبٌ [3] 17/ 1544.

7 -

(عائشة) أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها 5/ 5. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم

ص: 160

رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو والترمذي، وابن ماجه، وسفيان، فمن رجال الأربعة. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله تعالى عنها، أنها (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَا يُصَلِّي فِي لُحُفِنَا) وفي رواية أبي داود:"لا يصلّي فِي شُعُرنا"، أو "لُحُفنا" بالشكّ، والشُّعُر بضم الشين المعجمة، والعين المهملة: جمع شِعار، ككتاب وكتب، وهو فِي الأصل الثوب الذي يلبسه الإنسان مما يلي بدنه، لكن المراد هنا مطلق ما يُتغطّى به وقت النوم، وإن لم يباشر الجسد. قَالَ فِي "المنهل العذب المورود" 3/ 238: خُصّت الشعر بالذكر لأنها أقرب إلى أن تنالها النجاسة منْ الدثار، وإنما امتنع صلى الله عليه وسلم منْ الصلاة فيها؛ مخافة أن يكون أصابها شيء منْ دم الحيض. انتهى (قَالَ سُفْيَانُ: مَلَاحِفِنَا) يعني أن سفيان بن حبيب قَالَ فِي روايته لهذا الْحَدِيث: "ملاحفنا" بدل "لُحُفنا"، وهو جمع "مِلْحَفة": وهي الْمُلاءة التي تلتحف بها المرأة، كما تقدّم أولَ الباب.

[فإن قلت]: هَذَا الْحَدِيث يعارض ما أخرجه المصنّف، وأبو داود عن معاوية بن أبي سفيان، أنه سأل أم حبيبة، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، هل كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يصلي فِي الثوب الذي كَانَ يجامع فيه؟ قالت: نعم، إذا لم ير فيه أذى.

فإنه صريح فِي كونه صلى الله عليه وسلم يصليّ فِي لُحُف النِّساء، فكيف الجمع بينهما؟.

[قلت]: يُجمع بينهما بأن ما دلّ عليه حديث عائشة رضي الله تعالى عنها المذكور فِي الباب منْ كوله صلى الله عليه وسلم لا يصليّ فِي لُحُف النِّساء محمول عَلَى الاستحباب، وحديث أم حبيبة رضي الله تعالى عنها لبيان الجواز. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -115/ 5368 - وفي "الكبرى" 113/ 9807 و9808 و9809. وأخرجه (د) فِي "الطهارة" 367 و368 و"الصلاة" 645 (ت) فِي "الجمعة" 600 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 24458. والله تعالى أعلم.

ص: 161

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز لبس اللُّحُف بأنواعها. (ومنها): تجنّب ثياب النِّساء التي يُظنّ نجاستها، ومثلها سائر الثياب التي تكون كذلك. (ومنها): أن الاحتياط، والأخذ باليقين مطلوب شرعًا، ولا يعدّ ذلك منْ الوسواس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌116 - (صِفَةِ نَعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

-)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "النعل"، و"النعلة": ما وَقَيتَ به القدم منْ الأرض، مؤنّثة، وفى الْحَدِيث أن رجلاً شكا إليه رجلاً منْ الأنصار، فَقَالَ:

يَا خَيْرَ مَنْ يَمْشِي بِنَعْلٍ فَرْدِ

قَالَ ابن الأثير: النعل مؤنّثة، وهي التي تُلبس فِي المشي، تُسمّى الآن تاسومة، ووصفها بالفرد، وهو مذكّر؛ لأن تأنيثها غير حقيقيّ، والفرد هي التي لم تُخْصَف، ولم تُطارَق، وإنما هي طاقٌ واحد، والعرب تمدّح برقّة النعال، وتجعلها منْ لباس الملوك. فأما قول كُثَيّر:

لَهُ نَعَلٌ لَا تَطَّبِي

(1)

الْكَلْبُ رِيحَهَا

وَإِنْ وُضِعَتْ وَسْطَ الْمَجَالِسِ شُمَّتِ

فإنه حرّك حرف الحلق؛ لانفتاح ما قبله، كما قَالَ بعضهم: يَغَدُو، وهو مَحَمُومٌ، فِي يغدُو، وهو محْمُوم، وهذا لا يُعدّ لغة، إنما هو مُتبعٌ ما قبله، ولو سُئل رجل عن وزن يَغْدُو، وهو مَحْمُوم لم يقل: إنه يَفَعَلُ، ولا مَفَعُول، والجمع نِعال، وأنعُل، كسهم وسهام، وأسهُم. ذكره فِي "لسان العرب" 11/ 667. بزيادة يسيرة منْ "المصباح". والله تعالى أعلم بالصواب.

5369 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَبَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا

(1)

مضارع اطّبى، يقال: طباه يطبوه، ويطبيه: إذا دعاه، وصرفه إليه، واختاره لنفسه. انتهى "لسان".

ص: 162

قَتَادَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسٌ، أَنَّ نَعْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَهَا قِبَالَانِ).

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن معمر) بن رِبْعيّ القيسيّ البحرانيّ البصريّ، صدوقٌ، منْ كبار [11] 5/ 1829.

2 -

(حَبّان) -بفتح الحاء المهملة، وتشديد الموحّدة- ابن هلال، أبو حبيب البصريّ، ثقة ثبت [9] 44/ 590.

3 -

(همام) بن يحيى بن دينار الْعَوذيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقة ربما وهم [7] 5/ 465.

4 -

(قتادة) بن دعامة السدوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقة ثبت يدلّس [4] 30/ 34.

5 -

(أنس) بن مالك رضي الله تعالى عنه 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الجماعة الذين رووا عنهم بلا واسطة، وهم تسعة، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين. (ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، رَوَى (2286) حديثًا، وهو آخر منْ مات منْ الصحابة بالبصرة، مات سنة (92) أو (93) وَقَدْ جاوز مائة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

عن قتادة رحمه الله تعالى، أنه قَالَ (حَدَّثَنَا أَنَسٌ) بن مالك رضي الله عنه (أَنَّ نَعْلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَهَا قِبَالَانِ) تثنية قبال، بكسر القاف، وتخفيف الموحّدة، وآخره لام، ككتاب، وهو زمام النعل، وهو السَّيْر الذي يكون بين الإصبع الوُسطى، والتي تليها.

وزاد ابن سعد عن عفّان، عن همّام:"منْ سِبت، ليس عليهما شعر"، وَقَدْ أخرجه أحمد عن عفّان بدون هذه الزيادة. وقوله:"سِبت" بكسر المهملة، وسكون الموحدة، بعدها مثنّاة، وَقَدْ فسّره فِي الْحَدِيث. قاله فِي "الفتح" 11/ 497.

[تنبيه]: ذكر الحافظ العراقيّ رحمه الله تعالى فِي "ألفيّة السيرة" صفة نعل النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث قَالَ:

وَنَعْلُهُ الْكَرِيمَةُ الْمَصُونَهْ

طُوبَى لِمَنْ مَسّ بِهَا جَبِينَهْ

لَهَا قِبَالَانِ بِسَيْرٍ وَهُمَا

سِبْتِيَّتَانِ سَبَتُوا شَعْرَهُمَا

وَطُولُهَا شِبْرٌ وَإِصْبَعَانِ

وَعَرْضُهَا مِمَّا يَلي الْكَعْبَانِ

ص: 163

سَبْعُ أَصَابِعَ وَبَطْنُ الْقَدَمِ

خَمْسٌ وَفَوْقَ ذَا بِسِتٍّ فَاعْلَمِ

وَرَأْسُهَا مُحَدَّدٌ وَعَرْضُ مَا

بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ اصْبَعَانِ اضْبِطْهُمَا

وَهَذِهِ تَمْثَالُ تِلْكَ النَّعْلِ

وَدَوْرُهَا أَكْرِمْ بِهَا مِنْ نَعْلِ

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أنس رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -116/ 5369 - وفي "الكبرى" 111/ 9801. وأخرجه (خ) فِي "فرض الخمس" 3107 (د) فِي "اللباس" 4134 (ت) فِي "اللباس" 1772 و1773 (ق) فِي "اللباس" 3615 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 11820 و12689 و13156 و13433. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5370 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ، قَالَ: كَانَ لِنَعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِبَالَانِ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمرو بن عليّ": هو الفلّاس. و"صفوان بن عيسى": هو الزهريّ، أبو محمد البصريّ القسّام، ثقة [9]. و"هشام": هو ابن حسّان القردوسيّ. و"محمد": هو ابن سيرين. و"عمرو ابن أوس": هو الثقفيّ الطائفيّ، تابعيّ كبير [2] ووهم منْ عدّه منْ الصحابة، مات بعد (90).

والحديث مرسل صحيح، وَقَدْ مرّ قبله موصولاً منْ حديث أنس رضي الله عنه، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى هنا -116/ 5370 - وفي "الكبرى" 111/ 9802 وفيه زيادة، ولفظه:"كَانَ لنعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبالان، ونعلِ أبي بكر قبالان، ونعلِ عمر قبالان".

وذكر فِي "الفتح" 11/ 497 عند شرح حديث أنس رضي الله عنه الذي قبل هَذَا: ما حاصله: أخرج البزار، والطبرانيّ فِي "الصغير" منْ حديث أبي هريرة رضي الله عنه مثل حديث أنس هَذَا، وزاد:"وكذا لأبي بكر، ولعمر، وأوّل منْ عقد عقدة واحدة عثمان بن عفّان" لفظ الطبرانيّ، وسياق البزّار مختصرٌ، ورجال سنده ثقات، وله شاهد أخرجه النسائيّ -يعني فِي "الكبرى"- منْ رواية محمد بن سيرين، عن عمرو بن أوس مثله، دون ذكر

ص: 164

عثمان. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌117 - (ذِكْرِ النَّهْي عَنِ الْمَشْي فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ)

5371 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِذَا انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِ أَحَدِكُمْ، فَلَا يَمْشِ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، حَتَّى يُصْلِحَهَا").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه الحنظليّ المروزيّ، ثقة ثبت حجة [10] 2/ 2.

2 -

(محمد بن عبيد) بن أُمية الطنافسيّ الكوفيّ الأحدب، ثقة حافظ [8] 4/ 1735.

3 -

(الأعمش) سليمان بن مهران الكوفيّ، ثقة حافظ ورعٌ، لكنه يدلّس [5] 17/ 18.

4 -

(أبو صالح) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقة ثبت [3] 36/ 40.

5 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه مدنيين، وكوفيّين، ومروزيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. (ومنها): أن الأعمش سمع منْ أبي صالح ألف حديث، قاله الخزرجيّ فِي "الخلاصة" فِي ترجمة أبي صالح السمّان ص 112. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "إِذَا انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِ أَحَدِكُمْ) قَالَ ابن الأثير رحمه الله تعالى: "الشِّسْعُ" -بكسر الشين المعجمة، وسكون السين المهملة-: أحد سُيور النعل، وهو الذي يُدخَل بين الإصبعين، ويُدخَل طرفه فِي الثقب الذي فِي صدر النعل المشدود فِي الزمام، والزِّمَام: السَّيْرُ الذي يُعقد فيه الشِّسْعُ.

ص: 165

انتهى "النهاية" 2/ 472.

وَقَالَ فِي "الفتح" 11/ 494: "الشسع" -بكسر المعجمة، وسكون المهملة، بعدها عين مهملة-: السَّيْرُ الذي يُجعل فيه إصبع الرِّجْل منْ النعل، و"الشراك" -بكسر المعجمة، وتخفيف الراء، وآخره كاف-، أحد سيور النعل التي تكون فِي وجهها، وكلاهما يختل المشي بفقده. انتهى.

(فَلَا) ناهية، ولذا جزم بها قوله (يَمْشِ فِى نَعْلٍ وَاحِدَةٍ) تقدّم أن النعل مؤنّثة، ولذا وصفها بقوله:"واحدة"(حَتَّى يُصْلِحَهَا) أي يُصلح شسعها المنقطع.

ولفظ البخاريّ منْ طريق الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لا يمشي أحدكم فِي نعل واحدة؛ ليُحفهما جميعًا، أو ليُنعلهما جميعًا".

قَالَ فِي "النهاية" 2/ 472: وإنما نهي عن المشي فِي نعل واحدة؛ لئلا تكون إحدى الرجلين أرفع منْ الأخرى، ويكون سبباً للعثار، ويقبُح فِي المنظر، ويُعاب فاعله. انتهى.

وَقَالَ فِي "الفتح": قَالَ الخطّابيّ رحمه الله تعالى: الحكمة فِي النهي أن النعل شُرعت لوقاية الرِّجْل عما يكون فِي الأرض، منْ شوك، أو نحوه، فإذا انفردت إحدى الرجلين احتاج الماشي أن يتوقى لإحدى رجليه، ما لا يتوقى للأخرى، فيخرج بذلك عن سجية مشيه، ولا يأمن مع ذلك منْ العثار. وقيل: لأنه لم يَعْدِل بين جوارحه، وربما نُسب فاعل ذلك إلى اختلال الراي، أو ضعفه. وَقَالَ ابن العربي: قيل: العلة فيها أنها مِشْيَة للشيطان. وقيل: لأنها خارجة عن الاعتدال. وَقَالَ البيهقي: الكراهة فيه للشهرة، فتمتد الأبصار لمن ترى ذلك منه، وَقَدْ ورد النهي عن الشهرة فِي اللباس، فكل شيء صير صاحبه شهرة، فحقه أن يُجتنب.

وأما ما أخرجه مسلم

(1)

منْ طريق أبي رَزين، عن أبي هريرة، بلفظ:"إذا انقطع شسع أحدكم، فلا يمشي فِي نعل واحدة، حَتَّى يصلحها"، وله منْ حديث جابر رضي الله عنه:"حَتَّى يصلح نعله"، وله ولأحمد منْ طريق همام، عن أبي هريرة:"إذا انقطع شسع أحدكم، أو شراكه، فلا يمشي فِي إحداهما بنعل، والأخرى حافية؛ ليُحفهما جميعا، أو ليُنعلهما جميعا"، فهذا لا مفهوم له، حَتَّى يدلّ عَلَى الإذن فِي غير هذه الصورة، وإنما هو تصوير خرج مخرج الغالب، ويمكن أن يكون منْ مفهوم الموافقة، وهو التنبيه بالأدنى عَلَى الأعلى، لأنه إذا منع مع الاحتياج، فمع عدم الاحتياج أولى.

(1)

هو الْحَدِيث الآتي للمصنّف بعد هَذَا.

ص: 166

وفي هَذَا التقرير استدراك عَلَى منْ أجاز ذلك حين الضرورة، وليس كذلك، وإنما المراد أن هذه الصورة قد يُظَنّ أنها أخف؛ لكونها للضرورة المذكورة، لكن لعلة موجودة فيها أيضًا، وهو دال عَلَى ضعف ما أخرجه الترمذيّ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: ربما انقطع شِسْعُ نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمشى فِي النعل الواحدة، حَتَّى يصلحها، وَقَدْ رجح البخاريّ، وغير واحد وقفه عَلَى عائشة.

وأخرج الترمذيّ بسند صحيح، عن عائشة، أنها كانت تقول لأخيفن أبا هريرة، فيمشي فِي نعل واحدة، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة موقوفًا، وكأنها لم يبلغها النهي، وقولها:"لأخيفن": معناه لأفعلن فعلا يخالفه.

وَقَدْ اختُلِف فِي ضبطه، فرُوي "لأخالفن"، وهو أوضح فِي المراد، ورُوي "لأُحَنِّثَنّ" منْ الحنث -بالمهملة والنون والمثلثة- واستُبعِد، لكن يمكن أن يكون بلغها أن أبا هريرة، حلف عَلَى كراهية ذلك، فأرادت المبالغة فِي مخالفته، ورُوي "لأُخِيفَنّ" -بكسر المعجمة، بعدها تحتانية ساكنة، ثم فاء- وهو تصحيف، وَقَدْ وُجِّهت بأن مرادها أنه إذا بلغه أنها خالفته، أمسك عن ذلك؛ خوفا منها، وهذا فِي غاية البعد، وَقَدْ كَانَ أبو هريرة، يعلم أن منْ النَّاس منْ ينكر عليه هَذَا الحكم، ففي رواية مسلم المذكورة، منْ طريق أبي رزين: "خرج إلينا أبو هريرة، فضرب بيده عَلَى جبهته، فَقَالَ: أما إنكم تَحَدَّثون أني أَكْذِب، لِتَهْتَدُوا وَأَضِلَّ، أشهد لسمعت

" فذكر الْحَدِيث.

وَقَدْ وافق أبا هريرة جابر عَلَى رفع الْحَدِيث، فأخرج مسلم منْ طريق ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابرا، يقول: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لا يمش فِي نعل واحدة

الْحَدِيث، ومن طريق مالك، عن أبي الزبير، عن جابر: نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يأكل الرجل بشماله، أو يمشي فِي نعل واحدة، ومن طريق أبي خيثمة، عن أبي الزبير، عن جابر رفعه:"إذا انقطع شسع أحدكم، فلا يمشي فِي نعل واحدة، حَتَّى يصلح شسعه، ولا يمشي فِي خف واحد"

(1)

.

قَالَ ابن عبد البرّ: لم يأخذ أهل العلم برأي عائشة فِي ذلك، وَقَدْ ورد عن عليّ، وابن عمر، أيضًا أنهما فعلا ذلك، وهو إما أن يكون بلغهما النهي، فحملاه عَلَى التنزيه، أو كَانَ زمن فعلهما يسيرا، بحيث يؤمن معه المحذور، أو لم يبلغهما النهي. انتهى.

وَقَالَ عياض: رُوي عن بعض السلف فِي المشي فِي نعل واحدة، أو خف واحد أثر لم يصح، أوله تأويل فِي المشي اليسير بقدر ما يُصلح الأخرى.

(1)

أخرجه المصنّف فِي "الكبرى" 5/ 505 رقم 9798.

ص: 167

والتقييد بقوله: "لا يمش" قد يَتَمَسَّك به منْ أجاز الوقوف بنعل واحدة، إذا عرض للنعل ما يحتاج إلى إصلاحها، وَقَدْ اختُلف فِي ذلك، فنقل عياض، عن مالك، أنه قَالَ: يخلع الأخرى، ويقف إذا كَانَ فِي ارض حارّة، أو نحوها مما يضر فيه المشي فيه حَتَّى يصلحها، أو يمشي حافيا إن لم يكن ذلك، قَالَ ابن عبد البرّ: هَذَا هو الصحيح فِي الفتوى وفي الأثر، وعليه العلماء، ولم يتعرض لصورة الجلوس، والذي يظهر جوازها، بناء عَلَى أن العلة فِي النهي ما تقدّم ذكره، إلا ما ذُكر منْ إرادة العدل بين الجوارح، فإنه يتناول هذه الصورة أيضًا.

وقوله فِي رواية البخاريّ المذكورة: "لينعلها جميعا": قَالَ ابن عبد البرّ: أراد القدمين، وإن لم يجر لهما ذكر، وهذا مشهور فِي لغة العرب، وورد فِي القرآن أن يُؤتَى بضمير، لم يتقدم له ذكر؛ لدلالة السياق عليه.

و"ينعلهما" ضبطه النوويّ بضم أوله، منْ أنعل، وتعقبه الحافظ العراقيّ فِي "شرح الترمذيّ" بأن أهل اللغة قالوا: نَعَلَ بفتح العين، وحُكي كسرها، وانتعل: أي لبس النعل، لكن قد قَالَ أهل اللغة أيضًا: أنعل رجله: ألبسها نعلا، ونعل دابته: جعل لها نعلا، وَقَالَ صاحب "المحكم": أنعل الدابة، والبعير، ونَعّلهما بالتشديد، وكذا ضبطه عياض، فِي حديث عمر رضي الله عنه أن غسان تُنعل الخيل بالضم: أي تجعل لها نعالا.

والحاصل أن الضمير إن كَانَ للقدمين، جاز الضم والفتح، وإن كَانَ للنعلين تعين الفتح.

وقوله: "أو ليحفهما جميعا": كذا للأكثر، ووقع فِي رواية أبي مصعب فِي "الموطإ":"أو ليخلعهما"، وكذا فِي رواية لمسلم، والذي فِي جميع روايات "الموطإ" كالذي فِي البخاريّ، وَقَالَ النوويّ: وكلا الروايتين صحيح، وعلى ما وقع فِي رواية أبي مصعب، فالضمير فِي قوله:"أو ليخلعهما" يعود عَلَى النعلين؛ لأن ذكر النعل قد تقدّم، والله أعلم. قاله فِي "الفتح" 11/ 493 - 495. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -117/ 5371 و5372 - وفي "الكبرى" 110/ 9796 و9797. وأخرجه (خ) فِي "اللباس" 5855 (م) فِي "اللباس والزينة" 2097 (د) فِي "اللباس"

ص: 168

4136 (ت) فِي "اللباس" 1774 (ق) فِي "اللباس" 3616 و3617 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 7300 و7398 و27365 و9199 و9422 و9864 و10457 (الموطأ) فِي "الجامع" 1701 و1702. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان النهي عن المشي فِي نعل واحدة. (ومنها): ما قيل: قد يدخل فِي هَذَا النهي كل لباس شفع، كالخفين، وإخراج اليد الواحدة منْ الكم دون الأخرى، والتردّي عَلَى أحد المنكبين دون الآخر، قاله الخطّابيّ رحمه الله تعالى. وَقَدْ أخرج ابن ماجه حديث الباب منْ رواية محمد بن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة بلفظ:"لا يمش أحدكم فِي نعل واحدة، ولا خف واحد"، وهو عند مسلم أيضًا منْ حديث جابر، وعند أحمد منْ حديث أبي سعيد، وعند الطبراني منْ حديث ابن عبّاس، وإلحاق إخراج اليد الواحدة منْ الكم، وترك الأخرى بلبس النعل الواحدة والخف الواحد بعيد، إلا إن أخذ منْ الأمر بالعدل بين الجوارح، وترك الشهرة، وكذا وضع طرف الرداء عَلَى أحد المنكبين. قاله فِي "الفتح" 11/ 495. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5372 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلَى جَبْهَتِهِ، يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، تَزْعُمُونَ أَنِّي أَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "إِذَا انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِ أَحَدِكُمْ، فَلَا يَمْشِ فِي الأُخْرَى، حَتَّى يُصْلِحَهَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة. و"أبو معاوية": هو محمد بن خازم الضرير. و"أبو رزين": هو مسعود بن مالك الأسديّ الكوفيّ، ثقة فاضل [2] 52/ 66.

وقوله: "رأيت أبا هريرة يضرب بوجهه عَلَى جبهته"، وفي رواية مسلم:"قَالَ: خرج علينا أبو هريرة، فضرب بيده عَلَى جبهته، وَقَالَ: ألا إنكم تحدّثون أني أكذب عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتهتدوا، وأضِلَّ، ألا وإني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا انقطع شسع أحدكم

" الْحَدِيث.

وإنما ضرب أبو هريرة رضي الله عنه بيده عَلَى جبهته -والله أعلم- تعجّباً، واستغرابًا لاتّهامهم له، والظاهر أنه سمع بإنكار عائشة رضي الله تعالى عنها، فقدم عنها أنها كانت تقول: لأخيفنّ أبا هريرة، فيمشي فِي نعل واحدة"، وَقَدْ تقدّم الخلاف فِي ضبطه،

ص: 169

والظاهر أنها لم يبلغها النهي عن ذلك، وَقَدْ حفظه أبو هريرة رضي الله عنه، وهو لم ينفرد به، بل رواه معه جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، أخرجه مسلم فِي "صحيحه"، كما تقدّم.

والحديث أخرجه مسلم، كما تقدّم فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌118 - (مَا جَاءَ فِي الأَنْطَاعِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الأنطاع" -بفتح الهمزة-: جمع، قَالَ فِي "المصباح": النطع: المتّخذ منْ الأديم، معروفٌ، وفيه أربع لغات: فتح النون، وكسرها، ومع كلّ واحد فتح الطاء، وسكونها، والجمع أنطاعٌ، ونُطُوعٌ. والنِّطعُ وزانُ عِنَب: ما ظهر منْ غار الفم الأعلى، ومنه الحروف النِّطَعِيّة، وهي الطاء، والدال، والتاء. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.

5373 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبِي الْوَزِيرِ، أَبُو مُطَرِّفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، اضْطَجَعَ عَلَى نِطْعٍ، فَعَرِقَ، فَقَامَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى عَرَقِهِ، فَنَشَّفَتْهُ، فَجَعَلَتْهُ فِي قَارُورَةٍ، فَرَآهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَا هَذَا الَّذِي تَصْنَعِينَ، يَا أُمَّ سُلَيْمٍ؟ "، قَالَتْ: أَجْعَلُ عَرَقَكَ فِي طِيبِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم).

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن معمر) البحرانيّ المذكور قبل باب.

2 -

(محمد بن عُمر بن أبي الوزير) محمد بن عمر بن مطرّف الهاشمي مولاهم، أبو المطرّف ابن أبي الوزير البصريّ، ثقة [10].

رَوَى عن شريك، وهشيم، وموسى بن عبد الملك بن عمير، وحاتم بن إسماعيل، وعبد الله بن جعفر المخرمي، وجماعة. وعنه أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الأسود، وبندار، وأبو موسى، ومحمد بن معمر البحراني، وعمر بن شبة، وبكار بن

ص: 170

قتيبة، ومحمد بن يونس الكديمي، وآخرون. قَالَ أبو حاتم: ثنا عبد الله بن محمد المسندي البخاريّ، ثنا أبو مُطَرِّف محمد بن أبي الوزير، وكان ثقة. وَقَالَ ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عن ابن أبي الوزير؟ فَقَالَ: هو إبراهيم ومحمد ابنا عمر بن مطرف، هما أخوان، وإبراهيم أكبرهما سنا. وَقَالَ أبو حاتم: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ ابن خزيمة: كَانَ منْ ثقات أهل المدينة. تفرّد به المصنّف، وأبو داود، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.

3 -

(محمد بن موسى) الْفِطْريّ المدنيّ، صدوقٌ، رُمي بالتشيّع [7] 1/ 1600.

4 -

(عبد الله بن أبي طلحة) عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاريّ، أبو يحيى المدنيّ، أخو إسحاق، نُسب لجدّه، ثقة [4] 63/ 3341.

5 -

(أنس بن مالك) بن النضر رضي الله تعالى عنه 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وشيخ شيخه، فبصريان. (ومنها): أن فيه أنساً رضي الله عنه منْ المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله تعالى عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، اضْطَجَعَ عَلَى نِطْعٍ) تقدّم ضبطه، ومعناه أوّل الباب (فَعَرِقَ) بكسر الراء، منْ باب تَعِب. وفي رواية مسلم منْ طريق إسحاق بن أبى طلحة، عن أنس رضي الله عنه:"كَانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم يدخل بيت أم سليم، فينام عَلَى فراشها، وليست فيه، فجاء ذات يوم، فقيل لها، فجاءت، وَقَدْ عرق، فاستنقع عرقه"، وفي رواية أبى قلابة، عن أنس:"كَانَ يأتيها، فيقيل عندها، فتبسط له نطعا، فيقيل عليه، وكان كثير العرق"(فَقَامَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ) بنت مِلْحان بن خالد الأنصاريّة، والدة أنس رضي الله تعالى عنهما، يقال: اسمها سهلة، أو رُميلة، أو رُميثة، أو مُليكة، أو أُنيثة، وهي الْغُميصاء، أو الرميصاء، اشتهرت بكنيتها، وكانت منْ الصحابيّات الفاضلات، ماتت فِي خلافة عثمان رضي الله عنه (إِلَى عَرَقِهِ) صلى الله عليه وسلم (فَنَشَّفَتْهُ) أي أخذته، يقال: نشَفت الماء نَشفاً، منْ باب ضرب: إذا أخذته منْ غَدِير، أو أرض بخرقة، ونحوها، ونشّفته بالتثقيل مبالغة. أفاده فِي "المصباح" (فَجَعَلَتْهُ فِي قَارُورَةٍ) قَالَ الفيّوميّ: القارورة: إناء منْ زُجاج، والجمع القوارير، والقارورة أيضاً: وعاء الرُّطَب، والتمر، وهي الْقَوْصَرَّة، وتُطلق القارورة عَلَى المرأة؛ لأن الولد، أو المنيّ يَقِرّ فِي رحمها كما

ص: 171

يَقِرّ الشيءُ فِي الإناء، أو تشبيها بأنية الزجاج؛ لضعفها، قَالَ الأزهريّ: والعرب تَكني عن المراة بالقارورة، والْقَوْصَرّة. انتهى. وفي رواية البخاريّ:"أخذت منْ عَرَقه، وشعره، فجعلته فِي قارورة"، وفي رواية مسلم:"فِي قوارير"، ولم يذكر الشعر، قَالَ الحافظ: وفي ذكر الشعر غرابة فِي هذه القصّة، وَقَدْ حمله بعضهم عَلَى ما يتنثر منْ شعره عند الترجّل، ثم رأيت فِي رواية محمد بن سعد ما يزيل اللبس، فإنه أخرج بسند صحيح عن ثابت، عن أنس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا حلق شعره بمنى أخذ أبو طلحة شعره، فأتى به أمّ سليم، فجعلته فِي سُكّها، قالت أم سليم: وكان يجيء، فيقيل عندي عَلَى نطع، فجعلت أَسْلُتُ العرق

الْحَدِيث، فيستفاد منْ هذه الرواية أنها لما أَخَذت العرق وقت قيلولته، أضافته إلى الشعر الذي عندها، لا أنها أخذت منْ شعره لما نام، ويستفاد منها أيضًا أن القصة المذكورة، كانت بعد حجة الوداع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما حلق رأسه بمنى فيها.

وقوله: "فِي سك" -بضم المهملة، وتشديد الكاف-: هو طيب مركب، وفي "النهاية": طيب معروف، يضاف إلى غيره منْ الطيب، ويستعمل، وفي رواية الحسن ابن سفيان:"ثم تجعلها فِي سكها".

(فَرَآهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَا هَذَا الَّذِى تَصْنَعِينَ، يَا أُمَّ سُلَيْمٍ؟ " قَالَتْ: أَجْعَلُ عَرَقَكَ فِي طِيبِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية مسلم منْ طريق ثابت، عن أنس رضي الله عنه قَالَ:"دخل علينا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عندنا، فعرِق، وجاءت أمي بقارورة، فجعلت تَسلُت العرق فيها، فاستيقظ، فَقَالَ: يا أم سليم، ما هَذَا الذي تصنعين؟ قالت: هَذَا عرقك نجعله فِي طيبنا، وهو منْ أطيب الطيب". وفي رواية مسلم أيضًا منْ طريق إسحاق بن أبي طلحة، عن أنس رضي الله عنه:"عرق، فاستنقع عرقه عَلَى قطعة أَديم، ففتحت عَتِيدتها، فجعلت تنشف ذلك العرق، فتعصره فِي قواريرها، فأفاق، فَقَالَ: ما تصنعين؟ قالت نرجو بركته لصبياننا، فَقَالَ: أصبت".

و"العتيدة"-: بمهملة، ثم مثناة، وزن عظيمة: السَّلَّة، أو الْحُقّ، وهي مأخوذة منْ العتاد، وهو الشيء المعد للأمر المهم.

وفي رواية مسلم أيضًا منْ طريق أبي قلابة، عن أنس رضي الله عنه:"فكانت تجمع عرقه، فتجعله فِي الطيب، والقوارير، فَقَالَ: ما هَذَا؟ قالت: عرقك أَذُوف به طيبي"، و "أذوف" -بمعجمة مضمومة، ثم فاء-: أي أخلط.

ويستفاد منْ هذه الروايات اطلاعُ النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى فعل أم سليم، وتصويبه، ولا معارضة بين قولها: إنها كانت تجمعه لأجل طيبه، وبين قولها للبركة، بل يحمل عَلَى أنها

ص: 172

كانت تفعل ذلك للأمرين معا. قاله فِي "الفتح" 11/ 343 - 344. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه هَذَا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -118/ 5373 - وفي "الكبرى" 112/ 9806. وأخرجه (خ) فِي "الاستئذان" 6281 (م) فِي "الفضائل" 2322 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 11589 و11988 و12897 و12953 و12996 و13010 و1364 و13645. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز اتخاذ الأنطاع، واستعماله. (ومنها): استحباب التبرّك بعرقه صلى الله عليه وسلم، وشعره، ونحو ذلك. (ومنها): ما كَانَ عليه الصحابة رضي الله عنهم منْ شدّة محبّته صلى الله عليه وسلم، والتبرّك بآثاره. (ومنها): ما قاله المهلّب رحمه الله تعالى: إن فيه مشروعية القائلة للكبير فِي بيوت معارفه؛ لما فِي ذلك منْ ثبوت المودة، وتأكيد المحبّة. (ومنها): ما قاله أيضًا: إن فيه طهارة شعر الآدمي، وعرقه، وَقَالَ غيره: لا دلالة فيه؛ لأنه منْ خصائص النبيّ صلى الله عليه وسلم، ودليل ذلك متمكن فِي القوة، ولاسيما إن ثبت الدليل عَلَى عدم طهارة كل منهما. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي قاله المهلّب رحمه الله تعالى هو الصواب؛ لأنه لا دليل عَلَى الخصوصية، ولأنه لم يثبت الدليل عَلَى عدم طهارتهما، بل الأدلّة بطهارتهما واضحة، فتأمل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 173

‌119 - (اتِّخَاذِ الْخَادِمِ، وَالْمَرْكَبِ)

5374 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ سَهْمٍ، رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، قَالَ: نَزَلْتُ عَلَى أَبِي هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ، وَهُوَ طَعِينٌ، فَأَتَاهُ مُعَاوِيَةُ يَعُودُهُ، فَبَكَى أَبُو هَاشِمٍ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا يُبْكِيكَ؟، أَوَجَعٌ يُشْئِزُكَ، أَمْ عَلَى الدُّنْيَا؟ فَقَدْ ذَهَبَ صَفْوُهَا، قَالَ: كُلٌّ لَا، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَهِدَ إِلَيَّ عَهْدًا، وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ تَبِعْتُهُ، قَالَ: "إِنَّهُ لَعَلَّكَ تُدْرِكُ أَمْوَالاً، تُقْسَمُ بَيْنَ أَقْوَامٍ، وَإِنَّمَا يَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ خَادِمٌ، وَمَرْكَبٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"، فَأَدْرَكْتُ، فَجَمَعْتُ).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن قُدامة) بن أعين الهاشميّ مولاهم المصّيصيّ، ثقة [10] 137/ 214.

2 -

(جرير) بن عبد الحميد بن قُرط الضبيّ الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقة صحيح الكتاب [8] 2/ 2.

3 -

(منصور) بن المعتمر، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقة ثبت [6] 2/ 2.

4 -

(أبو وائل) شقيق بن سلمة الأسديّ الكوفيّ، مخضرم ثقة ثبت [2] 2/ 2.

5 -

(سمرة بن سَهْم) القرشيّ الأسديّ، مجهول [2].

رَوَى عن ابن مسعود، وأبي هاشم بن عتبة بن ربيعة، ومعاوية. وعنه أبو وائل. قَالَ ابن المدينيّ: مجهول، لا أعلم رَوَى عنه غير أبي وائل. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". رَوَى له المصنّف، والترمذيّ، وابن ماجه، وله عندهما هَذَا الْحَدِيث فقط.

6 -

(أبو هاشم بن عُتبة) بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشيّ الْعَبْشميّ، قيل: اسمه خالد، وقيل: هُشيم، وقيل: هِشام، وقيل: مِهْشَم، أسلم يوم الفتح، وسكن الشام، وكان خال معاوية بن أبي سفيان. رَوَى حديثه أبو وائل، شقيق بن سلمة، عن سمرة بن سهم، رجل منْ قومه عنه، وقيل: عن أبي وائل، عن أبي هاشم، ليس بينهما أحد. رَوَى عنه أبو هريرة، وكان إذا ذكره قَالَ: ذلك الرجل الصالح. قَالَ ابن عبد البرّ: توفّي أيام عثمان رضي الله عنه. تفرّد به المصنّف، والترمذيّ، وله عندهما هَذَا الْحَدِيث فقط. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: هَذَا الصحابيّ رضي الله عنه منْ المقلّين منْ الرواية، فليس له إلا هَذَا الْحَدِيث، عند المصنّف، والترمذيّ، وابن ماجه، راجع "تحفة الأشراف" 9/ 292. والله تعالى أعلم.

ص: 174

شرح الْحَدِيث

(عَنْ سَمُرَةَ بْنِ سَهْمٍ) بفتح، فسكون (رَجُلٍ) بالجرّ بدل منْ "سمرة"، ويجوز رفعه خبر لمحذوف: أي هو رجل (مِنْ قَوْمِهِ) أي منْ قوم أبي وائل، أنه (قَالَ: نَزَلْتُ عَلَى أَبِي هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ) رضي الله عنه (وَهُوَ طَعِينٌ) جملة فِي محل نصب عَلَى الحال: أي والحال أنه طيعين، وهو فعل بمعنى مفعول: أي أصابه مرض الطاعون، قَالَ ابن الأثير: الطاعون المرض العامّ، والوباء الذي يفسد له الهواء، فتفسد به الأمزجه والأبدان. يقال: طُعن الرجل -مبنيًّا للمفعول- فهو مطعون، وطَعِينٌ: إذا أصابه الطاعون. انتهى "النهاية" 3/ 127. وفي رواية الترمذيّ: "جاء معاوية إلى أبي هاشم بن عتبة، وهو مريض" (فَأَتَاهُ مُعَاوِيَةُ) بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما، وتقدّم آنفاً أنه خاله (يَعُودُهُ) أي يزوره (فَبَكَى أَبُو هَاشِمٍ) رضي الله عنه (فَقَالَ مُعَاويَةُ) رضي الله عنه (مَا يُبْكِيكَ؟) "ما" استفهامية: أي أيّ شيء يحملك عَلَى البكاء (أَوَجَعٌ يُشْئِزُكَ) بضم أوله، منْ اشأزه، بشين معجمة، ثم همزة مكسورة، وزاي -كأقلقه وزناً ومعنًى (أَمْ عَلَى الدُّنْيَا؟) أي أم تبكي عَلَى فراق نعم الدنيا (فَقَدْ ذَهَبَ صَفْوُهَا) يعني أنه لا ينبغي البكاء، والتحسّر عليها؛ لأن صفوها زال، ولم يبق إلا الكدر (قَالَ) أبو هاشم رضي الله عنه (كُلٌّ) منوّناً، وتنوينه للعوض: أي كلّ ما ذكرته (لَا) أي ليس سبب بكائي، يعني أنه لا يبكي لشدة المرض، ولا للحزن عَلَى مفارقة الدنيا، وإنما يبكي لأمر آخر، وهو ما ذكره بقوله (وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَهِدَ إِلَيَّ عَهْدًا) أي أوصاني بوصيّة، يقال: عهِد إليه، منْ باب تَعِبَ: إذا أوصاه (وَدِدْتُ) بكسر الدال الأول، منْ باب تعِب: أي أحببت (أَنِّي كُنْتُ تَبِعْتُهُ) أي تبعت النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما عهد إليّ. وفي رواية الترمذيّ: "ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليّ عهدًا لم آخذ به"(قَالَ) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدل منْ "عهد"، بدل الفعل منْ الفعل، كما قَالَ فِي "الخلاصة":

وَيُبْدَلُ الْفِعْلُ مِنَ الْفِعْلِ كَـ"مَنْ

يَصِلْ إِلَيْنَا يَسْتَعِنْ بِنَا يُعَنْ"

وَقَالَ الشاعر [منْ الطويل]:

مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا

تَجِدْ حَطَبًا جَزْلاً وَنَارًا تَأَجَّجَا

(إِنَّهُ) الضمير للشأن (لَعَلَّكَ تُدْرِكُ أَمْوَالاً) أي منْ الغنائم التي تفتح عَلَى المسلمين منْ فتح بلاد الكفار (تُقْسَمُ بَيْنَ أَقْوَامٍ، وَإِنَّمَا يَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ خَادِمٌ) اسم فاعل منْ خدمه يخدمه منْ بابي نصر، وضرب خِدمة بالكسر، ويفتح، فهو خادم غلامًا كَانَ، أو جارية،

ص: 175

والخادمة بالهاء فِي المؤنّث قليل، والجمع خَدَم بفتحتين، وخُدّام (وَمَرْكَبٌ) بفتح، فسكون: أي مركوب يُسار عليه (فِى سَبِيلِ اللَّهِ) أي فِي الجهاد، أو الحجّ، أو غير ذلك، والمقصود منه القناعة، والاكتفاء بقدر الكفاية، مما يصحّ أن يكون زادًا للآخرة كما رواه الطبرانيّ، والبيهقيّ عن خَبّاب:"إنما يكفي أحدكم ما كَانَ فِي الدنيا مثل زاد الراكب"(فَأَدْرَكْتُ) أي ما قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَجَمَعْتُ) وفي رواية رزين: "فلما مات حصل ما خلف، فبلغ ثلاثين درهماً، وحُسبت فيه القصعة التي كَانَ يعجن فيها، وفيها يأكل". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي هاشم بن عتبة رضي الله عنه حسنٌ.

[فإن قلت]: فِي سنده سمرة بن سهم، وهو مجهول، فكيف يكون حسناً؟.

[قلت]: له شاهد منْ حديث بُريدة الأسلميّ رضي الله عنه أخرجه أحمد 5/ 360، والدارميّ 2/ 301 بسند رجاله ثقات عن أبي نضرة، عن عبد الله بن مَوَلَة، عن بريدة الأسلميّ رضي الله عنه، مرفوعًا بلفظ:"ليكف أحدكم منْ الدنيا خادم، ومركب"، وفيه ابن مَوَلة، مجهول؛ لكنه تابعيّ، رَوَى عنه أبو نضرة، ووثقه ابن حبّان، فمثله يصلح للشواهد. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -119/ 5374 - وفي "الكبرى" 114/ 9810. وأخرجه (ت) فِي "الزهد" 2327 (ق) فِي "الزهد" 4103 (أحمد) فِي "مسند المكيين" 15227 و"باقي مسند الأنصار" 21990.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز اتّخاذ الخادم، والمركب. (ومنها): الترغيب فِي الزهد عن الدنيا، والتقلّل منْ متاعها. (ومنها): ما كَانَ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ الحثّ والترغيب لأصحابه أن لا يغترّوا بما يُفتح عليهم منْ زخرف الدنيا، ومستلذّاتها، حَتَّى يكونوا راغبين فِي النعيم الباقي، وهو نعيم الجنة. (ومنها): ما كَانَ عليه الصحابة رضي الله عنهم منْ الخوف منْ عدم القيام بما أوصاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم مع كونهم متمسّكين به، حيث إن أبا هاشم رضي الله عنه بكى عَلَى ذلك مع أنه لما مات ما تجاوز ما جمعه ثلاثين درهمًا، كما سبق قريباً، وهذا منْ غاية الخوف وشدة الورع. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 176

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌120 - (حِلْيَةِ السَّيْفِ)

5375 -

(أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، قَالَ: كَانَتْ قَبِيعَةُ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فِضَّةٍ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمران بن يزيد": هو عمران بن خالد بن يزيد، نُسب لجدّه الدمشقيّ، صدوقٌ [10] منْ أفراد المصنّف. و"عيسى بن يونس": هو ابن أبي إسحاق السبيعيّ الهمدانيّ الكوفيّ ثقة مأمون [8]. و"عثمان بن حكيم": هو الأنصاريّ الأوسيّ، أبو سهل المدنيّ، ثم الكوفيّ، ثقة [5]. و"أبو أمامة بن سهل": هو أسعد بن سهل بن حُنيف الأنصاريّ المدنيّ، معدود فِي الصحابة لرؤيته، ولكن لا سماع له ثقة [2].

وقوله: "قبيعة سيفه رسول الله صلى الله عليه وسلم منْ فضّة": قَبيعة السيف -بفتح القاف بوزن سَفينة: هو ما عَلَى طرف مَقْبِضه منْ فضّة، أو حديد. أفاده فِي "القاموس". وَقَالَ فِي "اللسان": القَبيعة: التي عَلَى رأس قائم السيف، وهي التي يُدخل القائم فيها، وربّما اتُّخذت منْ فضّة عَلَى رأس السكين. وقيل: هي ما تحت شاربي السيف، والشاربان أنفان طويلان أسفل القائم، أحدهما منْ هَذَا الجانب، والآخر منْ هَذَا الجانب. وقيل: قبيعة السيف رأسه الذي فيه منتهى اليد إليه. وقيل: قبيعته ما كَانَ عَلَى طرف مَقبِضه منْ فضّة، أو حديد. انتهى.

والحديث مرسلٌ صحيح، منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -120/ 5375 - وفي "الكبرى" 115/ 9815. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5376 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، وَجَرِيرٌ، قَالَا: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ نَعْلُ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فِضَّةٍ، وَقَبِيعَةُ سَيْفِهِ فِضَّةٌ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ حِلَقُ فِضَّةٍ).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(أبو داود) سليمان بن سيف الْحَرّانيّ، ثقة حافظ [11] 103/ 136.

ص: 177

2 -

(عمرو بن عاصم) بن عبيد الله الكلابيّ القيسيّ، أبو عثمان البصريّ، صدوقٌ فِي حفظه شيء، منْ صغار [9] 17/ 1552.

3 -

(همّام) بن يحيى بن دينار الْعَوذيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقة ربما وهم [7] 5/ 465.

46 -

(جرير) بن حازم بن زيد الأزديّ، أبو النضر البصريّ، ثقة، له أوهام إذا حدّث منْ حفظه [6] 82/ 1014.

5 -

(قتادة) بن دعامة السدوسيّ البصريّ، ثقة ثبت يُدلّس [4] 30/ 34.

6 -

(أنس) بن مالك رضي الله تعالى عنه 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه أيضًا، فحرّانيّ. (ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه منْ المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَنَسٍ) بن مالك رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: كَانَ نَعْلُ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فِضَّةٍ) نعل السيف: حديدة فِي أسفل غمد السيف. قاله فِي "القاموس"(وَقَبِيعَةُ سَيْفِهِ فِضَّةٌ) تقدّم تفسير القبيعة فِي الْحَدِيث الماضي (وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ حِلَقُ فِضَّةٍ) بكسر الحاء المهملة وفتحها، وفتح اللام: جمع حَلْقة، قَالَ فِي "القاموس": وحَلْقة الباب، والقوم، وَقَدْ تُفْتَح لامهما، وتُكسر، أو ليس فِي الكلام حَلَقَة محرّكةً، إلا جمع حالق، أو لغة ضعيفةٌ، جمعه حَلَقٌ محرّكةً، وكَبِدَر، وحَلَقاتٌ محرّكةً، وتُكسر الحاء. انتهى. وفي "المصباح": وحلقة الباب بالسكون منْ حديد، وغيره، وحلْقَةُ القوم الذين يجتمعون مستديرين، والْحَلْقةُ السلاح كله، والجمع حَلَقٌ بفتحتين عَلَى غير قياس. وَقَالَ الأصمعيّ: والجمع حِلَقٌ بالكسر، مثلُ قَصْعَة وقِصعٍ، وبِدْرَة وبِدَرٍ، وحكى يونس، عن أبي عمرو بن العلاء أن الْحَلَقَة بالفتح لغة فِي السكون، وعلى هَذَا فالجمع بحذف الهاء قياسٌ، مثلُ قَصَبَة وقَصَب. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

ص: 178

حديث أنس رضي الله عنه هَذَا صحيح.

[تنبيه]: اختُلف فِي وصل هَذَا الْحَدِيث، وإرساله، فقد رواه جرير بن حازم، وهمام، كلاهما عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه، موصولاً، كما عند المصنّف فِي هذه الرواية، وخالفهما هشام الدستوائيّ، فرواه، عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن، مرسلاً، كما فِي الرواية التالية، قَالَ فِي "تحفة الأشراف" 1/ 301

(1)

: قَالَ النسائيّ: هَذَا حديث منكر -يعني حديث جرير، وهمام- والصواب: قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن، وما رواه عن همام، غير عمرو بن عاصم. انتهى. وَقَالَ الدارميّ -بعد أن أخرجه منْ طريق جرير بن حازم، عن قتادة-: هشام الدستوائيّ خالفه، فَقَالَ: قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وزعم النَّاس أنه هو المحفوظ. انتهى. وَقَالَ فِي "تهذيب التهذيب": جرير بن حازم بن زيد البصريّ، ثقة، لكن فِي حديثه عن قتادة ضعف، وله أوهام إذا حدّث منْ حفظه، قَالَ أحمد: حديث جرير عن قتادة، عن أنس، قَالَ:"كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فضّة" خطأ، والصواب عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن. انتهى. وَقَالَ أبو داود: أقوى هذه الأحاديث حديث سعيد بن أبي الحسن، والباقية ضعاف. وَقَالَ الدارقطنيّ: الصواب: عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن، مرسلاً.

لكن قَالَ ابن القيّم فِي "تهذيب السنن" والصواب أن حديث قتادة، عن أنس محفوظ منْ رواية الثقات الضابطين المتثبّتين: جرير بن حازم، وهمام، عن قتادة، عن أنس، والذي رواه عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن مرسلاً هو هشام الدستوائيّ، وهشام، وإن كَانَ مقدّماً فِي أصحاب قتادة، فليس همام، وجرير إذا اتّفقا بدونه. انتهى منْ هامش "عون المعبود" 7/ 180.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: يؤيّد ما قاله ابن القيم رحمه الله تعالى منْ تصحيح رواية جرير، وهمام ما أخرجه أبو داود، بإسناد صجيح، عن عثمان بن سعد، عن أنس رضي الله عنه، وعثمان بن سعد، وإن تكلّم فيه يحيى القطّان، وآخرون إلا أنه وثّقه آخرون، فَقَالَ أبو نعيم الحافظ: بصريّ ثقة، وَقَالَ الحاكم فِي "المستدرك": بصريّ ثقة، عزيز الْحَدِيث. وَقَالَ ابن عديّ: هو حسن الْحَدِيث، ومع ضعفه يكتب حديثه. وَقَالَ ابن خلفون: قَالَ ابن وضّاح: سمعت أبا جعفر السبتيّ يقول: عثمان بن سعد الكاتب بصريّ ثقة، يروي عن أنس. انظر ترجمته فِي "تهذيب التهذيب" 1/ 61. فمثله صالح

(1)

قلت: لم أر كلام المصنّف هَذَا فِي "المجتبى"، ولا فِي "الكبرى" فِي هَذَا الباب، ولعله لاختلاف النسخ، أو ذكره فِي محلّ آخر، والله تعالى أعلم.

ص: 179

للاستشهاد به.

والحاصل أن حديث أنس رضي الله عنه هَذَا صحيح موصولاً. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -120/ 5376 - وفي "الكبرى" 115/ 9813. وأخرجه (د) فِي "الجهاد" 2583 (ت) فِي "الجهاد" 1691 (الدارميّ) فِي "السير" 2349.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز تحلية السيف. (ومنها): جواز استعمال القليل منْ الفضّة للرجال، قَالَ فِي "شرح السنّة": فيه دليلٌ عَلَى جواز تحلية السيف بالقليل منْ الفضّة، وكذلك الْمِنْطقة، واختلفوا فِي اللجام، والسرج، فأباحه بعضهم، كالسيف، وحرّمه بعضهم؛ لأنه منْ زينة الدّابّة، وكذلك اختلفوا فِي تحلية سكّين الحرب، والمقلمة بقليل منْ الفضّة، فأما التحلية بالذهب، فغير مباح فِي جميعها. انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5377 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -وَهُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ- عَنْ هِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ، قَالَ: كَانَتْ قَبِيعَةُ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فِضَّةٍ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "هشام": هو الدستوائيّ.

و"سعيد بن أبي الحسن"/ يسار الأنصاريّ مولاهم، أخو الحسن البصريّ، ثقة [3].

رَوَى عن عليّ، وابن عبّاس، وعبد الرحمن بن سمرة، وأبي بكرة الثقفيّ، وأبي هريرة، وعسعس ين سلامة، وأبي يحيى المعرقب، وأمه خيرة. وعنه أخوه الحسن، وابنه يحيى بن سعيد، وقتادة، وسليمان التيمي، ومحمد بن واسع، وابن عون، وخالد الحذّاء، وأيوب، والأعمش، وعوف الأعرابيّ، وغيرهم. قَالَ أبو زرعة، والنسائي: ثقة. وذكره خليفة فِي الطبقة الثانية منْ قراء أهل البصرة. وَقَالَ العجليّ بصري تابعيّ ثقة. وَقَالَ ابن سعد: مات قبل الحسن، سنة مائة. وَقَالَ غيره: مات قبل الحسن بسنة. وَقَالَ ابن حبّان فِي "الثقات": مات بفارس سنة (108). أخرج له الجماعة، له فِي "صحيح البخاريّ"، حديث واحد فِي مسند ابن عبّاس فِي التصوير. وله عند المصنّف هَذَا الْحَدِيث فقط.

والحديث مرسلٌ صحيح، أخرجه المصنّف هنا -120/ 5377 - وفي "الكبرى"

(1)

نقله فِي "عون المعبود" 7/ 178.

ص: 180

115/ 9814. وأخرجه (د) فِي "الجهاد" 2584. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌121 - (النَّهْي عَنِ الْجُلُوسِ عَلَى الْمَيَاثِرِ مِنَ الأُرْجُوَانِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "المياثير": جمع ميثرة بكسر الميم، وسكون التحتانيّة، وفتح المثلّثة، بعدها راء، ثم هاء، ولا همز فيها، وأصلها منْ الوثارة، أو الوثرة بكسر الواو، وسكون المثلّثة، والوثيرة: هي الفراش، وامرأة وثيرة: كثيرة اللحم.

وَقَالَ فِي "الفتح" 11/ 490 - 491 فِي "باب الميثرة الحمراء": ما: نصّه: وأما المياثر فهي جمع ميثرة، تقدّم ضبطها فِي " باب لبس القَسّيّ"، وَقَدْ أخرج أحمد، والنسائي، وأصله عند أبي داود، بسند صحيح، عن عليّ رضي الله عنه، قَالَ:"نُهِيَ عن المياثر الأرجوان"، هكذا عندهم بلفظ "نُهِيَ" عَلَى البناء للمجهول، وهو محمول عَلَى الرفع، وَقَدْ أخرج أحمد، وأصحاب السنن، وصححه ابن حبّان، منْ طريق هُبَيرة بن يَرِيم -بتحتانية أوله، وزن عظيم- عن عليّ رضي الله عنه قَالَ:"نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن خاتم الذهب، وعن لبس القسي، والميثرة الحمراء".

قَالَ أبو عبيد: المياثر الحمر التي جاء النهي عنها، كانت منْ مراكب العجم، منْ ديباج وحرير. وَقَالَ الطبري: هي وعاء يُوضع عَلَى سرج الفرس، أو رَحْل البعير منْ الأرجوان. وحكى فِي "المشارق" قولاً أنها سروج منْ ديباج، وقولا: أنها أغشية للسروج، منْ حرير، وقولاً: أنها تشبه الْمِخَدّة تُحشَى بقطن، أو ريش يجعلها الراكب تحته، وهذا يوافق تفسير الطبري، والأقوال الثلاثة يحتمل أن لا تكون متخالفة، بل الميثرة تطلق عَلَى كل منها، وتفسير أبي عبيد يحتمل الثاني، والثالث، وعلى كل تقدير فالميثرة، وإن كانت منْ حرير، فالنهي فيها كالنهي عن الجلوس عَلَى الحرير، وَقَدْ تقدّم القول فيه، ولكن تقييدها بالأحمر، أخص منْ مطلق الحرير، فيمتنع إن كانت حريرا، ويتأكد المنع إن كانت مع ذلك حمراء، وإن كانت منْ غير حرير، فالنهي فيها للزجر عن

ص: 181

التشبه بالأعاجم. قَالَ ابن بطال: كلام الطبري يقتضي التسوية فِي المنع، منْ الركوب عليه، سواء كانت منْ حرير، أم منْ غيره، فكان النهي عنها إذا لم يكن منْ حرير للتشبه، أو للسرف، أو التزين، وبحسب ذلك تفصيل الكراهة بين التحريم والتنزيه، وأما تقييدها بالحمرة، فمن يَحمِل المطلق عَلَى المقيد، وهم الأكثر، يخص المنع بما كَانَ أحمر. انتهى المقصود منْ "الفتح" 11/ 490 - 491. والله تعالى أعلم بالصواب.

5378 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَاصِمَ بْنَ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قُلِ: اللَّهُمَّ سَدِّدْنِي وَاهْدِنِي، وَنَهَانِي عَنِ الْجُلُوسِ عَلَى الْمَيَاثِرِ، وَالْمَيَاثِرُ قَسِّيٌّ، كَانَتْ تَصْنَعُهُ النِّسَاءُ لِبُعُولَتِهِنَّ عَلَى الرَّحْلِ، كَالْقَطَائِفِ مِنَ الأُرْجُوَانِ).

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن العلاء) أبو كريب الهمدانيّ الكوفيّ، ثقة حافظ [10] 95/ 117.

2 -

(ابن إدريس) هو عبد الله الأوديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقة فقيه عابد [8] 85/ 102.

3 -

(عاصم بن كليب) بن شهاب الجرميّ الكوفيّ، صدوقٌ رُمي بالإرجاء [5] 11/ 889.

4 -

(أبو بردة) بن أبي موسى الأشعريّ، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، وقيل: اسمه كنيته، ثقة [3] 3/ 3.

5 -

(عليّ) بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه 74/ 91. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين. (ومنها): أن شيخه هو أحد المشايخ الذين يروي عنهم الجماعة دون واسطة. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. (ومنها): أن صحابيّه أحد الخلفاء الراشدين الأربعة، والعشرة المبشّرين بالجنّة، وابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته رضي الله تعالى عنهم أجمعين. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَلِيٍّ) بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قُلِ: اللَّهُمَّ سَدِّدْنِي) وفي الرواية السابقة فِي 52/ 5212 منْ طريق سفيان، عن عاصم بن كُليب: "يا عليّ سل الله الهدى، والسداد"، و"الهدى بالضمّ، والقصر: الهداية، والسداد بفتح

ص: 182

السين المهملة: وهو الصواب منْ القول، والفعل، وأما السّداد بالكسر، فهو ما تُسدّ به القارورة، وغيرها، وسِداد الثغر بالكسر منْ ذلك، واختلفوا فِي سداد منْ عَوَز لما يُرْمَق به العيش، وتُسَدّ به الْخَلَّة، فَقَالَ ابن السّكّيت، والفارابيّ، وتبعه الجوهريّ بالفتح والكسر، واقتصر الأكثرون عَلَى الكسر، منهم ابن قُتيبة، وثعلب، والأزهريّ؛ لأنه مستعار منْ سِداد القارورة، فلا يُغيّر. وزاد جماعة، فقالوا: الفتح لحنٌ. وعن النضر بن شُميل: سِداد منْ عَوَز: إذا لم يكن تامّا، ولا يجوز فتحه. ونقل فِي "البارع" عن الأصمعيّ: سِداد منْ عَوَزٍ بالكسر، ولا يقال بالفتح، ومعناه: إن أعوز الأمر كلُّهُ، ففي هَذَا ما يَسُدُّ بعض الأمر. انتهى "المصباح".

وَقَدْ نظم شيخنا عبد الباسط بن محمد المناسيّ رحمه الله تعالى الفرق المذكور بقوله:

إِنَّ السِّدَادَ كَكِتابٍ بُلْغَةُ

وَمَا بِهِ يُسَدُّ شَيْءٌ ثَابِتُ

أَمَّا الَّذِي بِالْفَتْحِ كَالسَّحَابِ

فَقَصْدُ دِينٍ وَسَبِيلِ الْبَابِ

واختصره رحمه الله تعالى فِي بيت واحد، فَقَالَ:

سِدَادُك الْمَكْسُورُ سِينًا بُلْغَتُكْ

وَمَا بِمَعْنَى الْقَصْدِ فِيهَا فَتْحَتُكْ

(وَاهْدِنِي، وَنَهَانِي عَنِ الْجُلُوسِ عَلَى الْمَيَاثِرِ، وَالْمَيَاثِرُ قَسِّيٌّ) بفتح القاف، وتشديد السين المهملة، بعدها ياء نسبة، وذكر أبو عبيد فِي "غريب الْحَدِيث" أن أهل الْحَدِيث يقولونه بكسر القاف، وأهل مصر يفتحونها، وهي نسبة إلى بلد يقال لها: القَسّ، وحُكي عن شَمِر اللغويّ أنها بالزاي، لا بالسين: نسبة إلى القزّ، وهو الحرير، فأبدلت الزاي سينًا (كَانَتْ تَصْنَعُهُ النِّسَاءُ لِبُعُولَتِهِنَّ) بالضمّ جمع بعل، وهو الزوج، يقال: بَعَلَ يبعُلُ، منْ باب قتل بُعُولةً: إذا تزوّج، والمرأة بَعْلٌ أيضاً، وَقَدْ يقال فيها: بعلة بالهاء، كما يقال: زوجة؛ تحقيقاً للتأنيث. قاله الفيّوميّ (عَلَى الرَّحْلِ) أي للوضع عَلَى الرحل، بفتح، فسكون: هو مَرْكَبٌ للبعير، كالراحُول، جمعه أَرْحُلٌ، ورِحالٌ، ومسكنك، وما تستصحبه منْ الأَثَاث. قاله فِي "القاموس"، والأول هو المراد هنا (كَالْقَطَائِفِ) بالفتح: جمع قطيفة: هي كساء له خَمْلٌ (مِنَ الأُرْجُوَانِ) -بضم الهمزة والجيم، بينهما راء ساكنة، ثم واو خفيفة- وحكى عياض، ثم القرطبيّ، فتح الهمزة، وأنكره النوويّ، وصوب أن الضم هو المعروف فِي كتب الْحَدِيث، واللغة، والغريب.

واختلفوا فِي المراد به، فقيل: هو صبغ أحمر شديد الحمرة، وهو نَوْر شجر منْ أحسن الألوان. وقيل: الصوف الأحمر. وقيل: كل شيء أحمر، فهو أرجوان، ويقال ثوب أرجوان، وقطيفة أرجوان، وحكى السيرافي أحمر أرجوان، فكأنه وصف للمبالغة

ص: 183

فِي الحمرة، كما يقال، أبيض يقق، وأصفر فاقع. واختلفوا هل الكلمة عربية، أو مُعَرَّبة.

فإن قلنا باختصاص النهي بالأحمر منْ المياثر، فالمعنى فِي النهي عنها ما فِي غيرها كما تقدّم، وإن قلنا: لا يختص بالأحمر، فالمعنى بالنهي عنها ما فيه منْ الترفُّه، وَقَدْ يعتادها الشخص، فتُعوزه، فيشق عليه تركها، فيكون النهي نهي إرشاد؛ لمصلحة دنيوية، وإن قلنا: النهي عنها منْ أجل التشبه بالأعاجم، فهو لمصلحة دينية، لكن كَانَ ذلك شعارهم حينئذ، وهم كفار، ثم لما لم يصر الآن يختص بشعارهم، زال ذلك المعنى، فتزول الكراهة، والله أعلم. انتهى ما فِي "الفتح".

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا التفصيل الذي ذكره فِي "الفتح" فيه نظر لا يخفى، بل الظاهر أن النهي عَلَى إطلاقه، كما هو ظاهر النصّ. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: تفسير القسيّ المذكور لعليّ رضي الله عنه، كما بيّنه مسلم فِي "صحيحه"، وعلّقه البخاريّ، فَقَالَ: وَقَالَ عاصم، عن أبي بردة، قَالَ: قلت لعليّ: ما القسّيّة؟ قَالَ: ثياب أتتنا منْ الشام، أو منْ مصر، مضلَّعَة، فيها حرير، وفيها أمثال الأُتْرُنْج، والميثرة: كانت النِّساء تصنعه لبُعولتهنّ، مثل القطائف، يَصُفّونها. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

والحديث أخرجه مسلم، وَقَدْ تقدّم تخريجه فِي 52/ 5211. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌122 - (الْجُلُوسِ عَلَى الْكَرَاسِيِّ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هو -بفتح الكاف، وتشديد الياء، وتُخفّف-: جمع كرسيّ بضم الكاف، وتكسر قليلاً. والله تعالى أعلم بالصواب.

5379 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو رِفَاعَةَ: انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَخْطُبُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَجُلٌ غَرِيبٌ، جَاءَ يَسْأَلُ عَنْ دِينِهِ، لَا يَدْرِي مَا دِينُهُ؟ فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَرَكَ خُطْبَتَهُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَيَّ، فَأُتِيَ بِكُرْسِيٍّ، خِلْتُ قَوَائِمَهُ حَدِيدًا، فَقَعَدَ عَلَيْهِ

ص: 184

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ يُعَلِّمُنِي مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ أَتَى خُطْبَتَهُ، فَأَتَمَّهَا).

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(يعقوب بن إبراهيم) الدّضوْرَقيّ، أبو يوسف البغداديّ، ثقة حافظ [10] 21/ 22.

2 -

(عبد الرحمن) بن مهديّ أبو سعيد البصريّ، ثقة ثبت حجة [9] 42/ 49.

3 -

(سليمان بن المغيرة) القيسيّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقة [7] 53/ 616.

4 -

(حميد بن هلال) العدويّ، أبو نصر البصريّ، ثقة فقيه [3] 4/ 4.

5 -

(أبو رفاعة) العدوي، قيل: اسمه تميم بن أسد. وقيل: ابن اسيد. وقيل: اسمه عبد الله بن الحارث بن عبد الحارث بن أسد بن عدي بن جندل -وفي نسخة جرول- ابن عامر بن مالك بن تميم بن الدؤل بن حسل بن عدي بن عبد مناة بن أُدّبن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان. رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وعنه حميد بن هلال، وصِلَة بن أشْيم العدويان البصريان. قَالَ ابن عبد البرّ: كَانَ منْ فضلاء الصحابة يعدّ فِي أهل البصرة، قُتل بكابُل سنة أربع وأربعين، قَالَ الدارقطنيّ: تميم بن أسِيد بالفتح، وَقَالَ غيره بالضمّ، فالله أعلم. وَقَالَ خليفة بن خياط: سنة أربع وأربعين فتح ابنُ عامر كابلَ، وقُتل بها أبو قتادة العدوي، ويقال: إن الذي قُتل أبو رفاعة العدوي. رَوَى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، ومسلم، والمصنّف، له عندهم هَذَا الْحَدِيث فقط. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات البصريين، غير شيخه، فبغداديّ. (ومنها): أن صحابيه منْ المقلّين منْ الرواية، فليس له غير هَذَا الْحَدِيث. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ) العدوي البصريّ، أنه (قَالَ: قَالَ أَبُو رِفَاعَةَ) العدويّ الصحابيّ رضي الله عنه (انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي وصلت إلى مجلسه صلى الله عليه وسلم (وَهُوَ يَخْطُبُ) جملة حاليّة، قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: يحتمل أن تكون تلك الخطبة للجمعة، أو لغيرها، إذ قد كَانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم يجمع النَّاس لغير الجمعة عند نزول النوازل، فيخطبهم، ويعظهم. انتهى "المفهم" 2/ 514.

ص: 185

(فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَجُلٌ غَرِيبٌ) فعيل بمعنى فاعل، قَالَ فِي "المصباح": غرُب الشخص بالضم، منْ باب شَرُف غَرابة: بَعُد عن وطنه، فهو غريبٌ، فعيل بمعن فاعل، وجمعه غُرباء (جَاءَ يَسْأَلُ عَنْ دِينِهِ) أي أمور دينه، وتفاصيلها (لَا يَدْرِي مَا دِينُهُ؟) قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: استلطافٌ فِي السؤال، واستخراجٌ حسَنٌ للتعليم؛ لأنه لَمّا أخبره بذلك تعيّن عليه أن يُعلّمه، وأيضًا، فإن هَذَا الرجل الغريب الذي جاء سائلاً عن دينه هو منْ النوع الذي قَالَ فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن أُناسًا يأتونكم منْ أقطار الأرض يطلبون الِعلم، فاستوصوا بهم خيرًا"

(1)

. فإنه صلى الله عليه وسلم كَانَ لا يأمر بشيء إلا كَانَ أوّل آخذ به، وإذا نهى عن شيء كَانَ أوّل تارك له. انتهى.

(فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَرَكَ خُطْبَتَهُ) إنما فعل ذلك لتعيّنه عليه فِي الحال، ولخوف الفوت، ولأنه لا يناقض ما كَانَ فيه منْ الخطبة، ومشيه صلى الله عليه وسلم، وقربه منه فِي تلك الحال مبادرة لاغتنام الفرصة، وإظهار التّهَمُّم بشأن السائل. قاله فِي "المفهم" 2/ 515.

(حَتَّى انْتَهَى إِلَيَّ) أي وصل إلى المكان الذي جلست فيه (فَأُتِيَ) بالبناء للمفعول (بِكُرْسِيٍّ) بضم الكاف، أشهر منْ كسرها، والجمع الكراسيّ مثقّل أيضًا، وَقَدْ يُخفّف، قَالَ ابن السّكيت فِي "باب ما يُشدّد": وكلُّ ما كَانَ واحده مشدّدًا، شَدَّدتَ جمعه، وإن شئتَ خفّفت. أفاده الفيّوميّ (خِلْتُ قَوَائِمَهُ حَدِيدًا) أي ظننتُ أن قوائم ذلك الكرسيّ كانت حديداً، و"خِلْتُ" -بكسر الخاء المعجمة-، منْ أخوات "ظَنّ"، يقال: خال الرجل الشيءَ يَخالُهُ خَيلاً، منْ باب نال: ظنّه، وخاله يَخِيله منْ باب باع لغةً، وفي المضارع للمتكلم يقال: إِخاله بكسر الهمزة عَلَى غير قياس، وهو أكثر استعمالاً، وبنو أسد يفتحون عَلَى القياس. قاله الفيّوميّ.

[تنبيه]: قوله: "خِلتُ" هكذا رواية المصنّف رحمه الله تعالى، وهي واضحة، ووقع فِي رواية مسلم رحمه الله تعالى بلفظ "حسبت"، قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى فِي "شرحه": هكذا هو فِي جميع النسخ "حسبت"، ورواه ابن أبي خيثمة فِي غير "صحيح مسلم":"خلت" بكسر الخاء، وسكون اللام، وهو بمعنى "حسبت"، قَالَ القاضي: ووقع فِي نسخة ابن الحذّاء "خشب" بالخاء، والشين المعجمتين. وفي كتاب ابن قُتيبة "خلب" بضم الخاء، وآخره باء موحّدة، وفسّروه بالليف، وكلاهما تصحيف، والصواب "حسبت" بمعنى ظننت، كما هو فِي نسخ مسلم، وغيره منْ الكتب المعتمدة. انتهى "شرح مسلم" 6/ 165.

(1)

رواه الترمذيّ (2650) وابن ماجه (247) منْ حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه وهو ضعيف؛ لأن فِي إسناده أبا هارون العبدريّ، ضعيف باتّفاق.

ص: 186

وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "حسبت قوائمه حديدًا": هكذا صحيح الرواية، وذكره ابن قُتيبة، وَقَالَ:"بكرسيّ خُلْب" قَالَ: والخلب: الليف، وهو تصحيف منه، وإنما هو "خِلْتُ" كما رواه ابن أبي شيبة، وهو بمعنى "حسبت" الذي رواه مسلم. ووقع فِي نسخة ابن الحذّاء:"بكرسيّ خشب"، وهو أيضًا تصحيف، وصوابه ما قدّمناه، وَقَدْ فسّره حميد فِي كتاب ابن أبي شيبة، فَقَالَ: أراه كَانَ منْ عُود أسود، فحسبه منْ حديد. قلت: وأظنّ أن هَذَا الكرسيّ هو المنبر، ويعني به أنه نُقل عن موضعه المعتاد إلى موضع السائل؛ ليجلس عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى "المفهم" 2/ 515.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: كون الكرسي هَذَا هو المنبر النبويّ غير ظاهر، فليُتأمل. والله تعالى أعلم.

(فَقَعَدَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) إنما قعد صلى الله عليه وسلم عَلَى الكرسيّ ليسمع الباقون كلامه، ويروا شَخْصَه الكريم صلى الله عليه وسلم (فَجَعَلَ يُعَلِّمُنِي مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ) أي منْ الأحكام الشرعيّة التي يجهلها (ثُمَّ أَتَى خُطْبَتَهُ) أي محلّ خطبته، وهو المنبر المعروف (فَأَتَمَّهَا) أي أتمّ الخطبة التي بدأ بها، وفي رواية مسلم:"فأتمّ آخرها"، قَالَ القرطبيّ: أي لَمّا فرغ منْ تعليم الرجل رجع إلى أسلوب خطبته المتقدّم، لا يقال: إن هَذَا الفعل منه صلى الله عليه وسلم قطعٌ للخطبة لِمَا قرّرناه منْ أن تعليم العلم، والأمر، والنهي فِي الخطبة لا يكون قاطعاً للخطبة، والجمهور عَلَى أن الكلام فِي الخطبة لأمر يحدُث لا يفسدها. وحكى الخطّابيّ عن بعض العلماء أن الخطيب إذا تكلّم فِي الخطبة أعادها. انتهى "المفهم" 2/ 515.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا القول الذي عزاه الخطّابيّ لبعض العلماء منْ إعادة الخطبة بسبب الكلام قول ضعيفٌ، منابذ للسنّة الصحيحة، كحديث الباب، وحديث قصّة سُليك الغطفانيّ رضي الله عنه حيث قَالَ له صلى الله عليه وسلم عن ركعتي تحية المسجد، وأمره بهما، إلى غير ذلك.

وكذا قول النوويّ فِي "شرحه" 6/ 164: يحتمل أن تكون هذه الخطبة التي كَانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فيها خطبة أمر غير الجمعة، ولهذا قطعها بهذا الفصل الطويل. ويحتمل أنها كانت الجمعة، واستأنفها. ويحتمل أنه لم يحصل فصل طويل. ويحتمل أن كلامه لهذا الغريب كَانَ متعلّقاً بالخطبة، فيكون منها، ولا يضرّ المشي فِي أثنائها. انتهى.

فكلّ هذه الاحتمالات مما لا ينبني عَلَى دليل، فأين النصّ، أو الإجماع الذي يمنع الخطيب للجمعة منْ الكلام للحاجة، مثل التعليم، أو غيره، ومن أين اشتراط عدم الفصل أثناء الخطبة بكلام ونحوه، ومن الغريب قوله:"واستأنفها" مع أن نصّ "صحيح مسلم": "فأتمّ آخرها"، إن هَذَا لشيء عُجاب؟، وَقَدْ تقدّم تحقيق هَذَا كلّه فِي "كتاب

ص: 187

الجمعة"، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي رفاعة رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -122/ 5379 - وفي "الكبرى" 118/ 9826. وأخرجه (م) فِي "الجمعة" 876 (أحمد) فِي "مسند البصريين" 20229.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز الجلوس عَلَى الكراسي. (ومنها): استحباب تلطّف السائل فِي عبارته، وسؤاله العالم. (ومنها): أن فيه تواضعَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورفقه بالمسلمين، وشفقته عليهم، وخفض جناحه لهم، كما وصفه الله سبحانه وتعالى حيث قَالَ:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]. (ومنها): المبادرة إلى جواب المستفتي، وتقديم أهمّ الأمور، فأهمّها، ولعله كَانَ سائلاً عن الإيمان، وقواعده المهمّة، وَقَدْ اتفق العلماء عَلَى أن منْ جاء يسأل عن الإيمان، وكيفيّة الدخول فِي الإسلام وجب إجابته، وتعلميه عَلَى الفور. قاله النوويّ رحمه الله تعالى فِي "شرحه عَلَى صحيح مسلم" 6/ 165. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌123 - (اتِّخَاذِ الْقِبَابِ الْحُمْرِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "القِبَاب" -بكسر القاف: جمع قُبّة بضمها، و"الحمر" بضم، فسكون: جمع حمراء، كما قَالَ فِي "الخلاصة":

فُعْلٌ لِنَحْوِ أَحْمَرٍ وَحَمْرَا

وَفِعْلةٌ جَمْعاً بِنَقْلٍ يُدْرَى

والله تعالى أعلم بالصواب.

ص: 188

5380 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلاَّمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الأَزْرَقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْبَطْحَاءِ، وَهُوَ فِي قُبَّةٍ حَمْرَاءَ، وَعِنْدَهُ أُنَاسٌ، يَسِيرُ، فَجَاءَهُ بِلَالٌ، فَأَذَّنَ، فَجَعَلَ يُتْبِعُ فَاهُ، هَاهُنَا وَهَاهُنَا)

(1)

.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلاَّمٍ" - بتشديد اللام: هو أبو القاسم البغداديّ، ثم الطرسوسيّ، وَقَدْ يُنسب لجدّه، لا بأس به [11] منْ أفراد المصنّف، وأبي داود. و"إِسْحَاقُ الأَزْرَقُ": هو ابن يوسف بن مِرداس المخزوميّ الواسطيّ، ثقة [9]. و"سُفْيَانُ": هو الثوريّ.

و"عون بن أبي جُحيفة": هو السُّوائيّ الكوفيّ، ثقة [4]. و"أبو جحيفة": هو وهب ابن عبد الله السُّوائيّ، ويقال: اسم أبيه وهب أيضًا، الصحابيّ المشهور، ويقال له: وهب الخير، وصحب عليّا رضي الله عنه، ومات سنة (74). والله تعالى أعلم.

وقوله: "بالبطحاء": هو تأنيث الأبطح، وهو كلّ مكان مُتَّسِعٍ، والمراد به هنا بطحاء مكة، وهو المحصّب.

وقوله: "فِي قبّة حمراء": هَذَا هو محلّ الترجمة، حيث دلّ عَلَى جواز استعمال القباب الحمر.

وقوله: "وعنده أناسٌ يسير": قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى فِي "شرحه" 8/ 220: قوله: "يسير": أي يريد السير إلى المدينة، لا أنه كَانَ سائرًا فِي تلك الحالة. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا عَلَى جعل "يسير" فعلاً مضارعًا منْ السير، والذي يظهر لي أن "يسير" ليس فعلا مضارعًا، وإنما هو "فَعِيل" منْ اليُسر كقليل وزنًا ومعنًى، يقال: يَسُر الشيءُ، مثلُ قرُب: قلّ، فهو يسير. قاله فِي "المصباح"، وهو صفة لـ"أناس"، وفعيل بمعنى فاعل يستوى فيه المفرد، والمثنّى، والمجموع كالمصدر، مثل قوله تعالى:{وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]، وكقول الشاعر:

خَبِيرٌ بَنُو لِهْبٍ فَلَا تَكُ مُلْغِيًا

مَقَالَةَ لِهْبِيٍّ إِذَا الطَّيْرُ مَرَّتِ

فـ"خبير" خبر مقدّم لقوله: "بنو لهب"

(2)

.

وكقوله:

(1)

يوجد فِي النسخة الهنديّة هنا: ما نصّه: تمّ "كتاب الزينة" منْ "كتاب المجتبى".

(2)

هَذَا مذهب البصريين، وأما الكوفيون فيُعربون "خبير" مبدءًا، و"بنو لهب" فاعلاً سدّ مسد الخبر. راجع "شرح ابن عقيل" عَلَى "خلاصة" ابن مالك، مع حاشية الخضريّ فِي "باب الابتداء" 1/ 126.

ص: 189

هُنَّ صَدِيقٌ لِلَّذِي لَمْ يَشِبِ

والمعنى هنا أنه كَانَ عند النبيّ صلى الله عليه وسلم ناس قليل، لكن إن ثبتت الرواية عَلَى الوجه الذي ذكره السنديّ، لزم اتّباعه، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

وقوله: "يتبع فاه الخ": بضم أوله منْ الإتباع: أي يجعل فاه تابعًا للجهتين فِي الحيعلتين. وفي نسخة: "يَتَتَبَّع".

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي "كتاب الأذان" 13/ 643 وَقَدْ استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه، تزدد علمًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌48 - (كِتَابُ آدَابِ الْقُضَاةِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وقع فِي نسخة: "كتاب أدب القضاة" بإفراد "أدب". قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: هكذا فِي كثير منْ النسخ، ثم "كتاب الاستعاذة"، ثم "كتاب الأشربة"، وفي بعضها هاهنا:"كتاب الأشربة"، ثم "كتاب آداب القضاة"، ثم كتاب الاستعاذة". انتهى "شرح السنديّ" 8/ 221.

وتقدّم معنى الكتاب فِي "كتاب الصلاة"، وأما "الآداب": فجمع "أدب" بفتحتين، قَالَ الفيّوميّ رحمه الله تعالى: أَدَبْتُهُ أَدْبًا، منْ باب ضرب: علّمته رياضة النفس، ومحاسن الأخلاق. قَالَ أبو زيد الأنصاريّ: الأدب يقع عَلَى كلّ رياضة محمودة، يتخرّج بها الإنسان فِي فضيلة منْ الفضائل. وَقَالَ الأزهريّ نحوه، فالأدب اسمٌ لذلك، والجمع آداب، مثلُ سبب وأسباب، وأدّبته تأديبًا مبالغةٌ وتكثيرٌ، ومنه قيل: أدّبته تأديبًا: إذا عاقبته عَلَى إسائته؛ لأنه سبب يدعو إلى حقيقة الأدب. انتهى.

وَقَالَ فِي "الفتح": الأدب: استعمال ما يُحمد قولاً وفعلاً. وعبّر بعضهم عنه بأنه الأخذ بمكارم الأخلاق. وقيل: الوقوف مع المستحسنات. وقيل: هو تعظيم منْ فوقك، والرفق بمن دونك. وقيل: إنه مأخوذ منْ المأدبة، وهي الدعوة إلى الطعام، سُمّي بذلك؛ لأنه يُدعى إليه. قاله فِي "الفتح" 12/ 3. "كتاب الأدب".

و"القُضاة" بالضمّ: جمع قاض، منْ قضى بين الخصمين، وعليهما: إذا حكم.

ص: 190

مسائل تتعلّق بالقضاء:

(المسألة الأولى): قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: الأصل فِي القضاء، ومشروعيته الكتاب، والسنة، والإجماع، أما الكتاب فقول الله تعالى:{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة ص: 26]، وقول الله تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} الآية [المائدة: 49]، وقوله:{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} الآية [النور: 48]، وقوله تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النِّساء: 65]. وأما السنة، فما رَوَى عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:"إذا اجتهد الحاكم، فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر"، متَّفقٌ عليه، فِي آي، وأخبارٍ سوى ذلك كثيرة، وأجمع المسلمون عَلَى مشروعية نصب القضاء، والحكم بين النَّاس. انتهى "المغني" 14/ 5. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى أيضًا: إن القضاء منْ فروض الكفايات؛ لأن أمر النَّاس لا يستقيم بدونه، فكان واجبا عليهم كالجهاد، والإمامة، قَالَ أحمد: رحمه الله تعالى: لابد للناس منْ حاكم، أتذهب حقوق النَّاس، وفيه فضل عظيم لمن قوي عَلَى القيام به، وأداء الحق فيه، ولذلك جعل الله فيه أجرا مع الخطإ، وأسقط عنه حكم الخطإ، ولأن فيه أمرا بالمعروف، ونصرة المظلوم، وأداء الحق إلى مستحقه، وردّا للظالم عن ظلمه، وإصلاحا بين النَّاس، وتخليصا لبعضهم منْ بعض، وذلك منْ أبواب القُرَب، ولذلك تولاه النبيّ صلى الله عليه وسلم، والأنبياء قبله، فكانوا يحكمون لأممهم، وبعث عليا إلى اليمن قاضيا، وبعث أيضًا معاذا قاضيا، وَقَدْ رُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قَالَ:"لأن أجلس قاضيا بين اثنين، أحب إلى منْ عبادة سبعين سنة"، وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قَالَ: جاء خصمان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"اقض بينهما"، قلت: أنت أولى بذلك، قَالَ: وإن كَانَ، قلت علام أقضي؟ قَالَ:"اقض فإن أصبت ذلك عشرة أجور، وإن أخطأت ذلك أجر واحد"، رواه سعيد فِي "سننه".

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لكن فِي سنده -كما قَالَ فِي "الفتح"-. ضعف، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

قَالَ: وفيه خطر عظيم، ووزر كبير، لمن لم يؤد الحق فيه، ولذلك كَانَ السلف رحمة الله عليهم يمتنعون منه أشد الامتناع، ويخشون عَلَى أنفسهم خطره، قَالَ خاقان ابن عبد الله: أُريدَ أبو قلابة عَلَى قضاء البصرة، فهرب إلى اليمامة، فأريد عَلَى قضائها،

ص: 191

فهرب إلى الشام، فأريد عَلَى قضائها، وقيل: ليس هاهنا غيرك، قَالَ: فأنزلوا الأمر عَلَى ما قلتم، فإنما مثلي مثل سابح وقع فِي البحر، فسبح يومه، فانطلق، ثم سبح اليوم الثاني فمضى أيضًا، فلما كَانَ اليوم الثالث فترت يداه. وكان يقال: أعلم النَّاس بالقضاء أشدهم له كراهة، ولعظم خطره قَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"منْ جُعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين"، قَالَ الترمذيّ: هَذَا حديث حسن. وقيل فِي هَذَا الْحَدِيث: إنه لم يخرج مخرج الذم للقضاء، وإنما وصفه بالمشقة، فكأن منْ وليه قد حمل عَلَى مشقة كمشقة الذبح. انتهى "المغني" 14/ 5 - 7. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): النَّاس فِي القضاء عَلَى ثلاثة أضرب: [الأول]: منْ لا يجوز له الدخول فيه، وهو منْ لا يحسنه، ولم تجتمع فيه شروطه، فقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: "القضاة ثلاثة

" ذكر منهم رجلاً قضى بين النَّاس بجهل، فهو فِي النار، ولأن منْ لا يحسنه لا يقدر عَلَى العدل فيه، فيأخذُ الحق منْ مستحقه، فيدفعه إلى غيره.

[الثاني]: منْ يجوز له، ولا يجب عليه، وهو منْ كَانَ منْ أهل العدالة والاجتهاد، ويوجد غيره مثله، فله أن يلي القضاء بحكم حاله، وصلاحيته ولا يجب عليه؛ لأنه لم يتعين له، وظاهر كلام أحمد أنه لا يستحب له الدخول فيه؛ لما فيه منْ الخطر والغرر، وفي تركه منْ السلامة، ولما ورد فيه منْ التشديد والذم، ولأن طريقة السلف الامتناع منه والتوقي، وَقَدْ أراد عثمان رضي الله عنه تولية ابن عمر القضاء فأباه، وَقَالَ أبو عبد الله بن حامد، إن كَانَ رجلاً خاملا لا يُرجع إليه فِي الأحكام، ولا يُعرَف، فالأولى له توليه؛ لِيُرجَع إليه فِي الأحكام، ويقوم به الحق، وينتفع به المسلمون، وإن كَانَ مشهورا فِي النَّاس بالعلم، يرجع إليه فِي تعليم العلم والفتوى، فالأولى الاشتغال بذلك؛ لما فيه منْ النفع مع الأمن منْ الغرر، ونحو هَذَا قَالَ أصحاب الشافعيّ، وقالوا أيضًا: إذا كَانَ ذا حاجة، وله فِي القضاء رزق، فالأولى له الاشتغال به، فيكون أولى منْ سائر المكاسب؛ لأنه قربة وطاعة، وعلى كل حال فإنه يكره للإنسان طلبه، والسعي فِي تحصيله؛ لأن أنسا رضي الله عنه رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:"منْ ابتغى القضاء، وسأل فيه شفعاء، وُكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده"، قَالَ الترمذيّ: هَذَا حديث حسن غريب، وَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة:"يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة، وُكلت إليها، وإن أعطيتها منْ غير مسألة أعنت عليها". متَّفقٌ عليه.

[الثالث]: منْ يجب عليه، وهو منْ يصلح للقضاء، ولا يوجد سواه، فهذا يتعين عليه؛ لأنه فرض كفاية، لا يقدر عَلَى القيام به غيره، فيتعين عليه، كغسل الميت

ص: 192

وتكفينه، وَقَدْ نُقل عن أحمد رحمه الله تعالى ما يدلّ عَلَى أنه لا يتعين عليه، فإنه سئل هل يأثم القاضي إذا لم يوجد غيره؟ قَالَ: لا يأثم، فهذا يحتمل أنه يحمل عَلَى ظاهره فِي أنه لا يجب عليه؛ لما فيه منْ الخطر بنفسه، فلا يلزمه الإضرار بنفسه لنفع غيره، ولذلك امتنع أبو قلابة منه، وَقَدْ قيل له: ليس غيرك، ويحتمل أن يُحمَل عَلَى منْ لم يمكنه القيام بالواجب لظلم السلطان أو غيره، فإن أحمد قَالَ: لابد للناس منْ حاكم، أتذهب حقوق النَّاس؟. ذكره فِي "المغني" 14/ 7 - 9. وهو بحث نفيس جدًّا والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: يجوز للقاضي أخذ الرزق عَلَى القضاء، ورخص فيه شُريح، وابن سيرين، والشافعي، وأكثر أهل العلم، ورُوي عن عمر رضي الله عنه أنه استعمل زيد بن ثابت عَلَى القضاء، وفرض له رزقا، ورَزَق شريحا فِي كل شهر مائة درهم، وبعث إلى الكوفة عمارا، وعثمان بن حنيف، وابن مسعود، ورزقهم كل يوم شاة، نصفها لعمار، ونصفها لابن مسعود وعثمان، وكان ابن مسعود قاضيهم، ومعلمهم، وكتب إلى معاذ بن جبل، وأبي عبيدة حين بعثهما إلى الشام، أن انظرا رجالا منْ صالحي مَن قِبَلكم، فاستعملوهم عَلَى القضاء، وأوسعوا عليهم، وارزقوهم واكفوهم منْ مال الله.

وَقَالَ أبو الخطاب: يجوز له أخذ الرزق مع الحاجة، فأما مع عدمها فعلى وجهين، وَقَالَ أحمد: ما يعجبني أن يأخذ عَلَى القضاء أجرًا، وإن كَانَ فبقدر شغله، مثل ولي اليتيم، وكان ابن مسعود والحسن يكرهان الأجر عَلَى القضاء، وكان مسروق، وعبد الرحمن بن القاسم بن عبد الرحمن لا يأخذان عليه أجرًا، وقالا: لا نأخذ أجرا عَلَى أن نعدل بين اثنين.

وَقَالَ أصحاب الشافعيّ: إن لم يكن متعينا جاز له أخذ الرزق عليه، وإن تعين لم يجز إلا مع الحاجة، قَالَ ابن قُدامة: والصحيح جواز أخذ الرزق عليه بكل حال، لأن أبا بكر رضي الله عنه لَمّا ولي الخلافة، فرضوا له الرزق كل يوم درهمين، ولما ذكرناه منْ أن عمر رزق زيدا وشريحا وابن مسعود، وأمر بفرض الرزق لمن تولى منْ القضاة، ولأن بالناس حاجة إليه، ولو لم يجز فرض الرزق لتعطل، وضاعت الحقوق، فأما الإستئجار عليه فلا يجوز، قَالَ عمر رضي الله عنه: لا ينبغي لقاضي المسلمين أن يأخذ عَلَى القضاء أجرًا، وهذا مذهب الشافعيّ، ولا نعلم فيه خلافًا، وذلك لأنه قربة يختص فاعله أن يكون منْ أهل القرية، فأشبه الصلاة، ولأنه لا يعمله الإنسان عن غيره، وإنما يقع عن نفسه، فأشبه الصلاة، ولأنه عمل غير معلوم، فإن لم يكن للقاضي رزق، فَقَالَ

ص: 193

للخصمين: لا أقضي بينكما حَتَّى تجعلا لي رزقا عليه جاز، ويحتمل أن لا يجوز. انتهى "المغني" 14/ 9 - 10. وهو بحث نفيس جدًّا والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): قَالَ الموفق رحمه الله تعالى أيضًا: إذا كَانَ الإِمام فِي بلد فعليه أن يبعث القضاة إلى الأمصار غير بلده، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث عليا قاضيا إلى اليمن، وبعث معاذ بن جبل إلى اليمن أيضًا، وَقَالَ له:"بم تحكم؟ " قَالَ: بكتاب الله تعالى، قَالَ:"فإن لم تجد؟ " قَالَ: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"فإن لم تجد؟ " قَالَ: أجتهد رأيي، قَالَ:"الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم".

