الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرح
سنن النسائي
المسَمَّى
ذخيرة العقبى في شرح المجتبى
لجامعة الفقير إلى مولاه الغني القدير
محمد بن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى الإتيوبي الوَلَّوِي
المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة
عفا الله عنه وعن والديه آمين
الجزء السادس
دار آل بروم
للنشر والتوزيع
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَابُ الصَّلاةِ
5 - كِتَابُ الصَّلاةِ
أي هذا كتاب في ذكر الأحاديث الدالة على أحكام الصلاة.
وارتفاع "كتاب" على أنه خبر مبتدإ محذوف كما قدرناه، ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، أي كتاب الصلاة هذا، ويجوز أن ينتصب على تقدير: خُذْ كتابَ الصلاة.
والكتابُ: يجوز أن يكون بمعنى المكتوب كالحساب بمعنى المحسوب، وهو في الأصل مصدر تقول: كَتَبَ يَكْتُبُ كَتْبًا وكتَابَةً وكتَابًا، ولفظ (ك ت ب) في جميع تصرفاته راجع إلى معنى الجمع والضم، ومنه الكتيبة، وهي الجيش، لاجتماع الفُرْسَان فيها، وكتبت القِرْبَةَ إذا خَرَزْتَهَا، وكتبتُ البَغْلَةَ: إذا جمعت بين شَفْرَيْهَا بحَلْقَةٍ أوْ سَيْرٍ، وكَتَّبْتُ الناقةَ تكتيبًا: إذا صررتها.
ولما فرغ من بيان الطهارة التي هي من شروط الصلاة شرع في بيان الصلاة التي هي المشروطة، فلذا أخرها عن الطهارات، لأن شرط الشيء يَسْبِقُهُ، وحكمه يعقبه.
والصلاة في اللغة: الدعاء، قال الله تعالى:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] أي ادع لهم، وفي الحديث في إجابة الدعوة:"وإن كان صائمًا فليصل" أي فليدع لهم بالبركة.
وقيل: هي مشتقة من صليتُ العودَ على النار إذا قَوَّمْتَهُ. قال النووي: هذا باطل، لأن لام الكلمة في الصلاة واو بدليل الصلوات، وفي صليت ياء، فكيف يصح الاشتقاق مع اختلاف الحروف الأصلية.
ورد العيني على كلام النووي هذا بأن اشتراط اتفاق الحروف الأصلية إنما هو في الاشتقاق الصغير دون الكبير والأكبر، قال: ولا ينافي قولهم: صَلَّيْت بالياء دون صلوت بالواو أن تكون واوية، لأنهم يقلبون الواو ياءً إذا وقعت رابعة.
وقيل: الصلاة مشتقة من الصَّلَوَيْن تثنية الصَّلا، وهو ما عن يمين الذَّنَب وشِمَالِه، قاله الجوهري. قال العيني: وهما العظمان الناتئان عند العَجِيَزة، وذلك لأن المُصَلّيَ يُحَرّك صَلَوَيْه في الركوع والسجود. وقيل: مشتقة من المُصَلّي، وهو الفرس الثاني من خيل السّباق لأن رأسه تلي صَلَوَي السابق.
وقيل: أصلها من التعظيم، وسميت العبادة المخصوصة صلاة لما فيها من تعظيم الرب. وقيل: من الرحمة، وقيل من التقرب؛ من قولهم: شاة مَصْليَّة، وهي التي قُرِّبت إلى النار. وقيل: من اللزوم، قال الزجاج: يقالَ: صَلِيَ واصْطلَى إذا لَزِمَ، وقيل: هي الإقبال على الشيء، وأنكر بعضهم بعض هذه الاشتقاقات لاختلاف لام الكلمة في بعض هذه الأقوال فلا يصح الاشتقاق مع اختلاف الحروف، وأجاب عنه البدر العيني بما تقدم.
وأما معناها الشرعي فهي عبارة عن الأركان المعهودة والأفعال المخصوصة. انتهى "عمدة القاري" جـ 5 ص 39.
وقال العلامة ابن منظور رحمه الله: الصلاة: الرُّكوعُ والسجود، والجمع صَلَوَات، والصلاة: الدعاء والاستغفار.
قال الأعشى (من المتقارب):
وَصَهْبَاء طَافَ يَهُودِيُّهَا
…
وأبْرَزَهَاَ وَعَلَيْهَا خَتَمْ
وَقَابَلَهَا الرَّيحُ فِي دَنِّهَا
…
وَصَلَّى عَلَى دَنِّهَا وارْتَسَمْ
قال: دَعَا لها أن لا تَحْمَضَ، ولا تَفْسُدَ.
والصلاة من الله تعالى: الرحمة، قال عَدِي بن الرقاع (من الكامل):
صَلَّى الإِلَهُ عَلى امْرىءٍ وَدَّعْتُه
…
وَأتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ وزَادَهَا
وقال الراعي (من البسيط):
صَلَّى عَلَى عَزَّةَ الَرحْمَنُ وابْنَتِها
…
لَيْلَى وَصَلَّى عَلَى جَارَاتِهَا الأُخَرِ
وصلاة الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: رحمته له، وحسن ثنائه عليه، وفي حديث ابن أبي أوفى أنه قال: أعطاني أبي صدقة ماله، فأتيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"اللهم صل على آل أبي أوفى"، قال الأزهري: هذه الصلاة عندي: الرحمة، ومنه قوله عز وجل: {إِن اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ
يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عمَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]؛ فالصلاة من الملائكة دعاء واستغفار، ومن الله رحمة، وبه سميت الصلاة، لما فيها من الدعاء والاستغفار، وفي الحديث "التحيات لله، والصلوات" قال أبو بكر: الصلوات: معناها الترحم، وقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} أي يترحمون، وقوله:"اللهم صل على آل أبي أوفى" أي ترحم عليهم.
وتكون الصلاة بمعنى الدعاء، وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا دُعِيَ أحدكم إلى طعام فليُجِبْ، فإن كان مُفْطرًا فليَطعَم، وإن كان صائَمًا فلْيُصَلِّ، قوله: "فليصلَ" يعني فليدع لأرباب الطعام بالبركة والخير، وكل داع فهو مُصَلِ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى عليَّ صلاة صلت عليه الملائكة عشرًا"، ومنه قول الأعشى (من البسيط):
عَلَيْكِ مِثْلَ الَّذي صَلَّيْتِ فاغْتَمِضِي
…
نَومًا فَإِنَّ لِجَنْبِ المَرْءِ مُضْطَجَعَا
معناه أنه يأمرها بأن تدعو له مثل دعائها، أي تُعِيدَ الدعاء له، ويُروى "عَلَيك مثْلُ الذي صَلَّيْتِ" -يعني برفع مثل- فهو رد عليها، أي عليك مثلُ دعَائَك، ينالك من الخير مثل الذي أردت بي، ودعوت به لي.
وقال أبو العباس في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43] فيصلي: يَرْحَمُ، وملائكتهُ يدعون للمسلمين والمسلمات.
ومن الصلاة بمعنى الاستغفار حديث سَوْدَةَ: أنها قالت: يا رسول الله إذا مِتْنَا صَلَّى لنا عثمان بن مظعون حتى تأتِيَنَا، فقال لها:"إن الموت أشَدُّ مما تقَدِّرِين". قال شَمِرٌ: قولها: صلىَ لنا: أي استغفر لنا عند ربه، وكان عثمان مات حين قالت سودة ذلك. وأما قوله تعالى:{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157]، فمعنى الصلوات ها هنا الثناء عليهم من الله تعالى، وقال الشاعر (من الكامل):
صَلَى عَلَى يَحْيَى وأشْيَاعِهِ
…
رَبٌّ كَرِيمٌ وَشَفيعٌ مُطَاعُ
معناه تَرَحَّمَ الله عليه، على الدعاء، لا على الخبر.
وقال ابن الأعرابي: الصلاة من الله رحمة، ومن المخلوقين؛ الملائكة والإنس والجنِّ: القيامُ والركوعُ والسجودُ والدعاء والتسبيح، والصلاة من الطير والهوام التسبيحُ.
وقال الزجاج: الأصل في الصلاة اللزوم، يقال: قد صَلَّى، واصطلى إذا لَزِمَ، ومن هذا من يُصْلَى في النار، أي يُلْزَمُ النَّارَ.
وقال أهل اللغة في الصلاة: أنها من الصَّلَويْنِ، وهما مُكْتَنفَا الذَّنَبِ من الناقة وغيرها، وأول مَوصِلِ الفخذين من الإنسان، فكأنها في الحَقيقة مُكْتَنِفا العُصْعُصِ.
قال الأزهري: والقول عندي هو الأول، إنما الصلاة لزوم ما فرض الله تعالى، والصلاة من أعظم الفرض الذي أمِرَ بِلزومه،
والصلاة: واحدة الصلوات المفروضة، وهو اسم يُوضَعُ موضع المصدر، تقول: صَلَّيتُ صلاةً، ولا تقل: تَصْلِيَةً.
