الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرح
سنن النسائي
المسَمَّى
ذخيرة العقبى في شرح المجتبى
لجامعة الفقير إلى مولاه الغني القدير
محمد بن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى الإتيوبي الوَلَّوِي
المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة
عفا الله عنه وعن والديه آمين
الجزء الرابع
دار المعراج الدولية للنشر
بسم الله الرحمن الرحيم
طبعت بمطابع
الفاروق الحديثة للطباعة والنشر
خلف 60 شارع راتب باشا حدائق شبرا
ت: 647526 - 2055688 القاهرة
شرح سنن النسائى
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى
1416 هـ-1996 م
دار المعراج الدولية للنشر
الرياض 11421 - ص. ب. 858 - هاتف وفاكس 4026278
المملكة العربية السعودية
بيروت- ص. ب. 6366/ 14 - هاتف 831331 - فاكس 603333
القاهرة - ص. ب. 1289 - هاتف 3900318 - فاكس 3926250
120 - باب تَرْكِ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ
أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على ترك الوضوء من أجل مس الرجل امرأته من غير شهوة.
فترك خبر لمحذوف كما قدرناه، وهو مضاف إلى الوضوء من إضافة المصدر إلى مفعوله، و "من" تعليلية متعلقة بالوضوء، و "مس" مضاف إلى "الرجل الفاعل"، و"امرأته" منصوب على المفعولية له و"من غير" متعلق به. والشهوة: اشتياق النفس إلى الشيء، والجمع: شَهَوَات، واشتهيته فهو مُشتَهًى، وشيء شَهيّ مثل لذيذ وزنا ومعنى، وشَهَّيته بالتشديد، فاشتهى عَلَيَّ، وشهيتُ الشيء وشَهَوْتُهُ من بابي تعب وعلا: مثل اشتهيته، فالرجل شهوان والمرأة شهوى. اهـ المصباح. ج 1/ ص 326.
ومراد المصنف بهذا حمل الأحاديث الآتية الدالة على عدم انتقاض الوضوء بمس المرأة على المس بغير شهوة، لكن هذا الحمل غير ظاهر، بل الظاهر إطلاق الحكم؛ لأنه ليس هناك دليل يدل على هذا الحمل، وسيأتي تحقيق القول في ذلك في المسائل الآتية آخر الباب، التالي إن شاء الله تعالى.
166 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ اللَّيْثِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْهَادِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيُصَلِّي، وَإِنِّي لَمُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ اعْتِرَاضَ الْجَنَازَةِ حَتَّى إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ مَسَّنِي بِرِجْلِهِ.
رجال الإسناد: سبعة
1 -
(محمَّد بن عبد الله عبد الحكم) بن أعْيَن، المصري الفقيه، ثقة، من الحادية عشرة. عن ابن وهب، وأنس بن عياض، والشافعي، وأشهب، وأيوب ابن سويد. وعنه (س) وأبو حاتم.
وفي (تت): قال النسائي: ثقة، وقال مرة: صدوق لا بأس به، وقال مرة: هو أشرف من أن يكذب، وذكره في تسمية الفقهاء من أهل مصر، وقال ابن خزيمة: ما رأيت في فقهاء الإسلام أعرف بأقاويل
الصحابة والتابعين منه، وقال ابن أبي حاتم: كتبت عنه، وهو صدوق ثقة من فقهاء مصر من أصحاب مالك، وقال ابن يونس: كان المفتي بمصر في أيامه، ولد سنة -182 - ومات في ذي القعدة سنة -268 - وقال ابن قانع: مات سنة -90 - ، والأول أولى. اهـ باختصار ج 9 ص 261.
2 -
(شعيب) بن الليث بن سعد الفهمي، مولاهم، أبو عبد الملك المصري، ثقة نبيل فقيه، من كبار العاشرة.
قال ابن وهب: ما رأيت أفضل من شعيب بن الليث، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي هو أحب إليك أو عبد الله بن عبد الحكم؟ فقال: شعيب أحلى حديثا، وقال ابن يونس: كان فقيها مفتيا، وكان من أهل الفضل، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الخطيب: كان ثقة، وقال يحيى بن بكير: ولد سنة -135 - ومات سنة -199 - ، زاد غيره: ليومين بقيا من صفر، وقال ابن يونس: ليومين بقيا من رمضان، وقال ابن حبان في آخر رمضان. اهـ "تت"ج 4 ص 355. أخرج له مسلم، وأبو داود، والمصنف.
3 -
(الليث) بن سعد بن عبد الرحمن أبو الحارث المصري الحجة ثقة فقيه -7 - ، تقدم في 31/ 35.
4 -
(ابن الهاد) يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي، أبو عبد الله المدني، ثقة مكثر، من الخامسة، مات سنة -139 - اهـ "ت" ص 383.
قال الأثرم عن أحمد: لا أعلم به بأسا، وقال ابن معين، والنسائي: ثقة، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: ابن الهاد أحب إلى من عبد الرحمن ابن الحارث، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وهو ومحمد بن عجلان متساويان، وهو في نفسه ثقة وذكره ابن حبان في الثقات. اهـ "تت" ج 11 ص 340 تقدم في 73/ 90.
5 -
(عبد الرحمن بن القاسم) بن محمَّد بن أبي بكر الصديق، التيمي، أبو محمَّد المدني، ثقة جليل، قال ابن عيينة: كان أفضل أهل زمانه، من السادسة، مات سنة 126، وقيل: بعدها. اهـ "ت" ص 208.
قال ابن سعد: أمه قُرَيبة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، وقال مصعب الزهري: كان من خيار المسلمين، وكان له قدر في أهل المشرق، وقال مالك: لم يخلف أحد أباه في مجلسه إلا عبد الرحمن، وقال أبو طالب عن أحمد: ثقة ثقة، وقال العجلي، وأبو حاتم، والنسائي: ثقة. اهـ "تت" ج 6 ص 254 أخرج له الجماعة.
6 -
(القاسم) بن محمَّد بن أبي بكر الصديق التيمي، ثقة أحد الفقهاء بالمدينة، من كبار الثالثة، مات سنة -106 - على الصحيح.
قال ابن سعد: أمه أم ولد يقال لها: سودة، وكان ثقة، رفيعا، عالما فقيها إماما ورعا كثير الحديث، وقال البخاري: قتل أبوه، وبقي القاسم يتيما في حجر عائشة رضي الله عنها، وقال الزبير: ما رأيت أبا بكر ولد ولدا أشبه به من هذا الفتى، وقال عبد الله بن شوذب، عن يحيى بن سعيد: ما أدركنا بالمدينة أحدًا نفضله على القاسم، وقال وهيب عن
أيوب: ما رأيت أفضل منه، وقال البخاري في الصحيح: حدثنا علي، حدثنا ابن عيينة، حدثنا عبد الرحمن بن القاسم وكان أفضل أهل زمانه أنه سمع أباه، وكان أفضل أهل زمانه. وقال أبو الزناد: ما رأيت أحدا أعلم بالسنة منه، ولا أحدّ ذهنا، وقال جعفر بن أبي عثمان الطيالسي عن ابن معين: عبيد الله بن عمر، عن القاسم، عن عائشة ترجمة مشبكة بالذهب.
وقال ابن عون: كان القاسم، وابن سيرين، ورجاء بن حيوة يحدثون بالحديث على حروفه. وقال خالد بن نزار: كان أعلم الناس بحديث عائشة، ثلاثة: القاسم، وعروة، وعمرة. وقال مالك: كان قليل الحديث، والفتيا. وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: رأيت القاسم يصلي فجاء إليه أعرابي فقال له أيما أعلم، أنت، أو سالم؟ فقال: سبحان الله، فكرر عليه، فقال: ذاك سالم، فاسأله، قال ابن إسحاق: كره أن يقول: أنا أعلم من سالم، فيزكي نفسه، وكره أن يقول: سالم أعلم مني، فيكذب، قال: وكان القاسم أعلمهما، وقال ابن وهب عن مالك: كان القاسم من فقهاء هذه الأمة، قال: وكان ابن
سيرين يأمر من يحج أن ينظر إلى هدي القاسم، فيقتدي به، وقال مصعب الزبيري، والعجلي: كان من خيار التابعين. وقال العجلي أيضا مدني تابعي ثقة نَزه رجل صالح. وقال ابن وهب: حدثني مالك أن عمر بن عبد العزيز كان يقول: لو كان لي من هذا الأمر شيء ما عصبته إلا بالقاسم. وقال ابن حبان في ثقات التابعين: إنه كان من سادات التابعين من أفضل أهل زمانه علما وأدبا وفقها، وكان صموتا، فلما ولي عمر ابن عبد العزيز قال أهل المدينة: اليوم تنطق العذراء، أرادوا القاسم. اهـ "تت" ج 8 ص 334 - 335. أخرج له الجماعة.
7 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها تقدم في 5/ 5.
لطائف هذا الإسناد
منها أنه من سباعياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأنهم ما بين مصريين وهم الثلاثة الأولون، ومدنيين وهم الباقون، وأن فيه رواية الابن عن أبيه في موضعين.
وأن شيخه ممن انفرد هو به عن بقية أصحاب الأصول، وأن شعيبا ممن أخرج له (م د س) فقط، والباقون ممن اتفقوا على التخريج لهم.
شرح الحديث
(عن عائشة) رضي الله عنها، أنها (قالت: إن) مخففة من الثقيلة (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي) اللام هي الفارقة بين "إن" المخففة، و"إن" الشرطية، أو هي لام الابتداء، كما هو مقرر في محله، أي كان يصلي صلاة الليل (وإني لمعترضة بين يديه) جملة حالية، أي والحال أني نائمة عرضا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم (اعتراض الجنازة) مفعول مطلق لمعترضة، أي مثل اعتراضها.
والجنازة بالفتح والكسر، والكسر أفصح مشتق من جنزت الشيء، أجْنزُهُ من باب ضرب: سترته، وقال الأصمعي، وابن الأعرابي الجنازة بالكسر الميت نفسه، وبالفتح السرير، وروى أبو عمر الزاهد عن ثعلب عكس هذا، فقال: بالكسر السرير، وبالفتح الميت نفسه. أفاده في المصباح ج 1 ص 111 (حتى إذا أراد) صلى الله عليه وسلم (أن يوتر) أي يصلي الوتر (مسني برجله) أي لتصلي الوتر، كما صرح به في رواية البخاري، ثم الظاهر أن هذا المس بدون حائل.
ومعلوم أنه مس بلا شهوة، فاستدل المصنف على أن المس بلا شهوة لا ينقض. وأما بالشهوة فالظاهر أنه يرى انتقاض الوضوء به.
قال الجامع عفا الله عنه: لكن الانتقاض بذلك ليس عليه دليل إلا إذا
خرج منه شيء، بل الدليل على عدم الانتقاض ظاهر، وذلك أن الأصل هو العدم حتى يظهر دليل الانتقاض، وهذا يكفي في القول بعدمه، كيف وحديث القبلة الآتي أظهر، وأقوى من أن يحتاج إلى دليل آخر، والقبلة غالبًا لا تخلو عن شهوة. وسيأتي تحقيق المسألة إن شاء الله تعالى.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث عائشة رضي الله عنها هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان موضع ذكر المصنف له:
أخرجه في هذا الباب بهذا السند فقط. وهو من أفراده، ولم يخرجه من أصحاب الأصول غيره.
وأخرجه أحمد في مسنده ج 6 ص 260.
وأما المسائل المتعلقة ببيان الأحكام، ومذاهب العلماء فستأتي آخر الباب إن شاء الله تعالى.
167 -
أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَقَدْ رَأَيْتُمُونِي مُعْتَرِضَةً بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ غَمَزَ رِجْلِي، فَضَمَمْتُهَا إِلَيَّ ثُمَّ يَسْجُدُ.
رجال الإسناد: خمسة
1 -
(يعقوب بن إبراهيم) بن كثير الدَّوْرَقي، أبو يوسف البغدادي ثقة -10 - تقدم في 21/ 22.
2 -
(يحيى) بن سعيد بن فَرُّوخ القطان أبو سعيد البصري ثقة حجة -9 - تقدم في 4/ 4.
3 -
(عبيد الله) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري المدني، أبو عثمان، ثقة ثبت، قدمه أحمد بن صالح على مالك في نافع، وقدمه ابن معين في القاسم عن عائشة على الزهري، عن عروة عنها، من الخامسة، مات سنة بضع وأربعين ومائة وتقدم في 95/ 119.
4 -
(القاسم بن محمَّد) بن أبي بكر الصديق ثقة ثبت حجة من كبار -3 - تقدم في 120/ 166.
5 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها. تقدمت في 5/ 5.
لطائف هذا الإسناد
منها أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأنهم مدنيون إلا يعقوب، فبغدادي، ويحيى فبصري وأنهم ممن اتفق عليهم الستة، وأن شيخه ممن رووا عنه كلهم من دون واسطة، وفيه رواية تابعي عن تابعي، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة روت 2210 حديثا.
شرح الحديث
(عن عائشة) رضي الله عنها أنها (قالت: لقد رأيتموني) هكذا بضمير المخاطبين عند المصنف، أي لقد علمتموني، وعند البخاري: لقد رأيتني بضمير المتكلم، وقد أشار في هامش الهندية أنها نسخة في
النسائي أيضا، والمعنى لقد رأيت نفسي، وعلى الأول أنها كانت قد أعلمتهم بذلك قبل، فذكَّرتهم ذلك.
(فائدة) من خواص أفعال القلوب أنه يجوز كون فاعلها ومفعولها ضميرين متصلين لمسمى واحد، كظننتني قائما، وخلتني ذاهبا، وقوله تعالى:{أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} ، وأُلِحقَ بها في ذلك "رأى" الحُلمية بضم الحاء، والبصرية بكثرة، نحو قوله تعالى:{إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} و"عدم""وفقد"، "ووجد"، بمعنى لقي، بقلة، دون باقي الأفعال، فلا يقال: ضربتني اتفاقا لئلا يكون الفاعل مفعولا، بل ضربت نفسي، وظلمت نفسي ليتغاير اللفظان، فإن ورد ما يوهمه قدر فيه النفس نحو {وَهُزِّي إِلَيْكِ} {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} أي إلى نفسك، وعلى نفسك، بخلاف أفعال القلوب فإن مفعولها في الحقيقة مضمون الجملة لا المنصوب بها فلا ضرر في اتحاده مع الفاعل، ولا توضع النفس مكانه عند الجمهور، فلا يقال: ظننت نفسي عالمة، وجوزه ابن كيسان، فإن كان أحد الضميرين منفصلا جاز في كل فعل نحو ما ضربت إلا إياي. انظر حاشية الخضري على شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك ج 1 ص 151.
(معترضة) مفعول ثان لـ "رأى" إن كانت علمية، ومنصوب على الحال إن كانت بصرية، أي نائمة عرضا (بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي قدامه. قال العلامة ابن منظور رحمه الله: ويقال: بين يديك كذا لكل شيء أمامك، قال الله تعالى:{مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} ، ويقال: إن بين يدي الساعة أهوالًا، أي قدامها. اهـ لسان ج 6 ص 4954.
(يصلي) جملة حالية، أي حال كونه مصليا صلاة الليل، ففي رواية أبي داود "كنت أكون نائمة ورجلاي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي
من الليل
…
(فإذا أراد أن يسجد غمز رجلي) أي جسها بيده من قولهم غمزت الكبش بيدي: إذا جسسته لتعرف سمَنَه. قاله في المصباح. ج 2 ص 453. (فضممتها إلي، ثم يسجد) وإنما غمز رجلها لكونها في موضع سجوده صلى الله عليه وسلم، فكان يعلمها بالغمز أنه يريد السجود، والظاهر أن هذا المس من غير حائل، والقول بأنه كان بحائل بعيد يحتاج إلى دليل. كما قاله السندي. واستدل المصنف بهذا الحديث على أن المس بلا شهوة لا ينقض الوضوء.
وقال في المنهل: وفيه دلالة لمن قال: إن لمس المرأة بلا لذة لا ينقض الوضوء؛ لأن شأن المصلي عدم اللذة حال صلاته، ولا سيما النبي صلى الله عليه وسلم، وحمله غيره على أن اللمس يحتمل أن يكون بحائل؛ لأن هذا هو الظاهر من حال النائم، أو هو خصوصية له صلى الله عليه وسلم، لكن احتمال الحائل والخصوصية بعيد لأن الأصل عدم الحائل، والخصائص لا تثبت بالاحتمال، ولا تكون إلا بدليل اهـ ج 3 ص 108 - 109.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله صاحب المنهل حسن جدًا، وحاصله أن الراجح هو القول بعدم النقض مطلقا، وسيأتي تحقيق القول في ذلك. إن شاء الله تعالى.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عائشة رضي الله عنها هذا أخرجه البخاري.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف.
أخرجه هنا 167، وفي الكبرى -157 - بالسند المذكور.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (خ د) فأخرجه (خ) في
الصلاة -108 - عن عمرو بن علي، و (د) عن مسدد كلاهما عن يحيى ابن سعيد، عن عبيد الله بن عمر به.
المسألة الرابعة: في فوائده: يستفاد من هذا الحديث جواز الصلاة إلى النائم، وأن نوم المرأة بين يدي المصلي لا يقطع الصلاة، وأن مسها لا ينقض الوضوء، إذا الظاهر أنه من دون حائل، واستدل به المصنف على عدم النقض إن كان بدون شهوة، ولكن الأولى عدم التقييد بذلك كما سيأتي التحقيق لذلك إن شاء الله تعالى.
168 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَرِجْلَايَ فِي قِبْلَتِهِ، فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ، فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا، وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ.
رجال الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة) بن سعيد البغلاني ثقة ثبت -10 - تقدم في 1/ 1.
2 -
(مالك) بن أنس أبو عبد الله إمام دار الهجرة ثقة حجة -7 - تقدم في 19/ 20 وفي 7/ 7.
3 -
(أبو النضر) سالم بن أبي أمية مولي عمر بن عبيد الله التيمي المدني ثقة ثبت، وكان يرسل، من الخامسة، مات سنة -129 - اهـ ت ص 114 وتقدم في 112/ 156.
4 -
(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني، أحد الفقهاء السبعة، ثقة لقيه -3 - تقدم في 1/ 1.
5 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها تقدمت في 5/ 5.
لطائف هذا الإسناد
منها أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأن شيخه هو أول من بدأ به في سماع الحديث، وفي سننه الكبرى، والصغرى، وأن أبا سلمة أحد الفقهاء السبعة، من التابعين، وأن عائشة من المكثرين
السبعة من الصحابة.
شرح الحديث
(عن عائشة) رضي الله عنها أنها (قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي قدامه (ورجلاي في قبلته) جملة حالية من الفاعل، أي والحال أن رجليّ كائنتان في جهة قبلته (فإذا سجد) أي أراد أن يسجد (غمزني) أي جسني بيده، وذلك لمدها رجلها على محل سجوده (فقبضت رجلي) بصيغة التثنية مضافا إلى ياء المتكلم (فإذا قام) من السجود (بسطتهما) أي مددتهما إليه (والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح) جملة مستأنفة ذكرتها اعتذارا بأنها ما كانت تدري وقت سجوده صلى الله عليه وسلم لعدم المصباح وقتئذ، وإلا لما احتاج إلى الغمز كل مرة، بل هي ضمت رجلها إليها وقت سجوده. أفاده السندي ج 1 ص 102.
قال الجامع: هذا الغمز والذي قبله غير الغمز المتقدم في الحديث السابق 166؛ لأن ذاك كان لتصلي الوتر، وهذا لتزيل رجليها عن مكان سجوده. والله أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: هذا الحديث متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف:
أخرجه هنا -168 - وفي الكبرى -156 - بالسند المذكور.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه (خ م د) فأخرجه (خ) في الصلاة -22/ 1 - عن إسماعيل بن أبي أويس، و-530 - عن القعنبي، و-104 - عن عبد الله بن يوسف. و (م) في الصلاة -51/ 6 - عن يحيى بن يحيى - أربعتهم عن مالك، عن سالم أبي النضر، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها. و (د) في الصلاة -113/ 4 - عن عاصم بن النضر، عن المعتمر بن سليمان، عن عبيد الله بن عمر عن سالم أبي النضر نحوه. أفاده المزي.
وأخرجه البيهقي في سننه ج 2 ص 264، وص 276.
وبقية المسائل ستأتي آخر الباب إن شاء الله تعالى.
169 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَنُصَيْرُ بْنُ الْفَرَجِ، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: فَقَدْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَجَعَلْتُ أَطْلُبُهُ بِيَدِي، فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى قَدَمَيْهِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ: "أَعُوذُ
بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ".
رجال الإسناد: ثمانية
1 -
(محمَّد بن عبد الله بن المبارك) المُخَرِّمي أبو جعفر البغدادي، ثقة حافظ، من الحادية عشرة، مات سنة بضع وخمسين ومائتين. تقدم في 43/ 50.
2 -
(نصير
(1)
بن الفرج
(2)
) "نصير" الأسلمي -بفتح الهمزة والمهملة وتخفيف اللام- أبو حمزة الثغري
(3)
-بالثاء المثلثة والغين المعجمة الساكنة- خادم أبي معاوية، الأسودُ الزاهد، ثقة من الحادية عشرة، مات سنة 245. اهـ "ت".
روى عن حجاج بن محمَّد المصيصي، وأبي أسامة، وحسين بن علي الجعفي، ومعاذ بن هشام، وعمار بن بشر، وعبد الملك بن الصباح، وعبد الله بن يزيد المقرئ، وغيرهم. وروى عنه أبو داود، والنسائي، وحرب بن إسماعيل، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وأبو بكر بن أبي داود. قال النسائي: ثقة، وقال مسلمة: شامي ثقة. اهـ تت ج 10 ص 434. انفرد به أبو داود، والمصنف.
3 -
(أبو أسامة) حماد بن أسامة القرشي مولاهم الكوفي ثقة ثبت ربما دلس، وكان بآخره يحدث من كتب غيره، من كبار التاسعة، مات سنة 201، وهو ابن 80، وتقدم في 44/ 52.
(1)
"نصير" مصغرًا.
(2)
"الفرج" بفتحتين.
(3)
بالثاء المثلثة، والغين المعجمة الساكنة.
4 -
(عبيد الله بن عمر) بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري المدني أبو عثمان، ثقة ثبت، قدمه أحمد بن صالح على مالك في نافع، وقدمه ابن معين في القاسم عن عائشة رضي الله عنها على الزهري عن عروة عنها، من الخامسة مات سنة- بضع وأربعين ومائة.
قال عمرو بن علي: ذكرت ليحيى بن سعيد قول ابن مهدي: إن مالكا أثبت في نافع عن عبيد الله، فغضب وقال: قال أبو حاتم عن أحمد: عبيد الله أثبتهم وأحفظهم وأكثرهم رواية، وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: مالك أحب إليك عن نافع، أو عبيد الله؟ قال: كلاهما ولم يفضل، وقال جعفر الطيالسي: سمعت يحيى بن معين يقول: عبيد الله عن القاسم عن عائشة الذهب المشتبك بالدرر، فقلت: هو أحب إليك، أو الزهري عن عروة، عن عائشة؟ قال: هو إلى أحب. وقال أحمد بن صالح: عبيد الله أحب إلى من مالك في حديث نافع، وقال عبد الله بن أحمد عن ابن معين: عبيد الله بن عمر من الثقات. وقال النسائي: ثقة، وقال أبو زرعة وأبو حاتم: ثقة. اهـ "تت" ج 7 ص 30 - 40، أخرج له الجماعة.
5 -
(محمَّد بن يحيى بن حبان) بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة- ابن منقذ الأنصاري المدني ثقة فقيه من الرابعة، مات سنة 121، وهو ابن 74. وتقدم في 22/ 23.
6 -
(الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز، أبو داود المدني مولى ربيعة بن الحارث، ثقة ثبت عالم من الثالثة مات سنة 117. وتقدم في 51/ 63.
7 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه تقدم في 1/ 1.
8 -
(عائشة) رضي الله عنها تقدمت في 5/ 5.
لطائف هذا الإسناد
منها أنه من سباعيات المصنف وأن رواته ثقات، وفيه رواية ثلاثة من التابعين: بعضهم عن بعض: عبيد الله ومحمد بن يحيى والأعرج، وفيه رواية صحابي عن صحابية، وأنهما من المكثرين السبعة.
شرح الحديث
(عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: فقدت النبي صلى الله عليه وسلم) أي عَدمته، يقال: فقدته فقدًا من باب ضرب، وفقدانًا: عدمته، فهو مفقود وفَقيد، وافتقدته مثله، وتفقدته: طلبته. قاله في المصباح. ج 2 ص 478 (ذات ليلة) أي ليلة من الليالي، فذات مقحمة زيدت للتأكيد، وقال الزمخشري هو من إضافة المسمى إلى الاسم (فجعلت أطلبه بيدي) وإنما طلبته لأنها ظنت أنه ذهب إلى بعض أزواجه، ففي رواية مسلم: قالت: "افتقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فظننت أنه ذهب إلى بعض نسائه، فتحسست، ثم رجعمشا، فإذا هو راكع أو ساجد يقول: سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت، فقلت بأبي أنت وأمي إني لفي شأن وإنك لفي آخر"(فوقعت يدي على قدميه) ولمسلم: "على بطن قدميه"، وفيه دليل على أن مس المرأة الرجل لا ينقض الوضوء، إذ الظاهر أن هذا المس بدون حائل.
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم: استدل به من يقول: لمس المرأة لا ينقض الوضوء، وهو مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه وآخرين، وقال مالك، والشافعي، وأحمد رحمهم الله تعالى، والأكثرون: ينقض، واختلفوا في تفصيل ذلك، وأجيب عن هذا الحديث بأن الملموس لا ينتقض على قول الشافعي رحمه الله وغيره، وعلى قول من قال: ينتقض وهو الراجح عند أصحابنا يحمل هذا اللمس على أنه كان فوق حائل فلا يضر. اهـ كلام النووي رحمه الله ج 4 ص 203.
قال الجامع: في هذا التأويل نظر لا يخفى، فالراجح المذهب الأول، كما سيأتي تحقيقه، إن شاء الله تعالى.
(وهما منصوبتان) جملة حالية من قدميه، أي والحال أن القدمين قائمتان (وهو ساجد) جملة حالية أيضا أي والحال أنه صلى الله عليه وسلم ساجد في صلاة الليل، وفيه دليل على أن السنة في السجود نصب القدمين (يقول) جملة حالية، أو خبر بعد الخبر لـ"هو"(أعوذ) أي أعتصم وأتحصن، يقال: عاذ به يعوذ عَوذًا وعياذًا ومعاذًا: لاذ به، ولجأ إليه، واعتصم. اهـ لسان ج 4 ص 3162 (برضاك من سخطك) متعلقان بأعوذ أي ألجأ إليك متوسلًا برضاك من فعل يوجب سخطك علي.
والرضا بالكسر مقصورًا مصدر سماعي لرضي، والقياس بالفتح، والسخط بضم فسكون، وبفتحتين مصدر لسخط، الأول سماعي، والثاني قياسي، قال ابن مالك:
وَمَا أتَى مُخَالفًا لما مَضَى
…
فَبَابُهُ النَّقْلُ كَسُخْط وَرِضَى
وفيه إثبات صفة الرضا والسخط لله سبحانه وتعالى.
قال السيوطي في شرحه: قال ابن خاقان البغدادي: سمعت النقاد يقول: طلب الاستغاثة من الله نقص من التوكل. اهـ زهر.
قال الجامع: في هذا الكلام نظر لا يخفى، بل النقص في عدم الاستغاثة بالله، فليس التوكل ترك الأسباب، بل هو الأخذ بالأسباب ثم عدم الاعتماد عليها، ومن الأسباب الدعاء والالتجاء إلى الله تعالى، فقد حث الله تعالى في كتابه عليه، وأرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا، وهو سيد المتوكلين والله أعلم.
وقال السندي رحمه الله: قوله: أعوذ برضاك: أي متوسلا برضاك من أن تسخط علي وتغضب. انتهى، وقيل: أي أسألك الرضا عوضا من السخط. أفاده السيوطي.
(و) أعوذ (بمعافاتك) مصدر عافاه، من العفو، وهو التجاوز عن الذنب، وترك العقاب عليه، وأصله: المحو والطمس، يقال: عَفَا يَعْفُو عَفْوًا فهو عَاف، وعَفُوّ، وقال ابن الأنباري في قوله تعالى:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} : محا الله عنك، مأخوذ من قولهم: عفت الرياح الآثار تعفو عفوا، لفظ اللازم والمتعدي سواء. أفاده في اللسان. ج 4 ص 3018 (من عقوبتك) أي تعذيبك.
قال القاضي عياض رحمه الله: رضى الله، وسخطه، ومعافاته، وعقوبته، من صفات كماله، فاستعاذ من المكروه منهما إلى المحبوب، ومن الشر إلى الخير.
وقال القرطبي رحمه الله: ثم ترقى عن الأفعال إلى منشىء الأفعال، فقال:(وأعوذ بك منك) مشاهدة للحق وغيبة عن الخلق
(1)
، وهذا محض المعرفة الذي لا يعبر عنه قول، ولا يضبطه صفة، وقوله (لا أحصى ثناء عليك) أي لا أطيقه، أي لا، أنتهي إلى غايته ولا أحيط بمعرفته كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة:"فأحمده بمحامد لا أقدر عليها الآن"، وروى مالك لا أحصي نعمتك وإحسانك والثناء عليك، وإن اجتهدت في ذلك، والأول أولى، لما ذكرناه، ولقوله في الحديث (أنت
كما أثنيت على نفسك) ومعنى ذلك اعتراف بالعجز عند ما ظهر له من
(1)
في هذه العبارة نظر لا يخفى، لأنها تستلزم أن ما تقدم من الرضا، والسخط، والمعافاة، والمعاقبة من جملة الخلق، والحق أنها من صفاته تعالى، كالعلم والقدرة، وغيرهما. فتنبه.
صفات جلاله، وكماله، وصمديته، وقدوسيته، وعظمته، وكبريائه، وجبروته ما لا يُنْتَهى إلى عدّه، ولا يُوصَل إلى حدّه، ولا يحمله عقل، ولا يحيط به فكر، وعند الانتهاء إلى هذا المقام انتهت معرفة الأنام. قاله في زهر ج 1 ص 103.
وقال السندي رحمه الله في تفسير (أعوذ بك منك) الخ: ما حاصله: أي أعوذ بصفات جمالك عن صفات جلالك فهذا إجمال بعد شيء من التفصيل، وتعوذ بتوسل جميع صفات الجمال عن صفات الجلال، وإلا فالتعوذ من الذات مع قطع النظر عن شيء من الصفات لا يظهر، وقيل: هذا من باب مشاهدة الحق والغيبة عن الخلق وهذا محض المعرفة الذي لا يحيطه العباد (لا أحصي ثناء عليك) أي لا أستطيع فردا من ثنائك على شيء من نعمائك، وهذا بيان لكمال عجز البشر عن أداء حقوق الرب
تعالى. ومعنى (أنت كما أثنيت على نفسك) أي أنت الذي أثنيت على ذاتك ثناء يليق بك، فمن يقدر على أداء حق ثنائك؟، فالكاف زائدة والخطاب في عائد الموصول بملاحظة المعنى، نحو:
أنَا الذي سَمَّتْني أمِّي حَيْدَرَهْ
ويحتمل أن الكاف بمعنى "على" والعائد إلى الموصول محذوف أي أنت ثابت دائم على الأوصاف الجليلة التي أثنيت بها على نفسك، والجملة على الوجهين في موضع التعليل، وفيه إطلاق لفظ النفس على ذاته تعالى بلا مشاكلة، وقيل: أنت تأكيد للمجرور في "عليك"، فهو من استعارة المرفوع المنفصل موضع المجرور المتصل، إذ لا منفصل في المجرور، و"ما" في كما: مصدرية، والكاف بمعنى مثل صفة ثناء، ويحتمل أن تكون "ما" على هذا التقرير موصولة، أو موصوفة والتقدير
مثل ثناء أثنيته، أو مثل الثناء الذي أثنيته على أن العائد المقدر ضمير المصدر، ونصبه على كونه مفعولا مطلقا، وإضافة المثل إلى المعرفة لا يضر في كونه صفة نكرة؛ لأنه متوغل في الإبهام، فلا يتعرف بالإضافة، وقيل: أصله ثناؤك المستحق، كثنائك على نفسك، فحذف المضاف من المبتدإ، فصار الضمير المجرور مرفوعا. والله أعلم. أفاده السندي ج 1 ص 103 - 104.
وقال ابن الأثير في النهاية: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك" الحديث
…
وفي رواية بدأ بالمعافاة، ثم بالرضا، إنما ابتدأ بالمعافاة من العقوبة لأنها من صفات الأفعال كالإماتة والإحياء، والرضا والسخط من صفات الذات، وصفات الأفعال أدنى رتبة من صفات الذات
(1)
، فبدأ بالأدنى مترقيا إلى الأعلى، ثم لما ازداد يقينا وارتقاء ترك الصفات، وقصر نظره على الذات، فقال (أعوذ بك منك)، ثم لما ازداد قربا، استحيا معه من الاستعاذة على بساط القرب، فالتجأ إلى الثناء فقال "لا أحصي ثناء عليك)، ثم علم أن ذلك قصور، فقال (أنت كما أثنيت على نفسك)، وأما على الرواية الأولى فإنما قدم الاستعاذة بالرضا على السخط لأن المعافاة من العقوبة تحصل بحصول الرضا، وإنما ذكرها لأن دلالة الأولى عليها تضمن، فأراد أن يدل عليها دلالة مطابقة، فكنى عنها أولًا، ثم صرح بها ثانيا، ولأن الراضي قد يعاقب للمصلحة، أو لاستيفاء حق الغير. اهـ ما في النهاية ج 2 ص 232.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
(1)
قلت: في جعل صفة الأفعال أدنى من صفات الذات نظر لا يخفى، إذ الصفات كلها متساوية في العلو. فتنبه.
المسألة الأولى. في درجته: حديث عائشة رضي الله عنها أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف. أخرجه المصنف هنا 120/ 4 عن محمد بن عبد الله بن البارك المخرّمي ونُصير بن الفرج كلاهما عن أبي أسامة، عن عبيد الله بن عمر، عن محمد بن يحيى بن
حبان، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن عائشة رضي الله عنها. وأخرجه في الصلاة -394 - وفي النعوت (في الكبرى) 5/ 1 عن إسحاق بن إبراهيم عن عبدة بن سليمان، عن عبيد الله بن عمر المذكور.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (م د ق) فأخرجه (م) في الصلاة -42/ 8 - عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي أسامة. وأخرجه (د) في الصلاة -153/ 5 - عن محمد بن سليمان الأنباري، عن عبدة ابن سليمان، كلاهما عن عبيد الله بن عمر، عن محمد بن يحيى بن حبان به. وأخرجه (ق) في الدعاء (3/ 4) عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي أسامة الخ.
المسألة الرابعة: في فوائده: من فوائده عدم نقض الوضوء بمس المرأة وقيده الصنف بما إذا كان بغير شهوة، ولكن لا دليل لهذا التقييد فالظاهر إطلاق الحكم.
ومنها: استحباب نصب القدمين في السجود.
ومنها: مشروعية قيام الليل.
ومنها: استحباب الدعاء في حالة السجود لأنها من مواطن الإجابة.
ومنها: التعوذ من سخط الله وعقوبته.
ومئها: بيان عظمة الله تعالى وعجز الخلق عن أداء الثناء عليه. بل هو الذي يثني على نفسه، كما ينبغي له الثناء.
وسياتي بقية الكلام على مذاهب العلماء في حكم حديث الباب في الباب الآتى إن شاء الله تعالى.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
121 - تَرْكُ الوُضُوء مِنَ القُبْلَةِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على ترك الوضوء من أجل قبلة الرجل امرأته لعدم انتقاضه، ثم إن ظاهر كلامه يشمل ما إذا كان بشهوة، لأن القبلة لا تخلو عن الشهوة غالبًا، إلا أنه أعل الحديث بالإرسال كما ياتي، والصحيح أن الحديث صحيح، فعدم النقض مطلقا هو المذهب الأقوى دليلا، كما سنحققه بعد إن شاء الله تعالى.
170 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو رَوْقٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُقَبِّلُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ ثُمَّ يُصَلِّي، وَلَا يَتَوَضَّأُ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لَيْسَ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثٌ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَإِنَ كَانَ مُرْسَلًا. وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الأَعْمَشُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها.
قَالَ يَحْيَى الْقَطَّانُ: حَدِيثُ حَبِيبٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها هَذَا، وَحَدِيثُ حَبِيبٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: "تُصَلِّي وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ" لَا شَيْءَ.
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(محمد بن المثنى) أبو موسى العنزي البصري ثقة حافظ -10 - تقدم في 64/ 80.
2 -
(يحيى بن سعيد) بن فروخ القطان أبو سعيد البصري ثقة حجة -9 - تقدم في 4/ 4.
3 -
(سفيان) بن سعيد أبو عبد الله الثوري الحجة الثبت الفقيه -7 - تقدم في 89/ 111.
4 -
(أبو رَوْق) بفتح الراء، وسكون الواو بعدها قاف، عطية بن الحارث، الهمداني الكوفي، صاحب التفسير صدوق من الخامسة. اهـ "ت" ص 240.
5 -
(إبراهيم التيمي) بن يزيد بن شريك، أبو أسماء الكوفي العابد ثقة، إلا أنه يرسل ويدلس، من الخامسة.
روى عن عائشة مرسلا، وأبيه وأنس وعمرو بن ميمون والحارث بن سويد وعنه الحكم بن عتيبة، والأعمش وغيره. وثقه ابن معين، وقال أبو زرعة: ثقة مرجىء، وقال الأعمش: كان إذا سجد تجيء العصافير تنقر على ظهره، وقال لي: ما أكلت منذ أربعين ليلة إلا حبة عنب. مات سنة 92، وقيل: 94، وقيل قتله الحجاج. اهـ صة ج 1 ص 59 أخرج له الجماعة.
6 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها تقدمت في 5/ 5.
لطائف هذا الإسناد
منها أنه من سداسيات المصنف، وأن رواته ثقات، وأنهم ما بين بصريين، وهما محمد ويحيى، وكوفيين وهم الباقون، ما عدا عائشة رضي الله عنها فمدنية، وهي من المكثرين السبعة.
شرح الحديث
(عن عائشة) رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل) من التقبيل، وهو اللَّثْمُ (بعض أزواجه، ثم يصلي ولا يتوضأ) وفي رواية للدارقطني: "لقد كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يقبلني إذا خرج إلى الصلاة، وما يتوضأ" ج 1 ص 135. وفيه دلالة علي أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء وإليه ذهب علي، وابن عباس، وعطاء، وطاوس، وأبو حنيفة، وأصحابه. وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك إن شاء الله تعالى.
(قال أبو عبد الرحمن) النسائي (ليس في هدا الباب) أي باب ترك الوضوء من القبلة (حديث أحسن من هذا الحديث، وإن كان مرسلا) أي منقطعًا.
(تنبيه) قد اختلف العلماء في حد المرسل على ثلاثة أقوال: فقيل: ما رفعه التابعي مطلقًا، وقيل: ما رفعه التابعي الكبير، وقيل: ما سقط من سنده مطلقًا، أي سواء كان من أوله أو من آخره، أو بينهما راو واحد أو أكثر، فيشمل المنقطع، والمعضل، والمعلق، وجعل الأول السيوطي في الألفية هو المشهور حيث قال:
المُرْسَلُ المَرْفُوعُ بالتَّابع أوْ
…
ذي كبَر أوْ سَقْطُ رَاو قَدْ حَكَوْا
أشْهَرُهَا الأوَّلُ ..... البيت
والقول الثالث: هو المعروف عند الأصوليين والفقهاء، وبه قال جماعة من المحدثين. كالخطيب البغدادي والحاكم.
قال الحافظ السخاوي رحمه الله: وممن صرح بنحوه من المحدثين الحاكم في مدخله، ولكن مشى في علومه بخلافه، وصرح به أيضا البغوي في شرح السنة، وأبو نعيم في مستخرجه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، ثم الدارقطني، ثم البيهقي، بل صرح البخاري في حديث لإبراهيم بن يزيد النخعي، عن أبي سعيد الخدري بأنه مرسل، لكون إبراهيم لم يسمع منه، وكذا صرح أبو داود في حديث لعون بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود، عن ابن مسعود بأنه مرسل لكونه لم يدركه، والترمذي في حديث لابن سيرين، عن حكيم بن حزام، ومشى عليه أبو داود في مراسيله، وغيرهم. اهـ كلام السخاوي في فتح المغيث ج 1 ص 131.
قال الجامع: وممن أطلقه المصنف هنا، حيث قال: وإن كان مرسلا مع أن صحابيته ذكرت، وهي عائشة رضي الله عنها.
وسبب الإرسال كما قال أبو داود في السنن، عدم سماع إبراهيم التيمي من عائشة رضي الله عنها، وقال الترمذي: لا نعرف لإبراهيم التيمي سماعا من عائشة. وليس يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء. وقال الدارقطني: لم يروه عن إبراهيم التيمي غير أبي روق: عطية بن الحارث، ولا نعلم حدث به عنه غير الثوري، وأبي حنيفة، واختلف فيه، فأسنده الثوري عن عائشة، وأسنده أبو حنيفة عن حفصة، وكلاهما أرسله، وإبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة، ولا من حفصة،
ولا أدرك زمانهما، وقد روى هذا الحديث معاوية بن هشام عن الثوري، عن أبي روق، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه عن عائشة فوصل إسناده، واختلف عليه في لفظه، فقال عثمان بن أبي شيبة عنه بهذا الإسناد:"إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم"، وقال عنه غير عثمان:"إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل، ولا يتوضأ"، ومعاوية هذا قد أخرج له مسلم في صحيحه،
وبذلك زال انقطاع الحديث، على أن أبا روق ثقة لم يذكره أحد بجرح. قال ابن عبد البر: قال الكوفيون: هو ثقة ولم يذكره أحد بجرح. وقال أبو حاتم: صدوق، وقال يعقوب بن سفيان، وأحمد، والنسائي: ليس به بأس، وقال ابن معين: صالح، وذكره ابن حبان في الثقات. أفاده في النهل ج 2 ص 182 - 184 وغرض المصنف من هذا الكلام تضعيف حديث عائشة، ولكن الراجح أنه صحيح، كما سيأتي تحقيقه.
(وقد روى هذا الحديث) أي حديث عائشة رضي الله عنها في القبلة (الأعمش) سليمان بن مهران الكاهلي أبو محمد الكوفي (عن حبيب ابن أبي ثابت) قيس، ويقال: هند بن دينار، الأسدي مولاهم، أبو يحيى الكوفي، ثقة فقيه جليل، وكان كثير الإرسال والتدليس، من الثالثة، مات سنة 119. اهـ "ت" ص 63.
(عن عروة) لم ينسبه المصنف، ولا الترمذي أصلا، وقد نسبه ابن ماجه، فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا وكيع، ثنا الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة بن الزبير، فذكر الحديث، قال الحافظ الزيلعي: وكذلك رواه الدارقطني.، ورجال هذا السند كلهم ثقات. اهـ ج 1 ص 72.
وقيل عروة هذا هو عروة المزني، قال أبو داود في السنن: حدثنا إبراهيم بن مخلد الطالَقَاني، قال: ثنا عبد الرحمن، يعني بن مغراء، قال: حدثنا الأعمش، أنا أصحاب لنا عن عروة المزني، عن عائشة
بهذا. يعني حديث "قبل امرأة من نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ" قال عروة: فقلت لها: من هي إلا أنت فضحكت.
وهكذا روى البيهقي هذا الحديث وضعفه، وقال: إنه يرجع إلى عروة المزني، وهو مجهول.
وقد رد الحافظ الزيلعي على البيهقي تبعا لشيخه ابن التركماني في الجوهر النقي، فقال: قلنا: بل هو عروة بن الزبير، كما أخرجه ابن ماجه بسند صحيح، وأما سند أبي داود الذي قال فيه: عن عروة المزني فإنه من رواية عبد الرحمن بن مغراء، عن ناس مجاهيل، وعبد الرحمن مغراء متكلم فيه، قال ابن المديني: ليس بشيء، كان يروي عن الأعمش ستمائة حديث تركناه، لم يكن بذاك، قال ابن عدي: والذي قاله ابن المديني هو كما قال، فإنه رَوى عن الأعمش أحاديث لا يتابعه عليها الثقات. وأما ما حكاه أبو داود عن الثوري أنه قال: ما حدثنا حبيب بن أبي ثابت إلا عن عروة المزني، فهذا لم يسنده أبو داود، بل قال عقبه: وقد روى حمزة الزيات عن عروة بن الزبير عن عائشة حديثا صحيحا، فهذا يدل على أن أبا داود لم يرض بما قاله الثوري، ويقدم هذا، لأنه مثبت والثوري ناف.
والحديث الذي أشار إليه أبو داود هو أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول: "اللهم عافني في جسدي، وعافني في بصري"، رواه الترمذي في الدعوات، وقال: غريب
(1)
وسمعت محمد بن إسماعيل يقول:
حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة شيئا، انتهى، وعلى تقدير صحة ما قاله البيهقي: إنه عروة المزني فيحتمل أن حبيبا سمعه من ابن الزبير، وسمعه من المزني أيضا، كما وقع ذلك في كثير من الأحاديث. والله أعلم. وقد مال أبو عمر بن عبد البر إلى تصحيح هذا الحديث، فقال: صححه الكوفيون، وثبتوه لرواية الثقات من أئمة الحديث له، وحبيب لا ينكر لقاؤه عر وة، لروايته عمن هو أكبر من عروة، وأقدم موتًا، وقال في موضع آخر: لا شك أنه أدرك عروة. انتهى. اهـ نصب الراية ج 1 ص 72.
(1)
ونسخة الترمذي: حديث حسن غريب.
قال الجامع: وسيأتي مزيد بسط على هذا إن شاء الله تعالى.
(عن عائشة) رضي الله عنها، (قال يحيى القطان) بن سعيد بن فروخ التميمي أبو سعيد البصري، ثقة متقن حافظ إمام قدوة من كبار التاسعة، مات سنة -198 - وله -78 - سنة. (حديث حبيب عن عروة، عن عائشة، هدا) أي ما تقدم في عدم وضوء النبي صلى الله عليه وسلم بعد التقبيل
(وحديث حبيب عن عروة عن عالشة: تصلي، وإن قطر الدم على الحصير لا شيء) يعني أنه ضعيف. وحديث المستحاضة أخرجه أبو داود في "باب من قال تغتسل من طهر إلى طهر"، قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر خبرها، وقال:"ثم اغتسلي، ثم توضئي لكل صلاة وصلي".
وإنما ضعف القطان هذين الحديثين لأن في سندهما عروة المزني وهو مجهول. وقد عرفت أن الصحيح أنه عروة بن الزبير، وإنما قال عروة المزني هو عبد الرحمن بن مغراء وهو متكلم فيه.
فالراجح أن الحديث صحيح. والله تعالى أعلم، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بحديث الباب
المسألة الأولى: في درجته: حديث عائشة رضي الله عنها هذا حديث صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له: أخرجه هنا -170 - وفي الكبرى -155 - بالسند المذكور
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (د) في الطهارة عن محمد بن بشار عن يحيى، وعبد الرحمن كلاهما عن سفيان، عن أبي روق به. وأما طريق الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، فقد
أخرجها أبو داود، وابن ماجه، كما تقدم قريبًا.
المسألة الرابعة: في فوائده: يستفاد من الحديث عدم انتقاض الوضوء بلمس المرأة، وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم -من كريم الأخلاق، حيث إنه كان يلاطف أزواجه، ويعاشرهن بالمعروف.
المسألة الخامسة: في مذاهب العلماء في انتقاض الوضوء بلمس النساء:
اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:
المذهب الأول: أنه لا ينقض مطلقا، وهو مروي عن علي
(1)
وابن عباس، وعطاء، وطاوس، والحسن، ومسروق، وسفيان الثوري، وبه قال أبو حنيفة، لكنه قال: إذا باشرها دون الفرج، وانتشر فعليه الوضوء.
المذهب الثاني: أنه ينقض بلا حائل، وبه قال عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وزيد بن أسلم، ومكحول، والشعبي، والنخعي، وعطاء بن السائب، والزهري، ويحيى بن سعيد
الأنصاري، وربيعة، وسعيد بن عبد العزيز، وهي احدى الروايتين عن الأوزاعي، وبه يقول الشافعي.
المذهب الثالث: إن لمس بشهوة انتقض، وإلا فلا، وهو مروي عن الحكم، وحماد، ومالك، والليث، وإسحاق، ورواية عن الشعبي، والنخعي، وربيعة، والثوري. وهذا هو الذي ارتضاه المصنف، حيث
ترجم عليه في الباب السابق، وعن أحمد ثلاث روايات، كالمذاهب الثلاثة.
المذهب الرابع: إن لمس عمدا انتقض، وإلا فلا، وهو مذهب داود، وخالفه ابنه، فقال: لا ينقض بحال.
(1)
ذكر عليا رضي الله عنه مع هؤلاء ابن قدامة في المغني ج 1 ص 187.
المذهب الخامس: إن لمس بأعضاء الوضوء انتقض، وإلا فلا، حكاه صاحب الحاوي عن الأوزاعي، وحكي عنه أنه لا ينقض إلا اللمس باليد.
المذهب السادس: إن لمس بشهوة انتقض وإن لمس فوق حائل رقيق، حكي هذا عن ربيعة ومالك في رواية عنهما.
المذهب السابع: إن لمس من تحل له لم ينتقض ، وإن لمس من تحرم عليه انتقض. حكاه ابن المنذر وصاحب الحاوي عن عطاء، وهذا خلاف ما حكاه الجمهور عنه.
قال النووي رحمه الله: ولا يصح هذا عنه إن شاء الله.
ذكر الحجج التي احتج بها المختلفون في هذه المسألة ومالها وما عليها وترجيح الراجح منها:
حجة من قال لا ينقض مطلقا ، وهو الراجح
احتج من قال: لا ينقض مطلقا بحديث حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم -قَبَّلَ بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ". وعن أبي روق عن إبراهيم التيمي عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم -كان يقبل بعد الوضوء ثم لا يعيد الوضوء". وبحديث عائشة المتقدم أن يدها وقعت على قدم النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد وهو حديث صحيح، وبالحديث المتفق على صحته أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وهو حامل أمامة بنت زينب رضي الله عنهما فكان إذا سجد وضعها وإذا قام رفعها". رواه الشيخان. وبحديث عائشة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يصلي وهي معترضة بينه وبين القبلة فإذا أراد أن يسجد غمز رجلها فقبضتها"، وفي رواية النسائي بإسناد صحيح "فإذا أراد أن يوتر مسني برجله". ذكر هذه الحجج النووي رحمه الله في المجموع ج 2 ص 31.
رد القائلين بالنقض على هذه الأدلة
ردهم على حديث حبيب بن أبي ثابت:
قال النووي رحمه الله: وأما الجواب عن احتجاجهم بحديث حبيب ابن أبي ثابت فمن وجهين: أحسنهما وأشهرهما أنه حديث ضعيف باتفاق الحفاظ.
قال الجامع: في دعوى الاتفاق نظر لما سيأتي.
قال: ممن ضعفه سفيان الثوري، ويحى بن سعيد القطان، وأحمد ابن حنبل، وأبو داود، وأبو بكر النيسابوري، وأبو الحسن الدارقطني، وأبو بكر البيهقي، وآخرون من المتقدمين والمتأخرين. قال أحمد بن حنبل، وأبو بكر النيسابوري، وغيرهما: غلط حبيب من قبلة الصائم إلى القبلة فى الوضوء. وقال أبو داود: روى سفيان الثوري، أنه قال: ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزني- يعني لا عن عروة بن الزبير، وعروة المزني مجهول، وإنما صح من حديث عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم".
والجواب الثاني: لو صح لحمل على القبلة فوق حائل جمعًا بين الأدلة
مناقشة هذين الردين
قال الجامع: أما الجواب الثاني فهو أبعد الجوابين عن الصواب لا يحتاج إلى كبير مناقشة، لظهور ضعفه.
وأما الجواب الأول فقد قام برده المحققون من العلماء كالحافظ الزيلعي في نصب الراية، وأحسن من رأيت قام برده، وأجاد فيه هو العلامة أحمد محمد شاكر المصري رحمه الله في تحقيقه على الترمذي، ودونك خلاصة ما كتبه:
قال: بعد ذكر ما تقدم عن الثوري من أن حبيبًا لم يحدثهم إلا عن عروة المزني ما نصه: قال أبو داود: وقد رَوَى حمزة الزيات، عن حبيب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة حديثًا صحيحًا، والحديث الذي يشير إليه أبو داود، رواه الترمذي في الدعوات 2/ 261 طبعة بولاق، و-2/ 186 - طبعة الهند، وقال: هذ حديث حسن غريب. قال: سمعت محمدا يقول: حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة بن
الزبير، شيئا، وهذا يدل أولا على أن عروة في هذا الإسناد هو عروة بن الزبير، كما صرح بذلك في رواية أحمد، وابن ماجه، خلافًا لمن وهم، فزعم أن عروة هنا هو عروة المزني، لما روى أبو داود من طريق عبد الرحمن بن مغراء. قال: ثنا الأعمش قال: ثنا أصحاب لنا عن عروة المزني عن عائشة بهذا الحديث. وهذا ضعيف لأن عبد الرحمن بن مغراء وإن كان من أهل الصدق إلا أن فيه ضعفًا، وقد أنكر عليه ابن المديني أحاديث يرويها عن الأعمش لا يتابعه عليها الثقات، وقال الحاكم أبو أحمد: حدث بأحاديث لا يتابع عليها. وقد خالفه في روايته هنا الثقات من أصحاب الأعمش الحفاظ كما بينا في أسانيد الحديث، ويدل كلام أبي داود ثانيًا على أنه يرى صحة رواية حبيب، عن عروة بن الزبير، ويؤيده أن حبيب بن أبي ثابت لم يعرف بالتدليس، بل هو ثقة حجة، وقد أدرك كثيرًا من الصحابة وسمع منهم، كابن عمر، وابن عباس، وأنس، وابن عمر مات سنة -74 - ، وابن عباس سنة -68 - ، وهما أقدم وفاة من عروة، فقد توفى بعد التسعين، وحبيب مات سنة -119 - وعمره -73 - سنة أو أكثر.
وقال الزيلعي في نصب الراية: -1/ 38 - : وقد مال أبو عمر بن عبد البر إلى تصحيح هذا الحديث، فقال: صححه الكوفيون وثبتوه لرواية الثقات من أئمة الحديث له، وحبيب لا ينكر لقاؤه عروة،
لروايته عمن هو أكبر من عروة وأقدم موتا. وقال في موضع آخر: لا شك أدرك عروة. انتهى.
وإنما صرح من صرح من العلماء بأنه لم يسمع هذا الحديث من عروة تقليدًا لسفيان الثوري، وموافقة للبخاري في مذهبه.
وقد تبين مما مضى أن سفيان أرسل الكلمة إرسالا من غير دليل يؤيده، وأن أبا داود خالفه وأثبت صحة رواية حبيب عن عروة. والبخاري شرطه في الرواية معروف وهو شرط شديد خالفه فيه أكثر أهل العلم.
ومع كل هذا فإن حبيبًا لم ينفرد برواية هذا الحديث، وقد تابعه عليه هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير. فروى الدارقطني ص 50: حدثنا أبو بكر النيسابوري، نا حاجب بن سليمان، نا وكيع عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت:"قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض نسائه، ثم صلى، ولم يتوضأ، ثم ضحكت". قال الدارقطني: تفرد به حاجب عن وكيع، ووهم فيه. والصواب عن وكيع بهذا الإسناد: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم؟. وحاجب لم يكن له كتاب، وإنما يحدث من حفظه. وهذا إسناد صحمِح لا مطعن فيه. فإن النيسابوري إمام مشهور، وحاجب بن سليمان -المنبجي- بفتح الميم وإسكان النون وكسر الباء الموحدة-: ذكره ابن حبان في الثقات، وروى عنه النسائي، وقال: ثقة، ولم يطعن فيه أحد من الأئمة إلا كلمة الدارقطني هذه،
وهو تحكم منه بلا دليل، وحكم على الراوي بالخطأ من غير حجة، فإن المعنيين مختلفان: بعض الرواة روى في قبلة الصائم، وبعضهم روى في قبلة المتوضىء، فهما حديثان مختلفان لا يُعَلُّ أحدهما بالآخر.
وقد تابع أبو أويس وكيعًا على روايته عن هشام، عن أبيه، فروى الدارقطني عن الحسين بن إسماعيل، عن علي بن عبد العزيز الوراق: نا
عاصم بن علي، نا أبو أويس، حدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أنها بلغها قول ابن عمر: في القبلة الوضوء: فقالت: "كان رسول صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم ثم لا يتوضأ" ثم علله الدارقطني بعلة غريبة فقال: لا أعلم حدث به عن عاصم بن علي هكذا غير علي بن عبد العزيز
أما علي بن عبد العزيز فهو الحافظ أبو الحسن البغوي شيخ الحرم ومصنف المسند، عاش بضعًا وتسعين سنة، ومات سنة 286 - وهو ثقة حجة، وقال الدارقطني: ثقة مأمون. وانظر تذكرة الحفاظ 2/ 178 ومثل هذا يقبل منه ما تفرد بروايته، بل ينظر فيما يخالفه فيه غيره من الثقات، فلعله يكون أحفظ منهم، وأرجح رواية.
وأما عاصم بن علي الواسطي فإنه شيخ البخاري، قال أحمد: ما أصح حديثه عن شعبة، والمسعودي، وقال المروزي: قلت لأحمد: إن يحيى بن معين يقول: كل عاصم في الدنيا ضعيف؟ قال: ما أعلم في عاصم بن علي إلا خيرًا كان حديثه صحيحًا. انظر مقدمة الفتح -ص 410 طبعة بولاق- وقال الذهبي في الميزان: هو كما قال فيه المتعنت أبو حاتم: صدوق، وقال أيضا: كان من أئمة السنة قوّالا بالحق، احتج به البخاري. ومات عاصم هذا سنة [221] وكان في عشر التسعين.
وأما أبو أويس فهو عبد الله بن عبد الله بن أويس، وهو ابن عم مالك ابن أنس وزوج أخته، وكان ثقة صدوقا، في حفظه شيء. قال ابن عبد البر: لا يحكي عنه أحد جرحة في دينه وأمانته، وإنما عابوه بسوء حفظه، وأنه يخالف في بعض حديثه. وهو هنا لم يخالف أحدًا، وإنما وافق وكيعًا في رواية هذا الحديث عن هشام بن عروة، عن أبيه فرواه عنه مثله، ووافقه أيضًا في أن الحديث عن عروة: وكيعٌ عن حبيب بن أبي ثابت.
وقد جاء الحديث بإسناد آخر صحيح عن عائشة، قال ابن التركماني في الجوهر النقي 1/ 125 قال أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا إسماعيل ابن يعقوب بن صبيح، حدثنا محمد بن موسى بن أعين، حدثنا أبي، عن عبد الكريم الجزري، عن عطاء، عن عائشة: أنه عليه السلام "كان يقبل بعض نسائه ولا يتوضأ". وعبد الكريم: روى عنه مالك في الموطأ، وأخرج له الشيخان، وغيرهما ووثقه ابن معين، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وغيرهم. وموسى بن أعين: مشهور، وثقه أبو زرعة، وأبو حاتم، وأخرج له مسلم. وابنه: مشهور، روى له البخاري.
وإسماعيل: روى عنه النسائي، ووثقه أبو عوانة الإسفرايني، وأخرج له ابن خزيمة في صحيحه، وذكره ابن حبان في الثقات.
وأخرج الدارقطني هذا الحديث من وجه آخر عن عبد الكريم. وقال عبد الحق: بعد ذكره لهذا الحديث من جهة البزار: لا أعلم له علة توجب تركه، ولا أعلم فيه مع ما تقدم أكثر من قول ابن معين: حديث عبد الكريم عن عطاء حديث رديء لأنه غير محفوظ، وانفراد الثقة بالحديث لا يضره. وانظر أيضا نصب الراية، للزيلعى- 1: 38 - فقد نقل هذا الكلام كله نصًا.
وهذا هو التحقيق الصحيح في تعليل الأحاديث من غير عصبية لمذهب، ولا تقليد لأحد. اهـ خلاصة ما كتبه العلامة أحمد شاكر رحمه الله. وهو في غاية التحقيق والتدقيق.
وقال في المنهل: وقد جاء لحديث عائشة طرق جيدة سوى ما مر من رواية حبيب عن عروة
منها ما رواه البزار في مسنده، فذكر ما تقدم في كلام أحمد شاكر.
ومنها ما رواه الدارقطني من طريق سعيد بن بشير قال: حدثني منصور
ابن زاذان، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة، قالت:"لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلني إذا خرج إلى الصلاة ولا يتوضأ" وقال: تفرد به سعيد بن بشير، عن منصور، ولم يتابع عليه وليس بقوي اهـ. ورد بأن ابن الجوزي قال فيه: وثقه شعبة، ودحيم وأخرج له الحاكم في المستدرك. وقال ابن عدي: لا أرى بما يروي سعيد بأسًا. والغالب عليه الصدق. اهـ وأقل أحوال مثل هذا أن يستشهد به.
ومنها ما رواه أيضا من طريق ابن أخي الزهري عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: "لا تعاد الصلاة من القبلة كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل بعض نسائه ويصلي ولا يتوضأ"، ولم يعله بشيء سوى أن منصورا خالف الزهري.
ومنها ما رواه إسحاق بن راهويه في مسنده قال: أخبرنا بقية بن الوليد، قال: حدثني عبد الملك بن محمد، عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلها وهو صائم وقال: إن القبلة لا تنقض الوضوء ولا تفطر الصائم، وقال يا حميراء إن في ديننا لسعة". اهـ
المنهل ج 2، ص-189 - 190.
ردهم على حديث أبي روق
قال النووي رحمه الله: والجواب عن حديث أبي روق بوجهين:
احداها: ضعف أبي روق، ضعفه يحيى بن معين
(1)
وغيره.
والثاني: أن إبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة، هكذا ذكره الحفاظ: منهم أبو داود وآخرون، وحكاه عنهم البيهقي فتبين أن الحديث ضعيف مرسل، قال البيهقي: وقد روينا سائر ما روي في هذا الباب في
(1)
المنقول عن ابن معين في تهذيب التهذيب وغيره قوله: إنه صالح كما ياتي، وما نقل عن أحد تضعيفه. فتنبه.
الخلافيات وبينا ضعفها، فالحديث الصحيح عن عائشة في قبلة الصائم، فحمله الضعفاء من الرواة على ترك الوضوء منها. اهـ كلام النووي في المجموع ج 1 ص 33.
وقال الدارقطني: لم يروه عن إبراهيم التيمي غير أبي روق: عطية ابن الحارث، ولا نعلم حدث به عنه غير الثوري وأبي حنيفة، واختلف فيه فأسنده الثوري عن عائشة، وأسنده أبو حنيفة عن حفصة وكلاهما أرسله، وإبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة، ولا من حفصة، ولا أدرك زمانهما، وقد روى هذا الحديث معاوية بن هشام عن الثوري، عن أبي روق عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن عائشة، فوصل إسناده، واختلف عليه في لفظه، فقال عثمان بن أبي شيبة عنه بهذا الإسناد:"إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم" وقال غير عثمان "إن النبي صلى الله عليه وسلم -كان يقبل ولا يتوضأ". اهـ ج 1 ص 141.
الجواب عن هذا الرد
قال الجامع: أما تضعيفه بسبب أبي روق فهو غير صحيح فما ضعفه أحد: قال أحمد: ليس به بأس، وقال ابن معين: صالح، وقال أبو حاتم صدوق، وقال ابن عبد البر: قال الكوفيون: هو ثقة لم يذكره
أحد بجرح، وذكره ابن حبان في الثقات. وأما الإرسال فقد تقدم الكلام فيه، على أن المرسل حجة عند الأئمة الثلاثة في المشهور عن أحمد مطلقا، وحجة عند الشافعي إذا اعتضد، إما بمسند، أو بمرسل آخر، أو قول صحابي، أو قول أكثر أهل العلم. وهنا قد اعتضد بكليات وجزئيات الأحاديث المتقدمة، وأما قوله: فالحديث الصحيح عن عائشة في قبلة الصائم الخ: فهذا تضعيف للرواة من غير دليل ظاهر، والمعنيان مختلفان، فلا يعل أحدهما بالآخر. كما حققه الحافظ الزيلعي
رحمه الله، والحاصل أن حديث أبي روق صالح للاحتجاج به، والله أعلم.
ردهم على حديث حمل أمامة
قال النووي رحمه الله: والجواب عن حديث حمل أمامة في الصلاة ورفعها ووضعها من أوجه أظهرها أنه لا يلزم من ذلك التقاء البشرتين، والثاني: أنها صغيرة لا تنقض الوضوء.، والثالث: أنها محرم.
الجواب عن هذا الرد
قال الجامع: أما قوله: لا يلزم من ذلك التقاء البشرتين: فهو خلاف الظاهر، وأما دعوى أنها كانت صغير ة أو محرما فغير مقبول لأن احتجاجهم على النقض بقوله تعالى {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} والآية إذا
حملت على اللمس باليد فهي مطلقة في النساء كلهم.
ردهم على حديث عائشة في مس يدها لقدم النبي ص وهو ساجد ونحو ذلك
قال النووي رحمه الله: والجواب عن حديث عائشة في وقوع يدها على بطن قدم النبي صلى الله عليه وسلم: أنه يحتمل كونه فوق حائل، والجواب عن حديثها الآخر أنه لمس من وراء الحائل، وهذا هو الظاهر فيمن هو نائم في فراش.
الرد على هذا الجواب
قال الجامع: قد رد هذا الجواب العلامة الشوكاني في نيله ج 1 ص 295 فقال: والاعتذار عن حديث عائشة في لمسها لبطن قدم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يحتمل أن يكون بحائل، أو على أن ذلك خاص به صلى الله عليه وسلم تكلف، ومخالفة للظاهر. اهـ.
وقال العلامة ابن شاكر: ما حاصله: إن التعقب باحتمال الحائل، أو بالخصوصية، لا قيمة له، بل هو باطل، لأن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل صريح، واحتمال الحائل لا يفكر فيه إلا متعصب. اهـ.
حجة من قال بالنقض
قال العلامة الشوكاني رحمه الله: ما حاصله: قال الأولون -يعني القائلين بالنقض-: الآية صرحت بأن اللمس من جملة الأحداث الموجبة للوضوء، وهو حقيقة في لمس اليد، ويؤيده بقاءه على معناه الحقيقي قراءة -أو لمستم- فإنها ظاهره في مجرد اللمس من دون الجماع.
قال الَاخرون -يعني القائلين بعدم النقض-: يجب المصير إلى المجاز وهو أن اللمس مراد به الجماع لوجود القرينة، وهي حديث عائشة الذي في التقبيل، وفي لمسها لبطن قدمه صلى الله عليه وسلم.
وأما جوابهم عن الحديث الأول بالضعف: فغير صحيح لما تقدم من صحته.
وكذا دعوى الخصوصية أو وجود حائل لما تقدم من أنه تكلف، وغير ظاهر.
قالوا: أمر النبي
(1)
صلى الله عليه وسلم رجلا قال: "يا رسول الله ما تقول في رجل لقي امرأة يعرفها فليس يأتي الرجل من امرأته شيئا إلا قد أتاه منها غير أنه لم يجامعها؟ قال: فأنزل الله هذه الآية {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} الآية: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: توضأ ثم صل رواه أحمد والدارقطني، وفيه انقطاع، وأصله في الصحيحين بدون الأمر بالوضوء والصلاة.
(1)
هذا لا دلالة له على النقض لأنه ما ثبت أنه كان متوضئا قبل اللمس حتى يكون الأمر بالوضوء
لأجل الانتقاض باللمس فالاستدلال به غير صحيح، كما يأتي قريبًا.
وصرح ابن عمر بأن "من قبل امرأته أو جسها بيده فعليه الوضوء" رواه مالك والشافعي، ورواه البيهقي عن ابن مسعود بلفظ "القبلة من اللمس، وفيها الوضوء، واللمس ما دون الجماع". واستدل الحاكم على أن المراد باللمس ما دون الجماع بحديث عائشة رضي الله عنها "ما كان، أو قل يوم، إلا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتينا، فيقبل، ويلمس" الحديث واستدل البيهقي بحديث أبي هريرة رضي الله عنه: "اليد زناها اللمس"، وفي قصة ماعز:"لعلك قبلت، أو لمست"، وبحديث عمر:"القبلة من اللمس، فتوضئوا منها".
ويجاب عن ذلك بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم للسائل بالوضوء يحتمل أن يكون لأجل المعصية. وقد ورد أن الوضوء من مكفرات الذنوب، أو لأن الحالة التي وصفها مظنة خروج المذي أو هو طلب لشرط الصلاة المذكورة في الآية من غير نظر الى انتقاض الوضوء وعدمه، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال.
قال الجامع: قد تقدم أن الحديث فيه انقطاع، وأيضا فلم يثبت أنه كان متوضأ قبل ذلك، حتى يستدل به على انتقاض الوضوء باللمس. فتبصر.
وأما ما روي عن ابن عمر، وابن مسعود رضي الله عنهما، وما ذكره الحاكم، والبيهقي، فنحن لا ننكر صحة إطلاق اللمس على الجس باليد، بل هو المعنى الحقيقي، ولكن ندعي أن المقام محفوف بقرائن
توجب المصير إلى المجاز. وأما قولهم بأن القبلة فيها الوضوء فلا حجة في قول الصحابي، لاسيما، إذا وقع معارضا لما ورد عن الشارع. وقد صرح البحر ابن عباس الذي علمه الله تأويل كتابه، واستجاب فيه دعوة رسوله صلى الله عليه وسلم بأن اللمس المذكور في الآية هو الجماع، وقد تقرر أن تفسيره أرجح من تفسير غيره لتلك المزية.
ويؤيد ذلك قول أكثر أهل العلم: إن المراد بقولة بعض الأعراب للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن امرأته لا ترد يد لامس" الكناية عن كونها زانية، ولهذا قال له صلى الله عليه وسلم:"طلقها". انتهى كلام الشوكاني رحمه الله بزيادة، وهو كلام حسن جدًا.
وقد كتب العلامة ابن رشد رحمه الله في بدايته: بعد ذكر اختلاف القولين في تأويل الآية ما نصه: والذي أعتقده أن اللمس وإن كانت دلالته على المعنيين بالسواء أو قريبًا من السواء - الا أنه أظهر في الجماع وإن كان مجازًا لأن الله تعالى قد كنى بالمباشرة والمس عن الجماع، وهما في معنى اللمس، وعلى هذا التأويل في الآية يحتج بها في إجازة التيمم للجنب دون تقدير تقديم فيها ولا تأخير، وترفع المعارضة التي بين الآثار والآية على التأويل الآخر -يريد ابن رشد بالآثار هنا حديث عائشة في القبلة- قال: وأما من فهم من الآية اللمسين معا فضعيف، فإن العرب إذا خاطبت بالاسم المشترك إنما تقصد به معنى واحدًا من المعاني التي يدل عليها الاسم، لا جميع المعاني التي يدل عليها. وهذا بين بنفسه في
كلامهم. اهـ بداية المجتهد ج 1 ص 38 - 39.
قال العلامة ابن شاكر: وهذا الذي قاله ابن رشد تحقيق دقيق، وبحث واضح، نفيس، فإن سياق الآيتين لا يدل إلا على أن المراد المعنى المكني عنه فقط. وكذلك قال الطبري في التفسير بعد حكاية القولين: وأولى القولين بالصواب قول من قال: عنى الله بقوله {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} : الجماع دون غيره من معاني اللمس، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قبل بعض نسائه، ثم صلى ولم يتوضأ. وقد أشبع الكلام في هذا العلامة أحمد شاكر، فيما كتبه على الترمذي، كما قدمناه، فارجع إليه فإنه نفيس جدا ج 1 ص 141.
والحاصل أن الراجح في تفسير الآية هو الجماع. والله أعلم.
(تنبيه) قال الشافعي رحمه الله: روى معبد بن نباتة عن محمد بن عمرو بن عطاء عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يقبل ولا يتوضأ" وقال: ولا أعرف حال معبد، فإن كان ثقة فالحجة فيما روي عن النبى صلى الله عليه وسلم.
قال العلامة ابن شاكر رحمه الله: لم أجده -يعني هذا الحديث- بعد طول البحث والتتبع، وكذلك لم أجد ترجمة لمعبد هذا. ذكره في تعليقه على الترمذي ج 1 ص 142.
وقد ذكر الإمام النووي رحمه الله ما احتج به أصحاب الأقوال الباقية من الأدلة في المجموع ج 2 ص 33.
وتركت ذكرها هنا لعدم جدواها، لأنها محجوجة بالأحاديث الدالة على عدم النقض مطلقا، فالراجح المعول عليه هو القول الأول وهو عدم النقض. والله أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
122 - بَابُ الوُضُوءِ مماَّ غيَّرَتِ النَّارُ
أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على إيجاب الوضوء الشرعي من أكل ما غيرته النار عن طبيعته بإنضاجها.
171 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَنْبَأَنَا
(1)
إِسْمَاعِيِلُ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَا: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَارِظٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ".
رجال الإسناد: ثمانية
1 -
(إسحاق بن إبراهيم) الحنظلي المعروف بابن راهويه ثقة حجة -10 - تقدم في 2/ 2.
2 -
(إسماعيل) بن إبراهيم المعروف بابن علية البصري ثقة حافظ -8 - تقدم في -18/ 19 - .
3 -
(عبد الرزاق) بن همام الصنعاني ثقة -9 - تقدم في 61/ 77.
4 -
(معمر) بن راشد أبو عروة البصري نزيل اليمن ثقة -7 - تقدم في 10/ 10.
5 -
(الزهرى) محمد بن مسلم أبو بكر المدني ثقة حافظ حجة رأس -4 - تقدم في -1 - .
(1)
وفي نسخة "أخبرنا".
6 -
(عمر بن عبد العزيز) بن مروان بن الحكم بن أبي العاص الأموي، أمير المؤمنين، أبو حفص المدني الدمشقي، أمه أم عاصم بن عمر بن الخطاب، ولد سنة -63 - وقيل: -61 - ، قال ابن سعد: كان ثقة مأمونا له فقه وورع، روى حديثا كثيرا، وكان إمام عدل، شج في وجهه وهو صغير فجعل أبوه يمسح عنه الدم ويقول: إن كنت أشج بني أمية إنك لسعيد، وضمه إلى صالح بن كيسان يعلمه، فلما حج أتاه فسأله عنه، فقال: ما علمت أحدا، الله أعظم في صدره من هذا الغلام، ونشأ بالمدينة، فتأدب بعبيد الله بن عبد الله، وأمثاله، لأن أباه بعث به إلى المدنية ليتأدب بآداب فقهائها، فكان بعض الناس يقول: بعث إلينا هذا الفاسق بابنه، وزعم أنه لن يموت حتى يكون خليفة، ويسير بسيرة عمر، فما مات حتى رأى ذلك، وكان سعيد بن المسيب لا يأتي أميرا غيره، وكان أنس يقول: ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى، ولي الخلافة سنة -99 - بعد موت سليمان، بعهد منه، ومات سنة -101 - ، وفضائله كثيرة مشهورة رضي الله عنه. اهـ "تت" باختصار ج 7 ص 475 - 478. روى له الجماعة. وفي "ت": من الرابعة مات في رجب سنة -101 وله -40 - سنة ومدة خلافته سنتان ونصف.
7 -
(إبراهيم بن عبد الله بن قارظ) بقاف وظاء معجمة، وقيل: هو عبد الله بن إبراهيم بن قارظ، ووهم من زعم أنهما اثنان، صدوق من الثالثة. اهـ ت ص 31.
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن يونس: قدم مصر زمن عمر ابن عبد العزيز، وجعل ابن أبي حاتم إبراهيم بن عبد الله بن قارظ، وعبد الله بن إبراهيم بن قارظ ترجمتين، والحق أنهما واحد،
والاختلاف فيه على الزهري، وغيره، وقال ابن معين: كان الزهري
يغلط فيه انتهى، وفي تاريخ البخاري ما معناه: روى معمر، وابن جريج، وعبد الجبار، عن الزهري، عن عمر بن عبد العزيز، عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ -يعني عن أبي سلمة- وتابعه يحيى بن أبي كثير، ووافقهم ابن أبي ذئب، عن سعيد بن خالد، عن إبراهيم بن قارظ، وكذا قال سعيد، وإبراهيم ابن سعد، عن سعد بن إبراهيم، عن إبراهيم ابن عبد الله بن قارظ، وتابعهم محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ، وقال عُقيل، ويونس عن الزهري، عن عمر بن عبد العزيز، عن عبد الله بن إبراهيم بن قارظ، وكذا قال يحيى ابن سعيد الأنصاري، عن أبي صالح السمان، عن عبد الله بن إبراهيم، وتابعه عثمان بن حكيم، عن أبي أمامة بن سهل: سمع عبد الله بن إبراهيم بن قارظ. اهـ تت ج 1 ص 134 - 135. أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والمصنف.
8 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه تقدم في 1/ 1. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها أنه من سباعياته، وأن رواته كلهم ثقات، غير إبراهيم بن قارظ، فصدوق، وأنهم ممن اتفقوا على التخريج لهم إلا إبراهيم فأخرج له البخاري في الأدب المفرد، ولم يخرج له ابن ماجه أصلا، وأنهم ما بين بصريين وهما إسماعيل، ومعمر، ومدنيين، وهم الزهري، وعمر، وأبو هريرة، وصنعاني وهو عبد الرزاق، وكذا معمر فإنه نزلها أيضا، وحجازي وهو إبراهيم كما نسبه ابن حبان في الثقات وفيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم، عن بعض، وهم الزهري، وعمر، وإبراهيم، وفيه أبو هريرة أحد المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي هريرة) رضي الله عنه أنه (قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم) حال كونه (يقول. توضئوا مما مست النار) أي من أجل أكل ما مسته النار وفي الروايات الأتية "مما أنضجت النار"، و"مما غيرت النار"، فيستفاد منها أن مجرد المس لا يتوضأ منه.
(وما) موصولة وجملة (مست) صلتها بتقدير عائد محذوف لكونه فضلة، أي مسته. واستدل به القائلون بوجوب الوضوء مما غيرت النار، وهو مذهب طائفة من العلماء: منهم عمر بن عبد العزيز،
والحسن البصري، والزهري، وأبو قلابة، وأبو مجلز لاحق بن حميد.
وذهب الجمهور إلى عدم الوجوب، قالوا: إن أحاديث الوجوب منسوخة بحديث جابر الآتي، وغيره، وسياتي تحقيق القول في ذلك في الباب التالي إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه من هذا الكتاب: أخرجه المصنف في هذا الباب 171، 172، 173.
المسألة الثالثة فيمن أخرجه معه: أخرجه مسلم، وأحمد، وأبو داود، من طريق الأغر بلفظ "مما أنضجت النار"، وأخرجه الترمذي من طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة بلفظ "مما مست النار" وأخرجه ابن أبي شيبة عن ابن علية، كرواية الصنف، وأخرجه عبد الرزاق، عن معمر به، وأخرجه ابن حبان من وجهين، عن عمر بن عبد العزيز. قاله بعض المحققين وبقية المسائل تأتي إن شاء الله. والله تعالى أعلم.
172 -
أَخْبَرَنَا
(1)
هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ -يَعْنِي ابْنَ حَرْبٍ- قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّبَيْدِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ قَارِظٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ".
رجال هذا الإسناد: سبعة
1 -
(هشام بن عبد الملك) بن عمران اليَزَني -بفتح التحتانية والزاي ثم نون - أبو تَقيّ -بفتح المثناة وكسر القاف- الحمصي، صدوق، ربما وهم، من العاشرة، مات سنة 251.اهـ "ت".
روى عن بقية، وإسماعيل بن عياش، وعبد الله بن عبد الجبار الخبائري، وسعيد بن مسلمة، ومحمد بن حرب الأبرش، ومحمد بن حميد القضاعي، وعدة.
روى عنه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وحفيده الحسين بن تقي ابن أبي تقي وأبو زرعة، وأبو حاتم، ومحمد بن عوف الطائي، ويعقوب بن سفيان، وبقي بن مخلد، وإسحاق بن إبراهيم المنجنيقي، ومحمد بن عبيد الله بن الفضل الكلاعي، والحسن بن سفيان، وأبو بكر ابن أبي داود، وأبو بكر الباغندي، وأبو عروبة، وأحمد بن عمرو بن جُوصَاء، وآخرون.
وقال أبو حاتم: كان متقنا في الحديث، وقال الآجري عن أبي داود:
(1)
وفى نسخة "حدثنا".
شيخ ضعيف، وقال النسائي: ثقة، وقال في موضع آخر: لا بأس به.
وذكره ابن حبان في الثقات. اهـ "تت" ج 11،ص 45، أخرج له أبو داود، والمصنف، وابن ماجه.
2 -
(محمد بن حرب) الخولاني الحمصي الأبرش -بالمعجمة-، أبو عبد الله كاتب محمد بن الوليد الزبيدي، روى عن الزبيدي، والأوزاعي، وابن جريج، ومحمد بن زياد الألهاني، وعبد الله بن عمر العمري، وغيرهم. وعنه أبو مسهر، وخالد بن خلي، وحيوة بن شريح، وعيسى بن المنذر الحمصي، وإسحاق بن راهويه، وآخرون. وثقه ابن معين، وعن أحمد: لا بأس به، ووثقه العجلي، ومحمد بن عوف، والنسائي، وذكره ابن حبان في الثقات، مات سنة -92 - وقيل:194. أخرج له الجماعة.
3 -
(الزييدي) محمد بن الوليد بن عامر الحمصي ثقة ثبت -7 - ، تقدم في 45/ 56.
4 -
(الزهري) محمد بن مسلم ثقة حجة -4 - تقدم في 1/ 1.
5 -
(عمر بن عبد العريز)، تقدم في السند السابق.
6 -
(عبد الله بن قارظ) هو إبراهيم بن عبد الله بن قارظ، تقدم أنهم اختلفوا في اسمه في السند السابق. 171
7 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه تقدم في 1/ 1. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها أنه من سباعيته، وأن رواته كلهم ثقات، إلا هشاما فصدوق، ومثله عبد الله بن قارظ، وأن هشاما أخرج له (د س ق) فقط، وعبد الله أخرج له كلهم إلا (خ) فأخرج له في الأدب الفرد، ولم يخرج له ابن ماجه أصلا، والباقون اتفقوا على التخريج لهم، وتقدم بعض اللطائف في 171. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
قال أبو هريرة رضي الله عنه (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قول: توضئوا من) أكل (ما مست النار)"ما" موصولة، وجملة "مست النار" صلتها والعائد محذوف، كما قال ابن مالك:
والحَذْفُ عنْدَهُمْ كَثيرٌ مُنْجَلي
في عَائد مُتَّصلٍ إِن انْتَصَبْ
…
بفعْل أوْ وَصْفٍ كَمَنْ نَرْجُو يَهَبْ
ومس: من باب تعب، وقتل، يقال: مس الماء الجسد مسا: أصابه، ويتعدى إلى ثان بالحرف، وبالهمزة، فيقال: مسست الجسد بماء، وأمسست الجسد ماء. أفاده في المصباح.
(تنبيه) المسائل المتعلقة بهذا الحديث بعضها تقدم، وبعضها يأتي إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
173 -
أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ بَكْرٍ -وَهُوَ ابْنُ مُضَرَ- قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ بَكْرِ بْنِ سَوَادَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ قَارِظٍ، قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَتَوَضَّأُ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: أَكَلْتُ أَثْوَارَ أَقِطٍ، فَتَوَضَّأْتُ مِنْهَا، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِالْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ.
رجال هذا الإسناد: تسعة
1 -
(الرييع بن سليمان) بن داود الجيزي
(1)
أبو محمد الأزدي مولاهم المصري الأعرج. روى عن ابن وهب، وعبد الله بن عبد الحكم، والشافعي، وأبي الأسود النضر بن عبد الحميد، وعبد الله بن يوسف التنيسي، وغيرهم. وعنه أبو داود، والنسائي، وابن أبي داود، والطحاوي، وأبو بكر الباغندي، وغيرهم.
قال ابن يونس: كان ثقة. توفى يوم الأحد لليلتين بقيتا من ذي الحجة، سنة -256 - ، وقال الخطيب كان ثقة. وقال النسائي في أسماء شيوخه: لا بأس به، وقال مسلمة بن قاسم: كان رجلا صالحا، كثير الحديث مأمونا، ثقة، أخبرنا عنه غير واحد، وقال أبو عمر الكندي في الموالي: كان فقيها دينا. وُلدَ بعد الثمانين ومائة. اهـ تت ج 1 ص 245 أخرج له أبو داود، والمصنف.
2 -
(إسحاق بن بكر بن مضر) بن محمد بن حكيم بن سلمان المصري أبو يعقوب. روى عن أبيه. وعنه الربيع الجيزي، وعبد الرحمن، ومحمد ابنا عبد الله بن عبد الحكم، وموسى بن قريش، وأبو حاتم
الرازي. وقال. لا بأس به، كان عنده دُرْج
(2)
عن أبيه. وقال ابن يونس: كان فقيها مفتيا، وكان يجلس في حلقة الليث، ويفتي بقوله، وكان ثقة، توفى سنة -218 - ، وذكر يحيى بن عثمان بن صالح أن مولده سنة -142 - ، وذكره ابن حبان في الثقات. اهـ تت ج 1 ص 229 أخرج له مسلم، والمصنف.
3 -
(بكر بن مضر) بن محمد بن حكيم بن سلمان أبو محمد، وقيل: أبو عبد الملك المصري مولى ربيعة بن شرحبيل. روى عن جعفر
(1)
بالكسر والزاي نسبة إلى الجيزة بلدة على النيل قبالة الفسطاط، أفاده في اللباب.
(2)
الدرج بضم فسكون: ما توضع فيه الأشياء والمراد هنا أنه كان له كتب من أبيه بعضها في الدرج
ابن ربيعة وعمرو بن الحارث ويزيد بن الهاد، وابن عجلان وأبي قبيل وغيرهم. وعنه ابنه إسحاق، وابن وهب، وقتيبة، وابن عبد الحكم الأكبر، وأبو صالح، ويحيى بن بكير، وغيرهم. قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة ليس به بأس، وقال أيضا كان رجلا صالحا، وقال عثمان عن ابن معين: ثقة، وكذا قال النسائي، وأبو حاتم، وزاد: وهو أحب إلي من المفضل بن فضالة، وبكر بن مضر، ونافع بن يزيد متقاربان، وقال سعيد بن عفير: مولده سنة -102 - ، وقال غيره سنة -100 - وقال يحيى بن عثمان بن صالح: مات -173 - وقال ابن عفير وابن بكير: -74 - ، وكذا قال ابن يونس، وزاد يوم الثلاثاء، وكان عابدا، وكذا قال ابن حبان في الثقات، قال الخليلي: وهو وابنه ثقتان، وقال البخاري: كناه قتيبة، وأثنى عليه خيرا، وقال العجلي: مصري ثقة. اهـ "تت" ج 1 ص 487 - 488، أخرج له الجماعة، إلا ابن ماجه.
4 -
(جعفر بن ربيعة) بن شرحبيل بن حسنة الكندي، أبو شرحبيل المصري. رأى عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي الصحابي.
روى عن الأعرج، وعراك بن مالك، وأبي سلمة، وبكير بن الأشج، وبكر بن سوادة، والزهري، ويعقوب بن الأشج، وغيرهم. وعنه بكر بن مضر، وحيوة بن شريح، وسعيد بن أبي أيوب وعمرو بن
الحارث، وابن لهيعة، والليث بن سعد، ونافع بن يزيد، يحيى بن أيوب، وروى عنه يزيد بن أبي حبيب، وهو من أقرانه، قال أحمد: كان شيخًا من أصحاب الحديث ثقة، وقال أبو زرعة: صدوق وقال
النسائي: ثقة، وقال ابن يونس: توفي سنة -136 - وقال ابن سعد: كان ثقة، وقال الآجري عن أبي داود لم يسمع من الزهري، وقال الطحاوي: لا نعلم له من أبي سلمة سماعًا. أخرج له الجماعة.
5 -
(بكر بن سوادة) بن ثمامة الجذامي -بجيم مضمومة ثم معجمة - أبو ثمامة المصري.
روى عن عبد الله بن عمرو، وأبي النجيب ظُلَيم، وعبد الرحمن بن جبير المصري، وسعيد بن المسيب، وزياد بن نافع، والزهري، وأبي فراس مولى عمرو بن العاص، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وغيرهم. وروى عنه جعفر بن ربيعة، والليث، وابن لهيعة وعمرو بن الحارث وغيرهم. قال عثمان بن سعيد عن ابن معين ثقة وقال أبو حاتم: لا بأس به، وقال النسائي: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله، توفي في خلافة هشام بن عبد الملك، وقال ابن يونس: توفي بإفريقية، وقيل: بل غرق في بحار الأندلس سنة -128 - ، وذكره ابن حبان في الثقات من التابعين، ثم أعاده في أتباعهم فقال: يخطيء، وقال ابن يونس: كان فقيها مفتيا، وقال أبو العرب في الطبقات: أرسله عمر بن عبد العزيز إلى أهل إفريقية ليفقههم، وقال النووي في شرح المهذب: لم يسمع من عبد الله بن عمرو بن العاص. علق عنه البخاري، وأخرج له مسلم، والأربعة.
6 -
(محمد بن مسلم) الزهري ثقة حجة -4 - تقدم في 1/ 1.
7 -
(عمر بن عبد العزيز) الأموي ثقة -4 - تقدم في 122/ 171.
8 -
(عبد الله بن إبراهيم بن قارظ) صدوق -3 - وهو إبراهيم بن عبد الله تقدم في 122/ 171 كما سبق قريبًا.
9 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه تقدم في-1/ 1. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها أنه من تساعياته، فهو أنزل من الأولين، لأنهما سباعيَّان، وأن رواته كلهم ثقات إلا عبد الله بن إبراهيم فصدوق، وأنهم ما بين مصريين، وهم من قبل الزهري، ومدنيين، وهم الزهري ومن بعده،
إلا عبد الله فحجازي، وتقدم بعض اللطائف فيما مضى. والله أعلم.
شرح الحديث
قال عبد الله بن إبراهيم بن قارظ (رأيت أبا هريرة) رضي الله عنه (يتوضأ) جملة حالية، لأن "رأى" هنا بصرية (على ظهر المسجد) فيه جواز الوضوء على سطح المسجد، وكذا رحبته إذا لم يؤد إلى إيذاء أحد، وقد نقل الإجماع على جوازه ابن المنذر. أفاده في النيل ج 1 ص 314 (فقال) أبو هريرة مبينا سبب وضوئه (أكلت أثوار أقط) أي قطعًا من أقط، فالأثوار جمع ثور -بفتح فسكون- القطعة العظيمة من الأقط، ويجمع أيضا على ثوَرَة: بكسر الثاء ففتح الواو والراء. أفاده في "ق"، والأقط: مثلثة ويحرك، وككتف، ورجل، وإبل: شيء يتخذ من المخيض الغنمي. أفاده في "ق" أيضا، والمخيض فعيل بمعنى مفعول، هو اللبن الذي استخرج زبده بوضع الماء فيه وتحريكه. أفاده في المصباح.
وقال الأزهري: الأقط يتخذ من اللبن المخيض يطبخ، ثم يترك حتى يَمْصُلَ أي حتى يسيل ماؤه. وفي السندي: الأقط: اللبن الجامد اليابس الذي صار كالحجر (فتوضأت منها) أي من الأثوار، ثم ذكر مستنده، فقال (إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي كلامه، حال كونه (يأمر بالوضوء مما مست النار) فأبو هريرة رضي الله عنه ممن يرى وجوب الوضوء مما مست النار، وهو مذهب طائفة من العلماء. كما تقدم.
(تنبيه) المسائل المتعلقة بهذا الحديث تقدم بعضها، ومما يستفاد منه كون الوضوء مما مست النار لم يكن معروفا عندهم، ولولا ذلك لما احتاج أبو هريرة إلى بيان سبب وضوئه، وفيه استحباب بيان العالم
لسبب فعله إذا كان مظنة إنكار الناس له. أفاده بعض الشراح.
وبقية المباحث تأتي إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم.
174 -
أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو الأَوْزَاعِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ الْمُطَّلِبَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَنْطَبٍ يَقُولُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتَوَضَّأُ مِنْ طَعَامٍ أَجِدُهُ فِي كِتَابِ اللهِ حَلَالاً لأَنَّ النَّارَ مَسَّتْهُ؟ فَجَمَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ حَصًى، فَقَالَ: أَشْهَدُ عَدَدَ هَذَا الْحَصَى أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ".
رجال هذا الإسناد: ثمانية
1 -
(إبراهيم بن يعقوب) بن إسحاق الجوزجاني
(1)
أبو إسحاق السعدي نزيل دمشق، ثقة حافظ، رمي بالنصب، من الحادية عشرة.
روى عن عبد الله بن بكر السهمي، ويزيد بن هارون، وعبد الصمد ابن عبد الوارث، وأبي عاصم، وأبي صالح كاتب الليث، وبشر بن عمر الزهراني، وزيد بن الحباب، وحجاج الأعور، وعفان، وجماعة فأكثر الترحال والكتابة، وله عن أحمد بن حنبل مسائل. وعنه أبو داود، والترمذي، والنسائي، والحسن بن سفيان، وأبو زرعة الدمشقي، وأبو
(1)
بضم الجيم الأولى، وزاي، وجيم: نسبة الى مدينة بخراسان مما يلي بلخ يقال لها: جوزجانان، أفاده في اللباب ج 1 ص 308 بزيادة من "ت".
زرعة الرازي، وأبو حاتم، وابن خزيمة، وأبو بشر الدولابي، وابن جرير الطبري، وجماعة.
قال الخلال: إبراهيم جليل جدّا، كان أحمد بن حنبل يكاتبه، ويكرمه، إكراما شديدا، وقال النسائى: ثقة، وقال الدارقطني: كان من المصنفين، المخرجين الثقات. وقال ابن عدي: كان يسكن دمشق، وكان أحمد يكاتبه فيتقوى بكتابه، ويقرؤه على المنبر، وقال ابن يونس: مات بدمشق سنة -256 - ، وقال أبو الدحداح: مات يوم الجمعة مستهل ذي القعدة سنة 59 - وقال ابن حبان في الثقات: كان حروري المذهب، ولم يكن بداعية، وكان صلبا في السنة حافظا للحديث، إلا أنه من صلابته ربما كان يتعدَّى طوره، وقال ابن عدي: كان شديد الميل إلى مذهب أهل دمشق في الميل على علي. وقال السلمي عن الدارقطني بعد أن ذكر توثيقه لكن فيه انحراف عن علي، اجتمع على بابه أصحاب الحديث فأخرجت جارية له فَرّوجة لتذبحها، فلم تجد من يذبحها فقال: سبحان الله، فروجة لا يوجد من يذبحها، وعلي يذبح في ضحوة نيفًا وعشرين ألف مسلم.
قال الحافظ رحمه الله: وكتابه في الضعفاء يوضح مقالته. اهـ تت ج 1 ص 183 أخرج عنه أبو داود، والترمذي، والمصنف.
2 -
(عبد الصمد بن عبد الوارث) بن سعيد بن ذكوان العنبري مولاهم التَّنُوري -بفتح المثاة وتثقيل النون المضمومة-، أبو سهل البصري، صدوق ثبت في شعبة، مات سنة 206. وقيل 207.
روى عن أبيه، وعكرمة بن عمار، وحرب بن شداد، وسليمان بن الغيرة، وشعبة، وحماد بن سلمة، وأبان العطار، وعبد العزيز
القسملي، وهشام الدستوائي، وهشام بن يحيى، وغيرهم، وعنه ابنه عبد الوارث، وأحمد، وإسحاق، وعلي، ويحيى، وأبو خيثمة، وإسحق بن منصور الكوسج، وحجاج بن الشاعر، وعبدة الصفار،
وعبد بن حميد.
وقال أبو أحمد: صدوق صالح الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله، وقال الحاكم: ثقة مأمون، وقال ابن قانع: ثقة يخطىء، ونقل ابن خلفون توثيقه عن ابن نمير. وأخرج له الجماعة.
3 -
(عبد الوارث) بن سعيد بن ذكوان البصري ثقة ثبت -8 - تقدم في 6/ 6.
4 -
(حسين المعلم) بن ذكوان المكتب العوذي
(1)
بفتح المهملة وسكون الواو بعدها معجمة- البصري، ثقة ربما وهم من السادسة، روى عن عطاء، ونافع، وقتادة، وعبد الله بن بريدة، ويحيى بن أبي كثير.
وعمر بن سعيد، وبديل بن ميسرة، وسليمان الأحول، وعدة.
وعنه إبراهيم بن طهمان، وشعبة، وابن المبارك، وعيسى بن يونس، وعبد الوارث بن سعيد، والقطان، وغندر، وابن أبي عدي، ويزيد بن زريع، ويزيد بن هارون، وغيرهم.
قال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ثقة، وكذا قال أبو حاتم والنسائي، وقال أبو زرعة: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: سألت ابن المديني من أثبت أصحاب يحيى بن أبي كثير؟: قال: هشام الدستوائي، ثم الأوزاعي، وحسين المعلم، وقال أبو داود: لم يرو حسين المعلم عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا. وقال الدارقطني: من
(1)
نسبة إلى عوذ بطن من الأزد قاله في اللباب ج 2 ص 363.
الثقات، وقال ابن سعد، والعجلي، وأبو بكر البزار: بصري ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن المديني: لم يرو الحسين المعلم عن ابن بريدة، عن أبيه إلا حرفًا واحدًا، وكلها عن رجال أخرين.
قال الحافظ رحمه الله: هذا يوافق قول أبي داود المتقدم إلا في الحرف المستثنى، وكأنه الحديث الذي تعقب به المزي قول أبي داود بأن أبا داود روى في السنن من حديث حسين عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا" الحديث.
وقال أبو جعفر العقيلي: ضعيف مضطرب الحديث: حدثنا عبد الله ابن أحمد، ثنا أبو بكر بن خلاد: سمعت يحيى بن سعيد هو القطان، وذكر حسينا المعلم فقال: فيه اضطراب، وأرخ ابن قانع وفاته سنة -145 - اهـ تت ج 2 ص 339، أخرج له الجماعة.
5 -
(يحيى بن أبي كثير) اليمامي ثقة ثبت مدلس -5 - ، تقدم في 23/ 24.
6 -
(عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي) إمام أهل الشام ثقة -7 - تقدم في 45/ 56.
7 -
(المطلب بن عبد الله بن حنطب) المخزومي، المدني صدوق كثير التدليس والإرسال -4 - تقدم في 65/ 81.
8 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه تقدم في 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف الإسناد
منها أنه من ثمانياته، وأن رواته كلهم ثقات إلا المطلب فهو صدوق كثير التدليس والإرسال، وكلهم ممن اتفقوا على التخريج لهم، إلا إبراهيم شيخه، فأخرج عنه (د ت س) وإلا المطلب فأخرج له الأربعة، وفيه رواية تابعي، عن تابع التابعين: يحيى، عن عبد الرحمن الأوزاعي، فيحيى من الطبقة الخامسة، والأوزاعي من السابعة، وأن صحابيه أكثر من روى الحديث في دهره.
شرح الحديث
(عن أبي عمرو الأوزاعي) نسبة إلى الأوزاع بطن من ذي الكلاع من اليمن، وقيل: بطن من همدان، نزلوا الشام، فنسبت القرى التي سكنوها إليهم، وقيل الأوزاع قرية، والأول هو الذي صححه في اللباب. ج 1 ص 93 (أنه سمع المطلب بن عبد الله) بن المطلب (بن حنطب) بن الحارث المخزومي، المدني صدوق كثير الإرسال والتدليس (يقول: قال ابن عباس) رضي الله عنه عنهما اعتراضا على أبي هريرة رضي الله عنه في إيجابه الوضوء مما مست النار (أتوضأ) استفهام إنكاري، حذفت منه الهمزة تخفيفا (من) أكل (طعام أجده في كتاب الله حلالا، لأ) جل (أن النار مسته؟).
وإنكار ابن عباس رضي الله عنهما يحتمل أن يكون لاعتقاده النسخ، ويحتمل أنه لم يبلغه الخبر، أو تأوله على الاستحباب، فأنكر إيجاب أبي هريرة رضي الله عنه. والوجه الأول هو الظاهر (فجمع أبو هريرة)
رضي الله عنه (حصى) بفتح الحاء والصاد المهملتين جمع حصاة، وهي الصغار من الحجارة، كما في المعجم الوسيط، ويجمع على حُصيّ بضم الحاء وكسر الصاد وتشديد الياء (فقال: أشهد) قال في التاج نقلا عن "بصائر ذوي التمييز" للمجد الفيروزابادي: قولهم: شهدت، يقال على ضربين: أحدهما جار مجرى العلم، وبلفظه تقام الشهادة، يقال: أشهد بكذا، ولا يرضى من الشاهد أن يقول: أعلم بل يحتاج أن يقول أشهد، والثاني: يجري مجرى القسم، فيقول أشهد بالله إن زيدًا منطلق، ومنهم من يقول: إن قال: أشهد، ولم يقل بالله يكون قسما، ويجرى علمت مجراه في القسم فيجاب بجواب القسم كقوله (من الكامل)
ولَقَدْ عَلمْتُ لتَأتيَنَّ عَشيَّةً
اهـ ج 2 ص 392.
قال الجامع: يحتمل حمل كلام أبي هريرة رضي الله عنه هنا على المعنيين: فيكون المعنى على الأول، أي أعلم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "توضئوا" ويكون معناه الإخبار في الحال بذلك.
ويكون المعنى على الثاني: أحلف بالله على ذلك، ويكون مما حذف منه المقسم به لكثرة الاستعمال، وهذا الوجه أوضح.
وقال العلامة الفيومي رحمه الله في كتابه الممتع "المصباح المنير":
(فائدة) جرى على ألسنة الأمة سلفها وخلفها في أداء الشهادة:
أشهد مقتصرين عليه دون غيره من الألفاظ الدالة على تحقيق الشيء نحو أعلم، وأتيقن، وهو موافق لألفاظ الكتاب والسنة أيضا، فكان كالإجماع على تعيين هذه اللفظة دون غيرها، ولا يخلو من معنى التعبد، إذ لم ينقل غيره، ولعل السر فيه أن الشهادة اسم من المشاهدة، وهي الاطلاع على الشيء عيانا فاشتُرطَ في الأداء ما ينبىء عن المشاهدة، وأقرب شيء يدل على ذلك ما اشتق من اللفظ، وهو أشهد، بلفظ المضارع، ولا يجوز شهدت، لأن الماضي موضوع للإخبار عما وقع، نحو قمت، أي فيما مضى من الزمان، فلو قال: شهدت احتمل الإخبار عن الماضي، فيكون غير مخبر به في الحال وعليه قوله تعالى حكاية عن أولاد يعقوب عليهم السلام:{وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} لأنهم شهدوا عند أبيهم أولا بسرقته حين قالوا: {إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ} ، فلما اتهمهم اعتذورا عن أنفسهم بأنهم لا صنع لهم في ذلك، وقالوا: وما شهدنا عندك سابقًا بقولنا: إن ابنك سرق إلا بما عايناه من إخراج الصواع من رحله، والمضارع موضوع للإخبار في الحال، وعليه قوله تعالى:{قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} ، أي نحن الآن شاهدون بذلك، وأيضا فقد استعمل أشهد في القسم، نحو أشهد بالله لقد كان كذا، أي أقسم، فتضمن
لفظ أشهد معنى المشاهدة، والقسم، والإخبار في الحال، فكأنَّ الشاهد قال: أقسم بالله لقد اطلعت على ذلك، وأنا الآن أخبر به، وهذه المعاني مفقودة في غيره من الألفاظ، فلهذا اقتصر عليه احتياطا، واتباعا للمأثور. اهـ المقصود من كلام العلامة الفيومي رحمه الله.
(عدد هذا الحصى) أي قدر عدده.
فائدة: ذكر العلماء في انتصاب عدد الحصى، ونحوه: كزنة عرشه، ورضا نفسه، وعدد خلقه، ومداد كلماته، أوجهًا:
إما على المصدرية، وإما على الحال، وإما: على نزع الخافض.
والذي رجحه الإمام العلامة جلال الدين السيوطي رحمه الله في رسالته "رفع السِّنَة، في نصب الزنة" رسالة ألفها جوابًا عن سؤال ورد عليه عن وجه نصب هذه الكلمات أن نصب هذه الكلمات على تقدير الظرف، أي قدر زنة عرشه، وقدر رضا نفسه، وقدر عدد خلقه، وقدر مداد كلماته، فلما حذف المضاف قام المضاف إليه مقامه، فانتصب انتصابه، ثم ذكر السيوطي رحمه الله الأوجه الأخرى، وأبطلها، بأدلة، وقوى هذا الوجه فقط، وأشبع الكلام في ذلك بما لا تراه في مؤلف غيره، فارجع إليه تزدد علما وتحقيقا. والرسالة مطبوعة ضمن كتابه الحاوي للفتاوي ج 2 ص 284 - 289.
(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) بكسر إن وفتحها، كما قال ابن مالك رحمه الله:
بَعْدَ إِذَا فُجَاءَة أوْ قَسَمِ
…
لا لامَ بَعْدَهُ بِوَجْهَيْن نُمِي
فالكسر على أن الجملة جواب القسم، والفتح على النصب بنزع الخافض، سدت مسد الجواب، أي على قوله (توضئوا مما مست النار) ولا تكون هي الجواب لأنه لا يكون إلا جملة، كما هو مقرر في كتب
النحو. انظر حاشية الخضري على ألفية ابن مالك في باب "إن" وإنما جمع أبو هريرة الحصى، وشهد بعددها تأكيدًا لخبره.
(تنبيه) حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا صحيح، وهو من أفراد المصنف، أخرجه هنا فقط، ولم يخرجه بهذا السياق غيره، غير أن ابن ماجه أخرج "أن أبا هريرة قال لابن عباس: يا ابن أخي إذا سمعت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له الأمثال".
وبقية المسائل ستأتي إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم.
175 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ".
رجال هذه الإسناد: سبعة
1 -
(محمد بن بشار) بندار بصري ثقة حافظ -10 - تقدم في 24/ 27.
2 -
(ابن أبي عدي) هو محمد بن إبراهيم بن أبي عدي، وقد ينسب إلى جده، ويقال: إن كنية إبراهيم أبو عدي السلمي القسملي نزل فيهم، أبو عمرو البصري ثقة. من التاسعة.
روى عن سليمان التيمي، وحميد الطويل، وابن عون، وداود بن أبي هند، وعثمان بن غياث الشحام، وشعبة، وسعيد بن أبي عروبة،
ومحمد بن عمرو بن علقمة، وهشام بن حسان، وهشام الدستوائي، وحجاج الصواف، وحسين المعلم وغيرهم.
وروى عنه أحمد بن حنبل، ويحي بن معين، وعمرو بن علي، وابنا أبي شيبة، وأبو موسى، وبندار، وعقبة بن مكرم، وقتيبة بن سعيد، وغيرهم.
قال عمرو بن علي: سمعت عبد الرحمن بن مهدي، وذكر ابن أبي عدي فأحسن الثناء عليه، وسمعت معاذ بن معاذ يحسن الثناء عليه، وقال أبو حاتم، والنسائي: ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة، مات بالبصرة سنة -194 - ، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال يوم الاثنين لعشر بقين من ربيع الآخر منها. وقيل غير ذلك. أخرج له الجماعة.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الحجة العَلَم الثبت -7 - تقدم في 24/ 26.
4 -
(عمرو بن دينار) أبو محمد الجمحي مولاهم المكي الثقة -4 - تقدم في 112/ 154.
5 -
(يحيى بن جعدة) بن هيبرة بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشي المخزومي، ثقة، أرسل عن ابن مسعود، ونحوه من الثالثة. روى عن جدته، أم أبيه، أم هانىء بنت أبي طالب، وعن أبي الدرداء، وزيد بن أرقم، وخباب بن الأرت وابن مسعود، وأبي هريرة، وكعب بن عجرة، وغيرهم.
وعنه حبيب بن أبي ثابت، وعمرو بن دينار، وهلال بن خباب، ومجاهد، وثوير بن أبي فاختة، وعلي بن زيد بن جدعان، وغيرهم.
قال أبو حاتم، والنسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحربي في العلل: لم يدرك ابن مسعود، وقال أبو حاتم: لم يلقه،
وقال علي بن المديني: لم يسمع من أبي الدرداء. أخرج له أبو داود، والترمذي في الشمائل، والمصنف، وابن ماجه.
6 -
(عبد الله بن عمرو) بن عَبْد القاري- منسوب إلى القارة، بتخفيف الراء قبيلة معروفة بجودة الرمي، مقبول من الرابعة.
وهو ابن أخي عبد الله بن عبد، وعبد الرحمن بن عبد، وربما نسب هذا إلى جده عبد، فيظنه بعضهم عمه عبد الله بن عبد. وعمه هذا ذكره ابن حبان، والبغوي في الصحابة، قال الحافظ: لأن له رؤية، أما صاحب الترجمة: فيروي عنه يحيى بن جعدة بن هبيرة، عن أبي هريرة، وأبي طلحة، وأبي أيوب. أفاده في "تت" ج 5 ص 305 أخرج له مسلم، وأبو داود، والمصنف.
7 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه تقدم في 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها أنه من سباعياته، وأن رواته كلهم ثقات، غير عبد الله بن عمرو فمقبول، وأنهم ما بين بصريين، وهم الثلاثة الأولون، ومكي، وهو عمرو، ولا أعرف نسبة يحيى، وعبد الله، ومدني، وهو أبو هريرة. وأنهم ممن اتفق الستة بالتخريج لهم إلا يحيى بن جعدة فأخرج له أبو داود، والترمذي في الشمائل، والمصنف، وابن ماجه. وعبد الله بن عمرو، فأخرج له مسلم، وأبو داود، والمصنف. وفيه رواية ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض، عمرو، ويحيى، وعبد الله، وفيه أن صحابيه أحفظ من روى الحديث في دهره. وتقدم غير مرة. والله أعلم.
(تنبيه) تقدم شرح هذا الحديث فلا حاجة إلى إعادته.
(تنبيه آخر) هذا الحديث صحيح، من أفراد المصنف، وأخرجه
هنا في 122/ 175 عن محمد بن بشار، عن ابن أبي عدي، عن شعبة، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة، عن عبد الله بن عمرو القاريّ، عن أبي هريرة، وفي -176 - عن عمرو بن علي، وابن بشار كلاهما عن ابن أبي عدي، عن شعبة، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة، عن عبد الله بن عمرو، عن أبي أيوب رضي الله عنه.
وفي -177 - عن عبيد الله بن سعيد، وهارون بن عبد الله كلاهما عن حرمي بن عمارة، عن شعبة، عن عمرو بن دينار، عن ابن جعدة، عن عبد الله بن عمرو، عن أبي طلحة رضي الله عنه.
وفي -178 - عن هارون، عن حرمي، عن شعبة، عن أبي بكر بن حفص، عن ابن شهاب، عن ابن أبي طلحة، عن أبي طلحة رضي الله عنه. والله أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
176 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: أَنْبَأَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ مُحَمَّدٌ الْقَارِيُّ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "تَوَضَّئُوا مِمَّا غَيَّرَتِ النَّارُ".
(تنبيه) رجال هذا الإسناد ثمانية، وكلهم تقدموا في السند السابق، إلا (عمرو بن علي) وهو الفلاس الصيرفي البصري ثقة -10 - تقدم في 4/ 4.
و (أبا أيوب) خالد بن زيد بن كليب الأنصاري الصحابي رضي الله عنه، تقدم في 19/ 20. وكذا لطائف الإسناد وشرح الحديث، والمسائل المتعلقة به تعلم مما تقدم، فلا حاجة إلى إعادتها، والله أعلم.
(تنبيه آخر) قوله: قال محمد: القاري إشارة إلى اختلاف شيخيه عمرو بن علي، ومحمد بن بشار في نسبة عبد الله بن عمرو إلى قبيلته، فنسبه محمد بن بشار، فقال: عبد الله بن عمرو القاري، ولم ينسبه عمرو، بل قال: عبد الله بن عمرو فقط، وهذا من احتياطات المحدثين حيث إنهم يراعون اختلاف ألفاظ الشيوخ وإن لم يتغير به المعنى أداءً للأمانة العلمية، فلله درهم رحمهم الله تعالى.
(تنبيه آخر) قال السندي رحمه الله: وفي بعض النسخ، قال: حدثنا محمد: القاري وأظنه خطأ اهـ.
قال الجامع: إن صحت النسخة فله وجه صحيح، أي حدثنا محمد ابن بشار بزيادة لفظة "القاري" مع اسم عبد الله بن عمرو والله أعلم.
177 -
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَرَمِيٌّ -وَهُوَ ابْنُ عُمَارَةَ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ جَعْدَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو الْقَارِيِّ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"تَوَضَّئُوا مِمَّا غَيَّرَتِ النَّارُ".
رجال هذا الإسناد: ثمانية
1 -
(عبيد الله بن سعيد) بن يحيى اليشكري، أبو قدامة السرخسي، نزيل نيسابور، ثقة مامون سني -10 - تقدم في 15/ 15.
2 -
(هارون بن عبد الله) بن مروان البغدادي، أبو موسى الحمال، ثقة -10 - تقدم في-50/ 62.
3 -
(حرمي بن عمارة بن أبي حفصة) بن نابت -بنون وباء موحدة ثم مثناة، وقيل: ثابت، كالجادّة- العتكي مولاهم البصري، أبو رَوْح، صدوق يهم -9 - روى عن أبي خلدة، وشعبة، وقرة بن خالد، وأبي طلحة الراسبي، وعزرة بن ثابت، وزر بن أبي يحيى، وعدة. وعنه عبد الله بن محمد المسندي، وعلي بن المديني، وبندار، وإبراهيم بن محمد بن عرعرة، ومحمد بن عمرو بن جبلة، ويحيى بن حكيم المقومي، وهارون الحمال، وأبو قدامة السرخسي، والفلاس، وغيرهم.
قال عثمان الدارمي عن ابن معين: صدوق، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: ليس هو في عداد القطان، وابن مهدي، وغندر، هو، مع وهب ابن جرير، وعبد الصمد وأمثالهما. قيل: إنه مات سنة 201.
قال الحافظ رحمه الله: هكذا أرخه ابن قانع، وذكره العقيلي في الضعفاء، وحكى الأثرم عن أحمد ما معناه أنه صدوق كانت فيه غفلة، وأنكر عليه أحمد حديثين من حديثه عن شعبة: أحدهما حديث جارية ابن وهب، وقد صححه الشيخان، والآخر حديث أنس "من كذب علي". أخرج له الجماعة، إلا الترمذي.
4 -
(شعبة) بن الحجاج بن الورد، أبو بسطام الواسطي ثم البصري ثقة حجة -7 - تقدم في 24/ 26.
5 -
(عمرو بن دينار) الجمحي المكي ثقة -4 - تقدم في 112/ 154.
6 -
(يحيى بن جعدة) المخزومي ثقة -3 - تقدم في 122/ 173.
7 -
(عبد الله بن عمرو القارى) مقبول -4 - تقدم في 122/ 175.
8 -
(أبو طلحة) زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري، المدني، شهد العقبة وبدرًا والمشاهد كلها، وهو أحد النقباء. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه عبد الله، وربيبه أنس بن مالك، وحفيده إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة، ولم يدركه، وزيد بن خالد الجهني، وابن عباس، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعبد الرحمن بن عبد القاري، وغيرهم.
قال ابن نمير، وابن بكير، وأبو حاتم: مات سنة -34 - وصلى عليه عثمان، وقيل: إنه مات سنة 32. وقال ثابت عن أنس: إن أبا طلحة غزا البحر فمات فيه، فما وجدوا جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام، ولم يتغير. وقال شعبة عن ثابت، وحميد، عن أنس: كان أبو طلحة لا يصوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل الغزو، فصام بعده أربعين سنة لا يفطر إلا يوم أضحى، أو فطر. وقال أبو زرعة الدمشقي: توفي بالشام وعاش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة.
قال الحافظ رحمه الله: كأنه أخذه من حديث شعبة، وكذا روى حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، فعلى هذا يكون وفاته سنة [51] وقد قاله أبو الحسن المدائني وزعم أبو نعيم أنه وهم، والظاهر أنه
الصواب، ويؤيد كون ذلك صوابا رواية مالك في الموطأ عن أبي النضر، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أنه دخل على أبي طلحة
…
فذكر الحديث في التصاوير، وقد صححه الترمذي، وعبيد الله بن عبد الله لم
يدرك عثمان، ولا يصح له سماع من علي، فهذا يدل على تأخر وفاة أبي طلحة. والله أعلم. اهـ "تت" ج 3 ص 415، أخرج له الجماعة.
لطائف هذا الإسناد
منها أنه من سباعياته، وأن رواته ما بين نيسابوري، وهو شيخه عبيد الله، وبغدادي، وهو شيخه هارون، وبصريين وهما حرمي، وشعبة، ومكي، وهو عمرو، وتقدم الكلام في يحيى، وعبد الله القاري، ومدني، وهو أبو طلحة. وفيه حرمي بلفظ النسبة وليس منسوبا إلى الحرم، وإنما هو علم على لفظ النسبة، كالمكي والحضرمي، قال السيوطي في ألفية الحديث:
وَمَنْ بلَفْظ نَسَبٍ فِيهِ سُمِي
…
مثَالُهُ المَكِّيُّ ثُمَّ الحَضْرَمِي
(تنبيه) شرح الحديث تقدم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(تنبيه آخر) حديث أبي طلحة رضي الله عنه هذا صحيح، وهو من أفراد المصنف من بين الستة، أخرجه في هذا الباب فقط.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
178 -
أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"تَوَضَّئُوا مِمَّا أَنْضَجَتِ النَّارُ".
رجال هذا الإسناد: سبعة
1 -
(هارون بن عبد الله) الحمال البغدادي الماضي في السند السابق.
وقد ترجم الشيخ الشنقيطي هارون هذا بأنه هارون بن محمد بن بكار، وأخطأ في ذلك فإن المصنف صرح باسم أبيه فكيف يلتبس هذا بذاك. فانتبه.
2 -
(حرمي بن عمارة) المتقدم في السند السابق.
3 -
(شعبة بن الحجاج) المتقدم في السابق.
4 -
(أبو بكر بن حفص) هو عبد الله بن حفص بن عمر بن سعد ابن أبي وقاص الزهري المدني مشهور بكنيته ثقة -5 - . روى عن أبيه، وجدته، وابن عمر، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأنس وعبد الله بن حنين، وعبد الله بن محيريز، وعروة بن الزبير، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وسلمان الأغر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وحسن بن حسن بن علي، والزهري، وغيرهم. وعنه ابن جريج، وزيد بن أبي أنيسة، وأبان بن عبد الله البجلي، وبلال بن يحيى العبسي، وسعيد بن أبي بردة، وشعبة، ومحمد بن سوقة، ومسعر، وجماعة.
قال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان راويا لعروة. وقال العجلي: ثقة. وقال ابن عبد البر قيل اسمه كنيته، وكان من أهل العلم والثقة أجمعوا على ذلك. أخرج له الجماعة.
(تنبيه) قد أخطا الشنقيطي في أبي بكر هذا فقال أبو بكر إسماعيل
ابن حفص، فتنبه
(1)
.
5 -
(ابن شهاب) الزهري الحجة تقدم في السند السابق.
6 -
(ابن أبي طلحة) قال الحافظ في تهذيب التهذيب في باب من نسب إلى أبيه ج 12 ص 300: ما نصه: ابن أبي طلحة عن أبيه في الوضوء مما مست النار. وعنه الزهري: أراه عبد الله بن أبي طلحة أخو
أنس بن مالك لأمه، ووالد إسحاق. اهـ.
وقال في ترجمته ج 5 ص 269: عبد الله بن أبي طلحة، واسمه زيد ابن سهل الأنصاري النجاري المدني حنكه النبي صلى الله عليه وسلم لما ولد. يروي عن أبيه، وأخيه أنس، وعنه ابناه إسحاق، وعبد الله، وابن ابنه يحيى بن إسحاق، وسليمان مولى الحسن بن علي، وأبو طوالة عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر. قال محمد بن سعد: كانت أمه أم سليم حاملا يوم حنين، ولم يزل عبد الله بالمدينة في دار أبي طلحة، وكان ثقة قليل الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات وقال عبد الرزاق: أنا معمر، عن ثابت، عن أنس كان لأبي طلحة من أم سليم ولد فمات
…
فذكر القصة، وفي آخرها فولدت غلاما اسمه عبد الله فكان من خير أهل زمانه. وقال أبو نعيم الأصفهاني في معرفة الصحابة: استشهد بفارس. وحكي عن غيره: أنه توفي بالمدينة في خلافة الوليد، وأرخه أبو أحمد الدمياطي سنة أربع وثمانين. أخرج له مسلم، والمصنف.
7 -
(أبو طلحة) زيد بن سهل الأنصاري تقدم في 122/ 177.
(1)
قال: أبو بكر إسماعيل بن حفص بن عمر بن دينار الخ، وهذا عجيب لأن أبا بكر هذا شيخ شعبة اسمه عبد الله بن حفص من الطبقة الخامسة والذي ترجمه هو من الطبقة العاشرة من شيوخ المصنف فكيف يلتبس هذا بذاك.
(تنبيه) لطائف هذا الإسناد تقدم في السند السابق أكثره، وهنا من الزيادة أن شيخ شعبة أبو بكر بن حفص، واسمه عبد الله المدني، وشيخه ابن شهاب الزهري المدني، وشيخه ابن أبي طلحة بالإبهام وهو عبد الله، على ما قاله الحافظ، وهو مدني ثقة من المقلين للرواية، وأبو طلحة زيد بن سهل، والأربعة مدنيون، وفيه رواية الابن، عن أبيه. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي طلحة) زيد بن سهل الأنصاري رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: توضئوا مما أنضجت النار) أي مما جعلته صالحا للأكل، قال في المصباح: يقال: نَضجَ اللحمُ، والفاكهة نَضَجًا من باب تعب: طاب أكله، والاسم النُّضْج بضم النون وفتحها، والفاعل ناضج ونَضج. وأنضجته بالطبخ فهو منضَج ونَضج أيضًا. اهـ.
ويستفاد من هذا الروية أنه يشترط في مس النار له أن يكون خارجا عن حالته، وهو معنى "غيّرته" فليس مجرد المس موجبًا للوضوء. والله أعلم.
(تنبيه) تقدم الكلام في درجة الحديث، وأنه من أفراد المصنف أخرجه في هذا الباب فقط. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
179 -
أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْدِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الزُّهْريُّ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ خَارِجَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ".
رجال هذا الإسناد: سبعة
1 -
(هشام بن عبد الملك) أبو تَقي اليَزَنيُّ الحمصي صدوق ربما وَهم -10 - تقدم في 122/ 172.
2 -
(محمد) بن حرب الأبرش الخولاني الحمصي ثقة -9 - تقدم في 122/ 172.
3 -
(الزبيدي) محمد بن الوليد أبو الهذيل الحمصي ثقة -7 - ، منسوب إلى زُبيد بالتصغير قبيلة من مَذْحج قاله في اللباب ج 2 ص 60 وتقدم في 45/ 56.
4 -
(الزهري) محمد بن مسلم المدني ثقة حجة -4 - تقدم في 1/ 1.
5 -
(عبد الملك بن أبي بكر) بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ابن
المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم المخزومي المدني، ثقة من الخامسة روى عن أبيه، وخارجة بن زيد بن ثابت، وخلاد بن السائب، وعبد الله
ابن حنظلة، وأبي البَدَّاح بن عاصم بن عدي، وأبي هريرة على خلاف فيه، وأم سلمة، والصحيح عن أبيه، عنها. وعنه ابن جريج وعبد الله، ومحمد ابنا أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وأبو حازم ابن دينار، وعبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، وعتبة بن أبي حكيم، وعراك بن مالك، والزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وغيرهم.
قال النسائي: ثقة، وقال ابن سعد: كان سخيا سَريًا، وقد روي عنه. مات في خلافة هشام، وكان ثقة، وله أحاديث، وذكره ابن حبان في الثقات.
قال الحافظ: وأرخ وفاته كما قال ابن سعد، ووثقه العجلي. اهـ "تت"ج 6 ص 87، أخرج له الجماعة.
6 -
(خارجة بن زيد بن ثابت) الأنصاري النجاري أبو زيد المدني، ثقة فقيه -3 - أدرك عثمان وروى عن أبيه، وعمه يزيد، وأسامة بن زيد، وسهل بن سعد، وعبد الرحمن بن أبي عمرة، وأمه أمِّ سعد بنت سعد بن الربيع، وأمِّ العلاء الأنصارية. وعنه ابنه سليمان، وابنا أخويه سعيد بن سليمان بن زيد بن ثابت، وقيس بن سعد بن زيد، وعبد الله بن عمرو ابن عثمان بن عفان، وابنه محمد بن عبد الله، ومُجَالد بن عوف، وأبو الزناد، والزهري، وعثمان بن حكيم، والمطلب بن عبد الله بن حنطب، ويزيد بن قسيط، وأبو بكر ابن بنت عمرو بن حزم، في آخرين.
قال أبو الزناد: كان أحد الفقهاء السبعة، وقال مصعب الزبيري: كان خارجة، وطلحة بن عبد الله بن عوف يقسمان المواريث، ويكتبان الوثائق، وينتهي الناس إلى قولهما، وقال العجلي: مدني تابعي ثقة،
وقال البخاري: إن صح قول موسى بن عقبة: إن يزيد بن ثابت قتل يوم اليمامة فإن خارجة بن زيد لم يدرك عمه، قال ابن نمير، وعمرو بن علي: مات سنة -99 - وقال ابن المديني، وغير واحد: مات سنة مائة.
قال الحافظ: وذكره ابن حبان في الثقات، وحكى القولين جميعًا، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وقال ابن خراش: خارجة ابن زيد أجل من كل من اسمه خارجة. "تت"ج 3 ص 75، أخرج له الجماعة.
7 -
(زيد بن ثابت) بن الضحاك بن زيد بن لَوْذَانَ -بفتح اللام وسكون الواو- بن عمرو بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار، الأنصاري أبو سعيد، ويقال: أبو خارجة، المدني، قدم النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن -11 - سنة، وكان يكتب له الوحي. روى عنه، وعن أبي بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم. وعنه ابناه خارجة، وسليمان، ومولاه ثابت بن عبيد، وأم سعد، وقيل: إنها ابنته، وأبو هريرة، وأنس، وأبو سعيد، وسهل بن حنيف، وابن عمر، وسهل بن سعد، وعبد الله بن يزيد الخطمي، وسهل بن أبي حثمة، ومروان بن الحكم، وأبان بن عثمان، وبُسْر بن سعيد، وطاوس، وعبيد بن السباق، وعطاء بن يسار، وغيرهم من الصحابة، والتابعين.
قال عاصم عن الشعبي: غلب زيد الناس على اثنين الفرائض والقرآن.
وقيل: أول مشاهده يوم الخندق قاله الواقدي، وقال الشعبي عن مسروق: كان أصحاب الفتوى من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ستة فسماه فيهم، وقال مسروق: قدمت المدينة فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم. وفضائله كثيرة، قال يحيى بن بكير: توفي سنة -45 - ومن الناس من يقول: سنة -48 - وقيل: سنة -51 - وقيل: سنة -55 - وقيل: غير ذلك، وقال علي بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب:
شهدت جنازة زيد بن ثابت فلما دلي في قبره قال ابن عباس: من سره أن يعلم كيف ذهاب العلم؟ فهكذا ذهاب العلم، والله لقد دفن اليوم علم كثير. وقال أبو هريرة يوم مات زيد: مات اليوم حبر الأمة، وعسى الله أن يجعل في ابن عباس منه خلفا. اهـ "تت" ج 3 ص 399.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سباعياته، وأن رواته ثقات اتفق الستة على إخراج أحاديثهم، إلا هشامًا فصدوق أخرج له (د س ق) وأنهم حمصيون إلى الزهري، فهو ومن بعده مدنيون، وفيه رواية تابعي، عن تابعي، ورواية الابن عن أبيه، وفيه أحد الفقهاء السبعة، وأن زيدًا أعلم الناس بالفرائض، والقرآن.
(تنبيه) هذا الحديث أخرجه المصنف هنا، وفي الكبرى 185 بهذا السند، وشرحه، وبعض مسائله تقدمت في الأحاديث الماضية، ويأتي باقيها إن شاء الله تعالى.
(تنبيه آخر) هذا الحديث أخرجه مسلم في الطهارة -57 - عن عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد، عن أبيه، عن جده، عن عقيل، عن الزهري بسند المصنف. والله تعالى أعلم.
وأخرجه أحمد في مسنده جـ 5/ 184، 189، 190، 191، والدارمي في مسنده رقم 732.
180 -
أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْدِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الأَخْنَسِ
بْنِ شَرِيقٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ خَالَتُهُ فَسَقَتْهُ سَوِيقًا، ثُمَّ قَالَتْ لَهُ: تَوَضَّأْ يَا ابْنَ أُخْتِي فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ".
رجال هذا الإسناد: سبعة
تقدموا في السند السابق، إلا ثلاثة، وهم:
1 -
(أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف المدني الثقة -3 - تقدم في 1/ 1.
2 -
(أبو سفيان بن سعيد بن المغيرة بن الأخنس بن ضريق) الثقفي المدني. روى عن خالته أم حبيبة بنت أبي سفيان. وعنه أبو سلمة ابن عبد الرحمن. وثقه ابن حبان. اهـ "تت" ج 12 ص 12 وفي "ت" مقبول من الثالثة. أخرج له أبو داود، والمصنف.
3 -
(أم حبيبة) رملة بنت أبي سفيان: صخر بن حرب بن أمية الأموية، أسلمت قديمًا، وأمها صفية بنت أبي العاص بن أمية، وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش، فتنصر، ومات هناك، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهى هناك سنة ست، وقيل: سنة سبع.
روت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن زينب بنت جحش، وعنها ابنتها حبيبة، وأخواها معاوية، وعنبسة، وابن أخيها عبد الله بن عتبة بن أبي سفيان، وابن أختها أبو سفيان بن سعيد بن المغيرة بن الأخنس بن شَريق، ومولاها سالم بن سَوَّار، ومولاها الآخر أبو الجَرَّاح، وأبو صالح
السمان، وعروة بن الزبير وزينب بنت أم سلمة، وصفية بنت شيبة، وشهر بن حوشب، وآخرون. قال أبو عبيد: توفيت سنة -44 - ، وقال ابن أبي خيثمة: توفيت قبل معاوية بسنة، يعني سنة -59 - ، وقال ابن حبان، وابن قانع: ماتت سنة -42 - ، وقال ابن عبد البر: قيل: إن اسمها هبيرة. اهـ "تت" ج 12 ص 419. أخرج لها الجماعة.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سباعياته، وأن رواته ثقات أجلاء غير هشام فصدوق،
وأبي سفيان فمقبول، وهم ما بين حمصيين، ومدنيين، فمن قبل الزهري حمصيون، ومنه مدنيون، وأنهم اتفق عليهم الستة إلا هشامًا فأخرج له (د س ق) وأبا سفيان فأخرج له (د س) وفيه أبو سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه رواية الراوي عن خالته. والله أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي سفيان بن سعيد) بن المغيرة (بن الأخنس بن شريق) بفتح الشين المعجمة وكسر الراء مشهور بكنيته، ولا يعرف اسمه (أنه أخبره) أي أبا سلمة (أنه دخل على أم حبيبة) رملة بنت أبي سفيان (زوج النبي صلى الله عليه وسلم) بالجر بدل من أم حبيبة، أو عطف بيان له، ويجوز قطعه إلى الرفع،
والنصب.
والزوج بلا هاء: يطلق على الرجل والمرأة. قال في المصباح: والرجل: زوج المرأة، وهي زوجُهُ أيضًا، وهذه هي اللغة العالية، وبها جاء القرآن، نحو {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} والجمع فيهما أزواج قاله أبو حاتم. وأهل نجد يقولون في المرأة: زوجة بالهاء، وأهل الحرم يتكلمون بها، وعكس ابن السكيت فقال: وأهل الحجاز يقولون
للمرأة: زوج، وسائر العرب: زوجة بالهاء، وجمعها زوجات، والفقهاء يقتصرون في الاستعمال عليها للإيضاح، وخوف لبس الذكر بالأنثى، إذ لو قيل: تركة فيها زوج، وابن، لم يُعلم أذكر هو أم أنثى؟. اهـ. ج 1 ص 259.
(وهي) أي أم حبيبة (خالته) أخت أمه، ولا أعرف من هي (فسقته سويقًا) وفي رواية أبي داود: فسقته قَدَحًا من سويق؟، قال في المنهل: والسويق: ما يتخذ من الشعير، أو القمح بعد قَلْيه أو دقه وخلطه بماء أو عسل أو لبن. اهـ ج 2 ص 225.
وفي المعجم الوسيط: السويق: طعام يتخذ من مدقوق الحنطة والشعير، سمي بذلك لانسياقه في الحلق، جمعه أسْوقة. اهـ.
(ثم) بعد أن سقته ذلك السويق (قالت له: توضأ يا ابن أختي) وعند أبي داود: فدعا بماء فتمضمض فقالت: يا ابن أختي "ألا توضأ"، وعند الطحاوي: "قالت: يا ابن أخي توضأ فقال: إني لم أحدث شيئا
…
(فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: توضئوا مما مست النار) وهذا بيان لسبب أمرها بالوضوء، فالفاء للتعليل أي إنما أمرتك به لأمر النبي صلى الله عليه وسلم به.
وفيه أن العالم إذا بَيَّن حكما ينبغي له أن يذكر دليله معه ليكون السامع على بصيرة، ولا يحتاج إلى طلب الدليل.
(تنبيه) يأتي الكلام على هذا الحديث في الحديث التالي. إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
181 -
أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ بَكْرِ بْنِ مُضَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ مُضَرَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ بَكْرِ بْنِ سَوَادَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الأَخْنَسِ: أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ لَهُ وَشَرِبَ سَوِيقًا: يَا ابْنَ أُخْتِي تَوَضَّأْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ".
رجال الإسناد: تسعة
فمن الربيع إلى الزهري تقدموا في 173، ومنه إلى الآخر تقدموا في السند الماضي 180 فلا حاجة إلى التطويل بإعادتهم. وكذلك اللطائف. وشرح الحديث.
تنبيهات:
(الأول): حديث أم حبيبة هذا صحيح، وهو من أفراد المصنف، وأبي داود من بين الستة:
فأخرجه المصنف هنا بالسندين المذكورين، وفي الكبرى -186 - بالسند الأول، وأخرجه (د) في الطهارة عن مسلم بن إبراهيم، عن أبان بن يزيد، عن يحمى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي سفيان، عنها.
(الثاني) قال الحافظ في النكت الظراف في الكلام على هذا الحديث:
حديث "أنه دخل على أم حبيبة"
…
الخ قلت: رواه عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، عن الزهري، فقال: عن عبيد الله، عن أم حبيبة. قال أبو حاتم: وهو خطأ، دخل له حديث في حديث. حكاه ولده في كتاب العلل ج 1 ص 33 ح 63 اهـ النكت ج 11 ص 316.
(الثالث) أنه وقع عند المصنف وأبي داود "يا ابن أختي"، وهو ظاهر، ووقع عند الطحاوي من طريق يحيى بن أبي كثير "يا ابن أخي"، بدلا من أختي، وهو محمول على عادة العرب أنهم يقولون: يا ابن أخي، يريدون الملاطفة، وإلا فهو ابن أختها كما تقدم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
123 - بَابُ تَرْكِ الوُضُوءِ مِماَّ غَيَّرتِ النَّارُ
أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على ترك الوضوء مما غيرته النار لكونه منسوخًا.
182 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ كَتِفًا، فَجَاءَهُ بِلَالٌ، فَخَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَمَسَّ مَاءً.
رجال الإسناد: سبعة
1 -
(محمد بن المثنى) أبو موسى العنزي البصري ثقة -10 - تقدم في 64/ 80.
2 -
(يحيى) بن سعيد القطان البصري الحجة -9 - تقدم في 4/ 4.
3 -
(جعفر بن محمد) بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي العلوي أبو عبد الله المدني الصادق، وأمه أم فَرْوَة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، فلذلك كان يقول: ولدني أبو بكر مرتين. صدوق إمام فقيه [6].
روى عن أبيه، ومحمد بن المنكدر وعبيد الله بن أبي رافع، وعطاء، وعروة، وجده لأمه القاسم بن محمد، ونافع، والزهري، ومسلم بن أبي مريم. وعنه شعبة، والسفيانان، ومالك، وابن جريج، وأبو حنيفة،
وابنه موسى، ووهيب بن خالد، والقطان، وأبو عاصم، وخلق كثير. وروى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري وهو من أقرانه ويزيد بن الهاد، ومات قبله.
قال الدراوردي: لم يرو مالك عن جعفر حتى ظهر أمر بني العباس، وقال مصعب الزبيري: كان مالك لا يروي عنه حتى يضمه إلى آخر، وقال ابن المديني: سئل يحيى بن سعيد عنه؟ فقال: في نفسي منه شيء، ومُجالد أحب إلي منه، قال: أملى عليَّ جعفر الحديث الطويل -يعني في الحج-.
وقال إسحاق بن حكيم، عن يحيى بن سعيد: ما كان كذوبا، وقال سعيد بن أبي مريم: قيل لأبي بكر بن عياش: مالك لم تسمع من جعفر، وقد أدركته؟ قال: سألناه عما يحدث به من الأحاديث أشيء سمعته؟ قال: لا، ولكنها رواية رويناها عن آبائنا، وقال إسحاق بن راهويه: قلت للشافعي: كيف جعفر بن محمد عندك؟ فقال: ثقة في مناظرة جرت بينهما.