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الْحَدِيث فِي سنده مجهول، عَلَى أن بعضهم صححه؛ لشهرته، وتلقّي النَّاس له بالقبول. والله تعالى أعلم.

قَالَ: وبعث عمر شريحا عَلَى قضاء الكوفة، وكعب بن سوار عَلَى قضاء البصرة، وكتب إلى أبي عبيدة ومعاذ يأمرهما بتولية القضاء فِي الشام؛ لأن أهل كل بلد يحتاجون إلى القاضي، ولا يمكنهم المصير إلى بلد الإِمام، ومن أمكنه ذلك شق عليه، فوجب إغناؤهم عنه. انتهى "المغني" 14/ 10 - 11. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): إذا أراد الإِمام تولية قاض، فإن كَانَ له خبرة بالناس، ويعرف منْ يصلح للقضاء ولاه، وإن لم يعرف ذلك سأل أهل المعرفة بالناس، واسترشدهم عَلَى منْ يصلح، وان ذكر له رجل لا يعرفه أحضره وسأله وإن عرف عدالته، وإلا بحث عن عدالته، فإذا عرفها ولاه، ويكتب له عهدا يأمره فيه بتقوى الله، والتثبت فِي القضاء، ومشاورة أهل العلم، وتصفح أحوال الشهود، وتأمل الشهادات، وتعاهد اليتامى، وحفظ أموالهم، وأموال الوقوف، وغير ذلك، مما يحتاج إلى مراعاته، ثم إن كَانَ البلد الذي ولاه قضاءه بعيدا، لا يستفيض إليه الخبر بما يكون فِي بلد الإِمام، أحضر شاهدين عدلين، وقرأ عليهما العهد، أو أقرأه غيره بحضرته، وأشهدهما عَلَى توليته ليمضيا معه إلى بلد ولايته، فيقيما له الشهادة، ويقول لهما: اشهدا عَلَى أني قد وليته قضاء البلد الفلاني، وتقدمت إليه بما اشتمل هَذَا العهد عليه، وإن كَانَ البلد قريبا منْ بلد الإِمام، يستفيض إليه ما يجري فِي بلد الإِمام، مثل أن يكون بينهما خمسة أيام، أو ما دونها، جاز أن يكتفي بالإستفاضة، دون الشهادة؛ لأن الولاية تثبت بالاستفاضة، وبهذا قَالَ الشافعيّ، إلا أن عنده فِي ثبوت الولاية بالإستفاضة فِي البلد القريب وجهين، وَقَالَ أصحاب أبي حنيفة: تثبت بالاستفاضة، ولم يفصلوا بين القريب والبعيد؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم ولَّى عليا، ومعاذا قضاء اليمن، وهو بعيد منْ غير شهادة، وولّى الولاة فِي البلدان

ص: 194

البعيدة، وفوض إليهم الولاية والقضاء، ولم يشهد، وكذلك خلفاؤه، ولم ينقل منهم الإشهاد عَلَى توليه القضاء مع بعد بلدانهم.

واحتجّ الأولون بأن القضاء لا يثبت إلا بأحد الأمرين، وَقَدْ تعذرت الإستفاضة فِي البلد البعيد؛ لعدم وصولها إليه، فتعين الإشهاد، ولا نسلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يشهد عَلَى توليته، فإن الظاهر أنه لم يبعث واليا إلا ومعه جماعة، فالظاهر أنه أشهدهم، وعدم نقله لا يلزم منه عدم فعله، وَقَدْ قام دليله فتعين وجوده. انتهى "المغني" 14/ 11 - 12.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي ما قاله الحنفيّة أظهر؛ لأنه الظاهر، وما ذكره هؤلاء احتمالٌ، والظاهر لا يُترك بالاحتمال. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): أنه ينبغي أن يكون الحاكم قويا، منْ غير عُنف، لينا منْ غير ضعف، لا يطمع القوي فِي باطله، ولا ييأس الضعيف منْ عدله، ويكون حليما، متأنيا، ذا فطنة وتيقظ، لا يُؤتَى منْ غفلة، ولا يُخْدَع لغِرّة، صحيح السمع والبصر، عالما بلغات أهل ولايته، عفيفا ورعا نزها بعيدا عن الطمع، صدوقٌ اللَّهجة، ذا رأي ومشورة، لكلامه لين إذا قرب، وهيبة إذا أوعد، ووفاء إذا وعد، ولا يكون جبارا، ولا عسوفا، فيقطع ذا الحجة عن حجته. قَالَ عليّ رضي الله عنه:"لا ينبغي أن يكون القاضي قاضيا حَتَّى تكون فيه خمس خصال: عفيف، حليم، عالم بما كَانَ قبله، يستشير ذوي الألباب، لا يخاف فِي الله لومة لائم". وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى قَالَ: "ينبغي للقاضي أن تجتمع فيه سبع خلال: إن فاتته واحدة كانت فيه وَصْمة: العقل، والفقه، والورع، والنزاهة، والصرامة، والعلم بالسنن والحكم"، ورواه سعيد، وفيه:"يكونُ فهما، حليما، عفيفا، صلبا سآلا عما لا يعلم"، وفي رواية "محتملا للأئمة، ولا يكون ضعيفا مَهِينا؛ لأن ذلك يبسط المتخاصمين إلى التهاتر، والتشاتم بين يديه"، قَالَ عمر رضي الله عنه: لأعزلن فلانا عن القضاء، ولأستعملن رجلا إذا رآه الفاجر فَرِقَه.

وله أن ينتهر الخصم إذا التوى، ويصيح عليه، وإن استحق التعزير عزّره بما يرى منْ أدب، أو حبس، وإن افتات عليه بأن يقول: حكمت عليّ بغير الحق، أو ارتشيت فله تأديبه، وله أن يعفو، وإن بدأ المنكر باليمين قطعها عليه، وَقَالَ: البينة عَلَى خصمك، فإن عاد عزّره إن رأى، وأمثالُ ذلك مما فيه إساءة الأدب فله معابة فاعله، وله العفو. قاله فِي "المغني" 14/ 17 - 18 وهو بحث نفيس جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: الحاكم إذا حضرته قضية تبين له

ص: 195

حكمها فِي كتاب الله تعالى، أو سنة رسوله، أو إجماع، أو قياس جلي حكم، ولم يحتج إلى رأي غيره؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ، حين بعثه إلى اليمن:"بم تحكم؟ " قَالَ: بكتاب الله، قَالَ:"فإن لم تجد؟ " قَالَ: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"فإن لم تجد" قَالَ: أجتهد برأيي، قَالَ:"الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم"

(1)

، فإن احتاج إلى الاجتهاد استُحب له أن يشاور؛ لقول الله تعالى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} الآية [آل عمران: 159] قَالَ الحسن: إن كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لغنيا عن مشاورتهم، وإنما أراد أن يستن بذلك الحكام بعده، وَقَدْ شاور النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه فِي أسارى بدر، وفي مصالحة الكفار يوم الخندق، وفي لقاء الكفار يوم بدر. ورُوي ما كَانَ أحد أكثر مشاورة لأصحابه منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشاور أبو بكر النَّاس فِي ميراث الجدة، وعمر فِي دية الجنين، وشاور الصحابة فِي حد الخمر. وروي أن عمر كَانَ يكون عنده جماعة منْ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، إذا نزل به الأمر شاورهم فيه، ولا مخالف فِي استحباب ذلك، قَالَ أحمد: لما ولي سعْدُ بن إبراهيم قضاء المدينة، كَانَ يجلس بين القاسم وسالم يشاورهما، وولي محارب بن دثار قضاء الكوفة، فكان يجلس بين الحكم وحماد يشاورهما، ما أحسن هَذَا لو كَانَ الحكام يفعلونه، يشاورون وينتظرون، ولأنه قد ينتبه بالمشاورة، ويتذكر ما نسيه بالمذاكرة، ولأن الإحاطة بجميع العلوم متعذرة، وَقَدْ ينتبه لإصابة الحق، ومعرفة الحادثة منْ هو دون القاضي، فكيف بمن يساويه، أو يزيد عليه، فقد رُوي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه جاءته الجدتان، فورث أم الأم، وأسقط أم الأب، فَقَالَ له عبد الرحمن بن سهل: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد أسقطت التي لو ماتت ورثها، ووَرّثتَ التي لو ماتت لم يرثها، فرجع أبو بكر، فأشرك بينهما. ورَوَى عمر بن شَبّة عن الشعبي أن كعب بن سوّار كَانَ جالسا عند عمر، فجاءته امرأة، فقالت يا أمير المؤمنين، ما رأيت رجلاً قط أفضل منْ زوجي، والله إنه ليبيت ليله قائما، ويظل نهاره صائما، فِي اليوم الحار، ما يُفطر، فاستغفر لها، وأثنى عليها، وَقَالَ مثلك أُنْثَى الخير، قَالَ: واستحيت المرأة فقامت راجعة، فَقَالَ كعب: يا أمير المؤمنين هلا أعديت المرأة عَلَى زوجها، قَالَ: وما شَكَت؟، قَالَ: شكت زوجها أشد الشكاية، قَالَ: أَوَ ذاك أرادت؟ قَالَ: نعم، قَالَ: رُدُّوا عليّ المرأة، فَقَالَ: لا بأس بالحق أن تقوليه، إن هَذَا زعم أنك جئت تشكين زوجك، أنه يجتنب فراشك، قالت: أجل، إني امرأة شابة،

(1)

تقدّم أنه ضعيف الإسناد، وإن صححه بعض العلماء لشهرته.

ص: 196

وإني لأبتغي ما يبتغي النِّساء، فأرسل إلى زوجها، فجاء، فَقَالَ لكعب: اقض بينهما، قَالَ: أمير المؤمنين أحق أن يقضي بينهما، قَالَ: عزمت عليك لتقضين بينهما، فإنك فهمت منْ أمرها ما لم أفهم، قَالَ: فإني أرى كأنها عليها ثلاث نسوة، هي رابعتهن، فأقضي له بثلاثة أيام بلياليهن، يتعبد فيهن، ولها يوم وليلة، فَقَالَ عمر والله ما رأيك الأول، أعجب إلى منْ الآخر، اذهب فأنتَ قاض عَلَى البصرة.

إذا ثبت هَذَا، فإنه يشاور أهل العلم والأمانة؛ لأن منْ ليس كذلك فلا قول له فِي الحادثة، ولا يُسكن إلى قوله، قَالَ سفيان: وليكن أهل مشورتك أهل التقوى، وأهل الأمانة، ويشاور الموافقين والمخالفين، ويسألهم عن حجتهم؛ ليبين له الحق.

والمشاورة هاهنا لاستخراج الأدلة، ويعرفُ الحق بالاجتهاد، ولا يجوز أن يقلد غيره، ويحكم بقول سواه، سواء ظهر له الحق فخالفه غيره فيه، أو لم يظهر له شيء، وسواء ضاق الوقت، أو لم يضق، وكذلك ليس للمفتي الفتيا بالتقليد، وبهذا قَالَ الشافعيّ، وأبو يوسف، ومحمد، وَقَالَ أبو حنيفة: إذا كَانَ الحاكم منْ أهل الإجتهاد جاز له ترك رأيه لرأي منْ هو أفقه منه عنده، إذا صار إليه، فهو ضرب منْ الاجتهاد، ولأنه يعتقد أنه أعرف منه بطريق الاجتهاد.

وحجة الأولين أنه منْ أهل الاجتهاد، فلم يجز له تقليد غيره، كما لو كَانَ مثله كالمجتهدين فِي القبلة، وما ذكره ليس بصحيح، فإن منْ هو أفقه منه، يجوز عليه الخطأ، فإذا اعتقد أن ما قاله خطأ، لم يجز له أن يعمل به، وإن كَانَ لم يَبِنْ له الحق، فلا يجوز له أن يحكم بما يجوز أن يَبِين له خطؤه إذا اجتهد. قاله فِي "المغني" 14/ 26 - 29. وهو بحث نفيس، وتحقيق أَنيس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

‌1 - (فَضْلِ الْحَاكِمِ الْعَادِلِ فِي حُكْمِهِ

(1)

)

5381 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو ح وَأَنْبَأَنَا

(2)

مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ

(1)

وفي نسخة: "فِي حكم".

(2)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 197

عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَلَى يَمِينِ الرَّحْمَنِ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ، وَأَهْلِيهِمْ، وَمَا وَلُوا"، قَالَ مُحَمَّدٌ فِي حَدِيثِهِ:"وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ").

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(قتيبة بن سعيد) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(محمد بن آدم بن سليمان) الجهنيّ المصّيصيّ، صدوقٌ [10] 93/ 115.

3 -

(سفيان) بن عيينة المكيّ الحجة الثبت [8] 1/ 1.

4 -

(ابن المبارك) عبد الله الحنظليّ الثقة الثبت المشهور [8] 32/ 36.

5 -

(عمرو بن دينار) الجمحيّ الأثرم المكيّ، ثقة ثبت [4] 112/ 154.

6 -

(عمرو بن أوس) الثقفيّ الطائفيّ، تابعيّ كبير [2] ووهم منْ ذكره فِي الصحابة 17/ 653.

7 -

(عبد الله بن عمرو بن العاص) بن وائل السهميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما 89/ 111. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى بالنسبة للسند الأول، ومن سداسياته بالنسبة للثاني. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيحين غير شيخه الثاني، فقد تفرد به هو وأبو داود. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: عمرو، عن عمرو، وهو منْ رواية الأقران، فإن كليهما منْ الطبقة الرابعة. (ومنها): أن صحابيه منْ العبادلة الأربعة، ومن الفقهاء المشهورين بالفتوى منْ الصحابة رضي الله تعالى عنهم. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) رضي الله تعالى عنهما (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِنَّ الْمُقْسِطِينَ) جمع مقسط: اسم فاعل منْ أقسط رباعيًّا: إذا عدل، ومنه قوله تعالى:{وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]، وأما قسط ثلاثياًّ، فهو بمعنى جار، واسم الفاعل منه قاسط، ومنه قوله عز وجل:{وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15] وَقَدْ فسّر المقسطين فِي آخر الْحَدِيث، فَقَالَ:"الذين يَعدِلون فِي حكمهم، وأهلهم، وما وَلُوا"(عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَنَابِرَ منْ نُورٍ) "المنابر: جمع منبر بكسر الميم، وإنما كسرت؛ تشبيهًا له بالآلة، وسُمّي بذلك لارتفاعه، يقال: نبر الجرح، وانتبر: أي

ص: 198

ارتفع، وانتفخ، قَالَ القرطبيّ: ويعني به مجلسًا رفيعا، يتلألأ نوراً، ويحتمل أن يكون عبّر به عن المنزلة الرفيعة المحمودة، ولذلك قَالَ:"عن يمين الرحمن". انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لا داعي للاحتمال الذي ذكره، بل الظاهر منْ معنى الْحَدِيث معنى صحيح، لا يحتاج إلى العدول عنه، فإن الله سبحانه وتعالى يكرمهم يوم القيامة بالجلوس عَلَى المنابر منْ نور؛ ليراهم الخلق، وُيعتَرَفَ بفضلهم، وعلوّ شأنهم عند ربّهم، {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105].

(عَلَى يَمِينِ الرَّحْمَنِ) قَالَ القرطبيّ: قَالَ ابن عرفة يقال: أتاه عن يمين: إذا أتاه منْ الجهة المحمودة. وَقَالَ المفسّرون فِي قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة: 27] أي أصحاب المنزلة الرفيعة. وقيل: غير هَذَا فِي الآية. وَقَدْ شهد العقل والنقل أن الله تعالى منزّه عن مماثلة الأجسام، وعن الجوارح المركّبة منْ الأعصاب والعظام، وما جاء فِي الشريعة مما يوهم شيئًا منْ ذلك، فهو توسّعٌ، واستعارة حسب عادات مخاطباتهم الجارية عَلَى ذلك، إلى آخر ما ذكره القرطبيّ فِي تأويل معنى اليمين.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي طول به القرطبيّ كلامه فِي تأويل معنى اليمين غير صحيح، فإن اليمين بمعنى الجارحة لا يتوهّم عاقل أنها المقصودة فِي إطلاق اليمين لله سبحانه وتعالى، فإن منْ اعتقد أن لله سبحانه وتعالى ذاتًا، لا تُشبه الذوات، فكذلك يعتقد أن له صفات لا تشبه الصفات، فكما لا يعتقد أن ذاته مركبة منْ لحم، وعظم، ونحو ذلك، كذلك لا يعتقد أن يمينه سبحانه وتعالى جارحة مركبة منْ لحم، وعظم، وعصب، ونحوه، بلا فرق، وَقَدْ تقدّم لنا غير مرّة أن مذهب سلف الأمة، منْ الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وأهل الْحَدِيث قاطبة إثبات جميع الصفات التي وردت فِي القرآن الكريم، والأحاديث الصحيحة، عَلَى ظاهرها، منزّهين الله تعالى عن مشابهة خلقه له، إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل، فاسلك سبيلهم، فإنه الصراط المستقيم، والله سبحانه وتعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وقوله: (الَّذِينَ) خبر لمحذوف: أي هم الذين (يَعْدِلُونَ) بكسر الدال، منْ العدل: وهو القصد فِي الأمور، وهو خلاف الجور، يقال: عَدَلَ فِي أمره عَدْلاً، منْ باب ضرب، وعدل عَلَى القوم عَدْلاً أيضًا. قاله فِي "المصباح"(فِي حُكْمِهِمْ) أي فِي الحكم الذي يحكمون به للناس، أو عليهم (وَأَهْلِيهِمْ) بالجرّ عطفًا عَلَى ما قبله: أي يعدِلون فِي أهليهم، بمعنى أنهم يقمون تجاههم بما أوجب الله تعالى عليهم فيهم، فِي قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} الآية [التحريم: 6]، فيعلمونهم دينهم،

ص: 199

ويقومون بالإنفاق عليهم (وَمَا وَلُوا") بفتح الواو، وضمّ اللام المخفّفة، أصله وَلِيُوا بكسر الام، وضمّ الياء، بوزن علِموا، فنقلت ضمة الياء إلى اللام بعد سلب حركتها؛ للاستثقال، ثم حذفت الياء للالتقاء الساكنين. ومعنى:"ولوا" أي كانت لهم عليه ولاية، وعطفه عَلَى ما قبله منْ عطف العامّ عَلَى الخاصّ.

(قَالَ مُحَمَّدٌ) هو ابن آدم بن سليمان، شيخه الثاني (فِي حَدِيثِهِ) أي فِي روايته لهذا الْحَدِيث (وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ) جملة منْ مبتدأ وخبر فِي محلّ نصب مقول "قَالَ محمد". يعني أنه زاد عَلَى رواية قتيبة قوله:"وكلتا يديه يمين". وإنما قَالَ ذلك: تحرّزًا منْ توهّم نقص وضعفٍ فيما أضافه إلى الحقّ سبحانه وتعالى، وذلك أنه لمّا كانت اليمين تقابلها الشمال، وهي فِي المتعارف أنقص رتبة، وأضعف حركة، وأثقل لفظًا، فأزال توهّم مثل هَذَا فِي حقّ الله تعالى، فَقَالَ:"وكلتا يديه يمين": أي كلّ ما نُسب إليه سبحانه وتعالى ميمون مبارك، لا نقص، يُتوهّم فيه، ولا قصور. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -1/ 5381 - وفي "الكبرى" 1/ 5916. وأخرجه (م) فِي "الإمارة" 1827 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 6449 و6456 و6858. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان فضل الحاكم العادل فِي حكمه. (ومنها): فضل العدل فِي الأهل والأولاد، وذلك بالقيام بما يحتاجون إليه منْ أمور دينهم ودنياهم، وتعليمهم ما ينفعهم، وزجرهم عما يضرّ بهم دينًا، ودنيا. (ومنها): إثبات صفة اليمين لله سبحانه وتعالى عَلَى ما يليق بجلاله، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 200

‌2 - (الإِمَامُ الْعَادِلُ)

5382 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ عز وجل يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ عز وجل، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ فِي خَلَاءٍ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ كَانَ قَلْبُهُ مُعَلَّقًا فِي الْمَسْجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ عز وجل، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ، ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ إِلَى نَفْسِهَا، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ عز وجل، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(سويد بن نصر) بن سويد، أبو الفضل المروزيّ الملقّب شاه، راوية ابن المبارك، ثقة [10] 45/ 55.

2 -

(عبد الله) بن المبارك المذكور فِي الباب الماضي.

3 -

(عبيد الله) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقة ثبت فقيه، قدّمه أحمد بن صالح عَلَى مالك فِي نافع، وقدّمه ابن معين فِي القاسم، عن عائشة عَلَى الزهريّ، عن عروة، عنها [5] 15/ 15.

4 -

(خبيب بن عبد الرحمن) -بضم الخاء المعجمة، مصغّرا- ابن يساف الأنصاريّ، أبو الحارث المدنيّ، ثقة [4] 10/ 640 وهو خال عبيد الله الراوي عنه.

5 -

(حفص بن عاصم) بن عمر بن الخطاب العمريّ المدنيّ، ثقة [3] 60/ 867، وهو جدّ عبيد الله المذكور لأبيه.

6 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين. (ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، وعبد الله، فمروزيّان. (ومنها): أن فيه رواية الراوي، عن خاله، عن جدّه، وفيه رواية ثلاثة منْ التابعين، بعضهم منْ بعض: عبيد

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 201

الله، عن خُبيب، عن حفص. (ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه، أكثر الصحابة رواية للحديث، رَوَى (5374) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه قَالَ فِي "الفتح": لم تختلف الرواة عن عبيد الله فِي ذلك، ورواه مالك فِي "الموطإ" عن خُبيب، فَقَالَ: عن أبي سعيد، أو أبي هريرة عَلَى الشك، ورواه أبو قرة، عن مالك بواو العطف، فجعله عنهما، وتابعه مصعب الزبيري، وشَذّا فِي ذلك عن أصحاب مالك، والظاهر أن عبيد الله حفظه؛ لكونه لم يشك فيه، ولكونه منْ رواية خاله، وجده، والله أعلم. انتهى.

[تنبيه]: قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: لم نجد هَذَا الْحَدِيث منْ وجه منْ الوجوه، إلا عن أبي هريرة رضي الله عنه، إلا ما وقع عند مالك منْ التردد هل هو عنه، أو عن أبي سعيد، كما قدمناه قبلُ، ولم نجده عن أبي هريرة، إلا منْ رواية حفص، ولا عن حفص إلا منْ رواية خبيب، نعم أخرجه البيهقي فِي "الشعب" منْ طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، والراوي له عن سهيل عبدُ الله بن عامر الأسلمي، وهو ضعيف، لكنه ليس بمتروك، وحديثه حسن فِي المتابعات، ووافق فِي قوله:"تصدق بيمينه"، وكذا أخرجه سعيد بن منصور، منْ حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه بإسناد حسن موقوفا عليه، لكن حكمه الرفع، وفي "مسند أحمد" منْ حديث أنس رضي الله عنه بإسناد حسن مرفوعا:"إن الملائكة قالت: يا رب هل منْ خلقك شيء أشدُّ منْ الجبال؟ قَالَ: نعم الحديد، قالت: فهل أشد منْ الحديد؟ قَالَ: نعم النار، قالت: فهل أشد منْ النار؟ قَالَ: نعم الماء، قالت: فهل أشد منْ الماء؟ قَالَ: نعم الريح، قالت: فهل أشد منْ الريح؟ قَالَ: نعم ابن آدم، يتصدق بيمينه، فيخفيها عن شماله". انتهى "فتح" 2/ 365 - 366.

(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "سَبْعَةٌ) ظاهره اختصاص المذكورين بالثواب المذكور، ووجّهه الكرماني بما مُحَصَّله أن الطاعة إما أن تكون بين العبد وبين الرب، أو بينه وبين الخلق، فالأولى باللسان، وهو الذكر، أو بالقلب، وهو المعلق بالمسجد، أو بالبدن، وهو الناشىء فِي العبادة، والثاني عام، وهو العادل، أو خاص بالقلب، وهو التحاب، أو بالمال، وهو الصدقة، أو بالبدن، وهو العفة، قَالَ الحافظ: وَقَدْ نظم السبعة العلامة أبو شامة، عبد الرحمن بن إسماعيل، فيما أنشدناه أبو إسحاق التنوخي إذنا، عن أبي الهدى أحمد بن أبي شامة، عن أبيه سماعا منْ لفظه، قَالَ [منْ الطويل]:

وَقَالَ النَّبِيُّ الْمُصْطَفَى إِنَّ سَبْعَةً

يُظِلُّهُمُ اللَّهُ الْكَرِيمُ بِظِلَّهِ

ص: 202

مُحِبٌّ عَفِيفٌ نَاشِىءٌ مُتَصَدَّقٌ

وَبَاكٍ مُصَلٍّ وَالإِمَامُ بِعَدْلِهِ

ووقع فِي "صحيح مسلم"، منْ حديث أبي الْيَسَرِ مرفوعا:"منْ أنظر معسرا، أو وضع له، أظله الله فِي ظله يوم لا ظل إلا ظله"، وهاتان الخصلتان غير السبعة الماضية، فدل عَلَى أن العدد المذكور لا مفهوم له، قَالَ الحافظ: وَقَدْ ألقيت هذه المسألة عَلَى العالم، شمس الدين بن عطاء الرازي، المعروف بالهروى، لَمّا قَدِمَ القاهرة، وادَّعَى أنه يحفظ "صحيح مسلم"، فسألته بحضرة الملك المؤيد عن هَذَا، وعن غيره، فما استحضر فِي ذلك شيئا، ثم تتبعت بعد ذلك الأحاديث الواردة، فِي مثل ذلك، فزادت عَلَى عشر خصال، وَقَدْ انتقيت منها سبعة، وردت بأسانيد جياد، ونظمتها فِي بيتين، تذييلا عَلَى بيتي أبي شامة، وهما:

وَزِدْ سَبْعَةً إِظْلَالَ غَازٍ وَعَوْنَهُ

وَإِنْظَارَ ذِي عُسْرٍ وَتَخْفِيفَ حَمْلِهِ

وَإِرْفَادَ ذِي غُرْمٍ وَعَوْنَ مُكَاتَبٍ

وَتَاجِرُ صِدْقٍ فِي الْمَقَالِ وَفِعْلِهِ

فأما إظلال المغازي، فرواه ابن حِبّان وغيره، منْ حديث عمر رضي الله عنه، وأما عون المجاهد، فرواه أحمد، والحاكم، منْ حديث سهل بن حُنيف رضي الله عنه، وأما إنظار المعسر، والوضيعة عنه، ففي "صحيح مسلم" كما ذكرنا، وأما إرفاد الغارم، وعون المكاتب، فرواهما أحمد، والحاكم، منْ حديث سهل بن حُنيف المذكور رضي الله عنه، وأما التاجر الصدوق، فرواه البغوي فِي "شرح السنة" منْ حديث سلمان رضي الله عنه، وأبو القاسم التيمي، منْ حديث أنس رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.

قَالَ الحافظ: ونظمته مرة أخرى، فقلت فِي السبعة الثانية:

وَتَحْسِينُ خُلْقٍ مَعْ إِعَانَةِ غَارِمٍ

خَفِيفُ يَدٍ حَتَّى مُكَاتَبُ أَهْلِهِ

وحديث تحسين الخلق أخرجه الطبراني، منْ حديث أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد ضعيف، ثم تتبعت ذلك، فجمعت سبعة أخرى، ونظمتها فِي بيتين آخرين، وهما:

وَزِدْ سَبْعَةً حُزْنٌ وَمَشْيٌ لِمَسْجِدِ

وَكُرْهُ وُضُوءٍ ثُمَّ مُطْعِمُ فَضْلِهِ

وَآخِذُ حَقٍّ بَاذِلٌ ثُمَّ كَافِلُ

وَتَاجِرُ صِدْقٍ فِي الْمَقَالِ وَفِعْلِهِ

ثم تتبعت ذلك، فجمعت سبعة أخرى، ولكن أحاديثها ضعيفة، وقلت فِي آخر البيت:

تَرْبَعُ بِهِ السَّبْعَاتِ مِنْ فَيْضِ فَضْلِهِ

وَقَدْ أوردت الجميع فِي "الأمالي"، وَقَدْ أفردته فِي جزء سميته "معرفة الخصال، الموصلة إلى الظلال". انتهى "فتح" 2/ 361 - 362.

ص: 203

[تنبيه]: ذِكْرُ الرجال فِي هَذَا الْحَدِيث، لا مفهوم له، بل يشترك النِّساء معهم فيما ذكر، إلا إن كَانَ المراد بالإمام العادل الإمامة العظمى، وإلا فيمكن دخول المرأة حيث تكون ذات عيال، فتعدل فيهم، وتخرج خصلة ملازمة المسجد؛ لأن صلاة المرأة فِي بيتها أفضل منْ المسجد، وما عدا ذلك فالمشاركة حاصلة لهن، حَتَّى الرجل الذي دعته المرأة، فإنه يتصور فِي امرأة دعاها ملك جميل مثلا، فامتنعت خوفا منْ الله تعالى، مع حاجتها، أو شاب جميل دعاه ملك إلى أن يزوجه ابنته مثلا، فخشي أن يرتكب منه الفاحشة، فامتنع مع حاجته إليه. قاله فِي "الفتح" 2/ 366 - 367.

(يُظِلُّهُمُ) بضمّ أوله، منْ الإظلال (اللَّهُ عز وجل يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ)"يوم" الثاني بدل منْ الأول، ولفظ البخاريّ:"يظلّهم الله فِي ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه" وقوله: "فِي ظلّه" قَالَ عياض: إضافة الظلّ إلى الله تعالى إضافة ملك، وكلّ ظلّ فهو ملكه، كذا قَالَ، وكان حقّه أن يقول: إضافة تشريف؛ ليحصل امتياز هَذَا عَلَى غيره، كما قيل للكعبة: بيت الله، مع أن المساجد كلها ملكه. وقيل: المراد بظله كرامته، وحمايته، كما يقال: فلان فِي ظل الملك، وهو قول عيسى بن دينار، وقَوّاه عياض. وقيل: المراد ظل عرشه، ويدل عليه حديث سلمان رضي الله عنه عند سعيد بن منصور، بإسناد حسن: "سبعة يظلهم الله فِي ظل عرشه

" فذكر الْحَدِيث، وإذا كَانَ المراد ظل العرش، استلزم ما ذُكر منْ كونهم فِي كنف الله، وكرامته، منْ غير عكس، فهو أرجح، وبه جزم القرطبيّ.

قَالَ الحافظ: ويؤيده أيضًا تقييد ذلك بيوم القيامة، كما صرح به ابن المبارك فِي روايته عن عبيد الله بن عمر -يعني حديث الباب- وهو عند البخاريّ فِي "كتاب الحدود"، وبهذا يندفع قول منْ قَالَ: المراد ظل طوبى، أو ظل الجنة؛ لأن ظلهما إنما يحصل لهم بعد الاستقرار فِي الجنة، ثم إِنَّ ذلك مشترك لجميع منْ يدخلها، والسياق يدلّ عَلَى امتياز أصحاب الخصال المذكورة، فيرجح أن المراد ظل العرش، وروى الترمذيّ وحسنه، منْ حديث أبي سعيد، مرفوعا:"أحب النَّاس إلى الله يوم القيامة، وأقربهم منه مجلسا، إمام عادل".

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما ذُكر أن الصحيح كون المراد بقوله: "إلا ظلّه" ظل العرش؛ لأن خير ما فُسّر به الوارد هو الوارد، كما أشار إليه السيوطيّ فِي "ألفية الْحَدِيث" بقوله:

وَخَيْرُهُ مَا جَاءَ مِنْ طَرِيقٍ أوْ

عَنِ الصَحَابِيِّ وَرَاوٍ قَدْ حَكَوْا

الأول: (إِمَامٌ عَادِلٌ) ولفظ البخاريّ: "الإِمام العادل" بالتعريف، وهو اسم فاعل منْ

ص: 204

العدل، وذكر ابن عبد البرّ، أن بعض الرواة عن مالك، رواه بلفظ:"العدل"، قَالَ: وهو أبلغ؛ لأنه جعل المسمى نفسه عدلا، والمراد به صاحب الولاية العظمى، وَيلتحق به كل منْ وَلِيَ شيئا منْ أمور المسلمين، فعدل فيه، ويؤيده رواية مسلم، منْ حديث عبد الله بن عمرو، رفعه:"إن المقسطين عند الله عَلَى منابر، منْ نور عن يمين الرحمن، الذين يعدلون فِي حكمهم، وأهليهم، وما وَلُوا"، وأحسن ما فُسَّر به العادل: أنه الذي يَتَّبع أمر الله بوضع كل شيء فِي موضعه، منْ غير إفراط، ولا تفريط، وقدمه فِي الذكر؛ لعموم النفع به.

(وَ) الثاني (شَابٌّ) خَصَّ الشاب؛ لكونه مظنة غلبة الشهوة؛ لما فيه منْ قوة الباعث عَلَى متابعة الهوى، فإن ملازمة العبادة، مع ذلك أشدُّ، وأدل عَلَى غلبة التقوى (نَشَأَ) أي نبت، وابتدأ، أي لم يكن له صبوة، وهو الذي قَالَ فيه فِي الْحَدِيث الآخر:"يعجب ربّك منْ صبيّ، ليست له صَبْوة"

(1)

، رواه أحمد 4/ 151 وإنما كَانَ ذلك لغلبة التقوى التي بسببها ارتفعت الصبوة. انتهى "المفهم" 3/ 75. (فِي عِبَادَةِ اللَّهِ عز وجل ولفظ البخاريّ:"فِي عبادة ربه"، وفي رواية الإِمام أحمد، عن يحيى القطّان:"بعبادة الله"، وهي رواية مسلم، وهما بمعنى، زاد حماد بن زيد، عن عبيد الله بن عمر:"حَتَّى توفي عَلَى ذلك"، أخرجه الجوزقي، وفي حديث سلمان رضي الله عنه:"أفنى شبابه، ونشاطه فِي عبادة الله".

(وَ) الثالث (رَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ) أي بقلبه منْ التذكر، أو بلسانه منْ الذكر (فِي خَلَاءٍ) بفتح الخاء المعجمة، والمدّ: المكان الخالي. ولفظ البخاريّ: "ورجلٌ ذكر الله خاليًا"، قَالَ فِي "المفهم": يعني خاليًا منْ الخلق. وَقَالَ فِي "الفتح": خاليا: أي منْ الخلق؛ لأنه يكون حينئذ أبعد منْ الرياء، والمراد خاليا منْ الالتفات إلى غير الله تعالى، ولو كَانَ فِي ملأ، ويؤيّده رواية البيهقيّ:"ذكر الله بين يديه"، ويؤيّد الأول رواية ابن المبارك

(2)

، وحماد بن زيد:"ذكر الله فِي خلأ": أي فِي موضع خال، وهي أصحّ. انتهى.

(فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) أي فاضت الدموع منْ عينيه، وأسند الفيض إلى العين مبالغةً، كأنها هي التي فاضت، قَالَ القرطبيّ: وفيض العين بكاؤها وهو عَلَى حَسَب حال الذاكر، وبحسب ما يكشف له، منْ أوصافه تعالى، فإن انكشف له غضبه، فبكاَؤه عن خوف، وإن انكشف له جماله وجلاله، فبكاؤه عن محبّة وشوق، وهكذا يتلوّن بتلوّن ما يذكر منْ الأسماء والصفات. انتهى "المفهم" 3/ 77.

(1)

رواه أحمد فِي "مسنده" 4/ 151 وفي إسناد ابن لهيعة، وهو ضعيف.

(2)

رواية ابن المبارك هي التي ساقها المصنّف هنا.

ص: 205

قَالَ الحافظ: قد خص فِي بعض الروايات بالأول، ففي رواية حماد بن زيد عند الجوزقي:"ففاضت عيناه منْ خشية الله"، ونحوه فِي رواية البيهقي، ويشهد له ما رواه الحاكم منْ حديث أنس رضي الله عنه، مرفوعا:"منْ ذكر الله، ففاضت عيناه منْ خشية الله، حَتَّى يصيب الأرض منْ دموعه، لم يعذب يوم القيامة".

(وَ) الرابع (رَجُلٌ كَانَ قَلْبُهُ مُعَلَّقًا فِي الْمَسْجِدِ) أي يحبّ الكون فيها للصلاة، والذكر، وقراءة القرآن، وهذا إنما يكون ممن استغرقه حبّ الصلاة، والمحافظة عليها، وشُغِف بها. قاله فِي "المفهم" 3/ 76.

ولفظ "الصحيحين": "ورجلٌ قلبه مُعَلَّق فِي المساجد"، قَالَ فِي "الفتح": وظاهره أنه منْ التعليق، كأنه شبهه بالشيء المعلق فِي المسجد، كالقنديل مثلا؛ إشارة إلى طول الملازمة بقلبه، وإن كَانَ جسده خارجا عنه، ويدل عليه رواية الجوزقي:"كأنما قلبه معلق فِي المسجد"، ويحتمل أن يكون منْ العَلاقة، وهي شدة الحب، ويدل عليه رواية أحمد:"معلق بالمساجد"، وكذا رواية سلمان:"منْ حبها"، ولفظ الحموي والمستملي:"مُتَعَلِّق" بزيادة مثناة بعد الميم، وكسر اللام، زاد سلمان "منْ حبها"، وزاد مالك "إذا خرج منه حَتَّى يعِود إليه".

(وَ) الخامس (رَجُلَانِ تَحَابَّا) بتشديد الباء، وأصله تحاببا: أي اشتركا فِي جنس المحبّة، وأحب كل منهما الآخر حقيقة، لا إظهارا فقط، ووقع فِي رواية حماد بن زيد:"ورجلان قَالَ كل منهما للآخر: إني أحبك فِي الله، فصدرا عَلَى ذلك"، ونحوه فِي حديث سلمان.

(فِي اللَّهِ عز وجل أي لأجل الله عز وجل، لا لغرض دنيويّ، وكلمة "فِي" سببيّة.

زاد فِي رواية الشيخين: "اجتمعا عَلَى ذلك، وتفرقا عليه"، فِي رواية لمسلم:"اجتمعا عليه": أي عَلَى الحب المذكور، والمراد أنهما داما عَلَى المحبّة الدينية، ولم يقطعاها بعارض دنيوى، سواء اجتمعا حقيقة، أم لا، حَتَّى فرق بينهما الموت. قاله فِي "الفتح". وَقَالَ القرطبيّ: أي داما عَلَى المحبّة الصادقة الدينيّة المبرّأة عن الأغراض الدنيويّة، ولم يقطعاها بعارض فِي حال اجتماعهما، ولا حال افتراقهما. انتهى.

ووقع فِي الجمع للحميدى: "اجتمعا عَلَى خير"، قَالَ الحافظ: ولم أر ذلك فِي شيء منْ نسخ "الصحيحين"، ولا غيرهما منْ "المستخرجات"، وهي عندي تحريف.

[تنبيه]: عُدّت هذه الخصلة واحدة، مع أن متعاطيها اثنان؛ لأن المحبّة لا تتم إلا باثنين، أو لما كَانَ المتحابان بمعنى واحد، كَانَ عد أحدهما مغنيا عن عد الآخر؛ لأن الغرض عد الخصال، لا عد جميع منْ اتصف بها.

ص: 206

(وَ) السادس (رَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ، ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ)"المنصب" -بكسر الصاد المهملة: الأصل، أو الشرف، وفي رواية مالك:"دعته ذات حسب"، وهو يطلق عَلَى الأصل، وعلى المال أيضًا، وَقَدْ وصفها بأكمل الأوصاف، التي جرت العادة بمزيد الرغبة لمن تحصل فيه، وهو المنصب الذي يستلزمه الجاه والمال، مع الجمال، وقل منْ يجتمع ذلك فيها منْ النِّساء. قاله فِي "الفتح".

وَقَالَ النوويّ: وخصّ ذات الجمال؛ لكثرة الرغبة فيها، وعسر حصولها، وهي جامعة للمنصب والجمال، لاسيما وهي إلى نفسها مع جمالها المنصب والجمال منْ أكمل المراتب، وأعظم الطاعات، فرتّب الله تعالى عليه أن يُظلّه، وذات المنصب هي ذات الحسب، والنسب الشريف. انتهى "شرح مسلم" 7/ 122.

(إِلَى نَفْسِهَا) وفي رواية البيهقي فِي "الشعب"، منْ طريق أبي صالح، عن أبي هريرة:"فعرضت نفسها عليه"، والظاهر أنها دعته إلى الفاحشة، وبه جزم القرطبيّ، ولم يحك غيره، وَقَالَ بعضهم: يحتمل أن تكون دعته إلى التزوج بها، فخاف أن يشتغل عن العبادة بالافتتان بها، أو خاف أن لا يقوم بحقها؛ لشغله بالعبادة عن التكسب بما يليق بها، والأول أظهر، ويؤيده وجود الكناية فِي قوله:"إلى نفسها"، ولو كَانَ المراد التزويج لصرح به، والصبر عن الموصوفة بما ذُكر منْ أكمل المراتب؛ لكثرة الرغبة فِي مثلها، وعسر تحصيلها، لاسيما وَقَدْ أغنت منْ مشاق التوصل إليها بمراودة ونحوها. قاله فِي "الفتح".

وَقَالَ النوويّ: ومعنى قوله: "دعته": أي دعته إلى الزنا بها، هَذَا هو الصواب فِي معناه، وذكر القاضي فيه احتمالين: أصحّهما هَذَا والثاني: أنه يحتمل أنها دعته لنكاحها، فخاف العجز عن القيام بحقّها، أو أن الخوف منْ الله تعالى شغله عن لذّات الدنيا، وشهواتها. انتهى "شرح مسلم" 7/ 122 "كتاب الزكاة".

(فَقَالَ: إِنَّي أَخَافُ اللَّهَ عز وجل زاد فِي رواية كريمة للبخاريّ: "فَقَالَ: إني أخاف الله رب العالمين" والظاهر أنه يقول ذلك بلسانه، إما ليزجرها عن الفاحشة، أو ليعتذر إليها، ويحتمل أن يقوله بقلبه. قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: وقول المدعوّ فِي مثل هَذَا: "إني أخاف الله"، وامتناعه لذلك دليلٌ عَلَى عظيم معرفته بالله تعالى، وشدّة خوفه منْ عقابه، ومتين تقواه، وحيائه منْ الله تعالى، وهذا هو المقام اليوسفيّ. انتهى "المفهم" 3/ 76.

(وَ) السابع (رَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ) نَكّرها ليشمل كل ما يُتصدق به منْ قليل، وكثير، وظاهره أيضًا يشمل المندوبة والمفروضة، لكن نقل النوويّ عن العلماء، أن إظهار

ص: 207

المفروضة أولى منْ إخفائها. قاله فِي "الفتح". وَقَالَ القرطبيّ: هذه صدقة التطوّع فِي قول ابن عبّاس، وأكثر العلماء، وهو حضّ عَلَى الإخلاص فِي الأعمال، والتستّر بها، ويستوي فِي ذلك جميع أعمال البرّ التطوّعيّة، فأما الفرائض، فالأولى إشاعتها، وإظهارها؛ لتنحفظ قواعد الدين، ويجتمع النَّاس عَلَى العمل بها، فلا يضيع منها شيء، ويظهر بإظهارها جمال دين الإِسلام، وتُعْلَم حدوده، وأحكامه، والإخلاص واجبٌ فِي جميع القُرَب، والرياء مفسدٌ لها. انتهى "المفهم" 3/ 76.

(فَأَخْفَاهَا، حَتَّى لَا تَعْلَمَ) يجوز فيه الرفع، والنصب، عَلَى تقدير كونه حالاً، أو مستقبلاً، لأن "حتّى" إذا وقع المضارع بعدها، فإن كَانَ مستقبلاً، كقولك: سرتُ حَتَّى أدخلُ البلد، وكان قولك قبل الدخول وجب رفعه، وإن قلته، وأنت داخل، أو بعد الدخول، وقصدت به حكاية تلك الحال وجب نصبه، وإلى ذلك أشار ابن مالك فِي "الخلاصة" حيث قَالَ:

وَتِلْوَ "حَتَّى" حَالاً أوْ مُؤَوَّلَا

بِهِ ارْفَعَنَّ وَانْصِبِ الْمُسْتَقْبَلَا

و"تعلم" يحتمل الوجهين، فلذا جاز فيه وجهان.

(شِمَالُهُ) مرفوع عَلَى الفاعليّة، وقوله:(مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ) منصوب عَلَى المفعوليّة، وإنما ذكر اليمين، والشمال؛ للمبالغة فِي الإخفاء، والإسرار بالصدقة، وضرب المثل بهما لقرب اليمين منْ الشمال، ولملازمتهما، ومعناه: لو قُدّرت الشمال رجلاً متيقّظًا لَمَا عَلِمَ صدقة اليمين لمبالغته فِي الإخفاء. وقيل: المراد مَن عَلَى شماله منْ النَّاس. قاله العينيّ فِي "العمدة" 4/ 353.

وَقَالَ القرطبيّ: هَذَا مبالغة فِي إخفاء الصدقة، وَقَدْ سمعنا منْ بعض المشايخ أن ذلك أن يتصدّق عَلَى الضعيف فِي صورة المشتري منه، فيدفع له درهمًا مثلاً فِي شيء يُساوي نصف درهم، فالصورة مبايعة، والحقيقة صدقة، وهو اعتبارٌ حسن. انتهى "المفهم" 3/ 77.

وَقَالَ فِي "الفتح": المقصود منه المبالغة فِي إخفاء الصدقة، بحيث إن شماله مع قربها منْ يمينه، وتلازمهما لو تصور أنها تعلم لَمَا علمت ما فعلت اليمين؛ لشدة إخفائها، فهو عَلَى هَذَا منْ مجاز التشبيه، ويؤيده رواية حماد بن زيد عند الجوزقي:"تصدق بصدقة، كأنما أخفى يمينه منْ شماله". ويحتمل أن يكون منْ مجاز الحذف، والتقدير: حَتَّى لا يعلم ملك شماله، وأَبعَدَ منْ زَعَمَ أن المراد بشماله نفسه، وأنه منْ تسمية الكل باسم الجزء، فإنه ينحل إلى أن نفسه لا تعلم ما تنفق نفسه. وقيل: هو منْ مجاز الحذف، والمراد بشماله مَنْ عَلَى شماله منْ النَّاس، كأنه قَالَ مجاور شماله. وقيل: المراد أنه لا

ص: 208

يرائى بصدقته، فلا يكتبها كاتب الشمال. وحكى القرطبيّ عن بعض مشايخه أن معناه أن يتصدق عَلَى الضعيف المكتسب فِي صورة الشراء لترويج سلعته أو رفع قيمتها واستحسنه، وفيه نظر، إن كَانَ أراد أن هذه الصورة مراد الْحَدِيث خاصة، وإن أراد أن هَذَا منْ صور الصدقة المخفية فمسلم. والله أعلم. انتهى "فتح" 2/ 366.

[تنبيه]: وقع فِي رواية لمسلم "حتّى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله"، وهو وهم، سيأتي بيانه فِي المسألة الرابعة، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -2/ 5382 - وفي "الكبرى" 3/ 5921. وأخرجه (خ) فِي "الأذان" 660 و"الزكاة" 1423 و"الرقاق" 6479 و"الحدود" 6806 (م) فِي "الزكاة" 1031 (ت) فِي "الزهد" 2391 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 9373 (الموطأ) فِي "الجامع" 1777. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان فضل الإِمام العادل. (ومنها): فضل منْ سلم منْ الذنوب، واشتغل بطاعة ربّه طول عمره. (ومنها): الحثّ عَلَى التحابّ فِي الله عز وجل، وبيان عظيم فضله، وهو منْ المهمّات، فإن الحبّ فِي الله، والبغض فِي الله منْ الإيمان، وهو بحمد الله تعالى كثير، يوفّق له أكثر النَّاس، أو منْ وُفّق له. قاله النوويّ. (ومنها): فضل صدقة السرّ، قَالَ الله عز وجل:{وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271]. (ومنها): فضيلة البكاء منْ خشية الله سبحانه وتعالى، وفضل طاعة السرّ؛ لكمال الإخلاص فيها. (ومنها): فضيلة ملازمة المسجد للصلاة فيها مع الجماعة؛ لأن المسجد بيت الله، وحقيق عَلَى المزور أن يكرم زائره، فكيف بأكرم الأكرمين. (ومنها): فضيلة الخوف منْ الله سبحانه وتعالى، قَالَ الله عز وجل:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40 - 41]، وَقَالَ عز وجل:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]. (ومنها): فضيلة ذكر الله عز وجل فِي الخلوات، مع فيضان الدمع منْ عينيه، فقد أخرج أحمد، والترمذيّ، والنسائيّ، والحاكم بإسناد صحيح، منْ حديث

ص: 209

أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"لا يلج النار رجلٌ بكى منْ خشية الله، حَتَّى يعود اللبن فِي الضرع، ولا يجتمع غبار فِي سبيل الله، ودخان جهنّم فِي منخري مسلم أبدًا".

وبالجملة فالحديث عظيم الفائدة، جسيم العائدة، قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: هَذَا الْحَدِيث جدير بأن يُنْعَم فيه النظر، وُيستخرج ما فيه منْ اللطائف، والعِبَر، والله الموفّق الملهم. انتهى "المفهم" 3/ 77. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف الرواية فِي قوله: "حَتَّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه"، كما هو عند الشيخين:

قَالَ فِي الفتح": هكذا وقع فِي معظم الروايات فِي هَذَا الْحَدِيث فِي البخاريّ وغيره، ووقع فِي "صحيح مسلم" مقلوبا: "حَتَّى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله"، وهو نوع منْ أنواع علوم الْحَدِيث، أغفله ابن الصلاح، وإن كَانَ أفرد نوع المقلوب، لكنه قصره عَلَى ما يقع فِي الإسناد، ونبه عليه شيخنا -يعني البلقينيّ- فِي "محاسن الاصطلاح"، ومثل له بحديث: "إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل"، وَقَدْ قدمنا الكلام عليه فِي "كتاب الأذان"، وَقَالَ شيخنا: ينبغي أن يسمى هَذَا النوع المعكوس. انتهى.

قَالَ الحافظ: والأولى تسميته مقلوبا، فيكون المقلوب تارة فِي الإسناد، وتارة فِي المتن كما قالوه فِي المدرج سواء، وَقَدْ سماه بعض منْ تقدّم مقلوبا، قَالَ عياض: هكذا فِي جميع النسخ التي وصلت إلينا منْ "صحيح مسلم"، وهو مقلوب، والصواب الأول، وهو وجه الكلام؛ لأن السنة المعهودة فِي الصدقة إعطاؤها باليمين، وَقَدْ ترجم عليه البخاريّ فِي "الزكاة" - "باب الصدقة باليمين"، قَالَ: ويشبه أن يكون الوهم فيه ممن دون مسلم، بدليل قوله فِي رواية مالك، لَمّا أوردها عقب رواية عبد الله بن عمر، فَقَالَ بمثل حديث عبيد الله، فلو كانت بينهما مخالفة لبينها، كما نبه عَلَى الزيادة فِي قوله:"ورجل قلبه معلق بالمسجد، إذا خرج منه حَتَّى يعود إليه". انتهى.

قَالَ الحافظ: وليس الوهم فيه ممن دون مسلم، ولا منه، بل هو منْ شيخه، أو منْ شيخ شيخه يحيى القطّان، فإن مسلما أخرجه، عن زهير بن حرب، وابن نمير كلاهما عن يحيى، وأشعر سياقه بأن اللفظ لزهير، وكذا أخرجه أبو يعلى فِي "مسنده" عن زهير، وأخرجه الجوزقى فِي "مستخرجه" عن أبي حامد بن الشرقي، عن عبد الرحمن ابن بشر بن الحكم، عن يحيى القطّان كذلك، وعَقّبَه بأن قَالَ: سمعت أبا حامد بن الشرقي يقول: يحيى القطّان عندنا واهم فِي هَذَا، إنما هو:"حَتَّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه".

ص: 210

قَالَ الحافظ: والجزم بكون يحيى هو الواهم فيه نظر؛ لأن الإِمام أحمد، قد رواه عنه عَلَى الصواب، وكذلك أخرجه البخاريّ هنا، عن محمد بن بشار، وفي "الزكاة" عن مسدد، وكذا أخرجه الإسماعيلي، منْ طريق يعقوب الدَّوْرقي، وحفص بن عمر، وكلهم عن يحيى، وكأن أبا حامد لَمّا رأى عبد الرحمن، قد تابع زهيرا، ترجح عنده أن الوهم منْ يحيى، وهو محتمل بأن يكون منه لَمّا حدث به هذين خاصة، مع احتمال أن يكون الوهم منهما تواردا عليه.

وَقَدْ تكلف بعض المتأخرين توجيه هذه الرواية المقلوبة، وليس بجيد؛ لأن المخرج مُتّحد، ولم يختلف فيه عَلَى عبيد الله بن عمر، شيخ يحيى فيه، ولا عَلَى شيخه خبيب، ولا عَلَى مالك رفيق عبيد الله بن عمر فيه.

وأما استدلال عياض عَلَى أن الوهم فيه ممن دون مسلم بقوله فِي رواية مالك: مثل عبيد الله، فقد عكسه غيره، فواخذ مسلما بقوله: مثل عبيد الله؛ لكونهما ليستا متساويتين، والذي يظهر أن مسلما لا يقصر لفظ المثل عَلَى المساوى فِي جميع اللفظ والترتيب، بل هو فِي المعظم، إذا تساويا فِي المعنى، والمعنى المقصود منْ هَذَا الموضع، إنما هو إخفاء الصدقة. والله أعلم. انتهى "فتح" 2/ 365. "كتاب الأذان" وهو بحث نفيس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌3 - (الإِصَابَةُ فِي الْحُكْمِ)

أي باب ذكر الْحَدِيث الدّالّ عَلَى فضل الإصابة فِي الحكم.

و"الحكم" -بضمّ، فسكون: القضاء، وأصله: المنع، يقال: حكمتُ عليه بكذا: إذا منعته منْ خلافه، فلم يَقدِر عَلَى الخروج منْ ذلك، وحكمتُ بين القوم: فصلت بينهم، فأنا حاكمن، وحَكَم -بفتحتين-، والجمع: حُكّام، وحُكّامون. أفاده فِي "المصباح".

وَقَالَ فِي "الفتح" 15/ 3: الحكم الشرعيّ عند الأصوليين: خطاب الله تعالى المتعلّق بأفعال المكلّفين بالاقتضاء، أو التخيير، ومادّة الحكم منْ الإِحكام، وهو الإتقان للشيء، ومنعه منْ العيب. انتهى.

ص: 211

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: آثر المصنّف رحمه الله تعالى فِي هذه الترجمة الإصابة فِي الحكم فقط؛ لأنها التي لها ثبت الأجر، بخلاف الخطإ، فإنه لا أجر فيه، وإنما الأجر فِي الاجتهاد، وَقَدْ ترجم الإِمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" بما يشمل الحالين، نظرًا لكون الخطإ مغفورًا، فَقَالَ:"باب أجر الحاكم، إذا اجتهد فأصاب، أو أخطأ":

قَالَ فِي "الفتح" 15/ 257 - 258: يشير به إلى أنه لا يلزم منْ رد حكمه، أو فتواه إذا اجتهد فأخطأ، أن يأثم بذلك، بل إذا بذل وسعه أُجِر، فإن أصاب ضوعف أجره، لكن لو أقدم فحكم، أو أفتى بغير علم، لحقه الإثم، كما تقدمت الإشارة إليه، قَالَ ابن المنذر: وإنما يؤجر الحاكم إذا أخطأ، إذا كَانَ عالما بالاجتهاد فاجتهد، وأما إذا لم يكن عالما فلا، واستدل بحديث:"القضاة ثلاثة" وفيه: "وقاض قضى بغير حق فهو فِي النار، وقاض قضى، وهو لا يعلم فهو فِي النار"، وهو حديث أخرجه أصحاب "السنن"، عن بريدة رضي الله عنه بألفاظ مختلفة، قَالَ الحافظ: وَقَدْ جمعت طرقه فِي جزء مفرد، ويؤيد حديث الباب ما وقع فِي قصة سليمان فِي حكم داود عليهما الصلاة والسلام فِي أصحاب الحرث.

وَقَالَ الخطّابيّ فِي "معالم السنن": إنما يؤجر المجتهد إذا كَانَ جامعا لآلة الاجتهاد، فهو الذي نعذره بالخطإ، بخلاف المتكلف فيخاف عليه الإثم، وإنما يؤجر العالم؛ لأن اجتهاده فِي طلب الحق عبادة، هَذَا إذا أصاب، وأما إذا أخطأ فلا يؤجر عَلَى الخطإ، بل يوضع عنه الإثم فقط، كذا قَالَ، وكأنه يرى أن قوله:"فله أجر واحد" مجاز عن وضع الإثم. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.

5383 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

مَعْمَرٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ، فَاجْتَهَدَ، فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ، فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ").

1 -

(إسحاق بن منصور) الكوسج المروزيّ، ثقة ثبت [11] 72/ 88.

2 -

(عبد الرّزّاق) بن همّام الصنعانيّ، ثقة حافظ، عمي فِي آخره، فتغير حفظه، وكان يتشيّع [9] 61/ 77.

3 -

(معمر) بن راشد، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقة ثبت [7] 10/ 10.

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 212

4 -

(سفيان) بن سعيد الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة ثبت [7] 33/ 37.

5 -

(يحيى بن سعيد) بن قيس الأنصاريّ المدنيّ القاضي الفقيه، ثقة ثبت [5] 22/ 23.

6 -

(أبو بَكْرٍ بن مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْن حَزْمٍ) الأنصاريّ النجّاريّ المدنيّ القاضي، اسمه كنيته، وقيل: غير ذلك، ثقة عابد [5] 118/ 163.

[تنبيه]: وقع فِي نسخ "المجتبى": "أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم" بإسقاط لفظة "ابن" بين "أبي بكر" وبين "محمد"، وهو غلط، والصواب إثباتها، وَقَدْ أُلحقت فِي النسخة الهنديّة بخط مغاير لخطّ الأصل، وهو الصواب، كما ذكرناه آنفًا. والله تعالى أعلم.

7 -

(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الفقيه المدنيّ، ثقة ثبت [3] 1/ 1.

8 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ ثمانيّات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين منْ يحيى بن سعيد. (ومنها): أن فيه ثلاثة منْ ثقات التابعين المدنيّين، يروي بعضهم عن بعض: يحيى، عن أبي بكر، عن أبي سلمة، وفيه أبو بكر، وأبو سلمة، وأبو هريرة ممن اشتهر بكنيته، حَتَّى قيل فِي الأولين، لا اسم لهما غير الكنية، وفيه أبو سلمة أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة عَلَى بعض الأقوال، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أكثر منْ رَوَى الْحَدِيث فِي دهره، رَوَى (5374) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ) أي أراد أن يحكم.

قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: كذا وقع هَذَا اللفظ فِي "كتاب مسلم": "إذا حكم، فاجتهد"، فبدأ بالحكم قبل الاجتهاد، والأمر بالعكس، فإن الاجتهاد مقدّم عَلَى الحكم؛ إذ لا يجوز الحكم قبل الاجتهاد بالإجماع، ووجه مساق هَذَا اللفظ أن قوله:"إذا حكم": معناه: إذا أراد أن يحكم، فعند ذلك يجتهد فِي النازلة، وُيفيد هَذَا صحّة ما قاله الأصوليّون: إن المجتهد يجب عليه أن يُجدّد نظرًا عند وقوع النازلة، ولا يعتمد عَلَى اجتهاده المتقدّم؛ لإمكان أن يظهر له ثانيًا خلاف ما ظهر له أوّلاً، اللَّهمّ إلا أن

ص: 213

يكون ذاكرًا لأركان اجتهاده، مائلاً إليه، فلا يحتاج إلى استئناف نظر فِي إمارة أخرى. انتهى. "المفهم" 5/ 166 - 167.

وَقَالَ فِي "الفتح" 15/ 258 بعد أن ذكر كلام القرطبيّ: ويحتمل أن تكون الفاء تفسريّة، لا تعقيبيّةً. انتهى.

(فَاجْتَهَدَ) أي بذل وسعه وطاقته فِي طلب الحقّ؛ ليبلغ مجهوده، ويَصِل إلى نهايته، والجهد بالضمّ فِي الحجاز، وبالفتح فِي غيرهم: الوسع والطاقة. وقيل: المضموم: الطاقة، والمفتوح المشقّة، والجهد بالفتح، لا غير: النهاية، والغاية، وهو مصدرٌ منْ جهد فِي الأمر جَهْدًا، منْ باب نفع: إذا طلب حَتَّى بلغ غايته فِي الطلب، وجهده الأمرُ والمرضُ جهدًا أيضًا: إذا بلغ منه المشقّة. قاله الفيّوميّ. (فَأَصَابَ) أي صادف ما فِي نفس الأمر منْ حكمِ الله تعالى، يقال: أصاب بغيته إصابةً: نالها، وأصاب السهمُ إصابةً: وصل الغرَض، وفيه لغتان أُخريان: إحداهما: صابه صوبًا، منْ باب قَالَ، والثانية: يصيبه صَيْبًا، منْ باب باع. (فَلَهُ أَجْرَانِ) أي أجر الاجتهاد، وأجر الإصابة (وَإِذَا اجْتَهَدَ، فَأَخْطَأَ) أي ظنّ أن الحقّ فِي جهة، فصادف أن الذي فِي نفس الأمر بخلاف ذلك (فَلَهُ أَجْرٌ) أي أجر اجتهاده فقط. وَقَالَ القرطبيّ: قوله: "فأصاب": أي حكم، فأصاب وجه الحكم، وهو أن يحكم بالحقّ لمستحقّه فِي نفس الأمر عند الله تعالى، فهذا يكون له أجر بحسب اجتهاده، وأجر بسبب إصابة ما هو المقصود لنفسه، والخطأ الذي يناقض هَذَا هو أن يجتهد فِي حجج الخصمين، فيظنّ أن الحق لأحدهما، وذلك بحسب ما سمع منْ كلامه وحجته، فيقضي له، وليس كذلك عند الله تعالى، فهذا له أجر اجتهاده خاصّةً؛ إذ لا إصابة، وهذا المعنى هو الذي أراده النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"فلعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته منْ بعض، فأقضي له عَلَى حسب ما أسمع"، وفي الأخرى:"فأحسب أنه صادق، فأقضي له"، وهذا فِي الحاكم بين الخصوم واضحٌ؛ لأن هناك حقّا معيّنًا عند الله تعالى، تنازعه الخصمان؛ لأن أحد الخصمين مُبطلٌ قطعًا؛ لأنهما تقاسما الصدق والكذب، فمتى صدق أحدهما كذب الآخر، والحاكم إنما يجتهد فِي تعيين الحقّ، فقد يصيبه، وَقَدْ يُخطئه، وعلى هَذَا فلا ينبغي أن يُختَلَف هنا فِي أن المصيب واحدٌ، وأن الحق فِي طرف واحد، وإنما ينبغي أن يختصّ الخلاف بالمجتهد فِي استخراج الأحكام منْ أدلّة الشريعة؛ بناءً عَلَى الخلاف فِي أن النوازل غير المنصوص عليها، هل لله تعالى فيها أحكام معيّنة، أم لا؟، وللمسألة غور، وفيها أبحاث، استوفيناها فِي كتابنا فِي الأصول. انتهى كلام القرطبيّ "المفهم" 5/ 167.

[تنبيه]: ذُكر لحديث الباب سببٌ، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله

ص: 214

تعالى عنهما، عن أبيه، قَالَ: جاء رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يختصمان، فَقَالَ لعمرو:"اقض بينهما يا عمرو"، قَالَ: أنت أولى بذلك مني يا رسول الله، قَالَ:"وإن كَانَ"، قَالَ:"فإذا قضيتُ بينهما فمالي"، فذكر نحوه، لكن قَالَ فِي الإصابة:"فلك عشر حسنات"، وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه نحوه بغير قصة بلفظ:"فلك عشرة أجور"، وفي سند كل منهما ضعف. أفاده فِي "الفتح" 15/ 258. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -3/ 5383 - وفي "الكبرى" 3/ 5920. وأخرجه (خ) فِي "الاعتصام بالكتاب والسنّة" 7352 (م) فِي "الأقضية" 1716 (د) فِي "الأقضية" 3574 و"الأدب" 4955 (ت) فِي "الأحكام" 1326 (ق) فِي "الأحكام" 2314 (أحمد) فِي "مسند الشاميين" 17320 و17360. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان فضل الإصابة فِي الحكم، وهو أنه يستحقّ أجرين، أجرًا عَلَى اجتهاده، وأجرًا عَلَى إصابته الحقّ. (ومنها): ما قاله النوويّ فِي "شرح مسلم" 12/ 14: قَالَ العلماء: أجمع المسلمون عَلَى أن هَذَا الْحَدِيث فِي حاكم عالم أهل للحكم، فإن أصاب فله أجر باجتهاده، وأجر بإصابته، وإن أخطأ فله أجر باجتهاده، وفي الْحَدِيث محذوف، تقديره: إذا أراد الحاكم فاجتهد، قالوا فأما منْ ليس بأهل للحكم، فلا يحل له الحكم، فإن حكم فلا أجر له، بل هو آثم، ولا ينفذ حكمه، سواء وافق الحق أم لا؛ لأن إصابته اتفاقيّة، ليست صادرة عن أصل شرعي، فهو عاص فِي جميع أحكامه، سواء وافق الصواب أم لا، وهي مردودة كلها، ولا يُعذَر فِي شيء منْ ذلك، وَقَدْ جاء فِي الْحَدِيث فِي "السنن":"القضاة ثلاثة: قاض فِي الجنة، واثنان فِي النار: قاض عرف الحق، فقضى به، فهو فِي الجنة، وقاض عرف الحق فقضى بخلافه، فهو فِي النار، وقاض قضى عَلَى جهل، فهو فِي النار".

(ومنها): ما قَالَ ابن العربيّ رحمه الله تعالى: عندي فِي هَذَا الْحَدِيث فائدة زائدة حاموا عليها، فلم يسقوا، وهي: أن الأجر عَلَى العمل القاصر عَلَى العامل واحد، والأجر عَلَى العمل المتعدي يضاعف، فإنه يؤجر فِي نفسه، وينجر له كل ما يتعلق بغيره

ص: 215

منْ جنسه، فإذا قضى بالحق، وأعطاه لمستحقه، ثبت له أجر اجتهاده، وجرى له مثل أجر مستحق الحق، فلو كَانَ أحد الخصمين ألحن بحجته منْ الآخر، فقضى له والحق فِي نفس الأمر لغيره، كَانَ له أجر الاجتهاد فقط، ولا يؤاخذ بإعطاء الحق لغير مستحقه؛ لأنه لم يتعمد ذلك، بل وزر المحكوم له قاصر عليه، ولا يخفى أن محل ذلك أن يبذل وسعه فِي الاجتهاد، وهو منْ أهله، وإلا فقد يلحق به الوزر، إن أخَلّ بذلك. انتهى كلام ابن العربيّ بزيادة منْ كلام الحافظ فِي "الفتح"260. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي بيان شروط المجتهد:

قَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى: يشترط فِي القاضي ثلاثة شروط: [أحدها]: الكمال وهو نوعان: كمال الأحكام، وكمال الخلقة:

أما كمال الأحكام فيعتبر فِي أربعة أشياء: أن يكون بالغا عاقلا حرا ذكرا، وحكي عن ابن جرير أنه لا تشترط الذكورية، لأن المرأة يجوز أن تكون مفتية، فيجوز أن تكون قاضية، وَقَالَ أبو حنيفة: يجوز أن تكون قاضية فِي غير الحدود؛ لأنه يجوز أن تكون شاهدة فيه، ولنا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما أفلح قوم وَلَّوا أمرهم امرأة"، ولأن القاضي يحضره محافل الخصوم والرجال، ويحتاج فيه إلى كمال الرأي، وتمام العقل والفطنة، والمرأة ناقصة العقل قليلة الرأي، ليست أهلا للحضور فِي محافل الرجال، ولا تقبل شهادتها، ولو كَانَ معها ألف امرأة مثلها، ما لم يكن معهن رجل، وَقَدْ نبه الله تعالى عَلَى ضلالهن ونسيانهن، بقوله تعالى:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] ولا تصلح للإمامة العظمى، ولا لتولية البلدان، ولهذا لم يُوَلّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا أحد منْ خلفائه، ولا منْ بعدهم امرأة قضاء، ولا ولاية بلد فيما بلغنا، ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالبا.

وأما كمال الخلقة: فأن يكون متكلما، سميعا، بصيرًا؛ لأن الأخرس لا يمكنه النطق بالحكم، ولا يفهم جميع النَّاس إشارته، والأصم لا يسمع قول الخصمين، والأعمى لا يعرف المدعي منْ المدعى عليه، والمقر له منْ المقر، والشاهد منْ المشهود له. وَقَالَ بعض أصحاب الشافعيّ: يجوز أن يكون أعمى؛ لأن شعيبا عليه السلام كَانَ أعمى، ولهم فِي الأخرس الذي تفهم إشارته وجهان. ولنا أن هذه الحواس تؤثر فِي الشهادة، فيمنع فقدها ولاية القضاء كالسمع، وهذا لأن منصب الشهادة دون منصب القضاء، والشاهد يشهد فِي أشياء يسيرة، يحتاج إليها فيها، وربما أحاط بحقيقة علمها، والقاضي ولايته عامة، ويحكم فِي قضايا النَّاس عامة، فإذا لم يقبل منه الشهادة، فالقضاء أولى، وما

ص: 216

ذكروه عن شعيب عليه السلام فلا نسلم فيه فإنه لم يثبت أنه كَانَ أعمى، ولو ثبت فيه ذلك، فلا يلزم هاهنا، فإن شعيبا عليه السلام كَانَ منْ آمن معه منْ النَّاس قليلاً، وربما لا يحتاجون إلى حكم بينهم؛ لقلتهم، وتناصفهم فلا يكون حجة فِي مسألتنا.

[الشرط الثاني]: العدالة فلا يجوز تولية فاسق، ولا منْ فيه نقص يمنع الشهادة، وحُكي عن الأصم أنه قَالَ: يجوز أن يكون القاضي فاسقا؛ لما رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: "سيكون بعدي أمراء، يؤخرون الصلاة عن أوقاتها، فصلوها لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم سبحة".

ولنا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، فأمر بالتبين عند قول الفاسق، ولا يجوز أن يكون الحاكم ممن لا يقبل قوله، ويجب التبين عند حكمه، ولأن الفاسق لا يجوز أن يكون شاهدا، فلئلا يكون قاضيا أولى، فأما الخبر فأخبر بوقوع كونهم أمراء، لا بمشروعيته، والنزاع فِي صحة توليته، لا فِي وجودها.

[الشرط الثالث]: أن يكون منْ أهل الاجتهاد، وبهذا قَالَ مالك، والشافعي، وبعض الحنفية، وَقَالَ بعضهم: يجوز أن يكون عاميا، فيحكم بالتقليد؛ لأن الغرض منه فصل الخصائم، فإذا أمكنه ذلك بالتقليد جاز، كما يحكم بقول المقوِّمين. ولنا قول الله تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ولم يقل بالتقليد، وَقَالَ:{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النِّساء: 105]، وَقَالَ:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النِّساء: 59]، ورَوَى بُريدة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:"القضاة ثلاثة: اثنان فِي النار، وواحد فِي الجنة: رجل علم الحق فقضى به فهو فِي الجنة، ورجل قضى للناس عَلَى جهل فهو فِي النار، ورجل جار فِي الحكم فهو فِي النار"، حديث صحيحٌ، رواه أبو داود، وابن ماجه، والعامي يقضي عَلَى جهل، ولأن الحكم آكد منْ الفتيا؛ لأنه فتيا وإلزام، ثم المفتي لا يجوز أن يكون عاميا مقلدا فالحكم أولى.

[فإن قيل]: فالمفتي يجوز أن يخبر بما سمع. [قلنا]: نعم إلا أنه لا يكون مفتيا فِي تلك الحال، وإنما هو مخبر، فيحتاج أن يخبر عن رجل بعينه، منْ أهل الاجتهاد، فيكون معمولا بخبره، لا بفتياه، ويخالف قول معرفته المقولين؛ لأن ذلك لا يمكن الحاكم معرفته بنفسه، بخلاف الحكم.

إذا ثبت هَذَا فمن شرط الاجتهاد معرفة ستة أشياء: الكتاب، والسنة، والإجماع، والاختلاف، والقياس، ولسان العرب:

أما الكتاب فيحتاج أن يعرف منه عشر أشياء: الخاص والعام، والمطلق والمقيد،

ص: 217

والمحكم والمتشابه، والمجمل والمفسر، والناسخ والمنسوخ، فِي الآيات المتعلقة بالأحكام، وذلك نحو خمسمائة، ولا يلزمه معرفة سائر القرآن. أما السنة فيحتاج إلى معرفته ما يتعلق منها بالأحكام، دون سائر الأخبار، منْ ذكر الجنة والنار والرقائق، ويحتاج أن يعرف منها ما يعرف منْ الكتاب، ويزيد معرفة التواتر والآحاد، والمرسل والمتصل، والمسند والمنقطع، والصحيح والضعيف، ويحتاج إلى معرفة ما أُجمع عليه وما اختُلف فيه، ومعرفة القياس وشروطه، وأنواعه، وكيفية استنباطه الأحكام، ومعرفة لسان العرب فيما يتعلق بما ذكرنا؛ ليتعرف به استنباط الأحكام منْ أصناف علوم الكتاب والسنة، وَقَدْ نص أحمد عَلَى اشتراط ذلك للفتيا والحكم فِي معناه.

[فإن قيل]: هذه شروط لا تجتمع فكيف يجوز اشتراطها؟. [قلنا]: ليس منْ شرطه أن يكون محيطا بهذه العلوم إحاطة تجمع أقصاها، وإنما يحتاج إلى أن يعرف منْ ذلك ما يتعلق بالأحكام، منْ الكتاب والسنة ولسان العرب، ولا أن يحيط بجميع الأخبار الواردة فِي هَذَا، فقد كَانَ أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما خليفتا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووزيراه، وخير النَّاس بعده فِي حال إمامتهما يُسألان عن الحكم فلا يعرفان ما فيه منْ السنة، يَسألا النَّاس فيُخْبَران، فسئل أبو بكر عن ميراث الجدة، فَقَالَ مالك فِي كتاب الله شيء، ولا أعلم لك فِي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، ولكن ارجعي حَتَّى أسأل النَّاس، ثم قام، فَقَالَ: أنشد الله منْ يعلم قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي الجدة، فقام المغيرة بن شعبة، فَقَالَ: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس. وسأل عمر عن إملاص المرأة، فأخبره المغيرة بن شعبة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة. ولا يشترط معرفة المسائل التي فرعها المجتهدون فِي كتبهم، فإن هذه فروع فَرّعها الفقهاء بعد حيازة منصب الاجتهاد، فلا تكون شرطا له، وهو سابق عليها، وليس منْ شرط الاجتهاد فِي مسألة أن يكون مجتهدا فِي كل المسائل، بل منْ عرف أدلة مسألة، وما يتعلق بها فهو مجتهد فيها، وإن جهل غيرها كمن يعرف الفرائض وأصولها، ليس منْ شرط اجتهاده فيها معرفته بالبيع، ولذلك ما منْ إمام إلا وَقَدْ توقف فِي مسائل، وقيل: منْ يجيب فِي كل مسألة فهو مجنون، وإذا ترك العالم "لا أدري" أصيبت مقاتله. وحُكي أن مالكا سئل عن أربعين مسألة، فَقَالَ فِي ست وثلاثين منها: لا أدري، ولم يُخرِجه ذلك عن كونه مجتهدا، وإنما المعتبر أصول هذه الأمور، وهو مجموع مدون فِي فروع الفقه وأصوله، فمن عرف ذلك، ورزق فهمه، كَانَ مجتهدا، له الفتيا، وولاية الحكم إذا وليه، والله أعلم. انتهى "المغني" 14/ 12 - 16 وهو بحث نفيس جدًّا. والله تعالى أعلم.

ص: 218

قَالَ الشوكانيّ رحمه الله تعالى: قَالَ أبو عليّ الكرابيسي، صاحب الشافعيّ، فِي "كتاب أدب القضاء" له: لا أعلم بين العلماء ممن سلف خلافا، أن أحق النَّاس أن يقضي بين المسلمين منْ بان فضله، وصدقه، وعلمه، وورعه، وأن يكون عارفا بكتاب الله، عالما بأكثر أحكامه، عالما بسنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حافظا لأكثرها، وكذا أقوال الصحابة، عالما بالوفاق والخلاف، وأقوال فقهاء التابعين، يَعرف الصحيح منْ السقيم يتتبع النوازل منْ الكتاب، فإن لم يجد ففي السنة، فإن لم يجد عَمِل بما اتفق عليه الصحابة، فإن اختلفوا فما وجده أشبه بالقرآن، ثم بالسنة، ثم بفتوى أكابر الصحابة عمل به، ويكون كثير المذاكرة مع أهل العلم، والمشاورة لهم، مع فضل، وورع، ويكون حافظا للسانه ونطقه وفرجه، فهما لكلام الخصوم، ثم لابد أن يكون عاقلا، مائلا عن الهوى، ثم قَالَ: وهذا وإن كنا نعلم أنه ليس عَلَى وجه الأرض أحد يجمع هذه الصفات، ولكن يجب أن يُطلب منْ أهل كل زمان أكملهم وأفضلهم. وَقَالَ المهلب: لا يكفي فِي استحباب القضاء أن يرى نفسه أهلا لذلك، بل أن يراه النَّاس أهلا له. وَقَالَ ابن حبيب، عن مالك: لابد أن يكون القاضي عالما عاقلا، قَالَ ابن حبيب: فإن لم يكن عِلمٌ فعقل وورع؛ لأنه بالورع يقف، وبالعقل يسأل، وهو إذا طلب العلم وجده، فإذا طلب العقل لم يجده. انتهى.

وتعقّبه الشوكانيّ، قائلاً: ماذا يصنع الجاهل العاقل عند ورود مشكلات المسائل، وغاية ما يفيده العقل التوقف عند كل خصومة ترد عليه، وملازمة سؤال أهل العلم عنها، والأخذ بأقوالهم، مع عدم المعرفة لحقها منْ باطلها، وما بهذا أمر الله عباده، فإنه أمر الحاكم أن يحكم بالحق، وبالعدل، وبالقسط، وبما أنزل، ومن أين لمثل هَذَا العاقل العاطل عن حلية الدلائل، أن يعرف حقية هذه الأمور؟ بل منْ أين له أن يتعقل الحجة إذا جاءته منْ كتاب أو سنة، حَتَّى يحكم بمدلولها؟ ثم قد عُرف اختلاف طبقات أهل العلم فِي الكمال والقصور، والإنصاف والاعتساف، والتثبت والاستعجال، والطيش والوقار، والتعويل عَلَى الدليل، والقنوع بالتقليد، فمن أين لهذا الجاهل العاقل معرفة العالي منْ السافل، حَتَّى يأخذ عنه أحكامه، وينيط به حَلَّه وإبرامه؟ فهذا شيء لا يُعرف بالعقل، باتفاق العقلاء، فما حالُ هَذَا القاضي إلا كحال منْ قَالَ فيه منْ قَالَ:

كَبَهِيمَةٍ عَمْيَاءَ قَادَ زِمَامَهَا

أَعْمَى عَلَى عِوَجِ الطَّرِيقَ الْحَائِرِ

انتهى "نيل الأوطار" 8/ 276 - 277. وهو تحقيق حسن جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي هل كلّ مجتهد مصيبٌ؟:

ص: 219

قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى فِي "شرح مسلم" 12/ 14: اختلف العلماء فِي أن كل مجتهد مصيب أم المصيب واحد؟ وهو منْ وافق الحكم الذي عند الله تعالى، والآخر مخطىء، لا إثم عليه؛ لعذره، والأصح عند الشافعيّ وأصحابه أن المصيب واحد، وَقَدْ احتجت الطائفتان بهذا الْحَدِيث، أما الأولون القائلون كل مجتهد مصيب، فقالوا: قد جُعِل للمجتهد أجرٌ، فلولا إصابته لم يكن له أجر، وأما الآخرون، فقالوا سماه مخطئا، ولو كَانَ مصيبا لم يسمه مخطئا، وأما الأجر فإنه حصل له عَلَى تعبه فِي الاجتهاد، قَالَ الأولون: إنما سماه مخطئا؛ لأنه محمول عَلَى منْ أخطأ النص، أو اجتهد فيما لا يسوغ فيه الاجتهاد، كالمجمع عليه وغيره، وهذا الاختلاف إنما هو فِي الاجتهاد فِي الفروع، فأما أصول التوحيد فالمصيب فيها واحد، بإجماع منْ يُعْتَدّ به، ولم يخالف إلا عبد الله ابن الحسن العنبريّ، وداود الظاهري، فصوبا المجتهدين فِي ذلك أيضًا، قَالَ العلماء: الظاهر أنهما أراد المجتهدين منْ المسلمين، دون الكفار. والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى.

وَقَالَ أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: تعلق بهذا الْحَدِيث منْ قَالَ: إن الحق فِي جهة واحدة؛ للتصريح بتخطئة واحد لا بعينه، قَالَ: وهي نازلة فِي الخلاف عظيمة. وَقَالَ المازري رحمه الله تعالى: تمسك به كل منْ الطائفتين: منْ قَالَ: إن الحق فِي طرفين، ومن قَالَ: إن كل مجتهد مصيب، أما الأولى: فلأنه لو كَانَ كل مصيبا، لم يطلق عَلَى أحدهما الخطأ؛ لاستحالة النقيضين فِي حالة واحدة، وأما المصوبة، فاحتجوا بأنه صلى الله عليه وسلم، جعل له أجرًا، فلو كَانَ لم يصب لم يؤجر، وأجابوا عن إطلاق الخطإ فِي الخبر عَلَى مَن ذَهِل عن النص، أو اجتهد فيما لا يسوغ الاجتهاد فيه، منْ القطعيات فيما خالف الإجماع، فإن مثل هَذَا إن اتفق له الخطأ فيه فُسخ حكمه وفتواه، ولو اجتهد بالإجماع، وهو الذي يصح عليه إطلاق الخطأ، وأما منْ اجتهد فِي قضية، ليس فيها نص، ولا إجماع، فلا يطلق عليه الخطأ، وأطال المازري فِي تقرير ذلك، والانتصار له، وختم كلامه بأن قَالَ: إن منْ قَالَ: إن الحق فِي طرفين، هو قول أكثر أهل التحقيق، منْ الفقهاء، والمتكلمين، وهو مروي عن الأئمة الأربعة، وإن حُكي عن كل منهم اختلاف فيه.

قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: والمعروف عن الشافعيّ رحمه الله تعالى الأول. انتهى "فتح" 15/ 259.

وإلى هذه المسألة أشار السيوطيّ رحمه الله تعالى فِي "الكوكب الساطع"، حيث قَالَ:

ص: 220

وَاحِدٌ الْمُصِيبُ فِي أَحْكَامِ

عَقْلِيَّةٍ وَمُنْكِرُ الإِسْلَامِ

مُخْطٍ أَثِيمٌ كَافِرٌ لَمْ يُعْذَرِ

وَقَدْ رَأَى الْجَاحِظُ ثُمَّ الْعَنْبَرِي

لَا إِثْمَ فِي الْعَقْلِيِّ ثُمَّ الْمُنْتَقَى

إِنْ يَكُ مُسْلِمًا وَقِيلَ مُطْلَقَا

وَقِيلَ زَادَ الْعَنْبَرِي كُلٌّ مُصِيبْ

وَفِي الَّتِي لَا قَاطِعٌ فِيهَا مُصِيبْ

كُلٌّ لِذِي صَاحِبَيِ النُّعْمَانِ

وَالْبَازِ وَالشَّيْخِ وَبَاقِلَّانِي

فَذَانِ قَالَا إِنَّ حُكْمَ اللَّهِ

تَابِعُ ظَنِّهِ بِلَا اشْتِبَاهِ

وَالأَوَّلُونَ ثَمَّ أَمْرٌ لَوْ حَكَمْ

كَانَ بِهِ مَنْ لَمْ يُصَادِفْهُ اتَّسَمْ

أَصَابَ لَا حُكْمًا وَلَا انْتِهَاءَ

بَلِ اجْتِهَادًا فِيهِ وَابْتِدَاءَ

وَالأَكْثَرُونَ وَاحِدٌ وَفِيهِ

لِلَّهِ حُكْمٌ قَبْلَهُ عَلَيْهِ

أَمَارَةٌ وَقِيلَ لَا وَالْمُعْتَمَدْ

كُلَّفَ أَنْ يُصِيبَهُ مَنِ اجْتَهَدْ

وَأَنَّ مَنْ أَخْطَأَهُ لَا يَأْثَمُ

بَلْ أَجْرُهُ لِقَصْدِهِ مُنْحَتِمُ

وَفَرْدٌ الْمُصِيبُ بِالإِجْمَاعِ

مَعْ قَاطِعٍ وَقِيلَ بِالنِّزَاعِ

وَنَفْيُ إِثْمِ مُخْطِىءٍ ذُو الانْتِقَا

وَإِنْ يُقَصِّرْ فَعَلَيْهِ اتُّفِقَا

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح ما ذهب إليه الأكثرون، وهو ما دلّ عليه ظاهر الْحَدِيث منْ أن المصيب واحد، وأن الآخر المخطىء معذور مأجور بأجر واحد؛ لاجتهاده. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): فِي الاجتهاد، والمجتهد عَلَى ما ذُكر فِي كتب أصول الفقه:

الاجتهاد: لغةً بذل الجهد فيما فيه كُلْفة، وهو مأخوذ منْ جهاد النفس، وكدّها فِي طلب المراد، وفي الاصطلاح: بذل الفقيه الوسع لتحصيل ظنّ بحكم، قاله فِي "جمع الجوامع"، زاد ابن الحاجب: والمراد ببذل الوسع بذل تمام الطاقة فِي النظر فِي الأدلّة بحيث تُحسّ النفس بالعجز عن الزيادة، وإلى هَذَا التعريف أشار فِي "الكوكب الساطع" بقوله:

بّذْلُ الْفَقِيهِ الْوُسْعَ فِي تَحْصِيلِ

ظَنٍّ بِالاحْكَامِ مِنَ الدَّلِيلِ

فخرج بذل غير الفقيه، وبذل الفقيه لتحصيل قطع بحكم عقليّ. والمراد بالفقيه هنا المتهيّء للفقه مجازًا شائعًا، ويكون بما يُحصّله فقيهًا حقيقةً.

والمجتهد: هو الفقيه، وشرطوا له أن يكون بالغًا عاقلا، فقيه النفس: أي شديد

ص: 221

الفهم بالطبع لمقاصد الكلام، بحيث يكون له قدرة عَلَى التصرّف؛ لأن غيره لا يتأتى له الاستنباط المقصود بالاجتهاد، عارفًا بالدليل العقليّ، وهو البراءة الأصليّة، وبأنا مكلّفون بالتمسّك به ما لم يرد ناقل عنه، متوسّطًا فِي معرفة الآلات منْ اللغة،، والنحو إعرابًا وتصريفًا، وأصول الفقه، والمعاني، والبيان؛ لتوقّف الاستنباط عليها، وأن يعرف منْ الكتاب والسنّة ما يتعلّق بالأحكام، ولا يشترط حفظها، وَقَالَ السبكيّ: لا يكفي فِي المجتهد التوسط فِي العلوم المذكورة، بل لابدّ أن تكون هذه العلوم ملكة له، ويكون مع ذلك قد أحاط بمعظم قواعد الشرع، وما رسها بحيث اكتسب قوّةً، يفهم بها مقاصد الشرع، قَالَ: وأن يعرف مواقع الإجماع، كي لا يخرقه بالمخالفة، فخرقه حرام، وَقَالَ الشيخ وليّ الدين: ولا يشترط حفظها، بل يكفي معرفته بأن ما أفتى به ليس مخالفًا للإجماع، إما بأن يعلم موافقته لعالم، أو يظنّ أن تلك الواقعة حادثة لم يَسبق لأهل الأعصار المتقدّمة فيها كلام، وأن يعرف أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والأحاديث الصحيحة منْ الضعيفة، والمتواتر منْ الآحاد، وحال الرواة جرحًا وتعديلا، ومراتب الجرح والتعديل، ويكتفي فِي هَذَا وما قبله بالكتب المصنّفة فِي ذلك، والرجوع إلى أئمة هَذَا الشأن، ولا يشترط معرفة تفاريع الفقه، ولا معرفة علم الكلام، ولا الحرية، ولا الذكورة، قيل: ولا العدالة.

وبالجملة فالاجتهاد مرتبة صعبة المنال، عزيزة الإدراك، لا يناولها إلا منْ يسّر الله سبحانه وتعالى عليه أسبابها، ولا ينبغي أن يدّعيه كلّ منْ انتسب إلى العلم، بل الواجب عَلَى منْ لم يتّصف بصفة الاجتهاد أن يقف عند حدّه، وهو أن يسأل العلماء، كما قَالَ عز وجل:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] و [الأنبياء: 7]، ومع هَذَا فليس الاجتهاد محصورًا فِي فئة معيّنة، ولا فِي عصر معيّن، كما سيأتي تحقيقه قريبًا، إن شاء الله تعالى، وإلى ما تقدّم منْ شروط المجتهد أشار فِي "الكوكب الساطع" حيث قَالَ:

ثُمَّ الْفَقِيهُ اسْمٌ عَلَى الْمُجْتَهِدِ

الْبَالِغِ الْعَاقِلِ وَالْعَقْلَ احْدُدِ

مَلَكَةٌ يُدْرَكُ مَعْلُومٌ بِهَا

وَقِيلَ الادْرَاكُ وَقِيلَ مَا انْتَهَى

إِلَى الضَّرُورِيَّ فَقِيهُ النَّفْسِ لَوْ

يَنْفِي الْقِيَاسَ لَوْ جَلِيًّا قَدْ رَأَوْا

يَدْرِي دَلِيلَ الْعَقْلِ وَالتَّكْلِيفَ بِهْ

حَلَّ مِنَ الآلَاتِ وُسْطَى رُتَبِهْ

مِنْ لُغَةٍ وَالنَّحْوِ وَالْمَعَانِي

وَمِنْ أَصُولِ الْفِقْهِ وَالْبَيَانِ

وَمِنْ كِتَابٍ وَالأَحَادِيثِ الَّتِي

تَخُصُّ الاحْكَامَ بِدُونِ حِفْظِ ذِي

ص: 222

وَحَقَّقَ السُّبْكِيُّ أَنَّ الْمُجْتَهِدْ

مَنْ هَذِهِ مَلَكَةٌ لَهُ وَقَدْ

أَحَاطَ بِالْمُعْظَمِ مِنْ قَوَاعِدِ

حَتَّى ارْتَقَى لِلْفَهْمِ لِلْمَقَاصِدِ

وَلْيُعْتَبَرْ قَالَ لِفِعْلِ الاجْتِهَادْ

لَا كَوْنِهِ وَصْفًا غَدَا فِي الشَّخْصِ بَادْ

أَنْ يَعْرِفَ الإجْمَاع كَيْ لَا يَخْرِقَهْ

وَسَبَبَ النُّزُولِ قُلْتُ أَطْلَقَهْ

وَنَاسِخَ الْكُلِّ وَمَنْسُوخًا وَمَا

صُحِّحَ وَالآحَادَ مَعْ ضِدِّهِمَا

وَحَالَ رَاوِي سُنَّةٍ وَنَكْتَفِي

الآنَ بِالرُّجُوعِ لِلْمصَنَّفِ

لَا الْفِقْهُ وَالْكَلَامُ وَالْحُرِّيَّةُ

وَلَا الذُّكُورَةُ وَلَا الْعَدَالَةُ

وَالْبَحْثَ عَنْ مُعَارِضٍ فَلْيَقْتَفِي

وَاللَّفْظِ هَلْ مَعْهُ قَرِينَةٌ تَفِي

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): فِي تقسيمهم المجتهد إلى قسمين:

قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: المجتهد ضربان:

[أحدهما]: المجتهد المطلق، وهو المستقلّ باستنباط الأحكام منْ أدلّتها، فهذا لا شكّ فِي أنه مجتهد مأجور، كما قدّمناه، لكنه يعِزّ وجوده، بل قد انعدم فِي هذه الأزمان، فلو لم ينفذ إلا حكم منْ كَانَ كذلك، لتعطّلت الأحكام، وضاعت الحقوق. [وثانيهما]: مجتهد فِي مذهب إمام، وهذا غالب قُضاة العدل فِي هَذَا الزمان، وشرط هَذَا أن يُحقّق أصول إمامه، وأدلّته، ويُنزل أحكامه عليها فيما لم يجده منصوصًا منْ مذهبه، وأما ما وجده منصوصًا، فإن لم يختلف قول إمامه عمل عَلَى ذلك النصّ، وَقَدْ كُفي مؤنة البحث، والأولى به تعرّف وجه ذلك الحكم.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا التعرّف ليس بأولى، وإنما الأولى بل الواجب عليه ما دام أهلاً للنظر فِي الأدلّة أن ينظر فيها حَتَّى يظهر له وجه الحكم، فلا يجوز له أن يكتفي بمجرّد التقليد، فتبصّر. والله تعالى أعلم.