وقال ابن الأثير: وقد تكرر في الحديث ذكر الصلاة، وهي العبادة المخصوصة، وأصلها في اللغة: الدعاء، فسميت ببعض أجزائها، وقيل: أصلها في اللغة التعظيم، وسميت الصلاة المخصوصة صلاة لما فيها من تعظيم الرب تعالى وَتَقَدَّسَ، وقوله في التشهد:"الصلوات لله" أي الأدعية التي يراد بها تعظيم الله هو مستحقها، لا تليق بأحد سواه.
وأما قولنا: اللهم صل على محمد، فمعناه: عَظِّمْهُ في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دعوته، وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته، وتضعيف أجره ومثوبته.
وقيل: المعنى لمَّا أمرنا الله سبحانه بالصلاة عليه، ولم نبلغ قدر الواجب من ذلك، أحَلْنَاه على الله، وقلنا: اللهم صل أنت على محمد، لأنك أعلم بما يليق به، وهذا الدعاء قد اختلف فيه؛ هل يجوز إطلاقه على غير النبي صلى الله عليه وسلم، أو لا؟ والصحيح أنه خاص له، ولا يقال لغيره.
وقال الخطابي: الصلاة التي بمعنى التعظيم والتكريم لا تقال لغيره، والتي بمعنى الدعاء والتبريك تقال لغيره، ومنه "اللهم صل على آل أبي أوفى"، أي تَرَحَّم، وَبَرِّك، وقيل فيه: إن هذا خاص له، ولكنه آثَرَ به
غيره، وأما سواه فلا يجوز له أن يَخُصَّ به أحدًا.
انتهى "لسان العرب" جـ 4 ص 249.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قالوه من عدم جواز الصلاة على غير الأنبياء قول لا دليل عليه، بل الدليل بعكسه، كهذا الحديث "اللهم صل على آل أبي أوفى"، وحديث "صلى الله على زوجك"، وآية {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] ودعوى الخصوصية مما لا دليل عليها، فالمختار عندي جوازها. فتأمل بإنصاف. والله أعلم
وقال العلامة الراغب الأصفهاني في "مفردات ألفاظ القرآن": والصلاة: قال كثير من أهل اللغة: هي الدعاء، والتبرِيكُ والتمجِيدُ، يقال: صلَّيت عليه، أي دعوت له وزكيت، وقال عليه السلام:"إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، وإن كان صائمًا فليصل" أي ليدع لأهله.
وصلاة الله للمسلمين هو في التحقيق: تزكيته إياهم، ومن الملائكة هي الدعاء والاستغفار، كما هي من الناس.
والصلاة التي هي العبادة المخصوصة: أصلها: الدعاء، وسميت هذه العبادة بها كتسمية الشيء باسم بعض ما يتضمنه، والصلاة من العبادات التي لم تَنْفَكَّ شريعة منها، وإن اختلفت صُوَرُها بحسب شرع فشرع، ولذلك قال:{إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمؤْمِنِينَ كتَابًا مَّوْقُوتًا} . [النساء: 103]
وقال بعضهم: أصل الصلاة من الصَّلى، قال: ومعنى صَلَّى الرجلُ: أي أنه ذَادَ، وأزَالَ عن نفسه بهذه العبادة الصَّلَى الذي هو نار الله الموقدة، وبِنَاءُ صلَّى كبناء مَرَّضَ لإزالة المرَضِ، ويسمى موضع العبادة الصلاة، ولذا سميت الكنائس صلوات، كقوله:{لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج: 40].
وكل موضع مدح الله تعالى بفعل الصلاة، أو حَثَّ عليه ذُكر بلفظ الإقامة، نحو {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاة} [النساء: 162]، {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [النور: 56]، {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} ، ولم يقل: المصلين إلا في المنافقين، نحو {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5،4]، {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى} [التوبة: 54].
وإنما خص لفظ الإقامة تنبيهًا أن المقصود من فعلها توفية حقوقها وشرائطها، لا الإتيان بهيئتها فقط، ولهذا رُويَ أن المصلين كثير، والمقيمين لها قليل.
انتهى ما قاله الراغب في كتابه "مفردات ألفاظ القرآن" ص 492.
وقال العلامة ابن قُدَامَةَ رحمه الله: وهي -أي الصلاة- في الشرع عبارة عن الأفعال المعلومة، فإذا ورد في الشرع أمر بصلاة، أو حكم معلق عليها، انصرف بظاهره إلى الصلاة الشرعية، وهي واجبة
بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، وأما السنة فما رَوَى ابنُ عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقامِ الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلًا" متفق عليه. مع آي وأخبار كثيرة. انتهى "المغني" جـ 2 ص 5 - 6، والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
1 - فَرضُ الصَّلاةِ، وَذِكْرُ اخْتِلافِ النَّاقِلين في إسْنَادِ حَدِيث أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه واخْتِلافِ ألْفاظِهمْ فيهِ
أي هَذَا بَابُ ذِكر الحديث الدال على كون الصلاة فرضًا، وبابُ ذكر اختلاف الرواة الذين نَقَلُوا حديث أنس بن مالك عنه في إسناده، واختلاف ألفاظهم في أدائه.
قال في "المصباح": وفَرَضَ اللهُ الأحكام فرضًا: أوجبها، فالفرض: المفروض، جمعه فروض، مثل فَلْسٍ وفلوس. اهـ.
قال الجامع: وعلى هذا يكون قول المصنف "فرض الصلاة" من إضافة الصفة للموصوف، أي الصلاة المفروضة. ويحتمل أن تكون الإضافة بمعنى "من" أي الفرض من الصلاة.
وأما اختلاف الناقلين في إسناده: ففي السند الأول روى قتادة عن أنس، عن مالك بن صعصعة، وفي السند الثاني رَوَى ابنُ شهاب ويزيد ابن أبي مالك عن أنس ولم يذكرا مالك بن صعصعة، وسيأتي تمام الكلام عليه.
وأما اختلاف ألفاظهم فسيتبين من خلال شرح الحديثين إن شاء الله تعالى.
448 -
أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ الدَّسْتَوَائِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَيْنَا أَنَا عِنْدَ الْبَيْتِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إِذْ أَقْبَلَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، فَأُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَلآنَ حِكْمَةً، وَإِيمَانًا، فَشَقَّ مِنَ النَّحْرِ إِلَى مَرَاقِّ الْبَطْنِ، فَغَسَلَ الْقَلْبَ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ مُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ، ثُمَّ انْطَلَقْتُ مَعَ جِبْرِيلَ عليه السلام، فَأَتَيْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَأَتَيْتُ عَلَى آدَمَ عليه السلام فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، قَالَ: مَرْحَبًا بِكَ مِنِ ابْنٍ وَنَبِيٍّ، ثُمَّ أَتَيْنَا السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، فَمِثْلُ ذَلِكَ، فَأَتَيْتُ عَلَى يَحْيَى
وَعِيسَى، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمَا، فَقَالَا: مَرْحَبًا بِكَ مِنْ أَخٍ وَنَبِيٍّ، ثُمَّ أَتَيْنَا السَّمَاءَ الثَّالِثَةَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، فَمِثْلُ ذَلِكَ، فَأَتَيْتُ عَلَى يُوسُفَ عليه السلام، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، قَالَ: مَرْحَبًا بِكَ مِنْ أَخٍ وَنَبِيٍّ، ثُمَّ أَتَيْنَا السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ، فَمِثْلُ ذَلِكَ، فَأَتَيْتُ عَلَى إِدْرِيسَ عليه السلام، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِكَ مِنْ أَخٍ وَنَبِيٍّ، ثُمَّ أَتَيْنَا السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ، فَمِثْلُ ذَلِكَ، فَأَتَيْتُ عَلَى هَارُونَ عليه السلام، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، قَالَ: مَرْحَبًا بِكَ مِنْ أَخٍ وَنَبِيٍّ، ثُمَّ أَتَيْنَا السَّمَاءَ السَّادِسَةَ، فَمِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَيْتُ عَلَى مُوسَى عليه السلام، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِكَ مِنْ أَخٍ وَنَبِيٍّ، فَلَمَّا جَاوَزْتُهُ بَكَى، قِيلَ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ هَذَا الْغُلَامُ الَّذِي بَعَثْتَهُ بَعْدِي يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِهِ الْجَنَّةَ أَكْثَرُ وَأَفْضَلُ مِمَّا يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي، ثُمَّ أَتَيْنَا السَّمَاءَ السَّابِعَةَ، فَمِثْلُ ذَلِكَ، فَأَتَيْتُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عليه السلام،
فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِكَ مِنِ ابْنٍ وَنَبِيٍّ، ثُمَّ رُفِعَ لِيَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، فَسَأَلْتُ جِبْرِيلَ؟ فَقَالَ: هَذَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، فَإِذَا خَرَجُوا مِنْهُ لَمْ يَعُودُوا فِيهِ، آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ رُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا نَبِقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرٍ، وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ، وَإِذَا فِي أَصْلِهَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ، نَهْرَانِ بَاطِنَانِ، وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَسَأَلْتُ جِبْرِيلَ؟ فَقَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَفِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالْفُرَاتُ وَالنِّيلُ، ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ خَمْسُونَ صَلَاةً، فَأَتَيْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ قُلْتُ: فُرِضَتْ عَلَيَّ خَمْسُونَ صَلَاةً، قَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ بِالنَّاسِ مِنْكَ، إِنِّي عَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، وَإِنَّ أُمَّتَكَ لَنْ يُطِيقُوا ذَلِكَ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَاسْأَلْهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكَ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنِّي، فَجَعَلَهَا أَرْبَعِينَ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى مُوسَى عليه السلام، فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ قُلْتُ: جَعَلَهَا أَرْبَعِينَ،
فَقَالَ لِي: مِثْلَ مَقَالَتِهِ الأُولَى، فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي عز وجل فَجَعَلَهَا ثَلَاثِينَ، فَأَتَيْتُ عَلَى مُوسَى عليه السلام، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ لِي مِثْلَ مَقَالَتِهِ الأُولَى، فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي، فَجَعَلَهَا عِشْرِينَ، ثُمَّ عَشْرَةً، ثُمَّ خَمْسَةً، فَأَتَيْتُ عَلَى مُوسَى عليه السلام، فَقَالَ لِي مِثْلَ مَقَالَتِهِ الأُولَى، فَقُلْتُ: إِنِّي أَسْتَحِي مِنْ رَبِّي عز وجل أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَنُودِىَ أَنْ قَدْ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي، وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي، وَأَجْزِي بِالْحَسَنَةِ عَشْرَ أَمْثَالِهَا".