وقال الدُّوريّ عن يحيى بن معين: ثقة مأمون، وقال ابن أبي خيثمة وغيره عنه: ثقة، وقال أحمد بن سعيد بن أبي مريم عن يحيى: كنت لا أسأل يحيى بن سعيد عن حديثه، فقال لي: لم لا تسألني عن حديث
جعفر بن محمد؟ قلت: لا أريده، فقال لي: إنه يحفظ، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: ثقة لا يسأل عن مثله. وقال ابن عدي: ولجعفر أحاديث، ونسخ من ثقات الناس كما قال يحيى بن معين، وقال عمرو ابن أبي المقدام: كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمت أنه من سلالة النبيين، وقال علي بن الجعد، عن زهير بن معاوية: قال أبي لجعفر بن محمد: إن لي جارًا يزعم أنك تبرأ من أبي بكر وعمر، فقال جعفر:
برىء الله من جارك، والله إني لأرجو أن ينفعني الله بقرابتي من أبي بكر.
وقال حفص بن غياث: سمعت جعفر بن محمد يقول: ما أرجو من شفاعة علي شيئا إلا وأرجوا من شفاعة أبي بكر مثله. قال الجعابي وغيره: ولد سنة 80، وقال خليفة وغير واحد: مات سنة -48 - .
وقال ابن سعد: كان كئير الحديث ولا يحتج بحديثه ويستضعف. وسئل مرة: سمعت هذه الأحاديث من أبيك؟ فقال: نعم، وسئل مرة؟ فقال: إنما وجدتها في كتبه.
قال الحافظ: يحتمل أن يكون السؤالان وقعًا عن أحاديث مختلفة فذكر فيما سمعه أنه سمعه، وفيما لم يسمعه أنه وجده، وهذا يدل على تثبته. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان من سادات أهل البيت فقها وعلما وفضلا يحتج بحديثه من غير رواية أولاده عنه، وقد اعتبرت حديث الثقات عنه فرأيت أحاديث مستقيمة، ليس فيها شيء يخالف حديث الأثبات، ومن المحال أن يلصق به ما جناه غيره.
وقال الساجي: كان صدوقا مأمونا إذا حدث عنه الثقات فحديثه
مستقيم. قال أبو موسى: كان عبد الرحمن بن مهدي: لا يحدث عن سفيان عنه، وكان يحيى بن سعيد يحدث عنه، وقال النسائي في الجرح والتعديل: ثقة، وقال مالك: اختلفت إليه زمانا فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصل، وإما صائم، وإما يقرأ القرآن، وما رأيته يحدث إلا على طهارة. اهـ تت ج 2 ص 103 - 105، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم، والأربعة.
4 -
(محمد بن علي) بن الحسين الباقر الثقة -4 - تقدم في 78/ 95.
5 -
(علي بن الحسين) زين العابدين الثقة -3 - تقدم في 78/ 95.
6 -
(زينب بنت أم سلمة) هي بنت أبي سلمة، عبد الله بن عبد الأسد
ابن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ولدت بأرض الحبشة، وكان اسمها بَرَّة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب.
روت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أمها، وعائشة، وزينب بنت جحش، وأم حبيبة، بنت أبي سفيان أمهات المؤمنين، وعن حبيبة. روى عنها ابنها أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة، ومحمد بن عمرو بن عطاء، وحميد بن نافع المدني، وعراك بن مالك، وعروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وكليب بن وائل وعلي بن الحسين، وأبو قلابة الجرمي، وآخرون. ماتت في ولاية طارق على المدينة سنة 73 - ، وحضر ابن عمر جنازتها.
قال الحافظ: قوله: إنها ولدت بأرض الحبشة قاله الواقدي، وفيه نظر، ففي مستدرك الحاكم بإسناد صحيح ما يرده، ويدل على أن أمها لما تزوجت النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت أبي سلمة كانت زينب ما فطمت بعدُ، وقال العجلي: تابعية مدنية، وقال ابن سعد: كانت أسماء بنت أبي
بكر أرضعتها فهى أحب أولادها من الرضاعة، وقال بكر بن عبد الله المزني: أخبرني أبو رافع قال: كنت إذا ذكرت امرأة بالمدينة فقيهة ذكرت زينب بنت أبي سلمة، وقال سليمان التيمي عن أبي رافع:
غضبت على امرأتي فذكر قصة فيها، فقالت زينب بنت أم سلمة وهي يومئذ أفقه امرأة بالمدينة. اهـ تت ج 12 ص 421 - 422 أخرج لها الجماعة.
7 -
(أم سلمة) رضي الله عنها يأتي ترجمتها في السند التالي
(1)
.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سباعياته، وأن رواته كلهم ثقات اتفق الأئمة بإخراج أحاديثهم في الأصول غير جعفر فأخرج له (خ) في الأدب المفرد، وأنهم
(1)
اعتذار: أخرت ترجمة أم سلمة إلى السند الآتي نسيانا فتنه.
ما بين بصريين، وهما شيخه، ويحيى، ومدنيين، وهم الباقون، وأن شيخه أحد المشايخ الذين اتفق الستة بالرواية عنهم بدون واسطة، وفيه رواية الراوي عن أبيه، عن جده.
شرح الحديث
(عن زينب بنت أم سلمة) رضي الله عنهما (عن) أمها (أم سلمة) هند بنت أبي أمية رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل كتفا) وعند أبي داود من رواية ابن عباس رضي الله عنهما: "أكل كتف شاة". والكتف بفتح الكاف وكسر التاء، ويجوز تسكينها مع فتح الكاف وكسرها، وجمعها: كِتَفَة كقِرَدَة وأكتاف، كأصحاب، وهى مؤنثة: عظم عريض خلف المنكب، وتكون للناس وغيرهم من الدواب.
(فجاءه بلال) بن رباح، ابن حمامة وهي أمه، المؤذن، أبو عبد الله الصحابي الجليل المتوفى بالشام سنة -17 - أو-18 - ، أو-20 - وهو ابن بضع وستين سنة، وتقدم في 86/ 104. رضي الله عنه. (فخرج) عطف على محذوف أي فأعلمه بالصلاة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم (إلى الصلاة، ولم يمس ماء) أي لم يتوضأ. وتمسك بهذا من قال بعدم الوضوء مما مست النار. وسيأتي قريبًا تحقيقه إن شاء الله تعالى. والله أعلم.
183 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَحَدَّثَتْنِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ ثُمَّ يَصُومُ.
وَحَدَّثَنَا مَعَ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ: أَنَّهَا قَرَّبَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَنْبًا مَشْوِيًّا، فَأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
رجال الإسناد: ستة
1 -
(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني ثم البصري ثقة -10 - تقدم في 5/ 5.
2 -
(خالد) بن الحارث الهجيمي أبو عثمان البصري ثقة تقدم في 53/ 67.
3 -
(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي ثقة -6 - تقدم في 28/ 32.
4 -
(محمد بن يوسف) بن عبد الله بن يزيد الكندي المدني الأعرج. ثقة ثبت -5 - روى عن جده لأمه، وقيل: خاله، وقيل: عمه السائب ابن يزيد، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعطاء بن يسار، وعبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وعبد الله بن المفضل.
وعنه ابن جريج، ومالك بن أنس، وابن أبي الزناد، وإسماعيل بن جعفر، وعبد الله بن عمر العمري، وحفص بن غياث، وحاتم بن إسماعيل، والقطان، وغيرهم.
قال ابن المديني: سمعت يحيى بن سعيد يقول: محمد بن يوسف أثبت من عبد الرحمن بن حميد، وعبد الرحمن بن عمار، وكان أعرج وكاتبا، وقال صدقة بن الفضل: كان يحيى يثنى عليه، ويفضله على
محمد بن أبي يحيى.
قال البخاري: كان يحيى بن سعيد يشبهه. وقال ابن معين: قال لي يحيى: لم أر شيخا يشبهه في الثقة، وقال ابن معين، وأحمد، والنسائي: ثقة، وقال مصعب الزبيري: كان له شرف وقَدَم بالمدينة. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن المديني: محمد بن يوسف الأعرج ثقة، وقال ابن شاهين في الثقات: قال أحمد بن صالح -يعني المصري-: ثبت له شأن. قال: وكان أحمد بن صالح معجبا به، وفي الزهرة روى عنه (خ) 62 حديثًا. أخرج له الجماعة، إلا ابن ماجه. ومات في حدود -140 - اهـ "تت" ج 9 ص 534 - 535.
5 -
(سليمان بن يسار) الدني مولى ميمونة ثقة فقيه -3 - ، تقدم في 112/ 156.
6 -
(أم سلمة) هند بنت أبي أمية حذيفة، ويقال: سهيل بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومية زوج النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها سنة اثنتين من الهجرة بعد بدر، وبنى بها في شوال، وكانت قبله عند أبي سلمة بن عبد الأسد، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي سلمة بن عبد الأسد، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعنها ابناها عمر، وزينب ابنا أبي سلمة، ومكاتبها نَبْهَان، وأخوها عامر بن أبي أمية، وابن أخيها مصعب بن عبد الله بن أبي أمية، ومواليها عبد الله بن رافع، ونافع، وسفينة، وأبو كثير، وابن سفينة، وخيرة أم الحسن البصري، وسليمان بن يسار، وأسامة بن زيد بن حارثة، وهند بنت الحارث الفراسية، وغيرهم. قال الواقدي: توفيت في شوال سنة -59 - وصلى عليها أبو هريرة، وقال أحمد بن أبي خيثمة: توفيت في ولاية يزيد بن معاوية، وقال غيره: توفيت سنة -62 - .
قال الحافظ رحمه الله: إنما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة أربع على الصحيح،
ويقال: سنة ثلاث، فإن أبا سلمة بن عبد الأسد شهد أحدا ورمي بسهم فعاش بعده خمسة أشهر، أو سبعة، ومات، وحلت أم سلمة في شوال سنة أربع، وقد نص على ذلك خليفة بن خياط والواقدي، وقال ابن عبد البر: مات في جمادى الآخرة سنة ثلاث. وأما قول الواقدي: إنها توفيت سنة -59 - فمردود عليه بما ثبت في صحيح مسلم أن الحارث بن عبد الله بن ربيعة، وعبد الله بن صفوان دخلا على أم سلمة في ولاية يزيد بن معاوية فسألاها عن الجيش الذي يخسف بهم، وكانت ولاية يزيد في أواخر سنة -60 - . وحكى ابن عبد البر أنها أوصت أن يصلي عليها سعيد بن زيد، وهو مشكل لأن سعيدا مات قبلها بمدة، والجواب عنه سهل إن صح، وهو احتمال أن تكون مرضت فأوصت بذلك ثم عوفيت مدة بعد ذلك. فمثل هذا يقع كثيرًا.
قال ابن حبان: ماتت في آخر سنة -61 - بعد ما جاءها نعي حسين بن علي رضي الله عنهما. اهـ "تت" ج 12 ص 457 أخرج لها الجماعة.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأنهم ممن أخرجوا لهم، إلا شيخه فما أخرح له (خ) ومحمد بن يوسف فما أخرج له (د ت)، وأنهم ما بين بصريين: وهما شيخه، وخالد، ومكي، وهو ابن جريج، ومدنيين، وهم الباقون. وفيه رواية تابعي، عن تابعي: محمد بن يوسف عن سليمان، وسليمان هو أحد الفقهاء السبعة.
شرح الحديث
(قال) سليمان بن يسار (دخلت على أم سلمة) رضي الله عنها (فحدثتني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبًا) بضمتين.
قال في المصباح: يقال: أجنب الرجل بالألف، وجَنُب: وزان
قَرُب، فهو جُنُب، ويطلق على الذكر، والأنثى، والمفرد، والتثنية، والجمع، وربما يطابق على قلة، فيقال: أجناب وجنبون، ونساء جنبات. اهـ ج 1 ص 110 - 111.
وفي المعجم الوسيط: الجنابة: حالُ مَن يَنزل منه مني، أو يكون منه جماع. اهـ ج 1 ص 138. (من غير احتلام) بل من جماع أهله (ثم يصوم). استَدَلَّ بهذا من قال: إن من أصبح جنبا فصومه صحيح،
ولا قضاء عليه. وهو مذهب الجمهور، وذهب طائفة من التابعين إلى عدم الصحة، ونقل عن طاوس ونسب إلى أبي هريرة، ولم يصح عنه. ونقل أيضا عن الحسن البصري، وسالم بن عبد الله، وعطاء أنه يتم صومه، ثم يقضيه. هذا كله في حق الجنب من الجماع، وأما المحتلم فأجمعوا على أنه يجزيه، هكذا قيل، لكن رده الحافظ بأن فيه اختلافا أيضا، فإن أبا هريرة أفتى بعدم الإجزاء. وسيأتي تمام المسألة، في
المسائل، إن شاء الله تعالى.
قال محمد بن يوسف (وحدثنا) سليمان (مع هدا الحديث) أي حديث: "كان يصبح جنبًا من غير احتلام ثم يصوم"(أنها) أي أم سلمة (حدثته أنها قرّبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم جَنْبًا) بفتح فسكون: ما تحت الإبط إلى الكشح، جمعه جُنُوب، مثل فلس وفلوس.
(مشويا) اسم مفعول من شَوَيت اللحم، أشويه شَيًا، فانشوى، مثل كسرته فانكسر، وهو مشوي، وأصله مفعول. قاله في المصباح.
ج 1 ص 328 (فأكل منه، ثم قام إلى الصلاة، ولم يتوضأ). فيه دليل على عدم إيجاب الوضوء مما مست النار. والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته حديث أم سلمة رضي الله عنها هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف، أخرجه هنا 123/ 183 وفي الكبرى 116/ 189 بالسند المذكور. وأخرج "كان يصبح جنبًا" إلخ في الكبرى في الصيام عن عمرو بن علي، عن يحيى بن سعيد، عن أسامة بن زيد عنها. وأخرج زيادة "أنها قربت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكبرى أيضا في الصيام، والمزارعة بالسند المذكور هنا.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرج حديث: "كان يصبح جنبا من غير احتلام"(م) في الصوم 13/ 6 عن أحمد بن عثمان النوفلي، عن أبي عاصم، عن ابن جريج، عن أسامة بن زيد، عن سليمان عنها.
(تنبيه) أما طريق زينب السابق فأخرجه الترمذي في الأطعمة، وابن ماجه في الطهارة -491 - ، وأخرجه أحمد. انظر تحقيق الشيخ الألباني على المشكاة ج 1 ص 106.
المسألة الرابعة: في ذكر مذاهب العلماء فيمن أصبح جنبا هل يصح صومه، أم لا؟
قال العلامة الشوكاني رحمه الله: هذه الأحاديث -يعني الأحاديث التي أوردها صاحب المنتقى- استدل بها من قال: إن من أصبح جنبا فصومه صحيح، ولا قضاء عليه من غير فرق بين أن تكون الجنابة عن جماع أو غيره، وإليه ذهب الجمهور، وجزم النووي بأنه استقر الإجماع على ذلك.
وقال ابن دقيق العيد: إنه صار ذلك إجماعًا، أو كالإجماع. وقد ثبت من حديث أبي هريرة ما يخالف أحاديث الباب، فأخرج الشيخان عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال:"من أصبح جنبا فلا صوم له"، وقد بقي على العمل
بحديث أبي هريرة هذا بعض التابعين كما نقله الترمذي.
ورواه عبد الرزاق عن عروة بن الزبير، وحكاه ابن المنذر عن طاوس. قال ابن بطال: وهو أحد قولي أبي هريرة. قال الحافظ ولم يصح عنه لأن ابن النذر رواه عنه من طريق أبي المهزم، وهو ضعيف. وحكى ابن المنذر أيضا عن الحسن البصري، وسالم بن عبد الله بن عُمر رضي الله عنهما أنه يتم صومه ثم يقضيه. وروى عبد الرزاق عن عطاء مثل قولهما. قال في الفتح: ونقل بعض المتأخرين عن الحسن بن صالح ابن حي إيجاب القضاء، والذي نقله عنه الطحاوي استحبابه.
ونقل ابن عبد البر عنه، وعن النخعي إيجاب القضاء في الفرض دون التطوع. ونقل الماوردي أن هذا الاختلاف كله إنما هو في حق الجنب، وأما المحتلم فأجمعوا على أنه يجزيه. وتعقبه الحافظ بما أخرجه النسائي بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه أفتى من أصبح جنبا من احتلام أن يفطر. وفي رواية أخرى عنه عند النسائى أيضا:"من احتلم من الليل، أو واقع أهله ثم أدركه الفجر ولم يغتسل فلا يصم". وأجاب القائلون بأن من أصبح جنبا يفطر عن أحاديث الباب بأجوبة:
منها: أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم، ورده الجمهور بأن الخصائص لا تثبت إلا بدليل، وبأن حديث عائشة المذكور في أول الباب- أعني حديث أن رجلا قال يا رسول الله تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم
…
الحديث، رواه مسلم- يقتضي عدم اختصاصه صلى الله عليه وسلم بذلك.
وجمع بعضهم بين الحديثين بأن الأمر في حديث أبي هريرة أمر إرشاد إلى الأفضل، فإن الأفضل أن يغتسل قبل الفجر، فلو خالف جاز، ويحمل حديث عائشة على بيان الجواز. وقد نقل النووي هذا الجمع عن أصحاب الشافعي، وتعقبه الحافظ بأن الذي نقله البيهقي وغيره عن
أصحاب الشافعي هو سلوك طريقة الترجيح.
وعن ابن المنذر وغيره سلوك النسخ، وبالنسخ قال الخطابي، وقواه ابن دقيق العيد بأن قوله تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} يقتضي إباحة الوطء في ليلة الصوم، ومن جملتها الوقت المقارن لطلوع الفجر فيلزم إباحة الجماع فيه، ومن ضرورته أن يصبح فاعل ذلك جنبًا ولا يفسد صومه. ويقوي ذلك أن قول الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم "قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر" يدل على أن ذلك كان بعد نزول الآية، وهي إنما نزلت عام الحديبية سنة ست، وابتداء فرض الصيام كان في السنة الثانية، ويؤيد دعوى النسخ رجوع أبي هريرة عن الفتوى بذلك كما في رواية للبخاري "أنه لما أخبر بما قالت أم سلمة وعائشة، فقال: هما أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية ابن جريج فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك"، وكذا وقع عند النسائي أنه رجع، وكذا عند ابن أبي شيبة، وفي رواية للنسائي أن أبا هريرة أحال بذلك على الفضل بن عباس، ووقع نحو ذلك في البخاري، وقال: إنه حدثه بذلك الفضل. وفي رواية أنه قال: حدثني بذلك أسامة.
وأما ما أخرجه ابن عبد البر عن أبي هريرة أنه قال: "كنت حدثتكم من أصبح جنبا فقد أفطر، وإن ذلك من كيس أبي هريرة" فقال الحافظ: لا يصح ذلك عن أبي هريرة لأنه من رواية عمر بن قيس وهو متروك.
ومن حجج من سلك طريق الترجيح ما قاله ابن عبد البر أنه صح وتواتر حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما. وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فأكثر الروايات عنه أنه كان يفتي بذلك، وأيضا رواية اثنين مقدمة على رواية واحد، ولاسيما وهما زوجتان للنبي صلى الله عليه وسلم، والزوجات أعلم بأحوال الأزواج، وأيضًا: روايتهما موافقة للمنقول، وهو ما تقدم
من مدلول الآية، وللمعقول، وهو أن الغسل شيء وجب بالإنزال، وليس في فعله شيء يحرم على الصائم فإن الصائم قد يحتلم بالنهار فيجب عليه الغسل، ولا يفسد صومه، بل يتمه إجماعا. اهـ. نيل
ج 1 ص 285.
قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل أن الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور من أن من أصبح جنبا لا يفسد صومه، لقوة دليله. والله أعلم.
(تنبيه) أما ما يتعلق بالشطر الثاني من الحديث، الذي هو "أنها قربت إلى النبي صلى الله عليه وسلم جنبا مشويا فأكل منه، ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ" فسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
184 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنِ ابْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: شَهِدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ خُبْزًا وَلَحْمًا، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
رجال هذا الإسناد: ستة
كلهم تقدموا في السند الذي قبله إلا ابن عباس فتقدم في 27/ 31.
شرح الحديث
(عن ابن عباس) رضي الله عنهما أنه (قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي حضرت عنده (أكل) جملة حالية من المفعول به، أي حال كونه آكلا (خبزا) بضم فسكون، وفعله من باب ضرب كما في المصباح.
(ولحما) بفتح فسكون جمعه لحوم، ولحمان بالضم، ولحام بالكسر، قاله في المصباح (ثم قام الى الصلاة) أي إلى أدائها (ولم يتوضأ) جملة حالية من الفاعل، أي حال كونه غير متوضىء. والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في مواضعه عند المصنف: أخرجه المصنف في هذا المحل، وأشار الحافظ في النكت الظراف بأنه أخرجه في الحدود عن قتيبة، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار. وروى عن عطاء بن يسار، عن أم سلمة معناه. في رواية ابن الأحمر، ولم يذكره أبو القاسم- يعني ابن عساكر في أطرافه.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أما من رواية سليمان فمن أفراد المصنف، وقد أخرجه (- خ م د) من رواية عطاء بن يسار، فأخرجه (خ) في الطهارة عن عبد الله بن يوسف وأخرجه (م د) فيه جميعا عن القعنبي- كلاهما عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء عنه. أفاده المزي في التحفة ج 5 ص 106.
وأخرجه أحمد، وابن خزيمة، وابن الجارود، والطحاوي، وغيرهم.
وبقية المسائل تأتي إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم.
185 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كَانَ آخِرَ الأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ.
رجال الإسناد: خمسة
1 -
(عمرو بن منصور) النسائي أبو سعيد الحافظ، ثقة ثبت -11 - تقدم في 108/ 147.
2 -
(علي بن عياش) بتحتانية ومعجمة- ابن مسلم، الألهاني -بفتح الهمزة وسكون اللام - أبو الحسن الحمصي، البكَّاءُ. ثقة ثبت -9 - . روى عن حريز بن عثمان، وأبي غسان محمد بن مطرف، وشعيب بن أبي حمزة، وثابت بن ثوبان، وغيرهم.
وروى عنه البخاري، وروى له الأربعة بواسطة أحمد بن حنبل، ومحمد بن سهل بن عسكر، وإبراهيم بن الهيثم البلدي، ومحمد بن مصفى الحمصي، ومحمود بن خالد، وموسى بن سهل الرملي، وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، وصفوان بن عمرو الحمصي، وعمران ابن بكار الكلاعي، وعمرو بن منصور النسائي، ويزيد بن محمد بن عبد الصمد، والعباس بن الوليد بن صبح الخلال، ومحمد بن أبي الحسن السمان، ومحمد بن يحيى الذهلي. وروى عنه أيضا يحيى بن معين، ودُحيم، ومحمد بن إسحاق الصغاني، وأبو زرعة الرازي. وغيرهم.
قال حنبل عن أحمد: علي بن عياش أثبت من عصام بن خالد، وقال العجلي، والنسائي: ثقة، وقال الدارقطني: ثقة حجة، وقال يحيى بن أكثم: أدخلت علي بن عياش على المأمون فتبسم، ثم بكى، فقال: يا يحيى أدخلت علي مجنونا؟
فقلت أدخلت عليك خير أهل الشام وأعلمهم بالحديث ما خلا أبالمغيرة. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان متقنا. قال ابن معين، ومحمد بن معين، ومحمد بن المصفى: مات سنة -218 - وقال سليمان بن عبد الحميد البهراني: قال علي بن عياش: ولدت سنة -143 - ، ومات سنة -219 - ، وفيها أرخه يعقوب بن سفيان، وأبو سليمان ابن زبر، وفي الزهرة روى عنه البخاري أربعة أحاديث. اهـ تت ج 7 ص 368 - 369 - بزيادة يسيرة من ت، أخرج له البخاري، والأربعة.
3 -
(شعيب بن أبي حمزة) دينار الحمصي ثقة عابد -7 - تقدم في 69/ 85.
4 -
(محمد بن المنكدر) المدني ثقة فاضل -3 - تقدم في 103/ 138.
5 -
(جابر بن عبد الله) الأنصاري الصحابي الجليل رضي الله عنهما تقدم في 31/ 35.
لطائف هذا الإسناد
منها أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأنهم ممن أخرج الستة لهم، إلا عمرو بن منصور، فمن أفراد المصنف، وعلي بن عياش فما أخرج له مسلم، وأن جابر بن عبد الله هو أحد المكثرين السبعة روى -1540 - حديثًا.
شرح الحديث
(عن محمد بن المنكدر، قال: سمعت جابر بن عبد الله) بن عمرو ابن حرام الأنصاري رضي الله عنهما (قال كان آخر الأمرين) قال الحافظ في الفتح: قال أبو داود وغيره: إن المراد بالأمر ها هنا الشأن والقصة، لا مقابل النهي. اهـ أي آخر الواقعتين منه صلى الله عليه وسلم. اهـ عون ج 1 ص 327.
(من رسول الله صلى الله عليه وسلم) حال من الأمرين (ترك الوضوء مما مست النار) قال في المنهل: آخر مرفوع على أنه اسم كان، وترك خبرها، ويجوز العكس، وهذا إذا لم تعلم الرواية، وإلا اتبعت، والأمران هما الوضوء مما مست النار، وترك الوضوء منه. اهـ ج 2 ص 219.
واستدل بهذا الحديث من قال بعدم إيجاب الوضوء بأكل ما مست النار. وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث جابر رضي الله عنه هذا حديث صحيح.
المسألة الثالْية: في بيان مواضعه عند المصنف:
أخرجه هنا -123/ 185، وفي الكبرى -116/ 188 بهذا السند.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (د) في الطهارة -75/ 4 - عن أبي عمران موسى بن سهل الرملي، عن علي بن عياش، عن شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عنه.
وأخرجه ابن خزيمة، وابن حبان، وابن الجارود، والبيهقي.
المسألة الرابعة: أعل بعض المحدثين حديث جابر هذا،
(1)
فقال أبو
(1)
قلت: سيأتي الجواب عن هذه الإعلالات في كلام النووي، وأحمد شاكر.
داود في سننه: وهذ اختصار من الحديث الأول- يعني حديث: "قَرَّبتُ للنبي صلى الله عليه وسلم خبزا ولحما، فأكله ثم دعا بالوضوء فتوضأ قبل الظهر، ثم دعا بفضل طعامه، فأكل، ثم قام إلى الصلاة، ولم يتوضأ".- اهـ ج 2 ص 217 - 219 بشرح المنهل.
وقال ابن أبي حاتم في العلل: سالت أبي عن حديث رواه علي بن عياش، عن شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، قال:"كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم -ترك الوضوء مما مست النار" فسمعت أبي يقول: هذا حديث مضطرب المتن، إنما هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل كتفا ولم يتوضأ. كذا رواه الثقات عن ابن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه، ويحتمل أن يكون شعيب حدث به من حفظه فوهم فيه. اهـ العلل ج 1 ص 64.
وقال ابن حبان في صحيحه: هذا خبر من حديث طويل اختصره شعيب بن أبي حمزة متوهما لنسخ إيجاب الوضوء مما مست النار مطلقًا، وانما هو نسخ لإيجاب الوضوء مما مست النار خلا لحم الجزور فقط. اهـ ج 2 ص 229.
وله علة أخرى فقد قال الشافعي في سنن حرملة: لم يسمع ابن المنكدر هذا الحديث من جابر إنما سمعه من عبد الله بن محمد بن عقيل. وقال البخاري في الأوسط: حدثنا علي بن المديني قال: قلت لسفيان: إن أبا علقمة الفروي روى عن ابن المنكدر عن جابر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل لحما ولم يتوضأ"، فقال: أحسبني سمعت ابن المنكدر، قال: أخبرني من سمع جابرًا.
قال الحافظ رحمه الله: ويشيد أصل حديث جابر ما أخرجه البخاري في الصحيح عن سعيد بن الحارث قلت لجابر: الوضوء مما مست النار؟ قال: لا. وللحديث شاهد من حديث محمد بن مسلمة، أخرجه
الطبراني في الأوسط، ولفظه "أكل آخر أمره لحمًا، ئم صلى، ولم يتوضأ". انتهى. تلخيص الحبير ج 1 ص 116.
المسألة الخامسة: في مذاهب العلماء في إيجاب الوضوء مما مست النار وعدمه. اختلف أهل العلم في هذه المسألة على مذهبين:
المذهب الأول: مذهب من قال بعدم الوجوب، وإليه ذهب جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين:
فمن الصحابة: الخلفاء الأربعة، وعبد الله بن مسعود، وأبو الدرداء، وابن عباس، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وجابر بن سمرة، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وأبو هريرة، وأبي بن كعب، وأبو طلحة، وعامر بن ربيعة، وأبو أمامة، والمغيرة بن شعبة، وجابر بن عبد الله، وعائشة رضي الله عنهم.
وبه قال جماهير التابعين، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن يحيى، وأبي ثور، وأبي خيثمة، وسفيان الثوري، وأهل الحجاز، وأهل الكوفة
(1)
.
المذهب الثاني: مذهب من قال بإيجاب الوضوء منه:
وإليه ذهب طائفة من أهل العلم: منهم عمر بن عبد العزيز، والحسن، والزهري، وأبو قلابة، وأبو مجْلَز -لاحق بن حميد -، وحكاه ابن المنذر عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم: منهم ابن عمر، وأبو طلحة، وأبو موسى، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة، وعائشة رضي الله عنهم
(2)
.
(1)
انظر نيل الأوطار ج 1، ص 315.
(2)
انظر في المجموع ج 2 ص 57.
احتج الأولون القائلون بعدم الوجوب بالأحاديث الصحيحة:
منها حديث أم سلمة، وابن عباس، وجابر رضي الله عنهم المذكور في هذا الباب.
ومنها حديث ابن عباس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم -أكل كتف شاة، ثم صلى، ولم يتوضأ" متفق عليه.
ومنها حديث عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحتز من كتف شاة يأكل منها، ثم صلى ولم يتوضأ" متفق عليه.
ومنها حديث ميمونة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل عندها كتفا ثم صلى، ولم يتوضأ". رواه مسلم
ومنها حديث أبي رافع رضي الله عنه قال: "أشهد لكنت أشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطن شاة ثم صلى ولم يتوضأ". رواه مسلم.
قال البيهقي وغيره: وفي الباب عن عثمان، وابن مسعود، وسويد بن النعمان، ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والمغيرة، وأبي هريرة، وعبد الله بن الحارث، ورافع بن خديج، وغيرهم.
واحتج القائلون بالوجوب بالأحاديث التي فيها الأمر بالوضوء مما مست النار، وهى أحاديث صحيحة أخرجها المصنف في الباب المتقدم ومسلم في صحيحه، وغيرهما.
وأجاب الأولون بأنها منسوخة بأحاديث الباب، وغيرها، ولا سيما حديث جابر رضي الله عنه. ومنهم: من حمل الوضوء فيها على المضمضة، وهو حمل ضعيف. كما قاله النووي رحمه الله.
وقد اعترض جماعة على الاحتجاج بحديث جابر المذكور على نسخ الوجوب، فقالوا: لا دلالة فيه لأنه مختصر من الحديث الطويل الذي رواه أبو داود وغيره عن جابر رضي الله عنه. وقد تقدم في كلام أبي داود. فقوله: آخر الأمرين يريد هذه القضية، وأن الصلاة الثانية هى آخر الأمرين، يعني آخر الأمرين من الصلاتين لا مطلقا.
وممن قال بهذا التأويل أبو داود كما تقدم، والزهري، وغيرهما، قالوا: إن أحاديث الأمر بالوضوء متأخرة ناسخة لأحاديث ترك الوضوء.
قال النووي رحمه الله: وهذا الذي قالوه ليس كما زعموا. فأما تأويلهم حديث جابر فهو خلاف الظاهر بغير دليل، فلا يقبل، وهذه الرواية المذكورة لا تخالف كونه آخر الأمرين فلعل هذه القضية هي آخر الأمر، واستمر العمل بعدها على ترك الوضوء. ويجوز أيضا أن يكون ترك الوضوء قبلها فإنه ليس فيها أن الوضوء كان لسبب الأكل. وأما دعواهم النسخ فهي دعوى بلا دليل، فلا تقبل.
وروى البيهقي رحمه الله عن الإمام الحافظ عثمان بن سعيد الدارمي شيخ مسلم: قال: اختلف في الأول من هذه الأحاديث فلم نقف على الناسخ منها ببيان يحكم به، فأخذنا بإجماع الخلفاء الراشدين والأعلام من الصحابة رضي الله عنهم في الرخصة في ترك الوضوء مع أحاديث الرخصة
(1)
.
وذهب بعضهم إلى الجمع بين الأحاديث بأن أحاديث الأمر بالوضوء محمولة على الاستحباب، وهذا ما جنح إليه الخطابي، والمجد بن تيمية. قال في المنتقى: وهذه النصوص- يعني الأحاديث الدالة على ترك
(1)
المجموع بتصرف ج 2 ص 57 - 58.
الوضوء مما مست النار- إنما تنفي الإيجاب لا الاستحباب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم للذي سأله أنتوضأ" من لحوم الغنم؟
قال: "أن شئت فتوضأ، "وإن شئت فلا تتوضأ"، ولولا أن الوضوء من ذلك مستحب لما أذن فيه، لأنه إسراف وتضييع للماء بغير فائدة. اهـ ج 1 ص 317. نيل
قال الجامع عفا الله عنه: وفي قوله لأنه إسراف
…
الخ نظر، لأن تكرار الوضوء ليس فيه إسراف، سواء أديت به عبادة أم لا؟ لأن أحاديث فضائل الوضوء، كحديث "إذا توضأ العبد المؤمن، فتمضمض، خرجت خطاياه من فيه" الحديث مطلقة عن التقييد بأداء عبادة بالأول.
وأما قول بعض الفقهاء بكراهة الوضوء على الوضوء من غير أداء عبادة بالأول فمما لا دليل عليه. فتبصر.
وقد حقق العلامة أبو الأشبال أحمد محمد شاكر رحمه الله تعالى هذه المسألة فيما كتبه على الترمذي بما شفى وكفى، وأنا أنقل خلاصته لنفاسته: قال رحمه الله تعالى:
اختلف العلماء في وجوب الوضوء مما مست النار، والذي نرجحه، ونذهب إليه عدم الوجوب -إلا في لحوم الإبل- وأن أحاديث الرخصة ناسخة للأمر السابق لها بإيجاب الوضوء منه، وقد تأول بعض أصحابنا من أهل العلم أحاديث الرخصة بأنها ليست نصا في نسخ الأمر، لاحتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك خصوصية له.
ويرد عليه أن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل صريح، وأيضا فإن حديث جابر رضي الله عنه المفصل الذي نقلناه من مسند أحمد ج 3 ص 374 - صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم "أكل، وأكل القوم معه، ثم نهض فصلى بنا العصر وما مس ماء ولا أحد من القوم ". وهذا قاطع في نفي الخصوصية. وأما
الدليل على النسخ فحديثان: أولهما: رواه أحمد في السند رقم -2377 ج 1/ 264 - عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق: حدثنا محمد بن عمرو بن عطاء، قال: دخلت على ابن عباس بيت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم لغد يوم الجمعة قال: وكانت ميمونة قد أوصت له به، فكان إذا صلى الجمعة بسط له فيه، ثم انصرف إليه فجلس فيه للناس، قال: فسأله رجل وأنا أسمع عن الوضوء مما مست النار من الطعام؟
قال: فرفع ابن عباس يده إلى عينيه، وقد كف بصره، فقال: بصر عيناي هاتان رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ لصلاة الظهر في بعض حجره، ثم دعا بلال إلى الصلاة، فنهض خارجا، فلما وقف على باب الحجرة لقيته هدية من خبر ولحم بعث بها إليه بعض أصحابه، قال فرجع رسول الله
صلى الله عليه وسلم بمن معه، ووضعت لهم في الحجرة، قال: فأكل وأكلوا معه، قال: ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه إلى الصلاة، وما مس ولا أحد ممن كان معه ماء، قال: ثم صلى بهم.
وكان ابن عباس إنما عقل من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم آخره. وهذا فيه أيضا رد على من زعم الخصوصية.
وقال الشافعي فيما رواه عنه الزعفراني: إنما قلنا لا يتوضأ منه لأنه عندنا منسوخ، ألا ترى أن عبد الله بن عباس، وإنما صحبه بعد الفتح، يروي عنه أنه رآه يأكل من كتف شاة، ثم صلى، ولم يتوضأ، وهذا عندنا من أبين الدلالات على أن الوضوء منه منسوخ، أن أمره بالوضوء منه بالغسل للتنظيف
(1)
والثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يتوضأ منه، ثم عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن عباس، وعامر بن ربيعة،
(1)
قال الجامع: القول بأن المراد به غسل اليدين للتنظيف غير مرضي كما تقدم بيانه.
وأبي كعب، وأبي طلحة، كل هؤلاء لم يتوضئوا منه. نقله البيهقي- 1/ 155.
وقد روى كثير من الصحابة حديث الأمر بالوضوء مما مست النار، وروى غيرهم أحاديث الرخصة في ذلك، ولكن الذي كان يجادل منهم في المسألة أبو هريرة، وابن عباس، فالأول يشدد في الوجوب، والثاني يشدد في بيان الرخصة، وكل منهما يرد على صاحبه، ومع هذا فإن أبا هريرة روى أيضا حديث الرخصة، ورد ذلك عنه بإسناد صحيح، فقد روى أحمد -2/ 389 حديثا عن عفان، عن وهيب، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، ثم قال: وبهذا الاسناد: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل كتفا شاة فمضمض، وغسل يده، وصلى" وهذا إسناد صحيح.
وقد روى الطيالسي أيضا حديث الرخصة هذا برقم -2411 - ، ورواه غيرهما كذلك. فيظهر من هذا أن أبا هريرة سمع الحديثين من غيره من الصحابة، ولعل إصراره علي التشديد في الوجوب لإضطراب الروايتين عنده وعدم يقينه برجحان النسخ، أو لعله رأى الوضوء وسمع الأمر به، ولم يشاهد الحديث الآخر بل سمعه سماعا فلم يطمئن قلبه إلى ترك ما رآه بنفسه.
وأصرح من كل هذا في النسخ حديث جابر قال: "كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار". وهو حديث صحيح رواه أبو داود-1/ 156 - والنسائي 1/ 40، وابن الجارود ص 21 - 22، والبيهقي-155 - 156 - كلهم من طريق شعيب بن أبي حمزة عن محمد بن المنكدر، عن جابر. وهو حديث صحيح ليس في إسناده مطعن، وليست له علة. وقد أعله بعض الحفاظ بما لا يصلح تعليلا، فقال أبو حاتم فيما رواه عنه ابنه في العلل رقم 168 - : هذا حديث مضطرب المتن
إنما هو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل كتفا ولم يتوضأ. كذا رواه الثقات عن ابن المنكدر عن جابر. ويحتمل أن يكون شعيب حدث به من حفظه فوهم فيه.
وقال أبو داود في السنن عقيب روايته: وهذا اختصار من الحديث الأول- يعني الحديث الذي رواه قبله من طريق ابن جريج، عن ابن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه "قربت للنبي صلى الله عليه وسلم خبزا ولحما فأكل ثم دعا بوَضوء، فتوضأ به، ثم صلى الظهر، ثم دعا بفضل طعامه فأكل، ثم
قام إلى الصلاة ولم يتوضأ".
فكأن أبا داود يريد أن يفهم أن قول جابر رضي الله عنه -في رواية شعيب- آخر الأمرين -يعني به آخر الفعلين في هذه الواقعة المعينة، كان عمله الأول فيها أن توضأ بعد الأكل، وعمله الثاني أن صلى بعد الأكل ولم يتوضأ ومن الواضح أن هذا تأويل بعيد جدا، يخرج به الحديث عن ظاهره، بل يحيل معناه عما يدل عليه لفظه وسياقه.
ورَمْيُ الثقات الحفاظ بالوهم بهذه الصفة، ونسبة التصرف الباطل في ألفاظ الحديث إليهم حتى يحيلوها عن معناها قد يرفع من نفوس ضعفاء العلم الثقة بالروايات الصحيحة جملة.
وشعيب بن أبي حمزة الذي رواه عن ابن المنكدر ثقة متفق عليه، حافظ أثنى عليه الأئمة، كما قال الخليلي. وعلي بن عياش الذي رواه عن شعيب ثقة حجة كما قال الدارقطني. ونسبة الوهم إلى مثل هذين الراويين أو أحدهما يحتاج الى دليل صريح أقوى من روايتهما، وهيهات أن يوجد. ولهذا قال ابن حزم في المحلى -1/ 243 - : القطع بأن الحديث مختصر من هذا قول بالظن، والظن أكذب الحديث. بل هما حديثان كما وردا.
ثم إن التأويل الذي ذهب إليه أبو داود بإختصار حديث شعيب من الحديث الآخر، بمعنى أن المراد من آخر الأمرين آخر الفعلين في الواقعة الواحدة المعينة يرده ما نقلنا عن المسند رقم 15080 - من طريق محمد بن إسحاق، عن ابن عقيل فإن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل هو ومن معه، ثم بال، ثم توضأ للظهر، وأنه أكل بعد ذلك هو ومن معه، ثم صلوا العصر ولم يتوضئوا. فهذا يدل دلالة واضحة على أن الوضوء الأول كان للحدث، وليس من أكل ما مست النار حتى يصح أن يسمى الفعل الثاني بأكله، ثم صلاته من غير أن يتوضأ آخر الأمرين، لأنهما فعلان ليسا من نوع واحد، وأرى أن هذه الرواية قاطعة في نفي التأويل الذي ذهب إليه أبو داود. والحمد لله. اهـ كلام العلامة أحمد محمد شاكر رحمه الله.
قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة القول في هذه المسألة أن الراجح فيها قول من قال بعدم الوجوب إلا في لحم الإبل، لنسخ الأحاديث الدالة على الإيجاب، ومن أقوى الأدلة على ذلك قول جابر رضي الله عنه الذكور، فإنه من أهل اللسان يعرف الناسخ والمنسوخ، فإخباره بذلك لا يكون إلا عن علم ويقين.
ويدل عليه أيضا إجماع الخلفاء الراشدين عليه.
وأما دعوى الخصوصية كما مال إليه الشوكاني فغير صحيح لما تقدم أنه أقرّ الصحابة عليه.
وأما الاستدلال بحديث "أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتف شاة ولم يتوضأ" ونحو ذلك فقد عارضه أبو محمد بن حزم رحمه الله في المحلى ج 1/ ص 244 - : بقوله: إنه لا حجة لمن قال بذلك لأن أحاديث إيجاب الوضوء هى الواردة بالحكم الزائد على هذه التي هى موافقة لما كان عليه الناس قبل ورود الأمر بالوضوء مما مست النار، ولولا حديث شعيب بن
أبي حمزة -يعني حديث جابر هذا- لما حل لأحد ترك الوضوء مما مست النار. اهـ كلامه. فالحاصل أن الراجح هو ما عليه الجمهور. والله أعلم.
المسألة السادسة: لم يذكر المصنف أحاديث الوضوء من أكل لحوم الإبل. وقد ثبت فيه حديثان:
أحدهما: حديث جابر بن سمرة رضي الله "أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت توضأ، وإن شئت فلا تتوضأ، قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم، توضأ من لحوم الإبل، قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم، قال: أصلي في مرابض الإبل؟ قال: لا." رواه مسلم 1/ 108 - ، وأحمد في مسنده ج 5/ ص 86، والطيالسي رقم 766.
والثاني: حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل؟ فقال: "توضئوا منها، وسئل عن لحوم الغنم؟ فقال: لا تتوضئوا منها، وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل؟ فقال: لا تصلوا فيها، فإنها من الشياطين، وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم؟ فقال: صلوا فيها فإنها بركة". رواه أحمد 4/ 288، 4/ 303، ورواه الطيالسي رقم-734 و 735، ورواه أبو داود 1/ 72 - 73، وابن ماجه، وابن الجارود، وابن حبان، وابن خزيمة، وقال: لم أر خلافًا بين علماء الحديث أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل لعدالة ناقليه.
المسألة السابعة: في اختلاف العلماء في الوضوء من لحوم الإبل:
فذهب الأكثرون إلى أنه لا ينقض الوضوء. قال النووي رحمه الله: ممن ذهب إلى ذلك الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وأبي بن كعب، وابن عباس، وأبو الدرداء، وأبو طلحة، وعامر بن ربيعة، وأبو
أمامة، وجماهير من التابعين، ومالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وأصحابهم.
وذهب إلى الانتقاض به أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن يحيى، وأبو بكر بن المنذر، وابن خزيمة، واختاره الحافظ أبو بكر البيهقي، وحكى عن أصحاب الحديث مطلقا، وحكى عن جماعة من الصحابة.
قال البيهقي رحمه الله: حكى بعض أصحابنا عن الشافعي أنه قال: إن صح الحديث في لحوم الإبل قلت به. قال البيهقي: قد صح فيه حديثان: حديث جابر بن سمرة، وحديث البراء قاله أحمد بن حنبل، وإسحاق بن رهوايه.
قال الجامع عفا الله عنه: المذهب الصحيح مذهب من قال بوجوب الوضوء من لحوم الإبل. لقوة دليله.
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم 494 - : وهذا المذهب أقوى دليلا، وإن كان الجمهور على خلافه. وقد أجاب الجمهور عن هذا الحديث بحديث جابر رضي الله عنه: "كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
" الحديث. ولكن هذا الحديث عام، وحديث الوضوء من لحوم الإبل خاص، والخاص مقدم على العام. اهـ كلام النووي.
قال العلامة أحمد شاكر رحمه الله فيما كتبه على الترمذي: وقال القاضي أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي ج 1 ص 112: وحديث لحم الإبل صحيح مشهور، وليس يقوى عندي ترك الوضوء منه. وحاول بعضهم أن يلتمس حكمة لوجوب الوضوء من لحوم الإبل، ولسنا نذهب هذا المذهب، ولكن نقول كما قال الشافعي في الأم 1/ 14: إنما الوضوء والغسل تعبد. اهـ كلامه ج 1 ص 125. والله تعالى أعلم.
124 - المَضْمَضَةُ من السَّويق
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية المضمضة من أكل السويق.
والمضمضة: مصدر مضمض، يقال: مضمضتُ الماء في فمي: حركته بالإدارة فيه، وتمضمضت بالماء: فعلت ذلك، قال الفارابي: والمضمضة صوت الحية ونحوها، ويقال: هو تحريكها لسانها. قاله في المصباح. ج 2 ص 575
والسويق مر تفسيره، ويأتي أيضًا.
186 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ مَوْلَى بَنِي حَارِثَةَ، أَنَّ سُوَيْدَ بْنَ النُّعْمَانِ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ خَيْبَرَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ وَهِىَ مِنْ أَدْنَى خَيْبَرَ صَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ دَعَا بِالأَزْوَادِ فَلَمْ يُؤْتَ إِلاَّ بِالسَّوِيقِ، فَأَمَرَ بِهِ فَثُرِّيَ فَأَكَلَ وَأَكَلْنَا، ثُمَّ قَامَ إِلَى الْمَغْرِبِ فَتَمَضْمَضَ وَتَمَضْمَضْنَا، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
رجال هذا الإسناد: سبعة
1 -
(محمد بن سلمة) المرادي الفقيه المصري. ثقة ثبت -11 - تقدم في 19/ 20.
2 -
(الحارث بن مسكين) أبو عمرو المصري الفقيه ثقة فقيه -10 - تقدم في 9/ 9.
3 -
(عبد الرحمن بن القاسم) العُتَقي المصري ثقة فقيه من كبار -10 - تقدم في 19/ 20.
4 -
(مالك) بن أنس الإمام الحجة الفقيه -7 - تقدم في 7/ 7.
5 -
(يحيى بن سعيد) الأنصاري المدني ثقة حجة -5 - تقدم في 22/ 23.
6 -
(بُشَير بن يسار) مصغرًا، ويسار بالياء التحتانية المثناة الحارثي الأنصاري، مولاهم، المدني ثقة فقيه، من -3 - .
روى عن أنس وجابر، ورافع بن خَديج، وسهل بن أبي حثمة، وسويد ابن النعمان، ومحَيِّصَةَ بن مسعود، وغيرهم. وعنه ابن ابنه بشير بن عبد الله بن بشير بن يسار، وربيعة الرأي، وسعيد بن عبيد الطائي، وابن إسحاق، ويحيى بن سعيد، وأبو الرَّحَّال عقبة بن عبيد، وغيرهم.
قال ابن معين: وليس بأخي سليمان بن يسار، وقال ابن سعد: كان شيخًا كبيرًا فقيهًا، وكان أدرك عامة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قليل الحديث. وكناه محمد بن إسحاق في رواياته عنه أبا كيسان، وذكره ابن حبان في الثقات. اهـ تت ج 1 ص 472 أخرج له الجماعة.
7 -
(سويد بن النعمان) بن مالك بن عامر بن مجدعة الأوسي الأنصاري المدني، بايع تحت الشجرة، وقيل: إنه شهد أحدًا وما بعدها.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في المضمضة من السويق. وعنه بشير بن يسار. وجزم ابن سعد، وغير واحد شهوده أحدا، وكناه أبو حاتم أبا عقبة، وزعم العسكري إنه استشهد يوم القادسية، قال الحافظ: وفيه نظر. اهـ تت ج 4 ص 280 - 281 أخرج له البخاري، والمصنف، وابن ماجه، والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأنهم ما بين مصريين، وهم من قبل مالك، ومدنيين، وهم الباقون. وأنهم ممن اتفق الستة على التخريج لهم إلا محمد بن سلمة، فاخرج له (م د س ق)، والحارث، فأخرج له (د س)، وعبد الرحمن، فأخرج له (خ مد س)، وسويد بن النعمان فأخرج له (خ س ق) وأن صحابيه من المقلين، روى عنه بشير بن يسار فقط فرد حديث، وهو هذا الحديث. وفيه بُشَير مصغرًا لا يوجد في الكتب الستة مصغرًا إلا هذا، وإلا بشير بن كعب العدوي، عند (خ 4) وغيرهم بشير بفتح الباء مكبرًا. والله أعلم.
شرح الحديث
(عن بشير بن يسار مولى بنى حارثة) الأنصاري المدني (أن سويد بن النعمان) الأوسي المدني رضي الله عنه (أخبره) أي بشيرا (أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر) ظرف منصوب بخرج، أي في السنة التي غزا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر.
وخيبر غير منصرت للعلمية والتأنيث باعتبار القرية، أو البلدة، وهي بلدة معروفة، كانت لليهود حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه منها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين فتحها صالحهم على العمل فيها بشرط أن المسلمين إذا شاءوا أخرجوهم. وكانت غزوتها في صفر سنة سبع من الهجرة، وبينها وبين المدينة أربع مراحل، أو خمس، وكانت تعد ريف الحجاز، وبها معاقل
وحصون، فوعد الله المسلمين بفتحها في قوله:{وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} الآية [الفتح: 20]، فتم لهم ذلك.
قيل: سميت باسم أول من سكنها، وهو رجل من العماليق، قال بعضهم: وكان اسمه خيبر بن قانية بن عبيل بن مهلان. وقيل: الخيبر بلسان اليهود الحصن (حتى) غاية لمحذوف أي ساروا حتى (إذا كانوا) أي النبي صلى الله عليه وسلم -ومن معه (بالصهباء) بفتح المهملة والمد موضع قريب من خيبر على روحة منها، كما بَيَّنَه بقوله (وهى) أي الصهباء (من أدنى خيبر) أي من أقرب نواحيها إلى المدينة وللبخاري في الأطعمة: وهى على روحة من خيبر، وقال أبو عبيد البكري في معجم البلدان: هى
على بريد. وبين البخاري في موضع آخر من الأطعمة من حديث ابن عيينة: أن هذه الزيادة من قول يحيى بن سعيد أدرجت. قاله في الفتح ج 2 ص100 والجملة مستأنفة سيقت لبيان جهة الصهباء، ولا يظهر كونها حالا (صلى العصر) جواب "إذا"(ثم دعا بالأزواد) أي طلب جمعها في محل واحد ليشترك من لا زاد له مع الآخرين. مواساة لهم. والأزواد جمع زاد، وهو الطعام الذي يتخذه المسافر لسفره. قاله
في المصباح. ج 1 ص 259 (فلم يؤت) بالبناء للمفعول (إلا بالسويق) أي لم يكن عندهم شيء يأتون به غير السويق.
والسويق بالسين وقد يقال بالصاد: ما يتخذ من الشعير أو القمح أو السُّلْت بعد ما يقلى فيدق، وإذا أريد أكله يبل بماء أو لبن أو سمن أو ربّ، أو غير ذلك لأنه يكون بعد السحق يابسًا، ويصنع منه الشراب أيضًا، ولهذا تقدم حديث ابن الأخنس أن خالته أم حبيبة سقته سويقًا وأمرته بالوضوء. وجمعه أسوقة" وقال بعضهم سمي به لانسياقه في الحلق، والقطعة منه سويقة، وقيل: إنهم يتخذونه من الحنطة عندما تُفرك
(1)
(1)
أفرك السنبل صار فريكا وهو أول ما يصلح أن يفرك ليؤكل قاله في المعجم الوسيط.
أي يشتد حبها ويقلونها على النار، ويسحقونها.
(فأمر به) أي ذلك السويق (فثري) بالبناء للمجهول يقال: ثَرَّى فلان التراب، والسويق: إذا بله. قاله في اللسان ج 1 ص 480، والمعنى فَبُلَّ بالماء حتى يصلح للأكل، وفي الفتح: قوله: فثري: بضم المثلثة وتشديد الراء، ويجوز تخفيفها أي بل بالماء لما لحقه من اليُبْس. اهـ ج 2 ص 101.
(فأكل وأكلنا) زاد في رواية سليمان عند البخاري: "وشربنا" وفي الجهاد عنده من رواية عبد الوهاب: "فلكنا وأكلنا وشربنا" قاله في الفتح ج 2 ص 101 (ثم قام إلى) أداء صلاة (المغرب فتمضمض، وتمضمضنا) أي قبل الدخول في الصلاة، وفائدة المضمضة من السويق، وإن كان لا دسم له أنه يحتبس بقاياه بين الأسنان، ونواحي الفم، فيشغله تتبعه عن أحوال الصلاة. قاله في الفتح ج 2 ص 101 (ثم صلى ولم يتوضأ) أي بسبب أكل السويق.
وقال الخطابي: فيه دليل على أن الوضوء مما مست النار منسوخ، لأنه متقدم، وخيبر كانت سنة سبع.
ورد عليه الحافظ، فقال: لا دلالة فيه لأن أبا هريرة رضي الله عنه حضر فتح خيبر، وروى الأمر بالوضوء كما في مسلم، وكان يفتي به بعد النبي صلى الله عليه وسلم اهـ فتح ج 2 ص 101.
قال الجامع عفا الله عنه: التحقيق أن الحديث منسوخ، وقد مر تحقيقه. والله أعلم. وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث سويد بن النعمان رضي الله عنه هذا أخرجه البخاري.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف: أخرجه هنا بهذا السند، وفي الكبرى-117/ 1 عن قتيبة بن سعيد، عن الليث، عن يحيى بن سعيد الأنصاري به، وفي الكبرى أيضا في الوليمة 57 عن محمد بشار عن يحيى القطان، عن يحيى بن سعيد به.
المسألة الثالثة فيمن أخرجه معه: أخرجه (خ ق) فأخرجه (خ) في الطهارة -53/ 1 - عن عبد الله بن يوسف، وفي المغازي -39/ 1 - عن القعنبي: كلاهما عن مالك، وفي الطهارة أيضا -56/ 2 - عن خالد بن مخلد، عن سليمان بن بلال، وفي الجهاد -122/ 3 - عن محمد بن المثنى عن عبد الوهاب الثقفي، وفي موضعين من الأطعمة-7، و 15 - عن علي بن عبد الله، عن سفيان، وفي الأطعمة أيضًا عن سليمان ابن حرب، عن حماد بن زيد، وفي المغازي أيضا -36/ 26 - عن محمد بن بشار، عن ابن أبي عدي، عن شعبة، قال وتابعه معاذ بن معاذ عن شعبة، كلهم عن يحيى بن سعيد الأنصاري به. وأخرجه (ق) في الطهارة -66/ 5 - عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن علي بن مسهر، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن بُشير بن يسار، عن سويد بن النعمان رضي الله عنه.
المسألة الرابعة في فوائده:
منها أن فيه دلالة على مشروعية المضمضة من أكل السويق لما ذكرناه من العلة، وهو ما ترجم له المصنف.
ومنها أن فيه دلالة على عدم الوضوء مما مست النار، وقد مَرَّ البحث عنه.
ومنها أخذ الزاد في السفر، وأنه لا ينافي التوكل.
ومنها جمع الرفقاء على الزاد في السفر، وكذا في غيره، وقد يجب ذلك إذا اشتدت الحاجة إليه.
ومنها الاشتراك على الأكل وإن كان بعضهم أكثر أكلا.
ومنها المواساة عند الحاجة بخلط الطعام ليصيب من لا زاد له من ذلك الطعام.
ومنها أن للوالي أن ينظر في مصالح العساكر، فيعمل بما يراه أنفع لهم.
ومنها أنه استدل به المهلب على أن للإمام أن يأخذ المحتكرين بإخراج الطعام عند قلته ليبيعوه من أهل الحاجة.
ومنها جواز صلاتين فأكثر بوضوء واحد، وأن ذلك كان قبل فتح مكة كما تقدم.
ومنها أن الخطابي استدل به على نسخ الأمر بالوضوء مما مست النار. لأنه متقدم، وفتح خيبر كانت في سنة سبع، ورد عليه الحافظ بأنه لا دلالة فيه عليه لأن أبا هريرة حضر بعد فتح خيبر، وروى الأمر بالوضوء، كما في مسلم، وكان يفتي به بعد النبي صلى الله عليه وسلم. واعترض عليه العيني بأنه لا يستبعد ذلك لأن أبا هريرة ربما يروي حديثا عن صحابي كان ذلك قبل أن يسلم فيسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن الصحابة كلهم عدول.
قال الجامع: ويرد عليه ما تقدم في رواية الصنف برقم 171، و 172، و 173 من التصريح بسماعه منه صلى الله عليه وسلم، فالصواب مع الحافظ في هذا، ولكن الحديث منسوخ بغيره من الأدلة، وأقوى الأدلة عليه هو حديث جابر رضي الله عنه "كان آخر الأمرين
…
الحديث". كما تقدم البحث عنه في الباب السابق. والله تعالى أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
125 - الَمضْمَضَةُ مِنَ اللَّبَنِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية المضمضة من أجل شرب اللبن.
واللبن بفتحتين: سائل أبيض يكون في إناث الآدميين والحيوان، وهو اسم جنس جمعي، واحدته لَبَنَة. أفاده في المعجم الأوسط. ج 2 ص 814.
وقال ابن منظور: اللبن: معروف اسم جنس، قال الليث: اللبن خُلاصُ الجَسَد، ومستخلصه من بين الفرث والدم، وهو كالعَرَق، يجري في العروق. والجمع ألبان، والطائفة القليلة: لَبَنَة، واللبينة تصغيرها. اهـ لسان بإختصار ج 5 ص 3989.
187 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ لَبَنًا، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَتَمَضْمَضَ، ثُمَّ قَالَ:"إِنَّ لَهُ دَسَمًا".
رجال الإسناد: ستة
1 -
(قتيبة) بن سعيد أبو رجاء البغلاني ثقة ثبت -10 - تقدم في 1/ 1.
2 -
(الليث) بن سعد إمام أهل مصر الحجة الفقيه -7 - تقدم في 31/ 35.
3 -
(عقيل) بن خالد الأيلي أبو خالد الأموي مولى عثمان -6 - روى عن أبيه، وعمه زياد، ونافع مولى ابن عمر، وعكرمة، والحسن، وسعيد بن أبي سعيد الخدري، وسعيد بن سليمان بن زيد بن ثابت، وسلمة بن كهيل، والزهري، وغيرهم.
وروى عنه إبراهيم، وابن أخيه سلامة بن روح، والمفضل بن فضالة، والليث بن سعد، وابن لهيعة، وجابر بن إسماعيل، وعبد الرحمن بن سلمان الحجري، وسعيد بن أبي أيوب، ونافع بن يزيد، يحيى بن أيوب، والحجاج بن فرافصة، وحدث عنه يونس بن يزيد الأيلي، وهو من أقرانه وغيرهم.
قال أحمد، ومحمد بن سعد، والنسائي: ثقة، وقال ابن معين: أثبت من روى عن الزهري: مالك، ومعمر، ويونس، وعُقَيل، وعن ابن معين في رواية الدوري: أثبت الناس في الزهري مالك، ومعمر، ويونس، وعقيل، وشعيب، وسفيان. وقال إسحاق بن راهويه: عقيل حافظ، ويونس صاحب كتاب. وقال أبو زرعة: صدوق ثقة، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي: عقيل أحب إليك، أم يونس؟ قال: عقيل أحب إلي لا بأس به. قال: وسئل أبي أيما أثبت عقيل، أو معمر؟ فقال: عقيل أثبت، كان صاحب كتاب، وكان الزهري يكون بأيلة، وللزهري هناك ضَيْعَة، وكان يكتب عنه هناك، وقال الماجشون: كان عقيل شُرطيا عندنا بالمدينة، ومات بمصر سنة -141 - ، وقال محمد بن عزير الأيلي: مات سنة -2 - ، وقال ابن السرح عن خاله: مات سنة -44 - ، وفيها أرخه ابن يونس.
قال الحافظ: اسم جده عَقيل بفتح العين وكسر القاف بخلاف اسمه هو فإنه بالضم، وفي رواية ابن أبي مريم، عن ابن معين: عقيل ثقة،
وقال عبد الله بن أحمد: ذكر عند أبي أن يحيى بن سعيد قال: عقيل، وإبراهيم بنِ سعد كأنه يضعفهما، فقال: وأي شيء هذا؟ هؤلاء ثقات، لم يَخْبُرهُم. وقال العجلي: أيلي ثقة. وقال البخاري: قال علي: عن ابن عيينة، عن زياد بن سعد: كان عقيل يحفظ. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال العقيلي: صدوق، تفرد عن الزهري بأحاديث، قيل: لم يسمع من الزهري شيئًا إنما هو مناولة. اهـ تت
ج 7 ص 255 - 256 أخرج له الجماعة.
4 -
(الزهري) محمد بن مسلم المدني ثقة حجة -4 - تقدم في 1/ 1.
5 -
(عبيد الله بن عبد الله) بن عتبة بن مسعود المدني ثقة فقيه -3 - تقدم في 45/ 56.
6 -
(عبد الله بن عباس) رضي الله عنهما، تقدم في -27/ 31.
لطائف هذا الإسناد
منها أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وهم ما بين بغلاني، قتيبة، ومصريين وهما الليث، وعقيل فإنه أيلي ومات بمصر، ومدنيين وهم الباقون.
فابن عباس مدني بصري طائفي مكي. وأنهم ممن اتفق الستة بالإخراج لهم. وفيه رواية تابعي، عن تابعي، وفيه عبيد الله أحد الفقهاء السبعة، وقد تقدم غير مرة، وفيه ابن عباس أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة روى 1696 - حديثا، وقد تقدم غير مرة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن ابن عباس) رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب) بفتح الشين، وكسر الراء والمصدر شرب بفتح فسكون، والاسم الشُّرب، بالضم،
وقيل: هما لغتان، والفاعل شارب، والجمع شاربون، وشرب -بفتح، فسكون- مثل صاحب، وصحب، ويجوز شَرَبة مثل كافر وكَفَرة، وقال السَّرَقُسْطي: ولا يقال في الطائر: شَرب الماءَ، ولكن يقال: حَسَاه، وقال ابن فارس في متخير الألفاظ: العَبّ: شُرْب الماء من غير مصّ، وقال في البارع: قال الأصمعي: يقال في الحافر كله وفي الظلف: جرع الماء يجرعه، وهذا كله يدل على أن الشرب مخصوص بالمص حقيقة، ولكنه يطلق على غيره مجازا. أفاده في المصباح ج 1 ص 308 (لبنا) تقدم الكلام فيه في أول الباب (ثم دعا بماء، فتمضمض، ثم قال) مبينا سبب المضمضة من شربه (إن) بكسر الهمزة، لكونها محكية بالقول (له) أي اللبن (دسما) قال في (ق): الدسم محركة: الوَدَك والوَضَر، والدنس، وقد دسم كفرح. اهـ ص 1429، أي أن له لدهنا يَعْلَق بالفم. فأحببت أن أزيل ذلك بالماء. والله أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث ابن عباس هذا متفق عليه.
المسألة الثالية: في مواضعه عند المصنف: أخرجه هنا 125/ 187 - وفي الكبرى-118/ 192 بهذا السند.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه، أخرجه (خ م د ت ق) فأخرجه (خ) في الطهارة -54 - عن يحيى بن بكير وقتيبة، كلاهما عن الليث، عن عقيل، قال: وتابعه يونس، وصالح. وفي الأشربة -12/ 7: عن أبي عاصم، عن الأوزاعي: أربعتهم عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وأخرجه (م) في الطهارة -58/ 5 - عن قتيبة به. وفي -58/ 6 - عن زهير بن حرب، عن يحيى بن سعيد، عن الأوزاعي به. وفي -58/ 6 -
عن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن يونس به. وفي -68/ 6 - عن أحمد بن عيسى عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن الزهري به.
وأخرجه (د) في الطهارة 77، و (ت) فيه أيضا -66 - عن قتيبة به.
و (ق) فيه 68/ 1 - عن دُحَيم، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي به.
المسألة الرابعة: قال الحافظ في الفتح: هذا الحديث يعني حديث ابن عباس- أحد الأحاديث التي رواها الأئمة الخمسة، وهم الشيخان، وأبو داود، والنسائي، والترمذي عن شيخ، واحد، وهو قتيبة. اهـ فتح ج 2 ص 101.
المسألة الخامسة: في فوائده: في الحديث دلالة على استحباب تنظيف الفم من أثر اللبن بالمضمضة، كما ترجم عليه المصنف، ويستنبط منه استحباب تنظيف الفم من سائر الأطعمة، والأشربة التي فيها دسم، وأثر يبقى بعد أكلها، وكذا تنظيف اليدين ونحوهما من أطرافه.
المسألة السادسة: روى ابن ماجه هذا الحديث من طريق الوليد بن مسلم، قال: حدثنا الأوزاعي، بلفظ "مضمضوا من اللبن"، وكذا رواه الطبراني من طريق أخرى عن الليث بالإسناد المذكور. وأخرج ابن
ماجه من حديث أم سلمة، وسهل بن سعد مثله وإسناد كل منهما حسن.
وفي التهذيب لابن جرير الطبري: هذا خبر عندنا صحيح، وإن كان عند غيرنا فيه نظر لاضطراب ناقليه في سنده، فمن قائل عن الزهري عن ابن عباس من غير إدخال عبيد الله بينهما، ومن قائل عن الزهري عن عبيد الله بينهما، ومن قائل عن الزهري عن عبيد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم من غير ذكر ابن عباس.
قال العلامة بدر الدين العيني رحمه الله: وبعدُ فليس في مضمضته عليه الصلاة والسلام وجوب مضمضة ولا وضوء على من شربه، إذ
كانت أفعاله غير لازمة العمل بها لأمته إذا لم تكن بيانا عن حكم فرض في التنزيل. وقال صاحب التلويح: وفيه نظر من حيث إن ابن ماجه رواه عن عبد الرحمن بن إبراهيم، قال: حدثنا الوليد بن مسلم الحديث الذي ذكرناه آنفًا، وفي حديث موسى بن يعقوب عنده أيضا وهو بسند صحيح قال: حدثني أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة، عن أبيه، عن أم سلمة مرفوعًا "إذا شربتم اللبن فمضمضوا، فإن له دسما"، وعنده أيضًا من حديث عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مضمضوا من اللبن فإن له دسما"، وعند ابن أبي حاتم في كتاب العلل من حديث أنس "هاتوا ماء فمضمض به". وفي حديث جابر رضي الله عنه عند ابن شاهين "فمضمض من دسمه".
وقال الشيخ أبو جعفر البغدادي: الذي رواه أبو داود بسند لا بأس به عن عثمان بن أبي شيبة، عن زيد بن حباب، عن مطيع بن راشد، عن توبة العنبري، سمع أنس بن مالك "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب لبنا فلم يمضمض، ولم يتوضأ، وصلى" يدل على نسخ المضمضة، وقال صاحب التلويح: يخدش فيه ما رواه أحمد بن منيع في مسنده بسند صحيح: حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب، عن ابن سيرين، عن أنس رضي الله عنه "أنه كان يمضمض من اللبن ثلاثا" فلو كان منسوخا لما فعله بعد النبي صلى الله عليه وسلم"
قال العيني لا يلزم من فعله هذا، والصواب في هذا أن الأحاديث التي فيها الأمر بالمضمضة أمر استحباب لا وجوب، والدليل على ذلك ما رواه أبو داود المذكور آنفا، وما رواه الشافعي رحمه الله تعالى بإسناد حسن عن أنس رضي الله عن "أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب لبنا، فلم يتمضمض، ولم يتوضأ".
فإن قلت: ادعى ابن شاهين أن حديث أنس ناسخ لحديث ابن عباس
قلت: لم يقل به أحد، ومن قال بالوجوب حتى يحتاج إلى دعوى النسخ؟. اهـ عمدة القاري ج 2 ص 422 - 0 ونحوه في الفتح.
قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل أن المضمضة من اللبن مستحبة، ومثله ما له دسم للعلة المنصوص عليها في الحديث. والله أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب".
* * *
ذكرُ ما يُوجبُ الغَسْلَ ، وَماَ لا يُوجبُهُ
أي هذا محل ذكر الأحاديث الدالة على الأمور التي توجب الغسل على الشخص والتي لا توجبه.
والغسل بالفتح مصدر غسلته غسلا من باب ضرب، والإسم الغُسل بالضم، وجمعه أغسال مثل قفل وأقفال، وبعضهم يجعل المضموم والمفتوح بمعنى، وعزاه إلى سيبويه، وقيل الغُسْل بالضم: هو الماء الذي يتطهر به، وقال ابن القوطية: الغسل تمام الطهارة، وهو اسم من الإغتسال، وغَسَلت الميتَ من باب ضرب أيضا فهو مغسول، وغسيل، ولفظ الشافعي: وغسل الغاسل الميت، والتثقيل فيهما مبالغة، واغتسل الرجل، فهو مُغتَسِل بالكسر، اسم فاعل، والمُغْتَسَل بالفتح موضع الاغتسال، والغِسْل بالكسر: ما يغسل به الرأس من سدْر وخطمي ونحو ذلك. اهـ المصباح المنير ج 2 ص 447.
ثم ذكر تلك الأمور بأبواب متتالية، فقال:
126 - غُسْلُ الكاَفر إذَا أسْلَمَ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية غسل الشخص الذي كان كافرا إذا إراد الإسلام. وهذا هو الأقرب في معنى الحديث، لما يأتي، لكن ظاهر تبويب المصنف أنه يريد به الغسل بعد الإسلام فكأنه يرى الأمر واسعًا فحمل حديث الباب على ما بعد الإسلام، وحديث الباب الآتي على ما قبله، لكن رواية أبي داود الآتية تعين حمل الحديثين على، ما قبل الإسلام، وهو الأولى.
188 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَغَرِّ -وَهُوَ ابْنُ الصَّبّاحِ- عَنْ خَلِيفَةَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ: أَنَّهُ أَسْلَمَ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَغْتَسِلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ.
رجال الإسناد: ستة
1 -
(عمرو بن علي) الفلاس البصري ثقة ثبت -10 - تقدم في 4/ 4.
2 -
(يحيى) بن سعيد القطان البصري، ثقة حجة -9 - تقدم في 4/ 4.
3 -
(سفيان) بن سعيد الثوري الكوفي ثقة ثبت -7 - تقدم في 33/ 37.
4 -
(الأغر بن الصباح) التميمي المنقري الكوفي مولى آل قيس بن عاصم والد الأبيض. من السادسة. روى عن خليفة بن حصين بن قيس ابن عاصم، وأبي نضرة، وعنه الثوري وقيس بن الربيع، وأبو شيبة.
قال ابن معين، والنسائي: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح. قال الحافظ: وقع ذكره في أثر علقه البخاري، نبهت عليه في ترجمة خليفة بن حصين، وقال العجلي، ثقة، وقال ابن حبان في الثقات: إنه من أهل البصرة، وأن محمد بن سواء روى عنه. اهـ تت ج 1 ص 364 أخرج له أبو داود، والترمذي، والمصنف، وعلق عنه البخاري.
5 -
(خليفة بن حصين) بضم الحاء مصغرًا بن قيس بن عاصم التميمي المنقري الكوفي -3 - ، روى عن أبيه حصين بن قيس بن عاصم، وجده قيس بن عاصم، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن أرقم، وأبي الأحوص الجشمي، وأبي نصر الأسدي الراوي عن ابن عباس. روى عنه الأغر بن الصباح. قال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات.
قال الحافظ رحمه الله: وقع ذكره في حديث موقوف علقه البخاري في النكاح، لشيخه أبي نصر الأسدي، ويلزم المزي أن يرقم له علامة التعليق كما صنع في ترجمة عبد الرحمن بن فروخ، وقال أبو الحسن بن القطان الفاسي: حديثه عن جده مرسل، وإنما يروي عن أبيه، عن جده. انتهى. وليس كما قال، فقد جزم ابن أبي حاتم بأن زيادة من رواه عن أبيه وهم. اهـ تت ج 3 ص 159 - 160 أخرج له أبو داود، والترمذي والمصنف، وعلق عنه البخاري.
6 -
(قيس بن عاصم) بن سنان بن خالد بن منقر بن عبيد بن مقاعس التميمي السعدي أبو علي، ويقال: أبو قبيصة، ويقال: أبو طلحة المنقري، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد بني تميم سنة تسع، فأسلم، وقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا سيد أهل الوبر"، وكان عاقلا، حليمًا سمحًا، قيل للأحنف ممن تعلمت الحلم؟ قال: من قيس، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعنه ابناه حكيم وحصين، وابن ابنه خليفة، والأحنف بن قيس، والحسن البصري، وأبو سوية: سهل بن خليفة، وشعبة بن التوأم.
قال ابن عبد البر: كان قد حَرَّم على نفسه الخمرَ في الجاهلية، وقال النضر بن شميل: قال عبدة بن الطيب فيه يرثيه (من الطويل):
عَلَيْكَ سَلامُ الله قَيْسَ بْنَ عَاصمٍ
…
وَرَحْمَتُهُ مَا شَاءَ أَنْ يَتَرَحَّمَا
الأبيات، نزل قيس البصرة، وبنى بها دارًا وبها مات عن اثنين وثلاثين ذكرًا من أولاده. اهـ تت ج 8 ص 399 - 400 أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود، والترمذي، والمصنف. والله أعلم.
لطائف الإسناد
منها أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وهم ما بين بصريين: وهم عمرو، ويحيى، وقيس، وكوفيين، وهم الباقون، وفيه قوله: وهو ابن الصباح، وقد تقدم البحث عنه غير مرة، وهو أن شيخه لم ينسبه إلى أبيه، فأراد أن ينسبه هو، ففصل بين كلامه، وكلام شيخه، بقوله:"وهو". وفيه رواية الراوي عن جده. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن خليفة) بفتح الخاء المعجمة، وكسر اللام (ابن حصين) بصيغة التصغير (عن) جده (قيس بن عاصم) التميمي المنقري بكسر الميم وسكون النون وفتح القاف، رضي الله عنه (أنه أسلم) أي أراد أن يسلم، لما في رواية أبي داود: قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أريد الإسلام فأمرني أن أغتسل بماء وسدر". ولحديث ثمامة بن أثال الآتي. وهذا هو
الأوْلى في معنى الحديث، لأن الرواية يفسر بعضها بعضا. لكن ظاهر تبويب المصنف يرشد إلى حمل الحديث على ما قبل الإسلام، وهو الذي ارتضاه السندي (فأمره النبي صلى الله عليه وسلم) قبل إسلامه (أن يغتسل بماء وسدر) أي بماء مخلوط بورق النبق.
والسدر بكسر السين وسكون الدال: جمع سدرة كذلك: شجر النَّبق.
واستدل بالحديث من قال بوجوب الغسل على من أسلم، وسيأتي تحقيق الكلام في ذلك في المسائل، إن شاء الله تعالى. والله أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث قيس بن عاصم رضي الله عنه هذا صحيح.
المسألة الثانية: في ذكر مواضعه عند المصنف: أخرجه هنا -126/ 188 - وفي الكبرى -119/ 193 - عن عمرو بن علي، عن يحيى القطان، عن الثوري، عن الأغر بن الصباح، عن خليفة بن
حصين، عن جده قيس بن عاصم رضي الله عنه.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (د ت) فأخرجه (د) في الطهارة -131/ 1 - عن محمد بن كثير، عن سفيان، به.
وأخرجه (ت) في الصلاة -308 - عن بندار، عن ابن مهدي، عن سفيان، بمعناه، وقال: حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وأخرجه أحمد، وابن خزيمة، وابن حبان، والبيهقي.
المسألة الرابعة: في فوائده: دل الحديث على مشروعية غسل الكافر إذا أراد أن يسلم إزالة للأوساخ التي أصابته في حال كفره، وعلى
استحباب الإغتسال بماء مخلوط بسدر، ليكون أبلغ في النظافة، وعلى أن اختلاط الماء بالأشياء الطاهرة لا يخرجه عن الطهورية.
المسألة الخامسة: في اختلاف العلماء، في وجوب الغسل على من أسلم، وعدمه: ذهب جماعة إلى وجوبه، وبه يقول مالك
(1)
وأحمد، وأبو ثور، قاله النووي في المجموع: ج 2 ص 153: واختاره ابن المنذر، والخطابى.
واحتجوا بحديث قيس بن عاصم المذكور، وبحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل، يقال له: ثُمَامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد"، وذكر الحديث، وفي آخره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله" رواه البخاري، وفي رواية للبيهقي وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ عليه، فأسلم، فأطلقه، وبعث به إلى حائط أبي طلحة، وأمره أن يغتسل، فاغتسل، وصلى ركعتين".
وبحديث أمره صلى الله عليه وسلم بالغسل واثلة، وقتادة الرهاوي، عند الطبراني، وعَقيل بن أبي طالب، عند الحاكم في تاريخ نيسابور، وفي أسانيد الثلاثة ضعف، كما قاله الحافظ.
وذهب جماعة إلى استحبابه، وبه يقول الشافعي والهادي إذا لم يجنب في حال الكفر، وإلا وجب عليه الغسل، سواء قد اغتسل أم لا؟ لعدم صحة الغسل، وفيه خلاف في مذهب الشافعي أصحهما وجوب
الإعادة. كما في المجموع.
واحتجوا بأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر كل من أسلم بالغسل، ولو كان واجبا لما خَصَّ
(1)
هكذا في المجموع والمغنى لابن قدامة عد مالكا مع الموجبين، وعده في المنهل مع غير الموجبين
بالأمر به بعضا دون بعض، فيكون ذلك قرينة صارفة للأمر إلى الندب.
وأما وجوبه على من أجنب فللأدلة القاضية بوجوبه، لأنها لم تفرق بين كافر، ومسلم.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى وجوبه على من أجنب، ولم يغتسل حال كفره، فإن اغتسل لا يجب، ولا يصح قياسه على الصلاة، والزكاة لأنهما لا يصحان بدون النية، بخلاف اغتساله، لأن الماء مطهر بنفسه فلا يحتاج إلى النية.
وذهب المنصور بالله إلى استحبابه مطلقا، وإن لم يغتسل من جنابة أصابته في كفره، لحديث "الإسلام يَجُبُّ ما قبله".
قال الجامع عفا الله عنه: أرجح المذاهب عندي مذهب من قال بالإستحباب إذ لو كان واجبا لما خَصَّ به بعض من أسلم، ولو أمر به الكل لنقل إلينا نقلا مشتهرًا، ومعلوم انتشار الإسلام في الناس، ولكن لم يحفظ عن كل من أسلم أنه أمر بالاغتسال لا في عهد النبوة، ولا بعدها إلا عن طائفة قليلة. فدل على الاستحباب. والله أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب".
127 - تَقْديمُ غَسْل الكَافر إذَا أرَادَ أن يُسْلمَ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية تقديم غسل الكافر على إسلامه إذا أراد أن يسلم.
ظاهر تبويب المصنف أنه يرى السعة في الأمر حيث ترجم في الماضي بما يشعر أن الغسل مؤخر، لكن الأولى حمل الحديث الماضي على تقديم الغسل على الإسلام، لحديث أبي داود المتقدم، وحديثُ الباب يؤيده. والله أعلم.
189 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: إِنَّ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ الْحَنَفِيَّ انْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، يَا مُحَمَّدُ، وَاللهِ مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ. مُخْتَصِرٌ.
رجال الإسناد: أربعة
1 -
(قتيبة) بن سعيد ثقة ثبت -10 - تقدم في 1/ 1.
2 -
(الليث) بن سعد الإمام الحجة الثبت -7 - تقدم في 31/ 35.
3 -
(سعيد بن أبي سعيد) المقبري المدني ثقة -3 - تقدم في 95/ 117.
4 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه تقدم في 1/ 1.
لطائف هذا الإسناد
منها أنه من رباعياته، وهو أعلى ما وقع له من الإسناد العالي، وقد تقدم في 6/ 6 ، 14/ 14، 18/ 19، 31/ 35.
ومنها أن رواته كلهم ثقات اتفق الستة على التخريج لهم، وأنهم ما بين بغلاني، ومصري، ومدنيين.
ومنها أن صحابيه أحد المكثرين السبعة روى 5374 حديثًا. والله أعلم.
شرح الحديث
(عن سعيد بن أبي سعيد) المقبري (أنه سمع أبا هريرة) رضي الله عنه (يقول: إن ثمامة) بضم الثاء المثلثة وميم مخففة (بن أثال) بهمزة مضمومة وثاء مثلثة مخففة آخره لام مخففة بن النعمان بن سلمة بن عتبة ابن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدُّئل بن حَنيفة الحنفي، أبو أمامة اليمامي رضي الله عنه (الحنفي) بفتحتين منسوب إلى حنيفة المذكور، قال في اللباب: الحنفي بفتح الحاء، والنون وفي آخره فاء، هذه النسبة إلى حنيفة، وهم قبيلة كبيرة من ربيعة بن نزار، نزلوا اليمامة، وهم حنيفة بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصَى بن دُعمَى بن جَديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار، اهـ ج 1 ص 397.
قال الجامع عفا الله عنه: القاعدة إذا نسب إلى فَعيلة مكبرًا، أو فُعَيْلَة
مصغرًا إذا لم يكن معتل العين، ولا مضاعفًا يقال: فَعَلي بفتح الفاء والعين وحذف الياء، وفُعَلي بضم الفاء، وفتح العين، وحذف الياء، فيقال في النسبة إلى حنيفة: حنفيل وإلى جُهَينة: جُهَني، قال ابن مالك في الخلاصة:
وَفَعَلِيٌّ في فَعِيلَةَ التُزِمْ
…
وَفُعَلِيٌّ فِي فُعَيلَةَ حُتِمْ
وأما ما كان معتل العين كطويلة، أو مضاعفا كجَليلة مكبرا، وقُلَيلة مصغرًا، فلا يحذف ياؤه، بل ينسب على لفظه، فيقال: طَويلي وجَليلي وقُليلي، كما قال في الخلاصة:
وَتَمَّمُوا مَا كَانَ كَالطَّويلَه
…
وَهكَذَا مَا كَانَ كَالجَليلَهْ
(انطلق) أي ذهب، وأول الحديث كما في صحيح البخاري: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خَيْلا قبل نجد، فجأت برجل من بني حنيفة، يقال له: ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"أطلقوا ثمامة" فانطلق (إلى نَخْل) بفتح فسكون اسم جمع واحده نخلة. شجرُ التمر.
قال في المصباح: وكل جمع بينه وبين واحده الهاء، قال ابن السكيت: فأهل الحجاز يؤنثون أكثره فيقولون هي التمر، وهي البر، وهي النخل، وهي البقر، وأهل نجد، وتميم يذكِّرون، فيقولون: نخل كريم، وكريمة، وكرائم، وفي التنزيل {نَخْلٍ مُنْقَعِر} [القمر: 20]، و {نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7]،
وأما النخيل بالياء: فمؤنثة، قال أبو حاتم: لا اختلاف في ذ لك. اهـ ج 2 ص 597.
قال الحافظ رحمه الله: قوله إلى نخل، في أكثر الروايات بالخاء المعجمة، وفي النسخة المقرؤة على أبي الوقت بالجيم، وصَوَّبها بعضهم، وقال: والنَّجْل: الماء القليل النابع، وقيل الجاري. قلت: ويؤيد الرواية الأولى أن لفظ ابن خزيمة في صحيحه في هذا الحديث
"فانطلق إلى حائط أبي طلحة". اهـ فتح ج 1 ص 663 ط دار الريان.
وقال العلامة العيني رحمه الله: ويؤيد هذا يعني رواية الخاءَ- ما رواه ابن خزيمة في صحيحه من حديث أبي هريرة "أن ثمامة أسر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يغدو إليه فيقول: ما عندك يا ثمامة؟ فيقول: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تمن تمن على شاكر، وإن ترد المال نعطك منه ما شئت، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحبون الفداء، ويقولون: ما نصنع بقتل هذا؟، فمر عليه النبي صلى الله عليه وسلم يومًا فأسلم، فحله، وبعث به إلى حائط أبي طلحة فأمره أن يغتسل، فاغتسل، وصلى ركعتين، فقال: صلى الله عليه وسلم: "لقد حسن إسلام أخيكم" وبهذا اللفظ أخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه، وأخرجه البزار أيضا بهذا الطريق، وفيه: "فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر" وفي بعض الروايات: "أن ثمامة ذهب إلى المصانع، فغسل ثيابه،
واغتسل"، وفي تاريخ البر في "فأمره أن يقوم بين أبي بكر، وعمر فيعلمانه" اهـ عمدة القاري ج 4 ص 237.
(قريب من المسجد) النبوي (فاغتسل) ظاهره أنه فعل ذلك من غير أمر النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الروايات المتقدمة تبين المراد منه، وهو أن اغتساله بأمره صلى الله عليه وسلم (ثم) بعد اغتساله (دخل المسجد) النبوي (فقال: أشهد أن لا اله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده، ورسوله) تقدم الكلام على معنى الشهادتين وإعرابهما في -109/ 148 - مستوفى، فارجع إليه (يا محمد) ناداه بإسمه لكونه لا يعلم النهي عنه، أو قبل النهي (والله ما كان على وجه الأرض وجه) اسم كان، والجار والمجرور صفة مقدمة على موصوف نكرة، فيعرب حالا، كما هو القاعدة في نعت النكرة إذا قدم يعرب حالا منها، كما في قوله (من مَجْزُوِّ الوافر):
لِميَّةَ مُوحِشًا طَلَلٌ
(1)
(1)
صدر بيت، عجزه: يَلُوحُ كَأنَّهُ خِلَلُ
(أبغض الي) خبر "كان"(من وجهك) متعلق بأبغض، وهذا إخبار منه بما كان عليه من عدواة النبي صلى الله عليه وسلم (فقد أصبح وجهك أحب الوجوه) بنصب أحب خبرًا لأصبح (كلها) بالجر تأكيد للوجوه (إلي) متعلق بأحب، وهذا إخبار منه لحالته التي هو عليها بعد هداية الله له، فقد انقلبت تلك العداوة إلى الصداقة والمحبة بسبب العفو والحلم منه صلى الله عليه وسلم، وشرح الله صدره للإسلام.
(وإن خيلك) أي فُرسانك، قال ابن منظور رحمه الله: والخيل: الفُرسان، وفي المحكم: جماعة الأفراس، لا واحد له من لفظه. قال أبو عبيدة: واحدها خائل، لأنه يختال في مشيته، قال ابن سيده: وليس هذا بمعروف، وفي التنزيل العزيز:{وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64] أي بفرسانك ورجالتك والخيل: الخيول، وفي التنزيل العزيز:{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8].
وفي الحديث: "يا خيل الله اركبي"، قال ابن الأثير: هذا على حذف المضاف، أراد يا فرسان خيل الله اركبي، وهذا من أحسن المجازات وألطفها. اهـ لسان ج 2 ص 1307.
قال الجامع: الأحسن تفسير الخيل في حديث الباب، وحديث "يا خيل الله اركبي" بالفرسان، أي أن فرسانك (أخدتني) أي أسرتني (وأنا أريد العمرة) جملة حالية من المفعول به.
وقد ذكر ابن اسحاق رحمه الله السَّرِّية التي أخذته، فقال:
السرية التي أخذت ثمامة كان أميرها محمد بن مسلمة أرسله صلى الله عليه وسلم في ثلاثين راكبًا إلى القُرَطَاء من بني أبي بكر بن كلاب بناحية ضَريَّة بالبكرات لعشر ليال خلون من المحرم سنة ست، وعند ابن سعد على رأس تسعة وخمسين شهرا من الهجرة، وكانت غيبته بها تسع عشرة ليلة، وقدم
لليلة بقيت من المحرم.
قوله: القرطاء بضم القاف وفتح الراء والطاء المهملة، وهِم نفر من بني أبي بكر بن كلاب، وكانوا ينزلون بالبكرات بناحية ضَريَّة، وبين ضرية والمدينة سبع ليال، وضرية بفتح الضاد المعجمة وكسر الراء وتشديد الياء آخر الحروف، وهى أرض كثيرة العشب، وإليها ينسب الحمى، وضرية في الأصل بنت ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، وسمي الموضع المذكور باسمها، والبكرات بفتح الباء الموحدة في الأصل جمع بكرة، وهى ماء بناحية ضرية. اهـ عمدة القاري ج 4 ص 236 - 237.
ثم سأل حكم إحرامه بالعمرة فقال (فماذا ترى) أيْ أيَّ حكم ترى في هذا الاعتمار قبل الإسلام هل صحيح فأمضي فيه، أم غير صحيح فأرفضه؟ (فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي أفرحه بذكر ما للمسلمين عند الله تعالى من الخيرات، أو أفرحه بذكر حسن إسلامه للصحابة، ففي رواية ابن خزيمة، فقال صلى الله عليه وسلم:"لقد حسن إسلام أخيكم"، يعني أنه لما سمع ذلك استبشر.
وقوله: بشره بتخفيفط الشين ثلاثيا وتشديدها مضعفًا، قال الجوهري: بشرت الرجل أبشره بالضم، بَشْرًا- أي بفتح فسكون، وبُشُورًا من البشرى، وكذلك الإبشار والتبشير ثلاث لغات، والاسم البشارة، والبُشارة، بالكسر والضم.
يقال: بشرته بمولود فأبشر إبشارًا، أي سُرَّ، وتقول أبْشر بخير، بقطع الألف، وبَشرتُ بكذا بالكسر أبشَر أي استبشرت به. وبَشَرَني فلان بوجه حسن أي لقيني وهو حسن البشْر بالكسر أي طلقُ الوجه. اهـ لسان باختصار ج 1 ص 287.
قال الجامع: فعلى هذا يحتمل أن يكون معنى: فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي لقيه بوجه طلق لفرحه بإسلامه. والله أعلم.
(وأمره أن يعتمر) أي يكمّل عمرته التي أحرم بها، وفيه دليل أن من نوى قربة قبل إسلامه ينبغي أن يفعلها بعده، كما في حديث عمر رضي الله عنه في نذره أن يعتكف في المسجد الحرام في الجاهلية فأمره صلى الله عليه وسلم أن يوفي بنذره عام الفتح، رواه البخاري وغيره (مختصر) بالرفع خبر
لمحذوف أي هذا الحديث مختصر، من حديث مطول.
وقصته بطولها ساقها ابن إسحاق في المغازي كما أشار إليه في الإصابة ج 2 ص 27، وساقها ابن الأثير في أسد الغابة ج 1: قال رحمه الله:
أخبرنا أبو جعفر عبيد الله بن أحمد بن علي بإسناده إلى يونس بن بكير عن ابن إسحاق، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان إسلام ثمامة بن أثال الحنفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الله حين عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما عرض أن يمكنه منه، وكان عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مشرك، فأراد قتله، فأقبل ثمامة معتمرًا، وهو على شركه، حتى دخل المدينة، فتحير فيها حتى أخذ، فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر به، فربط إلى عَمُود من عُمُد المسجد فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه، فقال:"مالك يا ثمام هل أمكن الله منك؟ " فقال: قد كان ذلك يا محمد إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تعف تعف عن شاكر، وإن تسأل مالا تعطه، فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم -وتركه حتى إذا كان من الغد مرَّ به فقال:"مالك يا ثمام" قال: خير يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تعف تعف عن شاكر، وإن تسأل مالا تعطه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو هريرة: فجعلنا المساكين نقول بيننا: ما نصنع بدم ثمامة؟ والله لأكلة من جزور سمينة من فدائه أحط إلينا من دم ثمامة، فلما كان من الغد مرَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"مالك يا ثمامة؟ " قال: خير يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تعف تعف عن شاكر، وإن تسأل مالا تعطه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أطلقوه فقد عفوتُ عنك يا ثمام، فخرج ثمامة حتى أتى حائطًا من
حيطان المدينة، فاغتسل فيه، وتطهر، وطهر ثيابه، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد فقال: يا محمد لقد كنت وما وجه أبغض إليَّ من وجهك، ولا دين أبغض إليَّ من دينك، ولا بلد أبغض إليَّ من بلدك، ثم لقد أصبحت، وما وجه أحب إلي من وجهك، ولا دين أحب إلي من دينك، ولا بلد أحب إلي من بلدك، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، يا رسول الله إني خرجت معتمرًا، وأنا على دين قومي فأسرني أصحابك في عمرتي، فسيرني صلى الله عليك في عمرتي، فسيره رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرته، وعلمه، فخرج معتمرًا، فلما قدم مكة وسمعته قريش يتكلم بأمر محمد قالوا: صبأ ثمامة، فقال: والله ما صبوت ولكنني أسلمت وصدّقت محمدًا وآمنت به، والذي نفس ثمامة بيده لا يأتيكم حبة من اليمامة، وكانت ريف أهل مكة- حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرف إلى بلده، ومنع الحمل إلى مكة، فجهدت قريش، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم إلا كتب إلى ثمامة يخلي لهم حمل الطعام، ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما ظهر مسيلمة، وقوي أمره أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فُرَات بن حَيَّان العجلي إلى ثمام في قتال مسيلمة وقتله. قال محمد بن إسحاق: لما ارتد أهل اليمامة عن الإسلام لم يرتد ثمامة، وثبت على إسلامه هو ومن تبعه من قومه، وكان مقيما باليمامة ينهاهم عن اتباع مسيلمة، وتصديقه ويقول: إياكم وأمرًا مظلمًا لا نور، فيه وإنه لشقاء كتبه الله عز وجل على من أخذ به منكم، وبلاء على من يأخذ به منكم يا بني حنيفة، فلما عصوه واتفقوا على اتباع مسيلمة عزم على مفارقتهم، ومرّ العلاء بن الحضرمي ومن معه على جانب اليمامة يريدون البحرين، وبها الحطم ومن معه من المرتدين من ربيعة، فلما بلغه ذلك قال لأصحابه من المسلمين إني والله ما أرى أن أقيم مع هؤلاء وقد أحدثوا،
وإن الله ضاربهم ببلية لا يقومون بها ولا يقعدون، وما أرى أن نتخلف عن هؤلاء، يعني ابن الحضرمي وأصحابه وهم مسلمون، وقد عرفنا الذي يريدون، وقد مروا بنا، ولا أرى إلا الخروج معهم، فمن أراد منكم فليخرج، فخرج ممدا للعلاء، ومعه أصحابه من المسلمين فَفَتَّ ذلك في أعضاد عدوهم حين بلغهم مدد بني حنيفة وشهد مع العلاء قتال الحطم فانهزم المشركون وقتلوا، وقسم العلاء الغنائم ونَفَّلَ رجالا فأعطى العلاء خميصة كانت للحطم يباهي بها رجلا من المسلمين فاشتراها منه ثمامة فلما رجع ثمامة بعد هذا الفتح رأى بنو قيس بن ثعلبة قوم الحطم خميصته على ثمامة، فقالوا: أنت قتلت الحطم قال: لم أقتله ولكني اشتريتها من المغنم، فقتلوه. اهـ أسد ج 1 ص 246 - 247. والله أعلم.
مسائل تتعلق بحديث الباب
المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف: أخرجه هنا 127/ 189، وفي الصلاة 20/ 712، وفي الكبرى 119/ 193 و 20/ 791 عن قتيبة، عن الليث، عن سعيد المقبري، عنه.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه أخرجه (خ م د) فأخرجه (خ) في الصلاة -82 - ، وفي الإشخاص -7 - عن قتيبة، وفيهما وفي المغازي -71/ 1 - عن عبد الله بن يوسف، وأخرجه (م) في المغازي -21/ 1 - ، وأخرجه (د) في الجهاد -124/ 3 - عن عيسى بن حماد، وقتيبة ثلاثتهم عن الليث بن سعد، به. وأخرجه أحمد، وابن خزيمة، وابن حبان، وعبد الرزاق، والبيهقي.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها جواز دخول الكافر المسجد، وفيه خلاف بين العلماء وسيأتي
تحقيق الخلاف مع بيان الأدلة وترجيح الراجح منها في كتاب المساجد في باب ربط الأسير بسارية المسجد -20/ 712 - إن شاء الله تعالى.
ومنها أسر الكافر، وجواز إطلاقه.
ومنها جواز ربطه في المسجد لينظر حسن صلاة المسلمين واجتماعهم عليها فيأنس لذلك، ففي صحيح ابن خزيمة عن عثمان بن أبي العاص "إن وفد ثقيف لما قدموا أنزلهم النبي صلى الله عليه وسلم -المسجد ليكون أرَقّ لقلوبهم"، وقال جبير بن مطعم فيما ذكره أحمد رحمه الله:"دخلت المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي المغرب فقرأ بالطور، فكأنما صدع قلبي حين سمعت القرآن" وقيل: يمكن أن يكون ربطه بالمسجد لأنه لم يكن لهم موضع يربط فيه إلا المسجد.
قال الجامع: والأول أولى لما تقدم.
ومنها مشروعية اغتسال الكافر إذا أسلم وفيه الخلاف المتقدم في الباب الماضي في وجوبه وعدمه، وقد قدمنا أن الراجح هو قول من قال بالإستحباب، وهو مذهب الشافعي، وبعض العلماء.
ومنها أنه أخذ ابن المنذر من هذا الحديث جواز دخول الجنب المسلم المسجد، وأنه أولى من المشرك، لأنه ليس بنجس.
قال الجامع: لكن يرد عليه حديث عائشة رضي الله عنه مرفوعًا "لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب" رواه أبو داود، وحديث أم سلمة رضي الله عنها مرفوعًا "إن المسجد لا يحل لحائض ولا لجنب" رواه ابن ماجه. والحديثان وإن ضعف ابن حزم إسنادهما بأنَّ أفلَتَ بن خليفة مجهول، فقد ردوا عليه بأن ابن حبان وثقه، وقال أبو حاتم: هو شيخ، وقال أحمد: لا بأس به، وروى عنه سفيان الثوري، وعبد الواحد بن زياد، وقال في الكاشف: صدوق، وقال في البدر المنير: بل هو مشهور ثقة.
وكذا قول البخاري في جسرة الراوية عن عائشة: إن عندها عجائب قال ابن القطان: لا يكفي في رد أخبارها. وقال العجلي: تابعية ثقة. وذكرها ابن حبان في الثقات. وقد حسن ابن القطان حديثهما هذا، وصححه ابن خزيمة، قال ابن سيد الناس: ولعمري إن التحسين لأقل مراتبه لثقة رواته، ووجود الشواهد له من خارج، فلا حجة لأبي محمد بن حزم في رده. أفاده في نيل الأوطارج 1 ص 345 - 346.
قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل أن دخول الجنب المسجد، وكذا الحائض ممنوع للحديثين المذكورين
(1)
. والله أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب".
(1)
وقد ضعف الشيخ الألباني الحديث، ولكن الظاهر مع الذين قالوا بتحسينة، والله أعلم.
128 - الغَسْلُ مِنْ مُواَراَةِ المُشْركِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية الإغتسال من أجل دفن المشرك إذا مات.
والمواراة مصدر وَارَاه: إذا ستره. أفاده في المصباح.
190 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ نَاجِيَةَ بْنَ كَعْبٍ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ أَبَا طَالِبٍ مَاتَ، فَقَالَ:"اذْهَبْ فَوَارِهِ". قَالَ: إِنَّهُ مَاتَ مُشْرِكًا، قَالَ:"اذْهَبْ فَوَارِهِ". فَلَمَّا وَارَيْتُهُ رَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لِي:"اغْتَسِلْ".
رجال الإسناد: ستة
1 -
(محمد بن المثنى) أبو موسى العنزي البصري ثقة -10 - تقدم في 64/ 80.
2 -
(محمد) بن جعفر غندر البصري ثقة -5 - تقدم في 21/ 22.
3 -
(شعبة) بن الحجاج البصري ثقة -7 - تقدم في 24/ 26.
4 -
(أبو إسحاق) السبيعي عمرو بن عبد الله الكوفي ثقة -3 - تقدم في 38/ 42.
5 -
(ناجية بن كعب) الأسدي، ويقال: ابن خُفَاف -بضم المعجمة، وبفائين- العَنَزى أبو خفاف الكوفي، ويقال: إنهما اثنان. روى عن ابن مسعود، وعلي، وعمار. وعنه أبو إسحاق السبيعي، وأبو حسان الأعرج، ووائل بن داود، وأبو السفر الهمداني، ويونس بن أبي إسحاق. قال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ناجية بن كعب صالح، وقال أبو حاتم: شيخ، وقال يعقوب بن شيبة في حديث أبي إسحاق عن ناجية، عن عمار في التيمم رواه جماعة عن أبي إسحاق، فقال زائدة عنه، عن ناجية، ولم ينسبه، وقال أبو الأحوص: عن ناجية أبي خفاف، وقال أبو بكر بن عياش: عن ناجية العنزي، وقال ابن عيينة وإسرائيل: عن ناجية بن كعب، فقال علي بن المديني: قول ابن عيينة عن ناجية بن كعب غلط، وإنما هو ناجية بن خفاف العنزي، قال علي: وأما ناجية بن كعب فهو أسدي، قال علي: وناجية بن خفاف أبو خفاف العنزي لم يسمع هذا الحديث عندي من عمار، لأن ناجية هذا لقيه يونس ابن أبي إسحاق، وليس بالقديم. وقال الخطيب أبو بكر: قال ابن عيينة وإسرائيل ومعلى بن هلال، عن أبي اسحاق، عن ناجية بن كعب، وهو وهم. قال: وأحسب أبا إسحاق رواه لهم عن ناجية غير منسوب، فظنوه ناجية بن كعب. انتهى.
وقد رواه أبو نعيم، وخلف بن هشام، ومحمد بن عبيد المحاربي، عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق، عن ناجية بن كعب، عن علي، في قصة وفاة أبي طالب، وروى الترمذي بهذا الإسناد قول أبي جهل للنبي صلى الله عليه وسلم "إنَّا لا نكذبك" الحديث، وهذا جميع ماله عندهم.
قال الحافظ رحمه الله: فيلخص من أقوال هؤلاء الأئمة أن الراوي عن عمار حديث التيمم هو ناجية بن خفاف أبو خفاف العنزي، وهو الذي روى عن ابن مسعود، وعنه أبو إسحاق، وابنه يونس بن أبي
إسحاق وغيرهما، وأما ناجية بن كعب الأسدي فهو الراوي عن علي بن أبي طالب، فقد قال ابن المديني أيضا: لا أعلم أحدًا روى عنه غير أبي إسحاق، وهو مجهول، وقال العجلي: ناجية بن كعب كوفي ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الجوزجاني: مذموم، وفرق البخاري، وابن أبي حاتم عن أبيه، ومسلم في الطبقات، وغير واحد بين ناجية بن كعب الأسدي، وبين ناجية بن خفاف العنزي، وذكر ابن منده ناجية بن خفاف في الصحابة، وقال: لاتصح له صحبة. اهـ تت ج 10 ص 401.
6 -
(علي) بن أبي طالب رضي الله عنه تقدم في 74/ 91.
لطائف هذا الإسناد
منها أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات غير ناجية بن كعب، فمختلف فيه كما تقدم، ففي التقريب: ناجية بن كعب الأسدي عن علي ثقة من الثالثة. وتقدم عن ابن المديني أنه قال: لا أعلم روى عنه غير أبي إسحاق، وهو مجهول، ووثقه العجلي، وابن حبان.
ومنها أنهم ما بين بصريين، وهم من قبل أبي إسحاق، وكوفيين، وهم الباقون. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن علي) بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم) أي جاء إليه، يقال: أتى الرجل ياتي أتْيًا -أي من باب رمى-: جاء، والإتيان اسم منه، وأتيته يستعمل لازما ومتعديا، قال الشاعر (من الكامل):
فَاحْتَلْ لنَفْسكَ قَبْلَ أتْيِ العَسْكَرِ
وأتا يأتو أتْوًا لغة فيه. قاله في المصباح. ج 1 ص 3.
(فقال: إن أبا طالب) ابن عبد المطلب، واسمه عبد مناف، والد علي رضي الله عنه، وعم النبي صلى الله عليه وسلم شقيق أبيه، وهو الذي قام بكفالته بعد موت جده عبد المطلب بوصية منه (مات) وفي رواية المصنف الآتية في الجنائز 84/ 2006، وأبي داود: قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم إن عمك الشيخ الضال مات فمن يواريه؟ (فقال: اذهب فواره) وفي الرواية الآتية "فوار أباك" أي ادفنه، وغيِّبه عن أعين الناس، لثلا يتأذى أحد بجيفته (فلما واريته) أي دفنته (رجعت اليه) صلى الله عليه وسلم (فقال لي: اغتسل) وفي الرواية الآتية "ولا تحدثن حدثا حتى تأتيني، فواريته، ثم جئت، فأمرني، فاغتسلت، ودعا لي". وقوله: ولا تحدثنَّ حدثًا أي لا تفعل شيئًا قبل مجيئك إلي.
وفيه أنه لم يأمره بغسله، ولا بتكفينه.
ثم الظاهر أن هذا الاغتسال من دفنه، لا من غسله فيكون مخصوصا بالكافر لنجاسته على قول أن بدن الكافر نجس لقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} ، أو لأنه لا يخلو عن نجاسة لعدم عنايته بالنظافة.
وقال السندي: الاغتسال مبني على أنه غسله، وأن من يغسل الميت ينبغي له أن يغتسل، ويحتمل أن يختص ذلك بالكافر لقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، لكن الأحاديث تقتضي العموم، نعم لو قيل: إن اغتساله من جهة المواراة، ومواراة الكافر توجب الغسل لنجاسته لكان له وجه. اهـ كلام السندي ج 4 ص 80.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله السندي رحمه الله أخيرًا هو المتجه عندي. والله أعلم. وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى في درجته: هذا الحديث صححه الشيخ الألباني، وقد عرفت ما في ناجية من الكلام، فقال ابن المديني: مجهول، وقال الجوزجاني: مذموم، ووثقه ابن حبان، والعجلي، والحافظ في التقريب، وضعف الحديث البيهقي.
قال الجامع: الحق أنه لا ينزل عن درجة الحسن. والله أعلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف: أخرجه هنا -128/ 190 - بالسند المذكور، وفي الجنائز 84 - عن أبي قدامة عن يحيى، عن سفيان، عن أبي إسحاق به. وفي الكبرى في الطهارة 120/ 1 - عن محمد بن بشار، عن يحيى به.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه: أخرجه (د) في الجنائز -75 - عن مسدد، عن يحيى، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن ناجية بن كعب، عن علي رضي الله عنه. وأخرجه الطيالسي، وابن أبي شيبة، وأبو
يعلى، والبزار، والبيهقي.
قال الحافظ رحمه الله: ومدار كلام البيهقي على أنه ضعيف، ولا يتبين وجه ضعفه، وقد قال الرافعي: أنه حديث ثابت مشهور، قال ذلك في أماليه. اهـ تلخيص ج 2 ص 114.
المسألة الرابعة: قال الحافظ في التلخيص: ليس في شيء من طرق هذا الحديث التصريح بأنه غسله إلا أن يؤخذ ذلك من قوله: فأمرني فاغتسلت، فإن الاغتسال من غسل الميت.
قال الجامع: هذا غير واضح، بل الظاهر أنه من دفنه، لا من غسله كما تقدم.
قال الحافظ: وقد وقع عند أبي يعلى من وجه آخر في آخره: وكان علي إذا غسل ميتًا اغتسل، ووقع عند ابن أبي شيبة في مصنفه بلفظ: فقلت: إن عمك الشيخ الكافر قد مات، فما ترى فيه؟ قال: أرى أن تغسله وتجنه، وقد ورد من وجه آخر أنه غسله. رواه ابن سعد عن الواقدي: حدثني معاوية بن عبد الله بن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جده، عن علي قال: لما أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بموت أبي طالب بكى، ثم قال لي: اذهب فاغسله، وكفنه، قال: ففعلت، ثم أتيته، فقال لي: اذهب فاغسله وكفنه، قال: ففعلت، ثم أتيته، فقال لي: اذهب فاغتسل، وكذلك رويناه في الغيلانيات.
واستدل بعضهم على ترك غسل المسلم للكافر بما رواه الدارقطني من طريق عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه قال: جاء ثابت بن قيس بن شماس، فقال: يا رسول الله أن أمي توفيت وهي نصرانية، وإني أحب أن أحضرها، فقال له اركب دابتك وسرْ أمامها، فإنك إذا كنت أمامها لم تكن معها، قال الدارقطني: لا يثبت.
قال الحافظ: قلت: وهو مع ضعفه لا دلالة فيه على الأمر بترك الغسل ولا بفعله. اهـ تلخيص ج 2 ص 114 - 115.
المسألة الخامسة: في فوائده: من فوائد الحديث الإحسان إلى القريب ولو كافرا، ودفنه ومشروعية الغسل من دفنه، وهو الذي ترجم عليه المصنف، وكمال أدب الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يُقدمُون على شيء إلا عن أمر منه صلى الله عليه وسلم ولو كان ذلك الأمر مما يتعين عليهم، حيث إن عليا سأل عن شأن أبيه بعد موته ولم يتولّ أمره بانفراده، وهذا من وفور إيمانه فلا تغلبه حنانة الأبوة، ولا عظيم قربه منه، بل آثر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فصدق عليه قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} الآية [المجادلة: 22].
المسألة السادسة: في مذاهب العلماء في غسل الكافر ودفنه:
قال النووي رحمه الله في المجموع ما حاصله: مذهب الشافعي أن للمسلم غسله ودفنه واتباع جنازته، قال: ونقله ابن المنذر عن أصحاب الرأي وأبي ثور، وقال مالك وأحمد: ليس للمسلم غسله ولا دفنه،
لكن قال مالك: له موارته. اهـ مجموع ج 5 ص 153.
قال الجامع عفا الله عنه:
الراجح عندي أنه يواريه، لحديث الباب، ولا يغسله، ولا يتبع جنازته، لعدم صحة دليل على ذلك، وما تقدم فهو من طريق الواقدي، وهو ضعيف. والله أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب".
129 - بَابُ وُجُوب الغَسْل إذَا التَقَى الختاَناَن
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على وجوب الغسل إذا التقى ختان الرجل بختان المرأة، وإن لم يُنْزلا.
الختانان بالكسر: تثنية ختَان، وهو موضع القطع من الذكر والأنثى.
قال ابن منظور رحمه الله: خَتَنَ الغلامَ والجارية يختنهما، ويختُنُهما -يعني من بابي ضرب ونصر- خَتْنًا، والإسم: الختان والختانة، وهو مختون، وقيل: الختن للرجال، والخفض للنساء. والخَتين المختون، الذكر والأنثى في ذلك سواء. والختانة: صناعة الخاتن، والخَتْن فعل الخاتن الغلامَ، والختان، ذلك الأمر كله وعلاجه. والختان: موضع الختن من الذكر، وموضع القطع من نواة الأنثى، ومنه الحديث المروي:"إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل". وهما موضع القطع من ذكر الغلام وفرج الجارية، ويقال لقطعهما: الإعذار والخفض.
ومعنى التقائهما: غيوب الحشفة في فرج المرأة حتى يصير ختانه بحذاء ختانها، وذلك أن محل الذكر من المرأة سافل عن ختانها، لأن ختانها مستعل، وليس معناه أن يماس ختانه ختانها، هكذا قال الشافعي في كتابه. وأصل الختن: القطع. اهـ لسان العرب ج 2 ص 102.
191 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ ثُمَّ اجْتَهَدَ، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ".
رجال هذا الإسناد: سبعة
1 -
(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني البصري ثقة -10 - تقدم في 5/ 5.
2 -
(خالد) بن الحارث الهُجَيمي البصري ثقة ثبت -8 - تقدم في 42/ 47.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الإمام العلم الحجة -7 - تقدم في 24/ 26.
4 -
(قتادة) بن دعامة أبو الخطاب البصري الحجة الثبت -4 - تقدم في 30/ 34.
5 -
(الحسن) بن يسار البصري الحجة الثبت -3 - تقدم في 32/ 36.
6 -
(أبو رافع) نفيع الصائغ المدني نزيل البصرة مولى ابنة عمر وقيل: مولى بنت العجماء، أدرك الجاهلية، وروى عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وأبى موسى الأشعري، وأبي هريرة، وحفصة بنت عمر رضي الله عنهم. وروى عنه ابنه عبد الرحمن، والحسن البصري، وحميد بن هلال وخلاس بن عمرو، وعبد الله بن فيروز الدَّانَاج، وثابت البناني،
وعطاء بن أبي ميمونة، وقتادة، وبكر بن عبد الله المزني، وسليمان التيمي، وعلى بن زيد بن جدعان، وغيرهم. ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل البصرة، وقال: خرج من المدينة قديما، وكان ثقة،
وقال العجلي: بصري تابعي ثقة من كبار التابعين، وقال أبو حاتم: ليس به بأس، وقال حماد بن سلمة عن ثابت: لما أعتق أبو رافع بكى، وقال: كان لي أجران فذهب أحدهما.
قال الحافظ: وقال الدراقطني قيل: إن اسمه نفيع، ولا يصح -يعني أن اسمه قتيبة، قال: وهو ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن
عبد البر في الصحابة: لا أقف على نسبه، وهو مشهور من علماء التابعين أدرك الجاهلية، وروى إبراهيم الحربي في غريبه من طريق أبي رافع قال: كان عمر يمازحني حتى يقول: أكذب الناس الصائغ يقول: اليوم، وغدا. اهـ تت ج 10 ص 372 - 373، أخرج له الجماعة.
7 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه تقدم في 1/ 1.
لطائف هذا الإسناد
منها أنه من سباعياته، وأن رواته كلهم ثقات أجلاء، وأنهم ممن اتفقوا على الإخراج لهم إلا شيخه فلم يخرج له (خ) وفيه رواية ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض، قتادة، والحسن، وأبو رافع، وفيه أبو
هريرة أحد المكثرين السبعة، وأن الرواة كلهم بصريون، إلا الصحابي فمدني. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا جلس) الضمير المستتر فيه وفي قوله "ثم جهد" للرجل، والضميران البارزان في قوله "شعبها"، و"جهدها" للمرأة، وترك إظهار ذلك لدلالة السياق عليه كما في قوله تعالى:{حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32]. وقد وقع مصرحًا به في رواية لابن المنذر من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "إذا غَشيَ الرجل امرأته فقعد بين شعبها"
…
الحديث. أفاده في الفتح ج 1 ص 470 (بين شعبها الأربع) بضم الشين المعجمة وفتح العين المهملة جمع شعبة بضم فسكون: القطعة من الشيء، قيل: المراد هنا يداها ورجلاها، وقيل: رجلاها وفخذاها، وقيل ساقاها وفخذاها، وقيل: فخذاها وإسكتاها
(1)
، وقيل: فخذاها وشُفْرَاهَا، وقيل: نواحي
(1)
(الأسكتان) تثنية إسْكَة وزان سدرة، وفتح الهمزة لغة قليلة: جانب فرج المرأة، قال الأزهري: الإسكتان ناحيتا الفرج، والشفران -أي بضم فسكون- طرفا الناحيتين. قاله في المصباح. ج 1 ص 15.
فرجها الأربع، ورجح القاضي عياض الأخير، واختار ابن دقيق العيد الأول، قال: لأنه أقرب الى الحقيقة أو هو حقيقة في الجلوس، وهو كناية عن الجماع فاكتفى به عن التصريح. قاله في الفتح ج 1 ص 470.
(ثم جهدها) قال الفيومي رحمه الله: جَهَد في الأمر جَهْدا من باب نفع: إذا طلب حتى بلغ غايته في الطلب، وجهده الأمر والمرض جهدا أيضا: إذا بلغ منه المشقة، ومنه جَهْدُ البلاء، ويقال: جهدت فلانا جهدا إذا بلغت مشقته، جهدت الدابة، وأجهدتها: حملت عليها في السير فوق طاقتها، وجهدت اللبن جهدًا: مزجته بالماء، ومخضته حتى استخرجت زبده، فصار حلوا لذيذًا، قال الشاعر (من البسيط):
منْ نَاصع اللَّوْن حُلوْ الطُّعْم مَجْهُود
وصفه إبله بغزارة لبنها، والمعنى أنه مُشتهى لا يمل من شربه، لحلاوته وطيبه.
وقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا جلس بين شعبها، وجهدها" مأخوذ من هذا، شبه لذة الجماع بلذة شرب اللبن الحلو، كما شبهه بذوق العسل بقوله:"حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك". اهـ المصباح ج 1 ص 112.
وقال ابن منظور رحمه الله: "ثم جهدها": أي دفعها، وحَفَزَهَا، وقيل الجهد من أسماء النكاح. -يعني الجماع- اهـ لسان ج 1 ص 709.
وفي الفتح: يقال: جهد، وأجهد أي بلغ المشقة، قيل: معناه كَدَّهَا بحركته، أو بلغ جهده في العمل بها. اهـ ج 1 ص 470.
قال الجامع: حاصل المعنى المراد: أنه جامعها. والله أعلم.
ووقع في مسلم من طريق شعبة، عن قتادة "ثم اجتهد"، ورواه أبو
داود من طريق شعبة، وهشام معا، عن قتادة بلفظ "وألزق الختان بالختان" بدل قوله:"ثم جهدها".
قال الحافظ رحمه الله: وهذا يدل على أن الجهد هنا كناية عن معالجة الإيلاج. ورواه البيهقي من طريق ابن أبي عروبة، عن قتادة مختصرًا ولفظه "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل". وروي أيضا بهذا اللفظ من حديث عائشة أخرجه الشافعي من طريق سعيد بن المسيب عنها، وفي إسناده علي بن جُدْعان، وهو ضعيف، وابن ماجه من طريق القاسم بن محمد عنها، ورجاله ثقات، ورواه مسلم من طريق أبي موسى الأشعري عنها بلفظ "ومس الختان الختان"، والمراد بالمس والالتقاء المحاذاة، ويدل عليه رواية الترمذي بلفظ "إذا جاوز"، وليس المراد بالمس حقيقته لأنه لا يتصور عند غيبة الحشفة، ولو حصل المس قبل الإيلاج لم يجب الغسل بالإجماع. قاله في الفتح ج 1 ص 471.
(فقد وجب الغسل) جواب "إذا"، أي لزمه الغسل، وإن لم ينزل، فلا يشترط الإنزال، بل متى غابت الحشفة في الفرج وجب الغسل عليه، وإن لم ينزل، يدل على هذا رواية مسلم من طريق مطر الوراق، عن الحسن في آخر هذا الحديث "وإن لم ينزل"، ووقع ذلك في رواية قتادة أيضا رواه ابن أبي خيثمة في تاريخه عن عفان، قال: حدثنا همام، وأبان قالا: أخبرنا قتادة به، وزاد في آخره، "أنزل، أو لم ينزل"، وكذا رواه الدراقطني وصححه من طريق علي بن سهل عن عفان، وكذا ذكرها أبو داود الطيالسي عن حماد بن سلمة، عن قتادة. أفاده في الفتح ج 1 ص 471. والله أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث الباب متفق عليه
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف أخرجه هنا
-129/ 191 - وفي الكبرى -121/ 197 - عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد الهجيمي، عن شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (خ م د ق) فأخرجه (خ) في الطهارة 107 - عن معاذ بن فضالة، وأبي نعيم، كلاهما عن هشام، عن قتادة، به. قال: وقال موسى عن أبان عن قتادة: أخبرنا الحسن مثله. وتابعه عمرو يعني ابن مرزوق -، عن شعبة، عن قتادة.
وأخرجه مسلم فيه-56/ 1 عن أبي خيثمة زهير بن حرب، وأبي غسان المسمعي، وابن المثنى، وابن بشار، أربعتهم عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، ومطر الوراق، كلاهما عن الحسن به. وفي -
56/ 2 - عن محمد بن عمرو بن جبلة، عن ابن أبي عدي -وفي -56/ 2 - عن ابن المثنى، عن وهب بن جرير- كلاهما عن شعبة به.
وأخرجه (د) فيه 84/ 2 - عن مسلم بن إبراهيم، عن هشام، وشعبة، كلاهما عن قتادة نحوه "إذا قعد بين شعبها الأربع وألزق الختان بالختان" وأخرجه (ق) فيه -111/ 3 - عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي نعيم، الفضل بن دكين به.
المسألة الرابعة: في مذاهب العلماء في حكم من أولج ولم ينزل:
ذهب جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين إلى إيجاب الغسل بالإيلاج وإن لم ينزل، وبه قال الخلفاء الأربعة، والأئمة الأربعة، وقد ادعى بعضهم انعقاد إجماع الصحابة والتابعين عليه، وليس كذلك بل
الخلاف موجود. كما سنحققه، وذهب بعض أهل العلم من الصحابة والتابعين إلى عدم الإيجاب إلا بالإنزال، وممن روى عنه ذلك عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله،
وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، ورافع بن خديج، وأبو سعيد الخدري، وأبي بن كعب، وأبو أيوب الأنصاري، وابن عباس، والنعمان بن بشير، وزيد بن ثابت، وجمهور الأنصار رضي الله عنهم، وهو قول عطاء بن أبي رباح، وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهشام بن عروة، والأعمش، وبعض أهل الظاهر. قاله ابن حزم في المحلى ج 2 ص 4.
قال النووي رحمه الله بعد ذكر بعض من ذكرهم ابن حزم: ثم منهم من رجع عنه الى موافقة الجمهور، ومنهم من لم يرجع. اهـ المجموع جـ 2 ص 136.
وحجة هؤلاء ما رواه الشيخان، والطحاوي، والبزار من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه: أنه سأل عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: أرأيت إذا جامع الرجل امرأته، فلم يمن؟ قال عثمان: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ويغسل ذكره، قال عثمان: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألت عن ذلك علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وأبي بن كعب رضي الله عنهم، فأمروه بذلك. هذا لفظ البخاري، وما رواه مسلم عن أبي أيوب، عن أبي بن كعب، قال:
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يصيب من المرأة، ثم يكسل؟ فقال:"يغسل ما أصابه من المرأة، ثم يتوضأ". وأخرجه ابن أبي شيبة، وأحمد، والطحاوي. وما أخرجه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على رجل من الأنصار، فأرسل إليه، فخرج، ورأسه يقطر، فقال: "لعلنا أعجلناك"؟ فقال: نعم يا رسول الله، قال: "إذا أعجلتَ، أو قُحطتَ فلا غسل عليك، وعليك الوضوء". وأخرجه الطحاوي. وأخرج الطحاوي أيضًا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قلت لإخواني من الأنصار: أنزلوا
الأمر كما تقولون: الماء من الماء، أرأيتم إن اغتسل؟ فقالوا: لا والله حتى لا يكون في نفسك حرج مما قضى الله ورسوله، وأخرج أبو العباس السراج أيضا في مسنده: حدثنا روح بن عبادة عن زكريا بن إسحاق، عن عمرو بن دينار أن ابن عباس أخبره أن أبا سعيد الخدري كان ينزل في داره، وأن أبا سعيد أخبره أنه كان يقول لأصحابه: أرأيتم إذا اغتسلت، وأنا أعرف أنه كما تقولون؟ قالوا: لا حتى لا يكون في نفسك حرج مما قضى الله ورسوله في الرجل يأتي امرأته ولا ينزل. وأخرج مسلم أيضًا
عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الماء من الماء".
وما رواه ابن ماجه، والطحاوي من حديث أبي أيوب رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الماء من الماء".
وما أخرجه الطحاوي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل من الأنصار فأبطأ، فقال: ما حبسك؟ قال: كنت أصبت من أهلي، فلما جاءني رسولك اغتسلت من غير أن أحدث شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الماء من الماء، والغسل على من أنزل".
وما أخرجه أحمد من حديث عتبان الأنصاري، قال قلت: يا نبي الله إني كنت مع أهلي، فلما سمعت صوتك أقلعْتُ فاغتسلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الماء من الماء". وما أخرجه أحمد، والطبراني من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه، ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم -وأنا على بطن امرأتي، فقمت ولم أمْن، فاغتسلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا عليه، الماء من الماء". وما أخرجه أبو يعلى من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: "انطلق رسول الله في طلب رجل من الأنصار، فدعاه، فخرج الأنصاري، ورأسه يقطر ماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما
لرأسك"، فقال: دعوتني وأنا مع أهلي، فخفت أن أحتبس عليك، فعجلت فقمت وصببت علي الماء، ثم خرجت، فقال: "هل كنت أنزلت؟ " قال: لا، قال: "إذا فعلت ذلك، فلا تغتسلن، اغسل ما مس المرأة منك، وتوضأ وضوءك للصلاة. فإن الماء من الماء". وأخرجه البزار أيضًا.
وما أخرجه البزار من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل من الأنصار فأبطأ عليه، فقال:"ما حبسك؟ " قال: كنت حين أتاني رسولك على امرأتي، فقمت، فاغتسلت، فقال:"وكان عليك أن لا تغتسل ما لم تنزل"، قال: فكان الأنصار يفعلون ذلك".
وما أخرجه معمر بن راشد في جامعه من حديث عبد الله بن عقيل قال: "سلم النبي صلى الله عليه وسلم على سعد بن عبادة، فلم يأذن له كان على حاجته، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم -فقام سعد سريعا فاغتسل، ثم تبعه، فقال: يا رسول الله إني كنت على حاجة، فقمت، فاغتسلت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الماء من الماء".
واحتج الجمهور بحديث الباب، وحديث عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن الرجل يجامع فلا ينزل؟ فقالت: فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا منه جميعا. أخرجه الطحاوي، والترمذي، ولفظه:"إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا". وقال: هذا حديث صحيح، وأخرجه ابن ماجه أيضا، وروى مالك عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب "أن أبا موسى الأشعري أتى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، فقال: لقد شقّ على اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر، إني لأعظم أن أستقبلك به، فقالت:
ما هو؟ ما كنت سائلا عنه أمك فاسألني عنه، فقال لها: الرجل يصيب أهله فيكسل ولا ينزل؟ قالت: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، فقال أبو موسى: لا أسأل أحدًا عن هذا بعدك أبدًا". ورواه الشافعي أيضًا عن مالك، وأخرجه البيهقي من طريقه، وقال الإمام أحمد: هذا إسناد صحيح إلا أنه موقوف على عائشة رضي الله عنها.
وقال أبو عمر: هذا الحديث موقوف في الموطأ عند جماعة من رواته، وروى موسى بن طارق أبو قرة، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي موسى، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا التقى الختانان وجب الغسل". ولم يتابع على رفعه عن مالك. وأخرج الطحاوي أيضًا عن جابر بن عبد الله، قال: أخبرتني أم كلثوم عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله، ثم يكسل، هل عليه من غسل؟، وعائشة جالسة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل".
قال الجمهور فهذه الآثار تخبر عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم -أنه كان يغتسل إذا جامع وإن لم ينزل.
وقالت الطائفة الأولى هذه الآثار تخبر عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يجوز أن يفعل ما ليس عليه- يعني يفعله بطريق الاستحباب، لا بطريق الوجوب، فلا يتم الاستدلال بها، والآثار الأُوَلُ تُخبر عما يجب، وما لا يجب فهي أولى.
فأجاب الجمهور عن هذا، بأن هذه الآثار على نوعين: أحدهما "الماء من الماء" لا غير، فهذا ابن عباس رضي الله عنه قد روي عنه أنه قال: مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون هذا في الاحتلام، فقد أخرج الترمذي بسنده عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:"إنما الماء من الماء" في الاحتلام، يعني إذا رأى أنه يجامع، ثم لم ينزل، فلا غسل عليه
(1)
.
(1)
في إسناده لين لأنه من رراية شريك عن أبي الجحاف، لكن يشهد له حديث أبي بن كعب الآتي
والنوع الآخر: الذي فيه الأمر، وأخبر فيه بالقصة وأنه لا غسل في ذلك حتى يكون الماء فهذا قد جاء خلاف ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور في الباب وهو ناسخ لتلك الآثار.
فإن قيل: ليس فيه دليل على النسخ لعدم التعرض إلى شيء من التاريخ.
أجيب بأنه قد جاء ما يدل على النسخ صريحا، وهو ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو- يعني ابن الحارث، عن ابن شهاب، قال: حدثني بعض من أرضى أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن أبي بن كعب أخبره "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جعل ذلك رخصة للناس في أول الإسلام لقلة الثياب، ثم أمرنا بالغسل، ونهى عن ذلك". قال أبو داود: يعني "الماء من الماء". وأخرجه الطحاوي أيضًا. وأخرج أبو داود أيضا بسنده عن أبي حازم عن سهل بن سعد، قال: حدثني أبي بن كعب أن الفتيا التي كانوا يفتون أن الماء من الماء كانت رخصة رخصهارسول الله صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام ثم أمرنا بالاغتسال بعدُ. وأخرجه ابن ماجه، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
فإن قيل: في الحديث الأول مجهول، وهو قوله: حدثني بعض من
أرضى، أجيب بأن هذا المجهول أبو حازم سلمة بن دينار الأعرج، لأن البيهقي روى هذا الحديث، ثم قال: ورويناه بإسناد آخر موصول عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، والحديث محفوظ عن سهل، عن أبي بن كعب، كما أخرجه أبو داود.
وقال ابن عبد البر في الاستذكار: إنما رواه ابن شهاب عن أبي حازم، وهو حديث صحيح ثابت بنقل العدول له.
وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه بسند رجاله ثقات عن رفاعة بن رافع قال: بينا أنا عند عمر بن عبد الخطاب رضي الله عنه إذ دخل عليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين هذا زيد بن ثابت يفتي الناس في المسجد برأيه في الغسل من الجنابة، فقال عمر: عليَّ به، فجاء زيد، فلمارآه عمر، قال: أي عدو نفسه قد بلغت أنك تفتي الناس برأيك، فقال يا أمير المؤمنين بالله ما فعلت لكني سمعت من أعمامي حديثا، فحدثت به: من أبي أيوب، ومن أبي بن كعب، ومن رفاعة بن رافع، فأقبل عمر على رفاعة بن رافع، فقال: وقد كنتم تفعلون ذلك إذا أصاب أحدكم من المرأة، فأكسل لم يغتسل؟، فقال: قد كنا نفعل ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يأتنا فيه تحريم، ولم يكن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه نهي، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم ذلك؟ قال: لا أدري، فأمر عمر بجمع المهاجرين والأنصار، فجمعوا له فشاورهم، فأشار الناس أن لا غسل في ذلك إلا ما كان من معاذ، وعلي رضي الله عنهما، فإنهما قالا:"إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، فقال عمر رضي الله عنه: هذا وأنتم أصحاب بدر، وقد اختلفتم، فَمَنْ بعدكم أشد اختلافًا، فقال علي رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين إنه ليس أحد أعلم بهذا ممن سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه، فأرسل الى حفصة؟ فقالت: لا علم بهذا، فأرسل إلى عائشة، فقالت: "إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل"، فقال عمر رضي الله عنه: لا أسمع برجل فعل ذلك إلا أوجعته ضربًا. ورواه الطحاوي، وفيه: "لا أعلم أحدًا فعله ثم لم يغتسل إلا جعلته نكالا". وقد أطال العيني الكلام في هذا البحث في العمدة فانظر فيه ج 3 ص 247 - 450.
قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل أن الراجح هو ما عليه الجمهور من أن التقاء الختانين يوجب الغسل بلا إنزال، لوضوح نسخه بما ذكر من الأدلة الصحيحة الصريحة فيه، ولو فرض عدم تأخرها لم ينتهض
حديث "الماء من الماء" لمعارضة حديث أبي هريرة، وعائشة رضي الله عنهما، لأنه مفهوم وهما منطوقان، والمنطوق أرجح من المفهوم. انظر نيل الأوطار جـ 1 ص 332 - 333.
تنبيهان: (الأول) قال الحافظ في التلخيص: ذهب الجمهور إلى نسخ حديث "الماء من الماء". وأوله ابن عباس، فقال: إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الماء من الماء" في الاحتلام، أخرجه الطبراني، وأصله في الترمذي، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وفي إسناده لين، لأنه من رواية شريك عن أبي الجحاف، وفي السنن بسند رجاله ثقات، عن أبيّ بن كعب قال: إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام، لكن وقع عند أبي داود ما يقتضي انقطاعه، فقال: عن عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، حدثني بعض من أرضى أن سهل بن سعد أخبره أن أبي بن كعب أخبره، وفي رواية ابن ماجه من طريق يونس عن الزهري، قال: قال سهل، وجزم موسى بن هارون والدراقطني بأن الزهري لم يسمعه من سهل، وقال ابن خزيمة: هذا الرجل الذي لم يسمه الزهري، هو أبو حازم، ثم ساق من طريق أبي حازم عن سهل عن أبي:"أن الفتيا التي يفتون أن الماء من الماء كانت رخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام، ثم أمر بالاغتسال بعدُ".
ووقع في رواية لابن خزيمة من طريق معمر، عن الزهري أخبرني سهل، فهذا يدفع قول من جزم بأنه لم يسمعه منه، لكن قال ابن خزيمة أهاب أن تكون هذه اللفظة غلطا من محمد بن جعفر الراوي له عن
معمر، قال الحافظ: قلت: أحاديث أهل البصرة عن معمر يقع فيها الوهم، لكن في كتاب ابن شاهين من طريق معلى بن منصور، عن ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري، حدثني سهل، وكذا أخرجه بقيّ بن مَخْلَد في مسنده عن أبي كريب، عن ابن المبارك، وقال ابن حبان:
يحتمل أن يكون الزهري سمعه من رجل عن سهل، ثم لقي سهلا فحدثه، أو سمعه من سهل، ثم ثبته فيه أبو حازم، ورواه ابن أبى شيبة من طريق شعبة، عن سيف بن وهب، عن أبي حرب بن الأسود، عن عميرة بن يثربي، عن أبي بن كعب نحوه. اهـ تلخيص ج 1 ص 135.
(الثاني) ادعى ابن العربي نفي الخلاف في هذه المسألة فَرُدَّ عليه بأن الخلاف مشهور بين الصحابة، ثبت عن جماعة منهم. وادعى ابن القصار ارتفاع الخلاف بعد الصحابة، فرد عليه بأن الخطابي قال أنه قال به جماعة من الصحابة فسمي بعضهم، ومن التابعين الأعمش، وتبعه عياض، لكن قال: لم يقل به أحد بعد الصحابة غيره، ورد عليه بأنه ثبت ذلك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وهو في سنن أبي داود بسند صحيح، وعن هشام بن عروة عند عبد الرزاق بسند صحيح، وقال عبد الرزاق أيضا: عن ابن جريج عن عطاء أنه قال: لا تطيب نفسي إذا لم أنزل حتى اغتسل من أجل اختلاف الناس لأخذنا بالعروة الوثقى، وقال الشافعي في اختلاف الحديث: حديث "الماء من الماء" ثابت لكنه منسوخ، إلى أن قال: فخالفنا بعض أهل ناحيتنا -يعني من الحجازيين- فقالوا: لا يجب الغسل حتى ينزل. اهـ فعرف بهذا أن الخلاف كان مشهورا بين التابعين ومن بعدهم، لكن الجمهور على إيجاب الغسل، وهو الصواب. والله أعلم. أفاده في الفتح ج 1 ص 474. والله أعلم.
192 -
أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَشْعَثُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا قَعَدَ بَيْنَ شُعَبِهَا
الأَرْبَعِ ثُمَّ اجْتَهَدَ، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ".
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ: أَشْعَثُ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ شُعْبَةَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ وَغَيْرُهُ كَمَا رَوَاهُ خَالِدٌ.
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(إبراهيم بن يعقوب بن اسحاق الجُوزجاني) بضم الجيم الأولى وسكون الواو وفتح الزاي، نسبة إلى مدينة بخراسان مما يلي بَلخَ، يقال لها: جوزجانان. أفاده في اللباب ج 1 ص 308، وهو ثقة حافظ رمي بالنصب -11 - تقدم في 122/ 174.
2 -
(عبد الله بن بوسف) التّنّيسي
(1)
أبو محمد الكلاعي، المصري، أصله من دمشق نزل تنيس. روى عن سعيد بن عبد العزيز، ومالك، ويحيى بن حمزة الحضرمي، والليث، وعبد الله بن سالم الحمصي، وعبد الرحمن بن أبي الرجال، وعيسى بن يونس، والهيثم بن حميد، وسلمة بن العيار، والوليد بن مسلم، وابن وهب، وغيرهم. وعنه البخاري، وروى له أبو داود، والترمذي، والنسائي بواسطة محمد بن إسحاق الصغاني، وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، وعمر بن منصور النسائي، ومحمد بن عبد الله بن البرقي، ومحمد بن محمد بن مصعب الخراساني، والربيع بن سليمان الجيزي. وروى عنه أيضًا يحيى ابن معين، وحرملة بن يحيى، والحسن بن عبد العزيز الجروي، وأبو حاتم،
(1)
نسبة إلى تنيس بكسر التاء والنون بلد قرب دمياط أفاده في لب اللباب.