قَالَ: وأما إذا اختلف قول إمامه، فهناك يجب عليه البحث فِي تعيين الأولى منْ القولين عَلَى أصول إمامه، واختلف أصحابنا فيمن يحفظ أقوالَ إمامه فقط، هل يصلح للحكم عند الضرورة أو لا؟ عَلَى قولين، فمن أجاز شرط فيه أنه لا يخرج عن نصوص إمامه، أو نصوص منْ فهم عن إمامه، فإذا تعارض عنده الأقوال لم يحكم بشيء منه أصلاً حَتَّى يسأل عن الأرجح منْ له أهليّة الترجيح، ولا يحكم بنظره أصلاً، إذ لا نظر له، ومتى فعل شيئًا منْ ذلك كَانَ حكمه منقوضًا، وقوله مردودًا. وَقَدْ كَانَ أهل الأندلس يرجّحون الأقوال بالناقلين لها منْ غير نظر فِي توجيه شيء منها، فيقولون: إن قول ابن

ص: 223

القاسم، ونقله أولى منْ نقل غيره، وقوله: بناء عَلَى أن ابن القاسم اقتصر عَلَى مالك، ولم يتفقّه بغيره، ولطول ملازمته له، فإن لم نجد لابن القاسم قولاً كَانَ قول أشهب أولى منْ قول ابن عبد الحكم؛ لأنه أخذ عن الشافعيّ، فخلّط، وهكذا، وَقَدْ بلغني أنهم كانوا بالأندلس يشترطون عَلَى القضاة فِي سجلّاتهم مراعاة ذلك الترتيب.

قَالَ القرطبيّ: وهذه رتبة لا أخسّ منها؛ إذ صاحبها معزول عن رتبة الفقهاء، ومنخرطٌ فِي زمرة الأغبياء، إذ لا يفهم معاني الأقوال، ولا يعرف فصل ما بين الحلال والحرام، فحقّ هَذَا ألا يتعاطى منصب الأحكام، فإنه منْ جملة العوامّ، والمشهور أنه لا يُستقضى مَن عرِي عن الاجتهاد المذكور، ولذلك قَالَ القاضي أبو محمد عبد الوهّاب: ولا يُستقضى إلا فقيه منْ أهل الاجتهاد، وهذا محمول عَلَى ما تقدّم. والله تعالى أعلم.

والاجتهاد المعنيّ فِي هَذَا الباب هو: بذل الوسع فِي طلب الحكم الشرعيّ فِي النوازل عَلَى ما قلناه. انتهى كلام القرطبيّ- "المفهم" 5/ 168 - 169.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي نقله القرطبيّ عن الأندلسيين قولٌ ظاهر البطلان، كما أشار إديه القرطبيّ فِي تعقّبه المذكور، فقد أجاد، وأحسن. والله تعالى أعلم.

وَقَدْ قسم النوويّ فِي "شرح المهذب" 1/ 75 - 77 المفتين إلى قسمين: مستقلّ، وغير مستقلّ، ثم ذكر شرط المستقلّ، وهو المجتهد المطلق، ثم قَالَ:[القسم الثاني]: المفتي الذي ليس بمستقلّ، ومن دهر طويل عُدم المفتي المستقلّ، وصارت الفتوى إلى المنتسبين إلى المذاهب المتبوعة، وللمفتي المنتسب أربعة أحوال:[أحدها]: أن لا يكون مقلّدًا لإمامه، لا فِي المذهب، ولا فِي دليله؛ لاتصافه بصفة المستقلّ، وإنما يُنسب إليه لسلوكه طريقه فِي الاجتهاد.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: يا للعجب ما فائدة عدّ مثل هَذَا منْ المنتسبين؟، أفما يحسن أن يقال: هو مجتهد مستقلّ، له آراؤه مثل الإِمام الذي تفقّه عليه، وتخرّج منْ مدرسته، فما المانع منْ هَذَا؟ حَتَّى يقال له: إنه منتسب إلى مذهب فلان، إن هَذَا لهو العجب العجاب.

ثم قَالَ: [الحالة الثانية]: أن يكون مجتهدًا مقيّداً فِي مذهب إمامه، مستقلاّ بتقرير أصوله بالدليل، غير أنه لا يتجاوز فِي أدلّته أصول إمامه وقواعده، وشرطه كونه عالمًا بالفقه وأصوله، وأدلّة الأحكام تفصيلاً، بصيرًا بمسالك الأقيسة والمعاني، تامّ الارتياض فِي التخريج والاستنباط، قيّمًا بإلحاق ما ليس منصوصًا عليه لإمامه بأصوله، ولا يَعرَى عن شوب تقليد له، لإخلاله ببعض أدوات المستقلّ، بأن يُخلّ بالحديث، أو العربيّة،

ص: 224

وكثيرًا ما أخلّ بهما المقيّد، ثم يتّخذ نصوص إمامه أصولاً يستنبط منها، كفعل المستقلّ بنصوص الشرع، وربّما اكتفى فِي الحكم بدليل إمامه، ولا يبحث عن معارض كفعل المستقلّ فِي النصوص، وهذه صفة أصحابنا أصحاب الوجوه إلى آخر كلامه.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله النوويّ فيه نظرٌ منْ وجوه:

[الأول]: قولهم: فقد المجتهد المستقلّ منْ دهر طويل قول لا برهان له، وهو نظير قول بعضهم: إن شرائط المجتهد التي ذكروها فِي هَذَا الباب لم توجد منذ أن نشأ الإِسلام إلى الآن إلا فِي الأئمة الأربعة، وهو كلام يكذّبه الواقع فِي كلّ عصر ومصر، فقد وُجد ممن يتّصف بمثل أوصافهم، كثيرون ممن عاصرهم، أو سبقهم، أو تأخر عنهم، وإنما ميزتهم أن أتباعهم أكثر منْ غيرهم.

[الثاني]: أن الشروط التي ذكرها النوويّ للمجتهد المقيّد هي الشروط المذكورة للمطلق إلا التي استثناها أخيرًا، وهي موجودة بكثرة فِي كثير منْ الأعصار عند كثير منْ أهل العلم.

[الثالث]: قوله: لا يتجاوز فِي أدلّته أصول إمامه قول لا يخفى فساده، فإن منْ كَانَ بهذه الرتبة لا يجوز له أن يقلّد أحدًا، دون شكّ، ولا ريب؛ لأن الله سبحانه وتعالى قَالَ فِي محكم كتابه:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] و [الأنبياء: 7] فقد قسم النَّاس إلى قسمين: عالم، وجاهل، فأما العالم فواجبه العمل بعلمه، لا بعلم غيره، وأما الجاهل فواجبه أن يسأل أهل العلم، فيعمل بما أفتوه به، وهذا الشخص الذي وصفه النوويّ بهذه الأوصاف العلية لا أحد ممن له وعيٌ يقول: إنه منْ القسم الثاني، فوجب كونه منْ القسم الأول، فلا يجوز له أن يقلّد أحدًا غيره، بل يجب عليه العمل بعلمه.

[الرابع]: أن هَذَا التقسيم الذي ذكروه للمجتهد ليس قولَ أحد منْ علماء السلف، لا الإِمام الشافعيّ، ولا غيره منْ الأئمة، بل كانوا ينهون تلاميذهم الذين جعلهم المتأخرون مجتهدين فِي المذهب، كالمزنيّ، وغيره أن يقلّدوهم، كما هو معروف فِي سيرهم، وتراجمهم رحمهم الله تعالى.

[الخامس]: أن هَذَا الكلام مناقض لما ثبت فِي أصول الفقه منْ تعريف التقليد بأنه الأخذ بقول الغير منْ غير معرفة دليله، فإن منْ الواضح أن منْ وصفه النوويّ بهذه الصفات قد عرف أدلّة إمامه منطوقها، ومفهومها، واستطاع أن يستخرج منْ منصوصها ما لم ينصّ عليه إمامه، فكيف يسمّى هَذَا مقلّدا، هيهات هيهات.

[السادس]: أن منْ توفّرت فيه هذه الصفات التي ذكرها النوويّ للمقيّد حسب زعمه

ص: 225

لو اجتهد بدراسة النصوص منْ الكتاب والسنة، مراعيًا ما يُراعيه فِي دراسة نصوص إمامه كما ذكره النوويّ فِي كلامه السابق، باذلاً جهده كلّ البذل، لاستطاع أن يستنبط الأحكام منها، بل الآيات القرآنيّة، والأحاديث النبويّة أسهل عَلَى مثله بكثير منْ كلام الأئمة، وهذا لا يُنكره إلا مقلّد جامد، أو متعصّب معاند.

والحاصل أن هذه المزاعم مجرّد خيال، لا رَوَاج لها فِي سوق التحقيق، بل هي آراء متناقضة، ينقض بعضها بعضًا، كما أشرنا إليه آنفًا، وعوائق صادّة عن إعمال ما آتى الله تعالى بعض عباده منْ الفهم، والعلم فِي استنباط الأحكام منْ كتاب الله سبحانه وتعالى، ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وصرف لهمته إلى الاشتغال برأي فلان، وفلان، وتزهيد لكثير ممن له قريحة صافية، وهمّة عالية عن الانتفاع بنصوص الكتاب والسنة.

وبالجملة فالعلم مواهب منْ الله تعالى، ولا تقف مواهبه سبحانه وتعالى عند أحد، ولا يحدّها زمان، ولا يقيّدها مكان، {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269] {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): فِي بيان الاختلاف، هل يجوز خلوّ العصر عن المجتهدين، أم لا؟، وهي مكمّلة للبحث المذكور فِي المسألة السابقة:

ولقد أجاد الشوكانيّ رحمه الله تعالى فِي كتابه "إرشاد الفحول" حيث نقل أقوال العلماء فِي ذلك، مع المناقشة لها، فَقَالَ:

ذهب جمع إلى أنه لا يجوز خلوّ الزمان عن مجتهد، قائم بحجج الله، يبيّن للناس ما نُزّل إليهم، قَالَ بعضهم: ولابدّ أن يكون فِي كلّ قطر منْ يقوم به الكفاية؛ لأن الاجتهاد منْ فروض الكفايات. قَالَ ابن الصلاح: الذي رأيته فِي كلام الأئمة يُشعر بأنه لا يتأتّى فرض الكفاية بالمجتهد المقيّد، قَالَ: والظاهر أنه لا يتأتّى فِي الفتوى. وَقَالَ بعضهم: الاجتهاد فِي حقّ العلماء عَلَى ثلاثة أضرب: فرض عين، وفرض كفاية، وندب: فالأول: عَلَى حالين: اجتهاد فِي حقّ نفسه عند نزول الحادثة. والثاني: اجتهاد فيما تعيّن عليه الحكم فيه، فان ضاق فرض الحادثة كَانَ عَلَى الفور، وإلا كَانَ عَلَى التراخي. والثاني: عَلَى حالين: أحدهما: إذا نزلت بالمستفتي حادثة، فاستفتى أحد العلماء، توجّه الفرض عَلَى جميعهم، وأخصّهم بمعرفتها منْ خُصّ بالسؤال عنها، فإن أجاب هو أو غيره سقط الفرض، وإلا أثموا جميعًا. والثاني: أن يتردّد الحكم بين قاضيين مشتركين فِي النظر، فيكون فرض الاجتهاد مشتركًا بينهما، فأيهما تفرّد بالحكم فيه سقط فرضه

ص: 226

عنها. والثالث: عَلَى حالين: أحدهما: فيما يَجتهد فيه العالم منْ غير النوازل، يسبق إلى معرفة حكمه قبل نزوله. والثاني: أن يستفتيه قبل نزولها. انتهى.

ولا يخفاك أن القول يكون الاجتهاد فرضًا يستلزم عدم خلوّ الزمان عن مجتهد، ويدلّ عَلَى ذلك ما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم منْ قوله:"لا تزال طائفة منْ أمّتي عَلَى الحقّ، ظاهرين حَتَّى تقوم الساعة". متّفقٌ عليه. وَقَدْ حكى الزركشيّ فِي "البحر" عن الأكثرين أنه يجوز خلوّ العصر عن المجتهد، وبه جزم صاحب "المحصول". قَالَ الرافعيّ: الخلق كالمتّفقين عَلَى أنه لا مجتهد اليوم. قَالَ الزركشيّ: ولعله أخذه منْ كلام الإِمام الرازيّ، أو منْ قول الغزاليّ فِي "الوسيط": قد خلا العصر عن المجتهد المستقلّ. قَالَ الزركشيّ: ونقلُ الاتفاق عجيب، والمسألة خلافيّة بيننا وبين الحنابلة، وساعدهم بعض أئمتنا، والحقّ أن الفقيه الفطن للقياس كالمجتهد فِي حقّ العاميّ، لا الناقل فقط. وقالت الحنابلة: لا يجوز خلوّ العصر عن مجتهد، وبه جزم الأستاذ أبو إسحاق، والزبيريّ

(1)

، ونسبه أبو إسحاق إلى الفقهاء، قَالَ: ومعناه: أن الله تعالى لو أخلى زمانًا منْ قائم بحجة زال التكليف، إذ التكليف لا يثبت إلا بالحجة الظاهرة، وإذا زال التكليف بطلت الشريعة. قَالَ الزبيريّ: لن تخلو الأرض منْ قائم بالحجة فِي كلّ وقت ودهر وزمان، وذلك قليل فِي كثير، فأما أن يكون غير موجود كما قَالَ الخصم، فليس بصواب؛ لأنه لو عُدم الفقهاء لم تقم الفرائض كلّها، ولو عطّلت الفرائض كلها لحلّت النقمة بالخلق، كما جاء فِي الخبر:"لا تقوم الساعة إلا عَلَى شرار النَّاس". رواه مسلم. ونحن نعوذ بالله أن نؤخّر مع الأشرار. انتهى.

قَالَ ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: هَذَا هو المختار عندنا، لكن إلى الحدّ الذي ينتقض به القواعد، بسبب زوال الدنيا فِي آخر الزمان. وَقَالَ فِي "شرح خطبة الإلمام": والأرض لا تخلو منْ قائم لله بالحجة، والأمة الشريفة لابدّ لها منْ سالك إلى الحقّ عَلَى واضح الحجة، إلى أن يأتي أمر الله فِي أشراط الساعة الكبرى. انتهى.

وما قاله الغزاليّ رحمه الله تعالى منْ أنه قد خلا العصر عن المجتهد، قد سبقه إلى القول به القفّال، ولكنه ناقض ذلك، فَقَالَ: إنه ليس بمقلّد للشافعيّ، وإنما وافق رأيه رأيه، كما حكى ذلك عنه الزركشيّ، وَقَالَ: قول هؤلاء القائلين بخلوّ العصر عن المجتهد مما يُقضَى منه العجب، فإنهم إن قالوا ذلك باعتبار المعاصرين لهم، فقد عاصر

(1)

هو الزبير بن أحمد بن سليمان بن عبد الله الأزديّ الإِمام أبو عبد الله الزبيريّ، منْ أئمة المذهب الشافعيّ الحافظين له، وكان عارفا بالأدب، خبيرًا بالأنساب، له مصنّفات، منها "الكافي" و"الهداية"، توفّي سنة (317 هـ). انظر "طبقات الشافعيّة" 3/ 295.

ص: 227

القفّال، والغزاليّ، والرازيّ، والرافعيّ منْ الأئمة القائمين بعلوم الاجتهاد عَلَى الوفاء والكمال جماعة منهم، ومن كَانَ له إلمام بعلم التاريخ، واطّلاع عَلَى أحوال علماء الإِسلام فِي كلّ عصر لا يخفى عليه مثل هَذَا، بل قد جاء بعدهم منْ أهل العلم منْ جمع الله له منْ العلوم فوق ما اعتبره أهل العلم فِي الاجتهاد.

وإن قالوا ذلك، لا بهذا الاعتبار، بل باعتبار أن الله عز وجل رفع ما تفضّل به عَلَى منْ قبل هؤلاء منْ هذه الأمة منْ كمال الفهم، وقوّة الإدراك، والاستعداد للمعارف، فهذه دعوى منْ أبطل الباطلات، بل هي جهالة منْ الجهالات.

وإن كَانَ ذلك باعتبار تيسّر العلم لمن قبل هؤلاء المنكرين، وصعوبته عليهم، وعلى أهل عصورهم، فهذه أيضًا دعوى باطلة، فإنه لا يخفى عَلَى منْ له أدنى فهم أن الاجتهاد قد يسّره الله للمتأخّرين تيسيرًا لم يكن للسابقين؛ لأن التفاسير للكتاب العزيز قد دوّنت، وصارت فِي الكثرة إلى حدّ لا يمكن حصره، والسنة المطهّرة قد دُوّنت، وتكلّم الأئمة عَلَى التفسير، والترجيح، والتصحيح، والتجريح بما هو زيادة عَلَى ما يحتاج إليه المجتهد، وَقَدْ كَانَ السلف الصالح، ومن قبل هؤلاء المنكرين يرحل للحديث الواحد منْ قطر إلى قطر، فالاجتهاد عَلَى المتأخّرين أيسر، وأسهل منْ الاجتهاد عَلَى المتقدّمين، ولا يخالف فِي هَذَا منْ له فهم صحيح، وعقلٌ سويّ.

وإذا أمعنت النظر وجدت هؤلاء المنكرين، إنما أوتوا منْ قبل أنفسهم، فإنهم لما عكفوا عَلَى التقليد، واشتغلوا بغير علم الكتاب والسنّة، حكموا عَلَى غيرهم بما وقعوا فيه، واستصعبوا ما سهّله الله تعالى عَلَى منْ رزقه العلم والفهم، وأفاض عَلَى قلبه أنواع علوم الكتاب والسنّة، ولَمّا كَانَ هؤلاء الذين صرّحوا بعدم وجود المجتهدين شافعيّة، فها نحن نوضّح لك منْ وُجد منْ الشافعيّة بعد عصرهم ممن لا يخالف مخالف فِي أنه جمع أضعاف علوم الاجتهاد، فمنهم ابن عبد السلام، وتلميذه ابن دقيق العيد، ثم تلميذه ابن سيّد النَّاس، ثم تلميذه زين الدين العراقيّ، ثم تلميذه ابن حجر العسقلانيّ، ثم تلميذه السيوطيّ، فهؤلاء ستة أعلام، كلّ واحد منهم تلميذ منْ قبله، قد بلغوا منْ المعارف العلميّة ما يعرفه منْ يعرف مصنّفاتهم حقّ معرفتها، وكلّ واحد منهم إمام كبير فِي الكتاب والسنّة، محيط بعلوم الاجتهاد، إحاطةً متضاعفة، عالم بعلوم خارجة عنها.

ثم فِي المعاصرين لهؤلاء كثير منْ المماثلين لهم، وجاء بعدهم منْ لا يقصر عن بلوغ مراتبهم، والتعداد لبعضهم، فضلاً عن كلّهم يحتاج إلى بسط طويل. وَقَدْ قَالَ الزركشيّ فِي "البحر المحيط" 6/ 209: ما لفظه: ولم يختلف اثنان فِي أن ابن عبد السلام بلغ رتبة الاجتهاد، وكذلك ابن دقيق العيد. انتهى.

ص: 228

وحكاية هَذَا الإجماع منْ هَذَا الشافعيّ يكفي فِي مقابلة حكاية الاتفاق منْ ذلك الشافعيّ الرافعيّ.

وبالجملة فتطويل البحث فِي مثل هَذَا لا يأتي بكثير فائدة، فإن أمره أوضح منْ كلّ واضح، وليس ما يقوله منْ كَانَ منْ أُسراء التقليد بلازم لمن فتح الله عليه أبواب المعارف، ورزقه منْ العلم ما يخرُج به عن تقليد الرجال، وما هذه بأوّل فاقرة جاء بها المقلّدون، ولا هي بأول مقالة قالها المقصّرون، ومن حصر فضل الله تعالى عَلَى بعض خلقه، وقصر فهم هذه الشريعة المطهّرة عَلَى منْ تقدّم عصره، فقد تجرّأ عَلَى الله عز وجل، ثم عَلَى شريعته الموضوعة لكلّ عباده، ثم عَلَى عباده الذين تعبّدهم الله تعالى بالكتاب والسنّة.

ويا لله العجب منْ مقالات هي جهالات وضلالات، فإن هذه المقالة تستلزم رفع التعبّد بالكتاب والسنّة، وأنه لم يبق إلا تقليد الرجال الذين هم متعبّدون بالكتاب والسنّة، كتعبّد منْ جاء بعدهم عَلَى حدّ سواء، فإن كَانَ التعبّد بالكتاب والسنّة مختصّا بمن كانوا فِي العصور السابقة، ولم يبق لهؤلاء إلا التقليد لمن تقدّمهم، ولا يتمكّنون منْ معرفة أحكام الله منْ كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فما الدليل عَلَى هذه التفرقة الباطلة، والمقالة الزائفة، وهل النسخ إلا هَذَا، {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله تعالى فِي كتابه النفيس "إرشاد الفحول إلى تحقيق الحقّ منْ علم الأصول" 2/ 304 - 310 بتحقيق د/ شعبان محمد إسماعيل وهو كلام نفيس، وبحث أنيس.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا التحقيق الذي أفاض به الإِمام المحقق الشوكاني رحمه الله تعالى هو الحق الحقيق بالقبول، وما خالفه هو التهور المخذول، فعليك باتباع الحق، وإن قلّ أصحابه، واجتناب الباطل، وإن كثر أحزابه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل، اللَّهم أرنا الحق حق وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، آمين.

وإلى الاختلاف فِي خلوّ العصر عن مجتهد أشار السيوطيّ رحمه الله تعالى فِي "الكوكب الساطع" حيث قَالَ:

جَازَ خُلُوُّ الْعَصْرِ عَنْ مُجْتَهِدِ

وَمُطْلَقًا يَمْنَعُ قَوْمُ أَحْمَدِ

وَابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ لَا إِنْ أَتَتِ

أَشْرَاطُهَا وَالْمُرْتَضَى لَمْ يَثْبُتِ

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 229

‌4 - (بَابُ تَرْكِ اسْتِعْمَالِ مَنْ يَحْرِصُ عَلَى الْقَضَاءِ)

5384 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِي عُمَيْسٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: أَتَانِي نَاسٌ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ، فَقَالُوا: اذْهَبْ مَعَنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ لَنَا حَاجَةً، فَذَهَبْتُ مَعَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَعِنْ بِنَا فِي عَمَلِكَ، قَالَ أَبُو مُوسَى: فَاعْتَذَرْتُ مِمَّا قَالُوا، وَأَخْبَرْتُ أَنِّي لَا أَدْرِي مَا حَاجَتُهُمْ؟ فَصَدَّقَنِي، وَعَذَرَنِي، فَقَالَ: "إِنَّا لَا نَسْتَعِينُ فِي عَمَلِنَا بِمَنْ سَأَلَنَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمرو بن منصور": هو النسائيّ الحافظ الثقة [10] منْ أفراد المصنّف "وسليمان بن حرب": هو الأزديّ الواشحيّ البصريّ الثقة الإِمام الحافظ [9]. و"عمر بن عليّ": هو ابن عطاء بن مُقَدَّم البصريّ، واسطيّ الأصل، ثقة يدلّس تدليس التسوية [8]. و"أبو عميس": هو عتبة بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعوديّ الكوفيّ، ثقة [7]. و"سعيد بن أبي بردة": هو الأشعريّ الكوفيّ، ثقة ثبت [5]. و"أبوه": هو عامر، وقيل: الحارث بن عبد الله بن قيس، وقيل: اسمه كنيته [3].

ورجال هَذَا السند رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده، كما مرّ آنفًا، وفيه رواية ابن الابن عن أبيه، عن جدّه، ورواية تابعيّ، عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

وقوله: "استعن بنا فِي عملك": أي استعملنا فِي بعض الولايات المتعلّقة بك. وقوله: "فاعتذرت مما قالوا": أي أقمت العذر عن مجيئي مع هؤلاء الذين يسألون ما لا يحبه النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقوله: "فعذرني" منْ باب ضرب: أي قبل عذري.

وفي رواية: "قَالَ: ما تقول يا أبا موسى؟، قَالَ: قلت: والذي بعثك بالحقّ ما أطلعاني عَلَى ما فِي أنفسهما، وما شعرتُ أنهما يطلبان العمل".

قَالَ القرطبيّ: قوله صلى الله عليه وسلم: "ما تقول يا أبا موسى؟ " استفهام استعلام عمّا عنده منْ إرادته العمل، أو منْ معونته لهما عَلَى استدعهما العمل، فأجابه بما يقتضي أنه لم يكن عنده إرادة ذلك، ولا خبر منْ إرادة الرجلين، فلمّا تحقّق النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك ولّاه العمل؛ إِذْ لم يسأله، ولا حَرَصَ عليه، ومنعه الرجلين؛ لحرصهما، وسؤالهما عَلَى ما تقرّر آنفًا منْ أن الحريص عليها مخذول، والكاره لها مُعَان، ومما جرى منْ الكلام بهذا المعنى

ص: 230

مجرى الْمَثَل: الحرصُ عَلَى الأمانة، دليلُ الخيانة. انتهى "المفهم" 4/ 17.

وقوله: "إنا لا نستعين فِي عملنا بمن سألنا" هَذَا محلّ الترجمة، فإنه صريح فِي عدم تولية منْ حرص عَلَى القضاء؛ لأن العمل فيه تعبٌ فِي الدنيا، وخوفٌ فِي الآخرة، ولا يرضى به، ولا يطلبه عادةً إلا منْ اتّخذه سببًا لنيل الدنيا، ومثله لا يستحقّ لذلك.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي "الطهارة" 4/ 4 وتقدّم تمام شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5385 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا، يُحَدِّثُ عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ، جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَلَا تَسْتَعْمِلْنِي كَمَا اسْتَعْمَلْتَ فُلَانًا، قَالَ: "إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن عبد الأعلى) الصنعانيّ البصريّ، ثقة [10] 5/ 5.

2 -

(خالد) بن الحارث الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.

3 -

(شعبة) بن الحجاج البصريّ الإمام الحجة الثبت [7] 24/ 27.

4 -

(قتادة) بن دعامة السدوسي البصريّ، ثقة ثبت يدلّس [4] 30/ 34.

5 -

(أنس) بن مالك الصحابيّ الشهير رضي الله تعالى عنه 6/ 6.

6 -

(أُسيد بن حُضير) بن سِمَاك بن عَتِيك الأنصاريّ الأشهليّ، أبو يحيى الصحابيّ الشهير، مات سنة (20) أو (21) تقدّم فِي 96/ 4681. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين. (ومنها): أن فيه رواية صحابيّ عن صحابيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ قَتَادَةَ) بن دِعامة السدوسيّ، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا) أي ابن مالك رضي الله عنه (يُحَدِّثُ عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ) -بتصغير الاسمين- رضي الله تعالى عنه، زاد مسلم:"وَقَدْ رواه يحيى بن سعيد، وهشام بن زيد، عن أنس" بدون ذكر أُسيد بن حُضير، لكن باختصار القصّة التي هنا، وذكر كلٌّ منهما قصّة أخرى غير هذه، ووقع لهذا الْحَدِيث

ص: 231

قصّة أخرى منْ آخر، فأخرج الشافعيّ منْ رواية محمد بن إبراهيم التيميّ إلى أُسيد بن حُضير:"طلب منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم لأهل بيتين منْ الأنصار، فأمر لكلّ بيت بوسق منْ تمر، وشطر منْ شعير، فَقَالَ أُسيد: يا رسول الله، جزاك الله عنّا خيرًا، فَقَالَ: "وأنتم فجزاكم الله خير، يا معشر الأنصار، وإنكم لأعفّةٌ صُبْرٌ، وإنكم ستلقون بعدي أثرةً

" الْحَدِيث، وقوله: "إنكم لأعِفّة صُبْرٌ"، أخرجه الترمذيّ، والحاكم منْ وجه آخر، عن أنس، عن أبي طلحة، وسنده ضعيف. قاله فِي "الفتح" 7/ 493 "كتاب مناقب الأنصار" (أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ) قَالَ الحافظ: لم أقف عَلَى اسمه، زاد مسلم فِي روايته: "فخلا برسول الله صلى الله عليه وسلم" (جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي) أي تجعلني عاملاً عَلَى الصدقة، أو عَلَى بلد (كَمَا اسْتَعْمَلْتَ فُلَانًا) قَالَ الحافظ: لم أقف عَلَى اسمه، لكن ذكرت فِي "المقدّمة" أن السائل أُسيد بن حُضير، والمستعمل عمرو بن العاص، ولا أدري الآن منْ أين نقلته. انتهى "فتح" 7/ 492 - 493 رقم 3792. (قَالَ: إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً) بفتح الهمزة، والمثلّثة، أو بضمّ الهمزة، وسكون المثلّثة، وأشار بذلك إلى أن الأمر يصير فِي غيرهم، فيختصّون دونهم بالأموال، وكان الأمر كما وصف صلى الله عليه وسلم، وهو معدود فيما أخبر به منْ الأمور الآتية، فوقع كما قَالَ (فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْني عَلَى الْحَوْضِ) أي حوض النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، والسرّ فِي جوابه صلى الله عليه وسلم عن طلب الرجل الولاية بقوله: "ستلقون بعدي أثرة الخ" إرادة نفي ظنّه أنه آثر الذي ولّاه عليه، فبيّن له أن ذلك لا يقع فِي زمانه، وأنه لم يخصّه بذلك لذاته، بل لعموم مصلحة المسلمين، وأن الاستئثار للحظّ الدنيويّ إنما يقع بعده، وأمرهم عند وقوع ذلك بالصبر. قاله فِي "الفتح" 14/ 498 "كتاب الفتن" رقم 7057.

وَقَالَ السنديّ: قوله: "إنكم سلقون بعدي أثرة": أي إن الأمراء بعدُ يفضّلون عليكم غيركم، يُريد: أنك ظننت هَذَا القدر أثرة، وليس كذلك، ولكن الأثرة ما يكون بعدي، والمطلوب فيه منكم الصبر، فكيف تصبر إذا لم تقدر أن تصبر عَلَى هَذَا القدر، فعليك بالصبر به حَتَّى تقدر عَلَى الصبر فيما بعدُ، والحاصل أنه رآه مستعجلاً، فأرشده إلى الصبر عَلَى الإطلاق بألطف وجه. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أُسيد بن حُضَير رضي الله عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

ص: 232

أخرجه هنا -4/ 5385 - وفي "الكبرى" 7/ 5933. وأخرجه (خ) فِي "المناقب" 3792 و"الفتن" 7057 (م) فِي "الإمارة" 1845 (ت) فِي "الفتن" 2189 (أحمد) فِي "مسند الكوفيين" 18613 و18615. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان ترك استعمال منْ يحرص عَلَى القضاء. (ومنها): أن فيه منقبة عظيمة للأنصار، حيث مَدَحَهُم النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنهم أَعفَّةٌ صُبْرٌ. (ومنها): أن فيه علمًا منْ أعلام النبوّة، حيث أخبر أنه ستكون بعده أثرة، وَقَدْ وقع ذلك، كما أخبر صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌5 - (النَّهْيُ عَنْ مَسْأَلَةِ الإِمَارَةِ)

5386 -

(أَخْبَرَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ ح وَأَنْبَأَنَا

(1)

عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَسْأَلِ الإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا").

رجال هَذَا الإسناد: ثمانية:

1 -

(مجاهد بن موسى) الْخُوَارزميّ الْخُتَّليّ، نزيل بغداد، ثقة [10] 85/ 102

2 -

(عمرو بن عليّ) الفلّاس البصريّ، ثقة ثبت [10] 4/ 4.

3 -

(يحيى) بن سعيد القطّان البصريّ، ثقة ثبت حجة [9] 4/ 9.

4 -

(إسماعيل) بن إبراهيم ابن عُليّة البصريّ، ثقة ثبت [8] 18/ 19.

5 -

(يونس) بن عُبيد بن دينار العبديّ، أبو عبيد البصريّ، ثقة ثبت فاضل ورع [5] 88/ 109.

6 -

(ابن عون) عبد الله، أبو عون البصريّ، ثقة ثبت فاضل [5] 29/ 33.

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 233

7 -

(الحسن) بن أبي الحسن، أبو سعيد البصريّ، ثقة فقيه فاضل يدلس ويرسل [3] 32/ 36.

8 -

(عبد الرحمن بن سَمُرة) بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، وقيل: غير ذلك، أبو سعيد، صحابيّ، منْ مسلمة الفتح، وقيل: كَانَ اسمه قبل الإِسلام عبد كُلال -بضم أوله، والتخفيف- وَقَدْ شهد فتوح العراق، وكان فتح سِجِستان عَلَى يديه، أرسله عبد الله بن عامر، أمير البصرة لعثمان عَلَى السريّة، ففتحها، وفتح غيرها، وَقَالَ ابن سعد: مات سنة (50)، وقيل: بعدها بسنة، وَقَدْ تقدّمت ترجمته فِي 2/ 1460. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ ثمانيّات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين، غير شيخه الأول، فخُوَارَزْميّ، ثم بغداديّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا) ناهية، ولذا جُزم الفعل بعدها، وكسره للالتقاء الساكنين (تَسْأَلِ الإِمَارَةَ) بالكسر: أي لا تطلب الولاية، قَالَ فِي "الفتح": وفي رواية يونس بن عُبيد، عن الحسن بلفظ: "لا تمنّيَنّ" بصيغة النهي عن التمنّي، مؤكّدا بالنون الثقيلة، والنهي عن التمنّي أبلغ منْ النهي عن الطلب. انتهى (فَإِنَّكَ) الفاء للتعليل، أي لأنك (إِنْ أُعْطِيتَهَا) بالبناء للمفعول، وضمير المخاطب (عَنْ مَسْأَلَةٍ) أي لأجل سؤال، وطلب لها، فـ"عن" بمعنى اللام، كما قوله عز وجل: {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} الآية [هود: 53]، ويحتمل أن تكون بمعنى "بعدُ"، كما فِي قوله عز وجل:{لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} الآية [الانشقاق: 19]: أي حالة بعد حالة، وقول الشاعر [منْ الرجز]:

وَمَنْهلٍ وَرَدتُهُ عَنْ مَنْهَلِ

قَفْرٍ بِهِ الأَعْطَانُ لَمْ تُسَهَّلِ

(وُكِلْتَ إِلَيْهَا) بالبناء للمفعول: يقال: وكلته إلى نفسه، منْ باب وعد وُكُولاً: لم أقم بأمره، ولم أعنه، قاله الفيّوميّ. والمعنى أنك إذا أُعطيت الإمارة بسؤال وكلت إليها، وهو كناية عن عدم العون منْ الله تعالى فِي معرفة الحقّ، والتوفيق للعمل به، وذلك لأنه حيث اجترأ عَلَى السؤال، فقد اعتمد عَلَى نفسه، فلا يستحقّ العون. قاله السنديّ.

ص: 234

وَقَالَ فِي "الفتح": قوله: وُكلت إليها -بضم الواو، وكسر الكاف، مخففا، ومشددًا، وسكون اللام- ومعنى المخفف: أي صرف إليها ومن وُكل إلى نفسه هلك، ومنه فِي الدعاء:"ولا تكلني إلى نفسي"، ووَكَل أمره إلى فلان: صرفه إليه، ووَكَّله بالتشديد-: استحفظه، ومعنى الْحَدِيث: أن منْ طلب الإمارة، فأُعطيها تُركت إعانته عليها، منْ أجل حرصه. (وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا) ببناء الفعلين للمفعول أيضًا: أي أعانك الله تعالى، وألهمك الحقّ، حَتَّى تسعد فِي الدنيا والآخرة.

[فإن قلت]: يعارض هَذَا فِي الظاهر ما أخرجه أبو داود، عن أبي هريرة رضي الله عنه، رفعه:"منْ طلب قضاء المسلمين حَتَّى يناله، ثم غلب عدله جوره فله الجنة، ومن غلب جوره عدله فله النار"، فكيف تجمع بينهما؟.

[قلت]: يُجمع بينهما -كما قَالَ فِي "الفتح"- بأنه لا يلزم منْ كونه لا يُعان بسبب طلبه أن لا يحصل منه العدل إذا وَلي، أو يُحمل الطلب هنا عَلَى القصد، وهناك عَلَى التولية، وَقَدْ تقدّم منْ حديث أبي موسى رضي الله عنه:"إنا لا نُوَلّي مَنْ حَرَص"، ولذلك عبر فِي مقابله بالإعانة، فإن منْ لم يكن له منْ الله عون عَلَى عمله، لا يكون فيه كفاية لذلك العمل، فلا ينبغي أن يجاب سؤاله، ومن المعلوم أن كل ولاية لا تخلو منْ المشقة، فمن لم يكن له منْ الله إعانة، تَوَرّط فيما دخل فيه، وخسر دنياه وعقباه، فمن كَانَ ذا عقل لم يتعرض للطلب أصلا، بل إذا كَانَ كافيا، وأعطيها منْ غير مسألة فقد وعده الصادق بالإعانة، ولا يخفى ما فِي ذلك منْ الفضل. قَالَ المهلب: جاء تفسير الإعانة عليها فِي حديث بلال بن مرداس، عن خيثمة، عن أنس رضي الله عنه، رفعه:"منْ طلب القضاء، واستعان عليه بالشفعاء، وُكِل إلى نفسه، ومن أُكره عليه أَنزل الله عليه ملكا يُسَدِّدُه"، أخرجه ابن المنذر، وكذا أخرجه الترمذيّ منْ طريق أبي عوانة، عن عبد الأعلى الثعلبي، وأخرجه هو وأبو داود، وابن ماجه، منْ طريق أبي عوانة، ومن طريق إسرائيل، عن عبد الأعلى، فأسقط خيثمة منْ السند، قَالَ الترمذيّ: ورواية أبي عوانة أصح، وَقَالَ فِي رواية أبي عوانة: حديث حسن غريب، وأخرجه الحاكم منْ طريق إسرائيل، وصححه، وتُعقب بأن ابن معين لَيّن خيثمة، وضعف عبد الأعلى، وكذا قَالَ الجمهور فِي عبد الأعلى: ليس بقوي.

قَالَ المهلب: وفي معنى الإكراه عليه أن يُدعَى إليه، فلا يرى نفسه أهلا لذلك؛ هيبة له، وخوفا منْ الوقوع فِي المحذور، فإنه يعان عليه، إذا دخل فيه، ويُسَدَّد، والأصل فيه أن منْ تواضع لله رفعه الله. وَقَالَ ابن التين: هو محمول عَلَى الغالب، وإلا فقد قَالَ يوسف عليه السلام:{اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} [يوسف: 55]، وَقَالَ سليمان عليه السلام:

ص: 235

{وَهَبْ لِي مُلْكًا} [ص: 35]، قَالَ: ويحتمل أن يكون فِي غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. قاله فِي "الفتح" 15/ 19 - 20. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبد الرحمن بن سَمُرة رضي الله عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -5/ 5386 - وأخرجه (خ) فِي "الأيمان والنذور" 6622 و"كفّارات الأيمان" 6722 و"الأحكام" 7146 و7147 (م) فِي "الأيمان" 1652 و1653 (د) فِي "الخراج" 2929 (ت) فِي "النذور والأيمان" 1529 (أحمد) فِي "مسند البصريين" 20095 (الدارميّ) فِي "النذور"2241. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان النهي عن مسألة الإمارة. (ومنها): أن طلب ما يتعلق بالحكم مكروه، فيدخل فِي الامارة القضاء، والحسبة، ونحو ذلك، وأن منْ حَرَص عَلَى ذلك لا يعان. (ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى: ظاهر قوله: "لا تسأل الإمارة" التحريم، وعلى هَذَا يدلّ قوله:"إنا والله لا نولّي عَلَى هَذَا العمل أحداً يسأله، أو حرص عليه"، وسببه أن سؤالها، والحرص عليها مع العلم بكثرة آفاتها، وصُعوبة التخلّص منها دليلٌ عَلَى أنه يطلبها لنفسه، ولأغراضه، ومن كَانَ هكذا أوشك أن تغلب عليه نفسه، فيهلك، وهذا معنى قوله:"وُكل إليها"، ومن أباها؛ لعلمه بآفاتها، ولخوفه منْ التقصير فِي حقوقها، وفرّ منها، ثم ابتلي بها، فيُرجَى له ألا تغلب عليه نفسه؛ للخوف الغالب عليه، فيتخلّص منْ آفاتها، وهذا معنى قوله:"أُعين عليها"، وهذا كلّه محمول عَلَى ما إذا كَانَ هناك جماعة ممن يقوم بها، ويَصلح لها، فأما لو لم يكن هناك ممن يصلح لها إلا واحد لتعيّن ذلك عليه، ووجب أن يتولّاها، ويسأل ذلك، ويُخبر بصفاته التي يستحقّ بها منْ العلم، والكفاية، وغير ذلك، كما قَالَ يوسف عليه السلام:{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]. انتهى "المفهم" 4/ 16. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5387 -

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإِمَارَةِ، وَإِنَّهَا

ص: 236

سَتَكُونُ نَدَامَةً وَحَسْرَةً، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَنِعْمَتِ الْمُرْضِعَةُ، وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمّد بن آدم بن سليمان": هو الجهنيّ المصّيصيّ. و"ابن المبارك": هو عبد الله. و"ابن أبي ذئب": هو محمّد بن عبد الرحمن بن المغيرة ابن الحارث بن أبي ذئب المدنيّ. و"المقبريّ": هو سعيد بن أبي سعيد المدنيّ.

وقوله: "ستكون ندامة": أي بعد الموت لمن لم يعمل فيها بما ينبغي. وقوله: "فنعمت المرضعة": أي فِي الدنيا؛ لما فيها منْ حصول الجاه، والمال، ونفاذ الكلمة، وتحصيل اللذّات الحسّيّة والوهميّة حال حصولها. وقوله:"وبئست الفاطمة": أي بعد الموت؛ لأنه يصير إلى المحاسبة عَلَى ذلك، فهو كالذي يفطم قبل أن يستغني، فيكون فِي ذلك هلاكه.

والحديث أخرجه البخاريّ، وَقَدْ تقدّم فِي "البيعة" 39/ 4213 سندًا ومتنًا، ومضى تمام شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌6 - (اسْتِعْمَالُ الشُّعَرَاءِ)

ولفظ "الكبرى": "استعمال الشعراء المأمونين عَلَى الحكم".

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لم يظهر لي وجه استدلال المصنّف رحمه الله تعالى بحديث الباب عَلَى هذه الترجمة، فإني لم أر أحدًا ذكر القعقاع بن معبد، ولا الأقرع بن حابس منْ الشعراء، فإن ثبت ذلك، وإلا فلا مطابقة بين الترجمة والحديث المذكور تحتها، فالله تعالى أعلم بالصواب.

5388 -

(أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمِّرِ الْقَعْقَاعَ بْنَ مَعْبَدٍ، وَقَالَ عُمَرُ رضى الله عنه: بَلْ أَمِّرِ الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، فَتَمَارَيَا، حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَنَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}، حَتَّى انْقَضَتِ الآيَةُ، {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [الحجرات: 1 - 5]).

ص: 237

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(الحسن بن محمّد) بن الصبّاح الزعفرانيّ، أبو عليّ البغداديّ الثقة الحافظ، صاحب الشافعيّ، وَقَدْ شاركه فِي الطبقة الثانية منْ شيوخه [10] 21/ 427.

2 -

(حجاج) بن محمّد الأعور، أبو محمّد المصّيصيّ، ترمذيّ الأصل، ثقة ثبت، اختلط فِي آخره لما قدم بغداد [9] 28/ 32.

3 -

(ابن جريج) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقة فقيه فاضل، يدلس ويرسل [6] 28/ 32.

4 -

(ابن أبي مليكة) عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة: زهير بن عبد الله بن جُدعان المكيّ الثقة الفقيه [3] 101/ 132.

5 -

(عبد الله بن الزبير) بن العوّام القرشيّ الأسديّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما 189/ 1161. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمكيين، غير شيخه، فبغداديّ، وحجاج، فمصّيصيّ. (ومنها): أن صحابيّه أول مولود للمهاجرين، وفرح المسلمون بولادته، حيث إن المنافقين قالوا: إنهم لا يولد لهم؛ لأن اليهود سحرتهم، فأبطل الله تعالى تلك المزاعم بولادته. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ قَدِمَ) بكسر الدال، منْ باب تعب (رَكْبٌ) -بفتح، فسكون-: جمع راكب، كصاحب وصحب، ويُجمع أيضًا عَلَى رُكْبان -بضم، فسكون-: أي جماعة راكبة، ولفظ "الكبرى":"قدم الركب منْ بني تميم"، وفي رواية أحمد:"وفد بني تميم"(مِنْ بَنِي تَمِيمِ) بفتح، فكسر قبيلة مشهورة، وكان قُدومهم سنة تسع منْ الهجرة، بعد أن أوقع عُيينة بن حِصْن ببني العنبر، وهم بطنٌ منْ تميم، ذكر ذلك أبو الحسن المدائنيّ. قاله فِي "الفتح" 8/ 566. (عَلَى النَّبِيِّ) وفي نسخة:"عَلَى رسول الله" - صلى الله عليه وسلم، قَالَ أَبُو بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه (أَمَّرِ الْقَعْقَاعَ بْنَ مَعْبَدٍ) بن زُرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم التميميّ الدارميّ، قَالَ الكلبيّ فِي "الجامع": كَانَ يقال له: تيّار الفرات؛ لجوده، قَالَ الحافظ: وله ذكر فِي غزوة الحنين، أورده البغويّ فِي "الصحابة" بإسناد صحيح. انتهى. ووقع عند الترمذيّ منْ

ص: 238

رواية مؤمّل بن إسماعيل، عن نافع بن عمر بلفظ: "إن الأقرع بن حابس قَدِمَ عَلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ أبو بكر: يا رسول الله استعمله عَلَى قومه، فَقَالَ: عمر: لا تستعمله يا رسول الله

" الْحَدِيث، وهذا يخالف رواية ابن جريج هذه، وروايته أثبت منْ مؤمّل بن إسماعيل؛ لأنه وإن كَانَ ثقة، إلا أنه سيّء الحفظ، فقد وصفه غير واحد بذلك، بل قَالَ البخاريّ: منكر الْحَدِيث، فلا تعارض روايته رواية ابن جريج. والله تعالى أعلم.

(وَقَالَ عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه: بَلْ أَمِّرِ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ) زاد فِي رواية للبخاريّ: "أخي بني مجاشع"، والأقرع لقبه، واسمه فيما نقل ابن دُريد: فِراس بن حابس بن عِقَال -بكسر المهملة، وتخفيف القاف- ابن محمّد بن سُفيان بن مجاشع بن عبد الله بن دارم التميميّ الدارميّ، وكانت وفاة الأقراع بن حابس فِي خلافة عثمان رضي الله عنه. (فَتَمَارَيَا) أي تجادل أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فِي تعيين منْ هو الأولى بذلك (حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا) وفي رواية البخاريّ منْ طريق نافع بن عمر، عن ابن أبي مليكة: "قَالَ: كاد الْخَيّران أن يهلكا، أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، رفعا أصواتهما عند النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قَدِم عليه ركبُ بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس، أخي بني مُجاشع، وأشار الآخر برجل آخر

(1)

، قَالَ نافع: لا أحفظ اسمه، فَقَالَ أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي، قَالَ: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما فِي ذلك" (فَنَزَلَتْ فِي ذَلِكَ) وفي رواية نافع المذكورة:"فأنزل الله"({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}، حَتَّى انْقَضَتِ الآْيَةُ، {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [الحجرات: 1 - 5]) قَالَ فِي "الفتح": وَقَدْ استُشكل ذلك، قَالَ ابن عطيّة رحمه الله: الصحيح أن سبب نزول هَذَا الكلام جُفاة الأعراب. قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: لا يُعارض ذلك هَذَا الْحَدِيث، فإن الذي يتعلّق بقصّة الشيخين فِي تخالفهما فِي التأمير هو أول السورة:{لَا تُقَدِّمُوا} ، ولكن لَمّا اتّصل بها قوله:{لَا تَرْفَعُوا} تمسّك عمر منها بخفض صوته، وجُفاة الأعراب الذين نزلت فيهم هم منْ بني تميم، والذي يختصّ بهم قوله:{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} [الحجرات: 4]، قَالَ عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة:"أن رجلاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ وراء الحجرات، فَقَالَ: يا محمّد إن مدحي زين، وإن شتمي شين، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ذاك الله عز وجل"، ونزلت، ولا مانع أن تنزل الآية لأسباب، تتقدّمها، فلا يُعدل للترجيح مع ظهور الجمع، وصحّة الطرق. قاله فِي "الفتح" 9/ 567.

(1)

هو القعقاع بن معد المذكور فِي رواية المصنّف هنا، منْ طريق ابن جريج، عن ابن أبي مليكة.

ص: 239

[تنبيه]: زاد فِي رواية البخاريّ منْ طريق نافع بن عمر المتقدّمة: "فما كَانَ عمر يُسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حَتَّى يستفهمه"، وعنده فِي "الاعتصام" منْ رواية وكيع:"فكان عمر بعد ذلك إذا حدث النبيّ صلى الله عليه وسلم بحديث حدّثه كأخي السِّرَار، لم يسمعه حَتَّى يستفهمه"، وَقَدْ أخرج المنذر منْ طريق محمّد بن عمرو بن علقمة أن أبا بكر الصّدّيق قَالَ مثل ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا مرسل، وَقَدْ أخرجه الحاكم موصولاً منْ حديث أبي هريرة رضي الله عنه نحوه، وأخرجه ابن مردويه منْ طريق طارق بن شهاب، عن أبي بكر، قَالَ: لَمّا نزلت: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} الآية [الحجرات: 2]، قَالَ أبو بكر، قلت: يا رسول الله آليتُ أن لا أُكلّمك إلا كأخي السرار". قاله فِي "الفتح" 9/ 567 - 568.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما هَذَا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -6/ 5388 - وفي "الكبرى" 8/ 5936. وأخرجه (خ) فِي "المغازي" 4367 و"التفسير" 4845 و4847 و"الاعتصام بالكتاب والسنّة" 7302 (ت) فِي "التفسير" 3266 (أحمد) فِي "مسند المدنيين" 15700. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): بيان سبب نزول هَذَا الآية الكريمة. (ومنها): أن الخطأ يحصل أحيانًا منْ أعيان الأفاضل، فقد حصل الخصام بين خيري منْ هما أفضل بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهو أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما. (ومنها): فضل هذين الإمامين حيث طبّقا عليهما بعد نزول الآية الكريمة ما اقتضته منْ عدم رفع الصوت بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يرفعا بعد ذلك أصواتهما، ولا كلّما إلا خفية، بحيث إنه كَانَ يستفهمهما. (ومنها): أن الآية الكريمة فيها بيان عظيم منزلة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وما يجب له منْ الاحترام، فلا يجوز لأحد أن يتقدّم بين يديه، ولا أن يرفع صوته حَتَّى لا يتأذّى بذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 240

‌7 - (إِذَا حَكَّمُوا رَجُلاً، فَقَضَى بَيْنَهُمْ)

لفظ "الكبرى": "إذا حكّموا رجلاً، ورضوا به، فحكم بينهم".

فقوله: "حكّموا" بتشديد الكاف: أي فوّضوا الحكم، ورضوا أن يقضي بينهم، وجواب "إذا" محذوف: أي جاز. والله تعالى أعلم.

5389 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -وَهُوَ ابْنُ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ- عَنْ أَبِيهِ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِىءٍ، عَنْ أَبِيهِ هَانِىءٍ، أَنَّهُ لَمَّا وَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، سَمِعَهُ وَهُمْ يَكْنُونَ هَانِئًا أَبَا الْحَكَمِ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ: "إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ، وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ، فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ؟ " فَقَالَ: إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي، فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ، فَرَضِيَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ، قَالَ: "مَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا؟، فَمَا لَكَ مِنَ الْوُلْدِ؟ "، قَالَ: لِي شُرَيْحٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَمُسْلِمٌ، قَالَ: "فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ؟ " قَالَ: شُرَيْحٌ، قَالَ: "فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ"، فَدَعَا لَهُ، وَلِوَلَدِهِ).

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد المذكور قريبًا.

2 -

(يزيد بن المقدام) بن شُريح الحارثيّ الكوفيّ، صدوقٌ، أخطأ عبد الحقّ فِي تضعيفه [9] 177/ 279.

3 -

(أبوه) المقدام بن شُريح الكوفيّ، ثقة [6] 8/ 8.

4 -

(شُريح بن هانىء) الحارثيّ، أبو المقدام الكوفيّ، مخضرم ثقة [2] 8/ 8.

5 -

(هانىء) بن يزيد بن نهِيك بن دُريد بن سُفيان بن ضَباب- وهو سلمة بن الحارث ابن ربيعة بن الحارث بن كعب بن عمرو بن وعلة بن خالد بن مالك بن أُدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان الضَّبَابيّ، ويقال: الْمَذْحِجيّ، وقيل فِي نسبه غير ذلك. رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وُفوده إليه، وكنيته أبو شُريح. رَوَى حديثه يزيد بن المقدام بن شُريح بن هانىء، عن أبيه، عن جده، عن أبيه هانىء. ذكره ابن سعد وغيره فِي أهل الكوفة. رَوَى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، له عندهم هَذَا الْحَدِيث فقط.

[تنبيه]: وقع فِي نسخ "المجتبى"، و"الكبرى" الموجودة عندي كلها غلط فِي هَذَا السند، حيث سقط منه ذكر المقدام بين يزيد، وشريح، والصواب إثباته، كما فِي "سنن

ص: 241

أبي داود" 4955 وكذا فِي "تحفة الأشراف" 9/ 67 ونصّه: حديث "لَمّا وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه سمعهم يكنونه بأبي الحكم

" الْحَدِيث (د) عن الربيع بن نافع - (س) فِي القضاة عن قتيبة- كلاهما عن يزيد بن المقدام بن شُريح، عن أبيه، عن جدّه، عن أبيه هانىء به. انتهى. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين، غير شيخه، فبغلانيّ. (ومنها): أنه مسلسلٌ برواية الأبناء عن الآباء. (ومنها): أن صحابيّه منْ المقلّين، ليس له فِي الكتب الستة غير هَذَا الْحَدِيث عند المصنّف، وأبي داود فقط. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِيهِ هَانِىءٍ) بن يزيد رضي الله عنه (أَنَّهُ لَمَّا وَفَدَ) قَالَ فِي "القاموس": وفد إليه، وعليه يفِد، منْ باب وعد وَفْدًا بالفتح، ووُفودًا ووِفادةً بالكسر، وإفادة: قدم، وورد. انتهى بإيضاح (إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) زاد فِي "الكبرى":"مع قومه"(سَمِعَهُمْ) أي سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم قومه، وفي نسخة:"سمعه"، قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: أي سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم مناداته، أي مناداة القوم إياه بأبي الحكم، فضمير الفاعل فِي "سمع" للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وضمير المفعول لهانىء عَلَى حذف مضاف. انتهى (وَهُمْ) أي قومه (يَكْنُونَ) بضم أوله مع تشديد النون، أو بفتحه، مع تخفيفها: يسمّونه، يقال: كنى زيدًا أبا عمرو، وبأبي عمرو كُنيةً بالكسر والضمّ: سمّاه به، كأكناه، وكنّاه، وأبو فلان كنيته، وكنوته بالضمّ، ويكسران. أفاده فِي "القاموس"، وفي "المصباح": الكنية اسم يُطلق عَلَى الشخص للتعظيم، نحو أبي حفص، وأبي الحسن، أو علامة عليه، والجمع كُنى بالضمّ فِي المفرد والجمعِ، والكسر فيهما لغةٌ، مثلُ بُرْمة وبُرَم، وسِدرة وسِدَر، وكنيته أبا محمّد، وبأبي محمّد، قَالَ ابن فارس: وفي "كتاب الخليل": الصواب الإتيان بالباء. انتهى. فتبيّن منْ هَذَا أن "كنى" يتعدّى إلى مفعولين، فقوله (هَانِئًا) مفعوله الأول، وقوله (أَبَا الْحَكَم) بفتحتين مفعوله الثاني (فَدَعَاهُ) أي هانئًا (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَاَل لَهُ: "إِنَّ الله هُو الْحَكَمُ) بفتحتين (وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ) بضمّ، فسكون: أي منه تعالى يُبتدأ الحكم، وإليه ينتهي الحكم، وفي إطلاق أبي الحكم عَلَى غيره يوهم الاشتراك فِي وصفه عَلَى الجملة، وإن لم يُطلق عليه سبحانه وتعالى أبو الحكم. كذا فِي "المرقاة".

قَالَ فِي "شرح السنّة": الحكم: هو الحاكم الذي إذا حكم لا يُرد حكمه، وهذه

ص: 242

الصفة لا تليق بغير الله سبحانه وتعالى، ومن أسمائه الحكَم. انتهى. وَقَالَ ابن الأثير فِي "النهاية": إنما كره النبيّ صلى الله عليه وسلم له ذلك؛ لئلا يشارك الله تعالى فِي صفته. انتهى.

(فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الْحَكمِ؟ "فَقَالَ) هانىء (إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي، فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ، فَرَضِيَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ) وفي نسخة: "كلّ منْ الفريقين"(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَا أَحْسَنَ مِنْ) زائدة، وفي "الكبرى":"ما أحسن هَذَا" بحذفها (هَذَا؟) أي الذي ذكرته منْ وجه التكنية، وأتى بصيغة التعجّب مبالغة فِي حسنه، لكن لَمّا كَانَ فيه منْ الإيهام ما سبق أراد تحويل كنيته إلى ما يناسبه، فَقَالَ (فَمَا لَكَ مِنَ الْوُلْدِ؟) بتقدير همزة الاستفهام: أي أفمالك ولد؟، فـ"منْ" زائدة، كما قَالَ فِي "الخلاصة":

وَزِيدَ فِي نَفْيٍ وَشِبْهِهِ فَجَرٌّ

نَكِرَةً كَـ"مَا لِبَاغٍ مِنْ مَفَرٌّ"

(قَالَ) هاني (لِي) منْ الأولاد ثلاثة (شُرَيْحٌ، وَعَبْدُ اللهِ، وَمُسْلِمٌ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ؟) إنما سأله عن أكبرهم رعاية لفضل الأكبر سنّا (قَالَ) هانىء (شُرَيْحٌ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَأَنْتَ أبُو شُرَيْحِ"، فَدَعَا لَهُ، وَلِوَلَدِهِ) أي شُريح الذي كناه به، قَالَ القاري رحمه الله تعالى: فصار ببركته صلى الله عليه وسلم أكبر رتبةً، وأكثر فضلاً، فإنه منْ جلّة أصحاب عليّ رضي الله عنه، وكان مفتيًا فِي زمن الصحابة رضي الله عنهم، ويردّ عَلَى بعضهم، وَقَدْ ولّاه عليّ رضي الله عنه قاضيًا، وخالفه فِي قبول شهادة الحسن له، والقضيّة مشهورة. انتهى.

وَقَالَ أبو داود فِي "سننه" بعد أن أخرج الْحَدِيث: ما نصّه: "قَالَ أبو داود: شُريح هَذَا هو الذي كسر السلسلة، وهو ممن دخل تَسْتُر. وفي نسخة: "قَالَ أبو داود: وبلغني أن شريحًا كسر باب تستُر، وذلك أنه دخل منْ سِرْبٍ. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث هانىء بن يزيد رضي الله عنه هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -7/ 5389 - وفي "الكبرى" 11/ 5940. وأخرجه (د) فِي "الأدب" 4955.

والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز تحكيم الخصمين منْ يحكم بينهما. (ومنها): أنه إذا حكم الرجل المحكّم بين الخصمين، نفذ حكمه

ص: 243

عليهما؛ لأنه صلى الله عليه وسلم استحسن فعل هانىء رضي الله عنه، وسيأتي تحقيق الخلاف بين العلماء فِي ذلك فِي المسألة التالية، إن شاء الله تعالى. (ومنها): استحباب التكنّي بأكبر الأود؛ رعاية لحقّ الأكبر. (ومنها): كراهة التكنّي بأبي الحكم؛ لما فيه منْ إيهام التشريك مع الله سبحانه وتعالى فِي صفته الخاصّة به. (ومنها): استحباب تغيير الأسماء القبيحة، ولذا أورد هَذَا الْحَدِيث أبو داود تحت ترجمة "باب فِي تغيير الاسم القبيح". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي التحكيم:

قَالَ العلّامة ابن قُدامة رحمه الله تعالى: وإذا تحاكم رجلان إلى رجل، حَكّماه بينهما ورضياه، وكان ممن يصلح للقضاء، فحكم بينهما جاز ذلك، ونفذ حكمه عليهما، وبهذا قَالَ أبو حنيفة، وللشافعي قولان:[أحدهما]: لا يلزمهما حكمه، إلا بتراضيهما؛ لأن حكمه إنما يلزم بالرضا به، ولا يكون الرضا إلا بعد المعرفة بحكمه.

قَالَ: ولنا ما رَوَى أبو شريح رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ له: "إن الله هو الحكم، فلم تكنى أبا الحكم؟ " قَالَ: إن قومي إذا اختلفوا فِي شيء أتوني، فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين، قَالَ:"ما أحسن هَذَا، فمن أكبر ولدك؟ " قَالَ: شريح، قَالَ:"فأنت أبو شريح"، أخرجه النسائيّ. ورُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: منْ حكم بين اثنين تراضيا به، لم يعدل بينهما، فهو ملعون"

(1)

، ولولا أن حكمه يلزمهما لما لحقه هَذَا الذمّ، ولأن عمر وأبيا تحاكما إلى زيد، وحاكم عمر أعرابيا إلى شريح قبل أن يوليه، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير مطعم، ولم يكونوا قضاة.

[فإن قيل]: فعمر وعثمان كانا إمامين، فإذا ردّا الحكم إلى رجل صار قاضيا. [قلنا]: لم يُنقل عنهما إلا الرضا بتحكيمه خاصة، وبهذا لا يصير قاضيا، وما ذكروه يَبطُل بما إذا رضي بتصرف وكيله، فإنه يلزمه قبل المعرفة به.

إذا ثبت هَذَا، فإنه لا يجوز نقض حكمه فيما لا يُنقَض به حكم منْ له ولاية، وبهذا قَالَ الشافعيّ، وَقَالَ أبو حنيفة: للحاكم نقضه، إذا خالف رأيه؛ لأن هَذَا عقد فِي حق الحاكم، فملك فسخه كالعقد الموقوف فِي حقه.

قَالَ: ولنا أن هَذَا حكم صحيح لازم، فلم يجز فسخه؛ لمخالفته رأيه كحكم منْ له

(1)

قَالَ فِي "التلخيص الحبير" 4/ 341 - 342 رقم 2567: أورده ابن الجوزيّ فِي "التحقيق، قَالَ: ذكر عبد العزيز منْ أصحابنا منْ نسخة عبد الله بن جراد، فذكره، وتعقّبه صاحب "التنقيح"، فَقَالَ: هي نسخة باطلة، كما صرّح هو به فِي "الموضوعات"، وبالغ فِي الحطّ عَلَى الخطيب؛ لاحتجاجه بحديث منها. انتهى.

ص: 244

ولاية، وما ذكروه غير صحيح، فإن حكمه لازم للخصمين، فكيف يكون موقوفا، ولو كَانَ كذلك لملك فسخه، وإن لم يخالف رأيه، ولا نسلم الوقوف فِي العقود.

إذا ثبت هَذَا فإن لكل واحد منْ الخصمين الرجوع عن تحكيمه، قبل شروعه فِي الحكم؛ لأنه لا يثبت إلا برضاه، فأشبه ما لو رجع عن التوكيل قبل التصرف، وإن رجع بعد شروعه ففيه وجهان:[أحدهما]: له ذلك؛ لأن الحكم لما لم يتم أشبه ما قبل الشروع. [والثاني]: ليس له ذلك؛ لأنه يؤدي إلى أن كل واحد منهما إذا رأى منْ الحكم ما لا يوافقه رجع، فبطل المقصود به.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: القول الثاني هو الأظهر عندي؛ لوضوح حجته. والله تعالى أعلم.

قَالَ ابن قدامة: قَالَ القاضي: وينفذ حكم منْ حَكّماه فِي جميع الأحكام، إلا أربعة أشياء: النكاح، واللعان، والقذف، والقصاص؛ لأن لهذه الأحكام مزية عَلَى غيرها، فاختص الإِمام بالنظر فيها، ونائبه يقوم مقامه، وَقَالَ أبو الخطاب: ظاهر كلام أحمد أنه ينفذ حكمه فيها، ولأصحاب الشافعيّ وجهان كهذين. انتهى "المغني" 14/ 92 - 93.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بنفوذ حكمه مطلقًا هو الذي يترجّح عندي؛ لإطلاق حديث أبي شريح رضي الله عنه المذكور فِي الباب؛ فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يستفسره حين ذكر له التحكيم مطلقًا، ولم يقيّد له حين استحسن فعله، فدلّ عَلَى جواز حكمه مطلقًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌8 - (النَّهْيُ عَنِ اسْتِعْمَالِ النَّساءِ فِي الْحُكْمِ)

لفظ "الكبرى": "ترك استعمال النِّساء عَلَى الحكم".

5390 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: عَصَمَنِي اللَّهُ بِشَيْءٍ سَمِعْتُهُ، مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَمَّا هَلَكَ كِسْرَى، قَالَ: "مَنِ اسْتَخْلَفُوا؟ "، قَالُوا: بِنْتَهُ، قَالَ: "لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً").

ص: 245

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمّد بن المثنّى) أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ، ثقة حافظ [10] 64/ 80.

2 -

(خالد بن الحارث) هو الْهُجَيميّ المذكور قريبًا.

3 -

(حُميد) بن أبي حُميد الطويل البصريّ، ثقة مدلّس [5] 87/ 108.

4 -

(الحسن) بن أبي الحسن البصريّ المذكور قريبًا.

5 -

(أبو بكرة) نُفيع بن الحارث بن كَلَدة -بفتحتين- ابن عمرو الثقفيّ، الصحابيّ المشهور بكنيته، وقيل: اسمه مسروح -بمهملات- أسلم بالطائف، ثم نزل البصرة، ومات بها سنة (1) أو (52)، وتقدّمت ترجمته فِي 41/ 836. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخه هو أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة. (ومنها): مسلسل بثقات البصريين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي بَكْرَةَ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: عَصَمَنِي اللَّهُ بِشَيْءٍ سَمِعْتُهُ منْ رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية البخاريّ منْ طريق عوف الأعرابيّ، عن الحسن:"نفعني الله بكلمة سمعتها منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الجمل بعدما كدت ألحق بأصحاب الجمل، فأُقاتل معهم".

قَالَ فِي "الفتح": قوله: "نفعني الله إلخ" فيه تقديم وتأخير، والتقدير: نفعني الله أيام الجمل بكلمة سمعتها منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي قبل ذلك، فـ"أيام الجمل" يتعلّق بـ"نفعني"، لا بـ"سمعتها"، فإنه سمعها قبل ذلك قطعًا، والمراد بأصحاب الجمل العسكر الذين كانوا مع عائشة رضي الله تعالى عنها.

ومحصّل قصّة الجمل أنه لما قُتل عثمان بن عفّان رضي الله عنه، وبويع عليّ رضي الله عنه خرج طلحة، والزبير رضي الله تعالى عنهما إلى مكة، فوجدا عائشة رضي الله تعالى عنها، وكانت قد حجّت، فاجتمع رأيهم عَلَى التوجّه إلى البصرة، يستنفرون للطلب بدم عثمان، فبلغ ذلك عليًا، فخرج إليهم، فكانت وقعة الجمل، ونُسبت إلى الجمل الذي كانت عائشة رضي الله تعالى عنها قد ركبته، وهي فِي هودجها، تدعو النَّاس إلى الإصلاح.

(لَمَّا هَلَكَ كِسْرَى) بن برويز بن هُرمز بن أنو شروان، وهو كسرى الكبير المشهور،

ص: 246

وهو بكسر الكاف، وفتحها، والقصر، وهو لقب لكلّ منْ ملك الفرس، ومعناه بالعربيّة المُظَفَّرُ. وَقَالَ فِي "المصباح": وكسرى ملك الْفُرْس، قَالَ أبو عمرو بن العلاء بكسر الكاف، لا غير، وَقَالَ ابن السرّاج، كما رواه عنه الفارسيّ، واختاره ثعلبٌ، وجماعة: الكسر أفصح، والنسبة إلى المكسور كِسريّ، وكسرويّ بحذف الألف، وبقلبها واوًا، والنسبة إلى المفتوح بالقلب، لا غير، والجمع أكاسرة. انتهى.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَنِ اسْتَخْلَفُوا؟)"منْ" استفهاميّة: أي شخص جعلوا له خليفة فِي ملكه؟ (قَالُوا: بِنْتَهُ) هي بوران بنت شيرويه بن كسرى بن برويز، وذلك أن شيرويه لَمّا قتل أباه، كَانَ أبوه لَمّا عرف أن ابنه قد عمل عَلَى قتله احتال عَلَى قتل ابنه بعد موته، فعمل فِي بعض خزائنه المختصّة به حُقّا مسمومًا، وكتب عليه:"حُقّ الجماع"، منْ تناول منه كذا جامع كذا، فقرأه شيرويه، فتناول منه، فكان فيه هلاكه، فلم يعش بعد أبيه سوى ستّة أشهر، فلما مات لم يَخلُف أخًا؛ لأنه كَانَ قتل إخوته حرصًا عَلَى الملك، ولم يخلُف ذكرا، وكرهوا خروج الملك عن ذلك البيت، فملّكوا المرأة، واسمها بُوران -بضم الموحّدة-. ذكر ذلك ابن قتيبة فِي "المغازي". وذكر الطبريّ أيضًا أن أختها أرزميد مُلّكت أيضًا. قاله فِي "الفتح" 8/ 472، "كتاب المغازي" رقم 4425.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرأَةً) أراد أبو بكرة رضي الله عنه بهذا أنه حين تذكّر هَذَا الْحَدِيث أن عائشة امرأة، فلا تصلح لتولية الأمر إليها، فعصمه الله تعالى بذلك، كما عصمه بحديث:"إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فِي النار" فيما جرى بين عليّ ومعاوية رضي الله عنهم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي بكرة رضي الله عنه هَذَا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -8/ 5390 - وفي "الكبرى" 9/ 5937. وأخرجه (خ) فِي "المغازي" 4425 و"الفتن" 7099 (ت) فِي "الفتن" 2262 (أحمد) فِي "مسند البصريين" 19889 و19925 و27745. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان النهي عن تولية النِّساء فِي الحكم. (ومنها): ما قاله الخطّابيّ رحمه الله تعالى: فِي الْحَدِيث أن المرأة لا تلي

ص: 247

الإمارة، ولا القضاء، وفيه أنها لا تزوّج نفسها، ولا تلي العقد عَلَى غيرها. قَالَ فِي "الفتح" 8/ 472: كذا قَالَ، وهو متعقّب، والمنع منْ أن تلي الإمارة، والقضاء قول الجمهور، وأجازه الطبريّ، وهي رواية عن مالك، وعن أبي حنيفة تلى الحكم فيما تجوز فيه شهادة النِّساء. انتهى. (ومنها): ما كَانَ عليه أبو بكرة رضي الله عنه منْ الفقه فِي الدين، حيث استدلّ بهذا الْحَدِيث عَلَى أن مناصرة عائشة رضي الله تعالى عنها فِي هَذَا الأمر ليس محمودًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌9 - (الْحُكْمُ بِالتَّشْبِيهِ، وَالتَّمْثِيلِ، وَذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وجه الاختلاف المذكور أن محمّد بن هاشم رواه عن الوليد، عن الأوزاعيّ، عن الزهريّ، عن سليمان بن يسار، عن ابن عبّاس، عن الفضل ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهم، فجعله منْ مسند الفضل، وخالفه عمرو بن عثمان، فرواه عن الوليد، عن الأوزاعيّ، عن الزهريّ، عن سليمان عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أن امرأة منْ خثعم استفتت الخ، فجعله منْ مسند ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما.

لكن مثل هَذَا الاختلاف لا يضرّ، ولهذا أخرجه الشيخان فِي "صحيحيهما" منْ الوجهين، فأما رواية ابن عبّاس، فأخرجها البخاريّ فِي "الحجّ" برقم 1417 و1721 و1722 وأخرجها مسلم فِي "الحجّ" برقم 2375 وأما رواية ابن عبّاس، عن الفضل فأخرجها البخاريّ فِي "الحجّ" برقم 1721 وأخرجها مسلم فِي الحجّ برقم 2376.

وَقَالَ الترمذيّ فِي "الجامع" -بعد أن أخرجه-: وروي عن ابن عبّاس أيضًا، عن سنان بن عبد الله الجهنيّ، عن عمّته، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورُوي عن ابن عبّاس، عن النبيّ

ص: 248

-صلى الله عليه وسلم، فسألت محمدًا -يعني البخاريّ- عن هذه الروايات؟ فَقَالَ: أصحّ شيء فِي هَذَا ما رُوي عن ابن عبّاس، عن الفضل بن عبّاس، قَالَ محمّد: ويحتمل أن يكون ابن عبّاس سمعه منْ الفضل وغيره، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر الذي سمعه منه. انتهى.

والحاصل أن الْحَدِيث صحيح كونه منْ مسند ابن عبّاس، ومن مسند الفضل رضي الله تعالى عنهم. والله تعالى أعلم بالصواب.

5391 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَاشِمٍ، عَنِ الْوَلِيدِ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ كَانَ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ النَّحْرِ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عز وجل فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ، أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرْكَبَ إِلاَّ مُعْتَرِضًا، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ، قَالَ: "نَعَمْ حُجِّي عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ قَضَيْتِيهِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، "محمّد بن هاشم" الْبَعْلَبكّيّ القرشيّ، فإنه منْ أفراده، وهو صدوقٌ، منْ صغار [10] 3/ 454. و"الوليد": هو ابن مسلم، أبو العبّاس الدمشقيّ.

وقوله: "منْ خثعم" بفتح الخاء المعجمة، وسكون المثلّثة، بعدها عينٌ مفتوحة، غير منصرف للعلميّة، ووزن الفعل، أو التأنيث، باعتبار أنه اسم قبيلة منْ بَجِيلة.

وقولها: "إلا معترضًا" تعني أنه لا يستطيع الجلوس عَلَى الرحل، بل يُحمل عليه، ويربط كما يُفعل بسائر الأمتعة.

وقوله: "فإنه لو كَانَ عليه دينٌ قضيته": هَذَا محلّ الشاهد، حيث شبّه النبيّ صلى الله عليه وسلم وجوب الحجّ بوجوب الدين، وأداءه عن الكبير الذي لا يستطيع الركوب بقضاء الدين، فكما أن الولد إذا أدّى عن والده المدين العاجز عن وفائه دينه، يُقبل ذلك منه، وتبرأ ذمّته بذلك، كذلك إذا وجب عليه الحجّ، وهو غير مستطيع سقط عنه الفرض.

والظاهر أن المصنّف رحمه الله تعالى أراد بهذا أن القاضي إذا لم يجد نصّا فِي القضيّة بحث عن النظائر حَتَّى يُلحق النظير بالنظير، وهذا هو معنى القياس، فهو رحمه الله تعالى، ممن يرى القياس فيما لم يرد به نصّ، وعليه جماهير أهل العلم، ولم يخالف فِي ذلك إلا الظاهريّة.

ويحتمل أن يكون مراده بالتشبيه، والتمثيل إيضاح المسائل بضرب المثل، يعني أن عَلَى القاضي أن يوضّح المسألة للسائل بضرب المثل حَتَّى تكون واضحة لديه، كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم مع الخثعميّة، حيث أكّد لها قوله:"نعم حجّي عنه"، بضرب المثل بأداء دينه الواضح لديها. والله تعالى أعلم.

ص: 249

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي "الحجّ" 8/ 2634 وَقَدْ استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5392 -

(أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ ح وَأَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمٍ، اسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْفَضْلُ رَدِيفُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عز وجل فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ، أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَهَلْ يُجْزِىءُ -قَالَ مَحْمُودٌ-: فَهَلْ يَقْضِي أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟، فَقَالَ لَهَا:"نَعَمْ".

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرُ وَاحِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مَا ذَكَرَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ).

"عمرو بن عثمان": هو أبو حفص الحمصيّ، صدوقٌ [10] 21/ 535. و"محمود ابن خالد": هو أبو عليّ الدمشقيّ، ثقة، منْ صغار [10] 45/ 595. و"عمر": هو ابن عبد الواحد السلميّ الدمشقيّ، ثقة [9] 45/ 56.

والحديث متّفق عليه، كما سبق بيانه فِي الذي قبله.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرُ وَاحِدٍ الخ". كلام المصنّف هَذَا لا يوجد فِي "الكبرى"، ولم يتبيّن لي مراده به، فإنه إن أراد أن الوليد تفرّد بجعله منْ مسند الفضل بن عبّاس، فليس كذلك، فقد تابع الأوزاعي فِي ذلك ابنُ جريج، كما قدّمناه أول الباب منْ رواية الشيخين منْ طريقه، وإن أراد به غير ذلك، فما هو؟. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5393 -

(قَالَ الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمٍ تَسْتَفْتِيهِ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عز وجل عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ، أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، وهو مصريّ حافظ ثقة فقيه [10]. و"ابن القاسم": هو عبد الرحمن.

ص: 250

و"مالك": هو إمام دار الهجرة.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ مضى فِي "الحجّ 11/ 2641 ومضى تمام البحث فيه هناك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5394 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمٍ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عز وجل فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ، أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لَا يَسْتَوِى عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَهَلْ يَقْضِي عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ"، فَأَخَذَ الْفَضْلُ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، وَكَانَتِ امْرَأَةً حَسْنَاءَ، وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْفَضْلَ، فَحَوَّلَ وَجْهَهُ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه "أبي داود": وهو سليمان بن سيف الْحَرّانيّ، ثقة حافظ [11] فإنه منْ أفراد المصنّف.

و"يعقوب بن إبراهيم": هو الزهريّ المدنيّ، نزيل بغدد، ثقة فاضل، منْ صغار [9]. و"أبوه": هو إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ ثقة ثبت [8].

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي "الحجّ" 11/ 2642. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌10 - (ذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ فِيهِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وجه الاختلاف المذكور أن هُشيمًا رواه عن يحيى بن أبي إسحاق، عن سليمان بن يسار، عن عبد الله بن عبّاس أنّ رجلاً سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم الخ، فجعله منْ مسند عبد الله بن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، وخالفه محمّد بن يسرين، عن يحيى بن أبي إسحاق، عن سليمان بن يسار، عن الفضل بن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنه كَانَ رديف النبيّ صلى الله عليه وسلم الخ، فجعله منْ مسند الفضل رضي الله عنه.

ص: 251

وَقَدْ خالفهما ابن عليّة، فرواه عن يحيى بن أبي إسحاق، عن سليمان بن يسار، قَالَ: حدثني أحد ابني العبّاس، إما الفضل، وإما عبد الله، أخرجه أحمد.

وكذلك وقع اختلاف فِي المتن، فَقَالَ هُشيم: أن رجلاً سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، أن أبي أدركه الحجّ الخ، وَقَالَ ابن سيرين: فجاءه رجل، فَقَالَ: إن أمي عجوز كبيرة الخ، وخالف الجميع معمر، فَقَالَ: إن امرأة سألت عن أمها الخ.

قلت: وبهذا يتبيّن أن رواية يحيى بن أبي إسحاق فيها اضطراب سندًا ومتنًا، ومخالفة لروايات الحفّاظ الأثبات التي سبقت فِي الباب الماضي، فهي ضعيفة.

والحاصل أن روايته غير صحيحة؛ للاضطراب، والمخالفة المذكورة، وَقَدْ تقدّم البحث فِي هَذَا فِي "كتاب الحجّ" برقم 9/ 2635، فراجعه تزدد علمًا. والله تعالى أعلم بالصواب.

5395 -

(أَخْبَرَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، إِنَّ أَبِي أَدْرَكَهُ الْحَجُّ، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَا يَثْبُتُ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَإِنْ شَدَدْتُهُ خَشِيتُ أَنْ يَمُوتَ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: "أَفَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ، أَكَانَ مُجْزِئًا؟، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَحُجَّ عَنْ أَبِيكَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "مجاهد بن موسى": هو الْخُتَّليّ، نزيل بغداد الثقة [10]. و"هُشيم": هو ابن بشير. و"يحيى ابن أبي إسحاق": هو الحضرميّ مولاهم النحويّ، صدوقٌ، ربما أخطأ [5].

والحديث قد تقدّم أنه ضعيف للاضطراب، والمخالفة، وفيه أيضًا عنعنة هُشيم، وهو معروف بالتدليس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5396 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ، أَنَّهُ كَانَ رَدِيفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ، إِنْ حَمَلْتُهَا لَمْ تَسْتَمْسِكْ، وَإِنْ رَبَطْتُهَا خَشِيتُ أَنْ أَقْتُلَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ، أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ "، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَحُجَّ عَنْ أُمِّكَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أحمد بن سليمان": هو الرُّهاويّ الثقة الحافظ [11]. و"يزيد": هو ابن هارون. و"هشام": هو ابن حسّان القردوسيّ. و"محمّد": هو ابن سيرين.

والحديث ضعيف؛ لما سبق قريبًا، وفيه أيضًا انقطاع، كما سينبّه عليه المصنّف

ص: 252

رحمه الله تعالى فِي الْحَدِيث التالي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5397 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، يُحَدِّثُهُ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ، وَإِنْ حَمَلْتُهُ لَمْ يَسْتَمْسِكْ، أَفَأَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ:"حُجَّ عَنْ أَبِيكَ".

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سُلَيْمَانُ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو داود": هو سليمان بن سيف المذكور فِي الباب الماضي. و"الوليد بن نافع"، رَوَى عن شعبة، وعنه أبو داود الحرّانيّ، قَالَ الحافظ: قرأت بخطّ الذهبيّ: لا يُعرف، وَقَالَ فِي "التقريب": مقبول، منْ كبار [10] تفرد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.

والحديث ضعيف؛ لما سبق، وفيه أيضًا انقطاع، كما بيّنه المصنّف رحمه الله تعالى بقوله:"سليمان لم يسمع منْ الفضل بن عبّاس"، أي لأنه مات فِي خلافة عمر رضي الله عنه، وكان مولد سليمان سنة (24) وقيل: سنة (27)، أو بعدها، وَقَدْ تقدّم تمام البحث فِي هَذَا فِي "الحجّ" برقم 12/ 2643، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5398 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: "نَعَمْ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ، أَكَانَ يُجْزِئُ عَنْهُ؟ ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمّد بن معمر": هو القيسيّ البحرانيّ، أحد مشايخ الجماعة. و"أبو عاصم": هو الضحّاك بن مخلد النبيل. و"زكريا بن إسحاق": هو المكيّ الثقة، رمي بالقدر [6]. و"أبو الشعثاء": هو جابر بن زيد الأزديّ الْجَوْفيّ البصريّ الثقة الفقيه [3].

والحديث صحيح، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -10/ 5398. والظاهر أنه أتى به تقوية لرواية يحيى بن أبي إسحاق الأولى، فكأنه يصحح كونه منْ مسند ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، لكن عرفت أن رواية يحيى لا تصحّ؛ للاضطراب والمخالفة، فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

ص: 253

‌11 - (الْحُكْمُ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: أراد به الإجماع، وهو: اتفاق أهل الحلّ والعقد: أي المجتهدين منْ أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم عَلَى أمر منْ الأمور الدينيّة، هكذا قَالَ فِي "الفتح"، وَقَالَ فِي "جمع الجوامع": هو اتّفاق مجتهد الأمّة بعد وفاة محمّد صلى الله عليه وسلم فِي عصر عَلَى أيّ أمر كَانَ، وإلى هَذَا أشار فِي "الكوكب الساطع" بقوله:

هُوَ اتَّفَاقٌ جَاءَ مِنْ مُجْتَهِدِ

أُمَّتِنَا بَعْدَ وَفَاةِ أحْمَدِ

فِي أَيِّ مَا عَصْرٍ وَأَمْرٍ كَانَا

ذَلِكَ حَدٌّ فَائِقٌ إِتْقَانَا

وأراد المصنّف رحمه الله تعالى بهذه الترجمة بيان المراد منْ قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "فليقض بما قضى به الصالحون" اتفاق السلف الصالحين، وليس المراد أنه يقلّد منْ تقدّم منْ الصالحين، ويترك اجتهاده الذي فرضه الله تعالى عليه، فلا يُفهم منْ قوله رضي الله عنه هَذَا أنه يرى تقليد فرد منْ أفراد السلف، وإنما المراد إذا أجمعوا لا يتعدّه باجتهاده. والله تعالى أعلم بالصواب.

5399 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ -هُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: أَكْثَرُوا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّهُ قَدْ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ، وَلَسْنَا نَقْضِي، وَلَسْنَا هُنَالِكَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عز وجل قَدَّرَ عَلَيْنَا أَنْ بَلَغْنَا مَا تَرَوْنَ، فَمَنْ عَرَضَ لَهُ مِنْكُمْ قَضَاءٌ بَعْدَ الْيَوْمِ، فَلْيَقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ جَاءَ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ نَبِيُّهُ صلى الله عليه وسلم، فَإِنْ جَاءَ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا قَضَى بِهِ نَبِيُّهُ صلى الله عليه وسلم، فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ، فَإِنْ جَاءَ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا قَضَى بِهِ نَبِيُّهُ صلى الله عليه وسلم، وَلَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ، فَلْيَجْتَهِدْ رَأْيَهُ، وَلَا يَقُولُ: إِنِّي أَخَافُ وَإِنِّي أَخَافُ، فَإِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ.

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا الْحَدِيثُ جَيِّدٌ جَيِّدٌ).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(محمّد بن العلاء) الهمدانيّ، أبو كُريب الكوفيّ، ثقة ثبت عابد [10] 95/ 117.

2 -

(أبو معاوية) محمّد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقة، أحفظ النَّاس لحديث الأعمش، وَقَدْ يَهِم فِي حديث غيره، منْ كبار [9] 26/ 30.

3 -

(الأعمش) سليمان بن مهران الكوفيّ، ثقة حافظ ورع، لكنه يدلس [5] 17/ 18.

ص: 254

4 -

(عمارة بن عُمير) التيميّ الكوفيّ، ثقة ثبت [4] 49/ 608.

5 -

(عبد الرحمن بن يزيد) بن قيس النخعيّ، أبي بكر الكوفيّ، ثقة، منْ كبار [3] مات سنة (83) وهو أخو الأسود بن يزيد، وابن أخي علقمة بن قيس، وَقَدْ تقدّمت ترجمته فِي 37/ 41

6 -

(عبد الله) بن مسعود رضي الله تعالى عنه 35/ 39. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات الكوفيين. (ومنها): أن شيخه هو أحد المشايخ التسعة الذين رَوَى عنهم الجماعة بغير واسطة، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة. (ومنها): أن فيه ثلاثة منْ التابعين يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن بن يزيد. (ومنها): أن فيه "عبد الله" مهملاً، وهو ابن مسعود؛ لأنه المراد عند الإطلاق فِي الرواة الكوفيين، كما أنه إذا أُطلق فِي المدينة، فهو ابن عمر، وفي البصرة، فابن عبّاس، وفي مكة فابن الزبير، وفي مصر والشام فابن عمرو بن العاص رضي الله عنهم، وإلى ذلك أشار السيوطيّ رحمه الله تعالى فِي "ألفية الْحَدِيث" حيث قَالَ:

وَحَيْثُمَا أُطْلِقَ "عَبْدُ اللَّهِ" فِي

طَيْبَةَ فَابْنُ عُمرٍ وَإِنْ يَفِي

بِمَكَّةِ فَابْنُ الزُّبيْرِ أَوْ جَرَى

بِكُوفَةٍ فَهْوَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُرَى

وَالْبَصْرةِ الْبَحْرُ وَعِنْدَ مِصْرِ

وَالشَّامِ مَهْمَا أُطْلِقَ ابْنُ عَمْرِو

وَقَدْ تقدّم هَذَا غير مرّة، وإنما أعدته تذكيرًا؛ لطول العهد به. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ) رحمه الله تعالى، أنه (قَالَ: أَكْثَرُوا عَلَى عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه (ذَاتَ يَوْمٍ) أي يومًا منْ الأيام، يعني أن النَّاس أكثروا عليه فِي السؤال، وعرض الوقائع المحتاجة إلى الحكم ليحكم فيها (فَقَالَ عَبْدُ اللهِ) رضي الله عنه (إِنَّهُ) الضمير للشأن: أي إن الأمر والشأن (قَدْ أَتَى) أي مضى (عَلَيْنَا زَمَانٌ، وَلَسْنَا نَقْضِي) أي لسنا نحكم بين النَّاس؛ لوجود منْ يكفيهم ذلك (وَلَسْنَا هُنَالِكَ) أي لسنا فِي مقام نحكم به بين النَّاس (ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عز وجل قَدَّرَ) بتخفيف الدال المهملة، منْ بابي نصر، وضرب، قَدْرًا بالسكون، وقَدَرًا بالتحريك، أو بتشديدها، منْ التقدير (عَلَيْنَا أَنْ بَلَغْنَا) بتشديد اللام، منْ التبليغ، وفاعله ضمير يعود إلى "الله عز وجل" والضمير البارز مفعول أول، ويحتمل أن يكون بتخفيف اللام، منْ البلوغ، والضمير البارز فاعله (مَا تَرَوْنَ)"ما"

ص: 255

موصولة مفعول ثان عَلَى الوجه الأول، وهو المفعول به عَلَى الوجه الثاني (فَمَنْ عَرَضَ) بفتح الراء، منْ باب ضرب: أي ظهر (لَهُ مِنْكُمْ قَضَاءٌ بَعْدَ الْيَوْمِ، فَلْيَقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ) أي بالحكم المنصوص عليه فِي كتاب الله عز وجل، أو المستنبط منه (فَإِنْ جَاءَ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ) لا نصًّا، ولا استنباطًا (فَلْيَقْضِ بِما قَضَى بِهِ نَبِيُّهُ صلى الله عليه وسلم) فِي سنته القوليّة، أو الفعليّة، أو التقريريّة (فَإِنْ جَاءَ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ، وَلَا قَضَى بِهِ نَبِيُّهُ صلى الله عليه وسلم) لا نصًّا، ولا استنباطًا (فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ) أي منْ الصحابة، والتابعين لهم بإحسان (فَإِنْ جَاءَ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ، وَلَا قَضَى بِهِ نَبِيُّهُ صلى الله عليه وسلم، وَلَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ، فَلْيَجْتَهِدْ رَأْيَهُ) أي إن كَانَ أهلاً للاجتهاد، فليبذُل جهده حَتَّى يعلم باجتهاده حكم المسألة. قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: هَذَا الْحَدِيث دليلٌ عَلَى جواز الاجتهاد، نعم إنه موقوفٌ، لكنه فِي حكم الرفع عَلَى مقتضى القواعد، بقي أنه يدلّ عَلَى تقديم التقليد بالسلف الصالحين، كالخلفاء الأربعة عَلَى الرأي والقياس، فليُتأمّل، وكأنه لهذا حمله المصنّف عَلَى صورة الاتفاق؛ ليكون إجماعًا. والله تعالى أعلم. انتهى "شرح السنديّ" 8/ 230.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله السنديّ رحمه الله تعالى أخيرًا منْ أن المراد بقول ابن مسعود رضي الله عنه: "بما قضى به الصالحون" الاتّفاق هو الصواب، والحاصل أنه يجتهد فِي محلّ لا يكون فيه نصٌّ، منْ الكتاب، أو السنّة، ولا إجماعٌ. والله تعالى أعلم.