رجال الإسناد: ستة
1 -
(يعقوب بن إِبراهيم) بن كَثير بن أفْلَحَ العبدي مولاهم أبو يوسف الدَّوْرَقي ثقة، توفي سنة 252، وله 96 سنة، من [10]، تقدم في 22/ 21.
2 -
(يحيى بن سعيد) بن فَرُّوخ القَطَّان البصري ثقة متقن حافظ إمام قُدْوَةٌ توفي سنة 298، وله 78 سنة، من كبار [9]، تقدم في 4/ 4.
3 -
(هشام الدَّسْتُوَائي) ابن أبي عبد الله -سَنْبَر- أبو بكر البصري
ثقة ثبت وقد رمي بالقدر، توفي سنة 154، وله 78 سنة، من كبار [7]، تقدم في 42/ 47.
والدَسْتُوائي: بفتح الدال، وسكون السين، وضم التاء، وفتحها- نسبة إلى بيع الثياب الدستوائية، وهي الثياب المجلوبة من دَسْتُوَا: بلد بالأهْواز.
4 -
(قتادة) بن دعامة بن قَتَادة السَّدُوسِيُّ أبو الخطاب البصري ثقة ثبت، يقال: وُلِدَ أكْمَهَ، توفي سنة بضع عشرة ومائة، رأس الطبقة [4]، تقدم في 30/ 34.
5 -
(أنس بن مالك) بن النَّضْر الأنصاري الخَزْرَجِيِّ خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم خدمه 10 سنين، صحابي مشهور، توفي سنة 92، وقيل: سنة 93، وقد جاوز 100 سنة، تقدم في 6/ 6.
6 -
(مالك بن صَعْصَعْة) بن وهب بن عدي بن مالك بن عدي بن عامر بن غنم بن عدي بن النَّجَّار، الأنصاري المازني. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث المعراج بطوله. تت جـ 1 ص 17. أخرج له الشيخان والترمذي والمصنف. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسياته، ومنها: أن رواته كلهم ثقات، ومنها: أنهم ممن اتفق الأئمة بالتخريج لهم، إلا مالك بن صَعْصَعَةَ، فأخرج له الشيخان، والترمذي والمصنف فقط، ومنها: أن مالكًا، هذا أول محل
ذكره، ومنها: أنه مسلسل بالبصريين إلا شيخه فبغدادي، ومالكًا فمدني، ومنها: أن فيه رواية صحابي عن صحابي. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أنس بن مالك) رضي الله عنه وقد صرح قتادة بالتحديث في رواية للبخاري في بدء الخلق.
قال الحافظ رحمه الله: قد رَوَى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة، لكن طرقه في الصحيحين تدور على أنس، مع اختلاف أصحابه عنه، فرواه الزهري عنه، عن أبي ذر، ورواه قتاده عنه، عن مالك بن صعصعة، ورواه شريك بن أبي نَمِر، وثابت البناني عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، وفي سياق كل منهم ما ليس عند الآخر. اهـ "فتح" جـ 1 ص 548.
(عن مالك بن صعصعة) الأنصاري المازني من بني النجار، ليس له في كتب الحديث غير هذا الحديث، ولا يعرف له راو إلا أنس بن مالك (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينا) هي "بَيْنَ" أشْبعَت فتحتها فتولدت منها الألف، ويقال:"بينما"، وقد تقدم البحثَ عنها في 173/ 270 (أنا) مبتدأ (عند البيت) متعلق بخبر محذوفٍ، أيْ كائن، أو هو حالٌ، والخبر الظرف الثاني، والبيت هو الكعبة -زادها الله شرفًا- لأنها المرادة عند الإطلاق، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":
وَقَدْ يَكُونُ عَلَمًا بالغَلَبَه
…
مضَافٌ أوْ مَصْحُوبُ ألَ كَالْعَقَبَهْ
وعند البخاري في المعراج من رواية هَمَّام بن يحيى عن قتادة "بينما أنا في الحَطِيم -وربما قال في الحجْر- مضطجعًا"
…
وفي رواية الزهري عن أنس، عن أبي ذر "فُرِجَ سَقْفُ بيتي وأنا بمكة" وفي رواية الواقدي بأسانيده أنه أسري به من شعب أبي طالب، وفي حديث أم هانىء عند الطبراني أنه بات في بيتها، قال:"ففقدته من الليل، فقال: إن جبريل أتاني". والقصة متحدة لاتحاد مَخْرَجِهَا.
قال الحافظ رحمه الله: والجمع بين هذه الأقوال أنه نام في بيت أم هانىء، وبيتها عند شِعْب أبي طالب، فَفُرِجَ سقفُ بيته -وأضاف البيت إليه لكونه كان يسكنَه- فنزل منه الملك فأخرجه من البيت إلى المسجد، فكان به مضطجعًا، وبه أثر النُّعاس، ثم أخرجه الملك إلى باب المسجد، فأركبه البراق. وقد وقع في مرسل الحسن عند ابن إسحاق أن جبريل أتاه فأخرجه إلى المسجد، فأركبه البراق، وهو يؤيد هذا الجمع.
وقيل: الحكمة في نزوله عليه من السقف الإشارة إلى المبالغة في مفاجأته بذلك، والتنبيه على أنه المراد منه أن يُعرَج به إلى جهة العلو. اهـ "فتح" جـ 7 ص 243 - 244.
(بين النائم واليقظان) الظرف إما خبر أو حال من "أنا".
و"اليَقْظان": بفتح فسكون: صفة مشبهة من "يَقظَ يَقَظًا" من باب تَعِبَ، ويَقَظَةً، بفتح القاف، ويَقَاظَةً: خلافُ نامَ، وكذلكَ إذا انتبه للأمور. ورجل يَقْظَانُ، وامرأة يَقْظَى. أفاده في "المصباح" جـ 2 ص 680 - 681.
قال في الفتح: وهو محمول على ابتداء الحالَ، ثم لَمَّا خَرَجَ به إلى باب المسجد، فأركبه البراق استمر في يقظته، وأما ما وقع في رواية شريك، في رواية البخاري في التوحيد في آخر الحديث "
…
فلما استيقظت" فإن قلنا بالتعدد فلا إشكال، وإلا حُمِلَ على أن المراد باستيقظت: أفَقْتُ، أي أنه أفَاقَ مما كان فيه من شغل البال بمشاهدة الملكوت، ورجع إلى العالم الدنيوي، وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جَمْرة: لو قال صلى الله عليه وسلم أنه كان يقظان لأخبر بالحق، لأن قلبه في النوم واليقظة سواء، وعينه أيضا لم يكن النوم تمكن منها، لكنه تَحَرَّى صلى الله عليه وسلم الصدقَ في الإخبار بالواقع، فيؤخذ منه أنه لا يُعدَل عن حقيقة اللفظ إلى المجاز إلا لضرورة. انتهى
(إِذ أقبل أحد الثلاثة) جواب بينا
…
قال السندي رحمه الله: ظاهر النسخة أن "إذ" بلا ألف، وأن الألف التالية متعلقة بما بعده -يعني أنها جزء مما بعده- وهو من الإقبال، والمعنى أنه جاءه ثلاثة، فأقبل منهم واحد إليه (بين رجلين) حال من مقدر، أي أقبل إليَّ واحد، والحال أني كنت بين رجلين، قالوا: هما حمزة وجعفر.