ويعقوب بن سفيان، وبكر بن سهل الدمياطي، وإسماعيل سمويه، وغيرهم.
قال ابن معين: أوثق الناس في الموطأ القعنبي، ثم عبد الله بن يوسف، وقال مرة: ما بقى على أديم الأرض أحد أوثق في الموطأ من عبد الله بن يوسف، وقال أبو حاتم: هو أوثق من مروان الطاطري،
وهو ثقة. وقال العجلي: ثقة، وقال البخاري: كان من أثبت الشاميين، وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: سمعت عبد الله بن يوسف الثقة المقنع، وقال ابن عبد الحكم: كان يحيى بن بكير يقول:
متى سمع عبد الله بن يوسف من مالك، فخرجت أنا، فلقيت أبا مسهر سنة -18 - فقال لي: سمع عبد الله بن يوسف الموطأ معي -66 - فقلت ذلك ليحيى بن بكير، فلم يقل فيه شيئا بعدُ، وقال ابن عدي: هو صدوق لا بأس به، ومحمد بن إسماعيل مع شدة استقصائه اعتمد عليه في مالك، قال ابن يونس: توفي بمصر سنة 218 - ، وكان ثقة حسن الحديث، وعنده الموطأ، ومسائل عن مالك سوى الموطأ، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الخليلي: ثقة متفق عليه، وفي الزهرة: روى عنه (خ) -236 - . اهـ تت ج 6 ص 86 - 88، أخرج له البخاري، وأبو داود، والترمذي، والمصنف.
3 -
(عيسى بن يونس) ابن أبي إسحاق السبيعي ثقة [8]، تقدم في 8/ 8
4 -
(أشعث بن عبد الملك) الحُمْراني البصري ثقة -6 - تقدم في 32/ 36.
5 -
(محمد بن سيرين) الثقة الحجة -3 - تقدم في 46/ 57.
6 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه تقدم في 1/ 1.
لطائف هذا الإسناد
منها أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات، أخرج لهم الستة، إلا شيخه فأخرج له (د ت) وعبد الله بن يوسف فأخرج له (خ د ت) وأشعث فأخرج له (خت 4).
وأما شرح الحديث فقد مضى قبله.
(قال أبو عبد الرحمن) النسائي (هذا) إشارة إلى السند الذي فيه أشعث عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه، فقوله:"هذا" مبتدأ، خبره قوله (خطأ) على حذف مضاف أي ذو خطأ (والصواب) أي ذو الصواب فيه (أشعث، عن الحسن ، عن أبي هريرة) إنما رجح المصنف هذا لمخالفة عيسى بن يونس لغيره في هذا، فقد رواه يحيى القطان، عن أشعث، عن الحسن، عن أبي هريرة، أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند عن أبيه، عن يحيى ج 2 ص 470. وغرضه من هذا تضعيف الرواية بهذا السند لانقطاعه لأن الحسن لم يسمع من أبي هريرة شيئًا على الصحيح كما سيأتي للمصنف في باب ما جاء في الخلع في الحديث رقم -3461 - النص على ذلك. لكن في ترجيح المصنف هذا نظر، فإن عيسى إمام ثقة فمخالفته لغيره لا تحمل على الخطأ، بل يحمل على أن أشعث رواه عن الحسن، وابن سيرين، والحاصل أن الأولى تصحيح هذا السند لما ذكر، وعلى تقدير عدم صحته فالمتن صحيح بالطريق السابق، فلا يضر فيه الكلام في هذا السند. والله أعلم.
(تنبيه) ذكر ابن عدي هذا الحديث في ترجمة
(1)
أشعث بن سوار عن ابن سيرين عن أبي هريرة، ثم قال: وهذا الحديث لم يقل فيه عن
(1)
انظر الكامل جـ 1 ص 365 قال: حدثنا محمد بن أحمد بن عبد الواحد بن عبدوس بصور، ثنا سليمان بن عبد الرحمن، ثنا عيسى بن يونس، حدثنا أشعت، عن ابن سيرين الخ.
عيسى، عن أشعث، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، إلا سليمان بن عبد الرحمن، وغيره يقول عن أبي هريرة.
قال الجامع: وهذا فيه نظر من وجهين: الأول جعله من حديث أشعث بن سوّار، فإن الصواب أنه أشعث بن عبد الملك، الثاني قوله لم يقل فيه عن عيسى، عن ابن سيرين إلا سليمان غير صحيح، لأن عبد الله ابن يوسف التنيسي ذكره كذلك أيضا كما ذكره المصنف هنا. والله أعلم.
قال النسائي (وقد روى الحديث) أي حديث أبي هريرة هذا (عن شعبة النضرُ بن شميل) المازني أبو الحسن النحوي نزيل مرومات سنة -204 - وله 82 سنة.
قال الجامع: ليُنْظَر من أخرج رواية النضر هذه (وغيره) أي غير النضر، منهم وهب بن جرير عند البيهقي ج 1 ص 163، ومسلم بن إبراهيم الفراهيدي عنده أيضا ج 1 ص 163، وعند أبي داود ج 1 ص 365 بنسخة عون المعبود (كما رواه خالد) بن الحارث الهجيمي، وأراد بهذا تقوية روايته. والله أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
130 - الغُسْلُ منَ الَمنيِّ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على وجوب الاغتسال من أجل خروج المني، فمن تعليلية.
والمني: فعيل بمعنى مفعول. والتخفيف لغة، فيعرب إعراب المنقوص، وجمع المَنيّ مُنْيٌ، مثل بَريد وبُرُد، لكنه ألزم الإسكان للتخفيف. قاله في المصباح.
وفي (ق) وشرحه: والمنيّ كغني، ويخفف، والمنيةُ كرَمْيَة: ماء الرجل والمرأة، جمعه مُنْيٌ كَقُفْل. اهـ.
وجعل التخفيف في اللسان في الضرورة الشعرية، وعبارته: والمنيّ مشددًا: ماء الرجل، وأنشد ابن بَريٍّ للأخطل يهجو جريرًا (من الوافر):
مَنِيُّ العَبْدِ عَبْدِ أَبَي سُوَاجِ
…
أحَقُّ منَ المُدَامَةِ أنْ تَعِيبَا
قال: وقد جاء أيضا مخففا في الشعر، قال رُشَيد بن رُمَيض (من الوافر أيضا):
أتَحْلِفُ لا تَذُوقُ لَنَا طَعَامًا
…
وَتَشْرَبُ مَنْيَ عَبْدِ أبي سُوَاجِ؟ اهـ.
193 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، وَاللَّفْظُ لِقُتَيْبَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبِيدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ الرُّكَيْنِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ قَبِيصَةَ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، قَالَ: كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِذَا رَأَيْتَ الْمَذْيَ، فَاغْسِلْ ذَكَرَكَ، وَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ، وَإِذَا فَضَخْتَ الْمَاءَ فَاغْتَسِلْ".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(قتيبة بن سعيد) البغلاني أبو رجاء الثقة الحجة [10]، تقدم في 1/ 1.
2 -
(علي بن حجر) السعدي المروزي ثقة حافظ من صغار -9 - تقدم في 13/ 13.
3 -
(عَبيدة بن حُمَيد) الأول بفتح العين وكسر الباء مكبرا، والثاني بضم الحاء مصغرا، الكوني الحذّاء صدوق ربما أخطأ -8 - تقدم في 13/ 13.
4 -
(الرُّكَين بن
(1)
الرَّبيع) بن عَميلة الفزاري، أبو الربيع الكوفي. من الرابعة.
روى عن أبيه، وابن عمر، وابن الزبير، وأبي الطفيل، وحصين بن قبيصة، وقيس بن مسلم، وعدي بن ثابت، ويحيى بن يعمر، وغيرهم. وعنه حفيده الربيع بن سهل بن الركين، وإسرائيل، وزائدة، وشعبة، والثوري، ومسعر، وجرير بن عبد الحميد، وشريك، وعَبِيدة بن حُمَيد، ومعتمر بن سليمان، وعدة.
قال أحمد، وابن معين، والنسائي: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح.
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مات سنة 131 - ، وكذا أرخه الهيثم، وابن قانع، وقال يعقوب بن سفيان: كوفي ثقة. اهـ تت ج 3 ص 287 - 288 - أخرج له البخاري في الأدب المفرد، والباقون.
5 -
(حصين
(2)
بن قبيصة) الفزاري الكوفي ثقة من الثانية، روى عن ابن مسعود، وعلي، والمغيرة بن شعبة. وعنه الركين بن الربيع،
(1)
الركين بالتصغير، والربيع بالتكبير، وعَميلة بفتح العين المهملة. اهـ من هامش تهذيب التهذيب بزيادة.
(2)
حصين بالتصغير، وقبيصة بفتح القاف وكسر الباء مكبرا.
وعبد الملك بن عُمير، وسمى أباه عقبة، والقاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود. ذكره ابن حبان في الثقات، وقال العجلي: تابعي ثقة، وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من الكوفيين. اهـ تت ج 2 ص387. أخرج له أبو داود، والمصنف، وابن ماجه.
6 -
(علي) بن أبي طالب رضي الله عنه تقدم في 74/ 91.
لطائف هذا الإسناد
منها أنه من خماسياته، وأن رواته ثقات إلا عَبيدة فصدوق، وأنهم كوفيون غير شيخيه، فالأول بغلاني، والثاني مروزي، وفيه قوله: واللفظ لقتيبة، وهو إشارة إلى القاعدة المشهورة، وهي أنه إذا روى الراوي عن شيخين، فأكثر، واتفقوا في المعنى، دون اللفظ، فالأحسن له أن يروي ما لكل على حدة، ويجوز أن يجمعهم في الرواية، فيقول: حدثني فلان، وفلان، وفلان، واللفظ لفلان، ثم يسوقه على لفظه. أو وتقاربوا في المعنى، أو واتحدوا في المعنى، ونحو ذلك، وقد تقدم نظير هذا غير مرة. فتنبه. وفيه رواية تابعي، عن تابعي. والله أعلم.
شرح الحديث
(عن علي) بن أبي طالب رضي الله عنه أنه (قال: كنت رجلا مذاء) أي كثير المذي، وهو ماء رقيق يخرج عند الملاعبة، ويضرب إلى البياض وفيه ثلاث لغات، الأولى سكون الذال، والثانية كسرها مع التثقيل، والثالثة الكسر مع التخفيف، ويعرب في الثالثة إعراب المنقوص، ومَذَى الرجلُ يَمْذي، من باب ضرب، فهو مذّاء، ويقال: الرجل يَمذي، والمرأة تَقْذِي، وأمذى بالألف، ومذّي بالتثقيل كذلك، قاله في المصباح.
(فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية التالية، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم،
فقال .. ، وتقدم في 112/ 152 - أنه أمر بذلك رجلا، وفي -153 - أمر المقداد به، وفي 154 - أمر عمارا به، والتوفيق بين هذه الرويات أن يقال: إنه أمر أحدهما بالسؤال، فلما استبطأه أمر الآخر به، ولما كان هو الآمر بالسؤال أضافه الى نفسه، فقال: سألت
…
، ويحتمل أنه تولى بعد ذلك السؤال بنفسه، لكن الأول هو الظاهر، وأما قوله: فقال لي يحتمل أنه حضر الجواب، وكان هو السائل عن الحكم حقيقة أضاف الجواب إليه، ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بالقضية فواجهه بالجواب، والله أعلم. وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى في الباب المذكور.
(إذا رأيت المذي) أي أبصرته، فرأى هنا بصرية، ولذا تعدت إلى واحد (فاغسل ذكرك) لكونه نجسا (وتوضأ وضوءك للصلاة) أي وضوءًا مشابهًا لوضوئك لأجل الصلاة، ودفع بهذا التشبيه توهم أن
المراد هو الوضوء اللغوي. كغسل اليد ونحوه (وإذا فضختَ الماءَ) أي دفقت المني، يقال: فضَخْتُ الماء: إذا دفقته، وانفضخ الدلوُ: إذا دفق ما فيه من الماء، والدلو يقال لها المفضخة. قاله في اللسان (فاغتسل) جواب "إذا"، يعني أنه إذا نزل منك مني بدفق يجب عليك أن تغسل جميع بدنك، وهذا مجمع عليه بين أهل العلم، وإنما الخلاف بينهم فيما إذا نزل المني بغير دفق، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك في المسائل إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
194 -
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ زَائِدَةَ (ح) قَالَ: وَأَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، أَنْبَأَنَا
(1)
أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، عَنِ الرُّكَيْنِ
(1)
وفي نسخة "حدثنا".
ابْنِ الرَّبِيعِ بْنِ عَمِيلَةَ الْفَزَارِيِّ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ قَبِيصَةَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، قَالَ: كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءًا، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"إِذَا رَأَيْتَ الْمَذْيَ، فَتَوَضَّأْ، وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ، وَإِذَا رَأَيْتَ فَضْخَ الْمَاءِ فَاغْتَسِلْ".
رجال هذا الإسناد: ثمانية
1 -
(عبيد الله بن سعيد) أبو قدامة السرخسي نزيل نيسابور ثقة سني مأمون -10 - تقدم في 15/ 15.
2 -
(عبد الرحمن) بن مهدي البصري ثقة ثبت حافظ -9 - تقدم في 42/ 49.
3 -
(زائدة) بن قدامة الثقفي أبو الصلت الكوفي ثقة ثبت سني -7 - تقدم في 74/ 91.
4 -
(إسحاق بن إبراهيم) الحنظلي المروزي نزيل نيسابور ثقة ثبت حجة -10 - تقدم في 2/ 2.
5 -
(أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الباهلي مولاهم الطيالسي البصري الحافظ الإمام الحجة ثقة ثبت من التاسعة. روى عن عكرمة بن عمار، وجرير بن حازم، ومهدي بن ميمون، وعبد الرحمن بن
الغسيل، وشعبة، ويزيد بن إبراهيم التستري، وهمام، ومالك، والليث، وعمر بن المرقع، وحماد بن سلمة، وزائدة، وغيرهم. وروى عنه البخاري، وأبو داود، وروى أبو داود أيضا، والباقون عنه
بواسطة إسحاق بن راهويه، وأبي خيثمة، والحسن بن علي الخلال، وإبراهيم بن خالد اليشكري، وإسحاق بن منصور الكَوْسَج، وأبي موسى محمد بن المثنى، وبندار، وابن سعد، وحجاج بن الشاعر، والدارمي، وعبد بن حُميد، وهارون الحمال، وإبراهيم الجُوزجاني، وأبي داود الحراني، وعبد الله بن الهيثم، وسهل بن زنجلة الرازي، وغيرهم.
قال أبو طالب عن أحمد: متقن، وقال الميموني عن أحمد: أبو الوليد شيخ الإسلام ما أقدم اليوم عليه أحدا من المحدثين، وهو أسن من عبد الرحمن -يعني ابن مهدي- بثلاث سنين، وقال ابن وَارَة: قلت
لأحمد: أبو الوليد أحب إليك في شعبة، أو أبو النضر؟ قال: إن كان أبو الوليد يكتب عند شعبة، فأبو الوليد، قلت لأحمد: فإني سمعته يقول: بينا أنا أكتب عند شعبة إذ بصر بي، فقال: وتكتب؟ فوضعت
الألواح. وقال ابن وارة: قال لي علي بن المديني: اكتب عن أبي الوليد الأصول، قال: وقال لي أبو نعيم: لولا أبو الوليد ما أشرت عليك أن تدخل البصرة، قال ابن وارة: وحدثني أبو الوليد وما أرى أني أدركت مثله، وقال العجلي: بصري ثقة ثبت في الحديث، وكانت الرحلة إليه بعد أبي داود، وقال ابن أبي حاتم: ثنا أحمد بن سنان، ثنا أبو الوليد أمير المحدثين، قال: وسمعت أبا زرعة وذكر أبا الوليد، فقال: أدرك نصف الإسلام وكان إمام زمانه جليلا عند الناس. قال: وسمعت أبي يقول: أبو الوليد إمام فقيه عاقل ثقة حافظ ما رأيت بيده كتابا قط، وقال أيضا: سئل أبي عن أبي الوليد، وحجاج بن المنهال؟
فقال: أبو الوليد عند الناس أكبر، كان يقال: سماعه من حماد بن سلمة فيه شيء كان سمع منه بأخَرَة، وكان حماد ساء حفظه في آخر عمره، وقال أبو حاتم أيضا: ما رأيت أصح من كتاب أبي الوليد، وقال
معاوية بن عبد الكريم الرمادي: أدركت الناس وهم يقولون: ما بالبصرة أعقل من أبي الوليد، وبعده أبو بكر بن خلاد، وقال ابن سعد، والبخاري، وغير واحد: مات سنة -227 - ، ويقال: إن مولده سنة -133 - زاد ابن سعد: كان ثقة ثبتا حجة توفي في غرة شهر ربيع الأول، وهو ابن -94 - سنة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان من عقلاء الناس. حدثنا عنه أبو خليفة الفضل بن الحباب. قال الحافظ: وأبو خليفة خاتمة أصحابه، وقال ابن قانع: ثقة مأمون ثبت. وقال في الزهرة: روى عنه البخاري مائة وسبعة أحاديث. اهـ تت ج 11 ص 45 - 47. أخرج له الجماعة.
وأما-6، 7، 8 - فقد تقدموا في السند السابق. وكذا شرح الحديث، فلا نطيل الكتاب بتكراره. والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلق الحديث علي رضي الله عنه
المسألة الأولى: في درجته: حديث على رضي الله عنه هذا صحيح.
المسألة الثانية في بيان مواضع ذكر المصنف له: أخرجه هنا، -194 - وفي الكبرى-200 بهذا السند.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه معه أبو داود في الطهارة -83/ 1 - عن قتيبة، عن عَبيدة بن حُميد، عن الرُّكين بن الرَّبيع الفزاري، عن حُصين بن قَبيصة، عن علي رضي الله عنه.
وقال في المنهل: أخرجه البيهقي من طريق المصنف -يعني أبا داود-، وأخرجه البخاري، ومسلم، والبيهقي، أيضا من حديث محمد بن الحنفية عن أبيه بنحوه، وأخرجه الترمذي، وابن ماجه، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي، بلفظ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المذي؟ فقال:"فيه الوضوء، وفي المني الغسل"، قال الترمذي: هذا
حديث حسن، وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار، وأحمد في مسنده عن الأسود بن عامر. اهـ ج 2 ص 259.
(تنبيه) قال الحافظ رحمه الله في النكت الظراف: قال أبو أحمد الحاكم: لا أعلم أحدًا حدث به غير الركين بن الربيع. اهـ ج 7 ص 367.
المسألة الرابعة: في فوائده: يستفاد من الحديث كون المذي يوجب الوضوء، وأنه لا يوجب الغسل، وأنه من الأنجاس، للأمر بغسل الذكر، وأن دفق المني يوجب الغسل، وأن الشخص لا ينبغي أن يسكت عما يجهله من أمر دينه، وإن كان مما يستحيى منه.
المسألة الخامسة: في مذاهب العلماء في وجوب الغسل بخروج المني:
قال الإمام النووي رحمه الله: أجمع العلماء على وجوب الغسل بخروج المني. ولا فرق عندنا -يعني الشافعية- بين خروجه بجماع، أو احتلام، أو استمناء، أو نظر، أو بغير سبب، سواء خرج بشهوة، أو غيرها، وسواء تلذذ بخروجه أم لا؟ وسواء خرج كثيرًا أو يسيرًا ولو بعض قطرة، وسواء خرج في النوم، أو اليقظة من الرجل، والمرأة، العاقل والمجنون، فكل ذلك يوجب الغسل عندنا.
وقال أبو حنيفة، ومالك، وأحمد: لا يجب إلا إذا خرج بشهوة، ودفق، كما لا يجب بالمذي لعدم الدفق.
قال: دليلنا الأحاديث الصحيحة المطلقة كحديث "الماء من الماء"، وبالقياس على إيلاج الحشفة، فإنه لا فرق فيه، ولا يصح قياسهم على المذي، لأنه في مقابلة النص، ولأنه ليس كالمني. اهـ المجموع. ج 2 ص 139.
قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر أن المذهب الثاني هو الراجح لأن
النبي صلى الله عليه وسلم -وصف خروج المني في حديث علي رضي الله عنه بالفضخ، وقد قدمنا أن معناه الدفق، فما لم يخرج بهذه الصفة لم يجب الغسل، وأما حديث الماء من الماء ونحوه فلا ينافي هذا لأنه مطلق فيحمل على المقيد. والله أعلم.
(خاتمة) في لغات المني، والمذي والودي، وقد تقدم بعضه:
قال النووي رحمه الله: أما المني فمشدد، وسمي منيا لأنه يُمنَى، أي يصب كما سميت منى لما يُراق فيها من الدماء، ويقال: أمنى، ومَنَى بالتخفيف، ومَنَّى بالتشديد ثلاث لغات. الأولى أفصح، وبها جاء القرآن، قال الله تعالى:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة: 58]، وفي المذي ثلاث لغات: المذي بإسكان الذال، وتخفيف الياء، والمذي بكسر الذال وتشديد الياء، وهاتان مشهورتان، قال الأزهري وغيره: التخفيف أفصح وأكثر.
والثالثة: المذي بكسر الذال، وإسكان الياء، حكاها أبو عمر الزاهد في شرح الفصيح، عن ابن الأعرابي، ويقال: مَذَى بالتخفيف، وأمذى، ومذّى بالتشديد، والأولى أفصح.
والودي بإسكان الدال المهملة وتخفيف الياء، ولا يجوز عند جمهور أهل اللغة غير هذا، وحكى الجوهري في الصحاح عن الأموي أنه قال: بتشديد الياء، وحكى صاحب مطالع الأنوار لغية أنه بالذال المعجمة، وهذان شاذان، ويقال: وَدَى بتخفيف الدال، وأوْدَى، وَوَدَّى بالتشديد، والأولى أفصح، قال الأزهري: لم أسمع غيرها، قال أبو عمر الزاهد: قال ابن الأعرابي: يقال: مَذَى، وأمْذَى، ومَذَّى بالتشديد، وهو المَذْيُ مثال الرَّمْي، والمَذيّ مثال العَميّ
(1)
، وَوَدَى وأوْدَى ووَدَّى، وأمنَى ومَنى ومَنَّى، قال: والأولى منها كلها أفصح. اهـ المجموع ببعض تصرف ج 2 ص 141.
(1)
هكذا نسخة المجموع، ولعل الصواب مثال الفَتِيّ.
131 - غُسْلُ الَمرأة، تَرَى فِي مناَمِهاَ ماَ يَرىَ الرَّجُلُ
أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على وجوب الغسل على المرأة التي ترى في منامها ما يراه الرجل من الحُلُم، بأن رأت أن زوجها يجامعها، فلما استيقظت وجدت الماء قد خرج منها.
وجملة ترى الخ يحتمل أن تكون في محل نصب على الحال بناء على القاعدة المشهورة أن الجُمَل وشبهها بعد المعارف أحوال، وبعد النكرات صفات، ويحتمل أن تكون في محل جر صفة للمرأة بجعل "أل"
للجنس، فالمعرف بها بمنزلة النكرة، كما في قوله:(من الكامل)
ولَقَدْ أمُرُّ عَلَى اللَّئيم يَسُبُّني
…
فَمَضَيْتُ ثُمَّت قُلْتُ لا يَعْنيني
195 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ سَأَلَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا مَا يَرَى الرَّجُلُ، قَالَ:"إِذَا أَنْزَلَتِ الْمَاءَ فَلْتَغْتَسِلْ".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(إسحاق بن إبراهيم) الحنظلي المروزي المعروف بابن راهويه ثقة حجة -10 - تقدم في 2/ 2.
2 -
(عبدة) بن سليمان الكلابي، أبو محمد الكوفي، يقال: اسمه عبد الرحمن بن سليمان بن حاجب بن زرارة بن عبد الرحمن بن صرد ابن سمير بن مليل بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب. أدرك صرد الإسلام
(1)
(1)
أي أن صرد بن سمير المذكور في سلسلة آبائه أدرك الإسلام ودخل فيه.
وأسلم. ثقة ثبت من صغار -8 - روى عن إسماعيل بن أبي خالد، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعاصم الأحول، وعبيد الله بن عمرو بن هشام بن عروة، وأبي إسحاق، وطلحة بن يحيى بن طلحة، وسعيد بن أبي عروبة، والأعمش، والثوري، وعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وغيرهم.
وروى عنه أحمد، وإسحاق، وابنا أبي شيبة، وإبراهيم بن موسى الرازي، وعمرو الناقد، وأبو الشعثاء: علي بن الحسن، ومحمد بن سلام البيكندي، وأبو كريب: محمد بن العلاء، ومحمد بن عبد الله ابن نمير، وهناد بن السري، وأبو سعيد الأشج، وإبراهيم بن مُجَشِّر، وغيرهم. قال صالح بن أحمد، عن أبيه: ثقة ثقة، وزيادةٌ مع صلاح في بدنه
(1)
وكان شديد الفقر، وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: أبو أسامة أحب إليك، أو عبدة بن سليمان؟ قال: ما منهما إلا ثقة، وقال العجلي: ثقة رجل صالح صاحب قرآن يقرئ، وقال الميموني عن أحمد: قدمت الكوفة سنة -188 - وقد مات عبدة سنة -187 - قبل قدومي بسنة.
وقال ابن سعد: كان ثقة مات في رجب سنة -88 - ، وكذا أرخه ابن نمير لكنه قال: في جمادي الثانية، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مستقيم الحديث جدّا، مات في رجب سنة -7 - وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي، وأبو زرعة عن عبدة، ويونس بن بكير، وسلمة بن الفضل أيهم أحب إليكم في ابن إسحاق؟ فقالا: عبدة بن سليمان، وقال ابن شاهين في الثقات: قال عثمان بن أبي شيبة: ثقة مسلم صدوق، وقال الدارقطني: ثقة. اهـ "تت"ج 6 ص 458 - 459، أخرج له الجماعة.
(1)
هكذا في تهذيب التهذيب، وتهذيب الكمال "في بدنه" ولعل الصواب: في دينه. اهـ
3 -
(سعيد) بن أبي عروبة: مهران البصري ثقة -6 - تقدم في 34/ 38.
4 -
(قتادة) بن دعامة السدوسي البصري ثقة حجة -4 - تقدم في 30/ 34.
5 -
(أنس) بن مالك رضي الله عنه تقدم في 6/ 6.
6 -
(أم سليم) بنت ملحان أخت أم حرام الأنصارية، لها صحبة، واسمها سهلة، ويقال: رميلة، ويقال: رميثة، ويقال: أنيثة، ويقال: مليكة، وهي والدة أنس بن مالك، وزوج أبي طلحة الأنصاري، يقال: إنها هي الغميصاء، أو الرميصاء، ثبت ذلك في البخاري في حديث ابن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة"، وفي صحيح مسلم من حديث ثابت، عن النبي صلى الله عليه وسلم دخلت الجنة فسمعت خشفة، فقلت من هذا؟ فقالوا: هذه الرميصاء"، وفي رواية "الرميصاء بنت ملحان أم أنس بن مالك".
روت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنها ابنها أنس بن مالك، وعبد الله بن عباس، وعمرو بن عاصم الأنصاري، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف. قال ابن عبد البر: كانت تحت مالك بن النضر في الجاهلية، فولدت له أنسًا، فلما جاء الله بالإسلام أسلمت وعرضت على زوجها الإسلام، فغضب عليها، وخرج إلى الشام، فهلك، فتزوجت بعده أبا طلحة، خطبها وهو مشرك فأبت عليه إلا أن يسلم، فأسلم فولدت له غلامًا كان قد أُعجِب به، فمات صغيرًا، وأسف عليه، وقيل: إنه أبو عُمير
صاحب النُّغَير، ثم ولدت له عبد الله بن أبي طلحة، فبورك فيه، وهو والد إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الفقيه، وإخوته وكانوا عشرة كلهم حمل عنه العلم، وروي عن أم سُلَيم، قالت: لقد دعا لي
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ما أريد زيادة، ومناقبها كثيرة شهيرة. اهـ "تت" ج 12 ص 471 - 472، ماتت في خلافة عثمان رضي الله عنهما. وفي الخلاصة: لها أربعة عشر حديثا، اتفق الشيخان على حديث منها وانفرد (خ) بحديث، و (م) بحديثين اهـ ج 3 ص 400، أخرج لها الجماعة إلا ابن ماجه. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها أنه من سداسياته
(1)
، وأن رواته كلهم ثقات اتفق الستة بالتخريج لهم، إلا أم سليم فلم يخرج لها ابن ماجه، وكلهم بصريون إلا إسحاق فمروزي، ثم نيسابوري، وأم سليم فمدنية، وفيه رواية صحابي، عن صحابية، ورواية الابن عن أمه. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أنس) بن مالك رضي الله عنه (أن أم سليم) أمه وقد ذكرنا الاختلاف في اسمها رضي الله عنها (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم) الظاهر كما قال الحافظ رحمه الله أن أنسا لم يحضر القصة، وإنما روى ذلك عن أمه، ويدل على ذلك رواية مسلم من حديث أنس أن أم سليم حدثت أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم
…
الحديث (عن المرأة) أي عن حكمها من وجوب الاغتسال وعدمه، ففي الرواية الآتية "أفتغتسل من ذلك؟ "(ترى في منامها) أي في حالة نومها (ما) موصولة (يرى الرجل) أي في نومه، وهو مجامعة زوجته. تعني أنها رأت في نومها أن زوجها جامعها
ونحو ذلك، مثل ما يرى الرجل في نومه من جماع زوجته ونحوه.
(1)
هذا هو الصواب، وأما جعل الشيخ الشنقيطي في شرحه خماسيا فليس بشيء لأنه يوهم أنه من مسند أنس، لا من مسند أم سليم، وليس كذلك، بل هو من مسندها لأن أنسًا صرح بأنها حدثثه، كما صرح به النسائي، وأشار إليه مسلم.
انظر النكت الظراف للحافظ ج 1 ص 311 فقد عزى إلى النسائي تصريحه به.
وعائد الصلة ضمير منصوب هو مفعول "يرى"، وحذفه إذا كان كذلك كثير، كما قال ابن مالك:
................
…
وَالحَذْفُ عنْدَهُمْ كَثيرٌ مُنْجَلِي
في عَائدٍ مُتَّصلِ إِنِ انْتَصَبْ
…
بفعْلٍ أَوْ وَصْفٍ كَمَنْ نَرْجُو يَهَبْ
ويحتمل أن تكون "ما" موصولا حرفيا، أي مثل رؤيا الرجل، فلا تحتاج إلى عائد، وجملة "يرى" إما حال من المرأة، أو وصف له على ما تقدم من التوجيه.
وقد جاء التصريح بالمكني عنه هنا في رواية أحمد "أنها قالت: يا رسول الله إذا رأت المرأة أن زوجها يجامعها في المنام أتغتسل؟ "
…
الحديث. وفي الروايات الآتية ذكره بلفظ الاحتلام، وإنما شبهت ذلك
بما في الرجل لاشتهاره عندهم حتى لا يستحيا من ذكره فيما بينهم بخلاف النساء فيستحيين من ذكره.
(قال) النبي صلى الله عليه وسلم مجيبا عن سؤالها (إذا رأت الماء) أي المني بعد الاستيقاظ، فالرؤية هنا بصرية، لا علمية، ففي رواية أحمد من حديث خوله بنت حكيم "ليس عليها غسل حتى تنزل كما ينزل الرجل"، وفيه رَدٌّ على من زعم أن ماء المرأة لا يبرز، وإنما يعرف إنزالها بشهوتها،
وحمل قوله: "إذا رأت الماء"أي علمت به؛ لأن وجود العلم هنا متعذر، لأنه إن أراد به علمها بذلك وهي نائمة، فلا يثبت به حكم؛ لأن الرجل لو رأى أنه جامع، وعلم أنه أنزل في النوم، ثم استيقظ فلم ير بللا، لم يجب عليه الغسل، اتفاقا، فكذلك المرأة. وإن أراد به علمها بذلك بعد أن استيقظت فلا يصح، لأنه لا يستمر في اليقظة ما كان في النوم إن كان مشاهدًا، فحمل الرؤية على ظاهرها، هو الصواب. أفاده في الفتح. ج 1 ص 463 - 464.
وقد اعترض الشنقيطي على كلام الحافظ هذا بما فيه نظر، فتنبه.
والحاصل أن تحقق خروج المني لابد منه في وجوب الاغتسال، فأما حمل الرؤية على الرؤية القلبية، وأنها إذا علمت بالخروج وجب عليها الغسل إذ مني المرأة قد لا يخرج بل ينعقص داخل الرحم، فغير صحيح لأن ذلك لا يوجب بل الوجوب متعلق بخروجه، وتيقن ذلك إما بالنظر بالعين، أو غير ذلك من وجوه اليقين، كما أفادته سائر الروايات. والله أعلم. (فلتغتسل) جواب "إذا".
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث أم سليم رضي الله عنها هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف رحمه الله تعالى:
أخرجه المصنف في هذا الباب -195 - وفي الكبرى 123/ 202 بهذا السند، وفي عشرة النساء من الكبرى أيضًا، عن محمَّد بن عبد الله بن بزيع، عن يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس، عن أم سليم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (م) في الطهارة 41/ 2 عن عباس بن الوليد النرسي، عن يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة به.
وأخرجه (ق) فيه 107/ 2 عن محمَّد بن المثنَّى، عن ابن أبي عدي، وعبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة به.
وسيأتي الكلام على بقية المسائل آخر الباب، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
196 -
أَخْبَرَنَا كَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ كَلَّمَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَائِشَةُ جَالِسَةٌ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، أَرَأَيْتَ الْمَرْأَةَ تَرَى فِي النَّوْمِ مَا يَرَى الرَّجُلُ، أَفَتَغْتَسِلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"نَعَمْ". قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ لَهَا: أُفٍّ لَكِ، أَوَ تَرَى الْمَرْأَةُ ذَلِكِ؟ فَالْتَفَتَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"تَرِبَتْ يَمِينُكِ فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ".
رجال الإسناد: ستة
1 -
(كَثير بن عُبَيد) بن نُمَير المَذْحجي، أبو الحسن الحمصي، الحذاء، القرئ، إمام جامع حمص ثقة -10 - روى عن بقيَّة بن الوليد، والوليد بن مسلم، ومروان بن معاوية، ومحمد بن حرب الخَوْلاني، ومحمد بن خالد الوهبي، وابن عيينة، وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي روَّاد، وأبي حيوة شُريح بن يزيد، وأيوب بن سويد، ووكيع، وطائفة. وعنه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وبقيّ بن مخلد، وابن أبي عاصم، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وعُمير بن بُجير، وابن أبي داود، وعبد الله بن أحمد بن أبي الحواري، ومحمد بن محمَّد بن سليمان الباغندي، وغيرهم. قال أبو حاتم ثقة، وقال النسائي: لا بأس به، وقال ابن أبي داود: كان يقال: إنه أمّ بأهل حمص ستين سنة، فماسها في صلاته قط،
قال عبد الغني بن سعيد فذاكرت بذلك أبا الحسين أحمد بن محمَّد بن عمر بن عامر الفرضي الحمصي، فقال: قيل لكثير بن عبيد في ذلك؟ فقال: ما دخلت من باب المسجد قط، وفي نفسي غير الله. ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مات سنة خمسين، أو قبلها بقليل، أو بعدها، وكان من خيار الناس. وحكى ابن زبر عن الحسن بن علي: أنه قال: سنة -247 - ويرده أن ابن جوصاء إنما دخل حمص سنة -50 - ، وقال مسلمة بن قاسم في تاريخه: ثقة، وكذا قال أبو بكر بن أبي داود. اهـ "تت"ج 8 ص 423 - 424، أخرج له أبو داود، والمصنف، وابن ماجه.
2 -
(محمَّد بن حرب) الخَوْلاني الحمصي الأبرش ثقة -9 - تقدم في 122/ 172.
3 -
(الزُّبَيدى)
(1)
محمَّد بن الوليد أبو الهُذَيل الحمصي ثقة ثبت -7 - تقدم في 45/ 56.
4 -
(الزهرى) محمَّد بن مسلم الإمام الحجة الحافظ الثبت -4 - تقدم في 1/ 1.
5 -
(عروة) بن الزبير بن العوَّام الحجة الفقيه الثبت -3 - تقدم في 40/ 44.
6 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها تقدمت في 5/ 5.
لطائف هذا الإسناد
منها أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات، اتفق الأئمة بالتخريج لهم إلا شيخه، فأخرج له أبو داود، وابن ماجه، وفيه عروة بن الزبير أحد الفقهاء السبعة، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين
السبعة روت-2210 - ، وقد تقدم غير مرة. والله تعالى أعلم.
(1)
الزبيدي: مصغرا نسبة إلى زبيد قبيلة من مذحج، قاله في اللباب ج 2 ص 60.
شرح الحديث
(عن عروة) بن الزبير (عن) خالته (عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها أنها (أخبرته) أي عروة (أن أم سليم) سهلة، وقيل: غير ذلك، بنت ملحان، والدة أنس رضي الله عنهما (كلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشةُ جالسة) جملة حالية، وفيه التفات إذ الظاهر أن تقول: وأنا جالسة، أي عنده صلى الله عليه وسلم في وقت السؤال (فقالت) بيان لقولها:"كلمت"(يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق) قدمت أم سليم رضي الله عنها هذا القول تمهيدا لبسط عذرها في ذكرها ما تستحي النساء من ذكره لأن الذي يعتذر به إذا كان متقدما على المعتذر منه أدركته النفس صافيا من العتب، وإذا تأخر العذر استثقلت النفس المعتذر منه، فتأثرت بقبحه، ثم يأتي العذر رافعا، وعلى الأول يأتي دافعا، ودفع الشيء المستكره قبل وقوعه أيسر من رفعه بعد وقوعه. قاله في المنهل ج 2 ص 328.
ويستحي: من الاستحياء وهو الانقباض والانزواء، قال الأخفش: يتعدى بنفسه، وبالحرف، فيقال: استحييت منه، واستحييته، وفيه لغتان: إحداهما لغة الحجاز، وبها جاء القرآن بياءين، والثانية لتميم بياء واحدة. قاله في المصباح.
وفيه إثبات صفة الحياء لله سبحانه وتعالى على ما يليق به، وأما ما قاله ابن دقيق العيد، وتبعه عليه الحافظ، وغيره من أن المراد بالحياء هنا معناه اللغوي، وهو تغير، وانكسار، وهو مستحيل في حق الله تعالى، فيحمل هنا على أن المراد أن الله لا يأمر بالحياء في الحق، أو لا يمنع من ذكر الحق، إلى آخر ما قاله، فمما لا يلتفت إليه. بل الحياء كسائر صفات الله التي أثبتها لنفسه، في كتابه أو وصفه بها رسله عليهم الصلاة والسلام، من الحياء، والرضا، والغضب، والمحبة وغير ذلك نثبته على
ظاهره على ما أراده سبحانه وتعالى إثباتا بلا تمثيل، ولا تكييف، ولا نتأوله كما تأولت المعطلة، ولا ننفيه كما نفت الجهمية {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
(أرأيت المرأة) أي أخبرني عن حكمها، وقد تقدم الكلام على "أرأيت" في 110/ 150. في حديث "أرأيت لو كان لرجل خيل غر" .. الحديث. (ترى في النوم) جملة حالية، أو في محل نصب صفة للمرأة كما تقدم (ما يرى الرجل) أي مثل الذي يراه الرجل في النوم من جماع زوجته، ونحوه، كما تقدم التصريح به في رواية أحمد "إذا رأت المرأة أن زوجها يجامعها في المنام"
…
الحديث.
وفيه دليل على اشتهار ذلك في الرجال، فإنهم لا يتسحيون من ذكره بخلاف النساء، فإنهن لا يكدن يتكلمن بذلك حتى كأنه خاص بالرجال دونهن، لا أن ذلك منفي عنهن، كما روي عن بعضهم، فهذه الأحاديث ترد عليه (أفتغتسل) هذا هو محل السؤال، والهمزة للاستفهام، والفاء للعطف، وفيه يقول جمهور النحاة تقديم وتأخير، إذ همزة الاستفهام حقها التأخير عن العاطف، لكن لما كان صدر الكلام قدمت على العاطف، وقال الزمخشري: الهمزة داخلة على محذوف، تقديره أهي جنب فتغتسلُ، ونحو ذلك، لكن الراجح ما قاله الجمهور. انظر تفاصيل المسألة في مغني اللبيب ج 1 ص 14 بحاشية الأمير.
(من ذلك) أي مما رأته في منامها، فـ "من" سببية، أو تعليلية متعلقة "بتغتسل" (فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم) بفتحتين تصديق لما سألته، فهي للتصديق إن وقعت بعد الماضي، نحو هل قام زيد، والوَعْد بعد المستقبل، نحو هل تقوم؟، قال سيبويه:"نعم" عدة وتصديق، أي عدة في الاستفهام، وتصديق للإخبار. اهـ المصباح باختصار.
ثم هذه الرواية مطلقة، ولابد من تقييدها بما في الروايات الأخرى "إذا رأت الماء" (قالت عائشة) رضي الله عنها (فقلت لها: أفّ لك) هذه كلمة تستعمل في الاحتقار، والإنكار، وهو المناسب هنا، فإن الظاهر من قول عائشة رضي الله عنها الإنكار على أم سليم، كما يدل عليه قولها: أو ترى المرأة ذلك؟، وقولها في بعض الروايات: فَضَحت النساء تَربت يمينك.
وأفّ: اسم صوت إذا صوت به الإنسان عُلم أنه مُتَضَجّر، وقيل: أصل الأفّ وسخ الأصبع، إذا فُتل، ويقال: أفَّفْت بفلان تأفيفًا، إذا قلت له: أفّ لك، وفيها لغات، أفصحها وأكثرها استعمالا ضم الهمزة
وتشديد الفاء مكسورة منونة. أفاده في المنهل ج 2 ص 328 وقال المجد في (ق): أفَّ يَؤفُّ ويَئفّ: تَأفَّفَ من كرب، أو ضجر، وأفّ كلمة تكرّه، وأفَّفَ تأفيفا، وتأفَّفَ: قالها.
ولغاتها أربعون
(1)
أفّ بالضم، وتثلث الفاء، وتنون، وتخفف فيهما، أُفْ كطُفْ، أفّ مشددة الفاء، أفَّى بغير إمالة، وبالإمالة المحضة، وبالإمالة بين بين، والألف في الثلاثة للتأنيث، أفّي بكسر الفاء، أفوه
أفه بالضم مثلثة الفاء مشددة، وتكسر الهمزة، أفْ، كمن، إفِّ مشددة، إف بكسرتين مخففة، إف منونة مخففة ومشددة، وتثلث، إفُّ بضم الفاء مشددة، إفَّا، كإنَّا، إفَّى بالإمالة، إفِّي بالكسر، وتفتح الهمزة، أفْ كعَنْ، أفِّ مشددة الفاء مكسورة، آفْ ممدودة، أف، آف، منونتين. اهـ (ق).
وقد أوصلها الشارح المرتضى إلى خمسين لغة، فطالع شرحه ج 6 ص 41 - 42 قال أبو البقاء: من كسر بناه على الأصل، ومن فتح طلب
(1)
واعترض الشارح في قوله: أربعون فقال: فيه نظر، والحاصل أنه أوصلها إلى خمسين فانظره ج 6 ص 41 - 42.
التخفيف، ومن ضم أتبع، ومن نون أراد التنكير، ومن لم ينون أراد التعريف، ومن خفف الفاء حذف أحد المثلين تخفيفًا. اهـ زهر ج 1 ص 113.
(أو ترى المرأة ذلك؟) استفهام إنكاري، تقدمت الهمزة فيه على العاطف كما في قولها "أفتغتسل".
قال العراقي: أنكرت عليها بعد جواب المصطفى صلى الله عليه وسلم لها، لأنه لا يلزم من ذكر حكم الشيء، تحقق وقوعه، فالفقهاء يذكرون الصور الممكنة ليعرفوا حكمها، وإن لم تقع، بل قد يصورون المستحيل لتشحيذ الأذهان. اهـ.
وقال ابن عبد البر رحمه الله: فيه دليل على أنه ليس كل النساء يحتلمن، وإلا لما أنكرت عائشة وأم سلمة ذلك، وقد يوجد عدم الاحتلام في بعض الرجال إلا أن ذلك في النساء أكثر، وعكس ذلك ابن بطال فقال: فيه دليل على أن كل النساء يحتلمن. قال الحافظ: والظاهر أن مراده الجواز لا الوقوع، أي فيهن قابلية ذلك. وقال المسيوطي: وأيّ مانع أن يكون ذلك خصوصية لأزواجه صلى الله عليه وسلم أنهن لا يحتلمن كما أن من خصائص الأنبياء أنهم لا يحتلمون، لأنه من الشيطان فلم يسلطه الله عليهم، وكذا لا يسلطه على أزواجه تكريما له. قال الزرقاني: المانع من ذلك أن الخصائص لا تثبت بالاحتمال، وهو كغيره لم يثبت ذلك للأنبياء إلا بالدليل.
قال الحافظ ولي الدين العراقي: بَحَثَ بعض أصحابنا، فمنع وقوعه من أزواجه صلى الله عليه وسلم بأنهن لا يطعن غيره لا يقظة ولا مناما، والشيطان لا يتمثل به، وفيه نظر لأنهن قد يحتلمن من غير رؤية كما يقع لكثير من الناس، أو يكون سبب ذلك شبعا أو غيره، والذي منعه بعض العلماء هو وقوع
الاحتلام من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. قاله الزرقاني في شرح الموطأ ج 1 ص 103.
قال الجامع عفا الله عنه: هذه المناقشات كلها عندي محل نظر، بل ما ذكره الحافظ أبو عمر بن عبد البر هو الواضح، فلما كان كل من عائشة، وأم سلمة ممن لا يحتلم، أنكرتا عليها، ولا يدل ذلك على خصوصية أزوا جه صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.
وقوله: (ذلك) بكسر الكاف خطابًا للأنثى.
قالت عائشة (فالتفت إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم) منكرًا لاستبعادها ذلك، (فقال: تربت يمينك) أي لصقت بالتراب، وهو كناية عن الافتقار، يقال: ترب الرجل يَتْرَبُ من باب تعب: افتقر، كأنه لصق بالتراب، فهو ترب، وأتْرَبَ بالألف لغة. قاله في المصباح. وفي (ق) وأترب: قَلَّ ماله، وكَثُر: ضدّ، كَتَرَّب يعني بالتضعيف - فيهما.
وقال أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي: للعلماء في معناه عشرة أقوال (1) استغنيت (2) ضعف عقلك (3) تربت من العلم (4) تربت إن لم تعقل هذا (5) أنه حث على العلم كقوله انج ثكلتك أمك، ولا يريد أن تثكله أمه (6) أصابها التراب (7) خابت (8) اتعظت (9) أنه دعاء خفيف (10) أنه بثاء مثلثة في أوله.
وقال النوي: في هذه اللفظة خلاف كثير منتشر جدا للسلف، والخلف من الطوائف، كلها، والأصح الأقوى الذي عليه المحققون في معناها أن أصلها افتقرت، ولكن العرب اعتادت استعمالها غير قاصدة
حقيقة معناها، فيقولون تربت يداك وقاتله الله ما أشجعه؟ ولا أم له؟ ولا أب له، وثكلته أمه، وما أشبه هذا عند إنكار الشيء أو الزجر عنه، أو الذم عليه، أو استعظامه، أو الحث عليه، أو الإعجاب به.
وقال عياض: هذا اللفظ، وما أشبهه يجري على ألسنة العرب من غير قصد الدعاء.
وقال الباجي: الأظهر أنه صلى الله عليه وسلم خاطبها على عادة العرب في تخاطبها من استعمال هذه اللفظة عند الإنكار لمن لا يريدون فقره.
ويحتمل أنه قال ذلك لها تأديبًا لإنكارها ما أقر عليه، وهو لا يقر إلا على الصواب.
وقيل معناه ضعف عقلك أتجهلين هذا، أو افتقرت بذلك من العلم، وقال الأصمعي: معناه الحض على تعلم مثل هذا، وقال أبو عمر: معناه أصابها التراب ولم يدع عليها بالفقر. أفاده الزرقاني في شرحه
ج 1 ص 104.
قال الجامع عفا الله عنه: حاصل الكلام في هذا المقام أنه أراد الإنكار عليها، وما أراد الدعاء، بل استعمل في الإنكار ما جرت بذكره العادة عند الإنكار. والله أعلم.
(فمن أين يكون الشبه؟) الفاء فصيحية أي إذا لم يكن لها مني فمن أين يشبهها ولدها والشَّبَه: بفتحتين، وبكسر فسكون، وكذا الشبيه وزان كريم: المشابهة. قاله في المصباح. والحاصل أن شبه الولد يكون
من الماء، فلو لم يكن لها ماء لم يوجد الشبه.
وفي رواية للبخاري: "فبم يشبهها ولدها" وعن أنس رضي الله عنه فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "نعم فمن أين يكون الشبه، إن ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فمن أيهما علا أو سبق، يكون منه الشبه" رواه مسلم، وعن عائشة فقال:"وهل يكون الشبه إلا من قِبَل ذلك؟ إذا علا ماؤها ماء الرجل أشبه الولد أخواله، وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه". رواه مسلم أيضا، وعن ثوبان رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم أجاب حَبْرًا من أحبار اليهود عن ذلك بقوله: "ماء الرجل أبيض، وماء
المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله".
وقد دل مجموع الحديثين على أنه إذا سبق ماء الرجل جاء الولد ذكرا، وأشبه أعمامه، وإذا سبق ماء المرأة جاء أنثى، وأشبه أخواله، لكن المشاهدة قد تنافي هذا فقد يكون الولد ذكرا ويشبه أخواله، وقد يكون أنثى ويشبه أعمامه، فلابد من تأويل أحد الحديثين. قال القرطبي: والذي يتعين تأويل حديث ثوبان، فيقال: إن ذلك العلو معناه سبق الماء إلى الرحم، ووجهه أن العلو لما كان معناه الغلبة والسابق غالبًا في ابتدائه في الخروج قبل غلبه علاه
(1)
، ويؤيده أنه روي في غير مسلم:"إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة أذكرًا، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل آنثا". انتهى.
ولكن يشكل عليه قوله في رواية مسلم السابقة "فمن أيهما علا أو سبق يكون الشبه" لكن يجوز أن يقال: المذكورة والأنوثة شبه أيضا باعتبار الجنسية، فتكون كثرته مقتضية للشبه في الصورة، وسبقه مقتضيا للشبه في الجنسية
(2)
.
وفي الحديث رد على من زعم أن الولد من ماء المرأة فقط، وأن ماء الرجل عاقد له كالأنفحة للبن، بل هو مخلوق من الماءين جميعا، وفيه استعمال القياس لأن معناه من كان منه إنزال الماء عند الجماع أمكن منه إنزال الماء عند إلاحتلام فأثبت الإنزال عند الجماع بدليل الشبه، وقاس عليه الإنزال با لاحتلام. ذكره الحافظ ولي الدين العراقي رحمه الله. أفاده الزرقاني ج 1 ص 104. والله تعالى أعلم.
(1)
هكذا عبارة الزرقاني وفيها ركاكة، فلينظر.
(2)
وللعلامة ابن القيم رحمه الله رسالة في أطوار خلق الإنسان حقق فيها هذا الموضوع تحقيقا حسنا. وهي مطبوعة فعليك بها تجد فيها لطائف غريبة.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته حديث عائشة رضي الله عنها هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له: أخرجه هنا -196 - وفي الكبرى -253 - عن كثير بن عبيد، عن محمَّد بن حرب، عن الزبيدي، عن الزهري، عن عروة، عنها.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه أبو داود في الطهارة -96 - تعليقًا، قال بعد إخراجه من طريق يونس، عن الزهري: وهكذا رواه الزبيدي، وعقيل، وابن أخي الزهري، عن الزهري.
وبقية المسائل تأتي آخر الباب إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم.
197 -
أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ غُسْلٌ إِذَا هِيَ احْتَلَمَتْ؟ قَالَ:"نَعَمْ إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ". فَضَحِكَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ: أَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَفِيمَ يُشْبِهُهَا الْوَلَدُ".
رجال الإسناد: ستة
1 -
(شعيب بن يوسف) أبو عمرو الحافظ النيسابوري ثقة صاحب حديث -10 - تقدم في 42/ 49.
2 -
(يحيى) بن سعيد القطان البصري ثقة حجة [9]، تقدم في 4/ 4.
3 -
(هشام) بن عروة المدني ثقة فقيه -5 - تقدم في 49/ 61.
4 -
(عروة بن الزبير) بن العوام المدني ثقة فقيه -3 - تقدم في 40/ 44.
5 -
(زينب بنت أم سلمة) الصحابية ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم تقدمت في 123/ 182.
6 -
(أم سلمة) هند بنت أبي أمية المخزومية أم المؤمنين رضي الله عنها تقدمت في 123/ 183.
لطائف هذا الإسناد
منها أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وهم ما بين نسائي، وهو شعيب، وكوفي، وهو يحيى، ومدنيين وهم الباقون، وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة، وفيه رواية الابن عن أبيه، والبنت عن أمها، ورواية صحابية، عن صحابية، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة.
شرح الحديث
(عن زينب بنت أم سلمة) المخزومية ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم، كان اسمها برة فسماها النبي صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها (عن) أمها أم المؤمنين (أم سلمة) هند بنت أبي أمية: حذيفة رضي الله عنها. (أن امرأة) هي أم سليم، فقد صرح باسمها في الصحيحين من طريق هشام، عن أبيه (قالت يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق) قد مضى الكلام عليه في الحديث
السابق، وإنما قالت هذا تمهيدًا لقولها (هل على المرأة غسل) وللبخاري:"من غسل" بزيادة "من"(إذا هي) قال ابن دقيق العيد "هي" تأكيد
وتحقيق، ولو سقطت من الكلام لم يتم أصل المعنى (احتلمت) افتعلت: من الحلم، قال المجد في "ق": والحُلم بالضم، والاحتلام: الجماع في النوم، والاسم الحُلُم -يعني بضمتين- كعنق اهـ، ومثله في اللسان، وفيه أيضا عن الجوهري: والحلم بالضم ما يراه النائم في نومه. اهـ، وفي المصباح: يقال: حلم يحلم من باب قتل حُلُما بضمتين، وإسكان الثاني تخفيف، واحتلم: رأى في منامه رؤيا. اهـ. قال ابن دقيق العيد رحمه الله بعد ذكر نحو ما تقدم: ما نصه: وأما في الاستعمال والعرف العام فإنه قد خص هذا الوضع اللغوي ببعض ما يراه النائم، وهو ما يصحبه إنزال الماء، فلو رأى غير ذلك لصح أن يقال: احتلم وضعا، ولم يصح عرفا. اهـ إحكام الأحكام ج 1 ص 396.
قال الجامع عفا الله عنه:
الأولى ما تقدم في تفسير "ق" واللسان من أنه الجماع في النوم لموافقته لما في رواية أحمد من حديثها أنها قالت: يا رسول الله إذا رأت المرأة أن زوجها يجامعها في المنام أتغتسل؟. فيكون معنى قولها: إذا
احتلمت: إذا رأت الجماع من زوجها. والله أعلم.
(قال) صلى الله عليه وسلم مجيبا لها (نعم) تغتسل (إذا رأت الماء) أي المني بعد الاستيقاظ، وإنما زاد "إذا رأت الماء" لأن معنى قولها "احتلمت" رأت أن زوجها يجامعها، فلو اقتصر على قوله:"نعم" لتوهم إيجاب الغسل عليها بمجرد رؤية ذلك، ولو لم تنزل، فأزال ذلك التوهم بقوله "إذا رأت الماء"، يعني أن إيجاب الغسل مشروط بإنزال الماء، فلو رأت ذلك، ولكن لم تنزل، لم يجب عليها الغسل، كما أن الرجل إذا رأى أنه جامع زوجته لم يجب عليه الاغتسال إلا إذا أنزل (فضحكت أم سلمة) رضي الله عنها وفي رواية عند البخاري: "فغطت أم سلمة
وجهها"، قال الحافظ: ويجمع بينهما بأنها تبسمت تعجبا، وغطت وجهها حياء، ولمسلم من رواية وكيع، عن هشام "فقالت لها: "يا أم سليم فضحت النساء"، وكذا لأحمد من حديث أم سليم، وهذا يدل على أن كتمان مثل ذلك من عادتهن؛ لأنه يدل على شدة شهوتهن للرجال. قاله في الفتح. ج 1 ص 463 (فقالت: أو تحتلم المرأة) استفهام إنكاري، والهمزة مقدمة من تأخير لأجل الصدارة، على رأي الجمهور، أو في محلها، والمعطوف عليه مقدر، أي أترى المرأة الماء، وتحتلم، ونحو ذلك على رأي الزمخشري. كما تقدم البحث عنه قريبًا.
(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ففيم يشبهها الولد) أي فلم يشبهها؟ ففي بمعنى اللام، وفي نسخة "فبم" بالباء قاله السندي.
قال الجامع: أو "في" سببية، أي بأي سبب يشبهها الولد، و"ما" استفهامية حذفت ألفها على القاعدة إذا جُرَّت، قال ابن مالك في الخلاصة:
وَمَا في الاسْتفْهَامِ إِنْ جُرَّت حُذِفْ
…
ألِفُهَا وَأوْلِهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث أم سلمة رضي الله عنها هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف: أخرجه هنا -131/ 197 - وفي الكبرى-201 - 5887 - عن شعيب بن يوسف، عن يحيى بن سعيد القطان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عنها.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (خ) في الطهارة 101 عن
عبد الله بن يوسف وفي الأدب 79/ 1 عن إسماعيل كلاهما، عن مالك، وفيه أيضا 68/ 7 عن محمَّد بن المثنى، عن يحيى، وفي خلق آدم عن مسدد، عن يحيى، وفي العلم 50/ 1 عن محمَّد بن سلام، عن أبي معاوية- أربعتهم عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب، عن أم سلمة رضي الله عنها. وأخرجه (م) في الطهارة 41/ 4 عن يحيى بن يحيى، عن أبي معاوية به. وفي 41/ 5 عن أبي بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب كلاهما عن وكيع وفي 41/ 5 عن ابن أبي عمر عن سفيان كلاهما، عن هشام به، وذكره، وأخرجه (د) فيه 96 - تعليقًا بعد إخراج حديث عائشة رضي الله عنها. وأخرجه (ت) فيه 90 - عن ابن أبي عمر، عن سفيان به، وقال: حسن صحيح. وأخرجه (ق) فيه 107/ 1 عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعلي بن محمَّد، كلاهما عن وكيع به.
المسألة الرابعة: في ذكر الخلاف في المرأة المراجِعَة هل هي عائشة، أمْ أمُّ سلمة رضي الله عنهما؟
هذا الحديث أخرجه الأئمة الستة كما مر آنفا، وقد اتفق الشيخان على إخراجه من طرق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب، ورواه أيضا مسلم من رواية الزهري، عن عروة لكن قال عن عائشة، قال أبو داود: وكذلك رواه عقيل، والزبيدي
(1)
، ويونس، وابن أخي الزهري، عن الزهري، وابن أبي الوزير، عن مالك، عن الزهري، ووافق الزهري مسافع الحجبي قال: عن عروة، عن عائشة، وأما هشام بن عروة فقال: عن عروة، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة "أن أم سليم جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وقال القاضي عياض عن أهل الحديث: إن الصحيح
(1)
الزبيدي هو محمَّد بن الوليد، وابن أبي الوزير هو إبراهيم بن عمر بن مطرف الهاشمي مولاهم المكي، ومسافع بضم الميم وبالسين المهملة وكسر الفاء بن عبد الله أبو سليمان القرشي الحجبي المكي. أفاده العيني. عمدة ج 3 ص 236.
أن القصة وقعت لأم سلمة، لا لعائشة، اهـ عمدة القاري ج 3 ص 236 وقال الحافظ بعد نقل كلام عياض: وهذا يقتضي ترجيح رواية هشام، وهو ظاهر صنيع البخاري، لكن نقل ابن عبد البر عن الذهلي أنه صحح الروايتين، وأشار أبو داود إلى تقوية رواية الزهري لأن مسافع بن عبد الله تابعه عن عروة، عن عائشة، وأخرج مسلم أيضا رواية مسافع، وأخرج أيضًا من حديث أنس قال:"جاءت أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له، وعائشة عنده" فذكر نحوه. وروى أحمد من طريق إسحاق ابن عبد الله بن أبي طلحة، عن جدته أم سليم، وكانت مجاورة لأم سلمة، فقالت أم سليم يا رسول الله" فذكرا الحديث، وفيه أن أم سلمة هي التي راجعتها، وهذا يقوي رواية هشام.
قال النووي في شرح مسلم: يحتمل أن تكون عائشة، وأم سلمة، جميعا أنكرتا على أم سليم، وهو جمع حسن لأنه لا يمتنع حضور أم سلمة وعائشة عند النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس واحد، وقال في شرح المهذب: يجمع بين الروايات بأن أنسا
(1)
وعائشة، وأم سلمة، حضروا القصة. انتهى. فتح ج 1 ص 462.
المسألة الخامسة: في ذكر اختلاف ألفاظ هذا الحديث:
قال العلامة العيني رحمه الله: لفظ البخاري في باب الحياء في العلم بعد قوله "إذا رأت الماء فغطت أم سلمة تعني وجهها، وقالت يا رسول الله أو تحتلم المرأة؟ قال: نعم تربت يمينك فبم يشبهها ولدها"، وفي لفظ له بعد قوله:"إذا رأت الماء، فضحكت أم سلمة، فقالت: أتحتلم المرأة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم فبم يشبه الولد"، وفي لفظ: قالت أم سلمة: فقلت: فضحت النساء، وعند مسلم من حديث أنس "أن أم سليم
(1)
لكن قدمنا أن الظاهر أن أنسا لم يحضر إنما أخذ عن أمه، كما يشير إليه رواية عند مسلم عنه، حيث قال: إن أم سليم حدثت أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم
…
الحديث.
حدثت أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة عنده يا رسول الله المرأة ترى ما يرى الرجل في المنام من نفسها، ما يرى الرجل من نفسه؟ فقالت عائشة يا أم سليم فضحت النساء، تربت يمينك فقال لها: مه بل أنت تربت يمينك، نعم فلتغتسل يا أم سليم"، وفي لفظ "فقالت أم سليم، واستحييت من ذلك، وهل يكون هذا، قال: نعم ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر أيهما علا أو سبق يكون منه الشبه"، في لفظ "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان منها ما يكون من الرجل فلتغتسل"، وفي لفظ "قالت عائشة فقلت لها: أف لك أترى المرأة ذلك"، وفي لفظ "تربت يداك وألّت، فقال رسول الله: دعيها تربت يمينك وألّت، وهل يكون الشبه إلا من قبل ذلك، إذا علا ماؤها ماء الرجل أشبه الرجل أخواله، وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه"، وفي لفظ أبي داود "أتغتسل، أم لا؟ فقال: فلتغتسل إذا وجدت الماء" وفي لفظ "والمرأة عليها غسل؟ قال: نعم، إنما النساء شقائق الرجال"، وفي لفظ النسائي "فضحكت أم سلمة"، وعند ابن أبي شيبة "وهل تجد شهوة؟ قالت لعله، قال: هل تجد بللا؟ قالت: لعله، فقال فلتغتسل، فلقيها النسوة فقلن فضحتنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: والله ما كنت لأنتهي حتى أعلم في حلّ أنا أم في حرام"، وعند الطبراني في الأوسط "قلت: يا رسول الله أمر يقربني إلى الله أحببت أن أسألك عنه، قال: أصبت يا أم سليم، فقلت" الحديث، وعند البزار "فقالت أم سلمة: وهل للنساء من ماء؟ قال نعم، إنما هن شقائق الرجال"، وعند
(1)
ابن عمر "إذا رأت ذلك، فأنزلت، فعليها الغسل، فقالت أم سليم أيكون هذا؟ " وعند الإمام أحمد "انها قالت: يا رسول الله إذا رأت المرأة أن زوجها يجامعها في المنام أتغتسل؟ " وعند عبد الرزاق في هذه القصة "إذا رأت إحداكن الماء
(1)
هكذا نسخة عمدة القاري ولعل الصواب، وعن ابن عمر، فتأمل.
كما يرى الرجل". اهـ عمدة ج 3 ص 236.
المسألة السادسة: في فوائد الحديث:
منها: أن فيه ترك الاستحياء لمن عرضت له مسألة دينية، واستفتاء المرأة بنفسها في مثل هذا، وفيه وجوب الغسل على المرأة إذا وجدت الماء، وفيه إثبات أن المرأة لها ماء، وفيه رد على من أنكر بروز الماء للمرأة، وقال: إنما يعرف إنزالها بشهوتها، وقد تقدم البحث عنه، وفيه إثبات القياس وإلحاق حكم النظير بالنظير، وفيه جواز الضحك في التعجب، وفيه زجر من يلوم على من يسأل عفا جهله، وإن كان مما يستحى منه. والله أعلم.
المسألة السابعة: في مذاهب العلماء في حكم الاحتلام:
قال ابن المنذر رحمه الله: أجمع كل من يُحفَظ عنه العلم أن الرجل إذا رأى في منامه أنه احتلم أو جامع ولم يجد بللا أن لا غسل عليه، واختلفوا فيمن رأى بللا ولم يتذكر احتلاما فقالت طائفة: يغتسل، روينا ذلك عن ابن عباس، والشعبي، وسعيد بن جبير، والنخعي، وقال أحمد: أحب إلى أن يغتسل إلا رجل به أبْردَة، وقال إسحاق: يغتسل إذا كانت بلة نطفة، وروينا عن الحسن أنه قال: إذا كان انتشر إلى أهله من الليل فوجد من ذلك بلة فلاغسل عليه، وإن لم يكن كذلك اغتسل، وفيه قول ثالث، وهو أن لا يغتسل حتى يوقن بالماء الدافق، هكذا قال مجاهد، وهو قول قتادة، وقال مالك، والشافعي، وأبو يوسف: يغتسل إذا علم بالماء الدافق، وقال الخطابي: ظاهره يوجب الاغتسال إذا رأى البلة، وإن لم يتيقن أنه الماء الدافق، وروي هذه القول عن جماعة من التابعين، وقال أكثر أهل العلم: لا يجب عليه الاغتسال حتى يعلم أنه بلل الماء الدافق. اهـ عمدة القاري ج 3 ص 236 - 237.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يترجح عندي قول من قال بالوجوب إذا رأى البلة وإن لم يتيقن، أنه الماء الدافق، لإطلاق الحديث في ذلك حيث قال "إذا رأت الماء"، فلم يقيده بذلك، بل علق الحكم بمجرد رؤية الماء. والله أعلم.
ومثل الرجل في هذا المرأة، ولم يخالف فيه إلا النخعي على ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عنه ذلك، وهو محجوج بالنص. والله أعلم.
198 -
أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيَّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ، قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمَرْأَةِ تَحْتَلِمُ فِي مَنَامِهَا؟ فَقَالَ: "إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ فَلْتَغْتَسِلْ".
رجال الإسناد: ستة
1 -
(يوسف بن سعيد) بن مُسَلَّم -بفتح اللام مشددة - المصيصي، أبو يعقوب الأنطاكي الحافظ ثقة من الحادية عشرة. روى عن حجاج بن محمَّد الأعور، وقَبيصة، وإسحاق بن عيسى بن الطَّبَّاع، وداود بن منصور، وعلي بن بكار المصيصي، ومحمد بن المبارك الصوري، وهَوْذَةَ بن خليفة، وأبي مسهر، وأبي صالح الحَرَّاني، ومحمد بن مصعب القُرْقُسَائي، وموسى بن داود الضبي، وأبي نعيم، وغيرهم. وعنه النسائي، وعبد الله بن أحمد بن ربيعة بن الوزير، وأبو عوانة، وغيرهم.
قال النسائي: ثقة حافظ، وقال ابن أبي حاتم: كتب إلى ببعض حديثه، وهو صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: مات بعد سنة-265 - ، وقال ابن قانع وابن منده: مات سنة -271 - ، قال الحافظ: وفيها أرخه القراب وقال مسلمة بن قاسم: ثقة حافظ، وأبوه ثقة. اهـ "تت" بزيادة يسيرة ج 11 ص 414 - 415، انفرد به المصنف.
2 -
(حجاج) بن محمَّد المصيصي الأعور أبو محمَّد نزيل بغداد ثقة ثبت -9 - تقدم في 28/ 32.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة المثبت -7 - تقدم في 24/ 26.
4 -
(عطاء الخراساني
(1)
) هو عطاء بن أبي مسلم الخراساني، أبو أيوب، ويقال: أبو عثمان، ويقال: أبو محمَّد، ويقال أبو صالح البلخي نزيل الشام مولى المُهَلَّب بن أبي صُفْرة الأزدي، اسم أبيه عبد الله، ويقال: ميسرة، صدوق يهم كثيرا، ويرسل، ويدلس من الخامسة. روى عن الصحابة مرسلا، كابن عباس، وعدي بن عدي، الكندي، والمغيرة بن شعبة، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وأنس، وكعب بن عجرة، وغيرهم، وعن سعيد بن المسيب، وعبد الله بن بريدة، ويحيى بن يعمر، وغيرهم. وعنه عثمان ابنه، وشعبة، وإبراهيم بن طهمان، وغيرهم.
قال ابن معين: ثقة، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: ثقة صدوق، قلت: يحتج به؟ قال: نعم، وقال النسائي ليس به بأس، وقال الدارقطني: ثقة في نفسه إلا أنه لم يلق ابن عباس، وقال أبو داود: لم
(1)
الخراساني: بضم الخاء المعجمة وفتح الراء نسبة إلى خراسان بلاد كبيرة وأهل العراق يقولون إنها من الري إلى مطلع الشمس ومعناها: خراسم للشمس بالفارسية وأسان موضع الشيء ومكانه وقيل معناها كُلْ بالرَّفَاهية والأول أصح، وإنما قيل لعطاء الخراساني لأنه أقام بها مدة طويلة ثم رجع إلى العراق. أفاده في اللباب ج 1 ص 429.
يدرك ابن عباس، ولم يره، وقال حجاج بن محمَّد عن شعبة: حدثنا عطاء الخراساني، وكان نسيّا، وقال عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: كان يحيى الليل، وعن عطاء: قال: أوثق أعمالي في نفسي نشر العلم، قال ابنه عثمان بن عطاء: مات سنة -135 - ، وقال أبو نعيم الحافظ: كان مولده سنة -50 - ، وقال ابن حبان: كان رديء الحفظ يخطئ، ولا يعلم، فبطل الاحتجاج به، وقال ابن سعد: كان ثقة روى عنه مالك، وقال الطبراني: لم يسمع من أحد من الصحابة، إلا من أنس، أخرج له الجماعة إلا البخاري. اهـ "تت" ج 7 ص 212 - 215.
5 -
(سعيد بن المسيب) بن حَزْن التابعي الجليل ثقة ثبت فقيه من كبار -3 - تقدم في 9/ 9، أخرج له مسلم والأربعة.
6 -
(خولة بنت حكيم) بن أمية بن حارثة بن الأوقص بن مرة بن هلال ابن فالح بن ثعلبة بن ذكوان بن امرئ القيس ابن بحينة بن سليم السلمية، امرأة عثمان بن مظعون، وتكنى أم شَريك. قال هشام بن عروة عن أبيه: كانت خولة بنت حكيم من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن عبد البر: ويقال لها: خويلة، وكانت صالحة فاضلة، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنها سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن المسيب، وبشر بن سعد، وعروة بن الزبير، وأرسل عنها عمر بن عبد العزيز، ومحمد بن يحيى بن حبان. اهـ "تت" ج 12 ص 415، أخرج لها البخاري في خلق أفعال العباد، ومسلم، والترمذي، والمصنف، وابن ماجه.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات، غير عطاء، فصدوق يهم، ويرسل، ويدلس، وأن سعيدًا هو أحد الفقهاء السبعة.
وأما شرح الحديث فتقدم في السابق. والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث خولة بنت حكيم رضي الله عنها هذا صحيح، وعطاء، وإن كان فيه كلام فقد تابعه في روايته علي بن زيد بن جُدعان عند ابن ماجه. وهو وإن كان متكلما فيه يصلح للمتابعه، فقد أخرج له مسلم في المتابعة.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف: أخرجه هنا -198 - ، وفي الكبرى-204 - عن يوسف بن سعيد، عن حجاج، عن شعبة، عن عطاء، عن ابن المسيب، عنها.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (ق) في الطهارة 107/ 3 عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعلي بن محمَّد، كلاهما عن وكيع، عن سفيان، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن خولة بنت حكيم أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل؟ فقال:"ليس عليها غسل حتى تنزل، كما أنه ليس على الرجل غسل حتى ينزل". وأخرجه أحمد 6/ 409، وابن أبي شيبة.
المسألة الرابعة: أنه وقع السؤال عن هذه المسألة عن غير أم سليم، وخولة بنت حكيم، فقد سألت سهلة بنت سهيل، عند الطبراني في الأوسط من حديث ابن لهيعة، وبسرة بنت صفوان عند ابن أبي شيبة بسند لا بأس به. أفاده في الفتح ج 1 ص 463، والعمدة ج 1 ص 236. وبقية المسائل تقدمت. والله تعالى أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
132 - بَابُ الذي يَحْتَلمُ ولا يَرىَ الَماءَ
(1)
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على حكم الشخص الذي يحتلم: أي يرى في منامه أنه جامع امرأة مثلا، ولكنه بعد استيقاظه لم يرى الماء خارجا منه. فجملة لا يرى عطف على الصلة. وقد تقدم معنى الاحتلام في الباب الماضي، وغرض المصنف بهذه الترجمة حمل حديث "الماءُ من الماء" على الاحتلام، ولكنه غير صحيح لما يأتي.
199 -
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سُعَادٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ".
رجال الإسناد: ستة
1 -
(عبد الجبار بن العلاء) بن عبد الجبار العطار، أبو بكر البصري، مولى الأنصار. سكن مكة، لا بأس به، من صغار العاشرة، روى عن أبيه، وابن عيينة، وابن مهدي، ومروان بن معاوية، الفزاري، ووكيع، وأبي سعيد مولى بني هاشم، وبشر بن السري، وغيرهم. وروى عنه مسلم، والترمذي، والنسائي، وروى النسائي أيضًا عن
(1)
يوجد في النسخة الهندية في الهامش ما نصه: نسخة: قرأت على الشيخ أبي محمَّد عبد الرحمن بن حميد الدوني رضي الله عنه، أخبركم القاضي أبو نصر أحمد بن الحسين الكسار فأقر به، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمَّد بن إسحاق السني الحافظ، قال: أخبرنا الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن بحر النسائي بمصر قال
…
زكرياء السجزي عنه، والحسن بن محمَّد بن الصباح الزَّعْفَرَاني، وهو من أقرانه، وأبو حاتم، وابن خزيمة، وابن بجير، والسراج، وغيرهم. قال سلمة بن شبيب عن أحمد: رأيته عند ابن عيينة حسن الأخذ، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال مرة: شيخ، وقال النسائي: ثقة، وقال مرة: لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان متقنا، سمعت ابن خزيمة يقول: ما رأيت أسرع قراءة منه ومن بندار، وقال العجلي: بصري ثقة سكن مكة، مات بمكة أول جمادى الأولى سنة -248 - أخرج له مسلم، والترمذي، والمصنف. اهـ "تت"ج 6 ص 105.
3 -
(سفيان) بن عيينة أبو محمَّد الحجة المثبت الفقيه المكي -8 - تقدم في 1/ 1.
(عمرو) بن دينار الثقة العدل المكي -4 - تقدم في 112/ 154.
4 -
(عبد الرحمن بن السائب) ويقال: ابن السائبة مقبول من الثالثة،.
روى عن عبد الرحمن بن سعاد، وأبي هريرة. وعنه عمرو بن دينار.
ذكره ابن حبان في الثقات. روى له النسائي، وابن ماجه حديثًا واحدًا في الطهارة، وجزم ابن حبان تبعا للبخاري وغيره أنه ابن السائبة. اهـ "تت"ج 6 ص 182.
5 -
(عبد الرحمن بن سعاد) -بالضم- مقبول من الثالثة، روى عن أبي أيوب "إنما الماء من الماء". وعنه عبد الرحمن بن السائب، وقال: كان مرضيًا من أهل المدينة. روى له المصنف، وابن ماجه. اهـ "تت" ج 6 ص 183.
6 -
(أبو أيوب) خالد بن زيد بن كليب الأنصاري الصحابي الجليل رضي الله عنه تقدم في 19/ 20. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها أنه من سداسياته، وأن رواته قد وثقوا، أخرج لهم الستة إلا شيخه فأخرج له معه (م ت) وابني السائب وسعاد، فأخرج لهما معه (ق) فقط، وأنه لا رواية لهما إلا هذا الحديث، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، عمرو، وابن السائب، وابن سعاد. والله أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي أيوب) الأنصاري رضي الله عنه (عن النبي صلى الله عليه وسلم) أنه قال (الماء من الماء) أي وجوب الاغتسال بالماء كائن من أجل خروج الماء الدافق، فالماء الأول هو المطهِّر، والثاني المني، أفاده السندي. وفيه الجناس التام، قاله المباركفوري. وقال السندي رحمه الله: وهذا الحديث يفيد الحصر عرفا، أي لا يجب الغسل بلا ماء، فينبغي أن لا يجب بالإدخال إن لم ينزل، فيعارض حديث "إذا قعد بين شعبها" فالجمهور على أن حديث "الماء من الماء" منسوخ لقول أبي بن كعب:"كان الماء من الماء في أول الإسلام ثم ترك بعدُ، وأمرَ بالغسل إذا مس الختان الختان"، وقال ابن عباس: حديث "الماء من الماء" في الاحتلام، لا في الجماع، وإليه أشار المصنف في الترجمة توفيقًا بين الأحاديث، لكن رد بأن مورد حديث "الماء من الماء" هو الجماع لا الاحتلام كما جاء في صحيح مسلم صريحا. اهـ كلام السندي ج 1 ص 115 - 116.
قال الجامع عفا الله عنه: أما الكلام في تعارض الحديثين فقد استوفيناه في المسألة الرابعة رقم 129/ 191، وأن الراجح من الأقوال قول من قال بالنسخ، وأما ما روي عن ابن عباس من أنه حمل "الماء من الماء" على الاحتلام فقد أخرجه الطبراني لكن قال الحافظ: إسناده لين، لأنه من رواية شريك القاضي عن أبي الجَحَّاف. وقد تقدم في التنبيه الأول رقم
129/ 161، ومع عدم صحته يكون مناقضا لما صح في مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم سئل عمن يجامع فيكسل؟ فأجاب، بقوله:"إنما الماء من الماء"، فلا يصح حمله على الاحتلام فقط، وإن كان الاحتلام بلا إنزال لا يوجب الغسل، أيضا لعموم "الماء من الماء" ولما تقدم من حديث خولة بنت حكيم رضي الله عنها عند ابن ماجه "أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل؟ فقال: ليس عليها غسل حتى تنزل، كما أنه ليس على الرجل غسل حتى ينزل".
وأما حمل المصنف الحديث على الاحتلام حيث ترجم بقوله: "باب الذي يحتلم، ولا يرى الماء" فغير واضح لما عرفت في حمل ابن عباس رضي الله عنهما.
والحاصل أن حديث الباب منسوخ، وأما الذي يحتلم، ولم يخرج منه الماء، فلا يجب عليه الغسل، لما ذكرنا. والله أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي أيوب رضي الله عنه صحيح، فقد أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له: أخرجه هنا -199 - وفي الكبرى [205]، عن عبد الجبار بن العلاء، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عبد الرحمن بن السائب، عن عبد الرحمن بن سعاد، عنه.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (ق) في الطهارة 110/ 2 عن محمَّد بن الصباح الجرجرائي، عن سفيان، عن عمرو به. وأخرجه أحمد. والله تعالى أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
133 - بَابُ الفَصْلِ بَيْنَ مَاءِ الرَّجُلِ وَمَاءِ المَرْأةِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على الفرق بين ماء الرجل والمرأة. وفي الهندية "باب ماء الرجل وماء المرأة".
الفصل بفتح فسكون: مصدر فَصَل من باب ضرب، ففي المصباح: ما معناه: وَفَصَلَ الحدُّ بين الأرضين فَصْلًا: فرق بينهما، فهو فاصل. اهـ
200 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَنْبَأَنَا عَبْدَةُ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَاءُ الرَّجُلِ غَلِيظٌ أَبْيَضُ، وَمَاءُ الْمَرْأَةِ رَقِيقٌ أَصْفَرُ، فَأَيُّهُمَا سَبَقَ كَانَ الشَّبَهُ".
رجال الإسناد: خمسة
1 -
(إسحاق بن إبراهيم) الحنظلي المعروف بابن راهويه ثقة حافظ حجة -10 - تقدم في 2/ 2.
2 -
(عبدة بن سليمان) الكلابي البصري ثقة ثبت من صغار -8 - تقدم في 131/ 195.
3 -
(سعيد) بن أبي عروبة البصري ثقة حافظ مدلس -6 - تقدم في 34/ 38.
4 -
(قتادة) بن دعامة السدوسي البصري أبو الخطاب ثقة ثبت مدلس -4 - تقدم في 30/ 34.
5 -
(أنس) بن مالك الصحابي الجليل رضي الله عنه تقدم في 6/ 6.
لطائف هذا الإسناد
منها أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات أجلاء، وكلهم بصريون إلا إسحاق، فمروزي، ثم نيسابوري، وفيه أنس بن مالك أحد المكثرين السبعة روى-2286 حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أنس) رضي الله عنه أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماء الرجل) أي منيه (غليظ أبيض، وماء المرأة) أي منيها (رقيق أصفر) قال القرطبي رحمه الله: ما ذكره في صفة الماءين هو في غالب الأمر، واعتدال الحال، وإلا فقد تختلف أحوالهما للعوارض. اهـ. زهر، ج 1 ص 116.
(فأيهما سبق)"أيُّ" هنا موصولة صلتها جملة "سبق"، أي الذي تقدم في الإنزال، أو غلب وكثر في المقدار، والضمير للماءين، وعلى الأول لو جعل للرجل والمرأة لكان له وجه قاله السندي. وقال
السيوطي: المراد سبق الإنزال، ففي رواية ابن عبد البر: أي النطفتين سبقت إلى الرحم غلبت على الشبه، وجوز القرطبي أن يكون سبق بمعنى غلب من قولهم: سابقني فسبقته، أي غلبته، ومنه قوله تعالى:"وما نحن بمسبوقين"، أي مغلوبين، ويكون معناه كثر. اهـ زهر ج 1 ص 116.
(كان الشبه) بفتحتين، أو بكسر فسكون، أي حصل شبه الولد بالأب، أو الأم في المزاج، والذكورة، والأنوثة، فـ "كان" تامة، ويحتمل أن تكون ناقصة، والخبر محذوف، أي له، وقال السندي: أو
الاسمُ الضميرُ، والشبه خبر بتقدير سبب الشبه، أو صاحب الشبه.
قال الجامع: هذا الوجه مع كونه تكلفا يحتاج إلى صحة الرواية بالنصب. والله أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث أنس رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له: أخرجه هنا -200 - وفي الكبرى -206 - عن إسحاق، عن عبدة، عن سعيد، عن قتادة عنه.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (م ق) فأخرجه (م) في الطهارة 41/ 2.
عن عباس بن الوليد النّرسي، عن يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه. وأخرجه (ق) في الطهارة 107/ 2 عن محمَّد بن المثنى، عن ابن أبي عدي -وعبد الأعلى- كلاهما عن سعيد به. وأخرجه أحمد، والحاكم.
(تنبيه) قال الشنقيطي رحمه الله في شرحه: هذه الرواية مختصرة من حديث سؤال يهودي للنبي صلى الله عليه وسلم "كيف ينزع الولد إلى أخواله أو أعما مه
…
الحديث.
قال الجامع: في قوله هذا نظر، فإن الحديث هذا مختصر من حديث أنس رضي الله عنه أن أم سليم حدثت أنها سألت نبي الله صلى الله عليه وسلم عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا رأت ذلك المرأة فلتغتسل، فقالت أم سليم: واستحييت من ذلك، قالت: وهل يكون هذا؟، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: نعم، فمن أين يكون الشبه؟، إن ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فمن أيهما علا، أو سبق يكون الشبه". رواه مسلم
وأما حديث سؤال اليهودي فليس من رواية أنس بل هو من رواية ثوبان رضي الله عنه، أخرجه مسلم بطوله ج 1 ص 252 رقم 315 تحقيق محمَّد فؤاد، فتنبه.
المسألة الرابعة: قد ذكر النووي رحمه الله في شرح المهذب الفرق بين صفات المني، والمذي، والودي، وهاك نصه:
قال: وأما صفاتها فمما يتأكد الاعتناء به لكثرة الحاجة إليه، فمني الرجل في حال صحته أبيض ثخين، يتدفق في خروجه، دفعة، بعد دفعة، ويخرج بشهوة، ويتلذذ بخروجه، ثم إذا خرج يعقبه فتور، ورائحته كرائحة طلع النخل قريبة من رائحة العجين، وإذا يبس كانت رائحته كرائحة البيض، هذه صفاته، وقد يفقد بعضها مع أنه مني موجب للغسل بأن يرق ويصفر لمرض أو يخرج بغير شهوة ولا لذة لاسترخاء وعائه أو يحمر لكثرة الجماع، ويصير كماء اللحم، وربما خرج دما عبيطا، ويكون طاهرا موجبا للغسل. وفي تعليق أبي محمَّد الأصفهاني أنه في الشتاء أبيض ثخين، وفي الصيف رقيق. ثم إن من صفاته ما يشاركه فيها غيره كالثخانة والبياض يشاركه فيهما الودي، ومنها ما لا يشاركه فيها غيره وهي خواصه التي عليها الاعتماد في معرفته، وهي ثلاث.
(إحداها) الخروج بشهوة مع الفتور عقبه.
(الثانية) الرائحة التي تشبه الطلع والعجين، كما سبق.
(الثالثة) الخروج بتزريق ودفق في دفعات، فكل واحدة من هذه الثلاثة كافية في كونه منيا، ولا يشترط اجتماعها، فإن لم يوجد منها شيء لم يحكم بكونه منيا. وأما مني المرأة فأصفر رقيق، قال المتولي وقد يبيض لفَضْل قوتها، قال إمام الحرمين والغزالي: ولا خاصية له
إلا التلذذ وفتور شهوتها عقب خروجه ولا يعرف إلا بذلك، وقال الروياني: رائحته كرائحة مني الرجل فعلى هذا له خاصيتان يعرف بإحداهما.
وقال البغوي خروج منيها بشهوة أو بغيرها يوجب الغسل كمني الرجل، وذكر الرافعي أن الأ كثرين قالوا تصريحا وتعريضا: يطرد في منيها الخواص الثلاث، وأنكر عليه الشيخ أبو عمرو بن الصلاح، وقال: هذا الذي ادعاه ليس كما قاله. والله أعلم.
وأما المذي فهو ماء أبيض رقيق لزج يخرج عند شهوة، لا بشهوة، ولا دفق، ولا يعقبه فتور، وربما لا يحس بخروجه، ويشترك فيه الرجل والمرأة قال إمام الحرمين: وإذا هاجت المرأة خرج منها المذي، قال:
وهو أغلب فيهن منه في الرجال.
وأما الودي فماء أبيض كدر ثخين يشبه المني في الثخانة ويخالفه في الكدورة، ولا رائحة له، ويخرج عقيب البول إذا كانت الطبيعة مستمسكة، وعند حمل شيء ثقيل، ويخرج قطرة أو قطرتين ونحوهما. وأجمع العلماء أنه لا يجب الغسل بخروج المذي والودي. اهـ كلام النووي. مجموع ج 2 ص 141 - 142.
قال الجامع: أما المني فقد تقدم البحث عنه واختلاف العلماء وأدلتهم في وجوب الغسل مطلقًا، في 130/ 193، فارجع إليه تزدد علمًا.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
134 - ذِكْرُ الاغْتِساَلِ مِنَ الحَيْضِ
أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على وجوب الاغتسال من أجل خروج الحيض من المرأة.
والحيض: بفتح فسكون مصدر، حاضت المرأة: إذا سأل دمها، قال الفيومي رحمه الله: حاضت السَّمُرَة تحيض حَيْضًا: سال صَمْغُها، وحاضت المرأة حيضا ومحيضًا، وحَيَّضْتُها: نسبتها إلى الحيض، والمرَّة حيضة، والجمع حيض مثل بَدْرة وبدَر، والقياس حَيْضَات مثل بيضة وبيضات، والحيضة بالكسر هيئة الحيض مثل الجلسة لهيئة الجلوس، وجمعها حيض أيضا مثل سدْرة وسدَر، والحيضة بالكسر أيضا خرقة الحيض، وفي الحديث "خذي ثياب حيضتك" يروى بالفتح والكسر، والمرأة حائض، لأنه وصف خاص، وجاء حائضة أيضا بناء على حاضت، وجمع الحائض حُيَّض مثل راكع ورُكَّع، وجمع الحائضة حائضات، مثل قائمة وقائمات. اهـ المصباح باختصار يسير. وسيأتي تمام البحث في هذا في كتاب الحيض إن شاء الله تعالى.
201 -
أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا
(1)
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْعَدَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ: عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ مِنْ بَنِي أَسَدِ قُرَيْشٍ، أَنَّهَا أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَتْ أَنَّهَا تُسْتَحَاضُ، فَزَعَمَتْ أَنَّهُ
(1)
وفي نسخة "أخبرنا".
قَالَ لَهَا: "إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي".
رجال الإسناد: سبعة
1 -
(عمران بن يزيد) هو عمران بن خالد بن يزيد بن مسلم بن خالد ابن أبي جميل القرشي، ويقال: الطائي مولاهم أبو عمر، ويقال: أبو عمرو الدمشقي، وقد ينسب إلى جده، ويقال: عمران بن يزيد بن خالد، صدوق من العاشرة. روى عن معروف الخياط، وعيسى بن يونس، وعبد الرحمن بن أبي الرجال، وشعيب ابن إسحاق، ومخلد ابن حسين، والدراوردي، ومروان بن معاوية الفزاري، ومحمد بن شعيب بن شابور، وابن عيينة، وإسماعيل بن عبد الله بن سماعة بن إسماعيل، وهقل بن زياد، وغيرهم. روى عنه النسائي، والعمري، وابن قتيبة، وحرب الكرماني، والحسن بن سفيان، والباغندي،
وغيرهم. قال أبو زرعة: كتبت عنه حديثًا واحدًا عن دريح بن عطية، وقال أبو حاتم: كتبت عنه في الرحلة الثانية، وقال النسائي: لا بأس به، وقال في موضع آخر: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مات سنة 244. انفرد به الصنف اهـ "تت" ج 8 ص 129 - 130.
2 -
(إسماعيل بن عبد الله العدوي) بن سماعة مولى آل عمر، أصله من الرملة، وقد ينسب إلى جده ثقة من الثامنة. روى عن الأوزاعي، وموسى بن أعين. وعنه أبو مسهر، وهشام بن إسماعيل العطار، وعمران بن يزيد بن خالد، وغيرهم. قال العجلي، والنسائي، وابن عمار: ثقة، وقال أبو مسهر: كان من الفاضلين، وذكره في الأثبات من
أصحاب الأوزاعي، وقال: هو بعد الهقل، وقال أبو حاتم: كان من أجل أصحاب الأوزاعي وأقدمهم. وذكره ابن حبان في الثقات. اهـ "تت" ج 1 ص 309، أخرج له أبو داود، والترمذي، والمصنف.
3 -
(الأوزاعي) عبد الرحمن بن عمرو الإمام الثقة الحجة -7 - تقدم في 45/ 56.
4 -
(يحيى بن سعيد) الأنصاري المدني ثقة ثبت -5 - تقدم في 22/ 23.
5 -
(هشام بن عروة) بن الزبير المدني ثقة فقيه -5 - تقدم في 49/ 61
6 -
(عروة) بن الزبير بن العوام المدني ثقة فقيه [31] تقدم في 40/ 44.
7 -
(فاطمة بنت قيس) هي فاطمة بنت أبي حبيش، واسمه قيس بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي الأسدية، مهاجرية جليلة. روت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الاستحاضة. وعنها عروة بن الزبير، وقيل: عن عروة، عن عائشة، أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت- فذكره، ذكر إبراهيم الحربي أنها أم محمَّد بن عبد الله بن جحش. اهـ تت ج 12 ص 442، أخرج لها أبو داود، والمصنف. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سباعياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأنهم ما بين شاميين، وهم من شيخه، إلى الأوزاعي، ومدنيين وهم الباقون، وأن شيخه ممن انفرد هو بالرواية عنه، وإسماعيل أخرج له معه (د ت)، وفاطمة أخرج لها معه (د) والباقون اتفقوا عليهم، وأن فاطمة لا رواية لها إلا حديث المستحاضة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن فاطمة بنت قيس)، وهو أبو حبيش، وهي غير فاطمة بنت قيس المطلقة ثلاثا، قاله في الفتح (من بني أسد قريش) حال من فاطمة، وإنما قيد به لأن أسدًا في قبائل العرب كثير.
قال ابن الأثير في اللباب رحمه الله: هو اسم عدة من القبائل، منهم أسد بن عبد العزى بن قصي من قريش، وأسد بن خزيمة بن مدركة، وأسد بن ربيعة بن نزار، وأسد بن دودان، وأسد بن شُريك- بضم الشين، وهم بطن من الأزد. اهـ بتصرف. ج 1 ص 52 - 53.
وقريش: هو النضر بن كنانة، ومن لم يلده فليس بقرشي، وقيل: قريش هو فهو بن مالك، ومن لم يلده فليس من قريش، نقله السهيلي، وغيره، وأصل القَرْش الجمع، وتقرشوا: إذا تجمعوا، وبذلك سميت قريش، وقيل قريش دابة تسكن البحر، وبه سمي الرجل، قال الشاعر (من الخفيف):
وَقُرَيْشٌ هي التّي تَسْكُنُ البَحْ
…
ـرَ بها سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا
وينسب إلى قريش بحذف الياء، فيقال: قرشي، وربما نسب إليه في الشعر من غير تغيير، فيقال: قريشي. اهـ المصباح. ج 2 ص 497.
(أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت أنها تستحاض) بالبناء للمفعول وهذا الفعل من الأفعال اللازمة للبناء للمفعول قال في الفتح، يقال: استحيضت المرأة: إذا استمر بها الدم بعد أيامها المعتادة، فهي مستحاضة، والاستحاضة: جريان الدم من فرج المرأة في غير أوانه اهـ ج 1 ص 396.
وقال الأزهري والهروي وغيرهما: الحيض جريان دم المرأة في أوقات معلومة يرخيه قعر رحمها بعد بلوغها، والاستحاضة: جريانه
في غير أوانه يسيل من عرق في أدنى الرحم دون قعره، يقال: استحيضت المرأة بالبناء للمفعول فهي مستحاضة، وأصل الكلمة من الحيض، والزوائد التي لحقتها للمبالغة، كما يقال: قَرَّ في المكان، ثم يزاد للمبالغة فيقال: استقر، وأعشب المكان، ثم يزاد للمبالغة فيقال: اعشوشب. اهـ زرقاني ج 1 ص 121.
وقال العلامة العيني رحمه الله: فإن قلت: ما وجه بناء الفعل للفاعل في الحيض، وللمفعول في الإستحاضة، فقيل: استُحيضت؟ قلت: لما كان الأول معتادًا معروفًا نُسب إليها، والثاني لما كان نادرًا غير معروف الوقت، وكان منسوبًا إلى الشيطان، كما ورد "أنها رَكْضَة من الشيطان" بُني لما لم يسم فاعله، فإن قلت: ما هذه السين فيه؟ قلت: يجوز أن تكون للتحول كما في استحجَرَ الطينُ، وهنا تحول دم الحيض إلى غير دمه وهو دم الاستحاضة، فافهم. اهـ عمدة ج 3 ص 142.
قال الجامع: في قوله تحول دم الحيض نظر لأن دم الاستحاضة غير دم الحيض، إذ هو دم يخرج من قعر الرحم بخلاف دم الإستحاضة فإنه دم عرق انفجر كما نُصَّ عليه في الحديث. فتفهم.
(فزعمت) أي قالت فاطمة، وهذا من استعمال الزعم في القول الحق.
قاله السندي. وقال الفيومي رحمه الله: زَعَمَ من باب قَتَل، وفي الزعم ثلاث لغات فتح الزاي للحجاز، وضمها لأسد، وكسرها لبعض قيس، ويطلق بمعنى القول، ومنه زعمت الحنفية، وزعم سيبويه، أي قال، وعليه قوله تعالى {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ} [الإسراء: 92] أي كما أخبرت، ويطلق على الظن، يقال: في زعمي كذا، وعلى الاعتقاد، ومنه قوله تعالى {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن: 7] قال الأزهري: وأكثر ما يكون الزعم فيما يشَك فيه، ولا
يُتَحَقَّق، وقال بعضهم: هو كناية عن الكذب، وقال المرْزُوقي: أكثر ما يستعمل فيما كان باطلا، أو فيه ارتياب. وقال ابن القُوطيّة: زعم زعْمًا: قال خبرًا لا يدري أحق هو، أو باطل، قال الخطابي: ولهذا قيل: زَعَمَ مَطيَّة. الكذب. اهـ المصباح.
(أنه) صلى الله عليه وسلم (قال: إنما ذلك) بكسر الكاف خطابا للمرأة، أي إنما ذلك الدم الزائد على العادة السابقة، وذلك لأنه الدم الذي اشتكته (عرق) بكسر فكسون أي دم عرق، لأن الخارج الدم لا العرق، قال السيوطي رحمه الله زاد الدراقطني والبيهقي "انقطع" اهـ، وفي المنهل: ج 3 ص 69 أي دم الاستحاضة دم عرق، يريد أن ذلك علة حدثت بها من تصدع العرق فاتصل الدم، وليس بدم الحيض الذي يدفعه الرحم لميقات معلوم، فيجري مجرى سائر الأثفال والفضول التي تستغني عنها الطبيعة وتقذفها عن البدن، فتجد النفس راحة لها فيها وتخلصها عن ثفلها وأذاها. اهـ.
ويسمى ذلك العرق بالعاذل، بالعين المهملة، والذال المعجمة، والسلام، أو الراء. قال ابن منظور رحمه الله: والعاذل: اسم العرق الذي يسيل منه دم المستحاضة، وربما سمي ذلك العرق عاذرا بالراء. اهـ لسان باختصار، ومثله في المصباح والتاج.
قال الجامع: وأما ما وقع في بعض الشروح
(1)
من جواز ضبطه بالعين والدال المهملتين، فلا أصل له في كتب اللغة، بل هو إما بالذال المعجمة واللام، أو الراء المهملة بدلها، وسيأتي في 135/ 213 أنه عرف عاند، وسنتكلم عليه هناك إن شاء الله تعالى.
(فإذا أقبلت الحيضة) بفتح الحاء، أي دم الحيض، أو بالكسر حالة الحيض أو هيئته بمعنى أن يكون الدم على هيئة يُعرَف أنه دم حيض، وقد
(1)
وهو شرح الشيخ النقيطي رحمه الله للمجتبى.
جاء أن دم الحيض يُعرف، فلعل بعض النساء تعرفه. قاله السندي. ج 1 ص 117 (فدعي الصلاة) أي اتركيها، يعني أنه إذا جاء الوقت الذي يعتادك فيه الحيض، فاتركي الصلاة، قال الحافظ رحمه الله: قوله "فدعى الصلاة": يتضمن نهي الحائض عن الصلاة، وهو للتحريم، ويقتضي فساد الصلاة بالإجماع. اهـ فتح ج 1 ص 396 (وإذا أدبرت) أي ذهبت الحيضة، أي مضى وقتها المعتاد لك، وقال الزرقاني: أي قدر الحيض على ما قدره الشارع، أو على ما تراه المرأة باجتهادها، أو على ما
تقدم من عادتها، احتمالات.
قال الجامع: الاحتمال الأخير هو الأولى، لأنه ثبت أنه أمرها أن تقعد الأيام التي كانت تقعد، وفي بعض الروايات "أيام أقرائها"، فدل على أن المراد الحيضة التي اعتادتها. والله أعلم (فاغسلي عنك الدم وصلي) أي بعد الاغتسال، كما صرح به في رواية البخاري من طريق أبي أسامة عن هشام بن عروة في هذا الحديث قال في آخره "ثم اغتسلي، وصلي" ولم يذكر غسل الدم، وهذا الاختلاف واقع بين أصحاب هشام، منهم من ذكر غسل الدم، ولم يذكر الاغتسال، ومنهم من ذكر الاغتسال ولم يذكر غسل الدم، وكلهم ثقات، وأحاديثهم في الصحيحين، فيحمل على أن كل فريق اختصر أحد الأمرين لوضوحه عنده.
وفيه اختلاف ثالث، وهو أن أبا معاوية زاد "ثم توضئي لكل صلاة"، فزعم بعضهم أنه مدرج، وجزم بعضهم بأنه موقوف على عروة. ورد عليهم الحافظ، وقال: لم ينفرد أبو معاوية بذلك، فقد رواه النسائي من طريق حماد بن زيد، عن هشام، وادعى أن حمادا تفرد بهذه الزيادة، قال: وأومأ مسلم أيضا إلى ذلك، وليس كذلك، فقد رواه الدارمي من طريق حماد بن سلمة، والسَّرَّاج من طريق يحيى بن سليم، كلاهما عن هشام. أفاده في الفتح ج 1 ص 488. والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث فاطمة رضي الله عنها هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له. أخرجه هنا وفي الكبرى -209 - ، وفي الحيض 4/ 356 عن عيسى بن حماد عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن بكير بن عبد الله، عن المنذر بن المغيرة، عن عروة، عنها. وفي 6/ 362 عن ابن المثنى، عن ابن أبي عدي، عن محمَّد بن عمرو، عن ابن شهاب، عن عروة، عنها. وأخرجه في الطلاق عن عمرو بن منصور، عن عبد الله بن يوسف، عن
الليث بإسناده نحوه.
(تنبيه) كتب الحافظ رحمه الله في النكت الظراف ج 12 ص 460 عند قوله: عن ابن أبي عدي، عن محمَّد بن عمرو، ما نصه. قلت: قال ابن أبي حاتم -يعني في العلل ج 1 ص 49 - 50 ح 117 - : سألت أبي عنه؟ فقال: منكر، لم يتابع عليه محمَّد بن عمرو. اهـ نكت.
المسألة الثالثة: فيمن أخرج الحديث معه: أخرجه (د) في الطهارة -108/ 7 - عن عيسى بن حماد، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن بكير بن عبد الله، عن المنذر بن المغيرة، عن عروة بن الزبير، أن فاطمة حدثته به. وفي -108/ 8 - عن يوسف بن موسى، عن جرير، عن سهيل بن أبي صالح، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، قال: حدثتني فاطمة بنت أبي حُبَيش أنها أمرت أسماء، أو أسماء حدثتني أنها أمرتها فاطمة أن تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعناه. وفي 110/ 3 عن ابن المثنى عن ابن أبي عدي، عن محمَّد بن عمرو، عن ابن شهاب، عن عروة، عن فاطمة
…
فذكره.
وأخرجه البيهقي وأشار إلى أن في الحديث انقطاعا، فقال: قد بَيَّنَ هشام بن عروة أن أباه إنما سمع قصة فاطمة بنت أبي حبيش، عن عائشة، وروايته في الإسناد والمتن جميعا أصح من رواية المنذر بن المغيرة. اهـ قال في المنهل: وهو مردود بأن هشامًا إنما رواه عن أبيه، عن عائشة، وليس في روايته ما يبين أن أباه سمع القصة منها. وقال ابن حزم: إن عروة أدرك فاطمة، ولا يبعد أن يسمع الحديث من عائشة، ومن فاطمة. اهـ.
المسألة الرابعة في فوائده: من فوائد الحديث جواز استفتاء المرأة للرجل الأجنبي، ولو كان ذلك الأمر مما يستَحَى منه، وفيه رد المرأة إلى عادتها في الحيض، وفيه التفرقة بين دم الحيض ودم الاستحاضة، وعدم صحة الصلاة من الحائض، ووجوبها على المستحاضة، ونجاسة دم الحيض، والاستحاضة، ووجوب غسله قبل الدخول في الصلاة من بدنها وثوبها، وفيه أن دم الحيض يخرج من قعر الرحم، ودم الاستحاضة من خارجه، من عرق انقطع بسبب ركضة الشيطان.
وقال الحافظ رحمه الله: وفي الحديث دليل على أن المرأة إذا ميزت دم الحيض من دم الاستحاضة، تعتبر دم الحيض، وتعمل على إقباله، وإدباره، فإذا انقضى قدره اغتسلت عنه، ثم صار حكم دم الاستحاضة حكم الحدث، فتتوضأ لكل صلاة، لكنها لا تصلي بذلك الوضوء أكثر من فريضة واحدة مؤداة أو مقضية لظاهر قوله "ثم توضئي لكل صلاة"، وبهذا قال الجمهور، وعند الحنفية أن الوضوء متعلق بوقت الصلاة فلها أن تصلي به الفريضة الحاضرة، وما شاءت من الفوائت ما لم يخرج وقت الحاضرة، وعلى قولهم المراد بقوله:"وتوضئي لكل صلاة" أي لوقت كل صلاة، ففيه مجاز الحذف، ويحتاج إلى دليل. وعند المالكية: يستحب لها الوضوء لكل صلاة، ولا يجب إلا يحدث آخر، وقال أحمد، وإسحاق: إن اغتسلت لكل فرض فهو أحوط.
قال الجامع: الراجح عندي قول الجمهور لوضوح دليله. والله أعلم.
وقد استنبط منه الرازي الحنفي أن مدة أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة لقوله "قدر الأيام التي تحيضين فيها" لأن أقل ما يطلق عليه لفظ أيام ثلاثة وأكثره عشرة، فأما دون الثلاثة فإنما يقال: يومان ويوم، وأما فوق عشرة فإنما يقال: أحد عشر يومًا وهكذا إلى عشرين، قال الحافظ: وفي الاستدلال بذلك نظر. اهـ فتح. ج 1 ص 488. والله أعلم.
202 -
أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ هَاشِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِي.
رجال الإسناد: ستة
1 -
(هشام بن عمار) بن نُصير -مصغرا- بن ميسرة بن أبان السلمي ويقال: الظَّفَري -بفتحتين- أبو الوليد الدمشقي خطيب المسجد الجامع بها، صدوق مقرىء، كبر، فصار يتلقن، فحديثه القديم أصح، من كبار العاشرة، روى عن معروف الخياط أبي الخطاب الدمشقي صاحب واثلة، وصدقة بن خالد، وعبد الحميد بن حبيب أبي العشرين، وعبد الله بن أبي الرجال، وسليم بن مطر، وغيرهم. وروى عنه البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وروى الترمذي عن البخاري، عنه، وابنه أحمد بن هشام وشيخاه: الوليد بن مسلم، ومحمد بن شعيب، وابن سعد، وغيرهم.
قال إبراهيم بن الجنيد عن ابن معين: ثقة، وقال أبو حاتم عن يحيى ابن معين: كيِّس كيِّس، وقال العجلي: ثقة، وقال مرة: صدوق، وقال أحمد بن خالد الخلال عن يحيى بن معين: حدثنا هشام بن عمار، وليس بالكذوب، وقال النسائي: لا بأس به، وقال الدارقطني: صدوق كبير المحل، وقال عبدان: ما كان في الدنيا مثله، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: لما كبر هشام تغير فكلما دفع إليه قرأه، وكلما لُقِّن تَلَقَّن، وكان قديما أصح كان يقرأ من كتابه، قال: وسئل أبي عنه؟ فقال: صدوق. وقال الآجري عن أبي داود: وأبو أيوب -يعني سليمان بن عبد الرحمن- خير منه، حدث هشام بن عمار بأربعمائة حديث مسندة ليس لها أصل، كان فَضْلَك يدور على أحاديث أبي مسهر وغيرها فيلقنها هشاما فيحدث بها، وكنت أخشى أن تفتق في الإسلام فَتْقًا، قال: وقال هشام بن عمار: حديثي قد روي فلا أبالي من حَمْل الخطأ، وقال ابن عدي: سمعت قُسْطَنْطين يقول: حضرت مجلس هشام، فقال له المستملي: من ذكرت؟ فقال: حدثنا بعض مشايخنا، ثم نعس، فقال المستملي: لا تنتفعون به، فجمعوا له شيئًا فأعطوه فكان بعد ذلك يملي عليهم، وقال ابن وارة: عزمت زمانا أن أمسك عن حديث هشام لأنه كان يبيع الحديث، وقال صالح بن محمَّد: كان يأخذ على الحديث، ولا يحدث ما لم يأخذ، وقال الإسماعيلي عن عبد الله بن محمَّد بن سيار: كان هشام يلقن، وكان يلقن كل شيء ما كان من حديثه.
وكان يقول: أنا قد خرجت هذه الأحاديث صحاحا، وقال الله تعالى:{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} [البقرة: 181] ، وكان يأخذ على كل ورقتين درهمين ويشارط، ولما لمته على التلقين قال: أنا أعرف حديثي، ثم قال لي بعد ساعة: إن كنت تشتهي أن تعلم فأدخل إسنادًا في شيء، فتفقدت الأسانيد التي فيها
قليل اضطراب فسألته عنها فكان يمر فيها، قال المروذي عن أحمد بن حنبل: هشام طياش خفيف
(1)
وقال أبو المستضيء: رأيت هشام بن عمار إذا مشى أطرق في الأرض حياء من الله تعالى، وقال أبو بكر أحمد بن المعلي بن يزيد القاضي: رأيت هشام بن عمار في النوم والمشايخ متوافرون، وهو يكنس المسجد، فماتوا، وبقي هو آخرهم. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال مسلمة: تكلم فيه وهو جائز الحديث، صدوق، وقال أحمد بن أبي الحواري: إذا حدثت في بلد فيه مثل هشام فيجب للحيتي أن تحلق، قال: وقال هشام: نظر يحيى بن معين في حديثي كله إلا حديث سويد بن عبد العزيز فإنه قال: سويد ضعيف، وقد حدث هشام بن عمار، عن ابن لهيعة بالإجازة، وقال أبو زرعة الرازي: من فاته هشام بن عمار يحتاج أن ينزل في عشرة آلاف حديث، روى عنه البخاري أربعة أحاديث، ولد سنة 153، ومات بدمشق آخر المحرم سنة 245، وقيل 4، وقيل 6. اهـ "تت"ج 11 ص 51 - 54، أخرج له البخاري، والأربعة.
2 -
(سهل بن هاشم) بن بلال من ولد أبي سلام الحَبَشي أبو إبراهيم ويقال: أبو زكرياء بن أبي عقيل الواسطي، ثم البيروتي، نزيل دمشق، لا بأس به، من التاسعة. روى عن الأوزاعي، وابن أبي روَّاد، والثوري، وشعبة، وإبراهيم بن أدهم، وإبراهيم بن يزيد الجزري، وغيرهم. وعنه محمَّد بن المبارك الصوري، ومروان بن محمَّد، والهيثم بن خارجة، ودُحيم، وهشام بن عمار، وغيرهم. وقال أبو بكر بن أبي عاصم: ثنا دُحيم، ثنا سهل بن هاشم الواسطي ثقة، وقال الجوزجاني: ثنا أبو مسهر أن سهل بن هاشم حدثه، دمشقي معروف
(2)
، وقال الآجري عن
(1)
وذكر له قصة في اللفظ بالقرآن أنكر عليه أحمد حتى إنه قال إن صلوا خلفه فليعيدوا الصلاة اهـ "تت" ج 11 ص 54.
(2)
هكذا نسخة "تت" و"تك""دمشقي معروف" وهو خبر لمحذوف، أي هو دمشقي معروف.
أبي داود: هو فوق الثقة، ولكنه يخطئ في أحاديث. وهو سهل بن أبي عقيل، وقال أيضا: كان من خيار الناس، روى حديثا عن عطاء، فأخطأ فيه، وقال أبو حاتم: لا بأس به، وقال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أغرب. اهـ "تت" ج 4 ص 259، وهو من أفراد المصنف.
3 -
(الأوزاعي) عبد الرحمن بن عمرو أبو عمرو الدمشقي ثقة حجة -7 - تقدم في 45/ 56.
4 -
(الزهري) محمَّد بن مسلم الإمام الحجة الثبت -4 - تقدم في 1/ 1.
5 -
(عروة) بن الزبير ثقة فقيه -3 - تقدم في 40/ 44.
6 -
(عائشة) رضي الله عنها تقدمت في 5/ 5. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات، أخرجوا لهم إلا هشاما فلم يخرج له (م) وسهلا فانفرد به المصنف، وأنهم ما بين دمشقيين، وهم مَن قبل الزهري، ومدنيين وهم من بعده، والزهري مدني، سكن دمشق أيضًا، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وعائشة من المكثرين السبعة روت [2210]. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عائشة) رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال) لفاطمة بنت أبي حبيش، وقد سألته عن الاستحاضة (إذا أقلبت الحيضة) بالفتح والكسر كما تقدم قريبا في [201](فاتركي الصلاة) لحرمتها في الحيض (وإذا أدبرت) أي الحيضة (فاغتسلي) صرح هنا بالاغتسال، وفيما مضى بغسل
الدم، فيستفاد من الروايتين وجوب الاغتسال، ووجوب غسل الدم، وتقدم تقريره في الحديث السابق.
(تنبيه) حديث عائشة رضي الله عنها هذا متفق عليه، وقد مضى بعض فوائده في الحديث السابق، ويأتي تمام البحث فيه في كتاب الحيض إن شاء الله تعالى. والله أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
203 -
أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا
(1)
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ العَدَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ وَعَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتِ: اسْتُحِيضَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ جَحْشٍ سَبْعَ سِنِينَ، فَاشْتَكَتْ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، وَلَكِنْ هَذَا عِرْقٌ، فَاغْتَسِلِي، ثُمَّ صَلِّي".
رجال هذا الإسناد: سبعة
1 -
(عمران بن يزيد) هو ابن خالد بن يزيد نسب إلى جده، أبو عمر، أو أبو عمرو الدمشقي، صدوق -10 - تقدم في 134/ 201.
2 -
(إسماعيل بن عبد الله) العدوي الدمشقي وقد ينسب إلى جده ثقة -8 - تقدم في 201.
3 -
(الأوزاعي) عبد الرحمن بن عمرو الإمام العلم ثقة ثبت -7 - تقدم في 45/ 56.
(1)
وفي نسخة "أخبرنا".
4 -
(الزهري) محمَّد بن مسلم الحجة الثبت -4 - تقدم في 1/ 1.
5 -
(عروة) بن الزبير المدني ثقة فقيه -3 - تقدم في 40/ 44.
6 -
(عمرة) بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية كانت في حجر عائشة، روت عن عائشة، وأختها لأمها أم هشام بنت حارثة بن النعمان، وحبيبة بنت سهل، وأم حبيبة حمنة بنت جحش، وعنها ابنها أبو الرجال، وأخوها محمَّد بن عبد الرحمن الأنصاري، وابن أخيها يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن، وابن ابنها حارثة بن أبي الرجال، وابن أخيها أبو بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم، وابنه عبد الله ابن أبي بكر، ويحيى، وسعد، وعبد ربه، أولاد سعيد بن قيس الأنصاري، وعروة بن الزبير، وسليمان بن يسار، والزهري، وعمرو ابن دينار، وآخرون.
قال ابن أبي مريم عن ابن معين: ثقة حجة، وقال العجلي: مدنية تابعية ثقة. قال أحمد بن محمَّد بن أبي بكر المقدمي: سمعت ابن المديني ذكر عمرة بنت عبد الرحمن ففخم أمرها، وقال: عمرة أحد
الثقات العلماء بعائشة الأثبات فيها. وذكرها ابن حبان في الثقات، وقال نوح بن حبيب القومسي: من قال: عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة فقد أخطأ، إنما هو ولد سعد بن زرارة وهو أخو أسعد، فأما أسعد فلم يكن له عقب، وإنما الولد لسعد، وإنما غلط الناس؛ لأن المشهور هو أسعد، سمعت ذلك من علي بن المديني، ومن الذي يعرفون نسب الأنصار، قال أبو حسان الزيادي: يقال: ماتت سنة -98 - ، وقيل: ماتت سنة 106 وهي بنت -77 - ، وقيل: 103 وقال ابن حبان: كانت من أعلم الناس بحديث عائشة، وقال ابن المديني عن سفيان:
أثبت حديث عائشة حديث عمرة، والقاسم، وعروة، وقال شعبة عن محمَّد بن عبد الرحمن: قال لي عمر بن عبد العزيز: ما بقي أحد أعلم بحديث عائشة من عمرة، قال شعبة: وكان عبد الرحمن بن القاسم يسألها عن حديث عائشة، وقال ابن سعد: كانت عالمة، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم أن يكتب له أحاديث عمرة. اهـ "تت" ج 12 ص 438 - 439.
7 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها تقدمت في 5/ 5.
لطائف الإسناد
منها: أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأن شيخه ممن انفرد هو به، وإسماعيل أخرج له معه (د ت) والباقون اتفقوا عليهم، وأنهم ما بين دمشقيين وهم إلى الزهري، ومدنيين، وهم الباقون.
ومنها: قوله: عن عروة، وعمرة، عن عائشة، يقدر فيه لفظ "كلاهما" بعد عمرة، فيقول القارئ: عن عروة وعمرة كلاهما عن عائشة، وفيه رواية تابعى، عن تابعي، وتابعية، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عروة، وعمرة) وللبخاري: وعن عمرة، بإعادة الجار، قال الحافظ رحمه الله كذا للأكثر، وفي رواية أبي الوقت، وابن عساكر بحذف الواو، فصار من رواية عروة، عن عمرة، وكذا ذكر الإسماعيلي أن أحمد بن الحسن الصوفي حدثهم به، عن خلف بن سالم، عن معن،
والمحفوظ إثبات الواو، وأن الزهري رواه عن شيخين عروة، وعمرة، كلاهما عن عائشة، وكذا أخرجه الإسماعيلي وغيره من طرق عن ابن أبي ذئب، وكذا أخرجه مسلم من طريق عمرو بن الحارث، وأبو داود من طريق الأوزاعي، كلاهما عن الزهري، وأخرجه مسلم أيضا من طريق الليث عن الزهري عن عروة وحده، ومسلم أيضًا من طريق إبراهيم بن سعد، وأبو داود من طريق يونس كلاهما عن الزهري عن عمرة وحدها، قال الدارقطني: هو صحيح من رواية الزهري عن عروة وعمرة جميعًا. اهـ فتح ج 1 ص 508.
(عن عائشة) رضي الله عنها أنها (قالت: استحيضت) بالبناء للمفعول كما تقدم في الحديث -201 - (أم حبيبة بنت جحش) قال الحافظ رحمه الله: هى مشهورة بكنيتها، وقد قيل اسمها حبيبة، وكنيتها أم حبيب بغير هاء، قاله الواقدي، وتبعه الحربي، ورجحه الدارقطني، والمشهور في الروايات الصحيحة أم حبيبة بإثبات الهاء، وكانت زوج عبد الرحمن بن عوف، كما ثبت عند مسلم من رواية عمرو ابن الحارث. قلت: وهو الآتي للمصنف في -204 - ومن رواية حفص ابن غيلان عن الزهري، وفي -205 - من رواية عمرو بن الحارث عنه.
قال الحافظ: ووقع في الموطأ عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة "أن زينب بنت جحش التي كانت تحت عبد الرحمن ابن عوف كانت تستحاض"، الحديث، فقيل: هو وَهَم، وقيل: بل صواب وأن اسمها زينب، وكنيتها أم حبيبة، وأما كون اسم أختها أم المؤمنين زينب فإنه لم يكن اسمها الأصلي، وإنما كان اسمها برة فغيره النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أسباب النزول للواحدي أن تغيير اسمها كان بعد أن تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، فلعله صلى الله عليه وسلم سماها باسم أختها لكون أختها غلبت عليها الكنية فأمن اللبس، ولهما أخت أخرى اسمها حمنة -بفتح المهملة وسكون الميم بعدها نون- وهي إحدى المستحاضات، وتعسف بعض المالكية فزعم أن اسم كل من بنات جحش زينب، قال: فأما أم المؤمنين
فاشتُهرت باسمها، وأما أم حبيبة فاشتهرت بكنيتها، وأما حمنة فاشتهرت بلقبها، ولم يأت دليل على دعواه بأن حمنة لقب، ولم ينفرد الموطأ بتسمية أم حبيبة زينب، فقد روى أبو داود الطيالسي في مسنده عن ابن أبي ذئب حديث الباب، فقال:"إن زينب بنت جحش"، وقد تقدم توجيهه. اهـ فتح ج 1 ص 508 - 509 (سبع سنين) قيل: فيه حجة لابن القاسم في إسقاطه عن المستحاضة قضاء الصلاة إذا تركتها ظانة أن ذلك حيض، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمرها بالإعادة مع طول المدة، ويحتمل أن يكون المراد بقولها "سبع سنين" بيان مدة استحاضتها مع قطع النظر هل كانت المدة كلها قبل السؤال أوْ لا فلا يكون فيه حجة لما ذكر. اهـ فتح ج 1 ص 509.
(فاشتكلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية الثانية "فاستفتت"، وكذا في الثالثة، وفي الرابعة "سألت" وكلها بمعنى واحد، أي سألته هل هو من الحيض أم لا (فقال رسول الله: ان هذه) أي الاستحاضة المفهومة من قولها "استحيضت"(ليست بالحيضة) هو بفتح الحاء لا غير كما نقله الخطابي عن أكثر المحدثين أو كلهم.
وقال النووي: انه متعين لأنه صلى الله عليه وسلم أراد إثبات الاستحاضة، ونفي الحيض اهـ زهر، وقال السندي بعد ذكر نحو ما تقدم: قلت: والفتح أظهر، لكن يمكن الكسر على أن المعنى هذه الحالة، أو هذه الهيئة ليست بحالة الحيض، أو هيئته، ولكن هذا الدم دم عرق، فالحالة حالة الاستحاضة، فالاستدراك يحسن نظرا إلى لازمه، فليتأمل. اهـ كلام السندي. (ولكن هذا) أي دم الاستحاضة، وإنما ذكّره هنا، وأنثه في الأول نظرا إلى الخبر كما قاله السندي (عرق) أي دم عرق انفجر، ويسمى العاذل
(1)
أو العاذر كما مَرَّ قريبًا (فاغتسلي، ثم صلي) وفي الرواية الآتية "فإذا أدبرت الحيضة فاغتسلي" فبين أن الاغتسال لأجل انقطاع الحيض، لا للاستحاضة، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك إن شاء الله تعالى.
(1)
وسيأتي برقم 213: أنه عرق عاند. ونتكلم عليه هناك إن شاء الله تعالى.
204 -
أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي النُّعْمَانُ، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو مُعَيْدٍ -وَهُوَ حَفْصُ بْنُ غَيْلَانَ- عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتِ: اسْتُحِيضَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ جَحْشٍ امْرَأَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَهِيَ أُخْتُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، فَاسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ وَلَكِنْ هَذَا عِرْقٌ، فَإِذَا أَدْبَرَتِ الْحَيْضَةُ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي، وَإِذَا أَقْبَلَتْ فَاتْرُكِي لَهَا الصَّلَاةَ". قَالَتْ عَائِشَةُ: فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ عنْد كُلِّ صَلَاةٍ وَتُصَلِّي، وَكَانَتْ تَغْتَسِلُ أَحْيَانًا فِي مِرْكَنٍ فِي حُجْرَةِ أُخْتِهَا زَيْنَبَ وَهِيَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِنَّ حُمْرَةَ الدَّمِ لَتَعْلُو الْمَاءَ، وَتَخْرُجُ فَتُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا يَمْنَعُهَا ذَلِكَ مِنَ الصَّلَاةِ.
رجال الإسناد: عشرة
1 -
(الربيع بين سليمان بن داود) الجيزي المرادي أبو محمَّد المصري ثقة -11 - تقدم في 122/ 173.
2 -
(عبد الله بن يوسف) أبو محمَّد التنيسي ثقة -10 - تقدم في 129/ 192.
3 -
(الهيثم بن حميد) الغساني مولاهم، أبو حميد، ويقال: أبو الحارث الدمشقي صدوق رمي بالقدر من السابعة. روى عن المطعم بن المقدام، ويحيى بن الحارث، والأوزاعي، وثور بن يزيد الحمصي، وداود بن أبي هند، وأبي مُعَيد، حفص بن غيلان، وغيرهم.
وعنه الوليد بن مسلم، ومحمد بن المبارك الصوري، ومروان بن محمَّد، ومعلي بن منصور، وعبد الله بن يوسف التنيسي، وغيرهم. قال عثمان الدارمي عن دحيم: كان أعلم الأولين والآخرين بقول مكحول، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: لا أعلم إلا خيرا، وقال الحسين بن الحسن الرازي عن ابن معين: لا بأس به، وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة، وقال أبو داود: قدريّ ثقة، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال معاوية بن صالح: قال لي أبو مسهر: كان ضعيفًا قدريًا، وقال محمَّد بن إسحاق الصاغاني، عن أبي مسهر، حدثنا الهيثم بن حميد، وكان ضعيفًا، وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: أخبرني أبو محمَّد التيمي، ثنا أبو مسهر، ثنا الهيثم بن حميد، وكان صاحب كتب، ولم يكن من الأثبات، ولا من أهل الحفظ، وقد كنت أمسكت عن الحديث عنه استضعفته، وقال أبو زرعة الدمشقي: حدثني
محمود بن خالد، عن أبي مسهر، حدثني محمَّد بن مهاجر أنه يعرف الهيثم بطلب العلم، قال أبو زرعة: فأعلم أهل دمشق بحديث مكحول
الهيثم بن حميد، ويحيى بن حمزة، وقال أبو القاسم: بلغني عن جنيد بن حكيم، ثنا محمود بن خالد، قال كان مروان بن محمَّد يقدم الهيثم على يحيى بن حمزة في الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات. اهـ "تت" ج 11 ص 92 - 93، أخرج له الأربعة.
4 -
(النعمان)
(1)
بن المنذر الغساني ويقال اللخمي أبو الوزير الدمشقي، صدوق رمي بالقدر من السادسة، روى عن عطاء، ومجاهد، والزهري، وطاووس، وعبدة بن أبي لبابة ومكحول، وغيرهم. وعنه محمَّد بن الوليد الزبيدي، وهو من أقرانه، وسويد بن عبد العزيز، ومحمد ابن شعيب بن شابور، والهيثم بن حميد الغساني، ويحيى بن حمزة الحضرمي، ويزيد بن السمط، ومحمد بن يزيد الواسطي، وآخرون.
قال ابن سعد: كان كثير الحديث، وقال دحيم: ثقة إلا أنه يُرمَى بالقدر، وقال الآجري عن أبي داود: ضرب أبو مسهر على حديث النعمان بن المنذر، فقال له يحيى بن معين: وفقك الله تعالى، قال أبو داود: كان داعية في القدر وضع كتابا يدعو فيه إلى القدر، وقال أبو زرعة الدمشقي: ثقة، وقال هشام بن عمار: ذاك يرى القدر، وقال النسائي عقب حديثه في الحيض: ليس بذاك القوي، وذكره ابن حبان في الثقات، قال ابن سعد وجماعة: مات سنة -132 - اهـ "تت" ج 10 ص 456 - 457، أخرج له أبو داود، والمصنف.
5 -
(الأوزاعي) عبد الرحمن بن عمرو الإمام الشهير الدمشقي ثقة إمام -7 - تقدم في 45/ 56.
6 -
(أبو مُعَيد) مصغرًا (وهو حفص بن غَيْلان) بمعجمة بعدها تحتانية
(1)
قوله ابن المنذر، وقع في تحفة الأشراف ج 12 ص 419
…
: عن النعمان بن راشد بدلا من ابن المنذر وأظنه تصحيفا، فليحرر.
ساكنة الهمداني ويقال: الرعيني -مصغرا نسبة إلى ذي رُعَين من أقيال اليمن- الدمشقي. روى عن سليمان بن موسى، والزهري، ومكحول، وطاووس، وبلال بن سعد، وغيرهم. وعنه هشام بن الغاز، وهو من أقرانه، وعمرو بن أبي سلمة، والهيثم بن حميد، والوليد بن مسلم، وعبد الله بن يوسف التنيسي، وغيرهم. قال ابن معين، ودحيم: ثقة، وقال ابن معين، والنسائي: ليس به بأس، وقال محمَّد بن المبارك الصوري: حدثنا الهيثم بن حميد، عن حفص بن غيلان، وكان ثقة، وقال أبو زرعة: صدوق، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به.
وقال ابن حبان: من ثقات أهل الشام وفقهائهم، وقال ابن عساكر: بلغني عن إسحاق بن سيار النصيبي، أنه قال: أبو معيد ضعيف الحديث، وقال ابن عدي: سمعت عبد الله بن سليمان بن الأشعث يقول: حفص بن غيلان ضعيف، قال ابن عدي له حديث كثير يروي كل واحد -يعني من أصحابه- نسخة، وهو عندي لا بأس به صدوق، وقال الحاكم: من ثقات الشاميين الذين يجمع حديثهم، وقال الآجري عن أبي داود كان يرى القدر ليس بذاك، دمشقي. اهـ "تت"ج 2 ص 418 - 419 وفي "ت" صدوق فقيه رمي بالقدر -8 - انفرد به المصنف وابن ماجه.
7 -
(الزهري) محمَّد بن مسلم المدني ثقة حجة -4 - تقدم في 1/ 1.
8 -
(عروة) بن الزبير ثقة فقيه -3 - تقدم في 40/ 44.
9 -
(عمرة بنت عبد الرحمن) الأنصارية ثقة -3 - تقدمت في 134/ 203.
10 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها تقدمت في 5/ 5.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سباعياته كسابقه، وأن رواته ثقات على كلام في بعضهم، وأنهم ما بين مصريين، وهما الربيع، وعبد الله، وشاميين، وهم إلى الزهري، ومدنيين وهم الباقون. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عائشة) رضي الله عنها أنها (قالت: استحيضت أم حبيية بنت جحش، امرأة عبد الرحمن بن عوف) بالرفع بدل من أم حبيبة (وهي أخت زينب بنت جحش) أم المؤمنين رضي الله عنها، وقد تقدم أن مدة استحاضتها سبع سنين (فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي سألته أن يبين لها حكم الاستحاضة يقال: أفتى العالمُ: إذا بَيَّنَ الحكم، واستفتيته: سألته أن يفتي، والفَتْوَى بالواو تفتح فاؤه، والفُتيا بالياء تضم فاؤه: اسم منه، والجمع الفتاوي بكسر الواو على الأصل، وقيل: يجوز الفتح للتخفيف. أفاده في المصباح.
(فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذه) أي الحالة التي أصابتها (ليست بالحيضة) تقدم الكلام في ضبطها في الحديث السابق (ولكن هذا عرق) أي دم عرق، وتقدم وجه التذكير والتأنيث هناك (فإذا أدبرت الحيضة فاغتسلي وصلي، وإذا أقبلت) أي أتت أيام حيضتك، فيكون ردًا إلى العادة، أو أن المراد ظهرت الحال التي تكون للحيض، من قوة الدم في اللون، فيكون ردا إلى التمييز، ويجوز كسر الحاء على إرادة الحالة، وفتحها على إرادة المرة. أفاده في المنهل ج 3 ص 78 - 79 (فاتركي لها الصلاة) فيه دليل على تحريم الصلاة على الحائض (قالت عائشة) رضي الله عنها (فكانت) أم حبيبة (تغتسل لكل صلاة، وتصلي) أي من عندها لا بأمره صلى الله عليه وسلم؛ لأن قوله "فاغتسلي" مطلق أمر بالاغتسال فلا يدل على التكرار، وسيأتي تحقيق الكلام عليه في المسائل (وكانت تغتسل أحيانا في
مركن) بكسر الميم، كمنْبَر، إناء معروف اهـ "ق" وفي المعجم الأوسط: المركن: وعاء تغسل فيه الثياب اهـ (في حجرة أختها زينب) والحُجْرة وزان غُرْفة: البيت، والجمع حُجَر، وحُجُرَات كغرف وغرفات (وهي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم) جملة حالية من أختها (حتى إن حمرة الدم لتعلوا الماء) لكثرتها (وتخرج) إلى المسجد (فتصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يمنعها ذلك) أي الدم الخارج بكثرة (من الصلاة) لأنه ليس من الحيض.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث عائشة رضي الله عنها متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف: أخرجه في هذا الباب برقم 203، 204، 205، 206، 207، وفي الباب التالي برقم 209، 210. وفي الكبرى 126/ 211، 212، 213.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (خ م دت ق) فأخرجه (خ) في الطهارة -34 - عن إبراهيم بن المنذر، عن مَعْن، عن ابن أبي ذئب، وأخرجه (م) فيه 48/ 5 عن محمَّد بن جعفر بن زياد الوركاني، عن إبراهيم بن سعد، وفي 48/ 6 عن محمَّد بن المثنى، عن سفيان بن عيينة، وفي 48/ 4 عن محمَّد بن سلمة، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، وعن إسحاق بن إبراهيم، وعبد بن حميد كلاهما عن
عبد الرزاق، عن معمر- خمستهم عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها.
وأخرجه أبو داود فيه 110/ 2 عن عبد الغني بن أبي عقيل، ومحمد ابن سلمة كلاهما عن ابن وهب به، وفي 111/ 4 عن محمَّد بن إسحاق المسيَّبي، عن أبيه، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عروة، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها.
قال الحافظ أبو الحجاج المزي رحمه الله: هكذا رواه أبو الحسن بن العبد، وأبو سعيد بن الأعرابي، وأبو بكر بن داسة، وغير واحد عن أبي داود، ووقع في رواية الخطيب عن الزهري، عن عروة، وعمرة، عن عائشة، وكذلك ذكره أبو القاسم -يعني ابن عساكر- في أول ترجمة الزهري، عن عروة، عن عائشة، ولم يذكره في هذه الترجمة. اهـ تحفة الأشراف 120 ص 413.
قال الجامع: ما وقع في رواية الخطيب هو الذي في شرح المنهل.
وأخرجه (ت) فيه عن قتيبة، عن الليث، عن ابن شهاب، عن عروة عن عائشة رضي الله عنها
وأخرجه (ق) فيه 116 عن محمَّد بن يحيى، عن أبي المغيرة، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن عروة، وعمرة، عنها.
المسألة الرابعة: في مذاهب العلماء في وجوب الاغتسال على المستحاضة لكل صلاة:
ذهب الجمهور إلى أنه لا يجب عليها الغسل لكل صلاة إلا المتحيرة، بل الواجب عليها الوضوء لكل صلاة، وهو مروي عن علي، وابن مسعود، وابن عباس، وعائشة رضي الله عنهم، وبه قال عروة بن
الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو حنيفة، ومالك، وأحمد.
وذهب بعضهم إلى إيجاب الغسل عليها لكل صلاة، وممن روي عنه هذا ابن عمر، وابن الزبير، وعطاء بن أبي رباح، وروي أيضا عن علي، وابن عباس، رضي الله عنهم، وروي عن عائشة أنها قالت: تغتسل كل يوم غسلًا واحدًا، وعن الحسن، وابن المسيب، أنها تغتسل من صلاة الظهر إلى الظهر دائما. أفاده النووي في شرح المهذب ج 2 ص 536.
ودليل الجمهور كما قال النووي رحمه الله أن الأصل عدم الوجوب،
فلا يجب إلا ما ورد الشرع به ولم يصح
(1)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمرها بالغسل إلا مرة واحدة عند انقطاع الحيض، وهو قوله صلى الله عليه وسلم "إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي"، وليس في هذا ما يقتضي التكرار، وأما الأحاديث الواردة في سنن أبي داود، والبيهقي، وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بالغسل لكل صلاة، فليس فيها شيء ثابت
(2)
وقد بين البيهقي ومَن قبله ضعفها، وإنما صح في هذا ما رواه البخاري، ومسلم في صحيحهما، أن أم حبيبة بنت جحش رضي الله عنها استحيضت، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما ذلك عرق، فاغتسلي، ثم صلي" فكانت تغتسل عند كل صلاة، قال الشافعي رضي الله عنه: إنما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل، وتصلي، وليس فيه أنه أمرها أن تغتسل لكل صلاة، قال: ولا أشك أن غسلها كان تطوعًا غير ما أمرت به، وذلك واسع لها، هذا لفظ الشافعي رحمه الله، وكذا قاله شيخه سفيان بن عيينة، والليث بن سعد وغيرهما. اهـ المجموع ج 2 ص 436 بتصرف.
وقال الحافظ رحمه الله بعد ذكر كلام الشافعي بنحو ما ذكره النووي: ما نصه: وكذا قال الليث بن سعد في روايته عند مسلم: لم يذكر ابن شهاب أنه صلى الله عليه وسلم -أمرها أن تغتسل لكل صلاة، ولكنه شيء فعلته هي.
ثم قال: ويؤيده ما رواه أبو داود من طريق عكرمة "أن أم حبيبة استحيضت، فأمرها صلى الله عليه وسلم أن تنتظر أيام أقرائها ثم تغتسل وتصلي، فإذا رأت شيئًا من ذلك توضأت وصلت". واستدل المهلبي بقوله لها "هذا عرق" على أنه لم يوجب عليها الغسل لكل صلاة لأن دم العرق لا
(1)
هذا غير صحيح، بل الحديث صحيح، كما سنذكره.
(2)
سيأتي أنها ثابتة من حديث الزهري من رواية سليمان بن كثير، وابن إسحاق عنه، ومن رواية يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، ومن رواية يزيد بن الهاد، عن أبي بكر بن محمَّد، عن عمرة، فلا معنى للطعن فيها.