(وَلَا يَقُولُ: إِنِّي أَخَافُ وَإِنِّي أَخَافُ) أي لا يتعلّل، ولا يتكاسل عن الوصول باجتهاده إلى معرفة الحكم فِي المسألة (فَإِنَّ الْحَلَالَ بَيَّنٌ، وَالْحَرَامَ بَيَّنٌ) الفاء للتعليل: أي لأن الحلال واضح لا لبس فيه، فهو ما أحلّه الله عز وجل فِي كتابه، أو النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي سنته، وكذلك الحرام، فإنه واضح أيضًا؛ لأنه الذي أحلّه الله عز وجل فِي كتابه، أو النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي سنته (وَبَيْنَ ذَلِكَ) أي بين ما ذُكر منْ الحلال والحرام، فاسم الإشارة يعود إلى الحلال والحرام باعتبار ما ذُكر (أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ) أي تشتبه عَلَى الناظر إليها، حيث إن لها شبها بالحلال، وشبهًا بالحرام (فَدَعْ) أي اترُك (مَا يَرِيبُكَ) بفتح أوله، وكسر ثانيه، منْ الريب، أو بضمّ أوله، منْ الإرابة، قَالَ ابن الأثير رحمه الله تعالى: قد تكرّر فِي الْحَدِيث ذكر "الرَّيْبِ"، وهو بمعنى الشّكّ، وقيل: هو الشكّ مع التهمة، يقال: رابني الشيءُ، وأرابني: بمعنى شكّكني، وقيل: أرابني فِي كذا: أي شكّكني، وأوهمني الرِّيبة فيه، فإذا استيقنته، قلت: رابني بغير ألف، وفي الْحَدِيث:"دع ما يُريبك إلى ما لا يريبك، يُروى بفتح الياء، وضمّها: أي دع ما تشُكّ فيه إلى ما لا تشكّ فيه. انتهى "النهاية" 2/ 286. و"الريبة" بالكسر: الشكّ، وجمعها رِيبٌ بكسر، ففتح، مثلُ سِدْرة

ص: 256

وسِدَرٍ. أفاده فِي "المصباح".

(إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ) أي إلى ما لا تشكّ فيه، وفيه أن منْ اجتهد، ثم وقع له شكّ، فالأولى له أن يتركه، ويتمسّك بالبراء الأصليّة.

وحاصل ما أشار إليه ابن مسعود رضي الله عنه أنه يجب عَلَى العالم إذا سئل أن يبحث أوّلا فِي النصوص، فإذا لم يجد نصّا، بحث عما اتفق عليه السلف الصالحون، فإذا لم يجد ذلك اجتهد، ولا يتعلّل بالخوف منْ خطر الاجتهاد؛ لأن أمور الشرع واضحة، لا لبس فيها، فقد بيّن الله سبحانه وتعالى، فِي كتابه، أو عَلَى لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم الحلال، والحرام، فيمكن المجتهد الوصول إلى الحقّ بإمعان النظر فِي ذلك، فإن اتّفق له اشتباه فِي بعض الأمور، فليترك ما اشتبه عليه، وليأخذ ما استبان منه، وذلك بالتمسّك بالبراءة الأصليّة.

وهذا الأثر بمعنى الْحَدِيث المرفوع المتّفق عليه: "إن الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات

" الْحَدِيث. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هَذَا موقوف صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -11/ 5399 و5400 - وأخرجه (الدارميّ) فِي "المقدّمة"165. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان وجوب الحكم باتّفاق أهل العلم، ولا خلاف فِي ذلك بين أهل العلم، بل قالوا بكفر جاحده، إن كَانَ معلومًا منْ الدين بالضرورة، بأن عرفه الخاصّ والعامّ منْ غير قبول للتشكيك، فيلحق فِي ذلك بالضروريات، كوجوب الصلوات الخمس، والصوم، وحرمة الزنا، والخمر، فإن لم يبلغ رتبة الضروري، ولكنه مشتهر بين النَّاس، وهو منصوص عليه، كحلّ البيع، كفر جاحده فِي الأصحّ، وقيل: لا، لجواز أن يخفى عليه، فإن لم يكن منصوصًا عليه، ففيه وجهان لأصحاب الشافعيّ، قيل: يكفر جاحده؛ لشهرته، وصححه النوويّ فِي "باب الرّدّة". وقيل: لا؛ لجواز أن يخفى عليه، وَقَدْ حكاه الرافعيّ عن استحسان الإِمام، وأنه قَالَ: كيف نُكفّر منْ خالف الإجماع، ونحن لا نكفّر منْ ردّ أصل الإجماع، وإنما نبدّعه، ونضلّله، ثم أول كلام الأصحاب عَلَى ما إذا صدّق المجمعين عَلَى أن التحريم ثبت فِي

ص: 257

الشرع، ثم خالفه، فإنه يكون رادًا للشرع. ولا يكفر جاحد الخفيّ، ولو كَانَ منصوصًا عليه، كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب، فإنه قضى به النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما رواه البخاريّ. ولا يكفر جاحد المجمع عليه منْ غير الدين، كوجود بغداد قطعًا، وإلى هَذَا كله أشار فِي "الكوكب الساطع" بقوله:

جَاحِدُ مُجمَعٍ عَلَيْهِ عُلِمَا

ضُرُورَةً فِي الدِّينِ لَيْسَ مُسْلِمَا

قَطْعًا وَفِي الأَظْهَرِ مَنْصُوصٌ شُهِرْ

وَالْخُلْفُ فِيمَا لَمْ يُنَصَّ الْمُشْتَهِرْ

أَصَحُّهُ تَكْفِيرُهُ خُصُوصَا

لَا جَاحِدُ الْخَفِي وَلَوْ مَنْصُوصَا

(1)

(ومنها): أن فيه بيان ترتيب الاجتهاد للمفتي، والقاضي، وهو أن يبحث أوّلا فِي كتاب الله عز وجل، ثم فِي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم فِي فيما اتفق عليه أهل العلم، ثم يجتهد بعد ذلك فِي استنباط الأحكام منْ الأدلة المذكورة. (ومنها): أنه لا ينبغي لمن كَانَ أهلاً للاجتهاد أن يُحجم منْ الاجتهاد، متعلّلاً بالخوف، فإن السلف كانوا أخوف منه، ومع ذلك لم يتورّع أحد منهم إذا تعيّن عليه منْ التصدّي للفتوى، وحلّ المعضلات التي تأتي فِي الأمة، وإنما تورّعهم إذا وجدوا منْ يكفيهم، فيُحيلون عليه؛ طلبًا للبراءة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5400 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفِرْيَابِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ حُرَيْثِ بْنِ ظُهَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: أَتَى عَلَيْنَا حِينٌ، وَلَسْنَا نَقْضِي، وَلَسْنَا هُنَالِكَ، وَإِنَّ اللَّهَ عز وجل قَدَّرَ أَنْ بَلَغْنَا مَا تَرَوْنَ، فَمَنْ عَرَضَ لَهُ قَضَاءٌ بَعْدَ الْيَوْمِ، فَلْيَقْضِ فِيهِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ جَاءَ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ نَبِيُّهُ، فَإِنْ جَاءَ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَمْ يَقْضِ بِهِ نَبِيُّهُ صلى الله عليه وسلم، فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ، وَلَا يَقُولُ أَحَدُكُمْ: إِنِّي أَخَافُ، وَإِنِّي أَخَافُ، فَإِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ": هو الرّقّيّ العطّار، ثقة [10] منْ أفراد المصنّف، وابن ماجه. و"الفريابيّ": هو محمّد بن يوسف بن واقد الثقة الفاضل [9]. و"سفيان": هو الثوريّ.

و"حُريث بن ظُهير" -بتصغير الاسمين- الكوفيّ، قدِم الشام، مجهول [2].

رَوَى عن ابن مسعود، وعمّار بن ياسر. وعنه عُمارة بن عُمير. ذكره ابن سعد فِي

(1)

راجع شرحي عَلَى "الكوكب الساطع" ص 349 - 351.

ص: 258

الطبقة الأولى. قَالَ الحافظ: وقرأت بخطّ الذهبيّ: لا يُعرف -يعني عدالته-. وَقَدْ ذكره ابن حبّان فِي "الثقات". تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.

وقوله: "عن حُرَيث بن ظُهير" كتب فِي "تحفة الأشراف" 7/ 18 - 19 بعد أن ساقه بهذا السند: ما نصّه: تابعه شعبة، عن الأعمش. ورواه أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود -يعني الرواية المذكورة قبل هذه. قَالَ: وروه محمّد بن كثير، عن الأعمش، عن عمارة بن عُمير، عن عبد الرحمن ابن يزيد، وربما قَالَ: عن حُريث بن ظهير، عن ابن مسعود. انتهى.

وكتب الحافظ فِي "النكت الظراف" 7/ 18 - 19: ما نصّه: قلت: رواه مؤمّل، عن سفيان، عن عمارة بن عُمير، عن حُريث بن ظهير، وعبد الرحمن بن يزيد، كلاهما عن عبد الله

ذكره المحامليّ، عن العبّاس بن يزيد، عن مؤمّل، وَقَالَ: إنه ذاكره يحيى ابن سعيد، فسُرّ به. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: يستفاد مما ذُكر أن الْحَدِيث مرويّ عن عبد الرحمن ابن يزيد، وحريث بن ظهير، كلاهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

والحديث موقوف صحيح، بما قبله، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، كما ذكرته آنفًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5401 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ شُرَيْحٍ، أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ يَسْأَلُهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَنِ اقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَقْضِ بِهِ الصَّالِحُونَ، فَإِنْ شِئْتَ فَتَقَدَّمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَتَأَخَّرْ، وَلَا أَرَى التَّأَخُّرَ إِلاَّ خَيْرًا لَكَ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة. و"أبو عامر": هو عبد الملك بن عمرو الْعَقَديّ القيسيّ البصريّ. و"سفيان": هو الثوريّ الإِمام المعروف [7]. و"الشيبانيّ": هو سليمان بن أبي سليمان: فيروز، أبو إسحاق الشيبانيّ الكوفيّ الثقة [5]. و"الشعبيّ": هو عامر بن شراحيل الإِمام المشهور [3].

و"شُريح": هو ابن الحارث بن قيس الكنديّ النخعيّ القاضي، أبو أُميّة الكوفيّ المخضرم الثقة، وقيل: له صحبة، مات قبل (80)، أو بعدها، وله (108)، أو أكثر،

ص: 259

قَالَ بعضهم: حكم سبعين سنة، تقدّمت ترجمته فِي 51/ 3312.

وقوله: "فإن شئت فتقدّم الخ": أي تقدّم إلى القضاء بالاجتهاد، أو تأخّر: أي اترك القضاء بالاجتهاد. وقوله: "ولا أرى التأخّر إلا خيرًا لك": يعني أن التوقّف عن الاجتهاد هو الأولى له، وهذا لا ينافي ما سبق عن ابن مسعود رضي الله عنه منْ قوله:"ولا يقول أحدكم: إني أخاف الخ"؛ لأن ذاك فيما استبان له وجه الاجتهاد، وهذا فيما إذا التبس عليه. والله تعالى أعلم.

والحديث صحيح موقوف، تفرّد به المصنّف رحمه الله تعالى هنا -11/ 5401 وفي "الكبرى" 15/ 5944. وتمام شرحه يُعلم مما قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌12 - (تَأْوِيلُ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ})

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: غرض المصنّف رحمه الله تعالى بإيراد أثر ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما المذكور فِي الباب بيان أن المراد بهذه الآية هم الذين تركوا العمل بما فِي التوراة والإنجيل، ورضوا بالإيمان بما بدّلوا منهما، ودعوا النَّاس إلى ذلك. قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: الْحَدِيث يدلّ عَلَى أن عدم الحكم بما أنزل الله هو أن يحكم بالكفر والهوى، وهو مطلوب المصنّف بذكر الْحَدِيث. انتهى

(1)

.

قَالَ الإِمام ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: يقول تعالى ذكرُهُ: ومن كتم حكم الله الذي أنزله فِي كتابه، وجعله حكما بين عباده، فأخفاه، وحكم بغيره، كحكم اليهود فِي الزانيين المحصنين بالتجبيه والتحميم، وكتمانهم الرجم، وكقضائهم فِي بعض قتلاهم بدية كاملة، وفي بعض بنصف الدية، وفي الأشراف بالقصاص، وفي الأدنياء بالدية، وَقَدْ

(1)

"شرح السنديّ" 8/ 232.

ص: 260

سوى الله بين جميعهم فِي الحكم عليهم فِي التوراة، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، يقول: هؤلاء الذين لم يحكموا بما أنزل الله فِي كتابه، ولكن بدلوا وغيروا حكمه، وكتموا الحق الذي أنزله فِي كتابه، {هُمُ الْكَافِرُونَ} ، يقول: هم الذين ستروا الحق الذي كَانَ عليهم كشفُهُ وتبيينه وغطوه عن النَّاس، وأظهروا لهم غيره، وقضوا به لسحت أخذوه منهم عليه. انتهى

(1)

.

وسيأتي مزيد بسط فِي اختلاف العلماء فِي معنى الآية فِي المسألة الثانية، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب.

5402 -

(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(2)

الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَتْ مُلُوكٌ بَعْدَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه الصلاة والسلام، بَدَّلُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ، وَكَانَ فِيهِمْ مُؤْمِنُونَ، يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ، قِيلَ لِمُلُوكِهِمْ: مَا نَجِدُ شَتْمًا أَشَدَّ مِنْ شَتْمٍ يَشْتِمُونَّا هَؤُلَاءِ، إِنَّهُمْ يَقْرَءُونَ:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، وَهَؤُلَاءِ الآيَاتِ، مَعَ مَا يَعِيبُونَّا بِهِ فِي أَعْمَالِنَا فِي قِرَاءَتِهِمْ، فَادْعُهُمْ فَلْيَقْرَءُوا كَمَا نَقْرَأُ، وَلْيُؤْمِنُوا كَمَا آمَنَّا، فَدَعَاهُمْ، فَجَمَعَهُمْ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ، أَوْ يَتْرُكُوا قِرَاءَةَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ، إِلاَّ مَا بَدَّلُوا مِنْهَا، فَقَالُوا: مَا تُرِيدُونَ إِلَى ذَلِكَ، دَعُونَا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ: ابْنُوا لَنَا أُسْطُوَانَةً، ثُمَّ ارْفَعُونَا إِلَيْهَا، ثُمَّ اعْطُونَا شَيْئًا، نَرْفَعُ بِهِ طَعَامَنَا وَشَرَابَنَا، فَلَا نَرِدُ عَلَيْكُمْ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: دَعُونَا نَسِيحُ فِي الأَرْضِ، وَنَهِيمُ، وَنَشْرَبُ كَمَا يَشْرَبُ الْوَحْشُ، فَإِنْ قَدَرْتُمْ عَلَيْنَا فِي أَرْضِكُمْ فَاقْتُلُونَا، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ: ابْنُوا لَنَا دُورًا فِي الْفَيَافِي، وَنَحْتَفِرُ الآبَارَ، وَنَحْتَرِثُ الْبُقُولَ، فَلَا نَرِدُ عَلَيْكُمْ، وَلَا نَمُرُّ بِكُمْ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْقَبَائِلِ، إِلاَّ وَلَهُ حَمِيمٌ فِيهِمْ، قَالَ: فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27]، وَالآخَرُونَ قَالُوا: نَتَعَبَّدُ كَمَا تَعَبَّدَ فُلَانٌ، وَنَسِيحُ كَمَا سَاحَ فُلَانٌ، وَنَتَّخِذُ دُورًا كَمَا اتَّخَذَ فُلَانٌ، وَهُمْ عَلَى شِرْكِهِمْ، لَا عِلْمَ لَهُمْ بِإِيمَانِ الَّذِينَ اقْتَدَوْا بِهِ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ، انْحَطَّ رَجُلٌ مِنْ صَوْمَعَتِهِ، وَجَاءَ سَائِحٌ مِنْ سِيَاحَتِهِ، وَصَاحِبُ الدَّيْرِ مِنْ دَيْرِهِ، فَآمَنُوا بِهِ، وَصَدَّقُوهُ، فَقَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد: 28]: أَجْرَيْنِ: بِإِيمَانِهِمْ بِعِيسَى وَبِالتَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ، وَبِإِيمَانِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَتَصْدِيقِهِمْ، قَالَ:{يَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ}

(1)

"تفسير ابن جرير" 10/ 245.

(2)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 261

[الحديد: 28]: الْقُرْآنَ، وَاتِّبَاعَهُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:{لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} يَتَشَبَّهُونَ بِكُمْ، {أَنْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} الآيَةَ [الحديد: 27 - 29]).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(الحسين بن حُريث) أبو عَمّار الخزاعيّ مولاهم المروزيّ ثقة [10] 44/ 52.

2 -

(الفضل بن موسى) السِّينانيّ المروزيّ، ثقة ثبت، ربما أغرب، منْ كبار [9] 83/ 100.

3 -

(سفيان بن سعيد) الثوريّ الكوفيّ الإِمام الحجة الثبت المشهور [7] 33/ 37.

4 -

(عطاء بن السائب) أبو محمّد، أو أبو السائب الثقفيّ الكوفيّ، صدوقٌ اختلط [5] 152/ 243.

5 -

(سعيد بن جبير) الأسديّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 28/ 436.

6 -

(ابن عبّاس) عبد الله البحر الحبر رضي الله تعالى عنهما 27/ 31. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح وعطاء، وإن كَانَ اختلط إلا أن سفيان رَوَى عنه قبل اختلاطه، وأخرج له البخاريّ متابعة. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين منْ سفيان. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما منْ العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، رَوَى (2696) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: كَانَتْ مُلُوكٌ بَعْدَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه الصلاة والسلام، بَدَّلُوا التَّوْرَاةَ والإِنْجِيلَ) أي غيّروا ما فيهما منْ الأحكام التي لا توافق هواهم (وَكَانَ فِيهِمْ) أي فِي جملة أولئك الملوك المبدّلين، وقومهم قوم (مُؤْمِنُونَ) بالله تعالى، وبما أنزل عَلَى نبيهم (يَقْرَءُونَ التَّورَاةَ) أي والإنجيل بدليل ما يأتي منْ قوله:"أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل"(قِيلَ لِمُلُوكِهِمْ: مَا نَجِدُ شَتْمًا أَشَدَّ مِنْ شَتْمٍ يَشْتِمُونَّا هَؤُلَاءِ) يحتمل أن يكون بتشديد النون، وأصله:"يشتموننا"، فأدغمت نون الرفع فِي نون الضمير، ويحتمل أن يكون بتخفيفها بحذف إحداهما، وجملة "يشتمونا" فِي محلّ جرّ صفة لـ"شتم" بتقدير العائد: أي يشتموناه، والضمير المقدّر يكون مفعولا مطلقًا، ثم الكلام منْ باب "أكلوني البراغيث"، قاسم الإشارة فاعل والواو حرف دال عَلَى الجماعة، كما قَالَ فِي "الخلاصة":

ص: 262

وَقَدْ يُقَالُ سَعِدَا وَسَعِدُوا

وَالْفِعْلُ لِلظَّاهِرِ بَعْدُ مُسْنَدُ

أو الواو هو الفاعل، واسم الإشارة بدل عنه، كما قيل فِي قوله عز وجل:{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} الآية [الأنبياء: 3].

(إِنَّهُمْ يَقْرَءُونَ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]) أي هَذَا النصّ، فقوله:" {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ} الخ" مفعول به لـ"يقرؤون" محكيّ (وَهَؤُلَاءِ الآيَاتِ) قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: هو مبتدأ خبره محذوفٌ: أي منْ أشدّ الشتم. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ويحتمل أن يكون معطوفا عَلَى ما قبله، والإشارة إلى الآيتين اللتين بعد هذه، وإطلاق الجمع عَلَى الاثنين شائع، بل المختار أن أقل الجمع اثنان: أي ويقرؤون هؤلاء الآيات: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] مَعَ مَا يَعِيبُونَّا) بتشديد النون أيضًا، ويجوز تخفيفها بحذف إحداهما (بهِ فِي أَعْمَالِنَا فِي قِرَاءَتهِمْ) أي منْ تركهم العمل بما أُنزل إليهم منْ ربهم (فَادْعُهُمْ فَلْيَقْرَءُوا كَمَا نَقْرَأُ) أي منْ المحرّف (وَلْيُؤْمِنُوا كَمَا آمَنَّا) أي بما حرّفوه، وبدّلوه، وقالوا زورًا وبهتانًا: إنه منْ عند الله، وما هو منْ عند الله، كما قَالَ الله عز وجل:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79]، وَقَالَ:{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78](فَدَعَاهُمْ) ذلك الملك (فَجَمَعَهُمْ) فِي مكان واحد (وَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ، أَوْ يَتْرُكُوا قِرَاءَةَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ) بجزم "يَترُكوا" عطفًا عَلَى القتل؛ لأنه اسم خالص، أي غير مقصود به معنى الفعل، كما قوله عز وجل:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} الآية [الشورى: 51]، وكما فِي قول الشاعر:

وَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَقَرَّ عَيْنِي

أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ

قَالَ فِي "الخلاصة":

وَإِنْ عَلَى اسْمٍ خَالِصٍ فِعْلٌ عُطِفْ

تَنْصِبُهُ "أَنْ" ثَابِتًا أَوْ مُنْحَذِفْ

أي عرض عليهم أن يقبلوا القتل، أو الترك (إِلَّا مَا بَدَّلُوا) بتشديد الدال المهملة: أي غيّروا (مِنْهَا) أي منْ كلّ منْ الكتابين، فإفراد الضمير باعتبار المذكور (فَقَالُوا) أي المؤمنون الذي جُمعوا، وعُرض عليهم الخيار المذكور (مَا تُرِيدُون إِلَى ذلِكَ)"ما"

ص: 263

استفهاميّة: أي أيّ شيء تريدون، مائلين إلى ما تقولون، ويحتمل أن تكون "إلى" بمعنى "منْ": أي أَيَّ شي تريدون مما ذكرتم، والمراد أنكم لا تستفدون منْ الذي طلبتوه لنا، فإننا نبتعد منكم، ولا ينالكم منا أذى فـ (دَعُونَا) أي اتركونا عَلَى ما نحن عليه، ثم تفرّقوا فِي كيفية الانفصال، والابتعاد عنهم (فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ) أي منْ المؤمنين (ابْنُوا لَنَا أُسْطُوَانَةً) قَالَ الفيّوميّ: الأسطوانة بضم الهمزة والطاء: السارية، والنون عند الخليل أصل، فوزنها أُفْعُوالة، وعند بعضهم زائدة، والواو أصلٌ، فوزنها أُفْعُلانة، والجمع أساطين، وأُسْطُوانات عَلَى لفظ الواحد، والمراد به هنا أن يُبنى لهم مكان مرتفِع منْ الأرض يسكنونه، ويعتزلون فيه، ولا يختلطون بالناس (ثُمَّ ارْفَعُونَا إِلَيْهَا، ثُمَّ أَعْطُونَا شَيْئًا، نَرْفَعُ بِهِ طَعَامَنَا وَشَرَابَنَا، فَلَا نَرِدُ عَلَيْكُمْ) منْ الورود، أي حتّى تروا قراءتنا شتمًا لكم (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: دَعُونَا نَسِيحُ) بفتح أوله، منْ السياحة، منْ باب باع: أي نسير (فِي الأَرْضِ، وَنَهِيمُ) بفتح أوله بوزن ما قبله، يقال: هام فِي وجهه يَهيم: خرج عَلَى وجهه لا يدري أين يتوجّه، فهو هائمٌ إن سلك طريقًا مسلوكًا، فإن سلك طريقًا غير مسلوك، فهو راكبُ التعاسيف. قاله فِي "المصباح"(وَنَشْرَبُ كَمَا يَشْرَبُ الْوَحْشُ) أي منْ البحار، والأنهار والسيول (فَإنْ قَدَرْتُمْ عَلَيْنَا فِي أَرْضِكُمْ فَاقْتُلُونَا) مشارطة لهم عَلَى أنهم إن خالفوا ما ذكروا، وجاءوا إليهم، فقد نقضوا عهدهم، فلهمِ قتلهم (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ: ابْنُوا لَنَا دُورًا) بالضمّ: جمع دار (فِي الْفَيَافِي) بالفتح: جمع فَيْفٍ بوزن بيت، قَالَ فِي "القاموس": الْفَيْفُ: المكان المستوي، أو المفازة لا ماء فيها، كالفَيْفَاة، والْفَيْفَاء، جمعه أفيافٌ، وفُيُوفٌ، وفَيَافٍ. انتهى (وَنَحْتَفِرُ الآبَارَ، وَنَحْتَرِثُ الْبُقُولَ) هكذا النسخ "ونحتفر" بالواو، فيكون عطفًا عَلَى مقدّر: أي نسكنها، ونحتفر، والاحتفار: افتعال منْ الحفر للمبالغة، والبقول بالضمّ جمع بَقْل بفتح، فسكون: هو كلُّ نبات اخضرّت به الأرض. قاله فِي "المصباح"(فَلَا نَرِدُ عَلَيْكُمْ) منْ الورود: أي لا نجيء إلى أرضكم (وَلَا نَمُرُّ بِكُمْ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْقَبَائِلِ) التي حرّفت الكتابين، وطلبت منْ المؤمنين أن يرتدّوا، أو يقتلوهم (إِلَّا وَلَهُ حَمِيمٌ) بوزن قريب، ومعناه (فِيهِمْ) أي فِي أولئك المؤمنين (قَالَ: فَفَعَلُوا ذَلِكَ) أي ففعل الملك، وأعوانه لهؤلاء المؤمنين ما طلبوا منهم، منْ بناء الأسطوانة، والسياحة فِي الأرض، وبناء الدور فِي الفيافي، ولم يضطرّوهم إلى أن يرتدّوا عن دينهم؛ لأجل كونهم ذوي قرابة فيهم (فَأنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:{وَرَهْبَانِيَّةً} ) قَالَ النسفيّ رحمه الله: هي ترهّبهم فِي الجبال، فارّين منْ الفتنة فِي الدين، مخلّصين أنفسهم للعبادة، وهي الفعلة المنسوبة إلى الرَّهْبَان، وهو الخائف، فَعلان، منْ رَهِب، كخشيان منْ خشي، وانتصابها بفعل مضمر يفسّره الظاهر: تقديره: وابتدعوا رهبانيّة

ص: 264

(ابْتَدَعُوهَا) أي أخرجوها منْ عند أنفسهم، ونذروها (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) ما فرضنا تلك الرهبانية عليهم. وَقَالَ ابن كثير: أي ما شرعناها، وإنما هم التزموها منْ تلقاء أنفسهم (إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ) استثناء منقطع: أي ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله. قاله النسفيّ. وَقَالَ الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: فيه قولان: [أحدهما]: أنهم قصدوا بذلك رضوان الله، قاله سعيد بن جُبير، وقتادة. [والآخر]: ما كتبنا عليهم ذلك، إنما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله. انتهى (فَمَا رَعوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) أي فما قاموا بما التزموا حقّ القيام، وهذا ذمّ لهم منْ وجهين:[أحدهما]: الابتداع فِي دين الله ما لم يأمر به الله تعالى. [والثاني]: فِي عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقرّبهم إلى الله عز وجل. انتهى تفسير ابن كثير 4/ 338 (وَالآخَرُونَ) غير هؤلاء الذين خيرهم الملك بين القِتل والارتداد (قَالُوا: نَتَعبَّدُ كَمَا تَعَبَّدَ فُلَانٌ، وَنَسِيحُ كَمَا سَاحَ فُلَانٌ، وَنَتَّخِذُ دُورًا كَمَا اتَّخَذَ فُلَانٌ) يعنون الذين طلبوا منْ الملك أن يُعفيهم، ويتركهم عَلَى دينهم شريطة أن ينعزلوا منهم (وَهُمْ عَلَى شِرْكِهِمْ) أي وهؤلاء الآخرون لا يزالون عَلَى دينهم منْ الشرك؛ جهلاً منهم، كما بينه بقوله (لَا عِلْمَ لَهُمْ بِإِيمَانِ الَّذِينَ اقْتَدَوْا بِهِ) يعني أنهم اقتدوا بهم فِي مجرّد الانعزال منْ النَّاس، ولزوم الجبال، والفيافي، لا فِي إيمانهم، وعبادتهم (فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ) أي منْ هؤلاء المتعبّدين (إِلاَّ قَلِيلٌ، انْحَطَّ رَجُلٌ مِنْ صَوْمَعَتِهِ) بفتح، فسكون: متعبّد النصار، جمعها صوامع، قَالَ فِي "اللسان": الصومعة منْ البناء سمّيت صومعةً لتلطيف أعلاها، والصومعة: مَنَار الراهب، قَالَ سيبويه: هو منْ الأصمع يعني المحدّد الطرَف المنضمّ. انتهى. وَقَالَ فِي "المصباح": الصّمَعُ: لُصُوق الأذنين، وصِغَرهما، وهو مصدرُ صَمِعت الأذن منْ باب تَعِبَ، وكلُّ منضمّ، فهو متصمِّعٌ، ومن ذلك اشتُقّ صَومعة النصارى. انتهى.

(وَجَاءَ سَائِحٌ مِنْ سِيَاحَتِهِ، وَصَاحِبُ الدَّيْرِ مِنْ دَيْرِهِ)"الدَّيْر" بفتح، فسكون: هو خان النصارى، جمعه أديار. أفاده فِي "القاموس". وَقَالَ فِي "المصباح": الدَّيرُ للنصارى معروفٌ، والجمع دُيُورَةٌ، مثلُ بَعْل وبُعُولة. انتهى (فَآمَنُوا بِهِ) أي بالنبيّ صلى الله عليه وسلم (وَصَدَّقُوهُ، فَقَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} الخطاب لأهل الكتاب (اتَّقُوا اللَّهَ، وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) محمّد صلى الله عليه وسلم (يُؤْتِكُمْ) الله تعالى (كِفْلَيْنِ مِنْ رحْمَتِهِ) وقوله: (أَجْرَيْنِ: بِإِيمَانهِمْ بِعِيسَى وَبِالتَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ، وَبِإِيمَانهِمْ بِمُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَتَصْدِيقِهِمْ) تفسير منْ ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما للكفلين (قَالَ: {يَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ}: الْقُرْآنَ، وَاتِّبَاعَهُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ}) متعلّق بمحذوف: أي أعلمكم بذلك، أو فعل بكم ذلك. وَقَالَ الإِمام ابن جرير رحمه الله تعالى فِي "تفسيره" 23/ 213 - 234:

ص: 265

يقول الله تعالى للمؤمنين به وبمحمد صلى الله عليه وسلم منْ أهل الكتاب: يفعل بكم ربّكم هَذَا لكي يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون عَلَى شيء منْ فضل الله الذي آتاكم، وخصّكم به؛ لأنهم كانوا يرون أن الله قد فضلهم عَلَى جميع الخلق، فأعلمهم الله تعالى أنه قد آتى أمة محمّد صلى الله عليه وسلم منْ الفضل والكرامة ما لم يؤتهم، وأن أهل الكتاب حسدوا المؤمنين لما نزل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} الآية، فَقَالَ عز وجل: فعلت ذلك ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون عَلَى شيء منْ فضل الله. انتهى كلام ابن جرير رحمه الله تعالى.

وَقَالَ أيضًا: وقيل: {لِئَلَّا يَعْلَمَ} إنما هو ليعلم، وذُكر أن ذلك فِي قراءة عبد الله:"لكي يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون"؛ لأن العرب تجعل "لا" صلة فِي كلّ كلام دخل فِي أوله، أو آخره جحد غير مصرّح، كقوله فِي الجحد السابق الذي لم يُصرّح به:{مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} ، وقوله:{وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} ، وقوله:{وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} . انتهى.

وقوله: (يَتَشَبَّهُونَ بِكُمْ) هكذا لفظ "المجتبى"، ولفظ "الكبرى" فِي "التفسير":"الذين يتشبّهون بكم" بزيادة موصول.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي منْ معنى التشبّه هنا أنه تشبّههم فِي دعوى الإيمان، وذلك أنهم يقولون: نحن مؤمنون كما آمنتم، فيكون لنا أجر كأجركم، ويوضّح ذلك ما ذُكر فِي سبب نزول الآية، وذلك أنه لما سمع منْ لم يؤمن منْ أهل الكتاب قوله تعالى:{أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} قالوا للمسلمين: أمّا منْ آمن منا بكتابكم، فله أجره مرّتين؛ لإيمانه بكتابنا وكتابكم، ومن لم يؤمن بكتابكم، فله أجرٌ كأجركم، فبأيّ شيء فُضّلتم علينا، فأنزل الله تعالى:{لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} الآية

(1)

.

ووقع فِي "تفسير ابن جرير الطبريّ" 23/ 214: "الذين يتسمّعون"، فإن صحّت هذه اللفظة، فالمعنى عليها واضح، فـ"يتسمّعون" منْ التسمّع مبالغة فِي السماع، يعني الذين يسمعون هذه الآية عند نزولها للمسلمين.

وقوله: ({أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} الآيَةَ [الحديد: 29]) قَالَ البيضاويّ: والمعنى أنهم لا ينالون شيئًا مما ذُكر منْ فضله، ولا يتمكنون منْ نيله؛ لأنهم لم يؤمنوا برسوله، وهو مشروط بالإيمان به. أو لا يقدرون عَلَى شيء منْ فضل الله فضلاً عن أن يتصرّفوا فِي أعظمه، وهو النبوّة، فيخصّوا بها منْ أرادوا، ويؤيده قوله:

(1)

انظر "تفسير الخازن" 7/ 40 - 41.

ص: 266

{وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} الآية

(1)

، والجملة معطوفة عَلَى {أَلَّا يَقْدِرُونَ} الآية .. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما هَذَا موقوف صحيح، تفرد به المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -12/ 5402 - وفي "الكبرى" 12/ 5941. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي اختلاف أهل العلم فِي المراد بالكفر فِي قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} :

قَالَ الإِمام ابن جرير الطبريّ رحمه الله تعالى فِي "تفسيره": قد اختلف أهل التأويل فِي تأويل الكفر فِي هَذَا الموضع، فَقَالَ بعضهم: عَنَى به اليهود الذين حرفوا كتاب الله، وبدّلوا حكمه، ثم أخرجِ بسنده عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي قوله:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فِي الكافرين كلها". وأخرج عن أبي صالح أنه قَالَ: الثلاث الآيات التي فِي المائدة {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ليس فِي أهل الإِسلام منها شيء هي فِي الكفار. وعن الضحاك نحوه، وكذا عن أبي مِجْلز. وأخرج عن أبي البختريّ، قَالَ: سأل رجل حذيفة عن هؤلاء الآيات: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}؟ قَالَ: فقيل ذلك فِي بني إسرائيل؟ قَالَ: نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل، إن كانت لهم كل مُرّة، ولكم كل حُلْوة كَلّا والله لتسلكن طريقهم قِدَى الشراك

(2)

. وعن عكرمة قَالَ: هؤلاء الآيات فِي أهل الكتاب. ونحوه عن قتادة.

قَالَ: وَقَالَ بعضهم: عني بالكافرين أهل الإِسلام، وبالظالمين اليهود، وبالفاسقين النصارى.

ثم أخرج ذلك بطرق عن الشعبيّ.

(1)

راجع "حاشية الجمل" فِي تفسير "سورة الحديد" 4/ 298.

(2)

بكسر القاف، وتخفيف الدال مقصورًا: القدر: أي قدر الشراك، والشراك سَير النعل.

ص: 267

قَالَ: وَقَالَ آخرون: بل عُنِي بذلك كفرٌ دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. ثم أخرج ذلك عن عطاء، وعن طاوس قَالَ: ليس بكفر ينقل عن الملة. وأخرج عن طاوس، قَالَ: قَالَ رجل لابن عبّاس فِي هذه الآيات: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} فمن فعل هَذَا فقد كفر، قَالَ ابن عبّاس: إذا فعل ذلك فهو به كفر، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر وبكذا وكذا.

وَقَالَ آخرون: بل نزلت هذه الآيات فِي أهل الكتاب، وهي مراد بها جميع النَّاس، مسلموهم وكفارهم. وممن قَالَ بذلك إبراهيم النخعي، قَالَ: نزلت هذه الآيات فِي بني إسرائيل، ورضي لهذه الأمة بها. وَقَالَ الحسن البصريّ: نزلت فِي اليهود، وهي علينا واجبة.

وعن علقمة ومسروق أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة؟ فَقَالَ: منْ السحت، فقالا: أفي الحكم؟ قَالَ: ذاك الكفر، ثم تلا هذه الآية {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} .

قَالَ: وَقَالَ آخرون: معنى ذلك ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحدا به، فأما الظلم والفسق فهو للمقر به. ثم أخرج بسنده عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاس قَالَ: منْ جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم، فهو ظالم فاسق.

قَالَ الطبريّ رحمه الله تعالى: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول منْ قَالَ: نزلت هذه الآيات فِي كفار أهل الكتاب؛ لأن ما قبلها وما بعدها منْ الآيات ففيهم نزلت، وهم المعنيون بها، وهذه الآيات سياق الخبر عنهم، فكونها خبرا عنهم أولى.

فإن قَالَ قائل: فإن الله تعالى قد عم بالخبر بذلك عن جميع منْ لم يحكم بما أنزل الله، فكيف جعلته خاصا؟.

قيل: إن الله تعالى عم بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم به فِي كتابه جاحدين، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم عَلَى سبيل ما تركوه كافرون، وكذلك القول فِي كل منْ لم يحكم بما أنزل الله جاحدا به هو بالله كافر، كما قَالَ ابن عبّاس؛ لأنه بجحوده حكم الله بعد علمه أنه أنزله فِي كتابه نظير جحوده نبوة نبيه بعد علمه أنه نبي. انتهى ملخّص كلام ابن جرير رحمه الله تعالى

(1)

.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي رجحه ابن جرير رحمه الله تعالى هو الحقّ عندي، وحاصله أن الآيات نزلت فِي أهل الكتاب؛ لدلالة السياق عَلَى ذلك، ولكنها

(1)

راجع "تفسير ابن جرير" 10/ 245 - 358 تحقيق محمود محمّد شاكر.

ص: 268

تشمل هذه الأمة إذا سلكت سبيلهم بتركها الحكم بما أنزل الله جحودًا وعنادًا، لا ظلمًا وفسقًا. والله تعالى أعلم.

وَقَالَ ابن أبي العزّ فِي شرح "العقيدة الطحاويّة": ما خلاصته: الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفرًا ينقل عن الملّة، وَقَدْ يكون معصية كبيرة، أو صغيرة، ويكون كفرًا مجازيًّا، وذلك بحسب حال الحاكم، فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مُخَيَّرٌ فيه، أو استهان به مع تيقّنه أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر

(1)

، وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله، وعلمه فِي هذه الواقعة، وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحقّ للعقوبة، فهذا عاص، ويسمّى كافرًا كفرًا مجازيًا، أو كفرًا أصغر، وإن جهل حكم الله فيها، مع بذل جهده، واستفراغ وسعه فِي معرفة الحكم، وأخطأه، فهذا مخطىء، له أجرٌ عَلَى اجتهاده، وخطؤه مغفور. انتهى كلام ابن أبي العزّ رحمه الله تعالى

(2)

، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌13 - (الْحُكْمُ بِالظَّاهِرِ)

5403 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ").

(1)

علّق العلامة الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى هنا ما نصّه: وهذا مثل ما ابتلي به الذين درسوا القوانين الأوربيّة منْ رجال الأمم الإِسلاميّة، ونسائها أيضًا الذين أشربوا فِي قلوبهم حبّها، والشغف بها، والذبّ عنها، وحكموا بها، وأذاعوها بما ربّوا منْ تربية أساسها صنع المبشرين الهدّامين أعداء الإِسلام، ومنهم منْ يصرّح، ومنهم منْ يتوارى، ويكادون يكونون سواء، فإنا لله وإنا إليه راجعون. انتهى. كلامه. هامش "شرح الطحاوية" ص 324.

(2)

راجع "شرح العقيدة الطحاوية" ص 323 - 324 تخريج الشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى الطبعة الثامنة.

ص: 269

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلّاس البصريّ، ثقة ثبت [10] 4/ 4.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطّان البصريّ، ثقة ثبت حجة [9] 4/ 4.

3 -

(هشام بن عروة) بن الزبير، أبو المنذر المدنيّ، ثقة فقيه، ربما دلس [5] 49/ 61.

4 -

(أبوه) عروة بن الزبير بن العوّام المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 40/ 44.

5 -

(زينب بنت أبي سلمة) عبد بن عبد الأسد المخزوميّة، ربيبة النبيّ صلى الله عليه وسلم ماتت سنة (73) وتقدّمت ترجمتها فِي 123/ 182.

6 -

(أمّ سلمة) هند بنت أبي أمية المخزوميّة، أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، تقدّمت ترجمتها فِي 123/ 182. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، وشيخ شيخه، فبصريان. (ومنها): أن فيه رواية صحابيّة، عن صحابيّة، وتابعيّ عن تابعيّ، والبنت عن أمها، والابن عن أبيه، وفيه أن شيخ المصنّف هو أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ) رضي الله تعالى عنهما، وفي رواية البخاريّ:"منْ طريق ابن شهاب، قَالَ: أخبرني عروة بن الزبير، أن زينب ابنة أبي سلمة اخبرته، أن أم سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبرتها"(عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) رضي الله تعالى عنها (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ) وفي رواية للبخاريّ منْ طريق صالح بن كيسان، عن الزهريّ: "أنه سمع خُصومةً بباب حجرته، فخرج إليهم، فَقَالَ: إنما أنا بشر

". وفي رواية شعيب، عن الزهريّ: "سمع جلبة خصام": و"الجلبة" -بفتح الجيم واللام-: اختلاط الأصوات. ووقع فِي رواية يونس عند مسلم: "جَلَبَة خَصْم" -بفتح الخاء وسكون الصاد- وهو اسم مصدر يستوي فيه الواحد والجمع والمثنى، مذكرا ومؤنثا، ويجوز جمعه وتثنيته، كما فِي رواية "خُصُوم"، وكما فِي قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ}، ولمسلم منْ طريق معمر، عن هشام: "لَجَبَةً" -بتقديم اللام عَلَى الجيم- وهي لغة فيها.

قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: فأما الخصوم فلم أقف عَلَى تعيينهم، ووقع التصريح

ص: 270

بأنهما كانا اثنين، فِي رواية عبد الله بن رافع، عن أم سلمة، عند أبي داود، ولفظه:"أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان يختصمان"، وأما الخصومة، فبين فِي رواية عبد الله بن رافع، أنها كانت "فِي مواريث لهما"، وفي لفظ عنده:"فِي مواريث، وأشياء قد دَرَست". وقوله: "بباب حجرته" فِي رواية شعيب، ويونس عند مسلم:"عند بابه"، والحجرة المذكورة: هي منزل أم سلمة، ووقع عند مسلم فِي رواية معمر:"بباب أم سلمة". قاله فِي "الفتح" 15/ 79.

(وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ)"البشر": الخلق، يُطلق عَلَى الجماعة والواحد، بمعنى أنه منهم، والمراد أنه مشارك للبشر فِي أصل الخلقة، ولو زاد عليهم بالمزايا التي اختصّ بها فِي ذاته، وصفاته، والحصر هنا مجازي؛ لأنه يختص بالعلم الباطن، ويسمى قصر قلب؛ لأنه أتى به ردًّا عَلَى منْ زعم أنّ منْ كَانَ رسولاً، فإنه يعلم كل غيب، حَتَّى لا يخفى عليه المظلوم. قاله فِي "الفتح" 15/ 79.

وَقَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشرٌ": تنبيه عَلَى أن أصل البشرية عدم العلم بالغيب، وبما يخفى منْ البواطن، إلا منْ أطلعه الله تعالى عَلَى شيء منْ ذلك، وعلى جواز الغلط والسهو عليهم، إلا منْ عصمه الله تعالى منْ ذلك، وَقَدْ كَانَ الله تعالى قادرًا أن يُطلع نبيّه صلى الله عليه وسلم عَلَى بواطن كلّ منْ يتخاصم إليه، فيحكم بخفيّ ذلك، ويُخبر به، كما اتّفق له فِي مواضع، كقصّة حاطب بن أبي بلتعة، وحديث فَضالة بن عُمير، وذلك أنه أراد قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يطوف بالبيت، قَالَ: فلما دنوت منه، قَالَ:"أفضالةُ؟ "، قلت: نعم، قَالَ:"ما كنت تحدّث به نفسك؟ "، قلت: لا شيء، فضحك، وأخبرني بذلك، واستغفر لي، ووضع يده عَلَى صدري، فسكن قلبي

(1)

. وغير ذلك منْ الوقائع التي أخبر بها، فوُجدت كما أخبر، وكما اتّفق ذلك للخضر عليه السلام فِي قصّة السفينة، والغلام، والجدار، لكن إنما كَانَ ذلك للأنبياء منْ جملة كراماتهم، ومعجزاتهم، ولم يجعل الله ذلك طريقًا عامّا، ولا قاعدة كلّيّةً، لا لهم، ولا لغيرهم؛ لاستمرار العادة بأنّ ذلك لا يقع منْ غير الأنبياء

(2)

، ولأن وقوع ذلك منْ الأنبياء نادرٌ

(3)

، وتلك سنّة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.

(1)

ذكره ابن هشام فِي "السيرة" 2/ 417 وابن كثير فِي "البداية والنهاية" 4/ 308.

(2)

هَذَا غير مسلّم، فإنه يقع لغير الأنبياء منْ الصالحين؛ كرامة لهم، كما هو مسطور فِي كتب السنّة، فإنها طافحة بذلك، فتنبّه.

(3)

فيه نظر، فإنه وقوع المعجزات للأنبياء عليهم السلام ليس منْ النوادر، بل هو أكثر منْ أن يُحصر، فتنبّه.

ص: 271

قَالَ القرطبيّ: وَقَدْ شاهدت بعض الممخرقين، وسمعنا منهم أنهم يُعرضون عن القواعد الشرعيّة، ويحكمون بالخواطر القلبيّة، ويقول: الشاهد المتّصل بي أعدل منْ الشاهد المنفصل عنّي، وهذه مخرقةٌ أبرزتها زندقة، يُقتَل صاحبها، ولا يُستتاب منْ غير شكّ، ولا ارتياب. وهذا خير البشر النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول فِي مثل هَذَا الموطن:"إنما أنا بشر"، معترفًا بالقصور عن إدراك المغيّبات، وعاملاً بما نصبه الله تعالى له منْ الأيمان والبيّنات. انتهى كلام القرطبيّ- "المفهم" 5/ 153 - 154.

(وَلَعَلَّ) بمعنى "عسى"(بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ) أي أفطن لها، وأعرف بها، أو أقدر عَلَى بيان مقصوده، وأبين كلامًا، قَالَ ابن الأثير: اللحْنُ: الميل عن جهات الاستقامة، يقال: لَحَنَ فِي كلامه: إذا مال عن صحيح المنطق. وأراد: إن بعضكم يكون أعرف بالحجة، وأفطن لها منْ غيره. ويقال: لَحَنتُ لفلان: إذا قلتَ له قولاً يفهمه عنك، ويخفى عَلَى غيره؛ لأنك تُميله بالتورية عن الواضح المفهوم، ومنه لَحِنَ الرجل، فهو لَحِنٌ، منْ تعب: إذا فهم، وفطِنَ لما لا يَفْطَنُ له غيره. انتهى "النهاية" 4/ 241.

وَقَالَ الفيّوميّ: اللحَنُ -بفتحين-: الفِطنة، وهو مصدر، منْ باب تعب، والفاعل لَحِنٌ، ويتعدّى بالهمزة، فيقال: ألحنته عنّي، فلَحِن: أي أفطنته، ففطِن، وهو سُرعة الفهم، وهو ألحن منْ زيد: أي أسبق فهما منه. انتهى. وَقَالَ فِي "القاموس": ولحَن له: قَالَ له قولاً يفهمه عنه، ويخفى عَلَى غيره، ولحَنَ إليه: مال، وألحنه القول: أفهمه إيّاه، فلَحِنه، كسمِعه، وجعَله: فهمه، ولَحِنَ كفرِح: فَطِنَ لحجّته، وانتبه. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: يفهم مما سبق أن اللَّحَنَ بمعنى الفِطنة للحجة بالكسر منْ باب تعب، وأما بمعنى الفهم، فهو منْ بابي سمع، وجعل، وَقَدْ ذكر القرطبيّ فِي "المفهم" 5/ 155 جواز فتح الماضي وكسره إذا كَانَ بمعنى الفطنة، وفيه نظرٌ، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

وَقَدْ جاء هَذَا اللفظ مفسّرًا فِي رواية للبخاريّ، حيث قَالَ:"فلعلّ بعضكم أن يكون أبلغ منْ بعض": أي أكثر بلاغةً، وإيضاحًا لحجته. زاد فِي رواية البخاريّ:"فأحسب أنه صادقٌ، فأقضي له بذلك".

وقوله: "فأحسب أنه صادق": هَذَا يؤذن أن فِي الكلام حذفا تقديره: وهو فِي الباطن كاذب، وفي رواية معمر:"فأظنه صادقا"، وقوله:"فأقضي له بذلك"، فِي رواية أبي داود منْ طريق الثوري:"فأقضي له عليه عَلَى نحوٍ مما أسمع"، ومثله فِي رواية أبي معاوية، وفي رواية عبد الله بن رافع:"إني انما أقضي بينكم برأيي، فيما لم يُنزل عليّ فيه".

ص: 272

(فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ) أي خصمه، فهو أخوّة بالمعنى الأعمّ، وهو الجنس؛ لأن المسلم، والذمي، والمعاهد، والمرتد، فِي هَذَا الحكم سواء، فهو مُطّرد فِي الأخ منْ النسب، ومن الرضاع، وفي الدين، وغير ذلك، ويحتمل أن يكون تخصيص الأخوة بالذكر منْ باب التهييج، وفي رواية البخاريّ:"بحق مسلم".

(شَيْئًا) هكذا بالنصب، وكأنه ضمن "قضيت" معنى "أعطيت"، وفي رواية مالك، ومعمر:"فمن قضيت له بشيء منْ حق أخيه"، ووقع عند أبي داود بلفظ:"فمن قضيت له منْ حق أخيه بشيء، فلا يأخذه"، وفي رواية عبد الله بن رافع، عند الطحاوي، والدارقطني:"فمن قضيت له بقضية، أراها يقطع بها قطعة ظلما، فإنما يقطع له بها قطعة منْ نار إسطامًا، يأتي بها فِي عنقه يوم القيامة"، و"الإسطام" -بكسر الهمزة، وسكون السين المهملة، والطاء المهملة-: قطعة فكأنها للتأكيد. أفاده فِي "الفتح".

(فَلَا يَأْخُذْهُ) أي لكونه حرامًا، يستحقّ به العقاب، كما بيّنه بقوله (فَإِنَّمَا أَقْطَعُهُ بِهِ) أي أقطع له بسببه، فالكلام منْ باب الحذف والإيصال (قِطْعَةً مِنَ النَّارِ) ولفظ البخاريّ:"فإنما هي قطعة منْ النار"، وقوله:"فانما هي": الضمير للحالة، أو القصة. وقوله:"قطعة منْ النار": أي الذي قضيت له به بحسب الظاهر، إذا كَانَ فِي الباطن لا يستحقه، فهو عليه حرام، يئول به إلى النار. وقوله:"قطعة منْ النار": تمثيل يُفهم منه شدة التعذيب عَلَى منْ يتعاطاه، فهو منْ مجاز التشبيه، كقوله تعالى:{إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النِّساء: 10].

زاد فِي رواية البخاريّ منْ طريق صالح، عن ابن شهاب:"فليأخذها، أو ليتركها"، وفي رواية يونس:"فليحملها، أو ليذرها"، وفي رواية مالك، عن هشام:"فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة منْ النار".

قَالَ الدارقطنيّ: هشام، وإن كَانَ ثقة، لكن الزهريّ احفظ منه، وحكاه الدارقطنيّ عن شيخه أبي بكر النيسابوري. قَالَ الحافظ: ورواية الزهريّ ترجع إلى رواية هشام، فإن الأمر فيه للتهديد، لا لحقيقة التخيير، بل هو كقوله:{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]. قَالَ ابن التين: هو خطاب للمقضي له، ومعناه: أنه أعلم منْ نفسه، هل هو مُحِقّ، أو مبطل، فإن كَانَ محقا فليأخذ، وإن كَانَ مبطلا فليترك، فإن الحكم لا ينقل الأصل عما كَانَ عليه.

[تنبيه]: زاد عبد الله بن رافع، فِي آخر الْحَدِيث:"فبكى الرجلان، وَقَالَ كل منهما حقي لك، فَقَالَ لهما النبيّ صلى الله عليه وسلم: أمّا إذا فعلتما، فاقتسما، وتَوّخّيا الحق، ثم استهما، ثم تحاللا". ذكره فِي "الفتح" 15/ 80. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع

ص: 273

والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -13/ 5403 و33/ 5424 - وفي "الكبرى" 17/ 5956 و37/ 5984. وأخرجه (خ) فِي "المظالم والغصب" 2458 و"الشهادات" 2680 و"الحيل" 6967 و"الأحكام" 7169 و7181 (م) فِي "الأقضية" 1713 (د) فِي "الأقضية" 3583 (ت) فِي "الأحكام" 1339 (ق) فِي "الأحكام" 2317 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 25142 و25952 و26078 و26086 و26177 (الموطأ) فِي "الأقضية" 1424. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان أن حكم الحاكم عَلَى الظاهر، لا عَلَى باطن الأمور، فلا يُحلّ، حراما، ولا يحرم حلالاً، قَالَ الإِمام الشافعيّ رحمه الله تعالى -لَمّا ذكر هَذَا الْحَدِيث-: فيه دلالة عَلَى أن الأمة إنما كلفوا القضاء عَلَى الظاهر، وفيه أن قضاء القاضي لا يحرم حلالاً، ولا يحل حراما. انتهى. (ومنها): إثم منْ خاصم فِي باطل، حَتَّى استحق به فِي الظاهر شيئا هو فِي الباطن حرام عليه. (ومنها): أن منْ ادّعى مالاً، ولم يكن له بينة، فحلف المدعى عليه، وحكم الحاكم ببراءة الحالف، أنه لا يبرأ فِي الباطن، وأن المدعي لو أقام بينة بعد ذلك، تُنافي دعواه سمعت، وبطل الحكم. (ومنها): أن منْ احتال لأمر باطل بوجه منْ وجوه الحيل، حَتَّى يصير حقّا فِي الظاهر، ويُحكَم له به، أنه لا يحل له تناوله فِي الباطن، ولا يرتفع عنه الإثم بالحكم. (ومنها): أن المجتهد قد يخطىء، فَيُرَدُّ به عَلَى منْ زعم أن كل مجتهد مصيب. (ومنها): أن المجتهد إذا أخطأ لا يلحقه إثم، بل يؤجر كما سبق فِي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"إذا حكم الحاكم، فاجتهد، فأصاب، فله أجران، وإذا اجتهد، فأخطأ، فله أجر". (ومنها): أنه صلى الله عليه وسلم كَانَ يقضي بالاجتهاد فيما لم ينزل عليه فيه شيء، وخالف فِي ذلك قوم، وهذا الْحَدِيث منْ أصرح ما يُحتَجُّ به عليهم. (ومنها): أنه ربما أداه اجتهاده إلى أمر، فيحكم به، ويكون فِي الباطن بخلاف ذلك، لكن مثل ذلك لو وقع، لم يُقَرَّ عليه صلى الله عليه وسلم؛ لثبوت عصمته.

واحتج منْ منع مطلقا بأنه لو جاز وقوع الخطأ فِي حكمه، للزم أمر المكلفين

ص: 274

بالخطأ؛ لثبوت الأمر باتباعه فِي جميع أحكامه، حَتَّى قَالَ تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [النِّساء: 65]، وبأن الإجماع معصوم منْ الخطأ، فالرسول صلى الله عليه وسلم أولى بذلك؛ لعلو رتبته.

[والجواب]: عن الأول: أن الأمر إذا استلزم إيقاع الخطإ، لا محذور فيه؛ لأنه موجود فِي حق المقلدين، فإنهم مأمورن باتباع المفتي والحاكم، ولو جاز عليه الخطأ. [والجواب]: عن الثاني أن الملازمة مردودة، فإن الإجماع إذا فُرض وجوده دلّ عَلَى أن مُستَنَدهم ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فرجع الاتباع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، لا إلى نفس الإجماع، والحديث حجة لمن أثبت أنه قد يحكم بالشيء فِي الظاهر، ويكون الأمر فِي الباطن بخلافه، ولا مانع منْ ذلك، إذ لا يلزم منه محال عقلا، ولا نقلا.

وأجاب منْ منع بأن الْحَدِيث، يتعلّق بالحكومات الواقعة، فِي فصل الخصومات، المبنية عَلَى الإقرار، أو البينة، ولا مانع منْ وقوع ذلك فيها، ومع ذلك فلا يُقَرّ عَلَى الخطإ، وإنما الممتنعة أن يقع فيه الخطأ أن يُخبِر عن أمر بأن الحكم الشرعي فيه كذا، ويكون ذلك ناشئا عن اجتهاده، فإنه لا يكون إلا حقّا؛ لقوله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} الآية [النجم: 3].

[وأجيب]: بأن ذلك يستلزم الحكم الشرعي، فيعود الإشكال، كما كَانَ، ومن حجج منْ أجاز ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"أمرت أن أقاتل النَّاس حَتَّى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم"، فيحكم بإسلام منْ تلفظ بالشهادتين، ولو كَانَ فِي نفس الأمر يعتقد خلاف ذلك.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي ترجيح القول بثبوت الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم، لوضوح الأدلة المذكور، ولكنه لا يقرّ عَلَى خطئه، ولا ينافي ذلك قوله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} الآية [النجم: 3]؛ لأن ذلك إذا أخبر عن الله سبحانه وتعالى، لا عن اجتهاداته.

والحكمة فِي ذلك مع أنه كَانَ يمكن اطلاعه صلى الله عليه وسلم بالوحي عَلَى كل حكومة، أنه لما كَانَ مُشَرِّعًا، كَانَ يحكم بما شُرع للمكلفين، ويعتمده الحكام بعده، ومن ثَمَّ قَالَ:"إنما أنا بشر": أي فِي الحكم بمثل ما كُلّفوا به.

قَالَ الحافظ: وإلى هذه النكتة أشار البخاريّ بإيراده حديث عائشة رضي الله تعالى عنها فِي قصة ابن وليدة زَمْعَة، حيث حكم صلى الله عليه وسلم بالولد لعبد بن زمعة، وألحقه بزمعة، ثم لَمّا رأى شبهه بعتبة أمر سودة أن تحتجب منه؛ احتياطا، ومثله قوله فِي قصة المتلاعنين، لما وَضَعت التي لوعنت، ولدا يشبه الذي رُميت به:"لولا الأيمان لكان لي ولها شأن"،

ص: 275

فأشار البخاريّ إلى أنه صلى الله عليه وسلم حكم فِي ابن وليدة زمعة بالظاهر، ولو كَانَ فِي نفس الأمر ليس منْ زمعة، ولا يسمى ذلك خطأ فِي الاجتهاد، ولا هو منْ موارد الاختلاف فِي ذلك، وسبقه إلى ذلك الشافعيّ، فإنه لَمّا تكلم عَلَى حديث الباب قَالَ: وفيه أن الحكم بين النَّاس يقع عَلَى ما يُسمع منْ الخصمين بما لفظوا به، وإن كَانَ يمكن أن يكون فِي قلوبهم غير ذلك، وأنه لا يُقضَى عَلَى أحد بغير ما لَفَظ به، فمن فعل ذلك فقد خالف كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قَالَ: ومثل هَذَا قضاؤه لعبد بن زمعة بابن الوليدة، فلما رأى الشبه بَيِّنًا بعتبة، قَالَ:"احتجبي منه يا سودة". انتهى.

قَالَ الحافظ: ولعل السر فِي قوله: "إنما أنا بشر" امتثال قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110]: أي فِي إجراء الأحكام عَلَى الظاهر، الذي يستوي فيه جميع المكلفين، فأُمر أن يحكم بمثل ما أمروا أن يحكموا به؛ ليتم الاقتداء به، وتطيب نفوس العباد للانقياد إلى الأحكام الظاهرة، منْ غير نظر إلى الباطن.

والحاصل أن هنا مقامين: [أحدهما]: طريق الحكم، وهو الذي كُلِّف المجتهد بالتبصر فيه، وبه يتعلق الخطأ والصواب، وفيه البحث. [والآخر]: ما يُبطنه الخصم، ولا يطلع عليه إلا الله، ومن شاء منْ رسله، فلم يقع التكليف به.

(ومنها): استُدِلَّ بالحديث لمن قَالَ: إن الحاكم لا يحكم بعلمه، بدليل الحصر فِي قوله:"إنما أقضي له بما أسمع"، وسيأتي البحث عنه فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى. (ومنها): أن التعمق فِي البلاغة بحيث يحصل اقتدار صاحبها عَلَى تزيين الباطن فِي صورة الحق، وعكسه مذموم، فإن المراد بقوله:"أبلغ": أي أكثر بلاغةً، ولو كَانَ ذلك فِي التوصل إلى الحق لم يذمّ، وإنما يُذمّ منْ ذلك ما يُتوصل به إلى الباطل فِي صورة الحق، فالبلاغة إذن لا تُذمّ لذاتها، وإنما تذم بحسب التعلق الذي يمدح بسببه، وهي فِي حد ذاتها ممدوحة، وهذا كما يذم صاحبها إذا طرأ عليه بسببها الإعجاب، وتحقير غيره، ممن لم يصل إلى درجته، ولاسيما إن كَانَ الغير منْ أهل الصلاح، فإن البلاغة إنما تذم منْ هذه الحيثية، بحسب ما ينشأ عنها منْ الأمور الخارجية عنها، ولا فرق فِي ذلك بين البلاغة، وغيرها، بل كل فتنة توصل إلى المطلوب محمودة فِي حد ذاتها، وَقَدْ تذم، أو تمدح بحسب متعلقها.

[تنبيه]: اختلف فِي تعريف البلاغة، فقيل: أن يبلغ بعبارة لسانه، كنه ما فِي قلبه. وقيل: إيصال المعنى إلى الغير بأحسن لفظ. وقيل: الإيجاز مع الإفهام، والتصرف منْ غير إضمار. وقيل: قليل لا يبهم، وكثير لا يسأم. وقيل: إجمال اللفظ، واتساع المعنى. وقيل: تقليل اللفظ، وتكثير المعنى. وقيل: حسن الإيجاز مع إصابة المعنى.

ص: 276

وقيل: سهولة اللفظ مع البديهة. وقيل: لمحة دالة، أو كلمة تكشف عن البغية. وقيل: الإيجاز منْ غير عجز، والاطناب منْ غير خطأ. وقيل: النطق فِي موضعه، والسكوت فِي موضعه. وقيل: معرفة الفصل والوصل. وقيل: الكلام الدال أوله عَلَى آخره وعكسه. وهذا كله عن المتقدمين. وعَرَّف أهل المعاني والبيان البلاغة: بأنها مطابقة الكلام لمقتضى الحال والفصاحة

(1)

، وهي خلوه عن التعقيد. وقالوا: المراد بالمطابقة ما يحتاج إليه المتكلم، بحسب تفاوت المقامات، كالتأكيد وحذفه، والحذف وعدمه، أو الإيجاز والإسهاب، ونحو ذلك. والله أعلم.

(ومنها): الرد عَلَى منْ حكم بما يقع فِي خاطره، منْ غير استناد إلى أمر خارجي، منْ بينة ونحوها، واحتج بأن الشاهد المتصل به، أقوى منْ المنفصل عنه. ووجه الرد عليه كونه صلى الله عليه وسلم، أعلى فِي ذلك منْ غيره مطلقا، ومع ذلك فقد دل حديثه هَذَا عَلَى أنه إنما يحكم بالظاهر فِي الأمور العامة، فلو كَانَ المدعَى صحيحا لكان الرسول أحق بذلك، فإنه أعلم أنه تجري الأحكام عَلَى ظاهرها، ولو كَانَ يمكن أن الله يطلعه عَلَى غيب كل قضية، وسبب ذلك أن تشريع الأحكام واقع عَلَى يده، فكأنه أراد تعليم غيره منْ الحكام أن يعتمدوا ذلك، نعم لو شهدت البينة مثلا بخلاف ما يعلمه علما حسيا بمشاهدة، أو سماع يقينيا، أو ظنيا راجحا، لم يجز له أن يحكم بما قامت به البينة، ونقل بعضهم الاتفاق، وإن وقع الاختلاف فِي القضاء بالعلم، كما سيأتي قريبًا، إن شاء الله تعالى. (ومنها): أن فِي الْحَدِيث أيضًا موعظةَ الإِمام الخصومَ؛ ليعتمدوا الحق، والعمل بالنظر الراجح، وبناء الحكم عليه، وهو أمر إجماعي للحاكم والمفتي. قاله فِي "الفتح" 15/ 84. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة) فِي بيان أن حكم الحاكم لا يُحلّ حرامًا، ولا يُحرّم حلالاً مطلقّا:

قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: حكم الحاكم لا يزيل الشيء عن صفته، فِي قول جمهور العلماء، منهم: مالك، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، ومحمد ابن الحسن.

وَقَالَ أبو حنيفة: إذا حكم الحاكم بعقد، أو فسخ أو طلاق، نفذ حكمه ظاهرا وباطنا، فلو أن رجلين تعمدا الشهادة عَلَى رجل، أنه طلق امرأته، فقبلهما القاضي بظاهر عدالتهما، ففرق بين الزوجين، لجاز لأحد الشاهدين نكاحها، بعد انقضاء عدتها، وهو عالم بتعمده الكذب، ولو أن رجلاً ادّعى نكاح امرأة، وهو يعلم أنه

(1)

هكذا نسخة "الفتح" 15/ 84 ولعل الأولى: "مع الفصاحة".

ص: 277

كاذب، وأقام شاهدي زور، فحكم الحاكم، حَلّت له بذلك، وصارت زوجته، قَالَ ابن المنذر: وتفرد أبو حنيفة، فَقَالَ: لو استأجرت امرأة شاهدين شهدا لها بطلاق زوجها، وهما يعلمان كذبهما، وتزويرهما، فحكم الحاكم بطلاقها لحل لها أن تتزوج، وحَلّ لأحد الشاهدين نكاحها، واحتج بما رُوي عن عليّ رضي الله عنه، أن رجلاً ادّعى عَلَى امرأة نكاحها، فرفعها إلى عليّ رضي الله عنه، فشهد له شاهدان بذلك، فقضى بينهما بالزوجية، فقالت: والله ما تزوجني يا أمير المؤمنين، اعقد بيننا عقدا حَتَّى أحل له، فَقَالَ:"شاهداك زوّجاك"

(1)

، فدل عَلَى أن النكاح ثبت بحكمه، ولأن اللعان يَنفسخ به النكاح، وإن كَانَ أحدهما كاذبا، فالحكم أولى.

قَالَ: ولنا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته منْ بعض، فأقضي له عَلَى نحوِ ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء منْ حق أخيه، فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة منْ النار"، متّفقٌ عليه، وهذا يدخل فيه ما إذا ادّعى أنه اشترى منه شيئا، فحكم له، ولأنه حكم بشهادة زور، فلا يحل له ما كَانَ محرما عليه، كالمال المطلق، وأما الخبر عن عليّ رضي الله عنه، إن صح

(2)

فلا حجة لهم فيه؛ لأنه أضاف التزويج إلى الشاهدين، لا إلى حكمه، ولم يجبها إلى التزويج؛ لأن فيه طعنا عَلَى الشهود، فأما اللعان فإنما حصلت الفرقة به، لا بصدق الزوج، ولهذا لو قامت البينة به، لم ينفسخ النكاح.

إذا ثبت هَذَا فإذا شهد عَلَى امرأة بنكاح، وحكم به الحاكم، ولم تكن زوجته، فإنها لا تحل له، ويلزمها فِي الظاهر، وعليها أن تمتنع ما أمكنها، فإن أكرهها عليه، فالإثم عليه دونها، وإن وطئها الرجل، فَقَالَ أصحابنا، وبعض الشافعيّة: عليه الحد؛ لأنه وطئها، وهو يعلم أنها أجنبية، وقيل: لا حد عليه؛ لأنه وطء مختلف فِي حله، فيكون ذلك شبهة، وليس لها أن تتزوج غيره، وَقَالَ أصحاب الشافعيّ: تحل لزوج ثان، غير أنها ممنوعة منه فِي الحكم، وَقَالَ القاضي: يصح النكاح.

ولنا أن هَذَا يفضي إلى الجمع بين الوطء للمرأة منْ اثنين: أحدهما يطؤها بحكم الظاهر، والآخر بحكم الباطن، وهذا فساد، فلا يشرع، ولأنها منكوحة لهذا الذي قامت له البينة فِي قول بعض الأئمة، فلم يجز تزويجها لغيره، كالمتزوجة بغير ولي، وحكى أبو الخطاب عن أحمد، رواية أخرى مثل مذهب أبي حنيفة، فِي أن حكم الحاكم يزيل الفسوخ والعقود، والأول هو المذهب. انتهى "المغني" 14/ 37 - 39.

(1)

هَذَا لا يصحّ عن عليّ رضي الله عنه، كما سيأتي قريبًا.

(2)

سيأتي أنه لا يصحّ هَذَا عن عليّ رضي الله عنه.

ص: 278

وَقَالَ فِي "الفتح": قَالَ الطحاوي: ذهب قوم إلى أن الحكم بتمليك مال، أو إزالة ملك، أو إثبات نكاح، أو فرقة، أو نحو ذلك، إن كَانَ فِي الباطن كما هو فِي الظاهر، نفذ عَلَى ما حكم به، وإن كَانَ فِي الباطن، عَلَى خلاف ما استند إليه الحاكم، منْ الشهادة، أو غيرها، لم يكن الحكم موجبا للتمليك، ولا الإزالة، ولا النكاح، ولا الطلاق، ولا غيرها، وهو قول الجمهور، ومعهم أبو يوسف.

وذهب آخرون إلى أن الحكم إن كَانَ فِي مال، وكان الأمر فِي الباطن، بخلاف ما استند إليه الحاكم منْ الظاهر، لم يكن ذلك موجبا لحله، للمحكوم له، وإن كَانَ فِي نكاح، أو طلاق، فإنه ينفذ باطنا وظاهرا، وحملوا حديث الباب، عَلَى ما ورد فيه، وهو المال، واحتجوا لما عَدَاه بقصة المتلاعنين، فإنه صلى الله عليه وسلم فَرّق بين المتلاعنين مع احتمال أن يكون الرجل، قد صَدَق فيما رماها به، قَالَ: فيؤخذ منْ هَذَا أن كل قضاء، ليس فيه تمليك مال أنه عَلَى الظاهر، ولو كَانَ الباطن بخلافه، وأنّ حكم الحاكم يُحدِث فِي ذلك التحريم والتحليل، بخلاف الأموال.

وتعقب بأن الفرقة فِي اللعان، إنما وقعت عقوبةً للعلم بأن أحدهما كاذب، وهو أصل برأسه، فلا يقاس عليه.

وأجاب غيره منْ الحنفية، بأن ظاهر الْحَدِيث يدلّ عَلَى أن ذلك مخصوص، بما يتعلق بسماع كلام الخصم، حيث لا بينة هناك، ولا يمين، وليس النزاع فيه، وإنما النزاع فِي الحكم المرتب عَلَى الشهادة، وبأن "مَنْ" فِي قوله:"فمن قضيت له" شرطية، وهي لا تستلزم الوقوع، فيكون مِنْ فَرْضِ ما لم يقع، وهو جائز فيما تعلق به غَرَضٌ، وهو هنا محتمل لأن يكون للتهديد والزجر، عن الإقدام عَلَى أخذ أموال النَّاس باللسَن، والإبلاغ فِي الخصومة، وهو وإن جاز أن يستلزم عدم نفوذ الحكم باطنا، فِي العقود والفسوخ، لكنه لم يُسَق لذلك، فلا يكون فيه حجة لمن منع، وبأن الاحتجاج به، يستلزم أنه صلى الله عليه وسلم يُقَرُّ عَلَى الخطإ؛ لأنه لا يكون ما قضى به قطعة منْ النار، إلا إذا استمر الخطأ، وإلا فمتى فُرِض أنه يطلع عليه، فإنه يجب أن يُبطِل ذلك الحكم، ويَرُدّ الحق لمستحقه، وظاهر الْحَدِيث يخالف ذلك، فإما أن يسقط الاحتجاج به، ويُؤَوّل عَلَى ما تقدّم، وإما أن يستلزم استمرار التقرير عَلَى الخطإ، وهو باطل.

والجواب عن الأول أنه خلاف الظاهر، وكذا الثاني، والجواب عن الثالث أن الخطأ الذي لا يُقَرّ عليه هو الحكم الذي صدر عن اجتهاد فيما لم يوح إليه فيه، وليس النزاع فيه، وإنما النزاع فِي الحكم الصادر منه بناء عَلَى شهادة زور، أو يمين فاجرة، فلا يسمى خطأ؛ للاتفاق عَلَى وجوب العمل بالشهادة، وبالأيمان، وإلا لكان الكثير منْ الأحكام

ص: 279

يسمى خطأ، وليس كذلك، كما تقدمت الإشارة إليه فِي حديث:"أمرت أن أقاتل النَّاس حَتَّى يقولوا: لا إله إلا الله"، وحديث:"إني لم أُومر بالتنقيب عن قلوب النَّاس"، وعلى هَذَا فالحجة منْ الْحَدِيث ظاهرة، فِي شمول الخبر الأموال، والعقود، والفسوخ. والله أعلم.

ومن ثَمّ قَالَ الشافعيّ: إنه لا فرق فِي دعوى حل الزوجة لمن أقام بتزويجها بشاهدي زور، وهو يعلم بكذبهما، وبين منْ ادّعى عَلَى حُرّ أنه فِي ملكه، وأقام بذلك شاهدي زور، وهو يعلم حريته، فإذا حَكَم له الحاكم بأنه ملكه، لم يحل له أن يسترقّه بالإجماع.

قَالَ النوويّ: والقول بأن حكم الحاكم يُحِلّ ظاهرا وباطنا مخالف لهذا الْحَدِيث الصحيح، وللإجماع السابق عَلَى قائله، ولقاعدةٍ أجمع العلماء عليها، ووافقهم القائل المذكور، وهو أن الأبضاع أولى بالاحتياط منْ الأموال.

وَقَالَ ابن العربي: إن كَانَ حاكما نَفَذ عَلَى المحكوم له، أو عليه، وإن كَانَ مفتيا لم يحل، فإن كَانَ المفتي له مجتهدا، يرى بخلاف ما أفتاه به، لم يجز، وإلا جاز. والله اعلم، قَالَ: ويستفاد منْ قوله: "وتَوَخَّيا الحقّ" جواز الإبراء منْ المجهول؛ لأن التوخي لا يكون فِي المعلوم.

وَقَالَ القرطبيّ: شنعوا عَلَى منْ قَالَ ذلك قديما وحديثا؛ لمخالفة الْحَدِيث الصحيح، ولأن فيه صيانة المال، وابتذال الفروج، وهي أحق أن يحتاط لها وتصان.

واحتج بعض الحنفية بما جاء عن عليّ رضي الله عنه أن رجلاً خطب امرأة فأبت، فادعى أنه تزوجها، وأقام شاهدين، فقالت المرأة: إنهما شهدا بالزور، فزوجني أنت منه، فقد رضيت، فَقَالَ:"شاهداك زوجاك"، وأمضى عليها النكاح.

وتُعُقّب بأنه لم يثبت عن عليّ رضي الله عنه، واحتج المذكور منْ حيث النظر، بأن الحاكم قضى بحجة شرعية، فيما له ولاية الإنشاء فيه، فجعل الإنشاء تحرزا عن الحرام، والحديث صريح فِي المال، وليس النزاع فيه، فإن القاضي لا يملك دفع مال زيد إلى عمرو، ويملك إنشاء العقود والفسوخ، فإنه يملك بيع أمة زيد مثلا منْ عمرو، حال خوف الهلاك للحفظ، وحال الغيبة، ويملك إنشاء النكاح عَلَى الصغيرة، والفرقة عَلَى العنين، فيجعل الحكم إنشاء؛ احترازا عن الحرام، ولأنه لو لم ينفذ باطنا، فلو حكم بالطلاق لبقي حلالاً للزوج الأول باطنا، وللثاني ظاهرا، فلو ابتلى الثاني مثل ما ابتلى الأول، حَلّت للثالث، وهكذا فتحل لجمع متعدد فِي زمن واحد، ولا يخفى فحشه، بخلاف ما إذا قلنا بنفاذه باطنا، فإنها لا تحل إلا لواحد. انتهى.

وتُعُقّب بأن الجمهور إنما قالوا فِي هَذَا: تحرم عَلَى الثاني مثلا، إذا عَلِم أن الحكم

ص: 280

ترتب عَلَى شهادة الزور، فإذا اعتمد الحكم، وتعمد الدخول بها، فقد ارتكب مُحَرَّما، كما لو كَانَ الحكم بالمال فأكله، ولو ابتلى الثاني كَانَ حكم الثالث كذلك، والفحش إنما لزم منْ الإقدام عَلَى تعاطي المحرم، فكان كما لو زنوا ظاهرا، واحد بعد واحد.

وَقَالَ ابن السمعاني: شرطُ صحة الحكم وجودُ الحجة، وإصابة المحل، وإذا كانت البينة فِي نفس الأمر شهود زور، لم تحصل الحجة؛ لأن حجة الحكم هي البينة العادلة، فإن حقيقة الشهادة إظهار الحق، وحقيقة الحكم إنفاذ ذلك، وإذا كَانَ الشهود كَذَبَةً، لم تكن شهادتهم حقا، قَالَ: فإن احتجوا بأن القاضي حكم بحجة شرعية، أمر الله بها، وهي البينة العادلة فِي علمه، ولم يكلف بالاطلاع عَلَى صدقهم فِي باطن الأمر، فإذا حكم بشهادتهم، فقد امتثل ما أُمر به، فلو قلنا: لا ينفذ فِي باطن الأمر، للزم إبطال ما وجب بالشرع؛ لأن صيانة الحكم عن الإبطال مطلوبة، فهو بمنزلة القاضي فِي مسألة اجتهادية، عَلَى مُجتَهِد لا يعتقد ذلك، وأنه يجب عليه قبول ذلك، وإن كَانَ لا يعتقده؛ صيانةً للحكم.

وأجاب ابن السمعاني، بأن هذه الحجة للنفوذ، ولهذا لا يأثم القاضي، وليس منْ ضرورة وجوب القضاء نفوذ القضاء حقيقة فِي باطن الأمر، وإنما يجب صيانة القضاء عن الإبطال إذا صادف حجة صحيحة. والله أعلم. انتهى "فتح" 15/ 82 - 83.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر منْ الحجج أن ما ذهب إليه الجمهور، منْ أن حديث الباب عَلَى إطلاقه، فيشمل جميع الأحكام عقودًا، وفسوخًا، وغير ذلك، أمولاً، وفروجًا هو الحقّ، وأن القول بالتفرقة بين المال والبضع قول ضعيفٌ، بل باطلٌ؛ لمخالفته لهذا الْحَدِيث، وغيره. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[فرع]: لو كَانَ المحكوم له يعتقد خلاف ما حكم له به الحاكم، هل يحل له أخذ ما حكم له به، أو لا، كمن مات ابن ابنه، وترك أخا شقيقا، فرفعه لقاض يَرى فِي الجد رأي أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فحكم له بجميع الإرث، دون الشقيق، وكان الجد المذكور يرى رأي الجمهور، نقل ابن المنذر رحمه الله تعالى عن الأكثر أنه يجب عَلَى الجد أن يشارك الأخ الشقيق؛ عملاً بمعتقده، والخلاف فِي المسألة مشهور. ذكره فِي "الفتح" 15/ 84. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 281

‌14 - (حُكْمُ الْحَاكِمِ بِعِلْمِهِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: مراد المصنّف رحمه الله تعالى بقوله: "بعلمه": ما يفهمه منْ سياق القضيّة، كما فعل سليمان عليه السلام فِي هذه القضيّة، حيث فهم منْ قول الكبرى:"اقطعه"، وقول الصغرى:"لا تقطعه، هو ابنها" عَلَى أن الصغرى هي الوالدة حقيقة، فقضى لها، وليس مراده الحكم بعلم الحاكم المشهور، وهو أن يرى الحاكم بنفسه رجلاً يأخذ مال آخر ظلمًا، فيترافعان إليه، فيحكم للمظلوم بعلمه، دون أن يطلب منه بيّنةً، وفيه اختلاف بين العلماء، سيأتي تحقيقه فِي المسألة الرابعة، إن شاء الله تعالى، فإن حكم سليمان عليه السلام ليس منْ هَذَا القبيل، وإنما هو حكم بالاستدلال، وعلى هَذَا فيكون قوله هنا:"حكمُ الحاكم بعلمه" بمعنى قوله: فِي "الكبرى": "باب الفهم، والقضاء، والتدبير فيه، والحكم بالاستدلال". والله تعالى أعلم بالصواب.

5404 -

(أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارِ بْنِ رَاشِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الزِّنَادِ، مِمَّا حَدَّثَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجُ، مِمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ بِهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وَقَالَ "بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ، فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ هَذِهِ لِصَاحِبَتِهَا، إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، وَقَالَتِ الأُخْرَى إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ عليه السلام، فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، فَأَخْبَرَتَاهُ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا، فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لَا تَفْعَلْ -يَرْحَمُكَ اللَّهُ- هُوَ ابْنُهَا، فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى"، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلاَّ يَوْمَئِذٍ، مَا كُنَّا نَقُولُ: إِلاَّ الْمُدْيَةَ).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(عمران بن بكّار) الْكَلاعيّ الْبَرّاد الحمصيّ المؤذّن، ثقة [11] 17/ 1541 منْ أفراد المصنّف.

2 -

(عليّ بن عيّاش) الأَلْهانيّ الحمصيّ، ثقة ثبتٌ [9] 123/ 182.

3 -

(شُعيب) بن أبي حمزة دينار، أبو بشر الحمصيّ، ثقة ثبت [7] 69/ 85.

4 -

(أبو الزناد) عبد الله بن ذكوان المدنيّ الفقيه ثقة [5] 7/ 7.

5 -

(عبد الرحمن الأعرج) بن هُرْمُز المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 7/ 7.

6 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.

ص: 282

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالشاميين، والثاني بالمدنيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ منْ رَوَى الْحَدِيث فِي دهره. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

عن شعيب بن أبي حمزة أنه (قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان (مِمَّا حَدَّثَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجُ)"منْ" يحتمل أن تكون ابتدائيّة، أو تبعيضيّة: أي بعض ما حدّثه، أو للمصاحبة (مِمَّا ذَكَرَ) عبد الرحمن (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يُحَدِّثُ بِهِ) أي بما ذكر (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ) أي أبو هريرة رضي الله عنه (وَقَالَ) أي النبيّ صلى الله عليه وسلم (بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ) قَالَ الحافظ: لم أقف عَلَى اسم واحدة منْ هاتين المرأتين، ولا عَلَى اسم واحد منْ ابنيهما فِي شيء منْ الطرق (مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا) وفي رواية ابن عجلان، عن أبي الزناد الآتية:"خرجت امرأتان، معهما صبيّان لهما"، وفي رواية مسكين بن بُكير، عن شعيب:"خرجت امرأتان، معهما ولداهما"(جَاءَ الذِّئْبُ) قَالَ فِي "القاموس": الذئب -بالكسر-، وُيترك همزه: كلب البرّ، جمعه أذؤبٌ، وذِئابٌ، وذُؤبان بالضم، وهي بهاء. انتهى. وَقَالَ فِي "المصباح":"الذئب": يُهمَز، ولا يُهمز، ويقع عَلَى الذكر والأنثى، وربّما دخلت الهاء فِي الأنثى، فقيل: ذئبة، وجمع القلّة أَذْؤُبٌ، مثلُ فلس وأفلُس، وجمع الكثرة ذِئابٌ، وذُؤبان، ويجوز التخفيف، فيقال: ذياب بالياء؛ لوجود الكسرة. انتهى (فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا) وفي رواية ابن عجلان: "فعدا الذئب عَلَى إحداهما، فأخذ ولدها"(فَقَالَتْ هَذِهِ لِصَاحِبَتِهَا) أي قالت إحدى المرأتين لصاحبتها (إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، وَقَالَتِ الأُخْرَى إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحَاكَمَتَا) وفي رواية ابن عجلان: "فأصبحتا تختصمان فِي الصبيّ الباقي"(إِلَى دَاوُدَ عليه السلام وفي رواية مسكين، عن شعيب: "فاختصما إلى داود النبيّ صلى الله عليه وسلم" (فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى) قيل: كَانَ ذلك عَلَى سبيل الفتيا منهما لا الحكم، ولذلك ساغ لسليمان عليه السلام أن ينقضه. وتعقبه القرطبيّ بأن فِي لفظ الْحَدِيث: أنه قضى بأنهما تحاكما، وبأن فتيا النبيّ وحكمه سواء، فِي وجوب تنفيذ ذلك. وَقَالَ الداودي: إنما كَانَ منهما عَلَى سبيل المشاورة، فوضح لداود صحة رأي سليمان فأمضاه. قَالَ ابن الجوزي: استويا عند داود عليه السلام فِي اليد، فقدّم الكبرى للسنّ.

وتعقّبه القرطبيّ، وحَكَى أنه قيل: كَانَ منْ شرع داود عليه السلام أن يحكم للكبرى، قَالَ: وهو فاسد؛ لأن الكبر والصغر وصف طردي، كالطول والقصر، والسواد والبياض، ولا

ص: 283

أثر لشيء منْ ذلك فِي الترجيح، قَالَ: وهذا مما يكاد يُقطع بفساده، قَالَ: والذي ينبغي أن يقال: إن داود عليه السلام قضى به للكبرى؛ لسبب اقتضى به عنده ترجيح قولها؛ إذ لا بينة لواحدة منهما، وكونه لم يعين فِي الْحَدِيث اختصارًا لا يلزم منه عدم وقوعه، فيحتمل أن يقال: إن الولد الباقي كَانَ فِي يد الكبرى، وعجزت الأخرى عن إقامة البينة، قَالَ: وهذا تأويل حسن، جار عَلَى القواعد الشرعية، وليس فِي السياق ما يأباه، ولا يمنعه.

[فإن قيل]: فكيف ساغ لسليمان عليه السلام نقض حكمه. [فالجواب]: أنه لم يعمد إلى نقض الحكم، وإنما احتال بحيلة لطيفة، أظهرت ما فِي نفس الأمر، وذلك أنهما لما أخبرتا سليمان بالقصة، فدعا بالسكين ليشقه بينهما، ولم يعزم عَلَى ذلك فِي الباطن، وإنما أراد استكشاف الأمر، فحصل مقصوده لذلك لجزع الصغرى الدالّ عَلَى عظيم الشفقة، ولم يلتفت إلى أقرارها بقولها: هو ابن الكبرى؛ لأنه علم أنها آثرت حياته، فظهر له منْ قرينة شفقة الصغرى، وعدمها فِي الكبرى، مع ما انضاف إلى ذلك منْ القرينة، الدالة عَلَى صدقها ما هجم به عَلَى الحكم للصغرى، ويحتمل أن يكون سليمان عليه السلام ممن يسوغ له أن يحكم بعلمه، أو تكون الكبرى فِي تلك الحالة، اعترفت بالحق، لَمّا رأت منْ سليمان عليه السلام الجد والعزم فِي ذلك.

ونظير هذه القصة: ما لو حكم حاكم عَلَى مُدَّع منكر بيمين، فلما مضى لِيُحَلِّفه حضر منْ استخرج منْ المنكر ما اقتضى إقراره، بما أراد أن يحلف عَلَى جحده، فإنه والحالة هذه يحكم عليه بإقراره، سواء كَانَ ذلك قبل اليمين أو بعدها، ولا يكون ذلك منْ نقض الحكم الأول، ولكن منْ باب تبدل الأحكام بتبدل الأسباب. انتهى "المفهم" 5/ 175 - 176. بتصرّف.

وَقَالَ ابن الجوزي استنبط سليمان عليه السلام لَمّا رأى الأمر محتملا، فأجاد، وكلاهما حكم بالاجتهاد؛ لأنه لو كَانَ داود حكم بالنص، لما ساغ لسليمان أن يحكم بخلافه. قاله فِي "الفتح" 7/ 132 - 133 "كتاب أحاديث الأنبياء" رقم 3427.

(فَخَرَجَتَا إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ) عليهما الصلاة والسلام (فَأَخْبَرَتَاهُ) بالقصّة، وبما قضى به أبوه داود عليه السلام، وفي رواية ابن عجلان: فمرّتا عَلَى سليمان، فَقَالَ: كيف أمرُكما، فقصّتا عليه"، وفي رواية مسكين، عن شعيب: "فمرّتا عَلَى سليمان عليه السلام، فَقَالَ: كيف قضى بينهما؟ " (فَقَالَ) سليمان عليه السلام (ائْتُونِي بِالسَّكَّينِ) بكسر السين المهملة، وتشديد الكاف-: الْمُدْيَة، سُمّي بذلك لأنه يُسكّن حركة المذبوح، وحكى ابن الأنباريّ فيه التذكير والتأنيث، وَقَالَ السجِستانيّ: سألت أبا زيد الأنصاريّ،

ص: 284

والأصمعيّ، وغيرهما ممن أدركنا، فقالوا: هو مذكّرٌ، وأنكروا التأنيث، وربّما أنّث فِي الشعر عَلَى معنى الشَّفْرَة، وأنشد الفرّاء:

فَعَيَّتْ فِي السَّنَامِ غَدَاةَ قُرِّ

بِسِكِّينٍ مُوَثَّقَةِ النِّصَابِ

ولهذا قَالَ الزجّاج: السّكّين مذكّرٌ، وربّما أُنّث بالهاء، لكنه شاذّ، غير مختار، ونونه أصليّةٌ، فوزنه فِعِّيل منْ التسكين، وقيل: النون زائدة، فهو فِعْلينٌ، مثلُ غِسْلينٍ، فيكون منْ المضاعف. أفاده الفيّوميّ.

(أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا) وفي رواية ابن عجلان: "أشقّ الغلام بينهما"، وفي رواية مسكين:"قَالَ سليمان: "أقطعه بنصفين: لهذه نصفٌ، ولهذه نصفٌ، قالت الكبرى: اقطعوه، فقالت الصغرى: لا تقطعه، هو ولدها" (فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لَا تَفْعَلْ -يَرْحَمُك اللَّهُ) وفي رواية لمسلم: "فقالت الصغرى: لا، يرحمك الله"، قَالَ القرطبيّ: ينبغي عَلَى هذه الرواية أن يقف قليلاً بعد "لا"، حَتَّى يتبين للسامع أن الذي بعده كلام مستأنف؛ لأنه إذا وصله بما بعده يُتوهم السامع أنه دعا عليه، وإنما هو دعاء له، وَقَدْ روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قَالَ لرجل سمعه يقول مثل ذلك القول: لا تقل هكذا، وقيل: يرحكم الله، لا. قَالَ: ويزول الإبهام فِي مثل هَذَا بزيادة واو، كأن يقول: لا ويرحمك الله. وفيه حجة لمن قَالَ: إن الأم تستحلق، والمشهور منْ مذهب مالك، والشافعي أنه لا يصح. "المفهم" 5/ 177 و"الفتح" 7/ 133.