قال الجامع: الأولى عندي على هذا الوجه: أن يكون "بين رجلين" حالًا من أحد الثلاثة؛ أي حال كونه كائنًا بين رجلين، أي أن الملك الذي أقبل إليه كان بين ملكين. والله أعلم.
قال السندي رحمه الله: ويحتمل أن يقرأ "إذَا قِيلَ" على أن الألف
جزء من "إذا"، "وقيل" من القول، أي سمعت قائلا يقول في شأني: هو أحد الثلاثة بين الرجلين، أي أوسطهم.
قمال الجامع: هذا الاحتمال يحتاج إلى ثبوت الرواية فتبصر.
"قال السندي": وقد جاء في رواية أنهم جاءوا، وهم ثلاثة، وفي رواية: سمعت قائلًا يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين. ولا منافاة بين الروايتين، فالوجهان في كلام المصنف صحيحان لفظًا ومعنى. انتهى كلام السندي رحمه الله تعالى.
قال الجامع عفا الله عنه: رواية المصنف هنا وفي الكبرى "إذ أقبل أحد الثلاثة بين الرجلين" ورواية البخاري في "المعراج""إذ أتاني آت" وهو جبريل، كما في رواية له في الصلاة
…
، وله في "بدء الخلق": وذكر بين رجلين. ورواية مسلم "إذ سمعت قائلًا يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين".
فرواية المصنف تفيد أن الذين أقبلوا إليه، وهم الملائكة كانوا ثلاثة، ورواية مسلم تدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مع رجلين، قيل: هما حمزة وجعفر، وكان نائما بينهما
…
، وهو معنى ما في البخاري "وذكر بين رجلين"، وأما رواية "إذ أتاني آت" فلا تنافي هذا، لأن المراد: الملك الذي أقبل إليه من بين الثلاثة.
قال الحافظ رحمه الله: ويستفاد منه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من التواضع وحسن الخلق، وفيه جواز نوم جماعة في موضع واحد، وثبت من أدلة
أخرَى أنه يشترط أن لا يجتمعوا في لِحَافٍ واحد. انتهى. "فتح" جـ 7 ص 244.
(فَأتِيتُ) بالبناء للمفعول؛ والآتي، والذي شَقَّ النَّحر، وغَسَلَ القلبَ، وَمَلأهُ حكمةً وإيمانًا هو: جبريلُ، ففي رواية البخاري في الصلاة "فَنَزَلَ جبريل، فَفَرَجَ صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلىء حكمةً وإيمانًا، فأفرغه في صدري ثم أطبَقَه، ثم أخذ بيدي، فعَرَجَ بي إلى السماء الدنيا
…
" الحديث.
(بطَست) -بفتح الطاء، وبكسره، وبمثناة، وقد تحذف؛ وهو الأكثر، وإثباتها لغة طيء، وأخطأ من أنكرها. قاله في الفتح. وهو إناء معروف مؤنث، وقد سبق التحقيق في ضبطه ومعناه برقم (75/ 92)، فارجع إليه تزدد علمًا.
(من ذَهَبٍ) قال في الفتح: خَصَّ الطست لكونه أشهر آلات الغسل عرفًا، والذهب لكونه أغلى أنواع الأواني الحسية، وأصْفاها، ولأن فيه خَواصَّ ليست لغيره، ويظهر لها هنا مناسبات: منها: أنه من أواني الجنة، ومنها: أنه لا تأكله النار، ولا التراب، ولا يَلْحَقُهُ الصَدأ. ومنها: أنه أثقلُ الجواهر، فناسبَ ثِقَلَ الوحيِ.
وقال السهيلي وغيره: إنْ نُظِرَ إلى لفظ الذهب ناسب من جهة إذهاب الرِّجْس عنه. ولكونه وقع عند الذَّهاب إلى ربه. وإنْ نُظِرَ
إلى معناه فَلِوَضَاءته ونَقَائه، وصَفَائه، ولثقله ورُسُوبَته، والوحيُ ثقيل، قال الله تعالىَ:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)} [المزمل: 5]، {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102)} [المؤمنون: 102]؛ ولأنه أعزُّ الأشياء في الدنيا، والقول هو: الكتاب العزيز.
ولعل ذلك كان قبل أن يحرم استعمال الذهب في هذه الشريعة، ولا يكفي أن يُقالَ. أن المُسْتَعْمِلَ له كان ممن لم يُحَرَّمُ عليه ذلك من الملائكة؛ لأنه لو كان قد حرم عليه استعماله لنزه أن يستعمله غيره في أمر يتعلق ببدنه المكرم.
ويمكن أن يقال: إن تحريم استعماله مخصوص بأحوال الدنيا، وما وقع في تلك الليلة كان الغالب أنه من أحوال الغيب، فيلحق بأحكام الآخرة. "فتح" جـ 7 ص 24.
قال الجامع عفا الله عنه: وأحسن من هذا كله ما أشار إليه في الفتح في كتاب الصلاة، وهو أن هذا الاستعمال كان قبل التحريم؛ لأن هذا كان في ليلة الإسراء قبل الهجرة، وتحريم الذهب إنما وقع بالمدينة. والله أعلم.
(ملآن) صفة لطست، والتذكير لتأويله بالإناء، وفي نسخة "ملأى" بالتأنيث لأن الطست مؤنث، كما تقدم، وفي نسخة "ملىء" وعند البخاري "ممتلىء"(حكمةً وإيمانًا) منصوبان على التمييز.
والحكمة: بالكسر اسم؛ من حَكُم بضم الكاف، أي صار حكيمًا، وصاحب الحِكْمةِ: المتقنُ للأمور، وأما حَكَمَ -بفتح الكاف- فمعناه قَضَى، ومصَدرَه الحُكْم بالضم؛ والحُكْم أيضا الحِكْمَةُ بمعنى العلم، والحاكم: العالم.
وقال النووي رحمه الله: إن الحكمة فيها أقوال متضاربة صَفَى لنا منها أن الحكمة عبارة عن العلم المتصف بالأحكام المشتملة على المعرفة بالله تعالى، المصحوب بنفاذ البصيرة، وتهذيب النفس، وتحقيقِ الحقِ، والعمل به، والصَّدِ عن اتباع الهوى والباطل، فالحكيم من حاز ذلك كله.
وقال ابن دُرَيد: كل كلمة وَعَظتْكَ، أو زَجَرَتْكَ، أو دَعَتْكَ، إلى مَكْرُمَةِ، أو نهتك عَن قَبيحٍ فهي حكمة.
وقيل: الحكمة: المانعة من الجهل، وقيل: النبوة، وقيل: الفهم عن الله تعالى.
وقال ابن سيدَهْ: القرآن كفى به حكمة، لأن الأمة صارت علماء بعد الجهل. اهـ. "عمدة القاري" جـ 4 ص 42، 43.
وقال النووي: معناه: أن الطست كان فيها شيء يحصل به زيادة في كمال الإيمان، وكمال الحكمة، وهذا المِلْءُ يحتمل أن يكون على حقيقته، وتجسيد المعاني جائز كما جاء أن سورة البقرة تجيء يوم القيامة كأنها ظلة، والموت في صورة كبش، وكذلك وزن الأعمال، وغير ذلك من أحوال الغيب.
وقال البيضاوي: لعل ذلك من باب التمثيل؛ إذ تمثيل المعاني قد وقع كثيرًا، كما مثلت له الجنة والنار في عُرْضِ الحائط، وفائدته كشف المعنوي بالمحسوس. وقال ابن أبي جَمْرةَ: فيه أن الحكمة، ليس بعد الإيمان أجلّ منها، ولذلك قُرنت معه، ويؤيده قوله تعالى:{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]، وأصح ما قيل في الحكمة: أنها وَضعُ الشيء في محله، أو الفهم في كتاب الله، فعلى التفسير الثاني قد توجد الحكمة دون الإيمان، وقد لا توجد، وعلى الأول فقد يتلازمان، لأن الإيمان يدل على الحكمة. انتهى "فتح" جـ 7 ص 245.
(فشق) على البناء للفاعل، أي شق الملك الآتي، أو على البناء للمفعول، وكذا بالوجهين: قوله: "فغسل"، وقوله:"ملىء" قاله: السندي.
(من النحر) بفتح فسكون- موضع القلادة من الصدر، والجمع نُحُور، مثل فَلْس وفُلُوس، وتُطلَقُ النحور على الصدر. قاله في المصباح.
(إِلى مَرَاقِّ البطن) -بفتح الميم وتشديد القاف- قال في النهاية: هي ما سَفَلَ من البطن فما تحته من المواضع التي تَرِقُّ جلودها، وَاحِدُهَا مَرَقّ، قاله الهروي، وقال الجوهري: لا واحد لها. اهـ. "زهر".