يوجب الغسل، وأما ما وقع عند أبي داود من رواية سليمان بن كثير، وابن إسحاق، عن الزهري في هذا الحديث "فأمرها بالغسل لكل صلاة" فقد طعن الحفاظ في هذه الزيادة لأن الأثبات من أصحاب الزهري لم يذكروها، وقد صرح الليث كما تقدم عند مسلم بأن الزهري لم يذكرها لكن روى أبو داود من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن زينب بنت أبي سلمة في هذه القصة "فأمرها أن تغتسل عند كل صلاة" فيحمل الأمر على الندب جمعا بين الروايتين، هذه ورواية عكرمة، وقد حمله الخطابي على أنها كانت متحيرة وفيه نظر لما تقدم من رواية عكرمة أنه أمرها أن تنتظر أيام أقرائها، ولمسلم من طريق عراك بن مالك، عن عروة في هذه القصة "فقال لها: امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك"، ولأبي داود وغيره من طريق الأوزاعي، وابن عيينة، عن الزهري في حديث الباب نحوه، لكن استنكر أبو داود هذه الزيادة في حديث الزهري، وأجاب بعض من زعم أنها كانت غير مميزة بأن قوله "فأمرها أن تغتسل لكل صلاة" أي من الدم الذي أصابها لأنه من إزالة النجاسة، وهي شرط في صحة الصلاة، وقال الطحاوي: حديث أم حبيبة منسوخ بحديث فاطمة بنت أبي حبيش، أي لأن فيه الأمر بالوضوء لكل صلاة لا الغسل، والجمع بين الحديثين يحمل الأمر في حديث أم حبيبة على الندب أولى. اهـ فتح ج 1 ص 508 - 509.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله صاحب الفتح من حمل الأمر على الندب هو الأرجح عندي، لصحة الحديثين، فيكون الأمر بالغسل مصروفًا عن الوجوب إلى الندب بحديث الأمر بالوضوء، وأما تضعيف البيهقي وغيره له فقد أجاد المحقق ابن التركماني في الجوهر النقي في رده، ولنذكر كلامه رحمه الله تعالى، مع كلام البيهقي رحمه الله.
أخرج البيهقي بسنده رحمه الله عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن أبي
بكر بن محمَّد، عن عمرة، عن عائشة أن أم حبيبة استحيضت فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك؟ فقال:"إنها ليست بحيضة، ولكنها ركضة من الرحم فلتنظر قدر أقرائها التي كانت تحيض فتترك الصلاة، ثم تغتسل عند كل صلاة، وتصلي".
قال البيهقي: قال بعض مشايخنا خبر ابن الهاد غير محفوظ.
فرد ذلك ابن التركماني بقوله: إن أراد غير محفوظ عنه فليس كذلك فإن البيهقي أخرجه من طريق ابن أبي حازم عنه، وأخرجه النسائي من طريق بكر بن مضر عنه، وأخرجه أبو عوانة في صحيحه من طريق
عبد العزيز الدراوردي عنه. فهؤلاء ثلاثة رووه عنه. وإن أراد أنه غير محفوظ منه فليس كذلك أيضا لأن ابن الهاد من الثقات المحتج بهم في الصحيح.
ثم أسند البيهقي من طريق أبي داود بسنده عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة:"استحيضت أم حبيبة فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالغسل لكل صلاة". ثم قال البيهقي: رواية ابن إسحاق عن الزهري، غلط لمخالفتها سائر الرواة عن الزهري.
فرده ابن التركماني بقوله: المخالفة على وجهين: مخالفة ترك، ومخالفة تعارض، وتناقض، فإن أراد مخالفة الترك فلا تناقض في ذلك، وإن أراد مخالفة التعارض فليس كذلك، إذ الأكثر فيه السكوت عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لها بالغسل عند كل صلاة، وفي بعضها أنها فعلته هي، وقد تابع ابن إسحاق سليمان بن كثير، كما ذكره البيهقي قريبا، وخبر ابن الهاد المتقدم شاهد لذلك.
ثم قال البيهقي: وكيف يكون الأمر بالغسل عند كل صلاة ثابتا من حديث عروة، وقد أخبرنا أبو أحمد، فذكر بسنده عن عروة، قال:
ليس على المستحاضة إلا أن تغتسل غسلا واحدا ثم تتوضأ بعد ذلك للصلاة، وأسند عن عائشة نحوه.
قال ابن التركماني: كأنه ضعف الأمر بالغسل لكل صلاة بمخالفة فتوى عروة، وعائشة له، وقد عرف من مذهب المحدثين أن العبرة لما رَوَى الراوي، لا لرأيه.
ثم ذكر البيهقي من طريق الحسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير عن
أبي مسلم، أخبرتني زينب بنت أبي سلمة أن امرأة كانت تهراق الدم وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تغتسل عند كل صلاة، ثم قال: خالفه هشام الدستوائي، فأرسله، ثم ذكره من جهة هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، أن أم حبيبة سألت
…
الخ.
قال ابن التركمانى: في تسمية هذا مرسلا نظر، وعلى تقدير تسليمه قد عرف ما في الإرسال مع زيادة الثقة للإسناد. إلى آخر كلامهما رحمهما الله. فظهر بهذا أن حديث الأمر بالغسل صحيح، وأن العلل
التي ذكروها غير مقبولة على قواعد المحدثين.
ولقد أجاد الحافظ الناقد أبو محمَّد بن حزم في سَوْق الأحاديث في كتابه "المحَلَّى"، فقال: حدثنا حُمَام بن أحمد، ثنا عباس بن أصبغ، ثنا محمَّد بن عبد الملك بن أيمن، ثنا عَلان، ثنا محمَّد بن بشار، ثنا وهب ابن جرير بن حازم، ثنا هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة -وهو ابن عبد الرحمن بن عوف- عن أم حبيبة بنت جحش: أنها كانت تهراق الدم وأنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تغتسل لكل صلاة، وبه إلى ابن أيمن: ثنا أحمد بن محمَّد البرتي القاضي، ثنا عبد
الوارث بن سعيد التَّنُّوري، عن الحسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، قال: أخبرتني زينب بنت أبي
سلمة المخزومي: "أن امرأة كانت تهراق الدم، وكانت تحت عبد الرحمن ابن عوف، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تغتسل عند كلا صلاة، وتصلي". وبه إلى ابن أيمن: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، حدثني ابن سلمة، عن محمَّد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن أم حبيبة بنت حجش:"أنها استحيضت فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغسل عند كل صلاة".
حدثنا عبد الله بن ربيع، ثنا ابن السليم، ثنا ابن الأعرابي، ثنا أبو داود، ثنا هناد بن السري، عن عبدة بن سليمان، عن محمَّد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها بالغسل لكل صلاة.
حدثنا عبد الله بن ربيع، ثنا عمر بن عبد الملك الخولاني، ثنا محمَّد بن بكر، ثنا أبو داود، ثنا وهب بن بقية، ثنا خالد بن إسماعيل، عن سهيل بن أبي صالح، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن أسماء بنت عميس، قالت: يا رسول الله إن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتغتسل للظهر والعصر غُسلًا واحدًا، وتغتسل للمغرب والعشاء غسلا واحدًا، وتغتسل للفجر غُسلًا، وتتوضأ فيما بين ذلك".
قال: فهذه آثار في غاية الصحة رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع صواحب: عائشة أم المؤمنين، وزينب بنت أم سلمة، وأسماء بنت عميس، وأم حبيبة بنت جحش، ورواها عن كل واحدة من عائشة، وأم حبيبة، عروة، وأبو سلمة، ورواه أبو سلمة عن زينب بنت أم سلمة، ورواه عروة عن أسماء. اهـ "المحلى" ج 2 ص 211 - 213.
قال الجامع: وقد تقدم في رواية البيهقي أنه ثابت أيضا من رواية ابن الهاد، عن أبي بكر بن محمَّد، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها، وهذه الرواية تأتي للمصنف في -209 - والحاصل أن الحديث ثابت،
فوجب القول به، وأما تغليط الحفاظ كما ادعاه البيهقي، ودعوى النسخ كما قال به الطحاوي، فغير صحيح، بل الأحسن الجمع بين الأحاديث بحمل الأمر على الندب كما هو رأي الجمهور، والله أعلم، وسيجيء مزيد إيضاح للمسألة في المسألة السادسة في الحديث رقم -208 - إن شاء الله تعالى.
المسألة الخامسة: عَدَّ في الفتح المستحاضات من الصحابيات في زمن النبي صلى الله عليه وسلم عشرًا، بنات جحش الثلاثة على ما تقدم، وفاطمة بنت أبي حبيش المتقدمة، وسودة بنت زمعة، وحديثها عند أبي داود معلقا، وابن خزيمة موصولا، وأم سلمة وحديثها في سنن سعيد بن منصور، وأسماء بنت عميس، رواه الدارقطني، وهو في أبي داود، لكن على التردد، هل هي عنها، أو عن فاطمة بنت أبي حبيش؟، وسهلة بنت سهيل ذكرها أبو داود أيضا، وأسماء بنت مرثد، ذكرها البيهقي وغيره، وبادية بنت غيلان، ذكرها ابن منده، وروى البيهقي والإسماعيلي أن زينب ابنة أم سلمة استحيضت، لكن الحديث في أبي داود من حكايته زينب عن غيرها، وهو أشبه، فإنها كانت في زمنه صلى الله عليه وسلم صغيرة لأنه دخل على أمها في السنة الثالثة، وزينب ترضع، وقد كملت عشرًا بحذف زينب بنت أبي سلمة، انتهى. وللزرقاني على الموطأ (من الرجز):
قَدِ اسْتُحيضَتْ فِي زَمَان المُصْطفَى
…
بَنَاتُ جَحْشٍ سَهْلَةٌ وَبَاديَهْ
وَهنْدُ أَسْمَا سَوْدَةٌ وَفَاطَمَهْ
…
وَبنْتُ مَرْثَدٍ رَوَاهَا الراَّوِيَهْ
اهـ شرح الزرقاني ج 1 ص 127 وما قاله أحسن مما في نظم السيوطي رحمه الله
(1)
.
(1)
ونظمه هكذا: قَد اسْتُحِيضَت فِي زَمَان المصْطَفَي
…
تسِعُ نسَاء قَدْ رَوَاهَا الراَّويَهْ
بَنَاتُ جَحْش سَودَةٌ وفَاطمَةُ
…
زَيْنَبُ أسْمَا سَهلَةٌ وَبَاديَهْ
فعدّ بنت أبي سلمة، وأسقط أمها وبنت عميس أو بنت مرثد لأنه ذكر أسماء واحدة وهما ثنتان، فالأولى ما قال الزرقاني.
205 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ وَعَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ خَتَنَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَحْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، اسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِينَ، اسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، وَلَكِنْ هَذَا عِرْقٌ، فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي".
رجال الإسناد: سبعة
1 -
(محمَّد بن سلمة) المرادي أبو الحارث المصري ثقة ثبت -11 - تقدم في 19/ 20.
2 -
(ابن وهب) هو عبد الله المصري ثقة حافظ -9 - تقدم في 9/ 9.
3 -
(عمرو بن الحارث) المصري ثقة فقيه -7 - تقدم في 63/ 79.
وأما الباقون فتقدم الكلام فيهم في السند السابق. وكذا تقدم شرح الحديث والمسائل المتعلقة به.
(تنبيه) قوله: "ختنة رسول الله صلى الله عليه وسلم" تأنيث خَتَن بفتحتين، قال الفيّومي رحمه الله: الختن بفتحتين كل من كان من قبل المرأة كالأب، والأخ، والجمع أخْتان، وختن الرجل عند العامة زوج ابنته، وقال الأزهري: الختن أبو المرأة، والختنة أمها، فالأختان من قبل المرأة، والأحماء من قبل الرجل، والأصهار يعمهما، ويقال: المخاتنة: المصاهرة من الطرفين، يقال: خاتنهم: إذا صاهرهم. اهـ مصباح.
206 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتِ: اسْتَفْتَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ جَحْشٍ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أُسْتَحَاضُ، فَقَالَ:"إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ، فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي". فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ.
رجال الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة) بن سعيد البغلاني ثقة ثبت -10 - تقدم في 1/ 1.
2 -
(الليث) بن سعد المصري الإمام ثقة ثبت -7 - تقدم في 31/ 35. وأما الباقون فتقدم الكلام عليهم قريبًا، وكذا شرح الحديث.
207 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ سَأَلَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الدَّمِ؟ قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: رَأَيْتُ مِرْكَنَهَا مَلآنَ دَمًا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"امْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيْضَتُكِ، ثُمَّ اغْتَسِلِي".
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ مَرَّةً أُخْرَى، وَلَمْ يَذْكُرْ جَعْفَرًا.
رجال الإسناد: سبعة
1 -
(قتيبة) تقدم في في السند الماضي.
2 -
(الليث) بن سعد تقدم في السند الماضي أيضا.
3 -
(يزيد بن أبي حبيب) واسم أبيه سُوَيد، الأزدي مولاهم أبو رجاء المصري، وقيل غير ذلك في ولائه. روى عن عبد الله بن الحارث بن جَزْء الزبيدي، وأبي الطفيل، وأسلم بن يزيد أبي عمران، وإبراهيم بن عبد الله بن حنين، وغيرهم. وعنه سليمان التيمي، ومحمد بن إسحاق، وزيد بن أبي أنيسة، وعمرو بن الحارث، وعبد الحميد بن جعفر، وعبد الله بن عياش القتباني، وحيوة بن شريح، وسعيد بن أبي أيوب، وابن لهيعة، والليث بن سعد، ويحيى بن أيوب المصريون، وآخرون.
قال ابن سعد: كان مفتي أهل مصر في زمانه، وكان حليما عاقلا، وكان أول من أظهر العلم بمصر، والكلام بالحلال والحرام، ومسائل، وقال الليث: يزيد بن أبي حبيب سيدنا وعالمنا، وقال الآجري عن أبي داود: لم يسمع من الزهري، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. مات سنة -128 - ، وقال غيره: بلغ زيادة على -75 - سنة.
قال الحافظ: وفيها أرخه ابن يونس، وقال: روى عنه الأكابر من أهل مصر ثم روى عن ابن لهيعة أنه ولد سنة -53 - وقال البخاري: قال يحيى بن بكير: هو ابن قيس، ويقال ابن سويد، وله أخ اسمه خليفة، وسئل موسى الجهني أيهما أحب؟ فقال: يزيد، قال: وسئل أبو زرعة عن يزيد؟ فقال: مصري ثقة، وقال العجلي: مصري تابعي
ثقة، وقال ابن أبي مريم عن أبيه: يزيد بن أبي حبيب، عن عقبة بن عامر مرسلا، وقال الليث: ثنا يزيد بن أبي حبيب، وعبيد الله بن أبي جعفر وهما جَوْهَريَّا البلد، وقال ابن وهب لوجعلا في ميزان ما رجح أحدهما على الآخر. اهـ "تت" ج 11 ص 318 - 319 وفي "ت" ثقة فقيه يرسل -5 - أخرج له الجماعة.
4 -
(جعفر بن ربيعة) بن شرحبيل بن حسنة المصري ثقة -5 - تقدم في 122/ 173.
5 -
(عراك بن مالك) الغفاري الكناني المدني. روى عن ابن عمر، وأبي هريرة، وعائشة، وزينب بنت أبي سلمة، وحفصة بنت عبد الرحمن ابن أبي بكر، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وعروة بن الزبير، وأبي بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وابنه عبد الملك ابن أبي بكر، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، ونوفل بن معاوية الديلي، والزهري، وهو أصغر منه وروى عنه ابناه خثيم، وعبد الله، وسليمان ابن يسار، وهو من أقرانه، والحكم بن عتيبة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ويزيد ابن أبي حبيب المصري، وزياد بن أبي زياد مولى ابن عباس، وجعفر بن ربيعة المصري.، وبكير بن الأشج، ومكحول الشامي، وأبو الغصن ثابت بن قيس، وعقيل بن خالد، وعبد العزيز ابن عمر بن عبد العزيز.
قال العجلي: شامي تابعي ثقة من خيار التابعين، وقال أبو زرعة، وأبو حاتم: ثقة، وقال أيوب بن سود عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: ما كان أبي يعدل بعراك بن مالك أحدًا، وقال أبو الغصن: رأيته يصوم الدهر، وقال الزبير بن بكار عن محمَّد بن الضحاك، عن
المنذر بن عبد الله: أن عراك بن مالك كان من أشد أصحاب عمر بن عبد العزيز على بني مروان في انتزاع ما حازوا من الفيء والمظالم من أيديهم، فلما ولي يزيد بن عبد الملك ولى عبد الواحد البصري على الدينة فقرب عراكا، وقال صاحب الرجل الصالح، وكان يجلس معه على سريره، فبينما هو يوما معه إذ أتاه كتاب يزيد أن أبعث مع عراك حرسيا حتى ينزله دَهْلَك
(1)
وخذ من عراك حمولته، فقال عبد الواحد لحرسي خذ بيد عراك فابتع من ماله راحلة ثم توجه إلى دهلك حتى تقره بها، ففعل الحرسي ذلك وما تركه يصل إلى أمه، قال: وكان أبو بكر بن حزم قد نفى الأحوص الشاعر إلى دهلك فلما ولي يزيد بن عبد الملك أرسل إلى الأحوص فأقدمه عليه فمدحه الأحوص، فأكرمه، وقال ضمام بن إسماعيل، عن عقيل بن خالد: كنت بالمدينة في الحرس فلما صليت العصر إذ برجل يتخطى الناس حتى دنا من عراك بن مالك فلطمه حتى وقع، وكان شيخًا كبيرًا ثم جر برجله ثم انطلق به حتى حصل في مركب في
(2)
البحر إلى دهلك فكان أهل دهلك يقولون: جزى الله عنا يزيد خيرًا أخرج إلينا رجلا علمنا الله الخير على يديه.
قال ابن سعد وغيره: مات بالمدينة في خلافة يزيد بن عبد الملك. قال الحافظ: فإن صح هذا فمقتضاه أنه لم تطل إقامته بدهلك ولم أر من صرح بأنه مات بالمدينة غير ابن سعد
(3)
وكلهم قالوا: مات في زمن يزيد ابن عبد الملك. وقال أحمد بن حنبل فيما روى ابن أبي حاتم في المراسيل عن الأثرم وذكر صاحب خالد بن أبي الصلت، عن عراك، سمعت عائشة مرفوعا "حولوا مقعدتي إلى القبلة"
…
فقال: مرسل، عراك، ابن مالك من أين سمع من عائشة؟ إنما يروى عن عروة، هذا خطأ، ثم
(1)
دهلك: كجعفر جزيرة بين بر اليمن وبر الحبشة. اهـ ق.
(2)
هكذا نسخة "تت" و"تك""في مركب"، ولعل الصواب "حتى حصل مركبا" فليحرر.
(3)
قال الجامع: هذا يناقض قوله أولا: قال ابن سعد وغيره، بالعطف فيحرر.
قال: من يروي هذا؟ قلت: حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء، فقال: قال غير واحد: عن خالد الحذاء ليس فيه سمعت، وقال غير واحد أيضا عن حماد بن سلمة ليس فيه سمعت، وقال أحمد في موضع آخر أحسن ما روي في الرخصة -يعني في استقبال القبلة- حديث عراك، وإن كان مرسلا، فإن مخرجه حسن، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال موسى بن هارون: لا نعلم لعراك سماعا من عائشة. اهـ "تت" ج 7 ص 172 - 174 وفي "ت" ثقة فاضل من الثالثة، أخرج له الجماعة.
6 -
(عروة) بن الزبير أحد الفقهاء السبعة المدني ثقة فقيه -3 - تقدم في 40/ 44.
7 -
(عائشة) رضي الله عنها تقدمت في 5/ 5. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سباعياته، وأن رواته كلهم ثقات، قد أخرجوا لهم، وهم ما بين مصريين، وهم إلى جعفر، ومدنيين وهم الباقون، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وفيه عائشة من المكثرين السبعة، وتقدم هذا
كله غير مرة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عائشة) رضي الله عنها (أن أم حبيية) تقدم الخلاف في اسمها قريبا (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدم) أي حكم الدم المستمر (قالت عائشة رضي الله عنه: رأيت مركنها) بكسر فسكون: إجانة تُغسل فيها الثياب (ملآن) قال السندي: وفي بعض النسخ ملآى، وكذا في مسلم
جاء بالوجهين، قال النووي: وكلاهما صحيح، التذكير على اللفظ، والتأنيث على المعنى لأنه إجانة. اهـ، والإجانة بكسر الهمزة، وتشديد الجيم: إناء يغسل فيه الثياب، والجمع أجاجين، والإنجانة لغة
تمتنع الفصحاء من استعمالها. اهـ المصباح.
وكلام عائشة هذا معترض بين السؤال والجواب (فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم امكثي قدر ما كانت تحبسك) أي تمنعك (حيضتك) أي قدر الأيام التي كانت الحيضة تعتادك فيها فتمنعك عن الصلاة، وهذا فيه إشارة إلى أنها مميزة حيضها (ثم) إذا مضى قدرها (فاغتسلي) لانقضاء مدة الحيض.
قال المصنف (أخبرنا قتيبة) بن سعيد بهذا الحديث (مرة أخرى) أي وقتا آخر، يقال: فعلت ذلك مرة، أي تارة، والجمع مرات، ومرار. قاله في المصباح (ولم يذكر جعفرا) يعني أنه أسقطه من السند، فقال:
عن يزيد، عن عراك.
والحاصل أن قتيبة حدث بهذا الحديث مرتين مرة بزيادة جعفر، ومرة بإسقاطه، فيكون مما رواه يزيد عن عراك بواسطة جعفر، ثم أخذه عنه بلا واسطة، وهذا هو الظاهر من كلام النسائي، وأما ما ذكره الشيخ الشنقيطي ترديدا بقوله: إما أن يكون سهوًا منه فبعيد، لأننا إذا قلنا يحتمل السهو في هذا، نقول أيضا يحتمل في الزيادة، فيكون الحديث غير محفوظ، وهذا بعيد من صنيع المصنف، فالأولى ما قررناه. والله أعلم.
وأما المسائل فقد تقدمت في الماضي، فارجع إليها.
208 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها تَعْنِي: أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تُهَرَاقُ الدَّمَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَفْتَتْ لَهَا أُمُّ سَلَمَةَ
رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "لِتَنْظُرْ عَدَدَ اللَّيَالِي وَالأَيَّامِ الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُ مِنَ الشَّهْرِ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهَا الَّذِي أَصَابَهَا فَلْتَتْرُكِ الصَّلَاةَ قَدْرَ ذَلِكَ مِنَ الشَّهْرِ، فَإِذَا خَلَّفَتْ ذَلِكَ فَلْتَغْتَسِلْ ثُمَّ لْتَسْتَثْفِرْ، ثُمَّ لْتُصَلِّ".
رجال الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة بن سعيد) ثقة ثبت -10 - تقدم في 1/ 1.
2 -
(مالك) بن أنس الإمام العلم ثقة حجة -7 - تقدم في 7/ 7.
3 -
(نافع) مولى ابن عمر المدني أحد الأعلام ثقة ثبت -3 - تقدم في 12/ 12.
4 -
(سليمان بن يسار) المدني مولى ميمونة رضي الله عنها ثقة فقيه -3 - تقدم في 112/ 156.
5 -
(أم سلمة) هند بنت أبي أمية المخزومية رضي الله عنها تقدمت في 123/ 183.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات أجلاء اتفقوا على التخريج لهم، وكلهم مدنيون إلا شيخه، فبغلاني، وفيه رواية تابعي، عن تابعي، وفيه سليمان أحد الفقهاء السبعة، وقد تقدم غير مرة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أم سلمة) هند رضي الله عنها (تعني) بالتاء وفي نسخة بالياء، أي تريد أم سلمة رضي الله عنها بما حدثت به (أن امرأة) وإنما أتى بتعني لنسيانه اللفظ الذي عبرت هي به، وإنما حفظ المعنى فأداه به. والمرأة هي فاطمة بنت أبي حبيش، وليست أم حبيبة بنت جحش كما توهمه الشنقيطي، لأن أبا داود صرح بذلك في سننه حيث قال: سَمَّى المرأة التي كانت استحيضت، حماد بن زيد عن أيوب في هذا الحديث قال فاطمة بنت أبي حبيش. اهـ ج 2 ص 66 بشرح المنهل.
وقد بين الدارقطني في سننه أن سفيان، وعبد الورث، ووهيبا، وحماد بن زيد سموها فاطمة، فقد أخرج بسنده عن سفيان، عن أيوب السختياني، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألت لها أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"لتنظر عدة الليالي والأيام التي كانت تحيضهن، وقدرهن من الشهور، فلتترك الصلاة لذلك، فإذا خلّفت ذلك، فلتغتسل، ولتتوضأ، ولتستذفر، ثم تصلي". وأخرج بسنده عن عبد الوارث، عن أيوب، عن سليمان بن يسار، أن أم سلمة استفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش .. الحديث. ثم قال: ورواه وهيب عن أيوب، عن سليمان، عن أم سلمة بهذا. وأخرج بسنده أيضا عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن سليمان بن يسار، أن فاطمة بنت أبي حبيش .. الحديث.
(كانت تهراق) بالبناء للمفعول، وهاؤها مفتوحة أو ساكنة، وأصلها تراق، من إراقة الشيء بمعنى صبه، قال ابن منظور رحمه الله: وأراقَ الماء يُريقه، وهراقه يُهَريقه -أي بفتح الهاء- على البدل، وأهراقه
يُهْريقه -أي بسكون الهاء- على العوض كما ذهب إليه سيبويه في قولهم: أسطاع، وقالوا في مصدره إهراقة، كما قالو ا: إسطاعةً، قال ذو الرمة (من الطويل):
فَلَمَّا دَنَتْ إِهْرَاقَةُ المَاءِ أنْصَبَتْ
…
لأَعْزلَهُ عَنْهَا وَفِي النَّفْسِ أَنْ أثْني
ورجل مُريق، وماء مُرَاق على أرقتُ، ورجل مُهَريق، وماء مُهَراق -يعني بفتح الهاء- على أهرقت. اهـ لسان ببعض تصرف.
وقال السندي: وأصل هَرَاق أراق، أبدلت الهمزة هاء، ويقال: يُهَريق بفتح الهاء، لأن الهاء موضع الهمزة، ولو كانت الهمزة ثابتة في المضارع لكانت مفتوحة، ويقال: أهراق يهريق بسكون الهاء جمعا بين
البدل والأصل. اهـ ج 1 ص 120.
(الدم) بالنصب، ويجوز الرفع، قال السيوطي رحمه الله: قال ابن مالك: هذا من زيادة "أل" في التمييز، وقال ابن الحاجب في أماليه: يجوز فيه الرفع على البدل من الضمير في تهراق، والنصب على التمييز، أو توهم التعدي، أو بفعل مقدر، وهو الأوجه، كأنه لما قيل: تهراق، قيل: ما تهراق؟ قال: تهريق الدم مثل:
ليُبْكَ يَزيدُ ضَاِرعٌ لخُصُومَةٍ
وإن اختلفا في الإعراب، ومثله في الكلام كثير. اهـ زهر ج 1 ص 120.
وقال العلامة السندي رحمه الله: ونصب الدم تشبيها بالمفعول، وهو في المعنى تمييز، إلا أنه لا يطلق عليه اسم التمييز مراعاة لقواعد الإعراب -يعني وجوب تنكير التمييز عند البصريين-، وقيل: هو تمييز، وتعريفه زائد -يعني أن أل فيه زائدة- والأصل يهراق دمها، فأسند الفعل إلى ضمير المرأة مبالغة، وجعل الدم تمييزًا وقيل: يجوز تعريف التمييز -وهو مذهب الكوفيين- لورود أمثاله كثيرًا.
وقيل: على إسقاط حرف الجر، أي بالدماء، أو على إضمار الفعل: أي يهريق الله تعالى الدم منها، أو لما قيل: تهراق، كأنه قيل: ما تهراق؟ قال: تهريق الدم، والرفع على أنه بدل من ضمير تهراق، أو نائب الفاعل إن كان يُهرَاق بلفظ التذكير. اهـ ج 1 ص 120.
وقال ابن الأثير: جاء الحديث على ما لم يسم فاعله، أي تهراق هي والدماء منصوب على التمييز، وإن كان معرفة، وله نظائر، كقوله تعالى:{سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] وهو مطرد عند الكوفيين، وشاذ عند البصريين، أو أجري تهراق مجرى نُفست المرأة غلاما، ونتج الفرس مُهْرا، قال: ويجوز الرفع بتقدير تهراق دماؤها وأل بدل من المضاف إليه، كقوله تعالى:{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]، أي عقدة نكاحه ونكاحها.
وقال أبو حيان في شرح التسهيل: أجاز بعض المتأخرين تشبيه الفعل اللازم بالمتعدى كما شبه وصفه باسم الفاعل المتعدي مستدلا بحديث "تهراق الدماء"، ومنعه الشلوبين، وقال: لا يكون ذلك إلا في الصفات، وتأول الحديث على إسقاط حرف الجر، أي بالدماء، أو على إضمار فعل، أي يهريق الله الدماء منها، قال أبوحيان: وهذا هو الصحيح إذ لم يثبت من لسان العرب. اهـ
(1)
زرقاني على الموطأ ج 1 ص 123.
(على عهد) أي في زمان (رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتت لها) أي لأجلها (أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي بأمرها إياها بذلك، لما في رواية الدارقطني "أن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت حتى كان المركن ينقل من تحتها وأعلاه الدم قال: فأمرت أمَّ سلمة أن تسأل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم .. الحديث.
(1)
هكذا نسخة الزرقاني، لكن الكلام غير تام، ولعله سقط منه شيء، وهو إذ لم يثبت من لسان العرب ما يشهد للأول، أو نحو ذلك. فليحرر.
وقد تقدم في الرواية السابقة، -201 - أنها السائلة، وثبت في حديث آخر عند أبي داود وغيره: أن أسماء بنت عميس سألت لها، قال الحافظ ولي الدين العراقي: ولعل الجمع بينها أن فاطمة سألت كلا من أم سلمة وأسماء أن تسأل لها فسألتا مجتمعتين، أو سألت كل واحدة منهما مع عدم علمها بسؤال الأخرى، وصح إطلاق السؤال على فاطمة باعتبار أمرها بالسؤال، أو أنها حضرت معهما فلما بدأتا بالكلام تكلمت هي حينئذ. نتهى.
قال الجامع: أو يحمل على أنها لما استبطأت سؤالهما تولت بنفسها ذلك لشدة اهتمامها بمعرفة حكمه. والله أعلم
قال الزرقاني رحمه الله: وهو مبني على تسليم أن هذه المرأة المبهمة فاطمة، وقد قال ابن عبد البر: قال أيوب السختياني: هذه المرأة هى فاطمة المذكورة في الحديث الأول، وهو عندنا حديث آخر، وكذا جعله ابن حنبل حديثا غير الأول، فإنه في امرأة عرفت إقبالها وإدبارها، وهذا الحديث في امرأة كان لها أيام معروفة فزادها الدم وأطبق عليها، فلم تميز، فأمرها صلى الله عليه وسلم أن تترك الصلاة قدر أيامها من الشهر.
وأجاب ابن العراقي بأنه إن صح أن المبهمة فاطمة فلعلها كانت لها أحوال كانت في بعضها مميزة، وفي بعضها ليست مميزة، وجاء الجواب لها باعتبار حالتيها.
قال الجامع عفا الله عنه: كون المرأة المبهمة هي فاطمة هو الراجح عندي، وأما ما ذكره الحافظ ابن عبد البر من أنها ليست هي لأن الحديث الأول -يعني الحديث الذي فيه التصريح باسمها- في امرأة عرفت إقبال حيضها وإدباره، أي بالصفة، حيث أنه قال لها "فإذا أقبلت الحيضة"، وفي بعض الروايات عند المصنف وأبي داود "إذا كان دم الحيض، فإنه
دم أسود يعرف، فأمسكي عن الصلاة"، قال: وهذا الحديث -يعني حديث المرأة المبهمة- في امرأة كان لها أيام معروفة -أي حيث قال لها: لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر فغير صحيح
(1)
لأن الأمرين جميعًا واردان في فاطمة مصرحًا باسمها.
فمما ورد في تمييزها بالصفة ما أشرنا إليه آنفا من رواية المصنف الآتي في -138/ 215 - عن فاطمة بنت أبي حبيش، أنها كانت تستحاض فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف فأمسكي عن الصلاة"
…
الحديث. ومما ورد في ردها إلى الأيام المعروفة لها ما رواه البخاري في صحيحه عن فاطمة بنت أبي حبيش، سألت النبي صلى الله عليه وسلم قالت: إني أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال:"لا إن ذلك عرق، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها" الحديث.
فثبت بهذا أن فاطمة ورد فيها الأمران معا فصح ما قاله أيوب من أن المبهمة هى فاطمة، والجواب عن الحديثين هو ما أجاب به ولي الدين العراقي، من أن فاطمة كانت لها حالات ففي بعضها كانت مميزة فأحالها صلى الله عليه وسلم على التمييز، وفي بعضها كانت غير مميزة فردها إلى عادتها المعروفة. وقد تقدم قريبا بيان رواية أيوب السختياني أنها فاطمة في سنن الدارقطني مستوفى، فلا تغفل.
(فقال) صلى الله عليه وسلم مجيبًا عن سؤالها (لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيض) أي فيها، وعند أبي داود "تحيضهن"(من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها) من الاستحاضة، والجار والمجرور متعلق بتحيض، أو حال من عدد الليالي والأيام، والظرف حال من الشهر، أي حال كون
ذلك الشهر كائنا قبل أن يصيبها استمرار الدم (فلتترك الصلاة) وكذا
(1)
جواب أما، من قولي: وأما ما ذكره الحافظ ابن عبد البر.
كلّ ما يمنع في حال الحيض من الصوم وغيره، وإنما عين الصلاة حيث إنها سألت عنها بقولها: أفأدع الصلاة؟ (قدر ذلك) أي قدر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن قبل استمرار الدم بها (من الشهر) الذي استمر فيه الدم.
وحاصل المعنى أنه أمرها أن تحسب عدد الليالي والأيام التي كانت تحيض فيها قبل أن تستحاض، وتترك الصلاة من الشهر الآتي قدرها، مثلا إذا كانت عادتها أن تحيض من كل شهر خمسة أيام من أوله تترك الصلاة خمسة أيام من الشهر الآتي.
(فإذا خلّفت ذلك) بتشديد اللام وفتح الفاء من التخليف، أي إذا تركت قدر الأيام والليالي المذكورة وراءها، والمراد إذا مضى قدرها (فلتغتسل) لانقطاع حيضها؛ لأن مدة حيضها فيما مضى هي مدة حيضها في هذا الوقت، فإذا مضى قدرها خرجت من الحيض، وصارت مستحاضة حكمها حكم الطاهرة.
واحتج بهذا الحديث من قال: إن المستحاضة المعتادة ترد لعادتها، ميزت أم لا، وافق تمييزها عادتها أم خالفها، وهو قول أبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي، وأحمد في المشهور عنه، قيل: هو مبني على "قاعدة ترك الاستفصال في وقائع الأحوال مع قيام الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقال" وذلك حيث إنه صلى الله عليه وسلم لم يسألها هل هي مميزة أم لا؟ لكن نازع الصنعاني في بناء الحنفية هذا القول على هذه القاعدة لأنهم لا يقولون بها، بل القائل بها هم الشافعية، انظر حاشية العدة ج 1 ص 475.
وذهب مالك، والشافعي في أصح قوليه إلى أنها ترد لعادتها إذا لم تكن مميزة، وإلا ردت إلى تمييزها.
قال الجامع: وهذا القول هو الراجح عندي عملا بحديثي فاطمة رضي
الله عنها، وستكون لي عودة إلى تحقيق المسألة إن شاء الله تعالى.
(ثم لتستثفر) بمثلثة قبل الفاء، أي لتشدّ ثوبًا تمنع به سيلان الدم.
قال ابن منظور رحمه الله: هو أن تشد فرجها، بخرقة عريضة، أو قطنة تحتشي بها، وتوثق طرفيها في شيء تشده على وسطها فتمنع سيلان الدم. وهو مأخوذ من ثَفَر
(1)
الدابة الذي يجعل تحت ذَنَبها، ويحتمل أن يكون مأخوذا من الثَّفْر
(2)
أريد به فرجها، وإن كان أصله للسباع، واستثفر الرجل بثوبه إذا رد طرفه بين رجليه إلى حُجْزَته، واستثفر الكلب: إذا أدخل ذنبه بين فخذيه حتى يُلزقه ببطنه. اهـ لسان باختصار.
(ثم لتصلي) بإثبات الياء في نسخ النسائي التي عندنا، وكذا في الموطأ، وأبي داود في بعض النسخ، وفي بعضها بحذفها، ووجه إثباتها الإشباع كقراءة من قرأ {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} [يوسف: 90] بإثبات الياء، كذا قال ولي الدين العراقي، قال الزرقاني: ولا يقال: فيه نظر، لأنه أمر لأنثى؛ لأنا نقول هو ليس خطابًا، وإنما هو مسند لضمير الغائبة أي لتصل هي فكان الواجب حذف الياء للام الأمر، فجيء بها للإشباع، فحذف الجازم ياء العلة، والموجودة إشباع. اهـ كلام الزرقاني ج 1 ص 124.
قال الجامع: عدم حذف حرف العلة للجازم قيل: ضرورة، وقيل
لغة، قاله السيوطي في "همع الهوامع"، وخرج عليه قراءة قنبل {إنه من يتقي ويصبر} وقيل الموجودة إشباع، والأصلية حذفها الجازم، ورد بأن الإشباع لا يكتب، وقيل غير ذلك في الآية انظر حاشية الخضري على شرح ابن عقيل لألفية ابن مالك ج 1 ص 51. والله تعالى أعلم.
(1)
الثفر جمعه أثفار كسبب ما يجعل تحت ذنب الدابة.
(2)
الثفر وزان فلس فرج السباع وكل ذي مخلب بمنزلة الحياء للناقة وربما استعير لغيرها. أفاده في المصباح.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: هذا الحديث صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف: أخرجه هنا 208، وفي 3/ 354، وفي الحيض 3/ 355، وفي الكبرى 126/ 214.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (د ق) فأخرجه (د) في الطهارة عن القعنبي، عن مالك، عن نافع عن سليمان بن يسار عن أم سلمة، وعن موسى بن إسماعيل، عن وهيب، عن أيوب، عن سليمان عنها. وأخرجه (ق) فيه عن علي بن محمَّد، وأبي بكر بن أبي شيبة كلاهما عن أبي أسامة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع به.
المسألة الرابعة: في فوائده:
قال في المنهل: والحديث يدل على أن من جهل شيئا من أمر دينه يُطلَب منه أن يسأل عنه أهل العلم، وعلى أنه يجوز أخذ العلم بواسطة، وعلى أن خبر الواحد حجة يعمل به، وعلى أنه يطلب من المسؤول أن يجيب السائل عفا سأله عنه إذا كان عالما بالحكم، وعلى أن الحائض لا تجب عليها الصلاة، وعلى وجوب الغسل على المستحاضة المعتادة إذا انقضت عادتها، وعلى أن المستحاضة يجب عليها أن تستثفر لمنع الدم فإن لم تفعل ذلك لزمها إعادة الوضوء إذا خرج منها الدم، وحديث "تصلي المستحاضة ولو قطر الدم على الحصير" محمول على من استثفرت ثم غلبها الدم ولا يرده الثَّفَر، وكذا من به سلس البول يلزمه سد المجرى بقطن ونحوه ثم يشده بالعصائب، فإن لم يفعل فقطر أعاد الوضوء، وعلى أن المستحاضة المعتادة ترد لعادتها ميزت أم لا، وافق تمييزها عادتها أم لا، وتقدم الخلاف في ذلك.
قال الجامع: قد قدمنا أن الراجح هو العمل بالتمييز، إن كان، وإلا فردها إلى العادة. وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
المسألة الخامسة: اتفق العلماء في أن المستحاضة إذا أدبر حيضها تصلي، وتصوم، وتؤدي كل عبادة تشترط لها الطهارة، واختلفوا في إباحة وطئها حينئذ فالجمهور على جوازه لكونها في حكم الطاهرة وقد استدل الشافعي رحمه الله بالأمر بالصلاة على جواز الوطء، قال: لأن الله تعالى أمر باعتزالها حائضا، وأذن في إتيانها طاهرة فلما حكم صلى الله عليه وسلم للمستحاضة بحكم الطاهرة في أن تغتسل وتصلي دل ذلك على جواز وطئها، وقد أخرج عبد الرزاق، وغيره، عن ابن عباس من طريق عكرمة قال "المستحاضة لا بأس أن يأتيها زوجها"، ولأبي داود من وجه آخر عن عكرمة قال:"كانت أم حبيبة تستحاض، وكان زوجها يغشاها".
قال الحافظ رحمه الله: وهو حديث صحيح إن كان عكرمة سمعه منها. وأخرج أيضا عن عكرمة عن حمنة بنت جحش أنها كانت مستحاضة، وكان زوجها يجامعها، والكلام فيه كالكلام في سابقه، فقد قال المنذري: في سماع عكرمة منهما نظر.
وهذا القول منقول عن ابن عباس، وابن المسيب، والحسن البصري، وعطاء، وسعيد بن جبير، وقتادة، وحماد بن أبي سليمان، وبكر بن عبد الله المزني، والأوزاعي، والثوري، وأبي ثور، ومالك، والشافعي
وأبي حنيفة، رحمهم الله.
وذهبت طائفة إلى أنه لا يحل وطؤها، وهو مذهب عائشة رضي الله عنها، وبه قال إبراهيم النخعي، والحكم، والزهري، وغيرهم. وعن ابن سيرين كراهته.
قال الجامع: والراجح هو ما ذهب إليه الجمهور لعدم ورود المنع عن ذلك، فالبراءة الأصلية لا معارض لها، ولما تقدم في كلام الشافعي رحمه الله. والله أعلم.
المسألة السادسة: قد ذكر العلامة الناقد، والبحاثة السائد
(1)
أبو
(1)
أي السيد اهـ "ق".
محمَّد بن حزم الظاهري في كتابه المُمْتع "المُحَلَّى" في بيان أحكام المستحاضة كلاما دقق فيه النظر وأورد فيه أقوال العلماء بأدلتها فنظر فيما لها وما عليها حسبما أداه إليه نظره فحقق في ذلك تحقيقا لا تراه في غيره من الكتب، وأنا ألخصه لأهميته، فإن مسألة المستحاضة قد طال البحث فيها بين أهل المذاهب حتى خرج عن حد الاعتدال، وقد أجاد القول فيه العلامة الشوكاني رحمه الله فقال: وقد أطال المصنفون في الفقه الكلام في المستحاضة، واضطربت أقوالهم اضطرابا يبعد فهمه على أذكياء الطلبة، فما ظنك بالنساء الموصوفات بالعي في البيان والنقص في الأديان، وبالغوا في التعسير حتى جاءوا بمسألة المتحيرة فتحيروا، إلى آخر كلامه. ولنعد إلى كلام أبي محمَّد ابن حزم رحمه الله قال رحمه الله:
(مسأله) فإن رأت الجارية الدم أول ما تراه أسود فهو دم حيض، تدع الصلاة، والصوم ولا يطؤها بعلها أو سيدها، فإن تلون أو انقطع إلى سبعة
(1)
عشر يوما فأقل فهو طهر صحيح تغتسل وتصلي وتصوم ويأتيها زوجها، وإن تمادى أسود تمادت على أنها حائض إلى سبع عشرة ليلة، فإن تمادى بعد ذلك أسود فإنها تغتسل ثم تصلي وتصوم ويأتيها زوجها وهي طاهر أبدا لا ترجع إلى حكم الحائضة إلا أن ينقطع أو يتلون كما ذكرنا، فيكون حكمها إذا كان أسود حكم الحيض وإذا تلون، أو انقطع،
أو زاد على السبع عشرة حكم الطهر، فأما التي قد حاضت وطهرت فتمادى بها الدم فكذلك أيضًا في كل شيء إلا في تمادي الدم الأسود متصلا، فإنها إذا جاءت الأيام التي كانت تحيضها أو الوقت الذي كانت تحيضه إما مرارًا في الشهر أو مرة في الشهر أو مرة في أشهر أو في عام فإذا
(1)
إنما قال: سبعة عشر يوما لأن مذهبه أنه أكثر الحيض للإجماع على أن ما فوقه استحاضة، وما دونه فيه اختلاف، ولا دليل من النص على وقت بعية فأخذا بالمجمع عليه. لكن يعارضه قول من قال ثمانية عثر يوما وهو الذي رجحه ابن العربي في عارضته ولعل ابن حزم ما اطلع عليه فلذا قال ما تقدم. والله أعلم.
جاء ذلك الأمد أمسكت عفا تمسك به الحائض، فإذا انقضى ذلك الوقت اغتسلت وصارت في حكم الطاهر في كل شيء، وهكذا أبدا ما لم يتلون الدم أو ينقطع، فإن كانت مختلفة الأيام بنت على آخر أيامها قبل أن يتمادى بها الدم، فإن لم تعرف وقت حيضها لزمها فرضا أن تغتسل لكل صلاة وتتوضأ لكل صلاة
(1)
، أو تغتسل وتتوضأ وتصلي المغرب في آخر وقتها، ثم تتوضأ وتصلي العتمة في أول وقتها، ثم تغتسل وتتوضأ لصلاة الفجر، وإن شاءت أن تغتسل في أول وقت الظهر للظهر والعصر فذلك لها، وفي أول وقت المغرب للمغرب والعتمة فذلك لها، وتصلي كل صلاة لوقتها ولابد، وتتوضأ لكل صلاة فرض ونافلة في يومها وليلتها، فإن عجزت عن ذلك وكان عليها فيه حرج تيممت كما ذكرنا.
برهان ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن دم الحيض أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة وإن كان الآخر فتوضئي وصلي"، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، فإذا أدبرت فاغتسلي وصلي" وفي بعضها "فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وتوضئي"، وفي بعضها:"فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وتوضئي وصلي"، ففي هذه الأخبار إيجاب مراعاة تلون الدم.
وحديث عائشة رضي الله عنها: "أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي صلى الله عليه وسلم قالت: إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ قال: "لا، إن ذلك عرق، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي"، وحديثها أيضا: أن أم حبيبة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدم؟، قالت عائشة: رأيت مركنها ملآن دما، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي وصلي".
(1)
قد تقدم أن الأرجح وجوب الوضوء لكل صلاة وأن الغسل مستحب، جمعا بين الأحاديث.
قال: ففي هذين الخبرين إيجاب مراعاة القدر الذي كانت تحيضه قبل أن يمتد بها الدم.
قال: وأما المبتدأة التي لا يتلون دمها عن السواد ولا مقدار عندها لحيض متقدم، فنحن على يقين من وجوب الصلاة والصيام عليها، ومن أن الدم الأسود منه حيض، ومنه ما ليس بحيض، فإذا كان كذلك فلا يجوز لأحد أن يجعل برأيه بعض ذلك الدم حيضًا وبعضه غير حيض، لأنه يكون شارعًا في الدين ما لم يأذن به الله، أو قائلا على الله تعالى ما لا علم لديه، فإذا كان كذلك فلا يحل لها ترك يقين ما افترض الله عليها من الصوم والصلاة لظن في بعض دمها أنه حيض، ولعله ليس حيضا، والظن أكذب الحديث.
وهذا الذي قلناه هو قول مالك، وداود، وقال الأوزاعي: تجعل لنفسها مقدار حيض أمها وخالتها وعمتها، وتكون فيما زاد في حكم المستحاضة، فإن لم تعرف جعلت حيضها سبعة أيام من كل شهر، وتكون في باقي الشهر مستحاضة تصوم، وقال سفيان الثوري، وعطاء: تجعل لنفسها قدر حيض نسائها، وقال الشافعي: تقعد يوما وليلة من كل شهر تكون فيه حائضا، وباقي الشهر مستحاضة تصلي وتصوم، وإلى هذا مال أحمد بن حنبل، وقال أبو حنيفة: تقعد عشرة أيام من كل شهر حائضا وباقي الشهر مستحاضة تصلي وتصوم.
قال: يقال لجميعهم: من أين قطعتم بأنها تحيضى كل شهر ولابد، وفي الممكن أن تكون ضهياء
(1)
لا تحيض فتركتم بالظن فرض ما أوجبه الله تعالى عليها من الصلاة والصيام، ثم ليس لأحد منهم أن يقول:
(1)
الضهياء بوزن فعلاء وكذا الضهيأة بوزن فعلأة والضَّهيّ بوزن فعيل: هي التي لا تحيض، أو لا ينبت ثديها. اهـ من الهامش بتصرف. والمناسب هنا المعنى الأول.
أقتصر بها على أقل ما يكون من الحيض لئلا تترك الصلاة إلا بيقين، إلا كان للآخر أن يقول: بل أقتصر بها على أكثر الحيض لئلا تصلي وتصوم ويطؤها زوجها وهي حائض، وكل هذين القولين يفسد صاحبه، وهما جميعا فاسدان لأنهما تقوّل بالظن، والحكم بالظن في دين الله عز وجل لا يجوز، ونحن على يقين لا شك فيه أن هذه المبتدأة لم تحض قط، وأن الصوم والصلاة فرضان عليها، وأن زوجها مأمور ومندوب إلى وطئها، ثم لا ندري ولا نقطع أن شيئًا من هذا الدم الظاهر عليها دم حيض، فلا يحل ترك اليقين والفرائض اللازمة بظن كاذب
(1)
.
قال: وأما وضوؤها لكل صلاة فلحديث فاطمة بنت أبي حبيش، وأما غسلها لكل صلاة فلحديث أم حبيبة بنت جحش حيث أمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالغسل لكل صلاة، وكلاهما صحيح.
قال: وقال بهذا جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، فعن عائشة رضي الله عنها، أن أم حبيبة استحيضت فكانت تغتسل لكل صلاة. وعن سعيد بن جبير أنه كان عند ابن عباس فأتاه كتاب امرأة، قال سعيد فدفعه إلى، فقرأته فإذا فيه: إني امرأة متسحاضة أصابني بلاء وضر، وأني أدع الصلاة الزمان الطويل، وإن ابن أبي طالب سئل عن ذلك؟ فأفتاني أن أغتسل عند كل صلاة، فقال ابن عباس: اللهم لا أجد لها إلا ما قال علي، غير أنها تجمع بين الظهر والعصر بغسل واحد، والمغرب والعشاء بغسل واحد، وتغتسل للفجر غسلا واحدا، فقيل لابن عباس: إن الكوفة أرض باردة وأنها يشق عليها؟، قال: لو شاء الله لابتلاها بأشد من ذلك.
(1)
الظن الذي يرده ابن حزم هو كما قال الصنعاني بمعنى الشك والتردد، ولا يعني الظن الراجح. فإنه مما يعمل به هو في كثير من الأحكام. انظر ما كتب في هامش المحلى ج 1 ص 71، فقد حرر الصنعاني هذا البحث تحريرا بالغا.
وعن سعيد بن جبير: قال: أرسلت امرأة مستحاضة إلى ابن الزبير: أني أفتيت أن أغتسل لكل صلاة، فقال ابن الزبير: ما أجد لها إلا ذلك، ثم أرسلت إلى ابن عباس، وابن عمر، فقالا جميعا: ما نجد لها إلا ذلك. وعن عطاء وإبراهيم النخعي قالا: تنتظر المستحاضة أيام أقرائها، ثم تغتسل غسلا واحدًا للظهر والعصر، تؤخر الظهر قليلا وتعجل العصر قليلا، وكذلك المغرب والعشاء، وتغتسل للصبح غسلا. وعن سعيد بن المسيب قال: المستحاضة تغتسل لكل صلاة وتصلي.
فهؤلاء من الصحابة أم حبيبة، وعلي، وابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير لا مخالف
(1)
لهم يعرف من الصحابة رضي الله عنهم، إلا رواية عن عائشة: أنها تغتسل كل يوم عند صلاة الظهر. ومن التابعين عطاء، وسعيد بن المسيب، والنخعي، وغيرهم. وكلها بأسانيد صحيحة.
قال: فجاءت السنة في التي يتميز دمها أن الأسود حيض، وأن ما عداه طهر، فوضح أمر هذه، وجاءت السنة في التي لا تميز دمها، وهو كله أسود لأن ما عداه طهر لا حيض ولها وقت محدود مميز كانت تحيض فيه أن تراعي أمد حيضها فتكون فيه حائضا، ويكون ما عداه طهرا، فوجب الوقوف عند ذلك، وكان حكم التي كانت أيامها مختلفة منتقلة أن تبني على آخر حيض حاضته قبل اتصال دمها، لأنه هو الذي استقر عليه حكمها وبطل ما قبله باليقين والمشاهدة، فخرجت هاتان بحكمهما، ولم يبق إلا التي لا تميز دمها ولا لها أيام معهودة، ولم يبق إلا المأمورة بالغسل لكل صلاة أو لكل صلاتين فوجب ضرورة أن تكون هي، إذ ليس إلا ثلاث صفات وثلاثة أحكام، فللصفتين حكمان منصوصان عليهما، فوجب أن يكون الحكم الثالث للصفة الثالثة ضرورة ولابد.
(1)
فيه أنه تقدم أن عدم الإيجاب مروي عن علي، وابن مسعود، وابن عباس، وعائشة رضي الله عهم، ولعله لم يصح عند ابن حزم فجزم بهذا.
قال: وأما مالك فإنه غلب حكم تلون الدم ولم يراع الأيام، وأما أبو حنيفة فغلب الأيام ولم يراع حكم تلون الدم، وكلا العملين خطأ لأنه ترك لسنة لا يحل تركها، وأما الشافعي، وابن حنبل، وأبو عبيد، وداود فأخذوا بالحكمين معا، إلا أن أحمد بن حنبل وأبا عبيد غلبا الأيام، ولم يجعلا لتلون الدم حكما إلا في التي لا تعرف أيامها، وجعلا للتي تعرف أيامها حكم الأيام، وإن تلون الدم، وأما الشافعي، وداود فغلبا حكم تلون الدم سواء عرفت أيامها، أو لم تعرف، ولم يجعلا حكم مراعاة وقت الحيض إلا للتي لا يتلون، قال: فبقي النظر في أي العملين هو الحق؟ ففعلنا فوجدنا النص قد ثبت وصح بأنه لا حيض إلا الدم الأسود، وما عداه ليس حيضًا، لقوله صلى الله عليه وسلم:"إن دم الحيض أسود يعرف"، فصح أن المتلونة الدم طاهرة تامة الطهارة لا مدخل لها في حكم الاستحاضة، وأنه لا فرق بين الدم الأحمر وبين القصة البيضاء، ووجب أن الدم إذا تلون قبل انقضاء أيامها المعهودة أنه طهر صحيح، فبقي الإشكال في الدم الأسود المتصل فقط، فجاء النص بمراعاة الوقت لمن تعرف وقتها، وبالغسل المردد لكل صلاة أو لصلاتين في التي نسيت وقتها. وبالله التوفيق.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا خلاصة ما ذكره ابن حزم رحمه الله في كتابه "المحلى" ج 2 ص 207 - 215 وهو بحث نفيس جدا في مسألة المستحاضة، وبه تجتمع الأحاديث "الصحيحة" ويزول الإشكال، غير ما قاله في التي لا تميز ولا لها عادة فإنه يخالفه الحديث الذي رواه أبو داود، وأحمد، والترمذي، وصححاه كما قال المجد بن تيمية بإسنادهم عن حمنة بنت جحش قالت: كنت أستحاض حيضة شديدة كثيرة، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أستفتيه، وأخبره، فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش قالت: قلت: يا رسول الله إني أستحاض حيضة كثيرة
شديدة فما ترى فيها قد منعتني الصلاة والصيام؟ فقال: أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم، قالت: هو أكثر من ذلك، قال: فاتخذي ثوبًا قالت: هو أكثر من ذلك، قال: فتلجَّمي، قالت: إنما أثُجُّ ثَجًا، فقال: سآمرك بأمرين أيهما فعلت فقد أجزأ عنك من الآخر، فإن قويت عليهما فأنت أعلم، فقال لها:"إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان، فتحيضي ستة أيام، أو سبعة في علم الله، ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلي أربعًا وعشرين ليلة أو ثلاثًا وعشرين ليلة وأيامها، وصومي، فإن ذلك يجزيك، وكذلك فافعلي كل شهر كما تحيض النساء، وكما يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن، وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين ثم تصلين الظهر والعصر جميعا، ثم تؤخري المغرب، وتعجلي العشاء، ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي، وتغتسلين مع الفجر وتصلين، فكذلك فافعلي، وصلي وصومي إن قدرت على ذلك، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهذا أعجب الأمرين إلى".
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث وإن اختلفوا فيه، لأجل الكلام في محمَّد بن عبد الله بن عقيل فقد تفرد به، فضعفه بعضهم به، وأعله ابن حزم بالانقطاع بين ابن جريج، وابن عقيل، وجهالة شيخ شيخه، لكن رد عليه ابن سيد الناس انظر نيل الأوطار ج 1 ص 408. وصححه آخرون، ومنهم أحمد والترمذي كما قدمنا. صالح للاحتجاج به لأنه لا ينزل عن درجة الحسن كما صرح به الشيخ الألباني في صحيح الترمذي.
وخلاصة القول أنه يجب العمل به، فيترجح به قول من قال: إنها ترجع إلى الغالب من عادة نسائها، وهو قول الأوزاعي، والثوري، وعطاء، كما تقدم.
والحاصل أن التي لها عادة ترجع إليها، والتي لا عادة لها ولكنها مميزة تعمل بالتمييز، والتي لا عادة لها ولا تمييز ترجع إلى عادة نسائها، فاتفقت الأحاديث بلا تعارض ولا دعوى نسخ ولا تضعيف لصحيح ولله الحمد.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
135 - ذِكْرِ الأَقْرَاءِ
(1)
أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على المعنى المراد من الأقراء الوارد في القرآن.
ولما كان المصنف يَرَى أن القرأ هو الحيض، أورد هنا هذه الأحاديث مستدلا عليه، لكن الذي عليه المحققون أن القرأ من الأضداد يطلق على الحيض، وعلى الطهر كما سنحققه إن شاء الله تعالى، والأقراء جمع قرء بضم فسكون، وفيه لغة أخرى بفتح فسكون وجمعه قروء، مثل فلس وفلوس، وسيأتي مزيد تحقيق لذلك إن شاء الله تعالى.
209 -
أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: إِنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ جَحْشٍ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَأَنَّهَا اسْتُحِيضَتْ لَا تَطْهُرْ، فَذُكِرَ شَأْنُهَا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"إِنَّهَا لَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، وَلَكِنَّهَا رَكْضَةٌ مِنَ الرَّحِمِ، فَلْتَنْظُرْ قَدْرَ قُرْئِهَا الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُ لَهَا فَلْتَتْرُكِ الصَّلَاةَ، ثُمَّ تَنْظُرْ مَا بَعْدَ ذَلِكَ فَلْتَغْتَسِلْ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ".
(1)
هذا الباب يأتي في كتاب الحيض، فذكره هنا لا وجه له. ولعله من بعض النساخ، وقد أشار السندي إلى أنه لا يوجد في بعض النسخ. فتأمل.
رجال الإسناد: سبعة
1 -
(الربيع بن سليمان بن إبراهيم) الجيزي المرادي المصري ثقة -11 - تقدم في 122/ 173.
2 -
(إسحاق بن بكر) المصري صدوق فقيه -10 - تقدم في 122/ 173.
3 -
(بكر بن مضر) أبو محمَّد المصري ثقة ثبت -8 - تقدم في 122/ 173.
4 -
(يزيد بن عبد الله) بن أسامة بن الهاد الليثي أبو عبد الله المدني ثقة مكثر -5 - تقدم في 73/ 90.
5 -
(أبو بكر بن محمَّد) بن عمرو بن حزم، الأنصاري الخزرجي ثم النجاري المدني القاضي، يقال: اسمه أبو بكر، وكنيته أبو محمَّد، وقيل: اسمه كنيته ثقة عابد -5 - روى عن أبيه، وأرسل عن جده، وعبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري، وروى عن خالته عمرة بنت عبد الرحمن، وأبي حبَّة البَدْريّ، وخالدة بنت أنس، ولها صحبة والسائب بن يزيد، وعباد بن تميم، وسلمان الأغر، وغيرهم. وعنه ابناه عبد الله، ومحمد، وابن عمه محمَّد بن عمارة بن عمرو بن حزم، وعمرو بن دينار، وهو أكبر منه، والزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، والوليد بن أبي هشام، ويزيد بن الهاد، وآخرون.
قال ابن معين، وابن خراش: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال عطاف بن خالد عن أمه عن امرأة أبي بكر بن محمَّد بن حزم قالت: ما اضطجع أبو بكر على فراشه منذ أربعين سنة بالليل، وقال محمَّد بن علي بن شافع: قالوا لعمر بن عبد العزيز استعملت أبا بكر بن حزم غرك بصلاته، فقال: إذا لم يغرني المصلون فمن يغرني؟
قال: وكانت سجدته قد أخذت جبهته وأنفه، وذكره الهيثم بن عدي في محدثي أهل المدينة، والواقدي في ثقاتهم، وقال أبو ثابت، عن ابن وهب، عن مالك: لم يكن عندنا أحد بالمدينة عنده من علم القضاء ما كان عند أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم، وكان ولاه عمر بن عبد العزيز وكتب إليه أن يكتب له من العلم من عند عمرة بنت عبد الرحمن، والقاسم بن محمَّد، ولم يكن بالمدينة أنصاري أمير غير أبي بكر بن حزم وكان قاضيًا، زاد غيره فسألت ابنه عبد الله بن أبي بكر عن تلك الكتب؟ فقال: ضاعت، وقال سعيد بن عفير، عن ابن وهب: قال لي مالك: ما رأيت مثل أبي بكر بن حزم أعظم مُرُوَّةً، ولا أتم حالا، ولا رأيت مثل ما أرى ولي المدينة والقضاء والموسم قيل: مات سنة 100، وقيل سنة 110، وقيل: 117، وقيل: 120، وقيل:126. اهـ "تت" ج 12 ص 38 - 40. أخرج له الجماعة.
6 -
(عمرة) بنت عبد الرحمن الأنصارية المدنية ثقة -3 - تقدمت في 134/ 203.
7 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها تقدمت في 5/ 5. والله أعلم
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سباعياته، وأن رواته كلهم ثقات، غير إسحاق فصدوق، وأنهم ما بين مصريين، وهم إلى أبي بكر، ومدنيين، وهم الباقون، وفيه رواية ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، يزيد، عن أبي بكر، عن عمرة. ورواية الراوي، عن خالته، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عائشة) رضي الله عنها (أن أم حبيبة بنت جحش) تقدم الخلاف
في اسمها (استحيضت) بالبناء للمفعول،: أي استمر بها الدم في غير أيامها المعتادة، وتقدم الكلام فيه مستوفى في حديث 201 (لا تطهر) أي لا ينقطع منها الدم، فهو بيان لمعنى استحيضت (فذكر شأنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم) بالبناء للمفعول وتقدم في الروايات السابقة أنها هي التي ذكرت ذلك له (فقال: إنها) أي الاستحاضة هذه (ليست بالحيضة) بالفتح لأن المراد به الحيض، فهو للمرة، أي ليست الاستحاضة حيضا، وتقدم أن بعضهم جوز الكسر على معنى الهيئة، أي هذه الحالة ليست بحالة حيض (ولكنها ركضة من الرحم) قال السندي رحمه الله: ركضة بفتح فسكون: الضرب كما يُفعَل بالدابة، وقد جاء "إنها ركضة من ركضات الشيطان" فلعل معنى من الرحم أي في الرحم، والمراد أن الشيطان ضرب بالرجل في الرحم حتى فتق عرقها، وقيل: إن الشيطان وجد بذلك طريقًا إلى التلبيس عليها في أمر دينها فصار كأنها ركضة نالها من ركضاته في الرحم. اهـ
وقال ابن الأثير: أصل الركض الضرب بالرجل والإصابة بها، كما تركض الدابة وتصاب بالرجل، أراد الإضرار بها والأذى، والمعنى أن الشيطان قد وجد بذلك طريقا إلى التلبيس عليها في أمر دينها وطهرها وصلاتها حتى أنساها ذلك عادتها، وصار في التقدير كأنه يركض بآلة من ركضاته. اهـ لسان.
قال الجماء: الأوْلَى كما قال السندي حمله على ظاهره، أي أنه ضرب على عرقها، فانفجر ذلك العرق دما، وأيّ مانع من هذا المعنى، حتى نقول: إنه كناية عن كذا؟ فتنبه.
(فلتنتظر) أي لتتحرّ (قدر قرئها) أي حيضها، فالقرء هنا بمعنى الحيض، وقد تقدم أن المحققين على أنه مشترك بين الحيض والطهر، لكن في هذا المحل المراد منه الحيض، ولذا أورده المصنف في الحيض
مستدلا به على كون القرء بمعنى الحيض. وسيجيء تحقيق أقوال أهل اللغة فيه إن شاء الله قريبا (التي) صفة لـ"قدر"، وإنما أنثه لتأويله بالمدة قاله السندي (كانت تحيض لها) أي فيها فاللام بمعنى "في"(فلتترك الصلاة) لكونها حائضًا (ثم تنظر ما بعد ذلك) من الوقت (فلنغتسل عند كل صلاة) أي عند إرادة أداء كل صلاة، وفيه الأمر بالغسل عند كل صلاة، وقد تقدم لك أن الراجح من أقوال العلماء حمل الأمر على الاستحباب، جمعًا بين الأدلة، وهو رأي الجمهور.
تنبيهان:
الأول: قد تقدم الكلام في درجة الحديث، وفي بيان مواضعه عند المصنف، وذكر من أخرجه مع المصنف في الباب الماضي 134/ 208، فارجع إليه.
الثاني: في أقوال أهل اللغة في معنى القرء:
قال ابن منظور رحمه الله: القَرْء -أي بالفتح-، والقُرْء -أي بالضم- الحيض، والطهر، ضدّ، وذلك أن القرء: الوقت، فقد يكون للحيض، والطهر، قال أبو عبيد: القرء يصلح للحيض والطهر قال: وأظنه من أقْرَأت النجومُ إذا غابت، والجمع أقراء، وفي الحديث "دعي الصلاة أيام أقرائك"، وقُروء على فُعول، وأقرُؤ- الأخيرة عن اللحياني في أدنى العدد- ولم يعرف سيبويه أقْرَاءً ولا أقْرُءًا، قال: استغنوا عنه بفُعول، وفي التنزيل:{ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] أراد ثلاثةً من قُرُوء، كما قالوا: خمسة كلاب، يراد بها خمسة من الكلاب، وكقوله (من الرجز):
خَمْسُ بَنَانِ قَانِيء الأَظْفاَرِ
أراد خمسا من البنان، وقال الأعشى (من الطويل):
مُوَرثَّة مَالًا وَفي الحَيِّ رِفْعَةً
…
لِماَ ضَاعَ فيها منْ قُرُوءِ نِسَائِكَا
وقال الأصمعي في قوله تعالى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} : جاء هذا على غير قياس، والقياس: ثلاثة أقْرُؤ، ولا يجوز أن يقال ثلاثة فلوس، إنما يقال: ثلاثة أفلس، فإذا كثرت فهي الفلوس، ولا يقال: ثلاثة رجال، وإنما هي ثلاثة رَجْلَة، ولا يقال: ثلاثة كلاب، إنما هي ثلاثة أكلب، قال أبو حاتم: والنحويون قالوا في قوله تعالى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} أراد ثلاثة من القروء.
وقال أبو عبيد: الأقراء الحيَضُ، والأقراء الأطهار، وقد أقرأت المرأة في الأمرين جميعًا، وأصله من دُنُوّ وقت الشيء. قال الشافعي رضي الله عنه: القرء اسم للوقت، فلما كان الحيض يجيء لوقت، والطهر يجيء لوقت جاز أن يكون الأقراء حيَضًا، وأطهارًا، قال: ودلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل أراد بقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} الأطهار، وذلك أن ابن عمر رضي الله عنهما لما طلق امرأته وهي حائض فاستفتى عمرُ رضي الله عنه النبيَّ صلى الله عليه وسلم فيما فعل، فقال:"مره فليراجعها، فإذا طهرت فليطلقها، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء".
وقال أبو إسحاق: الذي عندي في حقيقة هذا أن القرء في اللغة: الجمع، وأن قولهم: قريت الماء في الحوض، وإن كان قد ألزم الياء، فهو جمعتُ، وقرأت القرآن لفظتُ به مجموعًا، والقرْد يَقْري، أي يَجمَع ما يأكل في فيه، فإنما القرء اجتماع الدم في الرحم، وذلك إنما يكون في الطهر، وصح عن عائشة، وابن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا: الأقراء والقُرُوء: الأطهار، وحقق هذا اللفظ من كلام العرب قول الأعشى:
لِماَ ضَاعَ فيهَا مِنْ قُرُوء نِسَائِكَا
فالقروء هنا الأطهار، لا الحيَض؛ لأن النساء إنما يؤتين في أطهارهن لا في حيَضهن، فإنما ضاع بغيبته أطهارهن. ويقال: قَرَأت المرأةُ: طهرت، وقرأت: حاضت. قال حميد (من الطويل):
أرَاهَا غُلامَا نَا الْخَلَا فَتَشَذَّرَتْ
…
مِرَاحًا وَلَمْ تَقْرَأ جَنِينًا وَلَا دَمَا
يقال: لم تحمل عَلَقَة، أي دمًا ولا جنينًا. قال الأزهري: وأهل العراق يقولون: القرء الحيض، وحجتهم قوله صلى الله عليه وسلم:"دعي الصلاة أيام أقرائك" أي أيام حيضتك. وقال الكسائي والفراء معا: أقرأت المرأة: إذا حاضت فهي مُقْرىء.
وقال الفر اء: أَقرَأتَ الحاجَةُ إذا تأخرت. وقال الأخفش: أقرأت المرأة إذا حاضت وما قرأت حيضة، أي ما ضَمَّت رحمها على حَيْضَة.
وقال ابن الأثير: قد تكررت هذه اللفظة في الحديث مفردة ومجموعة فالمفردة بفتح القاف وتجمع على أقراء، وقروء، وهو من الأضداد، يقع على الطهر، وإليه ذهب الشافعي، وأهل الحجاز، ويقع على الحيض، وإليه ذهب أبو حنيفة، وأهل العراق، والأصل في القرء الوقت المعلوم، ولذلك وقع على الضدين؛ لأن لكل منهما وقتا. وأقرأت المرأة: إذا طهرت، وإذا حاضت، وهذا الحديث أراد بالأقراء فيه الحيض، لأنه أمرها فيه بترك الصلاة، وأقرأت المرأة، وهي مُقرىء: حا ضت، وطهرت، وقَرَأت: إذا رأت الدم، والمُقَرَّأة: التي ينتظر بها انقضاء أقرائها.
وقال أبو عمرو بن العلاء: دفع فلان جاريته إلى فلانة تُقَرِّئُها، أي تمسكها عندها حتى تحيض للاستبراء، وقُرِئَت المرأة: حُبست حتى انقضت عدتها.
وقال الأخفش: أقرأت المرأة: إذا صارت صاحبة حيض، فإذا حاضت قلت: قرأت بلا ألف.
يقال: قَرَأت المرأة حيضة، أو حيضتين، والقرأ انقضاء الحيض، وقال بعضهم: ما بين الحيضتين. اهـ لسان.
وقال النووي رحمه الله: وقال الزمخشري في كتابه الكشاف: فإن قلت: لم جاء المميِّز على الكثرة، قُرُوء دون القلة التي هى الأقراء؟ قلت: يتوسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر، لاشتراكهما في الجمعية، ألا ترى إلى قوله تعالى:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} وما هي إلا نفوس كثيرة، قال: ولعل القروء كانت أكثر استعمالا في جمع قرء من الأقراء فَأوثرَ عليه تنزيلا لقليل الاستعمال منزلة المهمل فيكون مثل قولهم ثلاثة شسوع. اهـ تهذيب الأسماء واللغات ج 3 ص 86 قال الجامع: الحاصل أن القرء يطلق على الطهر، والحيض، فهو لفظ مشترك بينهما لا يحمل على أحدهما إلا بقرينة، وترجيح الأقوال بعضها على بعض في حمل الآية على أحد المعنيين يحتاج إلى بحث طويل ليس هذا موضع استيفائه، وسنعود إليه في موضعه من كتاب العدة إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
210 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ جَحْشٍ كَانَتْ تُسْتَحَاضُ سَبْعَ سِنِينَ، فَسَأَلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"لَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ إِنَّمَا هُوَ عِرْقٌ" فَأَمَرَهَا أَنْ تَتْرُكَ الصَّلَاةَ قَدْرَ أَقْرَائِهَا وَحَيْضَتِهَا، وَتَغْتَسِلَ وَتُصَلِّيَ، فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(محمَّد بن المثنى) أبو موسى العَنَزي البصري ثقة، ثبت -10 - تقدم في 64/ 80.
2 -
(سفيان) بن عيينة الإمام الحجة الثبت -8 - تقدم في 1/ 1.
3 -
(الزهري) محمَّد بن مسلم الإمام العلم الحجة الثبت -4 - تقدم في 1/ 1.
4 -
(عمرة) بنت عبد الرحمن الأنصارية ثقة -3 - تقدمت في 134/ 203.
5 -
(عائشة) رضي الله عنها تقدمت في 5/ 5.
(تنبيه) تقدم شرح الحديث، وما يتعلق به، وقوله (أقرائها وحيضتها) العطف فيه للتفسير، وفيه دليل على أن المراد بالقرء هنا هو الحيض. وقوله (فكانت تغتسل عند كل صلاة) أي لأمر النبي صلى الله عليه وسلم لها، لما قدمنا من أن الأمر بذلك مرفوع صحيح. والله تعالى أعلم.
211 -
أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا أَتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَشَكَتْ إِلَيْهِ الدَّمَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ، فَانْظُرِي إِذَا أَتَاكِ قُرْؤُكِ
فَلَا تُصَلِّي، وَإِذَا مَرَّ قُرْؤُكِ فَتَطَهَّرِي، ثُمَّ صَلِّي مَا بَيْنَ الْقُرْءِ إِلَى الْقُرْءِ". هَذَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الأَقْرَاءَ حِيَضٌ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مَا ذَكَرَ الْمُنْذِرُ.
رجال هذا الإسناد: سبعة
1 -
(عيسى بن حماد) بن مسلم بن عبد الله التجيبي أبو موسى المصري، زُغْبَة، روى عن الليث بن سعد، وهو آخر من حدث عنه من الثقات، وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ورشدين بن سعد، وسعيد ابن زكرياء الإمام، وابن وهب، وابن القاسم، وجماعة. وروى عنه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وعبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، والبجيري، وأبو حاتم، وعبدان الأهوازي، وأبو زرعة، وابن أخيه محمَّد بن أحمد بن حماد بن زغبة، وبَقيّ بن مخلد، والمعمري، وأبو الليث عاصم بن رازح، وآخرون.
قال أبو حاتم: ثقة رَضيّ، وقال أبو داود: لا بأس به، وقال النسائي: ثقة، وقال في موضع آخر: لا بأس به، وقال الدراقطني: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن يونس: جاوز في سنه التسعين، توفي في ذي الحجة سنة -248 - ، وقال ابن حبان: مات سنة -9 - ، وقال أبو عمرو: الكندي في الموالي: زغبة لقب أبيه حماد، وزعم الشيرازي أنه لقب عيسى والصو اب الأول، ويؤيده أن الطبراني
لما روى عن أخيه أحمد قال: ثنا أحمد بن حماد زغبة، وقال ابن قانع:
عيسى زغبة، أخرج له الجماعة، إلا البخاري، والترمذي. وفي الزهرة: روى عنه مسلم تسعة أحاديث. اهـ تت ج 8 ص 209 - 210.
قال الجامع: قوله والصواب الأول أي أن كون زغبة لقب أبيه حماد هو الصواب، ثم ذكر ما يؤيده عن الطبراني، وكذا قال النووي في شرح مسلم عند قول مسلم: قرأت على عيسى بن حماد زغبة: ما نصه: وهو لقب لحماد والد عيسى، ذكره أبو علي الجياني. اهـ ج 2 ص 33، لكن صرح الحافظ في التقريب في ترجمة عيسى هذا بأن زغبة لقبه، وهو لقب أبيه أيضًا، وقال في بحث الألقاب من التقريب: زغبة عيسى بن حماد، وأخوه أحمد، ويقال: إن زغبة لقب أبيهما. اهـ ص 453.
والذي يظهر لي أنه لقب حماد ثم سَرَى إلى ولديه، فلا معنى للتصويب المذكور. ومعنى الزغبة كما في "ق" دُوَيبَّةٌ كالفأر. ولا ندري سبب تلقيبه.
2 -
(الليث) بن سعد إمام أهل مصر حجة ثبت فقيه -7 - تقدم في 31/ 35.
3 -
(يزيد بن أبي حبيب) اسم أبيه سُوَيد، المصري ثقة فقيه -5 - تقدم في 134/ 207.
4 -
(بكير بن عبد الله بن الأشج) القرشي مولاهم. ويقال: مولى أشجع، أبو عبد الله، ويقال: أبو يوسف المدني نزيل مصر. رَوَى عن محمود بن لبيد، وأبي أمامة بن سهل، وبُسْر بن سعيد، وأبي صالح السمان، وابن المسيب، وسليمان بن يسار، وغيرهم. وعنه بكر بن عمر المعافري، والليث، وابن إسحاق، وعبيد الله بن أبي جعفر، وعبد الله بن سعيد بن أبي هند، وابنه مخرمة، ويزيد بن أبي حبيب،
وغيرهم.
قال أحمد بن صالح المصري: سمعت ابن وهب يقول: ما ذكر مالكٌ بكيرَ بن الأشج إلا قال: كان من العلماء، وقال ابن الطباع: سمعت معن بن عيسى يقول: ما ينبغي لأحد أن يَفْضُل أو يفوق بكير بن الأشج في الحديث، وقال حرب عن أحمد ثقة صالح، وقال الدوري عن يحيى ابن معين، وأبو حاتم: ثقة، وقال ابن البراء عن ابن المديني: لم يكن بالمدينة بعد كبار التابعين أعلم من ابن شهاب، ويحيى بن سعيد، وبكير ابن الأشج، وقال العجلي: مدني ثقة لم يسمع منه مالك شيئا خرج قديما إلى مصر، فنزل بها، وقال النسائي: ثقة ثبت، وقال ابن نمير: توفي سنة 117، وقال الترمذي: مات سنة 120، وقال عمرو بن علي: سنة 22، وقال الواقدي سنة 27.
قال الحافظ رحمه الله: قد روى مالك في الموطأ عن الثقة عنده عن بكير بن عبد الله بن الأشج، وقال أحمد بن صالح المصري: إذا رأيت بكير بن عبد الله روى عن رجل فلا تسأل عنه فهو الثقة الذي لا شك فيه، وقال البخاري في التاريخ الكبير: كان من صلحاء الناس، وهلك في زمن هشام، وقال ابن البراء عن علي بن المديني: أدركه مالك ولم يسمع منه، وكان بكير سيء الرأي في ربيعة، فأظنه تركه من أجل ربيعة، وإنما عرف مالك بكيرا بنظره في كتاب مخرمة، وقال الواقدي: كان يكون كثيرا بالثغر وَقَلَّ من يروي عنه من أهل المدينة، وقال بشر بن عمر الزهراني: قلت لمالك: سمعت من بكير؟ فقال: لا، وقال يحيى ابن بكير: بنو عبد الله بن الأشج ثلاثة لا أدري أيهم أفضل؟ وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، وقال النسائي: ثقة ثبت مأمون، وذكره ابن حبان في الثقات في أتباع التابعين من صلحاء الناس، وقال: كان من خيار أهل المدينة، وقال الحاكم: لم يثبت سماعه من عبد الله بن الحارث ابن جَزْء، وإنما روايته عن التابعين. اهـ "تت" ج 1 ص 491 - 493. أخرج له الجماعة.
5 -
(المنذر بن المغيرة) حجازي. روى عن عروة بن الزبير.
وعنه بكير بن عبد الله بن الأشج، قال أبو حاتم: مجهول ليس بمشهور، وذكره ابن حبان في الثقات. قال المزي: يحتمل أن يكون جد المنذر بن عبد الله الحزامي. اهـ "تت" ج 10 ص 303 - 304.
(تنبيه) رمز على المنذر هذا في التقريب وتهذيب التهذيب والخلاصة لأبي داود والمصنف فقط، وهذا يوهم أنه ما أخرج له ابن ماجه، وهذا تقصير فإنه أخرج له هذا الحديث عن محمَّد بن رمح، عن الليث بسند المصنف. برقم 620، ص 203 ترقيم محمَّد فؤاد. فتنبه.
6 -
(عروة بن الزبير) المدني ثقة فقيه -3 - تقدم في 40/ 44.
7 -
(فاطمة بنت أبي حبيش) واسمه قيس بن المطلب الأسدية الصحابية رضي الله عنها تقدمت في 134/ 201. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سباعياته، وأن رواته كلهم ثقات، غير المنذر، فذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم: مجهول، وقال في التقريب: مقبول. لكن قد عرفت ما قاله أحمد بن صالح من أن مَن رَوَى عنه بكير ثقة. فتنبه. وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عروة) بن الزبير (أن فاطمة بنت أبي حبيش) قيس بن المطلب الأسدية رضي الله عنها (حدثت) قد تقدم أن عروة اختلفوا في سماعه منها، فالبيهقي ينفيه، ورجح ابن حزم سماعه منها، ومن عائشة (أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت إليه الدم) أي عدم انقطاعه (فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما ذلك عرق) أي دم عرق (فانظري إذا أتاك قرؤك) بالفتح والضم، أي حيضك (فلا تصلي) لحرمة الصلاة في الحيض (فإذا مر
قرؤك) أي قدر قرئك من الوقت (فتطهري) بالغسل (ثم صلي ما بين القرء إلى القرء) أي ما بين الحيض إلى الحيض، وأما ما عدا ذلك فهو استحاضة لا يمنع الصلاة ولا غيرها.
قال المصنف رحمه (هذا الدليل) أي حديث فاطمة هذا هو الدليل (على أن الأقراء حيَض) بكسر ففتح جمع حَيْضَة بفتح فسكون، مثل بَدْرَة، وبدر، والقياس حَيْضَات، مثل بَيْضَة وبَيْضَات. قاله في المصباح.
ومراد المصنف بهذا الاستدلال على أن المراد بالقرء في الآية هو الحيض، وكذا أورده في كتاب الطلاق برقم 3553 مستدلا عليه أيضا، لكن قد عرفت أن العلماء قالوا: أن لفظ القرء مشترك بين معنى الحيض، والطهر، فلا يلزم من استعماله في هذا لحديث في الحيض أن يكون في كل موضع بهذا المعنى، فلا يثبت أن المراد بالقرء في آية العدة هو الحيض.
وهذا الذي ذهب إليه الصنف هو مذهب الإمامين، أبي حنيفة، ومالك رحمهما الله، وهو قول عمر رضي الله عنه، وسيأتي مزيد تحقيق للمسألة في موضعها إن شاء الله تعالى.
(قال أبو عبد الرحمن) النسائي رحمه الله (وقد روى هذا الحديث هشامُ بن عروة ، عن عروة ولم يذكر فيه) أي فيما رواه (ما ذكر)، (المنذر) بن المغيرة فيه سندا ومتنا، فإنه قال عن عروة أن فاطمة الخ، وهشام قال: عن عروة، عن عائشة، وقال: إذا أتاك قرؤك، وهشام قال: فإذا أقبلت الحيضة.
والظاهر من كلامه أنه يريد تضعيف روايته للمخالفة، وكذا قال البيهقي: إن في الحديث انقطاعا، فقال هشام بن عروة: إن أباه إنما سمع قصة فاطمة بنت أبي حبيش عن عائشة، وروايته في الإسناد والمتن أصح من رواية المنذر بن المغيرة.
لكن رُدَّ هذا بأنه لا يستلزم الضعف أما السند فلإمكان حمله على أن عروة سمعه منهما، قال ابن حزم رحمه الله: إن عروة أدرك فاطمة، ولا يبعد أن يسمع الحديث من عائشة، ومن فاطمة، وأما المتن فإن حديث أم حبيبة يشهد له، والله أعلم.
(تنبيه) هذا الحديث صحيح.
وقد تقدم الكلام في بيان مواضعه عند المصنف، وفي ذكر من أخرجه وفوائده، وغير ذلك من المسائل في الباب الماضي 134/ 202 فارجع إليه تزدد علمًا. والله تعالى أعلم، والله المستعان، وعليه التكلان.
ثم ذكر المصنف حديث هشام الذي أشار أن المنذر خالفه فيه فقال:
212 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ، وَوَكِيعٌ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالُوا: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟، قَالَ:"لَا، إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي".
رجال هذا الإسناد: سبعة
1 -
(إسحاق بن إبراهيم) الحنظلي المعروف بابن راهويه ثقة حجة ثبت -10 - تقدم في 2/ 2.
2 -
(عبدة) بن سليمان الكلابي أبو محمَّد الكوفي ثقة ثبت من صغار -8 - تقدم في 131/ 195.
3 -
(وكيع) بن الجراح الإمام الحجة الثبت -9 - الكوفي تقدم في 23/ 25.
4 -
(أبو معاوية) محمَّد بن خازم الضرير الكوفي ثقة ثبت من كبار -9 - تقدم في 26/ 30.
5 -
(هشام بن عروة) الأسدي المدني ثقة فقيه -5 - تقدم في 49/ 61.
6 -
(عروة) بن الزبير بن العوام الإمام المدني ثقة فقيه -3 - تقدم في 40 - 44.
7 -
(عائشة) رضي الله عنها تقدمت في 5/ 5. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وهم ما بين كوفيين وهم عبدة، ووكيع، وأبو معاوية، ومدنيين وهم الباقون إلا إسحاق، فمروزي، ثم نيسابوري، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه الإخبار، والعنعنة، والتحديث. والله تعالى أعلم
(تنبيه) هذا الحديث صحيح.
وأما شرحه، وما يتعلق به من المسائل فقد تقدمت في 134/ 201 فلا نطيل الكتاب بإعادتها. والله تعالى أعلم.
136 - ذِكْرُ اغْتِساَلِ المُسْتَحَاضَةِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على أي صفة تغتسل المستحاضة.
والمُستحاضَةُ: اسم مفعول من استُحيضت المرأة: إذا استمر بها الدم، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في 134/ 201.
213 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ امْرَأَةً مُسْتَحَاضَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قِيلَ لَهَا: إِنَّهُ عِرْقٌ عَانِدٌ، فَأُمِرَتْ أَنْ تُؤَخِّرَ الظُّهْرَ، وَتُعَجِّلَ الْعَصْرَ، وَتَغْتَسِلَ لَهُمَا غُسْلاً وَاحِدًا، وَتُؤَخِّرَ الْمَغْرِبَ وَتُعَجِّلَ الْعِشَاءَ، وَتَغْتَسِلَ لَهُمَا غُسْلاً وَاحِدًا، وَتَغْتَسِلَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ غُسْلاً وَاحِدًا.
رجال الإسناد: ستة
1 -
(محمَّد بن بشار) بندار أبو بكر البصري ثقة ثبت -10 - تقدم في 24/ 27.
2 -
(محمَّد) هو محمَّد بن جعفر، غندر البصري ثقة -9 - تقدم في 21/ 22.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت -7 - تقدم في 24/ 26.
4 -
(عبد الرحمن بن القاسم) أبو محمَّد المدني ثقة جليل فاضل -6 - تقدم في 120/ 166.
5 -
(القاسم بن محمَّد) بن أبي بكر الصديق التيمي أحد الفقهاء السبعة ثقة ثبت -3 - تقدم في 120/ 166.
6 -
(عائشة) رضي الله عنها تقدمت في 5/ 5. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات أجلاء، وأن هذا السند أحد الأسانيد التي قيل فيها: إنها من أصح أسانيد عائشة رضي الله عنها، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عائشة) رضي الله عنها (أن امرأة) هى سهلة بنت سهيل القرشية رضي الله عنها، كما بينها أبو داود من طريق ابن إسحاق، وهذا هو الذي مشى عليه أبو الحجاج المزي في التحفة ج 12/ 271، أو هي زينب بنت جحش، كما عند الطحاوي من طريق الثوري انظر شرح معاني الآثار ج 1 ص 100. وكذا عند البيهقي في السنن الكبرى ج 1 ص 353 (مستحاضة) اسم مفعول من استحيضت المرأة بالبناء للمفعول: إذا استمر بها الدم في غير وقته المعتاد (على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي في وقته (قيل لها: إنه عرق) بكسر فسكون، قال ابن الأثير رحمه: العرْق من الحيوان: الأجوف الذي يكون فيه الدم، والعصب -أي بفتحتين-: غير الأجوف. اهـ نهاية ج 3 ص 219 (عاند) صفة لعرق، اسم فاعل من عَنَدَ العرقُ كقتل، وعَندَ كفَرح، وعَنُدَ ككَرُمَ، ويقال أيضًا: أعند
بالهمزة، قال ابن منظور رحمه الله: وعَنَدَ العرقُ وعَنُد وعند وأعند: سال فلم يكد يَرْقَأ، وهو عرق عاند، قال عمرو بن ملقط (من السريع):
بطَعْنَة يَجْري لَهَا عَاندٌ
…
كَالمَاء منْ غَائلَة الجَابيَه
وأعْنَدَ أنفُهُ: كثر سيلان الدم منه، وأعندَ القيءَ وأعْنَدَ فيه: تابعه، وقال أبو عبيد: العرْق العاند الذي عَنَد وبَغَى، كالإنسان يُعَاند، فهذا العرق في كثرة ما يخرج منه بمنزلته، شُبِّهَ به لكثرة ما يخرج منه على خلاف عادته، وقيل العاند الذي لا يرقأ قال الراعي (من الطويل):
وَنَحْنُ تَرَكْنَا بالفَعَاليِّ طَعْنَةَ
…
لهَا عَاندٌ فَوْقَ الذِّرَاعَيْن مُسْبلُ
اهـ لسان ببعض اختصار.
وهذا العرق هو المسمى بالعاذل بالذال المعجمة واللام، أو العاذر بالذال والراء بدل اللام، وقد تقدم الكلام عليه في 134/ 201 (فأمرت) بالبناء للمفعول والآمر هو النبي صلى الله عليه وسلم، لما تقرر في أصول الحديث أن الصحابي إذا قال: أمرنا، أو نحو ذلك فهو مرفوع حكمًا، قال الحافظ
السيوطي رحمه الله:
وَليُعْطَ حُكْمَ الرَّفْع في الصَّوَاب
…
نَحْوُ منَ السُّنَّة منْ صَحَابي
كَذَا أمرْنَا وَكَذَا كُنَّا نَرَى
…
في عَهْده أوْ عَنْ إضَافَة عَرَى
هذا مع أنه قد وقع التصريح بالرفع فيه في رواية شعبة عند البيهقي من طريق الحسن بن سهل، عن عاصم بن علي، ثنا شعبة، عن عبد الرحمن ابن القاسم عن أبيه، عن عائشة "أن امرأة استحيضت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تؤخر الظهر
…
الحديث، وقد ادعى البيهقي أن رواية الحسن بن سهل هذه غلط، لمخالفته غيره ممن لم يصرح
بالرفع.
قال الجامع: لكن يؤيده رواية ابن إسحاق مصرحًا بالرفع، وسيأتي تمام البحث في ذلك إن شاء الله تعالى في المسائل الآتية.
(أن تؤخر الظهر وتعجل العصر) في تأويل المصدر نائب فاعل أمرت، أي أمرت بتأخير الظهر، وتعجيل العصر (وتغتسل لهما غسلا واحدًا، وتؤخر المغرب وتعجل العشاء، وتغتسل لهما غسلا واحدًا) أي أمرت بالجمع بين الصلاتين بغسل واحد في وقت واحد، وإنما أمرها صلى الله عليه وسلم بذلك لما رأى أن الأمر قد طال عليها، وقد أجهدها الاغتسال لكل صلاة فرخص لها في الجمع بين الصلاتين بغسل واحد كالمسافر الذي رخص له في الجمع بين الصلاتين. أفاده في المنهل ج 2 ص 110 (وتغتسل لصلاة الصبح غسلا واحدا) لكونه لا يجمع مع غيره من الصلوات. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: هذا الحديث صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف: أخرجه في هذا الموضع، وفي 5/ 36 من كتاب الحيض بهذا السند.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه أبو داود في الطهارة عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة، بسند المصنف. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار ج 1 ص 352.
المسألة الرابعة: قد تكلم البيهقي في هذا الحديث في السنن الكبرى، فأخرجه من طريق الحسن بن سهل، ثنا عاصم، ثنا شعبة، عن عبد الرحمن ابن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، أن امرأة استحيضت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم
…
الحديث، قال البيهقي: وهو غلط من جهة الحسن يعني رفعه صريحًا لمخالفته الجماعة، ثم أخرجه من طريق عمر بن
حفص، عن عاصم بهذا السند، استحيضت امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرت أن تؤخر الظهر
…
الحديث، يعني بالبناء للمفعول، ثم قال البيهقي: وهكذا رواه جماعة عن شعبة، وذكر جماعة منهم امتناع عبد الرحمن بن القاسم من رفع الحديث، ثم أخرجه من طريق أبي داود الطيالسي عن شعبة، بسنده ومتنه، قال شعبة: قلت: من أمرها، النبي صلى الله عليه وسلم؟، قال: لست أحدثك عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، ثم قال البيهقي: ورواه معاذ بن معاذ، عن شعبة، وفيه قال: فقلت لعبد الرحمن: عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا أحدثك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك قاله النضر بن شميل عن شعبة، ورواه محمَّد بن إسحاق بن يسار، عن عبد الرحمن، فخالف شعبة في رفعه، وسمى المستحاضة. ثم ذكر البيهقي بسنده عن ابن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، أن سهلة بنت سهيل استحيضت، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها
…
الحديث، ثم قال: قال أبو بكر بن إسحاق: فإن بعض مشايخنا لم يسند هذا الخبر غير ابن إسحاق، وشعبة لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنكر أن يكون الخبر مرفوعًا. اهـ السنن باختصار ج 1 ص 352 - 353.
والحاصل أن البيهقي يرى كون هذا الحديث غير مرفوع، فلا تقوم به المحجة على الحكم المذكور.
وقد أجاب عن هذا العلامةُ ابن التركماني في الجوهر النقي، فقال: قلت: امتنع عبد الرحمن من إسناد الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم صريحًا، ولا شك أنه إذا سمع "فَأمرَت" ليس له أن يقول: فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم لأن اللفظ الأول مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم بطريق اجتهادي، لا بالصريح، فليس له أن ينقله إلى ما هو صريح، ولا يلزم من امتناعه من صريح النسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يكون مرفوعا بلفظ "أمرت" على ما عرف من ترجيح أهل الحديث والأصول في هذه الصيغة أنها مرفوعة فتأمله فقد يتوهم من لا خبرة له من
كلام البيهقي وغيره أنه من الموقوف الذي لا تقوم به الحجة، وبهذا يعلم أن ابن إسحاق لم يخالف شعبة في رفعه بل رفعه ابن إسحاق صريحًا، ورفعه شعبة دلالة، ورفعه هو أيضًا صريحًا في رواية الحسن بن سهل عن عاصم عنه.
قال الجامع عفا الله عنه: قد وافق ابن إسحاق في رفعه سفيان بن عيينة إلا أنه أرسله، أخرج البيهقي بسنده عن سفيان، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه "أن امرأة من المسلمين استحيضت، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
…
الحديث، فهذا المرسل يؤيد رواية ابن إسحاق.
والحاصل أن الحديث مرفوع صحيح. والله أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه، توكلت، وإليه أنيب".
137 - بَابُ الاغْتساَلِ مِنَ النِّفَاسِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على وجوب الاغتسال على المرأة التي حصل لها الولادة، من أجل الدم الذي خرج منها، فـ"من" تعليلية.
والنفاس: بالكسر الولادة، قال ابن منظور رحمه الله: والنفاس: ولادة المرأة إذا وضعت، فهي نُفَسَاء، والنَّفْسُ: الدم، ونُفسَت المرأة، ونَفسَت، بالكسر نَفَسًا ونَفَاسَة ونفَاسًا، وهي نُفَسَاء، ونَفْسَاء، ونَفَسَاء: وَلَدت، وقال ثعلب: النفساء الوالدة، والحامل، والحائض، والجمع من كل ذلك نُفَسَاوات ونفَاس ونُفَاس ونُفَّس، (عن اللحياني) ونُفُس ونُفَّاس.
قال الجوهري: وليس في الكلام فُعَلاءُ يُجمع على فعال غير نُفَساء وعُشَراء، ويجمع أيضا على نُفَسَاوات وعُشَروات، وامرأتان نُفَسَاوان، أبدلوا من همزة التأنيث واوا. وفي الحديث:"أن أسماء بنت عميس نُفست بمحمد بن أبي بكر" أي وضعت، ومنه الحديث "فلما تَعَلَّت من نفاسها": أي خرجت من أيام ولادتها، وحكى ثعلب نُفسَت ولدًا، على فعل المفعول. وَوَرثَ فلان هذا الماء في بطن أمه قبل أن يُنفَسَ، أي يولد، قال الجوهري: وقولهم ورث فلان هذا المال قبل أن يُنفَسَ فلان، أي قبل أن يولد، قال أوس بن حجر يصف محاربة قومه لبني عامر بن صعصعة (من المتقارب):
وَإنَّا وَإِخْوَانَنَا عَامرًا
…
عَلَى مثْل مَا بَيننَا نَأتَمرْ
لَنَا صَرْخَة ثُمَّ إسْكَاتَةٌ
…
كَمَا طرَّقَتْ بنفَاس بكرْ
أي بولد، وقوله: لنا صرخة، أي اهتياجة يتبعها سكون كما يكون
للنفساء إذا طرّقت بولدها، والتطريق أن يعصر خروج الولد فتصرخ لذلك، ثم تسكن حركة المولود، فتسكن هي أيضا، وخص تطريق البكر لأن ولادة البكر أشد من ولادة الثيب، والمنفُوس: المولود، وفي الحديث:"ما من نفس منفوسة إلا قد كتب مكانها من الجنة والنار"، وفي رواية "إلا كتب رزقها وأجلها" منفوسة: أي مولودة، قال: يقال: نَفسَت، ونُفسَت، فأما الحيض فلا يقال فيه إلا نَفست، بالفتح. وفي حديث عمر رضي الله عنه:"أنه أجبر بني عَمٍّ على منفوس" أي ألزمهم إرضاعه وتربيته. وفي حديث أبي هريرة: "أنه صلى على منفوس" أي طفل حين ولد، والمراد أنه صلى عليه ولم يعمل ذنبًا، وفي حديث ابن المسيب:"لا يرث المنفوس حتى يستهل صارخا"، أي حتى يسمع له صوت. وقالت أم سلمة: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفراش فحضت، فخرجت، وشددت عليَّ ثيابي، ثم رجعت، فقال:"أنفست"؟ أراد: أحضت؟، يقال: نفست المرأة تَنْفَس، بالفتح: إذا حاضت. اهـ لسان.
214 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ فِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ حِينَ نُفِسَتْ بِذِي الْحُلَيْفَةِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لأَبِي بَكْرٍ: "مُرْهَا أَنْ تَغْتَسِلَ وَتُهِلَّ".
رجال الإسناد: ستة
1 -
(محمَّد بن قدامة) بن أعين بن المسور القرشي مولى بني هاشم أبو عبد الله المصيصي. روى عن جرير بن عبد الحميد، وإسماعيل بن علية، وفضيل بن عياض، وعَثَّام بن علي العامري، وأبي بدر شجاع بن الوليد، وأبي عبيدة الحداد، وابن عيينة، وأبي أسامة، وعلي بن حمزة الكسائي، ووكيع، وغيرهم. وروى عنه أبو داود، والنسائي، وأحمد بن فيل الأنطاكي، وعبد الله بن أحمد بن معدان الفراء، وأبو حفص عمر بن الحسن بن نصر القاضي، وأبو حميد عبد الله بن محمَّد بن تميم، وعبد الرحمن بن عبيد بن أخي الإمام، وعثمان بن عبد الله بن عفان الأنطاكي الفارض، وعمر بن سعيد بن سنان الطائي، ومحمد بن المسيب، ومحمد بن الحسن بن قتيبة، وأبو بكر بن أبي داود، وغيرهم.
قال النسائي: لا بأس به، وقال مرة: صالح، وقال الدارقطني: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال مسلمة بن قاسم: ثقة صدوق، وروى عنه ابن وضاح لقيه بمكة. ومات قريبا من -250 - اهـ "تت" ج 9 ص 410، انفرد به أبو داود، والمصنف.
2 -
(جرير) بن عبد الحميد الضبي الكوفي نزيل الري ثقة ثبت -8 - تقدم في 2/ 2.
3 -
(يحيى بن سعيد) بن قيس الأنصاري المدني أبو سعيد القاضي ثقة ثبت -5 - تقدم في 22/ 23.
(تنبيه) وقع في شرح الشنقيطي رحمه الله هنا خطأ، وهو أنه قال يحيى بن سعيد القطان، والصواب ما قلنا؛ لأن جريرا لا يروى عن القطان، بل عن الأنصاري وكذا صرح بكونه الأنصاري أبو الحجاج
المزي في تحفته ج 2 ص 274 فتنبه.
4 -
(جعفر بن محمَّد) أبو عبد الله المعروف بالصادق المدني إمام صدوق فقيه -6 - تقدم في 123/ 182.
5 -
(محمَّد بن علي) بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبو جعفر الباقر المدني ثقة فاضل -4 - تقدم في 78/ 95.
6 -
(جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام الأنصاري السَّلَميّ رضي الله عنه تقدم في 31/ 35. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات إلا جعفرًا فصدوق، وكلهم مدينون، إلا ابن قدامة فمصيصي، وجريرًا فكوفي، وأخرج لهم الجماعة، غير ابن قُدَامة فأخرج له المصنف، وأبو داود، وجعفرًا فلم يخرج له (خ) وفيه جابر بن عبد الله رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة روى 1540 حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن جابر بن عبد الله) الأنصاري رضي الله عنه (في حديث أسماء بنت عميس) الخثعمية الصحابية الجليلة، كانت عند جعفر بن أبي طالب، فولدت له أولاده كلهم بالحبشة حينما هاجرت معه إليها وبعدما قتل جعفر عنها تزوجها أبو بكر فولدت له ولده محمدا، وهو الذي نفست به بذي الحليفة، ثم تزوجها بعده علي بن أبي طالب، فكانت عنده حتى قتل عنها رضي الله عنهم أجمعين.
وكان عمر رضي الله عنه يسألها عن تعبير الرؤيا، ولما بلغها قتل ابنها محمَّد بن أبي بكر جلست في مسجدها، وكظمت غيظها حتى شَخَبت ثديُهَا دمًا. أفاده في "تت" ج 12 ص 398 - 399.
والجار والمجرور حال من قوله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه في تأويل المصدر مفعول "أخبرنا"، أي أخبرنا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الخ حال كون هذا القول من جملة حديث أسماء، إنما قال كذا؛ لأن الحديث طويل جدًا فاختصر منه هنا ما يستدل به على حكم النفاس فقط. واختصار الحديث فيه خلاف مشهور عند المحدثين، والصحيح الجواز إذا لم يخل المتروك بالمعنى المقصود، وهو مذهب الشيخين، والمصنف، وكثيرين، قال السيوطي في الألفية الحديثية:
وَجَائرٌ حَذْفُكَ بَعْضَ الخَبَر
…
إنْ لَمْ يُخلَّ البَاقي عنْدَ الأكْثَر
والحديث بطوله ساقه مسلم في كتاب الحج، في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم (حين نفست) بالبناء للمفعول، أي ولدت فهي نفساء والجمع نفاس بالكسر، وبعض العرب يقول: نفست تَنْفَس من باب تعب، فهي نافس مثل حائض، والولد منفوس، والنفاس بالكسر أيضا اسم من ذلك، ونفست تنفس من باب تعب: حاضت، ونقل الأصمعي: نفست بالبناء للمفعول أيضا، وليس بمشهور في الكتب في الحيض، وهو من النفس، وهو الدم، وسمي الدم نَفْسا لأن النفس التي هى اسم لجملة
الحيوان قوامها بالدم. أفاده في المصباح. وتقدم عن اللسان بأتم من هذا في أول الباب. والظرف حال من حديث أسماء، أي حال كون ذلك الحديث حاصلا وقت ولادتها (بذي الحليفة) اسم ماء من مياه بني جُشَم، ثم سمي به الموضع، وهو ميقات أهل المدينة على نحو مرحلة عنها، ويقال على ستة أميال. قاله في الصباح (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر) عبد الله عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم التيمي ابن أبي قُحَافة الصديق، رضي الله عنهما، أول الرجال إسلامًا، ورفيق سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم في هجرته، شهد المشاهد، وهو أفضل الناس بعد الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، ومناقبه جمة ترجمته في تاريخ
دمشق في مجلد ونصف، توفي رضي الله عنه سنة 13 عن 63 سنة، ودفن بالحجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام (مُرْها) فعل أمر من أمر يأمر، من باب نصر، وهو على غير قياس؛ لأن قياسه اؤمُرْ بلا حذف، فحذف تخفيفًا لكثرة الاستعمال ومثله خُذ، وكُل، ويَقلّ بلا حذف مع العاطف، نحو "وامر أهلك بالصلاة" قال ابن مالك في لاميته (من البسيط):
وَشَذَّ بالحَذْف مُرْ وَخُذْ وكُلْ وَفَشَا
…
وَامُرْ وَمُسْتَنْدَرٌ تَتْميمُ خُذ وَكُلا
(أن تغتسل، وتهل) أي تحرم بالحج، يقال: أهل المحرم: رفع صوته بالتلبية عند الإحرام، وكل من رفع صوته فقد أهلَّ إهلالا، واستَهَلَّ استهلالا بالبناء للفاعل فيهما. أفاده في المصباح.
وهذا الاغتسال للنظافة لا للطهارة لأنها نفساء لا تطهير إلا بانقطاع الدم عنها.
واعترض السندي على المصنف في إيراده هذا الحديث في هذا الباب، لأن هذا الاغتسال للتنظيف، لأجل الإحرام، وليس هو من قبيل الاغتسال من النفاس؛ لأن ذلك يكون عند انقطاع النفاس، لا في
أثنائه، فإنه لا ينفع حينئذ، وهذا الاغتسال المأمور به هنا كان في ابتداء النفاس وحال قيامه، فلا وجه لذكره في هذا الباب.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما اعترض به السندي غير صحيح، لأن المصنف لم يقل: الاغتسال عند انقطاع النفاس، وإنما قال: الاغتسال من النفاس، وهذه العبارة وإن كان فيها احتمال ما قاله السندي، إلا أن الأولى حملها على أعمّ منه، وهو: وجوب الاغتسال من أجل النفاس لكونه نجسا، سواء كان حال قيامه بها، للنظافة، أو انقطاعه عنها للطهارة، فيكون أخذ حكم النظافة من النص، واستنبط
منه حكم الطهارة عند الانقطاع، لأنه إذا وجب عليها حال القيام بسببه، فوجوبه عليها حال الانقطاع من باب أولى، لأن العلة هي كون الدم نجسًا يجب الطهارة له مثل دم الحيض، إذ لا فرق بينه وبينه، ولذا أجمع أهل العلم على وجوب الاغتسال عند خروجها منه كما ذكره ابن المنذر في الأوسط ج 2 ص 248. والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: هذا الحديث صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف: أخرجه هنا 137، وفي 243 وفي الكبرى 128/ 219 بهذا السند، وفي الحج 57/ 2 عن علي بن حُجْر، عن إسماعيل بن جعفر، عن جعفر بن محمَّد به نحوه، وفي 57/ 1 عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن شعيب بن الليث، عن أبيه، عن ابن الهاد، عن جعفر به أتم منه.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (م ق) فأخرجه (م) في المناسك 16/ 2 عن أبي غسان محمَّد بن عمرو، عن جرير، عن يحيى الأنصاري عن جعفر به. وأخرجه (ق) في الحج 12/ 3 عن علي بن
محمَّد، عن يحيى بن آدم، عن سفيان، عن جعفر به.
المسألة الرابعة: في فوائده: يستفاد من هذا الحديث وجوب الاغتسال من النفاس، وأنه أحد موجبات الاغتسال بالإجماع، كما قدمناه عن ابن المنذر، ومشروعية الإهلال بالتلبية عند الإحرام في الحج أو العمرة، وأن المرأة كالرجل في ذلك، ومشروعية النظافة للإحرام، فيلزم المرأة الغسل وإن كانت حائضًا أو نفساء. وستأتي بقية المسائل في كتاب الحيض إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم.
138 - بَابُ الفَرْقِ بَيْنَ دَمِ الحَيْضِ وَالاسْتِحاَضَةِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على الفرق بين دم الحيض، وبين دم الاستحاضة، وقد تقدم تعريف الحيض والاستحاضة في 134/ 201. فلا تغفل.
215 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ مُحَمَّدٍ -وَهُوَ ابْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ- عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: أَنَّهَا كَانَتْ تُسْتَحَاضُ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِذَا كَانَ دَمُ الْحَيْضِ فَإِنَّهُ دَمٌ أَسْوَدُ يُعْرَفُ فَأَمْسِكِي عَنِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا كَانَ الآخَرُ فَتَوَضَّئِي، فَإِنَّمَا هُوَ عِرْقٌ".
216 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ هَذَا مِنْ كِتَابِهِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ مِنْ حِفْظِهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ كَانَتْ تُسْتَحَاضُ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ
- صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ دَمَ الْحَيْضِ دَمٌ أَسْوَدُ يُعْرَفُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكِ فَأَمْسِكِي عَنِ الصَّلَاةِ، وَإِذَا كَانَ الآخَرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي". قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرُ وَاحِدٍ، لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
رجال الإسناد: ستة
1 -
(محمَّد بن المثنى) أبو موسى العنزي البصري الحجة الثبت -10 - تقدم في 64/ 80.
2 -
(ابن أبي عدي) محمَّد بن إبراهيم بن أبي عدي، وقد ينسب إلى جده ، وقيل: هو إبراهيم، أبو عمرو البصري ثقة -9 - تقدم في 122/ 175.
3 -
(محمَّد بن عمرو بن علقمة بن وقاص) الليثي أبو عبد الله، ويقال: أبو الحسن المدني. صدوق له أوهام -6 - روى عن أبيه، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وعبيدة بن سفيان، وسعيد بن الحارث، وإبراهيم ابن عبد الله بن حنين، ودينار أبي عبد الله القراظ، وعمر بن مسلم بن أكيمة الليثي، ومحمد بن إبراهيم التيمي، وغيرهم.
وروى عنه موسى بن عقبة، ومات قبله، وابن عمه، عمر بن طلحة بن علقمة، وشعبة، والثوري، وحماد بن سلمة، وابن أبي عدي، وغيرهم. قال علي بن المديني: سمعت يحيى بن سعيد، وسئل عن سهيل، ومحمد بن عمرو؟ فقال: محمَّد أعلى منه، قال علي: قلت ليحيى: محمَّد بن عمرو كيف هو؟ قال: تريد العفو أو تشدد؟ قال: لا بل
أشدد، قال: ليس هو ممن تريد، وكان يقول: حدثنا أشياخنا أبو سلمة، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، قال يحيى: وسألت مالكًا عنه فقال فيه نحو ما قلت لك، قال علي: وسمعت يحيى يقول: محمَّد بن عمرو أحب إليَّ من ابن أبي حرملة، وقال إسحاق بن حكيم عن يحيى القطان: محمَّد بن عمرو رجل صالح ليس بأحفظ الناس للحديث، وقال إسحاق بن منصور: سئل يحيى بن معين عن محمَّد بن عمرو ومحمد ابن إسحاق أيهما يقدم؟ فقال: محمَّد بن عمرو، وقال ابن أبي خيثمة: سئل ابن معين عن محمَّد بن عمرو؟ فقال: ما زال الناس يتقون حديثه، قيل له: وما علة ذلك؟ قال: كان يحدث مرة عن أبي سلمة بالشيء من روايته، ثم يحدث به مرة أخرى عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وقال الجوزجاني: ليس بقوي الحديث، ويشتهى حديثه، وقال أبو حاتم: صالح الحديث يكتب حديثه. وهو شيخ، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال مرة: ثقة، وقال ابن أبي عدي: له حديث صالح، وقد حدث عنه جماعة من الثقات كل واحد ينفرد عنه بنسخة ويغرب بعضهم على بعض. وروى عنه مالك في الموطأ، وأرجو أنه لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ. روى له البخاري مقرونا بغيره، ومسلم في المتابعة، وقال ابن أبي مريم عن ابن معين: ثقة، وقال عبد الله بن أحمد، عن ابن معين: سهيل، والعلاء، وابن عقيل حديثهم ليس بحجة. ومحمد بن عمرو فوقهم، وقال يعقوب بن شيبة: هو وسط، وإلى الضعف ما هو؟ وقال الحاكم: قال ابن المبارك: لم يكن به بأس، وقال ابن سعد: كان كثير الحديث يستضعف، وقال ابن معين: ابن عجلان أوثق من محمَّد بن عمرو، ومحمد بن عمرو أحب إلى من محمَّد ابن إسحاق، حكاه العقيلي. مات سنة-144، وقيل: 145 - اهـ "تت" ج 9 ص 375 - 377.
4 -
(ابن شهاب) محمَّد بن مسلم الزهري الحجة الحافظ الثبت -4 - تقدم في 1/ 1.
5 -
(عروة بن الزبير) بن العوام أحد الثقات الأعلام -3 - تقدم في 40/ 44.
6 -
(فاطمة بنت أبي حبيش) قيس بن المطلب رضي الله عنها تقدمت في 134/ 201.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وقد علمت ما في محمَّد بن عمرو من الكلام، لكن لا ينزل حديثه عن درجة الحسن، ولذا قال في التقريب: صدوق له أوهام، وأنهم ممن اتفقوا على التخريج لهم، وأنهم مدنيون إلا ابن المثنى، وابن أبي عدي، فبصريان، وفيه الإخبار والتحديث، والعنعنة. وفيه أن هذا مما رواه عروة عن فاطمة، وقد تقدم الكلام عليه مفصلا ويأتي أيضًا إن شاء الله تعالى.
شرح الحديث
(عن فاطمة بنت أبي حبيش) رضي الله عنه (أنها كانت تستحاض) أي ينزل منها الدم في غير وقته المعتاد (فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم) بعد سؤالها عن حكم ما أصابها (إذا كان دم الحيض) أي وُجدَ، فكان تامة، ويحتمل أن تكون ناقصة، وخبرها مقدرٌ أي موجودًا (فإنه) أي دم الحيض (أسود يعرف) صفة لـ"أسود" وفيه احتمالان:
الأول: أنه على صيغة المجهول من المعرفة، قال ابن رسلان: أي تعرفه النساء، وقال الطيبي: أي تعرفه النساء باعتبار لونه وثخانته كما تعرفه باعتبار عادته.
الثاني: أنه على صيغة المعروف، من الإعراف، أي له عَرْف
ورائحة. اهـ عون المعبود ج 1 ص 471 والعرف بفتح فسكون: الريح طيبةً، أو مُنْتنَةً، وأكثر استعماله في الطيبة. اهـ "ق".
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قالوا من الإعراف
…
، لكن لم أجد
(1)
في كتب اللغة أعرف بمعنى صارت له رائحة خبيثة، وإنما الذي في "ق": أعرف طال عُرفه، اهـ. والعُرْف بضم فسكون: لَحْمة مستطيلة في أعلى رأس الديك. اهـ مصباح، ومما استدركه في التاج على "ق": أعرف الطعام: طاب عَرْفه، أي رائحته. اهـ. وهذان المعنيان لا يلائمان هنا، أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلأنه بعكس المعنى المراد هنا، لأن المراد هنا أنه ذو رائحة كريهة. فليتأمل.
فإذا كان ذلك (فأمسكي عن الصلاة) أي اتركيها، يقال: أمسكتُ عن الأمر: كففت عنه. قاله في المصباح.
(فإذا كان الآخر) بفتح الخاء، أي إذا أتى الدم الآخر، فـ"كان" تامة كما تقدم، أو إذا كان الآخر نازلا، فهي ناقصة حذف خبرها كما قدرناه، و"الآخر" عام يشمل الألوان كلها غير الأسود، كالأصفر والأشقر، والأكدر، فكلها ليست حيضًا (فتوضئي) لوقت كل صلاة، وقد ثبت بالروايات الأخرى الأمر بالاغتسال، وقدمنا أن الأمر فيه للاستحباب، كما هو رأي الجمهور، والله أعلم (فإنما هو عرق) تقدم معنى العرق وضبطه، فلا تنس، وهذه الجملة كالتعليل لما قبلها، أي لأن ذلك دم عرق انفجر، لا دم حيض فيمنعَ صلاةً، ولا غيرها مما يحل للطاهرات.
قال العلامة الصنعاني رحمه الله: هذا الحديث فيه رد المستحاضة إلى صفة الدم بأنه إذا كان بتلك الصفة، فهو حيض، وإلا فهو استحاضة، وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: "إنما ذلك عرق، فإذا أقبلت الحيضة، فدعي
(1)
والمراد استعمال الفعل، وأما الاسم فقد تقدم عن "ق" تفسير العرف بالريح الطيبة، والمنتنة. فتنبه
الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، وصلي". ولا ينافيه هذا الحديث، فإنه يكون قوله: "إن دم الحيض أسود يعرف" بيانا لوقت إقبال الحيضة، وإدبارها، فالمستحاضة إذا ميزت أيام حيضها إما بصفة الدم، أو بإتيانه في وقت عادتها إن كانت معتادة عملت بعادتها. ففاطمة هذه يحتمل أنها كانت معتادة فيكون قوله: "فإذا أقبلت حيضتك" أي بالعادة، أو غير معتادة فيراد بإقبال حيضتها، بالصفة، ولا مانع من اجتماع العرفين في حقها وحق غيرها. اهـ.
قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل من مجموع الروايات أنه صلى الله عليه وسلم بين في حديثها أن معرفة الحيضة لا تخلو من أحد أمرين: إما العادة، وإما الصفة، وقد يجتمعان. فإذا كان الأمران أو أحدهما فالعمل عليه، وأما التي لا عادة لها ولا تمييز فإنما يؤخذ من الأحاديث الأخرى، وقد تقدم ذلك، وتحقيق مذاهب العلماء في حكم المستحاضة مفصلا موضحا في 134/ 208 والحمد لله.
قال النسائي رحمه الله: مبينا اختلاف تحديث ابن أبي عدي (أخبرنا محمَّد بن المثنى) قال (حدثنا ابن أبي عدي) هو محمَّد بن إبراهيم (هذا) أي الحديث السابق، بلا ذكر عائشة في السند (من كتابه) أي مما كتبه من حديث فاطمة بنت أبي حبيش عن شيخه محمد بن عمرو، فجعله عن عروة، عن فاطمة.
(قال) أي النسائي رحمه الله: وقائل "قال" في الموضعين الراوي عنه، والظاهو أنه ابن السني؛ لأنه المشهور برواية "المجتبى" عنه (أخبرنا محمَّد ابن المثنى) قال (حدثنا) محمَّد بن إبراهيبم (ابن أبي عدي من حفظه) أي مما حفظه من حديثها من شيخه، فـ "منْ" في الموضعين لابتداء الغاية، متعلقة بـ "حدثنا".
(قال) أي ابن أبي عدي (حدثنا محمَّد بن عمرو) بن علقمة بن وقاص
الليثي (عن ابن شهاب) الزهري (عن عروة، عن عائشة: أن فاطمة بنت أبي حبيش الخ) فجعله من مسند عائشة رضي الله عنها ، لا من مسند فاطمة رضي الله عنها.
وعند أبي داود رحمه الله: قال ابن المثنى: ثنا به ابن أبي عدي من كتابه هكذا، ثم حدثنا بعدُ حفظا، قال: حدثنا محمَّد بن عمرو عن الزهري .. الخ، وهذا يدل على أن تحديثه من حفظه بعد تحديثه من كتابه.
والحاصل أن هذا الحديث مما حدث به ابن أبي عدي مرتين: مرة من كتابه فجعله من مسند عروة عن فاطمة، ثم حدث به مرة أخرى فجعله من مسنده عن عائشة رضي الله عنها.
قال في المنهل: والأول أقوى، فقد أخرج البيهقي من طريق عبد الله ابن أحمد بن حنبل، قال: حدثنا أبي: ثنا محمَّد بن أبي عدي، ثنا محمَّد بن عمرو يعني ابن علقمة، عن الزهري، عن عروة: أن فاطمة
بنت أبي حبيش
…
الحديث، قال عبد الله: سمعت أبي يقول: كان ابن أبي عدي حدثنا به عن عائشة، ثم تركه.
قال الجامع: هذا يدل على عكس ما قاله ابن المثنى، ولعل ابن أبي عدي حدث به أحمد على خلاف ما حدث به ابن المثنى، فعلى هذا فدعوى كونه أقوى غير صحيحة، فالأولى كون الروايتين صحيحتين لا ترجيح لإحداهما على الأخرى، بل يكون مما حدث به على الوجهين، وكذا دعوى الانقطاع في تحديثه من كتابه غير صحيحة؛ لأن ابن أبي عدي حافظ متقن، وقد حفظه على الوجهين فحدث مرة عن عروة عن فاطمة، ومرة عن عروة عن عائشة، وقد أدرك عروةُ كليهما، وسمع منهما بلا شك، ففاطمة بنت عمه، وعائشة خالته، وقد صرح بأن فاطمة حدثته.
والحاصل أن الحديث من الوجهين صحيح. وسيأتي تمام البحث فيه في المسائل الآتية إن شاء الله تعالى.
(قال أبو عبد الرحمن) النسائي رحمه الله (قد رَوَى هذا الحديث غير واحد، لم يذكر أحد منهم ما ذكر ابن أبي عدي
(1)
، والله تعالى أعلم) يعني أن حديث فاطمة هذا قد رواه رواة كثيرون، لكن ما روى أحد منهم على لفظ ما رواه ابن أبي عدي، بل رووه بلفظ:"فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك أثر الدم، وتوضئي"، وفي رواية "فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي"، كما يأتي في الحديث التالي.
قال الجامع: الظاهر من كلام النسائي تعليل رواية ابن أبي عدي لأمرين:
الأول: اضطرابه في السند، فمرة جعله من مسند فاطمة، ومرة من مسند عائشة.
والثاني: مخالفته في متنه لما رواه الجماعة فإنهم رووه باللفظ المذكور وهو رواه بلفظ: "إن دم الحيض دم أسود يعرف
…
" الحديث.
قال الجامع: والجواب عن هذا ظاهر، أما الأول فقد تقدم قريبا بأنه صحيح من الوجهين لأن عروة رواه عنهما؛ لأنه لقيهما، وأما الثاني: فلأن ما رواه هو لا يخالف ما روى الجماعة لأن معنى "أقبلت الحيضة" أي بصفتها المعروفة، وهي كونها أسود تعرف، فظهر بهذا أن ما رواه غير مخالف لما رووه، والله أعلم. وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
ما ذكره ابن أبي عدي هو لفظ الحديث المذكور وأما قول الشيخ الشنقيطي في شرحه أن المراد أنه انفرد بقوله "توضئي" فغير صحيح؛ لأنه ما انفرد بها بل ذكرها حماد بن زيد كما يأتي عند النسائي، فكيف يقول هنا انفرد بها؟ هذا مما لا يصح. فتأمل.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته هذا الحديث صحيح. وقد تقدم تخريجه برقم 134/ 201 فارجع إليه تزدد علمًا.
المسألة الثانية: في فوائده: يستفاد من هذا الحديث أن الحائض يجب عليها أن لا تصلي، وأن المستحاضة يجب عليها أن تصلي، وأن دم الحيض والاستحاضة بينهما فرق وهو أن دم الحيض أسود يعرف، فما عداه استحاضة، وهذا هو الذي ترجم عليه المصنف، وعلى أنه صلى الله عليه وسلم بين كل شيء، حتى ما يكون من أمر النساء المستحيا منه، وعلى أن الصحابة والصحابيات كان عندهم شدة اهتمام بأمور الدين، حتى يسألون عن المستحيا منه.
المسألة الثالثة قال العلامة شمس الدين ابن القيم رحمه الله في تهذيب السنن: حديث عروة عن فاطمة هذا قال ابن القطان: منقطع لأنه انفرد به محمَّد بن عمرو، عن الزهري، عن عروة، ورواه عن محمَّد بن عمرو، محمَّد بن أبي عدي مرتين: إحداهما من كتابه هكذا، والثانية زاد فيه عائشة بين عروة وفاطمة، وهذا متصل، ولكن لما حدث به من كتابه منقطعًا، ومن حفظه متصلا، فزاد عائشة أورث ذلك نظرًا فيه.
وقد جاء في سنن أبي داود مصرحًا به أنه أخذه من عائشة لا من فاطمة، وروى أبو داود من حديث الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن بكير بن عبد الله، عن المنذر بن المغيرة، عن عروة: أن فاطمة حدثته أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن المنذر مجهول، قاله أبو حاتم الرازي،
والحديث عند غير أبي داود معنعن، لم يقل فيه: أن فاطمة حدثته، قال: وكذلك حديث سهيل بن أبي صالح، عن الزهري، عن عروة حدثتني فاطمة: أنها أمرت أسماء، أو أسماء حدثتني أنها أمرتها فاطمة
أن تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو مشكوك فيه في سماعه من فاطمة، قال وفي متن الحديث ما أنكر على سهيل، وعُدَّ مما ساء حفظه فيه وظهر أثر تغيره عليه، وذلك لأنه أحال فيه على الأيام، قال: فأمرها أن تقعد الأيام التي كانت تقعد قال: والمعروف في قصة فاطمة الإحالة على الدم
وعلى القرء.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: وهذا كله عَنَتٌ ومُنَاكَدَة من ابن القطان. أما قوله: إنه منقطع: فليس كذلك، فإن محمَّد بن أبي عدي مكانه من الحفظ والإتقان معروف لا يجهل، وقد حفظه وحدث به مرة عن عروة، عن فاطمة، ومرة عن عائشة عن فاطمة، وقد أدرك كليهما وسمع منهما بلا ريب، ففاطمة بنت عمه
(1)
، وعائشة خالته، فالانقطاع الذي رمي به الحديث مقطوع دابرُهُ، وقد صرح بأن فاطمة حدثته به.
وأما قوله: إن المنذر جهله أبو حاتم، فلا يضره ذلك، فإن أبا حاتم الرازي يُجَهِّلُ رجالا وهم ثقات معروفون، وهو متشدد في الرجال، وقد وثق المنذر جماعة وأثنوا عليه. وعرفوه.
قال الجامع عفا الله عنه: في هذا الكلام نظر، لأن المنذر ما وثقه إلا ابن حبان، وقال الذهبي في الميزان: لا يعرف، وقال أبو حاتم: مجهول، وقال في التقريب: مقبول، إلا أن أحمد بن صالح المصري قال: كل
من روى عنه بكير بن عبد الله فهو ثقة، وقد روى عنه كما تقدم، فهذا يؤيد توثيق ابن حبان له.
قال ابن القيم رحمه الله: وأما قوله: الحديث عند غير أبي داود معنعن، فإن ذلك لا يضره ولا سيما على أصله في زيادة الثقة، فقد صرح سهيل عن الزهري، عن عروة، قال: حدثتني فاطمة، وحمله
(1)
قوله: بنت عمه، أي مجازا؛ لأنها بنت قيس بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، وعروة بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى.
على سهيل، وأن هذا مما ساء حفظه فيه دعوى باطلة، وقد صحح مسلم وغيره حديث سهيل.
وأما قوله: إنه أحال فيه على الأيام، والمعروف الإحالة على القرء والدم فهو كلام في غاية الفساد، فإن المعروف الذي في الصحيح إحالتها على الأيام التي كانت تحبسها حيضها، وهي القرء بعينها، فأحدهما يصدق الآخر، وأما إحالتها على الدم فهو الذي ينظر فيه، ولم يروه أصحاب الصحيح، وإنما رواه أبو داود، والنسائي، وسأل عنه ابن أبي حاتم أباه فضعفه، وقال هذا منكر، وصححه الحاكم، اهـ كلام ابن القيم، بنوع تصرف.
ثم ذكر النسائي رحمه الله روايات من خالف ابن أبي عدي فقال:
217 -
أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ -وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ- عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتِ: اسْتُحِيضَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ، فَسَأَلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟، قَالَ رَسُولُ اللهِ:"إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ أَثَرَ الدَّمِ وَتَوَضَّئِي، فَإِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ". قِيلَ لَهُ:
فَالْغُسْلُ، قَالَ:"ذَلِكَ لَا يَشُكُّ فِيهِ أَحَدٌ".
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا ذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ "وَتَوَضَّئِي" غَيْرَ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَقَدْ رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ هِشَامٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ "وَتَوَضَّئِي".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(يحيى بن حبيب بن عربي) البصري ثقة -10 - تقدم في 60/ 75.
2 -
(حماد بن زيد) بن درهم البصري ثقة ثبت -8 - تقدم في 3/ 3.
3 -
(هشام بن عروة) بن الزيبر ثقة فقيه -5 - تقدم في 49/ 61.
4 -
(عروة بن الزبير) بن العوام ثقة فقيه -3 - تقدم في 40/ 44.
5 -
(عائشة) رضي الله عنها تقدم في 5/ 5.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات، أخرجوا لهم غير شيخه فما أخرج له البخاري، وهم مدنيون إلا يحيى، وحمادًا فبصريان. وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة، والحديث مضى شرحه غير مرة، ولكن نشير إلى حل بعض ألفاظه.
فقوله: (قيل له: فالغسل) الظاهر أن المسؤول هو حماد بن زيد، أي قال قائل له لما ذكر الوضوء، فالغسل ما حكمه؟ هل يجب عليها أم لا؟ (فقال: ذلك) أي الغسل (لا يشك فيه) أي في وجوبه عليها (أحد) لأنها
حائض طهرت، فوجوب الغسل عليها أمر ظاهر لا يخفى على أحد.
(قال أبو عبد الرحمن) النسائي رحمه الله "لا أعلم أحدًا ذكر في هذا الحديث) أي حديث فاطمة بنت قيس المروي عن طريق هشام بن عروة (وتوضئي) مفعول "ذكر" محكي لقصد لفظه (غير حماد بن زيد) يعني أنه انفرد بزيادة الأمر بالوضوء عن هشام (وقد روى) بالبناء للفاعل، والفاعل قوله (غير واحد) أي نقل جماعة من الرواة هذا الحديث (عن هشام) بن عروة (ولم يذكر فيه وتوضئي) بل ذكر الأمر بغسل الدم والصلاة.
والحاصل أن المصنف زعم: أن حماد بن زيد انفرد بذكر الأمر بالوضوء في هذا الحديث؛ لأن الرواة عن هشام ما ذكروا ذلك.
وكذا أشار مسلم في صحيحه إلى ما ذكره المصنف حيث قال بعد ذكر الحديث عن طريق أبي معاوية، وجرير، وعبد الله بن نمير، وحماد بن زيد، كلهم عن هشام بن عروة: ما نصه: وفي حديث حماد بن زيد زيادة حرف، تركنا ذكره. وأراد بالحرف الذي تركه قوله:"وتوضئي" وذلك لانفراد حماد به عن الرواة الآخرين.
والذي قاله المصنف وأشار إليه مسلم من انفراد حماد بالزيادة غير صحيح، فقد زادها أبو معاوية عن هشام عند البخاري في الصحيح، قال بعد ذكر الحديث ما نصه: قال -يعني هشاما- وقال أبي: "ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت".
قال الحافظ: وادعى بعضهم أن هذا معلق، وليس بصواب، بل هو بالإسناد المذكور عن محمد -يعني ابن سلام- عن أبي معاوية، عن هشام، وقد بين ذلك الترمذي في روايته، وادعى آخر أنّ قوله:"ثم توضئي" من كلام عروة موقوفا عليه، وفيه نظر؛ لأنه لو كان كلامه لقال: ثم تتوضأ بصيغة الإخبار، فلما أتى بصيغة الأمر شاكله الأمر
الذي في المرفوع، وهو قوله:"فاغسلي". اهـ فتح ج 1 ص 397.
وكذلك زادها حماد بن سلمة، ويحيى بن سليم، فقد رواه الدارمي من طريق حماد بن سلمة، والسراّجُ من طريق يحيى بن سليم كلاهما عن هشام بن عروة. قاله الحافظ في الفتح ج 1 ص 488، و، كذا زادها أبو حمزة السُكَّريّ عن هشام، فقد رواه ابن حبان من طريقه في صحيحه ج 2 ص 320، وفيه "فاغتسلي وتوضئي لكل صلاة".
والحاصل أن ذكر الأمر بالوضوء في حديث فاطمة من طريق هشام ثابت عن حماد بن زيد عند المصنف، وأشار إليه مسلم، وأبي معاوية عند البخاري، والترمذي، وحماد بن سلمة عند الدارمي، يحيى بن سليم عند السرّاج، وأبي حمزة عند ابن حبان. فتفطن. والله أعلم.
ثم ذكر المصنف بعض ما أشار إليه بقوله: وقد روى غير واحد عن هشام الخ فذكر ممن خالفهم حماد، وانفرد بتلك الزيادة على زعمه مالكًا، وخالد بن الحارث، فالأول ذكره بقوله:
218 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ يَا رَسُولَ اللهِ، لَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي".
وإسناد هذا الحديث هو الإسناد السابق، غير قتيبة وقد تقدم في 1/ 1، ومالك تقدم في 7/ 7، وكذلك المتن هو السابق، وأتى به المصنف لبيان أن مالكا ما ذكر "وتوضئي" في روايته عن هشام.
وأما طريق خالد فذكرها بقوله:
219 -
أَخْبَرَنَا أَبُو الأَشْعَثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ يُحَدِثُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي لَا أَطْهُرُ، أَفَأَتْرُكُ الصَّلَاةَ؟ قَالَ:"لَا إِنَّمَا هُوَ عِرْقٌ". قَالَ خَالِدٌ: فِيمَا قَرَأْتُ عَلَيْهِ: "وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(أبو الأشعث) أحمد بن المقدام بن سليمان بن الأشعث بن أسلم العجلي البصري. روى عن بشر بن المفضل، وحماد بن زيد، ويزيد بن زريع، ومعتمر بن سليمان، وطائفة. وعنه البخاري، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والبغوي، وابن صاعد، والمحاملي، والباغندي، وأبو عروبة، والحسين بن يحيى بن عياش القطان خاتمة أصحابه.
قال أبو حاتم: صالح الحديث محله الصدق، وقال صالح جزرة: ثقة، وقال ابن خزيمة: كان كيسا صاحب حديث، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال أبو داود: وكان يُعَلِّم المُجَّان المُجُون، فأنا لا أحدث عنه، قال ابن عدي: وهذ لا يؤثر فيه؛ لأنه من أهل الصدق، وكان أبو عروبة يفتخر بلقيه ويثني عليه. ووثقه مسلمة بن قاسم، وابن عبد البر، وآخرون، وذكره ابن حبان في الثقات. قال السراج عنه: ولدت قبل موت أبي جعفر بسنتين، ومات في صفر سنة -253 - ، قال الحافظ: وكانت وفاة أبو جعفر سنة -158 - فيكون عمر أبي الأشعث بضعًا وتسعين. اهـ "تت" ج 1 ص 81 - 82.
قال الجامع عفا الله عنه: وقصة تعليمه المُجَّان المُجُون هو ما ذكره الذهبي في الميزان، ج 1 ص 158: قال كان بالبصرة مُجَّان يلقون صُرّة الدراهم ويرقبونها، فإذا جاء من لحظها فرفعها، صاحوا به، وخجّلوه، فعلمهم أبو الأشعث أن يتخذوا سورة فيها زجاج، فإذا أخذوا صورة الدراهم فصاح صاحبها وضعوا بدلها في الحال صرة الزجاج اهـ. والمُجَّان بضم الميم وتشديد الجيم جمع ماجن كعُذَّال جمع عاذل وهو من لا يبالي قولا أو فعلا.
وأما باقي السند فهم السابقون في الماضي غير خالد، فهو:
خالد بن الحارث بن عُبَيد بن سُلَيم الهُجَيمي أبو عثمان البصري، ثقة ثبت من الثامنة مات 186 - وقد تقدم في 53/ 67.
والحديث مضى مشروحًا غير مرة.
وقوله: (فيما قرأت عليه)، جارو ومجرور خبر مقدم، وقوله (ليست بالحيضة) الخ مبتدأ مؤخر محكي لقصد لفظه، أي قال خالد بن الحارث: كان في جملة ما قرأته على هشام هذه الجمل، وهي "وليست
بالحيضة "الخ. والظاهر من هذه العبارة أن خالدا أخذ هذا الحديث عن هشام مرتين: مرة سماعا، وهو إلى قوله: "لا، إنما ذلك عرق"، ومرة قرأةً، وفيه قوله "وليست بالحيضة الخ". والله أعلم.
وقوله: "وليست بالحيضة"، أي ليست الحالة هذه بحالة الحيضة، فذكره في قوله:"إنما هو عرق"، باعتبار أنه دم، أي هذا الدم المستمر دم عرق، وأنثه في قوله:"ليست" باعتبار أنه حالة. والله أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث عائشة رضي الله عنها هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف. أخرجه هنا 138/ 220، وفي الكبرى 129/ 224 عن طريق خالد، وكذلك طريق مالك أخرجها هنا 138/ 217، وفي الكبرى 129/ 223.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول، وغيرهم، أما طريق خالد فهي من أفراده كما أشار إليه الحافظ المزي في التحفة ج 12 ص 144، وأما طريق مالك فأخرجها (خ) في الطهارة عن عبد الله ابن يوسف، و (د) فيه عن القعنبي كلاهما عن مالك، عن هشام به.
وقد أخرج الحديث من طريق هشام مسلم، والترمذي، وابن ماجه، وأحمد، والدارمي وابن حبان، وابن سعد. انظر تحقيق أحمد شاكر للترمذي ج 1 ص 218 - 219.
وقد تقدمت بنية المسائل في الأحاديث السابقة فلا تنس. والله تعالى أعلم.
139 - بَابُ النَّهْي عَنِ اغْتِساَلِ الجُنُبِ فِي المَاءِ الدَّائِمِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على النهي عن اغتسال الجنب في الماء الذي لا يجري.
والجنب بضمتين: مشتق من الجنابة يستوي فيه المذكر، والمؤنث، والمثنى، والجمع، وربما يطابق.