(هُوَ ابْنُهَا، فَقَضَى) سليمان عليه السلام (بِهِ لِلصُّغْرَى) وفي رواية ابن عجلان: "فقالت الصغرى: أتشقّه؟ قَالَ: نعم، فقالت: لا تفعل، حظّي منه لها، قَالَ: هو ابنك، فقضى به لها". وفي رواية مسكين: "فقالت الصغرى: "لا تقطعه، هو ولدها، فقضى به للّتي أبت أن يقطعه".

(قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه يعني بالإسناد السابق، وليس تعليقا، وَقَدْ وقع كذلك فِي رواية الإسماعيلي منْ طريق ورقاء، عن أبي الزناد. قاله فِي "الفتح"(وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلَّا يَوْمَئِذٍ، مَا كُنَّا نَقُولُ: إِلَّا الْمُدْيَةَ) مثلثة الميم، قيل للسكين ذلك: لأنها تقطع مَدَى حياة الحيوان، كما أن السكين سمّي به؛ لكونه يسكّن حركة المذبوح، كما تقدّم قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

ص: 285

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -14/ 5404 و15/ 5405 و5406 - وفي "الكبرى" 18/ 5957 و19/ 5958 و20/ 5959 و21/ 5960. وأخرجه (خ) فِي "أحاديث الأنبياء" 3427 و"الرقاق" 6483 "والفرائض" 6769 (م) فِي "الأقضية" 1720 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 8081 و8275. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز حكم الحاكم بما يفهمه منْ القضيّة، قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: وفيه منْ الفقه استعمال الحكّام الحيل التي تُستخرج بها الحقوق، وذلك يكون عن قوّة الذكاء، والفطنة، وممارسة أحوال الخليقة، وَقَدْ يكون فِي أهل التقوى فراسة دينيّةٌ، وتوسّماتٌ نورانيّةٌ، وذلك فضل الله يؤتيه منْ يشاء. انتهى. وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: إن سليمان عليه السلام فعل ذلك تحيلا عَلَى إظهار الحق، فكان كما لو اعترف المحكوم له بعد الحكم، أن الحق لخصمه. (ومنها): أن فيه المسألة المشهورة، وهي أن شرع منْ قبلنا شرعٌ لنا، وهو محلّ خلاف، وبه يقول المصنّف، والبخاريّ، وكثيرون رحمهم الله تعالى، وهو الحقّ، عَلَى تفاصيل تقدّمت فِي مواضع كثيرة.

(ومنها): أن هذه القصة دلّت عَلَى أن الفطنه والفهم موهبة منْ الله، لا يتعلق بكبر سن، ولا صغره. (ومنها): أن الحق فِي جهة واحدة، وأن الأنبياء يسوغ لهم الحكم بالاجتهاد، وإن كَانَ وجود النص ممكنا لديهم بالوحي، لكن فِي ذلك زيادة فِي أجورهم، ولعصمتهم منْ الخطإ فِي ذلك، إذ لا يُقَرُّون لعصمتهم عَلَى الباطل. قاله فِي "الفتح" 7/ 133.

وَقَالَ فِي "المفهم" 5/ 176: وفي هَذَا الْحَدِيث أن الأنبياء عليهم السلام سُوّغ لهم الحكم بالاجتهاد، وهو مذهب المحقّقين منْ الأصوليين، ولا يُلتفَت لقول منْ يقول: إن الاجتهاد إنما يسوغ عند فقد النصّ، والأنبياء عليهم السلام لا يفقدون النصّ، فإنهم متمكّنون منْ استطلاع الوحي، وانتظاره؛ لأنا نقول: إذا لم يأتهم الوحي فِي الواقعة صاروا كغيرهم فِي البحث عن معاني النصوص التي عندهم، والفرق بينهم وبين غيرهم منْ المجتهدين أنهم معصومون عن الغلط والخطإ، وعن التقصير فِي اجتهادهم، وغيرهم ليسوا كذلك. انتهى.

(ومنها): أن فيه استعمال الحيل فِي الأحكام؛ لاستخراج الحقوق، ولا يتأتى ذلك إلا بمزيد الفطنة، وممارسة الأحوال. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 286

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم الحاكم بعلمه:

قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: قد اختُلف فِي هَذَا، فَقَالَ مالك فِي المشهور عنه: إن الحاكم لا يحكم بعلمه فِي شيء، وبه قَالَ أحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، والشعبيّ، وروي عن شُريح.

وذهبت طائفة إلى أنه يقضي فِي كلّ شيء منْ الأموال، والحدود، وغير ذلك مطلقًا، وبه قَالَ أبو ثور، ومن تبعه، وهو أحد قولي الشافعيّ.

وذهبت طوائف إلى التفريق، فقالت طائفة: يقضي بما سمعه فِي مجلس قضائه خاصّة، لا قبله، ولا فِي غيره إذا لم تحضر مجلسه بيّنة، وفي الأموال خاصّة، وبه قَالَ الأوزاعيّ، وجماعة منْ أصحاب مالك، وحكوه عنه. وقالت طائفة: يحكم بما سمعه فِي مجلس قضائه، وفي غيره، لا قبل قضائه، ولا فِي غير مصره، فِي الأموال خاصّة، وبه قَالَ أبو حنيفة. وقالت طائفة: إنه يقضي بعلمه فِي الأموال خاصّة، سواء سمع ذلك فِي مجلس قضائه، وفي غيره، قبل ولايته، أو بعدها، وبه قَالَ أبو يوسف، ومحمد، وهو أحد قولي الشافعيّ. وذهب بعض المالكيّة إلى أنه يقضي بعلمه فِي الأموال، والقذف خاصّة، ولم يشترط مجلس القضاء، واتّفقوا عَلَى أنه يحكم بعلمه فِي الجرح والتعديل؛ لأن ذلك ضروريّ فِي حقّه.

والصحيح الأول؛ لقوله صلى الله عليه وسلم فِي حديث هلال بن أميّة رضي الله عنه لما لاعن زوجته: "أبصروها، فإن جاءت به -يعني الولد- عَلَى نعت كذا، فهو لهلال، وإن جاءت به عَلَى نعت كذا، فهو لشريك"، فجاءت به عَلَى النعت المكروه، وَقَالَ: لو كنت راجما بغير بيّنة، لرجمت هذه"، فلم يحكم بعلمه؛ لعدم قيام البيّنة، وعند المخالف يجب أن يرجمُها إذا علم ذلك، قاله عبد الوهّاب، فهذا ظاهر قويّ فِي الحدود، وأما فِي غيرها، فيدلّ عليه حديث خزيمة رضي الله عنه، حيث اشترى النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ أعرابيّ فرسًا، فمشى معه ليعطيه ثمنه، فعرض للأعرابيّ منْ زاده فِي الثمن، فأراد أن يبيعه، فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد بعته منّي"، فأنكر الأعرابيّ، وَقَالَ: منْ يشهد لك؟ فاستدعى النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ يشهد، فشهد خزيمة

(1)

، فهذا النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يحكم بعلمه، حَتَّى قامت الشهادة، ولا يُنفَصل عن هَذَا بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم فعل ذلك؛ لأن الحقّ كَانَ له، ولا يشهد أحدٌ لنفسه، ولا يحكم لها، ولأنه لا يُعطى أحدٌ بدعواه، ولأنه قد قطع حجة الأعرابيّ لَمّا طلب منه الشهادة؛ لأنا نقول: إنما اعتُبر ذلك كله فِي حقّ غير النبيّ صلى الله عليه وسلم لإمكان ادّعاء الباطل والكذب، وإرادة أخذ مال

(1)

حديث صحيح، تقدّم للمصنّف رحمه الله تعالى برقم 81/ 4649 وأخرجه أبو داود فِي "سننه"(3607).

ص: 287

الغير، ودفعه عن حقّه، وكلّ ذلك معدوم فِي حقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قطعًا، ولذلك قَالَ صلى الله عليه وسلم للمنافقين:"أيأمنني الله تعالى عَلَى أهل الأرض، ولا تأمنوني، والله إني لأمين منْ فِي السماء"، متّفقٌ عليه.

وأما قوله: إنما فعله لقطع حجة الخصم، فإنه باطلٌ، إذ لا حجة له، ولا لغيره عَلَى خلاف ما قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن هَذَا الأعرابيّ إن كَانَ مسلمًا، فقد علم صدق النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإن كَانَ كافرًا، فلا مبالاة بقوله، إذ قد قام دليلٌ عَلَى صدقه، وعلمه العقلاء، كما لم يبال بقول منْ كذّبه منْ الكفّار، ولا بقول الذي اتّهمه فِي القسمة، حيث قَالَ: يا محمّد اعدل، فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله.

ومن أوضح ما يدلّ عَلَى المطلوب، وأصحّه حديث قصّة أبي جهم رضي الله عنه، حيث بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصَدِّقًا، فلاجّه رجلان، فشجّهما، فأتيا النبيّ صلى الله عليه وسلم يطلبان القصاص، فبذل لهما مالاً، فرضيا به، فَقَالَ:"إني أخطب النَّاس، وأذكر لهم ذلك، أفرضيتما؟ " قالا: نعم، فخطب النَّاس، ثم قَالَ:"أرضيتما؟ " قالا: لا، فهمّ بهما المهاجرون والأنصار، فمنعهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم نزل، فزادهما، فرضيا، ثم صعد المنبر، فَقَالَ:"أرضيتما؟ " قالا: نعم. وموضع الحجة: أنه صلى الله عليه وسلم لم يحكم عليهما بعلمه لَمّا جحدا، وهو المطلوب، ذكره أبو داود منْ حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، وهو صحيح، والحاصل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يحكم بعلمه؛ تعليمًا لأمته، وسعيًا فِي سدّ باب التُّهَم والظنون. والله تعالى أعلم. انتهى "المفهم" 5/ 156 - 158.

وَقَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: ظاهر المذهب أن الحاكم لا يحكم بعلمه، فِي حَدّ ولا غيره، لا فيما علمه قبل الولاية، ولا بعدها، هَذَا قول شريح، والشعبي، ومالك، وإسحاق، وأبي عبيد، ومحمد بن الحسن، وهو أحد قولي الشافعيّ.

وعن أحمد رواية أخرى: يجوز له ذلك، وهو قول أبي يوسف، وأبي ثور، والقول الثاني للشافعي، واختيار المزني؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، لَمّا قالت له هند: إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني منْ النفقة ما يكفيني وولدي، قَالَ:"خذي ما يكفيك، وولدك بالمعروف"، فحكم لها منْ غير بينة، ولا إقرار؛ لعلمه بصدقها، ورَوَى ابنُ عبد البر فِي "كتابه": أن عروة، ومجاهدا، رويا أن رجلاً منْ بني مخزوم، استعدى عمر بن الخطاب عَلَى أبي سفيان بن حرب، أنه ظلمه حَدًّا فِي موضع كذا وكذا، وَقَالَ عمر: إني لأعلم النَّاس بذلك، وربما لعبت أنا وأنت فيه، ونحن غلمان، فأتني بأبي سفيان، فأتاه به، فَقَالَ له عمر: يا أبا سفيان انهض بنا إلى موضع كذا وكذا، فنهضوا، ونظر عمر، فَقَالَ: يا أبا سفيان خذ هَذَا الحجر منْ هاهنا، فضعه هاهنا، فَقَالَ: والله لا أفعل، فَقَالَ: والله

ص: 288

لتفعلن، فَقَالَ: والله لا أفعل، فعلاه بالدِّرّة، وَقَالَ: خذه لا أُمّ لك، فضعه هاهنا، فإنك ما علمتُ قديمُ الظلم فأخذ أبو سفيان الحجر، ووضعه حيث قَالَ عمر، ثم إن عمر استقبل القبلة، فَقَالَ: اللَّهم لك الحمد، حيث لم تمتني حَتَّى غلبت أبا سفيان عَلَى رأيه، وأذللتَهُ لي بالإِسلام، قَالَ: فاستقبل القبلة أبو سفيان، وَقَالَ: اللَّهم لك الحمد، إذ لم تمتني حَتَّى جعلت فِي قلبي منْ الإِسلام ما أَذِلُّ به لعمر، قالوا: فحكم بعلمه، ولأن الحاكم يحكم بالشاهدين؛ لأنهما يغلبان عَلَى الظن، فما تحققه وقطع به كَانَ أولى، ولأنه يحكم بعلمه فِي تعديل الشهود وجرحهم، فكذلك فِي ثبوت الحق قياسا عليه.

وَقَالَ أبو حنيفة: ما كَانَ منْ حقوق الله لا يحكم فيه بعلمه؛ لأن حقوق الله تعالى مبنية عَلَى المساهلة والمسامحة، وأما حقوق الآدميين، فما علمه قبل ولايته لم يحكم به، وما علمه فِي ولايته حكم به؛ لأن ما علمه قبل ولايته بمنزلة ما سمعه منْ الشهود قبل ولايته، وما علمه فِي ولايته بمنزلة ما سمعه منْ الشهود فِي ولايته.

قَالَ: ولنا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته منْ بعض، فأقضي له عَلَى نحوِ ما أسمع منه"، فدل عَلَى أنه إنما يقضي بما يسمع، لا بما يعلم، وَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي قضية الحضرميّ، والكندي:"شاهداك أو يمينه، ليس لك منه إلا ذاك"، ورُوي عن عمر رضي الله عنه أنه تداعى عنده رجلان، فَقَالَ له أحدهما: أنت شاهدي، فَقَالَ: إن شئتما شهدت ولم أحكم، أو أحكم ولا أشهد. وذكر ابن عبد البرّ فِي "كتابه" عن عائشة رضي الله عنها: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث أبا جَهْم عَلَى الصدقة، فلاحاه رجل فِي فريضة، فوقع بينهما شجاج، فأتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأعطاهم الأَرْشَ، ثم قَالَ:"إني خاطب النَّاس، ومخبرهم أنكم قد رضيتم، أرضيتم؟ " قالوا: نعم، فَصَعِد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فخطب، وذكر القصة، وَقَالَ:"أرضيتم؟ " قالوا: لا، فَهَمَّ بهم المهاجرون، فنزل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأعطاهم، ثم صعد، فخطب النَّاس، ثم قَالَ:"أرضيتم؟ " قالوا: نعم

(1)

. وهذا يبين أنه لم يأخذ بعلمه. ورُوي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قَالَ: لو رأيت حَدّا عَلَى رجل لم أَحُدّه حَتَّى تقوم البينة. ولأن تجويز القضاء بعلمه يفضي إلى تهمته، والحكم بما اشتهى، ويحيله عَلَى علمه، فأما حديث أبي سفيان فلا حجة فيه؛ لأنه فتيا، لا حكمٌ بدليل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أفتى فِي حق أبي سفيان منْ غير حضوره، ولو كَانَ حكما عليه لم يحكم عليه فِي غيبته، وحديث

(1)

حديث صحيح، تقدّم للمصنّف رحمه الله تعالى فِي 8/ 35 رقم 4780.

ص: 289

عمر الذي رووه كَانَ إنكارا لمنكر رآه، لا حكمٌ، بدليل أنه ما وُجدت منهما دعوى وإنكار بشروطهما، ودليل ذلك ما رويناه عنه، ثم لو كَانَ حكما كَانَ معارضا بما رويناه عنه، ويفارق الحكم بالشاهدين، فإنه لا يفضي إلى تهمة، بخلاف مسألتنا، وأما الجرح والتعديل، فإنه يحكم فيه بعلمه بغير خلاف؛ لأنه لو لم يحكم فيه بعلمه لتسلسل، فإن المزكيين يحتاج إلى معرفة عدالتهما وجرحهما، فإذا لم يعمل بعلمه احتاج كل واحد منهما إلى مزكيين، ثم كل واحد منهما يحتاج إلى مزكيين، فيتسلسل، وما نحن فيه بخلافه. انتهى "المغني" 14/ 31 - 33.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول بعدم جواز حكم الحاكم بعلمه هو الحقّ؛ لقوّة حجته، ومما يقوّي القول به أن فيه دفع التهمة عنه، وسدّ باب الشرّ فِي وجوه الحكّام السوء؛ كيلا يتسلّطون عَلَى حقوق النَّاس بدعوى أنهم يحكمون بعلمهم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌15 - (السَعَةُ لِلْحَاكِمِ فِي أَنْ يَقُولَ لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا يَفْعَلُهُ: أَفْعَلُ؛ لِيَسْتَبِينَ الْحَقَّ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: محلّ استدلال المصنّف رحمه الله تعالى منْ الْحَدِيث قول سليمان عليه السلام: "أشُقّ الغلام بينهما"، فإنه ما قَالَ ذلك ليفعله، وإنما ليعرف الأم الحقيقيّة، حيث إن شفقتها ستحملها عَلَى عدم شقّه؛ بخلاف الأخرى، وكان الأمر كما أراده، فدلّ عَلَى أن للحاكم أن يستعمل الحيل فِي استخراج الحقّ بالتهديد، والتخويف، وإن لم يفعل ذلك، وهذا كما تقدّم يعتمد عَلَى الفهم، والفطنة، فقد يصل الفطن بلطيف فطنته إلى ما لا يصب إليه الغبيّ بتكلّفه، وتهوّره، وذلك موهبة منْ الله تعالى، {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105]. والله تعالى أعلم بالصواب.

4505 -

(أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ

ص: 290

-صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "خَرَجَتِ امْرَأَتَانِ، مَعَهُمَا صَبِيَّانِ لَهُمَا، فَعَدَا الذِّئْبُ عَلَى إِحْدَاهُمَا، فَأَخَذَ وَلَدَهَا، فَأَصْبَحَتَا تَخْتَصِمَانِ فِي الصَّبِيِّ الْبَاقِي، إِلَى دَاوُدَ عليه السلام، فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى مِنْهُمَا، فَمَرَّتَا عَلَى سُلَيْمَانَ، فَقَالَ: كَيْفَ أَمْرُكُمَا؟، فَقَصَّتَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ، أَشُقُّ الْغُلَامَ بَيْنَهُمَا، فَقَالَتِ الصُّغْرَى: أَتَشُقُّهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَتْ: لَا تَفْعَلْ، حَظِّي مِنْهُ لَهَا، قَالَ: هُوَ ابْنُكِ، فَقَضَى بِهِ لَهَا).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الربيع بن سليمان": هو المراديّ المؤذّن، أبو محمّد المصريّ الثقة [11]. و"شعيب بن الليث": هو أبو عبد الملك المصريّ الثقة الفقيه النبيل، منْ كبار [10]. و"الليث": ابن سعد الإِمام الحجة المشهور المصريّ [7]، والد شعيب الرواي عنه. و"ابن عجلان": هو محمّد القرشيّ، مولى فاطمة بنت الوليد، صدوقٌ [5].

والسند مسلسل بثقات المصريين إلى الليث، وبالمدنيين بعده، وفيه رواية الابن، عن أبيه، وفيه ثلاثة منْ التابعين، يروي بعضهم عن بعض، ابن عجلان، وأبو الزناد، والأعرج، وفيه منْ لقّب بالكنية، وهو أبو الزناد، فإنه لقبه، وكنيته أبو عبد الرحمن.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق شرحه، وبيان مسائله فِي الباب الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌16 - (نَقْضُ الْحَاكِمِ مَا يَحْكُمُ بِهِ غَيْرُهُ مِمَّنْ هُوَ مِثْلُهُ، أَوْ أَجَلُّ مِنْهُ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر منْ هذه الترجمة أن المصنّف رحمه الله تعالى يرى أن للحاكم أن ينقض حكم غيره إذا رآه خطأ مطلقًا، سواء خالف نصًّا، أو إجماعًا، أو لا، وهو مذهب أبي ثور، وداود رحمهما الله تعالى، وخالف فِي ذلك الجمهور، وهو الراجح عندي، كما سيأتي بيان ذلك قريبًا، إن شاء الله تعالى.

ومحلّ الاستدلال منْ الْحَدِيث واضح، حيث نقض سليمان عليه السلام حكم أبيه داود عليه السلام، حيث رآه خطأ، وَقَدْ بيّن الله سبحانه وتعالى كون حكمه صوابًا بقوله:

ص: 291

{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79]، ومع ذلك أثنى عليهما جميعًا بالعلم، حيث قَالَ:{وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} الآية [الأنبياء: 79]. والله تعالى أعلم بالصواب.

5406 -

(أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْكِينُ بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "خَرَجَتِ امْرَأَتَانِ، مَعَهُمَا وَلَدَاهُمَا، فَأَخَذَ الذِّئْبُ أَحَدَهُمَا، فَاخْتَصَمَتَا فِي الْوَلَدِ إِلَى دَاوُدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى مِنْهُمَا، فَمَرَّتَا عَلَى سُلَيْمَانَ عليه السلام، فَقَالَ: كَيْفَ قَضَى بَيْنَكُمَا؟ قَالَتْ: قَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، قَالَ سُلَيْمَانُ: أَقْطَعُهُ بِنِصْفَيْنِ، لِهَذِهِ نِصْفٌ، وَلِهَذِهِ نِصْفٌ، قَالَتِ الْكُبْرَى: نَعَمِ اقْطَعُوهُ، فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لَا تَقْطَعْهُ، هُوَ وَلَدُهَا، فَقَضَى بِهِ لِلَّتِي أَبَتْ أَنْ يَقْطَعَهُ؟ ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "المغيرة بن عبد الرحمن" بن عون بن حبيب: هو الأسديّ، أبو أحمد الْحَرّانيّ، ثقة، منْ صغار [10] منْ أفراد المصنّف. و"مسكين بن بُكير": هو الحذّاء، أبو عبد الرحمن الحرّانيّ، صدوقٌ يُخطىء [9].

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ مضى شرحه، وبيان مسائله قبل باب، غير أنه يستحسن أن أذكر ما يتعلّق بالباب، فأقول:

(مسألة): فِي اختلاف أهل العلم فِي نقض الحاكم ما حكم به غيره:

قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: ما حاصله: إذا رُفِعَتْ إلى الحاكم قضية، قد قضى بها حاكم سواه، فبان له خطؤه، أو بأن له خطأ نفسه نظر، فإن كَانَ الخطأ لمخالفة نص كتاب، أو سنة، أو إجماع، نَقَضَ حكمه، وبهذا قَالَ الشافعيّ، وزاد: إذا خالف نصا جليا نقضه، وعن مالك، وأبي حنيفة أنهما قالا: لا ينقض الحكم، إلا إذا خالف الإجماع، ثم ناقضا ذلك، فَقَالَ مالك: إذا حكم بالشفعة للجار نقض حكمه، وَقَالَ أبو حنيفة: إذا حكم ببيع متروك التسمية، أو حكم بين العبيد بالقرعة، نقض حكمه، وَقَالَ محمّد بن الحسن: إذا حكم بالشاهد واليمين نقض حكمه، وهذه مسائل خلافِ موافقةٌ للسنة، واحتجوا عَلَى أنه لا ينقض ما لم يخالف الإجماع، بأنه يسوغ فيه الخلاف، فلم ينقض حكمه فيه، كما لا نص فيه. وحُكي عن أبي ثور، وداود أنه ينقض جميع ما بان له خطؤه؛ لأن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى:"لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس، ثم راجعت نفسك فيه اليوم، فهُديت لرشدك، أن تراجع فيه الحق، فإن الرجوع إلى الحق خير منْ التمادي فِي الباطل"، ولأنه خطأ فوجب الرجوع عنه، كما لو خالف الإجماع. وحُكي عن مالك أنه واففقهما فِي قضاء نفسه.

قَالَ: ولنا عَلَى نقضه، إذا خالف نصا أو إجماعا، أنه قضاء لم يصادف شرطه،

ص: 292

فوجب نقضه، كما لو لم يخالف الإجماع، وبيان مخالفته للشرط أن شرط الحكم بالاجتهاد، عدم النصّ، بدليل خبر معاذ، ولأنه إذا تَرك الكتاب والسنة، فقد فَرّط، فوجب نقض حكمه، كما لو خالف الإجماع، أو كما لو حكم بشهادة كافرين، وما قالوه يبطل بما حكيناه عنهم.

[فإن قيل]: أليس إذا صلى بالاجتهاد إلى جهة، ثم بان له الخطأ لم يعد؟ [قلنا]: الفرق بينهما منْ ثلاثة أوجه: [أحدها]: أن استقبال القبلة يسقط حال العذر فِي حال المسايفة، والخوف منْ عدو، أو سبع، أو نحوه مع العلم، ولا يجوز ترك الحق إلى غيره مع العلم بحال. [الثاني]: أن الصلاة منْ حقوق الله تعالى، تدخلها المسامحة،

[الثالث]: أن القبلة يتكرر فيها اشتباه القبلة، فيشق القضاء هاهنا، إذا بان له الخطأ، لا يعود الاشتباه بعد ذلك، وأما إذا تغير اجتهاده منْ غير أن يخالف نصا، ولا إجماعا، أو خالف اجتهاده اجتهاد منْ قبله لم ينقضه لمخالفته؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا عَلَى ذلك، فإن أبا بكر رضي الله عنه حكم فِي مسائل باجتهاده، وخالفه عمر، ولم ينقض أحكامه، وعليّ خالف عمر فِي اجتهاده، فلم ينقض أحكامه، وخالفهما عليّ، فلم ينقض أحكامهما، فإن أبا بكر سَوّى بين النَّاس فِي العطاء، وأعطى العبيد، وخالفه عمر ففاضل بين النَّاس، وخالفهما عليّ، فسوى بين النَّاس، وحرم العبيد، ولم ينقض واحد منهم ما فعله منْ قبله، وجاء أهل نجران إلى عليّ رضي الله عنه، فقالوا: يا أمير المؤمنين كتابك بيدك، وشفاعتك بلسانك، فَقَالَ: ويحكم، إن عمر كَانَ رشيد الأمر، ولن أَرُدّ قضاء قضى به عمر، رواه سعيد. ورُوي أن عمر حكم فِي المشرّكة بإسقاط الإخوة منْ الأبوين، ثم شَرّك بينهم بعدُ، وَقَالَ: تلك ما قضينا، وهذه عَلَى ما قضينا، وقضى فِي الجدّ بقضايا مختلفة، ولم يرد الأولى، ولأنه يؤدي إلى نقض الحكم بمثله، وهذا يؤدي إلى أن لا يثبت الحكم أصلا؛ لأن الحاكم الثاني يخالف الذي قبله، والثالث يخالف الثاني، فلا يثبت حكم.

[فإن قيل]: فقد رُوي أن شريحا حكم فِي ابني عم، أحدهما أخ لأم، أن المال للأخ، فرُفع ذلك إلى عليّ رضي الله عنه، فَقَالَ: عَلَيَّ بالعبد، فجيء به، فَقَالَ: فِي أيّ كتاب الله وجدت ذلك؟ فَقَالَ: قَالَ الله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} الآية [الأنفال: 75]، فَقَالَ له عليّ رضي الله عنه: قد قَالَ الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} الآية [النِّساء: 12]، ونقض حكمه.

[قلنا]: لم يثبت عندنا أن عليا نقض حكمه، ولو ثبت، فيحتمل أن يكون عليّ رضي

ص: 293

الله عنه، اعتقد أنه خالف نص الكتاب فِي الآية التي ذكرها، فنقض حكمه لذلك. انتهى "المغني" 14/ 34 - 36.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن الأرجح هو المذهب الأول، وهو أنه ليس للحاكم أن ينقض حكم غيره إلا إذا خالف نصًّا، أو إجماعًا؛ لما تقدّم منْ إجماع الصحابة رضي الله عنهم عَلَى ذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌17 - (بَابُ الرَّدِّ عَلَى الْحَاكِمِ إِذَا قَضَى بِغَيْرِ الْحَقَّ)

5407 -

(أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ ح وَأَنْبَأَنَا

(1)

أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ، فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صَبَأْنَا، وَجَعَلَ خَالِدٌ قَتْلاً وَأَسْرًا، قَالَ: فَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ أَسِيرَهُ، حَتَّى إِذَا أَصْبَحَ يَوْمُنَا أَمَرَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَقْتُلُ أَسِيرِي، وَلَا يَقْتُلُ أَحَدٌ -وَقَالَ بِشْرٌ- مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ، قَالَ: فَقَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَذُكِرَ لَهُ صُنْعُ خَالِدٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَرَفَعَ يَدَيْهِ-:"اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ"، قَالَ زَكَرِيَّا فِي حَدِيثِهِ: فَذُكِرَ، وَفِي حَدِيثِ بِشْرٍ: فَقَالَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ". مَرَّتَيْنِ).

رجال هَذَا الإسناد: اثنا عشر:

1 -

(زكريّا بن يحيى) السجزيّ، أبو عبد الرحمن المعروف بخيّاط السنّة -لأنه كَانَ يخيط أكفان أهل السنّة- نزيل دمشق، ثقة حافظ [12] منْ أفراد المصنّف 189/ 1161.

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 294

2 -

(أحمد بن عليّ بن سعيد) أبو بكر المروزيّ القاضي الثقة الحافظ [12] منْ أفراد المصنّف أيضًا 1/ 2094.

3 -

(عبد الأعلي بن حماد) الباهليّ مولاهم البصريّ، أبو يحيى المعروف بالنَّرْسيّ، لا بأس به، منْ كبار [10] 77/ 2396.

4 -

(يحيى بن معين) بن عون الغطفانيّ مولاهم، أبو زكريا البغداديّ، ثقة حافظ مشهور، إمام الجرح والتعديل [10] 5/ 501.

5 -

(بشر بن السّريّ) أبو عمرو الأفوه الواعظ البصريّ، نزيل مكة، ثقة متقنٌ، طُعن فيه برأي جهم، ثم اعتذر، وتاب منه [9] 104/ 1365.

6 -

(عبد الرزاق) بن همّام الحميريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقة حافظ مصنف، عمي فِي آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9] 61/ 77.

7 -

(هشام بن يوسف) الأبناويّ أبو عبد الرحمن الصنعانيّ قاضي صنعاء، ثقة [9].

رَوَى عن معمر، وابن جريج، والقاسم بن فياض، والثوري، وعبد الله بن بحير بن ريسان، وعبد الله بن سليمان النوفلي، ورَباح بن عبيد الله بن عمر العمري، وإبراهيم ابن عمر بن كيسان، والنعمان بن أبي شيبة الْجَنَدي، وغيرهم. ورَوَى عنه ابن عمه زكريا بن يحيى بني تميم بن عبد الرحمن الصنعاني، ومحمد بن إدريس الشافعيّ، وعلي ابن المديني، ويحيى بن معين، وعبد الله بن محمّد المسندي، وإبراهيم بن موسى الرازي، وإسحاق بن راهويه، وعلي بن بحر بن بَرّىّ، وموسى بن هارون الْبُردي، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وغيرهم.

قَالَ الحسين بن الحسن الرازي، عن يحيى بن معين: لم يكن به بأس، هو أضبط عن ابن جريج منْ عبد الرزاق، وكذا قَالَ الدُّوري، عن يحيى، وزاد: وكان أعلم بحديث سفيان منْ عبد الرزاق، وهو ثقة. وَقَالَ إبراهيم بن موسى: سمعت عبد الرزاق يقول: إن حدثكم القاضي -يعني هشام بن يوسف- فلا عليكم أن لا تكتبوا عن غيره. قَالَ إبراهيم: وسمعت هشاما يقول: قدم الثوري اليمن، فَقَالَ اطلبوا لي كاتبا، سريع الخط، فارتادوني، فكنت أكتب. وَقَالَ ابن أبي حاتم، عن أبي زرعة: كَانَ هشام أصح اليمانيين كتابا، وَقَالَ مرة أخرى: كَانَ أكبرهم، وأحفظهم، وأتقنهم. وَقَالَ أبو حاتم: ثقة متقن. وَقَالَ العجليّ: ثقة. وَقَالَ يحيى بن منصور: قَالَ أحمد: عبد الرزاق أوسع علما منْ هشام، وهشام أنصف منه. وَقَالَ الحاكم: ثقة مأمون. وَقَالَ الخليلي: ثقة متَّفقٌ عليه، رَوَى عنه الأئمة كلهم.

وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". قَالَ مطين: أُخبرت أنه مات سنة سبع وتسعين ومائة،

ص: 295

وفيها أرخه أحمد بن حنبل، وابن سعد، وخليفة، وابن حبّان، وغير واحد. رَوَى له الجماعة سوى مسلم، وله عند المصنّف هَذَا الْحَدِيث فقط.

8 -

(عبد الله بن المبارك) الحنظليّ المروزيّ، أبو عبد الرحمن، ثقة ثبت إمام مشهور [8] 32/ 36.

9 -

(معمر) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقة ثبت فاضل، منْ كبار [7] 10/ 10.

10 -

(الزهريّ) محمّد بن مسلم الإِمام الحجة المشهور [4] 1/ 1.

11 -

(سالم) بن عبد الله بن عمر العدويّ المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 23/ 490.

12 -

(أبوه) عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهما 12/ 12. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ ثمانيّات المصنّف رحمه الله تعالى بالنسبة للسند الأول، ومن سباعيّاته بالنسبة للثاني، فالثاني أعلى منْ الأول. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخيه، فقد انفرد بهما، وهما ثقتان حافظان، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وفيه أحد الفقهاء السبعة عَلَى بعض الأقوال، وهو سالم، وفيه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أحد المكثرين السبعة، رَوَى (2630) حديثًا، وأحد العبادلة الأربعة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ سَالِم) بن عبد الله (عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ) بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، الملقّب سيف الله، أبا سليمان، منْ كبار الصحابة رضي الله عنهم، كَانَ إسلامه بين الحديبية والفتح، وكان أميرًا عَلَى قتال أهل الرّدّة، وغيرها منْ الفتوح، إلى أن مات رضي الله عنه سنة (21) أو (22) تقدّمت ترجمته فِي 26/ 4318 (إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ) بفتح الجيم، وكسر الذال المعجمة، ثم تحتانيّة ساكنة- ابن عامر بن عبد مناة بن كنانة، ووهِم الكرمانيّ، فظنّ أنه منْ بني جَذِيمة بن عوف بن بكر، قبيلة منْ عبد قيس. وهذا البعث كَانَ عقب فتح مكة فِي شوّال، قبل الخروج إلى حُنين، عند جميع أهل المغازي، وكانوا بأسفل مكة، منْ ناحية يلملم، قَالَ ابن سعد: بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم إليهم خالد بن الوليد فِي ثلاثمائة وخمسين منْ المهاجرين والأنصار، داعيًا إلى الإِسلام، لا مقاتلًا. وَقَالَ ابن

ص: 296

إسحاق: حدّثني حكيم بن عبّاد، عن أبي جعفر -يعني الباقر- قَالَ: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد حين افتتح مكة إلى بني جَذِيمة، داعيًا، ولم يبعثه مقاتلاً. قاله فِي "الفتح" 8/ 381. "كتاب المغازي" رقم 4339 (فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإسْلَامِ، فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صَبَأْنَا) وفي رواية البخاريّ: "صبأنا صبأنا" بالتكرار، قَالَ فِي "الفتح": هَذَا منْ ابن عمر، راوي الْحَدِيث يدلّ عَلَى أنه فهم أنهم أرادوا الإِسلام حقيقة، ويؤيد فهمه أن قريشا كانوا يقولون لكل منْ أسلم: "صبأ"، حَتَّى اشتهرت هذه اللفظة، وصاروا يطلقونها فِي مقام الذمّ، ومن ثَمّ لَمّا أسلم ثُمامة بن أُثال، وقَدِمَ مكة معتمرًا، قالوا له: "صبأت"، قَالَ: لا، بل أسلمت، فلما اشتهرت هذه اللفظة بينهم فِي موضع "أسلمت" استعملها هؤلاء، وأما خالد فحمل هذه اللفظة عَلَى ظاهرها؛ لأن قولهم: صبأنا: أي خرجنا منْ دين إلى دين، ولم يكتف خالد بذلك، حَتَّى يُصَرِّحوا بالإِسلام. وَقَالَ الخطّابيّ: يحتمل أن يكون خالد نَقَمَ عليهم العدول عن لفظ الإِسلام؛ لأنه فَهِم عنهم أن ذلك وقع منهم عَلَى سبيل الأَنَفَة، ولم ينقادوا إلى الدين، فقتلهم متأولا قولهم.

(وَجَعَلَ خَالِدٌ قَتْلاً وَأَسْرًا) هكذا رواية المصنّف فِي بعض النسخ، وفي بعضها:"قَتْلى، وأسرى"، ووجه الأول أنه منصوب عَلَى أنه مفعول مطلق لفعل مقدّر، والتقدير: وجعل خالد يقتلهم قتلاً، ويأسرهم أسرًا، ووجه الثاني: أنه جمع قتيل، وأسير: أي جعل خالد بعضهم قَتْلى، وبعضهم أَسْرَى. وفي رواية البخاريّ:"فجعل خالد يقتل منهم، ويأسر"، وفي كلام ابن سعد: أنه أمرهم أن يستأسروا، فاستأسروا، فكتّف بعضَهم بعضا، وفرّقهم فِي أصحابه، فيُجمع بأنهم أَعْطَوا بأيديهم بعد المحاربة.

(قَالَ: فَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ أَسِيرَهُ) أي دفع خالد رضي الله عنه إلى كلّ رجل منْ أصحابه الذين كانوا معه فِي السرية، وفي رواية الباقر:"فَقَالَ لهم خالد: ضَعُوا السلاح، فإن النَّاس قد أسلموا، فوضعوا السلاح، فأمر بهم، فكتفوا، ثم عرضهم عَلَى السيف"(حَتَّى إِذَا أَصْبَحَ يَوْمُنَا) بالرفع عَلَى الفاعليّة: أي دخل اليوم فِي الصباح، وفي رواية البخاريّ:"حَتَّى إذا كَانَ يوم"، قَالَ فِي "الفتح": كذا بالتنوين: أي منْ الأيام، و"كَانَ" تامة. وعند ابن سعد:"فلما كَانَ السحرُ نادى خالد: منْ كَانَ معه أسير، فليضرب عنقه"، ويجمع بينه وبين رواية المصنّف بأن المراد بقوله:"أصبح": أي قارب الصباح، (أَمَرَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ) وفي رواية عند البخاريّ: "أن يقتل كل إنسان أسيره"(قَالَ ابْنُ عُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما (فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَقْتُلُ أَسِيرِي، وَلَا يَقْتُلُ أَحَدٌ -وَقَالَ بِشْرٌ) أي ابن السريّ الراوي عن ابن المبارك (مِنْ أَصْحَابِي) يعني أن بشرا

ص: 297

قَالَ فِي روايته عن عبد الله بن المبارك: "ولا يقتل أحد منْ أصحابي"(أَسِيرَهُ) أي المأسور الذي دفعه خالد إليه. وعند ابن سعد: "فأما بنو سُليم فقتلوا منْ كَانَ فِي أيديهم، وأما المهاجرون والأنصار، فأرسلوا أسراهم، وفيه جواز الحلف عَلَى نفي فعل الغير، إذا وَثِقَ بطواعيته.

(قَالَ) ابن عمر رضي الله تعالى عنهما (فَقَدِمْنَا) بكسر الدال (عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَذُكِرَ) بالبناء للمفعول (لَهُ صُنْعُ خَالِدٍ) أي ما فعله فِي الأسارى منْ القتل (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَرَفَعَ يَدَيْهِ) جملة فِي محلّ نصب عَلَى الحال، وهي معترضة بين القول ومقوله (اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ) قَالَ الخطّابيّ رحمه الله تعالى: أنكر عليه العَجَلَة، وترك التثبت فِي أمرهم، قبل أن يعلم المراد منْ قولهم: صبأنا (قَالَ زَكَرِيَّا) بن يحيى، شيخ المصنّف الأول (فِي حَدِيثِهِ) متعلّقٌ بـ"قَالَ"(فَذُكِرَ) بالبناء للمفعول، وهو مقول "قَالَ"(وَفِي حَدِيثِ بِشْرِ) بن السريّ، والجارّ والمجرور خبر مقدّم، وقوله:(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمّا صَنَعَ خَالِدٌ) أي منْ قتل منْ أظهر أن مراده الإِسلام (مَرَّتَيْنِ) مبتدأ مؤخر؛ لقصد لفظه. وَقَالَ فِي "الفتح": قوله: "مرّتين": زاد ابن عسكر، عن عبد الرزاق:"أو ثلاثة"، أخرجه الإسماعيلي، وفي رواية الباقين:"ثلاث مرات"، وزاد الباقر فِي روايته:"ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا، فَقَالَ: اخرج إلى هؤلاء القوم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك"، فخرج، حَتَّى جاءهم، ومعه مال، فلم يبق لهم أحد إلا وَدَاه، وذكر ابن هشام فِي زياداته: أنه انفلت منهم رجل، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم بالخبر، فَقَالَ: هل أنكر عليه أحد؟، فوصف له صفة ابن عمر، وسالم مولى أبي حذيفة. وذكر ابن إسحاق منْ حديث ابن أبي حَدْرَد الأسلمي، قَالَ: "كنت فِي خيل خالد، فَقَالَ لي فتى منْ بني جَذِيمة، قد جُمِعت يداه فِي عنقه بِرُمَّة: يا فتى، هل أنت آخذ بهذه الرُّمّة، فقائدى إلى هؤلاء النسوة، فقلت: نعم فقُدته بها، فَقَالَ: أَسْلِمِي حُبَيش، قبل نفاد العيش:

أَرَيْتُكِ إِنْ طَالَبْتُكُمْ فَوَجَدتُكُمْ

بِحِلْيةٍ أَوْ أَدْرَكْتُكُمْ بِالْخَوَانِقِ

الأبيات، قَالَ: فقالت له امرأة منهن: وأنت نجيت عشرا، وتسعا، ووترا، وثمانيا تترى، قَالَ: ثم ضربتُ عنق الفتى، فأكبت عليه، فما زالت تقبله حَتَّى ماتت". وَقَدْ رَوَى النسائيّ، والبيهقي فِي "الدلائل" بإسناد صحيح، منْ حديث ابن عبّاس نحو هذه القصة، وَقَالَ فيها: "فَقَالَ: إني لست منهم، إني عشقت امرأة منهم، فدعوني انظر إليها نظرة، -قَالَ فيه- فضربوا عنقه، فجاءت المرأة، فوقعت عليه، فشَهِقت شَهْقَةً، أو شهقتين، ثم ماتت، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أما كَانَ فيكم رجل رحيم". وأخرجه البيهقي منْ طريق ابن عاصم، عن أبيه نحو هذه القصة، وَقَالَ فِي آخرها:

ص: 298

"فانحدرت إليه منْ هودجها، فحنّت عليه حَتَّى ماتت". قاله فِي "الفتح" 8/ 382 "كتاب المغازي" رقم 4340. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هَذَا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -17/ 5407 - وفي "الكبرى" 22/ 5961. وأخرجه (خ) فِي "المغازي" 4339 و"الأحكام" 7189 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 6346. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان إبطال حكم الحاكم إذا كَانَ بغير حقّ. (ومنها): أن الحاكم يُعذر فِي خطئه إذا كَانَ متأولاً. (ومنها): ما كَانَ عليه ابن عمر منْ الصلابة فِي إنكار المنكر. (ومنها): أنه لا طاعة لوليّ الأمر فِي غير الحقّ، فقد أنكر ابن عمر، وبعض الصحابة رضي الله عنهم عَلَى خالد فعله، وامتنعوا منْ تنفيذ ما أمرهم به، وأقرّهم النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذلك، فدلّ عَلَى أنه لا طاعة فِي المنكر. (ومنها): استحباب رفع اليدين عند الدعاء. (ومنها): البراءة منْ فعل منْ فعل منكرًا. (ومنها): وجوب الدية لمن قُتل خطأ بالتأويل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌18 - (ذِكْرُ مَا يَنْبَغِي لِلْحاكِمِ أَنْ يَجْتَنِبَهُ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الباب، مما زاده المصنّف فِي "المجتبى" عَلَى "السنن الكبرى"، فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب.

5408 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: كَتَبَ أَبِي، وَكَتَبْتُ لَهُ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، وَهُوَ

ص: 299

قَاضِي سِجِسْتَانَ، أَنْ لَا تَحْكُمَ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَأَنْتَ غَضْبَانُ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:"لَا يَحْكُمْ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَهُوَ غَضْبَانُ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(أبو عوانة) الوضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ، ثقة ثبت [7] 41/ 46.

3 -

(عبد الملك بن عُمير) اللَّخْميّ الفرَسيّ الكوفيّ، ثقة فقيه، تغيّر حفظه، وربّما دلّس [3] 41/ 947.

4 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ) الثقفيّ، ثقة [2] 14/ 4391.

5 -

(أبوه) أبو بكرة، نُفيع بن الحارث بن كَلَدَة -بفتحتين- ابن عمرو الثقفيّ الصحابيّ المشهور بكنيته، وقيل: اسمه مسروح -بمهملات- أسلم بالطائف، ثم نزل البصرة، ومات بها سنة (1) أو (52)، وتقدّمت ترجمته فِي 41/ 836. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه. (ومنها): أن صحابيّه ممن اشتهر بأبي بكرة، وهو لقب بصورة الكنية، وإنما لُقّب به؛ لأنه تدلّى منْ حصن الصائف ببكرة البئر، فأسلم، فأعتقه النبيّ صلى الله عليه وسلم يومئذ، وكنيته أبو عبد الرحمن، يقال: كَانَ أبوه عبدًا للحارث بن كَلَدَة، يقال له: مسروح، فاستلحق الحارث أبا بكرة، وهو أخو زياد بن سُميّة لأمه، وكانت سُميّة أمة للحارث بن كَلَدة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ) وفي رواية البخاريّ: "سمعت عبد الرحمن بن أبي بكرة، فصرّح عبد الملك بالسماع، فزالت تهمة التدليس؛ لأنه مدلّس، كما سبق آنفًا (قَالَ: كَتَبَ أَبِي) نفيع بن الحارث رضي الله تعالى عنه (وَكَتَبْتُ لَهُ) قيل: معناه: كتب أبو بكرة بنفسه مرة، وأمر ولده عبد الرحمن أن يكتب لأخيه، فكتب له مرة أخرى، قَالَ الحافظ: ولا يتعين ذلك، بل الذي يظهر أن قوله: "كتب أبي": أي أمر بالكتابة، وقوله: "وكتبت له": أي باشرت الكتابة التي أمر بها، والأصل عدم التعدد، ويؤيده قوله فِي المتن المكتوب: "إني سمعت"، فإن هذه العبارة لأبي بكرة، لا لابنه عبد الرحمن، فإنه لا صحبة له، وهو أول مولود وُلد بالبصرة.

ص: 300

(إِلَى) ولده (عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، وَهُوَ قَاضِي سِجِسْتَانَ) جملة حالية، و"سجستان" -بكسر المهملة والجيم، عَلَى الصحيح، بعدهما مثناة ساكنة- وهي إلى جهة الهند، بينها وبين كِرْمان مائة فرسخ، منها أربعون فرسخا مفازة، ليس فيها ماء، وينسب إليها سجستاني، وسِجزتي -بزاي بدل السين الثانية والتاء- وهو عَلَى غير قياس، و"سجستان" لا تصرف للعلمية والعجمية، أو زيادة الألف والنون. قَالَ ابن سعد فِي "الطبقات": كَانَ زياد فِي ولايته عَلَى العراق قَرَّب أولاد أخيه لأمه، أبي بكرة، وشَرَّفهم، وأقطعهم، ووَلَّى عبيد الله بن أبي بكرة سجستان، قَالَ: ومات أبو بكرة فِي ولاية زياد. (أَنْ لَا تَحْكُمَ) وفي رواية البخاريّ: "أن لا تقضي"(بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَأَنْتَ غَضْبَانُ، فَإِنِّي) الفاء للتعليل: أي لأني (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "لَا) يحتمل أن تكون ناهيةً، والفعل بعدها مجزوم بها، ويحتمل أن تكون نافية، والفعل مرفوع، والنفي بمعنى النهي (يَحْكُمْ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَهُوَ غَضْبَانُ") وفي رواية البخاريّ: "لا يقضين حَكَمٌ بين اثنين، وهو غضبان"، وفي رواية الشافعيّ، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن عمير بسنده:"لا يقضي القاضي، أو لا يحكم الحاكم بين اثنين، وهو غضبان"، ولم يذكر القصة.

والْحَكَم -بفتحتين-: هو الحاكم، وَقَدْ يطلق عَلَى القَيِّم بما يسند إليه. قَالَ المهلب: سبب هَذَا النهي أن الحكم حالة الغضب قد يتجاوز بالحاكم إلى غير الحق فمنع، وبذلك قَالَ فقهاء الأمصار. وَقَالَ ابن دقيق العيد: فيه النهي عن الحكم حالة الغضب؛ لما يحصل بسببه منْ التغير الذي يَختَلّ به النظر، فلا يحصل استيفاء الحكم عَلَى الوجه، قَالَ: وعَدّاه الفقهاء بهذا المعنى إلى كل ما يحصل به تغير الفكر، كالجوع والعطش المفرطين، وغلبة النعاس، وسائر ما يتعلق به القلب، تعلقا يَشغَله عن استيفاء النظر، وهو قياس مظنة عَلَى مظنة، وكأن الحكمة فِي الاقتصار عَلَى ذكر الغضب؛ لاستيلائه عَلَى النفس، وصعوبة مقاومته، بخلاف غيره. وَقَدْ أخرج البيهقي بسند ضعيف، عن أبي سعيد رفعه:"لا يقض القاضي إلا وهو شبعان، ريان". وقول الشيخ: وهو قياس مظنة عَلَى مظنة صحيح، وهو استنباط معنى دل عليه النص، فإنه لَمّا نُهِيَ عن الحكم حالة الغضب، فُهم منه أن الحكم لا يكون إلا فِي حالة استقامة الفكر، فكانت علة النهي المعنى المشترك، وهو تغير الفكر، والوصف بالغضب يسمى علة، بمعنى أنه مشتمل عليه، فأُلحق به ما فِي معناه كالجائع، قَالَ الإِمام الشافعيّ رحمه الله تعالى فِي "الأم": أكره للحاكم أن يحكم، وهو جائع، أو تَعِبٌ، أو مشغول القلب، فإن ذلك يغير القلب. قاله فِي "الفتح" 15/ 35. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع

ص: 301

والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي بكرة رضي الله عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -18/ 5408 و32/ 5423 - وفي "الكبرى" 23/ 5962 و36/ 5983. وأخرجه (خ) فِي "الأحكام" 7158 (م) فِي "الأقضية" 1717 (د) فِي "الأقضية" 3589 (ت) فِي "الأحكام" 1334 (ق) فِي "الأحكام" 3316 (أحمد) فِي "مسند البصريين" 19866 و19880 و19954 و19999. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان ما ينبغي للحاكم أن يجتنبه، وهو الغضب، وكلّ ما أشبهه فِي اختلال الفكر، وتشويش النظر. (ومنها): أن الكتابة بالحديث كالسماع منْ الشيخ، فِي وجوب العمل، وأما فِي الرواية فمنع منها قوم إذا تجردت عن الإجازة، والمشهور الجواز، نعم الصحيح عند الأداء أن لا يُطلق الإخبار، بل يقول: كتب إليّ، أو كاتبني، أو أخبرني فِي كتابه، وإلى ذلك أشار السيوطيّ فِي "ألفية الْحَدِيث"، حيث قَالَ:

خَامِسُهَا كِتَابةُ الشَّيْخِ لِمَنْ

يَغِيبُ أَوْ يَحْضُرُ أَوْ يَأْذَنُ أَنْ

يُكْتَبَ عَنْهُ فَمَتَى أَجَازَا

فَهْيَ كَمَنْ نَاوَلَ حَيْثُ امْتَازَا

أَوْ لَا فَقِيلَ لَا تَصِحُّ وَالأَصَحُّ

صِحَّتُهَا بَلْ وَإِجَازَةً رَجَحْ

وَيَكْتَفِي الْمَكْتُوبُ أَنْ يَعْرِفَ خَطُّ

كَاتِبِهِ وَشَاهِدًا بَعْضٌ شَرَطْ

ثُمَّ لْيَقُلْ "حَدَّثَنِي""أَخْبَرَنِي"

كِتَابَةً وَالْمُطْلِقِينَ وَهِّنِ

(ومنها): أن فيه ذكرَ الحكم مع دليله فِي التعليم، ويجيىء مثله فِي الفتوى. (ومنها): شفقة الأب عَلَى ولده، وإعلامه بما ينفعه، وتحذيره منْ الوقوع فيما يُنكَر. (ومنها): نشر العلم للعمل به، والاقتداء، وإن لم يُسأل العالم عنه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي أقوال أهل العلم فِي حكم الحاكم فِي حال الغضب، ونحوه:

قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: لا خلاف بين أهل العلم فيما علمناه، فِي أن القاضي لا ينبغي له أن يقضي، وهو غضبان، كَرِه ذلك شُريح، وعمر بن عبد العزيز، وأبو

ص: 302

حنيفة، والشافعي، وكتب أبو بكرة إلى عُبيد الله بن أبي بكرة، وهو قاض بسجستان: أن لا تحكم بين اثنين، وأنت غضبان، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يحكم أحد بين اثنين، وهو غضبان"، متَّفقٌ عليه، وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى:"إياك والغضب، والقلق، والضجر، والتأذي بالناس، والتنكر لهم عند الخصومة، فإذا رأيت الخصم يتعمد الظلم، فأوجع رأسه"، ولأنه إذا غضب تغير عقله، ولم يستوف رأيه وفكره، وفي معنى الغضب كُلُّ ما شغل فكره، منْ الجوع المفرط، والعطش الشديد، والوجع المزعج، ومدافعة أحد الأخبثين، وشدة النعاس، والهم والغم، والحزن والفرح، فهذه كلها تمنع الحاكم؛ لأنها تمنع حضور القلب، واستيفاء الفكر الذي يُتوصّل به إلى إصابة الحق فِي الغالب، فهي فِي معنى الغضب المنصوص عليه، فتجري مجراه. انتهى "المغني" 14/ 25. وهو بحث نفيس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): فِي اختلاف أهل العلم هل ينفذ حكم الحاكم حالة الغضب، أم لا؟:

قَالَ فِي "المغني" 14/ 25 - 26: فإن حكم فِي الغضب، أو ما شاكله، فحُكي عن القاضي أنه لا ينفذ قضاؤه؛ لأنه منهي عنه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه. وَقَالَ فِي "المجرد": ينفذ قضاؤه، وهو مذهب الشافعيّ؛ لما رُوي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اختصم إليه الزبير، ورجل منْ الأنصار، فِي شِرَاج الْحَرّة، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم للزبير:"اسق، ثم أرسل الماء إلى جارك"، فَقَالَ الأنصاريّ: آن كَانَ ابن عمتك؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ للزبير: اسق، ثم احبس الماء حَتَّى يبلغ الجدر"، متَّفقٌ عليه، فحكم فِي حال غضبه. وقيل: إنما يمنع الغضب الحاكمَ إذا كَانَ قبل أن يتضح له الحكم فِي المسألة، فأما إن اتضح الحكم، ثم عرض الغضب لم يمنعه؛ لأن الحق قد استبان قبل الغضب، فلا يؤثر الغضب فيه. انتهى.

وَقَالَ فِي "الفتح" 15/ 36: لو خالف، فحكم فِي حال الغضب صح، إن صادف الحق مع الكراهة، هَذَا قول الجمهور، وَقَدْ تقدّم أنه صلى الله عليه وسلم، قضى للزبير بشراح الحرة، بعد أن أغضبه خصم الزبير، لكن لا حجة فيه لرفع الكراهة عن غيره؛ لعصمته صلى الله عليه وسلم، فلا يقول فِي الغضب إلا كما يقول فِي الرضى، قَالَ النوويّ فِي حديث اللقطة: فيه جواز الفتوى فِي حال الغضب، وكذلك الحكم وينفذ، ولكنه مع الكراهة فِي حقنا، ولا يكره فِي حقه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يُخاف عليه فِي الغضب ما يخاف عَلَى غيره، وأبعد منْ قَالَ: يُحمل عَلَى أنه تكلم فِي الحكم قبل وصوله فِي الغضب إلى تغير الفكر. ويؤخذ منْ

ص: 303

الإطلاق أنه لا فرق بين مراتب الغضب، ولا أسبابه، وكذا أطلقه الجمهور، وفصّل إمام الحرمين، والبغوي، فقيدا الكراهية بما إذا كَانَ الغضب لغير الله، واستغرب الروياني هَذَا التفصيل، واستبعده غيره؛ لمخالفته لظواهر الْحَدِيث، وللمعنى الذي لأجله نُهي عن الحكم حال الغضب.

وَقَالَ بعض الحنابلة: لا ينفذ الحكم فِي حال الغضب؛ لثبوت النهي عنه، والنهي يقتضي الفساد. وفصل بعضهم بين أن يكون الغضب طرأ عليه بعد أن استبان له الحكم فلا يؤثر، وإلا فهو محل الخلاف، وهو تفصيل معتبر.

وَقَالَ ابن المنير أدخل البخاريّ حديث أبي بكرة الدالّ عَلَى المنع، ثم حديث أبي مسعود

(1)

الدالّ عَلَى الجواز؛ تنبيهًا منه عَلَى طريق الجمع، بأن يُجعل الجواز خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لوجود العصمة فِي حقه، والأمن منْ التعدي، أو أن غضبه إنما كَانَ للحق، فمن كَانَ فِي مثل حاله جاز، وإلا مُنع، وهو كما قيل فِي شهادة العدوّ: إن كانت دنيوية رُدّت، وإن كانت دينية لم تُرَدّ، قاله ابن دقيق العيد وغيره. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأرجح قول منْ قَالَ: لا ينفذ حكمه إن حكم فِي حال الغضب؛ لأن النهي للتحريم، وهو يقتضي الفساد، ولا يقاس بالنبيّ صلى الله عليه وسلم غيره فِي ذلك، كما ذهب إليه المصنّف فِي الباب التالي؛ لأنه غضبه صلى الله عليه وسلم كرضاه، بخلاف غيره، قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: ولا يُعارض هَذَا الْحَدِيث بحكم النبيّ صلى الله عليه وسلم للزبير بإمساك الماء إلى أن يبلغ الجدر، وَقَدْ غضب منْ قوله الأنصاريّ: أن كَانَ ابن عمّتك؟؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم معصوم منْ الهوى، والباطل، والخطأ فِي غضبه ورضاه، وصحّته ومرضه، ولذلك قَالَ:"اكتبوا عنّي فِي الغضب والرضا"

(2)

، ولذلك نفذت أحكامه، وعُمل بحديثه الصادر فِي حال شدّة مرضه، ونزعه، كما نفذ فِي حال صحّته ونشاطه. انتهى "المفهم" 5/ 170 - 171.

والحاصل أن الأرجح كون النهي فِي حديث الباب للتحريم، وأن حكم الحاكم فِي

(1)

يعني حديثه فِي قصّة معاذ رضي الله عنه فِي تطويله الصلاة، فغضب عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ تقدّم فِي "كتاب الصلاة".

(2)

حديث صحيح، أخرجه أحمد 2/ 162 وأبو داود (3646) بإسناد صحيح، عن عبد الله بن عمرو، قَالَ: كنت أكتب كل شيء أسمعه منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر، يتكلم فِي الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ بإصبعه إلى فيه، فَقَالَ:"اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق".

ص: 304

حال غضبه لا ينفذ، ولا يقاس غير النبيّ صلى الله عليه وسلم به؛ للفرق الظاهر، كما سلف آنفًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌19 - (الرُّخْصَةُ لِلْحَاكِمِ الأَمِينِ أَنْ يَحْكُمَ، وَهُوَ غَضْبَانُ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: غرض المصنّف بهذا ترجيح مذهب الجمهور فِي جواز حكم الحاكم فِي حال غضبه، وأنه ينفذ مع الكراهة، لكن قد تبيّن لك فِي الباب الماضي أن الأرجح هو القول بعدم نفوذه؛ لما تقدّم منْ الأدلّة، فتبصّر. والله تعالى أعلم بالصواب.

5409 -

(أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، حَدَّثَهُ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، أَنَّهُ خَاصَمَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ، قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ، كَانَا يَسْقِيَانِ بِهِ كِلَاهُمَا النَّخْلَ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: سَرِّحِ الْمَاءَ يَمُرَّ عَلَيْهِ، فَأَبَى عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ"، فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: "يَا زُبَيْرُ اسْقِ، ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ"، فَاسْتَوْفَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَبْلَ ذَلِكَ أَشَارَ عَلَى الزُّبَيْرِ، بِرَأْيٍ فِيهِ السَّعَةُ لَهُ وَلِلأَنْصَارِيِّ، فَلَمَّا أَحْفَظَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الأَنْصَارِيُّ، اسْتَوْفَى لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ، فِي صَرِيحِ الْحُكْمِ، قَالَ الزُّبَيْرُ: لَا أَحْسَبُ هَذِهِ الآيَةَ أُنْزِلَتْ، إِلاَّ فِي ذَلِكَ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] وَأَحَدُهُمَا يَزِيدُ عَلَى صَاحِبِهِ فِي الْقِصَّةِ).

رجال هَذَا الإسناد: تسعة:

1 -

(يونس بن عبد الأعلى) الصدفيّ، أبو موسى المصريّ، ثقة، منْ صغار [10] 1/ 449.

ص: 305

2 -

(الحارث بن مسكين) بن محمّد القاضي المصريّ، ثقة فقيه [10] 9/ 9.

3 -

(ابن وهب) عبد الله المصريّ الحافظ، ثقة فقيه [9] 9/ 9.

4 -

(يونس بن يزيد) بن أبي النِّجَاد، أبو يزيد الأيليّ، ثقة، منْ كبار [7] 9/ 9.

5 -

(الليث بن سعد) الإِمام الحجة الفقيه المصريّ [7] 31/ 35.

6 -

(ابن شهاب) الزهريّ المذكور فِي الباب الماضي.

7 -

(عروة بن الزبير) بن العوّم المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 40/ 44.

8 -

(عبد الله بن الزبير) بن العوّام الأسديّ رضي الله تعالى عنه 189/ 1161.

9 -

(الزبير بن العوّام) بن خُويلد بن أسد القرشيّ الأسديّ، قتل سنة (36) بعد منصرفه منْ وقعة الجمل، تقدّم فِي 44/ 382. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سباعيّات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه الحارث. (ومنها): أنه مسلسل بثقات المدنيين منْ ابن شهاب، ومن قبله مصريون. (ومنها): أن فيه رواية صحابيّ عن صحابيّ، وتابعي عن تابعيّ، ورواية الراوي عن أخيه عن أبيهما، وفيه أحد الفقهاء السبعة، عروة، وفيه أن عبد الله ابن الزبير أول مولود للمهاجرين بعد الهجرة، وَقَدْ فرح به المسلمون؛ لأن المنافقين كَانَ يتحدّثون بأن اليهود سحرتهم، فلا يولد لهم ولد، فأبطل الله تعالى زعمهم الباطل بولادته رضي الله عنه، وفيه الزبير رضي الله عنه أحد العشرة المبشّرين بالجنّة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمّد بن مسلم الزهريّ (أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، حَدَّثَهُ) قَالَ فِي "الفتح": هَذَا هو المشهور منْ رواية الليث بن سعد، عن ابن شهاب، وَقَدْ رواه ابن وهب، عن الليث، ويونس جميعا، عن ابن شهاب أن عروة حدثه، عن أخيه عبد الله بن الزبير، عن الزبير بن العوام، أخرجه النسائيّ -يعني هَذَا الْحَدِيث- وابن الجارود، والإسماعيلي، وكأن ابن وهب حمل رواية الليث عَلَى رواية يونس، وإلا فرواية الليث ليس فيها ذكر الزبير، والله أعلم. وأخرجه البخاريّ فِي "الصلح" منْ طريق شعيب، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن الزبير بغير ذكر عبد الله، وَقَدْ أخرجه فِي الباب الذي يليه منْ طريق معمر، عن ابن شهاب، عن عروة مرسلاً، وأعاده فِي "التفسير" منْ وجه آخر عن معمر، وكذا أخرجه الطبري منْ طريق عبد الرحمن بن إسحاق، حدثنا ابن شهاب، وأخرجه البخاريّ منْ رواية ابن جريج

ص: 306

كذلك بالإرسال، لكن أخرجه الإسماعيلي منْ وجه آخر عن ابن جريج، كرواية شعيب التي ليس فيها عن عبد الله، وذكر الدارقطنيّ فِي "العلل" أن ابن أبي عتيق، وعمر بن سعد، وافقا شعيبا، وابن جريج عَلَى قولهما:"عروة عن الزبير"، قَالَ: وكذلك قَالَ أحمد بن صالح، وحرملة عن ابن وهب، قَالَ: وكذلك قَالَ شبيب بن سعيد، عن يونس، قَالَ: وهو المحفوظ.

قَالَ الحافظ: وإنما صححه البخاريّ مع هَذَا الاختلاف؛ اعتمادًا عَلَى صحة سماع عروة منْ أبيه، وعلى صحة سماع عبد الله بن الزبير منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكيفما دار فهو عَلَى ثقة، ثم الْحَدِيث ورد فِي شيء يتعلق بالزبير، فداعية ولده متوفرة عَلَى ضبطه، وَقَدْ وافقه مسلم عَلَى تصحيح طريق الليث، التي ليس فيها ذكر الزبير، وزعم الحميدي فِي "جمعه" أن الشيخين أخرجاه منْ طريق عروة، عن أخيه عبد الله، عن أبيه، وليس كما قَالَ، فإنه بهذا السياق فِي رواية يونس المذكورة، ولم يخرجها منْ أصحاب الكتب الستة إلا النسائيّ، وأشار إليها الترمذيّ خاصة. وَقَدْ جاءت هذه القصة منْ وجه آخر، أخرجها الطبري، والطبراني، منْ حديث أم سلمة، وهي عند الزهريّ أيضًا، منْ مرسل سعيد بن المسيب، كما سيأتي بيانه. انتهى "فتح" 5/ 307 - 308.

(عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّام) رضي الله تعالى عنه (أَنَّهُ خَاصَمَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ، قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) الظرف متعلّق بـ"شهد". وفي رواية عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهريّ عند الطبري، فِي هَذَا الْحَدِيث: أنه منْ بني أمية بن زيد، وهم بطن منْ الأوس، ووقع فِي رواية يزيد بن خالد، عن الليث، عن الزهريّ، عند ابن المقري فِي "معجمه" فِي هَذَا الْحَدِيث أن اسمه حميد، قَالَ أبو موسى المديني فِي "ذيل الصحابة": لهذا الْحَدِيث طرق، لا أعلم فِي شيء منها ذكر حميد، إلا فِي هَذَا الطريق. انتهى. وليس فِي البدريين منْ الأنصار منْ اسمه حميد. وحَكَى ابن بشكوال فِي "مبهماته" عن شيخه أبي الحسن بن مغيث، أنه ثابت بن قيس بن شَمّاس، قَالَ: ولم يأت عَلَى ذلك بشاهد، قَالَ الحافظ: وليس ثابت بدريا. وحَكى الواحدي أنه ثعلبة بن حاطب الأنصاريّ، الذي نزل فيه قوله تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} الآية [التوبة: 75] ولم يذكر مستنده، وليس بدريا أيضًا، نعم ذكر ابن إسحاق فِي البدريين ثعلبة بن حاطب وهو منْ بني أمية بن زيد، قَالَ الحافظ: وهو عندي غير الذي قبله؛ لأن هَذَا ذكر ابن الكلبي أنه استُشهد بأحد، وذاك عاش إلى خلافة عثمان. وحَكى الواحدي أيضًا، وشيخه الثعلبي، والمهدوي أنه حاطب بن أبي بلتعة.

وتُعُقب بأن حاطبا وإن كَانَ بدريا، لكنه منْ المهاجرين، لكن مستند ذلك ما أخرجه

ص: 307

ابن أبي حاتم، منْ طريق سعيد بن عبد العزيز، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيب، فِي قوله تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [النِّساء: 65]، قَالَ: "نزلت فِي الزبير بن العوّام، وحاطب بن أبي بلتعة، اختصما فِي ماء

" الْحَدِيث، وإسناده قوي مع إرساله، فإن كَانَ سعيد بن المسيب سمعه منْ الزبير، فيكون موصولاً، وعلى هَذَا فيؤول قوله: "منْ الأنصار" عَلَى إرادة المعنى الأعم، كما وقع ذلك فِي حق غير واحد، كعبد الله بن حذافة. وأما قول الكرماني بأن حاطبا كَانَ حليفا للأنصار، ففيه نظر. وأما قوله: "منْ بني أمية بن زيد" فلعله كَانَ مسكنه هناك كعمر، كما تقدّم. وذكر الثعلبي بغير سند أن الزبير وحاطبا لَمّا خرجا مَرّا بالمقداد قَالَ: لمن كَانَ القضاء؟ فَقَالَ حاطب: قضى لابن عمته، ولوى شدقه، ففطن له يهودي، فَقَالَ: قاتل الله هؤلاء يشهدون أنه رسول الله، ويتهمونه، وفي صحة هَذَا نظر، ويترشح بأن حاطبا كَانَ حليفا لآل الزبير بن العوام منْ بني أسد، وكأنه كَانَ مجاورا للزبير. والله أعلم. وأما قول الداودي، وأبي إسحاق الزجاج، وغيرهما: إن خصم الزبير كَانَ منافقا، فقد وجهه القرطبيّ بأن قول منْ قَالَ: إنه كَانَ منْ الأنصار، يعني نسبا لا دينا، قَالَ: وهذا هو الظاهر منْ حاله، ويحتمل أنه لم يكن منافقا، ولكن أصدر ذلك منه بادرة النفس كما وقع لغيره ممن صحت توبته، وقوّى هَذَا شارح "المصابيح" التوربشتي، ووَهّى ما عداه، وَقَالَ: لم تجر عادة السلف بوصف المنافقين بصفة النصرة، التي هي المدح، ولو شاركهم فِي النسب، قَالَ: بل هي زلة منْ الشيطان تمكن به منها عند الغضب، وليس ذلك بمستنكر منْ غير المعصوم، فِي تلك الحالة. انتهى. وَقَدْ قَالَ الداودي بعد جزمه بأنه كَانَ منافقا: وقيل: كَانَ بدريا، فإن صح فقد وقع ذلك قبل شهودها؛ لانتفاء النفاق عمن شهدها. انتهى. وَقَدْ عرفت أنه لا ملازمة بين صدور هذه القضية منه، وبين النفاق. وَقَالَ ابن التين: إن كَانَ بدريا فمعنى قوله: {لَا يُؤْمِنُونَ} [النِّساء: 65] لا يستكملون الإيمان. والله أعلم. قاله فِي "الفتح" 5/ 308 - 309.

وَقَالَ القرطبيّ: قيل: إن هَذَا الرجل كَانَ منْ الأنصار نسبًا، ولم يكن منهم نصرة ودينًا، بل كَانَ منافقًا؛ لِمَا صدر عنه منْ تهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجور فِي الأحكام لأجل قرابته، ولأنه لم يرض بحكمه، ولأن الله تعالى قد أنزل فيه:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [النِّساء: 65] هَذَا هو الظاهر منْ حاله. ويحتمل أنه لم يكن منافقًا، ولكن أصدر منه ذلك بادرة نفس، وزلّة شيطان، كما قد اتّفق لحاطب بن أبي بَلْتعة، ولحسّان، ومِسطَح، وحمنة فِي قضيّة الإفك، وغيرهم ممن

ص: 308

بدرت منهم بوادر شيطانيّة، وأهواء نفسانيّة، لكن لُطِف بهم حَتَّى رجعوا عن الزلّة، وصحّت لهم التوبة، ولم يؤاخذوا بالْحَوْبة. انتهى "المفهم" 6/ 153 - 154.

(فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ) -بكسر المعجمة، وبالجيم-: جمع شَرْج -بفتح أوله، وسكون الراء- مثل بَحْر وبِحَار، ويجمع عَلَى شروج أيضًا، وحكى ابن دُريد شَرَج -بفتح الراء- وَقَالَ القرطبيّ: جمع شَرِجَة، والمراد بها هنا مسيل الماء إلى النخل والشجر، وإنما أضيفت إلى "الحرة" لكونها فيها، و"الحرة" موضع معروف بالمدينة، تقدّم ذكرها، وهي فِي خمسة مواضع، المشهور منها اثنتان: حَرّة واقم، وحرة ليلى. وَقَالَ الداودي: هو نهر عند الحرة بالمدينة، فأغرب، وليس بالمدينة نهر. قَالَ أبو عبيد: كَانَ بالمدينة واديان، يسيلان بماء المطر، فيتنافس النَّاس فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعلى، فالأعلى.

(كَانَا يَسْقِيَانِ بِهِ) هكذا فِي هذه الرواية، وفي الرواية الآتية 27/ 5418:"بها" والضمير للشراج، وإنما ذكّره فِي الرواية الأولى باعتبار الماء (كِلَاهُمَا النَّخْلَ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ) للزبير رضي الله عنه (سَرّحِ الْمَاءَ) بتشديد الراء أمر منْ التسريح: أي أطلقه، وإنما قَالَ له ذلك؛ لأن الماء كَانَ يمر بأرض الزبير قبل أرض الأنصاريّ، فيحبسه لإكمال سقي أرضه، ثم يرسله إلى أرض جاره، فالتمس منه الأنصاريّ تعجيل ذلك، فامتنع (يَمُرُّ عَلَيْهِ) أي عَلَى زرعه، أو بستانه (فَأَبَى عَلَيْهِ) أي امتنع الزبير أن يسرّح الماء له (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"اسْقِ يَا زُبَيْرُ) بهمزة وصل منْ الثلاثي، وحكى ابن التين أنه بهمزة قطع منْ الرباعي، تقول: سقى، وأسقى، قَالَ الله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21]، وَقَالَ: {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} الآية [الجنّ: 16]، زاد ابن جريج فِي روايته عند البخاريّ: "فأمره بالمعروف"، وهي جملة معترضة منْ كلام الراوي، وَقَدْ أوضحه ما يأتي منْ قوله: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك قد أشار عَلَى الزبير برأي فيه السعة له وللانصاري"، وضبطه الكرماني: "فأَمِرَّه" هنا بكسر الميم، وتشديد الراء، عَلَى أنه فعل أمر منْ الإمرار، وهو محتمل.

وَقَالَ الخطّابيّ: معناه أمره بالعادة المعروفة، التي جرت بينهم فِي مقدار الشرب. انتهى. ويحتمل أن يكون المراد أمره بالقصد، والأمر الوسط؛ مراعاةً للجوار، وهو ظاهر فِي أنه صلى الله عليه وسلم أمره أولا أن يسامح ببعض حقه، عَلَى سبيل الصلح، وبهذا ترجم الإِمام البخاريّ فِي "كتاب الصلح":"إذا أشار الإِمام بالمصلحة"، فلما لم يَرْضَ الأنصاريّ بذلك، استقصى الحكم، وحكم به.

وحكى الخطّابيّ أن فيه دليلا عَلَى جواز فسخ الحاكم حكمه، قَالَ: لأنه كَانَ له فِي

ص: 309

الأصل أن يحكم بأي الأمرين شاء، فقدم الأسهل؛ إيثارًا لحسن الجوار، فلما جهل الخصم موضع حقه، رجع عن حكمه الأول، وحكم بالثاني؛ ليكون ذلك أبلغ فِي زجره.

وتعقب بأنه لم يثبت الحكم أولا، كما تقدّم بيانه، قَالَ: وقيل: بل الحكم كَانَ ما أمر به أولا، فلما لم يقبل الخصم ذلك، عاقبه بما حكم عليه به ثانيا، عَلَى ما بدر منه، وكان ذلك لما كانت العقوبة بالأموال. انتهى. وَقَدْ وافق ابنُ الصباغ منْ الشافعيّة عَلَى هَذَا الأخير. قَالَ الحافظ: وفيه نظر، وسياق طرق الْحَدِيث يأبى ذلك كما ترى، لاسيما قوله:"واستوفى للزبير حقه، فِي صريح الحكم"، فمجموع الطرق دالّ عَلَى أنه أمر الزبير أولا أن يترك بعض حقه، وثانيا أن يستوفي جميع حقه. انتهى. "فتح" 5/ 313.

وَقَالَ القرطبيّ فِي "المفهم" 6/ 154: والمخاصمة إنما كانت في السقي بالماء الذي يسيل فيها، وكان الزبير يتقدّم شَربه عَلَى شرب الأنصاريّ، فكان الزبير يُمسك الماء لحاجته، فطلب الأنصاريّ أن يُسرّحه له قبل استيفاء حاجته، فلما ترافعا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم سلك النبيّ صلى الله عليه وسلم معهما مسلك الصلح، فَقَالَ له:"اسق يا زبير"، (ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ") أي تساهل فِي سقيك، وعجّل فِي إرسال الماء إلى جارك، يحُضّه عَلَى المسامحة والتيسير (فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ) لما سمع بهذا، ولم يرض به، لأنه كَانَ يريد أن لا يُمسك الماء أصلاً، وعند ذلك نطق بالكلمة الجائرة، المهلكة الفاقرة (وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِك؟) بفتح همزة "أن"، وهي للتعليل، كأنه قَالَ: حكمتَ له بالتقديم؛ لأجل أنه ابن عمتك، وكانت أم الزبير، صفيةُ بنتَ عبد المطلب، وَقَالَ البيضاوي: يحذف حرف الجر منْ "أن" كثيرًا؛ تخفيفا، والتقدير: لأن كَانَ، أو بأن كَانَ، ونحوه:{أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [القلم: 14]: أي لا تُطِعْه لأجل ذلك، وحكى القرطبيّ تبعا لعياض أن همزة "أن" ممدودة، قَالَ: لأنه استفهام عَلَى جهة إنكار: أي أتحكم له عليّ لأجل أنه قرابتك؟. قَالَ الحافظ: ولم يقع لنا فِي الرواية مَدّ، لكن يجوز حذف همزة الاستفهام، وحكى الكرماني:"إن كَانَ" بكسر الهمزة عَلَى أنها شرطية، والجواب محذوف، ولا أعرف هذه الرواية، نعم وقع فِي رواية عبد الرحمن بن إسحاق، فَقَالَ:"اعدل يا رسول الله، وان كَانَ ابن عمتك"، والظاهر "إن" هذه بالكسر و"ابن" بالنصب عَلَى الخبرية، ووقع عند البخاريّ، فِي رواية معمر:"إنه ابن عمتك"، قَالَ ابن مالك: يجوز فِي "أنه" بفتح الهمزة وكسرها؛ لأنها وقعت بعد كلام تامّ، معلل بمضمون ما صدر بها، فإذا كسرت قُدّر ما قبلها بالفاء، وإذا فتحت قُدّر ما قبلها باللام، وبعضهم يقدر بعد الكلام المصدر بالمكسورة مثل ما قبلها مقرونا بالفاء، فيقول فِي قوله

ص: 310

مثلا: اضربه إنه مسيء: اضربه إنه مسيء فاضربه، ومن شواهده:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} الآية [الإسراء: 32]، ولم يقرأ هنا إلا بالكسر، وإن جاز الفتح فِي العربية، وَقَدْ ثبت الوجهان فِي قوله تعالى:{إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 28] قرأ نافع، والكسائي أنه بالفتح، والباقون بالكسر. أفاده فِي "الفتح" 5/ 310.

(فـ) عند ذلك (تَلَوَّنَ) أي تغير (وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وهو كناية عن الغضب، والتألّم منْ كلمته، زاد عبد الرحمن بن إسحاق فِي روايته:"حَتَّى عرفنا أن قد ساءه ما قَالَ"(ثُمَّ) إنه بعد ذلك حكم للزبير باستيفاء حقّه، فـ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يَا زُبَيْرُ اسْقِ) يحتمل وصل الهمزة، وقطعها، كما سبق بيانه (ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ) أمر منْ الحبس: أي أمسك الماء فِي بستانك، ولا ترسله (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ) أي إلى أن يصير الماء إلى الجدر، وهو -بفتح الجيم، وسكون الدال المهملة-: هو الْمُسَنّاة، وهو: ما وُضع بين شَرَبات النخل، كالجدار. وقيل: المراد الحواجز التي تحبس الماء، وجزم به السهيلي. وُيرْوىَ "الجدُر" بضم الدال، حكاه أبو موسى، وهو جمع جدار. وَقَالَ ابن التين: ضبط فِي أكثر الروايات بفتح الدال، وفي بعضها بالسكون، وهو الذي فِي اللغة، وهو أصل الحائط. وَقَالَ القرطبيّ: لم يقع فِي الرواية إلا بالسكون، والمعنى: أن يصل الماء إلى أصول النخل والشجر، وتأخذ منه حقّها، قَالَ: ويُروَى بكسر الجيم، وهو الجدار، والمراد به جدران الشربات، التي فِي أصول النخل، فإنها تُرفع حَتَّى تصير شِبْه الجدار، و"الشَّرَبات" بمعجمة، وفتحات-: هي الْحُفَرُ التي تُحفَر فِي أصول النخل. وحكى الخطّابيّ "الْجَذْر" -بسكون الذال المعجمة- وهو جذر الحساب، والمعنى: حَتَّى يبلغ تمام الشرب.

زاد فِي رواية للبخاريّ منْ طريق ابن جريج: "فَقَالَ لي ابن شهاب: فقدرت الأنصار والناس قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: اسق، ثم احبس، حَتَّى يرجع إلى الجدر، وكان ذلك إلى الكعبين": يعني أنهم لما رأوا أن الجدر يختلف بالطول والقصر، قاسوا ما وقعت فيه القصة، فوجدوه يبلغ الكعبين، فجعلوا ذلك معيارا لاستحقاق الأول فالأول، والمراد بالأول هنا منْ يكون مبدأُ الماء منْ ناحيته، وَقَالَ بعض المتأخرين منْ الشافعيّة: المراد به منْ لم يتقدمه أحد فِي الغراس بطريق الإحياء، والذي يليه منْ أحيا بعده، وهلم جَرّا، قَالَ: وظاهر الخبر أن الأول منْ يكون أقرب إلى مجرى الماء، وليس هو المراد. وَقَالَ ابن التين: الجمهور عَلَى أن الحكم أن يمسك إلى الكعبين، وخصه ابن كنانة بالنخل والشجر، قَالَ: وأما الزروع فإلى الشِّرَاك. وَقَالَ الطبري: الأراضي مختلفة، فيُمسَك لكل أرض ما يكفيها؛ لأن الذي فِي قصة الزبير واقعة عين. واختلف أصحاب مالك:

ص: 311

هل يرسل الأول بعد استيفائه جميع الماء، أو يرسل منه ما زاد عَلَى الكعبين، والأول أظهر، ومحله إذا لم يبق له به حاجة. والله أعلم.

وَقَدْ وقع فِي مرسل عبد الله بن أبي بكر فِي "الموطإ": أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فِي مَسِيل مَهْزُور، ومُذَينب أن يُمسَك حَتَّى يبلغ الكعبين، ثم يُرسل الأعلى عَلَى الأسفل". و"مهزور" -بفتح أوله، وسكون الهاء، وضم الزاي، وسكون الواو، بعدها راء- و"مُذينب" -بذال معجمة، ونون، بالتصغير-: واديان معروفان بالمدينة، وله إسناد موصول فِي "غرائب مالك" للدارقطني، منْ حديث عائشة، وصححه الحاكم، وأخرجه أبو داود، وابن ماجه، والطبري، منْ حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده وإسناد كل منهما حسن، وأخرج عبد الرزاق هَذَا الْحَدِيث المرسل، بإسناد آخر موصول، ثم رَوَى عن معمر، عن الزهريّ، قَالَ: نظرنا فِي قوله: "احبس الماء حَتَّى يبلغ الجدر"، فكان ذلك إلى الكعبين. انتهى. وَقَدْ رَوَى البيهقي منْ رواية ابن المبارك، عن معمر، قَالَ: سمعت غير الزهريّ يقول: نظروا فِي قوله: "حَتَّى يرجع إلى الجدر"، فكان ذلك إلى الكعبين، وكأن معمرا سمع ذلك منْ ابن جريج، فأرسله فِي رواية عبد الرزاق، وَقَدْ بين ابن جريج أنه سمعه منْ الزهريّ. ووقع فِي زاوية عبد الرحمن بن إسحاق: "احبس الماء إلى الجدر، أو إلى الكعبين"، وهو شك منه، والصواب ما رواه ابن جريج. وذكر الشاشي منْ الشافعيّة، أن معنى قوله: "إلى الجدر": أي إلى الكعبين، وكأنه أشار إلى هَذَا التقدير، وإلا فليس الجدر مرادفا للكعب. قاله فِي "الفتح" 5/ 313 - 314.

(فَاسْتَوْفَى) وفي رواية للبخاريّ: "فاستوعى": وهو بمعنى استوفى، منْ الوعي كأنه جمعه له فِي وعائه (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ) أي منْ تلك الشراج (وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَبْلَ ذَلِكَ) أي قبل أن يستوفي له حقّه (أَشَارَ عَلَى الزُّبَيْرِ) رضي الله عنه (بِرَأْيٍ فِيهِ السَّعَةُ لَهُ وَلِلأَنْصَارِيِّ) حيث أمره أوّلاً بالمسامحة والإيثار بأن يسقي شيئًا يسيرًا، ثم يرسله إلى جاره، فلما قَالَ الأنصاريّ ما قَالَ، وجهِل موضع حقّه أمره بأن يأخذ تمام حقّه، ويستوفيه، فإنه أصلح له، وفي الزجر أبلغ، كما قَالَ:(فَلَمَّا أَحْفَظَ) بالحاء المهملة، والظاء المشالة: أي أغضبه، قَالَ فِي "القاموس": الْحِفْظة، والْحَفِيظة: الْحَمِيّة، والغضب، وأحفظه: أغضبه، فاحتفظ، أو لا يكون إلا بكلام قبيح. انتهى (رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم الأنْصَارِيُّ) فاعل مؤخّر، و"رسول" مفعول مقدّم (اسْتَوْفَى) صلى الله عليه وسلم (لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ، فِي صَرِيحِ الْحُكْمِ) منْ إضافة الصفة للموصوف: أي بالحكم الخالص الذي لا تنازل فيه، مثل ما كَانَ فِي الحالة الأولى.

ص: 312

قَالَ الخطّابيّ هذه الزيادة -يعني قوله: "فلما أحفظ الخ": يشبه أن تكون منْ كلام الزهريّ، وكانت عادته أن يصل بالحديث منْ كلامه ما يظهر له، منْ معنى الشرح والبيان. قَالَ الحافظ: لكن الأصل فِي الْحَدِيث أن يكون حكمه كله واحدا، حَتَّى يرد ما يبين ذلك، ولا يثبت الإدراج بالاحتمال. قَالَ الخطابى، وغيره: وإنما حكم صلى الله عليه وسلم عَلَى الأنصاريّ فِي حال غضبه، مع نهيه أن يحكم الحاكم وهو غضبان؛ لأن النهي معلل بما يُخاف عَلَى الحاكم منْ الخطأ والغلط، والنبي صلى الله عليه وسلم مأمون؛ لعصمته منْ ذلك حال السخط. انتهى.

(قَالَ الزُّبَيْرُ) رضي الله عنه (لَا أَحْسَبُ هَذِهِ الآْيَةَ أُنْزِلَتْ، إِلَّا فِي ذَلِكَ) وفي الرواية الآتية 27/ 5418: "فَقَالَ الزبير: إني لأحسب هذه الآية نزلت فِي ذلك". وفي رواية البخاريّ: "فَقَالَ الزبير: والله إني لأحسب هذه الآية نزلت فِي ذلك". وقوله: ({فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}) الآية بدل منْ "هذه الآية" منصوب محكيّ لقصد لفظه، أو خبر لمحذوف: أي هي {فَلَا وَرَبِّكَ} الآية. زاد فِي رواية شعيب عند البخاريّ: "إلى قوله: {تَسْلِيمًا}. ووقع فِي رواية بن جريج: "فَقَالَ الزبير: والله إن هذه الآية أنزلت فِي ذلك"، وفي رواية عبد الرحمن بن إسحاق: "ونزلت: {فَلَا وَرَبِّكَ} الآية، والراجح رواية الأكثر، وأن الزبير كَانَ لا يجزم بذلك، لكن وقع فِي رواية أم سلمة، عند الطبري، والطبراني الجزم بذلك، وأنها نزلت فِي قصة الزبير وخصمه، وكذا فِي مرسل سعيد بن المسيب الذي تقدمت الإشارة إليه، وجزم مجاهد، والشعبي، بأن الآية إنما نزلت فيمن نزلت فيه الآية التي قبلها، وهي قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} الآية [النِّساء: 60]، فروى إسحاق بن راهويه فِي "تفسيره" بإسناد صحيح عن الشعبي، قَالَ: كَانَ بين رجل منْ اليهود، ورجل منْ المنافقين خصومة، فدعا اليهودي المنافق إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عَلَى علم أنه لا يقبل الرشوة، ودعا المنافق اليهودي إلى حكامهم؛ لأنه علم أنهم يأخذونها، فأنزل الله هذه الآيات، إلى قوله:{وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ، وأخرجه ابن أبي حاتم، منْ طريق ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه. وروى الطبري بإسناد صحيح، عن ابن عبّاس: أن حاكم اليهود يومئذ كَانَ أبا برزة الأسلميّ، قبل أن يُسلم، ويصحب، ورَوَى بإسناد لآخر صحيح إلى مجاهد، أنه كعب بن الأشرف. وَقَدْ رَوَى الكلبي فِي "تفسيره"، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس، قَالَ: نزلت هذه الآية فِي رجل منْ المنافقين، كَانَ بينه وبين يهودي خصومة، فَقَالَ اليهودي: انطلق بنا إلى محمّد، وَقَالَ المنافق: بل نأتي كعب بن الأشرف، فذكر

ص: 313

القصة، وفيه: أن عمر قتل المنافق، وأن ذلك سبب نزول هذه الآيات، وتسمية عمر الفاروق، وهذا الإسناد، وإن كَانَ ضعيفا، لكن تَقَوَّى بطريق مجاهد، ولا يضره الاختلاف؛ لإمكان التعدد. وأفاد الواحدي بإسناد صحيح، عن سعيد، عن قتادة: أن اسم الأنصاريّ المذكور قيس. ورجح الطبري فِي "تفسيره"، وعزاه إلى أهل التأويل فِي "تهذيبه": أن سبب نزولها هذه القصة؛ ليتسق نظام الآيات كلها فِي سبب واحد، قَالَ: ولم يعرض بينها ما يقتضي خلاف ذلك، ثم قَالَ: ولا مانع أن تكون قصة الزبير وخصمه، وقعت فِي أثناء ذلك، فيتناولها عموم الآية. والله أعلم. قاله فِي "الفتح" 5/ 311.

وقوله: (وَأَحَدُهُمَا يَزِيدُ عَلَى صَاحِبِهِ فِي الْقِصَّةِ) يعني أن شيخيه: يونس، والحارث أخبراه بهذا الْحَدِيث كلّه، لكن فِي رواية كلّ منهما منْ الزيادة ما ليس فِي الآخر، ولا يضرّ عدم معرفة ما زاده كلّ منهما بانفراده؛ لكونهما ثقتين، وإنما يضرّ ذلك لو كَانَ أحدهما ثقة، والآخر ضعيفًا، كما بُسط بحثه فِي كتب مصطلح الْحَدِيث. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث الزبير بن العوّام رضي الله عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -19/ 5409 و27/ 5418 - وفي "الكبرى" 24/ 5963 و31/ 5977. وأخرجه (خ) فِي "المساقاة" 2360 و2361 و2363 و"الصلح" 2708 و"التفسير" 4585 (م) فِي "الفضائل" 2357 (د) فِي "الأقضية" 3637 (ت) فِي "الأحكام" 1363 (ق) فِي "المقدّمة" 15 و"الأحكام" 2480 (أحمد) فِي "مسند العشرة" 1422. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان الرخصة للحاكم الأمين أن يحكم، وهو غضبان، وَقَدْ علمت أن الأرجح فِي ذلك عدم الرخصة؛ لأن ذلك خاصّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، دون غيره؛ لأنه معصوم فِي حالة الغضب، كحالة الرضا. قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى:[فإن قيل]: كيف حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم للزبير عَلَى الأنصاريّ فِي حال غضبه، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم:"لا يقضي القاضي، وهو غضبان"؟.