قال في "الفتح": وقد استنكر بعضهم وقوع شق الصدر ليلة
الإسراء، وقال: إنما كان ذلك، وهو صغير في بني سعد، ولا إنكار في ذلك
(1)
، فقد تواردت الروايات به، وثبت شق الصدر أيضا عند البعثة، كما أخرجه أبو نعيم في الدلائل، ولكل منهما حكمة؛ فالأول وقع فيه من الزيادة كما عند مسلم من حديث أنس "فأخرج عَلَقَة، فقال: هذا حظ الشيطان منك" وكان هذا في زمن الطفولية، فنشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان، ثم وقع شق الصدر عند البعث زيادة في إكرامه ليتلقَّى ما يوحى إليه بقلب قوي في أكمل الأحوال من التطهير، ثم وقع شق الصدر عند إرادة العروج إلى السماء، ليتأهب للمناجاة.
وذَكَرَ في كتاب الصلاة نحو ذلك وقال: ومحصله: أن الشق الأول كان لاستعداده لنزع العَلَقَة التي قيل له عندها: "هذا حظ الشيطان منك" والشق الثاني كان لاستعداده للتلقي الحاصل له في تلك الليلة.
وقد رَوَى الطيالسي والحارث في مسنديهما من حديث عائشة: "أن الشق وقع مرة أخرى عند مجيء جبريل له بالوحي في غار حراء. والله أعلم. ومناسبته ظاهرة، ورُويَ الشقُ أيضا وهو ابن عشر أو نحوها في قصة له مع عبد المطلب، أخرجها أبو نعيم في الدلائل، وروي مرة أخرى خامسة، ولا تثبت. اهـ "فتح الباري" جـ 7 ص 244، جـ 1 ص 549.
(1)
وقال القرطبي في "المفهم": لا يلتفت لإنكار الشق ليلة الإسراء لأن رواته ثقات مشاهير. اهـ فتح جـ 7 ص 245.
(فغسل القلب بماء زمزم) وعند مسلم "فاستُخْرِجَ قلبي فَغُسِل بماء زمزم"، وزَمْزَم اسم للبئر التي في المسجد الحرام، غير منصرف للتأنيث والعلمية، ويقال: ماءٌ زَمْزَمٌ، وزَمْزَامٌ، وزُوازِمُ، وزُوَزِمُ: إذا كان بَينَ المِلْح والعَذْب، وقد ذكر بعض اللغوين لها أسماء كثيرة، منها: مَكْتُومة، مَضْنُونَةُ، شُبَاعَةُ، سُقْيَا، الرِّوَاءُ، رَكْضَةُ جبْريلُ، هَزْمَةُ جِبْريلَ، شِفَاءُ سُقْمٍ، طَعامُ طُعْمٍ، حَفِيرةُ عَبْدِ المُطَّلبِ
(1)
.
وذكر صاحب "تاج العروس" أنه جمع لها من كتب الحديث وكتب اللغة أسماءً تنيف على ستين اسمًا
(2)
. وفيه فضيلة ماء زمزم على جميع المياه. قال ابن أبي جَمْرة: وإنما لم يُغْسَل بماء الجنة لما اجتمع في ماء زمزم من كون أصل مائها من الجنة، ثم استقَّر في الأرض، فأريد بذلك بقاء بركة النبي صلى الله عليه وسلم في الأرض.
وقال السهيلي: لما كانت زمزمُ هزمةَ جبريلَ رُوحِ القدسِ لأم إسماعيل جَدِّ النبي صلى الله عليه وسلم، نَاسَبَ أن يُغْسَلَ بمائها عند دخول حضرة القدس ومناجاته.
ومن المناسبات المستَبْعَدَةِ قول بعضهم: إن الطست يناسب "طس تلك آيات القرآن"
(3)
.
(1)
انظر "لسان العرب" جـ 3 ص 1866.
(2)
"تاج" جـ 8 ص 328.
(3)
"فتح" جـ 7 ص 245.
فائدة:
قال الحافظ رحمه الله: وجميع ما ورد من شَقِّ الصدر، واستخراجِ القلب، وغيرِ ذلك من الأمور الخارقة للعادة مما يجب التسليم له، دون التعرض لصرفه عن حقيقته لصلاحية القدرة، فلا يستحيل شيء من ذلك
(1)
.
(ثم ملىءَ حكمةً وإِيمانًا) وعند البخاري: "ثم حُشِيَ، ثم أعِيدَ"، وعند مسلم:"ثم حُشِيَ إيمانًا وحكمةً"، وفي رواية شريك:"فحُشيَ صدره ولَغَادِيْدُهُ"
(2)
، بلام وغين -معجمة- أي عروق حلقه، والمرادَ به ما كان في الَطست من حكمة وإيمان، يدل عليه ما في البخاري وغيره "ثم جاء بطست من ذهب ممتلىء حكمًة وإيمانًا، فأفرغه في صدري، ثم أطبَقَهُ".
قال في "الفتح": وقد اشتملت هذه القصة من خوارق العادة على ما يدهش سامعه فضلًا عمن شاهده، فقد جرت العادة بأن من شُقَّ بطنُهُ، وأخْرِجَ قلبُهُ يموت لا مَحَالَةَ، ومع ذلك فلم يُؤثِّرْ فيه ذلك ضرَرًا، ولا وَجَعًا فضلًا عن غير ذلك.
وقال ابن أبي جمرة: الحكمة في شق قلبه مع القدرة على أن يمتلىء
(1)
فتح جـ 7 ص 245.
(2)
قال في "ق" اللَّغْدُ، واللُّغْدُودُ، بضمها، واللِّغْديدُ: لَحْمَة في الحَلْق، أو كالزوائد من اللحم في باطن الأذن، أو ما أطاف بأقصى الفَم إلى الحلق من اللحَم جمعه ألْغَاد، ولَغَادِيدُ، أو اللُّغْدُ: منتهى شحمة الأذن من أسفلها. اهـ ص 405.
قلبه إيمانًا وحكمةً بغير شق- الزيادةُ في قوة اليقين، لأنه أعطيَ برؤية شَقِّ بطنه وعدمِ تأثُّره بذلك ما أمنَ معه من جميع المخاَوف العادية، فلذَلَك كان أَشجعِ الناس، وَأعلاهم حالًا ومقالًا، ولذلك وُصفَ بقوله تعالى:{مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17].
واختُلفَ هل كان شق صدره وغَسلُهُ مختصًا به، أو وقع لغيره من الأنبياء؟
وقد وقع عند الطبراني في قصة تابوت بني اسرائيل أنه كان فيه الطست التي يغسل فيها قلوب الأنبياء، وهذا مشعر بالمشاركة، وسيأتي نظير هذا البحث في ركوب البراق. اهـ. فتح جـ 7 ص 246.
(ثم أتِيتُ بدابة) قيل: الحكمة في الإسراء به راكبًا مع القدرة على طي الأرض له إشارة إلى أن ذلك وقع تأنيسًا له بالعادة في مقام خرق العادة، لأن العادة جرت بأن المَلِكَ إذا استدعَى من يختص به يبعث إليه بما يركبه.
(دون البغل وفوق الحمار) الظرف صفة لدابة، والحكمة في كون الدابة بهذه الصفة: الإشارة إلى الإسراع الشديد بدابة لا توصف بذلك في العادة، أو باعتبار أن الركوب كان في سِلْمٍ وأمْنٍ، لا في حَرْب وخوف
(1)
.
وفي الرواية الآتية للمصنف "بدابة فوق الحمار ودون البغل، خطوها عند منتهى طرفها".
(1)
عمدة القاري جـ 17 ص 24.
وعند البخاري "دون البغل وفوق الحمار أبيض"، فوصف الدابة بالبياض وذَكَّرَهُ باعتبار كونه مركوبًا، أو نظرًا للفظ البراق. والله تعالى أعلم.
تنبيهان:
الأول: وقع في "صحيح البخاري" سؤال الجارود -الراوي عن أنس- عن الدابة هل هي البراق؟ فقال: هو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم، يَضَعُ خَطْوَهُ عند أقصى طَرْفِهِ. أي يضع رجله عند منتهى ما يَرَى بَصَرُه.
وفي حديث ابن مسعود عند أبي يعلى، والبزار "إذا أتى على جبل ارتفعت رجلاه، وإذا هبط ارتفعت يداه"، وفي رواية لابن سعد عن الواقدي بأسانيده:"له جناحان" قال الحافظ: ولم أرها لغيره، وعند الثعلبي بسند ضعيف عن ابن عباس في صفة البراق "لها خد كخد الإنسان، وعُرْف كالفرس، وقوائم كالإبل، وأظلاف، وذَنَب كالبقر، وكان صدره ياقوتة حمراء".
قيل: ويؤخذ من ترك تسمية سير البراق طَيَرَانًا أن الله إذا أكرم عَبْدًا بتسهيل الطريق له حتى قطع المسافة الطويلة في الزمن اليسير أن لا يخرج بذلك عن اسم السفر، وتَجْري عليه أحكام السفر
(1)
.