قال ابن منظور رحمه الله: والجنابة: المنيّ، وفي التنزيل العزيز:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]. وقد أجنب الرجل، وجَنُبَ أيضا بالضم، وجنب -أي بالكسر- وتجنّب. قال ابن برّي في أماليه على قوله: جنُب بالضم: المعروف عند أهل اللغة أجنب، وجنب بكسر النون، وأجنب أكثر من جَنبَ، وقال الأزهري: إنما قيل له: جُنُب لأنه نُهي أن يَقْرَب مواضع الصلاة ما لم يتطهر، فتجنبها، وأجنب عنها، أي تنحّى عنها وقيل: لمجانبته الناس ما لم يغتسل.
والرجل جُنُب من الجنابة، وكذلك الاثنان والجميع، والمؤنث، كما يقال: رجل رضًا، وقوم رضًا، وإنما هو على تأويل ذوي جنب، فالمصدر يقوم مقام ما أضيف إليه.
ومن العرب: من يثني، ويجمع، ويجعل المصدر بمنزلة اسم الفاعل وحكى الجوهري: أجنب وجَنُب بالضم، وقالوا: جُنُبَان، وأجْنَاب، وجنبون، وجُنُبات.
وفي الحديث "لا تدخل الملائكة بيتا فيه جنب"
(1)
قال ابن الأثير: الجنب الذي يجب عليه الغسل بالجماع، وخروج المني، وأجنب، يجنب، إجنابا، والاسم الجنابة، وهي في الأصل البعد، وأراد بالجنب في هذا
(1)
سيأتي للمصنف برقم 168/ 261.
الحديث: الذي يترك الاغتسال من الجنابة عادة، فيكون أكثر أوقاته جنبا، وهذا يدل على قلة دينه وخبث باطنه، وقيل أراد بالملائكة ها هنا غير الحفظة، وقيل: أراد لا تحضره الملائكة بخير، قال: وقد جاء في بعض الروايات كذلك. اهـ لسان ببعض اختصار.
والدائم اسم فاعل من دام الشيء يدُوم دَوْما ودَوَاما وديمومة: ثبت، وسكن، فهو بمعنى الساكن، كما في المصباح. وفي اللسان: قال أبو بكر: الدائم من حروف الأضداد، يقال للساكن دائم، وللمتحرك دائم.
قال الجامع عفا الله عنه: المراد به هنا الساكن، وقد تقدم تمام البحث فيه في 46/ 57، فارجع إليه.
220 -
أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرٍ، أَنَّ أَبَا السَّائِبِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ".
رجال هذا الإسناد: سبعة
1 -
(سليمان بن داود) بن حماد المَهْري أبو الربيع المصري ابن أخي رشدين بن سعد، ثقة من الحادية عشرة تقدم في 63/ 79.
2 -
(الحارث بن مسكين) أبو عمرو المصري قاضيها ثقة -10 - تقدم في 9/ 9.
3 -
(ابن وهب) عبد الله، المصري ثقة حافظ عابد -9 - تقدم في 9/ 9.
4 -
(عمرو بن الحارث) بن يعقوب الأنصاري أبو أيوب المصري ثقة فقيه من -7 - تقدم في 63/ 79.
5 -
(بكير) بن عبد الله بن الأشج المدني، ثم المصري ثقة -5 - تقدم في 134/ 211.
6 -
(أبو السائب) الأنصاري المدني مولى هشام بن زهرة، ويقال: مولى عبد الله بن هشام بن زهرة، ويقال: مولى بني زهرة. روى عن أبي هريرة، وأبي سعيد، والمغيرة بن شعبة. وعنه العلاء بن عبد الرحمن، وصيفي مولى أفلح، وأسماء بن عبيد، وبكير بن عبد الله بن الأشج، وغيرهم. ذكره ابن حبان في الثقات، قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقة مقبول النقل، وقد روى عن سعد بن أبي وقاص أيضا، ووقع في نوادر الأصول في الأصل الثامن والستين أنه جهني، وأن اسمه عبد الله بن السائب، أخرج له البخاري في جزء القراءة، والباقون. اهـ "تت" ج 12 ص 104.
7 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه تقدم في 1/ 1.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسياته، وأن رواته ثقات، مصريون، إلا أبا هريرة، وأبا السائب فمدنيان، وفيه قوله:"واللفظ له"، بمعنى أن هذا اللفظ للحارث، وأما سليمان فروايته بغير هذا اللفظ، وهذه قاعدة اصطلح عليها المحدثون أنهم إذا رووا حديثا عن شيخين فأكثر، واتحد معنى الروايات دون اللفظ، يبينون كون اللفظ لأحدهما، أو لأحدهم، وقد تقدم هذا مفصلا غير مرة، فلا تغفل، وكذلك قوله: وأنا أسمع تقدم البحث عنه مرارًا فلا نطيل الكتاب بإعادته. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن بكير) بن عبد الله بن الأشج المصري (أن أبا السائب) لا يعرف اسمه، وقيل: عبد الله بن السائب (أخبره) أي بكيرًا (أنه سمع أبا هريرة) الدوسي رضي الله عنه (يقول) جملة حالية من المفعول به (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا) ناهية (يغتسل) فعل مضارع مجزوم بلا، (أحدكم) أيتها الأمة، فيشمل الذكر والأنثى، وإنما أتى بخطاب المذكر تغليبًا (في الماء الدائم) أي الساكن، من دام الشيء يَدُوم من باب قال: ويَدَام من باب خاف، قال الشاعر (من الرجز):
يَا مَيَّ لا غَرْوَ وَلا مَلامَا
…
في الحُبِّ إنَّ الحُبَّ لَنْ يَدَامَا
وأصله من الاستدارة، وذلك أن الماء إذا كان بمكان فإنه يكون مستديرا في الشكل، ويقال: الدائم الثابت الواقف الذي لا يجري. وقد تقدم تمام البحث فيه 46/ 57، فارجع إليه تزدد علمًا.
(وهو جنب) جملة حالية، وتقدم البحث عن الجنب في أول الباب. زاد عند مسلم: فقال: "كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولا" والمعنى أن الجنب يغترف من الماء الدائم ولا يجوز له أن ينغمس فيه.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: هذا الحديث أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف: أخرجه هنا في هذا الباب -139/ 220 - وفي كتاب الغسل، والتيمم 1/ 396 بهذا السند إلا أنه أسقط هناك بكيرًا. وليس هذا الحديث في الكبرى.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (م) في الطهارة عن هارون ابن سعيد الأيلي، وأبي الطاهر بن السرح، وأحمد بن عيسى، كلهم
عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث بسند المصنف، وأخرجه (ق) فيه عن أحمد بن عيسى، وحرملة بن يحيى، كلاهما عن ابن وهب به.
المسألة الرابعة: في فوائده: يستفاد من هذا الحديث النهي عن اغتسال الجنب في الماء الذي لا يجري، وهل هذا النهي للتنزيه، أم للتحريم؟ الظاهر أنه للتحريم لأنه لا صارف للنهي عنه. وأنه إذا كان جاريا فلا نهي، وإن كان الأولى تركه، وأن سبيل من أراد الاغتسال منه يغترف منه اغترافا. وتقدم البحث عن أحكام هذا الحديث مستوفى في 46/ 57 فارجع إليه تزدد علمًا. ويأتي بعضه في الباب التالي إن شاء الله تعالى.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
140 - بَابُ النَّهْي عَنِ البَوْلِ فِي الماَءِ الرَّاكِدِ وَالاغْتِساَلِ مِنْهُ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على النهي عن البول في الماء الراكد، والاغتسال منه.
والراكد: اسم فاعل من ركَدَ المَاءُ رُكُودًا من باب قَعَدَ: سَكَنَ، وأركدته: أسكنته.
وفي اللسان: قال أبو عبيد: الراكد: هو الدائم الساكن الذي لا يجري، يقال: ركَدَ الماءُ رُكُودًا إذا سكن، ورَكَدت الريحُ: إذا سكنت، فهي راكدة، وركد الميزان: إذا استوى، وركد العصير من العنب: سكن غليانه، وكل ما ثبت في شيء فقد ركد، والرواكد الأثافي، مشتق من ذلك لثباتها، ورَكَدت البَكْرَةُ، ثبتت ودارت، وهو ضدّ. اهـ لسان باختصار.
وقوله: منه: هكذا في الحديث الآتي بـ"من"، وعند البخاري بـ "في"، وسنحقق الفرق بين العبارتين عند شرح الحديث إن شاء الله تعالى.
221 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ".
رجال الإسناد: ستة
1 -
(محمَّد بن عبد الله بن يزيد المقرئ) أبو يحيى المكي ثقة من العاشرة تقدم في 11/ 11.
2 -
(سفيان) بن عيينة أبو محمَّد الهلالي الكوفي، ثم المكي ثقة حجة -8 - تقدم في 1/ 1.
3 -
(أبو الزناد) عبد الله بن ذكوان أبو عبد الرحمن المدني ثقة -5 - تقدم في 7/ 7.
4 -
(موسى بن أبي عثمان) التُّبَّان المدني، وقيل الكوفي، مولى
المغيرة. روى عن أبيه، وأبي يحيى المكي، والأعرج، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، وأم ظبيان. وعنه أبو الزناد، ومالك بن مغول، وشعبة، والثوري. قال سفيان: كان مؤدبًا، ونعم الشيخ كان، وذكره ابن حبان في الثقات.
قال الحافظ: فرق ابن أبي حاتم بين موسى بن أبي عثمان التبان، روى عن أبيه. وعنه أبو الزناد، وبين موسى بن أبي عثمان الكوفي، روى عن أبي يحيى، عن أبي هريرة، وعن النخعي، وسعيد، وعنه شعبة، والثوري وغيرهما، ولم يذكر في التبان شيئًا، وقال في الآخر عن أبيه: شيخ. اهـ "تت" ج 10 ص 360.
5 -
(أبو عثمان) التبان بمثناة مضمومة ثم موحدة ثقيلة -مولى المغيرة ابن شعبة- اسمه سعيد، وقيل: عمران. روى عن أبي هريرة. وعنه ابنه موسى، ومنصور بن المعتمر، ومغيرة بن مقسم. روى له البخاري تعليقًا، والنسائي حديثه عن أبي هريرة "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم"، كلا الحديثين من رواية ابنه موسى عنه.
وروى البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود، والترمذي من رواية شعبة عن منصور، عن أبي عثمان، عن أبي هريرة حديث:"لا تنزع الرحمة إلا من قلب شقي". قال الترمذي: حسن، وأبو عثمان لا يعرف اسمه، ويقال: هو والد موسى بن أبي عثمان، وأبو عثمان التُّبَّان، ذكره ابن حبان في الثقات. علق له البخاري، وأخرج له أبو داود، والترمذي، والنسائي. اهـ " تت" ج 12، ص 163 - 164.
6 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه تقدم في 1/ 1.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسياته، وأن رواته ثقات مدنيون إلا شيخه، وسفيان فمكيان، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة، وفيه أبو هريرة أكثر من روى الحديث في دهره، رضي الله عنه.
شرح الحديث
(عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يبولن)"لا" ناهية، والفعل المؤكد بالنون الثقيلة مجزوم المحل، لكونه مبنيا معها على الفتح (أحدكم) تقدم أنه يشمل الذكور والإناث، وإنما وجه الخطاب إلى الذكور تغليبا (في الماء الراكد) أي الواقف، وتقدم معناه مستوفى في أول الباب، وتقدم للمصنف وكذا للشيخين بلفظ "الدائم"(ثم يغتسل منه) تقدم في 46/ 57. هذا الحديث عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ "ثم يتوضأ منه"، ورواية "ثم يغتسل" هي رواية البخاري، وغيره، ثم المشهور رفع الفعل، فتكون الجملة خبرًا لمبتدإ محذوف، أي ثم هو يغتسل، والجملة بمنزلة تعليل الحكم، أي لا يبولن أحدكم في الماء الراكد؛ لأنه يغتسل منه بعدُ، و"ثم" للاستبعاد، فكأنه قال: كيف يبول فيه، وهو يحتاج إليه للاغتسال منه. وجَوَّز ابن
مالك الجزم عطفًا على محل "يبولن" والنصب على إعطاء "ثم" حكم الواو، وتعقب القرطبي هذين الوجهين، وتمام البحث على هذا قد تقدم في شرح 46/ 57. فارجع إليه تزدد علمًا.
وقوله: (منه) أي من الماء الراكد، وهكذا في رواية الشيخين ووقع في رواية للبخاري بلفظ "فيه"، قال العلامة ابن دقيق العيد: وكل من اللفظين يفيد حكما بالنص وحكمًا بالاستنباط، ووجهه كما قال الحافظ أن لفظ "في" تدل على منع الانغماس بالنص، وعلى منع التناول، بالاستنباط، ولفظ "من" بعكس ذلك. وتقدم البحث في هذا في الموضع المذكور. والله أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: هذا الحديث صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه من الكتاب: أخرجه المصنف في هذا الموضع وفي الكبرى 130/ 225 وفي كتاب الغسل 1/ 399 بهذا السند وفي الكبرى-130/ 225 - وهو من أفراده لم يخرجه من أصحاب الأصول أحد غيره.
وبقية المسائل تقدمت مستوفاة في 46/ 57 فارجع إليه تزدد علمًا.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
141 - بَابُ ذِكْرِ الاغْتِساَلِ أوَّلَ اللَّيْلِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية الاغتسال في أول الليل مبادرة إلى الطهارة.
222 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَخْلَدٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنْ غُضَيْفِ بْنِ الْحَارِثِ: أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَيُّ اللَّيْلِ كَانَ يَغْتَسِلُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: رُبَّمَا اغْتَسَلَ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَرُبَّمَا اغْتَسَلَ آخِرَهُ.
قُلْتُ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الأَمْرِ سَعَةً.
رجال هذا الإسناد: سبعة
1 -
(عمرو بن هشام) بن يزيد الجزري أبو أمية الحراني. روى عن جده لأمه عَتَّاب بن بشير، ومحمد بن سلمة الحَرَّاني، وسليمان بن أبي كريمة، وعبد الملك الماجشون، وابن عيينة، وأبي بكر بن عياش، ومخلد ابن يزيد، وغيرهم. وعنه النسائي، ومحمد بن عوف الطائي، وبَقيّ بن مَخْلَد، وأحمد بن علي الأبَّار، وزكرياء السجزي، ومحمد بن محمَّد ابن سليمان الباغندي، والحسين بن إسحاق التستري، وأبو عروبة
الحراني، وآخرون. قال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات،
وقال: مات بسواد الكوفة، وهو ذاهب إلى الحج، سنة -245 - وهو من أفراد النسائي. اهـ "تت"ج 8 ص 113.
2 -
(مخلد) بفتح الميم وسكون الخاء وفتح اللام- ابن يزيد القرشي الحراني أبو يحيى، ويقال أبو خداش، ويقال: أبو الحسين، ويقال: أبو خالد. روى عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وحَريز بن عثمان، والأوزاعي، وابن جريج، ويونس بن أبي إسحاق، وإسرائيل بن يونس، وسعيد بن عبد العزيز، وحنظلة بن أبي سفيان، وغيرهم. روى عنه أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو جعفر النفيلي، وابنا أبي
شيبة، وعبد الحميد بن محمَّد بن المستام، وأبو أمية عمرو بن هشام، وغيرهم.
قال الأثرم عن أحمد: لا بأس به، وكان يهم، وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة، وكذا قال أبو داود ويعقوب بن سفيان، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال أحمد بن علي الأبار: سألت علي بن ميمون عنه؟ فقال: كان شيخًا قرشيًا، نعم الشيخ، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الساجي: كان يهم، وقدم أحمد مسكين بن كثير عليه، فمن أوهامه حديثُهُ عن الأوزاعي، عن عبد الواحد بن قيس، عن أبي هريرة رفعه: "قال: يكفر كل لحاء
(1)
ركعتان". قال أبو داود: مخلد شيخ، إنما رواه الناس مرسلا، وقال ابن سعد: حدثنا عباد بن عمرو: حدثنا مخلد بن يزيد وكان فاضلًا خيرًا كبير السن. قال أبو جعفر النفيلي: مات سنة -193 - . أخرج له الجماعة، إلا الترمذي. اهـ "تت" ج 10 ص 77 - 78.
3 -
(سفيان) بن سعيد الثوري الإمام الحجة تقدم في 33/ 37.
4 -
(أبو العلاء) بُرْد بن سنَان، الشامي الدمشقي مولى قريش، سكن
(1)
اللحاء بكسر اللام: المنازعة والخصام. اهـ.
البصرة. روى عن واثلة، وإسحاق بن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي، وبُدَيل ابن ميسرة العقيلي، وبكير بن فيروز، وعُبَادة بن نُسَي، وعطاء بن أبي رباح، والزهري، ومكحول الشامي، ونافع مولى ابن عمر، وغيرهم. وعنه ابن علية، والسفيانان، والحمادان، وحفص بن غياث، والأوزاعي، وسعيد بن أبي عروبة، وابنه العلاء بن برد، ومعتمر بن سليمان، ويحيى بن حمزة الحضرمي، وغيرهم. وذكر صاحب
(1)
الكمال أن كهمس بن الحسن روى عنه، والصواب كهمس بن المنهال، ذكره النسائي في الطبقة السادسة من أصحاب نافع، وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: صالح الحديث. وقال ابن معين: ثقة. وقال دُحَيم، والنسائي، وابن خراش: ثقة، وقال الدوري عن ابن معين: ليس بحديثه بأس، وكان شاميًا. وقال ابن الجنيد عنه: نحو ذلك، وقال أيضا: هرب من الشام من أجل قتل الوليد بن يزيد، فلأجل ذلك سمع منه أهل البصرة، وقال يزيد بن زريع: ما رأيت شاميًا أوثق من برد. وقال يعقوب بن سفيان: سألت عبد الرحمن بن إبراهيم أي أصحاب مكحول أعلى؟ فقال وذكر جماعة. ثم قال: ولكن زيد بن واقد وبرد ابن سنان من كبارهم، وقال النسائي مرة: ليس به بأس، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال أيضا: كان صدوقًا في الحديث، وقال أبو حاتم كان صدوقًا قدريًا، وقال الدارمي عن علي بن المديني: برد بن سنان ضعيف. وقال عمرو بن علي، وخليفة: مات سنة 135 أخرج له البخاري في الأدب المفرد، والأربعة. اهـ "تت " ج 1 ص 428 - 429.
5 -
(عبادة بن نُسَيّ) بضم العين وتخفيف الباء آخره تاء تأنيث،
(1)
قال الحافظ: تبع صاحب الكمال أبا القاسم بن عساكر في أن كهمس بن الحسن روى عن برد، وقال الحاكم في المستدرك عقيب حديث سفيان عن برد في الغسل من الجنابة: تابعه كهمس بن الحسن عن برد. اهـ "تت" ج 1 ص 429.
ونُسي: بضم النون وفتح السين المهملة الخفيفة- الكندي أبو عمرو الشامى الأردني قاضي طبرية. روى عن أوس بن أوس الثقفي، وشداد ابن أوس، وعبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، وعبد الرحمن بن غُنْم، وخباب بن الأرت، والأسود بن ثعلبة، وأبيّ بن عمارة، وله صحبة، وجنادة بن أبي أمية، وكعب بن عجرة، وغيرهم. وعنه برد بن سنان، والمغيرة بن زياد الموصلي، وعبد الرحمن بن زياد بن أنْعُم، وأيوب بن قَطن، وحاتم بن نصر، والحسن بن ذكوان، وعتبة بن حميد، وغيرهم.
قال ابن سعد في تابعي أهل الشام: كان ثقة، وقال أحمد، وابن معين، والعجلي، والنسائي: ثقة، وقال أحمد في رواية: ليس به بأس، وقال البخاري: عبادة بن نسي الكندي: سيدهم، وقال أبو داود:
سألت ابن معين عنه؟ فقال: لا يسئل عنه من النسك
(1)
. وقال أبو حاتم، وابن خراش: لا بأس به، وقال مغيرة بن زياد: قال مسلمة بن عبد الملك: إن في كندة لثلاثة نفر، إن الله ينزل بهم الغيث، وينصر بهم على الأعداء: عبادة بن نسي، ورجاء بن حيوة، وعدي بن عدي، وقال عمرو بن
علي، وغير واحد: مات سنة -118 - ، وقال ابن حبان في الثقات: مات وهو شاب، وقال ابن صفوان: وثقه ابن نمير. أخرج له الأربعة. اهـ "تت" ج 5 ص 113 - 114.
6 -
(غضيف بن الحارث) ويقال: غطيف بن الحارث بن زنيم السكوني الكندي، ويقال: الثمالي أبو أسماء الحمصي، مختلف في صحبته. روى عن بلال المؤذن، وعمر بن الخطاب، وأبي عبيدة ابن الجراح، وأبي ذر، وأبي الدرداء، وأبي حميصة المزني، وعطية بن بشر، وعائشة. وروى عنه ابنه عياض بن غضيف، ومكحول، وعبادة بن نسي، وسليم بن عامر، وشرحبيل بن مسلم، وأزهر بن سعد الحرازي،
(1)
هكذا في نسخة "تت" وفي نسخة "تك""لا تسأل عنه، من النبل".
وحبيب بن عبيد الرحبي، وعبد الله بن أبي قيس، وغيرهم.
قال ابن أبي حاتم: قال أبي، وأبو زرعة: غضيف بن الحارث له صحبة، وقال ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام: غضيف ابن الحارث الكندي كان ثقة، وقال العجلي: غضيف بن الحارث شامي تابعي ثقة، وقال الدارقطني: ثقة من أهل الشام، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال في حرف العين: عياض بن غضيف وهو الذي يقول فيه سليم بن عامر: غضيف بن الحارث لم يضبط اسمه، ووقع في رواية النسائي من طريق الوليد بن عبد الرحمن عن عياض بن غطيف عن أبي عبيدة بن الجراح، وقال مكحول: عن غطيف بن الحارث: مررت بعمر بن الخطاب، فقال: نعم الفتى غضيف بن الحارث، قال الهيثم ابن عدي، وخليفة بن خياط: مات في زمن مروان بن الحكم، وقال غيرهما: بقي إلى زمن عبد الملك بن مروان، وهو الصحيح.
وقال الحافظ رحمه الله: الذي روى عنه ابنه عياض غير صاحب الترجمة كما سأبينه؛ لأن البخاري قال في تاريخه الأوسط: حدثنا عبد الله -يعني ابن صالح- حدثنا معاوية، عن أزهر بن سعيد، قال: سأل عبد الملك بن مروان غضيف بن الحارث الثمالي، وهو أبو أسماء السكوني الشامي أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الثوري في حديث غضيف بن الحارث: وهو وهم، وقال في التاريخ الكبير: قال معن -هو ابن عيسى عن معاوية -يعني ابن صالح- عن يونس بن سيف، عن غضيف بن الحارث، أو الحارث بن غضيف السكوني، قال: مهما نسيتُ من الأشياء، فإني لم أنس أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعا يده اليُمنى على اليسرى في الصلاة.
وقال ابن حبان في الصحابة: غضيف بن الحارث الثمالي أبو أسماء
السكوني من أهل اليمن "رأى النبي صلى الله عليه وسلم واضعا يده اليمنى على اليسرى في الصلاة" سكن الشام، وحديثه عند أهلها. مات في زمن مروان بن الحكم في فتنته، ومن قال: إنه الحارث بن غضيف فقد وهم، وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: غضيف بن الحارث له صحبة نزل الشام، وهو بالضاد، فأما غطيف الكندي: فهو بالطاء تحتها نقطة
(1)
فهو غير هذا، يروي عنه ابنه عياض بن غطيف، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا شرب الرجل الخمر فاجلدوه"
…
الحديث. وقال أبو الفتح الأزدي: غطيف بن الحارث له صحبة تفرد عنه ابنه عياض، وممن فرق بينهما أيضا أبو القاسم عبد الصمد القاضي في تاريخ الصحابة الذين نزلوا حمص، وأبو القاسم الطبراني في المعجم الكبير وغيرهما. أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه. اهـ
"تت"ج 8 ص 248 - 250.
7 -
(عائشة) رضي الله عنها تقدمت في 5/ 5.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سباعياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأنهم ما بين حرانيين، وهما شيخه، وشيخ شيخه، وكوفي، وهو سفيان، وشاميين، وهم الباقون إلا عائشة فمدنية، وأن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، برد، وعبادة، وغضيف، وفيه رواية صحابي عن صحابية إن ثبتت صحبة غضيف، وفيه عائشة من المكثرين السبعة رضي الله عنها.
شرح الحديث
(عن غضيف بن الحارث) أبي أسماء السكوني الحمصي (أنه سأل عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها أيّ الليل) برفع "أيّ" على أنها
(1)
قوله تحتها نقطة، أي حرف غير معجم كما يرجد في الكتب القديمة. اهـ من هامش "تت".
استفهامية مبتدأ، وإنما أضيفت إلى مفرد مُعَرَّف لقصد أجزائه، كما في قول الشاعر (من الطويل):
ألا تَسْألونَ النَّاسَ أيِّي وَأيُّكُمْ
…
غَدَاةَ التَقَيْنَا كَانَ خَيْرًا وَأكْرَمَا
قال ابن مالك رحمه الله:
وَلا تُضفْ لمُفْرَد مُعَرَّفِ
…
أيًا فَإنْ كَرَّرْتَهَا فَأضفِ
أوْ تَنْوِ اَلأجْزَا وَاخْصُصْنَ بالمَعْرفَهْ
…
مَوْصُولةً أيًا وَبالعَكْس الصِّفَهْ
وتقدير الكلام هنا: أي أجزاء الليل، والخبر جملة قوله (كان يغتسل رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي فيه، والعاملان تنازعا في "رسول الله"، قال ابن مالك:
إنْ عَامِلانِ اقْتَضَيَا فِي اسْم عَمَلْ
…
قَبْلُ فَللوَاحد منْهُمَا العَمَلْ
وَالثَّان أوْلَى عنْدَ أهْل البَصْرَهْ
…
وَاختَارَ عَكْسًا غَيْرُهُمْ ذَا أسْرَهْ
ويحتمل كون "كان" زائدة، كما قال ابن مالك:
وَقَدْ تُزَادُ كَانَ فِي حَشوٍ كَمَا
…
كَانَ أصَحَّ علْمَ مَنْ تَقَدَّمَا
وقال الشنقيطي رحمه الله في شرحه: إنه على التقديم والتأخير، أي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل فيه.
قال الجامع عفا الله عنه: لا حاجة لدعوى التقديم والتأخير، فقد عرفت أن الكلام مستقيم بدونه. فتنبه. والله أعلم.
والرابط على كل حال مقدر، أي فيه، كما مر آنفا، ويحتمل كون "أي" استفهامية منصوبة على الظرفية متعلقة بما بعدها لإضافتها إلى الليل. وعند أبي داود: قال: قلت لعائشة: أرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من الجنابة في أول الليل أو في آخره؟ (قالت) عائشة (ربما اغتسل أول الليل) منصوب على الظرفية متعلق بما قبله، وعند أبي داود "في أول الليل"(وربما اغتسل آخره) فيه دليل على أن غسل الجنابة ليس
واجبًا على الفور، بل يجوز تأخيره، وإن كان الأولى المبادرة إليه طلبا لدوام الطهارة، قال غضيف (قلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر) أي في أمر الشريعة، أو أمر الجنابة (سعة) أي سهولة ويسرا، والسعة بفتح المهملتين، ويجوز كسر السين، قال في المصباح: وسع الإناء المتاع، يسعه، سَعة، بفتح السين، وقرأ به السبعة في قوله "ولم يؤت سعة من المال"، وكسرها لغة وقرأ بها بعض التابعين. اهـ والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث عائشة رضي الله عنها هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف: أخرجه هنا 141/ 222 وفي الكبرى 131/ 227 عن عمرو بن هشام، عن مخلد، عن سفيان، عن أبي العلاء، عن عبادة بن نسي، عن غضيف بن الحارث، عنها. وأخرجه أيضا في الباب التالي 142/ 223، عن يحيى بن حبيب بن عربي، عن حماد بن زيد، عن أبي العلاء، عن عبادة.
المسألة الثالثة فيمن أخرجه معه: أخرجه (د) في الطهارة عن مسدد، عن معتمر، وعن أحمد بن حنبل، عن إسماعيل بن علية، كلاهما عن أبي العلاء برد بن سنان عن عبادة بن نسي، عن غضيف بن الحارث، قال: قلت لعائشة: أرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من الجنابة في أول الليل أو في آخره؟ قالت: ربما اغتسل في أولى الليل، وربما اغتسل في آخره، قلت: الله أكبر، الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، قلت: أرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر أول الليل، أم في آخره؟ قالت: ربما أوتر في أول الليل، وربما أوتر في آخره، قلت: الله أكبر، الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، قلت: أرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالقرآن أم
يخافت به؟ قالت: ربما جهر به وربما خَفَتَ، قلت: الله أكبر، الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة".
وأخرجه (ق) في الصلاة عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن ابن علية ببعضه:"أكان يجهر بالقرآن أو يخافت"؟.
وأخرجه الحاكم، والبيهقي.
المسألة الرابعة: في فوائده: يستفاد من الحديث ما كان عليه السلف من تتبع أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله، وأحواله، للاقتداء بها، وهكذا ينبغي أن يكون المسلم دائمًا، قال الله تعالى:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] وكون الاغتسال من الجنابة على التراخي، رفعا للحرج كما قال تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وهذه نعمة عظمى ينبغي أن تقابل بالشكر كما فعل غضيف رحمه الله، حيث قال: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، أي حيث أباح لنا الأمرين، وبَيَّنَ ذلك لنا نبيه صلى الله عليه وسلم بفعله.
وقال السندي بعد ذكر نحو ما قلناه: ما نصه: لكن قد يقال: لا دلالة في الحديث على جواز التأخير الذي فيه سعة لجواز أنه كان يغتسل أول الليل إذا كانت الجنابة أول الليل، ويغتسل آخره إذا كانت الجنابة آخره، إلا أن يقال: يفهم التأخير بقرينة السؤال، وبقرينة تقرير عائشة السائل على قوله: الحمد لله الخ. فليتأمل. اهـ
قال الجامع عفا الله عنه: أول كلامه في غاية البعد من سياق الكلام، بل ما أجاب به أخيرًا هو الصواب الذي يفهم من السؤال والجواب، فدلالة الحديث على التأخير واضحة، والله أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
142 - الاغْتِسالُ أوَّلَ اللَّيل وَآخرَهُ
هكذا النسخ، ولو قال: الاغتسال آخر الليل لكان أولى لأن الاغتسال أول الليل تقدم في الترجمة السابقة، وفي النسخة الهندية ما يشير إلى أن هذه الترجمة توجد في بعض النسخ، دون بعض.
223 -
أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ بُرْدٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنْ غُضَيْفِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها، فَسَأَلْتُهَا، فَقُلْتُ: أَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَغْتَسِلُ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ، أَوْ مِنْ آخِرِهِ؟ قَالَتْ: كُلَّ ذَلِكَ، رُبَّمَا اغْتَسَلَ مِنْ أَوَّلِهِ، وَرُبَّمَا اغْتَسَلَ مِنْ آخِرِهِ.
قُلْتُ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الأَمْرِ سَعَةً.
رجال الإسناد: ستة
كلهم تقدموا في السند السابق، إلا يحيى بن حبيب، فتقدم في 60/ 75. وحماد بن زيد، فتقدم في 3/ 3.
ومن لطائفه
أنه أعلى من السند السابن لأنه سداسي، وذاك سباعي.
قوله: (من أول الليل) الخ: "من" بمعنى "في"، أي في أول الليل الخ، وقوله:(كلّ ذلك) قال السندي: مفعول لمقدر، أي يفعل كل ذلك، أو مبتدأ خبره مقدر، أي كل ذلك يفعله، وجملة ربما الخ، بيان
له، ومعنى "كل ذلك"، أي كلا من الاغتسال أول الليل والاغتسال آخره. اهـ. وبنية الكلام على الحديث تقدم في الباب الماضي فارجع إليه تزدد علمًا. والله ولي التوفيق.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
143 - بَابُ ذكرِ الاسْتِتاَرِ عنْد الاغْتِساَلِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية الاستتار عند الاغتسال.
والاستتار إن كان المغتسل وحده مستحب، وإن كان في الملأ فواجب، كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
224 -
أَخْبَرَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحِلُّ بْنُ خَلِيفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو السَّمْحِ، قَالَ: كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَغْتَسِلَ قَالَ:"وَلِّنِي قَفَاكَ". فَأُوَلِّيهِ قَفَايَ، فَأَسْتُرُهُ بِهِ.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(مجاهد بن موسى) الخوارزمي أبو علي نزيل بغداد ثقة -10 - تقدم في 85/ 102.
2 -
(عبد الرحمن بن مهدي) بن حسان أبو سعيد البصري الإمام الثبت الحجة -9 - تقدم في 42/ 49.
3 -
(يحيى بن الوليد) بن المُسَيَّر الطائي ثم السِّنبَسِي
(1)
أبو الزَّعْرَاء -بفتح الزاي المعجمة، وسكون العين المهملة- الكوفي، لا بأس
(1)
بكسر أوله، والموحدة، بينهما نون ساكنة، وآخره مهملة: نسبة إلى قبيلة من طيء. اهـ لب ج 2 ص 29.
به-7 - . روى عن مُحلّ بن خليفة، وسعيد بن عَمْرو بن أشوع. وعنه ابن مهدي، وعصام بن عمرو، ويحيى بن المتوكل الباهلي، وزيد بن الحباب، وسويد بن عمرو الكلبي، وأبو عاصم. قال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في الثقات. أخرج له أبو داود، والنسائي، وابن ماجه. اهـ "تت" ج 11 ص 296.
4 -
(محل بن خليفة) مُحلّ -بصيغة اسم الفاعل المضعف- وخليفة -بفتح الخاء وكسر اللام الطائي الكوفي. روى عن جده عدي بن حاتم، وأبي السمح خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وملحان بن زياد.
وعنه سعد أبو مجاهد الطائي، وأبو الزعراء يحيى بن الوليد الطائي، وشعبة، والثوري.
قال ابن معين، وأبو حاتم، والنسائي: ثقة، زاد أبو حاتم صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات. ووثقه ابن خزيمة، والدارقطني، وقال ابن عبد البر في التمهيد في الكلام على بول الصبي: إن مُحلّ بن خليفة
ضعيف. ولم يُتَابَع ابنُ عبد البر على ذلك. اهـ "تت" ج 10 ص 60.
5 -
(أبو السمح) بفتح فسكون مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه، يقال اسمه إياد. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعنه محل بن خليفة الطائي.
قال أبوزرعة: لا أعرف اسمه، ولا أعرف له غير هذا الحديث -يعني: "كان إذا أراد أن يبول
(1)
قال: ولني ظهرك"، كذا قال، وقد روى له النسائي حديثا آخر في بول الغلام والجارية.
قال الحافظ رحمه الله: هما حديث واحد قطَّعه النسائي، وروى أبو داود، وابن ماجه منه الجملة الأولى، وقد رواهما مجموعا ابن خزيمة في صحيحه، والبزار، وقال: لا نعلم حديث أبي السمح بغير هذا الحديث، ولا له إسناد إلا هذا. اهـ "تت" ج 12 ص 120.
(1)
هكذا في "تت""إذا أراد أن يبول" الخ. والذي في "الإصابة" في ترجمته: "فكان إذا أراد أن يغتسل، قال: "ولني قفاك". وهو الذي يوافق ما في الست. فتنبه.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: روى له النسائي حديثا آخر في بول الغلام والجارية سيأتي في 190/ 204 وقوله: روى أبو داود الجملة الأولى: الذي في أبي داود الجملتان معا، انظر شرح المنهل ج 3 ص 251، وأما ابن ماجه ففرقهما، فروى الجملة الأولى فقط في ج 1ص 201، والجملة الثانية في ج 1 ص 175 بتحقيق محمَّد فؤاد، وقوله: وقد رواه مجموعًا ابن خزيمة الخ: الذي في صحيح ابن خزيمة الجملة الثانية فقط انظر صحيحه ج 1ص 143 بتحقيق الأعظمي، فليحرر. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسياته، وأن رواته ثقات، وهم ما بين بغدادي، وهو شيخه، وبصري، وهو عبد الرحمن، وكوفيين، وهما يحيى، ومُحلّ، ومدني، وهو الصحابي، وفيه أن هذا الصحابي لا يعرف اسمه، وليس له غير هذا الحديث، وحديث بول الغلام، وقيل: اسمه إياد، كما مَرَّ آنفًا، وفيه قوله: حدثني بالإفراد في ثلاثة مواضع، وأخبرنا، وحدثنا بالجمع في موضع، وبيانه أن أخبرنا بالجمع لمن سمع قراءة القارئ، على الشيخ، وحدثنا لمن سمع من لفظ الشيخ مع غيره، وحدثني لمن سمع تحديث الشيخ وحده، وهذا أمر مستحسن عند المحدثين وليس بواجب، كما قال في الألفية السيوطية:
واسْتَحْسَنُوا لمُفْرَد حَدَّثَني
…
وَقَارىء بنَفْسه أخْبَرَني
وَإنْ يُحَدِّث جُمْلَةً حَدَّثَنَا
…
وَإنْ سَمعْتَ قَارئًا أخْبَرَنَا
شرح الحديث
(قال) أبو السمح رضي الله عنه (كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي أقوم بحاجته يقال: خَدَمه يَخْدُمُه -من بابي نصر وضرب- خدْمَةً: قام بحاجته، فهو، وهي خادم، جمعه خَدَم -بفتحتين- وخُدَّام، وهي
خادمة
(1)
. قاله في المعجم الوسيط. وفيه استحباب خدمة الصالحين (فكان) صلى الله عليه وسلم (إذا أراد أن يغتسل) قال في المنهل: ظاهره أن ذلك كان يتكرر منه (قال: ولني) فعل أمر من ولَّى مضعفًا: إذا انصرف عنه وأعرض، قال في اللسان: والتولي يكون بمعنى الإعراض، وبمعنى الاتباع، قال الله تعالى:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد: 38] أي إن تعرضوا عن الإسلام، وقوله تعالى:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ} [المائدة: 51]، معناه: من يتبعهم وينصرهم. اهـ.
قال الجامع عفا الله عنه: والمناسب هنا: الإعراض. فالمعنى: انصرف عني بوجهك، واجعل قفاك إلى جهتي (قفاك) مفعول ثان لوَلّ؛ لأنه يتعدى إلى مفعولين، قال الله تعالى:{يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ} [آل عمران: 111]، {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16]، والمفعول الأول هو الياء.
والقفا مقصورًا: مؤخر العنق، ويذكر، ويؤنث، وجمعه على التذكير أقْفيَة، وعلى التأنيث أقْفَاء، مثل أرجاء، قاله ابن السَّراَّج، وقد يجمع على قُفِيٍّ -بضم القاف وكسر الفاء- والأصل مثل فلوس، وعن
الأصمعي أنه سمع ثلاث أقف، وقال الزجاج: التذكير أغلب، وقال ابن السكيت: القفا مذكر، وقد يؤنث، وألفه واو، ولهذا يُثنى قفوين. قاله في المصباح.
والمراد بالقفا هنا جهة الظهر (فأوليه قفاى) أي أجعل ظهري إلى جهته امتثالا لأمره (فأستره به) أي أحجبه صلى الله عليه وسلم عن أعين الناس بقفاي.
وظاهر هذه الرواية أن الستر كان بالقفا، وعند ابن ماجه، والدارقطني:"فأوليه قفاي، وأنشر الثوب فأستره به"، فيحتمل أن يكون في رواية المصنف اختصار، أي أستره بقفاي مع الثوب، ويحتمل
(1)
وفي المصباح: والخادمة بالهاء في المؤنث قليل. اهـ.
أن يكون الستر وقع بالثوب في وقت، وبالقفا في وقت آخر. وفيه دلالة على مشروعية التستر عند الغسل. وستأتي أقوال العلماء فيه في المسائل إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي السمح رضي الله عنه هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف: أخرجه المصنف بهذا المتن والسند في هذا المحل -143/ 224 - وفي الكبرى -132/ 228 - وأخرجه بلفظ: "يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام" في 190/ 304.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (د) في الطهارة: عن مجاهد بن موسى، وعباس بن عبد العظيم، كلاهما عن ابن مهدي، عن يحيى بن الوليد، عن مُحلّ بن خليفة، عنه. وأخرجه (ق) فيه عن العباس بن عبد العظيم، وعمرو بن علي، ومجاهد بن موسى، كلهم عن ابن مهدي، به.
وأخرجه ابن خزيمة بقصة البول فقط، والدارقطني، والبزار، والحاكم، وصححه.
المسألة الرابعة: في فوائده: يستفاد من هذا الحديث مشروعية خدمة أهل الفضل، والتستر عند الاغتسال، وهو الذي ترجم عليه المصنف، ويكون ذلك بأيّ ساتر، ولو بشخص إنسان، وعدم جواز النظر إلى عورة البالغ إلا أحد الزوجين للآخر، أو أمة يحل له وطؤها.
المسألة الخامسة: في أقوال أهل العلم في ستر العورة: اتفقوا على وجوبه في الجلوة حيث يراه الناس، واختلفوا فيه في الخلوة، أو في الجلوة
إذا لم يره أحد، فذهب ابن أبي ليلى إلى وجوبه مستدلا بحديث يعلى ابن منية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يغتسل بالبراز فصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:"إن الله عز وجل حليم حيي سَتير يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر" أخرجه المصنف وغيره، وسيأتي في كتاب الغسل 7/ 406، وبحديث أبي السمح هذا، وبحديث أم هانئ الآتي، وبحديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: قلت: يا نبي الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك". قلت: يا رسول الله أحدنا إذا كان خاليا؟ قال: "الله أحق أن يستحى منه من الناس". أخرجه أصحاب السنن وغيرهم، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم، وعلقه البخاري بصيغة الجزم، قاله في الفتح.
وذهب جمهور العلماء إلى أن المغتسل وحده تستره أفضل، وليس بواجب عليه، وهو الذي اختاره البخاري، حيث قال: باب من اغتسل عريانا وحده في الخلوة، ومن تستر فالتستر أفضل.
واحتجوا بما أخرجه البخاري وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر، فذهب مرة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، فخرج موسى في إثره يقول: ثوبي يا حجر، حتى نظرت بنوا إسرائيل إلى موسى، فقالوا: والله ما بموسى من بأس، وأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربا" فقال أبو هريرة: والله إنه لندب بالحجر ستة، أو سبعة ضربًا بالحجر. رواه البخاري.
وبحديث أبي هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أيوب يغتسل عريانا
فخر عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحتثي في ثوبه، فناداه ربه: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى وعزتك، ولكن لا غنى بي عن بركتك" رواه البخاري، ويأتي للمصنف في الغسل 7/ 406.
ووجه الدلالة من هذين الحديثين من حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قص القصتين ولم يتعقبهما بشيء، فدل على موافقتهما لشرعنا، وإلا لبينه. أفاده في الفتح.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي قاله الجمهور هو الرأي الحسن، جمعا بين الأدلة، فتحمل الأحاديث الدالة على التستر على الأفضلية، كما قال البخاري رحمه الله تعالى. والله أعلم. وهو المستعان، وعليه التكلان
225 -
أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ أُمِّ هَانِئٍ رضي الله عنها: أَنَّهَا ذَهَبَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ، فَوَجَدَتْهُ يَغْتَسِلُ، وَفَاطِمَةُ تَسْتُرُهُ بِثَوْبٍ، فَسَلَّمَتْ، فَقَالَ:"مَنْ هَذَا". قُلْتُ: أُمُّ هَانِئٍ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ قَامَ فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ فِي ثَوْبٍ مُلْتَحِفًا بِهِ.
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(يعقوب بن إبراهيم) بن كثير الدورقي البغدادي ثقة -10 - تقدم في 21/ 22.
2 -
(عبد الرحمن) بن مهدي البصري ثقة حجة -9 - تقدم في 42/ 49
3 -
(مالك) بن أنس أبو عبد الله الإمام الحجة الثبت -7 - المدني تقدم في 7/ 7.
4 -
(سالم) بن أبي أمية أبو النضر مولى عمر بن عبيد الله المدني ثقة ثبت -5 - تقدم في 96/ 121.
5 -
(أبو مرة مولى عقيل بن أبي طالب) ويقال: مولى أم هانىء، اسمه يزيد
(1)
الهاشمي حجازي مشهور بكنيته. روى عن عَقيل، وأم هانئ، ابني أبي طالب، وأبي الدرداء، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن سعيد، وأبي واقد الليثي، ورأى الزبير بن العوام. وعنه سالم أبو النضر، وسعيد المقبري، وسعيد بن أبي هند، وأبو جعفر محمَّد بن علي بن الحسين، وإسحاق بن أبي طلحة، وإبراهيم بن عبد الله بن حنين، وأبو حازم بن دينار، ويزيد بن الهاد، وغيرهم.
قال الواقدي: هو مولى أم هانئ، وكان يلزم عَقيلا فنسب إليه، وكان شيخًا قديمًا، روى عن عثمان، قال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث، وقال العجلي: مدني تابعي ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: روى عن عثمان. أخرج له الجماعة. اهـ "تت" ج 11 ص 374.
6 -
(أم هانئ رضي الله عنها بنت أبي طالب الهاشمية، اسمها فاختة، وقيل: هند. روت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعنها مولاها أبو مرة، وأبو
(1)
وحكى أبو عمر بن عبد البر فيه عبد الرحمن بن مرة. اهـ "تت" ج 12 ص 230.
صالح باذام، وابن ابنها جعدة المخزومي، وابن ابنها يحيى بن جعفر، وابن ابنها أيضا هاورن، وعبد الله بن عياش، وعبد الله بن الحارث بن نوفل، وابنه عبد الله، والشعبي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعطاء، وكريب، ومجاهد، وعروة بن الزبير، ومحمد بن عقبة بن أبي مالك، وهي شقيقة علي وإخوته، وكانت تحت هبيرة بن أبي وهب المخزومي، فولدت له عمرا، وبه يكنى، وهانئا، ويوسف، وجعدة، ذكره الزبير بن بكار، وغيره، وعاشت بعد علي مدة، حكى هذا الترمذي وغيره، وقد خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ "تت" وفي (ت) أسلمت يوم الفتح، وماتت في خلافة معاوية رضي الله عنه. أخرج لها الجماعة. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سدسياته، وأن رواته كلهم ثقات، اتفق الأئمة على التخريج لهم، وأنهم مدنيون إلا يعقوب فبغدادي، وعبد الرحمن، فبصري، وأن شيخه أحد الأئمة الذين اشترك الستة بالرواية عنهم من دون واسطة، وأن فيه روايين اشتهرا بالكنية أبو مرة، وأم هانىء، وفيه رواية تابعي، عن تابعي: سالم، عن أبي مرة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أم هانئ) فاختة، أو هند بنت أبي طالب رضي الله عنها أنها ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم (يوم الفتح) أي يوم فتح مكة، هو في رمضان من السنة الثامنة للهجرة، وسبب ذهابها إليه صلى الله عليه وسلم: ما ذكرته هي، قالت: أتاني حموان لي فأجَرْتُهما، فجاء علي يريد قتلهما، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في قبة بالأبطح بأعلى مكة .. الحديث، وفيه: فقال: "قد أجَرْنَا مَنْ أجَرْت، وأمَّنَّا مَنْ أمَّنْت" ذكره في التمهيد. انظر عمدة القاري ج 3 ص 63، وقد وقع اختلاف كثير فيمن أجارتهُ، هل هو واحد أم أكثر؟
وفي تعيين اسمه، فانظر في الفتح ج 1 ص 560، وفي عمدة القاري ج 3 ص 63 (فوجدته يغتسل) جملة في محل نصب على أنها مفعول ثان لوجدت، أو جملة حالية من المفعول به (وفاطمة) بنته رضي الله عنها (تستره بثوب) عن أعين الناس، وجملة "فاطمة تستره" حالية أيضًا أي والحال أن فاطمة تستره بثوب، وهذا هو محل الترجمة، وهو الاستتار عند الاغتسال، وفيه جواز اغتسال الرجل بحضرة امرأة من محارمه إذا كان يحول بينهما ساتر من ثوب أو غيره.
(فسَلَّمَتْ) بالإسناد إلى ضمير الغائبة كما في "ذهبت"، وفي "فوجدته"، وعند الشيخين: بالإسناد إلى ضمير المتكلم في كلها. أي سَلَّمْتُ على النبي صلى الله عليه وسلم.
وقول السندي: يحتمل أنها سلمت على فاطمة. غير صحيح، لأنها صرحت أنها سلمت عليه، كما عند البخاري. ج 1 ص 560 نسخة الفتح، وفيه جواز السلام على من يغتسل، حيث قررها النبي صلى الله عليه وسلم على سلامها (فقال: من هذا) ذكره على اعتبار الإشارة إلى الشخص الداخل، وفي نسخة كما أشار إليها في الهندية:"من هذه" وهو الذي عند البخاري، وهذا يدل كما قال الحافظ على أن الستر كان كثيفًا، وعرف أنها امرأة لكون ذلك الموضع لا يدخل عليه فيه الرجال (قلت: أم هانئ) وعند البخاري "أنا أم هانئ بنت أبي طالب، فقال: مرحبا بأم هانئ"(فلما فرغ من غسله قام فصلى ثمانيَ ركعات) بإثبات الياء لا غير، وهو منصوب بفتحة ظاهرة على الياء، مفعول به لصلى وحكى الكرماني: ثمان ركعات بفتح النون
(1)
، قال الجوهري: هو في الأصل منسوب إلى الثُّمُن لأنه الجزء الذي صير السبعة ثمانية، ثم إنهم فتحوا أوله
(1)
وهذا الوجه فيه إشكال؛ لأنه إذا أضيف يجب ثبوت الياء فيه انظر حاشية الخضري على ألفية ابن مالك في باب العدد ج 2 ص 137، والمصباح المنير في مادة -ثمن-.
لأنهم يغيرون في النسب، وحذفوا منه إحدى يائي النسبة، وعوضوا منها الألف كما فعلوا في المنسوب إلى اليمن فثبتت ياؤه عند الإضافة كما ثبت ياء القاضي، تقول: ثماني نسوة، وتسقط مع التنوين عند الرفع والجر، وتثبت عند النصب، لأنه ليس بجمع. اهـ عمدة القاري ج 3 ص 62.
وعند أبي داود: "ثماني ركعات يسلم من كل ركعتين".
(في ثوب ملتحفا به) حال من فاعل "صلى"، أو من ثوب وإن كان نكرة على قلة، لأن كون صاحب الحال معرفة ليس لازما، بل غالب، قال ابن مالك رحمه الله:
وَلَمْ يُنكَّرْ غَالبًا ذُو الحَال إنْ
…
لَمْ يَتأخَّرْ أوْ يُخَصَّص أوْ يَبنْ
منْ بَعْد نَفْي أوْ مُضَاهيه كَلا
…
يَبغْ امْرُوٌ عَلَى امْرئ مُسْتَسْهلا
قال البخاري في صحيحه: قال الزهري: الملتحف: المتوشح، وهو المخالف بين طرفيه على عاتقيه، وهو الاشتمال على المنكبين، اهـ. وقال البدر العيني: الالتحاف لغةً التغطي، وكل شيء تغطيت به فقد التحفت به، وقال الليث: اللحف: تغطيتك الشيء باللحاف، وقال غيره: لحفت الرجل ألحفه لحفا: إذا طرحت عليه اللحاف، أو غطيته بشيء وتلحفت: اتخذت لنفسي لحافا. اهـ عمدة القاري ج 3 ص 59.
واللحاف: كل ثوب يتغطى به، والجمع لُحُف، مثل كتاب وكتب. اهـ المصباح.
وفائدة الالتحاف: أن لا ينظر المصلي إلى عورة نفسه إذا ركع. قاله ابن بطال.
وأن لا يسقط، الثوب إذا ركع، وإذا سجد. قاله العيني. وهذه الصلاة هل هي صلاة الضحى، أم صلاة الفتح؟ يأتي تحقيقه في المسائل إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث أم هانئ هذا عن طريق أبي مرة متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف: أخرجه هنا بهذا السند، وفي السير -في الكبرى- عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد ابن الحارث، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد بن أبي هند، عن أبي مرة، عن أم هانئ رضي الله عنها.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (خ) في الطهارة، وفي الأدب عن القعنبي، وفي الصلاة عن إسماعيل بن أبي أويس، وفي الجزية عن عبد الله بن يوسف- ثلاثتهم عن مالك، عن سالم أبي النضر، عن أبي مرة به. وأخرجه (م) في الطهارة، وفي الصلاة عن يحيى بن يحيى، عن مالك- به، وفي الطهارة أيضا عن محمَّد بن رمح، عن ليث، عن يزيد بن أبي حبيب، وعن أبي كريب، عن أبي أسامة، عن الوليد بن كثير- كلاهما عن سعيد بن أبي هند، عن أبي مرة، عن أم هانئ، به مختصرا:"قام النبي صلى الله عليه وسلم إلى غسله فسترت عليه فاطمة، ثم صلى ثماني ركعات- صلاة الضحى". وفي الصلاة أيضًا عن حجاج بن الشاعر، عن معلي بن أسد، عن وهيب بن خالد، عن جعفر ابن محمَّد، عن أبيه، عن أبي مرة، عنها مختصرًا أيضا:"إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في بيتها عام الفتح ثماني ركعات في ثوب قد خالف بين طرفيه".
وأخرجه (ت) في الاستئذان عن إسحاق بن موسى، عن معن، عن مالك به مختصرًا، وقال صحيح. وفي السير عن أبي الوليد الدمشقي، وهو أحمد بن عبد الرحمن بن بكار البسري، عن الوليد بن مسلم، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي مرة، عنها، ببعضه:"أجرت رجلًا من أحمائي"، وقال: صحيح.
وأخرجه (ق) في الطهارة عن محمَّد بن رمح بإسناده: "لما كان يوم الفتح قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غسله فسترت عليه فاطمة بثوب، ثم أخذ ثوبه فالتحف به".
المسألة الرابعة: في فوائده: يستفاد من هذا الحديث: مشروعية التستر عند الاغتسال، وجواز اغتسال الرجل بحضرة امرأة من محارمه إذا حال بينهما ساتر، من ثوب أو نحوه، وجواز السلام على من
يغتسل وجواز كلام المغتسل، وأن من سئل عن اسمه يجيب بصريح اسمه ولا يقول: أنا، وقد ورد الإنكار على من قال: أنا، ومشروعية الصلاة عقب الاغتسال، والتحاف المصلي بثوبه إذا كان واحدًا، وقد علمت معنى الالتحاف فيما مضى، ولا يحوز أن يشتمل به اشتمال الصماء للنهي عنه، ومشروعية صلاة الضحى. وأنها تكون ثماني ركعات، وأن المستحب فيها الفصل بين كل ركعتين بسلام، لما مر في رواية أبي داود:"يسلم من كل ركعتين".
المسألة الخامسة: اختلفت الروايات في محل اغتساله، وصلاته، وفيمن ستره. وفي عدد صلاته هل هي ثمان، أو ركعتان؟.
ففي رواية "اغتسل في بيتها" وهي عند أبي داود وغيره، وفي رواية:"أنها ذهبت إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم -وهو بأعلى مكة فوجدته يغتسل"، وهي رواية الموطأ ومسلم، وفي رواية "أن فاطمة سترته" وهي رواية المصنف وغيره، وفي رواية: أن أبا ذر هو الذي ستره، وهي رواية عند ابن خزيمة.
فالجواب عن المحل: أن يحمل بأنه نزل في بيتها بأعلى مكة، وكانت هي في بيت آخر فجاءت فوجدته يغتسل، أو يحمل بأن ذلك تكرر منه صلى الله عليه وسلم، ويؤيده ما رواه ابن خزيمة عنها أن أبا ذر ستره لما اغتسل. أفاده في المنهل ج 7 ص 195.
قال الجامع: الاحتمال الثاني فيه بعد لا يخفى.
وأما الاختلاف فيمن ستره، فيجاب عنه بأن أحدهما ستره في ابتداء الغسل، والآخر ستره في أثنائه. أفاده الحافظ في الفتح. قاله في المنهل.
وأما الاختلاف في عدد الصلاة ففي رواية أم هانئ ثماني ركعات، وفي حديث ابن أبي أوفى أنه صلى ركعتين. فقد أخرج الطبراني من حديثه أنه صلى الضحى ركعتين فسألته امرأته؟ فقال:"أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفتح ركعتين". والجواب عن هذا أن يحمل بأن ابن أبي أوفى رأى من صلاته صلى الله عليه وسلم كعتين، ورأت أم هانئ الثمانية كلها، فأخبر كل ما رآه. أفاده في المنهل ج 7 ص 195.
المسألة السادسة: اختلف العلماء في هذه الصلاة هل هي صلاة الشكر للفتح أم هي صلاة الضحى؟
فمنهم من قال: إنها صلاة الفتح لا صلاة الضحى، ومنهم من قال: إنها صلاة الضحى.
والصحيح أنها صلاة الضحى لما في رواية أبي داود بإسناد صحيح عن أم هانئ رضي الله عنها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح صلى سبحة الضحى ثماني ركعات". وروى ابن عبد البر في التمهيد كما قال الحافظ: من طريق عكرمة بن خالد عن أم هانئ: قالت: قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة فصلى ثماني ركعات، فقلت: ما هذه؟ قال: صلاة الضحى. فهذا صريح في أن تلك الصلاة كانت صلاة الضحى.
قال النووي في شرح مسلم: استدَلَّ به -أي بحديث أم هانئ- أصحابنا وجماهير العلماء على استحباب جعل الضحى ثماني ركعات، وتوقف فيه القاضي وغيره، ومنعوا دلالته، قالوا: لأنها إنما أخبرت عن
وقت صلاته لاعن نيتها، فلعلها كانت شكر لله تعالى على الفتح.
قال النووي رحمه الله: وهذا الذي قالوه فاسد بل الصواب صحة الاستدلال به، فقد ثبت عن أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح صلى سبحة الضحى ثماني ركعات يسلم من كل ركعتين، رواه أبو داود في سننه بهذا اللفظ بإسناد صحيح على شرط البخاري. اهـ شرح مسلم ج 5 ص 233.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله النووي رحمه الله هو الحق. والله أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
144 - بابُ ذكرِ القَدْرِ الذي يَكْتَفيِ به الرَّجُلُ منَ الماَء للغُسْلِ
أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على بيان مقدار الماء الذي يكتفي به الرجل عند الاغتسال، ومثل الرجل في ذلك المرأة.
226 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُوسَى الْجُهَنِيِّ، قَالَ: أُتِيَ مُجَاهِدٌ بِقَدَحٍ حَزَرْتُهُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ، فَقَالَ: حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْتَسِلُ بِمِثْلِ هَذَا.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(محمَّد بن عبيد) بن محمَّد بن واقد المحاربي الكندي أبو جعفر الكوفي، صدوق -10 - روى عن أبيه، وأبي معاوية الضرير، وأبي بكر ابن عياش، وأبي الأحوص، وعبد السلام بن حرب، ويحيى بن
زكرياء، ووكيع، وابن المبارك، وغيرهم. وروى عنه (د ت س) ويعقوب بن سفيان، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وعبد الله بن أحمد، وغيرهم.
قال النسائي: لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات، وكناه هو والسراج أبا جعفر، ووقع عند الترمذي تكنيته بأبي يعلى، مات سنة 245 وقيل: 251، أخرج له أبو داود، والترمذي، والنسائي، اهـ "تت" ج 9 ص 333.
2 -
(يحيى بن زكريا) بن أبي زائدة، واسمه خالد بن ميمون بن مهران الهمداني الوادعي مولاهم الكوفي ثقة متقن من كبار -9 - تقدم في 93/ 115.
3 -
(موسى) بن عبد الله، ويقال: ابن عبد الرحمن (الجهني) بضم الجيم وفتح الهاء نسبة إلى جهينة قبيلة من قضاعة
(1)
أبو سلمة ويقال: أبو عبد الله الكوفي. روى عن زيد بن وهب، وأبي بردة بن أبي موسى، ومصعب بن سعد، وفاطمة بنت علي، ومجاهد، وغيرهم. وعنه شعبة والثوري، والحسن بن صالح، وابن أبي زائدة، وغيرهم.
قال علي بن المديني عن يحيى بن سعيد القطان: كان ثقة، وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه، وعن ابن معين: ثقة، وكذا قال النسائي، وقال العجلي: ثقة في عداد الشيوخ، وقال أبو زرعة: صالح، وقال أبو حاتم: لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات. مات سنة 144، وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث، وعن يعلى بن عبيد قال: بالكوفة أربعة من رؤساء الناس ونبلائهم، وذكره منهم، وعن مسعر قال: ما رأيت موسى الجهني إلا وهو في اليوم خير منه في اليوم الماضي. أخرج له مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه اهـ تت ج 10 ص 354.
وفي "ت" ثقة عابد، لم يصح أن القطان طعن فيه -6 - .
4 -
(مجاهد) بن جبر أبو الحجاج المخزومي مولاهم المكي الإمام الثقة -3 - تقدم في 27/ 31.
5 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها تقدمت في 5/ 5. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأنهم كوفيون إلا مجاهدًا فمكي، وعائشة فمدينة، وأن فيه الإخبار والتحديث، والعنعنة
(1)
قاله في اللباب ج 1 ص 317.
شرح الحديث
(عن موسى) بن عبد الله، أو ابن عبد الرحمن (الجهني) بضم ففتح أنه (قال: أتي) بالبناء للمفعول (مجاهد) نائب فاعل "أتي" بن جبر المذكور (بقدح) بفتحتين إناء يشرب به الماء ونحوه (حزرته) أي قدرت ذلك القدح يقال: حزرت الشيء حزرًا من بأبي ضرب وقتل: قدرته. قاله في المصباح. والقائل: حزرته هو موسى الجهني (ثمانية أرطال) بالنصب على الظرفية، أي مقدار ثمانية أرطال. والأرطال: جمع رطل، بكسر فسكون، وحكي فتح الراء، هو معيار يوزن به، وهو كما قال الفيومي: بالبغدادي اثنتا عشرة أوقية، والأوقية: إستار، والإستار: أربعة مثاقيل ونصف مثقال، والمثقال: درهم وثلاثة أسباع، والدرهم ستة دوانق، والدانق: بفتح النون وكسرها -ثماني حبات وخُمُسا حبَّة
(1)
، وعلى هذا فالرطل: تسعون مثقالا، وهي مائة درهم وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم.
قال الفقهاء: وإذا أطلق الرطل في الفروع فالمراد به رطل بغداد، والرطل: مكيال أيضا، وهو بالكسر، وبعضهم يحكي فيه الفتح. اهـ المصباح.
قال الجامع: هذا المعنى الثاني هو المراد هنا. والله أعلم.
(فقال) مجاهد (حدثتني عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بمثل هذا) القدح، وهذا ليس على سبيل التحديد للماء الذي يغتسل به بحيث لا ينقص منه ولا يزيد عليه، وإنما هو إخبار بما وقع له صلى الله عليه وسلم في بعض الأوقات، فقد وردت عنه أحاديث تدل على غير هذا كما ستأتي، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم.
(1)
المراد بالحبة حبة الشعير المقطوعة الطرفين.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث مجاهد عن عائشة رضي الله عنها هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف: هذا الحديث بهذا السند ذكره النسائي هنا 144/ 226 وفي الكبرى 133/ 1230 وهو من أفراده رحمه الله.
المسألة الثالثة: في فوائده: يستفاد من هذا الحديث: أن قدر ثمانية أرطال من الماء يكفي في الغسل، وهو محل الترجمة، ولكن هذا ليس تحديدا بحيث لا يكفي أقل منها، ولا يجوز أكثر منها، بل ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، كما تدل عليه الروايات عنه صلى الله عليه وسلم، فقد ورد أنه كان يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد، وأنه كان يتوضأ بإناء يسع رطلين ويغتسل بالصاع، وأنه توضأ بإناء فيه قدر ثلثي المد. إلى غير ذلك مما قدمناه في شرح 59/ 73، 74.
فدلت الرويات المختلفة على أنه لاحد للماء الذي يغتسل به أو يتوضأ به، ما لم يبلغ في الزيادة إلى حد الإسراف فيمنع، أو في النقص إلى حد لا يسمى غسلا بل مسحًا فيكون باطلا. وقد تقدم تمام البحث في هذه المسألة في 59/ 73، 74 فارجع إليه تزدد علمًا. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
227 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ، سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ يَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها وَأَخُوهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَسَأَلَهَا عَنْ غُسْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَدَعَتْ بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ قَدْرَ صَاعٍ، فَسَتَرَتْ سِتْرًا، فَاغْتَسَلَتْ فَأَفْرَغَتْ عَلَى رَأْسِهَا ثَلَاثًا.
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(محمَّد بن عبد الأعلى) القيسي أبو عبد الله الصنعاني، ثم البصري ثقة -10 - تقدم في 5/ 5.
2 -
(خالد) بن الحارث الهُجَيمي، أبو عثمان البصري ثقة ثبت -8 - تقدم في 42/ 47.
3 -
(شعبة) بن الحجاج ثقة ثبت حجة -7 - تقدم في 24/ 26.
4 -
(أبو بكر بن حفص) عبد الله بن حفص بن عمر بن سعد بن أبي
وقاص الزهري، مشهور بكنيته ثقة -5 - روى عن أبيه، وجدته، وابن عمر، وسالم بن عبد الله، وأنس، وعبد الله بن حنين، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وغيرهم. وعنه ابن جريج، وزيد بن أبي أنيسة، وآخرون. قال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان راويًا لعروة، وقال العجلي: ثقة، وقال ابن عبد البر: قيل اسمه كنيته، وكان من أهل العلم والثقة أجمعوا على ذلك. أخرج له الجماعة. اهـ "تت" ج 5 ص 188 - 189.
5 -
(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف اسمه كنيته، وقيل: عبد الله، وقيل: إسماعيل، ثقة، فقيه، مكثر، تقدم في 1/ 1.
6 -
(عائشة) تقدمت في 5/ 5. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات، والثلاثة الأولون بصريون، والباقون مدنيون، وفيه راويان اشتهرا بالكنية، وأن أبا سلمة من الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه عائشة المكثرة من الرواية، وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة، وفيه قوله: عن أبي بكر: سمعت فيقدر قبل سمعت "أنه قال"، وقد تقدم غير مرة، فيقول القارئ عن أبي بكر بن حفص أنه قال: سمعت أبا سلمة الخ.
شرح الحديث
(عن أبي بكر بن حفص) اسمه عبد الله، وقيل: اسمه كنيته، أنه قال (سمعت أبا سلمة) بن عبد الرحمن الزهري المدني (يقول) جملة حالية، على الصحيح، وقيل: مفعول ثان لسمعت على أنها تتعدى إلى اثنين إذا كان ثانيهما مما يُسمع، وقد تقدم البحث عنه غير مرة (دخلت على عائشة رضي الله عنها، وأخوها) عطف على الضمير الفاعل، لوجود الفصل بالجار والمجرور، وجملة الدعاء، كما قال ابن مالك رحمه الله:
وإنْ عَلَى ضَمير رَفْع مُتَّصلْ
…
عَطفْتَ فَافْصلْ بالضَّمير المُنْفَصلْ
أوْ فَاصل مَّا وَبلا فَصْل يَردْ
…
في النَّظْم فَاشيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقدْ
وعند البخاري وغيره "دخلت أنا وأخو عائشة"(من الرضاعة) بفتح الراء وكسرها والفتح أجود، حال من أخيها، وكذا وقع عند مسلم التصريح بأنه أخوها من الرضاعة، وهو يرد قول الداودي أنه أخوها
عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وقول غيره: إنه أخوها لأمها الطفيلُ ابن عبد الله.
قال الحافظ رحمه الله: زعم الداودي أنه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وقال غيره هو أخوها لأمها الطفيل بن عبد الله، ولا يصح واحد منهما، لما روى مسلم من طريق معاذ، والنسائي من طريق خالد
ابن الحارث، وأبو عوانة من طريق يزيد بن هارون كلهم عن شعبة في هذا الحديث أنه أخوها من الرضاعة.
وقال النووي وجماعة: إنه عبد الله بن يزيد، مُعْتَمدينَ على ما وقع في صحيح مسلم في الجنائز عن أبي قلابة، عن عبد الله بن يزيد، رضيع عائشة رضي الله عنها، فذكر حديثًا غير هذا.
قال الحافظ: ولم يتعين عندي أنه المراد هنا لأن لها أخا آخر من الرضاعة، هو كثير بن عبيد رضيع عائشة، رَوَى عنها أيضا، وحديثه في الأدب المفرد للبخاري، وسنن أبي داود من طريق ابنه سعيد بن كثير عنه، وعبد الله بن يزيد بصري، وكثير بن عبيد كوفي، فيحتمل أن يكون المبهم هنا أحدهما، ويحتمل أن يكون غيرهما. والله أعلم. اهـ فتح ج 1 ص 435.
(فسألها) أي أخوها (عن غسل النبي صلى الله عليه وسلم) أي عن كيفية غسله، وعن قدر الماء الذي يغتسل به (فدعت بإناء فيه ماء قدر صاع) وعند البخاري:"فدعت بإناء نحو من صاع".
قال الحافظ رحمه الله: وفي فعل عائشة دلالة على استحباب التعليم بالفعل، لأنه أوقع في النفس، ولما كان السؤال محتملا للكيفية والكمية ثبت لهما ما يدل على الأمرين معا: أما الكيفية فبالاقتصار على إفاضة الماء، وأما الكمية فبالاكتفاء بالصاع. اهـ. واعترضه العيني بما لا وجه له،
ولذا تركت ذكره. (فَسَتَرَتْ ستْرا) أي جعلت بيننا وبينها ساترا. والستر: بالكسر ما يستر به، جمعه سُتُور، والسَّتْر بالفتح مصدر سَتَر، يقال: سترت الشىء سترا من باب قتل. ويقال لما ينصبه المصلي قدامه علامةَ لمُصَلاه من عصا وتَسنيم تراب وغيره: سُتْرة بالضم لأنه يستر المارّ من المرور، أي يحجبه. أفاده في المصباح.
والمناسب هنا المعنى المصدري ولا يبعد الكسر أيضا أي اتخذَتْ ساترًا.
(فاغتسلت) وقوله: (فأفرغت) أي صبت الماء تفسير لقوله "فاغتسلت"(على رأسها ثلاثا) قال القاضي عياض رحمه الله: ظاهره أنهما رأيا عملها في رأسها وأعالي جسدها مما يحل نظره للمَحْرَم؛ لأنها خالة أبي سلمة من الرضاع أرضعته أختها أم كلثوم، وإنما سترت أسافل بدنها مما لا يحل للمحرم النظر إليه، ولولا أنهما شاهدا ذلك لم يكن لاستدعائها الماء وطهارتها بحضرتهما معنىً، إذ لو فعلت ذلك كله في ستر عنهما لرجع الحال إلى وصفها لهما. نقله في الفتح والعمدة. والله أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: هذا الحديث متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له. ذكره هنا 144/ 227 وفي الكبرى 133/ 232 عن محمَّد بن عبد الأعلى، عن خالد الهجيمي، عن شعبة، عن أبي بكر بن حفص، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (خ) في الطهارة عن عبد الله ابن محمَّد، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن شعبة به. وأخرجه (م) فيه عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة به. وأخرجه أبو عوانة.
المسألة الرابعة: في فوائده: يستفاد من هذا الحديث ما ترجم له المصنف، وهو قدر الماء الذي يُغتَسَل به، وهو صاع، كما مر في الحديث السابق أنه قدر ثمانية أرطال، وسؤالُ أهل العلم رجلا كان أو امرأة عما يجهله الإنسان من أمر دنيه {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، والتعليمُ بالفعل لكونه أبلغ، واحتجاب المرأة عن أعين المحارم فيما لا يجوز النظر لهم من جسدها، ومشروعية التثليث في غسل الرأس. والله أعلم. وهو المستعان، وعليه التكلان.
228 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَغْتَسِلُ فِي الْقَدَحِ، وَهُوَ الْفَرَقُ، وَكُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَهُوَ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(قتيية بن سعيد) أبو رجاء البغلاني ثقة ثبت -10 - تقدم في 1/ 1.
2 -
(الليث) بن سعد إمام أهل مصر ثقة ثبت فقيه -7 - تقدم في 31/ 35.
3 -
(ابن شهاب) الزهري الإمام الحجة الثبت المدني -4 - تقدم في 1/ 1.
4 -
(عروة) بن الزبير المدني ثقة فقيه -3 - تقدم في 40/ 44.
5 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها تقدمت في 5/ 5.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات أجلاء، اتفق الأئمة بتخريج أحاديثهم، وأنهم مدنيون إلا قتيبة فبغلاني، والليث فمصري، وفيه رواية تابعي، عن تابعي، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وفيه عائشة من المكثرين السبعة، وتقدم غير مرة، وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عائشة) رضي الله عنها (أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل في القدح) هكذا في صحيح مسلم "في القَدَح" بـ"في"، قال النووي رحمه الله: هكذا هو في الأصل، وهو صحيح، ومعناه من القدح. اهـ شرح مسلم ج 4 ص 3، أي من الماء الذي في القدح. وعند البخاري "من إناء واحد من قدح" فـ"من" الأولى ابتدائية، والثانية بيانية. و"القدح" بالتحريك واحد الأقداح التي للشرب، معروف، قال أبو عبيد: يُروي الرجلين، وليس لذلك وقت
(1)
، وقيل: هو اسم يجمع صغارها وكبارها، والجمع أقداح، ومُتَّخذُها قَدَّاح، وصناعته: قدَاحَة. اهـ لسان، وفسرته عائشة رضي الله عنها هنا بنولها (وهو الفَرَق) وعند البخاري من رواية ابن أبي ذئب:"يقال له: الفرق"، ولأبي داود الطيالسي من روايته:"وذلك القدح يومئذ يُدعى الفَرَق"، قال ابن التين: الفرْق بتسكين الراء، ورويناه بفتحها، وجوز بعضهم الأمرين، وقال القتبي وغيره: هو بالفتح، وقال النووي: الفتح أفصح وأشهر، وزعم أبو الوليد الباجي أنه الصواب، قال: وليس كما قال، بل هما لغتان، قال الحافظ: لعل مستند الباجي ما حكاه الأزهري عن ثعلب وغيره: الفرق بالفتح، والمحدثون يسكنونه، وكلام العرب بالفتح. انتهى.
(1)
أي ليس له حّد وقدر معلوم.
وقد حكى الإسكان أبو زيد، وابنُ دريد، وغيرهما من أهل اللغة، والذي في روايتنا هو الفتح والله أعلم. اهـ فتح ج 1 ص 433.
وفي اللسان: والفَرْق -بفتح فسكون-، والفرق -بفتحتين-: مكيال ضخم لأهل المدينة معروف، وقيل هو أربعة أرباع، وقيل: هو ستة عشر رطلا، والجمع فُرقان -بضم فسكون- وهذا الجمع قد يكون للساكن والمتحرك جميعا، مثل بَطْن وبُطْنَان، وحَمَل وحُمْلان، وقال أبو منصور: الفرق: المحدثون يسكنونه، وكلام العرب بالفتح، قال ذلك أحمد بن يحيى، وخالد بن يزيد، وهو إناء يأخذ ستة عشر مُدًا
(1)
، وذلك ثلاثة أصْوعُ. وقال ابن الأثير: الفرق بالتحريك: مكيال يسع ستة عشر رطلا، وهي اثنا عشر مُدًا، وثلاثة آصع عند أهل الحجاز، وقيل: الفرق خمسة أقْسَاط، والقسْط -بكسر فسكون- نصف صاع، فأما الفرْق بالسكون: فمائة وعشرون رطلا. اهـ لسان ببعض تصرف.
قال الحافظ رحمه الله تعالى: وأما مقداره: فعند مسلم في آخر رواية ابن عيينة عن الزهري في هذا لحديث، قال سفيان يعني ابن عيينة: الفرق ثلاثة آصع، قال النووي: وكذا قال الجماهير، وقيل الفرق صاعان، لكن نقل أبو عبيد الاتفاق على أن الفرق ثلاثة آصع، وعلى أن الفرق ستة عشر رطلا، ولعله يريد اتفاق أهل اللغة، وإلا فقد قال بعض الفقهاء من الحنفية وغيرهم: إن الصاع ثمانية أرطال، وتمسكوا بما روى مجاهد في الحديث السابق عن عائشة رضي الله عنها أنه حزر الإناء ثمانية أرطال، والصحيح الأول؛ لأن الحزر لا يُعَارضُ به التحديد، وأيضا لم يصرح مجاهد بأن الإناء المذكور صاع فيحمل على اختلاف الأواني مع تقاربها، ويؤيد كون الفرق ثلاثة آصع: ما رواه ابن حبان من
(1)
هكذا في اللسان ستة عشر مدا ، ولعل الصواب ستة عشر رطلا، لأنه بالمد اثنا عشر مدا كما يأتي في كلام ابن الأثير، فتأمل.
طريق عطاء عن عائشة بلفظ: "قَدْرُ ستَّة أقساط" والقسط بكسر القاف، هو باتفاق أهل اللغة نصف صاع، والاختلاف بينهم أن الفرق ستة عشر رطلا فصح أن الصالح خمسة أرطال وثلث، وتوسط بعض الشافعية، فقال: الصاع الذي لماء الغسل ثمانية أرطال، والذي لزكاة الفطر وغيرها خمسة أرطال وثلث، وهو ضعيف. اهـ كلام الحافظ ج 1 ص 433 - 434.
(وكنت أغتسل أنا، وهو) أي النبي صلى الله عليه وسلم، إنما أبرز الضمير لأجل العطف على الضمير المتصل، كما قال ابن مالك:
وإنْ عَلَى ضَمير رَفْع مُتَّصلْ
…
عَطَفْتَ فَافْصلْ بالضَّمير المُنْفَصلْ
أوْ فَاصل مَّا وَبلا فَصْل يَردْ
…
في النَّظم فَاشيًا وَضُعْفُهُ اعْتَقدْ
(في إناء واحد) أي من إناء، فـ"في" بمعنى "من" كما تقدم قريبًا، وهذا الإناء هو القدح المذكور أوَّلًا، ويوضحه رواية البخاري:"قالت: كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد من قدح، يقال له الفرق".
وقال ابن التين: كان هذا الإناء من شَبَه. اهـ. والشبه بفتحتين نوع من النحاس.
قال الحافظ: وكأن مستند ابن التين في هذا ما رواه الحاكم من طريق حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه: ولفظه: "تور من شبه" اهـ فتح ج 1 ص 433. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث عائشة رضي الله عنها هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له: أخرج حديث عائشة هذا هنا 144، وفي 145، وفي 146، وفي الباب -9 - من كتاب
الغسل. وأخرج في الكبرى 133/ 231 الجزء الأول فقط، وفي 134/ 235 الجزء الثاني.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والدارمي، وأحمد، والطيالسي، وابن الجارود، وغيرهم.
المسألة الرابعة: في فوائده: من فوائد هذا الحديث ما ترجم له المؤلف، وهو القدر الذي يكتفي به الرجل من ماء الغسل، لكنه ليس نصا في التحديد؛ لأنه لا يعرف قدر ما اغترفه هو مما اغترفته هي، فكان الأولى له عدم ذكره في هذا الباب، بل هو من الباب التالي كما يأتي له هناك.
ومنها: جواز اشتراك الرجل مع امرأته في الغسل من إناء واحد، وكذا الوضوء، وهذا بالإجماع، وتطهر المرأة بفضل الرجل، وعكسه، وسيأتي الكلام عليه قريبًا إن شاء الله. وفيه طهارة فضل الجنب.
وقد استدل به الداودي على جواز نظر الرجل إلى عورة امرأته وعكسه، قال الحافظ: ويؤيده ما رواه ابن حبان من طريق سليمان بن موسى: أنه سئل عن الرجل ينظر إلى فرج امرأته؟ فقال: سألت عطاء؟
فقال: سألت عائشة؟ فذكر هذا الحديث بمعناه، وهو نص في المسألة. اهـ فتح ج 1 ص 434. والله تعالى أعلم، والمستعان، وعليه التكلان.
229 -
أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَبْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ بِمَكُّوكٍ، وَيَغْتَسِلُ بِخَمْسَةِ مَكَاكِيَّ.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(سويد بن نصر) أبو الفضل المروزي راوية ابن المبارك، ثقة من -10 - تقدم في 45/ 55.
2 -
(عبد الله) بن المبارك المروزي ثقة ثبت حجة -8 - تقدم في 32/ 36.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الإمام الحافظ الحجة الثبت -7 - البصري تقدم في 24/ 26.
4 -
(عبد الله بن جبر) هو عبد الله بن عبد الله بن جبر، وقيل: جابر ابن عتيك، الأنصاري، المدني، اختلف في اسم جده، وقد حقق الحافظ الاختلاف في "تت" ج 5 ص 282 - 284، وهو ثقة -4 - تقدم في 59/ 73.
5 -
(أنس بن مالك) الأنصاري أبو حمزة رضي الله عنه تقدم في 6/ 6. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات، اتفقوا على التخريج لهم إلا شيخه فانفرد به هو، والترمذي، وفيه أنس بن مالك رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة.
شرح الحديث
(عن عبد الله بن جبر) منسوب إلى جده، وإلا فهو عبد الله بن عبد الله بن جبر بن عتيك، كما تقدم قريبا (قال: سمعت أنس بن مالك) رضي الله عنه (يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بمكلوك) بفتح الميم وتشديد الكاف، كتَنُّور، قيل أراد به المد، وقيل الصاع، قال ابن الأثير
: والأول أشبه؛ لأنه جاء في حديث آخر مفسرا بالمد، وقد تقدم في 49/ 73 بأتم من هذا (ويغتسل بخمس مكاكي) جمع مكوك بإبدال الياء من الكاف الأخيرة، وادغامها في ياء الجمع. والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث أنس رضي الله عنه هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له: أخرجه هنا 144/ 229 بهذا السند، وفي 59/ 73، عن عمرو بن علي، عن يحيى عن شعبة به، وفي 14/ 345 من كتاب المياه عن عمرو بن علي به.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي وقد تكلمنا على ذلك بالتفصيل في 59/ 73 فارجع إليه تزدد علمًا، والمطابقة للترجمة، واضحة من حيث إن الماء الذي استعمله للغسل، واكتفى به قُدِّر بهذا القدر والله أعلم.
230 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: تَمَارَيْنَا فِي الْغُسْلِ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، فَقَالَ جَابِرٌ: يَكْفِي مِنَ الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ صَاعٌ مِنْ مَاءٍ، قُلْنَا: مَا يَكْفِي صَاعٌ، وَلَا صَاعَانِ، قَالَ جَابِرٌ: قَدْ كَانَ يَكْفِي مَنْ كَانَ خَيْرًا مِنْكُمْ، وَأَكْثَرَ شَعْرًا.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة بن سعيد) البغلاني ثقة ثبت -10 - تقدم في 1/ 1.
2 -
(أبو الأحوص) سلام بن سُلَيم الحنفي الكوفي ثقة ثبت -7 - تقدم في 79/ 96.
3 -
(أبو إسحاق) السبيعي: عمرو بن عبد الله الكوفي ثقة ثبت اختلط أخيرًا -3 - تقدم في 38/ 42.
4 -
(أبو جعفر) محمَّد بن علي الباقر المدني ثقة فاضل -4 - تقدم في 78/ 95.
5 -
(جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام الأنصاري الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما، تقدم في 31/ 35.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات اتفقوا على التخريج لهم، وهم ما بين بغلاني وهو شيخه، وكوفيين وهما أبو الأحوص، وأبو إسحاق، ومدنيين وهما أبو جعفر، وجابر، وأن جابرًا هو أحد المكثرين السبعة روى -1540 - حديثا، وفيه رواية تابعي عن تابعي.
شرح الحديث
(عن أبي جعفر) محمَّد بن علي المعروف بالباقر أنه (قال: تمارينا) أي اختلفنا وتنازعنا، والتماري والمماراة: المجادلة على مذهب الشك والريبة، ويقال للمناظرة مماراة لأن كل واحد منهما يستخرج ما عند صاحبه، يمتريه، كما يمتري الحالب اللبن من الضرع. قاله في اللسان، وقيل:
(1)
أصل التماري من المرية، وهو الشك، لأن كُلًا من المتنازعين يَشُكّ أو يشكك في كلام صاحبه، قال عباس بن مرداس رضي الله عنه (من الطويل):
تَمَارَوا بنَا فِي الفَجْر حَتَّى تَبَيَّنُوا
…
مَعَ الفَجْر فُرْسَانًا وَقَابًا مُقَوَّمَا
(1)
أفاده الشيخ الشنقيطي في شرحه جـ 3 ص 97.
(في الغسل) أي في قدر الماء الذي يكفي لمن يريد الاغتسال كما دل عليه كلام جابر رضي الله عنه (عند جابر بن عبد الله) أي في مجلسه وبحضرته (فقال جابر) جوابا عن سؤالهم في مشكلتهم، فعند البخاري من طريق زهير عن أبي إسحاق، "قال: حدثنا أبو جعفر أنه كان عند جابر بن عبد الله هو وأبوه وعنده قوم، فسألوه عن الغسل فقال" الحديث. والسائل هو أبو جعفر نفسه لما في مسند إسحاق بن راهويه من طريق جعفر بن محمَّد، عن أبيه قال: "سألت جابرًا عن غسل الجنابة" قاله في
الفتح.
(يكفي من الغسل) أي في الغسل، فـ "من" بمعنى "في"، كما في قوله تعالى:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9](من الجنابة) أي لأجله، فمن هنا تعليلية، كما في قوله تعالى:{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} [نوح: 25]، وقول الفرزدق (من البسيط):
يُغْضي حَيَاءً وَيُغْضَى منَ مَهَابَته
…
فَلا يكُلَّمُ إلا حينَ يَبْتسمُ
و"من" الأولى متعلقة بـ "يكفي"، والثانية بـ "الغسل" لأنه مصدر، أو متعلقان بـ"يكفي"، لاختلاف معناهما (صاع) فاعل "يكفي"، أي قدر صاع، أو ملْءُ صاع (من ماء)"من" هنا بيانية.
(قلنا) أي قال القوم المتنازعون السائلون له في هذه المشكلة، وللبخاري:"فقال رجل"، وزاد الإسماعيلي:"منهم"، وإنما نسب القول إليهم في رواية النسائي مجازًا لقصدهم أن يقولوا له ذلك، ولكن تولى القول رجل منهم، ووافقوه على ذلك.
وهذا الرجل القائل هو الحسن بن محمَّد بن علي بن أبي طالب الذي يعرف أبوه بابن الحنفية، وهو ابن عم أبي محمَّد الباقر: علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فمحمد بن الحنفية، وهو محمَّد بن علي بن أبي طالب، والحنفية أمه: خولة بنت جعفر من سبي بني حنيفة.
(ما يكفي) في الغسل (صاع ولا صاعان) وذلك لكونهم متساهلين في استعمال الماء، بلا مبالاة (قال جابر) رضي الله عنه (قد كان) الصاع (يكفي من كان خيرا منكم) وعند البخاري "خيرا منك" بالإفراد حيث أفرد السائل، يريد به النبي صلى الله عليه وسلم (وأكثر شعرا) أي منكم، ومراد جابر بذلك إرشادهم إِلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم، لأن هديه خير الهدي في جميع الأمور، فلا ينبغي العدول عنه لوسوسة ولا غيرها زاد البخاري:"ثم أمنَّاَ في ثوب".
قال الحافظ: فاعل أمنا هو جابر، ولا التفات إلى من جعله من مقوله، والفاعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما يأتي واضحًا من فعل جابر في كتاب الصلاة.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث جابر رضي الله عنه هذا أخرجه البخاري في الصحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكره عند المصنف. أخرجه هنا 144/ 230 وفي الكبرى 133/ 233 عن قتيبة، عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن أبي جعفر محمَّد بن علي، عنه.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (خ) في الطهارة عن عبد الله ابن محمَّد، عن يحيى بن آدم، عن زهير، عن أبي إسحاق به.
وأخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده.
المسألة الرابعة: في فوائده: من فوائد هذا الحديث ما ترجم له المصنف، وهو مقدار ما يكتفي به الرجل من الماء للغسل، وبيان ما كان عليه السلف من الاحتجاج بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم، والانقياد إلى ذلك، وجواز الرد بعنف على من يماري بغير علم إذا قصد الرادُّ إيضاح الحق، وتحذير السامعين من مثل ذلك، وكراهية التنطع والإسراف في الماء. أفاده في الفتح. وتقدمت بنية المسائل في 59/ 73. فارجع إليها تزدد علمًا.
145 - بَابُ ذكرِ الدِّلالَةِ عَلَى أنَّهُ لا تَوْقيتَ فِي ذَلكَ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على أنه لا تحديد في قدر الماء الذي يغتسل به.
فالدلالة بمعنى الدليل من إطلاق المصدر وارادة اسم الفاعل.
والتوقيت: التحديد، يقال: وقّت الله الصلاة توقيتا، وَقَتَها يَقتُها ثلاثيا من باب وَعَد: حدد لها وقتا، ثم قيل لكل شيء محدود موقوت، ومُوَقَّت. قاله في المصباح.
231 -
أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ (ح) وَأَخْبَرَنَا
(1)
إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ قَدْرُ الْفَرَقِ.
رجال الإسناد: تسعة
1 -
(سويد بن نصر) المروزي ثقة -10 - تقدم في 45/ 55.
2 -
(عبد الله) بن المبارك ثقة حجة -8 - تقدم في 32/ 36.
(1)
وفي نسخة "وأنبأنا".
3 -
(معمر) بن راشد أبو عروة البصري نزيل اليمن ثقة ثبت -7 - تقدم في 10/ 10.
4 -
(إسحاق بن إبراهيم) الحنظلي المعروف بابن راهويه ثقة حجة -10 - تقدم في 2/ 2.
5 -
(عبد الرزاق) بن هَمَّام بن نافع، أبو بكر الصنعاني ثقة حافظ تغير بأخرة -9 - تقدم في 61/ 77.
6 -
(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز أبو خالد وأبو الوليد المكي ثقة فقيه فاضل يدلس -6 - تقدم في 28/ 32.
7 -
(الزهري) محمَّد بن مسلم حجة حافظ ثبت -4 - تقدم في 1/ 1.
8 -
(عروة) بن الزبير المدني ثقة فقيه -3 - تقدم في 40/ 44.
9 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها تقدمت في 5/ 5. والله أعلم
لطائف الإسناد
منها: أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات، اتفقوا على التخريج لهم غير شيخيه، فالأول لم يرو عنه إلا هو، والترمذي، والثاني لم يخرج له ابن ماجه، وفيه كتابة (ح) بعد الزهري إشارة إلى ذكر سند آخر إلى الزهري، وقد اختلفوا في أصلها كما قال في الألفية السيوطية:
وكَتَبُوا "ح" عنْدَ تَكْرير سَنَدْ
…
فَقيلَ منْ صَحَّ وَقيلَ ذَا انْفَرَدْ
منَ الحَديث أوْ لتَحْويل وَرَدْ
…
أوْ حَائل وَقَوْلُهَا لفْظًا أسَدْ
وقوله: "وقولها لفظا أسد": أي تلفظ القارئ بها كما كتبت لفظًا، فيقول:"ح" ويستمر على قراءته، أصوب من ترك التلفظ بها كما قال به بعضهم.
(تنبيه) هذا الحديث مضى شرحه، وكذا ما يتعلق به من المسائل، وأورده هنا استدلالًا على عدم تحديد الماء الذي يستعمله المغتسل، حيث إنه لم يعلم مقدار ما استعمله النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عائشة في هذه القصة، فدل على أنه لا توقيت فيه، بل يكون على حسب الأحوال والأشخاص.
قال أبو بكر بن المنذر رحمه الله بعد ذكر حديث سفينة مولى أم سلمة، قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسله الصاع من الماء ويوضيه المد". أخرجه مسلم، وحديث أنس رضي الله عنه، قال: "حضرت الصلاة، فقام من كان قريب الدار من المسجد إلى أهله فتوضأ، وبقي قوم، فأتي
النبي صلى الله عليه وسلم بمخضب من حجارة فيه ماء، فوضع كفه فيه، فصغر أن يبسط
كفه فيه، فضم أصابعه فوضعها في المخضب، فتوضأ القوم جميعا كلهم، قال: قلنا: كم كانوا؟ قال: ثمانين رجلا" رواه البخاري.
قال: في هذا الحديث، وفي "اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة من إناء واحد، وفي قول ابن عمر: "كان الرجال والنساء في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضئون في الإناء الواحد" دليل على إباحة الوضوء والاغتسال بأقل من الصالح والمد؛ لأن الأمر إذا كان هكذا، فأخذهم الماء يختلف، وإذا اختلف أخذهم الماء دل على أنه لا حدّ فيما يطهر المتوضئ والمغتسل من
الماء إلا الإتيان على ما يجب من الغسل والمسح، وقد يختلف أخذ الناس للماء.
وقد أجمع أهل العلم على أن المد من الماء في الوضوء، والصاع في الاغتسال غير لازم للناس، وكان الشافعي يقول: وقد يرفق بالماء القليل فيكفي، ويخرق بالكثير فلا يكفي، وصدّق الشافعي هذا النصُّ. اهـ كلام ابن المنذر رحمه الله تعالى في الأوسط ج 1، ص 360 - 361.
146 - بَابُ ذِكْرِ اغْتساَلِ الرَّجُلِ واَلمرْأةِ مِنْ نِساَئِهِ مِنْ إناَء واَحِدٍ
232 -
أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللهِ، عَنْ هِشَامِ (ح) وَأَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْتَسِلُ وَأَنَا مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ نَغْتَرِفُ مِنْهُ جَمِيعًا.
رجال هذا الإسناد: سبعة
1 -
(سويد بن نصر) المروزي راوية ابن المبارك ثقة -10 - تقدم في 45/ 55.
2 -
(عبد الله) بن المبارك المروزي الحجة الثبت -8 - تقدم في 32/ 36.
3 -
(قتيبة بن سعيد) أبورجاء الثقفي ثقة ثبت -10 - تقدم في 1/ 1.
4 -
(مالك) بن أنس الإمام الحجة الفقيه المدني -7 - تقدم في 7/ 7.
5 -
(هشام بن عروة) المدني الثقة الفقيه -5 - تقدم في 49/ 61.
6 -
(عروة) بن الزبير المدني الفقيه الثقة -3 - تقدم في 40/ 44.
7 -
(عائشة) رضي الله عنها تقدمت في 5/ 5.
وقد تقدم ما يتعلق بهذا الحديث شرحًا ومسائل في الأحاديث الماضية، فارجع إليها.
ودلالته على ما ترجم له المصنف واضحة، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل هو وعائشة رضي الله عنها من إناء واحد.
وفي قولها: "وأنا": استعمال العطف على الضمير المتصل المرفوع من دون فاصل، وهو قليل. كما تقدم البحث عنه غير مرة والله أعلم.
233 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنَ الْجَنَابَةِ.
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(محمَّد بن عبد الأعلى) القيسي أبو عبد الله الصنعاني ثم البصري ثقة -10 - تقدم في 5/ 5.
2 -
(خالد) بن الحارث الهُجَيمي أبو عثمان البصري ثقة ثبت -8 - تقدم في 42/ 47.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الحافظ -7 - البصري تقدم في 24/ 26.
4 -
(عبد الرحمن بن القاسم) بن محمَّد، أبو محمَّد المدني ثقة جليل فاضل -6 - تقدم في 120/ 166.
5 -
(القاسم) بن محمَّد بن أبي بكر الصديق التيمي المدني ثقة فقيه فاضل -3 - تقدم في 120/ 166.
6 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها تقدمت في 5/ 5. والله أعلم
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات وأن الثلاثة الأولين بصريون، والباقون مدنيون، وأن القاسم هو أحد الفقهاء السبعة
المشهورين بالمدينة، وأن فيه رواية الابن عن أبيه، عبد الرحمن، عن القاسم وفيه عائشة من المكثرين السبعة، وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة.
شرح الحديث
(عن عائشة) رضي الله عنها أنها (قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم) تقدم البحث في قولها: "أنا" في 145/ 231 (من إناء واحد) هو الفرق كما تقدم هناك وعند البخاري: "من إناء واحد من قدح يقال له الفرق"(من الجنابة) من الأولى ابتدائية، والثانية تعليلية، أي لأجل الجنابة، وتقدم معنى الجنابة في 139/ 220 وتقدم أيضا في الأحاديث السابقة ما يتعلق به من المسائل. والله تعالى أعلم.
234 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: نَا عَبِيدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي أُنَازِعُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم الإِنَاءَ أَغْتَسِلُ أَنَا وَهُوَ مِنْهُ.
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(قتيبة بن سعيد) البغلاني ثقة ثبت -10 - تقدم في 1/ 1.
2 -
(عَبيدة بن حُميد) الأول بالتكبير، والثاني بالتصغير، الكوفي أبو عبد الرحمن المعروف بالحذّاء التيمي أو الليثي أو الضبي صدوق نحوي ربما أخطأ من الثامنة مات سنة 190، وقد جاوز 80، وتقدم في 13/ 13.
3 -
(منصور) بن المعتمر بن عبد الله أبو عَتَّاب السلمي الكوفي ثقة ثبت كان لا يدلس -6 - تقدم في 2/ 2.
4 -
(إبراهيم) بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي ثقة فقيه إمام يدلس كثيرًا -5 - تقدم في 29/ 33.
5 -
(الأسود) بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي ثقة جليل فقيه -2 - تقدم في 29/ 33.
6 -
(عائشة) رضي الله عنها تقدمت في 5/ 5.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأنهم كوفيون إلا قتيبة فبلخي، وعائشة فمدنية.
والحديث بمعنى الحديث السابق، قولها:"لقد رأيتني": أي رأيت نفسي، أنازع رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي أجاذبه، بمعنى أنا أجرّة إلى نفسي، وهو يجره إلى نفسه، وهذا من حسن عشرته صلى الله عليه وسلم مع أهله. والله أعلم.
235 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانُ
(1)
، قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ.
(1)
وفي نسخة "حدثنا سفيان".
رجال الإسناد: سبعة
هم السابقون في السند الماضي إلا عمرو بن علي، هو الفلاس،
وتقدم في 4/ 4 ويحيى هو القطان، وتقدم أيضًا في 4/ 4، وسفيان هو الثوري تقدم في 33/ 37.
والحديث بمعنى الذي قبله.
236 -
أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَخْبَرَتْنِي خَالَتِي مَيْمُونَةُ أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ.
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(يحيى بن موسى) بن عبد ربه بن سالم الحُدَّاني
(1)
أبو زكرياء
البلخي السختياني المعروف بخَتّ
(2)
، كوفي الأصل. روى عن ابن عيينة، وأبي معاوية الضرير، ووكيع، وغيرهم. وعنه البخاري، وأبو
داود، والترمذي، والنسائي، والدارمي، وموسي بن هارون، والفريابي والسراج، وغيرهم.
قال أبو زرعة، والنسائي: ثقة، وقال محمَّد بن إسحاق الثقفي: ثقة مأمون، وقال في موضع آخر: كان من ثقات الناس. ووثقه الدراقطني،
(1)
بضم الحاء المهملة وتشديد الدال المهملة نسبة إلى حُدَّان بطن من الأزد، وقد ينسب إلى محلة بالبصرة نزلها هذا البطن فنسبت إليهم اهـ لباب ج 1 ص 347.
(2)
خت: بفتح الخاء المعجمة وتشديد التاء المثناة لقب أبيه موسى، ولقب يحيى بها؛ لأنها كلمة كانت تجرى على لسانه. اهـ "تت" ج 11 ص 290.
وابن حبان، مات سنة 240، أو 241، وقيل: في رمضان 239. اهـ "تت" بزيادة يسيرة.
2 -
(سفيان) بن عيينة أبو محمَّد الكوفي، ثم المكي ثقة حجة ثبت -8 - تقدم في 1/ 1.
3 -
(عمرو) بن دينار أبو محمَّد الأثرم الجمحي مولاهم ثقة ثبت -4 - تقدم في 112/ 154.
4 -
(جابر بن زيد) الأزدي أبو الشعثاء اليحمدي الجَوْفي -بفتح فسكون نسبة إلى درب جوف محلة بالبصرة- البصري. روى عن ابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، والحكم بن عمرو الغفاري، ومعاوية بن أبي سفيان، وعكرمة، وغيرهم. وعنه قتادة، وعمرو بن دينار، ويعلى ابن مسلم، وأيوب السختياني، وعمرو بن هرم، وجماعة.
قال عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس: لو أن أهل البصرة نزلوا عند قول جابر بن زيد لأوسعهم علمًا من كتاب الله، وقال تميم بن حُدير عن الرباب: سألت ابن عباس عن شيء؟ فقال: تسألوني وفيكم جابر بن زيد؟، وقال داود بن أبي هند، عن عزرة: دخلت على جابر بن زيد فقلت: إن هؤلاء القوم ينتحلونك -يعني الإباضية- قال: أبرأ إلى الله من ذلك، ووثقه ابن معين وأبو زرعة والعجلي، وفي تاريخ البخاري، عن جابر بن زيد قال: لقيني ابن عمر فقال: يا جابر إنك من فقهاء أهل البصرة، وقال ابن حبان في الثقات: كان فقيها، ودفن هو وأنس بن مالك في جمعة واحدة، وكان من أعلم الناس بكتاب الله، وفي كتاب الزهد لأحمد: لما مات جابر بن زيد، قال قتادة: اليوم مات أعلم أهل العراق، وقال إياس بن معاوية: أدركت الناس وما لهم مُفْت غير جابر ابن زيد، وفي تاريخ ابن أبي خيثمة: كان الحسن البصري إذا غزا أفتى
الناسَ جابرُ بن زيد، وفي الضعفاء للساجي عن يحيى بن معين: كان جابر إباضيّا، وعكرمة صُفْريا
(1)
.
قال الجامع: تقدم أن جابر تبرأ منها. والله أعلم.
وأغرب الأصيلي فقال: هو رجل من أهل البصرة لا يعرف، انفرد عن ابن عباس بحديث "من لم يجد إزارا فليلبس السروايل" ولا يعرف هذا الحديث بالمدينة. مات سنة 93، وقيل: 103، وقيل:104.
أخرج له الجماعة.
5 -
(ابن عباس) عبد الله رضي الله عنه الحبر البحر تقدم في 27/ 31.
6 -
(ميمونة) بنت الحارث العامرية الهلالية زوج النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها سنة سبع، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنها ابن أختها عبد الله بن عباس، وابن أختها الأخرى عبد الله بن شداد بن الهاد، وابن أخيها عبد الرحمن بن السائب الهلالي، وابن أختها الأخرى يزيد بن الأصم، وربيبها عبيد الله الخولاني، ومولاتها ندبة، ومولاها عطاء بن يسار، ومولاها سليمان بن
يسار، وآخرون، وقيل: كان اسمها برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة،
وتوفيت بسرف حيث بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما بين مكة والمدينة
وذلك سنة [51]، وقيل: 63 وصلى عليها ابن عباس، قال الحافظ: القول الأول هو الصحيح، وأما الأخير فغلط بلا ريب، فقد صح من حديث يزيد بن الأصم قال: دخلت على عائشة بعد وفاة ميمونة، فقالت: كانت من أتقانا، وقال يعقوب بن سفيان: توفيت سنة -49 - . أخرج لها الجماعة.
(1)
الإباضية بكسر الهمزة نسبة إلى أصحاب الحارث الإباضي جماعة من الخوارج. والصفرية بضم فسكون نسبة إلى بيع الأواني الصفرية أصحاب زياد بن الأصفر، طائفة من الخوارج أيضا أفاده في اللباب.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات، أخرج لهم الجماعة إلا شيخه فأخرج له البخاري، وأبو داود، والترمذي فقط، وأنهم ما بين كوفي، وهو شيخه، ومكيين، وهما سفيان، وعمرو، وبصري، وهو جابر، ومدنيين وهما الصحابيان، وابن عباس مدني، بصري، مكي، طائفي رضي الله عنهما. وفيه رواية صحابي، عن صحابية، وتابعي، عن تابعي. وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة. والله أعلم.
شرح الحديث
(عن) عبد الله (بن عباس) رضي الله عنهما أنه (قال: أخبرتني خالتي ميمونة) بنت الحارث أخت أمه لبابة بنت الحارث رضي الله عنهما، هكذا في رواية المصنف أنه صرح بأنها أخبرته، وأخرج البخاري بسنده عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم وميمونة كانا يغتسلان" الحديث، ثم قال البخاري بعده: كان ابن عيينة يقول أخيرًا عن ابن عباس، عن ميمونة، والصحيح ما روى أبو نعيم. يعني الرواية الأولى.
قال الحافظ رحمه الله: كذا رواه عنه أكثر الرواة، وإنما رواه عنه كما قال أبو نعيم من سمع منه قديما، وإنما رجح البخاري رواية أبي نعيم -يعني كونه من مسند ابن عباس لا من مسند ميمونة- جريا على قاعدة المحدثين؛ لأن من جملة المرجحات عندهم قدم السماع لأنه مظنة قوة حفظ الشيخ، ولرواية الآخرين جهة أخرى من وجوه الترجيح، وهي كونهم أكثر عددا وملازمة لسفيان، ورجحها الإسماعيلي من جهة أخرى من حيث المعنى وهو كون ابن عباس لا يطلع على النبي صلى الله عليه وسلم في حالة اغتساله مع ميمونة، فيدل على أنه أخذه عنها، وقد أخرج الرواية المذكورة الشافعي، والحميدي، وابن أبي عمر، وابن أبي شيبة، وغيرهم في مسانيدهم عن سفيان، ومسلم، والنسائي، وغيرهما من طريقه.
ويستفاد من هذا البحث أن البخاري لا يرى التسوية بين "عن فلان"، وبين "أن فلانا"، وفي ذلك بحث يطول ذكره، وقد حققته فيما كتبته على كتاب ابن الصلاح
(1)
اهـ فتح ج 1 ص 436 - 437.
قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل أن الراجح كون هذا الحديث من مسند ميمونة رضي الله عنها لا من مسند ابن عباس رضي الله عنهما كما صرح به المصنف، لكثرة من رواه كذلك، وإن رجح البخاري خلافه لقدم السماع. فتنبه.
(أنها كانت تغتسل ورسول الله صلى الله عليه وسلم) فيه العطف على الضمير المتصل المرفوع بلا فاصل، وهو جائز بقلة كما مر (من إناء واحد) فيه جواز اغتسال الرجل مع امرأته من إناء واحد، وهو محل الترجمة. والله أعلم
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: هذا الحديث متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له: أخرجه هنا -146/ 236 - وفي الكبرى -234/ 238 - عن يحيى بن موسى، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، عن ميمونة رضي الله عنهم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (خ) في الطهارة عن أبي نعيم عن سفيان بن عيينة، ولم يقل عن ميمونة، وقال: كان ابن عيينة يقول أخيرا عن ابن عباس عن ميمونة والصحيح ما رواه أبو نعيم. وقد تقدم البحث عن هذا قريبًا.
وأخرجه (م) فيه عن قتيبة، وأبي بكر بن أبي شيبة، عن سفيان به،
(1)
انظر النكت له ج 2 ص 590 - 593 - بتحقيق الدكتور ربيع بن هادي.
وأخرجه (ق) فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن سفيان به. وأخرجه الشافعي، والحميدي، وابن أبي عمر، وابن أبي شيبة في مسانيدهم. كما تقدم عن الحافظ. والله تعالى أعلم.
237 -
أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ هُرْمُزَ الأَعْرَجَ يَقُولُ: حَدَّثَنِي نَاعِمٌ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها: أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ سُئِلَتْ: أَتَغْتَسِلُ الْمَرْأَةُ مَعَ الرَّجُلِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، إِذَا كَانَتْ كَيِّسَةً، رَأَيْتُنِي وَرَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَغْتَسِلُ مِنْ مِرْكَنٍ وَاحِدٍ، نُفِيضُ عَلَى أَيْدِينَا حَتَّى نُنْقِيَهُمَا، ثُمَّ نُفِيضَ عَلَيْهَا الْمَاءَ.
قَالَ الأَعْرَجُ: لَا تَذْكُرُ فَرْجًا وَلَا تَبَالَهُ.
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(سويد بن نصر) المروزي ثقة -10 - تقدم في 45/ 55.
2 -
(عبد الله) بن المبارك ثقة حجة ثبت -8 - تقدم في 32/ 36.
3 -
(سعيد بن يزيد) الحمْيَري القِتْبَاني -بكسر القاف وسكون المثناة بعدها موحدة- أبو شجاع الإسكندراني. روى عن خالد بن أبي عمران، والحارث بن يزيد، ودَرَّاج أبي السَّمْح، والأعرج، ويزيد بن أبي حبيب، وغيرهم. وعنه الليث، وابن المبارك، وأبو غسان المدني، وأبو زرارة القتباني.
وثقه أحمد، وابن معين، وأبو زرعة، والنسائي، وابن يونس، وابن المديني، وابن حبان، وحمزة الكناني، وقال أبو داود: كان له شأن، له في مسلم حديث واحد في القلادة، وقال حمزة الكناني: ثقة مأمون لا نعلم روى عنه غير الليث، وابن المبارك، ولم يرو عنه ابن وهب، مع أنه قدم بعد طلب ابن وهب للحديث انتهى. قال الحافظ: ولعل ابن وهب ما شعر به أو تشاغل بما هو أهم منه. مات بالإسكندرية سنة 154، أخرج له مسلم، وأبو داود، والترمذي، النسائي.
4 -
(عبد الرحمن بن هرمز الأعرج) المدني المشهور بلقبه ثقة -3 - تقدم في 7/ 7.
5 -
(ناعم مولى أم سلمة رضي الله عنها بن أَجْيَل الهمداني، أبو عبد الله المصري، روى عن أم سلمة، وعثمان، وعلي، وأبي هريرة، وابن عباس، وابن عمرو بن العاص، وغيرهم. وعنه يزيد بن أبي حبيب، والأعرج، وكعب بن علقمة، والحارث بن يزيد. وعبيد الله بن المغيرة. وثقه النسائي، وقال ابن يونس: كان أحد الفقهاء الذين أدركهم يزيد، ووثقه ابن سعد، وذكره يعقوب بن سفيان في ثقات أهل مصر، وابن حبان في الثقات. قيل: مات سنة -80 - أخرج له مسلم، والأربعة.
6 -
(أم سلمة) هند بنت أبي أمية المخزومية أم المؤمنين رضي الله عنها تقدم في 123/ 183. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأنهم ما بين مروزين، وهما سويد، وعبد الله، ومصريين وهما سعيد، وناعم، ومدنيين هما الأعرج، وأم سلمة، وفيه الإخبار، والتحديث بلفظ الجمع، والإفراد. والعنعنة، وتقدم البحث عن هذا كله غير مرة.
شرح الحديث
عن ناعم بن أجْيَل المصري مولى أم سلمة رضي الله عنها (أن أم سلمة) هند رضي الله عنها (سئلت أتغتسل المرأة مع الرجل) جملة الاستفهام تفسير للسؤال، أي سألها سائل قائلا أتغتسل الخ، والمراد بالرجل هو الزوج أو السيد؛ لأنه الذي يتأتى له ذلك (قالت: نعم) بفتحتين وبفتح فسكون، حرف يجاب بها الاستفهام، كما في قوله تعالى:{فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44] وتكون عدَةً بعد "افعل" أو لا تفعل، وتقدم البحث عنها مستوفى في 54/ 68، وغيره. أي قالت أم سلمة: لها الاغتسال معه (إذا كانت المرأة كيّسة) أي عاقلة لبيبة، وفي اللسان: أراد به حسن الأدب في استعمال الماء مع الرجل. اهـ
وكيسة مؤنث كيّس مشدد الياء، من الكَيْس وزان فَلْس، وهو الظَّرْف
(1)
والفطنة، وقال ابن الأعرابي: العقل، ويقال: إنه مخفف من كيس مثل هَيْن وهَيِّن، والأول أصح، لأنه مصدر من كاس يكيس، كَيْسا من باب باع، وأما المثقل فاسم فاعل، والجمع أكياس مثل جيّد، وأجياد، قاله في المصباح. ثم استدلت على ما قالته بفعلها مع النبي صلى الله عليه وسلم بقولها (رأيتني) فيه وقوع الفاعل والمفعول ضميرين متصلين لمسمى واحد، وهذا خاص بأفعال القلوب، كظننتني قائمًا، ومنه قوله تعالى:{أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 7]، وألحقت بها في ذلك رأى الحلمية، والبصرية بكثرة نحو:{إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36]، وقوله (من الكامل):
ولقَدْ أرَاني للرِّمَاح دَريئَةً
…
منْ عَنْ يَميني تَارَةً وَشمَالي
وكذا "عدم" و"فَقَد" و"وَجَد" بمعنى "لقي"، دون باقي الأفعال، فلا يقال: ضربتني اتفاقا لئلا يكون الفاعل مفعولا، بل يقال: ضربت نفسي، وظلمت نفسي ليتغاير اللفظان، فإن ورد ما يوهم ذلك قدر فيه
(1)
الظرف وزان فلس: البراعة، والفطنة قاله في المصباح.
النفس نحو {وَهُزِّي إِلَيْكِ} [مريم: 25]{وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} [القصص: 32]،
{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37]، أي إلى نفسك، وعلى نفسك، بخلاف أفعال القلوب فإن مفعولها في الحقيقة مضمون الجملة لا المنصوب بها فلا ضرر في اتحاده مع الفاعل، ولا
توضع النفس مكانه عند الجمهور، فلا يقال: ظننت نفسي عالمة، وجوزه ابن كيسان، فإن كان أحد الضميرين منفصلا جاز في كل فعل نحو ما ضربت إلا إياي. انظر حاشية الخضري على شرح ابن عقيل لألفية ابن مالك ج 1 ص 151 (ورسول الله صلى الله عليه وسلم) بالنصب عطفا على الياء الواقعة مفعولا لرأيت، ورأى هنا بصرية، ولذا تكون جملة قوله (نغتسل)
في محل نصب على الحال (من مركن) بكسر الميم وسكون الراء بوزن منبر: آلة تتخذ لغسل الثياب ونحوها، ويوضع فيها الماء للغسل ونحوه، و"من" هنا ابتدائية (واحد) صفة لمركن (نفيض على أيدينا) جملة تفسيرية لقولها: نغتسل، من الإفاضة وهو الصب والإسالة، والمراد أنهما يبدءان بغسل اليدين (حتى ننقيها) بضمير المؤنثة كما في الهندية وهو راجع إلى الأيدي، وفي النسخة المصرية "حتى ننقيهما" بضمير التثنية، وهو راجع إلى اليدين أيضًا، لكون الأيدي بمعنى اليدين، لأن الجمع يطلق على المثنى، كما في قوله تعالى في حق داود وابنه سليمان عليهما الصلاة والسلام {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78].
وننقي من الإنقاء أو التنقية، يقال: نقي الشيء، ينقى، من باب تعب نَقَاء بالفتح والمد، ونقاوة بالفتح: نَظُفَ، فهو نقيّ على فعيل، ويعدى بالهمزة والتضعيف، قاله في المصباح، أي حتى ننظفهما (ثم نفيض عليها الماء) هكذا في النسخة المصرية بثم ومثله في مسند أحمد، وفي الهندية: حتى نفيض، بحتى بدل "ثم"، والضمير المجرور راجع إلى الأبدان، وإن لم يجر لها ذكر، لكونها معلومة، أفاده السندي، أي
نفيض على أبداننا الماء، ووقع في إحدى النسخ النظامية، كما قاله بعضهم "نفيض علينا" بضمير المتكلم، ومثله في مسند أحمد ج 6 ص 323 وهي ظاهرة.
(قال الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (لا تذكر) أي أم سلمة رضي الله عنه في حديثها هذا (فرجا، ولا تباليه) أي لم تهتم بذكره، وإنما قال الأعرج هذا لأن غالب الروايات في صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم فيها ذكر الفرج كما في حديث عائشة رضي الله عنها الآتي 152/ 243، و 153/ 244، وحديث ميمونة رضي الله عنها عند الشيخين وغير ذلك، مما فيه ذكر غسل الفرج.
وحاصل كلام الأعرج أنه يقول: إن أم سلمة رضي الله عنها لم تذكر في حديثها هذا غسل الفرج، بل اقتصرت على إفاضة الماء على أيديهما وأبدانهما.
وقوله (تباليه) مضارع بَالَى، يقال: لا أباليه، ولا أبالي به: أي لا أكترث له، ولم أبال، ولم أبَلْ للتخفيف كما حذفوا الياء من المصدر، فقالوا: لا أباليه بَالَةً، والأصل باليَةً مثل عافاه، معافاة، وعافية، قالوا: ولا يستعمل إلا مع الجحد، والأصل فيه قولهم تَبَالَى القومُ: إذا تبادروا إلى الماء القليل فاستَقَوا، فمعنى لا أبالي: لا أبادر، إهْمَالًا له، وقال أبو زيد: ما باليت به مُبَالاة، والاسم البلاء وزان كتاب، وهو الهم الذي تحدث به نفسك. قاله في المصباح.
ومعنى قول الأعرج هنا لا تباليه: لا تهتم ولا تكترث بذكر غسل الفرج كما اهتم به غيرها ممن وصف غسله صلى الله عليه وسلم من الجنابة.
"وتباليه" هكذا النسخة الهندية، بالياء، وكذا في "الكبرى" فلا نافية والفعل مرفوع. ووقع في النسخة المصرية "ولا تباله" بحذف الياء ولعله من تحريف النساخ، وأما كونه مجزوما بلا فلا يصح لأن "لا" النافية لا تجزم، ومن أجاز الجزم بها، وهم الكوفيون، يشترطون أن يصلح قبلها
"كي" نحو ربطت الفرس لا ينفلتُ بالرفع والجزم حكاه الفراء، وهنا لا يصلح هذا، وخَرَّجه غيرهم على أن الجزم على توهم الجزم قبله، أي إن لم أربطه ينفلت. انظر حواشي الصبان، والخضري على ألفية ابن مالك في باب عوامل الجزم.
(تنبيه) من الغريب ما وقع في شرح السندي لهذا المحل حيث جعل قول الأعرج هذا تفسيرا لقولها: إذا كانت كيسة، وجعل قوله:"ولا تباله" مضارع تَبَالهَ، فقال: ولا تَبَالهُ بفتح التاء، أصله تتباله بتاءين حذفت إحداهما، من تَبَالَهَ الرجل إذا رأى من نفسه ذلك، وليس به، أي ولا تأتي بأفعال المرأة البَلطَء، والأبْلَهُ خلاف الكيّس، والمرأة بلهاء كحمراء. اهـ كلامه. وهذا التفسير غير سديد، ويرد قوله مضارع تباله كون النسخة الهندية والكبرى بإثبات الياء لأنه نص على أنه مضارع بالى، وليس مضارع تباله فالتفسير الواضح هو ما ذكرناه والله أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث أم سلمة رضي الله عنها هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف أخرجه هنا 146/ 237 وفي الكبرى 134/ 239 عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن سعيد ابن يزيد، عن الأعرج، عن ناعم، عنها. ولم يخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه أحمد ج 6 ص 323 ولم يذكر قول الأعرج.
المسألة الثالثة: في فوائده: في هذا الحديث ما ترجم له المصنف وهو جواز اغتسال الرجل والمرأة من نسائه من إناء واحد، ومثله الوضوء وهذا بالإجماع، وأما حكم تطهر الرجل بفضل المرأة وعكسه فسيأتي في الباب التالي إن شاء الله تعالى. وفيه جواز نظر الرجل إلى عورة امرأته وعكسه. وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق حيث يلاطف أزواجه، فيغتسل معهن من إناء واحد. والله تعالى أعلم.
147 - بَابُ ذكْر النَّهْي عَنْ الاغْتساَل بفَضْلِ الجُنُبِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على منع الشخص عن أن يغتسل بما أبقاه الجنب في الإناء، لكن الاستدلال بالحديث الآتي على الترجمة فيه بُعْدٌ، لأن الترجمة عامة من جهة أنها تعم الرجل والمرأة، وخاصة من جهة أنها تخص الجنب فقط، والحديث عام من جهة أنه يعم الجنب وغيره، وخاص من جهة أن النهي فيه خاص باغتسال الرجل بفضل المرأة، وعكسه، اللهم إلا إذا قلنا إن المراد في الحديث بالفضل فضل الجنب خاصة، فيتم الاستدلال، لكن هذا التخصيص يحتاج إلى دليل فتأمل.
والفضل: مصدر فَضَل من باب قتل، يقال: فَضَل، يفضُل فضلا: إذا بقي، وفي لغة: فضِل يَفضَل من باب تَعبَ، وفضل بالكسر يفضُلُ بالضم لغة ليست بالأصل، ولكنها على تداخل اللغتين، ونظيره في السالم نَعمَ يَنْعُم، ونكل يَنكُل، وفي المعتل دمتَ تَدُوم ومِتَّ تموت. قاله في المصباح، وتقدم معنى الجنب.
238 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ دَاوُدَ الأَوْدِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: لَقِيتُ رَجُلاً صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَمَا صَحِبَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَرْبَعَ سِنِينَ، قَالَ نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَمْتَشِطَ أَحَدُنَا كُلَّ يَوْمٍ، أَوْ يَبُولَ فِي مُغْتَسَلِهِ، أَوْ يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةُ بِفَضْلِ الرَّجُلِ، وَلْيَغْتَرِفَا جَمِيعًا.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفي أبو رجاء البغلاني ثقة ثبت -10 - تقدم في 1/ 1.
2 -
(أبو عوانة) الوضاح بن عبد الله اليشكري الواسطي البزاز مشهور بكنيته ثقة ثبت من السابعة مات سنة 5 أو 176 تقدم في 41/ 46.
3 -
(داود) بن عبد الله الأودي الزعافري
(1)
أبو العلاء الكوفي. روى عن الشعبي، وحميد بن عبد الرحمن الحميري، ووبرة أبي كرز الحارثي، وعبد الرحمن المسلي.
وعنه زهير بن معاوية، وأبو حمزة السُكَّري، وأبو عوانة، ووكيع، ومحمد بن فضيل، وغيرهم. قال أحمد: شيخ ثقة قديم وهو غير عم إدريس، وقال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: ثقة. وقال الدوري، عن ابن معين: ليس بشيء. واعترض الحافظ على هذا، فقال: يحرر هذا، فإنه عن الدوري، عن ابن معين في داود بن يزيد.
وقال أبو داود: ثقة، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال ابن شاهين في الثقات، عن أحمد بن حنبل: هو ثقة من الثقات. ولما ذكر ابن حزم الأندلسي حديثه في الوضوء بفضل المرأة، قال: إن كان داود عم ابن إدريس فهو ضعيف، وإلا فهو مجهول، وقد ردّ ذلك ابن مفوز على ابن حزم، وكذلك ابن القطان الفاسي، قال ابن القطان: وقد كتب الحميدي إلى ابن حزم من العراق يخبره بصحة هذا الحديث، وبين له أمر هذا الرجل بالثقة، قال: فلا أدري أرجع عن قوله أم لا؟ اهـ. "تت" ج 3 ص 191.
(1)
الأولى: بمفتوحة فواو ساكنة فدال مهملة منسوب إلى أود بن صعب. والزعافري بفتح الزاي والمهملة وكسر الفاء وراء: نسبة إلى الزعافر بطن من أود.
4 -
(حميد بن عبد الرحمن) الحميري البصري. روى عن أبي بكرة، وابن عمر، وأبي هريرة، وابن عباس، وثلاثة من ولد سعد، وغيرهم. وعنه ابنه عبيد الله، ومحمد بن المنتشر، وعبد الله بن بريدة، ومحمد بن سيرين، وأبو بشر، وعزرة بن عبد الرحمن وأبو التياح، وداود بن أبي هند، وغيرهم. قال العجلي: بصري ثقة، وقال هو، ومنصور بن زاذان: وكان ابن سيرين يقول: هو أفقه أهل البصرة، زاد منصور: قبل أن يموت بعشر سنين، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان فقيها عالما. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث، وذكر أنه روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أخرج له الجماعة. اهـ "تت" ج 3 ص 46.
5 -
(رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم) لم يعرف اسمه، وقيل: هو الحكم بن عمرو الغفاري، وقيل: عبد الله بن سَرْجس، وقيل: عبد الله بن مُغَفَّل، قاله في المنهل ج 1 ص 112. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وهم ما بين بلخي، وواسطي، وكوفي، وبصري، وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة، وفيه إبهام الصحابي، ولكن لا يضر ذلك؛ لأن الصحابة كلهم ثقات عدول فلا تضر جمالتهم. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن حميد بن عبد الرحمن) الحميري أنه (قال: لقيت رجلا صحب النبي صلى الله عليه وسلم) الجملة في محل النصب صفة لـ "رجالًا"(كما صحبه أبو هريرة رضي الله عنه الكاف بمعنى "مثل" صفة لمصدر محذوف، وما مصدرية، أي صحبةً مثل صحبة أبي هريرة (أربع سنين) بالنصب على أنه ظرف لقوله: صحبه أبو هريرة، فصحبته رضي الله عنه كانت أربع سنين لأنه
أسلم في المحرم سنة -7 - من الهجرة في الشهر الذي فتحت فيه خيبر، فقدم، والشعبي صلى الله عليه وسلم بخيبر فأقام معه إلى أن توفي في ربيع الأول سنة -11 - وذلك أربع سنين (قال) ذلك الرجل (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم) يقال: نهيته عن الشيء، أنهاه، نَهْيا، فانتهى عنه، ونهوته، نَهْوًا لغة، ونهى الله تعالى: أي حرّم. قاله في المصباح. وفي المنهل: النهي ضد الأمر، وهو الكف، وفي العرف: اقتضاء كف عن فعل لا بقول كُفَّ، والأداة الموضوعة له "لا" الجازمة، والنهي في هذا الحديث محمول على الكراهة عند العلماء. اهـ ج 1 ص 112.
قال الجامع عفا الله عنه: الصارف له عن التحريم الأحاديث الدالة على الجواز. كما ستأتي.
(أن يمتشط أحدنا) أي معشر الرجال. والفعل في تأويل المصدر مجرور بعن محذوفة قياسا كما قال ابن مالك في الخلاصة:
وَعَدِّ لازماً بحَرْف جَرِّ
…
وإَنْ حُذفْ فَالنَّصْبُ للمُنْجَرِّ
نَقْلًا وَفِي أنَّ وَأنْ يَطَّردُ
…
مَعْ أمْن لَبْس كَعَجبْتُ أنْ يَدُوا
أي نهى عن امتشاط أحدنا. والامتشاط: تسريح الشعر بالمشط لتحسينه، يقال: مشطت الشعر مَشْطا من بابي قتل، وضرب: سَرَّحته، والتثقيل مبالغة، وامتشطت المرأة: مشطت شعرها، والمشْط الذي يمتشط به بضم الميم، وتميم تكسر، وهو القياس لأنه آلة، والجمع أمشاط، والمُشَاطة بالضم: ما يسقط من الشعر عند مَشْطه. قاله في المصباح (كل يوم) بالنصب ظرف لـ "يمتشط".
قال في المنهل: وإنما نهى صلى الله عليه وسلم عن الامتشاط كل يوم لما يترتب عليه من تساقط شعر اللحية المأمور بإعفائها ولما فيه من التَّرَفُّه المنافي لشهامة الرجال.
قال الجامع: التعليل الأول فيه نظر لا يخفى، بل الثاني هو الصحيح فتأمل
(1)
.
وقال ابن حجر في شرح الشمائل: إنما نهي عن الترجل إلا غبًا، لأن
إدمانه يشعر بمزيد الإمعان في الزينة والترفه، وذلك إنما يليق بالنساء، وهو ينافي شهامة الرجال اهـ. وقال ابن العربي: موالاته تصنّع، وتركه تدليس، وإغْبَابُهُ سنة. اهـ
وإغبابه أن يفعله يوما ويتركه يوما، ويؤيده ما روى عبد الله بن مغفل، قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الترجل إلا غبًا" رواه أحمد والنسائي، والترمذي، وصححه، وابن حبان. والترجل تسريح الشعر، وفي ترك الترجل أياما نوع من البذاذة التي هي من الإيمان، كما جاء عند أبي داود، وابن ماجه من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما عنده الدنيا، فقال:"ألا تسمعون؟ إن البذاذة من الإيمان"
(2)
، والبذاذة رثاثة الحال.
ولا يعارض حديث الباب ما رواه النسائي بإسناد رجاله رجال الصحيح عن أبي قتادة رضي الله عنه "أنه كانت له جُمَّة ضخمة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأمره أن يحسن إليها، وأن يترجل كل يوم". لإمكان الجمع بينهما بأن النهي مخصوص بمن لا يحتاج شعره إلى الترجل كل يوم، أما من يحتاج إلى ذلك كل يوم كأبي قتادة فلا يشمله النهي، وكذا لا يعارضه حديث أنس رضي الله عنه الذي أورده الترمذي في الشمائل:"كان صلى الله عليه وسلم يكثر تسريح لحيته"؛ لأن إكثار التسريح لا يستلزم الفعل كل يوم. بل لو فعله يوما وتركه يوما يعد مكثرًا.
(1)
ووجه النظر أن تعليله بتساقط شعر اللحية موجود فيما كان في يومين فأكثر، فالتعليل به غير
صحيح.
(2)
حديث صحيح. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ الألباني. ج 1 ص 601.
وأما ما ذكره الغزالي في الإحياء من أنه صلى الله عليه وسلم كان يسرح لحيته في اليوم مرتين، فلم يرد بهذا اللفظ، كما قاله شارحه المرتضى الزبيدي. اهـ المنهل ج 1 ص 112 - 113 بنوع تصرف (أو يبول في مغتسله) أي ونهى أيضا أن يبول أحدنا في مغتسله، فـ"أو" فيه بمعنى الواو، والمغتسل: بضم الميم وفتح السين المهملة: موضع الاغتسال. أفاده في المنهل. وقد تقدم حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه عند المصنف في 32/ 36 بلفظ: "لا يبولن أحدكم في مُسْتَحَمِّه، فإن عامة الواسوس منه" والمستحمّ بصيغة اسم المفعول محل الاغتسال بالماء الحميم أي الحار، والمراد مطلق محل الاغتسال، وتقدم البحث على الحديث مُستوفى هناك، فارجع إليه تزدد علمًا.
(أو) بمعنى الواو أيضا (أن يغتسل الرجل بفضل المرأة) أي بالماء الذي بقي في الإناء بعد اغتسال المرأة منه، أو بعد شروعها فيه وقال السندي: قيل: المراد بالفضل المستعمل في الأعضاء لا الباقي في الإناء ويرده قوله: "وليغترفا جميعا"، وقيل: بل النهي محمول على التنزيه، وقد رأى بعضهم أن معارض هذا الحديث أقوى. اهـ ج 1 ص 130 قلت: سيأتي تحقيقه في الباب التالي إن شاء الله (و) تغتسل (المرأة بفضل الرجل) كذلك، والنهي هنا للتنزيه كالسابق، جمعا بين حديثي النهي، وأحاديث الإباحة، كما سيأتي قريبا، فيكره للرجل أن يغتسل بفضل المرأة، ويكره للمرأة أن تغتسل بفضله.
(وليغترفا جميعًا) أي ليأخذ الرجل والمرأة مجتمعين، والواو عاطفة على قوله "نهى"، والمعطوف محذوف، أي وقال:"ليغترفا" واللام لام الأمر، وهي مبنية على الكسر حمْلًا على لام الجر، وبنو سليم يفتحونها كلام الابتداء، وتسكينها بعد الواو والفاء أكثر، وتحريكها بعد "ثم" أجود، والاغتراف: أخذ الماء باليد، يقال: غَرَفَ الماء يغرفه من
بابي ضرب، ونصر: أخذه بيده، كاغترفه، وفي رواية ابن ماجه "ولكن يشرعان جميعًا" أفاده في المنهل. ج 1 ص 273. والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث الباب صحيح، قال الحافظ في بلوغ المرام: إسناده صحيح، وقال في الفتح: رجاله ثقات، ولم أقف لمن أعله على حجة قوية، ودعوى البيهقي أنه في مَعْنَى المرسل مردودة، لأن إبهام الصحابي لا يضر، وقد صرح بأنه لقيه، ودعوى ابن حزم أن داود راويه عن حميد بن عبد الرحمن هو ابن يزيد الأودي، وهو ضعيف، مردودة فإنه ابن عبد الله الأودي، وهو ثقة، وقد صرح باسم أبيه أبو داود. اهـ فتح ج 1 ص 359 - 360.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له: أخرجه هنا -147/ 238 - وفي الكبري -135/ 240 - عن قتيبة، عن أبي عوانة، عن داود الأودي، عن حميد بن عبد الرحمن، عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم. وفي كتاب الزينة -6/ 5054 - ببعضه.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه أبو داود في الطهارة 15/ 2 عن أحمد بن يونس، عن زهير بن معاوية، عن داود بن عبد الله، عن حميد بن عبد الرحمن الحميري، قال: لقيت رجلا صحب النبي صلى الله عليه وسلم الحديث.
وأخرجه أحمد، والبيهقي، كما قاله في المنهل.
المسألة الرابعة: في فوائده: يستفاد من هذا الحديث ما ترجم له المصنف وهو النهي عن الاغتسال بفضل الجنب، لكن الحديث عام في الجنب وغيره، فالأولى تعميم الحكم. وسيأتي حكم النهي وأقوال العلماء في الباب التالي إن شاء الله تعالى. وفيه كراهية امتشاط الرجل
كل يوم لما فيه من المبالغة في الترفه والزينة، وكل منهما مناف لشهامة الرجال بخلاف النساء، فإنه لا يكره ذلك في حقهن لأنهن محل الزينة والترفه، وفيه أنه يطلب من الشخص المحافظة على وقته من الضياع، فلا يصرفه في غير مطلوب، وأنه يطلب الابتعاد عن تنجيس محل الطهارة، وقد تقدم علة المنع أنه يتولد منه الوسواس، حيث قال:"فإن عامة الوسواس منه" وتقدم البحث فيه مُستوفى في 32/ 36 فارجع إليه تزدد علمًا. والله تعالى أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
148 - بَابُ الرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على تسهيل الاغتسال بفضل الجنب.
والرخصة وزان غرفة: التسهيل في الأمر، والتيسير فيه، وقد تضم خاؤها للاتباع، وجمعها رُخَص كغُرَف، ورُخُصَات كغُرُفات. وقد تقدم تحقيق البحث فيها في 7/ 7.
والظاهر أن المصنف يرى نسخ حديث الباب المتقدم الدالّ على النهي بحديث الباب، ولكن هذا إنما يتم بعد معرفة التاريخ، ولا سبيل إلى ذلك، فالأولى حمل النهي على التنزيه جمعا بين الأدلة؛ لأنه لا يصار إلى النسخ إذا أمكن الجمع، ولا سيما مع عدم العلم بالتاريخ، والله أعلم.
239 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَاصِمٍ (ح) وَأَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ مُعَاذَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، يُبَادِرُنِي وَأُبَادِرُهُ حَتَّى يَقُولَ:"دَعِي لِي". وَأَقُولُ أَنَا: دَعْ لِي. قَالَ سُوَيْدٌ: يُبَادِرُنِي، وَأُبَادِرُهُ فَأَقُولُ: دَعْ لِي دَعْ لِي.
رجال الإسناد: ثمانية
1 -
(محمَّد بن بشار) بندار أبو بكر البصري ثقة ثبت -10 - تقدم في 24/ 27.
2 -
(محمَّد بن جعفر) غندر البصري ثقة حافظ -9 - تقدم في 21/ 22.
3 -
(شعبة) بن الحجاج أبو بسطام الواسطي، ثم البصري، ثقة حجة ثبت -7 - تقدم في 24/ 26.
4 -
(سويد بن نصر) المروزي ثقة -10 - تقدم في 45/ 55.
5 -
(عبد الله) بن المبارك الإمام الحجة المروزي -8 - تقدم في 32/ 36.
6 -
(عاصم) بن سليمان الأحول، أبو عبد الرحمن البصري مولى بني تميم، ويقال: مولى عثمان، ويقال: مولي ابن زياد. روى عن أنس، وعبد الله ابن سَرْجس، وعمرو بن سلمة الجرمي، وأبي مجْلز لاحق بن حميد، وبكر بن عبد الله المزني، وأبي حاجب سوادة بن عاصم، ومعاذة العدوية، وغيرهم. وعنه قتادة. وسليمان التيمي، وشعبة، والسفيانان، وغيرهم.
قال علي بن المديني عن القطان: لم يكن بالحافظ، وقال حجاج بن محمَّد، عن شعبة: عاصم أحب إليَّ في أبي عثمان النهدي من قتادة، وقال سفيان الثوري: أدركت حفاظ الناس أربعة، وفي رواية ثلاثة، فَيُثَنِّي به. وقال عبد الرحمن بن مهدي: كان من حفاظ أصحابه، وقال أحمد: شيخ ثقة، وقال أيضا: من الحفاظ للحديث ثقة، وقال المرُّوذيّ: قلت لأحمد: إن يحيى تكلم فيه، فعجب، وقال: ثقة، وقال إسحاق بن منصور، وعثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة، وكذا قال ابن المديني، وأبو زرعة، والعجلي، وابن عمار، وذكره ابن عمار في موازين أصحاب الحديث، وقال ابن المديني مرة: ثبت، وقال ابن سعد: كان من أهل البصرة، وكان يتولى الولايات، فكان بالكوفة على الحسبة في
المكاييل، والأوزان، وكان قاضيًا بالمدائن لأبي جعفر، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان يحيى بن سعيد قليل الميل إليه، وقال ابن إدريس: رأيته أتى السوق، فقال: اضربوا هذا، أقيموا هذا، فلا أروي عنه شيئًا، وتركه وهيب لأنه أنكر بعض سيرته، وقال الدارقطني: هو أثبت من عاصم بن أبي النجود، وقال البزار: ثقة، وقال أبو الشيخ: سمعت عبدان يقول: ليس في العواصم أثبت من عاصم الأحول، وقال ابن أبي حاتم في المراسيل: قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: عاصم، عن عبد الله بن شقيق، عن عمر "بادروا الصبح بالوتر" فقال: عاصم لم يرو عن عبد الله بن شقيق شيئا. مات سنة -1 - أو -142 - وقيل: سنة 143. أخرج له الجماعة. اهـ "تت" ج 5 ص 43. وفي "ت": ثقة -4 - لم يتكلم فيه إلا القطان، وكأنه بسبب دخوله الولاية.