[فالجواب]: أنا قدّمنا أن هَذَا معلّل بما يُخاف عَلَى القاضي منْ التشويش المؤدّي به

ص: 314

إلى الغلط فِي الحكم، والخطأ فيه، والنبيّ صلى الله عليه وسلم معصومٌ منْ الخطأ فِي التبليغ والأحكام، بدليل العقل الدالّ عَلَى صدقه فيما يبلّغه عن الله تعالى، وفي أحكامه، ولذلك قالوا: أنكتب عنك فِي الرضا والغضب؟ قَالَ: "نعم"، فدلّ عَلَى أن المراد بالحديث منْ يجوز عليه الخطأ منْ القضاة، فلم يدخل النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي ذلك العموم. انتهى "المفهم" 6/ 155.

(ومنها): أن منْ سبق إلى شيء منْ مياه الأودية والسيول، التي لا تُملك، فهو أحق به، لكن ليس له إذا استغنى أن يحبس الماء عن الذي يليه. (ومنها): أن الأولى بالماء الجاري الأول، فالأول، حَتَّى يستوفي حاجته، وهذا ما لم يكن أصله ملكًا للأسفل، مختصّا به، فليس للأعلى أن يشرب منه شيئًا، وإن كَانَ يمرّ عليه. (ومنها): أن القدر الذي يستحقّ الأعلى منْ الماء كفايته، وغاية ذلك أن يبلغ الماء إلى الكعبين. (ومنها): أن للحاكم أن يشير بالصلح بين الخصمين، ويأمر به، ويرشد إليه، ولا يُلزمه به، إلا إذا رضي. (ومنها): أن الحاكم يستوفي لصاحب الحق حقه، إذا لم يتراضيا، وأن يحكم بالحق لمن توجه له، ولو لم يسأله صاحب الحق. (ومنها): ما قاله القرطبيّ: أن فيه الاكتفاءَ منْ الخصوم بما يُفهَم عنه مقصودهم، وأن لا يكلّفوا النصّ عَلَى الدعاوي، ولا تحديد المدّعى فيه، ولا حصره بجميع صفاته، كما قد تنطّع فِي ذلك قُضاة الشافعيّة. (ومنها): توبيخ منْ جفا عَلَى الحاكم، ومعاقبته. (ومنها): أنه يستدل به عَلَى أن للإمام أن يعفو عن التعزير المتعلق به، لكن محل ذلك ما لم يؤد إلى هتك حرمة الشرع، والاستهانة بالأحكام، وإنما لم يعاقب النبيّ صلى الله عليه وسلم صاحب القصة؛ لِمَا كَانَ عليه منْ تأليف النَّاس، كما قَالَ فِي حق كثير منْ المنافقين:"لا يتحدث النَّاس أن محمدا صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه"، قَالَ القرطبيّ: فلو صدر مثل هَذَا منْ أحد فِي حق النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو فِي حق شريعته، لقتل قِتلة زنديق، ونقل النوويّ نحوه عن العلماء. ذكره فِي "المفهم" 6/ 156 - 157. و"الفتح" 5/ 313. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌20 - (حُكْمُ الْحَاكِمِ فِي دَارِهِ)

5410 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ، دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ،

ص: 315

فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، حَتَّى سَمِعَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا، فَكَشَفَ سِتْرَ حُجْرَتِهِ، فَنَادَى:"يَا كَعْبُ"، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:"ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا"، وَأَوْمَأَ إِلَى الشَّطْرِ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، قَالَ:"قُمْ، فَاقْضِهِ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(أبو داود) سليمان بن سيف بن يحيى الطائيّ مولاهم الْحَرّانيّ، ثقة حافظ [11] 103/ 136 منْ أفراد المصنّف.

2 -

(عثمان بن عمر) بن فارس: هو العبديّ البصريّ، بخاريّ الأصل، ثقة [9] 151/ 1118.

3 -

(يونس) بن يزيد المذكور فِي الباب الماضي.

4 -

(الزهريّ) محمّد بن مسلم المذكور فِي الباب الماضي أيضًا.

5 -

(عبد الله بن كعب) بن مالك الأنصاريّ المدنيّ ثقة [2] 38/ 731.

6 -

(أبوه) كعب بن مالك بن أبي كعب الأنصاريّ السَّلَميّ المدنيّ الصحابيّ المشهور، وهو أحد الثلاثة الذين خُلّفوا، مات رضي الله عنه فِي خلافة عليّ رضي الله عنه تقدّم فِي 38/ 731. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده، وهو ثقة حافظ. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين منْ الزهريّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه. (ومنها): أن صحابيّه هو أحد الثلاثة الذين نزلت فيهم آية: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} الآية [التوبة: 118]، رُوي له ثمانون حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبٍ) يقال: له رؤية، مات سنة (7) أو (89)(عَنْ أَبِيهِ) كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه (أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ) أي طالب أن يقضيه، وهو بفتح الحاء المهملة، وسكون الدال المهملة، وفتح الراء، ثم دال مهملة- قَالَ الجوهريّ وغيره: لم يأت منْ الأسماء عَلَى "فعلع" بتكرير العين غير حدرد. وهو عبد الله بن أبي حدرد، واسمه سلامة، وقيل: عُبيد بن عُمير بن أبي سلامة بن سعد بن شيبان بن الحارث بن قيس بن هوازن بن أسلم بن أفصى الأسلميّ، أبو محمّد، له ولأبيه صحة، وَقَالَ ابن منده: لا خلاف فِي صحبته. وَقَالَ ابن سعد: أول مشاهده الحديبية، ثم

ص: 316

خيبر، مات سنة (71) عن (81) سنة. أفاده فِي "الإصابة" 6/ 52 - 54 (دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ) وفي رواية الطبرانيّ أنه كَانَ أوقيّتين (فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا) وكان ذلك فِي المسجد النبويّ (حَتَّى سَمِعَهُمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا) أي منْ حجرته، وفي رواية الأعرج الآتية فِي 25/ 5416:"فمرّ بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم" وظاهر الروايتين التخالف، وجمع بعضهم بينهما باحتمال أن يكون مرّ بهما أوّلاً، ثم إن كعبًا أشخص خصمه للمحاكمة، فسمعهما النبيّ صلى الله عليه وسلم أيضًا، وهو فِي بيته. قَالَ الحافظ: وفيه بعد؛ لأن فِي الطريقين أنه صلى الله عليه وسلم أشار إلى كعب بالوضيعة، وأمر غريمه بالقضاء، فلو كَانَ أمره بذلك تقدّم لهما لما احتاج إلى الإعادة، والأولى فيما يظهر لي أن يُحمَل المرور عَلَى أمر معنويّ، لا حسّيّ. انتهى (فَكَشَفَ سِتْرَ حُجْرَتِهِ) وفي رواية البخاريّ:"سِجف حجرته": وهو بكسر المهملة، وسكون الجيم، وحكي فتح أوله، وهو الستر، وقيل: أحد طرفي الستر الفروج (فَنَادَى: "يَا كَعْبُ"، قَالَ: لَبَّيْكَ يا رسُولَ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا"، وَأَوْمَأَ) أي أشار (إِلَى الشَّطْرِ) أي النصف، وفي رواية الأعرج الآتية:"فَقَالَ: يا كعب، فأشار بيده، كأنه يريد النصف، فأخذ نصفًا مما عليه، وترك نصفًا"(قَالَ) كعبٌ (قَدْ فَعَلْتُ) وفي رواية البخاريّ: "لقد فعلت"، وفيها مبالغة فِي امتثال الأمر (قَالَ) صلى الله عليه وسلم لابن أبي حدرد (قُمْ، فَاقْضِهِ) فيه إشارة إلى أنه لا يُجمع بين الوضيعة والتأجيل. وَقَالَ القرطبيّ: قوله: "قم، فاقضه": أمر عَلَى جهة الوجوب؛ لأن ربّ الدين لَمّا أطاع بوضع ما وَضَعَ تعيّن عَلَى الْمِدْيان أن يقوم بما بقي عليه؛ لئلا يُجمع عَلَى ربّ الدين وضيعةٌ ومَطْلٌ، وهكذا ينبغي أن يُبَتّ الأمرُ بين المتصالحين، فلا يُترك بينهما عُلقةٌ ما أمكن. انتهى "المفهم" 4/ 430. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -20/ 5410 و25/ 5416 - وفي "الكبرى" 25/ 5965 و29/ 5974. وأخرجه (خ) فِي "الصلاة" 457 و"الخصومات" 2418 و2424 و"الصلح" 2706 و2710 (م) فِي "المساقاة" 1558 (د) فِي "الأقضية" 3595 (ق) فِي "الأحكام" 2429 (أحمد) فِي "مسند القبائل" 26632 و26636 (الدارميّ) فِي "البيوع" 2474. والله تعالى أعلم.

ص: 317

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز حكم الحاكم فِي داره، وهذا إذا لم يؤدّ إلى تضرّر النَّاس بضيق المكان، أو نحوه، وإلا فعليه أن يحكم فِي محلّ واسع. (ومنها): جواز رفع الصوت فِي المسجد، وهو كذلك، وَقَدْ بوّب الإِمام البخاريّ فِي "صحيحه""باب رفع الصوت فِي المسجد"، ثم أخرج بسنده عن السائب بن يزيد، قَالَ كنت قائما فِي المسجد، فحصبني رجل، فنظرت، فإذا عمر بن الخطاب، فَقَالَ: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما، قَالَ: منْ أنتما؟ أو منْ أين أنتما؟ قالا: منْ أهل الطائف، قَالَ: لو كنتما منْ أهل البلد، لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما فِي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. ثم أخرج حديث كعب بن مالك المذكور فِي الباب، قَالَ فِي "الفتح": أشار بالترجمة إلى الخلاف فِي ذلك، فقد كرهه مالك مطلقًا، سواء كَانَ فِي العلم، أم فِي غيره، وفرّق غيره بين ما يتعلّق بغرض دنيويّ، أو نفع دنيويّ، وبين ما لا فائدة فيه، وساق حديث عمر الدالّ عَلَى المنع، وحديث كعب الدال عَلَى عدمه، إشارة منه إلى أن المنع فيما لا منفعة فيه، وعدمه فيما تُلجىء الضرورة إليه. ووردت أحاديث فِي النهي عن رفع الصوت فِي المساجد، لكنها ضعيفة، أخرج ابن ماجه بعضها، فكأن المصنّف أشار إليها.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وعلى تقدير صحتها تحمل عَلَى ما إذا كَانَ الصوت متفاحشًا، وفي غير مصلحة، وأحاديث الإباحة عَلَى ما كَانَ للمصلحة.

وَقَالَ فِي "الفتح" أيضًا فِي موضع آخر: قَالَ المهلّب: لو كَانَ رفع الصوت فِي المسجد لا يجوز لما تركهما النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولبيّن لهما ذلك. قَالَ الحافظ: ولمن منع أن يقول: لعله تقدّم النهي عن ذلك، فاكتفى به، واقتصر عَلَى التوصّل بالطريق المؤدّية إلى ترك ذلك بالصلح المقتضي لترك المخاصمة الموجبة لرفع الصوت. انتهى.

(ومنها): أن الإشارة بمنزلة الكلام إذا فُهمت؛ لأنها دالّة عَلَى الكلام، كالحروف والأصوات، فتصحّ شهادة الأخرس، ويمينه، ولعانه، وعُقُوده، إذا فُهم ذلك عنه. (ومنها): استحباب الشفاعة إلى صاحب الحقّ. (ومنها): إشارة الحاكم بالصلح بين المتخاصمين، عَلَى جهة الإرشاد، وهنا وقع الصلح عَلَى الإقرار، وهو متّفق عَلَى جوازه، وأما الصلح عن الإنكار فأجازه أبو حنيفة، ومالك، وهو قول الحسن، وَقَالَ الشافعيّ: هو باطل، وبه قَالَ ابن أبي ليلى. (ومنها): قبول الشفاعة فِي غير معصية. (ومنها): جواز المخاصمة فِي المسجد فِي الحقوق، والمطالبة بالديون. (ومنها): جواز ملازمة الغريم، والتقاضي منه. (ومنها): إرخاء الستر عَلَى الباب للحاجة. والله

ص: 318

تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي القضاء فِي المسجد:

قَالَ فِي "الفتح": قَالَ ابن بطال رحمه الله تعالى: استَحَبّ القضاء فِي المسجد طائفةٌ، وَقَالَ مالك: هو الأمر القديم؛ لأنه يصل إلى القاضي فيه المرأة والضعيف، وإذا كَانَ فِي منزله، لم يصل إليه النَّاس؛ لإمكان الاحتجاب، قَالَ: وبه قَالَ أحمد، وإسحاق. وكرهت ذلك طائفة، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى القاسم بن عبد الرحمن، أن لا تقضي فِي المسجد، فإنه يأتيك الحائض، والمشرك. وَقَالَ الشافعيّ: أحب إليّ أن يقضى فِي غير المسجد لذلك. وَقَالَ الكرابيسي: كره بعضهم الحكم فِي المسجد؛ منْ أجل أنه قد يكون الحكم بين مسلم ومشرك، فيدخل المشرك المسجد، قَالَ: ودخول المشرك المسجد مكروه، ولكن الحكم بينهم لم يزل منْ صنيع السلف، فِي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره، ثم ساق فِي ذلك آثارا كثيرة، قَالَ ابن بطال: وحديث سهل بن سعد -يعني حديثه فِي المتلاعنين- حجة للجواز، وإن كَانَ الأولى صيانة المسجد، وَقَدْ قَالَ مالك: كَانَ منْ مضى يجلسون فِي رحاب المسجد، إما فِي موضع الجنائز، وإما فِي رحبة دار مروان، قَالَ: وإني لاستحب ذلك فِي الأمصار؛ ليصل إليه اليهودي، والنصراني، والحائض، والضعيف، وهو أقرب إلى التواضع. وَقَالَ ابن المنير: لرحبة المسجد حكم المسجد، إلا إن كانت منفصلة عنه، والذي يظهر أنهما كانت منفصلة عنه، ويمكن أن يكون جلوس القاضي فِي الرحبة المتصلة، وقيام الخصوم خارجا عنها، أو فِي الرحبة المتصلة، وكان التابعي المذكور يرى أن الرحبة لا تُعطَى حكم المسجد، ولو اتصلت بالمسجد، وهو خلاف مشهور، فقد وقع للشافعية فِي حكم رحبة المسجد اختلاف فِي التعريف، مع اتفاقهم عَلَى صحة صلاة منْ فِي الرحبة المتصلة بالمسجد، بصلاة منْ فِي المسجد، قَالَ: والفرق بين الحريم والرحبة، أن لكل مسجد حريما، وليس لكل مسجد رحبة، فالمسجد الذي يكون أمامه قطعة منْ البقعة، هي الرحبة، وهي التي لها حكم المسجد، والحريم هو الذي يحيط بهذه الرحبة، وبالمسجد، وإن كَانَ سور المسجد محيطا بجميع البقعة، فهو مسجد بلا رحبة، ولكن له حريم كالدور. انتهى ملخصا.

وسكت عما إذا بني صاحب المسجد قطعة منفصلة عن المسجد، هل هي رحبة تعطى حكم المسجد، وعما إذا كَانَ فِي الحائط القبلي منْ المسجد رحاب، بحيث لا تصح صلاة منْ صلى فيها خلف إمام المسجد، هل تعطى حكم المسجد، والذي يظهر أن كلا منهما يُعطى حكم المسجد، فتصح الصلاة فِي الأولى، ويصح الاعتكاف فِي

ص: 319

الثانية، وَقَدْ يفرق حكم الرحبة منْ المسجد، فِي جواز اللغط ونحوه فيها، بخلاف المسجد، مع إعطائها حكم المسجد فِي الصلاة فيها، فقد أخرج مالك فِي "الموطإ" منْ طريق سالم بن عبد الله بن عمر، قَالَ: بني عمر إلى جانب المسجد رحبة، فسماها البطحاء، فكان يقول: منْ أراد أن يلغط، أو يُنشد شعرا، أو يرفع صوتا، فليخرج إلى هذه الرحبة. انتهى "فتح" 15/ 58.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن الحكم فِي المسجد جائز، كما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكن إذا كَانَ هناك شيء يتنافى مع حرمة المسجد، ككون أحد الخصمين حائضًا، أو جنبًا، أو ليس مسلمًا، خرج إلى خارج المسجد، فحكم هناك، والأولى منْ ذلك كله أن يتّخذ مكانا ظاهرًا يصلح لكل النَّاس، كما هو المعمول به فِي زماننا هَذَا، وقبله بدهور. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌21 - (الاسْتِعْدَاءُ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الاستعداء" مصدر استعدى، قَالَ الفيّوميّ رحمه الله تعالى: استعديت الأمير عَلَى الظالم: طلبت منه النصرة، فأعداني عليه: أعانني، ونصرني، فالاستعداء: طلب التقوية، والنصرة، والاسم: الْعَدْوَى بالفتح. قَالَ ابن فارس: الْعَدْوَى: طلبك إلى وال لِيُعْديك عَلَى منْ ظلمك: أي ينتقم منه باعتدائه عليه، والفقهاء يقولون: مسافةُ العدوى، وكأنهم استعاروها منْ هذه الْعَدْوَى؛ لأن صاحبها يَصِل فيها الذهاب والعود بعدْو واحد؛ لما فيه منْ القوّة والجلادة. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.

5411 -

(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُبَشِّرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَزِينٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ شُرَحْبِيلَ، قَالَ: قَدِمْتُ مَعَ عُمُومَتِي الْمَدِينَةَ، فَدَخَلْتُ حَائِطًا مِنْ حِيطَانِهَا، فَفَرَكْتُ مِنْ سُنْبُلِهِ، فَجَاءَ صَاحِبُ الْحَائِطِ، فَأَخَذَ كِسَائِي، وَضَرَبَنِي، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْتَعْدِي عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى الرَّجُلِ، فَجَاءُوا بِهِ، فَقَالَ:"مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ "، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ دَخَلَ حَائِطِي، فَأَخَذَ مِنْ سُنْبُلِهِ فَفَرَكَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"مَا عَلَّمْتَهُ إِذْ كَانَ جَاهِلاً، وَلَا أَطْعَمْتَهُ إِذْ كَانَ جَائِعًا، ارْدُدْ عَلَيْهِ كِسَاءَهُ"، وَأَمَرَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِوَسْقٍ،

ص: 320

أَوْ نِصْفِ وَسْقٍ).

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ جَعْفَرٍ) أبو عليّ النيسابوريّ، ثقة فقيه [10] 25/ 1664 منْ أفراد البخاريّ، والمصنّف.

2 -

(مُبَشِّرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَزِينٍ) -بفتح الراء، وكسر الزاي-: هو السلميّ، أبو بكر النيسابوريّ، ثقة، منْ كبار [9] 13/ 4168 منْ أفراد المصنّف.

3 -

(سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ) أبو محمّد، أو أبو الحسن الواسطيّ، ثقة فِي غير الزهريّ باتفاقهم [7] 41/ 1716.

4 -

(أَبِى بِشْرٍ، جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ) بن أبي وحشيّة الواسطيّ، ثقة [5] 13/ 520.

5 -

(عَبَّادِ بْنِ شُرَحْبِيلَ) ويقال: شَرَاحيل اليشكريّ الْغُبَريّ -منْ بني غُبَر- بضم المعجمة، وفتح الموحّدة الخفيفة- ابن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر بن بكر بن وائل ابن ربيعة، صحابيّ، نزل البصرة. رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديث الباب فقط، قَالَ البغويّ وأبو الفتح الأزديّ: ما رُوِي عنه غيره. وَقَالَ ابن السكن: فِي صحبته نظر. رَوَى له المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه حديث الباب فقط. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير الصحابيّ، فمن رجال أصحاب السنن. (ومنها): أن صحابيه منْ المقلين منْ الرواية، فليس له إلا هَذَا الْحَدِيث عند المصنّف، وأبي داود، وابن ماجه. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عبَّادِ بْنِ شُرَحْبِيلَ) بضم المعجمة، وفتح الراء، ويقال: شَراحيل اليشكري الغبريّ رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَدِمْتُ) بكسر الدال المهملة، منْ باب تَعِبَ (مَعَ عُمُومَتِي) بضم العين يكون مصدرًا، ويكون جمع عَمّ، كما فِي "القاموس"، والمعنى الثاني هو المراد هنا (الْمَدِينَةَ) منصوب عَلَى المفعوليّة. وفي رواية أبي داود: "أصابني سنة، فدخلت حائطا منْ حيطان المدينة، ففركت سُنبلاً

" الْحَدِيث (فَدَخَلْتُ حَائِطًا مِنْ حِيطَانِهَا) أي بستانا منْ بساتين المدينة (فَفَرَكْتُ) بفتح الراء منْ باب نصر: قَالَ فِي "القاموس": فرك الثوب، والسنبلَ: دلكه، فانفرك. وَقَالَ فِي "المصباح": فركت عن الثوب فركًا، منْ باب قتل، مثلُ حتَتُّهُ، وهو أن تحكّه بيدك حَتَّى يتفتّت، ويتقشّر. انتهى

ص: 321

(مِنْ سُنْبُلِهِ) بضم المهملة، والموحّدة، بينهما نون ساكنة، قَالَ فِي "اللسان": السنبل: معروفٌ، وجمعه السنابل، قَالَ ابن سِيده: السنبل منْ الزرع واحدته سنبلة. انتهى. وفي رواية أبي داود: "ففركت سنبلاً، فأكلت، وحملت فِي ثوبي"(فَجَاءَ صَاحِبُ الْحَائِطِ) أي مالكه (فَأَخَذَ كِسَائِي، وَضَرَبَنِى) وفي رواية أبي داود: "فضربني، وأخذ ثوبي"(فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَسْتَعْدِي عَلَيْهِ) أي أطلب منه أن ينتقم لي منه (فَأَرْسَلَ) صلى الله عليه وسلم (إِلَى الرَّجُلِ، فَجَاءُوا بِهِ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟) أي عَلَى ما صنعت منْ أخذ كساء الرجل، وضربه (فَقَالَ) الرجل (يَا رَسُولَ اللهِ، إِنهُ دَخَلَ حَائِطِي) أي بستاني (فَأَخَذَ مِنْ سُنْبُلِهِ فَفَرَكَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا عَلَّمْتَهُ إِذْ كَانَ جَاهِلاً) أي فكان اللائق بك أن تعلّمه أوّلاً حرمة مال الغير إلا بإذنه، حَتَّى يكون عَلَى علم منْ ذلك، فإذا أقدم وهو عالم، استحقّ العقوبة (وَلَا أَطْعَمْتَهُ إِذْ كَانَ جَائِعًا) وفي رواية لأبي داود:"إذ كَانَ ساغبًا، وهو بمعناه. قَالَ الخطّابيّ رحمه الله تعالى: وفيه أنه صلى الله عليه وسلم عذره بالجهل حين حمل الطعام، ولام صاحب الحائط إذ لم يُطعمه إذ كَانَ جائعًا. انتهى (ارْدُدْ عَلَيْهِ كِسَاءَهُ) وفي رواية أبي داود: "فأمره، فردّ عليّ ثوبي" (وَأَمَرَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِوَسْقٍ) بفتح الواو، وتكسر، قَالَ فِي "المصباح": قَالَ الأزهريّ: الوسق: ستّون صاعًا بصاع النبيّ صلى الله عليه وسلم، والصاع خمسة أرطال ثلث، والوسق عَلَى هَذَا الحساب مائة وستّون مَنًا، والوسق ثلاثة أقفزة، وحكى بعضهم الكسر لغة، وجمعه أوساق، مثلُ حِمْل وأحمال. انتهى (أَوْ نِصْفِ وَسْقٍ) شك منْ الراوي، وفي رواية أبي داود: "وأعطاني وسقًا، أو نصف وسق منْ طعام". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عباد بن شُرَحبيل رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -21/ 5411 - وأخرجه (د) فِي "الجهاد" 2630 (ق) فِي "التجارات" 2298 (أحمد) فِي "مسند الشاميين"17067. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان مشروعيّة الاستعداء، وهو طلب النصرة. (ومنها): العذر بالجهل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سكت عما فعله الرجل منْ فرك السنبل، بل عنّف صاحب البستان عَلَى تقصيره فِي حقّه. (ومنها): أنه يفيد جواز أكل

ص: 322

مال غيره الفاضل عن حاجته لمن كَانَ جائعًا مضطرّا؛ لأنه يجب عَلَى المسلم أن يُطعمه إذا رآه جائعًا، فإذا لم يكن صاحب الطعام حاضرًا، وتضرر إن لم يأكل منه، جاز أن يأكل منْ غير استئذان؛ لأن له حقًّا فِي إنقاذ مهجته بذلك الطعام. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم الاستعداء:

قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: وإذا استعدى رجل عَلَى رجل إلى الحاكم، ففيه روايتان:[إحداهما]: أنه يلزمه أن يُعديه، ويستدعي خصمه، سواء علم بينهما معاملة، أو لم يعلم، وسواء كَانَ المستعدي ممن يعامل المستعدى عليه، أو لا يعامله، كالفقير يدعي عَلَى ذي ثروة وهيئة، نص عَلَى هَذَا فِي رواية الأثرم، فِي الرجل يستعدي عَلَى الحاكم أنه يحضره ويستحلفه، وهذا اختيار أبي بكر، ومذهب أبي حنيفة، والشافعي؛ لأن فِي تركه تضييعا للحقوق، وإقرارا للظلم، فإنه قد يثبت له الحق عَلَى منْ هو أرفع منه بغصب، أو يشتري منه شيئا، ولا يوفيه، أو يودعه شيئا، أو يعيره إياه، فلا يرده، ولا تُعلم بينهما معاملة، فإذا لم يُعدَ عليه سقط حقه، وهذا أعظم ضررا منْ حضور مجلس الحاكم، فإنه لا نقيصة فيه، وَقَدْ حضر عمر، وأُبَيّ عند زيد، وحضر هو وآخر عند شُريح، وحضر عليّ عند شريح، وحضر المنصور عند رجل منْ ولد طلحة بن عبيد الله.

[والرواية الثانية]: لا يستدعيه إلا أن يعلم بينهما معاملة، ويتبين أن لِمَا ادعاه أصلاً، رُوي ذلك عن عليّ رضي الله عنه، وهو مذهب مالك؛ لأن فِي إعدائه عَلَى كل أحد تبذيل أهل المروءات، وإهانة لذوي الهيئات، فإنه لا يشاء أحد أن يبذلهم عند الحاكم إلا فعل، وربما فعل هَذَا منْ لا حق له؛ ليفتدي المدعَي عليه منْ حضوره، وشَرِّ خصمه بطائفة منْ ماله، والأُولى أولى؛ لأن ضرر تضييع الحق أعظم منْ هَذَا، وللمستعدَى عليه أن يوكل منْ يقوم مقامه، إن كره الحضور، وإن كَانَ المستدعى عليه امرأة نَظَرت فإن كانت بَرْزَة، وهي التي تبرز لقضاء حوائجها، فحكمها حكم الرجل، وإن كانت مُخَدَّرة، وهي التي لا تبرز لقضاء حوائجها، أُمرت بالتوكيل، فإن توجهت اليمين عليها، بَعَثَ الحاكم أمينا معه شاهدان، فيستحلفها بحضرتهما، فإن أقرت شهدا عليها، وذكر القاضي أن الحاكم يبعث منْ يقضي بينها وبين خصمها فِي دارها، وهو مذهب الشافعيّ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"واغْدُ يا أنيس إلى امرأة هَذَا، فإن اعترفت فارجمها"، فبعث إليها، ولم يستدعها، وإذا حضروا عندها كَانَ بينها وبينهم ستر، تتكلم منْ ورائه، فإن اعترفت للمدعي أنها خصمه، حكم بينهما، وان أنكرت ذلك جيء بشاهدين منْ

ص: 323

ذوي رحمها، يشهدان أنها المدَّعَى عليها، ثم يحكم بينهما، فإن لم تكن له بينة التحفت بجلبابها، وأُخرجت منْ وراء الستر لموضع الحاجة، وما ذكرناه أولى إن شاء الله؛ لأنه أستر لها، وإذا كانت خَفِرَة منعها الحياء منْ النطق بحجتها، والتعبير عن نفسها، سيما مع جهلها بالحجة، وقلة معرفتها بالشرع وحججه. انتهى "المغني" 14/ 39 - 40.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: القول الأول، وهو مشروعيّة الاستعداء هو الصواب؛ لحديث الباب؛ فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا استعداه عبّاد بن شَراحيل رضي الله عنه عَلَى صاحب الحائط أجابه، فأرسل إليه، فجاء، فأخذ له حقّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: إن استعدى عَلَى الحاكم المعزول لم يُعدِه، حَتَّى يعرف ما يدعيه، فيسأله عنه، صيانة للقاضي عن الامتهان، فإن ذَكَر أنه يدعي عليه حقا منْ دين، أو غصب أعداه، وحكم بينهما، كغير القاضي، وكذلك إن ادعى أنه أخذ منه رشوة عَلَى الحكم؛ لأن أخذ الرشوة عليه لا يجوز، فهي كالغصب، وإن ادعى عليه الجور فِي الحكم، وكان للمدعي بينة أحضره، وحكم بالبينة، وإن لم يكن معه بينة ففيه وجهان:[أحدهما]: لا يُحضِره؛ لأن فِي إحضاره وسؤاله امتهانا له، وأَعداءُ القاضي كثير، وإذا فعل هَذَا معه لم يؤمن ألا يدخل فِي القضاء أحد؛ خوفا منْ عاقبته. [والثاني]: يُحضره لجواز أن يعترف، فإن حضر واعترف حكم عليه، وإن أنكر فالقول قوله، منْ غير يمين؛ لأن قول القاضي مقبول بعد العزل كما يقبل فِي ولايته، وإن ادعى عليه أنه قتل ابنه ظلما، فهل يستحضره منْ غير بينة فيه وجهان: فإن أحضره فاعترف حكم عليه، وإلا فالقول قوله. وإن ادعى أنه أخرج عينا منْ يده بغير حق، فالقول قول الحاكم منْ غير يمين، ويقبل قوله للمحكوم له بها. قاله فِي "المغني" 14/ 42. وهو بحث نفيس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 324

‌22 - (صَوْنُ النِّسَاءِ عَنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ)

5412 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَقَالَ الآخَرُ، وَهُوَ أَفْقَهُهُمَا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَائْذَنْ لِي فِي أَنْ أَتَكَلَّمَ، قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ بِمِائَةِ شَاةٍ، وَبِجَارِيَةٍ لِي، ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ، فَأَخْبَرُونِى أَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَإِنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ إِلَيْكَ"، وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً، وَغَرَّبَهُ عَامًا، وَأَمَرَ أُنَيْسًا، أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَةَ الآخَرِ، "فَإِنِ اعْتَرَفَتْ، فَارْجُمْهَا"، فَاعْتَرَفَتْ، فَرَجَمَهَا).

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمّد بن سلمة) المراديّ الْجَمَليّ، أبو الحارث المصريّ، ثقة ثبتٌ [11] 19/ 20.

2 -

(عبد الرحمن بن القاسم) الْعُتَقيّ المصريّ الثقة الفقيه، صاحب مالك، منْ كبار [10] 19/ 20.

3 -

(مالك) بن أنس، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7] 7/ 7.

4 -

(ابن شهاب) محمّد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن الحارث بن زهرة ابن كلاب القرشيّ، أبو بكر الفقيه الحافظ المتّفق عَلَى جلالته، وإتقانه، منْ رءوس [4] 1/ 1.

5 -

(عبيد الله بن عبد الله بن عتبة) بن مسعود الْهُذليّ، أبو عبد الله المدنيّ الثقة الفقيه الثبت [3] 45/ 56.

6 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1.

7 -

(زيد بن خالد الجهنيّ) المدنيّ الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه بالكوفة سنة (68) أو (70) وله (85) سنة، تقدّم فِي 8/ 756. والله تعالى أعلم.

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 325

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات المدنيين منْ مالك، فمن فوقه، ومحمد ابن سلمة، وعبد الرحمن بن القاسم مصريان (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أحد الفقهاء السبعة، عبيد الله، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أكثر منْ رَوَى الْحَدِيث فِي دهره، رَوَى (5374) منْ الأحاديث. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنيِّ) وفي رواية البخاريّ: "أنه سمع أبا هريرة، وزيد بن خالد"، زاد فِي رواية ابن عيينة الآتية بعد هَذَا:"وشِبْل"، قَالَ فِي "الفتح": فِي رواية الحميدي عن زيد بن خالد الجهني، وأبي هريرة، وشبل، وكذا قَالَ أحمد، وقتيبة عند النسائيّ، وهشام بن عمار، وأبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن الصباح، عند ابن ماجه، وعمرو بن عليّ، وعبد الجبار بن العلاء، والوليد بن شجاع، وأبو خيثمة، ويعقوب الدَّوْرَقي، وإبراهيم بن سعيد الجوهري، عند الإسماعيلي، وآخرون عن سفيان، وأخرجه الترمذيّ عن نصر بن عليّ، وغير واحد عن سفيان، ولفظه:"سمعت منْ أبي هريرة، وزيد بن خالد، وشبل، لأنهم كانوا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم"، قَالَ الترمذيّ: هَذَا وَهَمٌ منْ سفيان، وإنما رُوي عن الزهريّ بهذا السند، حديث: "إذا زنت الأمة

"، فذكر فيه شبلا، ورُوي حديث الباب بهذا السند، ليس فيه شبل، فوهم سفيان فِي تسويته بين الحديثين. قَالَ الحافظ: وسقط ذكر "شبل" منْ رواية "الصحيحين" منْ طريقه لهذا الْحَدِيث، وكذا أخرجاه منْ طُرُق عن الزهريّ منها: عن مالك، والليث، وصالح بن كيسان، وللبخاري منْ رواية ابن أبي ذئب، وشعيب بن أبي حمزة، ولمسلم منْ رواية يونس بن يزيد، ومعمر، كلهم عن الزهريّ، ليس فيه شبل، قَالَ الترمذيّ: وشبل لا صحبة له، والصحيح ما رَوَى الزبيدي، ويونس، وابن أخي الزهريّ، فقالوا: "عن الزهريّ، عن عبيد الله، عن شبل بن خالد، عن عبد الله بن مالك الأوسي، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي الأمة إذا زنت". قَالَ الحافظ: ورواية الزُّبيدي عند النسائيّ، وكذا أخرجه منْ رواية يونس، عن الزهريّ، وليس هو فِي الكتب الستة منْ هَذَا الوجه، إلا عند النسائيّ، وليس فيه كنت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قَالَ المصنّف فِي "الكبرى" 3/ 477 - 478: بعد أن ساقه منْ رواية ابن عيينة: ما نصّه: قَالَ أبو عبد الرحمن: لا نعلم أحدًا تابع سفيان عَلَى قوله: "وشبل"، رواه مالك، عن الزهريّ، عن عبيد الله، عن أبي هريرة، وزيد بن

ص: 326

خالد، وروه بُكير بن الأشجّ، عن عمرو بن شعيب، عن الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة فقط، وحديث مالك، وعمرو بن شُعيب أولى بالصواب منْ قول ابن عيينة:"وشبل". انتهى.

(أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية ابن عيينة التالية: "كنا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقام إليه رجلٌ، فَقَالَ: أنشدك بالله إلا ما قضيت بيننا بكتاب الله"، وفي رواية شعيب:"بينما نحن عند النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية بن أبي ذئب:"وهو جالس فِي المسجد"، وفي رواية:"أن رجلا منْ الأعراب جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو جالس"، وفي رواية:"إذ قام رجل منْ الأعراب".

وقوله: "أنشدك الله" -بفتح أوله، ونون ساكنة، وضم الشين المعجمة-: أي أسألك بالله، وضمن "أنشدك" معنى أُذَكِّرك، فحذف الباء: أي أذكرك، رافعا نشيدتي: أي صوتي، هَذَا أصله، ثم استعمل فِي كل مطلوب مؤكد، ولو لم يكن هناك رفع صوت، وبهذا التقرير يندفع إيراد منْ استشكل رفع الرجل صوته، عند النبيّ صلى الله عليه وسلم مع النهي عنه، ثم أجاب عنه بأنه لم يبلغه النهي؛ لكونه أعرابيا، أو النهي لمن يرفع حيث يتكلم النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ظاهر الآية. وذكر أبو عليّ الفارسي أن بعضهم رواه بضم الهمزة، وكسر المعجمة، وغلطه.

(فَقَالَ أَحَدُهُمَا: اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَاب اللهِ) وفي رواية سفيان التالية: "إلا ما قضيت بيننا بكتاب الله"، وفي رواية بحذف "ما"، وفي رواية الليث:"إلا قضيت لي بكتاب الله"، قيل: فيه استعمال الفعل بعد الاستثناء بتأويل المصدر، وإن لم يكن فيه حرف مصدري؛ لضرورة افتقار المعنى إليه، وهو منْ المواضع التي يقع فيها الفعل موقع الاسم، ويراد به النفي المحصور فيه المفعول، والمعنى هنا: لا أسألك إلا القضاء بكتاب الله. ويحتمل أن تكون "إلا" جواب القسم؛ لما فيها منْ معنى الحصر، وتقديره: أسألك بالله، لا تفعل شيئا إلا القضاء، فالتأكيد إنما وقع لعدم التشاغل بغيره، لا لأن لقوله:"بكتاب الله" مفهوما، وبهذا يندفع إيراد منْ استشكل، فَقَالَ: لم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم يحكم إلا بكتاب الله، فما فائدة السؤال والتأكيد فِي ذلك، ثم أجاب بأن ذلك منْ جُفاة الأعراب.

والمراد بكتاب الله ما حكم به، وكتب عَلَى عباده. وقيل: المراد القرآن، وهو المتبادر، وَقَالَ ابن دقيق العيد: الأول أولى؛ لأن الرجم والتغريب ليسا مذكورين فِي القرآن، إلا بواسطة أمر الله باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم. قيل: وفيما قَالَ نظر؛ لاحتمال أن يكون المراد ما تضمنه قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النِّساء: 15] فبين النبيّ صلى الله عليه وسلم أن

ص: 327

السبيل جلد البكر ونفيه، ورجم الثيب.

وفيه أن هَذَا أيضًا بواسطة التبيين. ويحتمل أن يراد بكتاب الله الآية التي نسخت تلاوتها، وهي:"الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما"، وبهذا أجاب البيضاوي، ويبقي عليه التغريب. وقيل: المراد بكتاب الله ما فيه منْ النهي عن أكل المال بالباطل؛ لأن خصمه كَانَ أخذ منه الغنم، والوليدة بغير حق، فلذلك قَالَ: الغنم والوليدة رد عليك.

والذي يترجح أن المراد بكتاب الله، ما يتعلق بجميع أفراد القصة، مما وقع به الجواب الآتي ذكره، والعلم عند الله تعالى. قاله فِي "الفتح" 14/ 101 - 102 "كتاب الحدود" رقم 6827.

(وَقَالَ الآخَرُ، وَهُوَ أَفْقَهُهُمَا) وفي رواية سفيان التالية: "فقام خصمه، وكان أفقه منه"، قَالَ الحافظ العراقيّ فِي "شرح الترمذيّ": يحتمل أن يكون الراوي كَانَ عارفا بهما، قبل أن يتحاكما، فوصف الثاني بأنه أفقه منْ الأول، إما مطلقا، وإما فِي هذه القصة الخاصة، أو استدل بحسن أدبه فِي استئذانه، وترك رفع صوته، إن كَانَ الأول رفعه، وتأكيده السؤال عَلَى فقهه، وَقَدْ ورد:"أن حسن السؤال نصف العلم"، وأورده ابن السني فِي كتاب "رياضة المتعلمين" حديثا مرفوعا، بسند ضعيف.

(أَجَلْ) كنعم وزنًا ومعنى (يَا رَسُولَ اللهِ) وفي رواية سفيان: "فَقَالَ: اقض بيننا بكتاب الله"، وفي رواية الليث:"فَقَالَ: نعم، فاقض"، وفي رواية ابن أبي ذئب، وشعيب:"فَقَالَ: صدق اقض له يا رسول الله بكتاب الله".

(وَأْذَنْ لِي فِي أَنْ أَتَكَلَّمَ) وفي رواية: "حَتَّى أقول"، زاد فِي رواية سفيان:"قَالَ: قل"، وفي رواية محمّد بن يوسف:"فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: قل"، وفي رواية مالك:"قَالَ: تكلّم"(قَالَ) ظاهر السياق أن القائل هو الثاني، وجزم الكرماني بأن القائل هو الأول، واستند فِي ذلك لما وقع عند البخاريّ فِي "كتاب الصلح" عن آدم، عن ابن أبي ذئب:"فَقَالَ الأعرابيّ: إن ابني" بعد قوله فِي أول الْحَدِيث: "جاء أعرابي"، وفيه:"فَقَالَ خصمه"، قَالَ الحافظ: وهذه الزيادة شاذة، والمحفوظ ما فِي سائر الطرق، كما فِي رواية سفيان فِي هَذَا الباب، وكذا وقع فِي "الشروط" عن عاصم بن عليّ، عن ابن أبي ذئب، موافقا للجماعة، ولفظه:"فَقَالَ: صدق اقض له يا رسول الله بكتاب الله، إن ابني الخ، فالاختلاف فيه عَلَى ابن أبي ذئب، وَقَدْ وافق آدم أبو بكر الحنفي، عند أبي نعيم فِي "المستخرج"، ووافق عاصما يزيد بن هارون عند الإسماعيلي. انتهى.

(إِنَّ ابْنِى) وفي رواية عند البخاريّ: "إن ابني هَذَا"، قَالَ فِي "الفتح": وفيه أن الابن كَانَ حاضرا، فأشار إليه، وخلا معظم الروايات عن هذه الإشارة. انتهى (كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا)

ص: 328

هذه الإشارة لخصم المتكلم، وهو زوج المرأة، زاد شعيب فِي روايته:"والعسيف الأجير"، وهذا التفسير مدرج فِي الخبر، وكأنه منْ قول الزهريّ؛ لما عُرف منْ عادته أنه كَانَ يُدخل كثيرا منْ التفسير فِي أثناء الْحَدِيث، كما بيّنه الحافظ فِي مقدمة كتابه فِي المدرج، وَقَدْ فصله مالك، فوقع فِي سياقه:"كَانَ عسيفا عَلَى هَذَا"، قَالَ مالك: والعسيف الأجير، وحذفها سائر الرواة.

و"العسيف" -بمهملتين-: كالأجير وزنًا ومعنًى، والجمع عُسَفاء، كأُجَراء، ويطلق أيضًا عَلَى الخادم، وعلى العبد، وعلى السائل، وقيل: يطلق عَلَى منْ يُستهان به، وفسره عبد الملك بن حبيب بالغلام الذي لم يحتلم، وإن ثبت ذلك فإطلاقه عَلَى صاحب هذه القصة، باعتبار حاله فِي ابتداء الاستئجار. ووقع فِي رواية للنسائي فِي "الكبرى"(7193) تعيين كونه أجيرا، ولفظه منْ طريق عمرو بن شعيب، عن ابن شهاب:"كَانَ ابني أجيرا لامرأته"، وسُمي الأجير عسيفا؛ لأن المستأجر يعسفه فِي العمل، والعسف الجور، أو هو بمعنى الفاعل؛ لكونه يعسف الأرض بالتردد فيها، يقال: عسف الليل عسفا: إذا أكثر السير فيه، ويطلق العسف أيضًا عَلَى الكفاية، والأجير يكفي المستأجر الأمر الذي أقامه فيه.

وقوله: "عَلَى هَذَا": ضَمَّنَ عَلَى معنى "عند" بدليل رواية عمرو بن شعيب، وفي رواية محمّد بن يوسف:"عسيفا فِي أهل هَذَا"، وكأن الرجل استخدمه فيما تحتاج إليه امرأته منْ الأمور، فكان ذلك سببًا لما وقع له معها.

(فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فأَخْبرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ) وفي رواية سفيان: "فزنى بامرأته، فافتديت"، قَالَ فِي "الفتح": وَقَدْ ذكر عليّ بن المديني، رواية فِي آخره هنا:"أن سفيان كَانَ يشك فِي هذه الزيادة"، فربما تركها، وغالب الرواة عنه كأحمد، ومحمد ابن يوسف، وابن أبي شيبة، لم يذكروها، وثبتت عند مالك، والليث، وابن أبي ذئب، وشعيب، وعمرو بن شعيب، ووقع فِي رواية آدم:"فقالوا لي: عَلَى ابنك الرجم"، وفي رواية الحميدي:"فأُخبرتُ" بضم الهمزة عَلَى البناء للمجهول، وفي رواية أبي بكر الحنفي:"فَقَالَ لي" بالأفراد، وكذا عند أبي عوانة، منْ رواية ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، فإن ثبتت، فالضمير فِي قوله:"فافتديت منه" لخصمه، وكأنهم ظنوا أن ذلك حق له، يَستحق أن يعفو عنه عَلَى مال يأخذه، وهذا ظن باطل، ووقع فِي رواية عمرو بن شعيب:"فسألت منْ لا يعلم، فأخبروني أن عَلَى ابني الرجم، فافتديت منه".

(بِمِائَةِ شَاةٍ، وَبِجَارِيةٍ لِي) وفي رواية سفيان: "بمائة شاة، وخادم"، والمراد بالخادم: الجارية المعدة للخدمة، كما بيّنته الرواية الأولى، وفي رواية ابن أبي ذئب، وشعيب:

ص: 329

"بمائة منْ الغنم، ووليدة"، والوليدة فِي الأصل الطفلة، والجمع الولائد، وتطلق عَلَى الجارية، والأمة، وإن كانت كبيرة.

(ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ) وفي رواية سفيان: "فسألت رجالاً منْ أهل العلم"، وفي رواية معمر:"ثم أخبرني أهل العلم"، وفي رواية عمرو بن شعيب:"ثم سألت منْ يعلم". قَالَ الحافظ: لم أقف عَلَى أسمائهم، ولا عَلَى عددهم، ولا عَلَى اسم الخصمين، ولا الابن، ولا المرأة. (فَأَخْبَرُونِي) وفي رواية ابن أبي ذئب:"فزعموا"(أَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ) قَالَ فِي "الفتح": بالإضافة للأكثر، وقرأه بعضهم بتنوين "جلدٌ" مرفوعًا، وتنوين "مائةً" منصوبًا عَلَى التمييز، ولم يثبت رواية. انتهى. (وَتَغْرِيبُ عَامٍ) أي إبعاده عن وطنه (وَإِنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ) وفي رواية سفيان:"وعلى امرأة هَذَا الرجم"، وفي رواية عمرو بن شعيب:"فأخبروني أن ليس عَلَى ابني الرجم"(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) وفي رواية مالك: "أما والذي"(لَأَقْضِيَنَّ) بتشديد النون للتأكيد (بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ) وفي رواية عمرو بن شعيب: "بالحق"، وهي تُرَجِّح أول الاحتمالات الماضي ذكرها (أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ إِلَيْكَ) وفي نسخة:"عليك"، وفي رواية سفيان:"المائة شاة، والخادم ردّ": أي مردود، منْ إطلاق لفظ المصدر عَلَى اسم المفعول، كقولهم:"ثوب نسج": أي منسوج، ووقع فِي رواية صالح بن كيسان:"أما الوليدة والغنم فردها"، وفي رواية عمرو بن شعيب:"أما ما أعطيته، فرد عليك"، قَالَ فِي "الفتح": فإن كَانَ الضمير فِي "أعطيته" لخصمه تأيدت الرواية الماضية، وإن كَانَ للعطاء فلا.

(وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً، وَغَرَّبَهُ عَامًا) هَذَا ظاهر فِي أن الذي صدر حينئذ، كَانَ حكما، لا فتوى، بخلاف رواية سفيان ومن وافقه بلفظ:"وعلى ابنك جلد مائة، وتغريب عام".

قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: هو محمول عَلَى أنه صلى الله عليه وسلم عَلِم أن الابن كَانَ بكرا، وأنه اعترف بالزنا، ويحتمل أن يكون أضمر اعترافه، والتقدير:"وعلى ابنك إن اعترف"، والأول أليق، فإنه كَانَ فِي مقام الحكم، فلو كَانَ فِي مقام الإفتاء، لم يكن فيه إشكال؛ لأن التقدير: إن كَانَ زنى، وهو بكر، وقرينة اعترافه حضوره مع أبيه، وسكوته عما نسبه إليه، وأما العلم بكونه بكرا، فوقع صريحا منْ كلام أبيه، فِي رواية عمرو بن شعيب، ولفظه:"كَانَ ابني أجيرا لامرأة هَذَا، وابني لم يحصن".

(وَأَمَرَ أُنَيْسًا) -بنون، ومهملة، مصغرًا- (أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَةَ الآخَرِ) وهكذا فِي رواية يونس، وصالح بن كيسان، وفي رواية سفيان:"واغد يا أنيس عَلَى امرأة هَذَا"، زاد محمّد بن يوسف:"فاسألها"، قَالَ ابن السكن فِي "كتاب الصحابة": لا أدري منْ هو؟

ص: 330

ولا وجدت له رواية، ولا ذكرًا، إلا فِي هَذَا الْحَدِيث. وَقَالَ ابن عبد البرّ: هو ابن الضحاك الأسلمي، وقيل: ابن مرثد، وقيل: ابن أبي مرثد، وزيفوا الأخير بأن أنيس بن أبي مرثد صحابي مشهور، وهو غَنَوي بالغين المعجمة، والنون -لا أسلمي، وهو بفتحتين- لا التصغير، وغلط منْ زعم أيضًا أنه أنس بن مالك، وصُغّر كما صُغّر فِي رواية أخرى عند مسلم؛ لأنه أنصاريّ، لا أسلمي. ووقع فِي رواية شعيب، وابن أبي ذئب:"وأما أنت يا أنيس -لرجل منْ أسلم- فاغد"، وفي رواية معمر:"ثم قَالَ لرجل منْ أسلم، يقال له: أنيس: قم يا أنيس، فسل امرأة هَذَا"، وهذا يدلّ عَلَى أن المراد بالغدو الذهاب والتوجه، كما يُطلق الرواح عَلَى ذلك، وليس المراد حقيقة الغدو، وهو التأخير إلى أول النهار، كما لا يراد بالرواح التوجه نصف النهار، وَقَدْ حَكَى عياض أن بعضهم استدل به عَلَى جواز تأخير إقامة الحد، عند ضيق الوقت، واستضعفه بأنه ليس فِي الخبر أن ذلك كَانَ فِي آخر النهار.

(فَإِنِ اعْتَرَفَتْ، فَارْجُمْهَا) وفي رواية يونس: "وأمر أنيسا الأسلمي أن يرجم امرأة الآخر، إن اعترفت"(فَاعْتَرَفَتْ، فَرَجَمَهَا) وفي رواية سفيان: "فغدا عليها، فاعترفت، فرجمها"، وكذا للأكثر، ووقع فِي رواية الليث:"فاعترفت، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجمت"، واختصره ابن أبي ذئب، فَقَالَ:"فغدا عليها، فرجمها"، ونحوه فِي رواية صالح بن كيسان، وفي رواية عمرو بن شعيب:"وأما امرأة هَذَا، فترجم"، ورواية الليث أتمها؛ لأنها تُشعر بأن أنيسا أعاد جوابها عَلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأمر حينئذ برجمها، ويحتمل أن يكون المراد أَمرَهُ الأول المعلق عَلَى اعترافها، فيتحد مع رواية الأكثر، وهو أولى. قاله فِي "الفتح" 14/ 105. "كتاب الحدود" رقم 6827. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي هريرة، وزيد بن خالد الْجُهنيّ رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -22/ 5412 و5413 - وفي "الكبرى" 28/ 5968 و5971 و5972 و"الرجم" 7190 و7191، 7192، 7193. وأخرجه (خ) فِي "الوكالة" 2315 و"الصلح" 2696 و"الشروط" 2725 و"الأيمان والنذور" 6633 و"الحدود" 6828 و 6836 و6843 و6860 و"الأحكام" 7195 (م) فِي "الحدود" 1698 (د) فِي "الحدود" 4445 (ت) فِي "الحدود" 1432 (ق) فِي "الحدود" 2549 (أحمد) فِي "مسند الشاميين"

ص: 331

16590 (الموطأ) فِي "الحدود"1556. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان صون النِّساء عن مجلس الحكم، حيث إنه صلى الله عليه وسلم أمر أنيسًا رضي الله عنه أن يغدو إلى المرأة، ويسألها، فإن اعترفت رجمها، ولم يُلزمها حضور مجلس الحكم. قَالَ فِي "الفتح" 14/ 106: فيه أن الْمُخَدَّرَة التي لا تعتاد البروز، لا تكلف الحضور لمجلس الحكم، بل يجوز أن يرسل إليها منْ يحكم لها وعليها. انتهى.

(ومنها): الرجوع إلى كتاب لله نصا، أو استنباطا. (ومنها): جواز القسم عَلَى الأمر؛ لتأكيده، والحلف بغير استحلاف. (ومنها): حسن خلق النبيّ صلى الله عليه وسلم، وحلمه عَلَى منْ يخاطبه بما الأَوْلَى خلافه، وأن منْ تأسى به منْ الحكام فِي ذلك يحمد، كمن لا ينزعج لقول الخصم مثلا: احكم بيننا بالحق، وَقَالَ البيضاوي: إنما تواردا عَلَى سؤال الحكم بكتاب الله، مع أنهما يعلمان أنه صلى الله عليه وسلم لا يحكم إلا بحكم الله؛ ليحكم بينهما بالحق الصرف، لا بالمصالحة، ولا الأخذ بالأرفق؛ لأن للحاكم أن يفعل ذلك برضا الخصمين. (ومنها): أن حسن الأدب فِي مخاطبة الكبير، يقتضي التقديم فِي الخصومة، ولو كَانَ المذكور مسبوقا. (ومنها): أن للإمام أن يأذن لمن شاء منْ الخصمين فِي الدعوى، إذا جاءا معا، وأمكن أن كلا منهما يَدّعِي. (ومنها): استحباب استئذان المدعي، والمستفتي الحاكم، والعالم فِي الكلام، ويتأكد ذلك إذا ظن أن له عذرا. (ومنها): أن منْ أقر بالحد، وجب عَلَى الإِمام إقامته عليه، ولو لم يعترف مشاركه فِي ذلك. (ومنها): أن منْ قذف غيره لا يقام عليه الحد، إلا إن طلبه المقذوف، خلافا لابن أبي ليلى، فإنه قَالَ: يجب ولو لم يطلب المقذوف. وتعقّبه الحافظ: بأن محل الخلاف، إذا كَانَ المقذوف حاضرا، وأما إذا كَانَ غائبا كهذا، فالظاهر أن التأخير لاستكشاف الحال، فإن ثبت فِي حق المقذوف، فلا حد عَلَى القاذف، كما فِي هذه القصة، وَقَدْ قَالَ النوويّ تبعا لغيره: إن سبب بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم أنيسا للمرأة؛ ليُعلمها بالقذف المذكور؛ لتطالب بحد قاذفها، إن أنكرت، قَالَ: هكذا أوله العلماء منْ أصحابنا وغيرهم، ولابد منه؛ لأن ظاهره أنه بعث يطلب إقامة حد الزنا، وهو غير مراد؛ لأن حد الزنا لا يحتاط له بالتجسس، والتنقيب عنه، بل يستحب تلقين المقِرّ به ليرجع، كما تقدّم فِي قصة ماعز، وكأن لقوله:"فإن اعترفت"، مقابلا: أي وإن أنكرت، فأعلمها أن لها طلب حد القذف، فحُذف لوجود الاحتمال، فلو أنكرت، وطلبت لأُجيبت. وَقَدْ أخرج أبو داود، والنسائي منْ طريق سعيد بن المسيب، عن ابن

ص: 332

عبّاس: "أن رجلا أقر بأنه زنى بامرأة، فجلده النبيّ صلى الله عليه وسلم مائة، ثم سأل المرأة، فقالت: كذب، فجلده حد الفرية ثمانين"، وَقَدْ سكت عليه أبو داود، وصححه الحاكم، واستنكره النسائيّ.

(ومنها): أن السائل يذكر كل ما وقع فِي القصة؛ لاحتمال أن يَفهَم المفتي، أو الحاكم منْ ذلك، ما يَستدل به عَلَى خصوص الحكم فِي المسألة؛ لقول السائل:"إن ابني كَانَ عسيفا عَلَى هَذَا"، وهو إنما جاء يسأل عن حكم الزنا، والسر فِي ذلك أنه أراد أن يقيم لابنه معذرةً مّا، وأنه لم يكن مشهورا بالعَهْر، ولم يَهجُم عَلَى المرأة مثلاً، ولا استكرهها، وإنما وقع له ذلك لطول الملازمة المقتضية لمزيد التأنيس، والإدلال، فيستفاد منه الحثّ عَلَى إبعاد الأجنبي منْ الأجنبية، مهما أمكن؛ لأن العشرة قد تفضي إلى الفساد، ويتسور بها الشيطان إلى الإفساد.

(ومنها): جواز استفتاء المفضول مع وجود الفاضل، والرَّدّ عَلَى منْ منع التابعي أن يفتي مع وجود الصحابيّ مثلا. (ومنها): جواز الاكتفاء فِي الحكم بالأمر الناشيء عن الظن، مع القدرة عَلَى اليقين، لكن إذا اختلفوا عَلَى المستفتي يرجع إلى ما يفيد القطع، وإن كَانَ فِي ذلك العصر الشريف منْ يفتي بالظن الذي لم ينشأ عن أصل، ويحتمل أن يكون وقع ذلك منْ المنافقين، أو مَن قَرُب عهده بالجاهلية، فأقدم عَلَى ذلك. (ومنها): أن الصحابة كانوا يفتون فِي عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي بلده، وَقَدْ عقد محمّد بن سعد فِي "الطبقات" بابا لذلك، وأخرج بأسانيد فيها الواقدي، أن منهم: أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليا، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم.

[تنبيه]: منْ كَانَ مشهورًا بالفتوى منْ الصحابة رضي الله عنهم سبعة: عمر بن الخطّاب، وابنه عبد الله بن عمر، وعليّ، وابن عبّاس، وعائشة، وابن مسعود، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، قَالَ ابن حزم رحمه الله تعالى: يمكن أن يُجمع منْ فتيا كلّ منهم مجلّد ضخم، وإليهم أشار الحافظ السيوطيّ رحمه الله تعالى فِي "ألفية الْحَدِيث"، حيث قَالَ:

وَالْبَحْرُ أَوْفَاهُمْ فَتَاوَى وَعُمَرْ

وَنَجْلُهُ وَزَوْجَةُ الْهَادِي الأَبَرُّ

ثُمَّ ابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدٌ وَعَلِي

وَبَعْدَهُمْ عِشْرُونَ لَا تُقَلِّلِ

وبعد هؤلاء منْ كَانَ قليل الفتوى منهم، وهم عشرون: أبو بكر، وعثمان، وأبو موسى الأشعريّ، ومعاذ بن جبل، وسعد بن أبي وقّاص، وأبو هريرة، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمرو، وسلمان الفارسيّ، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدريّ، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وعمران بن حُصين، وأبو بكرة،

ص: 333

وعبادة بن الصامت، ومعاوية، وابن الزبير، وأم سلمة رضي الله عنهم. قَالَ ابن حزم رحمه الله تعالى: يمكن أن يُجمع منْ فتوى كلّ منهم جزء صغير.

وَقَدْ نظمت هؤلاء العشرين، فقلت:

صِدِّقُهُمْ عُثْمَانُ سَعْدٌ أَنَسٌ

سَلْمَانُ جَابِرٌ مُعَاذُ الأَكْيَسُ

وَالأَشْعَرِيُّ وَالزُّبَيْرُ طَلْحَةُ

أَبُو هُرَيْرَةَ يلِي عُبَادَةُ

وَنْجْلُ عَمْرٍ وَابْنُ عَوْفٍ وَكَذَا

نَجْلُ حُصَيْنِ وَنُفيعٌ حَبَّذَا

سَعْدٌ مُعَاوِيَةُ أُمُّ سَلَمَهْ

وَابْنُ الزُّبَيْرِ هُمْ حَلِيفُو الْمَكْرَمَهْ

فَهَؤُلاءِ مَرْجِعُ الأَنَامِ

فِي عَصْرِهِمْ لِمُعْضِلِ الأَحْكَامِ

(ومنها): أن الحكم المبني عَلَى الظن، يُنقض بما يُفيد القطع. (ومنها): أن الحد لا يَقبل الفداء، وهو مجمع عليه فِي الزنا، والسرقة، والحرابة، وشرب المسكر، واختُلف فِي القذف، والصحيح أنه كغيره، وإنما يجري الفداء فِي البدن، كالقصاص فِي النفس والأطراف. (ومنها): أن الصلح المبني عَلَى غير الشرع، يُرّد، ويعاد المال المأخوذ فيه.

قَالَ ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: وبذلك يتبين ضعف عذر منْ اعتذر منْ الفقهاء عن بعض العقود الفاسدة، بأن المتعاوضين تراضيا، وأَذِن كل منهما للآخر فِي التصرف، والحق أن الأذن فِي التصرف مقيد بالعقود الصحيحة. انتهى.

(ومنها): جواز الإستنابة فِي إقامة الحد. (ومنها): أنه استُدِلّ به عَلَى وجوب الإعذار، والاكتفاء فيه بواحد، وأجاب عياض، باحتمال أن يكون ذلك ثبت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم بشهادة هذين الرجلين، كذا قَالَ، والذي تُقبل شهادته منْ الثلاثة والد العسيف فقط، وأما العسيف، والزوج فلا، وغفل بعض منْ تبع القاضي، فَقَالَ: لابد منْ هَذَا الحمل، وإلا لزم الاكتفاء بشهادة واحد فِي الإقرار بالزنا، ولا قائل به، ويمكن الانفصال عن هَذَا، بأن أُنيسا بُعث حاكما، فاستوفى شروط الحكم، ثم استأذن فِي رجمها، فأذن له فِي رجمها، وكيف يُتصور منْ الصورة المذكورة إقامة الشهادة عليها، منْ غير تقدّم دعوى عليها، ولا عَلَى وكيلها، مع حضورها فِي البلد، غير متوارية، إلا أن يقال: إنها شهادة حِسْبة، ويجاب بأنه لم يقع هناك صيغة الشهادة المشروطة فِي ذلك. (ومنها): أنه استُدِلّ به عَلَى جواز الحكم بإقرار الجاني، منْ غير ضبط بشهادة عليه، ولكنها واقعة عين، فيحتمل أن يكون أنيس أشهد قبل رجمها، قَالَ عياض: احتج قوم بجواز حكم الحاكم فِي الحدود وغيرها، بما أقر به الخصم عنده، وهو أحد قولي الشافعيّ، وبه قَالَ

ص: 334

أبو ثور، وأبى ذلك الجمهور، والخلاف فِي غير الحدود أقوى، قَالَ: وقصة أنيس يطرقها احتمال معنى الإعذار كما مضى، وأن قوله:"فارجُمْها" أي بعد إعلامي، أو أنه فَوَّض الأمر إليه، فإذا اعترفت بحضرة منْ يثبت ذلك بقولهم تحكم، وَقَدْ دل قوله: "فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرُجمت، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، هو الذي حكم فيها بعدَ أن أعلمه أنيس باعترافها، كذا قَالَ، والذي يظهر أن أنيسا لَمّا اعترفت أعلم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبالغ فِي الاستثبات، مع كونه كَانَ عَلّق له رجمها عَلَى اعترافها.

(ومنها): أنه استدل به عَلَى أن حضور الإِمام الرجم ليس شرطا. وتُعُقّب باحتمال أن أنيسا كَانَ حاكما، وَقَدْ حضر، بل باشر الرجم؛ لظاهر قوله:"فرجمها". (ومنها): أن فيه تركَ الجمع بين الجلد والتغريب. (ومنها): أن فيه الاكتفاءَ بالاعتراف بالمرة الواحدة؛ لأنه لم يُنقل أن المرأة تكرر اعترافها، والاكتفاء بالرجم منْ غير جلد؛ لأنه لم يُنقل فِي قصتها أيضًا، وفيه نظر؛ لأن الفعل لا عموم له، فالترك أولى. (ومنها): أن فيه جوازَ استئجار الحر، وجواز إجازة الأب ولده الصغير لمن يستخدمه، إذا احتاج لذلك. (ومنها): أنه استُدلّ به عَلَى صحة دعوة الأب لمحجوره، ولو كَانَ بالغا؛ لكون الولد كَانَ حاضرا، ولم يتكلم إلا أبوه. وتُعُقّب باحتمال أن يكون وكيله، أو لأن التداعي لم يقع إلا بسبب المال الذي وقع به الفداء، فكأن والد العسيف ادّعى عَلَى زوج المرأة بما أخذه منه، إما لنفسه، وإما لامرأته بسبب ذلك حين أعلمه أهل العلم، بأن ذلك الصلح فاسد؛ ليستعيده منه، سواء كَانَ منْ ماله، أو منْ مال ولده، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم برد ذلك إليه، وأما ما وقع فِي القصة منْ الحد، فباعتراف العسيف، ثم المرأة. (ومنها): أن حال الزانيين إذا اختلفا، أقيم عَلَى كل واحد حده؛ لأن العسيف جُلِدَ، والمرأة رُجمت، فكذا لو كَانَ أحدهما حرا، والآخر رقيقا، وكذا لو زنى بالغ بصبية، أو عاقل بمجنونة حُدّ البالغ والعاقل دونهما، وكذا عكسه. (ومنها): أن منْ قذف ولده لا يحد له؛ لأن الرجل قَالَ: إن ابني زنى، ولم يثبت عليه حد القذف. أفاده فِي "الفتح" 14/ 105 - 107. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5413 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، وَشِبْلٍ، قَالُوا: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، إِلاَّ مَا قَضَيْتَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَامَ خَصْمُهُ، وَكَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ، فَقَالَ: صَدَقَ، اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ:"قُلْ"، قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَخَادِمٍ، وَكَأَنَّهُ أُخْبِرَ أَنَّ عَلَى ابْنِهِ الرَّجْمَ، فَافْتَدَى مِنْهُ، ثُمَّ سَأَلْتُ رِجَالاً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ، فَقَالَ لَهُ

ص: 335

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ عز وجل، أَمَّا الْمِائَةُ شَاةٍ وَالْخَادِمُ، فَرَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ، اغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ، فَارْجُمْهَا"، فَغَدَا عَلَيْهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَرَجَمَهَا).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "سفيان": هو ابن عيينة. وقوله: "وشبل": تقدّم أن هَذَا وهَمٌ منْ سفيان، وليس لشبل ذكر فِي هَذَا الْحَدِيث، وإنما هو فِي حديث آخر فِي الأمة إذا زنت، وشبل هو ابن الضحّاك الأسلميّ، وقيل: ابن مرثد، قَالَ النوويّ: والأول هو الصحيح المشهور.

وقوله: "قَالَ: قل": أي قَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم للرجل لَمّا استأذنه أن يتكلّم: "قل": أي تكلّم بما تريد أن تسأل عنه.

وقوله: "أن عَلَى ابني جلدَ مائة، وتغريبَ عام": بنصب "جلدَ"، و"تغريب" عَلَى أنهما اسما "أن" مؤخّرين. وقوله:"وعلى ابنك جلدُ مائة، وتغريب عام" بالرفع عَلَى أنه مبتدأ وخبر.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق تمام شرحه، وبيان مسائله فِي الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه انيب".

‌23 - (تَوْجِيهُ الْحَاكِمِ إِلَى مَنْ أُخَبِرَ أَنَّهُ زَنَى)

" قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "أُخبر" بالبناء للمفعول، يعني أن الإِمام إذا ذُكر له أن شخصًا زنى ينبغي له أن يرسل إليه، والغرض منْ الإرسال تبيين الحقّ للمدّعى عليه، حَتَّى يطالب بحدّ القذف إن أنكر ذلك، وليس المراد إثبات الزنا عليه، والتجسس فِي ذلك؛ لأن عَلَى الحاكم إذا اعترف إليه شخص بالزنا أن يلقّنه ما يدفع به عن نفسه، كما قَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم لماعز بن مالك رضي الله عنه: "لعلك قبلت، لعلك لمست

" الْحَدِيث، ولهذا أول العلماء إرساله صلى الله عليه وسلم للمرأة التي تقدّمت فِي الباب الماضي بأنه لإعلامها بأن هَذَا الرجل قذفها بابنه، وأن لها حدّ القذف إن أنكرت هي عليه. والله تعالى أعلم بالصواب.

ص: 336

5414 -

(أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْكَرْمَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أُتِيَ بِامْرَأَةٍ قَدْ زَنَتْ، فَقَالَ: "مِمَّنْ؟ "، قَالَتْ: مِنَ الْمُقْعَدِ الَّذِي فِي حَائِطِ سَعْدٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَأُتِيَ بِهِ مَحْمُولاً، فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَاعْتَرَفَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِثْكَالٍ فَضَرَبَهُ، وَرَحِمَهُ لِزَمَانَتِهِ، وَخَفَّفَ عَنْهُ).

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْكَرْمَانِيُّ) أبو عليّ، نزيل طَرَسُوس، لا بأس به، إلا فِي حديث مسدّد، قاله المصنّف، وهو منْ أفراده [12] 18/ 4182.

2 -

(أَبُو الرَّبِيعِ) سليمان بن داود الزهرانيّ العتكيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقة [10] 19/ 2147.

3 -

(حمّاد) بن زيد بن درهم الجهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقة ثبت فقيه، منْ كبار [8] 3/ 3.

4 -

(يحيى) بن سعيد بن قيس الأنصاريّ، أبو سعيد المدنيّ القاضي، ثقة ثبت [5] 22/ 23.

5 -

(أَبو أُمَامَةَ) أسعد بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفِ -مصغّرًا- الأنصاريّ المشهور بكنيته، معدود فِي الصحابة، لرؤيته، ولم يسمع منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم، مات سنة (100) وله (92) سنة. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فمن أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين منْ يحيين وشيخه طَرَسُوسِيّ، والباقيان بصريان. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، عن أبي أمامة، فإنه تابعيّ رواية، وإن كَانَ صحابيًّا رؤيةً، فالحديث مرسلٌ، كما سيأتي بيانه.

والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي أُمَامَةَ) أسعد (بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفِ) مصغّرًا الأنصاريّ رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أُتِيَ) بالبناء للمفعول (بِامْرَأَةٍ قَدْ زَنَتْ) وفي رواية "الكبرى" منْ طريق أبي حازم، عن أبي أمامة بن سهل: "قَالَ: جيء رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية حبلى، فقيل لها: منْ أحبلك؟

" الْحَدِيث (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (مِمَّنْ؟) "منْ" استفهاميّة، والجارّ والمجرور خبر لمحذوف: أي

ص: 337

ممن الزنا؟، أو ممن الحبل، وهذا أولى لما مرّ آنفًا منْ رواية أبي حازم (قَالَتْ: مِنَ الْمُقْعَدِ) أي هو منْ الرجل المقعد، بصيغة اسم المفعول، يقال: أُقعد الرجل بالبناء للمفعول: أصابه داء فِي جسده، فلا يستطيع الحركة للمشي، فهو مُقعَدٌ، وهو الزَّمِنُ أيضًا. قاله فِي "المصباح"(الَّذِي فِي حَائِطِ سَعْدٍ) أي ابن عبادة، ففي رواية "الكبرى" 4/ 312 - منْ طريق سفيان، عن يحيى بن سعيد، أنه سمع أبا أمامة بن سهل يقول: "كَانَ رجلٌ عند جوار سعد بن عبادة، مقعد

" الْحَدِيث، ومن طريق الزهريّ، عن أبي أمامة، قَالَ: مرِض رجل منهم حَتَّى عاد جلدًا عَلَى عظم، فدخلت عليه جارية تعوده، فوقع عليها، فضاق صدرًا بخطيئته، فَقَالَ لقوم يعودونه: سلوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني قد وقعت عَلَى امرأة حراما، فليُقم عليّ الحدّ، وليُطهّرني، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قالوا: لو حُمل إليك لتحطّمت عظامه، ولو ضُرب لمات، فَقَالَ: "خذوا مائة شمروخ، فاضربوه به ضربةً واحدة" (فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ) الظاهر أن هَذَا الإرسال مثل الإرسال المتقدّم فِي قصّة المرأة المذكورة الباب الماضي، حيث قيل: إن سبب بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم إليها؛ ليُعلمها بالقذف المذكور؛ لتطالب بحدّ قاذفها إن أنكرت (فَأُتِيَ بِهِ مَحْمُولًا) أي لعدم استطاعته المشي لشدّة مرضه (فَوُضِعَ بَيْنَ يَديْهِ) صلى الله عليه وسلم (فَاعْتَرَفَ) بأنه زنى بها (فَدَعَا رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِثْكَالٍ) بكسر الهمزة، وسكون الثاء المثلّثة، بعدها كاف، ثم لام: وهو عذق النخلة بما فيه منْ الشماريخ (فَضَرَبَهُ) بذلك الإثكال ضربة واحدة (وَرَحِمَهُ لِزَمَانَتِهِ) أي ترك جلده مائة؛ رحمةً به؛ لشدّة مرضه، ولأنه لو جُلد لمات (وَخَفَّفَ عَنْهُ) بضربه مرّة واحدة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي أُمامة بن سهل رضي الله تعالى عنهما هَذَا مرسلٌ صحيح، وَقَدْ روي موصولاً عن أبي أُمامة بن سهل، عن سعيد بن سعد بن عبادة رضي الله عنهم، وَقَدْ استوفى طرقه المصنّف رحمه الله تعالى فِي "الكبرى" 4/ 311 - 314 - وَقَالَ فِي آخره: قَالَ أبو عبد الرحمن: أجودها حديث أبي أمامة مرسلٌ. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الْحَدِيث -وإن كَانَ الأرجح إرساله- لكنه يعتضد بما رواه مسلم فِي "صحيحه"، منْ حديث عليّ رضي الله عنه أنه قَالَ: إن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت، فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديثة عهد بنفاس، فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"أحسنت". والله تعالى أعلم.

ص: 338

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له:

أخرجه هنا -23/ 5414 - وفي "الكبرى" فِي "الرجم" 38/ 7301 و7302 و7303 و7304 و7305 و7306 و7307 و7308 و39/ 7309 و7310.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان مشروعيّة توجيه الحاكم إلى منْ أُخبر عنه أنه زنى. (ومنها): وجوب إقامة الحدّ عَلَى المريض. (ومنها): أن حدّ المريض يختلف عن حدّ الصحيح، حيث يُكتفى بضربه مرّة واحدة بإثكال ونحوه. (ومنها): ثبوت الزنا بالإقرار مرّة واحدة، حيث لم يثبت فِي هَذَا الْحَدِيث، ولا فِي الْحَدِيث الماضي فِي الباب السابق أنه صلى الله عليه وسلم أمر بتكرار الإقرار، وَقَالَ أبو حنيفة رحمه الله تعالى: لابد منْ أربع مرّات كالشهود، مستدلاّ بحديث ماعز رضي الله عنه، وَقَدْ مضى تمام البحث فِي ذلك فِي موضعه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي إقامة الحدّ عَلَى المريض:

قَالَ فِي "المغني" 12/ 329: والمريض عَلَى ضربين: [أحدهما]: يرجى برؤه، فَقَالَ أصحابنا يقام عليه الحدّ، ولا يؤخر كما قَالَ أبو بكر فِي النفساء، وهذا قول إسحاق، وأبي ثور؛ لأن عمر رضي الله عنه أقام الحد عَلَى قُدامة بن مظعون فِي مرضه، ولم يؤخر ما أوجبه الله بغير حجة، قَالَ القاضي: وظاهر قول الخرقي تأخيره؛ لقوله فيمن يجب عليه الحد: وهو صحيح عاقل، وهذا قول أبي حنيفة، ومالك، والشافعي؛ لحديث عليّ رضي الله عنه فِي التي هي حديثة عهد بنفاس، وما ذكرناه منْ المعنى، وأما حديث عمر رضي الله عنه فِي جلد قدامة، فإنه يحتمل أنه كَانَ مرضا خفيفا، لا يمنع منْ إقامة الحد عَلَى الكمال، ولهذا لم ينقل عنه أنه خفف عنه فِي السوط، وإنما اختار له سوطا وسطا، كالذي يضرب به الصحيح، ثم إن فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يقدم عَلَى فعل عمر، مع أنه اختيار عليّ وفعله، وكذلك الحكم فِي تأخيره؛ لأجل الحر والبرد المفرط.

[الضرب الثاني]: المريض الذي لا يرجى برؤه، فهذا يقام عليه فِي الحال، ولا يؤخر، بسوط يؤمن معه التلف، كالقضيب الصغير، وشِمْراخ النخل، فإن خيف عليه منْ ذلك جُمِع ضِغْثٌ فيه مائة شمراخ، فضرب به ضربة واحدة، وبهذا قَالَ الشافعيّ، وأنكر مالك هَذَا، وَقَالَ: قد قَالَ الله تعالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وهذا جلدة واحدة.

قَالَ: ولنا ما رَوَى أبو أمامة بن سهل بن حنيف، عن بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أن رجلا منهم اشتكى، حَتَّى ضَنِي، فدخلت عليه امرأة، فَهَشّ لها، فوقع بها، فسئل له

ص: 339

رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا مائة شمراخ، فيضربوه ضربة واحدة"، رواه أبو داود، والنسائي، وَقَالَ ابن المنذر: فِي إسناده مقال -أي لأن الأرجح إرساله- ولأنه لا يخلو منْ أن يُقام الحد عَلَى ما ذكرنا، أو لا يقام أصلا، أو يضرب ضربا كاملا، لا يجوز تركه بالكلية؛ لأنه يخالف الكتاب والسنة، ولا يجوز جلده جلدا تاما؛ لأنه يفضي إلى إتلافه، فتعين ما ذكرناه، وقولهم: هَذَا جلدة واحدة، يجوز أن يقام ذلك فِي حال العذر مقام مائة، كما قَالَ الله تعالى، فِي حق أيوب عليه السلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ} الآية [ص: 44]، وهذا أولى منْ ترك حده بالكلية، أو قتله مما لا يوجب القتل. انتهى "المغني" 12/ 329 - 331.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه الأولون منْ وجوب حدّه حالاً بضربة واحدة؛ حفظًا عَلَى حياته هو الأرجح عندي؛ لحديث الباب، وحديث الباب، وإن كَانَ الأصح إرساله، لكنه اعتضد بما رواه مسلم فِي "صحيحه" منْ حديث عليّ رضي الله عنه، كما أسلفناه آنفًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌24 - (مَسِيرُ الْحَاكِمِ إِلَى رَعِيَّتِهِ لِلصُّلْحِ بَيْنَهُمْ)

أي هَذَا باب ذكر الْحَدِيث الدالّ عَلَى استحباب ذهاب الإِمام إلى رعيته إذ وقع بينهم اختلاف للإصلاح بينهم، فالمسير بالسين المهملة: بمعنى السير، وفي نسخة:"مصير" بالصاد المهملة، منْ الصيرورة.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: محلّ الشاهد منْ الْحَدِيث قوله: "فَذَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ"، وَقَدْ ترجم الإِمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه" بنحو منْ ذلك، حيث قَالَ: باب الإِمام يأتي قومًا، فيُصلح بينهم"، ثم أرد نفس حديث الباب. قَالَ ابن المنيّر رحمه الله تعالى: فقه الترجمة التنبيه عَلَى جواز مباشرة الحاكم الصلح بين الخصوم، ولا يُعدّ ذلك تصحيفًا فِي الحكم، وعلى جواز ذهاب الحاكم إلى موضع الخُصُوم للفصل بينهم، إما عند عِظم الخطب، وإما ليكشف ما لا يُحاط بعلمه إلا بالمعاينة، ولا يُعدّ ذلك

ص: 340

تخصيصًا، ولا تمييزًا، ولا وهنًا. قاله فِي "الفتح" 15/ 90 - 91.

5415 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ، يَقُولُ: وَقَعَ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنَ الأَنْصَارِ كَلَامٌ، حَتَّى تَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ، فَذَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَأَذَّنَ بِلَالٌ، وَانْتُظِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاحْتُبِسَ، فَأَقَامَ الصَّلَاةَ، وَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ رضى الله عنه، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَلَمَّا رَآهُ النَّاسُ صَفَّحُوا، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لَا يَلْتَفِتُ فِي الصَّلَاةِ، فَلَمَّا سَمِعَ تَصْفِيحَهُمُ الْتَفَتَ، فَإِذَا هُوَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَرَادَ أَنْ يَتَأَخَّرَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنِ اثْبُتْ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ رضى الله عنه يَعْنِي يَدَيْهِ- ثُمَّ نَكَصَ الْقَهْقَرَى، وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ، قَالَ: "مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ؟ "، قَالَ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَرَى ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ، بَيْنَ يَدَيْ نَبِيِّهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: "مَا لَكُمْ إِذَا نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي صَلَاتِكُمْ صَفَّحْتُمْ، إِنَّ ذَلِكَ لِلنِّسَاءِ، مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ، فَلْيَقُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، محمّد بن منصور، وهو الْجَوّاز المكّيّ، فإنه منْ أفراد، وهو ثقة [10] 20/ 21. و"سفيان": هو ابن عيينة. و"أبو حازم": هو سلمة بن دينار التمّار الأعرج المدنيّ [5].

وقوله: "صفّحوا" -بتشديد الفاء- منْ التصفيح: أي ضربوا بأيديهم إعلامًا بحضور النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقوله: "يعني يديه" أي رفع يديه حامدًا لله تعالى عَلَى إكرام النبيّ صلى الله عليه وسلم إياه بالتقدّم بين يديه، ولكنه فَهِم أن الأمر للإكرام، لا للإيجاب، فاختار التأخّر عَلَى امتثال الأمر، وفيه أن سلوك الأدب أولى منْ امتثال الأمر الذي ليس للوجوب، وَقَدْ تقدّم تمام البحث فِي هَذَا فِي "الصلاة". وقوله:"ثم نكص": أي رجع عَلَى عقبيه.

وقوله: "ما كَانَ الله ليرى ابن أبي قُحافة الخ": قاله هضمًا لنفسه، وتواضعًا لنبيّه صلى الله عليه وسلم، حيث لم يقل: لي، ولا لأبي بكر، وعادة العرب إذا عظّمت الرجل ذكرته باسمه، وكنيته، أو لقبه، وفي غير ذلك تنسبه إلى أبيه، ولا تسمّيه. قاله فِي "الفتح" 15/ 91.

وقوله: "بين يدي نبيّه صلى الله عليه وسلم" أي بلا ضرورة، فلا يرد عليه إمامته فِي مرضه صلى الله عليه وسلم، مع ما فيه منْ الاختلاف، والصحيح أنه هو الإِمام، كما سبق بيانه مستوفًى فِي "الصلاة".

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي "الإمامة" 15/ 793. وسبق تمام شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 341

‌25 - (إِشَارَةُ الْحَاكِمِ عَلَى الْخَصْمِ بِالصُّلْحِ)

5416 -

(أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الأَسْلَمِيِّ -يَعْنِي دَيْنًا- فَلَقِيَهُ، فَلَزِمَهُ، فَتَكَلَّمَا حَتَّى ارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ، فَمَرَّ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "يَا كَعْبُ"، فَأَشَارَ بِيَدِهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: "النِّصْفَ"، فَأَخَذَ نِصْفًا مِمَّا عَلَيْهِ، وَتَرَكَ نِصْفًا).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، "الرَّبِيعُ بْنُ سُليْمَانَ" المراديّ المؤذّن المصريّ، صاحب الشافعيّ، وهو ثقة، [11].

والسند مسلسلٌ بثقات المصريين، إلى الأعرج، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: جعفر، عن الأعرج.

وقوله: "فمرّ بهما": أي ظهر لهما، فلا منافاة بينه وبين ما تقدّم منْ قوله:"فكشف ستر حجرته".

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي 20/ 5410 ومضى تمام شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. ومحلّ الاستدلال للترجمة قوله:"فأشار بيده الخ"، حيث تصالحا الخصمان بناءً عَلَى إشارته صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌26 - (إِشَارَةُ الْحَاكِم عَلَى الْخَصْمِ بِالْعَفْوِ)

5417 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَوْفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَمْزَةُ أَبُو عُمَرَ الْعَائِذِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلْقَمَةُ بْنُ وَائِلٍ، عَنْ وَائِلٍ، قَالَ: شَهِدْتُ

ص: 342

رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حِينَ جَاءَ بِالْقَاتِلِ يَقُودُهُ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ، فِي نِسْعَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ:"أَتَعْفُو؟ " قَالَ: لَا، قَالَ:"فَتَأْخُذُ الدِّيَةَ؟ " قَالَ: لَا، قَالَ:"فَتَقْتُلُهُ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:"اذْهَبْ بِهِ"، فَلَمَّا ذَهَبَ فَوَلَّى مِنْ عِنْدِهِ دَعَاهُ، فَقَالَ:"أَتَعْفُو؟ " قَالَ: لَا، قَالَ:"فَتَأْخُذُ الدِّيَةَ؟ " قَالَ: لَا، قَالَ:"فَتَقْتُلُهُ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:"اذْهَبْ بِهِ"، فَلَمَّا ذَهَبَ فَوَلَّى مِنْ عِنْدِهِ دَعَاهُ، فَقَالَ:"أَتَعْفُو؟ " قَالَ: لَا، قَالَ:"فَتَأْخُذُ الدِّيَةَ؟ " قَالَ: لَا، قَالَ:"فَتَقْتُلُهُ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:"اذْهَبْ بِهِ"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ:"أَمَا إِنَّكَ إِنْ عَفَوْتَ عَنْهُ، يَبُوءُ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِ صَاحِبِكَ"، فَعَفَا عَنْهُ، وَتَرَكَهُ، فَأَنَا رَأَيْتُهُ يَجُرُّ نِسْعَتَهُ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة. و"يحيى بن سعيد": هو القطّان. و"عوفٌ": ابن أبي جَمِيلة الأعرابيّ. و"حمزة أبو عُمَر العائذيّ": هو حمزة بن عمرو الضبّيّ البصريّ، صدوقٌ [4] 3/ 498.

وقوله: "بنسعة": بكسر النون: قطعة جلد تُجعل زماماً للبعير وغيره.

وقوله: "يبوء بإثمه وإثم صاحبك": أي المقتول.

والحديث أخرجه مسلم، وَقَدْ تقدّم فِي "القسامة" 6/ 4726 - سنداً ومتناً، ومضى شرحه مستوفًى، وكذا بيان مسائله هناك، والاستدلال به هنا لما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى واضح، حيث طلب النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ الوليّ العفو بقوله:"أتعفو؟ ". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌27 - (إِشَارَةِ الْحَاكِمِ بِالرِّفْقِ)

5418 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ، الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ، فَقَالَ: الأَنْصَارِيُّ سَرِّحِ الْمَاءَ يَمُرَّ، فَأَبَى عَلَيْهِ، فَاخْتَصَمُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ" فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: "يَا زُبَيْرُ اسْقِ، ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ"، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: إِنِّي أَحْسَبُ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} الآيَةَ).

ص: 343

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة.

وقوله: "فِي شراج الحرّة": بالكسر: جمع شرجة: وهي مسيل الماء. وقوله: "سرّح الماء": أي أرسله. وقوله: "فتلوّن": أي تغيّر. وقوله: (الجدر) بفتح، فسكون: ما رفع حول المزرعة كالجدار، وقيل: غير ذلك.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم قريباً فِي 19/ 19/ 5409 - وسبق شرحه مستوفًى، وكذا بيان مسائله هناك، فراجعه تستفد، واستدلال المصنّف رحمه الله تعالى به عَلَى الترجمة واضح، حيث أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم-الزبير رضي الله عنه بما هو أرفق للأنصاريّ، وهو أن يسقي نخله، ثم يرسله له، فهذا هو الإشار بالأمر بالرفق، لكنه لَمّا أساء ظنه برسول الله صلى الله عليه وسلم، واتهمه بالميل إلى ابن عمّته؛ جهلاً منه وجفاءً حكم للزبير باستيفاء حقّه منه، وهو أن يمسك الماء بعد أن يستقي حَتَّى يرتفع إلى الكتب، وهو المراد بالجدر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌28 - (شَفَاعَةِ الْحَاكِمِ لِلْخُصُومِ قَبْلَ فَصْلِ الْحُكْمِ)

5419 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ، كَانَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ: مُغِيثٌ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا، يَبْكِي وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْعَبَّاسِ: "يَا عَبَّاسُ، أَلَا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا"، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ رَاجَعْتِيهِ، فَإِنَّهُ أَبُو وَلَدِكِ؟ "، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَأْمُرُنِي؟ قَالَ: "إِنَّمَا أَنَا شَفِيعٌ": قَالَتْ فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ).

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن بشّار) بُندار، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت [10] 24/ 27.

2 -

(عبد الوهّاب) بن عبد المجيد الثقفيّ البصريّ، ثقة تغيّر قبل موته بثلاث سنين

ص: 344

[8]

42/ 48.

3 -

(خالد) بن مهران الحذّاء، أبو المنازل البصريّ، ثقة يرسل [5] 7/ 634.

4 -

(عكرمة) أبو عبد الله المدنيّ، مولى ابن عبّاس، ثقة ثبت فقيه [3] 2/ 325.