الثاني: البراق -بضم الموحدة، وتخفيف الراء- مشتق من البَريق، فقد جاء في لونه أنه أبيض، أو من البرق لأنه وصفه بسرعة السير، أو من قولهم: شاة بَرْقاء إذا كان خِلال صوفها الأبيض طاقاتٌ سُودٌ، ولا
(1)
فتح جـ 7 ص 246.
ينافيه وصفه في الحديث بأن البراق أبيض لأن البرقاء من الغنم معدودة في البياض.
ويحتمل أن لا يكون مشتقًا، قال ابن أبي جَمْرَةَ: خُصَّ البراق بذلك إشارة إلى الاختصاص به، لأنه لم ينقل أن أحدًا ملكه، بخلاف غير جنسه من الدواب، قال: والقدرة كانت صالحة لأن يَصْعد بنفسه من غير براق، ولكن ركوب البراق كان زيادةً له في تشريفه، لأنه
لو صَعدَ بنفسه لكان في صورة ماش، والراكب أعز من الماشي. قاله في "الفتحَ". جـ 7 ص 246، 247.
(ثم انطلقت): أي ذهبت، وذلك بعد ركوبه على تلك الدابة، لما في رواية البخاري، "فحُملْتُ عليه"، وفي رواية لأبي سعيد في شرف المصطفى "فكان الذي أمسكَ بركابه جبريل، وبزمامِ البراق ميكائيل".
وفي رواية معمر عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به أتيَ بالبراق مُسْرَجًا، مُلجمًا، فاستَصْعَب عليه، فقال له جبريل: ما حمَلك على هذا؟ فوالله ما ركبك خلق قط أكرم على الله منه، قال: فارفض عرقًا" أخرجه الترمذي، وقال: حسن غريب، وصححه ابن حبان.
وذكر ابن إسحاق عن قتادة "أنه لما شَمَس وَضَعَ جبريلُ يده على معْرَفَتِهِ
(1)
، فقال: أما تَستَحي"؟ فذكر نحوه مرسلًا، لم يذكر أنسًا.
(1)
من بابي قتل وضرب، شُموسًا وشماسًا: استعصى على راكبه قاله في المصباح، والمعْرَفَة بفتح فسكون ففتح- موضَع العُرْف من الطير والخيل، جمعه مَعَارف، والعُرْف-بضم فسكون-: الشعر النابت في مُحَدَّب رَقَبَةِ الدابَّة. اهـ. المصباح، والمعجم الوسيط.
وفي رواية وَثيَمة عن ابن إسحاق "فارتعشَت حتى لصقَت بالأرض، فاستويتُ عليَها".
وللنسائي، وابن مردويه من طريق يزيد بن أبي مالك عن أنس نحوه موصولًا، وزاد:"وكانت مُسَخَرة للأنبياء قبله"، ونحوه في حديث أبي سعيد عند ابن إسحاق.
وفيه دلالة على أن البراق كان معدَّا لركوب الأنبياء خلافًا لمن نَفَى ذلك، كابن دحية، وأول قول جبريل:"فَمَا رَكبَكَ أكرمُ على الله منه" أي ما ركبك أحد قط فكيف يركبك أكرم منه؟ وقد جزم السهيلي أن البراق إنما استصعب عليه لبعد عهده بركوب الأنبياء قبله.
وقال النووي: قال الزبيدي في "مختصر العين"، وتبعه صاحب "التحرير": كان الأنبياء يركبون البراق. قال: وهذا يحتاج إلى نقل صحيح.
قال الحافظ: قلت: قد ذَكَرْتُ النقل بذلك ويؤيده ظاهر قوله "فربطته بالحَلْقة التي تَربِطُ بها الأنبياء" ووقع في المبتدأ لابْنِ إسحاق من رواية وثيمة في ذكر الإسراء "فاستَصْعَبَت البراقُ، وكانت الأنبياء تركبها قبلي، وكانت بعيدةَ العهد بركوبهم، لمَ تكن رُكِبت في الفَتْرَةِ".
وفي مغازي ابن عائذ من طريق الزهري، عن سعيد بن المسيب قال:"البراق هي الدابة التي كان يزور إبراهيمُ عليها إسماعيلَ"، وفي
الطبراني من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه "أنَ جبريل أتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالبراق، فحمله بين يديه".
وعند أبي يعلى والحاكم من حديث ابن مسعود رفعه "أتِيتُ بالبراق، فَرَكبتُ خلف جبريل"، وفي حديث حذيفة عند الترمذي والنسائي "فماَ زايلَا ظَهْرَ البراق" وفي كتاب مكة للفاكهي، والأزرقي "أن إبراهيم كان يحج على البراق"، وفي أوائل الروض للسهيلي "أن إبراهيم حمل هاجر على البراق لما سار إلى مكة بها وبولدها".
قال الحافظ: فهذه آثار يشد بعضها بعضًا. وجاءت آثار أخرى تشهد لذلك لم أر الإطالة بإيرادها.
ومن الإخبار الواهية في صفة البراق:
ما ذكره الماوردي عن مقاتل، وأورده القرطبي في التذكرة، ومن قبله الثعلبي من طريق الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: الموت والحياة جسمان، فالموت كبش لا يجد ريحه شيء إلا مات، والحياة فرس بَلْقاءُ أنثَى، وهي التي كان جبريل والأنبياء يركبونها، لا تَمُرُّ بشيء، ولا يجد ريحها شيء إلا حَيِيَ.
ومنها: أن البراق لما عاتبه جبريل قال له معتذرًا: إنه مَسَّ الصَّفْراء اليوم، وإن الصفراء صنم من ذهب كان عند الكعبة، وإن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ به فقال. تَبَّا لمن يعبدك من دون الله، وأنه صلى الله عليه وسلم نهى زيد بن حارثة أن يَمَسَّهُ بعد ذلك، وكسره يوم فتح مكة.
قال ابن المُنَيِّر: إنما استصعب البراق تَيْهًا (أي فخرًا أو تكبرًا)، وزهْوًا (عطف تفسير لـ"تيهًا") بركوب النبي صلى الله عليه وسلم، وأراد جبريل استنطاقه، فلذلك خَجلَ، وارفضَّ عَرَقًا من ذلك، وقريب من ذلك رَجْفَةُ الجبل به حتى قالَ له:"اثبت فإنما عليك نبي وصديق وشهيد"، فإنها هزَّةُ الطَّرَب، لا هزَّةُ الغَضَب.
ووقع في حديث حذيفة عند أحمد، قال:"أتي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالبراق، فلم يزايل ظهره هو وجبريل حتى انتهيا إلى بيت المقدس"، فهذا لم يُسندْه حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيحتمل أنه قال عن اجتهاد، ويحتَمل أن يكون قوله: هو وجبريل يتعلق بمرافقته في السير، لا في الركوب.
قال ابن دحية وغيره: معناه: وجبريل قائد، أو سائق، أو دليل، قال: وإنما جزمنا بذلك لأن قصة المعراج كانت كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم فلا مدخل لغيره فيها.
قال الحافظ: ويرد التأويل المذكور: أن في صحيح ابن حبان من حديث ابن مسعود أن جبريل حمله على البراق رَديفًا، وفي رواية الحارث في مسنده، "أتِيَ بالبراق، فركب خلف جبريَل، فسار بهما" فهذا صريح في ركوبه، فالله أعلم.
وأيضًا فإن ظاهره أن المعراج وقع للنبي صلى الله عليه وسلم على ظهر البراق إلى أن صعد السموات كلها، ووصل إلى ما وصل، ورجع، وهو على حاله، وفيه نظر لما سأذكره، ولعل حذيفة إنما أشار إلى ما وقع في ليلة الإسراء
المجردة التي لم يقع فيها معراج على ما تقدم من تقرير الإسراء مرتين. اهـ. "فتح الباري" جـ 7 ص 248.
قال الجامع: عندي أن الإشكال لا يزول إلا بحمل الواقعة على التعدد. كما يظهر ذلك من تتبع الروايات فتأمل بإنصاف، والله أعلم.
(فأتينا السماء الدنيا): وعند البخاري "حتى أتينا السماء الدنيا"
قال الحافظ: ظاهره أنه استمر على البراق حتى عرج إلى السماء، وهو مقتضى كلام ابن أبي جمرة المذكور قريبًا وتمسك به أيضًا من زعم أن المعراج كان في ليلة غير ليلة الإسراء إلى بيت المقدس.
فأما العروج، ففي غير هذه الرواية من الإخبار أنه لم يكن على البراق بل رقي المعراج، وهو السُّلَّمُ، كما وقع مصرحًا به في حديث أبي سعيد عند ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل ولفظه "فإذا أنا بدابة، كالبغل مُضْطَربِ الأذنين، يقال له البراق، وكانت الأنبياء تركبه قبلي،
فركبته"، فذكر الحديث، قال: "ثم دخلت أنا وجبريل بيت المقدس، فصليت، ثم أتِيتُ بالمعراج".