7 -
(معاذة) بنت عبد الله أم الصهباء العدوية البصرية ثقة -3 - تقدمت في 41/ 64.
8 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها تقدمت في 5/ 5. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه اشتمل على إسنادين بالتحويل، الأول سداسي، نازل، والثاني خماسي عال، وأن رواته كلهم ثقات، وأنهم بصريون إلا سويدًا، وشيخه فمروزيان، وعائشة فمدنية رضي الله عنها، وفيه كتابة (ح) وقد تقدم أقوال العلماء فيها غير مرة، وفيه الإخبار، والتحديث، والإنباء، والعنعنة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت (كنت أغتسل أنا) ذكرت الضمير المنفصل توكيدًا للمتصل لتعطف عليه قولها (ورسول الله صلى الله عليه وسلم) لأن العطف بدونه، أو فاصل ما ضعيف كما مر (من إناء واحد) أي من ماء في إناء واحد (يبادرني وأبادره) أي يسابقني إلى الاغتراف منه،
وأسابقه إليه، وفيه دليل على أن لكل منهما استعمال فضل الآخر؛ لأنه لو لم يجز ذلك لما سابق أحدهما الآخر، لاستلزامه إفساد الماء عليه (حتى يقول دعي لي) أي اتركي لي الماء (وأقول أنا) ضمير منفصل مؤكد للمتصل (دع ليّ) و"حتى" غاية للمبادرة، أي تكون غاية المبادرة حتى يخاف علي أن أفني الماء قبل إكماله الطهارة، فيقول "دعي لي" وأخاف عليه ذلك فأقول "دع لي".
(قال سويد) بن نصر في روايته لهذا الحديث (ييادرني وأبادره فأقول: دع لي دع لي) يعني أنه جعل قول "دع لي" لعائشة فقط.
(تنبيه)"دعْ" فعل أمر من ودعه يدعه: إذا تركه، وأصل المضارع الكسر، ومن ثم حذفت الواو ثم فتح لمكان حرف الحلق، قال بعض المتقدمين: وزعمت النحاة أن العرب أماتت ماضي يدع، ومصدره واسم فاعله، وقد قرأ مجاهد، وعروة، ومقاتل، وابن أبي عَبْلَةَ، ويزيد النحوي:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} [الضحى: 3] بالتخفيف، وفي الحديث "لينتهين أقوام عن وَدْعهم الجمعات" أي عن تركهم، فقد رويت هذه الكلمة عن أفصح العرب، ونقلت من طريق القراء فكيف يكون إماتةً، وقد جاء الماضي في بعض الأشعار، وما هذا سبيله فيجوز القول بقلة الاستعمال، ولا يجوز القول بالإماتة. اهـ المصباح المنير.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى في درجته: حديث عائشة رضي الله عنها هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف: أخرجه هنا -148/ 239 - وفي الكبرى -136/ 241 - عن بندار، عن غندر، عن عاصم الأحول، عن معاذة، عنها.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (م) في الطهارة 44/ 7 عن يحيى بن يحيى، عن أبي خيثمة زهير بن معاوية، عن عاصم الأحول، به.
المسألة الرابعة: في فوائده: من فوائد هذا الحديث ما ترجم له المصنف، وهو جواز الاغتسال بفضل الجنب، وذلك أنه إن كان مراد عائشة رضي
الله عنها بقولها "من إناء واحد، يبادرني" الخ، أن كل واحد منهما يغتسل مبادرًا فيغتسل بعده الآخر، فالاستدلال به واضح، وإن كان مرادها أنهما يتسابقان في آن واحد في الاغتراف كما هو الظاهر من السياق، فوجه الاستدلال به أنه إذا اغترف أحدهما قبل الآخر، وهو جنب، واغترف الآخر بعده، فقد استعمل فضل الجنب.
وفيه جواز اشتراك الرجل مع امرأته في الغسل، وأن الاغتراف لا يصير به الماء مستعملا، وإن لم ينو الاغتراف، كما يقول به بعض العلماء، وفيه جواز كلام المغتسل أثناء الاغتسال، وليس كحالة الغائط. وفيه ما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليه من مكارم الأخلاق حيث أنه يلاطف زوجاته، ويعاشرهن عشرة حسنة، فكان خير الناس في ذلك، كما قال:"خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي". أخرجه الترمذي، وقال صحيح حسن غريب من هذا الوجه. والله أعلم.
المسألة الخامسة: في مذاهب العلماء في تطهير كل واحد من الرجل والمرأة بفضل الآخر:
اختلف أهل العلم في هذا الباب على مذاهب:
أحدها: المنع من تطهير الرجل بفضلها، مطلقا سواء أشَرَعا معًا في الطهارة أم لا، خلت به أم لا، حائضا كانت، أم لا، جنبا كانت أم لا، وهو قول عمر بن الخطاب، وعبد الله بن سرجس، والحكم بن عمرو الغفاري، وسعيد بن المسيب، وابن حزم، واحتجوا بالحديث السابق في الباب الماضي. وأجيب عنه بما سيأتي قريبًا.
الثاني: المنع فيما إذا خلت به، والجواز إذا تطهرا معًا وإليه ذهب داود، إسحاق، وأحمد في رواية عنه قائلا: إن الأحاديث في جواز ذلك ومنعه مضطربة، لكن صح عن عدة من الصحابة المنع فيما إذا خلت به، وأجيب بأن اضطراب الأحاديث إنما يضر عند تعذر الجمع، وهو هنا ممكن يحمل أحاديث النهي على التنزيه، وبأن الجواز مطلقًا روى عن جمع من الصحابة منهم علي، وابن عباس، وجابر، وأبو هريرة،
وأنس، وعائشة، وأم سلمة، وميمونة، وأم هانئ، رضي الله عنهم.
الثالث: منع تطهره بفضلها إذا كانت جنبًا أو حائضًا، وإلا فلا منع، ولا دليل على هذا التخصيص، وقد نُسب هذا القول لابن عمر، والشعبي، والأوزاعي. هكذا في المنهل ج 1 ص 275 خص المنع عند هؤلاء بالرجل، والذي في الأوسط لابن المنذر ج 1 ص 293 منع كل
واحد من الرجل والمرأة التطهر بفضل الآخر إذا كان الرجل جنبا أو المرأة جنبًا أو حائضًا.
الرابع: أنه لا يجوز تطهير كل بفضل طهور الآخر إلا أن يغترفا معا
(1)
، أخذا بظاهر الحديث السابق، لكنه معارض بحديث الباب، وبحديث ابن عباس رضي الله عنه، قال:"اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في جفنة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليتوضأ منها أو يغتسل، فقالت له: يا رسول الله إني كنت جنبًا، فقال: "إن الماء لا يجنب": رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. قاله المجد ابن تيمية في المنتقى.
وبحديث أم صُبَيَّة الجهنية رضي الله عنها، قالت:"اختلفت يدي ويد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوضوء من إناء واحد". رواه أبو داود، وابن ماجه، وأحمد، وهو حديث صحيح. وهذه الأحاديث أقوى من أحاديث المنع.
الخامس: منع تطهير كل بفضل الآخر، وإن شرعا معا، ونسب هذا إلى أبي هريرة رضي الله عنه، وأحمد، وحكاه ابن عبد البر عن قوم، وهو مردود بصريح الأحاديث السابقة الدالة على الجواز. ودعوى النووي الاتفاق على جواز ذلك للمرأة دون العكس يرده هذا القول، كما قاله الحافظ. وكذا دعوى الاتفاق على جوازه لهما إذا كانا جميعًا مردود به.
(1)
هكذا ذكر هذا القول الرابع في المنهل ج 1 ص 275 ولم يعزه إلى أحد من العلماء. والذي ذكره ابن المندر في الأوسط خمس مذاهب: (الأول) نهي الرجل والمرأة عن الاغتسال من إناء واحد. (الثاني) الرخصة للمرأة دون الرجل. (الثالث) لا بأس بفضل المرأة ما لم تخل به. (الرابع) لا بأس لكل منهما ما لم يكن الرجل جنبًا، أو المرأة جنبًا أو حائضا. (الخامس) إباحة اغتسال الرجل والمرأة من إناء واحد. انتهى الأوسط. ج 1 ص 291 - 294.
السادس: جواز تطهير كل بفضل طهور الآخر مطلقًا، وهو مذهب الجمهور، وروي عن أحمد، وهو المختار، لما ثبت في الأحاديث الصحيحة من تطهره صلى الله عليه وسلم بفضل بعض أزواجه، وتطهره معهن، وأجابوا عن أحاديث النهي بحملهما على ما تساقط من الأعضاء، أو أن النهي محمول على التنزيه، على أن الخطابي قال: إن أحاديث النهي إن ثبتت فهي منسوخة.
قال الجامع عفا الله عنه: دعوى النسخ غير صحيح، لعدم العلم بالتاريخ، ولأنه لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع، وهو هنا ممكن يحمل النهي على التنزيه بنرينة الأحاديث الدالة على الجواز. كما قاله الحافظ في الفتح.
وقال العلامة الشوكاني رحمه الله: لا يقال: إن فعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يعارض قوله الخاص بالأمة
(1)
، لأنا نقول: إن تعليله الجواز بأن الماء لا يجنب مشعر بعدم اختصاص ذلك به. وأيضا النهي غير مختص بالأمة لأن صيغة الرجل تشمله صلى الله عليه وسلم بطريق الظهور، وقد تقرر دخول المخاطب في خطاب نفسه، نعم لو لم يرد ذلك التعليل كان فعله صلى الله عليه وسلم مخصصا له من عموم الحديثين السابقين -يعني حديث الحكم الغفاري، وحديث الرجل الذي صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين-.
قال الجامع عفا الله عنه: والحاصل أن أقوى المذاهب مذهب من قال بالجواز مطلقًا لقوة دليله، والله أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
(1)
القول بأن الفعل لا يعارض القول -كما يذهب إليه الشوكاني، وبعض الأصوليين- غير صحيح، بل الصواب أن الفعل كالقول، في المعارضة، وقد حققته في غير هذا المحل فتنبه، والله ولي التوفيق.
149 - بَابُ ذكرِ الاغْتِساَلِ فِي القَصْعَةِ التِي يُعْجَنُ فِيهاَ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على جواز الاغتسال من الماء الذي في القصعة التي يعجن فيها، وإن كان فيها أثر العجين، لكونه طاهرًا، لا يُخرج الماءَ عن الطهورية. والقصعة: بفتح فسكون: الصحفة الضخمة تشبع العشرة، والجمع قصاع وقصع. اهـ لسان.
وفي المصباح: والجمع قِصَع، مثل بَدْرَة وبِدر، وقصاع أيضًا مثل كَلبَة، وكلاب، وقَصَعَات، مثل سجدة وسَجَدات، وهي عربية، وقيل: معرّبة. اهـ.
وقوله: في القصعة أي من القصعة، ففي بمعنى "من".
ويُعجن: فعل مضارع مغير الصيغة، يقال: عجن الشيء، يعجنه عجنًا من باب ضرب، فهو معجون، وعَجين، واعتجنه: اعتمد عليه بجُمْعه يَغْمزه. أفاده في اللسان.
ومقصود المصنف من هذه الترجمة الاستدلال على أن الماء إذا خالطه شيء من الطاهرات لا يخرجه عن الطهورية، ما لم يغيره، وهذا بالإجماع، إلا ما حُكي عن أم هانئ، والزهري في كسرة بُلَّت في ماء غيَّرت لونه، أو لم تغيره، لا يجوز الوضوء به. وسيأتي تحقيق الكلام في ذلك في المسائل. إن شاء الله تعالى.
240 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أُمِّ هَانِئٍ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اغْتَسَلَ هُوَ، وَمَيْمُونَةُ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ فِي قَصْعَةٍ فِيهَا أَثَرُ الْعَجِينِ.
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(محمَّد بن بشار) أبو بكر بندار البصري ثقة ثبت -10 - تقدم في 24/ 27.
2 -
(عبد الرحمن) بن مهدي، أبو سعيد البصري ثقة حجة -9 - تقدم في 42/ 49.
3 -
(إبراهيم بن نافع) المخزومي، أبو إسحاق المكي، يقال: أنه ابن أخت عطاء، الكيخاراني
(1)
روى عن الحسن بن مسلم بن يناق، وابن أبي نجيح، وكثير بن كثير، وعطاء بن أبي رباح، وعدة. وعنه ابن المبارك، وابن مهدي، وأبو عامر العقدي، وأبو نعيم، وخلاد بن يحيى، ويحيى بن أبي بكير، قال ابن عيينة: كان حافظا، وقال ابن مهدي: كان أوثق شيخ بمكة، وقال أحمد، وابن معين: ثقة، وقال النسائي: ثقة، وفي مسند يعقوب بن شيبة: قال وكيع: كان إبراهيم يقول بالقدر، وقال يعقوب: وكان أحمد يطريه، وذكره ابن حبان في الثقات.
4 -
(ابن أبي نجيح) عبد الله بن يسار، أبو يسار الثقفي مولاهم المكي، ثقة رمي بالقدر، وربما دلس، من السادسة مات سنة 131، أو بعدها. تقدم في 112/ 155.
5 -
(مجاهد) بن جبر الإمام الثقة الحجة المكي -3 - تقدم في 27/ 31.
6 -
(أم هانئ) فاختة، وقيل: هند بنت أبي طالب رضي الله عنها. تقدمت في 143/ 225. والله تعالى أعلم.
(1)
بفتح الكاف وسكون التحتية وخاء معجمة وراء نسبة إلى كيخاران قرية باليمن. اهـ لب اللباب. جـ2 ص 219.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وهم ما بين بصريين، وهما ابن بشار، وعبد الرحمن، ومكيين: وهم الباقون، وأن شيخه أحد مشايخ الستة الذين رووا عنهم بلا واسطة، كما تقدم
غير مرة، وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أم هانئ) فاختة بنت أبي طالب أخت علي رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل هو) إنما أتى بالضمير المنفصل للقاعدة المشهورة التي ذكرها ابن مالك بقوله:
وَإنْ عَلَى ضَمير رَفْع مُتَّصلْ
…
عَطفْتَ فَافْصلْ بالضَّمير المُنْفَصلْ
(وميمونة) بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها تقدمت في 146/ 236 (من إناء واحد)"من" ابتدائية، أي من ماء في إناء واحد (في قصعة)"في" بمعنى "من" والجار والمجرور بدل مما قبله، والقصعة بفتح فسكون: وعاء يؤكل فيه ويُثْرَدُ، وكان يتخذ من الخشب غالبًا، جمعه قصاع، وقصع، وقصعات. قاله في المعجم الوسيط. وتقدم في أول الباب نقلا عن اللسان والمصباح (فيها أثر العجين) جملة في محل جر صفة لقصعة، و"العجين" فعيل بمعنى مفعول، وهو الطحين المعجون
بالماء، أفاده في المعجم، وقال الشنقيطي في شرحه: هو الدقيق المبتل بالماء، والمراد هنا الشيء اليسير الباقي بعد الغسل، ولا يؤثر مثله في الماء غالبا، وهذا كثيرا ما يوجد في أواني البوادي لا سيما والغالب عليهم عدم استعمال المزيل كالصابون ونحوه. اهـ. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث أم هانئ رضي الله عنها هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له: أخرجه هنا -149/ 240 - وفي الكبرى -137/ 242 - عن بندار، عن ابن مهدي، عن إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عنها.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (ق) في الطهارة 35/ 3 عن أبي عامر عبد الله بن عامر الأشعري، عن يحيى بن أبي بكير، كلاهما عن إبراهيم بن نافع به.
وأخرجه أحمد، وابن خزيمة، وأشار له الترمذي.
المسألة الرابعة: في فوائده: يستفاد من هذا الحديث ما ترجم له المصنف، وهو جواز الاغتسال من ماء خالطه العجين، ويقاس عليه كل طاهر خالط الماء، وحسن عشرة النبي صلى الله عليه وسلم لأهله، ويسر الشريعة حيث لم يضيق علينا بإيجاب انفراد كل أحد من الرجال والنساء في الطهارة.
المسألة الخامسة: ذكر أقوال العلماء في الماء المضاف إلى اسم شيء غيره أنه على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: ما لا تحصل به الطهارة، وهو على ثلاثة أنواع:
أحدها: ما اعتصر من الطاهرات، كماء الورد، وماء القرنفل، وما ينزل من عروق الشجر إذا قطعت رطبة.
الثاني: ما خالطه طاهر فغير اسمه وغلب على أجزائه حتى صار صبغًا، أو حبرًا، أو خلا، أو مرقًا، ونحو ذلك.
الثالث: ما طبخ فيه طاهر فتغير به كماء الباقلا المُغْلَى، فجميع هذه الأنواع لا يجوز بها الوضوء ولا الغسل، قال ابن قدامة رحمه الله في
المغني: لا نعلم فيه خلافا، إلا ماح كي عن ابن أبي ليلى والأصم في المياه المعتصرة أنها يرفع بها الحدث ويزال بها النجس، ولأصحاب الشافعي وجه في ماء الباقلا المغلى، وسائر من بلغنا قوله من أهل العلم على خلافهم. قال أبو بكر بن المنذر: أجمع كل من نحفظ قوله من أهل العلم أن الوضوء غير جائز بماء الورد، وماء الشجر، وماء العصفر، ولا تجوز الطهارة إلا بماء مطلق يقع عليه اسم الماء.
النوع الثاني: ما خالطه طاهر يمكن التحرز منه فغير إحدى صفاته -طعمه، أو لونه، أو ريحه- كماء الباقلاء، وماء الحمص، وماء الزعفران، فقد اختلف أهل العلم في جواز الوضوء به، فقيل لا يجوز التطهر به، وإليه ذهب مالك، والشافعي وإسحاق، وهو رواية عن أحمد، وهي أصح الروايتين في مذهبه، وفيه رواية عنه: يجوز، وبه يقول أبو حنيفة، وأصحابه؛ لأن الله تعالى قال:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] وهذا عام في كل ماء؛ لأنه نكرة في سياق النفي، والنكرة في سياق النفي تعم، فلا يجوز التيمم مع وجود الماء، وأيضًا قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر رضي الله عنه:"التراب كافيك ما لم تجد الماء" وهذا واجد للماء، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يسافرون، وغالب أسقيتهم الأدم، والغالب أنها تغير الماء، ولم ينقل تيمم مع وجود شيء من تلك المياه. ولأنه طهور خالطه طاهر لم يسلبه اسم الماء ولا رقته ولا جريانه فأشبه المتغير بالدهن. ووجه الأول أنه ماء تغير بمخالطة ما ليس بطهور يمكن الاحتراز منه، فلم يجز الوضوء به كماء الباقلا المغلى، ولأنه زال عن إطلاقه، فأشبه المغلى.
قال الجامع عفا الله عنه: قول من قال بالجواز هو الراجح عندي لأن حديث الباب نص فيه، وللأدلة التي ذكرها المجوزون. والله أعلم.
النوع الثالث: من المضاف ما يجوز به التطهر اتفاقا، وهو على أربعة أنواع.
أحدها: ما أضيف إلى محله ومقره، كماء النهر والبئر، وهذا لا اختلاف بين هل العلم فيه.
الثاني: ما لا يمكن التحرز منه كالطُّحْلُب، وسائر ما ينبت في الماء، وورق الشجر الذي يسقط في الماء، أو تحمله الريح فتلقيه فيه، وما تجذبه السيول من العيدان، والتبن، ونحو ذلك، فتلقيه في الماء، وما هو في قرار الماء كالكبريت، والقار، وغيرهما إذا جرى عليه الماء فتغير به أو كان في الأرض التي يقف الماء فيها، وهذا كله يعفى عنه لأنه يشق التحرز عنه.
الثالث: ما يوافق الماء في صفتيه الطهارة والطهورية كالتراب إذا غير الماء لا يمنع الطهورية؛ لأنه طاهر مطهر كالماء، فإن ثَخُنَ بحيث لا يجرى على الأعضاء لم تجز الطهارة به لأنه طين وليس بماء، ولا فرق في التراب بين وقوعه في الماء عن قصد أو غير قصد، وكذلك الملح الذي أصله الماء كالبحري والملح الذي ينعقد من الماء الذي يرسل على السبخة فيصير ملحا، فلا يسلب الطهورية، لأن أصله الماء فهو كالجليد
(1)
والثلج، وإن كان معدنيًا ليس أصله الماء فهو كالزعفران وغيره.
الرابع: ما يتغير به الماء بمجاورته من غير مخالطة كالدهن على اختلاف أنواعه، والطاهرات الصلبة، كالعود، والكافور، والعنبر، إذا لم يهلك في الماء، ولم يَمُعْ فيه
(2)
لا يخرج به عن إطلاقه، لأنه تغير مجاورة أشبه ما لو تروح الماء بريح شيء على جانبه، قال ابن قدامة رحمه الله: ولا نعلم في هذه الأنواع خلافًا، وفي معنى المتغير بالدهن ما تغير بالقطران والزفت والشمع، لأن في ذلك دهنية يتغير بها الماء تغير مجاورة فلا يمنع كالدهن. ذكر هذا البحث كله الموفق رحمه الله في المغني ج 1 ص 10 - 13. والله تعالى أعلم.
(1)
الجليد -بفتح، فكسر-: ما يسقط على الأرض من النَّدَى، فيجمُدُ. أفاده في "ق".
(2)
مضارع ماع يموع كقال يقول أو يميع كباع يبيع، بمعنى ذاب. أفاده في المصباح.
150 - بَابُ تَرْكِ المَرْأةِ نَقْضَ ضَفْرِ رأسِهاَ عِنْدَ اغْتِساَلِهاَ مِنَ الجَنَابَة
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على ترك المرأة نقض شعرها المفتول عند اغتسالها من أجل الجنابة.
والترك: بفتح فسكون: وَدْعُكَ الشيءَ، يقال: تركه يَتْرُكُه تَرْكًا، واتَّركه. وتركتُ الشيء تركا خَلَّيته. أفاده في اللسان.
والنقض بفتح فسكون: مصدر، يقال: نقضت الحبل نقضا من باب قتل: حَلَلت برْمَهُ. ومنه يقال: نقضت ما أبرمه إذا أبطلته. قاله في المصباح.
والضَّفْر بفتح فسكون: نسج الشعر وغيره عَريضًا، والتضفير مثله، والضفيرة: العقيصة وقد ضَفَرَ الشعر، ونحوه يَضْفرُه ضَفْرا من باب ضرب: نسج بعضه على بعض، والضفر: الفَتْل، وانضفر الحَبْلان: إذا التَوَيَا معًا. ويقال للذؤابة: ضَفيرة، وكل خُصْلَة من خُصَل شعر المرأة تُضفَر على حدة: ضفيرة، وجمعها ضفائر. أفاده في اللسان.
والمراد بالضَّفْر هنا المضفور تسمية بالمصدر، ويحتمل أن يكون الضُّفُر بضمتين جمع ضَفيرة، وهي الخُصْلة، بضم فسكون، وهو الشعر المجتمع.
فالإضافة في قوله: "ترك المرأة" من إضافة المصدر إلى فاعله، و"نقض" مفعوله، وفي "نقض ضفر رأسها" من إضافة المصدر إلى مفعوله.
241 -
أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي، أَفَأَنْقُضُهَا عِنْدَ غَسْلِهَا مِنَ الْجَنَابَةِ؟ قَالَ:"إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ مِنْ مَاءٍ، ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَى جَسَدِكِ".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(سليمان بن منصور) البلخي البزاز الدُّهْني الجَرْمي، لقبه زَزغَنْدَهْ ثقة لا بأس به -10 - تقدم في-60/ 75.
2 -
(سفيان) بن عيينة المكي ثقة حجة إمام -8 - تقدم في 1/ 1.
3 -
(أيوب بن موسى) بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية، أبو موسى المكي، ثقة -6 - . روى عن نافع، ومكحول، وحميد بن نافع، وسعيد المقبري، والزهري، ومحمد بن كعب القرظي، وأبيه موسى، وجده سعيد بن العاص ولم يدركه، وجماعة. وعنه يحيى بن سعيد، وهو من أقرانه، وشعبة، والسفيانان، والليث، وابن جريج، وعمرو ابن الحارث. وغيرهم.
قال البخاري عن ابن المديني: له نحو أربعين حديثا، وقال أحمد، وابن معين، والنسائي، والعجلي، وابن سعد: ثقة، زاد أحمد: ليس
به بأس، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال الدارقطني: أيوب هو ابن عم إسماعيل بن أمية ثقتان، وقال ابن عيينة: كان أيوب أفقههما. ووثقه أبو داود، وابن عبد البر، وذكره ابن المديني في الطبقة الثالثة من أصحاب نافع، وشذ الأزدي، فقال: لا يقوم إسناد حديثه، ولا عبرة بنول الأزدي. مات سنة -132 - وقيل غير ذلك، وقال ابن حبان في الثقات: مات في حبس داود بن علي مع إسماعيل بن أمية. أخرج له الجماعة.
4 -
(سعيد بن أبي سعيد) المقبري المدني ثقة -3 - تقدم في 95/ 117.
5 -
(عبد الله بن رافع) المخزومي أبو رافع المدني مولى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. روى عنها، وعن حجاج بن عمرو بن غزية الأنصاري، وأبي هريرة، وغيرهم. وعنه أفلح بن سعيد القُبَائي، وأيوب بن خالد بن صفوان، وبكير بن الأشج، وأبو صخر حميد بن زياد، وسعيد بن أبي سعيد المقبري، والقاسم بن عباس الهاشمي، وموسى بن عُبَيدَة الرَّبذي وغيرهم، وهو من أقرانه، قال العجلي، وأبو زرعة، والنسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات. أخرج له الجماعة، إلا البخاري.
6 -
(أم سلمة) هند بنت أبي أمية المخزومية أم المؤمنين رضي الله عنها تقدمت في 123/ 183. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأنهم ما بين بلخي، وهو شيخه، ومكيين، وهما سفيان، وأيوب، ومدنيين، وهم الباقون، وأن شيخه ممن انفرد هو به عن بنية الستة، وأما الباقون فأخرجوا لهم، إلا عبد الله بن رافع، فلم يخرج له البخاري، وفيه رواية تابعي عن تابعي، وفيه الإخبار، والعنعنة، والقول، وهي من صيغ الاتصال على الأصح في "عن" إن كانت من غير المدلس.
شرح الحديث
(عن أم سلمة) رضي الله عنها (زوج النبي صلى الله عليه وسلم) بالجر بدل من أم سلمة أو عطف بيان له، ويجوز قطعه إلى الرفع، والنصب بتقدير هو، وأعني.
والزوج بلا هاء هى اللغة الفصحى في المرأة، ويقال فيها زوجة أيضا، قال في اللسان: وزوج المرأة بعلها، وزوج الرجل: امرأته، وقال ابن سيده: والرجل زوج المرأة، وهي زوجه وزوجته، وأباها الأصمعي بالهاء، وزعم الكسائي عن القاسم بن معن أنه سمع من أزد شنوءة بغير هاء، والكلام بالهاء، ألا ترى أن القرآن جاء بالتذكير؟:{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] هذا كله قول اللحياني، وقال بعض النحوين: أما الزوج، فأهل الحجاز يضعونه للمذكر والمؤنث وضعا واحدا، تقول المرأة: هذا زوجي، ويقول الرجل: هذه زوجي، قال الله عز وجل:{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]، وقال:{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37]، وقال:{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} [النساء: 20]: أي امرأة مكان امرأة، ويقال أيضا: هي زوجته، قال الشاعر (من البسيط):
يَا صَاح بَلِّغْ ذَوي الزَّوْجَات كُلِّهِمِ
…
أنْ ليْسَ وَصْلٌ إذَا انْحَلَّتْ عُرَى الذَّنَبِ
وبنو تميم يقولون: هي زوجته. وأبا الأصمعي، فقال: زوج لا غير، ورُدَّ عليه لثبوته في أشعار العرب، كما في البيت السابق، وكما في قول الفرزدق (من الطويل):
وإنَّ الذي يَسْعَى يُحَرِّشُ زَوْجَتِي
…
كَسَاع إلَى أسْد الشَّرى يَسْتَبيلُهَا
اهـ لسان بتصرف.
أنها (قالت) وهكذا عند مسلم أن السائلة هي أم سلمة، ومثله عند أبي داود من رواية زهير بن حرب، وعنده من رواية أحمد بن عمرو بن السرح "أن امرأة من المسلمين"، فأبهمها (يا رسول الله إني امرأة أشد) من بابي نصر، وضرب، أي أحْكمُ (ضفر رأسي) أي نسج شعر رأسي وإدخال بعضه في بعض. قال النووي رحمه الله: هو بفتح الضاد وإسكان الفاء، هذا هو المشهور المعروف في رواية الحديث، والمستفيض عند المحدثين، والفقهاء، أي أحكمُ فتل شعري، وقال الإمام ابن برّي في الجزء الذي صنفه في لحن الفقهاء: من ذلك: قولهم في حديث أم سلمة: "أشد ضَفْر رأسي"، يقولونه بفتح العشاء وإسكان الفاء، وصوابه ضم الضاد والفاء جمع ضفيرة، كسفينة وسُفُن، وهذا الذي أنكره رحمه الله تعالى ليس كما زعمه، بل الصواب جواز الأمرين، ولكل منهما مَعْنىً صحيح، ولكن يترجح ما قدمناه لكونه المروي المسموع في الروايات الثابتة المتصلة. اهـ كلام النووي. في شرح مسلم ج 3 ص 11.
وفي النسخة الهندية "إني امرأة شديدة ضفيرة رأسي"، والضفيرة: كل خُصْلة من خُصَل شعر المرأة تضفر على حدة، جمعها ضفائر، وقال الأصمعي: هي الضفائر، والجَمَائر، وهي غدائر المرأة، واحدتها ضَفيرة وجميرة، ولها ضفيرتان، وضَفْران أيضًا، أي عقيصتان، وقال أبو زيد: الضفيرتان للرجال دون النساء، والغدائر للنساء، وهي المضفورة. أفاده في اللسان.
وعلى هذه النسخة يكون "شديدة" صفة مشبهة نعتًا لامرأة، و"ضفيرة" مرفوع به، ويؤيد صحة هذه النسخة تأنيث الضمير في قوله:(أفأنقضها عند غسلها) وما وقع في النسخة المصرية من تأنيث الضميرين مع رواية "إني امرأة أشد ضفر رأسي" فأظنه من تخليط النساخ، فإن في هذه
الرواية الضميران مذكران كما عند مسلم وغيره، وكذا أشار في هامش الهندية إلى أنه يوجد في نسخة عند النسائي كرواية الجماعة، "إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفانقضه عند غسله"، وهذه النسخة هي التي شرح عليها السندي.
والهمزة في قوله "أفأنقضها" داخلة على محذوف، أي لا يجزيني غسل الشعر مضفورًا، فأنقضه عند إرادة غسله من أجل الجنابة، أو هي مقدمة من تأخير، كما تقدم البحث عنه.
(من الجنابة) أي للجنابة، أو بسببها، وتقدم معنى الجنابة.
وهي إنما سألت عن الوجوب أي هل يجب عليَّ نقضه أم لا؟، بدليل قوله في الجواب (إنما يكفيك) أي يجزيك، والكاف مكسورة لأن الخطاب للمؤنث (أن تحثي) بكسر الثاء المثلثة، وسكون الياء، أصله
تحثيين، كتضربين، أو تحثوين كتنصرين فحذفت حركة حرف العلة للاستثقال
(1)
، ثم حرف العلة لالتقاء الساكنين، ثم النون للنصب، قال القاري: ولا يجوز فيه النصب يعني أنه لا يجوز فتح الياء من تحثي لأجل النصب لأن هذه الياء ليست جزء الكملة التي تفتح إذا دخل الناصب على الفعل، وإنما هى ضمير المؤنثة. والحثي: الرمي، والمراد به هنا الصبّ.
قال في المصباح: وحثا الرجل التراب يحثوه حثوا، ويحثيه حثيا من باب رمى لغة إذا هاله
(2)
بيده، وبعضهم يقول: قبضه بيده ثم رماه، ومنه "فاحثوا التراب في وجهه" ولا يكون إلا بالقبض والرمي. اهـ (على رأسك ثلاث حثيات) أي ثلاث غرفات، واحدتها حثية، قال النووي
(1)
قوله فحذفت حركة حرف العلة، هذا على أنه يائي، وأما على أنه واوي، فأصله تحثوين، كتنصرين، فنقلت كسرة الواو إلى الثاء بعد سلب حركتها، ثم قلبت الواو ياءً للمناسبة، ثم حذفت لالتقاء الساكنين، فتنبه.
(2)
أي صبه.
رحمه الله: ثلاث حثيات هي بمعنى الحفنات في الرواية الأخرى، والحفنة ملء الكفين من أي شيءكان. اهـ
فقوله "أن تحثي" في تأويل المصدر فاعل يكفي، و"على رأسك" متعلق بـ"تحثي"، و"ثلاث" مفعول مطلق لـ"تحثي" على النيابة، وأصله حثيات ثلاثًا، وقوله (من ماء) بيان لثلاث حثيات (ثم تفيضين) بإثبات النون على أنه مرفوع مستأنف، وفي بعض النسخ ثم تفيضي بحذفها عطفا على "تحثي" فهو منصوب، وفي بعضها بإثبات النون في الفعلين، ويُؤَوَّل على إهمال "أن" حملا لها على "ما" المصدرية كما قال ابن مالك:
وَبَعْضُهُمْ أهْمَلَ أنْ حَمْلًا عَلَى
…
مَا أخْتهَا حَيْثُ اسْتَحَقَّتْ عَمَلا
وهو لغة، لا ضرورة، قال الشاعر:
أَنْ تَقْرَآن عَلَى أسمَاءَ وَيْحكمَا
…
منِّي السَّلامَ وأَنْ لا تُشْعرَا أَحَدَا
و"تفيضين" مضارع "أفاض"، بمعنى "صب"، وحذف مفعوله للعلم به، أي الماءَ (على جسدك) أي جمسك، والمراد بنية جسدها ، لا ما يشمل الرأس، لما في أبي داود والترمذي من قوله:"على سائر جسدك"، وعند مسلم وأبي داود، والترمذي زيادة "فتطهرين"، وهذا يدل على أن هذا الفعل من الحثيات الثلاث، والإفاضة يكفي في تمام الطهارة، ولا يحتاج إلى الدلك، وهو مذهب الجمهور، وقالت المالكية بوجوب الدلك. قلت: الراجح قول الجمهور لعدم نص يدل على وجوبه. والله أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الباب
المسألة الأولى: في درجته: حديث أم سلمة رضي الله عنها هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف: أخرجه هنا 150/ 241
وفي الكبرى 138/ 243 عن سليمان بن منصور، عن ابن عيينة، عن أيوب بن موسى، عن سعيد المقبري، عن عبد الله بن رافع، عنها.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (م) في الطهارة 46/ 1 عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعَمْرو الناقد، وإسحاق بن إبراهيم، وابن أبي عُمر، أربعتهم عن سفيان بن عيينة، به. و 46/ 2 عن عمرو الناقد، عن يزيد بن هارون، و 46/ 2 عن عبد بن حميد، عن عبد الرزاق، كلاهما عن سفيان الثوري، و 46/ 3 عن أحمد بن سعيد الدارمي، عن زكريا بن عدي، عن يزيد بن زريع، عن روح بن القاسم كلاهما عن أيوب بن موسى نحوه.
وأخرجه (د) فيه 100/ 1 عن زهير بن حرب، وابن السرح- كلاهما عن سفيان بن عيينة به. وأخرجه (ت) فيه 77 عن ابن أبي عمر به، وقال حسن صحيح. وأخرجه (ق) فيه 150 عن أبي بكر بن أبي شيبة به. ورواه البيهقي.
المسألة الرابعة: في فوائده: من فوائد الحديث ما ترجم له المصنف، وهو عدم وجوب نقض المرأة شعرها في حالة غسلها من الجنابة، وأنه ينبغي للإنسان أن يسأل ما يجهله من أمر دنيه، وأن المرأة يجب عليها أن تحثي ثلاث حثيات من الماء على رأسها، وتعمم جسدها بالماء.
المسألة الخامسة: في مذاهب العلماء في نقض الشعر عند الاغتسال: ذهب الجمهور إلى أن المرأة إذا اغتسلت من الجنابة أو الحيض يكفيها أن تحثي على رأسها ثلاث حثيات، ولا يجب عليها نقض شعرها.
وذهب النخعي إلى وجوبه للجنابة والحيض.
وذهب الحسن البصري، وطاوس إلى وجوبه في الحيض دون الجنابة، وبه يقول أحمد، ورجح جماعة من أصحابه أنه للاستحباب فيهما.
وروى عن مالك أنه لا يجب النقض لا على الرجال، ولا على النساء.
قال الشوكاني رحمه الله: ووجه ما ذهب إليه عموم نهيه صلى الله عليه وسلم عن نقض الشعر ولم يخص رجلا من امرأة، ولا يلزم من كون السائل عن ذلك من النساء أن يكون الحكم مختصًا بهن اعتبارًا بعموم النهي، كذا قال ابن سيد الناس. ووجه من ذهب إلى التفرقة حديث ثوبان رضي الله عنه: أنهم استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "أما الرجل فلينشر رأسه فليغسله حتى يبلغ أصول الشعر، وأما المرأة فلا عليها أن تنقضه".
أخرجه أبو داود، وأكثر ما علل به أن في إسناده إسماعيل بن عياش، والحديث من مروياته عن الشاميين، وهو قوي فيهم فيقبل، وصححه الشيخ الألباني.
ووجه ما روي عن النخعي أن عموم الغسل يجب في جميع الأجزاء من شعر وبشر، وقد يمنع ضفر الشعر من ذلك. ولعله لم تبلغه الرخصة في ذلك للنساء.
ووجه ما ذهب إليه الحسن، وطاوس، وأحمد من التفرقة بين الحيض والجنابة حديث عائشة رضي الله عنها حيث قال لها النبي صلى الله عليه وسلم وكانت حائضا:"انقضي شعرك واغتسلي" رواه ابن ماجه، وهو عند الجماعة إلا الترمذي، ولكن ليس فيه ذكر الغسل. ورُدَّ عليهم بأن هذا الغسل للتنظيف للإحرام بالحج لا للطهارة من الحيض بدليل أنها كانت وقت ذاك حائضًا لم تطهير.
قال في المنهل: نعم في المسألة حديث واضح أخرجه الدارقطني في الأفراد، والطبراني، والخطيب في التلخيص، والضياء المقدسي من حديث أنس مرفوعًا: "إذا اغتسلت المرأة من حيضها نقضت شعرها نقضًا، وغسلته بخطمي وأشنان، وإن اغتسلت من جنابة صبت الماء على
رأسها صبا وعصرته". فهذا الحديث، وقد أخرجه الضياء وهو يشترط الصحة فيما يخرجه يثمر الظن في العمل به، ولكن يحمل هذا على الندب لذكر الخطمي والأشنان، إذ لا قائل بوجوبهما، فهو قرينة على الندب، وحديث أم سلمة محمول على الإيجاب كما قال: "إنما يكفيك" فإذا زادت نقض الشعر كان ندبا. اهـ المنهل ج 3 ص 27.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يترجح عندي قول الجمهور من أن المرأة يكفيها أن تحثي على رأسها ثلاثا، لما في رواية مسلم من حديث أم سلمة رضي الله عنها بزيادة الحيضة من رواية عبد الرزاق، عن الثوري، وهي زيادة ثقة غير منافية لرواية غيره. وأما دعوى ابن القيم شذوذها فغير صحيح. هذا في حق المرأة، وأما الرجل فيجب عليه النقض إذا لم يصل إلى أجزائه، لما تقدم من حديث ثوبان رضي الله عنه، وحديث علي مرفوعا "من ترك موضع شعرة من جنابة لم يصبها الماء فَعَل الله به كذا وكذا من النار"، قال علي: ومن ثَمَّ عاديت شعري، رواه أحمد، وأبو داود، وزاد: وكان يجُرُّ شعره رضي الله عنه.
قال الحافظ: وإسناده صحيح، لكن قيل: إن الصواب وقفه. اهـ
قلت: وإن كان موقوفًا فله حكم الرفع؛ لأنه لا مجال للاجتهاد فيه كما هو ظاهر، لا سيما ويشهد له حديث ثوبان. فتأمل. وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا:"إن تحت كل شعرة جنابة، فاغسلوا الشعر، وأنقوا البشر"، أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والبيهقي، فلا يصلح للاستشهاد به للاتفاق على تضعيف الحارث ابن وجيه الراوي عن مالك بن دينار.
والحاصل أن الرخصة في عدم النقض خاص بالنساء في الحيض والجنابة. وأما الرجال فهم على أصل وجوب تعميم أجزاء الشعر، والبشر. والله أعلم.
151 - بَابُ ذكْرِ الأمْرِ بِذَلِكَ للحاَئِضِ عِنْدَ الاغْتِساَلِ لِلإحْرَامِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على الأمر بنقض ضفر الرأس للمرأة الحائض، عند اغتسالها لأجل إرادة الإحرام بالحج أو العمرة.
وأراد المصنف بهذه الترجمة أن محمل حديث عائشة رضي الله عنها الذي فيه الأمر ينقض ضفرها على حالة الإحرام لأجل النظافة لا للطهارة من الحيض بدليل أن عائشة رضي الله عنها كانت وقت اغتسالها حائضا، فلا يدل على أمر الحائض إذا طهرت من حيضها وهذا الذي أشار إليه المصنف هو الراجح. والله أعلم.
242 -
أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَشْهَبُ، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ، وَهِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ، حَدَّثَاهُ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَهْلَلْتُ بِالْعُمْرَةِ، فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، فَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"انْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ وَدَعِي الْعُمْرَةَ". فَفَعَلْتُ، فَلَمَّا قَضَيْنَا الْحَجَّ أَرْسَلَنِي مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
بَكْرٍ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَاعْتَمَرْتُ، فَقَالَ:"هَذِهِ مَكَانَ عُمْرَتِكِ".
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ إِلاَّ أَشْهَبُ.
رجال هذا الإسناد: سبعة
1 -
(يونس بن عبد الأعلى) بن موسى بن ميسرة بن حفص بن خباب، الصدفي أبو موسى المصري. روى عن ابن عيينة، والوليد بن مسلم، وابن وهب، وأبي ضمرة، والشافعي، وأشهب، وغيرهم. وعنه مسلم، والنسائي، وابن ماجه، وابنه أحمد بن يونس، وبقي بن مخلد، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وآخرون. قال أبو حاتم: سمعت أبا الطاهر بن السرح يحث عليه، ويعظم شأنه، وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يوثقه ويرفع من شأنه، وقال النسائي: ثقة، وقال علي بن الحسن بن بريد: كان يحفظ الحديث، وقال الطحاوي: كان ذا عقل، حدثني علي بن عمرو بن خالد الحراني، سمعت أبي يقول: قال لي الشافعي: يا أبا الحسن انظر إلى هذا الباب فنظرت إليه، فقال: ما يدخل منه أحد أعقل من يونس بن عبد الأعلى، وذكره ابن حبان في الثقات، وذكر حفيده عبد الرحمن بن أحمد بن يونس أن دعوتهم في الصدف، وليسوا من أنفسهم، ولا من مواليهم. توفي غداة الاثنين ليومين مضيا من ربيع الآخر سنة 264، وكان مولده في ذي الحجة سنة 170.
وقال الحافظ: وكان إمامًا في القراءات، قرأ على ورش، وغيره، وقرأ عليه ابن جرير الطبري، وجماعة، وقال أبو عمر الكندي: كان فقيرًا شديد التقشف مقبولا عند القضاة، قال يحيى بن حسان: يونسكم هذا
من أركان الإسلام، قال أبو عمر: كان يستسقى بدعائه، وقال مسلمة ابن قاسم: كان حافظًا، وقد أنكروا عليه تفرده بروايته عن الشافعي حديث "لا مهدي إلا عيسى" أخرجه ابن ماجه عنه، وكذا الذهبي يَدَّعي أن يونس دلسه، ويستند في ذلك أن أبا الطاهر رواه عن يونس فقال: حُدِّثتُ عن الشافعي، لكن رواه ابن منده في فوائده من طريق الحسن بن يوسف الطرائفي وأبي الطاهر المذكور، كلاهما عن يونس، أنا الشافعي، ورواه يوسف الميانجي عن ابن خزيمة، وابن أبي حاتم، وزكريا الساجي، وغير واحد، عن يونس، ثنا الشافعي، أخرج له مسلم، والنسائي، وابن ماجه.
2 -
(أشهب) بن عبد العزيز بن داود بن إبراهيم القيسي، أبو عمرو الفقيه المصري، قيل اسمه مسكين، وأشهب لقبه. روى عن مالك، والليث، وسليمان بن بلال، وفضيل بن عياض، وابن عيينة، ويحيى بن أيوب، وغيرهم. وعنه الحارث بن مسكين، وأبو الطاهر بن السرح، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، ويونس بن عبد الأعلى، ومحمد بن إبراهيم المواز المالكي، وغيرهم.
قال ابن يونس: أحد فقهاء مصر، وذوي رأيها، وقال ابن عبد البر: كان فقيها حسن الرأي والنظر، وقد فضله ابن عبد الحكم على ابن القاسم في الرأي، قال ابن عبد الحكم: سمعته يدعو في السجود على الشافعي بالموت، فمات الشافعي، ومات بعده أشهب بثمانية عشر يومًا، وقال ابن يونس: ولد سنة -145 - ومات يوم السبت لثمان بنين من شعبان سنة -204 - وحكى عمرو بن سَوَّاد عن الشافعي أنه سمعه يقول: ما أخرجت مصر مثل أشهب لولا طيش فيه، وقال ابن حبان في الثقات:
كان فقيهًا على مذهب مالك، ذابّا عنه، وقال أحمد بن خالد: كان سحنون يقول: حدثني المتحري في سماعه -يعني أشهب. أخرج له أبو داود، والنسائي.
3 -
(مالك) بن أنس الإمام الحجة الفقيه المدني -7 - تقدم في 7/ 7.
4 -
(ابن شهاب) محمَّد بن مسلم الزهري الحجة الثبت -4 - تقدم في1/ 1.
5 -
(هشام بن عروة) المدني ثقة فقيه -5 - تقدم في 49/ 61.
6 -
(عروة) بن الزبير أحد الفقهاء الأعلام ثقة -3 - تقدم في 40/ 44.
7 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها تقدمت في 5/ 5.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات أجلاء فقهاء، وأنهم مدنيون إلا يونس، وأشهب، فمصريان.
وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه: الإخبار، والتحديث، والعنعنة. وكلها من صيغ الاتصال على الراجح مع تفصيل في ذلك. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها أنها (قالت: خرجنا) أي من المدينة (مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) الظرف في محل نصب على الحال من الفاعل (عام حجة الوداع) قال في المصباح: والعام: الحول، والنسبة إليه على لفظه، فيقال: نبت عامي إذا أتى عليه حول، فهو يابس، والعام في تقدير فَعَل بفتحتين، ولهذا يجمع على أعوام، مثل سَبَب وأسباب، قال ابن الجواليقي: ولا تفرق عوام الناس بين العام والسنة ويجعلونهما بمعنى، فيقولون لمن سافر في وقت من السنة أيّ وقت كان إلى مثله: عام، وهو غلط، والصواب ما أخبرتُ به عن أحمد بن يحيى أنه قال: السنة من أي يوم عددته إلى مثله، والعام لا يكون
إلا شتاء وصيفا، وفي التهذيب أيضا العام حول يأتي على شَتْوة وصَيْفة، وعلى هذا فالعام أخص من السنة، فكل عام سنة، وليس كل سنة عاما، وإذا عددت من يوم إلى مثله فهو سنة، وقد يكون فيه نصف الصيف، ونصف الشتاء، والعام لا يكون إلا صيفا وشتاء متواليين. اهـ المصباح ج 2 ص 438.
والحِجّة بالكسر المرة الواحدة من الحج، وهو من الشواذ؛ لأن القياس في المرة الفتح كما أن القياس في النوع الكسر، قال ابن مالك في الخلاصة:
وَفَعْلَةٌ لمَرَّة كَجَلسَه
…
وَفِعْلَةٌ لهَيْئَة كَجِلْسَهْ
وفي اللسان: ما حاصله: روي عن الأثرم وغيره: ما سمعنا من العرب حججت حَجة، ولا رأيت رَءية -يعني بالفتح- وإنما يقولون: حججت حجَّة، يعني بالكسر، ورأيت رُؤية -يعني بالضم-، وقال
الكسائي: كلام العرب كله على فعلت فَعلة إلا قولهم: حججت حجة ورأيت رُؤية.
لكن نقل قبل ذلك ما نصه: قال سيبويه: وقالوا: حَجة واحدة -يعني بالفتح- يريدون عمل سنة واحدة، وقال الأزهري: الحج: قضاء نسك سنة واحدة، وبعضٌ يكسر الحاء فيقول: الحِجّ والحِجَّة،
وقرىء: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]، والفتح أكثر. فدل على أن سيبويه، والأزهري أثبتا الحَجة بالفتح أيضًا.
والحاصل أن الحجة بالكسر والفتح، والكسر أشهر.
والوداع: بفتح الواو، ويروى بكسرها من ودَّعه توديعًا، وهو مروي في صحيح البخاري بالوجهين، وأصله عند أهل اللغة توديع الناس بعضهم بعضا في المسير، وتوديع المسافر أهله إذا أراد سفرًا: تخليفه إياهم
خافضين وادعين، وهم يودعونه إذا سافر تفاؤلا بالدَّعَة التي يصير إليها إذا قفل. قاله في اللسان.
وحجة الوداع: هى حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي في السنة العاشرة من الهجرة، ولم يحج غيرها بعد الهجرة، قيل لها ذلك لأنه ودعّ الناس في خطبته فيها، ويقال لها حجة البلاغ لأنه سألهم فيها هل بلغهم، فقالوا: اللهم نعم، فقال:"اللهم اشهد".
قولها: وعام حجة الوداع منصوب على الظرفية بـ"خرجنا"(فأهللت بالعمرة) أي أحرمت ورفعت صوتي بالتلبية. وأصل الإهلال رفع الصوت، ومنه استهلال الصبي، وقيل للدخول في النسك إهلال لأن عادتهم يرفعون أصواتهم بالتلبية، قال كُثَيِّر (من الطويل):
فَقَدْ حَلَفَتْ جُهْدًا بمَا نَحَرَتْ لهُ
…
قُرَيْشٌ غَدَاةَ المأزِمَيْن وَصَلَّتِ
أنَاديكَ مَا حَجَّ الحَجِيجُ وَكَبَّرَتْ
…
بفَيْفَا غَزَال رُفْقَةٌ وَأَهَلَّتِ
ولهذا قيل للشهر: هلال لأنهم يرفعون أصواتهم عند رؤيته. أفاده بعضهم.
وقولها فأهللتُ بالعمرة، اختلفت الرويات عنها فيما أحرمت به اختلافا كثيرا كما ذكره القاضي عياض، ففي رواية عروة عنها:"فأهللنا بعمرة"، وفي رواية أخرى "ولم أهل إلا بعمرة" وفي رواية "لا نذكر إلا الحج"، وفي أخرى "لا نَرَى إلا الحج"، وفي رواية القاسم عنها:"لبينا بالحج مهلين بالحج".
واختلف العلماء في هذا، فمنهم من رجح روايات الحج، وغلّط روايات العمرة، وإليه ذهب إسماعيل القاضي، ومنهم من جمع لثقة رواتها بأنها أحرمت أولا بالحج، ولم تسق الهدي فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم من لم يسق الهدي بفسخ الحج إلى العمرة إن شاء فسخت هي فيمن
فسخ، وجعلته عمرة، وأهلت بها، ثم إنها لم تحل منها حتى حاضت فتعذر عليها إتمامها، والتحلل منها فأمرها أن تحرم بالحج، فأحرمت، فصارت قارنة، ووقفت، وهي حائض، ثم طهرت يوم النحر، فأفاضت، وذكر ابن حزم أنه صلى الله عليه وسلم خيرهم بسرف بين فسخه إلى العمرة، والتمادي عليه، وأنه بمكة أوجب عليهم التحلل إلا من صحب معه الهدي، والصحيح أنها حاضت بسرف أو قريب منها، فلما قدم مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اجعلوها عمرة".
وقال أبو عمر: الاضطراب عن عائشة في حديثها في الحج عظيم، وقد أكثر العلماء في توجيه الروايات فيه ودفع بعضهم بعضا فيه، ولم يستطيعوا الجمع بينها، ورام قوم الجمع في بعض معانيها. روى محمَّد بن عبيد، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، قال: ألا تعجب من اختلاف عروة والقاسم، قال القاسم: أهلت عائشة بالحج، وقال عروة: أهلت بالعمرة. وذكر الحارث بن مسكين، عن يوسف بن عمرو، عن ابن وهب، عن مالك، أنه قال: ليس العمل في رفض العمرة لأن العمل عليه عنده في أشياء كثيرة، منها أنه جائز للإنسان أن يهل بعمرة، ومنها أن القارن يطواف طوافًا واحدًا وغير ذلك.
وقال ابن حزم في "المحلى": حديث عروة، عن عائشة منكر وخطأ عند أهل العلم بالحديث، ثم روى بإسناده إلى أحمد بن حنبل، فذكر حديث مالك، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة: "خرجنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع" الحديث ..
فقال أحمد: أشعر في هذا الحديث من العجب خطأ، قال الأثرم: فقلت له: الزهري، عن عروة، عن عائشة بخلافه؟ قال: نعم، وهشام ابن عروة.
وفي التمهيد: دفع الأوزاعي، والشافعي، وأبو ثور، وابن علية، حديث عروة هذا، وقالوا: هو غلط لم يُتَابع عروةَ على ذلك أحد من أصحاب عائشة، وقال إسماعيل بن إسحاق: قد اجتمع هؤلاء -يعني القاسم، والأسود، وعمرة- على أن أم المؤمنين كانت محرمة بحجة لا بعمرة، فعلمنا بذلك أن الرواية عن عروة غلط. أفاده البدر العيني في عمدته ج 3 ص 289، وسيأتي تحقيق المسألة وترجيح القول الراجح بدليله في كتاب الحج إن شاء الله تعالى.
(فقدمت مكة) بفتح القاف وكسر الدال، يقال قدم الرجل البلد يقدَمه، من باب تعب، قُدُومًا ومَقدمًا بفتح الميم والدال: إذا دخله (وأنا حائض) جملة في محل نصب على الحال من الفاعل، وكانت حاضت بسرف، وهو على وزن تَعب وجَهْل، موضع قريب من التنعيم، وبه تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة الهلالية، وبه توفيت، ودفنت. قاله في المصباح (فلم أطف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة) أي لكونها حائضا لا تدخل المسجد (فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي عدم تمكنها من الطواف بسبب الحيض، يقال: شكا همه يشكو شكْوًا، وشكوى، وشكاةً: أبداه متوجعا، وفي التنزيل:{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86]. أفاده في المعجم الوسيط (فقال) صلى الله عليه وسلم (انقضي رأسك) أي حُلِّي شعره، فهو على حذف مضاف. وهذا هو موضع استدلال المصنف على ما ترجم له، حيث أمرها صلى الله عليه وسلم بنقض شعرها المضفور، وأشار بالترجمة إلى أن ذلك الاغتسال هو الاغتسال للنظافة للإحرام، لا للحيض، حيث قال:"باب ذكر الأمر بذلك -أي نقض الضفر- للحائض عند الاغتسال للإحرام"، فهي وقت الاغتسال حائض، فلا يتم الاستدلال بهذا الحديث على وجوب نقض الضفر عند الاغتسال للطهارة من الحيض، كما استدل به بعضهم، وقد تقدم تحقيق ذلك في الباب
الماضي، فارجع إليه تزدد علمًا.
(وامتشطي) أي سرحي شعرك بالمُشْط، وتقدم معنى الامتشاط في 147/ 238 (وأهلي بالحج) أي أحرمي به، وتقدم معنى الإهلال آنفا فلا تغفل (ودعي العُمْرَة) أي اتركي أفعالها، وهذا يدل على أنها كانت معتمرة أوّلا.
قال النووي رحمه الله: فإن قلت: أصح الرويات عن عائشة أنها قالت: "لا نرى إلا الحج، ولا نذكر إلا الحج، خرجنا مهلين بالحج، فكيف الجمع بينها وبين قولها: تمتعت بعمرة؟
قلت: الحاصل أنها أحرمت بالحج ثم فسخته إلى العمرة حيث أمر الناس بالفسخ، فلما حاضت وتعذر عليها إتمام العمرة أمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالإحرام بالحج فأحرمت به فصارت مدخلة الحج على العمرة وقارنة، لما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم:"يكفيك طوافك لحجك وعمرتك". اهـ عمدة القاري ج 3 ص 289.
وقوله: "ودعي العمرة" قال النووي رحمه الله: ليس معنى هذا إبطالها بالكلية، والخروج منها، فإن العمرة والحج لا يصح الخروج منهما بعد الإحرام بنية الخروج، وإنما يخرج منهما بالتحلل بعد الفراغ، بل معناه ارفضي العمل فيها وإتمام أفعالها التي هي الطواف والسعي وتقصير شعر الرأس، فأمرها صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن أفعال العمرة، وأن تحرم بالحج فتصير قارنة، وتقف بعرفات، وتفعل المناسك كلها إلا الطواف بالبيت فتؤخره حتى تطهر، وكذلك فعلت، قال العلماء: ومما يؤيد هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم في رواية عبد بن حميد: "وأمسكي عن العمرة"، ومما
يصرح بهذا التأويل رواية مسلم بعد هذا في آخر روايات عائشة: عن محمَّد بن حاتم، عن بهز، عن وهيب، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنها أهلت بالحج، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم يوم
النفر: "يسعك طوافك لحجك وعمرتك فأبت، فبعث بها عبد الرحمن إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج" هذا لفظه، فقوله صلى الله عليه وسلم:"يسعك طوافك لحجك وعمرتك " تصريح بأن عمرتها باقية صحيحة مجزئة، وأنها لم تلغها، وتَخْرُجْ منها، فيتعين تأويل "ارفضي عمرتك، ودعي عمرتك، على ما ذكرناه من رفض العمل فيها وإتمام أفعالها. والله أعلم. اهـ كلام النووي في شرح مسلم ج 8 ص 139 ولا يلزم من قوله صلى الله عليه وسلم: "انقضي رأسك وامتشطي" إبطال العمرة، لأن نقض شعر الرأس جائز في الإحرام بحيث لا ينتف شعرًا، وبعض العلماء يرى كراهة الامتشاط إلا لعذر، وتأول فعل عائشة هذا على أنها كانت معذورة بأن كان في رأسها أذى فأباح لها الامتشاط كما أباح لكعب بن عجرة الحلق للأذى، وقيل: ليس المراد بالامتشاط هنا حقيقة الامتشاط بالمشط، بل تسريح الشعر بالأصابع للغسل للإحرام بالحجة، لاسيما إن لَبَّدَت رأسها كما هو السنة، وكما فعله النبي صلى الله عليه وسلم فلا يصح غسلها إلا بإيصال الماء إلى جميع شعرها، ويلزم من هذا نقضه. أفاده النووي.
قال الجامع عفا الله عنه: القول بكراهة الامتشاط مما لا دليل عليه، بل مخالف لنص هذا الحديث، وكذا التأويل بأن عائشة كانت معذورة بسبب الأذى غير صحيح، ومثله تأويل الامتشاط بأنه بالأصابع غير واضح. فتأمل باعتدال، ولا يهولنك كثرة القيل والقال.
قالت عائشة رضي الله عنها (ففعلت) أي ما أمرني به النبي صلى الله عليه وسلم من ترك أفعال العمرة، وإدخال الحج عليها (فلما قضينا الحج) أي أتممنا وفرغنا من أفعاله، قال الفيومي رحمه الله: قضيتُ وَطَري: بلغته، ونلته، وقضيت الحاجة كذلك، وقضيت الحج والدَّين: أديته، قال الله تعالى:
{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200]، أي أديتموها فالقضاء هنا بمعنى الأداء كما في قوله تعالى:{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 103] أي
أديتموها، واستعمل العلماء القضاء في العبادة التي تفعل خارج وقتها المحدود شرعًا، والأداء إذا فعلت في الوقت المحدود، وهو مخالف للوضح اللغوي، لكنه اصطلاح للتمييز بين الوقتين. اهـ المصباح (أرسلني مع عبد الرحمن بن أبي بكر) هو شقيقها (إلى التنعيم) بلفظ مصدر نَعَّمَ المضعف، موضع قريب من مكة وهو أقرب أطراف الحل إلى مكة، ويقال بينه وبين مكة أربعة أميال، ويعرف بمسجد عائشة. اهـ المصباح (فاعتمرت) أي فعلت أفعال العمرة، والعمرة في اللغة الزيارة، وفي الاصطلاح زيارة البيت بأفعال مخصوصة.
(فقال) النبي صلى الله عليه وسلم (هذه) العمرة التي أديتها من التنعيم (مكان عمرتك) التي أردت أداءها منفردة، ثم منعك الحيض، فأدخلت عليها الحج، قال النووي رحمه الله: معناه أنها أرادت أن يكون لها عمرة منفردة عن الحج كما حصل لسائر أمهات المؤمنين وغيرهن من الصحابة الذين فسخوا الحج إلى العمرة، وأتموا العمرة، وتحللوا منها قبل يوم التروية، ثم أحرموا بالحج من مكة يوم التروية، فحصل لهم عمرة منفردة، وحجة منفردة، وأما عائشة فإنما حصل لها عمرة مندرجة في
حجة بالقران، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم يوم النفر يسعك طوافك لحجك وعمرتك، أي وقد تَمَّا، وحُسبَا لك جميعًا، فأبت، وأرادت عمرة منفردة كما حصل لباقي الناس، فلما اعتمرت عمرة منفردة قال لها النبي صلى الله عليه وسلم:"هذه مكان عمرتك" أي التي كنت تريدين حصولها منفردة غير مندرجة، فمنعك الحيضُ من ذلك، وهكذا يقال في قولها: يرجع الناس بحج وعمرة، وأرجع بحج، أي يرجعون بحج منفرد وعمرة منفردة، وأرجع أنا وليس لي عمرة منفردة، وإنما حرصت على ذلك لتكثر أفعالها، وفي هذا تصريح بالرد على من يقول: القرآن أفضل. والله أعلم. اهـ شرح مسلم ج 8 ص 140 وسيأتي تمام البحث في المسألة في
محله من كتاب الحج إن شاء الله تعالى.
وقوله: "مكان عمرتك" منصوب على الظرفية خبر لاسم الإشارة، أي هذه العمرة كائنة مكان العمرة التي تركتها بإدخال الحج عليها وإتمام عملهما معًا.
قال ابن منظور رحمه الله: قال أبو منصور: المكان والمكانة واحد، وفي التهذيب: قال الليث: مكان في أصل تقدير الفعل مفعَلٌ، لأنه موضع لكينونة الشيء فيه، غير أنه لما كثر أجرَوْه في التصريف مجرى
فَعَال، فقالوا: مكَّنَّا له، وقد تمكَّن، والدليل على أن المكان مفعل أن العرب لا تقول في معنى هو مني مكان كذا وكذا إلا مَفْعَلَ كذا وكذا، بالنصب. وقال ابن سيده: والمكان: الموضع، والجمع أمكنة كقَذَال، وأقْذلة، وأماكن جمع الجمع، وقال ثعلب: يبطل أن يكون مكان فَعَالا، لأن العرب تقول: كن مَكانَك، وقم مَقامَك، واقعد مَقعدَك، فقد دل هذا أنه مصدر من كان أو موضع منه، قال: وإنما جمع على أمكنة فعاملوا الميم الزائدة معاملة الأصلية؛ لأن العرب تُشَبِّه الحرفَ بالحرف، كما قالوا: مَنَارة ومَنَائر، فشبهوها بفَعالة، وهي مَفعَلة من النُّور، وكان حكمه مَنَاور. اهـ لسان باختصار.
(قال أبو عبد الرحمن) النسائي رحمه الله (هذا حديث غريب من حديث مالك ، عن هشام بن عروة، لم يروه أحد إلا أشهب) بن عبد العزيز، يريد المصنف بهذا أن هذا الحديث معروف برواية مالك له عن
ابن شهاب فقط، وأما روايته له عن هشام بن عروة فتفرد بها أشهب.
وقال الحافظ رحمه الله في النكت الظراف: تبع أبو بكر النيسابوري أبا عبد الرحمن النسائي، فقال: حديث مالك، عن هشام لا أعلم أحدًا رواه إلا أشهب، ثم بَيَّنَ أن الذي انفرد أشهب به زيادة في الحديث، لا أنه تفرد به من أصله، فقال: وحديث هشام. معروف -يعني من غير رواية مالك عنه إلى قوله: "إلى التنعيم فأهلت بعمرة" وأما ما بعده
فليس في حديث هشام- انتهى.
قال الحافظ: والذي بعده لم يذكره النسائي في الطهارة، وليس هو في الحج في رواية ابن السني.، وقد تعقب الدارقطني قول شيخه النيسابوري، فقال:
(1)
عنه في غرائب مالك قد رواه إسماعيل بن أبي أويس، عن مالك، عن هشام نحوه. ورواه عبد الرزاق، وأبو قرة، عن مالك، عن هشام مختصرا، ثم ساقه من طريق محمَّد بن حماد الظهراني، عن إسماعيل بطوله وسنده بعينه إلى مالك، عن ابن شهاب، قال: فذكر نحوه. وأخرج من طريق أبي قرة قال: ذكر مالك عن هشام فذكر منه قوله: "أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من شاء فليهل بالحج، ومن شاء فليهل بالعمرة". ومن طريق الذهلي عن أحمد بن يوسف كلاهما عن عبد الرزاق، عن معمر، ومالك، عن هشام بلفظ:"من شاء منكم أن يهل بعمرة، فلولا أني سقت الهدي لأهللت بعمرة"- مختصر. ومن طريق حفص بن عمر المهرقاني، عن عبد الرزاق أخصر منه بلفظ:"من شاء أفرد، ومن شاء قرنه". اهـ كلام الحافظ في النكت ج 12 ص 197 - 198.
قال الجامع عفا الله عنه: قد ظهر بهذا أن قول الحافظ تبع أبو بكر النيسابوري النسائيَّ في قوله تفرد أشهب به عن مالك، عن هشام، فيه نظر؛ لأن الظاهر أن النسائي يريد رواية مالك، عن هشام، والنيسابوري يريد زيادة في الحديث، فلم يتفق محل دعواهما، لقول الحافظ أن تلك الزيادة التي ادعى النيسابوري تَفَرُّدَ أشهب بها لم يذكرها النسائي. ثم إن دعوى المصنف والنيسابوري تفرد أشهب عن مالك غير صحيح لرواية إسماعيل، وعبد الرزاق، وأبي قرة، كلهم عن مالك، عن هشام، نحوه. كما حققه الحافظ أبو الحسن الدارقطني رحمه الله. في كلامه السابق. فتفطن، والله أعلم. وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
هكذا بياض في الأصل فليحرر.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث عائشة رضي الله عنها هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف: أخرجه هنا 151/ 242 عن يونس بن عبد الأعلى، وفي الحج في الكبرى عن محمَّد بن عبد الأعلى- كلاهما عن أشهب، عن مالك، عن ابن شهاب، وهشام بن عروة، عنها رضي الله عنها.
وقال عقب حديث يونس: غريب من حديث مالك، عن هشام، لم يروه إلا أشهب، وقال عقب حديث ابن عبد الحكم: لم يقل أحد عن مالك، عن هشام غيرُ أشهب.
قاله الحافظ المزي رحمه الله في تحفته ج 12 ص 198/ 197 - فهو من هذا الطريق من أفراده. وقد رواه الشيخان وغيرهما عن غير طريق المصنف وسيأتي الكلام عليه في كتاب الحج إن شاء الله تعالى.
المسألة الثالثة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو أمر الحائض بنقض الضفر عند اغتسالها للإحرام، وهو للنظافة، كما تقدم وقد تقدم أقوال العلماء فيه وترجيح الراجح منها في الباب السابق.
ومنها: منع الحائض من الطواف بالبيت.
ومنها: سؤال الشخص عن حكم ما يجهله من أمر دينه، وأن نقض الرأس والامتشاط لا ينافيان الإحرام لأن الأصح أن عائشة لم تبطل عمرتها وإنما أدخلت عليها الحج.
ومنها: إدخال الحج على العمرة، فيكون قارنا به.
ومنها: حرص عائشة على تكثير أفعال الخير، وستأتي بقية الفوائد في محلها إن شاء الله تعالى.
152 - بَابُ غَسْلِ الجُنُبِ يَدَيْهِ قَبْلَ أنْ يُدْخِلَهُماَ الإِنَاءَ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية غسل اليدين للجنب قبل إدخالهما في الإناء الذي يغتسل منه.
243 -
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ زَائِدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ وُضِعَ لَهُ الإِنَاءُ، فَيَصُبُّ عَلَى يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا الإِنَاءَ، حَتَّى إِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ، أَدْخَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى فِي الإِنَاءِ ثُمَّ صَبَّ بِالْيُمْنَى، وَغَسَلَ فَرْجَهُ بِالْيُسْرَى حَتَّى إِذَا فَرَغَ صَبَّ بِالْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فَغَسَلَهُمَا ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ مِلْءَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ يُفِيضُ عَلَى جَسَدِهِ.
رجال الإسناد: ستة
1 -
(أحمد بن سليمان) بن عبد الملك، أبو الحسين الرهاوي ثقة حافظ من -11 - مات سنة -261 - انفرد المصنف بالرواية عنه. وتقدم في 38/ 42.
2 -
(حسين) بن علي بن الوليد الجعفي الكوفي المقرئ ثقة عابد -9 - تقدم في 74/ 91.
3 -
(زائدة) بن قُدَامَة الثقفي أبو الصَّلْت الكوفي ثقة ثبت -7 - تقدم في 74/ 91.
4 -
(عطاء بن السائب) بن مالك، ويقال زيد، ويقال: يزيد، الثقفي، أبو السائب، ويقال: أبو زيد، ويقال: أبو يزيد، ويقال: أبو محمَّد، الكوفي. رَوَى عن أبيه، وأنس، وربما أدخل بينهما يزيد بن أبان، وعبد الله بن أبي أوفى، وعمرو بن حريث المخزومي، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأبي ظبيان حصين بن جندب، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري، وسالم البَرَّاد، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وغيرهم.
وعنه إسماعيل بن أبي خالد من أقرانه، وسليمان التيمي، والأعمش، وابن جريج، والحمادان، والسفيانان، وشعبة، وزائدة، ومسعر، وابن علية، وآخرون.
قال علي، عن سفيان، عن بعض أصحابه: كان أبو إسحاق يسأل عن عطاء بن السائب؟ فيقول: إنه من البقايا، وقال حماد بن زيد: أتينا أيوب، فقال: اذهبوا إلى عطاء بن السائب قدم من الكوفة، وهو ثقة. وقال ابن علية: قال لي شعبة: ما حدثك عطاء بن السائب، عن رجال زاذان، وميسرة، وأبي البختري؛ فلا تكتبه، وما حدثك عن رجل بعينه فأكتبه، وقال علي، عن يحيى بن سعيد: ما سمعت أحدًا من الناس
يقول في حديثه القديم شيئًا، وما حدث سفيان وشعبة عنه فصحيح إلا حديثين كان شعبة يقول سمعتهما منه بآخره، عن زاذان، وقال أبو قطن عن شعبة: ثلاثة في القلب منهم هاجس عطاء بن السائب، ويزيد بن أبي زياد، ورجل آخر. وقال أحمد بن سنان عن ابن مهدي: ليث بن أبي سليم، وعطاء بن السائب، ويزيد بن أبي زياد: ليث أحسنهم حالا عندي. وقال عثمان بن أبي شيبة، عن جرير: كان يزيد أحسنهم استقامة في الحديث، ثم عطاء. وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ثقة ثقة رجل صالح. وقال أبوطالب، عن أحمد: من سمع منه قديمًا فسماعه صحيح، ومن سمع منه حديثًا لم يكن بشيء، سمع منه قديمًا سفيان، وشعبة، وسمع منه حديثًا جرير، وخالد، وإسماعيل، وعلي بن عاصم، وكان يرفع عن سعيد بن جبير أشياء لم يكن يرفعها. قال: وقال وهيب: لما قدم عطاء البصرة قال كتبت عن عبيدة ثلاثين حديثًا، ولم يسمع من عبيدة شيئًا، وهذا اختلاط شديد. وقال أبو داود: وقال شعبة: حدثنا عطاء بن السائب وكان نسيًا، وقال ابن معين: لم يسمع عطاء بن السائب من يعلى بن مرة. وقال ابن معين: عطاء بن السائب اختلط، وما سمع منه جرير، وذووه ليس من صحيح حديثه، وقد سمع منه أبو عوانة في الصحيح والاختلاط جميعا، ولا يحتج بحديثه، وقال أحمد بن أبي نجيح عن ابن معين: ليث بن أبي سليم ضعيف مثل عطاء، وجميعُ من سمع من عطاء سمع منه في الاختلاط إلا
شعبة، والثوري، وقال ابن عدي: من سمع منه بعد الاختلاط في أحاديثه بعض النكرة، وقال العجلي: كان شيخا ثقة قديمًا، روى عن ابن أبي أوفى، ومن سمع منه قديمًا فهو صحيح الحديث: منهم الثوري، فأما من سمع منه بآخره فهو مضطرب الحديث: منهم هشيم، وخالد الواسطي إلا أن عطاء بآخره كان يلقن إذا لقنوه في الحديث؛ لأنه كان غير صالح
الكتاب، وأبوه تابعي ثقة، وقال أبو حاتم: كان محله الصدق قبل أن يختلط صالح مستقيم الحديث، ثم بآخره تغير حفظه، في حفظه تخاليط كثيرة، وقديم السماع من عطاء: سفيان، وشعبة، وفي حديث البصريين عنه تخاليط كثيرة؛ لأنه قدم عليهم في آخر عمره، وما روى عنه ابن فضيل ففيه غلط واضطراب، رفع أشياء كان يرويها عن التابعين، ورفعها إلى الصحابة، وقال النسائي: ثقة في حديثه القديم إلا أنه تغير، ورواية حماد بن زيد وشعبة وسفيان عنه جيدة، وقال الحميدي عن ابن عيينة: كنت سمعت عطاء بن السائب قديمًا، ثم قد علينا قدمة فسمعته يحدث ببعض ما كنت سمعت، فخلط فيه، فاتقيته، واعتزلته. وقال أبو النعمان، عن يحيى القطان: سمع منه حماد بن زيد قبل أن يتغير. قال ابن سعد وغيره: مات سنة [137]، ونحوها، روى له البخاري حديثًاواحدًا متابعة في ذكر الحوض.
قال الحافظ: وذكره ابن حبان في الثقات فقال: قد قيل: إنه سمع من أنس، ولم يصح ذلك عندي، مات سنة -36 - وكان اختلط بآخره، ولم يفحش حتى يستحق أن يعدل به عن مسلك العدول بعد تقدم صحة بيانه في الروايات، وقال القراب في وفاته اختلاف، قيل: سنة -6 - وقيل سنة -3 - وقيل سنة -4 - وقال الدارقطني: دخل عطاء البصرة مرتين، فسماع أيوب، وحماد بن سلمة في الرحلة الأولى صحيح.
وقال الحاكم: تغير بآخره، وقال في السؤالات: تركوه، كذا قال، ولعله أراد بالترك ما يتعلق بحديثه في الاختلاط، وقال الساجي: صدوق ثقة، لم يتكلم الناس في حديثه القديم. وقال البخاري في تاريخه: قال علي: سماع خالد بن عبد الله، من عطاء بن السائب بآخره، وسماع حماد بن زيد منه صحيح. وقال العقيلي: تغير حفظه، وسماع حماد بن زيد منه قبل التغير. وقال العقيلي أيضا: وسماع حماد
ابن سلمة بعد الاختلاط، كذا نقله عنه ابن القطان، ثم وقفت على ترجمته في العقيلي فنقل عن الحسن بن علي الحلواني، عن علي بن المديني، قال: قال وهيب: قدم علينا عطاء بن السائب، فقلت: كم حملت عن عَبيدَة -يعني السلماني- قال أربعين حديثا، قال علي: وليس عنده عن عبيدة حرف واحد، فقلت على مَ يحمل ذلك؟ قال على الاختلاط، وقال علي: وكان أبو عوانة حمل عنه قبل أن يختلط، ثم حمل عنه بعد فكان لا يعقل ذا من ذا، وكان حماد بن سلمة
(1)
انتهى. قال الحافظ: فاستفدنا من هذه القصة أن رواية وهيب، وحماد، وأبي عوانة عنه في جملة ما يدخل في الاختلاط، وقال عبد الحق: سماع ابن جريج منه بعد الاختلاط، وقال الحربي في العلل: بلغني أن شعبة قال: إذا حدث عن رجل واحد فهو ثقة، وإذا جمع بين اثنين فاتقه، وقال الطبراني: ثقة اختلط في آخر عمره فما رواه عنه المتقدمون فهو صحيح مثل سفيان، وشعبة، وزهير، وزائدة. وقال العجلي: جائز الحديث إلا أنه كان يلقن بآخره. وقال ابن سعد: كان ثقة، وقد روى عنه المتقدمون، وقد كان تغير حفظه بآخره واختلط. توفي سنة 36.
وقال ابن الجارود في الضعفاء: حديث سفيان، وشعبة، وحماد بن سلمة عنه جيد، وحديث جرير، وأشباه جرير ليس بذاك، وقال يعقوب بن سفيان: هو ثقة حجة، وما روى عنه سفيان وشعبة، وحماد بن سلمة سماع قديم، وكان عطاء تغير بآخره، ورواية جرير، وابن فضيل، وطبقتهم ضعيفة، وقال في موضع آخر: إذا حدث عنه سفيان وشعبة فإن حديثه مقام الحجة. وقال الدارقطني في العلل: اختلط ولم يحجوا به في الصحيح، ولا يحتج من حديثه إلا بما رواه أكابر، شعبة، والثوري، ووهيب، ونظراؤهم، وأما ابن علية، والمتأخرون ففي حديثهم عنه نظر.
(1)
هكذا بياض بالأصل.
قال الحافظ: فيحصل لنا من مجموع كلامهم أن سفيان الثوري وشعبة وزهيرًا، وزائدة، وحماد بن زيد، وأيوب عنه صحيح، ومن عداهم يتوقف فيه إلا حماد بن سلمة فاختلف قولهم، والظاهر أنه سمع منه مرتين مرة مع أيوب كما يومئ إليه كلام الدارقطني، ومرة بعد ذلك لما دخل إليهم البصرة، وسمع منه مع جرير وذويه. والله أعلم. أخرج له البخاري حديثًا واحدًا متابعة، والباقون إلا مسلمًا. اهـ "تت" ج 7 ص 203 - 207.
5 -
(أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف الزهري المدني ثقة فقيه -3 - تقدم في 1/ 1.
6 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها تقدمت في 5/ 5. والله أعلم
لطائف هذا الإسناد
منها أنه من سداسياته، وأن رواته ثقات اتفقوا على التخريج لهم إلا شيخه فانفرد هو به، وعطاء فأخرج له (خ) متابعة حديثا واحدا في ذكر الحوض، ولم يخرج له (م) أصلا وفيه أبو سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه عائشة من المكثرين السبعة، وفيه من صيغ الأداء الإخبار، والتحديث، والعنعنة، وكلها من صيغ الاتصال على الراجح على تفصيل تقدم. وفيه عطاء بن السائب من المختلطين إلا أن زائدة روى عنه قبل الاختلاط فحديثه صحيح. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل) أي أراد الاغتسال، كما تقدم نظيره غير مرة، من وقوع الفعل بعد إذا ماضيا ويراد القصد والإرادة، كقوله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] وحديث: "كان إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث"(من الجنابة) أي بسببها، فـ"من" سببية، وتقدم
تفسير الجنابة والاغتسال (وضع له) بالبناء للمفعول (الإناء) بالرفع نائب فاعل "وُضع" أي الإناء الذي فيه ماء للاغتسال، فالمراد بوضع الإناء وضع إناء فيه ماء؛ لأن الغسل إنما يكون من الماء، وتقدم معنى الإناء (فيصب) بضم الصاد من باب نصر، أي يُفرغ (على يديه) من الماء (قبل أن يدخلهما) أي اليدين (الإناء) أي الإناء الموضوع له، لأن المعرفة إذا أعيدت معرفة فهي عين الأولى، كما قال السيوطي رحمه الله في عُقُود الجُمَان:
ثُمَّ منَ القَوَاعِدِ المُشْتَهرَهْ
…
إذَا أتَتْ نَكرَةٌ مُكَرَّرَهْ
تَغَايَرَا وَإنْ يُعَرَّف ثَانِ
…
تَوَافَقَا كَذَا المُعَرَّفَانِ
شَاهدُهَا الذي رَوَيْنَا مُسْنَدَا
…
لَنْ يَغْلبَ اليُسْرَيْن عُسْرٌ أبَدَا
وفيه مشروعية غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، وقد تقدم البحث فيه في 1/ 1.
(حتى إذا غسل يديه) غاية للصب، وسيأتي في الباب التالي أنه غسلهما ثلاثا (أدخل يده اليمني في الإناء) أي الإناء الموضوع له، والكلام فيه كالكلام في سابقه، وإنما أدخل اليمنى ليغترف بها الماء (ثم
صب) الماء (باليمنى فغسل فرجه باليسرى) أي اليد اليسرى، وفيه أن صب الماء يكون باليمنى، وغسل الفرج باليسرى تكريما لليمين، وفي الرواية الآتية "فيغسل ما على فخذيه"، وفي أخرى "فيغسل فرجه وما أصابه، والمراد أنه يغسل ذكره وما حوله وما على فخذيه من أثر المني مبالغة في التنظيف (حتى إذا فرغ) من غسل فرجه (صب) الماء (باليمنى على اليسرى فغسلهما) ثلاثا كما يأتي في الرواية الآتية (ثم تمضمض) أي أدخل الماء في فمه فحركه (واستنشق) أي جعل الماء في أنفه، وجذبه إليه بريح
الأنف، وقد تقدم تحقيق معنى المضمضة، والاستنشاق مستوفى في باب المضمضة والاستنشاق 68/ 84 (ثم يصب على رأسه ملء كفيه) بكسر
فسكون، أي ما يملؤهما من الماء، قال في المصباح: وملؤه بالكسر: ما يملؤه، وجمعه أملاء، مثل حمل وأحمال اهـ. والمعنى أنه يصب على رأسه من الماء ما يملء كفيه (ثلاث مرات) مفعول مطلق لـ"يصب"، أي صبا ثلاث مرات، وفيه استحباب غسل الرأس ثلاث مرات، ولم يذكر في هذه الرواية أنه توضأ قبل الغسل، وقد صح عنها في الروايات الآتية ذكرها، فيحمل هذا على اختصار بعض الرواه، ويحتمل أن الاختصار منها، فذكرت هنا بعض أفعال الغسل دون البعض لعلمها بأن السائل يعلم ذلك (ثم يفيض على جسده) أي يصب الماء على سائر جسده، فالمراد ما عدا الرأس، لما في الرواية الآتية، "ثم يفيض على سائر جسده". وفيه أن غسل سائر الجسد لا يشرع فيه التثليث. والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث عائشة رضي الله عنها هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له: أخرجه هنا 152/ 243، وفي 153/ 244، وفي 154/ 245، وفي 155/ 246، وفي الكبرى -139/ 244 - بالسند والمتن الآتي -154/ 245 - .
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: هذا الحديث عن طريق أبي سلمة من أفراد المصنف، كما أشار إليه الحافظ أبو الحجاج المزي في تحفته، وأخرجه (خ) عن طريق عروة عنها، كما يأتي للمصنف في 156/ 247.
المسألة الرابعة: في فوائده: من فوائد هذا الحديث: ما ترجم له المصنف، وهو مشروعية غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، وكونه ثلاث مرات، ومشروعية الاستنجاء باليد اليسرى، وصب الماء باليمنى، ومشروعية المضمضة والاستنشاق ثلاثًا، وقد تقدم حكمهما في 68/ 84، واستحباب صب الماء على الرأس ثلاثًا، وتعميم سائر البدن بالغسل مرة واحدة. والله تعالى أعلم.
153 - بَابُ ذِكْرِ عَدَدِ غَسْلِ اليَدَيْنِ قَبْلَ إدْخَالهِمِاَ الإنَاءَ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على كمية غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء لأجل الاغتراف. 244 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرَنَا
(1)
شُعْبَةُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ غُسْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْجَنَابَةِ، فَقَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُفْرِغُ عَلَى يَدَيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ يَغْسِلُ فَرْجَهُ، ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يُمَضْمِضُ وَيَسْتَنْشِقُ، ثُمَّ يُفْرِغُ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ يُفِيضُ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ.
رجال هذا الإسناد: ستة
كلهم تقدموا في السند الماضي إلا اثنين:
1 -
(يزيد) بن هارون بن وادي، ويقال: زاذان بن ثابت السلمي مولاهم، أبو خالد الواسطي، أحد الأعلام الحفاظ المشاهير، قيل: أصله من بخارى. روى عن سليمان التيمي، وحميد الطويل، وعاصم
الأحول، وإسماعيل بن أبي خالد، وأبي مالك الأشجعي، ويحيى بن
(1)
وفي نسخة: "أنبأنا".
سعيد الأنصاري، وحريز بن عثمان، وابن عون، وداود بن أبي هند، وحسين المعلم، ومحمد بن إسحاق، وشعبة، والثوري، وخلق.
وعنه بقية بن الوليد، ومات قبله، وآدم بن أبي اياس، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وابنا أبي شيبة، وأحمد بن سليمان، وآخرون.
قال أحمد: كان حافظًا للحديث صحيح الحديث عن حجاج بن أرطاة، قاهرًا لها حافظًا. وقال ابن المديني: هو من الثقات، وقال في موضع آخر: ما رأيت أحفظ منه، وقال ابن معين: ثقة، وقال العجلي: ثقة ثبت في الحديث، وكان متعبدًا حسن الصلاة جدّا، وكان يصلي الضحى ستة عشرة ركعة بها من الجودة غير قليل، وكان قد عَميَ، وقال أبو زرعة عن أبي بكر بن أبي شيبة: ما رأيت أتقن حفظًا من يزيد.
قال أبوزرعة: والإتقان أكثر من حفظ السرد، وقال أبو حاتم: ثقة إمام صدوق لا يسأل عن مثله. وقال عمرو بن عون، عن هشيم: ما بالبصريين مثل يزيد، وقال أحمد بن سنان، عن عفان: أخذ يزيد عن حماد حفظًا، وهي صحاح، بها من الاستواء غير قليل ومَدَحَهَا وقال أيضا: ما رأيت عالمًا، قط أحسن صلاة منه كأنه أسطوانة لم يكن يفتر عن صلاة الليل والنهار، وكان هو وهشيم معروفين بطول الصلاة، وقال يحيى بن يحيى: كان بالعراق أربعة من الحفاظ، فذكره فيهم، وأشار إلى أنه أحفظ من وكيع، وقال مؤمل بن إهاب: سمعت يزيد يقول: ما دلست قط إلا حديثًا واحدًا عن عوف، فما بورك لي فيه، وقال محمَّد بن قدامة الجوهري: سمعته يقول: أحفظ خمسة وعشرين ألف إسناد، ولا فخر. وقال علي بن شعيب: سمعته يقول: أحفظ أربعة وعشرين ألف حديث بإسناده ولا فخر، وأحفظ للشاميين عشرين ألف حديث لا أسْألُ عنها،
وقال يحيى بن أبي طالب: كان يقال: إن في مجلسه سبعين ألف رجل، وقال يعقوب بن سفيان عن محمَّد بن فضيل البزار: ولد يزيد سنة 117، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، ولد سنة 18، وكان يقول: طلبت العلم، وحصين حي، وقد نسي، وربما ابتدأني الجريري بالحديث، وكان قد أنكر. مات في خلافة المأمون في غرة ربيع الآخر سنة 206، وفيها أرخه غير واحد، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان من خيار عباد الله تعالى ممن يحفظ حديثه، وكان قد كف في آخر عمره، وقال زكريا بن يحيى: كنا نسمع أن يؤيد من أحسن أصحابنا صلاة، وأعلمهم بالسنة، وذكر ابن أبي خيثمة في تاريخه أنه كاتب أبي شيبة القاضي جد أبي بكر بن أبي شيبة، قال وسمعت أبي -يعني أبا خيثمة زهير بن حرب- يقول: كان يعاب على يزيد حين ذهب بصره ربما إذا سئل عن حديث لا يعرفه، فيأمر جاريته فتحفظه من كتابه.
قال: وسمعت يحيى بن معين يقول: يزيد ليس من أصحاب الحديث، لأنه لا يميز ولا يبالي عمن روى، وقال الفضل بن زياد: قيل لأحمد: يزيد بن هارون له فقه؟ قال: نعم ما كان أفطنه، وأذكاه، وأفهمه، قيل له: فابن علية؟ قال: كان له فقه، لا أعلم، إني لم أخبره خبري يؤيد، ما كان أجمع أمر يزيد صاحب صلاة حافظ متقن للحديث صوانه، وحسن مذهب، وقال الزعفراني: ما رأيت خيرا من يزيد، وقال زياد بن أيوب: ما رأيت له كتابًا قط ولا حديثًا إلا حفظًا، وقال أحمد بن الطيب: سمعت يؤيد يقول: في هارون -يعني مستمليه- بلغني أنك تريد أن تُدخل عليَّ في حديثي فاجهد جهدك لا أرعى الله تعالى عليك إن رعيت أحفظ ثلاثة وعشرين ألف حديث. وقال الحسن ابن عرفة: قلت ليزيد بن هارون: ما فعلت تلك العينان الجميلتان؟ قال: ذهب بهما بكاء الأسحار، وقال يعقوب بن شيبة: ثقة، وكان يعد من
الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، وقال ابن قانع: ثقة مأمون. أخرج له الجماعة. اهـ. "تت" ج 11 ص 366 - 369.
2 -
(شعبة) بن الحجاج الواسطي، ثم البصري ثقة ثبت حجة -7 - تقدم في 24/ 26.
قال الجامع عفا الله عنه: لطائف الإسناد، وشرح الحديث، والمسائل المتعلقة به تقدمت في الباب السابق فلا نطيل الكتاب بإعادتها. وقوله (يفرغ) وهو من الإفراغ رباعيًا ومعناه يصب، وقوله (يفيض) هو من الإفاضة رباعيًا أيضًا، ومعناه يصب أيضًا.
ومحل الترجمة قولها: "ثلاثًا". إذ يستفاد منه أن عدد غسل اليدين ثلاث مرات. والله أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
154 - إزَالةُ الجُنُبِ الأذَى عَنْ جَسَدِه بَعْدَ غَسْلِ اليَدَيْنِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية إزالة الجنب عند اغتساله من الجنابة ما على جسده من الأذى، أثر المني، أو غيره، مبالغةً في التنظيف، إذا لو تركه لتلطخ به سائر جسده، فيستحسن إزالته قبل شروعه في غسل سائر جسده.
وموضع الترجمة من الحديث قولها: (فيغسل ما على فخذيه) فقد استنبط المصنف حكمًا أعمّ، إذ المذكور في الحديث ما على الفخذين، لكن يؤخذ منه كل ما كان على الجسد من الأذى في أيّ موضع كان، لعموم العلة. والله أعلم.
245 -
أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا
(1)
النَّضْرُ، أَخْبَرَنَا
(2)
شُعْبَةُ، عَنْ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَسَأَلَهَا عَنْ غُسْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْجَنَابَةِ، فَقَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُؤْتَى بِالإِنَاءِ فَيَصُبُّ عَلَى يَدَيْهِ ثَلَاثًا فَيَغْسِلُهُمَا ثُمَّ يَصُبُّ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ، فَيَغْسِلُ مَا عَلَى فَخِذَيْهِ، ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ، وَيَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ، وَيَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ يُفِيضُ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ.
(1)
و
(2)
وفي نسخة: "أنبأنا".
رجال هذا الإسناد: ستة
كلهم تقدموا قريبًا، إلا اثنين:
1 -
(محمود بن غيلان) المروزي نزيل بغداد، ثقة -10 - تقدم في 33/ 37.
2 -
(النضر) بن شميل أبو الحسن اللغوي البصري نزيل مرو، ثقة ثبت من كبار -9 - تقدم في 41/ 45.
وشرح الحديث وما يتعلق به تقدم في الماضي، فلا نحتاج إلى الإعادة وقولها (على فخديه) وهو تثنية فخذ، وفيه لغات: فخذ بفتح فكسر ككتف، وفَخْذ بفتح، فسكون كفلس، وفخذ بكسر فسكون، كجبت، وفخذ بكسرتين، كإبل، وهكذا كل كلمة جاءت على وزن فَعل بكسر العين، أو فَعلة بكسرها أيضًا وكان عينها حرف حلق يجوز فيها أربع لغات كما مر، سواء كان اسما كفخذ، أو فعلا كشهد، وأما ما لم يكن عينه حرف حلق فيجوز فيه ثلاث لغات وذلك ككتف وكلمة: فيجوز فيه فعل بكسر العين وفعل بسكونها تخفيفًا، وفعل بنقل حركتها إلى الفاء بعد سلب حركتها. وهذه كلها في لغة بني تميم، وأما أهل الحجاز فلا يغيرون، ففخذ عندهم بفتح الفاء وكسر الخاء، وكذا كل ما كان على وزنه سواءكان حلقي العين أم لا؟.
قولها (سائر) اسم فاعل من سئر الشيءُ سؤرًا بالهمز، من باب شرب: إذا بقي، قاله الأزهري، واتفق أهل اللغة أن سائر الشيء باقيه قليلًا كان أو كثيرًا، قال الصَّغَاني: سائر الناس باقيهم، وليس معناه جميعهم، كما زعم من قصر في اللغة باعه، وجَعْلُهُ بمعنى الجميع من لحن العوام، ولا يجوز أن يكون مشتقًا من سُور البلد لاختلاف المادتين. اهـ المصباح.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
155 - بَابُ إعَادَة الجُنُبِ غَسْلَ يَدَيْه بَعْدَ إزَالَة الأذَى عَنْ جَسَدِهِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية غسل اليدين للجنب مرة ثانية بعد إزالة ما على جسده من الأذى مبالغةً في النظافة.
وأخذ المصنف هذا الحكم من قولها: "يفيض بيده اليمنى على اليسرى ثلاث مرات" فأشار بهذه الترجمة إلى أنه ليس المراد أنَّه يغسل اليسرى فقط ثلاث مرات، بل المراد أنه يغسلهما جميعا بدليل ما تقدم من قولها:"صب باليمنى على اليسرى فغسلهما"، وقولها:"ثم يغسل يديه" فإن ذلك مبين للمعنى المراد هنا، فتفطن. والحديث هو الحديث السابق وإنما أعاده لتغاير سنده، ولاستنباط الأحكام التي ترجم عليها. فلله دَرّه محدِّثًا مكثرًا، وفقيهًا محررًا، رحمه الله تعالى.
246 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: وَصَفَتْ عَائِشَةُ غُسْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْجَنَابَةِ، قَالَتْ: كَانَ يَغْسِلُ يَدَيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ يُفِيضُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فَيَغْسِلُ فَرْجَهُ وَمَا أَصَابَهُ. قَالَ عُمَرُ: وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ: يُفِيضُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَتَمَضْمَضُ، وَيَسْتَنْشِقُ ثَلَاثًا، وَيَغْسِلُ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ يُفِيضُ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ يَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ.
رجال هذا الإسناد: خمسة
كلهم تقدموا إلا اثنين:
1 -
(إسحاق بن إبراهيم) الحنظلي المروزي نزيل نيسابور الحافظ الحجة -10 - تقدأ في 2/ 2.
2 -
(عمر بن عُبيد) بن أبي أمية الطنافسي
(1)
الحنفي الإيادي مولاهم، أبو حفص الكوفي. روى عن أبيه، وأبي إسحاق السبيعي، وعبد الملك ابن عمير، وسعيد بن مسروق، وسماك بن حرب، والأعمش،
ومنصور، وأشعث بن سليم، وعمر بن المثنى الأشجعي، وغيرهم. وعنه أخواه يعلى، وإبراهيم، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وابنا أبي شيبة، وعمرو الناقد، ومحمد بن سلام البيكندي، ومحمد بن
عبد الله بن نمير، وأبو كريب، وغيرهم.
قال أحمد بن حنبل: لم ندرك بالكوفة أحدًا أكبر منه، ومن المطلب بن زياد، وقال ابن معين: صالح، وقال أبو حاتم: محله الصدق، قال ابن سعد وغيره مات سنة 185 وزاد ابن سعد: وكان شيخًا قديمًا ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مات سنة -87 - وكذا أرخه خليفة، وهارون بن حاتم، وغير واحد، وقيل: مات سنة -8 - وذكر ابن زبر أنه ولد سنة -104 - وقال الدارقطني: عمرو، ويعلى، ومحمد أولاد عبيد، كلهم ثقات، وأبوهم ثقة، وكذا قال الإمام أحمد قبله، وقال عثمان الدارمي: سألته -يعني ابن معين- عن يعلى ومحمد؟ فقال: ثقتان، قلت: فعمر؟ قال: ثقة، قلت: كأنه دونهما؟ قال: نعم. وقال العجلي: عمر أخو يعلى ومحمد وهو أسن منهما، وهو دونهما في الحديث، وكان صدوقًا. أخرج له الجماعة. اهـ "تت" ج 7 ص 480 - 481.
(1)
بفتح الطاء والنون وبعد الألف فاء مكسورة، ثم سنين مهملة، نسبة إلى الطنفسة كما في اللباب.
وشرح الحديث وما يتعلق به سندًا ومتنًا تقدم جله قريبًا.
وقولها (فيغسل فرجه) تريد به الاستنجاء، وقولها (وما أصابه)"ما" موصولة عطف على فرجه، أي يغسل ما أصابه من الأذى (قال عمر) بن عبيد (ولا أعلمه) أي لا أعلم عطاء (إلا قال يفيض بيده اليسرى الخ) يريد بهذا أنه حصل له شك في صيغة ما تلفظ به عطاء في هذه الجملة، هل هي يفيض، أو يصب، أو نحو ذلك؟ لكنه ترجح له "يفيض" فقال: لا أعلمه الخ، واستفيد من هذه الرواية أن غسل اليدين بعد الاستنجاء، وإزالة الأذى يكون ثلاثًا، وكذلك المضمضة، والاستنشاق، وغسل الوجه، وغسل الرأس، وأما سائر الجسد فمرة واحدة. والله تعالى أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
156 - ذِكرُ وُضُوءِ الجُنُبِ قَبْلَ الغُسْلِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية الوضوء للجنب قبل اغتساله.
وهذا الحكم وإن كان معلوما من الأحاديث السابقة، إلا أنه أراد أن يفرده بباب لأهميته.
247 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ بَدَأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ الْمَاءَ فَيُخَلِّلُ بِهَا أُصُولَ شَعْرِهِ، ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ غُرَفٍ، ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى جَسَدِهِ كُلِّهِ.
رجال الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة) بن سعيد أبو رجاء الثقفي البغلاني ثقة ثبت -10 - تقدم في 1/ 1.
2 -
(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة الحجة الفقيه الحافظ -7 - تقدم في 7/ 7.
3 -
(هشام بن عروة) بن الزبير المدني ثقة فقيه -5 - تقدم في 49/ 61.
4 -
(عروة) بن الزبير بن العوام أحد الفقهاء السبعة المدني ثقة -3 - تقدم في 40/ 44.
5 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها تقدم في 5/ 5.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات أجلاء اتفقوا بالتخريج لهم، وكلهم مدنيون، إلا قتيبة فبغلاني -قرية ببلخ-، وفيه رواية الابن عن أبيه، عن خالته، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وعائشة من المكثرين السبعة روت -2210 - . والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عائشة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان) هذه اللفظة تدل على الملازمة والتكرار (إذا اغتسل) أي أراد الاغتسال، أو شرع في الاغتسال (من الجنابة)"من" سببية أي بسبب حصول الجنابة له (بدأ، فغسل يديه، ثم توضأ) فإن قلت: لم ذكر في ثلاث مواضع بلفظ الماضي، وهي "بدأ""فغسل"، "توضأ" وذكر البواقي بلفظ المضارع، وهي قوله:"يدخل"، و"يخلل"، و"يصب"، و"يفيض".
أجيب: بأن النكتة في ذلك أن "إذا" إن كانت شرطية فالماضي بمعنى المستقبل، والكل مستقبل معنى، وأما الاختلاف في اللفظ فللإشعار بالفرق بما هو خارج من الغسل، وما ليس كذلك، وإن كانت ظرفية فما جاء ماضيا فهو على أصله، وعدل عن الأصل إلى المضارع لاستحضار صورته للسامعين. قاله البدر العيني في عمدته ج 3 ص 192.
(فغسل يديه) يحتمل أن يكون هذا الغسل للتنظيف مما بهما من مستقذر، ويحتمل أن يكون هو الغسل المشروع عند القيام من النوم.
قال الحافظ: ويدل عليه زيادة ابن عيينة في هذا الحديث عن هشام "قبل أن يدخلهما الإناء" رواه الشافعي، والترمذي، وزاد أيضا "ثم يغسل فرجه"، وكذا لمسلم من رواية أبي معاوية، ولأبي داود من رواية حماد بن زيد، كلاهما عن هشام، وهي زيادة جليلة، لأن بتقديم غسله يحصل الأمن من مسه في أثناء الغسل. اهـ فتح ج 1 ص 429.
قال الجامع عفا الله عنه: رواية عائشة المتقدمة في 152/ 243 واضحة في الاحتمال الثاني، وفي تقديم الاستنجاء قبل الوضوء والغسل.
(ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة) فيه احتراز عن الوضوء اللغوي، وفيه أنه يمسح رأسه، وأنه لا يؤخر غسل رجليه، وسيأتي أن الأولى حمله على أكثر عمل الوضوء، فيكون غسل الرجل مؤخرًا لتصريح بعض رواياتها بذلك، فيكون حديثها موافقًا لحديث ميمونة رضي الله عنهما.
قال الحافظ رحمه الله: ويحتمل أن يكون الابتداء بالوضوء قبل الغسل سنة مستقلة بحيث يجب غسل أعضاء الوضوء مع بنية الجسد في الغسل، ويحتمل أن يكتفى بغسلها في الوضوء عن إعادته، وعلى هذا فيحتاج إلى نية غسل الجنابة في أول عضو، وإنما قدم غسل أعضاء الوضوء تشريفًا لها، ولتحصل له صورة الطهارتين الصغرى والكبرى، وإلى هذا جنح الداودي شارح المختصر من الشافعية، فقال: يقدم غسل أعضاء وضوئه على ترتيب الوضوء، لكن بنية غسل الجنابة.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله الدوادي هو الظاهر. ونقل ابن بطال الإجماع على أن الوضوء لا يجب مع الغسل، وهو مردود، فقد ذهب جماعة منهم أبو ثور، وداود وغيرهما إلى أن الغسل لا ينوب عن
الوضوء للمحدث. اهـ فتح ج 1 ص 429.
قال الجامع عفا الله عه: سيأتي في المسائل تحقيق الخلاف في هذه المسألة إن شاء الله تعالى.
(ثم يدخل أصابعه الماء، فيخلل بها) أي بأصابعه التي أدخلها في الماء (أصول شعره) ولمسلم: "ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر"، وللمصنف والترمذي من طريق ابن عيينة:"ثم يُشَرِّب شعره الماء".
والمراد بأصول الشعر شعر الرأس بدليل الرواية الآتية: "ويخلل رأسه حتى يصل إلى شعره" قال الحافظ: ويدل عليه رواية حماد بن سلمة، عن هشام، عند البيهقي "يخلل بها شِقَّ رأسه الأيمن فيتبع بها أصول
الشعر، ثم يفعل بشقّ رأسه الأيسر كذلك".
قال القاضي عياض: احتج به بعضهم على تخليل شعر الجسد في الغسل، إما لعموم قوله:"أصول الشعر" وإما بالقياس على شعر الرأس.
قال الجامع عفا الله عنه: القول بعموم أصول الشعر غير صحيح، لأن الرواية الأخرى بينت أنه شعر الرأس. وفائدة التخليل إيصال الماء إلى الشعر والبشرة، ومباشرة الشعر باليد ليحصل تعميمه بالماء، وتأنيس البشرة لئلا يصيبها بالصب ما تتأذى به، ثم هذا التخليل غير واجب اتفاقًا، إلا إذا كان الشعر مُلَبَّدًا بشيء يحول بين الماء وبين الوصول إلى أصوله. قاله في الفتح ج 1 ص 430.
قال الجامع عفا الله عنه: دعوى الاتفاق في عدم الوجوب غير صحيح، فقد قال العيني إنه مذهب الحنفية في غسل الجنابة، وذكر أقوال العلماء الآخرين أيضا. انظر عمدة ج 3 ص 192. ثم إن هذا التخليل يكون بأصابع اليدين العشر، لظاهر قولها "أصابعه" وفي رواية "ثم يخلل بيديه شعره".
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: التخليل هنا إدخال الأصابع فيما بين أجزاء الشعر. ورأيت في كلام بعضهم إشارة إلى أن التخليل هل يكون بنقل الماء أو بإدخال الأصابع مبلولة بغير نقل الماء؟ وأشار إلى ترجيح نقل الماء لما وقع في بعض الروايات الصحيحة في مسلم "ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر"، فقال هذا القائل: نقل الماء لتخليل الشعر هو رد على من يقول: يخلل بأصابعه مبلولة بغير نقل الماء، قال:
وذكر النسائي في السنن ما يبين هذا، فقال: باب تخليل الجنب رأسه، وأدخل حديث عائشة هذا فيه، قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب رأسه ثم يحثي عليه ثلاثا" قال فهذا بين في التخليل بالماء. انتهى كلامه. اهـ إحكام الأحكام ج 1 ص 375 (ثم يصب على رأسه ثلاث غرف) بضم، ففتح، جمع غُرْفة، بضم، فسكون، وهي قدر ما يغرف من الماء بالكف، قال الحافظ: وللكشميهني "ثلاث غرفات" وهو المشهور. وقال البدر العيني: وهذا هو الأصح، لأن مميز الثلاث ينبغي أن يكون من جموع القلة، ولكن وجه ذكر الغرف أن جمع الكثرة يقوم مقام جمع القلة، وبالعكس، وعند الكوفيين: فعل بضم الفاء وكسرها من جموع القلة، لقوله تعالى:{فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ} [هود: 13]، وقوله تعالى {ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27].اهـ عمدة ج 3 ص 192
قال الجامع عفا الله عنه: القاعدة أنه إذا كان المعدود بثلاثة إلى عشرة له جمع قلة وكثرة، فالأكثر إضافتها إلى جمع القلة كعندي ثلاثة أفلس، ويقل إضافتها إلى جمع الكثرة، كعندي ثلاثة فلوس، وإن لم يكن له إلا جمع الكثرة، فإنه يضاف إليه نحو ثلاثة رجال، وإلى أصل القاعدة أشار ابن مالك بقوله:
ثَلاثَةً بالتَّاء قُلْ للْعَشَرَهْ
…
في عَدِّ مَا آحَادُهُ مُذَكَّرَهْ
في الضِّدِّ جَرِّدْ وَالمُمَيّزَ اجْرُر
…
جَمْعًا بلَفْظ قلَّة في الأكْثَر
قال في الفتح: وفيه استحباب التثليث في الغسل، قال النووي: ولا نعلم فيه خلافا إلا ما تفرد به الماوردي، فإنه قال: لا يستحب التكرار في الغسل.
قال الحافظ: وكذا قال الشيخ أبو علي السنجي في شرح الفروع، وكذا قال القرطبي، وحمل التثليث في هذه الرواية على رواية القاسم
عن عائشة -يعني حديثها: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب فأخذ بكفه فبدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر، فقال بهما على وسط رأسه" رواه البخاري- فإن مقتضاها أن كل غرفة كان في جهة من جهات الرأس. اهـ فتح ج 1 ص 430
قال الجامع عفا الله عنه: الأولى ما قاله الأولون، ويحمل حديث القاسم على بعض الأحيان، والله أعلم.
(ثم يفيض الماء) من الإفاضة رباعيًا أي يُسيل الماء. واستدل به من لم يشترط الدلك، وهو ظاهر، وقال المازري: لا حجة فيه؛ لأن أفاض بمعنى غسل، والخلاف في الغسل قائم قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه.
والله أعلم.
وقال القاضي عياض: لم يأت في شيء من الروايات في وضوء الغسل ذكر التكرار. ورُدَّ عليه بما تقدم في رواية أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها في 155/ 246، ورواها البيهقي، أيضا، في صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه ذكر المضمضة ثلاثا، والاستنشاق ثلاثا، وغسل الوجه ثلاثا، ويديه ثلاثًا
(1)
، والإفاضة على رأسه ثلاثًا. قاله الحافظ في الفتح ج 1 ص 430 (على جسده كله) هذا التأكيد يدل على أنه عمم جميع جسده بالغسل بعدما تقدم من الوضوء وغيره. قال الحافظ: وهو يؤيد الاحتمال الأول: أن الوضوء سنة مستقلة قبل الغسل، وعلى هذا فينوي المغتسل الوضوء إن كان محدثا. وإلا فسنة الغسل.
قال الجامع عفا الله عنه: الأولى كون "كله" تأكيدًا لجسده على حذف مضاف
(2)
، بدليل الرواية الأخرى، أي سائر جسده، فيكون مؤكدًا
(1)
قوله ويديه ثلاثا: غسل اليدين ليس في النسخة المصرية، بل في النسخة الهندية، ونصها "ويغسل وجهه ويديه ثلاثا"، وعند البيهقي "وغسل وجهه ثلاثا وذراعيه ثلاثا" ج 1 ص 174.
(2)
لا يقال: إن الحذف ينافي التأكيد، لأن المحذوف لدليل في قوة المذكور.
لسائر، لئلا يتوهم أن المراد به معظم سائر الجسد، فبهذا تتفق الروايات على معنى واحد، ولا حاجة إلى أن نقول: إنه أعاد الغسل على مواضع الوضوء. والله أعلم.
قال الحافظ: واستدل بهذا الحديث على استحباب إكمال الوضوء قبل الغسل، ولا يؤخر غسل الرجلين إلى فراغه، وهو ظاهر من قولها:"كما يتوضأ للصلاة"، وهذا هو المحفوظ في حديث عائشة من هذا الوجه، لكن رواه مسلم من رواية أبي معاوية، عن هشام، فقال في آخره "ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه"، وهذه الزيادة تفرد بها أبو معاوية، دون أصحاب هشام، قال البيهقي: هي غريبة صحيحة، قال الحافظ: لكن في رواية أبي معاوية، عن هشام، مقال، نعم له شاهد من رواية أبي سلمة، عن عائشة، أخرجه أبو داود الطيالسي، فذكر حديث الغسل كما تقدم عند النسائي، وزاد في آخره "فإذا فرغ غسل رجليه"، فإما أن تحمل الروايات عن عائشة على أن المراد بقولها:"وضوءه للصلاة" أي أكثره، وهو ما سوى الرجلين، أو يحمل على ظاهره، ويستدل برواية أبى معاوية على جواز تفريق الوضوء، ويحتمل أن يكون قوله في رواية أبي معاوية:"ثم غسل رجليه"، أي أعاد غسلهما لاستيعاب الغسل بعد أن غسلهما في الوضوء، فيوافق قوله في حديث الباب:"ثم يفيض على جلده كله". اهـ فتح ج 1 ص 430 - 431.
قال الجامع عفا الله عنه: أولى هذه الاحتمالات هو الاحتمال الأول، لأن غيره فيه نوع تكلف، فيكون المراد أكثر وضوء الصلاة. فتكون روايات عائشة رضي الله عنها موافقة لروايات ميمونة رضي الله عنها. والله أعلم. وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث عائشة رضي الله عنها هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكره عند المصنف: هذا الحديث بهذا السند والمتن أخرجه هنا 156/ 247 وفي الكبرى 140/ 246 عن قتيبة، عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عنها، ويأتي في الباب التالي بنحوه.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (خ) عن عبد الله بن يوسف، عن مالك بسند المصنف، ومتنه في الطهارة-80/ 1، وأخرجه مسلم من حديث أبي معاوية، عن هشام، فذكره، وفي آخره "ثم غسل رجليه"، ثم ذكره عن جماعة عن هشام، وبَيَّن أنه ليس في حديثهم غسل الرجلين.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها أن قولها "كان" يدل على الملازمة والتكرار، قال ابن دقيق العيد رحمه الله: يقال: كان يفعل كذا، بمعنى أنه تكرر منه فعله، وكان عادته، كما يقال: كان يقري الضيف، "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة"، وقد تستعمل "كان" لإفادة مجرد الفعل، ووقوع الفعل، دون الدلالة على التكرار، والأول أكثر في الاستعمال، وعليه ينبغي حمل الحديث.
ومنها أن قولها: "كان إذا اغتسل" يحتمل أن يكون من باب التعبير بالفعل عن إرداة الفعل، كما في قوله تعالى {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] ويحتمل أن يكون قولها: "اغتسل" بمعنى شرع في الغسل، فإنه يقال: فعل إذا شرع، وفعل إذا فرغ، فإذا حملنا "اغتسل" على شرع صح ذلك؛ لأنه يمكن أن يكون
الشروع وقتا للبدأة بغسل اليدين، وهذا بخلاف {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} فإنه لا يمكن أن يكون وقت الشروع في القراءة وقتًا للاستعاذة. قاله ابن دقيق العيد. في إحكامه ج 1 ص 368.
ومنها: مشروعية غسل اليدين قبل الشروع في الوضوء والغسل، وقد تقدم حكمه في 1/ 1.
ومنها: تقديم الوضوء على الغسل، وسيأتي تحقيق الخلاف فيه في المسألة التالية.
ومنها: أن ظاهر قولها "كما يتوضأ للصلاة" يفيد أنه لا يؤخر غسل الرجلين، وقد تقدم الكلام عليه قريبا، وهو الأصح من قولي الشافعي، كما قال العيني، والقول الثاني أنه يؤخِّر عملا بظاهر حديث ميمونة رضي الله عنها، وله قول ثالث إن كان الموضع نظيفًا فلا يؤخر، وإن كان وسخًا، أو الماء قليلا أخّر جمعَا بين الأحاديث، وعند الحنفية إن كان في مُستَنْقَع الماء يؤخر وإلا فلا، وهو مذهب مالك.
ومنها: التخليل في شعر الرأس.
ومنها: صب الماء على الرأس ثلاث مرات.
المسألة الخامسة: اختلف العلماء في حكم الوضوء قبل الغسل:
فذهب الجمهور إلى سنيته، واحتجوا بأن الله تعالى أمر بالغسل ولم يذكر الوضوء، وبما رواه أحمد عن جبير بن مطعم قال: تذاكرنا الغسل من الجنابة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أما أنا فيكفيني أن أصب على رأسي الماء ثلاثا، ثم أفيض بعد ذلك على سائر جسدي" حديث صحيح كما قال النووي في المجموع وسيأتي للمصنف مختصرا في 158/ 250. وقوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة "إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء ثم تفيضين على جسدك"، وقد تقدم في 150/ 241، وقوله صلى الله عليه وسلم للذي
تأخر عن الصلاة معه في السفر في قضية المزادتين، واعتذر بأنه جنب فأعطاه إناء، وقال:"اذهب فأفرغه عليك" وحديث أبي ذر رضي الله عنه: "فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك" وكل هذه الأحاديث صحيحة معروفة، وغير ذلك من الأحاديث، وأما وضوء النبي صلى الله عليه وسلم في غسله فمحمول على الاستحباب، جمعا بين الأدلة. قاله النووي في المجموع ج 2 ص 186.
وذهب جماعة منهم أبو ثور، وداود، وغيرهما إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء للمحدث، قال الشوكاني: وهو قول أكثر العترة، قال ولا شك في مشروعية الوضوء مقدّما على الغسل كما ثبتت بذلك الأحاديث "الصحيحة" وأما الوجوب فلم يدل عليه دليل، والفعل المجرد لا ينتهض للوجوب. اهـ.
قال الجامع عفا الله عنه: قول الجمهور هو الراجح، للأدلة التي مرت في قول النووي، وهي الصارفة عن كون فعله صلى الله عليه وسلم بيانًا لمجمل آية الغسل، ولولا هذه الأدلة لقلنا بقول من قال بالوجوب حيث إن فعله صدر بيانًا للمجمل. فتأمل. والله أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
157 - بَابُ تَخْليِلِ الجُنُبِ رَأْسَهُ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية تخليل الجنب شعر رأسه ليصل الماء داخله.
والتخليل: إدخال الأصابع فيما بين أجزاء الشعر.
وأراد المصنف بهذه الترجمة إلى أن المراد في الحديث السابق في قوله: "ثم يدخل أصابعه الماء فيخلل بها أصول شعره": شعر الرأس لا جميع الشعر النابت على الجسد بدليل قولها هنا: "ويخلل رأسه حتى يصل إلى شعره". وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
248 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى
(1)
، قَالَ: حَدَّثَنَا
(2)
هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ رضي الله عنها عَنْ غُسْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْجَنَابَةِ: أَنَّهُ كَانَ يَغْسِلُ يَدَيْهِ، وَيَتَوَضَّأُ، وَيُخَلِّلُ رَأْسَهُ حَتَّى يَصِلَ إِلَى شَعْرِهِ، ثُمَّ يُفْرِغُ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ.
رجال الإسناد: خمسة
كلهم تقدموا قريبا إلا اثنين:
1 -
(عمرو بن علي) الفلاس الصيرفي ثقة ثبت -10 - تقدم في 4/ 4.
2 -
(يحيى) بن سعيد القطان الإمام ثقة حجة -9 - تقدم في 4/ 4.
(1)
و
(2)
وفي نسخة "أنبأنا".
وكلاهما بصريان، وعمرو بن علي ممن اتفق الستة بالرواية عنه من دون واسطة.
وشرح الحديث واضح مما تقدم، واستنبط منه المصنف أن المراد في تخليل الشعر حيث أطلق تخليل شعر الرأس، وهذا هو الظاهر، وعممه بعض العلماء، في جميع الشعر.
قال القاضي عياض رحمه الله: احتج به بعضهم على تخليل شعر اللحية في الغسل إما لعموم قوله: "أصول الشعر"، وإذا بالقياس على شعر الرأس. اهـ.
وقال العيني رحمه الله: وهو واجب عند أصحابنا هنا، وسنة في الوضوء، وعند الشافعية واجب في قول، وسنة في قول، وقيل: واجب في الرأس، وفي اللحية قولان للمالكية، فروى ابن القاسم عدم الوجوب، وروى أشهب الوجوبَ، ونقل ابن بطال في باب تخليل الشعر الإجماع على تخليل شعر الرأس، وقاسوا اللحية عليها. اهـ عمدة ج 3 ص 192.
وقولها: "حتى يصل إلى شعره" كلمة "حتى" بمعنى"كي"، أي ليصل الماء إلى شعره ويستوعبه. أفاده السندي رحمه الله. والله أعلم.
249 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُشَرِّبُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يَحْثِي عَلَيْهِ ثَلَاثًا.
رجال هذا الإسناد: خمسة
كلهم تقدموا قريبًا إلا اثنين:
1 -
(محمَّد بن عبد الله بن يزيد) المقرئ القرشي العدوي المكي ثقة -10 - تقدم في 11/ 11.
2 -
(سفيان) بن عيينة أبو محمَّد الكوفي ثم المكي ثقة ثبت حجة -8 - تقدم في 1/ 1.
ومن لطالف هذا السند أن محمدًا ممن انفرد به (س ق)، وسفيان ممن اتفقوا عليه. والله أعلم.
شرح الحديث
(عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشرب رأسه) من التشريب، أو الإشراب، أي يسقيه الماء، والمراد به ما سبق من التخليل.
كما قال السندي. واستنباط المصنف منه مشروعية التخليل واضح.
(ثم) بعد أن يشرب (يحثي) تقدم ضبطه، ومعناه (عليه) أي على رأسه (ثلاثا) فيه التثليث في غسل الرأس، وأنه يكون بعد أن يشربه ليصل الماء إليه بسهولة، والله أعلم.
وهذا الحديث، والذي قبله من أفراد المصنف كما أشار إليه المزي في التحفة. أخرجه هنا -157/ 249 - بهذا السند. والله تعالى أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
158 - بَابُ ذِكْرِ ماَ يَكْفِي الجُنُبَ مِنْ إفَاضَةِ اِلمَاءِ عَلَى رَأسِهِ
أي هذا باب ذ كر الحديث الدال على بيان القدر الكافي للجنب من إفاضة الماء على رأسه.
وموضع الاستدلال واضح من قوله: "فأفيض على رأسي ثلاث أكف".
وأراد المصنف بهذا أن هذا القدر الذي هو الثلاث كاف لأي مغتسل،
فلا ينبغي الزيادة عليه بسبب وسوسة أو غيرها، فإنه من التنطع والغلو، وليس المراد أن الثلاث متعين بحيث لا يكفي أقل منه؛ لأن الغسل الواجب هو التعميم، وإيصال الماء إلى جميع أجزاء البدن. والله أعلم.
250 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ، يُحَدِّثُ
(1)
عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: تَمَارَوْا فِي الْغُسْلِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: إِنِّي لأَغْسِلُ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا أَنَا فَأُفِيضُ عَلَى رَأْسِي ثَلَاثَ أَكُفٍّ".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفي البغلاني ثقة ثبت -10 - تقدم في 1/ 1.
2 -
(أبو الأحوص) سلام بن سُلَيم الحنفي الكوفي ثقة متقن -7 - تقدم في 79/ 96.
(1)
وفي نسخة بإسقاط "يحدث".
3 -
(أبو إسحاق) السبيعي عمرو بن عبد الله ثقة ثبت اختلط آخرا -3 - تقدم في 38/ 42.
4 -
(سليمان بن صُرَد) -بضم المهلمة وفتح الراء- بن الجون بن أبي الجون بن منقذ بن ربيعة بن أصرم بن حرام، الخزاعي أبو مطرف الكوفي، له صحبة، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بن كعب وعلي بن أبي طالب، والحسن بن علي، وجبير بن مطعم. وعنه أبو إسحاق السبيعي، ويحيى بن يعمر، وعدي بن ثابت، وعبد الله بن يسار الجهني، وأبو الضحى، وغيرهم.
قال ابن عبد البر: كان خيرًا فاضلا، وكان اسمه في الجاهلية يسارًا فسماه النبي صلى الله عليه وسلم سليمان، سكن الكوفة، وكان له سن عالية وشرف في قومه وشهد مع علي صفِّين، وكان فيمن كتب إلى الحسين يسأله القدوم إلى الكوفة، فلما قدمها ترك القتال معه، فلما قتل قدم سليمان هو والمسيب بن نجبة الفزاري وجميع من خذله، وقالوا: ما لنا توبة إلا أن نقتل أنفسنا في الطلب بدمه، فعسكروا بالنخيلة، وولَّوا سليمان أمرَهُم، ثم ساروا فالتقوا بعبيد الله بن زياد بموضع يقال له: عين الوردة فقتل سليمان، والمسيب، ومن معهم في ربيع الآخر سنة -65 - ، وقيل: رماه يزيد بن
الحصين بن نمير بسهم فقتله، وحمل رأسه إلى مروان، وكان سليمان يوم قتل ابن -93 - سنة، وذكر ابن حبان أن قتله كان سنة -67 - قال الحافظ رحمه الله: والأول أصح وأكثر. أخرج له الجماعة اهـ "تت".
5 -
(جُبَيْر بن مُطعم)
(1)
بن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي النوفلي، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في فداء أسارى بدر، ثم أسلم بعد ذلك عام خيبر، وقيل: يوم الفتح. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعنه سليمان ورد وأبو سرْوَعَة، وابناه محمَّد، ونافع، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم بن
(1)
جبير بصيغة التصغير، ومطعم بصيغة اسم الفاعل.
عبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن باباه، وغيرهم. قال الزبير: كان يؤخذ عنه النسب، وكان أخذ النسب عن أبي بكر، وسَلَّحَ عمر بن الخطاب جبيرًا سيف النعمان بن المنذر. وقال ابن البرقي، وخليفة: توفي سنة 59 بالمدينة. وقال المدائني: سنة 58. قال الحافظ: حكى ابن عبد البر أنه أول من لبس الطيلسان بالمدينة، وقال العسكري: كان جبير بن مطعم أحد من يتحاكم إليه، وقد تحاكم إليه عثمان، وطلحة في قضية، ومات سنة -56 - أخرج له الجماعة اهـ"تت". والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم أجلاء اتفق الأئمة بالرواية لهم، وأنهم كوفيون إلا قتيبة فبغلاني، وجبيرا فمدني، وفيه رواية صحابي، عن صحابي، وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة. والله أعلم.
شرح الحديث
(عن جبير بن مطعم) القرشي النوفلي رضي الله عنه، أنه (قال: تماروا) أي تنازعوا وتقدم معنى التماري في 144/ 230 (في الغسل) أي في كميته (فقال بعض القوم إني لأغسل كذا وكذا) والمراد غسل رأسه، لما في مسلم:"فقال بعض القوم أما أنا فأغسل رأسي كذا وكذا" والمراد بهذا الغسل غسل الجنابة لما عند مسلم أيضا في هذ الحديث عن طريق شعبة، عن أبي إسحاق، عن سليمان بن صرد، عن جبير بن مطعم، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر عنده الغسل عن الجنابة .. الحديث. (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنا فأفيض) بضم الهمزة من الإفاضة، أي فأصبّ (على رأسي ثلاث أكف) جمع كف، وتجمع على كفوف، مثل فَلْس وأفلس وفلوس، وهي مؤنثة، وهي الراحة مع الأصابع، سميت بذلك لأنها تكف الأذى عن البدن. قاله في المصباح، وقد تقدم البحث عنها في 66/ 82. أي
ثلاث حفنات كل واحدة منهن بملء الكفين جميعًا، ويدل عليه ما رواه أحمد في مسنده:"فآخذ ملء كفي ثلاثًا، فأصبّ على رأسي"، أفاده العيني، ودل قوله:"ثلاث أكف" على أن المراد بكذا وكذا أكثر من ذلك، ودل أيضا على أنه صلى الله عليه وسلم لا يفيض أكثر من ثلاث.
(تنبيه)"أمَّا" في قوله: "أما أنا فأفيض" الخ حرف شرط، وتوكيد دائمًا، وتفصيل غالبًا. وهي بفتح الهمزة، وتشديد الميم، وقد تبدل ميمها الأولى ياء تخفيفا كقوله (من الطويل):
رَأتْ رَجُلًا أيْمَا إذَا الشَّمْسُ عَرَّضتْ
…
فَيَضْحَى وَأيْمَا بالعَشيِّ فَيَخْصَرُ
أما كونها حرف شرط فبدليل لزومها الفاء بعدها نحو {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ. .} [البقرة: 26].
وأماكونها للتوكيد، فقد بينه الزمخشري، فقال: فائدة "أما" في الكلام أن تعطيه فضل توكيد تقول: زيد ذاهب، فإذا قصدت توكيد ذلك، وأنه لا محالة ذاهب، وأنه بصدد الذهاب، وأنه منه عزيمة، قلت: أمَّا زيد فذاهب.
وأما كونها للتفصيل فهو غالب أحوالها كما في الآية السابقة، وكما في قوله تعالى:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ .. وَأَمَّا الْغُلَامُ .. وَأَمَّا الْجِدَارُ ..} [الكهف: 79 - 82].
وقد يترك تكرارها استغناء بذكر أحد القسمين عن الآخر، أو بكلام يذكر بعدها في موضع ذلك القسم، والأول نحو {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ} [النساء: 174، 175] أي وأما الذين كفروا بالله فلهم كذا وكذا. والثاني: نحو {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغ
فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] أي وأما غيرهم فيؤمنون به ويكلون معناه إلى ربهم، ويدل على ذلك {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} أي كل من المتشابه، والمحكم من عند الله، والإيمان بهما واجب، وكأنه قيل: وأما الراسخون في العلم فيقولون .. الخ.
وقد تأتي "أما" لغير تفصيل أصلا، نحو أما زيد فمنطلق. انظر تفصيل الكلام في مغني اللبيب ج 1 ص 53 - 54 فإنه حَبَّر المسألة أحسن تحبير، وقررها أجمل تقرير، على عادته المستمرة. فلله دره عالمًا رحمه الله.
إذا تقرر هذا، فأما في هذا الحديث يحتمل أن تكون للتفصيل حذف قسيمها لدلالة الكلام عليه، فكأنه قال: أما أنا فأفيض الخ، وأما أنتم فتعملون خلافه، أو نحو ذلك، فقول بعض القوم: إني لأغسل كذا وكذا يدل عليه، ويحتمل أن تكون لمجرد التوكيد، فلا تفصيل فيها، ولا تحتاج إلى تكرارها، كما تقدم في أما زيد فمنطلق. والحاصل أنها محتملة للوجهين فلا معنى لاعتراض العيني علي الكرماني، والحافظ في هذا التقدير، ولا سيما والكرماني صرح بأن هذا القدير ليس لازما، فقال ما نصه:"أما" للتفصيل فأين قسيمه؟ قلت: اقتضاء القسيم غير واجب، ولئن سلمنا فهو محذوف يدل عليه السياق إلى آخر كلامه. فكلامه موافق لما ذكرناه من القاعدة فلا يعترض عليه. فتأمل. والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكره عند المصنف: أخرجه المصنف هنا 158/ 250 وفي الكبرى 140/ 247 عن قتيبة، عن أبي الأحوص، عن
أبي إسحاق، عن سليمان بن صرد، عنه، وفي كتاب الغسل والتيمم 20/ 425 عن عبيد الله بن سعيد، عن يحيى، عن شعبة، عن أبي إسحاق، وعن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن شعبة. به.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه: أخرجه (خ م د ق) فأخرجه (خ) في الطهارة 83/ 1 عن أبي نعيم، عن زهير، و (م) فيه-45/ 1 عن أبي بكر ابن أبي شيبة، ويحيى بن يحيى، وقتيبة، ثلاثتهم عن أبي الأحوص، به. وفي 45/ 2 عن أبي موسى
(1)
وبندار، كلاهما عن غندر، عن شعبة، ثلاثتهم عن أبي إسحاق به. و (د) فيه عن النفيلي عن زهير به. و (ق) فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة به. أفاده في تحفة. ج 2 ص 410.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: جواز التنازع عند النبي صلى الله عليه وسلم من غير رفع صوت، وأما ما روى ابن عباس من قوله صلى الله عليه وسلم:"ولا ينبغي عندي التنازع" فمحمول على التنازع الذي يؤدي إلى الخصام ورفع الصوت؛ لأن سياق الحديث يدل على هذا، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعه، قال:"ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده"، قال عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا، وكثر اللغط، فقال:"قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع .. " الحديث. فهذا صريح في كون ذلك التنازع أدى إلى رفع الصوت، والإخلال بالتعظيم الذي أوجبه الله تعالى بقوله:{لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2].
ومنها: كون الإفاضة على الرأس ثلاث غرفات وهو القدر الكافي فيه، فلا ينبغي تجاوزه، وهذا محل الترجمة للمصنف.
(1)
لم نجد أبا موسي في المتون المطبوعة، بل هو بندار فقط. اهـ من هامش التحفة.
ومنها: التلطف في التعليم حيث إنه لم يقل لهم: هذا حرام، أو نحو ذلك، بل أرشدهم إلى ما هو عليه من الهدي ليهتدوا به صلى الله عليه وسلم ما أكرمه من معلم، وما أحسنه من مرشد.
وقد يستفاد منه أن الوضوء غير واجب حيث لم يذكر هنا، لكن يجاب عنه بأنه إنما ذكر محل النزاع، حيث قال بعضهم: أغسل رأسي كذا وكذا مرة. وقد قدمنا عدم وجوب الوضوء بدليله في 157/ 247 فارجع إليه تزدد علمًا. والله تعالى أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
159 - بَابُ ذكْرِ العَمَلِ فِي الغَسْلِ مِنَ الحَيْضِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على العمل الذي تعمله المغتسلة في حالة تطهرها من حيضها.
وموضع الاستدلال قوله: "خذي فرصة من مسك فتطهري بها". لكن ذكر هذا الباب بين هذه الأبواب غير مُتَّجه. فتأمل.
251 -
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ -وَهُوَ ابْنُ صَفِيَّةَ-، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ غُسْلِهَا مِنَ الْمَحِيضِ، فَأَخْبَرَهَا كَيْفَ تَغْتَسِلُ، ثُمَّ قَالَ:"خُذِي فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ فَتَطَهَّرِي بِهَا". قَالَتْ: وَكَيْفَ أَتَطَهَّرُ بِهَا؟ قَالَتْ: فَاسْتَتَرَ كَذَا، ثُمَّ قَالَ:"سُبْحَانَ اللهِ تَطَهَّرِي بِهَا". قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَجَذَبْتُ الْمَرْأَةَ، وَقُلْتُ: تَتَّبِعِينَ بِهَا أَثَرَ الدَّمِ.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(عبد الله بن محمَّد بن عبد الرحمن) بن المسور بن مخرمة الزهري
البصري صدوق من صغار العاشرة مات سنة -256 - (م 4) وتقدم في 42/ 48.
2 -
(سفيان) بن عيينة الهلالي الكوفي ثم المكي ثقة ثبت حجة -8 - تقدم في 1/ 1.
3 -
(منصور بن صفية) هو ابن عبد الرحمن بن طلحة بن الحارث بن طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي القرشي العبدري الحجبي المكي. روى عن أمه صفية بنت شيبة، ومسافع ابن شيبة الحجبي، وسعيد بن جبير، ومحمد بن عباد بن جعفر، وأبي سعيد مولى ابن عباس. وروى عنه أخوه محمَّد، وزائدة، وابن جريج، ووهيب، وزهير بن معاوية، وزهير بن محمَّد، ومعروف بن مشكان، وداود بن عبد الرحمن العطار، وفضيل بن سليمان، والسفيانان، وآخرون.
قال الأثرم: سئل عنه أحمد؟ فأحسن الثناء عليه. وقال ابن عيينة: يُثنى عليه. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال ابن سعد: كان ثقة، قليل الحديث. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات: وقال الحميدي، عن ابن عيينة: كان يبكي في وقت كل صلاة. وقال هشام بن الكلبي: رأيته في زمن خالد بن عبد الله يحجب البيت، وهو شيخ كبير. قال: مات سنة -7 - أو -138 - ، وقال ابن حبان: كان ثبتًا ثقة، وقال ابن حزم: ليس بالقوي. أخرج له الجماعة إلا الترمذي. اهـ "تت".
قال الجامع: وقول ابن حزم هذا مما لا يلتفت إليه، لاتفاق الأئمة على توثيقه، والثناء عليه.
4 -
(صفية) بنت شيبة بن عثمان بن طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار العبدرية. لها رؤية، وقال الدراقطني: لا تصح لها رؤية. روت
عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أم ولد لشيبة بن عثمان، وأم عثمان بنت أبي سفيان ابن حرب، وعائشة، وأم حبيبة، وأم سلمة أمهات المؤمنين، وأسماء بنت أبي بكر الصديق، وحبيبة بنت أبي نجران، وغيرهم. وروى عنها ابنها منصور بن عبد الرحمن الحجبي، وابن أخيها عبد الحميد بن جبير بن شيبة، وابن أخيها الآخر مسافع بن عبد الله بن شيبة، وابن ابن أخيها الآخر مصعب بن شيبة بن جبير بن شيبة، وسبطها محمَّد بن عمران الحجبي، وإبراهيم بن مهاجر، والحسن بن مسلم، وقتادة، والمغيرة بن حكيم، وعبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، وأم صالح بنت صالح، وغيرهم.
قال ابن معين: ولم يسمع ابن جريج منها، وقد أدركها، وذكرها ابن حبان في ثقات التابعين. قال الحافظ: ذكر المزي في الأطراف أن البخاري قال في صحيحه: قال أبان بن صالح، عن الحسن بن مسلم، عن صفية بنت شيبة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، ففي هذا رد على ابن حبان، وقد أوضحت حال هذا الحديث فيما كتبته على الأطراف
(1)
. أخرج لها الجماعة. اهـ "تت" ج 12 ص 430.
5 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وكلهم اتفقوا عليهم إلا شيخه، فلم يخرج له (خ) ومنصور فلم يخرج له (ت) وفيه رواية الابن عن أمه، ورواية صحابية عن صحابية.
(1)
قال المزي: لو صح هذا الحديث لكان صريحا سماعها من النبي صلى الله عليه وسلم، لكن في إسناده أبان بن صالح، وهو ضعيف. اهـ تحفة الأشراف جـ 11 ص 343.
قال الجامع: وفي تضعيفه أبان نظر، فقد وثقه ابن معين، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والعجلي، ويعقوب بن شيبة، وما تكلم فيه غير ابن عبد البر، وابن حزم، ورد عليهما في تهذيب التهذيب. انظر ج 1 ص 94 - 95.
(تنبيه) قال الحافظ رحمه الله: نسب منصور إلى أمه صفية لشهرتها،
واسم أبيه عبد الرحمن بن طلحة بن الحارث بن طلحة بن أبي طلحة العبدري، وهو من وهي زوجته صفية، وشيبةُ له صحبة، ولها أيضا، وقتل الحارث بن طلحة بأحد، ولعبد الرحمن رؤية، ووقع التصريح بالسماع في جميع السند عند الحميدي في مسنده. اهـ فتح ج 1 ص 494 بتصرف.