5 -

(ابن عبّاس) عبد البحر الحبر رضي الله تعالى عنهما 27/ 31. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين. (ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه ابن عبّاس أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، رَوَى (1696). والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ) قيل: اسم أبيها صفوان، وكانت له صحبة، وقيل: إنها نَبَطيّة -بفتح النون، والموحّدة، وقيل: إنها قبطيّة. وَقَدْ تقدّم تمام البحث فِي ذلك فِي "كتاب الطلاق"(كَانَ عَبْدًا) هَذَا صريح فِي كون زوج بريرة حين أعتقت عبدًا، وَقَدْ تقدّم فِي "كتاب الطلاق" -29/ 3447 - "باب خيار الأمة" اختلاف الروايات فِي ذلك، وأن الأرجح رواية منْ قَالَ: إنه عبد. ولله تعالى أعلم. (يُقَالُ لَهُ: مُغِيثٌ) وهو مولى لآل المغيرة منْ بني مخزوم (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا) وفي رواية: "يتبعها فِي سكك المدينة"، والسكك -بكسر المهملة، وفتح الكاف: جمع سكّة، وهي الطرق (يَبْكِي وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ) زاد فِي رواية:"يترضّاها لتختاره، فلم تفعل"، وظاهر هذه الرواية أن سوؤاله لها كَانَ قبل الفرقة، وظاهر قول النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي رواية الباب:"لو راجعته" أن ذلك كَانَ بعد الفرقة، وبه جزم ابن بطّال، فَقَالَ: لو كَانَ قبل الفرقة لقال: لو اخترته. ويحتمل أن يكون وقع له ذلك قبلُ وبعدُ. قاله فِي "الفتح" 10/ 513 (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْعَبَّاسِ) بن عبد المطّلب، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم (يَا عَبَّاسُ، أَلَا تَعْجَبُ) بفتح الجيم، منْ باب تعجب (منْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثاً) مع أن المعتاد أن الحبّ يكون منْ الطرفين (فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ رَاجَعْتِيهِ) كذا وقع هنا وفي "سنن ابن ماجه": "لو راجعتيه" بإثبات التحتانية الساكنة، بعد المثنّاة الفوقية، وهي لغة ضعيفة (فَإِنَّهُ أَبُو وَلَدِكِ) يدلّ عَلَى أنه كَانَ له منها ولد (قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ،

ص: 345

أَتَأْمُرُنِي؟) زاد فِي رواية الإسماعيليّ: قَالَ: لا"، وفيه إشعار بأن الأمر لا ينحصر فِي صيغة الفعل؛ لأنه خاطبها بقوله: "لو راجعته، فقالت: أتامرني": أي تريد بهذا القول الأمر، فيجب عليّ؟، وعند ابن مسعود منْ مرسل ابن سيرين بسند صحيح: "فقالت: يا رسول الله، أشيء واجب عليّ؟ قَالَ: لا" (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (إِنَّمَا أَنَا شَفِيعٌ) وفي رواية ابن ماجه: "إنما أنا أشفع": أي أقول ذلك عَلَى سبيل الشفاعة له، لا عَلَى سبيل الأمر الحتم عليك (قَالَتْ) بريرة (فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ) أي فإذا لم تُلزمني بذلك، لا أختار العود إليه، وزاد فِي رواية للبخاريّ: "وخُيّرت، فاختارت نفسها، وقالت: لو أعطيت كذا وكذا ما كنت عنده". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -28/ 5419 - وفي "الكبرى" 32/ 5978. وأخرجه (خ) فِي "الطلاق" 5280 و5281 و5282 و5283 (د) فِي "الطلاق"2231 و2232 (ت) فِي "الرضاع" 1156 (ق) فِي "الطلاق" 2075 (أحمد) فِي "مسند بني هاشم" 1847 و2538 و3395 (الموطأ) فِي "الطلاق" 3190. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان استحباب شفاعة الحاكم فِي الرفق بالخصم حيث لا ضرر، دون إلزام. (ومنها): أنه لا لوم عَلَى الخصم فِي عدم قبوله الشفاعة، ولا غضب عليه، ولو عظم قدر الشافع. (ومنها): أنه لا يجب عَلَى المشفوع عنده قبول الشفاعة. (ومنها): جواز الشفاعة قبل أن يسأل المشفوع له؛ لأنه لم يُنقل أن مغيثًا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يشفع له، كذا قيل: لكن ورد فِي بعض طرق الْحَدِيث أن العبّاس رضي الله عنه هو الذي سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي ذلك، فيحتمل أن يكون مغيث سأل العبّاس فِي ذلك، ويحتمل أن يكون العبّاس ابتدأ منْ قبل نفسه؛ شفقةً منه عَلَى مغيث. (ومنها): استحباب إدخال السرور عَلَى قلب المؤمن. (ومنها): تنبيه الصاحب صاحبه عَلَى الاعتبار بآيات الله تعالى، وأحكامه؛ لتعجيب النبيّ صلى الله عليه وسلم العبّاس منْ حبّ مغيث بريرة. (ومنها): حسن أدب بريرة رضي الله تعالى عنها؛ حيث إنها لم تفصح بردّ الشفاعة، بل قالت:"لاحاجة لي فيه". (ومنها): أن فرط المحبّة يُذهب الحياء.

ص: 346

(ومنها): استحباب الإصلاح بين المتنافرين، سواء كانا زوجين، أم لا، ويتأكد إذا كَانَ التنافر بين الزوجين لهما ولد. (ومنها): أن الشافع ينبغي له أن يذكر للمشفوع عنده ما يبعثه عَلَى قبوله منْ مقتضى الشفاعة، والحامل عليها، حيث قَالَ صلى الله عليه وسلم:"إنه أبو ولدك". وفي حديث قصّة بريرة رضي الله تعالى عنها هَذَا فوائد كثيرة، قد استوفيتها فِي "كتاب الطلاق"، فأرجع إليه تزدد علمًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌29 - (مَنْعِ الْحَاكِمِ رَعِيَّتَهُ مِنْ إِتْلَافِ أَمْوَالِهِمْ، وَبِهِمْ حَاجَةٌ إِلَيْهَا)

5420 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ وَاصِلِ بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَاضِرُ بْنُ الْمُوَرِّعِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، وَكَانَ مُحْتَاجًا، وَكَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَبَاعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَأَعْطَاهُ، فَقَالَ: "اقْضِ دَيْنَكَ، وَأَنْفِقْ عَلَى عِيَالِكَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ وَاصِلِ بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى": هو الأسديّ الكوفيّ، ثقة، منْ كبار [10] 54/ 618 منْ أفراد المصنّف، والترمذيّ.

و"مُحَاضِرُ -بضاد معجمة- ابْنُ الْمُوَرِّعِ"- بضم الميم، وفتح الواو، وتشديد الراء المكسورة، بعدها مهملة- الهمداني اليامي، ويقال: السلولي، ويقال: السكوني الكوفيّ، صدوقٌ له أوهام [9].

رَوَى عن عاصم الأحول، والأعمش، ومجالد، وهشام بن عروة، وهشام بن حسان، وسعد بن سعيد الأنصاريّ، وأجلح الكندي، ومجالد بن سعيد، وغيرهم. وعنه أحمد بن حنبل، وأبو بكر، وعثمان ابنا أبي شيبة، وحجاج بن الشاعر، ومحمد ابن عبد الله بن نمير، ومحمد بن إسحاق الصغاني، ومحمد بن يحيى الذهلي، ويوسف بن موسى القطّان، وأبو داود الحراني، وأحمد بن سليمان الرهاوي، وعبد الأعلي بن واصل، والحسن بن عليّ بن عفان، وآخرون.

قَالَ عبد الله بن أحمد، عن أبيه: سمعت منه أحاديث، لم يكن منْ أصحاب

ص: 347

الْحَدِيث، كَانَ مُغَفَّلاً جدًّا. وَقَالَ أبو زرعة: صدوقٌ صدوقٌ. وَقَالَ أبو حاتم: ليس بالمتين، يكتب حديثه. وَقَالَ الآجري، عن أبي داود: قَالَ ابن المبارك: أعرفه قديما، قَالَ: وكان شريك إذا لم يحضر صلى محاضر. وَقَالَ فِي موضع آخر عن أبي داود: قَالَ أبو سعيد الحداد: محاضر لا يحسن أن يصدق، فكيف يحسن أن يكذب، كنا نوقفه عَلَى الخطأ فِي كتابه، فإذا بلغ ذلك الموضع أخطأ. قَالَ الآجري: وكان إمام الحي. وَقَالَ النسائيّ: ليس به بأس. وَقَالَ ابن عدي: رَوَى عن الأعمش أحاديث صالحة مستقيمة، ولم أر فِي حديثه حديثا منكرا، فأذكرَهُ، إذا رَوَى عنه ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ ابن سعد: كَانَ ثقة صدوقا، ممتنعا عن التحديث، ثم حَدّث بعدُ. وَقَالَ ابن قانع: ثقة. وَقَالَ مسلمة بن قاسم: ثقة مشهور، وكان عَلَى رأي أهل الكوفة فِي النبيذ.

قَالَ ابن سعد: مات سنة ست ومائتين. رَوَى له مسلم حديثا واحدا متابعة، وذكره البخاريّ فِي "الحجّ"، وفي حديث آخر فِي "البيوع"، وروى له المصنّف، وأبو داود، وله فِي هَذَا الكتاب حديثان فقط، هَذَا، وفي "كتاب الاستعاذة" حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه مرفوعًا: "اللَّهم إني أعوذ بك منْ العجز والكسل

" الْحَدِيث.

و"سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ": هو الحضرميّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقة [4] 195/ 312. و"عَطَاءٍ": هو ابن أبي رباح.

وقوله: "أعتق رجل": تقدّم فِي "البيوع" أنه رجل منْ بني عُذرة، وفي رواية: رجل منْ الأنصار، يقال له: أبو مذكرر. وقوله: "غلاما له": تقدّم أن اسمه يعقوب.

وقوله: "اقض دينك، وأنفق عَلَى عيالك": وفي الرواية السابقة: "ثم قَالَ: ابدأ بنفسك، فتصدّق عليها، فإن فضل شيء، فلأهلك، فإن فضل منْ أهلك شيء، فلذي قرابتك، فإن فضل منْ ذي قرابتك شيء، فهكذا، وهكذا، وهكذا، يقول: بين يديك، وعن يمينك، وعن شمالك".

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي "البيوع" 84/ 4654 ومضى تمام شرحه، وبيان مسائله، فراجعه هناك تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

واستدلال المصنّف رحمه الله تعالى به على الترجمة يؤخذ منْ كونه صلى الله عليه وسلم أبطل تدبير الرجل غلامه، وباعه عليه؛ لأنه يدلّ عَلَى أن للحاكم أن يمنع النَّاس منْ أن يُتلفوا أموالهم التي يحتاجون إليها، ولو كَانَ ذلك الإتلاف فِي وجوه الخير والصلاح؛ لأن حاجة الإنسان مقدّمة عَلَى تبرّعه عَلَى غيره. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 348

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌30 - (الْقَضَاءُ فِي قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ)

5421 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ"، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ").

رجال هَذَا الإسناد" ستة:

1 -

(عليّ بن حُجر) السعديّ المروزيّ، ثقة حافظ، منْ صغار [9] 13/ 13.

2 -

(إسماعيل) بن جعفر بن أبي كثير الأنصاريّ الزرقيّ المدنيّ القارىء، ثقة ثبت [8] 16/ 17.

3 -

(العلاء) بن عبد الرحمن بن يعقوب الْحُرَقيّ، أبو شِبْل المدنيّ، صدوقٌ، ربّما وَهِم [5] 107/ 143.

4 -

(معبد بن كعب) بن مالك الأنصاريّ السَّلَميّ المدنيّ، ثقة

(1)

[3] 48/ 1930.

5 -

(عبد الله بن كعب) بن مالك: هو الأنصاريّ المدنيّ، ثقة، يقال: له رؤية [2] 38/ 731.

6 -

(أبو أمامة) اسمه إياس بن ثعلبة، ويقال: عبد الله بن ثعلبة بن عبد الله، حليف بني حارثة، وهو ابن أخت أبي بُردة بن نيار. وَقَالَ أبو حاتم: ثعلبة بن عبد الله بن سهل. رَوَى عن النبيّ، وعن عبد الله بن أُنيس الْجُهنيّ. وعنه ابنه عبد الله، وعبد الله ابن أُنيس الْجُهَنيّ، وعبد الله بن كعب بن مالك، ومحمد بن زيد بن المهاجر بن قُنْفُذ. وَقَالَ أبو أحمد الحاكم: ردّه النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ بدر منْ أجل أمه، فلَمّا رجع وجدها ماتت، فصلّى عليها. رواه عبد الله بن المنيب، عن جده عبد الله بن أبي أمامة، عن أبيه،

(1)

قَالَ عنه فِي "التقريب": مقبول، لكن فيه نظر؛ لأنه رَوَى عنه جماعة، ووثقه ابن حبّان، وأخرج له مسلم، وله فِي البخاريّ حديث واحد، فالحقّ أنه ثقة، فتأمل. والله تعالى أعلم.

ص: 349

ورجّح كونه إياس بن ثعلبة. رَوَى له مسلم، والأربعة، له عندهم هَذَا الْحَدِيث، وعند أبي داود، وابن ماجه حديث آخر أيضًا: حديث "إن البذاذة منْ الإيمان". والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات المدنيين، غير شيخه، فمروزيّ. (ومنها): فيه رواية ثلاثة منْ التابعين بعضهم عن بعض: العلاء، عن معبد، عن عبد الله بن كعب، ورواية الراوي عن أخيه. (ومنها): أن صحابيّه منْ المقلّين ليس له فِي الكتب الخمسة إلا هَذَا الْحَدِيث، وآخر عند أبي داود، وابن ماجه. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي أُمَامَةَ) قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى فِي "شرح مسلم" 2/ 159: [اعلم]: أن أبا أمامة هَذَا ليس هو أبا أمامة الباهلي، صُدَىَّ بن عجلان المشهور، بل هَذَا غيره، واسم هَذَا إياس بن ثعلبة الأنصارى الحارثيّ، منْ بني الحرث بن الخزرج، وقيل: إنه بلويّ، وهو حليف بني حارثة، وهو ابن أخت أبى بردة بن نيار، هَذَا هو المشهور فِي اسمه، وَقَالَ أبو حاتم الرازى: اسمه عبد الله بن ثعلبة، ويقال: ثعلبة بن عبد الله.

[ثم اعلم]: أن هنا دقيقةً، لابد منْ التنبيه عليها، وهي أن الذين صنفوا فِي أسماء الصحابة رضي الله عنهم، ذكر كثير منهم، أن أبا أمامة هَذَا الحارثيّ رضي الله عنه، تُوُفي عند انصراف النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ أحد، فصلى عليه، ومقتضى هَذَا التاريخ أن يكون هَذَا الْحَدِيث الذي رواه مسلم منقطعًا، فإن عبد الله بن كعب تابعيّ، فكيف يَسمَع منْ تُوفي عام أحد فِي السنة الثالثة منْ الهجرة، ولكن هَذَا النقل فِي وفاة أبى أمامة ليس بصحيح، فإنه صَحّ عن عبد الله بن كعب، أنه قَالَ: حدثني أبو أمامة، كما ذكره مسلم فِي الرواية الثانية، فهذا تصريح بسماع عبد الله بن كعب التابعيّ منه، فبطل ما قيل فِي وفاته، ودو كَانَ ما قيل فِي وفاته صحيحًا، لم يخرج مسلم حديثه، ولقد أحسن الإِمام أبو البركات الجزريّ، المعروف بابن الأثير، حيث أنكر فِي كتابه "معرفة الصحابة رضي الله عنهم" هَذَا القول فِي وفاته. والله أعلم. انتهى "شرح مسلم" 2/ 160.

(أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنِ اقْتَطَعَ) افتعال منْ القطع للمبالغة، قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: وهو الأخذ هنا؛ لأن منْ أخذ شيئًا لنفسه، فقد قطعه عن مالكه. قاله فِي "المفهم" 1/ 347 (حَقَّ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ) أي بسبب يمينه الكاذبة (فَقَد أَوْجَبَ اللهُ لَهُ

ص: 350

النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ") قَالَ القرطبيّ: أي إذا كَانَ مستحلاً لذلك، فإن كَانَ غير مستحلّ، وكان ممن لم يُغفر له، فيعذّبه الله تعالى فِي النار ما شاء منْ الآباد، وفيها تحرُم عليه الجنّة، ثم يكون حاله كحال أهل الكبائر منْ الموحّدين، عَلَى ما تقدّم. انتهى "المفهم" 1/ 347.

(فَقَالَ لَهُ) أي للنبيّ صلى الله عليه وسلم (رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيئَا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟) أي وإن كَانَ الحقّ المقتطع شيئًا قليلاً منْ المال (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ) اسم "كَانَ" ضمير يعود إلى حقّ امرىء، ويحتمل أن يعود إلى "شيئًا يسيرًا"، وفي رواية مسلم:"وإن قضيبًا منْ أراك"، وفي بعض نسخه:"وإن قضيب" بالرفع، قَالَ النوويّ: هكذا هو بالرفع فِي بعض الأصول، أو أكثرها، وفي كثير منها:"وإن قضيبا"، عَلَى أنه خبر "كَانَ" المحذوفة، أو أنه مفعول لفعل محذوف، تقديره: وإن اقتطع قضيبا. انتهى. ولله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -30/ 5421 - وفي "الكبرى" 34/ 5980. وأخرجه (م) فِي "الإيمان" 137 (ق) فِي "الأحكام" 2324 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 21736 (الموطأ) فِي "الأقضية" 1435 (الدارميّ) فِي "البيوع" 2490. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان مشروعيّة القضاء فِي قليل المال وكثيره، ووجه دلالة الْحَدِيث عَلَى ذلك أنه لَمّا ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن منْ اقتطع حقّ امرى مسلم، وإن كَانَ شيئاً يسْيرًا، دلّ عَلَى أن اقتطاع القليل محرّم، وظلم ككثيره، ومعلوم أن منْ ظلم غيره، رافعه المظلوم إلى الحاكم، فإذا رفع إليه وجب عليه القضاء فيه، كما يجب عليه القضاء فِي كثير المال بلا فرق؛ إذ الكلّ ظلم؛ وقضاؤه هو الذي يدفع الظلم عن المظلوم. والله تعالى أعلم. (ومنها): تحريم مال المسلم مطلقًا، كثيراً كَانَ، أو قليلاً. (ومنها): أن اليمين الفاجرة منْ الكبائر؛ لتوعّد الشارع عليها بأنها موجبة للنار، ومحرّمة للجنة. (ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى: أنه يستفاد منه أن اليمين الغَمُوس لا يرفع إثمها الكفّارة، بل هي أعظم منْ أن يكفّرها شيء، كما هو مذهب مالك رحمه الله تعالى. انتهى. "المفهم" 1/ 347. والله تعالى أعلم

ص: 351

بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌31 - (قَضَاءِ الْحَاكِمِ عَلَى الْغَائِبِ إِذَا عَرَفَهُ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: المراد أن يقضي فِي حقوق الآدميين دون حقوق الله بالاتفاق، حَتَّى لو قامت البينة عَلَى غائب بسرقة مثلاً، حكم بالمال دون القطع. أفاده فِي "الفتح" 15/ 77. والله تعالى أعلم بالصواب.

5422 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَتْ هِنْدٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، وَلَا يُنْفِقُ عَلَيَّ وَوَلَدِي مَا يَكْفِينِي، أَفَآخُذُ مِنْ مَالِهِ، وَلَا يَشْعُرُ؟ قَالَ:"خُذِي مَا يَكْفِيكِ، وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

ا- (إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الحنظليّ المروزيّ، ثقة ثبت فقيه [10] 2/ 2.

2 -

(وكيع) بن الجرّاح بن مَلِيح، أبو سفيان الكوفيّ، ثقة ثبت عابد [9] 23/ 25.

[تنبيه]: وقع فِي نسخ "الكبرى" هنا "أبو معاوية" بدل وكيع، وما فِي "المجتبى" هو الذي فِي "تحفة الأشراف" 12/ 213. فالله تعالى أعلم.

3 -

(هشام بن عروة) الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقة فقيه ربما دلّس [5] 49/ 61.

4 -

(أبوه) عروة بن الزبير بن العوّام المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 40/ 44.

5 -

(عائشة) رضي الله تعالى عنها 5/ 5. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين غير شيخه، فمروزيّ، ووكيع،

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 352

فكوفيّ. (ومنها): أن فيه الابن عن أبيه، عن خالته، رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وفيه عائشة رضي الله تعالى عنها منْ المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، أنها (قَالَتْ: جَاءَتْ هِنْدٌ) يجوز صرف هند وعدم صرفه؛ لكونه ساكن الوسط، ومنعه أولى؛ لوجود العلّتين: العلميّة والتأنيث، وإن كَانَ سكون الوسط قابل أحدهما، كما قَالَ فِي "الخلاصة":

وَجْهَانِ فِي الْعَادِمِ تَذْكِيرًا سَبَقْ

وَعُجْمَةً كَـ"هِنْدَ" وَالْمَنْعُ أَحَقُّ

وفي رواية البخاريّ: "أن هندّا بنت عتبة"، قَالَ فِي "الفتح": كذا فِي هذه الرواية "هندا" بالصرف، ووقع فِي رواية الزهريّ، عن عروة الماضية فِي "المظالم" بغير صرف "هند بنت عتبة بن ربيعة": أي ابن عبد شمس بن عبد مناف، وفي رواية الشافعيّ، عن أنس بن عياض، عن هشام:"أن هندا، أم معاوية"، وكانت هند لَمّا قُتل أبوها عتبة، وعمها شيبة، وأخوها الوليد يوم بدر، شَقّ عليها، فلما كَانَ يوم أحد، وقُتل حمزة فَرِحت بذلك، وعَمَدت إلى بطنه فشقتها، وأخذت كبده فلاكتها، ثم لفظتها، فلما كَانَ يوم الفتح، ودخل أبو سفيان مكّة مسلما، بعد أن أسرته خيل النبيّ صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، فأجاره العبّاس، غضبت هند لأجل إسلامه، وأخذت بلحيته، ثم إنها بعد استقرار النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة جاءت، فأسلمت، وبايعت، وقالت له: يا رسول الله، ما كَانَ عَلَى ظهر الأرض منْ أهل خباء، أحب إليّ أن يَذِلّوا منْ أهل خبائك، وما عَلَى ظهر الأرض اليومَ أهل خباء أحب إليّ أن يَعِزّوا منْ أهل خبائك، فَقَالَ:"أيضاً، والذي نفسي بيده"، ثم قالت: يا رسول الله، أن أبا سفيان

الخ، وذكر ابن عبد البرّ: أنها ماتت فِي المحرم، سنة أربع عشرة، يوم مات أبو قحافة، والد أبي بكر الصديق رضي الله عنهم. وأخرج ابن سعد فِي "الطبقات": ما يدلّ عَلَى أنها عاشت بعد ذلك، فروى عن الواقدي، عن ابن أبي سبرة، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم: أن عمر استعمل معاوية عَلَى عمل أخيه، فلم يزل واليا لعمر حَتَّى قُتل، واستُخلف عثمان، فاْقره عَلَى عمله، وأفرده بولاية الشام جميعاً، وشخص أبو سفيان إلى معاوية، ومعه ابناه: عتبة، وعنبسه، فكتبت هند إلى معاوية، قد قدم عليك أبوك وأخواك، فاحمل أباك عَلَى فرس، وأعطه أربعة آلاف درهم، واحمل عتبة عَلَى بغل، وأعطه ألفي درهم، واحمل عنبسة عَلَى حمار، وأعطه ألف درهم، ففعل ذلك، فَقَالَ أبو سفيان أشهد بالله، أن هَذَا عن رأي هند.

وكان عتبة منها، وعنبسة منْ غيرها، أمه عاتكة بنت أبي أُزيهر الأزدي، وفي

ص: 353

"الأمثال" للميداني: أنها عاشت بعد وفاة أبي سفيان، فإنه ذكر قصة فيها: أن رجلاً سأل معاوية أن يزوجه أمه، فَقَالَ: إنها قعدت عن الولد، وكانت وفاة أبي سفيان فِي خلافة عثمان، سنة اثنتين وثلاثين. قاله فِي "الفتح" 10/ 636 - 637.

(إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم) متعلّق بـ"جاءت"(فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ) هو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، زوجها، وكان قد رَأَس فِي قريش بعد وقعة بدر، وسار بهم فِي أحد، وساق الأحزاب يوم الخندق، ثم أسلم ليلة الفتح.

(رَجُلٌ شَحِيحٌ) الشح: البخل مع حرص، والشح أعم منْ البخل؛ لأن البخل يختص بمنع المال، والشح بكل شيء. وقيل: الشح لازم كالطبع، والبخل غير لازم.

ولفظ "الكبرى": "رجل مُمْسِك"، وفي رواية للشيخين:"رجل مِسِّيك": واختُلف فِي ضبطه، فالأكثر بكسر الميم وتشديد السين عَلَى المبالغة، وقيل: بوزن شحيح، قَالَ النوويّ: هَذَا هو الأصح منْ حيث اللغة، وإن كَانَ الأول أشهر فِي الرواية. قَالَ الحافظ: ولم يظهر لي كون الثاني أصح، فإن الآخر مستعمل كثيرا، مثلُ شِرِّيب وسِكِّير، وإن كَانَ المخفف أيضاً فيه نوع مبالغة، لكن المشدد أبلغ، وَقَالَ فِي "النهاية": المشهور فِي كتب اللغة الفتح والتخفيف، وفي كتب المحدثين الكسر والتشديد.

قَالَ القرطبيّ: لم تُرد هند وصف أبي سفيان بالشح فِي جميع أحواله، وإنما وصفت حالها معه، وأنه كَانَ يُقَتِّر عليها، وعلى أولادها، وهذا لا يستلزم البخل مطلقاً، فإن كثيرا منْ الرؤساء يفعل ذلك مع أهله، ويؤثر الأجانب استئلافًا لهم. وسيأتي قريباً ذكر سبب يقول هند هَذَا، إن شاء الله تعالى.

(وَلَا يُنْفِقُ عَلَيَّ وَوَلَدِي) هكذا بالعطف عَلَى الضمير المجرور بدون إعادة الجارّ، وهو جائز فِي سعة الكلام عَلَى الصحيح، فقد قرىء فِي السبع قوله عز وجل:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النِّساء: 1]، بجرّ الأرجام عطفًا عَلَى الهاء، وَقَالَ الشاعر:

فَالْيَوْمَ قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وَتَشْتِمُنَا

فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ وَالأَيَّامِ منْ عَجَبِ

بجرّ "الأيّام" عطفًا عَلَى الكاف، وإلى هَذَا أشار ابن مالك رحمه الله تعالى فِي "الخلاصة" حيث قَالَ:

وَعَوْدُ خَافِضٍ لَدَى عَطْفٍ عَلَى

ضَمِيرِ خَفْضِ لَازِمًا قَدْ جُعِلَا

وَلَيْسَ عِنْدِي لَازِمًا إِذْ قَدْ أَتَى

فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ الصَّحيحِ مُثبَتا

(مَا يَكْفِينِي)"ما" موصولة مفعول "يُنفق"، ولفظ "الكبرى":"لا يُعطيني، شحيحٌ ما يكفيني وجوبًا"، والظاهر أن "ما يكفني" مفعول "يُعطيني"(أَفَآخُذُ مِنْ مَالِهِ، وَلَا يَشعُرُ؟)

ص: 354

ولفظ "الكبرى": "ولا يعلم". وفي رواية البخاريّ: "وليس يُعطيني ما يكفيني، وولدي، إلا ما أخذت منه، وهو لا يعلم"، زاد الشافعيّ فِي روايته:"سرًّا، فهل عليّ فِي ذلك منْ شيء؟ "، ووقع فِي رواية الزهريّ:"فهل عليّ حَرَجٌ أن أطعم منْ الذي له عيالنا"(قَالَ) صلى الله عليه وسلم لها (خُذِي مَا يَكْفِيكِ، وَوَلَدِكِ بِالْمَعْرُوفِ) وفي رواية للبخاريّ منْ طريق شعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ فِي "المظالم":"لا حَرَج عليكِ أن تطعميهم بالمعروف".

قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "خذي": أمر إباحة، بدليل قوله:"لا حرج"، والمراد بالمعروف: القدر الذي عُرِف بالعادة أنه الكفاية، قَالَ: وهذه الإباحة، وإن كانت مطلقة لفظًا، لكنها مقيدة معنًى، كانه قَالَ: إن صحّ ما ذكرت. وَقَالَ غيره: يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم، علم صدقها فيما ذكرتْ، فاستغنى عن التقييد.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الاحتمال الأخير هو الظاهر عندي؛ إذ هو مقتضى سياق الْحَدِيث، كما أشار إليه المصنّف رحمه الله تعالى فِي ترجمته، حيث قَالَ:"إذا عرفه". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هَذَا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -31/ 5422 - وفي "الكبرى" 35/ 5982. وأخرجه (خ) فِي "البيوع" 2211 و"المظالم والغصب" 3460 و"النفقات" 5359 و5364 و"الأيمان والنذور" 6641 و"الأحكام" 7161 و7180 (م) فِي "الأقضية" 1714 و1715 و1716 (د) فِي "البيوع" 3532 و3533 (ق) فِي "التجارات" 2393 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 23597 و23711 و25185 (الدارميّ) فِي "النكاح" 21590. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان جواز حكم الحاكم عَلَى الغائب إذا تيقّن ثبوت الحقّ عليه، وسيأتي بيان المذاهب فِي القضاء عَلَى الغائب فِي المسألة التالية، إن شاء الله تعالى.

(ومنها): جواز ذكر الإنسان بما لا يُعجبه، إذا كَانَ عَلَى وجه الاستفتاء والاشتكاء، ونحو ذلك، وهو أحد المواضع التي تباح فيها الغيبة، وهي ستة مواضع ذكره النوويّ

ص: 355

فِي كتابه "رياض الصالحين" ص 673، فَقَالَ رحمه الله تعالى: إن غيبة الرجل حيًّا وميتًا تُباح لغرض شرعيّ، لا يمكن الوصول إليه إلا بها، وهي ستّةٌ:

[الأول]: التظلّم، فيجوز للمظلوم أن يتظلّم إلى السلطان، والقاضي، وغيرهما، فيقول: ظلمني فلانٌ بكذا. [الثاني]: الاستعانة عَلَى تغيير المنكر، وردّ العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو قدرته عَلَى إزالة المنكر: فلان يعمل كذا، فازجره عنه، ونحو ذلك، ويكون مقصده التوصّل إلى إزالة المنكر. [الثالث]: الاستفتاء، فيقول للمفتي: ظلمني أبي، أو أخي، أو زوجي، أو فلان بكذا، فهل يحلّ له ذلك؟، فهذا جائز للحاجة. [الرابع]: تحذير المسلمين منْ الشرّ، ونصيحتهم، وذلك منْ وجوه:[منها]: جرح المجروحين منْ الرواة والشهود، وذلك جائزٌ بإجماع المسلمين، بل واجب للحاجة. [ومنها]: المشاورة فِي مصاهرة إنسان. [ومنها]: إذا رأى متفقّهًا يتردّد إلى مبتدع، أو فاسق يأخذ عنه العلم. [ومنها]: أن يكون له ولاية لا يقوم بها عَلَى وجهها.

[الخامس]: أن يكون مجاهرًا بفسقه، أو بدعته، كالمجاهر بشرب الخمر، ومُصادرة النَّاس، وأخذ المكس، وجباية الأموال ظلمًا.

[السادس]: التعريف، فإذا كَانَ الإنسان معروفًا بلقب، كالأعمش، والأعرج، والأصمّ، والأعمى، والأحول، وغيرهم جاز تعريفهم بذلك، ويحرُم إطلاقه عَلَى جهة التنقيص، ولو أمكن تعريفه بغير ذلك كَانَ أولى. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى مختصرًا.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وَقَدْ نظمت هذه المواضع الستة بقولي:

يَا طَالبًا فَائِدَةً جَلِيلَهْ

اعْلَمْ هَدَاكَ الله لِلْفَضِيلَه

أَنَّ اغْتِيَابَ الشَّخْصِ حَيًّا أَوْ لَا

مُحَرَّمٌ قَطْعًا بِنَصٍّ يُتْلَى

لكِنَّهُ لِغَرَضٍ صَحِيحِ

أُبِيحَ عَدَّهَا ذَوُو الترجِيحِ

فَذَكَرُوهَا سِتَّةً تَظَلَّمٍ

وَاسْتَفْتِ وَاسْتَعِنْ لِرَدْعِ مُجْرِمِ

وَعِبْ مُجَاهِرًا بِفِسْقٍ أَوْ بِدَعْ

بِمَا بِهِ جَاهَرَ لَا بِمَا امْتَنَعْ

وَعَرِّفَنْ بِلَقَبٍ مَنْ عُرفَا

بِهِ كقَوْلِكَ رَأَيتُ الأَحْنَفَا

(1)

وَحَذِّرَنْ مِنْ شَرِّ ذِي الشَّرِّ إِذَا

تَخَافُ أَنْ يُلْحِقَ بِالنَّاسِ الأذَى

وَفِي سِوَى هَذَا احْذَرَنْ لَا تَغْتَبِ

تَكُنْ مُوَفَّقًا لِنَيْلِ الأَرَبِ

(ومنها): جواز ذكر الإنسان بالتعظيم، كاللقب والكنية، كذا قيل، وفيه نظر لأن أبا

(1)

"الأحنف": هو الأعرج، أو الذي يمشي عَلَى ظهر قدميه.

ص: 356

سفيان كَانَ مشهورا بكنيته، دون اسمه، فلا يدلّ قولها: إن أبا سفيان عَلَى إرادة التعظيم. (ومنها): جواز استماع كلام أحد الخصمين فِي غيبة الآخر. (ومنها): أن منْ نسب إلى نفسه أمرا عليه فيه غضاضة، فليقرُنه بما يقيم عذره فِي ذلك. (ومنها): جواز سماع كلام الأجنبية عند الحكم والافتاء، عند منْ يقول: إن صوتها عورة، ويقول: جاز هنا للضرورة.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: القول يكون صورة المرأة عورة قول ضعيف، كما سبق بيانه فِي غير موضع، فتبصّر. والله تعالى أعلم.

(ومنها): أن القول قول الزوجة فِي قبض النفقة؛ لأنه لو كَانَ القول قول الزوج: إنه منفق، لكلفت هذه البينة عَلَى إثبات عدم الكفاية. وأجاب المازري عنه بأنه منْ باب تعليق الفتيا، لا القضاء. (ومنها): وجوب نفقة الزوجة، وأنها مقدرة بالكفاية، وهو قول أكثر العلماء، وهو قول للشافعي، حكاه الجوينى، والمشهور عن الشافعيّ، أنه قدرها بالأمداد، فعلى الموسر كل يوم مُدّان، والمتوسط مُدٌّ ونصف، والمعسر مد، وتقريرها بالأمداد رواية عن مالك أيضاً، قَالَ النوويّ فِي "شرح مسلم": وهذا الْحَدِيث حجة عَلَى أصحابنا.

قَالَ الحافظ: وليس صريحا فِي الرد عليهم، لكن التقدير بالأمداد محتاج إلى دليل، فإن ثبت حملت الكفاية فِي حديث الباب عَلَى القدر المقدر بالأمداد، فكأنه كَانَ يعطيها، وهو موسر ما يعطي المتوسط، فأذن لها فِي أخذ الكمية، وَقَدْ اختُلف فِي ذلك.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: تعقّب الحافظ عَلَى النوويّ مما لا وجه له؛ فإن النوويّ إنما اعترض عَلَى أصحابه لعدم وجود دليل يدلّ عَلَى التقدير بالأمداد، وَقَدْ اعترف الحافظ نفسه بذلك، فكيف يتأتّى له التعقّب بالاحتمال؟، فتبصّر. والله تعالى أعلم.

(ومنها): اعتبار النفقة بحال الزوجة، وهو قول الحنفية، واختار الخصاف منهم أنها معتبرة بحال الزوجين معا، قَالَ صاحب "الهداية": وعليه الفتوى، والحجة فيه ضم قوله تعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} الآية [الطلاق: 7] إلى هَذَا الْحَدِيث. وذهبت الشافعيّة إلى اعتبار حال الزوج؛ تمسكا بالآية، وهو قول بعض الحنفية.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: القول الأول هو الظاهر؛ لقوّة دليله. والله تعالى أعلم.

(ومنها): وجوب نفقة الأولاد بشرط الحاجة، والأصح عند الشافعيّة اعتبار الصغر، أو الزمانة. (ومنها): وجوب نفقة خادم المرأة عَلَى الزوج، قَالَ الخطّابيّ: لأن أبا سفيان كَانَ رئيس قومه، ويبعد أن يمنع زوجته وأولاده النفقة، فكأنه كَانَ يعطيها قدر كفايتها وولدها، دون منْ يخدمهم، فأضافت ذلك إلى نفسها؛ لأن خادمها داخل فِي جملتها.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الخطّابيّ محلّ نظر، فليتأمّل. والله تعالى أعلم.

وَقَالَ الحافظ: ويحتمل أن يُتمسك لذلك بقوله فِي بعض طرقه: "أن أطعم منْ الذي له عيالنا".

ص: 357

(ومنها): أنه يدلّ عَلَى وجوب نفقة الابن على الأب، ولو كَانَ الابن كبيرا، وتُعُقّب بأنها واقعة عين، ولا عموم فِي الأفعال، فيحتمل أن يكون المراد بقولها:"بني" بعضهم: أي منْ كَانَ صغيرا، أو كبيرا زمنا، لا جميعهم. (ومنها): أنه استدل به عَلَى أن منْ له عند غيره حق، وهو عاجز عن استيفائه، جاز له أن يأخذ منْ ماله قدر حقه بغير إذنه، وهو قول الشافعيّ، وجماعة، وتسمى "مسألة الظَّفَر"، والراجح عندهم لا يأخذ غير جنس حقه، إلا إذا تعذر جنس حقه، وعن أبي حنيفة: المنع، وعنه يأخذ جنس حقه، ولا يأخذ منْ غير جنس حقه، إلا أحد النقدين بدل الآخر، وعن مالك ثلاث روايات، كهذه الآراء، وعن أحمد المنع مطلقًا.

قَالَ الخطّابيّ: يؤخذ منْ حديث هند جواز أخذ الجنس، وغير الجنس؛ لأن منزل الشحيح لا يجمع كل ما يحتاج إليه منْ النفقة، والكسوة، وسائر المرافق اللازمة، وَقَدْ أطلق لها الإذن فِي أخذ الكفاية منْ ماله، قَالَ: ويدل عَلَى صحة ذلك قولها فِي رواية أخرى: "وأنه لا يدخل عَلَى بيتي ما يكفيني وولدي".

وتعقّبه الحافظ بأنه لا دلالة فيه لما ادعاه منْ أن بيت الشحيح لا يحتوي عَلَى كل ما يحتاج إليه؛ لأنها نفت الكفاية مطلقًا، فتناول جنس ما يحتاج إليه، وما لا يحتاج إليه، ودعواه أن منزل الشحيح كذلك مسلمة، لكن منْ أين له أن منزل أبي سفيان كَانَ كذلك، والذي يظهر منْ سياق القصة أن منزله كَانَ فيه كل ما يحتاج إليه، إلا أنه كَانَ لا يمكنها إلا منْ القدر الذي أشارت إليه، فاستأذنت أن تأخذ زيادة عَلَى ذلك بغير علمه.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن تعقّب الحافظ على استدلال الخطّابيّ محلّ نظر، فإن استدلاله واضح. والله تعالى أعلم.

وَقَدْ وجه ابن المنير قوله: إن فِي قصة هند دلالةٌ عَلَى أن لصاحب الحق أن يأخذ منْ غير جنس حقه، بحيث يحتاج إلى التقويم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أذن لهند، أن تفرض لنفسها وعيالها قدر الواجب، وهذا هو التقويم بعينه، بل هو أدقّ منه، وأعسر.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله ابن المنيّر رحمه الله تحقيق حسن جدًّا. والله تعالى أعلم.

(ومنها): أنه استدل به عَلَى أن للمرأة مدخلا فِي القيام عَلَى أولادها، وكفالتهم، والإنفاق عليهم. (ومنها): اعتماد العرف فِي الأمور التي لا تحديد فيها منْ قبل الشرع. وَقَالَ القرطبيّ: فيه اعتبار العرف فِي الشرعيات، خلافا لمن أنكر ذلك لفظًا، وعمل به معنًى، كالشافعية كذا قَالَ، والشافعية إنما أنكروا العمل بالعرف، إذا عارضه النص الشرعي، أو لم يُرشد النص الشرعي إلى العرف.

ص: 358

[تنبيه]: قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: أشكل عَلَى بعضهم استدلال البخاريّ رحمه الله تعالى بهذا الْحَدِيث على مسألة الظفر، فِي "كتاب الإشخاص"، حيث ترجم له:"قصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه"، واستدلاله به عَلَى جواز القضاء عَلَى الغائب؛ لأن الاستدلال به عَلَى مسألة الظفر، لا تكون إلا عَلَى القول بأن مسألة هند كانت عَلَى طريق الفتوى، والاستدلال به عَلَى مسألة القضاء عَلَى الغائب، لا يكون إلا عَلَى القول بأنها كانت حكمًا.

[والجواب]: أن يقال كل حكم يصدر منْ الشارع، فإنه ينزل منزلة الإفتاء بذلك الحكم فِي مثل تلك الواقعة، فيصح الاستدلال بهذه القصة للمسألتين. انتهى "فتح" 10/ 640. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي القضاء عَلَى الغائب:

قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: منْ ادعى حقا عَلَى غائب فِي بدد آخر، وطلب منْ الحاكم سماع البينة، والحكم بها عليه، فعلى الحاكم إجابته، إذا كملت الشرائط، وبهذا قَالَ شبرمة، ومالك، والأوزاعي، والليث، وسَوّار، وأبو عبيد، وإسحاق، وابن المنذر. وكان شريح لا يرى القضاء عَلَى الغائب، وعن أحمد مثله، وبه قَالَ ابن أبي ليلى، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه، ورُوي ذلك عن القاسم، والشعبي، إلا أن أبا حنيفة قَالَ: إذا كَانَ له خصم حاضر منْ وكيل، أو شفيع جاز الحكم عليه، واحتجوا بما رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قَالَ لعلي رضي الله عنه:"إذا تقاضى إليك رجلان، فلا تقض للأول حَتَّى تسمع كلام الآخر، فإنك تدري بما تقضي"، قَالَ الترمذيّ: هَذَا حديث حسن صحيح، ولأنه قضاء لأحد الخصمين وحده فلم يجز، كما لو كَانَ الآخر فِي البلد، ولأنه يجوز أن يكون للغائب ما يبطل البينة ويقدح فيها، فلم يجز الحكم عليه.

قَالَ: ولنا أن هندا قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي، قَالَ:"خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"، متَّفقٌ عليه، فقضى لها ولم يكن حاضرا، ولأن هَذَا له بينة مسموعة عادلة، فجاز الحكم بها كما لو كَانَ الخصم حاضرا، وَقَدْ وافقنا أبو حنيفة فِي سماع البينة، ولأن ما تأخر عن سؤال المدعي إذا كَانَ حاضرا يقدم عليه إذا كَانَ غائبا، كسماع البينة، وأما حديثهم فنقول به إذا تقاضى إليه رجلان لم يجز الحكم قبل سماع كلامهما، وهذا يقتضي أن يكونا حاضرين، ويفارق الحاضر الغائب، فإن البينة لا تسمع عَلَى حاضر إلا بحضرته، والغائب بخلافه، وَقَدْ ناقض أبو حنيفة أصله، فَقَالَ: إذا جاءت امرأة، فادّعت أن لها زوجا غائبا، وله مال فِي يد رجل، وتحتاج إلى النفقة، فاعترف لها بذلك، فإن الحاكم يقضي عليه بالنفقة، ولو

ص: 359

ادعى رجل عَلَى حاضر، أنه اشترى منْ غائب ما فيه شفعة، وأقام بينة بذلك حكم له بالبيع والأخذ بالشفعة، ولو مات المدَّعَى عليه، فحضر بعض ورثته، أو حضر وكيل الغائب، وأقام المدعي بينة بذلك حكم له بما ادعاه.

إذا ثبت هَذَا فإنه إن قدم الغائب قبل الحكم وقف الحكم عَلَى حضوره، فإن جَرَحَ الشهود لم يحكم عليه، وإن استنظر الحاكم أجله ثلاثاً، فإن جرحهم وإلا حكم عليه، وإن ادعى القضاء أو الإبراء فكانت له بينة برىء، وإلا حَلّف المدعي وحكم له، وإن قدم بعد الحكم فجرح الشهود بأمر كَانَ قبل الشهادة بطل الحكم، وإن جرحهم بأمر بعد أداء الشهادة أو مطلقًا لم يبطل الحكم، ولم يقبله الحاكم؛ لأنه يجوز أن يكون بعد الحكم فلا يقدح فيه، وإن طلب التأجيل أجل ثلاثاً، فإن جرحهم وإلا نفذ الحكم، وإن ادعى القضاء أو الإبراء، فكانت له به بينة، وإلا حلف الآخر ونفذ الحكم. انتهى "المغني" 14/ 93 - 95.

وَقَالَ فِي "الفتح" فِي "كتاب الأحكام" 15/ 77 - 78: قَالَ ابن بطال: أجاز مالك، والليث، والشافعي، وأبو عبيد، وجماعة الحكم عَلَى الغائب، واستثنى ابن القاسم عن مالك ما يكون للغائب فيه حجج، كالأرض والعقار، إلا إن طالت غيبته، أو انقطع خبره، وأنكر ابن الماجشون صحة ذلك عن مالك، وَقَالَ: العمل بالمدينة عَلَى الحكم عَلَى الغائب مطلقٌ، حَتَّى لو غاب بعد أن توجه عليه الحكم، قُضي عليه، وَقَالَ ابن أبي ليلى، وأبو حنيفة: لا يُقضَي عَلَى الغائب مطلقًا، وأما منْ هرب، أو استتر بعد إقامة البينة، فينادي القاضي عليه ثلاثاً، فإن جاء وإلا أنفذ الحكم عليه، وَقَالَ ابن قدامة أجازه أيضاً ابن شُبْرمة، والأوزاعي، وإسحاق، وهو أحد الروايتين عن أحمد، ومنعه أيضاً الشعبي، والثوري، وهي الرواية الأخرى عن أحمد، قَالَ: واستثنى أبو حنيفة منْ له وكيل مثلا، فيجوز الحكم عليه بعد الدعوى عَلَى وكيله، واحتج منْ منع بحديث عليّ رضي الله عنه رفعه:"لا تَقْضِي لأحد الخصمين حَتَّى تسمع منْ الآخر"، وهو حديث حسن أخرجه أبو داود، والترمذي، وغيرهما، وبحديث الأمر بالمساواة بين الخصمين، وبأنه لو حضر لم تسمع بينة المدعي حَتَّى يسال المدعى عليه، فإذا غاب فلا تسمع، وبأنه لو جاز الحكم مع غيبته لم يكن الحضور واجبا عليه. وأجاب منْ أجاز بأن ذلك كله لا يمنع الحكم عَلَى الغائب؛ لأن حجته إذا حضر قائمة، فتُسمع، ويعمل بمقتضاها، ولو أدى إلى نقض الحكم السابق، وحديث عليّ رضي الله عنه محمول عَلَى الحاضرين. وَقَالَ ابن العربي: حديث عليّ إنما هو مع إمكان السماع، فاما مع تعذره بمغيب، فلا يمنع الحكم كما لو تعذر بإغماء، أو جنون، أو حجر، أو صغر، وَقَدْ عمل الحنفية بذلك فِي الشفعة، والحكم عَلَى منْ عنده للغائب مال أن يدفع منه نفقة زوج الغائب، ثم ذكر

ص: 360

البخاريّ حديث عائشة رضي الله تعالى عنها فِي قصة هند، وَقَدْ احتج بها الشافعيّ، وجماعة لجواز القضاء عَلَى الغائب. وتُعُقّب بأن أبا سفيان كَانَ حاضرا فِي البلد.

وَقَالَ فِي "الفتح" أيضًا فِي "كتاب النفقات" 10/ 639 - 640 ما حاصله: استدل به الخطّابيّ عَلَى جواز القضاء عَلَى الغائب، وقد ترجم البخاريّ فِي "كتاب الأحكام":"القضاء عَلَى الغائب"، وأورد هَذَا الْحَدِيث منْ طريق سفيان الثوري، عن هشام بلفظ:"إن أبا سفيان رجل شحيح، فأحتاج أن أخذ منْ ماله، قَالَ: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"، وذكر النوويّ أن جمعا منْ العلماء منْ أصحاب الشافعيّ، ومن غيرهم استدلوا بهذا الْحَدِيث لذلك، حَتَّى قَالَ الرافعي فِي القضاء عَلَى الغائب: احتج أصحابنا عَلَى الحنفية فِي منعهم القضاء عَلَى الغائب بقصة هند، وكان ذلك قضاء منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى زوجها، وهو غائب، قَالَ النوويّ: ولا يصح الاستدلال؛ لأن هذه القصة كانت بمكة، وكان أبو سفيان حاضرا بها، وشرط القضاء عَلَى الغائب، أن يكون غائبا عن البلد، أو مستترا لا يُقدر عليه، أو متعززا، ولم يكن هَذَا الشرط فِي أبي سفيان موجودا، فلا يكون قضاء عَلَى الغائب، بل هو إفتاء، وَقَدْ وقع فِي كلام الرافعي فِي عدة مواضع: أنه كَانَ إفتاء انتهى.

واستدل بعضهم عَلَى أنه كَانَ غائبا بقول هند: لا يعطيني، إذ لو كَانَ حاضرا لقالت: لا ينفق عليّ؛ لأن الزوج هو الذي يباشر الإنفاق، وهذا ضعيف؛ لجواز أن يكون عادته أن يعطيها جملة، ويأذن لها فِي الإنفاق مفرقا، نعم قول النوويّ: إن أبا سفيان كَانَ حاضرا بمكة حق، وَقَدْ سبقه إلى الجزم بذلك السهيلي، بل أورد أخص منْ ذلك، وهو أن أبا سفيان كَانَ جالسا معها فِي المجلس، لكن لم يسق إسناده، قَالَ الحافظ: وَقَدْ ظَفِرت به فِي "طبقات ابن سعد" أخرجه بسند رجاله رجال الصحيح، إلا أنه مرسل عن الشعبي: أن هندا لما بايعت، وجاء قوله:"ولا يسرقن"، قالت: قد كنت أصبت منْ مال أبي سفيان، فَقَالَ أبو سفيان: فما أصبت منْ مالي لْهو حلال لك". قَالَ: ويمكن تعدد القصة، وأن هَذَا وقع لما بايعت، ثم جاءت مرة أخرى، فسألت عن الحكم، وتكون فهمت منْ الأول إحلال أبي سفيان لها ما مضى، فسألت عفا يُستقبل، لكن يشكل عَلَى ذلك ما أخرجه ابن منده فِي "المعرفة" منْ طريق عبد الله بن محمد بن زاذان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قَالَ: قالت هند لأبي سفيان: إني أريد أن أبايع، قَالَ: فإن فعلت فاذهبي معك برجل منْ قومك، فذهبت إلى عثمان، فذهب معها، فدخلت منتقبة، فَقَالَ: "بايعي أن لا تشركي

" الْحَدِيث، وفيه: فلما فرغت، قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل بخيل

الْحَدِيث، قَالَ: ما تقول: يا أبا سفيان؟ قَالَ: أما يابسا فلا، وأما رطبا فأحله،، وذكر أبو نعيم فِي "المعرفة" أن عبد الله تفرد به بهذا

ص: 361

السياق، وهو ضعيف، وأول حديثه يقتضي أن أبا سفيان لم يكن معها، وآخره يدلّ عَلَى أنه كَانَ حاضرا، لكن يحتمل أن يكون كل منهما توجه وحده، أو أرسل إليه لما اشتكت منه، ويؤيد هَذَا الاحتمال الثاني، ما أخرجه الحاكم فِي "تفسير الممتحنة" منْ "المستدرك" عن فاطمة بنت عتبة، أن أبا حذيفة بن عتبة ذهب بها، وبأختها هند يبايعان، فلما اشترط:"ولا يسرقن"، قالت هند: لا أبايعك عَلَى السرقة، إني أسرق منْ زوجي، فكفّ، حَتَّى أرسل إلى أبي سفيان يتحلل لها منه، فَقَالَ: أما الرطب فنعم، وأما اليابس فلا.

قَالَ الحافظ: والذي يظهر لي أن البخاريّ لم يرد أن قصة هند كانت قضاء عَلَى أبي سفيان، وهو غائب، بل استدل بها عَلَى صحة القضاء عَلَى الغائب، ولو لم يكن ذلك قضاء عَلَى غائب بشرطه، بل لما كَانَ أبو سفيان غير حاضر معها فِي المجلس، وأذن لها أن تأخذ منْ ماله بغير إذنه قدر كفايتها، كَانَ فِي ذلك نوع قضاء عَلَى الغائب، فيحتاج منْ منعه أن يجيب عن هَذَا.

وقد انبنى عَلَى هَذَا خلاف يتفرع منه، وهو أن الأب إذا غاب، أو امتنع منْ الإنفاق عَلَى ولده الصغير، أذن القاضي للأم إذا كانت فيها أهلية ذلك فِي الأخذ منْ مال الأب، إن أمكن، أو فِي الاستقراض عليه، والإنفاق عَلَى الصغير، وهل لها الاستقلال بذلك بغير إذن القاضي وجهان، ينبنيان عَلَى الخلاف فِي قصة هند، فإن كانت إفتاءً جاز لها الأخذ بغير إذن، وإن كانت قضاء، فلا يجوز إلا بإذن القاضي.

ومما رُجّح به أنه كَانَ قضاء لا فتيا التعبير بصفة الأمر، حيث قَالَ لها:"خذي"، ولو كَانَ فتيا لقال مثلا: لا حرج عليك، إذا أخذت، ولأن الأغلب منْ تصرفاته صلى الله عليه وسلم إنما هو الحكم.

ومما رُجّح به أنه كَانَ فتوى، وقوع الاستفهام فِي القصة فِي قولها:"هل عليّ جناح"، ولأنه فَوّض تقدير الاستحقاق إليها، ولو كَانَ قضاء لم يفوضه إلى المدعي، ولأنه لم يستحلفها عَلَى ما ادعته، ولا كلفها البينة.

والجواب أن فِي ترك تحليفها، أو تكليفها البينة حجةً لمن أجاز للقاضي أن يحكم بعلمه، فكأنه صلى الله عليه وسلم علم صدقها فِي كل ما ادعت به، وعن الاستفهام أنه لا استحالة فيه منْ طالب الحكم، وعن تفويض قدر الاستحقاق أن المراد الموكول إلى العرف، كما تقدّم. انتهى ما فِي "الفتح" كتاب النفقات" 10/ 369 - 640.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأرجح ما ذهب إليه الجمهور منْ جواز القضاء عَلَى الغائب، وأن الاستدلال بحديث الباب صحيح، كما صنعه البخاريّ، والمصنّف، وقبلهما الشافعيّ رحمهم الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 362

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌32 - (النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَقْضِيَ فِي قَضَاءٍ بِقَضَاءَيْنِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: معنى قوله: "فِي قضاء": أي فِي أمر واحد، كما جاء فِي بعض طرق الْحَدِيث. وقوله:"بقضاءين": أي بحكم متناقضين، بأن يحكم بلزوم الدين وسقوطه مثلاً؛ إذ المقصود منْ نصب القضاة قطع النزاع، ولا ينقطع بمثل هَذَا القضاء، والمراد أن يكون القاضي عَلَى تثبّت منْ حكمه، بأن يراعي القضيّة، ويدرسها منْ جميع جوانبها، حَتَّى لا يقع فِي تناقض، فينظر بين البيّنات، فإذا اختلفت سلك مسلك الترجيح بينها، وعمل بما يترجّح لديه، ويلغي سائرها. والله تعالى أعلم بالصواب.

5423 -

(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُبَشِّرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، وَكَانَ عَامِلاً عَلَى سِجِسْتَانَ، قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَقْضِيَنَّ أَحَدٌ فِي قَضَاءٍ بِقَضَاءَيْنِ، وَلَا يَقْضِي أَحَدٌ بَيْنَ خَصْمَيْنِ، وَهُوَ غَضْبَانُ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ جَعْفَرٍ": هو أبو عليّ النيسابوريّ الثقة الفقيه [10] منْ أفراد البخاريّ، والمصنّف. و"مُبَشِّرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ": هو أبو بكر النيسابوريّ الثقة، منْ كبار [9] منْ أفراد المصنّف. و"سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ": هو الواسطيّ الثقة باتفاقهم فِي غير الزهريّ [7]. و"جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ": هو ابن أبي وحشيّة الواسطيّ الثقة [5]. و"عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ": هو الثقفيّ الكوفيّ الثقة [2].

وقوله: "وكان عاملًا عَلَى سجستان الخ": ظاهر هَذَا أن الضمير لعبد الرحمن، وهو مخالف لما سبق فِي 18/ 5408 منْ أن العامل عَلَى سجستان هو أخوه عبيد الله، وهو الذي كتب إليه أبو بكرة والده، وعبد الرحمن هو الكاتب، وهو الذي فِي الرواية المتقدّمة للمصنّف بالرقم المذكور، وهو الذي فِي "الصحيحين"، والظاهر أن هذه الرواية شاذة، والمحفوظ ما فِي "الصحيحين"، ويحتمل عَلَى بعد أن يتولّى عبد الرحمن

ص: 363

بعد أخيه أو قبله، ويكتب إليه أبوه مرّة أخرى. والله تعالى أعلم.

والحديث بهذا السياق تفرّد به المصنّف، وَقَدْ تقدّم فِي 18/ 5408 منْ رواية عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بلفظ:"لا يحكم أحد بين اثنين، وهو غضبان"، وهو متّفقٌ عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌33 - (مَا يَقْطَعُ الْقَضَاءُ)

أي هَذَا باب ذكر الْحَدِيث الدالّ عَلَى حكم الشيء الذي يقطعه القضاء منْ مال الخصم لخصمه، فـ"ما" موصولة، وصلته قوله:"يقطع" بالبناء للفاعل، والعائد محذوف: أي يقطعه، و"القضاء" بالرفع عَلَى الفاعلية. والله تعالى أعلم بالصواب.

5424 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَإِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمَا عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي 13/ 5403 ومضى شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد، واستدلال المصنّف رحمه الله تعالى عَلَى ما ترجم له واضح فِي قوله:"فمن قضيت له منْ حقّ أخيه شيئًا، فإنما أقطع له قطعة منْ النار"، حيث إن فيه بيان حكم ما يقطعه القضاءُ، وهو الحرمة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 364

‌34 - (بَابُ الأَلَدِّ الْخَصِمِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الألدّ"،: الشديد اللدد: أي الجدال، مشتقّ منْ اللديدين، وهما صفحتا العنق، والمعنى منْ أي جانب أخذ منْ الخصومة قوي، وقيل: غير ذلك فِي معناه، وسيأتي قريبًا، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب.

5425 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ ح وَأَنْبَأَنَا

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الْخَصِمُ").

رجال هَذَا الإسناد: ثمانية:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ) الْجَوّاز المكيّ، ثقة [10] 20/ 21.

2 -

(سفيان) بن عيينة الهلالي مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقة ثبت حجة [8] 1/ 1.

3 -

(ابن جريج) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقة فقيه فاضل، يدلس ويرسل [6] 28/ 32.

4 -

(ابن أبي مُليكة) هو عبد الله بن عُبيد الله بن أبي مليكة/ زهير بن عبد الله بن جُدعان الثقة الفقيه [3] 101/ 132. والباقون تُرجموا قبل بابين. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه الثاني، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بثقات المكيين. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، أنها (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ) قَالَ الكرمانيّ رحمه الله تعالى: الأبغض هو الكافر، فمعنى الْحَدِيث: أبغض الرجال الكفّار: الكافر المعاند، أو أبغض الرجال المخاصمين. قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: والثاني هو المعتمد، وهو أعمّ منْ أن يكون كافرًا، أو

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 365

مسلمًا، فإن كَانَ كافرًا، فأفعل التفضيل فِي حقّه عَلَى حقيقتها فِي العموم، وإن كَانَ مسلمًا، فسبب البغض أن كثرة المخاصمة تُفضي غالبًا إلى ما يُذمّ صاحبه، أو يخصّ فِي حقّ المسلمين بمن يُخاصم فِي باطل، ويشهد للأول حديث:"كفى بك إثمًا أن لا تزال مخاصمًا"، أخرجه الطبرانيّ، عن أبي أُمامة بسند ضعيف، وورد الترغيب فِي ترك المخاصمة، فعند أبي داود منْ طريق سليمان بن حبيب، عن أبي أُمامة رضي الله عنه، رفعه:"أنا زعيم ببيت فِي رَبَض الجنّة لمن ترك المراء، وإن كَانَ محقًا"، وله شاهد عند الطبرانيّ منْ حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. و"الربض" -بفتح الراء، والموحّدة، بعدها ضاد معجمة: الأسفل. انتهى "فتح " 15/ 89. (إِلَى اللهِ الْأَلدُّ الْخَصِمُ) بفتح المعجمة، وكسر الصاد المهمدة: فسره البخاريّ رحمه الله تعالى بأنه الدائم الخصومة.

وَقَالَ ابن المنيّر رحمه الله تعالى: "الألدّ": مشتقّ منْ اللدد، وهو الاعوجاج والانحراف عن الحقّ، وأصله منْ اللديد، وهو جانب الوادي، ويُطلق عَلَى جانب الفم، ومنه "اللدود"، وهو صبّ الدواء منحرفًا عن وسط الفم إلى جانبه. انتهى "فتح" 15/ 88 - 89.

وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: "الألد الخصم" -هو بفتح الخاء، وكسر الصاد، و"الألدّ": شديد الخصومة، مأخوذ منْ لديدي الوادي، وهما جانباه؛ لأنه كلما احتُجّ عليه بحجة، أخذ فِي جانب آخر. وأما "الخصم": فهو الحاذق بالخصومة، والمذموم هو الخصومة بالباطل فِي رفع حقّ، أو إثبات باطل. انتهى "شرح مسلم" 16/ 219.

وَقَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: "الألد الخصم": الرواية "الْخَصْمُ" -بسكون الصاد- وَقَدْ قيّده بعضهم بكسرها، وكلاهما اسم للمخاصم، غير أن الذي بالسكون هو مصدر فِي الأصل، وُضع موضع الاسم، ولذلك يكون فِي المذكّر والمؤنّث، والتثنية، والجمع بلفظ واحد فِي الأكثر، ومن العرب منْ يُثنّيه، ويَجمعه؛ لأنه يذهب به مذهب الاسم، وَقَدْ جاءت اللغتان فِي كتاب الله تعالى، قَالَ الله تعالى:{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21] ثم قَالَ: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22]. فأما الذي بالكسر، فهو الشديد الخصومة. و"الألدّ": هو الشديد الخصومة، مأخوذ منْ اللديدين، وهما جانبا الوادي؛ لأنه كلما أُخذ عليه جانب أخذ فِي جانب آخر. وقيل: لإعماله لديديه، وهو صفحتا عنقه عند خصومته. وكان حكم "الألدّ" أن يكون تابعًا للـ"خصم"؛ لأن "الألدّ" صفة، و"الخصم" اسم، لكن لما كَانَ الخصم مصدرًا فِي الأصل، وكان "الألدّ" صفة مشهورة عُكس الأمر، فجُعل التابع متبوعًا، وهذا عَلَى نحو قوله تعالى:{وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر:27] وإنما يُقال: أسود

ص: 366

غِرْبيب. انتهى "المفهم" 6/ 689 - 690. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -34/ 5425 - وفي "الكبرى" 38/ 5986. وأخرجه (خ) فِي "المظالم والغصب" 2457 و"التفسير" 4523 و"الأحكام" 7188 (م) فِي "العلم" 2668 (ت) فِي "التفسير" 2976 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 2375 و23822 و25176. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان ذمّ شدّة الخصومة، والمراد به الخصومة فِي دفع الحقّ، أو إثبات الباطل، كما سبق فِي كلام النوويّ رحمه الله تعالى. وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى فِي "المفهم" 6/ 690: هَذَا الخصم المبغوض عند الله تعالى هو الذي يقصد بخصومته مدافعة الحق، ورده بالأوجه الفاسدة، والشُّبَهِ الموهمة، وأشد ذلك الخصومة فِي أصول الدين، كخصومة أكثر المتكلمين، المعرضين عن الطرق التي أرشد إليها كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسلف أمته إلى طُرُق مبتدعة، واصطلاحات مخترعة، وقوانين جدلية، وأمور صناعية، مدار أكثرها عَلَى مباحث سوفسطائية، أو مناقشات لفظية، تَرِد بسببها عَلَى الآخذ فيها شُبَهٌ، ربما يَعجَز عنها، وشكوك يذهب الإيمان معها، وأحسنهم انفصالا عنها أجدلهم، لا أعلمهم، فكم منْ عالم بفساد الشبهة لا يقوى عَلَى حَلِّها، وكم منْ منفصل عنها لا يدرك حقيقة علمها، ثم إن هؤلاء المتِكلّمين قد ارتكبوا أنواعا منْ المحال، لا يرتضيها الْبُلْهُ، ولا الأطفال، لَمّا بحثوا عن تَحيُّز الجواهر، والألوان، والأحوال

إلى آخر كلامه الذي نقلته برمّته فيما سبق منْ هَذَا الشرح فِي "كتاب الإيمان"، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 367

‌35 - (الْقَضَاءُ فِيمَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر منْ ترجمة المصنّف رحمه الله تعالى هذه أنه يرى أن المتخاصمين إذا لم تكن لهما بيّنة، يقضى بينهما نصفين دون استحلاف، وهو ظاهر الْحَدِيث، لكن إن صحّ الإجماع -كما هو ظاهر كلام الموفّق فِي "المغني" الآتي فِي المسألة الثالثة- عَلَى أن كلّ واحد منهما يحلف لصاحبه، فيؤول ما اقتضاه ظاهر كلام المصنّف عَلَى أنه مع استحلاف كل منهما، وإن لم يصح الإجماع، فهو عَلَى ظاهره؛ لظاهر الْحَدِيث. والله تعالى أعلم بالصواب.

5426 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي دَابَّةٍ، لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، فَقَضَى بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ).

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلاّس الصيرفيّ البصريّ، ثقة حافظ [10] 4/ 4.

2 -

(عبد الأعلى) بن عبد الأعلى الساميّ، أبو محمد البصريّ، ثقة [8] 20/ 386.

3 -

(سعيد) بن أبي عروبة مِهْرَان البصريّ، ثقة ثبت، اختلط بآخره، ويدلّس [6] 34/ 38.

4 -

(قتادة) بن دِعامة السدوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقة ثبت يدلّس [4] 30/ 34.

5 -

(سعيد بن أبي بردة) الأشعريّ الكوفيّ، ثقة ثبت [5] 56/ 2538.

6 -

(أبوه) أبو بردة بن أبي موسى الأشعريّ، اسمه عامر، وقيل: الحارث، وقيل: اسمه كنيته الكوفيّ الثقة [3] 3/ 3.

7 -

(أبو موسى) عبد الله بن قيس بن سُليم بن حضّار الأشعريّ الصحابيّ الشهير رضي الله عنه مات سنة (50) وقيل: بعدها، تقدّمت ترجمته فِي 3/ 3. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى قتادة، وبعده بالكوفيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وهو منْ رواية الأكابر عن الأصاغر، فإن قتادة منْ الطبقة الرابعة، وسعيدًا منْ الخامسة، وفيه رواية الابن عن أبيه. والله تعالى أعلم.

ص: 368

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي مُوسَى) رضي الله تعالى عنه (أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي دَابَّةٍ) أي ملكها، بأن ادّعى كلّ منهما أنها ملكه. ولفظ أبي داود:"أن رجلين ادّعيا بعيرًا، أو دابّة"(لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ) قَالَ فِي "فتح الودود": أي بعينه، بل لهما، أو لا بيّنة أصلاً. انتهى "عون المعبود" 10/ 29. وَقَالَ السنديّ: كناية عن عدم رجحان أحدهما عَلَى الآخر بأن لا تكون فِي يد أحدهما، أو تكون فِي يدهما جميعًا. انتهى (فَقَضَى بَهِا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ) قسمها بينهما نصفين. قَالَ الخطّابيّ رحمه الله تعالى: يُشبه أن يكون هَذَا البعير، أو الدّابّة كَانَ فِي أيديهما معًا، فجعله النبيّ صلى الله عليه وسلم بينهما؛ لاستوائهما فِي الملك باليد، ولولا ذلك لم يكونا بنفس الدعوى يستحقّانه لو كَانَ الشيء فِي يد غيرهما. انتهى. قَالَ القاري: أو فِي يد ثالث، غير منازع لهما. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله تعالى عنه هَذَا صحيح، وَقَالَ المصنّف رحمه الله تعالى فِي "الكبرى" 3/ 487 بعد أن أخرجه: ما نصه: قَالَ أبو عبد الرحمن: إسناد هَذَا الْحَدِيث جيّد. انتهى.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه عنعنة سعيد، وقتادة، وهما مدلّسان؟.

[قلت]: لم ينفرد به سعيد، بل تابعه شعبة، وهو لا يروي عن شيوخه المدلسين إلا ما صرّحوا بسماعه، فقد أخرج الْحَدِيث الإِمام أحمد رحمه الله تعالى فِي "مسنده" 4/ 402 فَقَالَ: حدّثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبي بردة، عن أبيه:"أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي دابّة، ليس لواحد منهما بيّنة، فجعله بينهما نصفين". والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: ضعّف الشيخ الألبانيّ هَذَا الْحَدِيث، فأرده فِي "ضعيف سنن النسائيّ" ص 236، وفي كتابه "إرواء الغليل" 8/ 273، وأعله بالاضطراب سندًّا ومتنًا، لكن الذي يظهر لي أن سند المصنّف صحيح، كما أشار إليه المصنّف فِي كلامه السابق؛ فقد اتفق شعبة وسعيد بن أبي عروبة عَلَى وصله، وأما الاختلاف فِي متنه، فيرجّح ما اتفقا عليه أيضًا. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

ص: 369

أخرجه هنا -35/ 5426 - وفي "الكبرى" 45/ 5997 و5998. وأخرجه (د) فِي "الأقضية" 3612 (ق) فِي "الأحكام" 2330 (أحمد) فِي "مسند الكوفيين" 19106. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فيما إذا تنازع رجلان فِي عين فِي أيديهما:

قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: ما خلاصته: إذا تنازع رجلان فِي عين فِي أيديهما، فادعى كل واحد منهما أنها ملكه دون صاحبه، ولم تكن لهما بينة، حَلَف كل واحد منهما لصاحبه، وجُعلت بينهما نصفين، لا نعلم فِي هَذَا خلافا؛ لأن يد كل واحد منهما عَلَى نصفها، والقول قول صاحب اليد مع يمينه، وإن نكلا جميعاً عن اليمين، فهي بينهما أيضاً؛ لأن كل واحد منهما يستحق ما فِي يد الآخر بنكوله، وإن نكل أحدهما، وحَلَفَ الآخر قُضي له بجميعها؛ لأنه يستحق ما فِي يده بيمينه، وما فِي يد صاحبه إما بنكوله، وإما بيمينه التي رُدّت عليه عند نكول صاحبه، وإن كانت لإحداهما بينة دون الآخر حُكم له بهل، لا نعلم فِي هَذَا خلافا، وإن أقام كل واحد منهما بينة، وتساوتا تعارضت البينتان، وقُسمت العين بينهما نصفين، وبهذا قَالَ الشافعيّ، وأبو ثور، وأصحاب الرأي؛ لما رَوَى أبو موسى رضي الله عنه:"أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي بعير، فأقام كل واحد منهما شاهدين، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبعير بينهما نصفين"، رواه أبو داود

(1)

ولأن كل واحد منهما داخل فِي نصف العين، خارج عن نصفها، فتُقدم بينة كل واحد منهما فيما فِي يده عند منْ يقدم بينة الداخل، وفيما فِي يد صاحبه عند منْ يقدم بينة الخارج، فيستويان عَلَى كل واحد منْ القولين. وذكر أبو الخطاب فيها رواية أخرى: أنه يُقرَع بينهما، فمن خرجت قرعته حُلِّف أنها لا حق للآخر فيها، وكانت اليمين له، كما لو كانت فِي يد غيرهما، والأول أصح؛ للخبر

(2)

والمعنى.

واختلفت الرواية هل يُحلَّف كل منهما عَلَى النصف المحكوم له به، أو يكون له منْ غير يمين، فرُوي أنه يحلف، وهذا ذكره الخرقي؛ لأن البينتين لما تعارضتا منْ غير ترجيح وجب إسقاطها، كالخبرين إذا تعارضا وتساويا، وإذا سقطا صار المختلفان كمن لا بينة لهما، ويحلف كل واحد منهما عَلَى النصف المحكوم له به، وهذا أحد قولي الشافعيّ بناءً عَلَى أن اليمين تجب عَلَى الداخل مع بينته، وكل واحد منهما داخل فِي

(1)

لكن الْحَدِيث ضعيف؛ للاضطراب بالإرسال والوصل، ولأن الصحيح بلفظ:"ليس لأحدهما بيّنة"، كما هو فِي رواية المصنّف فِي الباب.

(2)

قد عرفت أن الخبر لا يصحّ، فتنبّه.

ص: 370

نصفها، فيحكم له به ببينته، ويحلف معها فِي أحد القولين، والرواية الأخرى أن العين تقسم بينهما منْ غير يمين، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأحد قولي الشافعيّ، وهو أصح؛ للخبر، والمعنى الذي ذكرناه. انتهى "المغني" 14/ 285 - 286. وهو بحث نفيس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌36 - (عِظَةُ الْحَاكِمِ عَلَى الْيَمِينِ)

5427 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: كَانَتْ جَارِيَتَانِ تَخْرُزَانِ بِالطَّائِفِ، فَخَرَجَتْ إِحْدَاهُمَا، وَيَدُهَا تَدْمَى، فَزَعَمَتْ أَنَّ صَاحِبَتَهَا أَصَابَتْهَا، وَأَنْكَرَتِ الأُخْرَى، فَكَتَبْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَضَى أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ أُعْطُوا بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى نَاسٌ أَمْوَالَ نَاسٍ وَدِمَاءَهُمْ، فَادْعُهَا، وَاتْلُ عَلَيْهَا هَذِهِ الآيَةَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ} [آل عمران: 77] حَتَّى خَتَمَ الآيَةَ، فَدَعَوْتُهَا، فَتَلَوْتُ عَلَيْهَا، فَاعْتَرَفَتْ بِذَلِكَ، فَسَرَّهُ).

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(عليّ بن سعيد بن مسروق) الكنديّ الكوفيّ، صدوقٌ [10] 34/ 4804 منْ أفراد المصنّف، والترمذيّ.

2 -

(يحيى بن أبي زائدة) هو يحيى بن زكريّا بن أبي زائدة الهمدنيّ الكوفيّ، ثقة متقنٌ، منْ كبار [9] 93/ 115.

3 -

(نافع بن عمر) بن عبد الله بن جميل الْجُمَحيّ المكيّ، ثقة ثبت، منْ كبار [7] 21/ 1498.

4 -

(ابن أبي مليكة) هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة المذكور قبل باب.

5 -

(ابن عبّاس) عبد الله رضي الله تعالى عنهما 28/ 31. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم

ص: 371

رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به هو والترمذيّ. (ومنها): أنه مسلسل بالمكيين، غير شيخه، ويحيى، فكوفيان. (ومنها): أن فيه ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما منْ العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَن) عبد الله بن عُبيد الله (بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) زُهير بن عبد الله بن جُدعان، أنه (قَالَ: كَانَتْ جَارِيَتَانِ تَخْرُزَانِ) بكسر الراء، وضمها، يقال: خرزت الجلدَ خَرْزًا، منْ باب ضرب، وقتل، وهو كالخياطة فِي الثياب. قاله الفيّوميّ. (بِالطَّائِفِ) البلد المعروف، قَالَ الفيّوميّ: الطائف: بلاد الْغَوْر، وهي عَلَى ظهر جبل غَزْوَان، وهو أبرد مكان بالحجاز، والطائف بلاد ثقيف. انتهى. (فَخَرَجَت إِحْدَاهُمَا، وَيَدُهَا تَدْمَى) بفتح أوله، وثالثه، كترضَى، يقال: دَمِي الجرحُ دَمًى، منْ باب تَعِب وَدَمْيًا أيضًا عَلَى التصحيح: خرج منه الدم، فهو دَم عَلَى النقص، ويتعدّى بالألف، والتشديد. قاله فِي "المصباح"(فَزَعَمَتْ أَنَّ صَاحِبَتَهَا أَصَابَتْهَا) أي جرحتها (وَأَنْكَرَتِ الْأُخْرَى، فَكَتَبْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما، وفي رواية البيهقيّ منْ طريق عبد الله بن إدريس، عن ابن جريج، وعثمان بن الأسود، عن ابن أبي مليكة، قَالَ: كنت قاضيًا لابن الزبير عَلَى الطائف، فذكر قصّة المرأتين، فكتبت إلى ابن عبّاس، فكتب إليّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

" الْحَدِيث (فِي ذَلِكَ) أي فِي شأن حادثة المرأتين (فَكَتَبَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) يجوز فتح همزة "إن" عَلَى أنها فِي تأويل المصدر مفعول "كتب"، ويجوز كسرها، عَلَى أن الجملة هي مفعول به محكيّة (قَضَى أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) ورواه الطبراني منْ رواية سفيان، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، بلفظ: "البينة عَلَى المدعي، واليمين عَلَى المدعَى عليه"، وَقَالَ: لم يروه عن سفيان إلا الفريابي. وأخرجه الإسماعيلي منْ رواية ابن جريج، بلفظ: "ولكن البينة عَلَى الطالب، واليمين عَلَى المطلوب"، وأخرجه البيهقي منْ طريق عبد الله بن إدريس، عن ابن جريج، وعثمان ابن الأسود، عن ابن أبي مليكة: كنت قاضيا لابن الزبير عَلَى الطائف، فذكر قصة المرأتين، فكتبت إلى ابن عبّاس، فكتب إلى: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لو يُعطَى النَّاس بدعواهم لادّعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة عَلَى المدعي، واليمين عَلَى منْ أنكر"، وهذه الزيادة ليست فِي "الصحيحين"، وإسنادها حسن. ذكره فِي "الفتح" 5/ 617 فِي "كتاب الشبهات" رقم 2668.

[تنبيهان]:

(الأول): الحكمة فِي كون البينة عَلَى المدعي، واليمين عَلَى المدعى عليه، هو ما

ص: 372

بيّنه النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله صلى الله عليه وسلم: "لو يُعطَى النَّاس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال، وأموالهم".

وَقَالَ العلماء: الحكمة فِي ذلك أن جانب المدعي ضعيف؛ لأنه يقول خلاف الظاهر، فكُلّف الحجة القوية، وهي البينة؛ لأنها لا تجلب لنفسها نفعا، ولا تدفع عنها ضررا، فيقوى بها ضعف المدعي، وجانب المدعى عليه قوي؛ لأن الأصل فراغ ذمته، فاكتُفي منه باليمين، وهي حجة ضعيفة؛ لأن الحالف يجلب لنفسه النفع، ويدفع الضرر، فكان ذلك فِي غاية الحكمة.

(الثاني): اختلف الفقهاء فِي تعريف المدّعِي، والمدّعَى عليه، والمشهور فيه تعريفان:[الأول]: المدعي منْ يخالف قولُه الظاهرَ، والمدعَى عليه بخلافه. [والثاني]: المدعي منْ إذا سكت تُرك وسكوتَهُ، والمدعَى عليه منْ لا يُخَلَّى إذا سكت، والأول أشهر، والثاني أسلم، وَقَدْ أورد عَلَى الأول بأن المودَع إذا ادّعى الردّ، أو التلف، فإن دعواه تخالف الظاهر، ومع ذلك فالقول قوله، وقيل: فِي تعريفهما غير ذلك. قاله فِي "الفتح" 5/ 617.

(وَلَوْ أنَّ النَّاسَ أُعْطوا) بضم الهمزة، والطاء، وأصله: أعطِيُوا، كأُكرموا، فأعلّ بنقل حركة الياء إلى الطاء بعد سلب حركتها، ثم حُذفت الياء للالتقاء الساكنين (بِدَعْوَاهُمْ) متعلّق بما قبله، والباء سببيّة (لَادَّعَى نَاسٌ) قَالَ الفيّوميّ: النَّاس اسم وُضع للجمع، كالقوم، والرهط، وواحده إنسانٌ منْ غير لفظه، مشتقّ منْ ناس ينُوس: إذا تدلّى، وتحرّك، فيُطلق عَلَى الجنّ والإنس، قَالَ تعالى:{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} ، ثم فسّر النَّاس بالجنّ والإنس، فَقَالَ:{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} . انتهى (أَمْوَالَ نَاسٍ وَدِمَاءَهُمْ، فَادْعُهَا) أي المرأة المدَّعَى عليها، حَتَّى تحلف أنها ما جرحت صاحبتها (وَاتْلُ عَلَيْهَا هَذِهِ الْآيَةَ) أي اقرأ هذه الآية عَلَى المرأة قبل أن تتوجّه إلى اليمين؛ تذكيرًا لها بالوعيد عَلَى منْ يحلف كاذبًا ({إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} حَتَّى خَتَمَ الْآيَةَ) أي قرأ ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما الآية حَتَّى ختمها، وتمامها:{وَلَا يُكَلِّمُهُمُ الله وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77](فَدَعَوْتَهُا، فَتَلَوْتُ عَلَيْهَا) أي قرأت عليها الآية (فَاعْتَرَفَتْ بذَلِكَ) أي بكونها جنت عَلَى صاحبتها، يعني أنها لَمّا سمعت الوعيد المذكور فِي الآية الكريمة لمن حلف كاذبًا اتّعظت، فتركت الحلف، واعترفت بجنايتها (فَسَرَّهُ) أي فأفرح ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما ذلك؛ حيث اعترفت المرأة خوفًا منْ العقاب المترتّب عَلَى يمينها كاذبة لو حلفت. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه

ص: 373

المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -36/ 5427 - وفي "الكبرى" 43/ 5994 قَالَ -43 - "عَلَى منْ اليمين" -5994 - أخبرنا محمد بن عبد الأعلى، قَالَ: ثنا خالد، قَالَ: ثنا ابن جريج، قَالَ: سمعت ابن أبي مليكة، قَالَ: أرسلت إلى ابن عبّاس، فذكرت له، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أعطي النَّاس بدعواهم لادّعى ناس دماء رجال، وأموالهم، ولكن اليمين عَلَى المدّعي عليه". هَذَا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم. وأخرجه (خ) فِي "الرهن" 2514 و"الشهادات" 2668 و"التفسير" 4552 (م) فِي "الأقضية" 1711 و1712 (ت) فِي "الأحكام" 1342 (ق) فِي "الأحكام" 2321 (أحمد) فِي "مسند بني هاشم" 2280 و3177 و3417. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان مشروعيّة وعظ منْ تتوجّه عليه اليمين بهذه الآية الكريمة، ونحوها؛ ليرتدع عن الإقدام عَلَى اليمين الكاذبة، كما اتّفق لهذه المرأة، فقد اعترفت لَمّا وعظوها بالآية. (ومنها): أن فِي أمر ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما بتلاوة الآية الإشارة إلى العمل بعموم الآية، دون النظر إلى خصوص سببها، فانها كما تقدّم نزلت فِي الأشعث بن قيس رضي الله عنه كانت بينه وبين رجل أرض، فجحده إياها، وَقَدْ تقدّمت قصّته فِي "الأيمان والنذور". (ومنها): أنه استُدِلّ بقوله: "اليمين عَلَى المدعَى عليه" للجمهور بحمله عَلَى عمومه، فِي حق كل واحد، سواء كَانَ بين المدعي والمدعى عليه اختلاط أم لا، وعن مالك: لا تتوجه اليمين إلا عَلَى منْ بينه وبين المدعي اختلاط؛ لئلا يَبتَذِل أهل السَّفَه أهلَ الفضل بتحليفهم مرارا، وقريب منْ مذهب مالك قول الإصطخري منْ الشافعيّة: إن قرائن الحال إذا شهدت بكذب المدعي، لم يُلتفت إلى دعواه.

(ومنها): أنه استُدِلّ بقوله: "لادّعَى ناس دماء ناس وأموالهم" عَلَى إبطال قول المالكية فِي التدمية، ووجه الدلالة تسويته صلى الله عليه وسلم بين الدماء والأموال. [وأجيب]: بأنهم لم يُسندوا القصاص مثلا إلى قول المدعي، بل للقسامة، فيكون قوله ذلك لَوْثًا يقوي جانب المدعي فِي بداءته بالأيمان. ذكره فِي "الفتح" 5/ 617 - 618 فِي "كتاب

ص: 374

الشهادات" رقم 2668. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌37 - (كَيْفَ يَسْتَحْلِفُ الْحَاكِمُ؟)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "يَستَحلِفُ" بالبناء للفاعل، و"الحاكم" فاعله، ومفعوله محذوف: أي منْ توجه إليه اليمين. والله تعالى أعلم بالصواب.

5428 -

(أَخْبَرَنَا سَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَرْحُومُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي نَعَامَةَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ -يَعْنِي مِنْ أَصْحَابِهِ- فَقَالَ: "مَا أَجْلَسَكُمْ؟ "، قَالُوا: جَلَسْنَا نَدْعُو اللَّهَ، وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِدِينِهِ، وَمَنَّ عَلَيْنَا بِكَ، قَالَ: "آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ؟ "، قَالُوا: آللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلاَّ ذَلِكَ، قَالَ: "أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهَمَةً لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَتَانِي جِبْرِيلُ عليه السلام، فَأَخْبَرَنِى أَنَّ اللَّهَ عز وجل يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(سوّار بن عبد الله) أبو عبد الله التميميّ العنبريّ البصريّ، ثقة [10] 160/ 1129.

2 -

(مرحوم بن عبد العزيز) العطّار الأمويّ، أبو محمد البصريّ، ثقة [8] 25/ 3250.

3 -

(أبو نَعامة) السعديّ البصريّ، اسمه عبد ربّه، وقيل: عمرو، ثقة [6].

قَالَ ابن معين: اسمه عبد ربه. وَقَالَ ابن حبّان: قيل اسمه عمرو، رَوَى عن أبي عثمان النَّهْدي، وعبد الله بن الصامت، وأبي نضرة العبدي، ومطرف بن عبد الله بن الشِّخِّير، وشهر بن حوشب. وعنه أيوب، وأبو عامر الخزاز، ومرحوم بن عبد العزيز العطار، ومبارك بن فضالة، وشعبة، وحماد بن سلمة. قَالَ ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة. وَقَالَ أبو حاتم: لا بأس به. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ الدارقطنيّ: بصري صالح. ولَمّا أخرج الترمذيّ حديثه عن أبي عثمان، عن أبي سعيد، عن معاوية فِي "فضل مجالس الذكر"، قَالَ: حسن غريب، لا نعرفه إلا منْ هَذَا الوجه، وأبو نعامة عمرو بن عيسى. وتعقبه المزي فِي "الأطراف"، فَقَالَ: كذا قَالَ، وأبو نعامة

ص: 375

عمرو بن عيسى شيخ آخر، وهو العدوي، وأما هَذَا فهو السعدي، واسمه عبد ربه، فجزم بذلك فِي أنه حَكَى عن ابن حِبّان ما يقتضي أنه اختُلف فيه. رَوَى له الجماعة، سوى البخاريّ، وابن ماجه، وله عندهم هَذَا الْحَدِيث فقط.

4 -

(أبو عثمان النَّهْديّ) -بفتح النون، وسكون الهاء- عبد الرحمن بن ملّ -مثلّث الميم، والسلام مشدّدة- الكوفيّ، مخضرم ثقة، منْ كبار [2] 11/ 641.

5 -

(أبو سعيد الخدريّ) سعد بن مالك بن سنان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله تعالى عنهما 169/ 262.

6 -

(معاوية) بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أميّة الأمويّ، أبو عبد الرحمن الخليفة، أسلم قبل الفتح، وكتب الوحي للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ومات فِي رَجَب سنة (60)، وَقَدْ قارب الثمانين، وتقدم فِي 286/ 294. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، سوى شيخه، فقد تفرد به هو وأبو داود، والترمذيّ. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى أبي نعامة. (ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله تعالى عنه (قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ) بن أبي سفيان رضي الله عنه) ـما (إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، خَرَجَ) وفي رواية مسلم: "عن أبي سعيد الخدريّ، قَالَ: خرج معاوية عَلَى حلقة فِي المسجد، فَقَالَ: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، قَالَ: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: ولله ما أجلسنا إلا ذاك، قَالَ: أما إني لم أستحلفكم تُهْمَةً دكم، وما كَانَ أحدٌ بمنزلتي منْ رسول الله صلى الله عليه وسلم أقلّ عنه حديثًا منّي، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عَلَى حلقة

" الْحَدِيث (عَلَى حَلْقَةٍ) بفتح، فسكون (يَعْنِي مِنْ أَصْحَابِهِ) العناية منْ بعض الرواة، وفي رواية مسلم، والترمذيّ: "خرج عَلَى حلقة منْ أصحابه" بدون "يعني" (فَقَالَ: "مَا أَجْلَسَكُمْ؟) "ما" استفهاميّة، والمعنى: ما السبب الذي جعلكم جالسين هاهنا (قَالُوا: جَلَسْنَا نَدْعُو اللهَ، وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِدِينِهِ) كما حكى الله تعالى عن قول أهل دار السلام: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا الله} [الأعراف: 43] الآية (وَمَنَّ عَلَيْنَا) منْ بين الأنام (بِكَ) أي ببعثتك؛ لأنه الرحمة المهداة منْ الله تعالى، كما قَالَ عز وجل:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107](قَالَ) صلى الله عليه وسلم (آلله) بهمزة ممدودة، هي عوض منْ باء القسم. قَالَ السيّد

ص: 376

جمال الدين: قيل: الصواب بالجر لقول المحقّق الشريف فِي "حاشيته": همزة استفهام وقعت بدلاً عن حرف القسم، ويجب الجرّ معها. انتهى. وكذا صحّح فِي أصل سماعنا منْ "المشكاة"، ومن "صحيح مسلم". ووقع فِي بعض نسخ "المشكاة" بالنصب. انتهى كلامه. وَقَالَ الطيبيّ: قيل: "الله" بالنصب: أي أتُقسمون بالله، فحُذف الجارّ، وأُوصل الفعل، ثم حُذف الفعل. كذا فِي "المرقاة"، قاله فِي "تحفة الأحوذيّ" 9/ 261 (مَا أَجْلَسَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ؟) أي ما جلستم لشيء دنيويّ (قَالُوا: آللهُ مَا أَجْلَسَنَا إِلاَّ ذَلِكَ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَمَا) أداة استفتاح وتنبيه (إِنِّي) بكسر الهمزة (لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهَمَةً لَكُمْ) بضم التاء، وفتح الهاء، وتسكّن، وَقَالَ فِي "النهاية" 1/ 201: التُّهْمة، وَقَدْ تفتح الهاء فُعْلة منْ الوهم، والتاء بدلٌ منْ الواو، واتّهَمته: أي ظننت فيه ما نُسب إليه. انتهى. أي ما أستحلفكم تهمة لكم بالكذب؛ لأنه خلاف حسن الظن بالمؤمنين. قَالَ الطيبيّ: أي فأردت أن أتحقّق ما هو السبب فِي ذلك، فالتحليف لمزيد التقرير والتأكيد، لا للتهمة، كما هو الأصل فِي وضع التحليف، فإن منْ لا يُتّهم لا يُحلّف. انتهى. (وَإِنَّمَا أتَانِي جِبْرِيلُ عليه السلام، فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللهَ عز وجل يُبَاهِي بكُمُ الْمَلَاِئكَةَ") أي يفاخر بكم إياهم. وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: معناه: يُظهر فضلكم لهم، ويُريهم حسن عملكم، ويُثني عليكم عندهم، وأصل البهاء: الحسن والجمال، وفلانٌ يباهي بماله: أي يفخر، ويتجمّل به عَلَى غيره، ويُظهر حسنه لهم. انتهى. وَقَالَ المباركفوريّ رحمه الله تعالى: قيل: معنى المباهاة بهم أن الله تعالى يقول لملائكته: انظروا إلى عبيدي هؤلاء، كيف سلّطتُ عليهم أنفسهم، وشهواتهم، وأهويتهم، والشيطان وجنوده، ومع ذلك قَوِيت همّتهم عَلَى مخالفة هذه الدواعي القويّة إلى البطالة، وترك العبادة والذكر، فاستحقّوا أن يُمدحوا أكثر منكم؛ لأنكم لا تجدون للعبادة مشقّة بوجه، وإنما هي منكم كالتنفّس منهم، ففيها غاية الراحة، والملائمة للنفس. ذكره فِي "تحفة الأحوذيّ" 9/ 262. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث معاوية رضي الله تعالى عنه هَذَا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -37/ 5468 - ولم يخرجه فِي "الكبرى". وأخرجه (م) فِي "الذكر والدعاء" 2701 (ت) فِي "الدعوات" 2379 (أحمد) فِي "مسند الشاميين"16393. والله تعالى أعلم.