وفي رواية ابن إسحاق: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لما فرغت مما كان في بيت المقدس أتِيَ بالمعراج، فلم أر قط شيئًا كان أحسن منه، وهو الذي يمد إليه الميت عَينيه إذا حُضرَ، فأصعدني صاحبي فيه حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء"
…
الحديث. وفي رواية كعب "فوُضِعَت له مرقاة من فضة، ومرقاة من ذهب حتى عَرَج هو
وجبريل"، وفي رواية لأبي سعيد في شرف المصطفى: أنه "أتي بالمعراج من جنة الفردوس، وأنه مُنَضَّدٌ باللؤلؤ، وعن يمينه ملائكة، وعن يساره ملائكة.
وأما المحتج بالتعدد فلا حجة له، لاحتمال أن يكون التقصير في ذلك الإسراء من الراوي، وقد حفظه ثابت عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أتيت بالبراق- فوصفه، قال- فركبته حتى أتيت بيت المقدس، فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد، فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فجاءني جبريل بإناءين -فذكر القصة، قال- ثم عرج بي إلى السماء". وحديث أبي سعيد دال على الاتحاد. انتهى فتح الباري
جـ 7 ص 248.
قال الجامع: تقدم قريبًا أن ما في حديث حذيفة وغيره من ركوب جبريل معه، لا يزول إلا بالحمل على التعدد، فتأمل. والله تعالى أعلم.
تنبيهان:
الأول: ذكر الحافظ رحمه الله في "الفتح" في "كتاب الصلاة" اختلاف العلماء في أن المعراج هل كان في ليلة الإسراء أم لا؟ فقال عند قول البخاري "باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء" ما نصه: وهذا مصير من الصنف -يعني البخاري- إلى أن المعراج كان في ليلة الإسراء، وقد وقع في ذلك اختلاف؛ فقيل: كانا في ليلة واحدة في يقظته صلى الله عليه وسلم، وهذا هو المشهور عند الجمهور، وقيل: كانا جميعًا في ليلة واحدة في
منامه، وقيل: وقعا جميعًا مرتين في ليلتين مختلفتين: إحداهما يقظة، والأخرى منامًا، وقيل: كان الإسراء إلى بيت المقدس خاصة في اليقظة، وكان المعراج منامًا: إمَّا في تلك اليلة أو في غيرها.
والذي ينبغي أن لا يجري فيه الخلاف: أن الإسراء إلى بيت المقدس كان في اليقظة لظاهر القرآن، ولكون قريش كذبته في ذلك، ولو كان منامًا لم تكذبه فيه، ولا في أبعد منه
(1)
.
الثاني: أنه تقدم في رواية ثابت عن أنس: قوله "فربطته -يعني البراق- بالحلقة" وقد أنكر ذلك حذيفة رضي الله عنه، فَرَوى أحمد والترمذي من حديث حذيفة، قال:"تَحَدَّثُون أنه رَبَطه، أخَافَ أن يَفرَّ منه، وقد سخر له عالم الغيب والشهادة؟! ".
قال البيهقي رحمه الله: المثبت مقدم على النافي، يعني من أثبت ربط البراق والصلاة في بيت المقدس، معه زيادة علم على من نفى ذلك، فهو أولى بالقبول.
ووقع في رواية بُرَيْدَة عند البزار "لما كان ليلة أسري به فأتى جبريل الصخرة التي ببيت المقدس فوضع أصبعه فيها، فخرقها، فشد بها البراق، ونحوه للترمذي.
وأنكر حذيفة أيضًا في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم صلى في بيت المقدس،
واحتج بأنه "لو صلى فيه لكُتِب عليكم الصلاةُ فيه، كما كتب عليكم الصلاة في البيت العتيق".
(1)
فتح جـ 1 ص 548.
قال الحافظ: والجواب عنه منع التلازم في الصلاة إن كان أراد بقوله: "كتب عليكم" الفرض، وإن أراد التشريع فنلتزمه، وقد شَرَعَ النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في بيت القدس، فقرنه بالمسجد الحرام ومسجدِهِ في شد الرحال، وذَكَرَ فضيلة الصلاة فيه في غير ما حديث.
وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي: "حتى أتيت بيت المقدس فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء تربط بها" وفيه "فدخلت أنا وجبريل بيت المقدس، فصلى كل واحد منا ركعتين"، وفي رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه نحوه، وزاد "ثم دخلت المسجد، فعرفت النبيين من بين قائم، وراكع، وساجد، ثم أقيمت الصلاة، فأممتهم".
وفي رواية يزيد بن أبي مالك، عن أنس عند ابن أبي حاتم:"فلم ألبث إلا يسيرًا حتى اجتمع ناس كثير، ثم أذن مؤذن، فأقيمت الصلاة فقمنا صفوفًا، ننتظر من يؤمنا، فأخذ بيدي جبريل، فقدمني، فصليت بهم".
وفي حديث ابن مسعود عند مسلم "وحانت الصلاة، فأمَمْتُهُم". ويأتي للمصنف برقم (450) نحوه.
وفي حديث ابن عباس عند أحمد "فلما أتَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم المسجد الأقصى قام يصلي، فإذا النبيون أجمعون يصلون معه".
وفي حديث عمر عند أحمد أيضًا أنه "لما دخل بيت المقدس، قال:
أصَلّيِ حيث صَلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فتقدم إلى القبلة، فصلى".
قال عياض رحمه الله: يحتمل أن يكون صلى بالأنبياء جميعًا في بيت المقدس، ثم صعد منهم إلى السموات مَن ذَكَر أنه صلى الله عليه وسلم رآه، ويحتمل أن تكون صلاته بهم بعد أن هَبَطَ من السماء، فهبطوا أيضًا.
وقال غيره: رؤيته إياهم في السماء محمولة على رؤية أرواحهم إلا عيسى لما ثبت أنه رفع بجسده، وقد قيل في إدريس أيضًا ذلك، وأما الذين صلوا معه في بيت المقدس فيحتمل الأرواح خاصة، ويحتمل الأجساد بأرواحها، والأظهر أن صلاته بهم ببيت المقدس كان قبل
العروج. والله أعلم. اهـ "فتح" جـ 7 ص 248، 249.
قال الجامع عفا الله عنه: لا داعي إلى هذه الاحتمالات التي تؤدي إلى إخراج هذه النصوص عن ظواهرها، بل إنه صلى الله عليه وسلم صلى بالأنبياء بأجسادهم وأرواحهم، ثم لما صَعدَ في الملأ الأعلى وجد مَن ذَكَرَهم من الأنبياء كذلك روحًا وجسدًا، فإنَ هذه الأمور أمور غيبية يجب الإيمان بها والتسليم لها، فإن الله سبحانه يكرم من يشاء من عباده، ولا سيما الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام بما يشاء من الكرامة، وهو على ما يشاء قدير، فالواجب علينا أن نصدق بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نكلف أنفسنا بما لا تحيط به علمًا، فنقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى موسى عليه الصلاة والسلام يصلي في قبره، ثم صلى معه ببيت المقدس، ثم وجده في السماء السادسة، بل نقول: إن ما أخبر به صلى الله عليه وسلم حق وصدق، والله على كل شيء قدير.
(السماء الدنيا) فُعْلَى: من الدُّنُوِّ، وهو القرب، أي القريبة إلى الأرض.
وفي حديث أبي سعيد في ذكر الأنبياء عند البيهقي: "إلى باب من أبواب السماء يقال له: باب الحفظة، وعليه ملك، يقال له: إسماعيل، وتحت يده اثنا عشر ألف ملك". قاله في "الفتح" جـ 7 ص 249.
(فقيل: من هذا؟) أي قال خازن السماء الدنيا لجبريل بعد أن استفتح الباب؛ لما عند مسلم "فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ ".
وفيه أن الباب كان مغلقًا، والحكمة -كما قال ابن المنير- التَّحقُّقُ أن السماء لم تفتح إلا من أجله، بخلاف ما لو وجده مفتوحًا.
(قال: جبريل) خبر لمحذوف، أي أنا جبريل. فيه من أدب الاستئذان أن المستأذن يسمي نفسه، ولا يقول: أنا، لعدم الفائدة.
(قيل: ومن معك) فيه إشعار بأنهم أحسوا معه برفيق، وإلا لكان السؤال بلفظ "أمعك أحد؟ "، وذلك الإحساس إما بمشاهدة لكون السماء شفافة، وإما بأمر معنوي، كزيادة أنوار، أو نحوها، يشعر بتجدد أمر يحس معه السائل بهذه الصيغة. قاله في الفتح.