شرح الحديث
(عن عائشة رضي الله عنها: أن امرأة) قال الحافظ: زاد في رواية وهيب "من الأنصار" وسماها مسلم في رواية أبي الأحوص عن إبراهيم ابن مهاجر أسماء بنت شَكَل، بالشين المعجمة والكاف المفتوحتين، ثم اللام، ولم يسم أباها في رواية غندر، عن شعبة، عن إبراهيم. وروى الخطيب في المبهمات من طريق يحيى بن سعيد، عن شعبة هذا الحديث، فقال: أسماء بنت يزيد بن السكن، بالمهملة والنون، الأنصارية التي يقال لها: خطيبة النساء، وتبعه ابن الجوزي في التلقيح، والدمياطي، وزاد أن الذي في مسلم تصحيف، لأنه ليس في الأنصار من يقال له شكل، وهو رد للرواية الثابتة بغير دليل- وقد يحتمل أن يكون شكل لقبًا، لا اسمًا، والمشهور في المسانيد والجوامع في هذا الحديث أسماء بنت شكل كما في مسلم، أو أسماء بغير نسب كما في أبي داود، وكذا في مستخرج أبي نعيم من الطريق التي أخرجه منها الخطيب، وحكى النووي في شرح مسلم الوجهين بغير ترجيح. اهـ فتح ج 1 ص 494 - 495.
(سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها من المحيض) مصدر ميمي أي من الحيض وعند أبي داود، فقالت: كيف تغتسل إحدانا إذا طهرت من المحيض؟ (فأخبرها) صلى الله عليه وسلم (كيف تغتسل) أي بيّن لها كيفية اغتسالها، وقد بين ذلك
في رواية مسلم فقال: وتأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها، فتدلكه دلكًا شديدًا، حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فرصة .. " الحديث. ولأبي داود قال:"تأخذ سدرها وماءها، فتوضأ، ثم تغسل رأسها، وتدلكه حتى يبلغ الماء أصول شعرها، ثم تفيض على جسدها، ثم تأخذ فرصتها .. " الحديث.
(ثم) بعد بيان كيفية الغسل (قال) لها (خذي فرصة) بكسر الفاء، وحكى ابن سيده تثليثها، وبإسكان الراء وإهمال الصاد: قطعةٌ من صوف، أو قطن، أو جلدة عليها صوف حكاه أبو عبيد وغيره اهـ. فتح. وفي اللسان: الفِرصَةُ -بالكسر- والفَرصة -بالفتح- والفُرصة -بالضم- الأخيرتان عن كراع: قطعة من الصوف، أو القطن. وقيل: هي قطعة قطن، أو خرقة تمسح بها المرأة من الحيض. وقال ابن الأثير: الفرصة بكسر الفاء: قطعة من صوف أو قطن، أو خرقة، يقال: فَرَصْتُ الشيء إذا قطعته. اهـ بتصرف. وقال في الفتح: وحكى أبو داود أن في رواية أبي الأحوص "قرصة" بفتح القاف، ووجهه المنذري فقال: يعني شيئًا يسيرًا مثل القرصة بطرف الأصبعين. انتهى. ووهم من عزا هذه
الرواية للبخاري، وقال ابن قتيبة: هي قرضة بفتح القاف وبالضاد المعجمة. اهـ، أي قطعة. من القرض وهو القصع. اهـ لسان (من مسك) بكسر الميم وهو المشهور، والمراد الطيب المعلوم، أي مطيبة من مسك فعلى هذا فمتعلق الجار خاص بقرينة المقام، وأنكره بعضهم بأنهم ما كانوا أهل وسع يجدون المسك، فالوجه فتح الميم، أي كائنة من جلد عليه صوف، فمتعلق الجار عام، وما جاء في بعض الروايات "فرصة ممسكة" يحمل على الأول على أنها مطيبة بمسك، وعلى الثاني على أنها خَلَقٌ قد
مسكت كثيرًا لا جديد، لكن الأحاديث تفيد المعنى الأول حتى قد جاء في
الإحداد "ولا تمس طيبًا إلا إذا طهرت نُبْذَة من قُسْط، أو أظفار" أفاده السندي. وقال ابن منظور رحمه الله: قال الليث: المسك معروف إلا أنه ليس بعربي محض، وقال ابن سيده: المسك ضرب من الطيب مذكر، وقد أنثه بعضهم على أنه جمع، واحدته مسكة، وقال ابن الأعرابي: وأصله مسك محركة، وقال الجوهري: وأما قول جرَان العَوْد (من الطويل):
لقَدْ عَاجَلَتْني بالسِّبَابِ وَثَوْبُهَا
…
جَديدٌ ومَنْ أرْدَانهَا المسْكُ تَنْفَحُ
فإنما أنثه لأنه ذهب به إلى ريح المسك. وثوب مُمَسَّك: مصبوغ به اهـ لسان.
وفي المصباح وقال السِّجسْتَاني: من أنث المسك جعله جمعًا، فيكون تأنيثه بمنزلة تأنيث الذَّهَب، والعَسَل، قال: وواحدته مسكة، مثل ذَهَب وذَهَبَة، قال ابن السكيت: وأصله مسك بكسرتين، قال رؤبة (من الرجز):
إنْ تُشْفَ نَفْسي منْ ذُبَابَات الحَسَكْ
…
أَحْرِ بِهَا أطْيَبَ منْ ريح المِسِكْ
وهكذا رواه ثعلب عن ابن الأعرابي، وقال ابن الأنباري: قال السجستاني: أصله السكون، والكسر في البيت اضطرار لإقامة الوزن، وكان الأصمعي ينشد البيت بفتح السين، ويقول: هو جمع مِسْكة،
مثل خرقة وخرق، وقربة وقرب، ويؤيد قول السجستاني أنه لا يوجد فعل بكسرتين إلا إبل، وما ذكر معه، فتكون الكسرة لإقامة الوزن، كما قال (من الرجز):
عَلَّمَنَا إخْوَانُنَا بَنُو عِجلْ
…
شُرْبَ النَّبيذ وَاعتقَالًا بالرِّجلْ
والأصل هنا السكون باتفاق، أو تكون الكسرة حركلة الكاف نقلت إلى السين لأجل الوقف، وذلك سائغ. اهـ المصباح. وقال الجوهري:
المسك من الطيب فارسي معرب، وكانت العرب تسمية المَشْمُوم، وقال ابن منظور: قال أبو العباس في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الحيض: "خذي فرصة فتمسكي بها"، وفي رواية:"خذي فرصة ممسكة فتطيبي بها" الفرصة: القطعة، يريد قطعة من المسك، وفي رواية أخرى "خذي فرصة من مسك فتطيبي بها" قال بعضهم: تمسكي: تطيبي من المسك، وقالت طائفة: هو من التمسك باليد، وقيل: مُمَسَّكَة أي مُتَحَمَّلَةً، يعني تحتملينها معك، وقال الزمخشري: الممسكة: الخَلَقُ التي أمْسكَت كثيرًا، قال: كأنه أراد أن لا يستعمل الجديد من القطن والصوف، للارتفاق به في الغَزْل وغيره، ولأن الخَلَقَ أصلح لذلك، وأوفق.
قال ابن الأثير رحمه الله: وهذه الأقوال أكثرها متكلَّفة، والذي عليه الفقهاء أن الحائض عند الاغتسال من الحيض يستحب لها أن تأخذ شيئًا يسيرًا من المسك تتطيب به، أو فرصة مطيبة من المسك. اهـ لسان.
وقال الحافظ: قال ابن قتيبة: "من مَسْك" بفتح الميم، والمراد قطعة جلد، وهي رواية من قاله بكسر الميم، واحتج بأنهم كانوا في ضيق يمتنع معه أن يمتهنوا المسك مع غلاء ثمنه، وتبعه ابن بطال. وفي المشارق أن أكثر الرويات بفتح الميم.، ورجح النووي الكسر، وقال: إن الرواية الأخرى، وهي قوله:"فرصة ممسكة" تدل عليه، وفيه نظر، لأن الخطابي قال: يحتمل أن يكون المراد بقوله: "ممسكة" أي مأخوذة باليد، يقال: أمسكته ومسكته. لكن يبقى الكلام ظاهر الركاكة، لأنه يصير هكذا: خذي قطعة مأخوذة.
قال الجامع عفا الله عنه: قد ظهر بهذا أن تعقب الحافظ على النووي بكلام الخطابي مما لا معنى له، فالصواب ما قاله النووي رحمه الله تعالى. والله أعلم.
قال الحافظ: ويقوي رواية الكسر، وأن المراد التطيب ما في رواية
عبد الرزاق حيث وقع عنده "من ذَريرَة"، وما استبعده ابن قتيبة من امتهان المسك ليس ببعيد، لما عرف من شأن أهل الحجاز من كثرة استعمال الطيب، وقد يكون المأمور به من يقدر عليه.
قال الجامع عفا الله عنه:
فظهر بهذا أن الصواب ما رجحه النووي أيضًا، وأن المراد بالمسك هو المسك المعروف. والله أعلم. قال النووي: والمقصود باستعمال الطيب دفع الرائحة الكريهة على الصحيح، وقيل، لكونه أسرع إلى الحبل، حكاه الماوردي، قال: فعلى الأول إن فقدت المسك استعملت ما يخلُفه في طيب الريح، وعلى الثاني ما يقوم مقامه في إسراع العُلُوق، وضعف النووي الثاني، وقال: لو كان صحيحا لاختصت به المزوجة، قال: وإطلاق الأحاديث يرده، والصواب أن ذلك مستحب لكل مغتسلة من حيض أو نفاس، ويكره تركه للقادرة، فإن لم تجد مسكًا فطيبًا، فإن لم تجد فمزيلًا، كالطين، وإلا فالماء كاف. اهـ فتح ج 1 ص 495.
(فتطهري بها) أي تنظفي بتلك الفرصة الممسكة، وفي الرواية الآتية 21/ 427 "فتوضئي" والمعنى واحد، والمراد تنظيف المحل من أثر الرائحة الكريهة، فتمسح محل الدم بها. ولما قال لها تطهري ظنت أن المراد به التطهر الشرعي، فاستغربت ذلك واستفهمت و (قالت: كيف أتطهر بها) "كيف" في محل نصب حال، وجملة "أتطهر" مقول القول، ولا يجوز نصب "كيف" بـ"قال" لأن اسم الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها، أي قالمت: على أي حالة أتطهر بتلك الفرصة (فاستتركذا) أي حياء من أن يواجهها بذكر محل الدم صريحًا؛ لأنه كان أشد حياء من العذراء في خدرها، وقولها:"كذا" مفعول مطلق لـ "استتر" أي استتار كائنا مثل هذا
الاستتار، ولعلها أرادت صفة مخصوصة للاستتار (ثم قال: سبحان الله) تعجبًا من عدم فهمها لكلامه، قال العيني:"سبحان" في مثل هذا الموضع يراد بها التعجب، ومعنى التعجب هنا كيف يخفى مثل هذا الظاهر الذي لا يحتاج الإنسان في فهمه إلى فكر. اهـ (قالت عائشة رضي الله عنها: فجذبت المرأة) من باب ضرب، مددتها إليَّ، وفي الرواية الآتية 21/ 427. قالت:"ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبح وأعرض عنها، ففطنت عائشة لما يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فأخذتها، وجذبتها إليَّ، فأخبرتها بما يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند الإسماعيلي: "فلما رأيته يستحي علمتها". وزاد الدارمي: "وهو يسمع، ولا ينكر" (وقلت: تتبعين) مضارع اتَّبَعْت بوزن افتعَلْت، وهو إخبار، بمعنى الأمر، وعند البخاري "تتبعي" بصيغة الأمر وهي واضحة.
(بها) أي بتلك الفرصة المسكة (أثر الدم) مفعول "تتبعين"، وأثرُ الشيء بفتحتين: بنيته، أي ما بقي من الدم، قال النووي: المراد به عند العلماء: الفرج، وقال المحاملي: يستحب لها أن تطيب كل موضع
أصابه الدم من بدنها، قال: ولم أره لغيره، وظاهر الحديث حجة له، قال الحافظ: ويصرح به رواية الإسماعيلي: "تتبعي بها مواضع الدم". اهـ فتح ج 1 ص 496.
قال الجامع عفا الله عنه: قول المحاملي حسن جدّا. والله أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: هذا الحديث متفق عليه.
المسألة الئاثية: في بيان مواضعه عند المصنف:
ذكره هنا -159/ 251 - وفي الكبرى -141/ 248 - عن عبد الله بن محمَّد بن عبد الرحمن بن المسور الزهري، عن سفيان بن عيينة، وفي
21/ 427 عن الحسن بن محمَّد، عن عفان، عن وهيب، كلاهما عن منصور بن عبد الرحمن، عن أمه صفية بنت شيبة، عن عائشة رضي الله عنها.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (خ) في الطهارة عن مسلم بن إبراهيم عن وهيب، وفي الاعتصام عن محمَّد بن عقبة، عن فضيل بن سليمان، وفيهما جميعا عن يحيى، عن سفيان بن عيينة، ثلاثتهم عن منصور بن عبد الرحمن، به. وأخرجه (م) في الطهارة، عن عمرو الناقد وابن أبي عمر، كلاهما عن سفيان به، وعن أحمد بن سعيد الدارمي، عن حَبَّان بن هلال، عن وهيب به. وأخرجه عن محمَّد بن المثنى، وابن بشار، كلاهما عن غندر، وعن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، كلاهما عن شعبة، وعن يحيى بن يحيى، وأبي بكر بن أبي شيبة، كلاهما عن أبي الأحوص، كلاهما عن إبراهيم بن المهاجر، عن صفية بنت شيبة، عنها. وأخرجه (د) في الطهارة عن عبيد الله بن معاذ، به، وعن عثمان بن أبي
شيبة عن أبي الأحوص به. وعن مسدد، عن أبي عوانة، عن إبراهيم بن مهاجر به. وأخرجه (ق) فيه عن محمَّد بن بشار، به.
المسألة الرابعة في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو العمل الذي تعمله المرأة في غسلها من الحيض، وقد بينه بقوله:"خذي فرصة" الخ.
ومنها: التسبيح عند التعجب، ومعناه هنا: كيف يخفى هذا الظاهر الذي لا يحتاج في فهمه إلى كثير من التفكير.
ومنها: استحباب الكنايات فيما يتعلق بالعورات.
ومنها: سؤال المرأة العالمَ عن أحوالها التي يحتشم منها، ولهذا كانت عائشة تقول: "نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في
الدين" كما أخرجه مسلم في بعض طرق هذا الحديث، وذكره البخاري معلقًا.
ومنها: الاكتفاء بالتعريض والإشارة في الأمور المُسْتَهْجَنَة، وتكرير الجواب لإفهام السائل حيث وقع في الرواية الآتية أنه أعاد عليها "توضئي بها"، وإنما كرره مع كونها لم تفهمه أولا؛ لأن الجواب به يؤخذ من إعراضه بوجهه عند قوله:"تطهري" أي في المحل الذي يستحيا من مواجهة المرأة بالتصريح به، فاكتفى بلسان الحال عن لسان المقال، وفهمت عائشة رضي الله عنها ذلك عنه فتولت تعليمها تخفيفًا عليه، وقد بوب عليه البخاري في كتاب الاعتصام بنوله:"الأحكام التي تعرف بالدلائل".
ومنها: تفسير كلام العالم بحضرته لمن خفي عليه إذا عرف أن ذلك يعجبه.
ومنها: أن فيه الأخذ عن المفضول بحضرة الفاضل.
ومنها: صحة العرض على المحدِّث إذا أقره، ولو لم يقل عقبه: نعم، وأنه لا يشترط في صحة التحمل فهم السامع لجميع ما يسمعه.
ومنها: الرفق بالمتعلم وإقامة العذر لمن لم يفهم.
ومنها: أن المرأ مطلوب بستر عيوبه، وإن كانت مما جبل عليها من جهة أمر المرأة بالتطيب لإزالة الرائحة الكريهة.
ومنها: حسن خلقه صلى الله عليه وسلم، وعظيم حلمه، وحيائه، زاده الله شرفًا. ذكر أكثر هذه الفوائد الحافظ رحمه الله. انظر الفتح جـ 1 ص 553. والله أعلم
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
160 - بَابُ تركِ الوُضُوءِ مِنْ بَعْدِ الغُسْلِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على ترك الشخص الوضوء بعد اغتساله، إما لكونه توضأ أوّلا، أو لدخول الصغرى في الكبرى.
252 -
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قال: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ -وَهُوَ ابْنُ صَالِحٍ-، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ (ح) وَحَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَتَوَضَّأُ بَعْدَ الْغُسْلِ.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(أحمد بن عثمان بن حكيم) الأودي أبو عبد الله الكوفي. روى عن أبيه، وعمه علي بن حكيم، وشريح بن مسلمة، وعبيد الله بن موسى، وخالد بن مخلد، وأبي نعيم، وغيرهم. وعنه (خ م س ق) وأبو حاتم، وقال: صدوق، وأبو عوانة، ويعقوب الفسوي
(1)
، والحسين، والقاسم ابنا المحاملي، ومحمد بن مخلد -وهو آخر من روى عنه - وغيرهم.
قال النسائي: ثقة، وقال ابن خراش: كان ثقة عدلا، وقال مُطيَّن،
(1)
منسوب إلى فَسَا مدينة بفارس.
وغيره: مات في المحرم سنة -261 - زاد غيره يوم عاشوراء، وقال العقيلي والبزار: ثقة، وأرخ ابن قانع وفاته قبل الستين، وروى عنه أيضًا ابن خزيمة في صحيحه، وذكره ابن حبان في الثقات. اهـ "تت" ج 1 ص 61.
2 -
(عثمان) بن حكيم بن دينار
(1)
الأودي، أبو عمرو الكوفي. روى عن الحسن بن صالح بن حي، وحبان بن علي، وشريك بن عبد الله النخعي. وعنه ابنه أحمد، ومحمد بن الحسين بن أبي الحنين. قال
الحضرمي: مات سنة -219 - انفرد به المصنف، له عنده حديثان أحدهما هذا. اهـ تت ج 7 ص 111.
3 -
(الحسن بن صالح) بن صالح بن حي، وهو حيان بن شُفَيّ بن هُنَيّ
(2)
بن رافع، الهمداني الثوري، أبو عبد الله الكوفي العابد الفقيه أحد الأعلام. قال البخاري: يقال: حي لقب. روى عن أبيه، وأبي إسحاق، وعمرو بن دينار، وعا صم الأحول، وغيرهم. وعنه ابن المبارك، وحميد بن عبد الرحمن الرواسي، والأسود بن عامر شاذان، ووكيع، وأبوه الجَرَّاح، ويحيى بن آدم، وغيرهم. قال يحيى القطان: كان الثوري سيء الرأي فيه. وقال أبو نعيم: دخل الثوري يوم الجمعة فإذا الحسن بن صالح يصلي، فقال: نعوذ بالله من خشوع النفاق وأخذ نعليه فتحول، وقال أيضا عن الثوري: ذاك رجل يرى السيف على الأمة، وقال خلاد بن زيد الجعفي: جاءني الثوري إلى ها هنا، فقال: الحسن بن صالح مع ما سمع من العلم وفقه يترك الجمعة، وقال ابن إدريس: ما أنا وابن حَيًّ، لا يرى جمعة ولا جهادًا، وقال بشر بن الحارث: كان زائدة يجلس في المسجد يحذر الناس من ابن حي وأصحابه.
(1)
وفي التقريب، وتهذيب الكمال بن ذُبيان.
(2)
شفي وهني بتصغيرهما.
قال: وكانوا يرون السيف. وقال أبو أسامة عن زائدة: إن ابن حي استصلب منذ زمان وما نجد أحدا يصلبه، وقال خلف بن تميم: كان زائدة يستتيب
(1)
من أتى الحسن بن حي، وقال علي بن الجعد: حدثت زائدة بحديث عن الحسن فغضب، وقال: لا حدثتك أبدا، وقال أبو معمر الهذلي: كنا عند وكيع فكان إذا حدث عن الحسن بن صالح لم نكتب، فقال: ما لكم؟ فقال له أخي بيده هكذا -يعني أنه يرى السيف- فسكت. وقال أبو صالح الفراء: ذكرت ليوسف بن أسباط عن وكيع شيئا من أمر الفتن فقال: ذاك يشبه أستاذه -يعني الحسن بن حي- فقال: فقلت ليوسف أما تخاف أن تكون هذه غيبة؟ فقال: لم يا أحمق؟ أنا خير لهؤلاء من آبائهم وأمهاتهم، أنا أنهى الناس أن يعملوا بما أحدثوا، فتتبعهم أوزارهم، ومن أطراهم كان أضَرَّ عليهم. وقال الأشج ذكر لابن إدريس صعق الحسن بن صالح، فقال: تبسم سفيان أحبُّ إلينا من صَعَق الحسن.
وقال أحمد بن يونس: جالسته عشرين سنة ما رأيته رفع رأسه إلى السماء ولا ذكر الدنيا، ولو لم يولد كان خيرا له. يترك الجمعة، ويرى السيف، وقال أبو موسى: ما رأيت يحيى ولا عبد الرحمن حدثا عن
الحسن بن صالح بشيء، وقال عمرو بن علي: كان عبد الرحمن يحدث عنه ثلاثة أحاديث، ثم تركه، وذكره يحيى بن سعيد، فقال: لم يكن بالسِّكَّة، وقال ابن عيينة: حدثنا صالح بن حي وكان خيرا من
ابنيه، وكان علي خيرهما، وقال أحمد: حسن ثقة، وأخوه ثقة، ولكنه قَدُم موته، وقال علي بن الحسن الهسنجاني عن أحمد: الحسن بن صالح صحيح الرواية متفقه صائن لنفسه في الحديث والورع، وقال
عبد الله بن أحمد، عن أبيه: الحسن أثبت في الحديث من شريك، وقال
(1)
خ يستعتب.
إبراهيم بن الجنيد عن يحيى بن معين: ثقة مأمون، وقال ابن أبي خيثمة عن يحيى: ثقة، وكذا قال ابن أبي مريم عنه مستقيم الحديث، وقال الدوري عن يحيى: يكُتب رَأيُ مالك، والأوزاعي، والحسن بن صالح، وهؤلاء ثقات، وقال عثمان الدارمي، عن يحيى: الحسن، وعلي ابنا صالح ثقتان مأمونان.
وقال أبو زرعة: اجتمع فيه إتقان وفقه وعبادة وزهد، وقال أبو حاتم: ثقة، حافظ، متقن. وقال النسائي: ثقة، وقال عبيد الله بن موسى: كنت أقرأ على علي بن صالح، فلما بلغت إلى قوله:{فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} [مريم: 84] سقط الحسن بن صالح يخور كما يخور الثور، فقام إليه علي فرفعه، ورش على وجهه الماء. وقال وكيع: ثنا الحسن، قيل: من الحسن؟ قال: الحسن بن صالح الذي لو رأيته ذكرت سعيد بن جبير، وقال وكيع أيضًا: لا يبالي من رأى الحسن أن لا يرى الربيع بن خُثَيم،
وقال يحيى بن بكير: قلنا للحسن بن صالح: صف لنا غسل الميت، فما قدر عليه من البكاء، وقال ابن الأصبهاني: سمعت عبدة بن سليمان يقول: إني أرى الله يستحي أن يعذبه، قال أبو نعيم: حدثنا الحسن بن صالح، ما كان دون الثوري في الورع والفقه، وقال ابن أبي الحسين: سمعت أبا غسان يقول: الحسن بن صالح خير من شريك من هنا إلى خراسان، وقال ابن نمير: كان أبو نعيم يقول: ما رأيت أحدا إلا وقد غلط في شيء غير الحسن بن صالح، وقال أبو نعيم أيضا: كتبت عن ثمانمائة محدث، فما رأيت أفضل من الحسن بن صالح، وقال ابن عدي: والحسن بن صالح قوم يحدثون عنه بنسخ، وقد رووا عنه أحاديث مستقيمة، ولم أجد له حديثًا منكرًا مجاوزًا المقدار، وهو عندي من أهل الصدق، وقال وكيع: ولد سنة -100 - وقال أبو نعيم: مات سنة 169 - ذكره البخاري في كتاب الشهادات من الجامع.
قال الحافظ: الذي في تاريخ أبي نعيم وتواريخ البخاري وكتاب الساجي وتاريخ ابن قانع -سبع- بتقديم السين على الباء، وكذا حكاه القراب في تاريخه عن أبي زرعة، وعثمان بن أبي شيبة، وابن منيع وغيرهم، وقولهم: كان يرى السيف -يعني كان يرى الخروج بالسيف على أئمة الجور، وهذا مذهب للسلف قديم، لكن استقر الأمر على ترك ذلك، لما رأوه قد أفضى إلى أشد منه، ففي وقعة الحرة، ووقعة ابن الأشعث، وغيرهما عظة لمن تدبر، وبمثل هذا الرأي لا يقدح في رجل قد ثبتت عدالته واشتهر بالحفظ والإتقان والورع التام، والحسن مع ذلك لم يخرج على أحد، وأما ترك الجمعة ففي جملة رأيه ذلك أن لا يصلي خلف فاسق، ولا يصح ولاية الفاسق، فهذا ما يعتذر به عن الحسن،
وإن كان الصواب خلافه، فهو إمام مجتهد. قال وكيع: كان الحسن وعلي ابنا صالح وأمهما قد جَزَّؤوا الليل ثلاثة أجزاء فكان كل واحد يقوم ثلثا، فماتت أمهما، فاقتسما الليل بينهما، ثم مات علي، فقام الحسن الليل كله. وقال أبو سليمان الداراني: ما رأيت أحدًا الخوف أظهر على وجهه من الحسن قام ليلة بعم يتساءلون، فغشي عليه، فلم يختمها إلى الفجر.
وقال العجلي: كان حسن الفقه من أسنان الثوري
(1)
، ثقة ثبتا متعبدًا، وكان يتشيع، إلا أن ابن المبارك كان يحمل عليه بعض الحمل لمحال التشيع، وقال ابن حبان: كان الحسن بن صالح فقيها ورعا من المتقشفة الخشن، وممن تجرد للعبادة ورفض الرياسة، على تشيع فيه، مات وهو مُختَف من القوم، وقال ابن سعد: كان ناسكًا عابدًا فقيهًا حجة صحيح الحديث كثيره، وكان متشيعًا، وقال أبو زرعة الدمشقي: رأيت أبا نعيم لا يعجبه ما قال ابن المبارك في ابن حي، قال: وتكلم في حسن، وقد
(1)
هكذا في نسخة "تت" كان حسن الفقه من أسنان الثوري، والظاهر أنه تصحيف، والصواب كان الحسن أفقه من سفيان الثوري. فتأمل.
روى عن عمرو بن عبيد، وإسماعيل بن مسلم.
قال: وسمعت أبا نعيم يقول: قال ابن المبارك: كان ابن صالح لا يشهد الجمعة، وأنا رأيته شهد الجمعة في إثر جمعة اختفى منها، وقال الساجي: الحسن بن صالح صدوق، وكان يتشيع، وكان وكيع يحدث عنه ويقدمه، وكان يحيى بن سعيد يقول: ليس في السكة مثله، إلى أن قال: حكي عن يحيى بن معين أنه قال: هو ثقة ثقة، قال الساجي: وقد حدث أحمد بن يونس عنه، عن جابر، عن نافع، عن ابن عمر في
شرب الفضيخ، وهذا حديث منكر.
قال الحافظ: الآفة من جابر، وهو الجعفي. قال الساجي: وكان عبد الله ابن داود الخُرَيبي يحدث عنه، ويطريه، ثم كان يتكلم فيه ويدعو عليه، ويقول: كنت أؤم في مسجد بالكوفة، فأطريت أبا حنيفة، فأخذ الحسن بيدي، ونحاني عن الإمامة، قال الساجي: فكان ذلك سبب غضب الخريبي عليه، وقال الدارقطني: ثقة عابد، وقال أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي: عجبت لأقوام قدموا سفيان الثوري على الحسن. أخرج له البخاري في الأدب المفرد، والباقون. اهـ "تت"ج 2 ص 285.
قال الجامع عفا الله عنه: ومجمل الكلام عنه أنه لا يؤثر في عدالته وثقته كلام من تكلم عنه، لما تبين أنه مبني على اجتهاد سبق له سلف من الأئمة وإن كان مخطئًا فيه، فلا يلتفت إلى كلامهم لاتفاق معظمهم على إمامته، وعدالته، ولذا أطلت في كتابة ترجمته ليتبين من خلالها ما نستند إليه، ونعتمد عليه. والله أعلم.
4 -
(أبو إسحاق) السبيعي عمرو بن عبد الله الكوفي ثقة ثبت اختلط بأخرة -3 - تقدم في 38/ 32.
5 -
(عمرو بن علي) الفلاس الصيرفي ثقة ثبت -10 - تقدم في 4/ 4.
6 -
(عبد الرحمن) بن مهدي البصري الإمام ثقة ثبت -9 - تقدم في 42/ 49.
7 -
(شريك بن عبد الله) القاضي النخعي الكوفي صدوق يخطئ كثيرًا تغير حفظه منذ ولي القضاء وكان عابدًا فاضلًا عادلًا شديدًا على أهل البدع -8 - تقدم في 25/ 29.
8 -
(الأسود) بن يزيد بن قيس النخعي ثقة ثبت -2 - تقدم في 29/ 33.
9 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدمت في 5/ 5. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسياته في الطريقين، وأن رواته كلهم ثقات، وأنهم كوفيون إلا الفلاس، وابن مهدي فبصريان، وعائشة فمدنية، وفيه كتابة (ح)، وقد تقدم البحث عنها مستوفىً غير مرة، وهي حاء التحويل، فقد حول الإسناد عن أحمد بن عثمان إلى عمرو بن علي، وكلاهما مستويان في العدد، ومثل هذا يراد به التقوية. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عائشة رضي الله عنها أنها (قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتوضأ بعد الغسل) أي يصلي بعد الاغتسال وقبل الحدث بلا وضوء جديد اكتفاء بالوضوء الأول الذي كان قبل الاغتسال، أو بما كان في ضمن الاغتسال. والأول أولى.
وفي الباب عن ابن عمر مرفوعًا، وعنه موقوفًا:"أنه لما سئل عن الوضوء بعد الغسل: وأيّ وضوء أعم من الغسل؟ " رواه ابن أبي شيبة. وروي عنه أنه قال لرجل قال له: "إني أتوضأ بعد الغسل، فقال: لقد
تعمقت". وروي عن حذيفة أنه قال: "أما يكفي أحدكم أن يغتسل من قرنه إلى قدمه حتى يتوضأ"، وقد روي نحو ذلك عن جماعة من الصحابة ومن بعدهم، حتى قال أبو بكر بن العربي: إنه لم يختلف العلماء أن الوضوء داخلٌ تحت الغسل، وأن نية طهارة الجنابة تأتي على طهارة الحدث، وتقضي عليها؛ لأن موانع الجنابة أكثر من موانع الحدث، فدخل الأقل في نية الأكثر، وأجزأت نية الأكبر عنه. اهـ نيل ج 1 ص 270.
قال الجامع: دعوى عدم اختلاف العلماء في دخول الوضوء تحت الغسل غير مسلمة، لما تقدم أن مذهب داود، وأبي ثور، وطائفة أن الغسل لا ينوب عن الوضوء. فالخلاف موجود، وإن كان الراجح خلافه. وكذا في الفتح أطلق أنهم يقولون: إن الغسل لا ينوب عن الوضوء للمحدث في ج 1 ص 429، والذي في المجموع للنووي ج 2 ص 186 بعد أن حكى عن أبي ثور، وداود، أنهما شرطا الوضوء في الغسل: ما نصه كذا حكاه أصحابنا عنهما، ونقل ابن جرير الإجماع على أنه لا يجب. اهـ. ففي ثبوت ذلك عنهم توقف، وقد تقدم ترجيح قول الجمهور بدليله في 156/ 247. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث الباب صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف: أخرجه هنا -160/ 252 - والكبرى -142/ 249 - عن أحمد بن عثمان بن حكيم، عن أبيه، عن حسن بن صالح بن صالح بن حي، عن أبي إسحاق، وعمرو بن علي الفلاس، عن ابن مهدي، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة رضي الله عنها.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (ت) في الطهارة عن إسماعيل بن موسى، عن شريك، به، وأخرجه (ق) فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعبد الله بن عامر بن زرارة، ، وإسماعيل بن موسى، كلهم
عن شريك، به.
ومن فوائد الحديث ما ترجم له المصنف، وهو عدم مشروعية الوضوء بعد الاغتسال، وهذا مقيدٌ بما إذا لم يوجد ناقض، فأما إذا وجد، كأن مس ذكره، فلابد من إعادة الوضوء، فتنبه والله أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
161 - بَابُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِي غَيْرِ المَكاَنِ الذِي يَغْتَسِلُ فِيهِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية غسل الرجلين في مكان غير المكان الذي يغتسل فيه الجنب. وتقدم التوفيق بين حديث الباب، وبين حديث عائشة المتقدم في 156/ 247.
فقدله: "يغتسل" يحتمل بناؤه للفاعل، ويكون فاعله ضمير يعود إلى المغتسل المفهوم منه، ويحتمل أن يكون بالبناء للمفعول ونائب فاعله الجار والمجرور. ومحل الاستدلال قولها: "ثم تنحى عن مقامه فغسل
رجليه". والله أعلم.
253 -
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عِيسَى، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي خَالَتِي مَيْمُونَةُ، قَالَتْ: أَدْنَيْتُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم غُسْلَهُ مِنَ الْجَنَابَةِ، فَغَسَلَ كَفَّيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ بِيَمِينِهِ فِي الإِنَاءِ، فَأَفْرَغَ بِهَا عَلَى فَرْجِهِ، ثُمَّ غَسَلَهُ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ ضَرَبَ بِشِمَالِهِ الأَرْضَ فَدَلَكَهَا دَلْكًا شَدِيدًا، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ مِلْءَ كَفِّهِ، ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ، ثُمَّ تَنَحَّى عَنْ مَقَامِهِ فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ. قَالَتْ: ثُمَّ أَتَيْتُهُ بِالْمِنْدِيلِ فَرَدَّهُ.
رجال هذا الإسناد: سبعة
1 -
(علي بن حجر) السعدي المروزي نزيل بغداد، ثم مرو، ثقة حافظ، من صغار -9 - تقدم في 13/ 13.
2 -
(عيسى) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ثقة ثبت -8 - تقدم في 8/ 8.
3 -
(الأعمش) سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي ثقة ثبت فاضل -5 - تقدم في 17/ 18.
4 -
(سالم) بن أبي الجعد، رافع، الكوفي ثقة يرسل كثيرًا -3 - تقدم في 61/ 77.
5 -
(كريب) بن أبي مسلم الهاشمي مولاهم أبو رشدين. أدرك عثمان. وروى عن مولاه ابن عباس، وأمه أم الفضل، وأختها ميمونة بنت الحارث، وعائشة، وأم سلمة، وأم هانئ بنت أبي طالب، وغيرهم. وأرسل عن الفضل بن عباس. وروى عنه ابناه محمَّد ورشدين، وسليمان ابن يسار، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وهما من أقرانه، وغيرهم.
قال ابن سعد: كان ثقة حسن الحديث، وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: كريب أحب إليك عن ابن عباس، أو عكرمة؟ فقال: كلاهما ثقة. وقال النسائي: ثقة. وقال زهير بن معاوية، عن موسى بن عقبة: وضع عندنا كريب حمل بعير من كتب ابن عباس. قال الواقدي، وآخرون: مات بالمدينة سنة -98 - في آخر خلافة سليمان بن عبد الملك، وذكره ابن حبان في الثقات، أخرج له الجماعة.
6 -
(ابن عباس) الحبر البحر رضي الله عنه تقدم في 27/ 31.
7 -
(ميمونة) بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها تقدمت في 146/ 236. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سباعياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأنهم ما بين مروزي، وهو علي، وكوفيين وهم عيسى، والأعمش، وسالم، ومدنيين وهم الباقون، وفيه رواية الراوي عن خالته، ورواية صحابي عن صحابية، وفيه ابن عباس أحد المكثرين السبعة روى -1696 - وأحد العبادلة الأربعة. وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: الأعمش عن سالم، عن كريب. والله أعلم.
شرح الحديث
(عن) عبد الله (ابن عباس) حبر الأمة وبحرها رضي الله عنه، أنه (قال: حدثتني خالتي) أي أخت أمه لبابة الكبرى رضي الله عنها (ميمونة) بالرفع بدل من خالتي، وهي ميمونة بنت الحارث بن حَزْن بن بُجَير الهلالية، أم المؤمنين، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة ست من الهجرة، وقد تقدمت
ترجمتها في 146/ 236 (قالت) هذه الجملة تفسير لـ"حدثتني"(أدنيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم) أي قربت إليه، وهكذا في مسلم، وعند الترمذي، وابن ماجه، ورواية للبخاري "وضعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي أخرى للبخاري "صببت للنبي صلى الله عليه وسلم غسلا" (غسله) بضم فسكون: اسم من الاغتسال، فهو على حذف مضاف، أي ماء غسله، وقيل الغسل بالضم الماء الذي يتطهر به، وعلى هذا لا يحتاج إلى تقدير مضاف.
قال ابن الأثير: الغسل بالضم: الماء القليل الذي يغتسل به، كالأكل لما يؤكل، وهو الاسم أيضا من غَسَلْتُهُ، والغسل بالفتح: المصدر، وبالكسر: ما يغسل به من خطمي وغيره، اهـ لسان.
(من الجنابة) متعلق بـ "غسل"، أما على كونه اسم مصدر فواضح، وأما على كونه اسما للماء فيتعلق على مضاف مقدر بعد "غسل"، أي غُسْل
اغتساله، أي ماء اغتساله، وعند أبي داود:"غُسلا يغتسل به من الجنابة"(فغسل كفيه) وعند أبي داود "فأكفأ الإناء على يده اليمنى فغسلها" بالإفراد لكن أكثر الروايات تدل على أنه غسل الكفين (مرتين أو ثلاثا) بالشك من الأعمش كما صرح به البخاري من طريق أبي عوانة عن، وفيه "فصب على يده فغسلها مرة أو مرتين، قال سليمان
(1)
. لا أدري أذكر (2) الثالثة أم لا؟ وفي رواية له من طريق عبد الواحد، عن الأعمش، وفيه "فأفرغ على يديه وغسلهما مرتين أو ثلاثا" ولابن فضيل عن الأعمش، وفيه "فصب على يديه ثلاثا" ولم يشك، أخرجه أبو عوانة في صحيحه، قال الحافظ رحمه الله: فكأن الأعمش كان يشك فيه، ثم تذكر فجزم؛ لأن سماع ابن فضيل منه متأخر. اهـ فتح ج 1 ص 448.
(ثم أدخل يمينه) هكذا في النسخة الهندية وفي المصرية "بيمينه" بزيادة الباء (في الإناء) الذي أدنته ميمونة إليه للاغتسال منه (فأفرغ بها) أي بيمينه، وأنث الضمير؛ لأن اليمين مؤنثة، أي صب الماء (على فرجه ثم غسله بشماله) بكسر الشين خلاف اليمين، هي مؤنثة أيضًا جمعها أشمل وشَمَائل. قاله في المصباح.
أي غسل فرجه بيده اليسرى، وفيه استحباب صب الماء باليمين، وغسل الفرج بالشمال.
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: فيه البداءة بغسل الفرج، لإزالة ما علق به من أذى، وينبغي أن يغسل في الابتداء عن الجنابة، لئلا يحتاج إلى غسله مرة أخرى، وقد يقع ذلك بعد غسل أعضاء الوضوء،
فيحتاج إلى إعادة غسلها، فلو اقتصرعلى غسلة واحدة لإزالة النجاسة، وللغسل عن الجنابة فهل يكتفي بذلك أم لابد من غسلتين: مرة للنجاسة، ومرة للطهارة عن الحدث؟ فيه خلاف لأصحاب الشافعي.
(2)
(1)
أي الأعمش.
(2)
يعني شيخه سالم بن أبي الجعد.
ولم يرد في الحديث إلا مطلق الغسل من غير ذكر تكرار، فقد يؤخذ منه الاكتفاء بغسلة واحدة من حيث إن الأصل عدم غسله ثانيا. اهـ إحكام ج 1 ص 380 - 381.
قال الجامع عفا الله عنه: الاكتفاء هو الذي لا يتجه غيره وهو الذي صححه النووي رحمه الله.
(ثم ضرب بشماله) التي غسل بها فرجه (الأرض فدلكها) أي الشمال، (دلكا شديدا) مصدر مبين للنوع، والدلك مصدر دلك الشيء يدلكه من باب نصر، إذا مَرَسَه وعَركَه، قال الشاعر (من الرجز):
أبيتُ أسْري وَتَبيتي تَدْلُكي
…
شَعْرك بالعَنْبَر وَالمسْك الذَّكي
أي حكَّ شماله على الأرض بقوة، مبالغة في التنظيف. وفيه استحباب مسح اليد بالأرض، أو الحائط عقب الاستنجاء بالماء، لكمال الإنقاء.
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: وضربه صلى الله عليه وسلم بالأرض أو الحائط لإزالة ما لعله علق باليد من الرائحة، زيادةً في التنظيف. ثم قال: إذا بنيت رائحة النجاسة بعد الاستقصاء في الإزالة لم يضر على مذهب بعض الفقهاء، وفي مذهب الشافعي خلاف، وقد يؤخذ العفو عنه من هذا الحديث،
ووجهه: أن ضربه صلى الله عليه وسلم بالأرض أو الحائط لابد وأن يكون لفائدة، ولا
جائز أن يكون لإزالة العين؛ لأنه لا تحصل الطهارة مع بقاء العين اتفاقا، وإذا كانت اليد نجسة ببقاء العين فيها فعند انفصالها ينجس المحل بها، وكذلك لا يكون للطعم؛ لأن بناء الطعم دليل على بناء العين، ولا يكون لإزالة اللون، لأن الجنابة بالإنزال، أو بالمجامعة لا تقتضي لونا يلصق باليد، وإن اتفق فنادر جدّا، فبني أن يكون لإزالة الرائحة، ولا يجوز أن يكون لإزالة رائحة تجب إزالتها؛ لأن اليد قد انفصلت عن المحل على أنه
قد طهر، ولو بقي ما تتعين إزالته من الرائحة لم يكن المحل طاهرا لأنه عند الانفصال تكون اليد نجسة، وقد لابست المحل مبتلا فيلزم من ذلك أن يكون بعض الرائحة معفوًا عنه، ويكون الضرب على الأرض لطلب الأكمل فيما لا تجب إزالته، ويحتمل أن يقال: فصل اليد عن المحل بناء على ظن طهارته بزوال رائحته، والضرب على الأرض لإزالة احتمال في بقاء الرائحة مع الاكتفاء بالظن في زوالها، والذي يقوي الاحتمال الأول ما ورد في الحديث الصحيح من كونه صلى الله عليه وسلم "دلكها دلكا شديدًا"، والدلك الشديد لا يناسبه هذا الاحتمال الضعيف اهـ إحكام ج 1 ص 381 - 383.
قال الجامع عفا الله عنه: كلامه كله مبني على كون المني ورطوبة الفرج نجسين، وفيه أقوال للعلماء، وسيأتي تحقيق المسألة في محلها إن شاء الله تعالى.
(ثم توضأ وضوءَه للصلاة) أي مثل وضوئه لها، قال ابن دقيق العيد: يقتضي استحباب تقديم الغسل لأعضاء الوضوء في ابتداء الغسل، ولا شك في ذلك، نعم يقع البحث في أن هذا الغسل لأعضاء
الوضوء، هل هو وضوء حقيقة، فيكتفى به عن غسل هذه الأعضاء للجنابة؟ فإن موجب الطهارتين بالنسبة إلى هذه الأعضاء واحد، أو يقال: إنَّ غسلها إنما هو عن الجنابة، وإنما قدمت على بنية الجسد تكريمًا لها وتشريفًا، ويسقط غسلها عن الوضوء باندراج الطهارة الصغرى تحت الكبرى. فقد يقول قائل: قولها: "وضوءه للصلاة" مصدر مشبه به تقديره وضوءا مثل وضوئه للصلاة، فيلزم من ذلك أن تكون هذه الأعضاء المغسولة مغسولة عن الجنابة؛ لأنها لو كانت مغسولة عن الوضوء حقيقة لكان قد توضأ عين الوضوء للصلاة، فلا يصح التشبيه، لأنه يقتضي تغاير المشبه والمشبه به، فإذا جعلناها مغسولة للجنابة صح
التغاير، وكان التشبيه في الصورة الظاهرة.
وجوابه بعد تسليم كونه مصدرا مشبها به من وجهين: أحدهما: أن يكون شبه الوضوء الواقع في ابتداء غسل الجنابة بالوضوء للصلاة في غير غسل الجنابة، والوضوء بقيد كونه في غسل الجنابة مغاير للوضوء بقيد كونه خارجا عن غسل الجنابة، فيحصل التغاير الذي يقتضي صحة التشبيه، ولا يلزم منه عدم كونه وضوءًا للصلاة حقيقة.
الثاني: لما كان وضوء الصلاة له صورة معنوية ذهنية شبه هذا الفرد الذي وقع في الخارج بذلك المعلوم في الذهن، كأنه يقال: أوقع في الخارج ما يطابق الصورة الذهنية لوضوء الصلاة. اهـ احكام ج 1 ص 372 - 374.
قال الجامع عفا الله عنه: حاصل كلامه أنه يرجح الوجه الأول، وهو كونه وضوءًا حقيقة، وهو الموافق لظاهر الحديث. والله أعلم.
ثم إن رواية المصنف هكذا "ثم توضأ وضوءه للصلاة" وقد وقعت مفصلة في رواية عند البخاري وغيره: حيث قالت: "ثم مضمض واستنشق، وغسل وجهه ويديه" الحديث (ثم أفرغ على رأسه) أي صب عليها (ثلاث حثيات) أي ثلاث غرفات، وتقدم معنى الحثيات.
(ملء كفيه) بالتثنية في الهندية، وبالإفراد في المصرية، والمراد به الكفان؛ لأن المفرد المضاف يعم، فلا تخالف بين النسختين (ثم غسل سائر جسده) أي بنيته، فإنها ذكرت الرأس أوَّلًا. والأصل في "سائر" أن تستعمل بمعنى البنية، وقالوا: هو مأخوذ من السؤر. قال الشنفري (من الطويل):
إذَا احْتَمَلُوا رَأسي وَفي الرَّأس أكْثَري
…
وَغُودرَ عنْدَ المُلْتَقَى ثُمَّ سَائري
أي بقيتي، وقد أنكر في "أوهام الخواص" جعلها بمعنى الجميع، وفي
كتاب الصحاح ما يقتضى تجويزه. اهـ إحكام ج 1 ص 377، وقد تقدم الكلام فيه في 154/ 245.
ثم ظاهر قولها: "ثم أفرغ على رأسه" الخ كما قال ابن دقيق العيد رحمه الله يقتضي أنه لم يمسح رأسه، كما يفعل في الوضوء.
وقال الحافظ رحمه الله: ولم يقع في شيء من طرق هذا الحديث التنصيص على مسح الرأس في هذا الوضوء (ثم تَنَحَّى) أي ابتعد (عن مقامه) بفتح الميم اسم موضع من "قام" ثلاثيًا، أو بضمها من "أقام"
رباعيًا. أي من محلة (فغسل رجليه) وفيه تأخير غسل الرجلين عن إكمال الوضوء، وهو الذي ترجم عليه المصنف، وفيه جواز تفريق غسل الأعضاء، حيث أخر غسل الرجلين إلى آخر غسل الجسد، وقد بوب البخاري لجواز التفريق، وهو قول الشافعي في الجديد، واحتج له بأن الله تعالى أوجب غسل أعضائه، فمن غسلها فقد أتى بما وجب عليه فَرَّقَهَا أو نَسَقَها، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه توضأ في السوق دون رجليه، ثم رجع إلى المسجد، فمسح على خفيه، ثم صلى، رواه الشافعي في الأم بسند صحيح.
وبه يقول ابن المسيب، وعطاء، وجماعة، وقال ربيعة، ومالك: من تعمد ذلك فعليه الإعادة، ومن نسي فلا، وعن مالك إن قرب التفريق بني، وإن طال أعاد، وقال قتادة، والأوزاعي: لا يعيد إلا إن جف، وأجازه النخعي مطلقا في الغسل دون الوضوء ذكر جميع ذلك ابن المنذر، وقال: ليس مع من جعل الجفاف حدًا لذلك حجة. وقال الطحاوي رحمه الله: الجفاف ليس بحدث، فينقض كما لو جف جميع أعضاء الوضوء لم تبطل الطهارة. أفاده في الفتح ج 1 ص 446 - 447.
قال الجامع عفا الله عنه: قول من قال بجواز التفريق هو الراجح لإطلاق الأدلة. والله أعلم.
(ثم أتيته بالمنديل) قال في اللسان: المنديل -يعني بكسر الميم، وسكون النون، وكسر الدال- والمنديل -يعني بفِتح الميم- نادر، والمنْدَل -يعني بكسر الميم، وفتح الدال- كله: الذي يُتَمَسَّح به، قيل: هو من النَّدْل الذي هو الوسخ، وقيل: إنما اشتقاقه من النَّدْل الذي هو التَّنَاول، قال الليث: النَّدْل كأنه الوسخ من غير استعمال في العربية، وقد تَنَدَّلَ به وتَمَنْدَلَ، قال أبو عبيد: وأنكر الكسائي تمندل، وتَنَدَّلت بالمنديل، وتمندلت، أي تمسحت به من أثر الوضوء أو الطهور، قال: والمنديل على تقدير مفعيل، اسم لما يمسح به، قال: ويقال أيضا تمندلتُ. اهـ.
وفي المصباح: المنديل مذكر، قاله ابن الأنباري، وجماعة، ولا يجوز التأنيث لعدم العلامة في التصغير والجمع، فإنه لا يقال: مُنَيدلة، ولا مُنَيْدلات، ولا يوصف بالمؤنث، فلا يقال: منديل حسنة، فإن ذلك كله
يدل على تأنيث الاسم، فإذا فقدت علامة التأنيث مع كونها طارئة على الاسم تعين التذكير الذي هو الأصل، ويقال: هو مشتق من نَدلَتُ الشيء نَدْلا من باب قتل: إذا جذبته، أو أخرجته، ونقلته. اهـ.
(فرده) أي المنديل، وكذا عند مسلم، وفي الرواية الآتية للمصنف "فلم يمسه"، وعنده في 408 "ثم أتيته بخرقة فلم يُردْها"، بضم الياء من الإرادة، وعند أبي داود "فلم يأخذه" وعند البخاري في رواية: "فناولته الخرقة، فقال بيده هكذا، ولم يردها. وفيه عدم استعمال المنديل في التنشيف، وفيه أقوال للعلماء سيأتي الكلام عليه في الباب التالي إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث الباب متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف: أخرجه هنا -161/ 253 - والكبرى -143/ 251 - عن علي بن حجر، عن عيسى
ابن يونس، وفي 419 عن محمَّد بن العلاء، عن أبي معاوية، وفي 418 عن محمَّد بن علي بن ميمون، عن محمَّد بن يوسف، عن سفيان، وفي 428 عن إسحاق بن إبراهيم عن جرير، وفي 408، عن قتيبة، عن عَبيدة بن حُميد، كلهم عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة رضي الله عنها.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (خ) في الطهارة عن محمَّد ابن يوسف، وعن عبدان، عن ابن المبارك، كلاهما عن سفيان الثوري. وعن الحميدي، عن سفيان بن عيينة، وعن موسى بن إسماعيل، ومحمد بن محبوب، كلاهما عن عبد الواحد. وعن موسى، عن أبي عوانة. وعن عمر بن حفص بن غياث، عن أبيه، وعن يوسف بن عيسى، عن الفضل بن موسى، وعن عبدان، عن أبي حمزة- سبعتهم
عن الأعمش، به. وفي حديث الفضل بن موسى "أتيته بخرقة، فلم يردها"، ونحوه في حديث أبي عوانة، وأبي حمزة، وفي حديث ابن المبارك عن سفيان "سترت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل من الجنابة"، وقال عقبه: تابعه أبو عوانة، وابن فضيل -يعني عن الأعمش- في الستر.
وأخرجه (م) فيه عن محمَّد بن الصباح، وإسحاق بن إبراهيم، وأبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كريب، وأبي سعيد الأشج، خمستهم عن وكيع، وعن يحيى بن يحيى، وأبي كريب، كلاهما عن أبي معاوية، وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد الله بن إدريس، وعن علي بن حجر، عن عيسى بن يونس، وعن إسحاق بن إبراهيم، عن موسى القارئ، عن زائدة، خمستهم عن الأعمش به. وفي حديث ابن إدريس: "أتي بمنديل
فلم يمسه": وفي حديث زائدة: "وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم ماء وسترته فاغتسل".
وأخرجه (د) فيه عن مسدد، عن عبد الله بن داود، عن الأعمش به.
وأخرجه (ت) فيه عن هناد، عن وكيع، به. وقال: حسن صحيح.
وأخرجه (ق) فيه عن علي بن محمَّد، وأبي بكر بن أبي شيبة، كلاهما عن وكيع- بقصة نفض الماء، وترك التنشيف. أفاده أبو الحجاج المزي في تحفته ج 12 ص 488 - 489.
وأخرجه ابن خزيمة، وابن الجارود، وابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، والطيالسي، والبيهقي.
المسألة الرابعة: في فوائده: ومما يستفاد منه ما ترجم له المصنف، وهو غسل الرجلين في محل آخر غير محل الاغتسال، وتأخير غسلهما، وفيه أقوال للعلماء سيأتي بيانها في المسألة التالية.
ومنها: ما ذكره الحافظ في الفتح: قال: وقد استدل البخاري بحديث ميمونة هذا على جواز تفريق الوضوء، وعلى استحباب الإفراغ باليمنى على الشمال للمغترف من الماء، لقوله في رواية أبي عوانة، وحفص، وغيرهما "ثم أفرغ بيمينه على شماله"، وعلى مشروعية المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة لقوله فيها "ثم تمضمض واستنشق"، وتمسك به الحنفية للقول بوجوبهما، وتعقب بأن الفعل المجرد لا يدل على الوجوب، إلا إذا كان بيانًا لمجمل تعلق به الوجوب، وليس الأمر هنا كذلك. قاله ابن دقيق العيد.
قال الجامع عفا الله عنه: قد اعترض بعض من كتب على هامش الفتح على كلام ابن دقيق هذا بأن فعله بيان لمجمل قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 60] وقد قدمنا التحقيق في هذا الموضوع في 156/ 247، وأن الراجح أنه ليس بيانًا للآية، للأدلة المذكورة هناك. فتبصر.
ومنها: استحباب مسح اليد بالتراب من الحائط، أو الأرض، لقوله في الروايات المذكورة "ثم دلك يده بالأرض أو الحائط"، قال ابن دقيق العيد:
وقد يؤخذ منه الاكتفاء بغسلة واحدة لإزالة النجاسة والغسل من الجنابة، لأن الأصل عدم التكرار وفيه خلاف. انتهى. وصحح النووي وغيره أنه يجزئ، لكن لم يتعين في هذا الحديث أن ذلك كان لإزالة النجاسة، بل يحتمل أن يكون للتنظيف فلا يدل على الاكتفاء، وأما دلك اليد بالأرض، فللمبالغة فيه، ليكون أنقى.
قال الحافظ: وأبعد من استدل به على نجاسة المني، أو على نجاسة رطوبة الفرج؛ لأن الغسل ليس مقصورًا على إزالة النجاسة. وقوله في الحديث "وما أصابه من أذى" ليس بظاهر في النجاسة أيضًا.
ومنها: أن الواجب في غسل الجنابة مرة واحدة، وأن من توضأ بنية الغسل وأكمل باقي أعضاء بدنه لا يشرع له تجديد الوضوء من غير حدث.
ومنها: جواز نفض اليدين من ماء الغسل لقوله: "وجعل يقول بالماء هكذا" ومثله الوضوء، قال الحافط: وفيه حديث ضعيف أورده الرافعي وغيره، ولفظه:"لا تنفضوا أيديكم في الوضوء فإنها مرواح الشيطان" قال ابن الصلاح: لم أجده، وتبعه النووي، وقد أخرجه ابن حبان في الضعفاء، وابن أبي حاتم في العلل، من حديث أبي هريرة، ولو لم يعارضه هذا الحديث الصحيح لم يكن صالحًا أن يحتج به.
ومنها: استحباب التستر في الاغتسال ولو كان في البيت كما يأتي قولها "فسترته".
ومنها: جواز الاستعانة بإحضار ماء الغسل والوضوء.
ومنها: خدمة الزوجات لأزواجهن.
ومنها: الصب باليمين على الشمال لغسل الفرج بها.
ومنها: تقديم غسل الكفين على غسل الفرج لمن يريد الاغتراف لئلا يدخلهما في الماء، وفيهما ما لعله يستقذر. قال الحافظ: أما إذا كان الماء في الإبريق مثلا، فالأولى تقديم غسل الفرج، لتوالي أعضاء الوضوء.
قال الجامع عفا الله عنه: وفيما قاله نظر، بل الصواب العمل بمقتضى الحديث فيقدم غسل اليدين.
قال الحافظ: ولم يقع في شيء من طرق هذا الحديث التنصيص على مسح الرأس في هذا الوضوء، وتمسك به المالكية لقولهم: إن وضوء الغسل لا يمسح فيه الرأس، بل يكتفى عنه بغسله.
قال الجامع عفا الله عنه: وهو الراجح الذي عليه مذهب النسائي حيث ترجم عليه في 422 "باب ترك مسح الرأس في الوضوء من الجنابة" ثم أخرج بسند صحيح حديث عائشة، وابن عمر رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغسل من الجنابة؟ فذكر
له صفة الغسل، وفيه "حتى إذا بلغ رأسه لم يمسح، وأفرغ عليه الماء". واستدل بعضهم بقولها: "ثم أتيته بالمنديل فرده" على كراهة التنشيف بعد الغسل.
قال الحافظ: ولا حجة فيه لأنها واقعة حال يتطرق إليها الاحتمال. اهـ وسيأتي تحقيق المسألة في الباب التالي إن شاء الله.
ومنها: أنه يدل على طهارة الماء المتقاطر من أعضاء الوضوء خلافا لمن غلا من الحنفية فقال بنجاسته.
وقد عقد المصنف رحمه الله لبعض هذه الفوائد أبوابًا، فترجم هنا لغسل الرجلين في غير مكان الاغتسال، وفي الباب التالي لترك المنديل بعد الغسل، وفي 408 للاستتار عنوإلاغتسال، وفي 418 لإزالة الجنب الأذى عنه قبل إفاضة الماء عليه، وفي 419 لمسح اليد بالأرض بعد غسل الفرج، وفي 428 للغسل مرة واحدة.
وقد أخرج هذا الحديث في هذه الأبواب بمغايرة الطرق، كما فعل البخاري في الصحيح، ومدارها على الأعمش، وعند بعض الرواة عنه ما ليس عند الآخر، وقد صرح الأعمش بالتحديث في رواية حفص بن غياث عنه عند البخاري فأمن تدليسه. والله أعلم.
المسألة الخامسة: في البحث عن تأخير غسل الرجلين عن غسل الجسد كله، وأقوال أهل العلم في ذلك:
أحاديث ميمونة رضي الله عنها صريحة في تأخير غسل الرجلين إلى نهاية الاغتسال.
وظاهر أحاديث عائشة رضي الله عنها يخالفها، ففي الأحاديث المتقدمة، وهي أيضا في الصحيحين وغيرهما "توضأ وضوءه للصلاة" فظاهرها أنه قدم غسل الرجلين لكن وقع في رواية لمسلم من طريق أبي معاوية، عن هشام، عن أبيه، عنها "ثم يتوضأ وضوءه للصلاة" الحديث وفي آخره "ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه" فصرح بالتأخير.
فيجمع بين هذه الروايات، بأن روايات عائشة رضي الله عنها تحمل على أن المراد بوضوء الصلاة أكثره، وهو ما سوى الرجلين، فتوافق روايات ميمونة رضي الله عنها، أو تحمل على ظاهرها من إتمام الوضوء قبل الغسل في حالة، ويكون قولها في رواية أبي معاوية "ثم غسل رجليه" أي أعاد غسلهما لاحتمال أن يكون المُغْتَسَل غير نظيف، وتحمل روايات تأخير غسل القدمين على أنه صلى الله عليه وسلم كان يغتسل في مكان يجتمع فيه الماء، أو على أن ذلك كان لإزالة طين ونحوه، ويحتمل أنه أحيانًا كان يتوضأ وضوءًا كاملًا. وأحيانًا يؤخر غسل رجليه.
قال الجامع: أولى الاحتمالات عندي الأول، فيكون معنى قوله:"وضوء للصلاة" ما عدا الرجلين، لأن رواية أبي معاوية صريحة في ذلك، وله شاهد من رواية أبي سلمة عن عائشة عند أبي داود الطيالسي،
وفيه: "فإذا فرغ غسل رجليه" فهذا بعد قوله: "وتوضأ وضوءه للصلاة" صريح في الحمل على أكثر، وقد تقدم البحث عنه في 156/ 247.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة: فذهب بعضهم إلى استحباب التأخير، وذهبت الحنفية إلى أن الأفضل إكمال الوضوء أولا إن كان يغتسل في محل لا يجتمع فيه الماء، وتأخير غسل القدمين إن كان يغتسل في نحو طست. وعن مالك إن كان المكان غير نظيف، فالمستحب تأخير غسلهما، وإلا فالتقديم وعند الشافعي في الأفضل قولان: أصحهما وأشهرهما أنه يكمل وضوءه لأن أكثر الروايات عن عائشة، وميمونة كذلك قاله النووي.
قال الحافظ في الفتح: وليس في شيء من الروايات عنهما التصريح بذلك، بل هي إما محتملة كرواية "توضأ وضوءه للصلاة"، أو ظاهرة في تأخيرهما كرواية أبي معاوية المتقدمة، ويوافقها أكثر الروايات عن ميمونة، أو صريحة في تأخيرهما كحديث الباب أي حديث البخاري وراويه مقدم في الحفظ والفقه على جميع من رواه عن الأعمش -يعني سفيان الثوري- وروايته تأتي عند المصنف في 418.
قال الجامع عفا الله عنه: والحاصل أن قول النووي: لأن أكثر الروايات كذلك، غير صحيح.
قال الحافظ: وقول من قال: إنما فعل ذلك لبيان الجوار: متعقب، فإن في رواية أحمد عن أبي معاوية، عن الأعمش ما يدل على المواظبة، ولفظه:"كان إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه" فذكر الحديث، وفي آخره "ثم يتنحى فيغسل رجليه".
قال القرطبي: الحكمة في تأخير غسل الرجلين ليحصل الافتتاح والاختتام بأعضاء الوضوء. اهـ فتح ج 1 ص 431.
قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل أن أرجح الأقوال قولُ من قال بالتأخير مطلقًا، لوضوح أدلته، والله أعلم.
162 - بَابُ تَرْكِ الِمنْديلِ بَعْدَ الغُسْلِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على ترك استعمال المنديل في تنشيف الأعضاء بعد الفراغ من الاغتسال.
وقد تقدم في الباب الماضي ضبط المنديل ومعناه، وموضع الاستدلال واضح من قوله:"فلم يمسه".
254 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اغْتَسَلَ فَأُتِيَ بِمِنْدِيلٍ فَلَمْ يَمَسَّهُ وَجَعَلَ يَقُولُ بِالْمَاءِ هَكَذَا.
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
محمد بن يحيى بن أيوب بن إبراهيم) الثقفي، أبو يحيى القصري، المروزي المعلم، ولقب جده عبدويه. روى عن ابن عم أبيه هاشم بن مخلد بن إبراهيم، وحفص بن غياث، وعبد الله بن إدريس،
وعبد الوهاب الثقفي، وغيرهم. وروى عنه (ت س) وإبراهيم بن يعقوب الجُوزَجَاني، وأحمد بن سياه، وأبو سعيد يحيى بن منصور الهروي، وغيرهم. قال النسائي: ثقة كان يحفظ، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال مسلمة: ثقة حافظ. اهـ "تت".
2 -
(عبد الله بن إدريس) الأودي الكوفي ثقة فقيه عابد -8 - تقدم في 85/ 102. والباقون تقدم الكلام عليهم قريبًا.
(فائدة) ومن لطائف هذا الإسناد أن شيخه ممن انفرد به هو، والترمذي
به، عن بقية الستة، وأن هذا الموضع أول محل ذكره، فلم يذكر قبل هذا.
وهذا الحديث مختصر مما قبله، وقولها:"وجعل يقول بالماء هكذا" أي شرع يفعل بالماء، بمعنى أنه نفض يديه ليخفف الماء، وفيه استعمال القول بمعنى الفعل. وقد تقدم البحث عنه مُستوفىً.
(تنبيهان) الأول: أن هذا الحديث من أفراد المصنف كما أشار إليه المزي، وأنه من مسند ابن عباس رضي الله عنهما، قال أبو الحجاج المزي رحمه الله: والمحفوظ: حديث ابن عباس عن ميمونة رضي الله
عنها. يعني أن هذه الرواية شاذة. والله أعلم.
قال الجامع: حاصل ما أشار إليه المزي أن هذه الرواية شاذة، والمحفوظ ما تقدم من كونه من مسند ميمونة، والمخالف في هذا شيخ المصنف محمَّد بن يحيى، الراوي عن عبد الله بن إدريس، خالف أبا
بكر بن أبي شيبة، فقد رواه عنه كما تقدم، فجعله من مسند ميمونة، لكن محمَّد بن يحيى ثقة حافظ، فالظاهر كون الحديث محفوظًا من كلا الطريقين. والله أعلم.
الثاني: في مذاهب العلماء في حكم المنديل بعد الوضوء والغسل.
قال الحافظ أبو بكر بن المنذر رحمه الله: اختلف أهل العلم في التمسح بالمنديل بعد الوضوء والغسل، فممن روينا عنه أخذ المنديل بعد الوضوء: عثمان بن عفان، والحسين بن علي، وأنس بن مالك، وبشير
ابن أبي مسعود. ورخص فيه الحسن، ومحمد بن سيرين، وعلقمة، والأسود، ومسروق، والضحاك بن مزاحم. وكان مالك، وسفيان الثوري، وأحمد، وأصحاب الرأي لا يرون به بأسًا.
وفيه قول ثان: روينا عن جابر بن عبد الله أنه قال: إذا توضأت فلا تمندل، وكره ذلك عبد الرحمن بن أبي ليلى، وإبراهيم النخعي، ومجاهد، وابن المسيب، وأبو العالية.
واختلف فيه عن سعيد بن جبير، وروينا عن ابن عباس أنه كره أن يمسح بالمنديل من الوضوء، ولم يكرهه إذا اغتسل من الجنابة، وكان سفيان
يرخص فيهما جميعا: الوضوء، والاغتسال.
قال أبو بكر: أعْلَى شيء روي في هذا الباب خبران، خبر يدل على إباحة أخذ الثوب ينشف به، والخبر الآخر يدل على ترك ذلك، ثم ذكر بسنده، عن قيس بن سعد قال: "أتانا النبي صلى الله عليه وسلم فوضعنا له غسلا، فاغتسل، أتيناه بملحفة وَرْسيَّة فالتحف بها، فكأني انظر إلى أثر الوَرْس على
عُكَنه"
(1)
.
قال الحافظ في التلخيص: رواه أبو داود من حديث قيس مطولًا، وكذا النسائي في عمل اليوم والليلة، ورواه ابن ماجه، واختلف في وصله وإرساله، ورجال أبي داود رجال الصحيح، وصرح فيه الوليد بالسماع. ومع ذلك فذكره النووي في الخلاصة في فصل الضعيف. اهـ تلخيص. ثم ذكر الخبر الثاني، وهو حديث ميمونة رضي الله عنها، ثم قال: وهذا الخبر -يعني خبر ميمونة- لا يوجب حظر ذلك. ولا المنع منه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه، مع أنه قد كان يدع الشيء المباح لئلا يشق على أمته، من ذلك قوله لبني عبد المطلب:"لولا أن تغلبوا على سقايتكم لنزعت معكم"، ودخل الكعبة، وقال بعد دخوله:"لوددت أني لم أكن دخلتها، أخشى أن أكون أتعبت أمتي" وحديث قيس بن سعد يدل على إباحة ذلك، فأخذ النديل مباح، بعد الوضوء والاغتسال. اهـ كلام ابن المنذر في الأوسط ج 1 ص 415 - 419.
قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل أن استعمال المنديل مباح، فقد دل حديث الباب على أنه صلى الله عليه وسلم نفض الماء، وأخرج ابن ماجه بسند حسن عن سلمان الفارسي رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، فقلب جبة صوف كانت عليه فمسح بها وجهه". وأما أحاديث النهي فلا يثبت منها شيء وقد بينها الحافظ في التلخيص ج 1 ص 446 - 449 بنسخة المجموع.
وقد مضى في الباب الماضي سائر ما يتعلق بالحديث، فارجع إليه تزدد علمًا. والله ولي التوفيق.
(1)
العكن بضم العين وفتح الكاف جمع عكنة، وهي الأطواء في بطن المرأة من السمن، وتعكن الشيء: إذا تراكم بعضه على بعض. اهـ المجموع ج 1 ص 460.
163 - بَابُ وُضُوءِ الجُنُب إذَا أرَادَ أنْ يَأكُلَ
أي هذا باب مشروعية الوضوء للجنب عثد إرادته أكل تخفيفًا للحديث.
255 -
أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ شُعْبَةَ، (ح) وَأَخْبَرَنَا
(1)
عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ عَمْرٌو: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ، أَوْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ تَوَضَّأَ.
زَادَ عَمْرٌو فِي حَدِيثِهِ: وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ.
رجال هذا الإسناد: عشرة
1 -
(حميد بن مسعدة) بن المبارك السامي الباهلي البصري صدوق من العاشرة مات سنة 244 تقدم في 5/ 5.
2 -
(سفيان بن حبيب) البصري البزاز أبو محمَّد، وقيل غير ذلك ثقة من التاسعة مات سنة 2 وقيل: 186 وله 58، وتقدم في 67/ 83.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة ثبت حجة -7 - تقدم في 24/ 36.
(1)
وفي نسخة "وحدثنا".
4 -
(عمرو بن علي) الفلاس الصيرفي البصري ثقة ثبت -10 - تقدم في 4/ 4.
5 -
(يحيى) بن سعيد القطان البصري ثقة ثبت حجة -9 - تقدم في 4/ 4.
6 -
(عبد الرحمن) بن مهدي العنبري البصري أبو سعيد ثقة ثبت حجة -9 - تقدم في 42/ 49.
7 -
(الحكم) بن عتيبة أبو محمَّد الكندي الكوفي ثقة ثبت فقيه ربما دلس -5 - تقدم في 86/ 104.
8 -
(إبراهيم) بن يزيد النخعي الإمام الفقيه الكوفي ثقة يرسل كثيرًا -5 - تقدم في 29/ 33.
9 -
(الأسود) بن يزيد بن قيس النخعي المخضرم الكوفي ثقة فقيه -2 - تقدم في 29/ 33.
10 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها تقدمت في 5/ 5.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سباعياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأنهم بصريون إلا الحكم، وإبراهيم، والأسود، فكوفيون، وعائشة فمدنية، وفيه ثلاثة من التابعين يروى بعضهم، عن بعض: الحكم، وإبراهيم، والأسود، وفيه كتابة (ح)، وهي للتحويل، وقد تقدم الكلام عليها. وفائدة التحويل الاختصار، وفيه عائشة رضي الله عنها المكثرة من الرواية. والله أعلم.
شرح الحديث
(عن عائشة رضي الله عنها أنها (قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم، وقال عمرو) أي بن علي الفَلاس (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني أن شيخيه اختلفا، فقال حميد:"كان النبي"، وقال عمرو بن علي "كان رسول الله"،
وهذا من شدة عناية المصنف رحمه الله وحرصه على أداء ما سمعه من شيوخه كما سمعه، احتياطا، لاختلاف العلماء في جواز إبدال النبي بالرسول وعكسه. وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك في المسائل إن شاء الله تعالى (إذا أراد أن يأكل، أو ينام، وهو جنب) جملة حالية من الفاعل (توضأ) جواب "إذا"(زاد عمرو) يعني ابن علي الفلاس (في حديثه) على حديث حميد (وضوءه للصلاة) مفعول "زاد" لقصد لفظه، أي زاد هذا اللفظ، يعني أنه قال في روايته:"توضأ وضوءه للصلاة " وأما حميد فاقتصر على: "توضأ". وأفادت زيادة عمرو أن المراد بالوضوء ليس الوضوء اللغوي، بل هو الوضوء الشرعي، وفائدة الوضوء تخفيف الجنابة، ويحمل قولها في الحديث الآتي في الباب التالي:"وإذا أراد أن يأكل غسل يديه" على بعض الأحيان. والله أعلم بالصواب.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث الباب أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكره عند المصنف: أخرجه هنا -163/ 255 - وفي الكبرى -144/ 252 - عن حميد بن مسعدة، عن سفيان بن حبيب، وعن عمرو الفلاس، عن يحيى القطان، وابن مهدي، ثلاثتهم عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها، وفي عشرة النساء في الكبرى عن عمران بن موسى، عن يزيد بن زريع، عن شعبة، به.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (م) في الطهارة عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن إسماعيل بن علية، ووكيع، وغندر، وعن ابن المثنى، وابن بشار، كلاهما عن غندر، وعن عبيد الله ابن معاذ، عن أبيه، كلهم عن شعبة، به. وأخرجه (د) فيه عن مسدد، عن يحيى، عن
شعبة، به. وأخرجه (ق) فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن إسماعيل بن علية، وغندر، ووكيع، عن شعبة به. وأخرجه البيهقي.
المسألة الرابعة: في فوائده: من فوائد الحديث ومثله الأحاديث الآتية في الأبواب التالية: مشروعية الوضوء للجنب عند إرادة النوم والأكل تخفيفًا.
قال العلامة الشوكاني رحمه الله: وأحاديث الباب تدل على أنه يجوز للجنب أن ينام، ويأكل قبل الاغتسال، وكذلك يجوز له معاودة الأهل كما سيأتي في حديث أبي سعيد 262، وكذلك الشرب كما يأتي في حديث عائشة في 257، وهو من حديث عمار عند أحمد والترمذي، وهذا كله مجمع عليه، قاله النووي، وحديث عمر الآتي في 259 جاء بصيغة الشرط، وهو مُتَمَسَّك لمن قال بوجوب الوضوء على الجنب إذا أراد أن ينام قبل الاغتسال، وهم الظاهرية وابن حبيب من المالكية، وذهب الجمهور إلى استحبابه وعدم وجوبه، وتمسكوا بحديث عائشة:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب ولا يمس ماء". أخرجه أبو داود، والترمذي، ولأحمد نحوه. قال الشوكاني: وهو غير صالح للتمسك به من وجوه: أحدها أن فيه مقالا لا ينتهض معه للاستدلال به.
قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي الكلام عليه في المسألة السادسة إن شاء الله تعالى.
وثانيهما: أن قوله: "لا يمس ماء" نكرة في سياق النفي، فتعم ماء الغسل، وماء الوضوء، وغيرهما، وحديثها المذكور في الباب بلفظ:"كان إذا أراد أن يأكل أو ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة" خاص بماء الوضوء، فيبنى العام على الخاص، ويكون المراد بقوله:"لا يمس ماء" غير ماء الوضوء، وقد صرح ابن سُريج، والبيهقي بأن المراد بالماء ماء
الغسل، وقد أخرج أحمد عن عائشة رضي الله عنها، قالت:"كان يجنب من الليل، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ولا يمس ماء".
وثالثها: أن تركه صلى الله عليه وسلم لمس الماء لا يعارض قوله الخاص بنا
(1)
كما تقرر في الأصول، فيكون الترك على تسليم الشمول لماء الوضوء خاصًا به.
وتمسكوا أيضا بحديث ابن عباس مرفوعًا: "إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة". أخرجه أصحاب السنن، وقد استدل به أيضًا على ذلك ابن خزيمة، وأبو عوانة في صحيحيهما، قال الحافظ: وقد قدح في هذا الاستدلال ابن رشد المالكي، وهو واضح.
قال الشوكاني: فيجب الجمع بين الأدلة يحمل الأمر على الاستحباب، ويؤيد ذلك أنه أخرج ابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما من حديث ابن عمر:"أنه سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أينام أحدنا وهو جنحب؟ قال: نعم، ويتوضأ إن شاء".
ثم إن المراد بالوضوء هنا هو الوضوء الشرعي كما صرحت رواية عائشة رضي الله عنها به هنا، حيث قالت:"وضوءه للصلاة"، فيرد به على الطحاوي، حيث جنح إلى أن المراد به التنظيف، واحتج بأن ابن عمر راوي هذا الحديث وهو صاحب القصة:"كان يتوضأ وهو جنب، ولا يغسل رجليه"، كما رواه مالك في الموطأ عن نافع عنه، ويرد أيضًا بأن مخالفة الراوي لما روى لا تقدح في المروي، ولا تصلح لمعارضته، وأيضًا قد ورد تقييد الوضوء بوضوء الصلاة من روايته، ومن رواية عائشة رضي الله عنها فيعتمد ذلك، ويحمل تركه لغسل رجليه على أن ذلك كان لعذر ويكون المراد هنا بالوضوء الوضوءَ الشرعيَّ كما قاله جمهور العلماء.
(1)
قلت: هذا غير صحيح، بل الصواب أن فعله غير ما ثبت خصوصيته بدليل مثل قوله فيخص به العام، ويقيد به المطلق. وقد حققت هذا البحث في غير هذا المحل. فتبصر. والله ولي التوفيق.
والحكمة فيه، كما قال الحافظ: أنه يخفف الحدث، ولا سيما على القول بجواز تفريق الغسل فينويه، فيرتفع الحدث عن تلك الأعضاء المخصوصة على الصحيح، ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة بسند رجاله ثقات، عن شداد بن أوس الصحابي رضي الله عنه، قال:"إذا أجنب أحدكم من الليل، ثم أراد أن ينام، فليتوضأ، فإنه نصف غسل الجنابة".
وقيل الحكمة فيه أنه إحدى الطهارتين، فعلى هذا يقوم التيمم مقامه. وقد روى البيهقي بإسناد حسن عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أجنب فأراد أن ينام توضأ أو تيمم"، ويحتمل أن يكون التيمم هنا عند عسر وجود الماء، وقيل: الحكمة فيه أنه ينشط إلى العود، أو إلى الغسل.
وقال ابن دقيق العيد: نص الشافعي رحمه الله على أن ذلك ليس على الحائض؛ لأنها لو اغتسلت لم يرتفع حدثها بخلاف الجنب، لكن إذا انقطع دمها استحب لها ذلك.
قال الجامع عفا الله عنها: وفيما نقل عن الشافعي عندي نظر، لأنه ليس في النص تعليل هذا الوضوء بارتفاع الحدث فتبصر. والله أعلم.
وفي الحديث أن غسل الجنابة ليس على الفور، وإنما يضيق عند القيام إلى الصلاة، واستحباب التنظف عند النوم، قال ابن الجوزي: والحكمة فيه أن الملائكة تبعد عن الوسخ والريح الكريهة بخلاف الشياطين فإنها تقرب من ذلك. والله أعلم.
أفاده في الفتح ج 1 ص 469 - 470، وقيل ج 1 ص 324 - 325.
المسألة الخامسة: حديث عائشة هذا قال الحافظ في التلخيص: متفق عليه بمعناه، ولفظ مسلم من طريق الأسود عنها:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان جنبا وأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة"، ولهما من طريق أبي سلمة عنها: "كان إذا أراد أن ينام، وهو جنب غسل فرجه، وتوضأ
للصلاة"، ورواه النسائي بلفظه إلى قوله: "توضأ"، وهو أيضا من رواية الأسود.
وروى بن أبي خيثمة، عن القطان قال: ترك شعبة حديث الحكم في الجنب إذا أراد أن يأكل. قال الحافظ: قلت: قد أخرجه مسلم من طريقه، فلعله تركه بعد أن كان يحدث به لتفرده بذكر الأكل، كما حكاه الخلال عن أحمد، وقد رُوي الوضوءُ عند الأكل للجنب من حديث جابر عند ابن ماجه، وابن خزيمة، ومن حديث أم سلمة، وأبي هريرة عند الطبراني في الأوسط. اهـ تلخيص ج 1 ص 140.
قال الجامع عفا الله عنه: فظهر بهذا ضعف ما نقل عن شعبة. والله أعلم.
المسألة السادسة: في الكلام علي حديث الأسود، عن عائشة رضي الله عنها:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينام وهو جنب، ولا يمس ماء".
قال الإمام أحمد رحمه الله: إنه ليس بصحيح، وقال أبو داود وهو وَهَم، وقال يزيد بن هارون: خطأ، وأخرجه مسلم دون قوله:"ولم يمس ماء"، قال الحافظ: وكأنه حذفها عمدًا، لأنه عللها في كتاب
التمييز، وقال مُهَنَّا عن أحمد بن صالح: لا يحل أن يروى هذا الحديث، وفي علل الأثرم: لو لم يخالف أبا إسحاق في هذا إلا إبراهيم وحده لكفى، فكيف وقد وافقه عبد الرحمن بن الأسود؟ وكذلك روى عروة، وأبو سلمة، عن عائشة رضي الله عنها.
وقال ابن مفوز: أجمع المحدثون على أنه خطأ من أبي إسحاق، قال
الحافظ: كذا قال، وتساهل في نقل الإجماع، فقد صححه البيهقي وقال: إن أبا إسحاق بَيَّن سماعه من الأسود في رواية زهير بن معاوية عنه، والمدلس إذا بين سماعه ممن روى عنه، وكان ثقة فلا وجه لرده.
قال: وقد جمع بين الروايتين أبو العباس بن سريج فأحسن الجمع، وذلك فيما أخبرنا أبو عبد الله الحافظ -يعني الحاكم- قال: سألت أبا الوليد الفقيه، فقلت: أيها الأستاذ قد صح عندنا حديث الثوري، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام وهو جنب ولا يمس ماء"، وكذلك صح حديث نافع، وعبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أن عمر قال: يا رسول الله أينام أحدنا، وهو جنب؟ قال:"نعم إذا توضأ"، فقال لي أبو الوليد: سألت أبا العباس بن سريج عن الحديثين؟ فقال الحكم بهما جميعًا، أما حديث عائشة فإنما أرادت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يمس ماء الغسل، وأما حديث عمر فمفسر ذكر فيه الوضوء، وبه نأخذ. اهـ السنن الكبرى ج 1 ص 202.
وجمع ابن التركماني في الجوهر النقي جمعًا آخر، وهو أن يحمل الأمر بالوضوء على الاستحباب، وفعله على بيان الجواز، فلا تعارض، قال: ويؤيد ذلك ما في صحيح ابن حبان عن عمر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أينام أحدنا وهو جنب؟ فقال: نعم، ويتوضأ إن شاء. اهـ
قال الحافظ: وقال الدراقطني في العلل: يشبه أن يكون الخبران صحيحين، قاله بعض أهل العلم. اهـ تلخيص ج 1 ص 141.
قال الجامع عفا الله عنه: الذين ضعفوا هذه الرواية منهم من عللها بالمخالفة كما تقدم، ومنهم من عللها بأن أبا إسحاق لما اختصر حديث عائشة الطويل أخطأ في اختصاره، وممن قال بهذا الطحاوي وابن العربي المالكي، فقد ذكرا الحديث بطوله، ثم بينا وجه خطئه، ودعواهما هذه غير مقبولة، فإن أبا إسحاق حافظ عارف بكيفية اختصار الحديث، وقد تَثَبَّتَ في روايته وصرح بالسماع، ويؤيده كما قال الحافظ في التلخيص ما رواه هشيم، عن عبد الملك، عن عطاء، عن عائشة، مثل روايته،
وكذلك ما رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما وقد تقدم. وفيه "أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم، ويتوضأ إن شاء".
وقد رد العلامة أحمد شاكر فيما كتبه على الترمذي دعوى خطأ أبي إسحاق في اختصار الحديث بابلغ رد، انظر ج 1 ص 205 - 206.
والحاصل أن رواية أبي إسحاق صحيحة، صححها الأئمة البيهقي والدراقطني، وغيرهما، والجمع بينها وبين أحاديث تقديم الوضوء بأحد أمرين: إما بحمل الأمر على الاستحباب، والفعل على الجواز كما قال ابن قتيبة، وابن التركماني، وإما بحمل ، "لا يمس ماء" على ماء الغسل، كما قال أبو العباس ابن سُريج وتبعه البيهقي، فزال الإشكال من دون دعوى تغليط حافظ ناقد راسخ جبل من الجبال. والحمد الله.
المسألة السابعة: في الكلام على قول النسائي: كان النبي صلى الله عليه وسلم، وقال عمرو: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم أنه من احتياطاته وورعه حيث يراعي ألفاظ شيوخه في الأداء، فإن تبديل لفظ النبي بالرسول والعكس فيه خلاف بين أهل العلم:
قال النووي في التقريب: قال الشيخ ابن الصلاح: الظاهر أنه لا يجوز تغيير "قال النبي صلى الله عليه وسلم" إلى "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" ولا عكسه، وإن جازت الرواية بالمعنى، وكان أحمد إذا كان في الكتاب "عن النبي صلى الله عليه وسلم" وقال المحدث "رسول الله صلى الله عليه وسلم" ضرب، وكتب "رسول الله"، وعلل ابن الصلاح ذلك فقال: لاختلافه في المعنى، لأن الرسول من أوحي إليه للتبليغ، والنبي من أوحي إليه للعمل فقط.
قال النووي: والصواب جوازه ، لأنه لا يختلف به هنا معنى، إذ المقصود نسبة القول لقائله، وهو حاصل بكل من اللفظين، وهو مذهب أحمد بن حنبل في رواية ابنه صالح عنه، وما تقدم عنه محمول على
استحباب اتباع اللفظ دون اللزوم، وإليه ذهب حماد بن سلمة، والخطيب.
واستدل بعضهم للمنع بحديث البراء بن عازب في الدعاء عند النوم، وفيه "ونبيك الذي أرسلت"، فأعاده على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"ورسولك الذي أرسلت" فقال: "لا، ونبيك الذي أرسلت".
قال الحافظ العراقي: ولا دليل فيه، لأن ألفاظ الأذكار توقيفية، وربما كان في اللفظ سرّ لا يحصل بغيره، ولعله أراد أن يجمع بين اللفظين في موضع واحد، وقال: والصواب ما قاله النووي، وكذا قال البلقيني. اهـ تدريب بتصرف ج 2 ص 121 - 122.
قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل أن الراجح الجواز، لكن الاحتياط الذي عليه عمل الشيخين، ولاسيما مسلم، وعمل جُلِّ أهل الحديث التنبيه على اختلاف ألفاظ الشيوخ، وإن كان لا يضر ذلك، وهو الطريق الأولى، فلذا سلكه المصنف رحمه الله هنا. والله تعالى أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
164 - بَابُ اقْتِصاَر الجُنُبِ عَلَى غَسْلِ يَدَيْه إذَا أرَاد أنْ يَأْكُلَ
أي هذا باب في ذكر الحديث الدال على اكتفاء الجنب عند إرادة الأكل بغسل يديه فقط، ومحل الاستدلال واضح من قوله:"وإذا أراد أن يأكل غسل يديه"، والحديث صحيح، فيحمل على بعض الأوقات، وما تقدم على بعض الأوقات، فكان صلى الله عليه وسلم يقتصر أحيانًا على غسل اليدين لبيان الجواز، ويتوضأ أحيانًا، لتكميل الحال، فكان في الأمر سعة، ولله الحمد.
256 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ تَوَضَّأَ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ غَسَلَ يَدَيْهِ.
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(محمَّد بن عبيد بن محمَّد) بن واقد المحاربي الكوفي صدوق -10 - تقدم في 144/ 226.
2 -
(عبد الله بن المبارك) بن واضح المروزي ثقة ثبت حجة إمام -8 - تقدم في 32/ 36.
3 -
(يونس بن يزيد) الأيلي ثقة إلا أن في حديثه عن الزهري، وهما قليلا، وفي غيره خطأ من كبارالسابعة مات 159 على الصحيح، تقدم في 9/ 9.
4 -
(الزهري) محمَّد بن مسلم الحجة الثبت الحافظ -4 - تقدم في 1/ 1.
5 -
(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف أحد الفقهاء ثقة حجة -3 - تقدم في 1/ 1.
6 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها. تقدمت في 5/ 5.
(تنبيه) هذا الحديث أخرجه أبو داود في سننه عن محمَّد بن الصباح، عن ابن المبارك بإسناد المصنف، وقال: ورواه ابن وهب، عن يونس، فجعل قصة الأكل قول عائشة مقصورا، قال: وقد رواه صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، كما قال ابن المبارك، إلا أنه قال عن عروة، أو أبي سلمة، وأخرجه أحمد في مسنده عن وكيع عن صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن عروة، وأبي سلمة، كلاهما عنها بدون شك، ج 6 ص 192، وأخرجه النسائي في عشرة النساء عن إسحاق بن إبراهيم بسند أحمد بدون شك. وسيأتي في 166/ 258، وأخرجه الدارقطني في السنن عن عثمان بن أبي شيبة، أخبرنا طلحة بن يحيى عن يونس، عن الزهري، عن عروة، أو أبي سلمة عنها
…
فذكر الحديث، وفيه:"إذا أراد أن يأكل غسل كفيه" وصححه، ثم أخرجه عن أبي بكر النيسابوري، عن محمَّد بن إسماعيل الصائغ، عن إبراهيم بن المنذر، عن أبي ضمرة، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، وأبي سلمة، بدون شك، بلفظ المصنف، وصححه أيضًا.
فظهر بهذا أن الحديث صحيح عند ابن شهاب بالطريقين، وأخرجه أيضا ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن ابن المبارك، بسند المصنف، ولفظه. وأخرجه ابن خزيمة، وابن حبان، وابن أبي شيبة.
ومذاهب العلماء في حكم هذا الحديث تقدمت مفصلة في الباب الماضي، والحمد لله.
165 - بَابُ اقتصِارِ الجُنُبِ على غَسلِ يَدَيْهِ إذَا أراَد أنْ يأكُلَ أو يَشْرَبَ
257 -
أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ المُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ تَوَضَّأَ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ. قَالَتْ: غَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ.
رجال هذا الإسناد: ستة
وهم السابقون في السند الماضي إلا سويد بن نصر، أبا الفضل المروزي راوية ابن المبارك ثقة -10 - تقدم في 45/ 55.
والحديث هو الماضي، إلا أن فيه زيادة:"أو يشرب". والحكم واضح.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
166 - بَابُ وُضُوءِ الجُنُبِ إذَا أرَادَ أنْ يَنَامَ
258 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ.
رجال هذا الإسناد: خمسة
تقدموا في الذي قبله إلا قتيبة بن سعيد، تقدم في 1/ 1 وغيره، والليث تقدم في 31/ 35 وغيره. والحديث تقدم الكلام عليه قريبا.
(تنبيه) أخرج المصنف هذا الحديث هنا 166/ 258 بهذا السند، وقد تقدم في 164/ 266 عن محمَّد بن عبيد، ومثله في الكبرى في الوليمة، وتقدم في 165/ 257 عن سويد بن نصر ومثله في الكبرى في الوليمة كلاهما عن ابن المبارك، عن يونس، وليس في حديث الليث ذكر الأكل، وفي الكبرى في عشرة النساء عن إسحاق بن إبراهيم، عن سفيان، وعن الحارث بن مسكين، عن ابن وهب، عن الليث، ويونس، وعن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن يونس، كلاهما عن الزهري به. وفي رواية ابن المبارك زيادة "وإذا أراد أن يأكل أو يشرب غسل يديه".
وعن إسحاق بن إبراهيم، عن وكيع، عن صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن أبي سلمة، وعروة، كلاهما عن عائشة، قالت: "كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يأكل وهو جنب غسل يديه".
وأخرجه (م د ق) فأخرجه (م) في الطهارة عن يحيى بن يحيى، وقتيبة، ومحمد بن رمح، ثلاثتهم عن الليث، عن الزهري به، بلفظ:"إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة" وأخرجه (د) فيه عن مسدد، وقتيبة، كلاهما عن سفيان، عن الزهري به. وعن محمَّد بن الصباح البزاز، عن ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري، به. وزيادة غسل اليدين عند إرادة الأكل، وقد تقدم تمام كلام أبي داود في الباب السابق، وأخرجه (ق) فيه عن محمَّد بن رمح، عن الليث، عن الزهري، وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن ابن المبارك به.
259 -
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَنَامُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ؟ قَالَ:"إِذَا تَوَضَّأَ".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(عبيد الله بن سعيد) أبو قُدَامة اليشكري السرخسي نزيل نيسابور ثقة مأمون سنين -10 - تقدم في 15/ 15.
2 -
(يحيى) بن سعيد القطان البصري ثقة ثبت حجة -9 - تقدم في 4/ 4.
3 -
(عبيد الله) بن عمر العمري المدني ثقة ثبت -5 - تقدم في 15/ 15.
4 -
(نافع) مولى ابن عمر المدني ثقة ثبت فقيه -3 - تقدم في 12/ 12.
5 -
(عبد الله بن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما تقدم في 12/ 12.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات أجلاء، وكلهم مدنيون، إلا شيخه، فنيسابوري، ويحيى فبصري، وفيه عبد الله بن عمر أحد المكثرين السبعة، وأحد العبادلة الأربعة.
(تنبيه) ظاهر هذا السياق أن ابن عمر حضر هذا السؤال، فيكون من مسنده، قال الحافظ: وهو المشهور من رواية نافع، وروي عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، أنه قال: يا رسول الله .. أخرجه المصنف في عشرة النساء رقم -177 - ، وعلى هذا فهو من مسند عمر، وكذا رواه مسلم من طريق يحيى القطان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، قال الحافظ: لكن ليس في هذا الاختلاف ما يقدح في صحة الحديث. اهـ فتح ج 1 ص 457.
والكلام على الحديث تقدم قريبًا.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
167 - بَابُ وُضُوءِ الجُنُبِ وَغَسْلِ ذَكَرِهِ إذَا أرَادَ أنْ يَنَامَ
260 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: ذَكَرَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ تُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ ثُمَّ نَمْ".
رجال الإسناد: أربعة
1 -
(قتيية) بن سعيد البغلاني ثقة ثبت -10 - تقدم في 1/ 1.
2 -
(مالك) بن أنس الإمام العلم ثقة حجة -7 - تقدم في 7/ 7.
3 -
(عبد الله بن دينار) العدوي أبو عبد الرحمن المدني مولى ابن عمر. روى عن ابن عمر، وأنس، وسليمان بن يسار، ونافع القرشي مولى ابن عمر، وأبي صالح السمان، وغيرهم. وعنه ابنه عبد الرحمن، ومالك، وسليمان بن بلال، وشعبة، وصفوان بن سليم، وعبد العزيز بن الماجشون، وعبد العزيز بن مسلم القسملي، والسفيانان، وجماعة. ووثقه أحمد، وابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، ومحمد بن سعد، والنسائي، وزاد أحمد: مستقيم الحديث، وزاد ابن سعد: كثير الحديث، ومات سنة 127، وكذا قال عمرو بن علي في تاريخ وفاته، ووثقه العجلي، وقال ابن عيينة: لم يكن بذاك، ثم صار، وقال الليث، عن ربيعة: حدثني عبد الله ابن دينار، وكان من صالحي التابعين صدوقًا دينًا، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الساجي: سئل عنه أحمد؟ فقال: نافع أكبر منه، وهو ثبت في نفسه، ولكن نافع أقوى منه،
وقال العقيلي: في رواية المشايخ عنه اضطراب، وفي العلل للخلال أن أحمد سئل عن عبد الله بن دينار الذي روى عنه موسى بن عُبَيْدة: النهيَ عن بيع الكالئ بالكالئ؟ فقال: ما هو الذي روى عنه الثوري، قيل: فمن هو؟ قال: لا أدري. وجزم العقيلي بأنه هو، فقال في ترجتمه: روى عنه موسى بن عبيدة، ونظراؤه أحاديث مناكير الحمل فيها عليهم، وروى عنه الأثبات حديثه عن ابن عمر في النهي عن بيع الولاء، وعن هبته، ومما انفرد به حديث شعب الإيمان، رواه عنه ابنه، وسهيل، وابن عجلان، وابن الهاد، ولم يروه شعبة، ولا الثوري، ولا غيرهما من الأثبات، وفي رجال الموطأ لابن الحذاء: قيل: لا نعلم له رواية عن أحد إلا عن ابن عمر. انتهى، قال الحافظ: وهذا قصور شديد ممن قاله.
أخرج له الجماعة. اهـ "تت" ج 5 ص 201 - 203.
4 -
(ابن عمر) عبد الله رضي الله عنهما، تقدم في 12/ 12.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من رباعياته، وقد تقدم أنه أعلى ما وقع له من الأسانيد وهو -11 - من الرباعيات، وتقدمت في 6، 14، 19، 35، 53، 54 ، 55، 76، 138، 189. وأن رواته كلهم ثقات مدنيون إلا قتيبة فبغلاني، واتفق الأئمة بالتخريج لهم.
شرح الحديث
(عن عبد الله بن دينار) قال الحافظ رحمه الله: هكذا رواه مالك في الموطأ باتفاق من رواة الموطأ، ورواه خارج الموطأ عن نافع بدل عبد الله ابن دينار، وذكر أبو علي الجياني أنه وقع في روايات ابن السكن عن نافع بدل عبد الله بن دينار، وكان كذلك عند الأصيلي إلا أنه ضرب على نافع، وكتب فوقه: عبد الله بن دينار، قال أبو علي: والحديث محفوظ لمالك عنهما جميعًا. انتهى كلامه. قال ابن عبد البر: الحديث لمالك عنهما جميعًا، لكن الحفوظ عن عبد الله بن دينار، وحديث نافع
غريب. انتهى. وقد رواه عنه جماعة كذلك عن نافع خمسة أو ستة فلا غرابة، وإن ساقه الدارقطني في غرائب مالك فمراده ما رواه خارج الموطأ، فهي غرابة خاصة بالنسبة للموطأ، نعم رواية الموطأ أشهر. اهـ الفتح ج 1 ص 468 (عن ابن عمر) ابن الخطاب رضي الله عنهما أنه (قال: ذكر عمر) يعني أباه، ومقتضاه كما تقدم أنه من مسند ابن عمر، كما هو عند أكثر الرواة، ورواه نوح عن مالك، فزاد فيه عن عمر، قاله في الفتح. وقال السيوطي: قال الدارقطني في العلل: والصحيح قول من قال عن ابن عمر أن عمر سأل. اهـ (لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تصيبه الجنابة من الليل) أي في الليل، كما في قوله تعالى:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] ، ويحتمل أنه لابتداء الغاية في الزمان أي ابتداءُ إصابة الجنابة الليل. قاله ولي الدين العراقي رحمه الله. اهـ زهر. والظاهر أن الضمير في "أنه" وفي "تصيبه" يعود إلى عمر. لكن وقع عند المصنف في عشرة النساء، وهي من الكبرى، عن حميد بن مسعدة، عن يزيد بن زريع، عن ابن عون، عن نافع، قال: أصاب ابن عمر جنابة، فأتى عمر، فذكر ذلك له، فأتى عمرُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فاستأمره؟ فقال:"يتوضأ، ويرقد" اهـ. ص 158 بتحقيق عمرو علي عمر.
فقال الحافظ: وعلى هذا فالضمير في قوله في حديث الباب: "أنه تصيبه" يعود على ابن عمر، لا على عمر، وقوله في الجواب:"توضأ" يحتمل أن يكون ابن عمر كان حاضرًا، فوجه الخطاب إليه. اهـ فتح ج 1 ص 469، ومثله للعيني ج 2 ص 246.
قال الجامع عفا الله عنه: وعندي هذا كله تكلف بعيد عن حل مَعْنَى الحديث بحيث يخرج عن فصاحة التركيب. بل الحق إبقاء الضمير على ما يقتضيه الظاهر، وهو أنه لعمر رضي الله عنه، ولا يرجع إلى ابن عمر، ولا ينافيه ما رواه المصنف من طريق ابن عون، إذ يحتمل أنه سأل
النبي صلى الله عليه وسلم مرتين مرة له، ومرة لابن عمر، أو تحمل إحدى الروايتين على الرواية بالمعنى، بدليل رواية نافع المتقدمة عن ابن عمر: أن عمر قال: يا رسول الله، أينام أحدنا وهو جنب، الحديث. فهذا السؤال وقع عامًا، فلابد من أن يحمل على أحد المحملين، فتأمل (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: توضأ، واغسل ذكرك، ثم نم) المراد الأمر بالجمع بين غسل الذكر والوضوء، لأن الواو لا تدل على الترتيب، ومن المعلوم تقديم غسل الذكر على الوضوء، ويدل على هذا رواية أبي نوح عن مالك "اغسل ذكرك ثم توضأ ثم نم"، وهي على الأصل، وفيه رد على من حمل الرواية الأولى على ظاهرها، وأجاز تقديم الوضوء على غسل الذكر، لأنه ليس بوضوء ينقضه الحدث، وإنما هو للتعبد، أفاده العيني.
قال السيوطي: وقال الداودي، وابن عبد البر: فيه تقديم وتأخير، أراد اغسل ذكرك، وتوضأ، والواو لا ترتب، وقد أخرجه المصنف في "الكبرى" وابن حبان بلفظ:"اغسل ذكرك، وتوضأ، ثم ارقد". وروى الطبراني عن ميمونة بنت سعد، قالت: يا رسول الله هل يرقد الجنب؟ قال: ما أحب أن يرقد حتى يتوضأ، فإني أخشى أنه يتوفى فلا يحضره جبريل"، وهو تصريح بالحكمة فيه.
قال الجامع عفا الله عنه: وهذا الحديث رواه الطبراني في الكبير، ج 25 ص 36 - 37، وفي سنده من لا يعرف. وروى ابن أبي شيبة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: إذا أراد أحدكم أن يرقد وهو جنب
فليتوضأ، فإنه لا يدري لعله تصاب نفسه في منامه.
قال الجامع عفا الله عنه: أخرجه في المصنف ج 1 ص 60 ورجاله رجال الصحيح.
وقد تقدم أثر شداد بن أوس الصحابي بأنه نصف غسل الجنابة، وتقدم أيضا بيان مذاهب العلماء في حكم هذا الوضوء في 163/ 255 فارجع إليه تزدد علمًا.
168 - بَابُ الجُنُبِ إذَا لَمْ يَتَوَضَّأْ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على الشؤم الحاصل للجنب إذا ترك الوضوء.
261 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ (ح) وَأَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُجَيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ وَلَا كَلْبٌ وَلَا جُنُبٌ".
رجال هذا الإسناد: عشرة
1 -
(إسحاق بن ابرهيم) الحنظلي المروزي ثقة ثبت -10 - تقدم في 2/ 2.
2 -
(هشام بن عبد الملك) الطيالسي البصري ثقة حافظ -9 - تقدم في 130/ 194.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت -7 - البصري تقدم في 24/ 26.
4 -
(عبيد الله بن سعيد) اليشكري، أبو قدامة السرخسي نزيل نيسابور ثقة مأمون سنين -10 - تقدم في 15/ 15.
5 -
(يحيى) بن سعيد القطان البصري ثقة ثبت حجة -9 - تقدم في 4/ 4.
6 -
(علي) بن مُدرك بصيغة اسم الفاعل النخعي الوَهْبيلي
(1)
أبو مدرك الكوفي. روى عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، وإبراهيم النخعي، وهلال بن يساف، وتميم بن طرفة، وعبد الرحمن بن يزيد النخعي، وأبي صالح. وعنه الأعمش، والمسعودي، وحَنَش بن الحارث، وأشعث بن سوّار، وشعبة. قال ابن معين، والنسائي: ثقة، وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: صالح صدوق، ثم قال: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات. قال الحضرمي: مات سنة -120 - . له في كتاب مسلم: حديثان: أحدهما: من روايته عن أبي زرعة، عن جده جرير، في استنصات الناس في حجة الوداع. والثاني: من روايته عن أبي زرعة، عن خَرَشَةَ بن الحُرِّ، عن أبي ذر، وقد ذكر ابن حبان أنه سمع من أبي مسعود البدري، ولأجل ذلك ذكره في التابعين، وقال العجلي: تابعي كوفي ثقة. أخرج له الجماعة.
7 -
(أبو زرعة) البجلي اسمه هرم بن عمرو بن جرير بن عبد الله على الصحيح كوفي ثقة -3 - تقدم في 43/ 50.
8 -
(عبد الله بن نُجَيّ) -بنون وجيم مصغرا- بن سَلَمة بن جُشَم بن أسد بن خليبة الكوفي الحضرمي. روى عن أبيه -وكان على مطهرة عليًّ- وعمار، وحذيفة، والحسين بن علي، وغيرهم. وعنه أبوزرعة بن عمرو بن جرير، والحارث العكلي، وشرحبيل بن مدرك، وجابر الجعفي. قال البخاري، وأبو أحمد بن عدي: فيه نظر، وقال النسائي:
(1)
والوهبيلي: بفتح الواو وسكون الهاء وكسر الباء بعدها ياء ثم لام، نسبة إلى وهبيل بن سعد بن مالك بن النخع. أفاده في اللباب. ج 3 ص 375.
ثقة. وقال ابن معين: لم يسمع من علي، بينه وبينه أبوه، وقال الدارقطني: يقال: إنه لم يسمع من علي -يعني حديث "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب"- قال: وليس بقوي في الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يروي عن علي، ويروي أيضًا عن أبيه، عن علي، وقال البزار: سمع هو، وأبوه من علي، وكناه النسائي أبا لقمان وقال الشافعي في مناظرته مع محمَّد بن الحسن في الشاهد واليمين: عبد الله بن نجي مجهول: أخرج له النسائي، وأبو داود، وابن ماجه. اهـ "تت" ج 6 ص 55.
9 -
(نجي) الحضرمي الكوفي. روى عن علي. وعنه ابنه عبد الله، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: لا يعجبني الاحتجاج بخبره إذا انفرد. قال الحافظ: وأفاد ابن حبان أن أبا زرعة بن عمرو بن جرير روى عنه أيضا، وإنما جاءت الرواية عن أبي زرعة عن عبد الله بن نجي، عن أبيه، وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة، وقال ابن سعد: كان قليل الحديث، وقال ابن ماكولا: كان على مطهرة علي، وكان له عشرة أولاد قتل منهم سبعة مع علي رضي الله عنه. أخرج له النسائي، وأبو داود، وابن ماجه. اهـ "تت" ج 10 ص 422 - 423.
10 -
(علي) بن أبي طالب، أبو الحسن الهاشمي المدني، ثم الكوفي رضي الله عنه. تقدم في 74/ 91.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من ثمانياته، وأن رواته ثقات، إلا عبد الله بن نجي، فصدوق، وأباه، فمقبول، وأنهم ما بين بصريين، وهم هشام، وشعبة، ويحيى، ونيسابورين، وهما إسحاق، وعبيد الله، وكوفيين وهم الباقون، وأن علي بن مدرك، وعبد الله بن نجي، وأباه هذا البابُ أولُ
موضع ذكروا فيه، وأن هؤلاء الرواة اتفقوا عليهم إلا عبيد الله بن سعيد فأخرج له البخاري، ومسلم، والمصنف، فقط، وعبد الله بن نجي، وأباه فأخرج لهما المصنف، وأبو داود، وابن ماجه، فقط. وفيه كتابة (ح)، وهي حاء التحويل، وتقدم البحث عنها في 57/ 71. والله أعلم.
شرح الحديث
(عن علي) بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم) أنه (قال لا تدخل) بالرفع لأن "لا" نافية (الملائكة) جمع ملك، وأصله ملأك، على وزن مَفْعَل، نقلت حركة الهمزة إلى اللام، وحذفت الهمزة، فصار ملكا على وزن مَفَل، فلما جمع رد إلى الأصل، وقيل: أصله مَألَك فقلب قلبا مكانيًا، فصار ملأكا على وزن معفل، فنقلت حركة الهمزة إلى ما قبلها، وحذفت فوزنه مَعَل، فلما جمع رد إلى أصله، وهو مأخوذ من الألوكة، وهي الرسالة، وقيل: من المَلْك بفتح الميم وسكون اللام، وهو الأخذ بقوة، والتاء إما للمبالغة، أو لتأنيث الجمع، فإذا حذفت امتنع من الصرف لصيغة منتهى المجموع. قاله في المنهل ج 2 ص 295. وهم مخلوقون من النور، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من نار، وخلق آدم مما وصف لكم"، وهم بالنسبة إلى ما هيأهم الله له أقسام: فمنهم حملة العرش، ومنهم الكروبيون الذين هم حول العرش، وهم أشراف الملائكة مع حملة العرش، وهم الملائكة المقربون، ومنهم جبريل، وميكائيل، ومنهم سكان السموات السبع يعمرونها عبادة ليلًا ونهارًا، فمنهم الراكع دائمًا، والقائم دائمًا، والساجد دائمًا، ومنهم المتعاقبون زمرة بعد زمرة إلى البيت المعمور كل يوم سبعون ألفا لا يعودون إليه آخر ما عليهم، ومنهم الموكلون بالجنان، ومنهم الموكلون بالنار، ومنهم الموكلون بحفظ بني آدم، ومنهم الموكلون بحفظ أعمال العباد.
وقد ذكر الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية الآيات والأحاديث التي تدل على هؤلاء الأصناف، وبينها أتم تبيين، فارجع إليه في ج 1 ص 35 - 49.
قال رحمه الله: وقد اختلف الناس في تفضيل الملائكة على البشر على أقوال:
فأكثر ما توجد هذه المسألة في كتب المتكلمين، والخلاف فيها مع المعتزلة ومن وافقهم، وأقدم كلام رأيته في هذه المسألة ما ذكره الحافظ ابن عساكر في تاريخه في ترجمة أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص أنه حضر مجلسا لعمر بن عبد العزيز، وعنده جماعة، فقال عمر: ما أحد أكرم على الله من كريم بني آدم، واستدل بقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 7] ووافقه على ذلك أمية بن عمرو بن سعيد، فقال عراك بن مالك: ما أحد أكرم على الله من ملائكته هم خَدَمَةُ داريه ورسلُهُ إلى أنبيائه، واستدل بقوله تعالى:{مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20]، فقال عمر بن عبد العزيز لمحمد بن كعب القرظي: ما تقول أنت يا أبا حمزة؟ فقال: قد أكرم الله آدم فخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له الملائكة، وجعل من ذريته الأنبياء والرسل، ومن يزوره الملائكة، فوافق عمر بن عبد العزيز في الحكم واستدل بغير دليله، وأضعف دلالة ما صرح به من الآية وهو قوله:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} مضمونه أنها ليست خاصة بالبشر، فإن الله تعالى قد وصف الملائكة بالإيمان في قوله:{وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} وكذلك الجن {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ} [الجن: 13 - 14].
قال ابن كثير رحمه الله: وأحسن ما يستدل به في هذه المسألة ما رواه عثمان بن سعيد الدارمي، عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا وهو أصح
(1)
،
(1)
هكذا عبارة ابن كثير في بدايته "وهو أصح" وهي غير واضحة المعنى، ولو أورده بسنده لكان أولى حتى ينظر في حاله، وبالجملة فينبغي التأكد من صحة هذا الحديث.
قال: "لما خلق الله الجنة قالت الملائكة: يا ربنا اجعل لنا هذه نأكل منها ونشرب فإنك خلقت الدنيا لبني آدم، فقال الله تعالى: لن أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان"، اهـ كلام ابن كثير في البداية ج 1 ص 49.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله الحافظ ابن كثير حسن جدّا، إلا أن الأولى والأحسن عندي أن لا نخوض في هذه المسألة وأمثالها التي ما كلفنا الله بمعرفتها، فما أنزل بها آية، ولا فصلها النبي صلى الله عليه وسلم تفصيلا، فالخوض والمناقشة في مثل هذا من فضول الكلام الذي لا يعني الإنسان،
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" فلا ينبغي للإنسان أن يشتغل بمثل هذه المسائل، فيضيع وقته الذي هو رأس ماله، فيخسر. والله الهادي إلى سواء السبيل.
ثم إن المراد بالملائكة في حديث الباب غير الحفظة والكتبة، وهم الذين يطوفون بالرحمة، والتبريك، والاستغفار. وأما الحفظة، والكتبة، فيدخلون كل بيت، وكذا الموكلون بقبض الأرواح، وقيل: المراد عموم الملائكة لظاهر الحديث، لكن الأول أولى للأدلة الأخرى.
(بيتا) أي مسكنا يستقر فيه الشخص سواء كان بناء، أم خيمة، أم غيرهما (فيه صورة) جملة من مبتدإ وخبر، صفة لبيت، قال في المصباح: الصورة: التِّمْثَال، وجمعها صُوَر، مثل غرفة وغرف، اهـ فيكون معنى الصورة أعم من أن يكون شاخصًا أو نقشًا أو دهانًا أو نسجًا في ثوب، والمراد ما كان على صورة الحيوان، ثم ظاهر الحديث يدل على أن الصورة مطلقا تمنع دخول الملائكة أعم من أن يكون لها ظل أم لا ممتهنة أم لا؟ وقيل: إن الممتهنة التي لا ظل لها لا تمنع دخول الملائكة.
قال الإمام النووي رحمه الله في شرح مسلم: قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم، وهو من
الكبائر؛ لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث، يعني حديث:"إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون"، وحديث:"الذين يصنعون الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم أحيوا ما خلقتم". وحديث: "كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفسًا فتعذبه في جهنم". وحديث "من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ". والحديث القدسي "قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة". وكلها في صحيح مسلم. قال: وسواء صنعه بما يمتهن أو بغيره، فصنعته حرام بكل حال؛ لأن فيه مضاهاة لخلق الله تعالى، وسواء ما كان في ثوب، أو بساط، أو درهم، أو
دينار، أو فلس، أو إناء، أو حائط، أو غيرها. وأما تصوير صورة الشجر ورحال الإبل وغير ذلك مما ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام. هذا حكم نفس التصوير، وأما اتخاذ الصور فيه صورة حيوان فإن كان معلقًا على حائط، أو ثوبًا ملبوسًا، أو عمامة، ونحو ذلك مما لا يعد ممتهنا فهو حرام، وإن كان في بساط يداس، ومخدة، ووسادة، ونحوها مما يمتهن فليس بحرام. ولكن هل يمنع دخول ملائكة الرحمة ذلك البيت، فقال الخطابي: لا يمنع. وأشار القاضي عياض إلى نحو ما قاله الخطابي. والأظهر أنه عام في كل صورة، وأنهم يمتنعون من الجميع
(1)
لإطلاق الأحاديث، ولا فرق في هذا كله بين ما له ظل وما لا ظل له هذا تلخيص مذهبنا في المسألة، وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهو مذهب الثوري، ومالك، وأبي حنيفة، وغيرهم. وقال بعض السلف: إنما يُنهى عما كان له ظل، ولا بأس بالصور التي ليس لها ظل، وهذا مذهب باطل
(2)
، فإن الستر الذي أنكر
(1)
لا، بل الأظهر التفصيل كما فصل في حديث جبريل الآتي.
(2)
لا، بل هو مذهب صحيح محمول على الرقم في الثوب بشرط كونه ممتهنا.
النبي صلى الله عليه وسلم الصورة فيه لا يشك أحد أنه مذموم، وليس لصورته ظل، مع باقي الأحاديث المطلقة في كل صورة، وقال الزهري: النهي في الصورة على العموم، وكذلك استعمال ما هي فيه، ودخول البيت الذي هى فيه، سواء كانت رقما في ثوب أو غير رقم. وسواء كانت في حائط، أو ثوب، أو بساط ممتهن، أو غير ممتهن، عملا بظاهر الأحاديث، لا سيما حديث النُّمرُقَة، وهذا مذهب قوي
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: وحديث النمرقة هو ما أخرجه مسلم في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: أنها اشترت نمرقة
(2)
فيها تصاوير فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل، فَعَرَفْتُ، أو فَعُرفَت في وجهه الكراهية، فقالت: يا رسول الله أتوب إلى الله وإلى رسوله فماذا أذنبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب هذه الصور يعذبون، ويقال: لهم أحيوا ما خلقتم، ثم قال:"إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة".
وقال آخرون: يجوز منها ما كان رقما في ثوب سواء امتهن أم لا، سواء علق في حائط أم لا، وكرهوا ما كان له ظل، أو كان مصورًا في الحيطان وشبهها سواء كان رقمًا أو غيره، واحتجوا بقوله في بعض أحاديث الباب:"إلا ما كان رقما في ثوب"، وهذا مذهب القاسم بن محمَّد، وأجمعوا على منع ما كان له ظل، ووجوب تغييره. قال القاضي: إلا ما ورد في اللعب بالبنات لصغار البنات، والرخصة في ذلك، لكن كره مالك شراء الرجل ذلك لابنته. وادعى بعضهم أن إباحة اللعب لهن بالبنات منسوخ بهذه الأحاديث.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي بعد التأمل في الأحاديث
(1)
لا، بل القوي ما يأتي أن ما كان ممتهنا جائز جمعًا بين الأحاديث.
(2)
نمرقة: بضم النون والواء وبكسرهما وبضم النون وفتح الراء، ويقال: نمرق بلا هاء: وسادة صغيرة، وقيل: هي مرفقة. اهـ نووي.
الواردة في هذا الباب أن الصور محرمة بجميع أنواعها إلا ما كان رقما في ثوب، أو كان ممتهنا يوطأ، أو على وسادة ونحوها، أو كان مقطوع الرأس حتى خرج من شكل الحيوان إلى شكل آخر، فأما أدلة تحريم الصور ما عدا المستثنيات فكثيرة واضحة، في الصحيحين وغيرهما وتقدم بعضها. فلنذكر هنا أدلة الصور المستثنيات لشدة الحاجة إليها حيث إن بعضهم أهمل العمل بها، وحاول تأويلها على وجه بعيد، مع أن الحق إعطاء كل ذي حق حقه، فلا يهمل بعض النصوص من دون توجيه، فيجب علينا أن نعمل بكل نص على ما يقتضيه، فإذا أخرجنا الصور المستثنيات فقد جمعنا بين تلك النصوص على وجه لا إهمال فيه لبعضها، وبهذا تجتمع النصوص.
فمن أدلة جواز ما كان رقما في ثوب ما أخرجه مسلم في صحيحه عن بكير بن الأشج، أن بسر بن سعيد حدثه أن زيد بن خالد الجهني حدثه، ومع بسر عبيد الله الخولاني أن أبا طلحة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة" قال بسر: فمرض زيد بن خالد فعدناه، فإذا نحن في بيته بستر فيه تصاوير، فقلت لعبيد الله الخولاني: ألم يحدثنا في التصاوير؟ قال: إنه قال: "إلا رقما في ثوب"، ألم تسمعه؟ قلت: لا، قال: بلى قد ذكر ذلك.
فهذا الحديث قال الشوكاني: إن صح رفعه كان مخصصا لما رقم في الأثواب من التماثيل. اهـ نيل ج 2 ص 196.
قال الجامع عفا الله عنه: قلت ثبت كونه مرفوعًا، فقد أخرج المصنف في كتاب الزينة رقم 5349 بسنده عن عبيد الله بن عبد الله أنه دخل على أبي طلحة الأنصاري يعوده فوجد عنده سهل بن حنيف، فأمر أبو طلحة إنسانا ينزع نمطا تحته، فقال سهل: لم تنزع؟ قال: لأن فيه تصاوير،
وقد قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد علمت، قال: ألم يقل: "إلا ما كان رقما في ثوب"؟ قال: بلى، ولكنها أطيب لنفسي.
فتبين بهذا أن هذا الاستثناء مرفوع.
قال الجامع: فهذا الحديث يدل على جواز الصور الرقمية، وتأويل النووي له بأنه محمول على رقم على صورة الشجرة وغيره مما ليس بحيوان غير صحيح، لأن تصوير الشجر ونحوه مما ليس بحيوان ليس محرما كيفما كان شكله ثم إن هذا الرقم في الثوب مقيد بما إذا لم يكن معلقًا على جدار أو سترا، بدليل حديث عائشة رضي الله عنها أنها نصبت سترا، وفيه تصاوير، فدخل رسول صلى الله عليه وسلم فنزعه، قالت: فقطعته وسادتين فكان يرتفق عليهما. متفق عليه. وفي لفظ أحمد: فقطعته مرفقتين، فلقد رأيته متكئا على إحداهما، وفيها صورة.
فدل هذا على أن ما كان رقمًا في ثوب إذا كان معلقًا على الحيطان ونحوها فإنه ممنوع، ودل لفظ أحمد أيضا على أن تلك الصورة التي كانت على الستر ما تغيرت إنما غير الستر فجعل وسادة مع بناء الصورة، فكونها ممتهنة توطأ هو الذي أباحها.
وأما حديث النمرقة المتقدم الذي استدل به النووي على تحريم الصورة مطلقًا، فلا يخالف هذا، فقد بين مسلم بعد أن ساقه على اللفظ المتقدم، فقال: وزاد في حديث ابن أخي الماجشون: "قالت: فأخذته فجعلته مرفقتين فكان يرتفق بهما في البيت".
فبان بهذا الزيادة أنه على معنى حديث نصب الستر، فقد أنكر عليها النمرقة فلما غيرتها وجعلتها مرفقتين أقرها عليه، وأن النمرقة يخالف معنى المرفقة. فإنها قد تفسر بغير المرفقة، قال في اللسان: النُّمْرُق، والنُّمْرُقة: الوسادة، وقيل: وسادة صغيرة وربما سموا الطِّنفسَهُ التي
فوق الرَّحْل نمرقة. اهـ. فتبين بهذا أن النمرقة هنا غير المرفقة، ويدل على هذا أيضا قول عائشة في الحديث: اشتريتها لك تقعد عليها وتوسدها.
ومن أدلة جواز ما كان ممتهنا يوطأ، أو مقطوع الرأس، ما أخرجه أحمد بسند صحيح ج 2 ص 305 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل فقال: إني كنت أتيتك الليلة، فلم يمنعني أن أدخل البيت الذي أنت فيه، إلا أنه كان فيه تمثال رجل، وكان في
البيت قرامٌ سترٌ فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمُرْ برأس التمثال الذي في باب البيت يقطع، فيصير كهيئة الشجرة، ومُرْ بالستر يقطع، فيجعل منه وسادتان توطآن، ومُرْ بالكلب فيخرج" ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا الكلب جرو كان للحسن والحسين تحت نضد
(1)
لهما، والحديث رواه أبو داود، والترمذي وصححه. وأخرج الطحاوي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"استأذن جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ادخل، فقال: كيف أدخل وفي بيتك ستر فيه تماثيل خيل ورجال، فإما أن تقطع رؤوسها، وإما أن تجعلها بساطًا، فإنا معاشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه تماثيل".
فقد دل هذا الحديث على أن الصورة إذا قطعت رأسها فخرجت عن شكل الحيوان، أو كانت ممتهنة بأن كانت بساطًا، أو وسادة، لا تحرم، ولا تمنع دخول الملائكة في البيت الذي هي فيه.
والحاصل أنه إذا كانت الصورة ثابتة الهيئة، قائمة الشكل، غير ممتهنة، حرمت، وإن كانت مقطوعة الرأس أو مفرقة الأجزاء مغيرة الشكل، أو ممتهنة جازت، لصراحة هذه الأحاديث فيها، وبهذا تجتمع الأحاديث. والله أعلم.
(1)
النضد بفتحتين فعل بمعنى مفعول، أي تحت متاع البيت المنضود بعضه فوق بعض، وقيل هو السرير.
وأما اتخاذ الصورة ذات الجسم فحرام، قال الزرقاني: وهذا بالإجماع في غير لعب البنات. اهـ.
قال في المنهل: والاحتياط ترك اتخاذ الصور كلها. اهـ ج 2 ص 297.
هذا كله في تصوير الحيوانات، وأما تصوير غير الحيوانات من الشجر وغيرها فجائز، لا فرق بين الشجر المثمر وغيره، لما رواه مسلم، وغيره عن سعيد بن أبي الحسن قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني رجل أصور فأفتني، فقال له: ادن مني فدنا منه، ثم قال: ادن مني فدنا حتى وضع يده على رأسه، قال: أنبئك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفسًا، فتعذبه في جهنم"، وقال: إن كنت لابد فاعلا فاصنع الشجر وما لا نفس له.
ولما تقدم في حديث جبريل من قوله: "فمر برأس التمثال الذي في باب البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة" الحديث.
وهذا مذهب العلماء كافة، وخالف في ذلك مجاهد فقال بكراهة الشجر المثمر، واحتج بما رواه مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقًا كخلقي، فليخلقوا ذَرَّة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة".
وأجاب الجمهور عن هذا بأن هذا محمول على خلق الحيوان، أو على من فعل الصورة لتعبد، وهو صانع الأصنام، جمعًا بينه وبين الأحاديث التي تدل على جواز تصوير الشجر كما مَرَّ قريبًا.
وأما ما رواه ابن ماجه عن أبي أمامة: "أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنته أن تصور في بيتها نخلة فمنعها، أو نهاها" فضعيف. لأن في إسناده عُفَير ابن مَعْدان، قال أبو حاتم: يكثر عن سليم، عن أبي أمامة، بما لا أصل له.
وقال أحمد: منكر الحديث ضعيف، أفاده في المنهل ج 2 ص 297.
والحاصل أن الراجح هو ما قاله الجمهور من جواز تصوير الشجر وغيره مما لا روح له مطلقًا، للأدلة المذكورة، والله أعلم.
(ولا كلب) ظاهره العموم في كل كلب، سواء أذن في اتخاذه أم لا؟ لأنه نكرة في سياق النفي، فيعم، وإلى العموم جنح القرطبي، والنووي لعموم الحديث، ولامتناع جبريل عليه السلام من دخول البيت الذي كان فيه الكلب مع كونه صلى الله عليه وسلم لم يعلم به.
قال النووي رحمه الله: فلو كان العذر لا يمنعهم من الدخول لم يمتنع جبريل من الدخول. اهـ. أي إذا كان وجود الكلب مع عدم العلم به مانعًا من الدخول فبالأولى وجوده عن عمد لنحو الحراسة.
وذهب الخطابي وجماعة إلى استثناء الكلب الذي أذن في اتخاذه للحراسة.
قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر ما قاله الأولون من العموم لظهور دليله. والله أعلم.
واختلف في سبب امتناع الملائكة من الدخول، فقيل: لكون الكلب نجس العين، ويؤيده ما جاء في بعض طرق الحديث عن عائشة عند مسلم "أنه صلى الله عليه وسلم أمر بنضح موضع الكلب". قال الجامع عفا الله عنه: هذا القول فيه نظر لأن النضح لا يكون مطهرًا للنجاسة العينية ولا سيما نجاسة الكلب إن قيل بنجاسة عينها، مع أن هذا القول غير صحيح.
وقيل: لكونها من الشياطين والملائكة ضد الشياطين. وقيل: لأنها تأكل النجاسة، وتتلطخ بها فينجس ما تعلقت به، وعلى هذا يحمل قول
من قال: إن الكلب غير نجس العين ينضح موضعه على الاحتياط؛ لأن النضح مشروع لتطهير المشكوك فيه، ولقائل أن يقول: إن امتناع الملائكة من الدخول في البيت الذي فيه الكلب أمر غير معقول لنا، إذ كل التعليلات التي ذكرت غير مسلمة إذ الخنزير أولى بالامتناع بوجوده
(1)
، وكذلك النجاسات الأخَرُ، مع أنه لم يرد نص عن الشارع ما يدل على امتناع دخولها بشيء من ذلك. أفاده في المنهل.
قال الجامع مفا الله عنه: هذا القول هو الأولى. والله أعلم.
(ولا جنب) ظاهره أيضا العموم، فيشمل من أصابته الجنابة أول الليل وأخَّر الغسل إلى آخره، لكن هذا العموم ليس مرادًا، بل المراد به من يتعود ترك الغسل، ويتهاون فيه إلى أن يخرج وقت الصلاة.
قال الخطابي: لم يرد بالجنب ها هنا من أصابته جنابة، فأخر الاغتسال إلى حضور الصلاة، ولكن يجنب، فلا يغتسل، ويتهاون به، ويتخذ تركه عادة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يطوف على نسائه في غسل واحد، وفي هذا تأخير الاغتسال عن أول وقت وجوده. اهـ وأما الجنب الذي لا يتخذ
ذلك عادة له ولا يترك الاغتسال إلى أن يخرج وقت الصلاة فلا يمنع دخول الملائكة البيت الذي هو فيه، لما تقدم من أنه صلى الله عليه وسلم كان يغتسل تارة أول الليل، وتارة آخره، ومن أنه رخص للجنب أن ينام قبل أن يغتسل، أو يتوضأ، ومن أنه كان ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا كله على تقدير صحة زيادة "ولا جنب"، وإلا فالحديث بزيادتها ضعيف كما يأتي. ثم إنهم قالوا في حكمة امتناعها من الدخول: كون الجنب بعيدًا عن العبادة ممتنع التلاوة.
(1)
في هذا الكلام نظر لا يخفى إذ الخنزير ليس كالكلب فإنه شرع في ولوغه التسبيع والتتريب بخلاف الخنزير. فتأمل.
قال ولي الدين العراقي رحمه الله: وأما امتناعهم من دخول البيت الذي فيه جنب إن صحت الرواية فيه، فيحمل أن ذلك لامتناعه من قراءة القرآن وتقصيره بترك المبادرة إلى امتثال الأمر، قال السيوطي: في هذا نظر، لأنه صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤخر الاغتسال، وانعقد الإجماع على أنه لا يجب على الفور، فالوجه ما قاله الخطابي، وكذا صاحب النهاية: أراد بالجنب في هذا الحديث الذي يترك الاغتسال من الجنابة عادة فيكون أكثر أوقاته جنبًا، وهذا يدل على قلة دينه وخبث باطنه. اهـ زهر ج 1 ص 142.
وحمل المصنف وجماعة ذلك على الجنب الذي لا يتوضأ، فلذا بوب عليه هنا "باب في الجنب إذا لم يتوضأ"، وكذا بوب البيهقي:"باب كراهة نوم الجنب من غير وضوء".
قال الجامع عفا الله عنه: وهذا أيضا فيه ما تقدم، فقد تقدم ما رواه ابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما عن عمر رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم، أينام أحدنا وهو جنب؟ قال:"نعم ويتوضأ إن شاء". فما دام أبيح له النوم من غير وضوء فكيف يمنع دخول الملائكة، مع أنه صح عن عائشة: أنه صلى الله عليه وسلم كان ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء. كما تقدم.
فالأولى حمل الجنب هنا إن صح الحديث على المتهاون الذي يكون أكثر أوقاته جنبا لقلة مبالاته وخفة دينه، والله أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: هذا الحديث في سنده عبد الله بن نُجَيّ، وثقه النسائي، وضعفه غيره، وذكره ابن حبان في الثقات. وفيه أبوه نجي، وثقه العجلي، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: لا يعجبني الاحتجاج بخبره إذا انفرد. وهذا الحديث مما انفرد هو به، وقال في "ت"
مقبول ، وإذا أطلق الحافظ مقبولا فمراده أنه يقبل حديثه إذا وجد متابعًا، وإلا فهو لين الحديث، فتببن بهذا ضعف هذا الحديث.
لكن له شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه في المسند ج 2 ص 320 عن بهز بن أسد، عن حماد بن سلمة، أنا عطاء الخراساني، عن يحيى بن يعمر، أن عمارًا قال: قدمت على أهلي ليلًا وقد تشققت يداي، فضمخوني بالزعفران، فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، فلم يردّ علي، ولم يرحب بي، فقال:"اغسل هذا"، قال: فذهبت فغسلته، ثم جئت وقد بقي علي منه شيء، فسلمت عليه، فلم يرد علي، ولم يرحب بي، وقال:"اغسل هذا عنك"، فذهبت فغسلته، ثم جئت فسلمت عليه، فرد علي، ورحب بي، وقال:"إن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر ولا المتضمخ بزعفران، ولا الجنب، ورخص للجنب إذا نام أو أكل أو شرب أن يتوضأ".
لكن في سنده عطاء الخراساني صدوق يهم كثيرًا، ويرسل، ويدلس، وقال أبو داود: بَيْنَ يحيى بن يعمر، وعمار رجل. يعني أن في إسناده مجهولًا.
وله شاهد آخر أخرجه أبو داود بسنده عن عمار بن ياسر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا تقربهم الملائكة: جيفة الكافر، والمتضمخ بالخلوق، والجنب، إلا أن يتوضأ". ورجال هذا الحديث ثقات، لكنه منقطع بين الحسن البصري، وعمار، فإنه لم يسمع منه، كما قال المنذري رحمه الله.
والحاصل أن الحديثين ضعيفان، فلا يعتضد بهما حديث الباب، وقد حكم الشيخ الألباني على حديث الباب بأن سنده ضعيف، فيه اضطراب، وجهالة. انظر تحقيقه على المشكاة ج 1 ص 144. والله أعلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند الصنف: أخرجه في هذا الباب 168/ 261 وفي الكبرى 147/ 257 بالسند المذكور، وفي الصيد والذبائح 11/ 1 عن محمَّد بن بشار، عن محمَّد بن جعفر غندر، ويحيى بن سعيد، عن شعبة به.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (د) في الطهارة، وفي اللباس عن حفص بن عمر، عن شعبة، عن علي بن مدرك، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن عبد الله بن بني، عن أبيه، عنه. وأخرجه (ق) في اللباس عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن غندر، به، ولم يقل:"ولا جنب". وأخرجه أحمد، والحاكم، والبيهقي.
المسألة الرابعة: في فوائده: يستفاد من الحديث أنه ينبغي للإنسان عدم اتخاذ الكلب، والتصاوير، وعدم التهاون في الاغتسال من الجنابة، لأن هذه الأشياء تمنع من الخير الكثير والبركة بدخول الملائكة في بيته، وأن الملائكة تمتنع من الدخول في المكان الذي توجد فيه هذه الأشياء، وقد تقدم ما قاله العلماء في حكمة امتناعها من الدخول فيه. والله تعالى أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
169 - بَابٌ في الجُنُبِ إذَا أرَدَ أنْ يَعُودَ
أي هذا باب في ذكر الحديث الدال على ما يفعله الجنب وقت إرادته العود إلى أهله للجماع مرة أخرى.
262 -
أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَعُودَ تَوَضَّأَ".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(الحسين بن حريث) الخزاعي مولاهم أبو عمار المروزي ثقة من العاشرة تقدم في 44/ 52.
2 -
(سفيان) بن عيينة الهلالي أبو محمَّد المكي ثقة حجة ثبت -8 - تقدم في 1/ 1.
3 -
(عاصم) بن سليمان الأحول البصري ثقة -4 - تقدم في 148/ 239.
4 -
(أبو المتوكل) علي بن داود، ويقال: دؤاد -بضم الدال بعدها واو، بهمزة- الناجي السامي البصري، روى عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وابن عباس، وجابر، وعائشة، وأم سلمة، وربيعة الجرشي. وعنه ثابت البناني، وقتادة، وبكر بن عبد الله المزني، وعاصم الأحول، وغيرهم. قال صالح بن أحمد، عن أبيه: ما علمت إلا خيرًا، وقال ابن معين، وأبو زرعة، وابن المديني، والنسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مات سنة 108، وقال ابن قانع: مات سنة 102. ووثقه
العجلي، والبزار. أخرج له الجماعة. اهـ "تت" ج 7 ص 318.
5 -
(أبو سعيد) الخدري، سعد بن مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر، وهو خدرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج الأنصاري، استصغر يوم أحد، وغزا بعد ذلك اثنتي عشرة غزوة. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبيه، وأخيه لأمه قتادة بن النعمان، وأبي بكر، وعمر،
وعثمان، وعلي، وزيد بن ثابت، وأبي قتادة الأنصاري، وعبد الله بن سلام، وأسيد بن حضير، وابن عباس، وأبي موسى الأشعري، ومعاوية، وجابر بن عبد الله. وعنه ابنه عبد الرحمن، وزوجته زينب
بنت كعب بن عجرة، وابن عباس، وابن عمر، وجابر، وزيد بن ثابت، وأبو أمامة بن سهل، ومحمود بن لبيد، وابن المسيب، وطارق بن شهاب، وأبو الطفيل، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء بن يسار، وعطاء بن يزيد، وعياض بن عبد الله بن أبي السرح، والأغر بن مسلم، وبشر بن سعيد، وأبو الوَدَّاك، وحفص بن عاصم، وحميد بن عبد الرحمن بن عوف، وأخوه أبو سلمة، وأبو المتوكل الناجي، وغيرهم.
قال حنظلة بن أبي سفيان، عن أشياخه: لم يكن أحد من أحداث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أفقه من أبي سعيد. مات سنة -74 - وقيل: -64 - وهو ابن -74 - ، وقيل مات سنة -63 - وقيل: -65 - أخرج له الجماعة. اهـ "تت"ج 3 ص 479 - 481. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات، اتفقوا على التخريج لهم، إلا شيخه، فما أخرج له (ق) وفيه أبو المتوكل، وأبو سعيد، هذا الباب أول محل ذكرهما في هذا الكتاب، وأبو سعيد هو أحد المكثرين السبعة روى 1170 حديثًا، اتفق الشيخان على 43 وانفرد (خ) 26 و (م)52. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي سعيد) سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنهما (عن النبي صلى الله عليه وسلم) أنه (قال: إذا أراد أحدكم أن يعود) إلى أهله بعد الجماع، وعند مسلم "إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود"(توضأ) بصيغة الماضي، ومعناه الأمر وهو جواب "إذا"، وعند مسلم "فليتوضأ" زاد في رواية "بينهما وضوءًا"، وعند ابن خزيمة:"فليتوضأ وضوءه للصلاة"، وزاد ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي:"فإنه أنشط للعود".
يعني أنه إذا جامع زوجته، ثم أراد أن يجامعها مرة أخرى فليتوضأ وضوءًا شرعيًا؛ لأنه المراد عند الإطلاق في كلام الشارع، ولتأكيده بالمصدر، لأن التأكيد به يرفع احتمال التجوز، نظير قوله تعالى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، فقد استدل أهل السنة بالتأكيد بالمصدر في هذه الآية على أن التكليم فيها باق على حقيقته، وليس متجوزا به. وأصرح من هذا كله رواية ابن خزيمة المذكورة فقد صرحت بأنه وضوء الصلاة. وسيأتي اختلاف العلماء في هذا الوضوء، وكذا في حكمه في المسائل الآتية إن شاء الله تعالى. والله أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي سعيد رضي الله عنه هذا حديث صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكره عند المصنف: ذكره هنا 169/ 262 وفي الكبرى -148/ 258 - عن الحسين بن حريث، عن سفيان، عن عاصم الأحول، عن أبي المتوكل، عنه. وفي عشرة النساء من الكبرى عن هارون بن إسحاق، عن حفص بن غياث، عن عاصم الأحول به. وعن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن عاصم به. وقال: رفع الحديث. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرج هذا الحديث (م) في الطهارة عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن حفص بن غياث، وعن أبي كريب، عن يحيى بن أبي زائدة، وعن عمرو الناقد، ومحمد ابن عبد الله بن نمير، كلاهما عن مروان بن معاوية- ثلاثتهم عن عاصم الأحول به. وأخرجه (د) فيه عن عمرو بن عون، عن حفص، عن عاصم به. وأخرجه (ت) فيه عن هناد، عن حفص بن غياث، عن عاصم الأحول به. وقال: حسن صحيح. وأخرجه (ق) فيه عن محمَّد بن عبد الملك بن أبي الشوارب،
عن عبد الواحد بن زياد، عن عاصم به.