ص: 377

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان كيفيّة الاستحلاف، وهو أن يقول للمستحلَف قل: آلله ما فعدت كذا مثلًا. (ومنها): فضل الاجتماع فِي المسجد لأجل ذكر الله تعالى، وتذكّر نعمه. (ومنها): أنه ينبغي للمؤمن أن يشكر الله تعالى أن هداه للإسلام، وأن جعله منْ أمة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنه فخر لا فخر بعده، وَقَدْ أجاد منْ قَالَ، وأحسن فِي المقال:

وَمِمَّا زَادَنِي شَرَفًا وَتَيْهَا

وَكِدتُ بِأَخْمَصِي أَطَاُ الثُّرَيَّا

دُخُولِي تَحْتَ قَوْلِكَ يَا عِبَادِي

وَأَنْ صَيَّرْتَ لِي أَحْمَدَ نَبِيَّا

(ومنها): أن الله سبحانه وتعالى يباهي الملائكة بعباده الصالحين منْ بني آدم، وذلك لعظم شأنهم، حيث أقبلوا عليه سبحانه وتعالى مدافعين عنهم النفس الأمارة بالسوء، والشيطان العدوّ اللدود، وكسرهم الشهوات، فاستحقّوا بذلك الثناء عليهم فِي الملأ الأعلى، وهذا معني الْحَدِيث القدسي: "ومن ذكرني فِي ملأ ذكرته فِي ملأ خير منْ ملئه

"، متّفق عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5429 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رَأَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عليه السلام، رَجُلاً يَسْرِقُ، فَقَالَ لَهُ: أَسَرَقْتَ؟ قَالَ: لَا، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، قَالَ: عِيسَى عليه السلام: آمَنْتُ بِاللَّهِ، وَكَذَّبْتُ بَصَرِي"

(1)

).

رجال هَذَا الإسناد: سبعة:

1 -

(أحمد بن حفص) السلميّ، أبو عليّ بن أبي عمرو النيسابوريّ، صدوقٌ [11] 7/ 409 منْ أفراد البخاريّ، والمصنّف، وأبي داود.

2 -

(أبوه) حفص بن عبد الله بن راشد السلميّ، أبو عمرو النيسابوريّ، قاضيها، صدوقٌ [9] 7/ 409.

3 -

(إبراهيم بن طهمان) الخراسانيّ، نزيل مكة، ثقة يُغرب، وتكلم فيه للإرجاء، ويقال: رجع عنه [7] 7/ 409.

4 -

(موسى بن عُقبة) الأسديّ مولاهم المدنيّ، ثقة فقيه، إمام فِي المغازي [5] 96/ 122.

(1)

يوجد فِي النسخة "الهنديّة" هنا: ما نصّه: آخر كتاب "آداب القاضي".

ص: 378

5 -

(صفوان بن سُليم) أبو عبد الله الزهريّ مولاهم المدنيّ، ثقة مفتٍ عابد، رُمي بالقدر [4] 47/ 59.

6 -

(عطاء بن يسار) الهلاليّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، ثقة فاضل، صاحب مواعظ وعبادة، منْ صغار [3] 64/ 80.

7 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين منْ موسى بن عقبة، وإبراهيم خراسانيّ، ثم مكيّ، والباقيان نيسابوريان. (ومنها): أن فيه ثلاثة منْ تابعيّ المدينة يروي بعضهم عن بعض: موسى عن صفوان، عن عطاء، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أكثر منْ رَوَى الْحَدِيث فِي دهره، رَوَى (5374) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "رَأَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عليهما السلام، رَجُلًا يَسْرِقُ) بكسر الراء، منْ باب ضرب (فَقَالَ) عيسى عليه السلام (لَهُ: أَسَرَقْتَ؟ قَالَ) الرجل (لَا) أي لم أسرق (وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) وفي رواية البخاريّ: "كلّا، والذي لا إله إلا الله"، وفي رواية: "إلا هو". قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: ظاهر قول عيسى عليه السلام لهذا الرجل: سرقتَ أنه خبر عمّا فعل الرجل منْ السرقة، وكأنه حقّق السرقة عليه؛ لأنه رآه قد أخذ مالاً لغيره منْ حرز فِي خُفية. ويحتمل أن يكون مستفهمًا له عن حقيقة ذلك، فحُذفت همزة الاستفهام، وحذفها قليل. انتهى "المفهم" 6/ 179. (قَالَ: عِيسَى عليه السلام: آمَنْتُ بِاللهِ) أي بأمره أن الحالف يُصدّق إذا أمكن ذلك، أو بأنه عظيم لا ينبغي حرمان منْ توسّل باسمه إلى أمره (وَكَذَّبْتُ بَصَرِي) أي حكمت، وأظهرت خطأه.

وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: قَالَ القاضي: ظاهر الكلام صدّقت منْ حلف بالله تعالى، وكذّبت ما ظهر لي منْ ظاهر سرقته، فلعله أخذ ما له فيه حقّ، أو بإذن صاحبه، أو لم يقصد الغصب، والاستيلاء، أو ظهر له منْ مدّ يده أنه أخذ شيئاً، فلما حلف له أسقط ظنّه، ورجع عنه. انتهى "شرح مسلم" 15/ 121.

وَقَالَ الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام رحمه الله تعالى: هَذَا مشكلٌ منْ جهة أن العين لا تكذّب، وإنما يُكذّب القلب بظنّه، والذي يطابق صدقتَ أيها الرجل، فإنه لم يمض

ص: 379

لله فِي الواقعة خبرٌ، ولا ذكر، فكيف يُصَدّق؟. قَالَ:[والجواب]: أن إضافة الكذب إلى العين إضافة الفعل إلى سببه؛ لأنها سبب لاعتقاد القلب، وأما قوله:"صدق الله"، فإشارة إلى إخبار الله عز وجل بأنه حكم فِي الظاهر بما ظهر، وفي الباطن بما يظنه، وأن الظاهر إذا تبيّن خلافه تُرك. انتهى ذكره السيوطيّ فِي "زهر الربى" 8/ 250.

وفي رواية البخاريّ: "وكذّبتُ عَيْنَيَّ": قَالَ فِي "الفتح" 7/ 164: قوله: "وكذبت عيني" -بالتشديد عَلَى التثنية، ولبعضهم بالإفراد، وفي رواية المستملى:"كَذَبَتْ" بالتخفيف، وفتح الموحدة، و"عيني" بالإفراد فِي محل رفع، ووقع فِي رواية مسلم:"وكذّبتُ نفسي". قَالَ ابن التين: قَالَ عيسى عليه السلام ذلك عَلَى المبالغة فِي تصديق الحالف، وأما قوله:"وكذبت عيني"، فلم يُرد حقيقة التكذيب، وإنما أراد كذبت عيني فِي غير هَذَا، قاله ابن الجوزيّ، وفيه بُعْدٌ. وقيل: إنه أراد بالتصديق والتكذيب ظاهر الحكم، لا باطن الأمر، وإلا فالمشاهدة أعلى اليقين، فكيف يُكَذّب عينه، ويصدق قول المدعي. ويحتمل أن يكون رآه مَدّ يده إلى الشيء، فظن أنه تناوله، فلما حلف له، رجع عن ظنه. وَقَالَ القرطبيّ: ظاهر قول عيسى للرجل: سرقت أنه خبر جازم عفا فعل الرجل منْ السرقة؛ لكونه رآه أخذ مالاً منْ حرز فِي خفية، وقول الرجل كَلّا نفي لذلك، ثم أكده باليمين، وقول عيسى:"آمنت بالله، وكذبت عيني": أي صدقت منْ حلف بالله، وكذبت ما ظهر لي منْ كون الأخذ المذكور سرقة، فإنه يحتمل أن يكون الرجل أخذ ماله فيه حق، أو ما أذن له صاحبه فِي أخذه، أو أخذه ليقلبه وينظر فيه، ولم يقصد الغصب والإستيلاء، قَالَ: ويحتمل أن يكون عيسى كَانَ غير جازم بذلك، وإنما أراد استفهامه بقوله:"سرقت"، وتكون أداة الاستفهام محذوفة، وهو سائغ كثير. انتهى.

قَالَ الحافظ: واحتمال الاستفهام بعيد مع جزمه صلى الله عليه وسلم بأن عيسى رأى رجلاً يسرق، واحتمال كونه يَحِلّ له الأخذ بعيد أيضاً بهذا الجزم بعينه، والأول مأخوذ منْ كلام القاضي عياض، وَقَدْ تعقبه ابن القيم فِي كتابه "إغاثة اللهفان"، فَقَالَ: هَذَا تأويل مُتَكَلّف، والحق أن الله كَانَ فِي قلبه أجل منْ أن يحلف به أحد كاذبًا، فدار الأمر بين تهمة الحالف، وتهمة بصره، فرد التهمة إلى بصره، كما ظن آدم عليه السلام صدق إبليس لما حلف له، أنه له ناصح. قَالَ الحافظ: وليس بدون تأويل القاضي فِي التكلف، والتشبيه غير مطابق. والله أعلم.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قاله ابن القيّم رحمه الله تعالى أظهر مما قاله القاضي وغيره، ودعوى الحافظ التسوية فيه نظر، وكذا كون التشبيه غير مطابق،

ص: 380

فتأمل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -37/ 5429 - ولم يخرجه فِي "الكبرى". وأخرجه (خ) فِي "أحاديث الأنبياء" 3444 (م) فِي "الفضائل" 2368 (ق) فِي "الكفّارات" 2102 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 27371 و8750. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان كيفية الاستحلاف، وهو أن يقول الحاكم للمستحلف: قل: "لا، والله الذي لا إله إلا هو". (ومنها): أنه استُدِلّ به عَلَى درء الحد بالشبهة. (ومنها): أنه استَدلّ به منْ قَالَ بمنع القضاء بالعلم، قَالَ فِي "الفتح" 7/ 164: والراجح عند المالكية، والحنابلة منعه مطلقا، وعند الشافعيّة جوازه، إلا فِي الحدود، وهذه الصورة منْ ذلك. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: تقدّم ترجيح القول بعدم جواز قضاء القاضي بعلمه، وأن ذلك خاصّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن فيه تهمةً له، ولأن فيه تسليطًا للظلمة عَلَى حقوق النَّاس بدعوى أنهم يحكمون بعلمهم، فتبصّر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌49 - (كِتَابُ الاسْتِعَاذَةِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لعلّ المناسبة بينه وبين الكتاب الماضي، أن القضاء لَمّا كَانَ أمرًا خطِرًا كَانَ منْ حقّ منْ ابتُلي به أن يلتجىء إلى الله عز وجل، حَتَّى يعصمه منْ أخطاره، فناسب ذكر الاستعاذة بعده، والله تعالى أعلم.

و"الاستعاذة": استفعال منْ الْعَوْذ -بفتح، فسكون: وهو الالتجاء، كالعِياذ،

ص: 381

والمعاذ، والمَعَاذة، والتعوّذ. أفاده فِي "القاموس". وَقَالَ فِي "المصباح": استعذتُ بالله، وعُذْتُ به معاذًا، وعِيَاذًا: اعتصمت، وتعوّذت به، وعوّتُ الصغير بالله، وباسم الفاعل سُمّي، ومنه معوِّذ بن عفراء، والرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ، والمعوِّذتان:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}؛ لأنهما عَوَّذَتا صاحبهما: أي عصمتاه منْ كلّ سوء، وباسم المفعول سُمّي، ومنه مُعاذ بن جبل. انتهى.

وَقَالَ القاضي عياض رحمه الله تعالى: استعاذته صلى الله عليه وسلم منْ هذه الأمور التي قد عُصم منها إنما هو ليلتزم خوف الله تعالى وإعظامه، والافتقار إليه، ولتقتدي به أمته، وليُبيّن لهم صفة الدعاء، والمهمّ منه. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب.

5430 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ

(1)

، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(2)

عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَسِيدُ بْنُ أَبِي أَسِيدٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَصَابَنَا طَشٌّ وَظُلْمَةٌ، فَانْتَظَرْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِيُصَلِّيَ بِنَا، ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامًا مَعْنَاهُ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِيُصَلِّيَ بِنَا، فَقَالَ:"قُلْ"، فَقُلْتُ: مَا أَقُولُ؟ قَالَ: "قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ، حِينَ تُمْسِي، وَحِينَ تُصْبِحُ ثَلَاثًا، يَكْفِيكَ كُلَّ شَيْءٍ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلّاس، أبو حفص البصريّ، ثقة ثبت [10] 4/ 4.

2 -

(أبو عاصم) الضحّاك بن مَخْلَد النبيل البصريّ، ثقة ثبت [9] 19/ 424.

3 -

(ابن أبي ذئب) محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب المدنيّ، ثقة فقيه فاضل [7] 41/ 685.

4 -

(أسيد بن أسيد) -بفتح الهمزة، مكبّرًا فيهما-: هو أبو سعيد البرّاد المدنيّ، واسم أبيه يزيد، صدوقٌ [5] 2/ 1368.

5 -

(معاذ بن عبد الله) بن خُبيب -مصغّرًا- الجهنيّ المدنيّ، صدوقٌ، ربّما وَهِم [4] 13/ 4384.

6 -

(أبوه) عبد الله بن خُبيب الجهنيّ الأنصاريّ المدنيّ، صحابيّ، رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عقبة بن عامر، عَلَى خلاف فِي ذلك، وعمّه. وعنه ابناه: عبد الله، ومعاذ. قَالَ ابن عبد البرّ: إنه جهنيّ، حالف الأنصار. رَوَى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"،

(1)

هو المصنّف، والقائل:"أخبرنا" هو الراوي عنه، وهو الحافظ ابن السنّيّ رحمه الله تعالى، كما سبق غير مرّة.

(2)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 382

والأربعة، وله عند البخاريّ فِي "الأدب"، وابن ماجه حديث:"لا بأس بالغنى لمن اتّقى"، وله عند الثلاثة حديث الباب فقط. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح إلى ابن أبي ذئب. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وشيخ شيخه، فبصريان. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن خُبيب رضي الله عنه، أنه (قَالَ: أَصَابَنَا طَشٌّ) بفتح الطاء المهملة، وتشديد الشين المعجمة: المطر الضعيف (وَظُلْمَةٌ، فَانْتَظَرْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِيُصَلِّيَ بِنَا، ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامًا مَعْنَاهُ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِيُصَلِّيَ بنَا، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (قُلْ) أي اقرأ (فَقُلْتُ: مَا) استفهاميّة (أَقُولُ؟) أي أيّ شيء أقول (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (قُلْ: هُوَ اللهُ أَحَدٌ، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ) أي اقرأ هذه السور، قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: جملة "قل هو الله أحد" أريد بها السورة المعهودة عَلَى أنها مفعول لفعل مقدّر، مثل "قل": أي قل هذه السور المصدّرة بـ"قل هو الله أحد"، وقوله:"والمعوّذتين" عطف عليها. انتهى (حِينَ تُمْسِي) بضم أوله: منْ الإمساء: أي حين تدخل فِي وقت المساء، قَالَ الفيّوميّ: المساء خلاف الصباح. وَقَالَ ابن القُوطية: المساء ما بين الظهر إلى المغرب. انتهى. وَقَالَ فِي "باب الصاد": الصباح: خلاف المساء. قَالَ ابن الجَوَالِقيّ: الصباح عند العرب منْ نصف الليل الآخر إلى الزوال، ثم المساء إلى آخر نصف الليل الأول، هكذا رُوي عن ثعلب. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: فعلى ما قاله الجَوَالقي يدخل وقت أذكار المساء بعد الزوال، ويمتد إلى منتصف الليل، وكذا وقت أذكار الصباح يدخل بعد منتصف الليل ويمتد إلى الزوال. والله تعالى أعلم. (وَحِينَ تُصْبِحُ) بضم أوله أيضًا منْ الإصباح، والظرف متعلّق بـ"قل" المقدّر، كما مرّ آنفًا: أي قل حين تدخل فِي وقت الصباح (ثَلَاثًا) أي ثلاث مرَّات، والظاهر أن يكرّر كلًا منها ثلاث مرّات (يَكْفِيكَ كُلَّ شَيْءٍ") أي المكاره، يعني أن ملازمة قراءة هذه السور صباحًا ومساء ثلاثًا ثلاثًا يدفع كلّ مكروه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

ص: 383

حديث عبد الله بن خُبيب هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -1/ 5430 و5431 - وفي "الكبرى" 1/ 7859 و7860. وأخرجه (د) فِي "الأدب" 5082 (ت) فِي "الدعوات " 3575 (أحمد) فِي "باقي مسند الأنصار" 27828. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو مشروعيّة الاستعاذة. (ومنها): بيان فضل هذه السور الثلاث. (ومنها): أن لفظة "قل" منْ القرآن ثابتة فِي أول السور الثلاث بعد البسملة، وَقَدْ أجمعت الأمة عَلَى هَذَا. (ومنها): أنه دليل واضح عَلَى كون كل منْ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} منْ القرآن. (ومنها): عناية النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي تعليم أمته ما ينفعهم، ويدفع الضرر عنهم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5431 -

(أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خُبَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَأَصَبْتُ خَلْوَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَقَالَ: "قُلْ"، فَقُلْتُ: مَا أَقُولُ؟ قَالَ: "قُلْ"، قُلْتُ: مَا أَقُولُ؟ قَالَ: "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ" حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ" حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: "مَا تَعَوَّذَ النَّاسُ بِأَفْضَلَ مِنْهُمَا").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(يونس بن عبد الأعلى) الصدفيّ المصريّ، ثقة، منْ صغار [10] 1/ 449.

2 -

(ابن وهب) عبد الله المصريّ، ثقة ثبت عابد [9] 9/ 9.

3 -

(حفص بن ميسرة) العقيليّ، أبو عمر الصنعانيّ، نزيل عسقلان، ثقة ربما وهم [8] 89/ 1346.

4 -

(زيد بن أسلم) العدويّ مولاهم المدنيّ، ثقة فقيه 364/ 80. والباقيان تقدّما فِي السند الماضي. والسند فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، ورواية الابن عن أبيه. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ خُبَيْبٍ) الجهني (عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن خبيب الجهنيّ

ص: 384

الصحابيّ رضي الله عنه، أنه (قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَأَصَبْتُ خَلْوَةً) -بفتح، فسكون-: أي وجدت منْ النبيّ صلى الله عليه وسلم انفرادًا منْ النَّاس (مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَنوْتُ مِنْهُ) أي قربت منه صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (قُلْ) أي قل: ما أُملي عليك (فَقُلْتُ: مَا) استفهامية (أَقُولُ؟، قَالَ: "قُلْ"، قُلْتُ: مَا أَقُولُ؟) كرر طلب القول تأكيدًا عليه بأن ما يعلّمه حريّ بالتنبّه له، والإقبال عليه، والتمسك به (قَالَ:"قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ" حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ:"قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ" حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: "مَا تَعَوَّذَ النَّاسُ بِأَفْضَلَ مِنْهُمَا) أي ما تحصّن متحصّن منْ أن يناله مكروه، والتجأ إلى الله فِي ذلك ملتجىء بمثل هاتين السورتين، وفيه فضيلة لهاتين السورتين، وأنهما لا مثيل لهما فِي باب التعوّذ، فينبغي قراءتهما، والمداومة عَلَى ذلك حَتَّى يُدفع عن الإنسان كل سوء. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

والحديث صحيح، وَقَدْ تقدّم تخريجه فيما قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5432 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْقَعْنَبِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خُبَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَقُودُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَاحِلَتَهُ فِي غَزْوَةٍ، إِذْ قَالَ: "يَا عُقْبَةُ قُلْ"، فَاسْتَمَعْتُ، ثُمَّ قَالَ: "يَا عُقْبَةُ قُلْ"، فَاسْتَمَعْتُ، فَقَالَهَا الثَّالِثَةَ، فَقُلْتُ: مَا أَقُولُ؟ فَقَالَ: " {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، فَقَرَأَ السُّورَةَ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَرَأَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، وَقَرَأْتُ مَعَهُ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَرَأَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فَقَرَأْتُ مَعَهُ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: "مَا تَعَوَّذَ بِمِثْلِهِنَّ أَحَدٌ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ": هو أبو العبّاس العطار الرّقّيّ، ثقة [11] منْ أفراد المصنّف. و"الْقَعْنَبِيُّ": هو عبد الله بن مسلمة البصريّ، ثقة عابد، منْ صغار [9]. و"عَبْدِ الْعَزِيزِ": هو ابن محمد الدراورديّ المدنيّ، صدوقٌ، كَانَ يحدّث منْ كتب غيره فيخطىء [8].

و"عبد الله بنَ سليمان" بن أبي سلمة الأسلمىّ المدنيّ الْقُبائيّ -بضم القاف، وتخفيف الموحدة- صدوقٌ يُخطىء [7].

رَوَى عن أمه، وعن معاذ بن عبد الله بن خبيب الجهني، وسالم بن عبد الله بن عمر. وعنه سليمان بن بلال، والدَّرَاوَرْديّ، وأبو عامر العقدي، ومعن بن عيسى، وخالد بن مخلد، والقعنبي، وغيرهم. قَالَ ابن معين: ثقة. وَقَالَ أبو حاتم: لا بأس به. وَقَالَ عبّاس العنبري، عن أبي عامر العقدي: ثنا عبد الله بن سليمان، شيخ منْ أهل

ص: 385

المدينة، لا بأس به. وَقَالَ ابن حبّان فِي "الثقات": عبد الله بن سليمان، مولى الأسلميين، يخطىء. وذكر ابن عدي أنه منْ جملة المدنيين المجهولين، رَوَى عنه القعنبي.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: كلام ابن عديّ هَذَا فيه نظر لا يخفى؛ إذ عرفه غيره منْ الأئمة الذين ذُكِرُوا قبله، فلا يضرّه أن لا يعرفه هو، فتبصّر.

رَوَى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، والمصنّف، وابن ماجه، له عند المصنّف هَذَا الْحَدِيث فقط، وله عند البخاريّ فِي "الأدب"، وابن ماجه حديث آخر؟.

وقوله: "فاستمعت": أي توجّهت تلقاء كلامه ذلك، وما عرفت ما يريد.

وقوله: "ما أقول": أي ماذا أقرأ.

وقوله: "ما تعوّذ بمثلهنَّ متعوّذ": أي ما تحصّن بمثل هاتين السورتين متحصّنٌ، وإنما اختصّتا بذلك؛ لاشتمالهما عَلَى الجوامع فِي المستعاذ به، والمستعاذ منه، أما الأول فلأن الافتتاح بربّ الفلق مؤذنٌ بطلب فيض ربّانيّ يزيل كلّ ظلمة فِي الاعتقاد، أو العمل؛ لأن الفلق الصبح، وهو وقت فيضان الأنوار، ونزول البركات، وقسم الأرزاق، وذلك مناسب للمستعاذ به. وأما الثاني فلأنه فِي السورة الأولى ابتدأ فِي ذكر المستعاذ منه بالعامّ، وهو شرّ كلّ مخلوق حيّ أو جماد، فيه شرّ فِي البدن، أو المال، أو الدنيا، أو الدين، كإحراق النار، ثم بالخاصّ؛ اعتناء به؛ لخفاء أمره؛ إذ يلحق الإنسان منْ حيث لا يعلم؛ لأن الظلمة التي تعقب ذلك تكون سببًا لصعوبة التحرّز منْ الشرّ المسبّب عنها. قاله فِي "المنهل العذب المرود" 8/ 117.

والحديث أخرجه مسلم، وَقَدْ تقدّم فِي كتاب "الافتتاح" 46/ 953 مختصرًا، ومضى شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5433 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ الأَسْلَمِيُّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خُبَيْبٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قُلْ" قُلْتُ: وَمَا أَقُولُ؟ قَالَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، فَقَرَأَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: "لَمْ يَتَعَوَّذِ النَّاسُ بِمِثْلِهِنَّ" أَوْ "لَا يَتَعَوَّذُ النَّاسُ بِمِثْلِهِنَّ").

"أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ": هو الأوديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة [11]. و"خَالِدُ ابْنُ مَخْلَدٍ": هو الْقَطَوانيّ، أبو الْهَيثم الكوفيّ، صدوقٌ يتشيّع، وله أفراد، منْ كبار [10].

ص: 386

والحديث صحيح، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5434 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو، عَنْ يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ ابْنَ عَابِسٍ الْجُهَنِيَّ، أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ لَهُ: "يَا ابْنَ عَابِسٍ، أَلَا أَدُلُّكَ"، أَوْ قَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَفْضَلِ مَا يَتَعَوَّذُ بِهِ الْمُتَعَوِّذُونَ؟ " قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ": هو السلميّ، أبو عليّ الدمشقيّ، ثقة، منْ صغار [10]. و"الوليد": هو ابن مسلم الدمشقيّ، صدوقٌ يدلّس، ويسوّي [8]. و"أبو عمرو": هو عبد الرحمن بن عمرو الإِمام الأوزاعيّ [7]. و"مُحَمَّدِ ابْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ": هو التيميّ المدنيّ الثقة، راوي حديث النيّة [4]. و"أبو عبد الله" يُعدّ فِي أهل المدينة، رَوَى عن أبي هريرة، وعن ابن عابس الجهنيّ فِي التعوّذ، وعنه محمد بن إبراهيم بن الحارث التيميّ، ذكره ابن حبّان فِي "الثقات". تفرّد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط. و"ابن عابس الْجُهَنيّ، رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه أبو عبد الله هَذَا الْحَدِيث، تفرد به المصنّف بهذا الْحَدِيث فقط.

وقوله: "هاتين السورتين" مفعول لفعل مقدر: أي أعني هاتين السورتين.

والحديث ضعيف الإسناد؛ لجهالة أبي عبد الله شيخ محمد بن إبراهيم، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا 1/ 5455 - وفي "الكبرى" 1/ 7841. وأخرجه (أحمد) فِي "مسند المكيين" 15022.

[تنبيه]: صحح الشيخ الألباني رحمه الله تعالى هَذَا الْحَدِيث فِي، "صحيح النسائيّ" 3/ 1105 و"السلسلة الصحيحة" 3/ 95 ومن الغريب أنه جعل ابن عابس هو عقبة بن عامر رضي الله عنه صاحب حديث الباب، ولم أر منْ قَالَ هَذَا غيره، لم يشر فِي "التقريب"، ولا فِي أصله، ولا فِي "تهذيب الكمال"، ولا فِي "تحفة الأشراف"، ولا فِي "الإصابة" إلى ما قاله أصلاً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5435 -

(أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَحِيرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: أُهْدِيَتْ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، بَغْلَةٌ شَهْبَاءُ، فَرَكِبَهَا، وَأَخَذَ عُقْبَةُ يَقُودُهَا بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعُقْبَةَ:"اقْرَأْ"، قَالَ:

ص: 387

وَمَا أَقْرَأُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "اقْرَأْ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ}، فَأَعَادَهَا عَلَيَّ، حَتَّى قَرَأْتُهَا، فَعَرَفَ أَنِّي لَمْ أَفْرَحْ بِهَا جِدًّا، قَالَ: "لَعَلَّكَ تَهَاوَنْتَ بِهَا، فَمَا قُمْتُ -يَعْنِي بِمِثْلِهَا-").

قالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عمرو بن عثمان": هو الحمصيّ، صدوقٌ [10]. و"بقية": هو الوليد الحمصيّ، صدوقٌ، كثير التدليس عن "الضعفاء" ويسوّي [8]. و"بَحير -بفتح الموحدة، وكسر الحاء المهملة- ابن سَعْد -بفتح، فسكون- السَّحُوليّ، أبو خالد الحمصي، ثقة ثبت [6]. "وخالد بن معدان": هو الكلاعيّ الحمصيّ، ثقة عابد [3].

وقوله: "شهباء": أي بياضها أغلب عَلَى سوادها. وقوله: "لم أفرح بها جدًّا": أي ما حصل لي السرور الكامل، كَانَ القلب كَانَ مشغولا بما كَانَ فِي الوقت منْ ظلمة، أو غيرها، أو لأنه كَانَ يريد أن يعلمه سورة أطول منها.

والحديث صحيح، ولا يقال: فيه بقية يدلس تدليس التسوية؛ لأنا نقول يصح بشواهده السابقة واللاحقة، وهو منْ أفراد المصنّف، أخرجه هنا -1/ 5435 - وفي"الكبرى" 7842 والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5436 -

(أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ حِزَامٍ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ؟ قَالَ عُقْبَةُ: فَأَمَّنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهِمَا فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"مُوسَى بْنُ حِزَامٍ التِّرْمِذِيُّ": هو أبو عمران، نزيل بلخ، ثقة فقيه عابد [11]. و"أبو أسامة": هو حماد بن أسامة. و"سفيان": هو الثوريّ. و"معاوية بن صالح": هو ابن حدير الحمصيّ، صدوقٌ له أوهام [7].

والحديث أخرجه مسلم، وَقَدْ تقدّم فِي "الصلاة" 45/ 952 سندًا ومتنًا، ومضى شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5437 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ عُقْبَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَرَأَ بِهِمَا فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدَّموا غير مرّة. و"عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. و"معاوية": هو ابن صالح المذكور قبله.

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 388

و"العلاء بن الحارث": هو أبو وهب الدمشقيّ، صدوقٌ فقيه، رمي بالقدر، واختلط [5]. و"مكحول": هو أبو عبد الله الدمشقيّ الثقة الفقية [5].

والحديث صحيح، كما سبق بيانه قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5438 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ الْحَارِثِ -وَهُوَ الْعَلَاءُ- عَنِ الْقَاسِمِ، مَوْلَى مُعَاوِيَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: كُنْتُ أَقُودُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي السَّفَرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"يَا عُقْبَةُ أَلَا أُعَلِّمُكَ خَيْرَ سُورَتَيْنِ قُرِئَتَا، فَعَلَّمَنِي {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، فَلَمْ يَرَنِى سُرِرْتُ بِهِمَا جِدًّا، فَلَمَّا نَزَلَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ صَلَّى بِهِمَا صَلَاةَ الصُّبْحِ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الصَّلَاةِ، الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: "يَا عُقْبَةُ كَيْفَ رَأَيْتَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أحمد بن عمرو": ابن السرح المصريّ. و"القاسم، مولى معاوية": هو ابن عبد الرحمن، أبو عبد الرحمن الدمشقيّ، صاحب أبي أُمامة، ويقال له: مولى آل أبي سفيان بن حرب الأموي، صدوقٌ يرسل كثيراً [3].

وقوله: "خير سورتين": أي منْ خير السور، وليس المراد أنهما أفضل السور عَلَى الإطلاق، إذ هناك ما يساويهما، أو يزيد عليهما، وقيل: هما يزيدان عَلَى غيرهما منْ السور فِي باب التعويذ، إذ لم توجد سورة كلها تعويذ إلا هاتين السورتين. قاله فِي "المنهل" 8/ 116.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: والاحتمال الأخير هو الأقرب. والله تعالى أعلم.

وقوله: "فلم يرني سُررت بهما جدًّا": "سررت" بالبناء للمفعول: أي ما فرحت فرحًا كثيرا، والنفي راجع إلى الصفة التي هي كثرة السرور، لا إلى أصل السرور؛ لأنه حاصل، ولعل عقبة لم يكثر سروره بهما؛ لأنه كَانَ يريد سورتين أطل منهما، كما يُشعر به قوله فِي الرواية الآتية: "فقلت: أقرئني سورة هود، أقرئني سورة يوسف

" الْحَدِيث.

وقوله: "كيف رأيت": يعني كيف حال هاتين السورتين عندك الآن بعد أن رأيتني صليت بهما الصبح التي يُقرأ فيها بالطوال، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم ذلك له ترغيبًا، وتنبيهًا عَلَى فضلهما، وتأكيدًا لقوله:"ألا أعملك خير سورتين".

والحديث صحيح، أخرجه هنا -1/ 5438 و5439 - وفي "الكبرى" 1/ 7843 و7848 وفي "عمل اليوم والليلة" 889 وأخرجه أبو داود فِي "الصلاة"1462. والله

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 389

تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5439 -

(أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ جَابِرٍ، عَنِ الْقَاسِمِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: بَيْنَا أَقُودُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي نَقَبٍ مِنْ تِلْكَ النِّقَابِ، إِذْ قَالَ: "أَلَا تَرْكَبُ يَا عُقْبَةُ"، فَأَجْلَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ أَرْكَبَ مَرْكَبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: "أَلَا تَرْكَبُ يَا عُقْبَةُ"، فَأَشْفَقْتُ أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً، فَنَزَلَ، وَرَكِبْتُ هُنَيْهَةً، وَنَزَلْتُ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: "أَلَا أُعَلِّمُكَ سُورَتَيْنِ مِنْ خَيْرِ سُورَتَيْنِ، قَرَأَ بِهِمَا النَّاسُ"، فَأَقْرَأَنِي: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَتَقَدَّمَ، فَقَرَأَ بِهِمَا، ثُمَّ مَرَّ بِي، فَقَالَ: "كَيْفَ رَأَيْتَ، يَا عُقْبَةُ بْنَ عَامِرٍ، اقْرَأْ بِهِمَا كُلَّمَا نِمْتَ وَقُمْتَ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "محمود بن خالد": هو أبو عليّ الدمشقيّ. و"الوليد": هو ابن مسلم. و"ابن جابر": هو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزديّ، أبو عتبة الشاميّ الدارنيّ، ثقة [7]. و"القاسم أبو عبد الرحمن": هو مولى معاوية المذكور قبله.

وقوله: "أقود برسول الله صلى الله عليه وسلم" فيه خدمة أهل الفضل والعلم. وقوله: "نقب" -بفتح، فسكون-: الثَّقْبُ، جمعه أنقاب، ونقاب. قاله فِي "القاموس". وَقَالَ ابن الأثير: النقْب: الطريق بين الجبلين. وقوله: "فأجللت الخ": أي أعظمت، وفيه ما كَانَ عليه الصحابة منْ تعظيم النبيّ صلى الله عليه وسلم، والتأدب معه غايي التأدب. وقوله:"فركبت هنية": بالتصغير، أي زمنًا قليلاً. وقوله:"فأشفقت": أي خفت.

وقوله: "نِمت" بكسر النون، منْ باب فعل بكسر العين، يفعل بفتحها.

والحديث صحيح، كما سبق بيانه قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5440 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "يَا عُقْبَةُ قُلْ"، فَقُلْتُ: مَاذَا أَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: "يَا عُقْبَةُ قُلْ"، قُلْتُ: مَاذَا أَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ عَنِّي، فَقُلْتُ: "اللَّهُمَّ ارْدُدْهُ عَلَيَّ، فَقَالَ: "يَا عُقْبَةُ قُلْ"، قُلْتُ: مَاذَا أَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: " {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} "، فَقَرَأْتُهَا حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى آخِرِهَا، ثُمَّ قَالَ: "قُلْ"، قُلْتُ: مَاذَا أَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} "، فَقَرَأْتُهَا حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى آخِرِهَا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: "مَا سَأَلَ سَائِلٌ بِمِثْلِهِمَا، وَلَا اسْتَعَاذَ مُسْتَعِيذٌ بِمِثْلِهِمَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

ص: 390

وقوله: "اللَّهم اردده": أي هَذَا النداء الكريم المشتمل عَلَى التعليم العظيم.

والحديث صحيح، وهو منْ أفراد المصنّف، أخرجه هنا -1/ 5440 - وفي "الكبرى" 1/ 7838. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5441 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ، أَسْلَمَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ رَاكِبٌ، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى قَدَمِهِ، فَقُلْتُ: أَقْرِئْنِي سُورَةَ هُودٍ، أَقْرِئْنِي سُورَةَ يُوسُفَ، فَقَالَ: "لَنْ تَقْرَأَ شَيْئًا أَبْلَغَ عِنْدَ اللَّهِ عز وجل مِنْ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو عمران أسلم": هو ابن يزيد التجيبيّ المصريّ، ثقة [3] 46/ 953.

والحديث أخرجه مسلم، وتقدّم فِي 46/ 953 سندًا ومتنًا، ومضى شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5442 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَيْسٌ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "أُنْزِلَ عَلَيَّ آيَاتٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "يحيى": هو القطّان. و"إسماعيل": هو ابن أبي خالد. و"قيس": هو ابن أبي حازم.

وقوله: "لم يُر مثلهنّ": بصيغة المجهول، وبرفع "مثلهنّ": أي فِي بابها، وهو التعوّذ، يعني لم تكن آيات سورة كلهن تعويذًا للقارىء غير هاتين السورتين، ولذا كَانَ صلى الله عليه وسلم يتعوذ منْ عين الجانّ، وعين الإنسان، فلما نزلت المعوّذتان أخذهما، وترك ما سواهما، ولَمّا سُحر صلى الله عليه وسلم استَشفَى بهما، فشفاه الله تعالى منْ السحر.

والحديث أخرجه مسلم، وتقدّم فِي "الصلاة" 46/ 954 ومضى البحث عنه مستوفًى هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5443 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنِي بَدَلٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَدَّادُ بْنُ سَعِيدٍ، أَبُو طَلْحَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اقْرَأْ يَا جَابِرُ"، قُلْتُ: وَمَاذَا أَقْرَأُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "اقْرَأْ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} "، فَقَرَأْتُهُمَا، فَقَالَ:

ص: 391

"اقْرَأْ بِهِمَا، وَلَنْ تَقْرَأَ بِمِثْلِهِمَا").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"عمرو بن عليّ": هو الفلّاس.

و"بدل" -بفتحتين- ابن المحبّر بالمهملة، ثم الموحدة- ابن المنبّه التميميّ اليربوعيّ، أبو الْمُنير البصريّ، واسطيّ الأصل، ثقة ثبت، إلا فِي حديثه عن زائدة [9].

رَوَى عن شعبة، وحرب بن ميمون، والخليل بن أحمد، صاحب العروض، وزائدة، وعبد الملك بن الوليد بن معدان، وشداد بن سعيد، والمفضل بن لاحق، وجماعة. وعنه البخاريّ، وروى له الأربعة بواسطة بندار، وأبي موسى، وعبد الله بن الصباح، ومحمد بن المؤمل، وعمرو بن عليّ، وعنه أيضاً أبو قلابة الرقاشي، والدقيقي، وأبو الأزهر، ويعقوب بن شيبة، والكديمي خاتمة أصحابه، وغيرهم. قَالَ أبو زرعة: ثقة. وَقَالَ أبو حاتم: صدوقٌ، وهو أرجح منْ عفان، وبهز، وأمية بن خالد، وحبان، هو بن هلال. وَقَالَ ابن عبد البرّ: هو عندهم ثقة حافظ. وَقَالَ الحاكم: سألت أبا الحسن -يعني الدارقطنيّ- عن بدل بن المحبر، فَقَالَ: ضعيف، حدث عن زائدة بحديث لم يتابع عليه، حديث ابن عقيل، عن ابن عمر.

قَالَ الحافظ: والحديث المذكور، رواه البزار، قَالَ: حدثنا بدل، ثنا زائدة، عن ابن عقيل، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمره أن ينادي فِي النَّاس: أن منْ شهد أن لا إله إلا، الله دخل الجنة

" الْحَدِيث، قَالَ البزار: رواه حسين الجعفي، عن زائدة، عن ابن عقيل، عن جابر. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وذكر الصريفيني أنه مات فِي حدود سنة (215). أخرج له الجماعة، سوى مسلم، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.

و"شداد بن سعيد، أبو طلحة" الراسبيّ البصريّ، صدوقٌ يخطىء [8].

رَوَى عن أبي الوزاع جابر بن عمرو، وسعيد الجريري، وعبيد الله بن أبي بكر بن أنس، وغيلان بن جرير، وقتادة، ومعاوية بن قرة، وغيرهم. وعنه حيي بن عمارة، وابن علية، وزيد بن الحباب، وبدل بن المحبر، وروح بن أسلم، وعلي بن نصر الجهضمي، وابن المبارك، ووكيع، وأبو سعيد مولى بني هاشم، وأبو الوليد الطيالسي، ومسلم بن إبراهيم، وغيرهم. قَالَ أحمد: شيخ ثقة. وَقَالَ ابن معين: ثقة. وَقَالَ أبو خيثمة: شداد بن سعيد ثقة. وَقَالَ البخاريّ: ضعفه عبد الصمد بن عبد الوارث. وَقَالَ النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ ابن عدي: لم أر له حديثا منكرا، وأرجو أنه لا بأس به. وَقَالَ العقيلي: له غير حديث لا يتابع عليه. وَقَالَ ابن حبّان فِي

ص: 392

"الثقات" فِي الطبقة الرابعة: وربما أخطأ، وكان قد ذكره قبل فِي الطبقة الثالثة، فلم يقل هذه اللفظة. وَقَالَ الدارقطنيّ: بصري يعتبر به. وَقَالَ الحاكم أبو أحمد: ليس بالقوي عندهم. وَقَالَ النسائيّ فِي "الكنى": أنا أحمد بن عليّ بن سعيد، ثنا القواريري، ثنا يوسف بن يزيد، ثنا شداد بن سعيد، أبو طلحة، بصري ثقة. وَقَالَ البزار: ثقة.

رَوَى له فِي مسلم حديثًا واحداً فِي الشواهد، وهو حديث أبي بردة، عن أبيه، فِي وضع ذنوب المسلمين عَلَى اليهود والنصارى، وروى له المصنّف هَذَا الْحَدِيث فقط، وأبو داود فِي "فضائل الأنصار"، والترمذيّ.

و"سعيد الجريريّ": هو ابن إياس، أبو مسعود البصريّ، ثقة اختلط قبل موته بثلاث سنين [5]. و"أبو نضرة": هو المنذر بن مالك بن قُطَعة العبديّ البصريّ، ثقة [3].

والحديث صحيح، وهو منْ أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -1/ 5443 - وفي "الكبرى" 1/ 7854. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌2 - (الاسْتِعَاذَةُ مِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعْ)

5444 -

(أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو:"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَدُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ، وَنَفْسٍ لَا تَشْبَعُ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ) بن يزيد بن الذّيّال بن خالد الأموي، مولى عثمان، أبو خالد القزّاز البصريّ، نزيل مصر، وهو أخو محمد بن سنان، ثقة [11].

رَوَى عن عثمان بن عمر بن فارس، ومعاذ بن هشام، وعبد الله بن حمران، وعبد الرحمن بن مهدي، وإسحاق بن بكر بن مضر، وحماد بن مسعدة، ومحمد بن المبارك الصوري، ومكي بن إبراهيم، وأبي عاصم، ويزيد بن أبي حكيم، وخلق. وعنه

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 393

النسائيّ، ورَوَى فِي "مسند مالك" عن زكريا السجزي عنه، وعلي بن أحمد علان، وموسى بن هارون، وأبو عوانة الإسفرائيني، وأبو جعفر الطحاوي، وأبو بكر بن زياد النيسابوري، وعدة.

قَالَ ابن أبي حاتم: كتبت عنه، وهو صدوقٌ ثقة. وَقَالَ النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ ابن يونس: قدم مصر تاجرا، وكتب بها الْحَدِيث، وحدّث، وكانت وفاته بمصر، أول يوم منْ جمادى الأول، سنة أربع وستين ومائتين، وصَلَّى عليه بكار القاضي، وكان ثقة نبيلا، وخرّج مسند حديثه، وكان كثير الفائدة، وفيها أرخه ابن عقدة. وَقَالَ الطحاوي: مولده قبل الثمانين ومائة بسنتين. وَقَالَ مسلمة: تُوفي، وله ثمانون سنة. تفرّد به المصنّف، رَوَى عنه فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن مهديّ، أبو سعيد البصريّ، ثقة ثبت حجة [9] 42/ 49.

3 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ الكوفيّ، ثقة ثبت إمام [7] 33/ 37.

4 -

(أبو سِنَانٍ) ضرار بن مرّة الكوفيّ، الشيبانىّ الأكبر

(1)

، ثقة ثبت [6] 100/ 2032.

5 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي الْهُذَيْلِ) الْعَنَزيّ، أبو المغيرة الكوفيّ، ثقة [2].

رَوَى عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وعمار بن ياسر، وابن مسعود، وعبد الله بن عمرو، وابن خباب بن الأرت، وأبي بن كعب، وأبي الأحوص الجشمى، وجماعة، وفي سماعه منْ أبي بكر نظر. وعنه إسماعيل بن رجاء، وواصل الأحدب، وأبو فروة مسلم بن سالم الجهني، والأجلح بن عبد الله الكندي، وأشعث بن أبي الشعثاء، وسلم ابن عطية، وأبو سنان ضرار بن مرة، وأبو التياح الضبعي، وغيرهم. وَقَالَ النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ العجليّ: تابعيّ ثقة، وكان عثمانيا. وَقَالَ أبو زرعة: ابن أبي الهذيل، عن أبي بكر مرسل، وقَرَنه خليفة فِي "الطبقات"، توفي فِي ولاية خالد القسري. رَوَى له مسلم، والمصنف، والترمذيّ، وله فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط.

6 -

(عبد الله بن عمرو) بن العاص رضي الله تعالى عنهما 89/ 111. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم

(1)

ولهم أبو سنان السيبانيّ الأصغر، وهو سعيد بن سنان الْبُرْجُمي الكوفيّ، نزيل الريّ، صدوقٌ له أوهام [6] 11/ 1623.

ص: 394

رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فبصريّ، ثم مصريّ، وعبد الرحمن، فبصريّ، والصحابيّ، فمدنيّ، ثم مصريّ، ثم طائفيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو) بن العاص رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْ أَرْبَعٍ) أي أربع خصال (مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ) بالبناء للفاعل: أي كَانَ يتعوذ منْ علم لا ينفع صاحبه، فإن منْ العلم ما لا ينفع صاحبه، بل يصير حجة عليه. وذلك بأن لا يعمل به، ولا يعلّمه النَّاس، ولا يهذّب به الأخلاق، ولا الأقوال، ولا الأفعال، أو يكون علماً لا يُحتاج إليه، أو لم يرد إذن شرعي فِي تعلّمه. (وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ) بالبناء للفاعل أيضًا: أي كَانَ يتعوّذ منْ قلب لا يسكن، ولا يطمئنّ بذكر الله تعالى (وَدُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ) بالبناء للمفعول: أي كَانَ يتعوذ منْ دعاء لا يُستجاب (وَنَفْسٍ لَا تَشْبَعُ) أي كَانَ يتعوذ منْ نفس لا تقنع بما آتاها الله تعالى منْ الرزق، ولا تفتر عن جمع المال لما فيها منْ شدّة الحرص، أو منْ نفس تأكل كثيراً، قَالَ ابن الملك: أي حريصة عَلَى جمع المال، وتحصيل المناصب. وَقَالَ السنديّ: أي حريصة عَلَى الدنيا، لا تشبع منها، وأما الحرص عَلَى العلم، والخير، فمحمود مطلوب، قَالَ الله تعالى:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -2/ 5444 - وفي "الكبرى" 6/ 7874. وأخرجه (ت) فِي "الدعوات" 3482 (أحمد) فِي "مسند المكثرين" 6521 و6826. ولله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو استحباب الاستعاذة منْ قلب لا يخشع. (ومنها): استحباب الاستعاذة منْ هذه الأربع، قَالَ الطيبيّ رحمه الله تعالى:[اعلم]: أن فِي كلّ منْ القرائن الأربع ما يُشعر بأن وجوده مبنيّ عَلَى غايته، وأن الغرض منه تلك الغاية، وذلك أن تحصيل العلم إنما هو للانتفاع به، فإذا لم ينتفع به لم يخلص

ص: 395

منه كفافًا، بل يكون وبالاً، ولذلك استعاذ منه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأن القلب إنما خُلق لأن يتخشّع لبارئه سبحانه وتعالى، وينشرح لذلك الصدر، ويقذف النور فيه، فإذا لم يكن كذلك، كَانَ قاسيًا، فيجب أن يُستعاذ منه، قَالَ تعالى:{فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ} [الزمر: 22]، وأن النفس يُعتدّ بها إذا تجافت عن دار الغرور، وأنابت إلى دار الخلود، وهي إذا كانت منهومة، لا تشبع، حريصة عَلَى الدنيا، كانت أعدى عدوّ المرء، فأولى الشيء الذي يستعاذ منه هي هذه النفس، وعدم استجابة الدعاء دليلٌ عَلَى أن الداعي لم ينتفع بعلمه، وعمله، ولم يخشع قلبه، ولم تشبع نفسه، فيكون أولى ما يستعاذ منه. انتهى بزيادة يسيرة، منقولًا منْ "تحفة الأحوذيّ" 9/ 363.

(ومنها): ما قاله السنديّ رحمه الله تعالى فِي "شرحه" 8/ 255: وفي استعاذته صلى الله عليه وسلم منْ هذه الأمور إظهار للعبوديّة، وإعظام للربّ تبارك، وتعالى، وأن العبد ينبغي له ملازمة الخوف، ودوام الافتقار إلى جنابه تعالى، وفيه حث للأمة عَلَى ذلك، وتعليم لهم، وإلا فهو صلى الله عليه وسلم معصوم منْ هذه الأمور. (ومنها): أن استعاذته صلى الله عليه وسلم منْ علم لا ينفع، موافق لمعنى ما أخرجه الشيخان منْ حديث أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يجاء بالرجل يوم القيامة، فيُلقى فِي النار، فتندلق أقتابه فِي النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: أي فلان ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف، وتنهانا عن المنكر؟ قَالَ: كنت آمركم بالمعروف، ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه". (ومنها): أن الممنوع منْ السجع هو ما يكون عن قصد إليه، وتكلّف فِي تحصيله، وأما ما اتّفق حصوله بسبب قوّة السليقة، وفصاحة اللسان، فبمعزل عن ذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌3 - (الاسْتِعَاذَةُ مِنْ فِتْنَةِ الصَّدْرِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قَالَ أهل اللغة: الفتنة: الامتحان والاختبار، قَالَ عياض: واستعمالها فِي العرف لكشف ما يُكره. انتهى. وتطلق عَلَى القتل، والإحراق، والنميمة، وغير ذلك. ذكره فِي "الفتح" 2/ 584.

و"الصدر" -بفتح، فسكون منْ الإنسان وغيره معروف، وجمعه صدور، مثل فلس

ص: 396

وفلوس. قاله فِي "المصباح". وفي "القاموس": "الصدر": أعلى مقدّم كلّ شيء، وأوله، وكلُّ ما وجهك. انتهى باختصار. والله تعالى أعلم بالصواب.

5445 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا (1) عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَمُرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنَ الْجُبْنِ، وَالْبُخْلِ، وَفِتْنَةِ الصَّدْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه الحنظليّ المروزي الإِمام الحجة الثبت [10] 2/ 2.

2 -

(عبيد الله) بن موسى بن أبي المختار باذام العبسيّ الكوفيّ، ثقة كَانَ يتشيع، قَالَ أبو حاتم: أثبت فِي إسرائيل منْ أبي نعيم، واستُصغر فِي سفيان الثوريّ [9] 72/ 1326.

3 -

(إسرائيل) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، أبو يوسف الكوفيّ، ثقة [7] 75/ 1006.

4 -

(أبو إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعيّ الكوفيّ ثقة عابد، لكنه اختلط بآخره، مدلس [3] 38/ 42.

5 -

(عمرو بن ميمون) الأوديّ، أبو عبد الله، أو أبو يحيى الكوفيّ، مخضرم مشهور ثقة عابد [2] 192/ 307.

6 -

(عمر) بن الخطاب بن نُفيل العدويّ، أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه 60/ 75. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فمروزيّ، والصحابيّ، فمدنيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، ورواية الراوي عن جده. (ومنها): أن صحابيه أحد الخلفاء الراشدين الأربعة، والعشرة المبشّرين بالجنّة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عُمَرَ) بن الخطاب رضي الله تعالى عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنَ الْجُبْنِ) بضم الجيم، وسكون الموحّدة مصدر جبُن، يقال: جبُن جُبْنًا، وزان قرُب قُرْبًا، وجَبَانة بالفتح، وفي لغة منْ باب قتل، فهو جبان: أي ضعيف القلب، وامرأة جبان أيضًا، وربّما قيل: جبانة، وجمع المذكّر جُبَناء، وجمع المؤنّث جبانات. قاله الفيّوميّ.

ص: 397

(وَالْبُخْلِ) بضم الموحّدة، وسكون الخاء المعجمة، أو بفتحتين، أو بفتح، فسكون، يقال: بخِل بَخَلَا منْ باب تَعِبَ، وبَخُلَ بُخلًا منْ باب قرب، والاسم البَخْل وزان فَلْس، فهو بخيل، والجمع بُخلاء، ورجل بَخَل -بفتحتين-: أي ذو بخل، والبخل فِي الشرع منع الواجب، وعند العرب منع السائل مما يفضُل عنده، وأبخلته بالألف وجدته بخيلًا. انتهى "المصباح" ببعض تصرّف (وَفِتْنَةِ الصَّدْرِ) قيل: معناه أن يموت، غير تائب، والأولى إجرؤه عَلَى عمومه، كما هو ظاهر السياق (وَعَذَابِ الْقَبْرِ) والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث عمر رضي الله عنه هَذَا ضعيف؛ لأن أبا إسحاق مدلّس، وَقَدْ عنعنه، وَقَدْ اختلط أيضًا، وإسرائيل ممن أخذ عنه متاخرًا، وأيضًا فقد ذكر الترمذيّ فِي "الجامع" أن أبا إسحاق اضطرب فِي هَذَا الْحَدِيث، ولفظه -بعد أن أخرج حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الآتي-: قَالَ عبد الله بن عبد الرحمن -يعني الدارميّ-: أبو إسحاق الهمدانيّ مضطرب فِي هَذَا الْحَدِيث، يقول: عن عمرو بن ميمون، عن عمر، ويقول: عن غيره، ويضطرب فيه. انتهى.

وَقَدْ أجاب الحافظ فِي "الفتح" عن هَذَا الاضطراب، فَقَالَ بعد أن نقل ما ذكره الترمذيّ: ما نصّه: قلت: لعل عمرو بن ميمون سمعه منْ جماعة، فقد أخرجه النسائيّ منْ رواية زهير، عن أبي إسحاق، عن عمرو، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ سمي منهم ثلاثة، كما ترى. انتهى.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لكن الجواب إنما يستقيم، لو كَانَ أبو إسحاق غير مدلّس، وغير مختلط، وأما مع وجود هاتين العدتين فالجواب محل نظر. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -3/ 5445 و27/ 5482 و5483 و5484 و5485 و40/ 5499 - وفي "الكبرى" 8/ 7878 و7879 و27/ 7915 و7916 و7918 و7919 و42/ 7934. وأخرجه (د) فِي "الصلاة" 1539 (ق) فِي "الدعاء" 3844. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 398

‌4 - (الاسْتِعَاذَةُ مِنْ شَرِّ السَّمْعِ، وَالْبَصَرِ)

5446 -

(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ أَوْسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي بِلَالُ بْنُ يَحْيَى، أَنَّ شُتَيْرَ بْنَ شَكَلٍ، أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ شَكَلِ بْنِ حُمَيْدٍ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، عَلِّمْنِي تَعَوُّذًا أَتَعَوَّذُ بِهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي، ثُمَّ قَالَ: "قُلْ: أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ سَمْعِي، وَشَرِّ بَصَرِي، وَشَرِّ لِسَانِي، وَشَرِّ قَلْبِي، وَشَرِّ مَنِيِّي"، قَالَ: حَتَّى حَفِظْتُهَا، قَالَ سَعْدٌ: وَالْمَنِيُّ مَاؤُهُ).

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ الواسطيّ) مقبولٌ [11].

رَوَى عن إسحاق الأزرق، وعنه النسائيّ، قَالَ أبو القاسم فِي "المشايخ النَّبَل": رَوَى عنه البخاريّ، والنسائي، ولم يذكره أحد فِي شيوخ البخاريّ، قَالَ: وأظنه الحسن بن إسحاق الذي تقدّم، قَالَ المزي: وهذا ظن صحيح. رَوَى عنه المصنّف هنا، وبعد خمسة أبواب 10/ 5457.

[تنبيه]: هكذا جميع نسخ "المجتبى"، و"الكبرى" التي بين يديّ هنا، وفي 10/ 5457 "الحسين بن إسحاق" -مصغّرًا-، ووقع فِي "تحفة الأشراف" 4/ 156 أن المصنّف رواه عن "الحسن بن إسحاق" المكبّر، والذي يظهر لي أن ما فِي "التحفة" تصحيف، فإن صخ، فهو أبو عليّ المروزيّ الملقب حسنويه، ثقة شاعر، صاحب حديث [11] 2/ 3991 منْ أفراد البخاريّ، والمصنّف. والله تعالى أعلم.

2 -

(أَبُو نُعَيْمٍ) الفضل بن دُكين الكوفيّ، ثقة ثبت [9] 11/ 516.

3 -

(سَعْدُ بْنُ أَوْسٍ) العبسيّ، أبو محمد الكاتب الكوفيّ، ثقة، لم يصب الأزديّ فِي تضعيفه [7].

رَوَى عن بلال بن يحيى العبسيّ، والشعبيّ. وعنه أبو أحمد الزبيريّ، ووكيع، وعليّ ابن غراب، وأبو نعيم، وعبيد الله بن موسى، وغيرهم. قَالَ العجليّ: كوفيّ ثقة. وَقَالَ أبو حاتم: صالح. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". وَقَالَ ابن شاهين فِي "الثقات": قَالَ يحيى بن معين: ليس به بأس. وَقَالَ الأزديّ: ضعيف. رَوَى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، والأربعة، وله فِي "السنن" ثلاثة أحاديث: الأول هَذَا الْحَدِيث، رواه البخاريّ فِي "الأدب"، والثلاثة، وكرره المصنّف أربع مَرّات. والثاني فِي "اللقطة" عند أبي

ص: 399

داود، والثالث فِي تسمية الخمر بغير اسمه عند ابن ماجه.

4 -

(بِلَالُ بْنُ يَحْيَى) العبسيّ الكوفيّ، صدوقٌ [3].

رَوَى عن حذيفة بن اليمان، وعلي بن أبي طالب، وأبي بكر بن حفص، وشُتير بن شَكَل. وعنه سعد بن أوس الكاتب، وحبيب بن سُليم العبسيّ، وليث بن أبي سُليم، وغيرهم. قَالَ إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: ليس به بأس. وَقَالَ الدُّوريّ، عن ابن معين: روايته عن حذيفة مرسلة. وفي كتاب ابن أبي حاتم: وجدته يقول: بلغني عن حذيفة. وَقَالَ ابن القطّان الفاسيّ: صحح الترمذيّ حديثه، فمعتقده أنه سمع منْ حذيفة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات". رَوَى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، والأربعة، وله عند المصنّف فِي هَذَا الكتاب هَذَا الْحَدِيث فقط، كرره أربع مرّات.

5 -

(شُتَيْرَ -مصغّرًا- ابْنَ شَكَلٍ) -بفتح المعجمة، والكاف- العبسيّ الكوفيّ، يقال: أدرك الجاهليّة، ثقة [3].

رَوَى عن أبيه، وأمه، وعليّ، وابن مسعود، وحفصة، وأم حبيبة، إن كَانَ محفوظًا، وغيرهم. وعنه بلال بن يحيى، وأبو الضحى، والشعبيّ، وعبد الله بن قيس. قَالَ النسائيّ: ثقة. وَقَالَ العجليّ: ثقة منْ أصحاب عبد الله. وَقَالَ أبو موسى فِي "ذيل الصحابة": يقال: إنه أدرك الجاهليّة. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: مات فِي ولاية ابن الزبير. وَقَالَ ابن سعد: توفي زمن مصعب، وكان ثقة قليل الْحَدِيث. رَوَى له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، والباقون، وله عند الأربعة هَذَا الْحَدِيث، وعند ابن ماجه حديث آخر أيضًا.

6 -

(شكل بن حميد) العبسيّ الكوفيّ، صحابيّ، رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه شُتير وحده، روي له البخاريّ فِي "الأدب المفرد"، والمصنف، وأبو داود، والترمذيّ، وله عندهم هَذَا الْحَدِيث فقط، كرره المصنّف أربع مرات. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعىّ، والابن عن أبيه. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عن شُتَيْرَ) بالتصغير (ابْنَ شَكَلٍ) بفتحتين، أنه (أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ شَكَلِ بْنِ حُمَيْدٍ) مصغّرا رضي الله عنه، أنه (قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، عَلِّمْنِي تَعَوَّذًا أَتَعَوَّذُ بِهِ)

ص: 400

وفي الرواية الآتية 5458 و5486: "دعاء أنتفع به"(فَأَخَذَ بِيَدِي، ثُمَّ قَالَ: "قُلْ: أَعُوذُ بكَ) الخطاب لربه سبحانه وتعالى (مِنْ شَرِّ سَمْعِي) أي بأن لا أسمع حقّا، كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أو بأن أسمع الزور، والبهتان، وسائر أسباب العصيان (وَشَرِّ بَصَرِي) أي بأن انظر إلى ما لا يحلّ النظر إليه، ومنه النظر عَلَى وجه الاحتقار لأحد منْ المسلمين، أو أُهمل النظر فيما يُطلب النظر إليه (وَشَرِّ لِسَانِي) أي بأن أتكلّم فيما لا يجوز الكلام فيه، أو فيما لا يعنيني (وَشَرِّ قَلْبِي) أي بأن أشغله بغير الله سبحانه وتعالى، أو بما نهى عنه، منْ حقد، وحسد، وعُجب، ونحو ذلك منْ الآفات المهلكات (وَشَرِّ مَنِيِّي) أي بأن أوقعه فِي غير المحل المشروع له، أو يوقعني فِي مقدّمات الزنا، منْ النظر، واللمس للأجنبيات (قَالَ) شكَل رضي الله عنه (حَتَّى حَفِظْتُهَا) أي علّمني، وكرر عليّ حَتَّى حفظت هذه التعوّذات (قَالَ سَعْدٌ) أي ابن أوس الراوي عن بلال بن يحيى (وَالْمَنِيُّ مَاؤُهُ) أي المراد بقوله:"وشر منيي" المنيّ الذي يخرج منْ الذكر، ويحتمل أن يكون المراد به الذكر الذي هو محلّ خروج المنيّ. وقيل: هو جمع المنيَّةِ بمفتح الميم: أي منْ شرّ الموت، أي قبض روحه عَلَى عمل قبيح. وتفسير سعد أولى، وهو المقدّم عَلَى غيره؛ لأن الراوي أعلم بمَعْنَى ما رَوَى منْ غيره. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث شَكَل بن حميد رضي الله عنه هَذَا صحيح.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -4/ 5446 و10/ 5457 و11/ 5458 و28/ 5486 - وفي "الكبرى" 7/ 7875 و7876 و8/ 7877. وأخرجه (د) فِي "الصلاة" 1551 (ت) فِي "الدعوات" 3492 (أحمد) فِي "مسند المكيين" 15113.

(المسألة الثالثة): فِي فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان استحباب الاستعاذة منْ شر السمع، والبصر. (ومنها): استحباب الاستعاذة منْ الأشياء المذكورة فِي هَذَا الْحَدِيث جميعًا. (ومنها): ما كَانَ عليه الصحابة رضي الله عنهما منْ العناية بسؤال النبيّ صلى الله عليه وسلم ما ينفعهم منْ أمور الدنيا والآخرة. (ومنها): ما كَانَ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم منْ تعليم أمته كل ما يدفع عنهم السوء. (ومنها): أن المطلوب منْ العبد أن يكون دائم الإقبال عَلَى ربّه، ويتضرّع إليه، ليحفظه منْ جميع المكاره، فإنه محاط بالأخطار الظاهرة والباطنة، ولا يستطيع التغلب

ص: 401

عليها، إلا بعون منْ الله سبحانه وتعالى، لا باجتهاده، ولا باجتهاد أحد منْ خلقه، فإنه إذا لم يُعَن انقلت عليه الأمور، ولقد أحسن منْ قَالَ، وأجاد فِي المقال [منْ الطويل]:

إِذَا كَان عَوْنُ اللهِ لِلْمَرْءِ مُسْعِفًا

تَهَيَّا لَهُ فِي كَلِّ أَمْرٍ مُرَادُهُ

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَوْنٌ مِنَ اللهِ لِلْفَتَى

فَأَوَّلُ مَا يَجْنِي عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُ

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌5 - (الاسْتِعَاذَةُ مِنَ الْجُبْنِ)

5447 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ يُعَلِّمُنَا خَمْسًا، كَانَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَدْعُو بِهِنَّ، وَيَقُولُهُنَّ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الجحدريّ، أبو عثمان البصريّ، ثقة [10] 42/ 47.

2 -

(خالد) بن الحارث الْهجيميّ البصريّ، ثقة ثبت [8] 47/ 42.

3 -

(عبد الملك بن عمير) الفرسيّ الكوفيّ، ثقة فقيه، تغير حفظه، وربما دلّس [3] 41/ 947.

4 -

(مصعب بن سعد) الزهريّ، أبو زرارة المدنيّ، ثقة [3] 91/ 1032.

5 -

(أبوه) سعد بن أبي وقّاص مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زُهرة الزهريّ، أبو إسحاق الصحابيّ المشهور رضي الله عنه، مات سنة (55) عَلَى المشهور، وتقدّم فِي 96/ 121. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين إلى

ص: 402

شعبة، وعبد الملك كوفيّ، والباقيان مدنيان، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: عبد الملك عن مصعب، وهو منْ رواية الأقران، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أن صحابيه أحد العشرة المبشّرين بالجنة، وآخر منْ مات منهم، وأول منْ رمى بسهم فِي سبيل الله تعالى. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عن مُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ، عَنْ أَبيهِ) سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه (قَالَ) أي مصعب (كَانَ) أي سعد رضي الله عنه (يُعَلِّمُنَا خَمْسًا) أَي خمس كلمات، أو دعوات (كَانَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَدْعُو بِهنَّ) أي بهؤلاء الكلمات. وقوله:(وَيَقُولُهُنَّ) تأكيد لما قبله (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ) بضم، فسكون، أو بضمتين: وهو يشمل عدم النفع بالمال، أو العلم، أو غيرهما، ولو بالنصيحة (وَأَعُوذُ بكَ مِنَ الْجُبْنِ) بضم، فسكون، أو بضمّتين: أي البخل فِي النفس، وعدم الجراءة عَلَى الَطاعة، وإنما تعوذ منه؛ لأنه يؤدّي إلى عذاب الآخرة؛ لأنه يفرّ منْ الزحف، وهو منْ الكبائر التي جاء بها الوعيد الشديد فِي قوله عز وجل:{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16]، وربما يُفتن عن دينه، فيرتدّ؟ لجبن أدركه، وخوف عَلَى مهجته منْ الأسر والعبودية، فقد خسر خسرانًا مبينًا.

قَالَ الطيبيّ رحمه الله تعالى: الجود إما بالنفس، وهو الشجاعة، ويقابله الجبن، وإما بالمال، وهو السخاء، ويقابله البخل، ولا تجتمع الشجاعة والسخاوة إلا فِي نفس كاملة، ولا ينعدمان إلا منْ متناه فِي النقص. انتهى ذكره فِي "تحفة الأحوذيّ" 10/ 12.

(وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) بضم الميم، وسكونها لغتان، وفي رواية:"منْ أن أُردّ" بزيادة "منْ"، قَالَ العينيّ: أي منْ الردّ، وكلمة "أن" مصدريّة. وأرذل العمر: هو الخرف، يعني يعود كهيئته الأولى فِي أوان الطفولية، ضعيف البنية، سخيف العقل، قليل الفهم. ويقال: أرذل العمر: أردؤه، وهو حالة الهرم والضعف عن أداء الفرائض، وعن خدمة نفسه فيما يتنظف فيه، فيكون كَلّا عَلَى أهله، ثقيلًا بينهم، يتمنّون موته، فإن لم يكن له أهل، فالمصيبة أعظم.

(وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا) بأن تتزين له، وتغرّه، وتُنسيه الآخرة، ويأخذ منها زيادة عَلَى قدر الحاجة. (وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ") أي منْ موجبات عذابه. وذكر فِي "الفتح" 12/ 472 عن يحيى بن أبي كثير، أنه قَالَ: قَالَ شعبة: فسألت عبد الملك بن عمير عن فتنة الدنيا، فَقَالَ: الدجّال. قَالَ: وفي إطلاق الدنيا عَلَى الدجال إشارة إلى أن فتنته أعظم الفتن الكائنة فِي الدنيا، وَقَدْ ورد ذلك صريحًا فِي حديث أبي أُمامة، قَالَ:

ص: 403

خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فذكر الْحَدِيث، وفيه: "إنه لم تكن فتنة فِي الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم أعظم منْ فتنة الدجال"، أخرجه أبو داود، وابن ماجه. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هَذَا أخرجه البخاريّ

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -5/ 5447 و6/ 5449 و27/ 5480 و5481 و39/ 5498 - وفي "الكبرى" 9/ 7870 و10/ 7883 و27/ 7913 و7914 و39/ 7930. وأخرجه (خ) فِي "الجهاد والسير" 2822 و"الدعوات" 6365 و6370 و6374 و6390 (ت) فِي "الدعوات" 3567 (أحمد) فِي "مسند العشرة" 1589 و1624. وفوائده تعلم مما سبق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌6 - (الاسْتِعَاذَةُ مِنَ الْبُخْلِ)

5448 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، يَتَعَوَّذُ مِنْ خَمْسٍ: مِنَ الْبُخْلِ، وَالْجُبْنِ، وَسُوءِ الْعُمُرِ، وَفِتْنَةِ الصَّدْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ": هو ابن أبي رِزْمة المروزيّ الثقة [10]. و"الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى": هو السِّنانيّ المروزيّ الثقة المثبت، منْ كبار [9]. و"زكريا": هو ابن أبي زائدة الوادعيّ، أبو يحيى الكوفيّ ثقة، لكنه يدلّس، وسماعه منْ أبي إسحاق بأخرة [6].

والحديث ضعيف، تقدّم تمام البحث فيه فِي 3/ 5445 - وهو مما اضطرب فيه أبو إسحاق، فتارة يرويه، عن عمرو بن ميمون، عن ابن مسعود، كهذه الرواية، وتارة عن عمرو بن ميمون، عن عمر، كما فِي الرواية السابقة 3/ 5445، وتارة، عن عمرو، عن أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم.

وهو مما تفرد به المصنّف، أخرجه هنا -6/ 5448 - وفي "الكبرى" 10/ 8882.

ص: 404

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5449 -

(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الأَوْدِيِّ، قَالَ: كَانَ سَعْدٌ يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، كَمَا يُعَلِّمُ الْمُعَلِّمُ الْغِلْمَانَ، وَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَتَعَوَّذُ بِهِنَّ، دُبُرَ الصَّلَاةِ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ"، فَحَدَّثْتُ بِهَا مُصْعَبًا، فَصَدَّقَهُ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ": هو ابن السكن البصريّ، نزيل بغداد، صدوقٌ [11]. و"حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ": هو بفتح الحاء المهملة- هو أبو حبيب البصريّ، ثقة ثبت [9]. و"أَبُو عَوَانَةَ": هو الوضاح بن عبد الله اليشكريّ الواطي الثقة الثبت [7].

وقوله: "كَانَ سعد يعلّم بنيه الخ": قَالَ الحافظ رحمه الله تعالى: لم أقف عَلَى تعيينهم، وَقَدْ ذكر محمد بن سعد فِي "الطبقات" أولاد سعد، فذكر منْ الذكور أربعة عشر نفسًا، ومن الإناث سبع عشرة، وروى عنه الْحَدِيث منهم خمسة: عامر، ومحمد، ومصعب، وعائشة، وعمر. انتهى "فتح" 6/ 119.

وقوله: "فحدّثت به مصعبًا الخ": قائل ذلك هو عبد الملك بن عمير، ومصعب هو ابن سعد بن أبي وقّاص الذي رَوَى الْحَدِيث، عن أبيه فِي الباب الماضي.

والحديث أخرجه البخاريّ، وتقدم شرحه، وتخريجه فِي الباب الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5450 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ، وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ، وَالْهَرَمِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ").

رجال هَذَا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن المثنّى) العنزيّ، أبو موسى البصريّ، ثقة حافظ [10] 64/ 80.

2 -

(معاذ بن هشام) الدستوائيّ البصريّ، سكن اليمن، صدوقٌ، ربما وهم [9] 30/ 34.

3 -

(أبوه) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر -كجعفر- البصريّ، ثقة ثبت، رُمي بالقدر، منْ كبار [7] 30/ 34.

4 -

(قتادة) بن دعامة السدوسيّ البصريّ، ثقة ثبت يُدلّس [4] 30/ 34.

ص: 405

5 -

(أنس) بن مالك الصحابيّ الخادم الشهير رضي الله عنه 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الجماعة منْ غير واسطة. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين. (ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه منْ المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ أَنَس) بن مالك رضي الله عنه (أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ) هو فِي الأصل عدم القدرة عَلَى الشيء مطلقًا، والمراد به هنا عدم القدرة عَلَى فعل الخير (وَالْكَسَلِ) بفتحتين: هو عدم انبعاث النفس إلى الخير، وقلّة الرغبة فيه (وَالْبُخْلِ) أي منع ما أوجب الله تعالى عليه إيتاءه لمستحقّه (وَالْهَرَمِ) بفتحتين، مصدر هرِم، منْ باب تعِب: إذا كبر سنه، وضعف، حَتَّى لا يقدر عَلَى فعل الخير (وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ") أي الحيات والموت، وهو منْ ذكر العامّ بعد الخاصّ، وفتنة الممات قيل: هي فتنة القبر، وقيل: الفتنة عند الاحتضار.

قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: والكسل المتعوّذ منه هو التثاقل عن الطاعات، وعن السعي فِي تحصيل المصالح الدينيّة، والدنيويّة. والعجز المتعوذ منه هو عدم القدرة عَلَى تلك الأمور، والهرم المتعوذ منه هو المعبّر عنه فِي الْحَدِيث الآخر بأرذل العمر، وهو ضعف القوى، واختلال الحواسّ، والعقل الذي يعود الكبير بسببه إلى أسوأ منْ حال الصغير، وهو الذي قَالَ الله تعالى فيه:{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ} [يس: 68]. انتهى "المفهم" 7/ 34. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الْحَدِيث:

(المسألة الأولى): فِي درجته:

حديث أنس رضي الله عنه هَذَا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -6/ 5450 و7/ 5451 و5452 و5453 و5454 و8/ 5455 و12/

ص: 406

5459 و13/ 5461 و25/ 5478 و38/ 5497 - وفي "الكبرى" 11/ 7884 و7885 و7886 و7888 و12/ 7890 و14/ 7894 و25/ 7911 و37/ 7929. وأخرجه (خ) فِي "الجهاد" 2822 و"التفسير" 4707 و"المدعوات" 6367 و6369 و6371 (م) فِي "الذكر والدعاء" 2706 (د) فِي "الصلاة" 1540 (ت) فِي "الدعوات" 3484 و3485 (أحمد) فِي "باقي مسند المكثرين" 11703 و11756 و12663 و12720 و12760 و12821 و13004 و13060 و13371. وفوائد الْحَدِيث تعلم مما سبق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌7 - (الاِسْتِعَاذَةِ مِنَ الْهَمِّ)

5451 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ فُضَيْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَوَاتٌ لَا يَدَعُهُنَّ، كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ، وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ، وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ، وَالْجُبْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "عَلِيُّ بْنُ الْمُنْذِرِ": هو الطَّرِيقيّ الكوفيّ، صدوقٌ يتشيّع [10]. و"ابن فُضيل": هو محمد. و"محمد بن إسحاق": هو أبو بكر المطلبيّ المدنيّ، نزيل العراق، إمام المغازي، صدوقٌ، يدلّس، ورمي بالتشيع والقدر، منْ صغار [5]. و"المنهال بن عمرو": هو الأسديّ موهم الكوفيّ، صدوقٌ [5]. والله تعالى أعلم.

وقوله: "دعوات" بالرفع اسم "كَانَ" مؤخرًا، وخبرها قوله:"لرسول الله". وقوله: "لا يدعهن": أي لا يتركهنّ. وقوله: "منْ الهمّ والحزَن": "الهمّ": الخوف مما يُتوقّع حصوله فِي المستقبل. و"الحَزَن": بفتح الحاء المهملة، والزاي، أو بضم، فسكون: الأسف عَلَى ما فات منْ خير الدنيا والآخرة. قاله فِي "المنهل" 8/ 203. وَقَالَ الخطابيّ: أكثر النَّاس لا يفرّقون بين الهمّ والحزن، إلا أن الحزن إنما يكون عَلَى أمر قد وقع، والهمّ فيما يُتوقّع. انتهى.

وقوله: "وغلبة الرجال": يعني الأعداء، وهو منْ الإضافة إلى الفاعل، أو المفعول،

ص: 407

ففيه الإشارة إلى التعوّذ منْ أن يكون ظالمًا، أو مظلومًا، والتعوّذ منْ الجاه المفرط، والذلّ المهين. قَالَ الكرمانيّ: هَذَا الدعاء منْ جوامع الكلم؛ لأن أنواع الرذائل نفسية، وبدنيّة، وخارجية بحسب القوى العقلية، والغضبية، والهوية، فالهم والحزن متعلقان بالعقلية، والجبن بالغضبيّة، والبخل بالشهوية، والعجز والكسل بالبدنيّة، والضلع والغلبة بالخارجيّة، فالأول ماليّ، والثاني جاهيّ. وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما الآتي عند المصنّف برقم 24/ 5477 - : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يدعوا بهؤلاء الكلمات: "اللَّهم إني أعوذ بك منْ غلبة الدين، وغلبة العدوّ، وشماتة الأعداء".

والحديث تقدّم تخريجه فِي الباب الماضي، وسيتكلم المصنّف فِي الْحَدِيث التالي عَلَى وهم فِي هَذَا الإسناد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5452 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

جَرِيرٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، دَعَوَاتٌ لَا يَدَعُهُنَّ:"اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ، وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ، وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ، وَالْجُبْنِ، وَالدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ". قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا الصَّوَابُ، وَحَدِيثُ ابْنِ فُضَيْلٍ خَطَأٌ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "جرير": هو ابن عبد الحميد. و"عمرو بن أبي عمرو"/ ميسرة: هو مولى المطلب، أبو عثمان المدنيّ، ثقة، ربّما وهم [5].

وقوله: "خطأ": يعني أن رواية محمد بن فضيل السابقة قبل هَذَا منْ جعله منْ رواية ابن إسحاق عن المنهال بن عمرو غلط، وإنما الصواب عن ابن إسحاق، عن عمرو بن أبي عمرو، وإنما جعل المصنّف رحمه الله تعالى رواية ابن فضيل غلطًا؛ لمخالفتها لرواية الجماعة، فإنهم إنما رووا الْحَدِيث عَلَى ما رواه جرير بن عبد الحميد، فقد رواه سليمان بن بلال عند البخاريّ، ويعقوب بن عبد الرحمن عند أبي داود، وعبد السلام بن مصعب عند الترمذيّ، وإسماعيل بن جعفر عند المصنّف، وعبد العزيز الدراورديّ عنده أيضًا، كلهم عن عمرو بن أبي عمرو، فتبين بهذا أن رواية محمد بن فضيل غير محفوظة.

والحديث صحيح، وَقَدْ تقدّم تخريجه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 408

5453 -

(أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، عَنْ حُمَيْدٍ، قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ، وَالْهَرَمِ، وَالْجُبْنِ، وَالْبُخْلِ، وَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وَقَدْ تقدّموا غير مرّة. و"بشر": هو ابن المفضّل. و"حميد": هو الطويل.

والسند مسلسلٌ بثقات البصريين، وهو منْ رباعيّات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (261) منْ رباعيات الكتاب، وَقَدْ تقدّم أنه أعلى الأسانيد عنده.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ سبق شرحه، ومسائله قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

5454 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الصَّنْعَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ، وَالْكَسَلِ، وَالْهَرَمِ، وَالْبُخْلِ، وَالْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ").

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"المعتمر": هو ابن سليمان التيميّ.

والسند كسابقه مسلسل بثقات البصريين، وهو أيضاً منْ رباعيات المصنّف رحمه الله تعالى، وهو (262) منْ رباعيات الكتاب.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌8 - (الاِسْتِعَاذَةِ مِنَ الْحَزَنِ)

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "الحزن" -بفتحتين، أو بضم، فسكون، مثل رَشَد، ورُشْد-: قيل: الفرق بين الحزن، والهمّ أن الحزن عَلَى ما وقع، والهمّ فيما يُتوقّع، وكثير منهم يجعلونه منْ باب التكرير والتوكيد، وكثيرًا ما يجيء مثل هَذَا التأكيد بالعطف؛ مراعاة لتغاير اللفظ. والله تعالى أعلم بالصواب.

5455 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي

ص: 409

سَعِيدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو، مَوْلَى الْمُطَّلِبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ إِذَا دَعَا قَالَ:"اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ، وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ، وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ، وَالْجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ".

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سَعِيدُ بْنُ سَلَمَةَ، شَيْخٌ ضَعِيفٌ، وَإِنَّمَا أَخْرَجْنَاهُ لِلزِّيَادَةِ فِي الْحَدِيثِ).

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: "أبو حاتم السجستاني": هو سهل بن محمد بن عثمان النحويّ المقرىء البصريّ، صدوقٌ، فيه دُعابة [11].

رَوَى عن الأصمعي، وأبي عبيدة معمر بن المثنى، وأبي زيد الأنصاريّ، وعبد الله ابن رجاء الغداني، ومحمد بن عبيد الله العتبي، ويعقوب بن إسحاق الحضرميّ، ووهب بن جرير بن حازم، وغيرهم. وعنه أبو داود قوله فِي تفسير أسنان الإبل، والنسائي، وأبو العبّاس المبرد، وأبو بكر بن دريد، وأبو بكر بن يموت بن الْمُزَرّع بن يموت بن موسى بن حكيم العبدي الأخباري ابن أخت الجاحظ، وابن خزيمة، وأبو بكر البزار، وأبو بشر الدولابي، ومحمد بن هارون الروياني، وإبراهيم بن أبي طالب، وحرب بن إسماعيل الكرماني، وابن أبي داود، وأبو عروبة، وأبو روق الهزاني، وابن صاعد، وغيرهم. قَالَ الآجري عن أبي داود: قَالَ لي أبو طليق التمار: أخذ مني أبو حاتم كتابا فِي الحروف، قَالَ أبو داود: كتاب فِي الحروف لم يسمعة منه أبو حاتم، والذي وضعه ليس بمسموع. وَقَالَ أبو داود: جئته أنا وإبراهيم فِي كتاب وهب بن جرير، فأخرجه إلينا، فإذا فيه: حدثنا وهب، ثنا جرير بن حازم، هكذا كله، فتركناه، ولم نكتبه، وَقَالَ أيضاً: كَانَ أعلم النَّاس بالأصمعي أبو حاتم. قَالَ أبو عبيد الآجري: وكان أبو داود لا يحدث عنه بشيء، وسألته عن حديث منْ حديثه، فأبى أن يحدثني به. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات"، وَقَالَ: وهو الذي صنف القراءات، وكانت فيه دعابة، غير أني اعتبرت حديثه، فرأيته مستقيم الْحَدِيث، وإن كَانَ فيه ما لا يتعرى عنه أهل الأدب. وَقَالَ مسلمة بن قاسم: أرجو أن يكون صدوقا. وَقَالَ أبو بكر البزار: مشهور، لا بأس به. وَقَالَ أبو عمرو الداني فِي "طبقات القراء": أخذ القراءة عرضا عن يعقوب، وهو أكبر أصحابه، وله اختيار فِي القراءة. قَالَ المازني: لو أدركه سَلّام أستاذ يعقوب لاحتاج أن يأخذ عنه. ورثاه العبّاس بن الفرج الرياشي لما مات. وَقَالَ أبو سعيد السيرافي: قَالَ أبو العبّاس يعني المبرد: سمعته يقول: قرأت كتاب سيبويه عَلَى الأخفش مرتين. وكان حسن العلم بالعروض، وإخراج الْمُعَمَّى، ويقول الشعر الجيد،

ص: 410

ولم يكن بالحاذق فِي النحو، ولو قَدِم بغداد لم يقم له منهم أحد. قَالَ أبو سعيد: وعليه يَعتمد فِي اللغة أبو بكر بن دريد، وأخبرني أنه مات سنة (255) وَقَالَ غيره: مات سنة (50)، ويقال: آخر سنة (255). رَوَى عنه المصنّف هَذَا الْحَدِيث فقط، وأبو داود تفسير أسنان الإبل قوله.

و"عبد الله بن رجاء": هو الْغُدانيّ البصريّ، صدوقٌ يَهِم قليلًا [9].

و"سعيد بن سلمة" بن أبي الْحُسام العدويّ مولاهم، أبو عمرو المدنيّ، صدوقٌ، صحيح الكتاب، يُخطىء منْ حفظه [7].

رَوَى عن أبيه، وهشام بن عروة، وعمرو بن أبي عمرو، مولى المطلب، وابن المنكدر، والعلاء بن عبد الرحمن، وغيرهم. وعنه عبد الصمد بن عبد الوارث، وأبو عامر العقدي، وعبد الله بن رجاء البصريّ، وأبو سلمة التبوذكي، وغيرهم. قَالَ أبو سلمة: ما رأيت كتابا أصح منْ كتابه. وَقَالَ الآجري عن أبي داود: كَانَ فِي لسانه، وليس فِي حديثه

(1)

. وَقَالَ أبو حاتم: سألت ابن معين عنه؟ فلم يعرفه يعني حق معرفته- وَقَالَ النسائيّ: شيخ ضعيف. وذكره ابن حبّان فِي "الثقات".

رَوَى له فِي مسلم حديث "أم زرع"، واستشهد به البخاريّ، وروى له البخاريّ حديثا فِي "الاستعاذة" فقط، وروى له المصنّف هَذَا الْحَدِيث فقط، وروى له أبو داود فِي "الطلاق".

و"عمرو بن أبي عمرو، مولى المطّلب" تقدّم فِي الباب الماضي.

وقوله: "وضَلَع الدين" -بضاد معجمة، ولام مفتوحتين: بمعنى الئقل، والشدّة. و"الدين" بفتح الدال، وسكون الياء، كما هو الرواية: أي ثقل الدين، وشدته، ولو كسرت الدال لم يبعد منْ المعنى، لكن يُعدّ منْ حيث الرواية تحريفًا. قاله السنديّ.

وقوله: "وإنما أخرجناه الخ" يعني إنما أخرج هَذَا الْحَدِيث منْ طريق سعيد بن سلمة، وإن كَانَ يراه ضعيفًا؛ لأن فيه زيادة، وهي قوله:"وضلع الدين"، وإنما أخرج الزيادة عنه مع ضعفه؛ لأن ضعفه ليس شديدًا، عَلَى أنها مرويّة منْ طرق غيره أيضًا، فقد رواها الدراورديّ، عن عمرو بن أبي عمرو، كما سيأتي فِي 25/ 5478.

والحديث صحيح، بما سبق، ويأتي، وتقدم تخريجه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

(1)

هكذا عبارة "تهذيب الكمال"، و"تهذيب التهذيب" وفيها ركاكة، فليُنظَرْ.

ص: 411

‌9 - (بَابُ الاِسْتِعَاذَةِ مِنَ الْمَغْرَمِ، وَالْمَأْثَمِ)

5456 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي صَفْوَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَطِيَّةَ، وَكَانَ خَيْرَ أَهْلِ زَمَانِهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَكْثَرَ مَا يَتَعَوَّذُ مِنَ الْمَغْرَمِ وَالْمَأْثَمِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَكْثَرَ مَا تَتَعَوَّذُ مِنَ الْمَغْرَمِ؟ قَالَ: "إِنَّهُ مَنْ غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ").

رجال هَذَا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّد بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي صَفْوَانَ) الثقفيّ، ثقة [11] 10/ 468.

2 -

(سَلَمَةُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عطيّة) البصريّ، صدوقٌ [9] 13/ 4976.

[تنبيه]: القائل: "وكان الخ" هو محمد بن عثمان يُثني عَلَى شيخه. والله تعالى أعلم.

3 -

(معمر) بن راشد، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقة ثبت [7] 10/ 10.

4 -

(الزهريّ) محمد بن مسلم الإِمام الحجة المشهور [4] 1/ 1.

5 -

(عروة) بن الزبير بن العوّام المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 40/ 44.

6 -

(عائشة) أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها 5/ 5. والله تعالى أعلم.

لطائف هَذَا الإسناد:

(منها): أنه منْ سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه فقد تفرد به هو وأبو داود، وسلمة، فإنه منْ أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين منْ الزهريّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وفيه عائشة رضي الله تعالى عنها منْ المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الْحَدِيث

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله تعالى عنها، أنها (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَكْثَرَ مَا يَتَعَوَّذُ) قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى: الظاهر أن "أكثر" صيغة تفضيل، وهو بالرفع مبتدأ، مضاف إلى ما بعده، و"ما" فِي قوله:"ما يتعوّذ" مصدرية، والجارّ والمجرور خبر المبتدإ، والجملة خبر "كَانَ"، والتقدير: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر تعوّذه كَانَ منْ المغرم والمأثم، ولازمه أنه لا يستعيذ منْ أيّ شيء قدر ما يستعيذ منهما. ويمكن أن يكون أكثر

ص: 412

صيغة ماض، منْ الإكثار: أي أنه قد أكثر التعوّذ منْ المغرم والمأثم، ولازمه أنه يستعيذ منهما كثيراً، ولا يلزم أن يكون تعوّذه منهما أكثر منْ تعوّذه منْ الأشياء الأخرى. انتهى.

(مِنَ الْمَغْرَمِ) بفتح، فسكون: قيل: هو مصدر وُضع موضع الاسم، يريد مغرم الذنوب، والمَعاصي. وقيل: المغرم كالغُرْم، وهو الدين، وهذا هو الموافق لآخر الْحَدِيث، والمراد ما استُدين فيما يُكره، أو فيما يجوز، ثم عجز عن أدائه، أما فيما يحتاج إليه، ويقدر عَلَى أدائه، فلا يُستعاذ منه، والحاصل أن المراد هنا هو الدين المفضي إلى المعصية بواسطة العجز عن الأداء. (وَالْمَأْثَمِ)"المأثم" -بفتح الميم، وسكون الهمزة، وفتح المثلثة، آخره ميم-: هو الأمر الذي يأثم به الإنسان، أو هو الإثم نفسه. قالت عائشة رضي الله تعالى عنها (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَكْثَرَ مَا تَتَعَوّذُ مِنَ الْمَغْرَمِ؟) بفتح الراء منْ "أكثر" عَلَى التعجّب، و"ما" مصدريّة، كأنها تعجّبت لأجل أن الدين يكرهه منْ يحبّ التوسّع فِي الدنيا، ولا يرضى بضيق الحال، وليس ذلك منْ صفات الرجال (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (إِنَّهُ) الضمير للشأن (مَنْ غَرِمَ) بكسر الراء، منْ باب تعب (حَدَّثَ فَكَذَبَ) بفتح الذال المعجمة، منْ باب ضرب (وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ) حاصل ما أجابها به أنّ الاستعاذة منه ليس بحب التوسّع، وإنما هو لأجل ما يفضي إليه الدين، منْ الخلل فِي الدين حيث إنه يؤدي إلى الكذب، ووعد الخلف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

والحديث متّفقٌ عليه، وَقَدْ تقدّم فِي "كتاب الصلاة" 64/ 1309 وتقدم شرحه مستوفًى هناك، وكذا بيان مسائله، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

قَالَ الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير، محمد ابن الشيخ عليّ بن آدم بن موسى الإِتْيُوبيّ الولّويّ، نزيل مكة المكرّمة، عفا الله تعالى عنه وعن والديه ومشايخه آمين:

قد انتهيت منْ كتابة الجزء التاسع والثلاثين منْ شرح سنن الإِمام الحافظ الحجة أبي عبد الرحمن النسائيّ رحمه الله تعالى، المسمّى "ذخيرةَ العُقْبَى فِي شرح المجتبى"، أو "غاية المنى فِي شرح المجتنى".

وذلك بحيّ الزهراء، مخطّط الأمير طلال، فِي مكة المكرمة زادها الله تعالى تشريفًا وتعظيمًا، وجعلني منْ خيار أهلها حيًّا وميتًا، وأعْظِمْ به تكريمًا.

ص: 413

وأخر دعوانا {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا الله} .

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} .

"اللَّهم صلّ عَلَى محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت عَلَى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللَّهم بارك عَلَى محمد، وعلى آل محمد، كما باركت عَلَى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام عليك أيها النبيّ، ورحمة الله، وبركاته".

ويليه -إن شاء الله تعالى- الجزء الأربعون، مفتتحًا بالباب 10 - "الاستعاذة منْ شرّ السمع والبصر" الْحَدِيث رقم 5457 ..

"سبحانك اللهمّ، وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".

***

ص: 414