وأخرجه ابن خزيمة، وابن حبان، والطحاوي، والبيهقي، والحاكم في المستدرك.
(تنبيه) هذا الحديث من رواية أبي سعيد الخدري هو الصحيح، وقد رُوي من رواية عمر رضي الله عنه، رواه ليث بن أبي سليم، عن عاصم، عن أبي المستهل، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"إذا أتى أحدكم أهله، وأراد أن يعود، فليغسل فرجه". قال ابن أبي حاتم في العلل ج 1 ص 34: قال أبي: هذا يرون أنه عاصم، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد، عن النبي وهو أشبه. اهـ
(تنبيه آخر) قال البيهقي في حديث الباب: إن الشافعي قال: لا يثبت مثله، قال البيهقي: لعله لم يقف على إسناد حديث أبي سعيد، ووقف على إسناد غيره، فقد رُوي عن عمر، وابن عمر بإسنادين ضعيفين. اهـ.
المسألة الرابعة في فوائده: يستفاد من هذا الحديث استحباب الوضوء عند إرادة العود إلى الجماع، وأنه لا يجب على الشخص أن يغتسل بينهما، وأن الاغتسال لا يجب على الفور، بل يجب عند القيام إلى الصلاة، ونحوها مما لا يجوز إلا بالطهارة. والله تعالى أعلم.
المسألة الخامسة: اختلف في المراد بالوضوء هنا، فقيل: غسل الفرج فقط مما به من أذى، قال عياض: وهو قول جماعة من الفقهاء، زاد القرطبي: وأكثر أهل العلم، قال: ويستدل على ذلك بأمرين. أحدهما: أنه ورد في رواية: "فليغسل فرجه" مكان "فليتوضأ".
الثاني: أن الوطء ليس من قبيل ما شرع له الوضوء، فإنه بأصل مشروعيته للقُرَب، والعبادات، والوطء ما به الملاذ والشهوات، وهو من جنس المباحات، ولو كان ذلك مشروعًا لأجل الوطء، لشرع في الوطء المبتدء فإنه من نوع المعاد، وإنما ذلك لما يتلطخ به الذكر من ماء الفرج والمني فإنه مما يكره، ويستثقل عادةً وشرعًا. وقيل: المراد به غسل الوجه واليدين، روى ابن أبي شيبة، عن ابن عمر، أنه كان إذا أتى أهله، ثم أراد أن يعود، غسل وجهه وذراعيه. وقيل: المراد الوضوء الشرعي الكامل.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا القول هو الصحيح، لما تقدم في رواية ابن خزيمة:"فليتوضأ وضوءه للصلاة".
وادعى الطحاوي أن هذا منسوخ، وقال: قد يجوز أن يكون أمر بهذا في حال ما كان الجنب لا يستطيع ذكر الله حتى يتوضأ، فأمر بالوضوء ليسمي عند جماعه، ثم رخص لهم أن يتكلموا بذكر الله وهم جنب، فارتفع ذلك، ثم روي من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجامع، ثم يعود، ولا يتوضأ، وينام ولا يغتسل". وقال: فهذا ناسخ لذلك. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: في دعوى النسخ نظر، إذ ليس عليه دليل، والحديث الذي استدل به، لم يُعْرَف تأخره حتى يكون ناسخًا، والله أعلم
المسألة السادسة: اختلف العلماء أيضا في حكم هذا الوضوء:
فذهب ابن حبيب المالكي والظاهرية إلى أنه للوجوب أخذًا بظاهر الحديث. وذهب الجمهور إلى أن الأمر فيه للاستحباب.
وذهب أبو يوسف من الحنفية إلى أنه ليس بواجب ولا مندوب، ورد عليه بحديث الباب وغيره.
قال الجامع عفا الله عنه: والذي ذهب إليه الجمهور من أن الأمر فيه للاستحباب هو الراجح، لما تقدم عند ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي من زيادة قوله:"فإنه أنشط للعود"، فإنه يدل هذا
التعليل على الندبية، والإرشاد، ويؤيده أيضًا ما رواه الطحاوي بسنده عن عائشة رضي الله عنها، قالت:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يجامع، ثم يعود، ولا يتوضأ". وحديث: "إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة".
والحاصل أن الأمر فيه أمر ندب وإرشاد، لا أمر إيجاب. والله أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
170 - بَابُ إتْيَانِ النَّساَءِ قَبْلَ إحْدَاثِ الغَسْلِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على جواز مجامعة امرأة بعد امرأة قبل أن يغتسل للأولى، ومحل الاستدلال واضح من قوله:"بغسل واحد".
263 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَاللَّفْظُ لإِسْحَاقَ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَافَ عَلَى نِسَائِهِ فِي لَيْلَةٍ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(إسحاق بن إبراهيم) الحنظلي المروزي أبو يعقوب، ثقة، حجة -10 - تقدم في 2/ 2.
2 -
(يعقوب بن إبراهيم) الدَّوْرَقي البغدادي ثقة ثبت -10 - تقدم في 21/ 22.
3 -
(إسماعيل بن إبراهيم) أبو بشر البصري المعروف بابن علية ثقة ثبت -8 - تقدم في 18/ 19.
4 -
(حميد الطويل) بن أبي حميد تير، وقيل: تيرويه، وقيل غيره ثقة عابد مدلس -5 - تقدم في 87/ 108.
5 -
(أنس بن مالك) أبو حمزة الأنصاري الصحابي الجليل رضي الله عنه تقدم في 6/ 6. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من رباعياته، وهذا هو -12 - لرباعيات هذا الكتاب، وأن
رواته كلهم ثقات أجلاء، اتفقوا بالتخريج لهم، وأن شيخه يعقوب هو أحد المشايخ الذين اتفق الستة بالأخذ عنهم بلا واسطة، وتقدموا غير مرة، وفيه قوله: واللفظ لإسحاق، أي هذا اللفظ المذكور هو لفظ إسحاق ابن إبراهيم، وأما يعقوب فرواه بالمعنى، وقد تقدم تحقيق البحث في هذا غير مرة، وفيه حميد الطويل، وصف بالطويل قيل: لأن في جاره رجلا يُسمى حُمَيدًا، وكان قصيرًا، فميزوا بينهما بهذا، وقيل لطول في يديه. وفيه أنس أحد المكثرين السبعة روى- 2286 حديثًا، اتفق الشيخان منها
على -168 - وانفرد (خ) بـ (83) و (م) بـ (71). والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أنس بن مالك) الأنصاري رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه) أي دار عليهن، وهو كناية عن الجماع، بدليل قوله:(بغسل واحد) وفي الرواية الآتية: "في غسل واحد"، وفي بمعنى الباء، وهو على حذف مضاف، أي بنية غسل واحد، أي يجامعهن ملتبسا ومصحوبا بنية غسل آخر الأمر. وإلا فالغسل يكون بعد الفراغ من جماعهن لا قبله.
وقوله: "في ليلة" أي واحدة، وعند أبي داود:"طاف ذات يوم"، وعند البخاري عن أنس: كان يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار، وهن إحدى عشرة. قال: قلت لأنس: أوَ كان يطيقه؟ قال: كنا نتحدث أنه أعطى قوة ثلاثين رجلًا. وفي رواية له أيضًا عن أنس: تسع نسوة. وجمع بينهما بأن ذلك كان في حالتين، فمرة طاف عليهن وهن إحدى عشرة، وأخرى وهن تسع أو بأنه كان تحته من الزوجات تسع وسريتان: مارية، وريحانة، على أنها كانت أمة، وقيل: زوجة. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولي: في درجته: حديث أنس رضي الله عنه هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له: أخرجه هنا 170/ 263 وفي الكبرى-149/ 159 - بهذا السند.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (د) في الطهارة عن مسدد، عن إسماعيل بن علية، عن حميد، عن أنس رضي الله عنه، وأخرجه البيهقي المسألة الرابعة: في فوائده: يستفاد من هذا الحديث أنه لا يجب الاغتسال بين الجماعين، سواء كان الجماع الثاني للأولى أو لغيرها، وهذا لا ينافي استحباب الغسل بينهما لما ثبت من حديث أبي رافع: أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف ذات يوم على نسائه يغتسل عند هذه، وعند هذه، قال: قلت: يا رسول الله، ألا تجعله غسلا واحدا؟ فقال:"هكذا أزكى، وأطيب، وأطهر". رواه أبو داود.
وفيه دليل على ما اختصه الله تعالى به من القوة في ذلك، والقوة في النكاح تدل على كمال الرجولية، وفيه جواز طواف الرجل على نسائه في الليلة الواحدة، لكن ينبغي كونه بإذن صاحبة النوبة، أو يعيد لها نوبتها بعد طوافه عليهن. هذا في غيره صلى الله عليه وسلم.
أما في حقه فاختلف العلماء، هل القسم بين الزوجات واجب عليه أم لا؟ فإن قلنا بعدم الوجوب، وهو الراجح، لقوله تعالى:{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51]. لكنه من كريم أخلاقه كان يقسم بينهن، فلا إشكال في هذا الحديث، وإن قلنا بالوجوب، فيحمل هذا الحديث على أنه استأذن صاحبة النوبة، أو أعاد لها بدل ليلتها، وفيه دليل على عدم الوضوء، لأنه لم يذكر هنا. وفيه دليل على أن الاغتسال من الجنابة لا يجب على الفور، بل عند إرادة الصلاة كما في
الوضوء، وهو محل إجماع كما قاله النووي، وغيره. والله تعالى أعلم.
264 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي غُسْلٍ وَاحِدٍ.
رجال هذا الإسناد: خمسة أيضا
1 -
(محمَّد بن عبيد) المحاربي أبو جعفر النحاس الكوفي صدوق من 10 - تقدم في 144/ 226.
2 -
(عبد الله بن المبارك) المروزي الإمام ثقة حجة ثبت -8 - تقدم في 32/ 36.
3 -
(معمر) بن راشد أبو عروة البصري، ثم اليمني، ثقة ثبت -7 - تقدم في 10/ 10.
4 -
(قتادة) بن دعامة السدوسي البصري ثقة حجة يدلس -4 - تقدم في 30/ 34.
5 -
(أنس) بن مالك الأنصاري أبو حمزة البصري تقدم في 6/ 6.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسياته، وهو نازل عن السند السابق برجل، وأن رواته كلهم ثقات، اتفقوا على التخريج لهم، إلا شيخه فلم يخرج له (خ م ق)، وفيه أنس أحد المكثرين. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أنس) بن مالك رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان) هذه الصيغة تقتضي أن هذا الفعل تكرر منه صلى الله عليه وسلم، بخلاف الرواية السابقة فلا تدل عليه، بل على مجرد الفعل، ففي هذه الرواية فائدة زائدة (يطوف) أي يدور (على نسائه في غسل واحد) في بمعنى الباء كما في الرواية السابقة، وهو كما تقدم على حذف مضاف، أي بنية غسل واحد آخر
الأمر.
وطوافه صلى الله عليه وسلم يحتمل وجوها:
الأول: أن يكون ذلك عند إقباله من السفر حيث لا قسم يلزم لأنه كان إذا سافر أقرع بينهن فأيتهن خرج سهمها سافر بها، فإذا انصرف استأنف القسم بعد ذلك ولم تك واحدة منهن أولى من صاحبتها بالبداءة، فلما استوت حقوقهن جمعهن كلهن في وقت، ثم استأنف القسم بعد ذلك.
الثاني: أن ذلك كان بإذنهن ورضاهن، أو بإذن صاحبة النوبة
ورضاها، كنحو استئذانه منهن أن يُمَرَّضَ في بيت عائشة. قاله أبو عبيد.
الثالث: قال المهلب: إن ذلك كان في يوم فراغه من القسم بينهن فيقرع في هذا اليوم لهن أجمع ويستأنف بعد ذلك.
هذا التأويل كله عند من يقول بوجوب القسم عليه صلى الله عليه وسلم في الدوام كما يجب علينا، قال العيني: وهم الأكثرون- وأما من لا يوجبه فلا يحتاج إلى هذا التأويل. وقال ابن العربي: إن الله خص نبيه صلى الله عليه وسلم بأشياء في النكاح منها: إعطاؤه ساعة لا يكون لأزواجه فيها حق حتى يدخل فيها على جميع أزواجه، فيفعل ما يريد بهن، ثم يدخل عند التي يكون الدَّوْر لها، وفي كتاب مسلم عن ابن عباس: إن تلك الساعة كانت بعد العصر، أفاده العيني، عمدة ج 3 ص 215.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله ابن العربي يحتاج إلى دليل، قال الحافظ: وأغرب ابن العربي فقال: إن الله .. الخ، فذكر كلامه، ثم قال: ويحتاج إلى ثبوت ما ذكره مفصلا. اهـ فتح ج 1 ص 451.
وقد استدل البخاري بهذا الحديث في كتاب النكاح على استحباب الاستكثار من النساء، وأشار فيه إلى أن القسم لم يكن واجبًا عليه، قال الحافظ: وهو قول طوائف من أهل العلم، وبه جزم الاصطخري من الشافعية، والمشهور عندهم، وعند الأكثرين الوجوب.
قال الجامع عفا الله عنه: وقد تقدم ترجيح ما ذهب إليه الأولون في الحديث السابق. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: هذا الحديث صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكره عند المصنف: أخرجه هنا-170/ 264، بهذا السند، وفي عشرة النساء من الكبرى عن عمرو بن علي، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن معمر، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (ت) في الطهارة عن بندار، عن أبي أحمد الزبيري، عن سفيان، عن معمر به. وقال: حسن صحيح.
وأخرجه (ق) فيه عن محمَّد بن المثنى، عن ابن مهدي، وأبي أحمد به.
المسألة الرابعة: لم يقع في رواية المصنف هنا ذكر عدد نسائه صلى الله عليه وسلم اللاتي جمعهن في ذلك الوقت، ووقع عند البخاري من طريق معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن أنس قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار، وهن إحدى عشرة". ومن طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة أن أنسًا حدثهم:"تسع نسوة".
وقد جمع ابن حبان في صحيحه بين الروايتين بأن حمل ذلك على حالتين، قال الحافظ: لكنه وهم في قوله: الأولى كانت في أول قدومه المدينة، حيث كان تحته تسع نسوة، والحالة الثانية في آخر الأمر حيث اجتمع عنده إحدى عشرة امرأة، وموضع الوهم منه أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة لم يكن تحته امرأة سوى سودة، ثم دخل على عائشة بالمدينة، ثم تزوج أم سلمة، وحفصة، وزينب بنت خزيمة، في السنة الثالثة، أو الرابعة، ثم تزوج زينب بنت جحش في الخامسة، ثم جويرية في السادسة، ثم صفية، وأم حبيبة، وميمونة في السابعة، وهؤلاء جميع من دخل بهن من الزوجات بعد الهجرة على المشهور، واختلف في ريحانة، وكانت من سبي بني قريظة، فجزم ابن إسحاق بأنه عرض عليها أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب، فاختارت البناء في ملكه، والأكثر على أنها ماتت قبله في سنة عشر، وكذا ماتت زينب بنت خزيمة بعد دخولها عليه بقليل، قال ابن عبد البر: مكثت عنده شهرين أو ثلاثة. فعلى هذا لم يجتمع عنده من الزوجات أكثر من تسع، مع أن سودة كانت وهبت
يومها لعائشة، فرُجِّحت رواية سعيد -يعني ابن أبي عروبة- حيث قال: وله يومئذ تسع نسوة، قال: لكن تحمل رواية هشام على أنه ضم مارية وريحانة إليهن وأطلق عليها لفظ: "نسائه" تغليبًا. وقد سرد الدمياطي
في السيرة التي جمعها من اطلع عليه من أزواجه ممن دخل بها أو عقد عليها فقط، أو طلقها قبل الدخول، أو خطبها ولم يعقد عليها فبلغت ثلاثين، وفي المختارة من وجه آخر عن أنس:"تزوج خمس عشرة، دخل منهن بإحدى عشرة، ومات عن تسع". وسرد أسماءهن أيضًا أبو الفتح اليعمري، ثم مغلطاي، فزدن على العدد الذي ذكره الدمياطي، وأنكر ابن القيم ذلك أن الكثرة المذكورة محمولة على اختلاف في بعض الأسماء وبمقتضى ذلك تنقص العدة. والله أعلم. اهـ فتح ج 1 ص 449 - 450.
وقد ذكر الحافظ العراقي رحمه الله أسماءهن بالترتيب، فقال:
أزْوَاجُهُ اللاتي بهنَّ قَدْ دَخَلْ
…
ثنْتَا أوْ إحْدَى عَشْرَة خُلفٌ نُقلْ
خَدِيجَةُ الأوْلَى تَليهَا سَوْدَةُ
…
ثُمَّ تَلِي عَائشِةُ الصِّدِّيقَةُ
وَقِيلَ قَبْلَ سَوْدَة فَحَفْصَةُ
…
فَزَيْنَبٌ وَالدُهَا خُزَيْمَةُ
فَبَعْدَهَا هِنْدٌ أيْ أمُّ سَلَمَهْ
…
فَابْنَةُ جَحْش زَينبُ المُكَرَّمَهْ
تَلِي ابْنَةُ الحَارِثِ أيْ جُوَيْرِيَهْ
…
فَبَعْدَهَا رَيْحَانَةُ المَسْبِيَهْ
وَقِيْلَ بَلْ مِلْكُ يَمِيْن فَقَطْ
…
لَمْ يَتَزَوجْهَا وَذَاكَ أضْبَطُ
بنْتُ أبي سُفْيَانَ وَهْيَ رَمْلَةُ
…
أمُّ حَبيْبَةَ تَلي صَفِيَّةُ
مِنْ بَعْدهَا فَبَعْدَهَا مَيْمُونَهْ
…
حِلًا وَكَانَتْ كَاسْمِهَا مَيْمُونَهْ
وَابْنُ المُثَنَّى مَعْمَر قَدْ أدْخَلَا
…
فِي جُمْلَة اللاتِي بِهِنَّ دَخَلَا
بنْتَ شُرَيْحٍ وَاسْمُهَا فَاطِمَةُ
…
عَرَّفَهَا بَأنَّهَا الوَاهِبَةُ
وَلمَ أَجِدْ مَنْ جَمَعَ الصَّحَابَهْ
…
ذَكَرَهَا وَلا بِأُسْدِ الغَابَهْ
وَعلَّهَا التي اسْتَعَاذَتْ مِنْهُ
…
وَهْيَ ابْنَةُ الضَحَّاكِ بَانَتْ منْهُ
وَغَيْرُ مَنْ بَنَى بهَا أوْ وَهَبَتْ
…
إلَى النَّبيِّ نَفْسَهَا أوْ خُطِبَتْ
وَلمْ يَقَعْ تَزْويجُهَا فَالعِدَّةُ
…
نَحْوُ الثَّلاثِينَ بِخُلْف أثْبَتُوا
اهـ كلام العراقي رحمه الله تعالى.
المسألة الخامسة: من فوائد الحديث: ما أعطي لنبيه صلى الله عليه وسلم القوة على الجماع، وهو دليل على كمال البنْيَة، ومنها ما استدل به ابن التين لقول مالك بلزوم الظهار من الإماء على أن المراد بالزائدتين مارية وريحانة، وقد أطلق على الجميع لفظ نسائه، وفيه نظر، لأن الإطلاق المذكور
بطريق التغليب، ومنها ما استدل به ابن المنير على جواز وطء الحرة بعد الأمة من غير غسل بينهما، ولا عبرة للمنقول عن مالك أنه يتأكد الاستحباب في هذه الصورة. قاله العيني في عمدته ج 3 ص 317.
(تنبيه) قد ذكر أهل العلم في الحكمة في استكثاره صلى الله عليه وسلم من النساء عشرة أوجه:
أحدها: أن يكثر من يشاهد أحواله الباطنة، فينتفي عنه ما يظن به المشركون من أنه ساحر، أو غير ذلك. الثاني: لتتشرف به قبائل العرب بمصاته فيهم. الثالث: للزيادة في تألفهم لذلك. الرابع: للزيادة في التكليف حيث كلف أن لا يشغله ما حبب إليه منهن عن المبالغة في التبليغ. الخامس: لتكثر عشيرته من جهة نسائه، فتزداد أعوانه على من يحاربه. السادس: نقل الأحكام الشرعية التي لا يطلع عليها الرجال، لأن أكثر ما يقع مع الزوجة مما شأنه أن يخفى مثله. السابع: الاطلاع على محاسن أخلاقه الباطنة، فقد تزوج أم حبيبة، وأبوها إذ ذاك يعاديه، وصفية بعد قتل أبيها وعمها وزوجها، فلو لم يكن أكمل الخلق في خلقه لنفرن منه، بل الذي وقع أنه كان أحب إليهن من جميع أهلهن. الثامن: خرق العادة له في كثرة الجماع مع التقلل من المأكول والمشروب وكثرة الصيام والوصال، وقد أمر من لم يقدر على مؤن النكاح بالصوم، وأشار إلى أن كثرته تكسر شهوته، فانخرقت هذه العادة في حقه صلى الله عليه وسلم. التاسع: تحصينهن. العاشر: القيام بحقوقهن. والله تعالى أعلم. ذكر هذه
الفوائد في فتح الباري في كتاب النكاح "باب كثرة النساء" ج 9 ص 17.
171 - بَابُ حَجْبِ الجُنُبِ مِنْ قِراَءةِ القُرْآنِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على منع الجنب من قراءة القرآن، وهو متلبس يحدث الجنابة.
والحَجْب بفتح فسكون مصدر حَجَبَه، يحجُبُه من باب قتل: إذا منعه، ومنه قيل للستر حجاب؛ لأنه يمنع المشاهدة، وقيل للبوّاب حاجب، لأنه يمنع من الدخول، والأصل في الحجاب جسم حائل بين
جسدين، وقد استعمل في المعاني، فقيل: العجز حجاب بين الإنسان وبين مراده، والمعصية حجاب بين العبد وبين ربه، وجمع الحجاب حُجُب، مثل كتاب، وكُتُب، وجمع الحاجب حُجَّاب، مثل كافر،
وكفار. قاله في المصباح. والإضافة هنا من إضافة المصدر إلى مفعوله.
وموضع الاستدلال واضح من قوله: "ليس الجنابة"، ولكن سيأتي ما فيه إن شاء الله.
265 -
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلِمَةَ، قَالَ: أَتَيْتُ عَلِيًّا أَنَا وَرَجُلَانِ، فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ مِنَ الْخَلَاءِ فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَأْكُلُ مَعَنَا اللَّحْمَ، وَلَمْ يَكُنْ يَحْجُبُهُ عَنِ الْقُرْآنِ شَيْءٌ لَيْسَ الْجَنَابَةَ.
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(علي بن حجر) السعدي المروزي نزيل بغداد، ثم مرو، ثقة، حافظ من صغار -9 - تقدم في 13/ 13.
2 -
(إسماعيل بن إبراهيم) هو ابن علية، أبو بشر البصري ثقة ثبت -8 - تقدم في 18/ 19.
3 -
(شعبة) بن الحجاج البصري ثقة حجة ثبت -7 - تقدم في 24/ 26.
4 -
(عمرو بن مرة) بن عبد الله بن طارق بن الحارث بن سلمة بن كعب بن وائل بن جمل بن كنانة بن ناجية بن مراد الجملي المرادي أبو عبد الله الكوفي الأعمى.
روى عن عبد الله بن أبي أوفي، وأبي وائل، ومرة الطيب، وسعيد بن المسيب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن سلمة، وغيرهم. وروى عنه ابنه عبد الله، وأبو إسحاق السبيعي، وهو أكبر منه،
والأعمش، ومنصور، والثوري، وشعبة، وغيرهم.
قال البخاري عن علي: له نحو مائتي حديث. وقال سعيد الأراطي: زَكَّاه أحمد بن حنبل. وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق ثقة كان يرى الإرجاء. وقال حفص بن غياث: ما سمعت الأعمش يثني على أحد إلا على عمرو بن مرة، فإنه كان يقول: كان مأمونا على ما عنده. وقال بقية، عن شعبة: كان أكثرهم علمًا. وقال معاذ بن معاذ، عن شعبة: ما رأيت أحدًا من أصحاب الحديث إلا يدلس إلا ابن عون، وعمرو بن مرة، وقال قراد، عن شعبة: ما رأيت ابن مرة في صلاة قط إلا ظننت أنه لا ينفتل حتى يستجاب له. وقال عبد الملك بن ميسرة في جنازته: إني لأحسبه خير أهل الأرض. وقال مسعر: لم يكن بالكوفة أحب إلي ولا أفضل منه. وقال ابن عيينة عن مسعر: كان
عمرو من معادن الصدق. وقال عبد الرحمن بن مهدي: أربعة بالكوفة لا يختلف في حديثهم، فمن اختلف عليهم فهو مخطئ منهم عمرو بن مرة. وقال جرير عن مغيرة: لم يزل في الناس بنية حتى دخل عمرو في الإرجاء فتهافت الناس فيه، ووثقه ابن نمير ويعقوب بن سفيان، مات سنة -118 - وقيل سنة 116، وجزم به ابن حبان في الثقات، وقال: يكنى أبا عبد الرحمن، وكان مرجئا. أخرج له الجماعة. اهـ "تت" ج 8 ص
5 -
(عبد الله بن سلمة) -بكسر اللام- المرادي الكوفي. روى عن عمر، ومعاذ، وعلي، وابن مسعود، وسعد، وسلمان الفارسي، وصفوان بن عسَّال، وعمار بن ياسر، وعبيدَة بن عمرو السلماني.
وعنه أبو إسحاق السبيعي، وعمرو بن مرة. قال أحمد بن حنبل: لا أعلم روى عنه غيرهما. وقال غيره: روى عنه أبو الزبير أيضًا. وقال النسائي في الكنى: أبو العالية عبد الله بن سلمة كوفي مرادي. وقال الخطيب: قد روى أبو إسحاق السبيعي عن أبي العالية عبد الله بن سلمة الهمداني، فزعم أحمد بن حنبل أنه الذي روى عنه عمرو بن مرة، وقال ابن نمير: ليس هو به، بل هو آخر، وكان ابن معين يقول كقول أحمد، ثم رجع عنه. وقال ابن حبان في الثقات: عبد الله بن سلمة بن الحارث الهمداني أخو عمرو. وقال شعبة، عن عمرو بن مرة: كان عبد الله بن سلمة يحدثنا فيعرف وينكر، كان قد كبر. وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة، وقال يعقوب بن شيبة: ثقة يعد في الطبقة الأولى من فقهاء الكوفة
بعد الصحابة، وقال البخاري: لا يتابع في حديثه. وقال أبو حاتم: يعرف وينكر. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، له عند (د) حديث "لا يقرأ الجنب" قال الحافظ: قال البخاري في تاريخه الصغير:
الذي قال ابن نمير أصح، والذي روى عنه أبو إسحاق هو الهمداني، والذي روى عنه عمرو بن مرة هو من رهط عمرو بن مرة جَمَلي مُرَادي.
وكذا قال ابن معين، والدارقطني، وابن ماكولا. وقال النسائي في المرادي: لا أعلم أحدًا روى عنه غير عمرو بن مرة، وقال في الكنى: أنا عبد الله بن أحمد، سألت أبي عن ابن سلمة روى عنه غير عمرو بن مرة؟ فقال: أبو إسحاق، وقال ابن نمير: هذا ليس هو ذاك، صاحب عمرو لم يرو عنه إلا عمرو. والذي قاله ابن نمير أصح، وفرق بينهما أيضا ابن حبان، فقال في الهمداني: ما حكاه عنه المزي، وقال في المرادي: عبد الله بن سلمة يروي عن علي، وعنه عمرو بن مرة يخطئ، وقد بينه الحاكم أبو أحمد بيانا شافيا في كتاب الكنى، وقال: عبد الله بن سلمة مرادي يروي عن سعد، وعلي، وابن مسعود، وصفوان بن عسال. وعنه عمرو بن مرة، وأبو الزبير، حديثه ليس بالقائم، وعبد الله بن سلمة الهمداني إنما يعرف له قوله فقط، ولا يعرف له راويًا غير أبي إسحاق السبيعي، ثم قال ما معناه: إن الغلط إنما وقع عند من جعلهما واحدًا بكنية من كنى المرادي أبا العالية -يعني من المتأخرين- وإنما هي كنية الهمداني، قال: ولا أعلم أحدًا كنى المرادي، قال: وقد وقع الخطأ فيه لمسلم، وغيره. والله أعلم. أخرج له الأربعة. اهـ "تت "ج 5 ص 241 - 243.
6 -
(علي) بن أبي طالب أبو الحسن الهاشمي أحد الخلفاء الراشدين رضي الله عنه تقدم في 74/ 91.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات، إلا عبد الله بن سلمة فصدوق تغير حفظه، وهم ما بين مروزي وهو شيخه، وبصريين وهما إسماعيل، وشعبة، وكوفيين، وهم الباقون، وقد اتفق الأئمة بالتخريج لهم إلا شيخه فلم يرو عنه (د ق) وعبد الله بن سلمة فلم يرو عنه (خ م)،
وفيه سلمة بكسر اللام، قال السيوطي في ألفية الحديث:
عَمْرٌو وَعَبْدُ الله نَجْلا سَلِمَهْ
…
بالكَسْر مَعْ قَبيلَة مُكَرَّمَهْ
وَالخُلْفُ في وَالد عَبْد الخَالقِ
…
والسَّلَمى للقَبيل وَافِقِ
يعني أن سَلَمة بفتح اللام إلا عمرو بن سلمَة، وعبد الله بن سلمة، وبني سلمة القبيلة المعروفة من الأنصار، واختُلف في عبد الخالق بن سلمة فقيل بالفتح، وقيل بالكسر. والله أعلم.
شرح الحديث
(عن عبد الله بن سلمة) بكسر اللام المرادي الكوفي، أنه (قال: أتيت عليا) أي ابن أبي طالب رضي الله عنه (أنا) ضمير منفصل أكد به الضمير المتصل للقاعدة المقررة التي ذكرها ابن مالك بقوله:
وإَنْ عَلَى ضَمير رَفْع مُتَّصلْ
…
عَطَفْتَ فَافْصلْ بالضَّمير المُنْفَصلْ
(ورجلان) معطوف على الضمير الفاعل، وقد طول الحديث أبو داود في سننه، فقال بسنده: عن عبد الله بن سلمة قال دخلت على علي رضي الله عنه أنا ورجلان، رجل منا، ورجل من بني أسد، أحسب بعثهما علي رضي الله عنه وجها
(1)
، وقال: إنكما علْجَان
(2)
فعالجا عن دينكما، ثم قام فدخل المخرج، ثم خرج، فدعا بماء فأخذ منه حفنة، فتمسح بها
(3)
يديه، ثم جعل يقرأ القرآن، فأنكروا ذلك، فقال: إن رسول صلى الله عليه وسلم كان يخرج من الخلاء .. الحديث. (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يخرج من الخلاء) بالفتح والمد كالفضاء وزنا ومعنى، وهو أيضًا المُتَوَضَّأ، قاله في المصباح، والمراد هنا محل قضاء الحاجة من البول والغائط، سمي بذلك لأنهم يقضون حاجتهم غالبا في الفضاء بُعْدًا عن أعين
(1)
أي جهَةً.
(2)
أي قويان.
(3)
أي غسل بتلك الحفنة كما صرح به الدارقطني.
الناس، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في أوائل هذا الشرح 16/ 16 (فيقرأ القرآن) إنما ذكر علي هذا حين أنكروا عليه قراءة القرآن بعد الخلاء كما بينته رواية أبي داود المذكورة آنفا، وعند أبي داود:"فيقرئنا القرآن" من الإقراء، وهو مستلزم للقراءة، والمراد أنه لا يتوضأ لأجل القرآن (ويأكل معنا اللحم) أي قبل الوضوء، وعند ابن ماجه:"فيأكل معنا الخبز واللحم"، قال الطيبي: لعل انضمام أكل اللحم مع قراء القرآن للإشعار بجواز الجمع بينهما من غير وضوء. أو مضمضة كما في الصلاة. اهـ والمراد أنه كان لا يمنعه الحدث من القراءة والأكل ونحوهما.
كما أشار إليه بقوله (ولم يكن يحجبه) أي يمنعه، وقد تقدم أول الباب أنه من باب قتل، وعند أبي داود: أو قال: "يحجزه"(عن القرآن) متعلق بـ "يحجب"، أي عن قراءته وإقرائه، جملة "يحجبه" خبر "يكن" مقدما على اسمها، وهو قوله (شيء) من أنواع الحدث.
قال السندي: والمراد بعموم شيء ما يجوز العقل فيه القراءة من الأحوال، وإلا فحالة البول والغائط مثل الجنابة، لكن خروجهما عقلا أغنى عن الاستثناء. اهـ وقوله (ليس الجنابة) ليس هنا من أداوت
الاستثناء، وهي فعل ماض ناقص، واسمها ضمير مستتر، اختلف النحاة في مرجعه، فقيل: يعود على البعض المفهوم من الكل السابق، والتقدير: ليس بعضُ الحدث، وقيل على اسم الفاعل المفهوم من الفعل السابق، والتقدير: ليس الحَاجب، وقيل: على المصدر المفهوم من الفعل السابق، والتقدير: ليس الحجب، والأول أصح، وقوله (الجنابة) بالنصب خبرها، وهو المُسْتَثْنَى، ونقل السيوطي رحمه الله في
شرحه عن الزركشي أن "ليس" هنا بمعنى"غير"، اهـ.
فإن أراد أنها هنا للاستثناء فلا يخالف ما ذكرناه، وإن أراد أنها اسم بمعناها فهذا مما لم أر أحدًا من النحاة أثبته فيحتاج إلى إثباته.
قال: وقال البزار: إنها بمعنى "إلا"، ويؤيده رواية ابن حبان "إلا الجنابة"، وفي رواية له "ما خلا الجنابة". اهـ.
وحاصل المعنى أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يمنعه شيء من أنواع الحدث عن قراءة القرآن إلا الجنابة. وفيه منع الجنب عن القرآن، وسيأتي تحقيق الكلام فيه قريبًا إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: هذا الحديث: ضعيف
(1)
، لأن في سنده عبد الله بن سلمة كان قد تغير، وروى هذا بعد ما كبر، كما قال شعبة، وصححه الترمذي، وابن السكن، وعبد الحق، والبغوي في شرح السنة، وروى ابن خزيمة بإسناده، عن شعبة قال: هذا الحديث ثلث رأس مالي، وقال الدارقطني: قال شعبة: ما أحدث بحديث أحسن منه، وقال البزار: لا يُروى من حديث علي إلا عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة عنه، وحكى الدارقطني في العلل أن بعضهم رواه عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن علي، وخَطَّأ هذه الرواية، وقال الشافعي في سنن حرملة: إن كان هذا الحديث ثابتا ففيه دلالة على تحريم القرآن على الجنب
(2)
.
وقال في جماع كتاب الطهور: أهل الحديث لا يثبتونه، قال البيهقي: إنما قال ذلك؛ لأن عبد الله بن سلمة راويه كان قد تغير، وإنما روى هذا الحديث بعد ما كبر، قاله شعبة. وقال الخطابي: كان أحمد يوهن هذا
(1)
وممن ضعفه العلامة الألباني في ضعيف السنن، وممن صححه العلامة أحمد شاكر في تحقيقه للترمذي، ج 1 ص 275، وذكر أن حديث علي الآتي يكون شاهدا له فيصح وسيأتي الكلام على حديث علي بأنه اختلف فيه بالوقف والرفع وصحح الدارقطني فيه الوقف وهو الحق. لما يأتي فلا يكون الموقوف شاهدًا لهذا. فتدبر.
(2)
في الاستدلال بهذا الحديث على تقدير صحته نظر لأنه حكايته فعل، وهي ليست نهيا، كما يأتي في كلام ابن خزيمة. فتبصر.
الحديث. وقال النووي في الخلاصة: خالف الترمذيَّ الأكثرون، فضعفوا هذا الحديث، قال الحافظ: وتخصيصه الترمذي بذلك دليل على أنه لم ير تصحيحه لغيره، وقد قدمنا ذكر من صححه غير الترمذي، وروى الدراقطني عن علي موقوفا:"اقرؤا القرآن ما لم تصب أحدكم جنابة، فإن أصابته فلا ولا حرفا"، قال الحافظ: وهذا يعضد حديث عبد الله بن سلمة
(1)
.
لكن قال ابن خزيمة: لا حجة في هذا الحديث لمن منع الجنب من القراءة، لأنه ليس فيه نهي، وإنما هي حكايته فعل، ولم يبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه إنما امتنع من ذلك لأجل الجنابة، أفاده في التلخيص. ج 1 ص 129.
قال الجامع عفا الله عنه: الراجح عندي أن حديث الباب ضعيف لأن مداره على عبد الله بن سلمة، وقد حدث به بعد ما تغير، وكبر كما قاله شعبة، وأما المصححون فلم يذكروا مستندا لقولهم وتساهل بعضهم معروف كالترمذي، والحاكم، فإنه صححه، وقال: عبد الله بن سلمة لا مطعن فيه، وهذا هو التساهل، ومن الغريب أن الذهبي وافقه على هذا.
وأما ما قاله العلامة أحمد شاكر في تعليقه للترمذي من أن عبد الله بن سلمة توبع على معنى حديثه هذا عن علي، فارتفعت شبهة الخطأ عن روايته إذا كان سيء الحفظ في كبره كما قالوا، ثم ذكر ما رواه أحمد في مسنده ج 1 ص 110: حدثنا عائذ بن حبيب، حدثني عامر بن السمط، عن أبي الغَريف، قال: أتيَ علي رضي الله عنه بوَضُوء، فمضمض، واستنشنق ثلاثا، وغسل وجهه ثلاثا، وغسل يديه وذراعيه ثلاثا ثلاثا، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
في هذا الكلام نظر لأن الموقوف معناه أنه رأي ومذهب له فكيف يكون مذهب الصحابي حجة على إثبات التحريم، وهذا غير مقبول فإن التشريع بالتحليل والتحريم لا يكون إلا بالنص أو الإجماع. فتأمل.
توضأ، ثم قرأ شيئًا من القرآن، ثم قال: هذا لمن ليس بجنب، فأما الجنب فلا، ولا آية.
فهذا الحديث وإن قال ابن شاكر صحيح جيد إلا أن فيه علة، وقد أشار الدارقطني إليها فذكره في سننه ج 1 ص 118 عن أبي بكر النيسابوري، وإسماعيل بن محمَّد الصفار، عن محمَّد بن عبد الملك
الدقيقي، عن يزيد بن هارون، عن عامر بن السِّمْط، عن أبي الغريف، الهمداني، قال: كنا مع علي في الرحبة، فخرج إلى أقصى الرحبة، فو الله أبَوْلًا أحْدَثَ أمْ غائطًا، ثم جاء، فدعا بكوز من ماء، فغسل
كفيه، ثم قبضهما إليه، ثم قرأ صدرًا من القرآن، ثم قال: اقرءوا القرآن ما لم يصب أحدكم جنابة، فإن أصابته جنابة فلا ولا حرفا واحدا". قال الدارقطني: هو صحيح عن علي.
وهذا من الدارقطني إشارة إلى تضعيف رفعه، حيث أن من وقفه أرجح ممن رفعه، فإن رافعه هو عائذ بن حبيب، قال عنه في التقريب: صدوق ورمي بالتشيع، والكلام فيه كثير في الميزان وغيره، وقد خالفه فيه يزيد بن هارون المجمع على توثيقه فوقفه على علي وهو الصحيح. كما قاله الدراقطني، ولم ينتبه لهذا ابن شاكر.
والحاصل أن حديث الباب غير صحيح. وعلى تقدير صحته لا يكون حجة في المسألة لأنه حكايته فعل، فإنه صلى الله عليه وسلم ترك القراءة حال الجنابة، وما بَيَّن أنه إنما ترك لأجلها، ومثله لا يصلح متمسكا للكراهة، فكيف يستدل به على التحريم.
وحديث علي المرفوع قد عرفت ما فيه من العلة، وأما الموقوف فلا يكون حجة. لأن قول الصحابة لا يكون حجة إلا إذا كان إجماعا، وقد خالفه ابن عباس من الصحابة كما يأتي قريبا، إن شاء الله تعالى.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر الصنف له: أخرجه هنا 171/ 265، 266، والكبرى 150/ 261، 262.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (د) في الطهارة عن حفص ابن عمر الحوضي، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي رضي الله عنه.
وأخرجه (ت) فيه عن أبي سعيد الأشج، عن حفص بن غياث، وعقبة بن خالد، كلاهما عن الأعمش، وابن أبي ليلى، كلاهما عن عمرو بن مرة به.
وأخرجه (ق) فيه عن بندار، عن غندر، عن شعبة به، ورواه أبو جعفر الرازي، ومحمد بن فضيل، ورواه عبد الله بن الأجلح، عن الأعمش، كما قال ابن فضيل. قاله الحافظ المزي في "تحفته". ج 7 ص 408.
وأخرجه أحمد، وابن حبان، والحاكم، والبزار، والدارقطني، والبيهقي، وابن السكن، وعبد الحق، والبغوي.
المسألة الرابعة: في فوائده: يستفاد من هذا الحديث جواز قراءة القرآن للمحدث حدثا أصغر من غير أن يتوضأ، وكذا أكله اللحم ونحوه، وشربه الشراب، وعدم جواز التلاوة للجنب حتى يغتسل. وهو موضع الترجمة للمصنف من الحديث. ولكن قد عرفت ضعفه، ولئن سلمنا صحته فلا يدل على المنع لما عرفت من كونه حكايته فعل لا تصلح متمسكا للتحريم. فتنبه.
المسألة الخامسة: في مذاهب العلماء في قراءة الجنب للقرآن: قال الحافظ أبو بكر بن المنذر رحمه الله: اختلف أهل العلم في قراءة الجنب والحائض القرآن، فكرهت طائفة أن يقرأ الجنب شيئا من القرآن، وممن رُوي عنه ذلك عمر، وعلي، والحسن، وإبراهيم، والزهري، وقتادة،
وجابر. وقال أبو عبيدة: الجنب مثل الحائض، وقال عطاء: الحائض لا تقرأ شيئا والجنب الآية ينفذها. وقال أبو العالية، وإبراهيم، والزهري، وابن جبير: الحائض لا تقرأ من القرآن، وقال جابر بن زيد: الحائض لا تتم الآية. واختلف في قراءة الحائض عن الشافعي، فحكى أبو ثور عنه أنه قال: لا بأس أن تقرأ، وحكى الربيع عنه أنه قال: لا يقرأ الجنب ولا الحائض ولا يحملان المصحف، قال النووي: مذهبنا أنه يحرم على الجنب والحائض القراءة قليلها وكثيرها حتى بعض الآية اهـ. المجموع ج 2 ص 162.
وكان أحمد يكره أن تقرأ الحائض، وأما الجنب فاختلف النقل عنه، وقال أبو ثور: لا تقرأ الحائض، ولا الجنب القرآن.
ورخصت طائفة للجنب في القرآن، منهم ابن عباس، وكان يقرأ ورده وهو جنب، فقيل له في ذلك؟ فقال: ما في جوفي أكثر من ذلك، ومنهم عكرمة. ومنهم: ابن المسيب، فقد قيل له: أيقرأ الجنب؟ قال نعم، أليس في جوفه.
وقال مالك: لا يقرأ الجنب القرآن إلا أن يتعوذ بالآية والآيتين عند منامه، ولا يدخل المسجد إلا عابر سبيل، وكذلك الحائض.
وقال الأوزاعي: لا يقرأ الجنب شيئًا من القرآن إلا آية الركوب إذا ركب، قال:{سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} إلى قوله: {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 13 - 14]{رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ} [المؤمنون: 29].
وفيه قول ثالث: قاله محمَّد بن مسلمة، كره للجنب أن يقرأ القرآن حتى يغتسل.
قال: وقد أرخص في الشيء الخفيف مثل الآية والآيتين يتعوذ بهما،
وأما الحائض ومن سواها فلا يكره لها أن تقرأ القرآن؛ لأن أمرها يطول فلا تدع القرآن، والجنب ليس كحالها.
قال ابن المنذر رحمه الله: احتج الذين كرهوا للجنب قراءة القرآن بحديث علي، ثم ذكر بسنده حديث الباب.
قال: واحتج من سهل للجنب أن يقرأ القرآن بحديث عائشة رضي الله عنها، ثم ساق بسنده حديثها:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه". وهو حديث صحيح علقه البخاري، وأخرجه مسلم.
قال ابن المنذر: فقال بعضهم: الذكر قد يكون بقراءة القرآن، وغيره، فكل ما وقع عليه اسم ذكر الله، فغير جائز أن يمنع منه أحد، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يمتنع من ذكر الله على كل أحيانه، وحديث علي لا يثبت إسناده، لأن عبد الله بن سلمة تفرد به، وقد تكلم فيه عمرو بن مرة، قال: سمعت عبد الله بن سلمة، وإنا لنعرف، وننكر، فإذا كان هو الناقل لخبره، فجرحه بطل الاحتجاج به، ولو ثبت خبر علي لم يجب الامتناع من القراءة من أجله؛ لأنه لم ينهه عن القراءة، فيكون الجنب ممنوعًا منه. اهـ كلام ابن المنذر في الأوسط ج 2 ص 96 - 100.
قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل أنه لم يثبت في منع الجنب عن القرآن شيء يعتد به، كما أوضحه العلماء، ومنهم البيهقي، والنووي، فإنه ضعف الأحاديث التي احتج بها المانعون، ومن غريب ما اتفق له في المجموع ج 2 ص 159 في هذا الباب أنه بعد ما ضعف حديث الباب وحديثًا آخر احتج به المانعون، أنه قال: واحتج أصحابنا أيضا قصة عبد الله بن رواحة رضي الله عنه المشهورة: أن امرأته رأته يواقع جارية له فذهبت، فأخذت سكينًا، وجاءت تريد قتله، فأنكر أنه واقع الجارية، وقال: أليس قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنب أن يقرأ القرآن؟ قالت بلى،
فأنشدها الأبيات المشهورة، فتوهمتها قرآنا فكفت عنه، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فضحك، ولم ينكر عليه. ثم ذكر بعده وجه الاستدلال منه، ثم قال: ولكن إسناد هذه القصة ضعيف، ومنقطع، ثم أخذ في الجواب عما استدل به المجيزون من حديث عائشة المذكور، ومحل العجب من هذا أنه بعد ما اعترف أن حديثهم الذي استندوا إليه ضعيف لا يصلح للاستدلال به أخذ يدفع دليل الآخرين الصحيح، فهذا أعجب، وأغريب.
وخلاصة القول أن الراجح قول من قال بجواز القراءة للجنب ، وهو كما في الفتح مذهب البخاري، والطبري، وابن المنذر، واحتجوا بعموم حديث عائشة المذكور.
لكن يكره له كما قال الشيخ الألباني لحديث "إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر" قاله في رد السلام، فالقرآن أولى من السلام، لكنه لا ينافي الجواز.
ومثل الجنب الحائض لعموم الدليل، ويتأيد أيضا بالبراءة الأصلية فما لم يصح دليل يخصص هذا العموم، وينقل عن هذه البراءة لا يصح العدول إلى غيره. انظر نيل الأوطار ج 1 ص 341.
وأما حديث ابن عمر مرفوعا: "لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئًا من القرآن" رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، فضعيف؛ لأنه من رواية إسماعيل بن عياش، عن موسى بن عقبة، وهو حجازي، وروايته عن الحجازيين ضعيفة.
وكذا حديث جابر مرفوعًا: "لا يقرأ الحائض ولا النفساء من القرآن شيئا" رواه الدارقطني، ففيه محمَّد بن الفضل، وهو متروك، أو منسوب إلى الوضع، وقد رُوي موقوفًا، وفيه يحيى بن أبي أنيسة، كذاب. فلا
يصلح شيء من هذه الأحاديث للاحتجاج بها، فبقي الجنب والحائض
والنفساء على أصل الجواز. والله أعلم.
(تنبيه) اختلف العلماء في مس الجنب، والحائض، والمحدث المصحف، والدنانير، والدراهيم، التي فيها قرآن:
قال الحافظ ابن المنذر رحمه الله: اختلف أهل العلم في مس الحائض، والجنب المصحف، فكره كثير منهم ذلك، منهم ابن عمر، وكره الحسن للجنب مس المصحف، إلا أن يكون له عِلاقة، وروي ذلك عن الشعبي، وطاوس والقاسم، وعطاء، وقال عطاء: لا بأس أن تأتيك الحائض بالمصحف بعلاقته، وقال الحكم، وحماد في الرجل يمس المصحف: إذا كان في علاقته فلا بأس. وكره عطاء، والزهري، والقاسم، والنخعي، مس الدراهم التي فيها ذكر الله تعالى على غير وضوء، وكره مالك أن يحمل المصحف بعلاقته أو على وسادة أحد إلا هو طاهر، قال: ولا بأس أن يحمله في الخُرْج
(1)
والتابوت، والغرارة، ونحو ذلك مَنْ عَلَى غير وضوء، ويحمل النصراني، واليهودي، المصحف في الغرارة، والتابوت في مذهبه، وقال الأوزاعي، والشافعي: لا يحمل المصحف الجنب والحائض، وقال أحمد وإسحاق: لا يقرأ في المصحف إلا متوضأ، قال إسحاق: لما صحّ قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يمس القرآن إلا طاهر"، وكذلك كان فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكره أحمد أن يمس المصحف أحد على غير طهارة، إلا أن يتصفحه بعود أو بشيء وقال أبو ثور: لا يمس المصحف جنب ولا حائض ولا غير متوضئ، قال: وذلك أن الله تعالى يقول: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79]، قال: وهذا قول مالك، وأبي عبد الله.
وحكى يعقوب، عن النعمان أنه قال في الرجل الجنب يأخذ الصُّرَّة
(1)
الخرج بالضم من الأوعية معروف والجمع أخراج، والغرارة بالكسر الجوالق، قاله في اللسان.
فيها دارهم فيها السورة من القرآن، أو المصحف بعلاقته، قال: لا بأس، وقال: لا يأخذ الدراهم إذا كان جنبا وفيها السورة من القرآن في غير صرة، وكذلك المصحف في غير علاقته. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يأخذ ذلك وهو على غير وضوء، إلا في صرة أو في علاقة.
قال ابن المنذز: أعلى ما احتج به من كره أن يمس المصحف غير طاهر قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79]، وحديث عمرو بن حزم، ثم ذكر بسنده، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، قال: في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو: "لا تمس القرآن إلا على طهور".
قال: ورخص بعض من كان في عصرنا للجنب والحائض في مس المصحف، ولبس التعويذ، ومس الدراهم والدنانير التي فيها ذكر الله تعالى على غير طهارة، وقال معنى قوله:{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} الملائكة، كذلك قال أنس، وابن جبير، ومجاهد، والضحاك، وأبو العالية، وقال: وقوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} خبر بضم السين، ولو كان نهيا لقال: لا يمسنه، واحتج بحديث أبي هريرة، وحذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"المؤمن لا ينجس".
والأكثر من أهل العلم على القول الأول، وعن ابن جبير أنه بال، ثم توضأ وضوءه إلا رجليه، ثم أخذ المصحف. وروي عن الحسن، وقتادة أنهما كانا لا يريان بأسا أن يمس الدراهم على غير وضوء، ويقولان: جبلوا على ذلك.
واحتجت هذه الفرقة بنول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: "أعطني الخمرة"، قالت: إني حائض، قال:"إن حيضتك ليست بيدك"، وبقول عائشة:"كنت أغسل رأس النبي صلى الله عليه وسلم وأنا حائض"، قال: وفي هذا دليل على أن الحائض لا تنجس ما تمس، إذ ليس جميع بدنها نجسا، وإذا ثبت أن بدنها
غير نجس إلا الفرج ثبت أن النجس في الفرج لكون الدم فيه، وسائر البدن طاهر. اهـ كلام ابن المنذر في الأوسط ج 2 ص 101 - 104.
قال الجامع عفا الله عنه: واحتجت الطائفة المجيزة أيضا بكتابه صلى الله عليه وسلم إلى هرقل كتابًا فيه آية، وقد علم أنه يمسه هرقل وأصحابه.
فإن قيل: إنها آية واحدة: أجيب بأن الآية وغيرها سواء في تسميته قرآنا فإذا جاز في الآية جاز في غيرها.
وأما احتجاجه بآية: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} . فلا يتم إلا إذا كان المعنى مسُّه بالجارحة، وكان المراد بالخبر الأمر، والمراد بقوله:"المطهرون" هم المحدثون أو نحوهم وفي كل هذا خلاف:
قال القرطبي في تفسيره: اختلف في معنى {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] هل هو حقيقة في المس بالجارحة أو معنى؟ وكذلك اختلف في "المطهرون" من هم؟ فقال أنس، وسعيد بن جبير: لا يمس ذلك الكتاب إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة، وكذا قال أبو العالية، وابن زيد: إنهم الذي طهروا من الذنوب كالرسل من الملائكة، والرسل من بني آدم، فجبريل النازل به مطهر، والرسل الذين يجيئهم بذلك مطهرون.
وقال الكلبي: هم السفرة الكرام البررة، وهذا كله قول واحد، وهو نحو ما اختاره مالك حيث قال: أحسن ما سمعت في قوله: {لايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} أنها بمنزلة الآية التي في "عبس وتولى": {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 12 - 16]. يريد أن المطهرين هم الملائكة وصفوا بالطهارة في سورة عبس، وقيل معنى {لايَمَسُّهُ} لا ينزل به {إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} أي الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء وقيل: لا يمس اللوح المحفوظ
الذي هو الكتاب المكنون إلا الملائكة المطهرون، وقيل: إن إسرافيل هو الموكل بذلك، حكاه القشيري قال ابن العربي: وهذا باطل، لأن الملائكة لا تناله في وفت، ولا تصل إليه بحال، ولو كان المراد به ذلك لما كان للاستثناء فيه مجال، وقيل: المراد بالكتاب المصحف الذي بأيدينا، واستظهره القرطبي.
قال: وعلى هذا المعنى قال قتادة وغيره: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} من الأحداث والأنجاس. وقال الكلبي: من الشرك. وقال الربيع بن أنس: من الذنوب والخطايا.
وقيل: معنى لا يمسه: لا يقرؤه {إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} إلا الموحدون، قاله محمَّد بن فضيل، وعبدة، وقال الفراء: لا يجد طعمه ونفعه وبركته إلا المطهرون، أي المؤمنون بالقرآن.
قال ابن العربي: وهو اختيار البخاري، إلى غير ذلك من الأقوال.
ثم قيل: ظاهر الآية خبر عن الشرع، أي لا يمسه إلا المطهرون شرعا، فإن وجد خلاف ذلك فهو غير الشرع، وهذا اختيار القاضي أبي بكر بن العربي، وأبطل أن يكون لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر. وقال المهدوي: يجوز أن يكون أمرا، وتكون ضمة السين ضمة إعراب، ويجوز أن يكون نهيا، وتكون ضمة السين ضمة بناء، والفعل مجزوم. اهـ كلام القرطبي ببعض اختصار ج 17 ص 225 - 226.
وقد ذكر إمام المفسرين أبو جعفر محمَّد بن جرير الطبري في تفسيره المشهور اختلاف العلماء في الذي عُنُوا بقوله: {إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} فقيل: هم الملائكة، وقيل: هم حملة التوراة والإنجيل، وقيل: هم المطهرون من الذنوب كالملائكة والرسل، وقيل: عني بذلك أنه لا يمسه عند الله إلا المطهرون، ثم ذكر من قال كل ذلك بأسانيده.
ثم قال: والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله جل ثناؤه أخبر أنه لا يمس الكتاب المكنون إلا المطهرون، فعم بخبره المطهرين، ولم يخص بعضًا دون بعض، فالملائكة من المطهرين والرسل والأنبياء من المطهرين، وكل من كان مطهرا من الذنوب فهو ممن استثنى وعُني بقوله:{إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} . اهـ ج 27 ص 205 - 206.
قال الجامع عفا الله عنه: فظهر بهذا أن أكثر أقوال السلف بعيد عن المسألة، فلا يظهر الاستدلال بالآية عندهم.
وقد ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره نحو ما تقدم، ثم قال: وقال آخرون: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] أي من الجنابة والحدث، قالوا: ولفظ الآية خبر، ومعناها الطلب، قالوا: والمراد بالقرآن ها هنا المصحف كما روى مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، مخافة أن يناله العدو"، واحتجوا في ذلك بما رواه مالك في موطاه عن عبد الله بن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم: أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: "أن لا يمس القرآن إلا طاهرٌ".
وروى أبو داود في المراسيل من حديث الزهري، قال: قرأت في صحيفة عند أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ولا يمس القرآن إلا طاهر"، وهذه وجادة جيدة، قد قرأها الزهري وغيره، ومثل هذا ينبغي الأخذ به، وقد أسنده الدارقطني عن عمرو بن حزم، وعبد الله بن عمرو، وعثمان بن أبي العاص، وفي إسناد كل منها نظر. اهـ كلام ابن كثير في تفسيره ج 4 ص 319 - 320.
قال الجامع عفا الله عنه: الاستدلال بحديث: "لا يمس القرآن إلا طاهر" هو الأولى، وقد تكلم فيه العلماء، ونلخص كلامهم الآن ليتم الاحتجاج بعد ثبوت صحته:
قال الحافظ الزيلعي رحمه الله في نصب الراية: رُوي -يعني الحديث المذكور- من حديث عمرو بن حزم، ومن حديث ابن عمر، ومن حديث حكيم بن حزام، ومن حديث عثمان بن أبي العاص، ومن حديث ثوبان.
أما حديث عمرو بن حزم: فرواه النسائي
(1)
في سننه في كتاب الديات، وأبو داود في المراسيل من حديث محمَّد بن بكار بن بلال، عن يحيى بن حمزة، عن سليمان بن أرقم، عن الزهري، عن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده: أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن في السنن والفرائض والديات: أن لا يمس القرآن إلا طاهر. انتهى. ورويناه أيضا من حديث الحكم بن موسى، عن يحيى بن حمزة، ثنا سليمان بن داود الخولاني، حدثني الزهري، عن أبي بكر بن محمَّد بن عمر بن حزم، عن أبيه، عن جده، بنحوه، قال أبو داود: وهم فيه الحكم بن موسى -يعني في قوله: سليمان بن داود-، وإنما هو سليمان بن أرقم، وقال النسائي: الأول أشبه بالصواب، وسليمان بن أرقم متروك. انتهى.
وبالسند الثاني رواه ابن حبان في "صحيحه" وقال: سليمان بن داود الخولاني من أهل دمشق ثقة مأمون. وكذلك الحاكم في المستدرك بطوله، وقال: هو من قواعد الإسلام، وإسناده من شرط هذا الكتاب، ورواه الطبراني في معجمه، والدراقطني، ثم البيهقي في سننهما، وأحمد في مسنده، وابن راهويه. قاله الزيلعي.
وأخرجه الدارقطني من طريق أبي ثور، عن مبشر بن إسماعيل، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن جده، قال: كان فيما
(1)
لكن في رواية النسائي في هذا الموضع ليس فيها "وأن لا يمس القرآن إلا طاهر" ولعله أراد أصل الحديث. اهـ.
أخذ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن لا يمس القرآن إلا طاهر" تفرد به أبو ثور، وقال: الصواب ليس فيه عن جده، ثم أخرجه من طريق إسحاق بن الصباغ
(1)
عن مالك كذلك. وأخرجه عبد الرزاق، والدارقطني، والبيهقي من طريقه عن معمر، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، ليس فيه عن جده. وقد أخرجه الطيالسي من طريق أبي بكر بن محمَّد، عن أبيه، عن جده نحوه. قاله الحافظ في إتمام الدارية ج 1 ص 87.
وأما حديث ابن عمر: فرواه الطبراني في معجمه، والدراقطني، ثم البيهقي من جهته في سننهما من حديث ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري، قال: سمعت سالما يحدث عن أبيه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يمس القرآن إلا طاهر" وسليمان بن موسى الأشدق مختلف فيه فوثقه بعضهم، وقال البخاري: عنده مناكير. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال الحافظ: إسناده لا بأس به. وذكر الأثرم أن أحمدا احتج به. لكن فيه كما قال الشيخ الألباني: عنعنة ابن جريج وهو مدلس.
وأما حديث عثمان بن أبي العاص، فرواه الطبراني في معجمه، وفيه إسماعيل بن رافع، ضعفه النسائي، وابن معين، وقال البخاري: ثقة مقارب الحديث.
وأما حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه فرواه الحاكم في المستدرك، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وأخرجه الطبراني، والدارقطني، ثم البيهقي، وفيه مطر الوراق ضعفوه، وقال عنه في التقريب: صدوق كثير الخطأ. والراوي عنه سويد أبو حاتم ضعفوه، وقال عنه في التقريب: صدوق سيء الحفظ له أغلاط.
وأما حديث ثوبان رضي الله عنه: "لا يمس القرآن إلا طاهر، والعمرة
(1)
وفي نصب الراية: إسحاق الطباع، فليحرر.
الحج الأصغر" فأخرجه علي بن عبد العزيز في منتخب المسند، قاله في إتمام الدارية. لكن قال ابن القطان: إسناده في غاية الضعف. وقال الشيخ الألباني: هالك، فلا يستشهد به.
قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل عندي أن الحديث صحيح، كما قال جماعة من المحققين، قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: إنه أشبه المتواتر لتلقي الناس له بالقبول. وقال يعقوب بن سفيان رحمه الله: لا أعلم كتابا أصح من هذا الكتاب، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم. وقال الحاكم: قد شهد عمر بن عبد العزيز، والزهري لهذا الكتاب بالصحة. هذا، ولا سيما وقد روي عن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم بالأسانيد المختلفة، فهي كما قال العلامة الألباني في الإرواء ج 1 ص 160: وإن كانت كلها لا تخلو من ضعف، لكنه ضعف يسير إذ ليس في شيء منها من اتهم بكذب، وإنما العلة الإرسال، أو سوء الحفظ، ومن المقرر في علم المصطلح أن الطرق يقوي بعضها بعضًا إذا لم يكن فيها متهم. فالنفس تطمئن لصحة هذا الحديث، لا سيما وقد احتج به إمام السنة أحمد بن حنبل، وصححه صاحبه إسحاق بن راهويه، فقال: لما سئل عن قراءة الرجل على غير وضوء قال: نعم، ولكن لا يقرأ في المصحف، لما صح قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يمس القرآن إلا طاهر"، وكذلك فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعون. اهـ. كلام الشيخ الألباني بتصرف.
ومما صح عن الصحابة ما رواه عبد الرحمن بن يزيد عن سلمان رضي الله عنه: أنه قضى حاجته، فخرج، ثم جاء، فقلت: لو توضأت لعلنا نسألك عن آيات؟ قال: إني لست أمسه، ولا يمسه إلا المطهرون، فقرأ علينا ما شئنا. أخرجه الدراقطني وصححه. قاله في إتمام الدراية. وما رواه مصعب بن سعد بن أبي وقاص أنه قال: كنت أمسك المصحف على سعد بن أبي وقاص، فاحتككت، فقال سعد: لعلك مسست
ذكرك؟ قال: فقلت: نعم، فقال: قم توضأ، فقمت فتوضأت، ثم رجعت. رواه مالك، وعنه البيهقي، وسنده صحيح. قاله في الإرواء. ج 1 ص 161.
وخلاصة القول أن أرجح المذاهب مذهب من منع عن ممس المصحف للمحدث لصحة حديث: "لا يمس القرآن إلا طاهر".
وأما قول الصنعاني: لكن يبقى النظر في المراد من "الطاهر" فإنه لفظ مشترك يطلق على الطاهر من الحدث الأكبر، والطاهر من الحدث الأصغر، ويطلق على المؤمن، وعلى من ليس على بدنه نجاسة، ولابد لحمله على معين من قرينة. اهـ.
فمما لا يلتفت إليه؛ لأن المراد به واضح إذ هو الطاهر من الحدث بنوعيه، وكذا الطاهر من النجاسة من باب أولى، وأما المؤمن فغير مراد هنا، لأن في بعض طرق الحديث "وأن لا تمس القرآن إلا طاهرًا" ومعلوم أنه لا يريد عند مخاطبة الصحابي معنى المؤمن. فتبصر. والله أعلم. وهو المستعان وعليه التكلان.
266 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ أَبُو يُوسُفَ الصَّيْدَلَانِيُّ الرَّقِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلِمَةَ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ الْقُرْآنَ عَلَى كُلِّ حَالٍ لَيْسَ الْجَنَابَةَ.
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(محمَّد بن أحمد أبو يوسف الصيدلاني الرقي) هو محمَّد بن أحمد بن الحجاج بن ميسرة القرشي الكريزي -بضم الكاف وفتح المهملة- مولاهم أبو يوسف الحافظ الصيدلاني الجزري الرقي.
روى عن محمَّد بن سلمة الحراني، وعيسى بن يونس، وسفيان بن عيينة، وخالد بن حيان، ومطرف بن مازن، وغيرهم. وعنه النسائي وابن ماجه، وأبو حاتم، والحسين بن جمعة، وإسحاق بن أحمد بن إسحاق الرقي، ومحمد بن علي بن حبيب الطرائفي، ومحمد بن علي المُرّي، وأبو عروبة، وآخرون.
قال أبو حاتم: صدوق. وقال أبو علي النيسابوري: أبو يوسف الرقي هذا من حفاظ أهل الجزيرة ومتقنيهم. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مات سنة 246. وقال النسائي: لا بأس به، قال الحافظ: ويقال فيه الصيدناني بنون بدل اللام، نبهت عليه لئلا يظن آخر. أخرج له النسائي، وابن ماجه. اهـ "تت" ج 9 ص 23.
(تنبيه) الصيدلاني: بفتح الصاد وسكون الياء هذه النسبة لمن يبيع الأدوية والعقاقير. قاله في اللباب ج 2 ص 254.
والرقي: بفتح الراء وتشديد القاف: نسبة إلى الرَّقَّة مدينة على طرف الفرات. قاله في اللباب أيضًا ج 2 ص 34.
2 -
(عيسى بن يونس) بن أبي إسحاق السبيعي الكوفي ثقة ثبت -8 - تقدم في 8/ 8.
3 -
(الأعمش) سليمان بن مهران أبو محمَّد الكاهلي الكوفي ثقة ثبت مدلس -5 - تقدم في 17/ 18.
والباقون تقدموا في السند الماضي، وكذا تقدم شرح الحديث، والمسائل المتعلقة به، فلا تغفل. والله تعالى أعلم.
172 - بَابُ مَمَاسَّةِ الجُنُبِ وَمُجاَلَسَتِهِ
أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على حكم مماسة الجنب ومجالسته.
والمماسة والمجالسة: مصدران لماسَّ وجَالَسَ، كما قال ابن مالك:
لفَاعَلَ الفِعَالُ واَلُمفاعَلَهْ
…
...........
وهذا الباب للمشاركة بين اثنين، فالمعنى هنا أن يمسَّ الجنبُ غيرَه، ويمسُّهُ غيرُه ويجالسُ غيرَه، ويجالسُه غيرُه.
وموضع الاستدلال واضح من الأحاديث المذكورة في الباب، حيث قال:"إن المسلم لا ينجس". فدل على جواز مماسته ومجالسته.
267 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا لَقِيَ الرَّجُلَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَاسَحَهُ وَدَعَا لَهُ، قَالَ: فَرَأَيْتُهُ يَوْمًا بُكْرَةً، فَحِدْتُ عَنْهُ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ حِينَ ارْتَفَعَ النَّهَارُ، فَقَالَ:"إِنِّي رَأَيْتُكَ فَحِدْتَ عَنِّي". فَقُلْتُ: إِنِّي كُنْتُ جُنُبًا فَخَشِيتُ أَنْ تَمَسَّنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَنْجُسُ".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(إسحاق بن إبراهيم) الحنظلي المروزي المعروف بابن راهويه ثقة
حجة -10 - تقدم في 2/ 2.
2 -
(جرير) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبي الكوفي نزيل الري ثقة ثبت -8 - تقدم في 2/ 2.
3 -
(الشيباني) سليمان بن أبي سليمان، واسمه فيروز، ويقال: خاقان، ويقال: عمرو، الشيباني مولاهم الكوفي، وقيل: مولى ابن عباس، والأول أصح. روى عن عبد الله بن أبي أوفى، وزرّ بن حبيش وأشعث بن أبي الشعثاء، وبكير بن الأخنس، وجبلة بن سحيم، وحبيب ابن أبي ثابت، وأبي بردة بن أبي موسى، وابنه سعيد بن أبي بردة، وأبي الزناد، وعكرمة مولى ابن عباس، وغيرهم.
وعنه ابنه إسحاق، وأبو إسحاق السبيعي -وهو أكبر منه- وعاصم الأحول -وهو من أقرانه- وإبراهيم بن طهمان، وأبو إسحاق الفزاري، والثوري، وشعبة، والمسعودي، وعبد الواحد بن زياد، وهشيم، وغيرهم.
قال الجوزجاني: رأيت أحمد يعجبه حديث الشيباني، وقال: هو أهل أن لا ندع له شيئًا، وقال ابن أبي مريم عن ابن معين: ثقة حجة، وقال أبو حاتم: ثقة صدوق صالح الحديث، وقال النسائي: ثقة، وقال العجلي: كان ثقة من كبار أصحاب الشعبي، وحكى الخطيب أن اسم أبيه مهران، وقال أبو بكر بن عياش: الشيباني فقيه الحديث، وقال ابن عبد البر: هو حجة ثقة عند جميعهم. مات سنة 129 وقيل: 138، وقيل: 139، وقيل: 1، أو 142. أخرج له الجماعة.
4 -
(أبو بردة) ابن أبي موسى الأشعري الكوفي قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، ثقة -3 - تقدم في 3/ 3.
5 -
(حذيفة) بن اليمان الصحابي الجليل رضي الله عنه تقدم في 2/ 2. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رواته كلهم ثقات أجلاء متفق عليهم، وأنهم كوفيون إلا إسحاق فمروزي، ثم نيسابوري، وأن فيه الشيباني وهذا أول موضع ذكره في هذا الكتاب.
(تنبيه) الشيباني بفتح الشين المعجمة وسكون الياء التحتانية نسبة إلى قبيلة كبيرة من بكر بن وائل، وهو شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط. ينسب إليه خلق كثير من الصحابة، والتابعين، والأمراء، والفرسان، والعلماء في كل فن، وهو نسبة إلى جد أيضا، ونسبة إلى شيبان بن عاتك بطن من كندة. قاله في اللباب ج 2 ص 219 - 220. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن حذيفة) بن اليمان رضي الله عنه، أنه (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقي الرجل من أصحابه) "من" بيانية (ماسحه) بلفظ المفاعلة، أي مسح ذلك الرجلَ، ومسحَ الرجل جسدَه الشريف، وإنما يفعل ذلك إيناسًا له وإظهارًا لمحبته إياه، وهذا من كريم أخلاقه صلى الله عليه وسلم حسن معاشرته لأصحابه، ويفعل ذلك الرجل لقصد أن ينال بركة جسده الشريف، فقد كانت الصحابة رضي الله عنهم يتسابقون إلى ذلك، ففي حديث صلح الحديبية:"فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحدُّون إليه النظر تعظيمًا له". الحديث أخرجه البخاري مطولا في باب الشروط في الجهاد، من كتاب الشروط.
(ودعا) النبي صلى الله عليه وسلم (له) أي للرجل، وإنما لم يجعله من باب المفاعلة
كالسابق لأن الدعاء من جانبه صلى الله عليه وسلم بخلاف المماسحة (فرأيته يوما .. بكرة) بضم الباء وسكون الكاف: أول النهار جمعها بُكَر مثل غرفة وغُرَف، وأبكار جمع الجمع، مثل رُطب، وأرطاب، وإذا أريد بكرة يوم بعينه منعت الصرف للتأنيث والعلمية. قاله في المصباح، والمراد هنا مطلق الغداة، بدليل قوله: يوما فلذا يصرف هنا، فلو قال مثلا: يوم الجمعة بكرة لم يصرف لما ذكر والمعنى أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في أول النهار (فحدت عنه) أي ملت، إلى جهة أخرى، يقال: حاد عن الشيء، يحيد حَيْدَةً وحيودًا: تنحَّى، وبَعُد، ويتعدى بالحرف، والهمزة، فيقال: حدت به، وأحدته، مثل ذهب، وذهبت به، وأذهبته. قاله في المصباح. وفي "ق": حاد عنه يحيد حَيْدًا، وحيدانًا، ومَحيدًا، وحَيْدة، وحَيْدُودَة: مال. اهـ يعني أنه مال عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يماسحه على عادته وهو جنب، ظنامنه أن الجنابة تنافي ذلك.
(ثم أتيته حين ارتفع النهار) أي بعد أن اغتسل (فقال) صلى الله عليه وسلم مستفسرا عن سبب ميله عنه على غير عادته حيث إنه إذا لقيه أحد من أصحابه كان يماسحه، فترك حذيفة عادته في ذلك، فسأله عنه؟ فقال (إني رأيتك فحدت عني) أي تنحيت، وبَعُدت، وملتَ عن الطريق الذي سلكته، فما سبب ذلك؟ قال حذيفة (فقلت) جوابًا عن سؤاله، واعتذارًا إليه في هذا الفعل (إني كنت جنبًا) تقدم أن الجنب وصف يستوي فيه المذكر، والمؤنث، والمثنى، والجمع وربما يطابق علي قلة (فخشيت) بفتح الخاء، وكسر الشين، يقال: خشي يخشى، كرضي يرضى، خشية: خاف، فهو خَشْيَان، والمرأة خَشْيا، مثل غضبان، وربما قيل: خشيت بمعنى علمت. اهـ المصباح.
والمعنى أنه يقول: خفت (أن تمسني) على عادتك وأنا على هذه الحالة ظنا منه أن الجنب لا يصلح لماسته صلى الله عليه وسلم نجاسته (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم)
موضحا له عدم كون الجنابة نجسًا يمنع من مماسته (إن المسلم لا ينجس) بفتح الجيم وضمها، يقال: نجس الشيءُ نجسا فهو نجس، من باب تعب: إذا كان قذرًا غير نظيف، ونجَس ينجُس، من باب قتل، لغة. قال بعضهم: ونجس: خلاف طهر، ومشاهير الكتب ساكتة عن ذلك، وقد يكون القذر نجاسة، فهو موافق لهذا. أفاده في المصباح وفي "ق" النجس، بالفتح وبالكسر وبالتحريك، وككتف وعضد: ضد الطاهر، وقد نجس: كسمع، وكرم، وأنجسه، ونجَّسه، فتنجس. اهـ.
والمعنى أن المؤمن لا تصير ذاته نجسة بسبب هذا الحدث الذي حل في بدنه، لأنه وصف حكمي رتبه الشارع على البدن، ولا يتأثر به بدن المؤمن أكثر من الحكم عليه بالمنع مما تمنع الجنابة منه شرعا، فالمجالسة والمماسة لا تدخل في جملة ما مُنعَ لها.
وقال السندي رحمه الله: لا ينجس: أي الحدث ليس بنجاسة تمنع عن المصاحبة، وتقطع عن المجالسة، وإنما هو أمر تعبدي، أو المؤمن لا ينجس أصلا، ونجاسة بعض الأعيان اللاصقة بأعضائه أحيانا لا توجب نجاسة الأعضاء، نعم تلك الأعيان يجب الاحتراز عنها، فإذا لم تكن فما بقي إلا أعضاء المؤمن فلا وجه للاحتراز عنها، فكأنه قال: لو كانت هناك نجاسة لكانت تلك النجاسة في أعضاء المؤمن إذ ليس هناك عين نجسة لاصقة به، والمؤمن لا ينجس بهذه الصفة فلا نجاسة. اهـ والله أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث حذيفة رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له. أخرجه في هذا الباب 172/ 267، 268 وفي الكبرى 151/ 265 بهذا السند.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أما من رواية أبي بردة عنه فهو من أفراد المصنف كما أشار إليه المزي، وقد أخرجه (م د ق) من رواية أبي وائل عنه كما هو الطريق الآتي للمصنف. فأخرجه (م) في الطهارة عن أبي بكر، وأبي كريب، كلاهما عن وكيع، و (د) فيه عن مسدد، عن يحيى بن سعيد، كلاهما عن مسعر، عن واصل بن حيان الأحدب، عنه به. و (ق) عن إسحاق بن منصور، عن يحيى بن سعيد به. وأخرجه أحمد، والبيهقي.
المسألة الرابعة: في فوائده: يستفاد من الحديث جواز مماسة الجنب،
ومجالسته، وهو محل الترجمة للمصنف، وما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من تعظيمه صلى الله عليه وسلم، وإكرامهم له، وما كان عليه هو من تفقده لأحوالهم، فينبغي لكبير القوم أن يتفقد أتباعه، ويعتني بأحوالهم، ويسأل عما يصدر منهم ليرشدهم إلى ما فيه صلاحهم، ويعلمهم ما يجهلون من أمرهم.
قال بعض الأدباء (من الطويل):
وَمنْ عَادَة السَّادَات أنْ يَتَفَقَّدُوا
…
أصَاغرَهمْ وَالمُكْرُمَاتُ عَوَائدُ
سُلَيْمَانُ ذُو مُلْك تَفَقَّدَ طائِرًا
…
وكَانَتْ أقَلَّ الطَّائِراتِ الهَدَاهِدُ
وفيه عدم نجاسة بدن المسلم بحال من الأحوال، وإن تنجس بدنه أو بعض منه فهي نجاسة عارضة تزول، وتمسك بمفهومه من قال بنجاسة الكافر، وسيأتي تحقيق القول فيه إن شاء الله. وفيه أن العالم إذا رأى من تابعه خلاف الصواب أرشده، وبَيَّن له الحكم، وفيه جواز تأخير الغسل من الجنابة عن أول وقت وجوبه ما لم يخف خروج وقت صلاة، وأن الجنابة ليست من النجاسات التي يتنجس بها ملابسها. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
268 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي وَاصِلٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَقِيَهُ وَهُوَ جُنُبٌ فَأَهْوَى إِلَيَّ، فَقُلْتُ: إِنِّي جُنُبٌ، فَقَالَ:"إِنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَنْجُسُ".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(إسحاق بن منصور) بن بَهْرام الكوسج أبو يعقوب التميمي المروزي نزيل نيسابور ثقة ثبت من -11 - تقدم في 72/ 88.
2 -
(يحيى) بن سعيد بن فَرُّوخ القطان البصري أبو سعيد ثقة ثبت حجة -9 - تقدم في 4/ 4.
3 -
(مسعر) بن كدام بن ظُهَير الهلالي أبو سلمة الكوفي ثقة ثبت فاضل -7 - تقدم في 8/ 8.
4 -
(واصل) بن حيان الأحدب الأسدي الكوفي بياع السَّابَريّ
(1)
روى عن أبي وائل، وشريح القاضي، والمعرور بن سويد، وإبراهيم النخعي، وقبيصة بن بُرْمَة، وعبد الله بن أبي الهذيل، وغيرهم. وعنه أبو إسحاق الشيباني، وعبد الملك بن سعيد بن أبجر، وجرير بن حازم، ومغيرة بن مقسم، ومسعر، ومهدي بن ميمون، والثوري، وشعبة، وآخرون. قال ابن معين، وأبو داود، والنسائي: ثقة. وقال ابن معين في رواية أخرى: ثبت. وقال أبو حاتم: صدوق صالح الحديث.
(1)
السابري بفتح الباء نسبة إلى نوع من الثياب، يقال له: السابري. قاله في اللباب ج 2 ص 89.
وذكره ابن حبان في الثقات. ووثقه العجلي، ويعقوب بن سفيان، وأبو بكر البزار، مات سنة -129 - قيل: مات في ولاية مروان بن محمَّد. أخرج له الجماعة
5 -
(أبو وائل) شقيق بن سلمة الكوفي ثقة مخضرم أحد سادة التابعين -2 - تقدم في 2/ 2.
6 -
(حذيفة) بن اليمان الصحابي الجليل رضي الله عنه تقدم في 2/ 2. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وكلهم كوفيون إلا أن حذيفة أكثر مقامه بالمدائن، وإلا شيخه فمروزي ثم نيسابوري، ويحيى فبصري، وكلهم اتفقوا عليهم، إلا شيخه فلم يرو عنه أبو داود.
(تنبيه) وقع في النسخة الهندية: "حدثنا سفيان" بدل مسعر، وأشار في الهامش إلى أن في بعض النسخ حدثنا مسعر، وأظن هذا خطأ فإن الحديث عند (م د س ق) مروي عن مسعر، انظر تحفة الأشراف ج3 ص 38.
والحديث مضى مشروحا، إلا أن قوله:"فأهوى إليّ" هكذا وقع في النسخة المصرية والهندية "إلى" ففيه التفات فإن الظاهر أن يقول "فأهوى إليه"، وأشار في هامش الهندية إلى أنه وقع في نسخة:"فأهوى إليه" وهو الذي عند أبي داود، وهو واضح.
وقوله: "فأهوى إليه" أي مال صلى الله عليه وسلم إلى حذيفة، ومَدَّ يَدَه نحوه ليصافحه، على عادته، قال في المصباح: وأهوى إلى الشيء بيده: مَدَّها ليأخذه إذا كان عن قُرب، فإن كان عن بُعْد قيل: هَوَى إليه بغير ألف. اهـ.
ثم إنه لا منافاة بين هذه الرواية والرواية المتقدمة؛ لأنه يمكن الجمع بينهما بأنه حيث أهوى إليه حاد حذيفة بلا كلام، ثم لما جاء كلمه صلى الله عليه وسلم في ذلك؟ فاعتذر إليه بقوله: إني كنت جنبًا .. الخ. والله تعالى أعلم.
269 -
أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ
(1)
بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ -وَهُوَ ابْنُ الْمُفَضَّلِ-، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ بَكْرٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَقِيَهُ فِي طَرِيقٍ، مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ جُنُبٌ، فَانْسَلَّ عَنْهُ فَاغْتَسَلَ، فَفَقَدَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا جَاءَ قَالَ:"أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ لَقِيتَنِي، وَأَنَا جُنُبٌ فَكَرِهْتُ أَنْ أُجَالِسَكَ حَتَّى أَغْتَسِلَ، فَقَالَ:"سُبْحَانَ اللهِ إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(حميد بن مسعدة) بن المبارك السامي الباهلي البصري صدوق -10 - تقدم في 5/ 5.
2 -
(بشر بن المفضل) الرقاشي أبو إسماعيل البصري ثقة ثبت -8 - تقدم في 66/ 82.
(1)
وقع في الهندية: بدلا عن حميد: قتيبة بن سعيد، وأظنه تصحيفا فإن المزي لم يذكر إلا حميدًا، وقال محقق التحفة: هكذا وقع في الكبرى على الصواب ووقع في المجتبى قتيبة بن سعيد، وهو تصحيف. اهـ.
3 -
(حميد) بن أبي حميد- تير، وقيل: تيرويه البصري ثقة عابد مدلس -5 - تقدم في 87/ 108.
4 -
(بكر) بن عبد الله المزني أبو عبد الله البصري ثقة ثبت جليل -3 - تقدم في 87/ 107.
5 -
(أبو رافع) الصائغ نفيع المدني نزيل البصرة ثقة ثبت مشهور بكنيته -3 - تقدم في 129/ 191.
6 -
(أبو هريرة) الدوسي الصحابي الجليل رضي الله عنه تقدم في 1/ 1.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنها من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وحميد وثقه
المصنف، وكلهم بصريون إلا الصحابي فمدني، وفيه ثلاثة من التابعين يروى بعضهم عن بعض، حميد، وبكر، وأبو رافع، وفيه أبو هريرة أكثر الصحابة رواية، روى -5374 - حديثًا، وفيه قوله: وهو ابن المفضل، وقد تقدم البحث عنه غير مرة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في طريق من طرق المدينة، وهو جنب) جملة حالية من المفعول (فانسل عنه) أي ذهب عن النبي صلى الله عليه وسلم في خُفْية، قال ابن منظور رحمه الله: والانسلال المضيّ، والخروج من مضيق، أو زحام، وانسل، وتسلل: انطلق في استخفاء، ويقال: انسل فلان من بين القوم يَعْدُو: إذا خرج في خفية يَعْدُو. اهـ باختصار وتصرف.
ووفع عند البخاري: "فانخنست منه"، والانخناس الانقباض والرجوع، وما قارب ذلك المعنى، يقال: خنس لازمًا ومتعديًا، فمن
اللازم ما جاء في الحديث في ذكر الشيطان "فإنْ ذكر الله خَنَس" ومن المتعدي ما جاء في الحديث "وخنس إبهامه" أي قبضها.
وقيل: إنه يقال: أخنسه في المتعدي، وقد روي في هذه اللفظة:"فانبجست منه" بالجيم من الانبجاس، وهو الاندفاع، أي اندفعت عنه، ويؤيده قوله في حديث آخر:"فانسللت منه" وروي أيضًا "فانبخست منه"، من البخس وهو النقص، وقد استُبْعدَت هذه الرواية" ووُجِّهَت على بعدها بأنه اعتقد نقصان نفسه بجنابته عن مجالسته صلى الله عليه وسلم أو مصاحبته مع اعتقاد نجاسة نفسه، هذا أو معناه. قاله ابن دقيق العيد رحمه الله في الإحكام ج 1 ص 359 - 362. بنسخة الحاشية.
(فاغتسل ففقده النبي صلى الله عليه وسلم) أي عدمه، يقال: فقدته، فقدًا، من باب ضرب، وفُقْدانا بالكسر والضم: عَدمته، فهو فقيد ومفقود، وافتقدته مثله، وتفقدته طلبته. اهـ المصباح بزيادة.
والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم لم يجد أبا هريرة رضي الله عنه بعدما أبصره عنده، لكونه ذهب يغتسل عن جنابته لاعتقاده أنه نجس بسببها (فلما جاء) من المكان الذي يغتسل فيه (قال) صلى الله عليه وسلم مستفهما له عن سبب غيبته (أين كنت يا أبا هريرة، قال: يا رسول الله إنك لقيتني) أي صادفتني، يقال: لقيته ألقاه، من باب تحب، لُقيًا بالضم، والأصل على فعول، فاجتمعت الواو والياء فقلبت الواو ياء ثم أدغمت في الياء، ولُقىً بالضم مع القصر، ولقاء- بالكسر مع المد والقصر، وكل شيء استقبل شيئًا، أو صادفه، فقد لقيه، ومنه لقاء البيت: استقباله اهـ المصباح بزيادة.
(وأنا جنب) جملة حالية من الضمير المفعول في "لقيتني"(فكرهت أن أجالسك حتى أغتسل) وعند البخاري "وأنا على غير طهارة"، وإنما فعل أبو هريرة هذا لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا لقي أحدًا من أصحابه ماسحه
ودعا له، كما تقدم في حديث حذيفة رضي الله عنه، فظن أنه يفعل معه ذلك، وهو على غير طهارة في ظنه (فقال) صلى الله عليه وسلم تعجبا من خفاء هذا الحكم عليه (سبحان الله)"سبحان" علم للتسبيح كعثمان علم للرجل، وقال الفراء: منصوب على المصدر، كأنك قلت: سبحت الله تسبيحًا، فجعل سبحان في موضع التسبيح، وهو منصوب بفعل محذوف وجوبًا.
قال ابن الأنباري: معناه: سبحتك تنزيها لك يا ربنا من الأولاد والصاحبة والشركاء، أي نزهناك من ذلك، وقال القزاز: معناه: بَرَّأتُ الله تعالى من السوء، وقال أبو عبيدة: نسبح لك، ونحمدك، ونصلي
لك، وقال الزمخشري في أساس البلاغة: سبحت الله، وسبحت له، وكثرت تسبيحاته، وتسابيحه. وفي المغيث لأبي موسى المديني: سبحان الله قائم مقام الفعل، أي أسبحه وسبحت، أي لفظت سبحان الله، وقيل: معناه أتسرع إليه، وألحقه في طاعته، من قولهم: فرس سابح، وذكر النضر بن شميل: أن معناه السرعة إلى هذه اللفظة؛ لأن الإنسان يبدأ فيقول: سبحان الله. أفاده العيني في عمدته ج 3 ص 238 - 239.
واستعماله في مثل هذا الموضع يراد به التعجب، ومعنى التعجب هنا أنه كيف يخفى مثل هذا الظاهر عليه (إن المؤمن لا ينجس) تقدم الكلام على هذه الجملة في حديث حذيفة رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له: أخرجه المصنف هنا 172/ 269، وفي الكبرى -151/ 263 - بالسند المذكور.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (خ) في الطهارة عن علي بن
عبد الله، عن يحيى بن سعيد، وعن عياش بن الوليد، عن عبد الأعلى، كلاهما عن حميد الطويل، عن بكر بن عبد الله المزني، عن نفيع الصائغ عنه.
وأخرجه (م) فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن إسماعيل بن علية، وعن زهير بن حرب، عن يحيى بن سعيد، كلاهما عن حميد الطويل به. وأخرجه (د) فيه عن مسدد، عن يحيى بن سعيد، وبشر بن المفضل، كلاهما عن حميد به. وأخرجه (ت) فيه عن إسحاق بن منصور، عن يحيى بن سعيد به. وأخرجه (ق) فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن ابن علية، عن حميد به. وأخرجه البيهقي. والله أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده: يستفاد من هذا الحديث: ما ترجم له المصنف، وهو جواز مماسة الجنب، ومجالسته. وأن المؤمن لا ينجس سواء كان جنبا أو محدثا حيا أو ميتا وكذا سؤره، وعرقه، ولعابه، ودمعه، واستدل به ابن حزم وبقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] على نجاسة الكافر نجاسة عينية، وسيأتي تحقيق الخلاف في هذه المسألة في المسألة التالية إن شاء الله.
وفيه استحباب الطهارة عند ملابسة الأمور المعظمة لأن محل الإنكار على أبي هريرة قوله "وأنا على غير طهارة" لا قوله "فكرهت أن أجالسك" واستحباب احترام أهل الفضل، وتوقيرهم، ومصاحبتهم على أكمل الهيئات، وأحسن الصفات، وقد استحب العلماء لطالب العلم أن يحسن حاله عند مجالسة شيخه، فيكون متطهرًا متنظفًا بإزالة الشعوث المأمور بإزالتها، نحو قص الشارب، وقلم الأظفار، وإزالة الروائح الكريهة، وغير ذلك. قاله النووي. وفيه استحباب استئذان التابع للمتبوع إذا أراد أن يفارقه لقوله "أين كنت" فأشار إلى أنه كان ينبغي له أن
لا يفارقه حتى يعلمه، وفيه استحباب تنبيه المتبوع لتابعه على الصواب، وإن لم يسأله، وفيه جواز تأخير الاغتسال عن أول وقت وجوبه، وبوب عليه ابن حبان "الرد على من زعم أن الجنب إذا وقع في البئر فنوى الاغتسال أن ماء البئر ينجس" واستدل به البخاري على طهارة عرق الجنب، لأن بدنه لا ينجس بالجنابة، فكذلك ما تحلب منه، وعلى جواز تصرف الجنب في حوائجه قبل اغتساله. قاله في الفتح. ج 1 ص 465.
المسألة الخامسة: في مذاهب العلماء في طهارة المسلم حيا وميتا، وهل الكافر نجس، أم لا؟. قال النووي رحمه الله: هذا الحديث أصل عظيم في طهارة المسلم حيا وميتا، فأما الحي فطاهر بإجماع المسلمين حتى الجنين إذا ألقته أمه وعليه رطوبة فرجها، قال بعض أصحابنا: هو طاهر بإجماع المسلمين، قال: ولا يجيء فيه الخلاف المعروف في نجاسة رطوبة الفرج، ولا الخلاف المذكور في كتب أصحابنا في نجاسة ظاهر بيض الدجاج ونحوه، فإن فيه وجهين بناء على رطوبة الفرج. هذا حكم المسلم الحي، وأما الميت ففيه خلاف للعلماء، وللشافعي فيه قولان، الصحيح منهما أنه طاهر، ولهذا غسل، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"إن المسلم لا ينجس"، وذكر البخاري في صحيحه عن ابن عباس تعليقا:"المسلم لا ينجس حيا ولا ميتا"، هذا حكم المسلم، وأما الكافر فحكمه في الطهارة والنجاسة حكم المسلم، هذا مذهبنا ومذهب الجماهير من السلف والخلف. وأما قول الله عز وجل:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} فالمراد نجاسة الاعتقاد، والاستقذار، وليس المراد أن أعضاءهم نجسة، كنجاسة البول، والغائط ونحوهما، فإذا ثبت طهارة الآدمي مسلما كان أو كافرا فعرقه ولعابه ودمعه طاهرات، سواء كان محدثًا، أو جنبًا، أو حائضًا، أو نفساء، وهذا كله بإجماع المسلمين.
قال الجامع عفا الله عنه: في دعواه الإجماع بالنسبة للكافر نظر، فإن
مذهب الظاهرية أنه نجس العين كما سنذكره.
قال: وكذلك الصبيان أبدانهم وثيابهم ولعابهم محمولة على الطهارة حتى تتيقن النجاسة، فتجوز الصلاة في ثيابهم والأكل معهم من المائع إذا غمسوا أيديهم فيه، ودلائل هذا كله من السنة والإجماع مشهورة. والله أعلم. اهـ شرح مسلم- ج 4 ص 66.
وقال الحافظ في الفتح: تمسك بمفهومه -يعني حديث الباب- بعض أهل الظاهر.
قال الجامع عفا الله عنه: هو أبو محمَّد بن حزم الظاهري. فقال إن الكافر نجس العين، وقواه بقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، وأجاب الجمهور عن الحديث بأن المراد أن المؤمن طاهر الأعضاء لاعتياده مجانبة النجاسة، بخلاف المشرك لعدم تحفظه عن النجاسة، وعن الآية بأن المراد أنهم نجس في الاعتقاد والاستقذار، وحجتهم أن الله تعالى أباح نكاح نساء أهل الكتاب، ومعلوم أن
عرقهن لا يسلم منه من يضاجعهن، ومع ذلك فلم يجب عليه من غسل الكتابية إلا مثل ما يجب عليه من غسل المسلمة، فدل على أن الآدمي الحي ليس بنجس العين إذ لا فرق بين النساء والرجال، وأغرب القرطبي في الجنائز من شرح مسلم فنسب القول بنجاسة الكافر إلى الشافعي. اهـ فتح ج 1 ص 465.
وقال الصنعاني رحمه الله: ذهب قوم إلى أنه -يعني الميت- ينجس بالموت، ويطهر بالغسل، وآخرون إلى أنه لا يطهره الغسل، بل الغسل مجرد تعبد، وآخرون إلى أنه لا ينجس بالموت بل هو طاهر، وهذا الأخير أظهر الأقوال وألصقها بالصواب لعدم الأدلة على خلافه، إلا عمومات تحريم أكل الميتة، ولا ملازمة بين تحريم أكل والنجاسة، فإنه
يحرم أكله حيا، وهو طاهر الذات اتفاقا، والأصل بناؤه بعد الموت على ما كان عليه قبله. اهـ العدة ج 1 ص 364.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يترجح عندي قول الجمهور، من أن الآدمي طاهر مطلقًا، مسلمًا كان أو كافرًا، للأدلة التي تقدمت، وأقواها جواز نكاح الكتابيات، وجواز أكل طعامهم، وربط النبي صلى الله عليه وسلم ثمامة بن أثال الحنفي في مسجده حين أسر، وقد ترجم البخاري عليه "باب دخول المشرك المسجد" فأورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد"، وسيأتي للمصنف "ربط الأسير بسارية المسجد" من كتاب المساجد برقم 20/ 712، فدل هذا على طهارته، فلو كان نجسا لما أدخله المسجد، ولأمر الصحابة الذين ربطوه بغسل أعضائهم لمسه، وأما آية:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] فمحولة على نجاسة الاعتقاد كما تقدم، توفيقًا بين الأدلة. والله أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
173 - بَابُ اسْتِخْدَامِ الحَائِضِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على جواز استخدام الحائض، لكون بدنها طاهرا إلا محل الأذى.
وموضع الاستدلال من الحديث واضح من قوله: "ناوليني الثوب"، "ناوليني الخمرة" حيث أمرها بالمناولة وهي حائض، فلما أخبرته بأنها حائض، قال:"ليست حيضتك في يدك".
270 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ إِذْ قَالَ: "يَا عَائِشَةُ نَاوِلِينِي الثَّوْبَ". فَقَالَتْ: إِنِّي لَا أُصَلِّي، قَالَ:"إِنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِكِ". فَنَاوَلَتْهُ.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(محمَّد بن المثنى) أبو موسى العنزي البصري ثقة ثبت -10 - تقدم في 64/ 80.
2 -
(يحيى بن سعيد) أبو سعيد القطان البصري ثقة حجة -9 - تقدم في 4/ 4.
3 -
(يزيد بن كيسان) اليكشري أبو إسماعيل، ويقال: أبو مُنَين -بنونين
مصغرًا- الكوفي. روى عن أبي حازم سلمان الأشجعي، ومعبد أبي الأزهر. وعنه عبد الواحد بن زياد، وابن عيينة، وأبو خالد الأحمر، وخلف بن خليفة، وعلي بن هاشم بن البريد، ومروان بن معاوية، ويحيى ابن سعيد القطان، ومحمد بن عبيد الطنافسي، وآخرون.
قال علي بن المديني عن القطان: صالح وسط ليس هو ممن يعتمد عليه، وقال ابن معين، والنسائي: ثقة، وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: يكتب حديثه محله الصدق صالح الحديث. قلت: يحتج بحديثه؟ قال: بعض ما يأتي به صحيح، وبعضه لا. قال أبي: يحول من كتاب الضعفاء، وقال ابن حبان في الثقات: يزيد بن كيسان الأسلمي كنيته أبو إسماعيل، وهو الذي يقال له: أبو منين كان يخطئ ويخالف لم يفحش خطأه حتى يعدل به عن سبيل العدول، ولا أتى بما ينكر، فهو مقبول، إلا ما يعلم أنه أخطأ فيه فيترك خطأه كغيره من الثقات. وقال الدارقطني: كوفي ثقة، وقال العقيلي: قال أحمد بن حنبل: ثقة، وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالحافظ عندهم. أخرج له الجماعة إلا البخاري. اهـ "تت" ج 11 ص 356.
4 -
(أبو حازم) سلمان الأشجعي الكوفي. روى عن مولاته عزة الأشجعية، وابن عمر، وأبي هريرة، والحسن، والحسين، وابن الزبير، وغيرهم. وعنه الأعمش، ومنصور، وأبو مالك الأشجعي، وعدي بن
ثابت، وفضيل بن غزوان، وميسرة الأشجعي، ومحمد بن جُحَادة، ومحمد بن عجلان، ويزيد بن كيسان، وسيار أبو الحكم، وبشير أبو إسماعيل، وعبد الرحمن بن الأصبهاني، وفرات القزاز، ونعيم بن أبي هند، وهارون بن سعد، وغيرهم.
وثقه أحمد، وابن معين، وأبو داواد، ووثقه العجلي، وابن سعد،
وقال: وله أحاديث صالحة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن عبد البر: أجمعوا على توثيقه. قيل: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز. أخرج له الجماعة.
5 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه تقدم في 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات، اتفقوا على توثيقهم، إلا يزيد ففيه ما تقدم، وكلهم اتفقوا عليهم، إلا يزيد أيضا، فما أخرج له (خ)، وفيه يزيد، وأبو حازم هذا الموضع أول ذكرهما.
شرح الحديث
(قال أبو هريرة) رضي الله عنه (بينما) هي "بين"، يقال فيها: بينا بإشباع الفتحة، ويقال بينما بزيادة الميم، وهما ظرفان بمعنى المفاجأة، ويضافان إلى جملة من فعل وفاعل، ومبتدإ وخبر، ويحتاجان إلى
جواب يتم به المعنى، والأفصح في جوابهما ألا يكون فيه "إذ" و"إذا"، وقد جاءا في الجواب كثيرًا، تقول: بينا زيد جالس دخل عليه عمرو، وإذ دخل عليه، وإذا دخل عليه، ومنه قول الحُرَقَة بنت النعمان (من الطويل):
فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالأمْرُ أمْرُنَا
…
إذَا نَحْنُ فيهمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ
قاله ابن بَرّيّ، وكان الأصمعي يخفض بعد "بينا" إذا صلح في موضعه بين، وينشد قول أبي ذويب بالكسر (من الكامل):
بَيْنَا تَعَنُّقه الكُمَاةَ وَرَوْغِه
…
يَوْمًا أتيحَ لَهُ جَرِيءٌ سَلفَعُ
وغيره يرفع ما بعد "بينا" و"بينما" على الابتداء والخبر، وقال المبرد: إذا كان الاسم الذي يجيء بعد "بينا" اسمًا حقيقيًا رفعته بالابتداء، وإن كان اسمًا مصدريًا خفضته، ويكون في هذا الحال بمعنى "بين"، وكذا قال
أحمد بن يحيى لكنه قال: إلا أن من الفصحاء من يرفع الاسم الذي بعد "بينا"، وإن كان مصدريا فيلحقه بالاسم الحقيقي، قال: وأما "بينما": فالاسم الذي بعده مرفوع، وكذلك المصدر، وقال ابن سيده:"بينا" و"بينما" من حروف الابتداء، وليست الألف في "بينا" بصلة، و"بينا" فعلى أشبعت الفتحة فصارت ألفا، و"بينما" هي:"بين"، زيدت عليه "ما"، والمعنى واحد. أفاده في اللسان.
(رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد) جملة من مبتدإ وخبر، فـ"رسول" مبتدأ والجارو والمجرور خبره، فإن "بينما" كما تقدم قريبًا تضاف إلى الجملة الاسمية كما تضاف إلى الجملة الفعلية. لأنها "بين" زيدت عليها
(1)
"ما" عند بعضهم، أو أشبعت الفتحة فتولدت الألف ثم دعمت بالميم عند بعضهم.
فإن قيل: إن "بين" لا يضاف إلا إلى ما يدل على أكثر من واحد وما عطف عليه غيره بالواو، نحو: المال بين القوم، والمال بين زيد وعمرو، وليست الجملة كذلك؟ أجيب بأن هنا مضافًا محذوفًا تقديره: بين أوقات رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد إذ قال. والجمل تضاف إليها أسماء الزمان نحو أتيتك زَمَنَ الحجاج أمير، وأوَانَ الخليفةُ عبد الملك، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. أفاده ابن منظور في اللسان، ونقلته بتصرف.
(إذ قال)"إذ" الواقعة بعد "بينا" و"بينما" للمفاجأة، كما نص عليه سيبويه، وهل هي ظرف مكان، أو زمان، أو حرف بمعنى المفاجاة، أو حرف توكيد، أي زائد، أقوال، وعلى القول بالظرفية، فقال ابن جني: عاملها الفعل الذي بعدها؛ لأنها غير مضافة إليه، وعامل "بينا" و"بينما"
(1)
وقال ابن هشام في المغني: "ما" بعد "بين" كافة، وقيل مصدرية، و"بين" مضافة إلى الجملة، وقيل: زائدة، و"بين" مضافة إلى زمن محذوف مضاف إلى الجملة، قال: والأقوال الثلاثة تجري في "بينا" مع الألف، اهـ انظر المغني ج 2 ص 10 نسخة الأمير.
محذوف يفسره الفعل المذكور، وقال الشلوبين:"إذ" مضافة إلى الجملة فلا يعمل فيها الفعل، ولا في "بينا" و"بينما"؛ لأن المضاف إليه لا يعمل في المضاف ولا فيما قبله، وإنما عاملها محذوف يدل عليه الكلام. و"إذ" بدل منهما، وقيل: العامل ما يلي "بين" بناء على أنها مكفوفة عن الإضافة إليه، وقيل:"بين" خبر لمحذوف، وتقدير قولك: بينما أنا قائم إذ جاء زيد: بين أوقات قيامي مجيء زيد، ثم حذف المبتدأ مدلولا عليه بجاء زيد، وقيل: مبتدأ، و"إذ" خبره، والمعنى: حين أنا قائم جاء زيد. قاله ابن هشام في مغنيه ج 2 ع 78 بحاشية الأمير.
قال الجامع عفا الله عنه: وإنما أطلت الكلام على هذه الجملة لكونها كثيرة الدوران في الأحاديث فتحتاج إلى ذكر تحقيق أهل اللغة والنحو في معناها، فإذا ذكر التحقيق في محل واحد سهل الرجوع إليه في كل ما يُستَشْكَلُ من حل معناها اللغوي، والنحوي. والله الهادي إلى سواء السبيل.
وحاصل المعنى هنا: بين أوقات كون رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد قوله: "يا عائشة" الخ (يا عائشة ناوليني) أي أعطيني من الحجرة (الثوب) وهو غير الخمرة الآتية في الرواية التالية (فقالت: إني لا أصلي) كناية عن الحيض، ولمسلم فقالت:"إني حائض".
(قال) صلى الله عليه وسلم ردًا على ما فهمته من أن الحيض يمنع إدخال أيّ جزء منها المسجد (إنه ليس في يدك) أي الحيض المفهوم من قولها: "إني لا أصلي" ليس حالا في يدك، حتى يمنع من إدخال اليد المسجد، وعند مسلم "ليست حيضتك في يدك". (فناولته) أي أعطته ذلك الثوب، والظاهر أن
أبا هريرة كان حاضرًا وقت ذاك، فأخبر بما سمعه، وأن هذه الواقعة غير واقعة الخمرة الآتية في الرواية التالية. والله أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي هريرة هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له: أخرجه في هذا الباب -173/ 270 - بهذا السند فقط، ولم يخرجه في الكبرى.
المسألة الثالثة فيمن أخرجه معه: أخرجه (م) في الطهارة عن زهير بن حرب، وأبي كامل الجحدري، ومحمد بن حاتم ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي
الله عنه.
وبقية المسائل تأتي في الحديث التالي، إن شاء الله تعالى. والله أعلم.
271 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ (ح) وَأَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنَ الْمَسْجِدِ". قَالَتْ: إِنِّي حَائِضٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَيْسَتْ حَيْضَتُكِ فِي يَدِكِ".
رجال هذا الإسناد: ثمانية
1 -
(قتيبة بن سعيد) البغلاني ثقة ثبت -10 - تقدم في 1/ 1.
2 -
(عَبيدة) بفتح العين وكسر الباء- بن حُمَيد -بالتصغير- الكوفي أبو عبد الرحمن النحوي الحَذَّاء صدوق ربما أخطأ من -8 - تقدم في 13/ 13.
3 -
(الأعمش) سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي ثقة ثبت -5 - تقدم في 17/ 18.
4 -
(إسحاق بن إبراهيم) الحنظلي المعروف بابن راهويه المروزي نزيل نيسابور ثقة تقدم في 2/ 2.
5 -
(جرير) بن عبد الحميد الضبي الكوفي نزيل الري ثقة ثبت تقدم في 2/ 2.
6 -
(ثابت بن عبيد) الأنصاري الكوفي مولى زيد بن ثابت، روى عن مولاه، وابن عمر، وأنس، والبراء، وعبد الله بن مغفل، وكعب بن عجرة، والمغيرة بن شعبة، وعبيد بن البراء، والقاسم بن محمَّد، وأبي جعفر الأنصاري. وعنه الأعمش، وحجاج بن أرطاة، والثوري، ومسعر، وعبد الملك بن أبي غنية، ومحمد بن شيبة بن نعامة الضبي، وابن أبي ليلى، وغيرهم. وثقه أحمد، ويحيى، والنسائي، وفرق أبو حاتم بين ثابت بن عبيد الأنصاري، وبين ثابت بن عبيد مولى زيد بن ثابت. روى عن اثني عشر رجلا من الصحابة في الإيلاء
(1)
وعنه عبد ربه بن سعيد، وقال فيه: صالح الحديث. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير
(1)
هكذا الصواب الإيلاء، ووقع فيه تصحيف إلى الإبل، كما قال الحافظ، وهو ما أخرجه البخاري في التاريخ الكبير بسنده عن عبد ربه بن سعيد عن ثابت بن عبيد مولى زيد بن ثابت عن اثني عثر رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الإيلاء لا يكون طلاقا حتى يوقف" اهـ "تت" باختصار ج 2 ص 11.
الحديث، وقال الحربي: هو من الثقات، وذكره ابن حبان في الثقات، وفرق بينهما كما فرق أبو حاتم الرازي، ثم ذكر الذي روى عن القاسم وعنه الأعمش. أخرج له البخاري في الأدب المفرد، والباقون. اهـ "تت" ج 2 ص 11.
7 -
(القاسم بن محمَّد) بن أبي بكر الصديق أحد الفقهاء السبعة الفقيه، ثقة فاضل -3 - تقدم في 120/ 166.
8 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها تقدمت في 5/ 5. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات، إلا عَبيدَة فصدوق ربما أخطأ، وكلهم أخرجوا لهم إلا عبيدة فما أخرجه له (م) وثابتا فما أخرج له (خ) في الصحيح، وهذا الموضع أول ذكره في هذا الكتاب، وفيه كتبت (ح) وهي للتحويل كما تقدم غير مرة، فقد حول إسناده عن قتيبة إلى إسحاق بن إبراهيم، وفيه القاسم بن محمَّد أحد الفقهاء السبعة، يروي عن عمته عائشة رضي الله عنها، وهي ممن أكثر الرواية، فقد روت -2210 - من الأحاديث. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عائشة رضي الله عنها أنها (قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ناوليني) أي أعطيني (الخمرة) بضم الخاء المعجمة، على وزن غُرْفَة: حصير صغير قدر ما يسجد عليه. قاله في المصباح. وقال الخطابي: هي السَّجَّادة التي يسجد عليها المصلي، ويقال: سميت بها لأنها تخمر وجه
المصلي عن الأرض، أي تستره. اهـ.
وقال ابن منظور: والخُمْرة: حصيرة، أو سَجَّادة صغيرة، تنسج من
سَعَف النخل، وتُرَمَّل بالخيوط، وقيل حصيرة أصغر من المُصَلَّى، وقيل: الخمرة: الحصير الصغير الذي يُسجَد عليه، وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسجد على الخمرة. وهو حصير صغير قدر ما يسجد عليه ينسج من السَّعَف، قال الزجاج: سميت خمرة لأنها تستر الوجه من الأرض، وفي حديث عائشة، قال لها، وهي حائض، "ناوليني الخمرة" وهي مقدار ما يضع الرجل عليه وجهه في سجوده من حصير أو نسيجة خُوص ونحوه من النبات، قال: ولا تكون خمرة إلا في هذا المقدار، وسميت خمرة لأن خيوطها مستورة بسَعَفهَا.
قال ابن الأثير: وقد تكررت في الحديث، وهكذا فسرت، وقد جاء في سنن أبي داود عن ابن عباس، قال:"جاءت فأرة فأخذت تجر الفتيلة، فجاءت بها فألقتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخمرة التي كان قاعدًا عليها، فأحرقت منها مثل موضع درهم" قال: وهذا صريح في إطلاق
الخمرة على الكبير من نوعها. اهـ لسان.
(من المسجد) اختلف في متعلقه، فذهب بعضهم إلى أنه يتعلق بـ "قال"، أي قال لها النبي صلى الله عليه وسلم قولا مبتدأ من المسجد، وإلية ذهب القاضي عياض، وقال: معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها من المسجد، أي وهو في المسجد لتناوله إياها من خارج المسجد، لا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تخرج الخمرة من المسجد؛ لأنه كان معتكفا في المسجد، وكانت عائشة في حجرتها، وهي حائض، لقوله صلى الله عليه وسلم:"إن حيضتك ليست في يدك"، فإنها خافت من إدخال يدها المسجد، ولو كان أمرها بدخول المسجد لم يكن لتخصيص اليد معنى.
وذهب بعضهم إلى أنه متعلق بناوليني، وبه قال الخطابي، والأكثرون، وهو الذي ترجم عيه الأئمة: أبو داود حيث قال: "باب الحائض تناول
من المسجد"، والترمذي حيث قال: "باب ما جاء في الحائض تتناول الشيء من المسجد" وابن ماجه، حيث قال: "باب الحائض تتناول الشيء من المسجد" ثم أوردوا حديث عائشة هذا دليلاً على الحكم، فدل على أن المعنى عندهم أنها ناولته الخمرة التي داخل المسجد، لكونها قريبة من الباب تصل إليها يدها، وهي في الحجرة.
قال الجامع عفا الله عنه: كونه متعلقًا بـ"ناوليني" هو الواضح الذي لا خفاء فيه.
قال بعض المحققين والحامل للقاضي عياض فيما ذهب إليه هو ما رواه مسلم، والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:"بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد إذ قال: يا عائشة ناوليني الثوب" الحديث، فحمل هذا الحديث، وحديث عائشة هذا على اتحاد الواقعة، وهو غير لازم، بل تعدد الواقعة هو الظاهر. اهـ.
قال الجمامع عفا الله عنه: وما ذكره بعضهم احتمالا: أن المراد ادخلي المسجد، وأعطيني إياها من غير مكث ولا تردد فيه، لحل هذا للحائض إذا أمنت التلويث بعيد كُلَّ البعد عن مقتضى حديث عائشة رضي الله عنها، يبطله قوله:"ليست حيضتك في يدك" فإنه صريح أنه ما أراد إلا إدخال يدها فقط. فتبصر، والله الموفق إلى سواء السبيل.
(قالت: إني حائض) أي لست ممن يحل دخول جزء منه المسجد لظنها أن جميع أجزائها لا يدخل فيه (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) ردًا على هذا الظن (ليست حيضتك في يدك) الحيضة بفتح الحاء المهملة: المرّة الواحدة من دُفَع الحيض، وبالكسر اسم الهيئة من الحيض، وهي الحالة التي تلزمها الحائض من التجنب والبعد عما لا يحل للحائض، كالجلسة والقعدة من الجلوس، والقعود، والأول هو الصحيح المشهور في الرواية
كما قاله النووي، وهو المناسب من جهة المعنى، فإن سيلان الدم والدفعة منه ليس في اليد، بخلاف الهيئة، فإنها قائمة بجميع الذات، بدليل أنها لا يجوز لها مس المصحف.
وقال الخطابي: الحدثون يقولونها بفتح الحاء، وهو خطأ، وصوابها بالكسر، أي الحالة والهيئة. اهـ وأنكر القاضي عياض هذا على الخطابي، وقال: الصواب هنا ما قاله المحدثون من الفتح، لأن المرد
الدم، وهو الحيض بالفتح بلا شك، لقوله طمس:"ليست في يدك"، ومعناه أن النجاسة التي يصان المسجد عنها، وهي دم الحيض ليست في يدك، وهذا بخلاف حديث أم سلمة "فأخذت ثياب حيضتي" فإن الصواب فيه الكسر. هذا كلام القاضي. قال النووي: وهذا الذي اختاره من الفتح هو الظاهر، ولما قاله الخطابي وجه. اهـ ..
قال في المنهل: والوجه الذي أشار إليه النووي وهو أن عائشة رضي الله عنها كانت تعلم أنه ليس في يدها نجاسة الحيض التي يصان عنها المسجد، وما امتنعت عن إدخال يدها في المسجد إلا لعلمها أن الحالة العارضة لها من الحيض قد حلت في يدها، ولذا أجابها النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذه الحالة التي هي كونها حائضا إنما عرضت لها باعتبار مجموعها لا باعتبار أجزائها، فلا يقال لليد حائضة حتى يصان عنها المسجد. اهـ ج 3 ص 41. ثم ذكر المصنف رحمه الله لهذ الحديث طريقًا آخر إلى
الأعمش، فقال:
272 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ.
ورواته كلهم تقدموا غير مرة، فإسحاق بن إبراهيم، والأعمش تقدما في السند الماضي، وأبو معاوية، هو محمَّد بن خازم الضرير الكوفي ثقة ثبت من كبار -9 - تقدم في 26/ 30.
وأراد المصنف بهذا أنه روى حديث الأعمش بهذين الطريقين طريق قتيبة، وطريق إسحاق، فقدله: بهذا الإسناد، أي الإسناد المتقدم للأعمش، وقوله مثله، أي مثل المتن السابق، يعني أن متن الطريق الثاني مثل متن الطريق الأول لفظا ومعنًى، وهذا بخلاف قوله: نحوه فإنه يكون موافقا له في المعنى دون اللفظ.
قال أبو عبد الله الحاكم رحمه الله: إن مما يلزم الحديثيّ من الضبط والإتقان أن يفرق بين " (مثله" و"نحوه"، فلا يحل أن يقول:"مثله" إلا إذا اتفقا في اللفظ، ويحل أن يقول "نحوه" إذا كان بمعناه. اهـ.
قال السيوطي في ألفيته:
الحَاكِمُ اخْصُصْ نَحْوَهُ بالمَعْنَى
…
وَمثْلَهُ باللَّفْظ فَرْق يُعْنَى
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث عائشة رضي الله عنها هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له: أخرجه هنا 173/ 271، 272 بهذه الأسانيد، وفي كتاب الحيض 18/ 384، بالأسانيد المذكورة هنا. وفي الكبرى -152/ 266 - عن إسحاق بن إبراهيم بإسناديه. لكن النسخة المطبوعة فيها خطأ، فقد وقع فيها عن ثابت، عن عبيد، والصواب ما في المجتبى عن ثابت بن عبيد، فتنبه.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (م) في الطهارة عن يحيى بن
يحيى، وأبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كريب، ثلاثتهم عن أبي معاوية، عن الأعمش. وعن أبي كريب، عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن حجاج ابن أرطاة، وعبد الملك بن أبي غنية، ثلاثتهم عن ثابت بن عبيد، عن القاسم، عنها. وأخرجه (د) فيه عن مسدد، عن أبي معاوية به.
وأخرجه (ت) فيه عن قتيبة، عن عَبيدة بن حُميد، عن الأعمش به، وقال حسن، وأخرجه (ق) عن طريق البَهِيِّ عنها. وأخرجه أحمد، والبيهقي. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده: يستفاد من حديثي الباب ما ترجم له المصنف، وهو استخدام الحائض، وجواز تناولها بيدها شيئًا من المسجد وخدمة المرأة زوجها، وفيه استعمال السَّجَّادة في المسجد.
قال الخطابي رحمه الله: في الحديث من الفقه: أن من حلف لا يدخل دارًا أو مسجدًا أو نحو ذلك لا يحنث بإدخال يده فيه، أو بعض جسده، ما لم يدخله بجميع بدنه. اهـ. والله تعالى أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
174 - بَابُ بَسْطِ الحَائِضِ الخُمْرَةَ فِي المَسْجِدِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على جواز بسط المرأة الحائض الخمرة في المسجد.
فقوله: "بسط الحائض" من إضافة المصدر إلى فاعله، و"الخمرة" مفعوله، و "في المسجد" متعلق به.
273 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْبُوذٍ، عَنْ أُمِّهِ: أَنَّ مَيْمُونَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَضَعُ رَأْسَهُ فِي حِجْرِ إِحْدَانَا فَيَتْلُو الْقُرْآنَ، وَهِيَ حَائِضٌ، وَتَقُومُ إِحْدَانَا بِالْخُمْرَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَتَبْسُطُهَا وَهِيَ حَائِضٌ.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(محمَّد بن منصور) الخزاعي الجواز المكي ثقة -10 - تقدم في 20/ 21.
2 -
(سفيان) بن عيينة الإمام الثقة الحجة الفقيه -8 - تقدم في 1/ 1.
3 -
(منبوذ) بن أبي سليمان المكي، يقال: اسمه سليمان، ومنبوذ لقبه. روى عن أمه عن ميمونة:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع رأسه في حجر إحدانا" الحديث، وعن عقبة بن محمَّد بن الحارث بن نوفل. وعنه ابن جريج، وعمر بن سعيد بن أبي الحسين النوفلي، وابن عيينة،
قال ابن معين: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات قال: يقال: ابن سليمان، وذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من المكيين، وقال: كان قليل الحديث. اهـ "تت". وهو ممن انفرد به المصنف.
4 -
(أم منبوذ) روت عن ميمونة، وعنها ابنها منبوذ، قال في "ت" مقبولة من الثالثة. اهـ ولا يعرف اسمها. انفرد بها المصنف أيضًا.
5 -
(ميمونة) بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها تقدمت في 146/ 236. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسياته، وأن رواته مكييون، إلا الصحابية فمكية، مدنية، وأن منبوذا وأمه من أفراد المصنف، أخرج لهما هذا الحديث فقط.
شرح الحديث
(عن ميمونة) بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها أنها (قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع رأسه في حجر احدانا) الحجر بالفتح، وقد يكسر: الحضْن، وهو ما بين الإبط إلى الكشح. أفاده في المصباح. وفسره في النهاية بأنه طرف الثوب المقدم (فيتلوا القرآن) أي يقرؤه (وهي حائض) جملة حالية من "إحدانا"، قيل فيه إشارة إلى أن الحائض لا تقرأ القرآن؛ لأن قولها فيتلوا القرآن إنما يحسن التنصيص عليه إذا كان ثمة ما يوهم منعه، ولو كانت القراءة لها جائزة لكان هذا التوهم منتفيا.
قال الجامع عفا الله عنه: في هذا الاستدلال نظر لا يخفى، وقد قدمنا تحرير الخلاف في المسألة وترجيح قول القائلين بجواز قراءة الحائض والجنب في 171/ 265، 266 فارجع إليه تزدد علمًا.
(وتقوم إحدانا بالخمرة) تقدم ضبطها ومعناها في الباب الماضي (إلى
المسجد فتبسطها) أي تفرش تلك الخمرة في داخل المسجد، ولا يستلزم هذا دخولها فيه لإمكانه من الخارج بأن تقوم على باب المسجد، وهو باب حجرتها فتبسط الخمرة فيه، وفيه أن إدخال بعض البدن لا يكون مثل إدخال كله كما تقدم في الباب السابق (وهي حائض) جملة حالية من "إحدانا" أيضًا. والله تعالي أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: هذا الحديث في سنده أم منبوذ، وهي مقبولة كما تقدم، لكن يشهد للجزء الأول منه حديث عائشة الآتي في الباب التالي، وللجزء الثاني منه حديثها الماضي في الباب السابق، فهو
صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له: أخرجه هنا 174/ 273 وفي الكبرى 153/ 267 بالسند المذكور.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: هو من أفراد المصنف لم يخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه أحمد في المسند ج 6 ص 331 بسنده عن منبوذ عن أمه، قالت كنت عند ميمونة، فأتاها ابن عباس، فقالت: يا بُنَيَّ مالك شَعْثا رأسك؟ قال: أم عمار مرجلتي حائض، قالت: أي بني، وأين الحيضة من اليد؟ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على إحدانا، وهي حائض فيضع رأسه في حجرها فيقرأ القرآن وهي حائض، ثم تقوم إحدانا بخمرته فتضعها في المسجد، وهي حائض، أي بُنَيَّ وأين الحيض من اليد؟.
وأخرجه في ج 6 ص 334 بنحوه، وفيه: "لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل على إحدانا، وهي متكئة حائض قد علم أنها حائض فيتكىء عليها، فيتلوا القرآن وهو متكئ عليها، أو يدخل عليها قاعدة، وهي حائض
فيتكىء في حجرها، فيتلو القرآن في حجرها، وتقوم وهي حائض فتبسط له الخمرة في مصلاه"، وفي رواية "خمرته فيصلي عليها في بيتي، أي بُنَيَّ وأين الحيضة من اليد؟ ".
المسألة الرابعة: في فوائده: من فوائده ما ترجم له المصنف، وهو جواز بسط الحائض الخمرة في المسجد، وقد تقدم الكلام عليه في الباب السابق.
ومنها: جواز وضع الرجل رأسه في حجر امرأته وإن كانت حائضا، وجواز قراءة القرآن وهو كذلك.
ومنها جواز القراءة متكئا، أو مضطجعا على الحائض، وبقرب محل النجاسة، قاله النووي رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
175 - بَابُ الذِي يَقْرَأ القُرْآنَ وَرَأسه فِي حِجْرِ امْرأتِهِ وَهِيَ حَائِضٌ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على حكم الشخص الذي يقرأ القرآن والحال أن رأسه في حجر امرأته، والحال أنها حائض.
فجملة قوله: "ورأسه في حجر امرأته" في محل نصب على الحال، وكذا قوله:"وهي حائض".
وتقدم معنى "الحجر" في الباب السابق، والحائض بدون تاء التأنيث، لأنه وصف خاص بالنساء، وقد جاء حائضة أيضا، كما في المصباح.
274 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَا: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: كَانَ رَأْسُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حِجْرِ إِحْدَانَا وَهِيَ حَائِضٌ وَهُوَ يَتْلُو الْقُرْآنَ.
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(إسحاق بن إبراهيم) الحنظلي المروزي تقدم قبل باب.
2 -
(علي بن حجر) السعدي المروزي ثقة حافظ من صغار -9 - تقدم في 13/ 13.
3 -
(سفيان) بن عيينة تقدم في الباب الماضي.
4 -
(منصور) بن عبد الرحمن الحجبي المكي ثقة -5 - تقدم في 159/ 251.
5 -
(صفية) بنت شيبة بن عثمان العبدرية والدة منصور لها رؤية. تقدمت في 159/ 251.
6 -
(عائشة) رضي الله عنها تقدمت في 5/ 5.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وفيه رواية الابن عن أمه، وفيه عائشة المكثرة من الرواية.
وشرح الحديث تقدم فيما قبله، وكذا الفوائد. والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: حديث عائشة هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له: أخرجه هنا 175/ 274 والكبرى -154/ 168 - بالسند المذكور.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (خ) في الطهارة عن أبي نعيم، عن زهير بن معاوية، وفي التوحيد عن قبيصة، عن سفيان الثوري. وأخرجه (م) فيه عن يحيى بن يحيى، عن داود بن عبد الرحمن المكي وأخرجه (ق) فيه عن محمَّد بن يحيى، عن عبد الرزاق، عن سفيان الثوري- ثلاثتهم عن منصور بن عبد الرحمن، عن أمه عنها.
(تنبيه) سفيان في سند المصنف هو ابن عيينة، بخلافه عند (خ) و (ق) فإنه سفيان الثوري، كما صرح به المزي رحمه الله.
(تنبيه آخر) جعل الشيخ الألباني هذا الحديث في صحيح سنن النسائي حسنا كسابقه، وفيه نظر، لأنه صحيح متفق عليه، بخلاف الحديث الماضي فإنه صحيح لشواهده فتحسينه غير بعيد، والله أعلم.
176 - بَابُ غَسْلِ الحَائِضِ رَأسَ زَوْجِهاَ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية غسل المرأة الحائض رأس زوجها.
275 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُومِيءُ إِلَيَّ رَأْسَهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فَأَغْسِلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ.
رجال هذا الإسناد: سبعة
1 -
(عمرو بن علي) بن بحر بن كُنَيز الفَلاس الصيرفي البصري الإمام الثقة الثبت -10 - تقدم في 4/ 4.
2 -
(يحيى) بن سعيد القطان البصري ثقة حجة ثبت -9 - تقدم في 4/ 4.
3 -
(سفيان) بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي ثقة حجة ثبت فقيه -7 - تقدم في 33/ 37.
(تنبيه) وقع لبعض الشراح هنا أن سفيان هو ابن عيينة، وليس كذلك، فإن الحديث كما يأتي مروي عن محمَّد بن يوسف الفريابي، وعبد الرحمن بن مهدي، ومن المقرر عند المحدثين أنهما إذا أطلقا سفيان،
- ومثلهما يحيى القطان، كما في هذا السند- فهو الثوري؛ لأنهم من كبار أصحابه.
قال الإمام الحافظ الناقد البصير شمس الدين محمَّد بن أحمد الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاءج 7 ص 466 بعد أن بين الفرق بين الحمادين حماد ابن سلمة، وحماد بن زيد: ما نصه: ويقع مثل هذا الاشتراك -يعني الاشتراك في الشيوخ والرواة الواقع في الحمادين- في السفيانين، فأصحاب سفيان الثوري كبار قدماء، وأصحاب ابن عيينة صغار، لم يدركوا الثوري، وذلك أبْيَن، فمتى رأيت القديم قد روى فقال: حدثنا سفيان وأبهم فهو الثوري، وهم كوكيع، وابن مهدي، والفريابي، وأبي نعيم، فإن روى واحد منهم عن ابن عيينة بيَّنَه، فأما الذي لم يلحق الثوري، وأدرك ابن عيينة، فلا يحتاج أن ينسبه لعدم الإلباس، فعليك بمعرفة طبقات الناس. اهـ كلام الذهبي.
فتبين بهذا أن سفيان هنا هو الثوري، لا ابن عيينة، فإن يحيى القطان من كبار أصحابه، من طبنة ابن مهدي، والفريابي، ووكيع، كما هو ظاهر من تواريخهم. فتنبه. والله الهادي إلى سواء السبيل.
4 -
(منصور) بن المعتمر الإمام الكوفي ثقة ثبت تقدم في 2/ 2.
5 -
(إبراهيم) بن يزيد النخعي الكوفي ثقة فقيه يرسل تقدم في 29/ 33.
6 -
(الأسود) بن يزيد النخعي الكوفي ثقة مخضرم -2 - تقدم في 29/ 33.
7 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها تقدمت في 5/ 5. والله أعلم
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سباعياته، وأن رواته كلهم ثقات أجلاء اتفق الأئمة
بالتخريج لهم، وأنهم كوفيون إلا عمرا، ويحيى فبصريان، وعائشة فمدنية، وفيه رواية تابعي، عن تابعي، إبراهيم، عن الأسود. وفيه غير ذلك مما سبق غير مرة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عائشة رضي الله عنها أنها (قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يومئ إلى رأسه) أي يخرجه من المسجد إلى حجرتها لتغسله وترجّله (وهو معتكف) جملة حالية أي والحال أنه صلى الله عليه وسلم معتكف في المسجد، والاعتكاف: حبس النفس عن التصرفات العادية لأجل التفرغ للعبادة. (فأغسله) أي رأسه، ولا ينافيه ما يأتي في الرواية الآتية من قولها:"فأرجّله" لإمكان أن تجمع بين الأمرين في وقت واحد، أو تفعل هذا في وقت، وهذا في وقت آخر (وأنا حائض) جملة حالية من الفاعل. والله أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: هذا الحديث متفق عليه
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له: أخرجه هنا في 176/ 275، وفي الكبرى 155/ 269 عن عمرو بن علي، عن يحيى القطان، عن الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عنها، وفي كتاب الحيض 16/ 281 عن إسحاق بن إبراهيم، وعلي بن حجر، كلاهما عن سفيان، وفي الاعتكاف من الكبرى بسند الباب، وعن محمود بن غيلان، عن يحيى بن آدم، عن سفيان به. وعن محمَّد ابن بشار، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان به.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (خ) في الطهارة عن قبيصة ابن عقبة، وفي آخر الصوم عن محمَّد بن يوسف الفريابي- كلاهما عن سفيان به. وأخرجه (م) فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن حسين بن
علي، عن زائدة، عن منصور به، مختصرا:"كنت أغسل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حائض".
وبقية المسائل تقدمت قريبًا فارجع إليها تزدد علمًا. والله أعلم.
276 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، وَذَكَرَ آخَرُ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُخْرِجُ إِلَيَّ رَأْسَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَهُوَ مُجَاوِرٌ، فَأَغْسِلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ.
رجال الإسناد: ستة
1 -
(محمَّد بن سلمة) بن عبد الله المرادي المصري ثقة ثبت فقيه -11 - تقدم في 19/ 20.
2 -
(ابن وهب) عبد الله بن وهب بن مسلم أبو محمَّد القرشي مولاهم المصري الفقيه ثقة حافظ عابد -9 - مات سنة 197، وله 72 سنة، تقدم في 9/ 9.
3 -
(عمرو بن الحارث) بن يعقوب الأنصاري المصري أبو أيوب ثقة فقيه حافظ -7 - تقدم في 63/ 79.
4 -
(أبو الأسود) محمَّد بن عبد الرحمن بن نوفل بن الأسود بن نوفل بن خويلد بن أسد بن عبد العُزَّى الأسدي المدني يتيم عروة؛ لأن
أباه كان أوصى إليه، وكان جده الأسود من مهاجرة الحبشة. روى عن عروة، وعلي بن الحسين، وسليمان بن يسار، وغيرهم.، وروى عنه الزهري وهو من أقرانه، ويزيد بن قُسَيط، ومات قبله، وابن إسحاق، ومالك، وعمرو بن الحارث، وسعيد بن أبي أيوب، ويحيى بن أيوب، وغيرهم. قال ابن لهيعة: قدم مصر سنة 36 - يعني ومائة- وثقه ابن أبي حاتم، والنسائي، وابن حبان، وابن سعد. وقال: كان كثير الحديث. وقال أحمد بن صالح: ثبت له شأن وذكر، وقال ابن البرقي: لا يعلم له رواية عن أحد من الصحابة مع أن سنه يحتمل ذلك. مات في آخر سلطان بني أمية، قاله الواقدي، وقيل: 131، وقال ابن حبان:117. قال الحافظ: هذا وهم لا مرية فيه، والأشبه أن يكون من سقم النسخة، وكأنها كانت سنة 37. أخرج له الجماعة.
5 -
(عروة) بن الزبير المدني الفقيه ثقة ثبت -3 - تقدم في 40/ 44.
6 -
(عائشة رضي الله عنها بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه تقدمما في 5/ 5. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات أجلاء، وكلهم مصريون إلا عروة، وعائشة، فمدنيان، وأبو الأسود، وإن كان مدنيا إلا أنه نزل مصر أيضا، وفيه أبو الأسود هذا الباب أول محل ذكره.
قوله: "وذكر آخر"، يعني أن ابن وهب، روى عن عمرو بن الحارث، وذكر معه رجلا آخر روى عنه أيضًا، كلاهما يرويان عن أبي الأسود يتيم عروة، وهذا الرجل لم أجد من ذكره. لكن جهله لا يضر صحة الحديث، لأن عمرو بن الحارث ثقة لا يحتاج إلى أن يقرن بغيره.
وقوله: "وهو مجاور"، أي معتكف. كما أوضحته الرواية السابقة.
وشرح الحديث واضح مما مر، وكذا الفوائد. والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته: هذا الحديث أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكره عند المصنف: ذكره بهذا السند هنا 176/ 276، وفي الكبرى في الاعتكاف 15/ 3384.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (م) في الطهارة عن هارون بن سعيد الأيلي، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن محمَّد بن عبد الرحمن، به. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
277 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: كُنْتُ أُرَجِّلُ رَأْسَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا حَائِضٌ.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة بن سعيد) الثقفي أبو رجاء البغلاني ثقة ثبت -10 - تقدم في 1/ 1.
2 -
(مالك) بن أنس الإمام العلم الحجة الثبت -7 - تقدم في 7/ 7.
3 -
(هشام بن عروة) ثقة فقيه -5 - تقدم في 49/ 61.
4 -
(عروة) بن الزبير المدني الفقيه ثقة ثبت -3 - تقدم في 40/ 44.
5 -
(عائشة) بنت أبي بكر رضي الله عنهما تقدم في 5/ 5.
لطائف هذا الإسناد
منها أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وكلهم مدنيون إلا قتيبة، فبغلاني.
قولها: "أرجل": أي أُسَرِّح. وشرح الحديث ظاهر مما مر.
ثم ذكر المصنف لهذا الحديث طريقين آخرين، فقال:
278 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، (ح) وَأَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ شُعَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْنٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها مِثْلَ ذَلِكَ.
رجال الإسناد تقدموا إلا واحدًا، وهو:
(علي بن شعيب) بن عدي بن همام، السِّمْسَار البزار، أبو الحسن
البغدادي طوسي الأصل. روى عن أبي النضر هاشم بن القاسم، وأبي ضمرة، وحجاج بن محمَّد، وعبد الله بن نمير، وعبد المجيد بن أبي روّاد، ومعن بن عيسى القزاز، وعبد الوهاب الخفّاف، وغيرهم. وعنه النسائي. وروى أيضًا عن عمر بن إبراهيم البغدادي الحافظ، عنه، وأبو بكر ابن أبي الدنيا، وأحمد بن علي الأبَّار، والقاسم بن المطرز، وابن جرير الباغندي، والبغوي، وابن صاعد، والسراج، والحسين بن إسماعيل المحاملي، وآخرون.
قال النسائي، والخطيب: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان راويًا لمَعْن بن عيسى. قال السراج: مات في شوال سنة -253 - وفيها أرخه ابن قانع. وقال البغوي: سنة -61 - وهو وَهَم. وقال
مسلمة: كان ثقة كثير الحديث. وقال ابن شاهين: ثقة جليل. انفرد به المصنف.
وقوله: "مثل ذلك" أي مثل الحديث المتقدم يعني أن لفظه مثل لفظه، وتقدم الفرق بين قولهم:"نحوه" وقولهم: "مثله" في 173/ 272، فارجع إليه، تستفد. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
* * *
اللهم صل على محمَّد، وعلى آل محمَّد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمَّد، وعلى آل محمَّد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
سبحانك اللهم، وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك.
قال الجامع الفقير إلى مولاه الغني القدير، محمَّد بن الشيخ علي بن آدم بن موسى الإتيوبي الولُّويّ- عفا الله عنه، وعن والديه آمين:
هذا آخر الجزء الرابع من شرح سنن الإمام أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي رحمه الله تعالى، المسمى (ذخيرةَ العقبَى، في شرح المجتبى) أو (غاية المنى، في شرح المجتنى).
أسأل الله العلي العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يمنَّ عليَّ بإتمام الكتاب على الوجه المطلوب، إنه ولي ذلك، والقادر عليه، وهو بعباده رؤوف رحيم. آمين، آمين، آمين.
ويليه الجزء الخامس مفتتحًا بـ
"باب مؤاكلة الحائض، والشرب من سؤرها"