(قال) جبريل: (محمد) مبتدأ محذوف الخبر جوازًا، كما قال ابن مالك:
وَحَذْفُ مَا يُعْلَمُ جَائِزٌ كمَا
…
تَقُولُ: زَيْدٌ بَعْدَ مَنْ عِنْدَكمَا؟
أي محمد معي، وعكسه قوله الماضي:"جبريل" فهو من حذف المبتدإ جوازًا، كما تقدم تقديره، فهو على ما قاله ابن مالك:
وفي جَوَابِ كيْفَ زَيْدٌ قُلْ: دَنِفْ
…
فَزَيْدٌ اسْتُغْنِيَ عَنْهُ إِذْ عُرِفْ
وفيه دليل على أن الاسم أولى في التعريف من الكنية، قاله في الفتح.
قال الجامع: هذا إذا لم تكن الكنية أشهر من الاسم، كأبي بكر، وإلا فالعكس أولى، ومثله اللقب، لأن المقصود التعريف المميز عن المشاركين، فما كان أعرف عند الناس فهو أولى لهذا الغرض. والله أعلم.
(قيل: وقد أرسل إِليه؟) أي قال خازن السماء لما استفتحه جبريل: وقد أرسل إليه؟ أي للعروج إلى السماء، بدليل قوله:"إليه"، لأنه لو كان المرادُ الإرسالَ، بمعنى النبوة، لقال: وقد أرسِلَ إلى الناس؟، ويَحتَمِلُ أن يكون المرادُ أرسِلَ إليه بالنبوة، وإنما سأل عنه لاشتغاله بالعبادة عن علم ذلك، لكن هذا بعيد.
قيل: الحكمة في سؤال الملائكة الإرسال إليه: أن الله تعالى أراد اطِّلاعَ نبيه صلى الله عليه وسلم على أنه معروف عند الملأ الأعلى، لأنهم قالوا: أأرسل إليه؟ " فَدَلَّ على أنهم كانوا يعرفون أن ذلك سيقع له، وإلا لكانوا يقولون: ومن محمد؟ مثلًا. اهـ. "فتح" جـ 6 ص 249.
ولم يُذْكَرْ هنا جوابُ جبريل لهذا السؤال، وقد ذُكِرَ عند البخاري وغيره. "قال: نعم". فقال الخازن: (مرحبًا به) أي أصاب رُحْبًا وسَعَةً، وكَنَّى بذلك عن الانشراح.
وفي "اللسان": وقال الليث: معنى قول العرب: مَرْحَبًا: انْزِلْ فِي الرُّحبِ والسَّعَةِ، وَأقِمْ، فَلكَ عندَنَا ذلك، وسُئلَ الخليلُ عن نَصْب مَرْحَبًا؟ فقال: فيه كَمِينُ الفعلِ. أراد بَه انْزِلْ، أَوْ أقِمْ، فَنُصبَ بفعل مضمر، فلما عُرِفَ معناَه المرادُ به، أمِيتَ الْفِعْلُ. اهـ جـ 3 ص 1606.
واستنبَطَ منه ابنُ المُنَيِّرِ جوازَ ردّ السلام بغير لفظ السلام، وتُعُقِّبَ بأن قول الملك:"مرحبًا به" ليس ردًا للسلام، فإنه كان قبل أن يَفْتَحَ البابَ، والسياق يرشد إليه، وقد نَبَّهَ على ذلك ابنُ أبي جَمْرَةَ، ووقع هنا أن جبريل قال له عند كل واحد منهم:"سَلِّمْ عليه" قال: "فسَلَّمْتُ
عليه، فَرَدَّ عَلَيَّ السلامَ"، وفيه أنه رآهم قبل ذلك. اهـ. "فتح" جـ 6 ص 249.
(وَلنِعمَ المجيءُ جاء) قيل: المخصوص بالمدح محذوف، وفيه تقديم وتأخير، والتقدير "جَاءَ فنعم المجيءُ مجيئه".
وقال ابن مالك: في هذا الكلام شاهد على الاستغناء بالصلة عن الموصول، أو الصفة عن الموصوف في باب نِعْمَ، لأنها تَحْتَاجُ إلى فاعل، هو المجيءُ، وإلى مخصوص بمعناها وهو مبتدأ أو مُخْبَرٌ عنه بِنِعْمَ، وَفَاعلهَا، فهو في هذا الكلام وشبهه موصول، أو موصوف بجاء، والَتَقدير:"نِعْمَ المجيءُ الذي جاء"، أو "نعم المجيء مجيء
جاءه"، وكونه موصولًا أجود، لأنه مُخْبَر عنه، والمخبر عنه إذا كان معرفة أولى من كونه نكرة. اهـ. "فتح" جـ 7 ص 250.
(قال) صلى الله عليه وسلم (فأتيت) بالبناء للفاعل (على آدم عليه السلام) أي مررت عليه.
وعند البخاري: "فلما فتح علونا السماء الدنيا، فإذا رجل قاعِدٌ على يمينه أسْوِدَةٌ
(1)
، وعلى يساره أسودة، إذا نَظَر قبَلَ يمينه ضَحِكَ، وإذا نَظَر قِبَلَ يساره بكى، فقال: مرحبًا بالنبي الصالح، والابن الصالح، قلت لجبريل: مَنْ هَذَا؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودةُ عن
يمينه وشماله نَسَم
(2)
بَنِيه، فأهلُ اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بكى".
وفيه أن أرواح بني آدم من أهل الجنة والنار في السماء، وهو مشكل؛ قال القاضي عياض: قد جاء أن أرواح الكفار في سِجِّين، وأن أرواح المؤمنين مُنَعَّمَة في الجنة -يعني فكيف تكون مجتمعة في سماء الدنيا؟.
وأجاب بأنه يحتمل أنها تعرض على آدم أوقاتًا فصادف وَقْتُ عرضها مُرُورَ النبي صلى الله عليه وسلم، وَيَدُلُّ على أن كونهم في الجنة والنار إنما هو في
(1)
الأسودة: كأزمنة هي الأشخاص من كل شيء. اهـ. فتح الباري جـ 1 ص 550.
(2)
جمع نَسَمَة وهي الروح. اهـ. فتح الباري.
أوقات دون أوقات قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46].
واعتُرِضَ بأن أرواح الكفار لا تفتح لها أبواب السماء كما هو نص القرآن. والجواب عنه ما أبداه هو احتمالًا؛ أن الجنة كانت في جهة يمين آدم، والنار في جهة شماله، وكان يكشف له عنهما.
قال الحافظ: ويحتمل أن يقال: إن النسم المرئية هي التي لم تدخل الأجساد بَعْدُ، وهي مخلوقة قبل الأجساد ومُسْتَقَرُّها عن يمين آدم، وشماله، وقد أعْلِمَ بما سيصيرون إليه، فلذلك كان يستبشر إذا نظر إلى من عن يمينه، ويَحزَنُ إذا نظر إلى مَن عن يساره، بخلاف التي في الأجساد فليست مُرَادَةً قَطْعًا، وبخلاف التي انتقلت من الأجساد إلى مستقرها من جنة، أو نار، فليست مُرادة أيضًا، فيما يظهر. وبهذا يندفع الإيراد، ويعرف أن قوله:"نسم بنيه" عام مخصوص، أو أريد به الخصوص.
وأما ما أخرجه ابن إسحاق والبيهقي من طريقه في حديث الإسراء: "فإذا آدم تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين، فيقول: رُوح طَيِّبَة اجعلوها في عِلِّيِّين، ثم تعرض عليه أرواح ذريته الفُجَّار، فيقول: رُوحٌ خَبِيثة، ونفس خبيثة، اجعلوها في سِجِّين"، وفي حديث أبي هريرة عند
الطبراني والبزار: "فإذا عن يمينه باب يخرج منه ريح طيبة، وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة، إذا نظر عن يمينه استبشر، وإذا نظر عن شماله حَزِنَ". فهذا لو صح لكان المصير إليه أولى من جميع ما تقدم،
ولكن سنده ضعيف. اهـ. "فتح" جـ 1 ص 550.
(فسلمت عليه) أي بأمر جبريل عليه السلام؛ ففي البخاري في المعراج: "فقال: هذا أبوك فسلم عليه" وفيه أن السلام على القادم لا على صاحب البيت، كما قال الله تعالى:{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61]، (قال) آدم عليه السلام، بعد ردّ السلامٍ، لما في البخاري:"فسلمت عليه فرد عليَّ السلام"، ثم قال:(مرحبًا بك) منصوب بفعل مقدر، أي أصَبْتَ مرحبًا، أي سعة، لا ضِيقًا.
(من ابن ونبي) وفي البخاري: "بالابن الصالح، والنبي الصالح"، كذا في كلام إبراهيم عليه السلام وسائر الأنبياء؛ يقولون:"مرحبًا بالأخ الصالح، والنبي الصالح".
قيل: اقتصر الأنبياء على وصفه بهذه الصفة، وتواردوا عليها؛ لأن الصلاح صفة تَشْمَل خلالَ الخير، ولذلك كررها كل منهم عند كل صفة، والصالح هو الذي يقوم بما يلزمه من حقوق الله، وحقوق العِبَاد، فَمِنْ ثَمَّ كانت كلمةً جامعة لمعاني الخير.
وفي قول آدم: "بالابن الصالح" إشارة إلى افتخاره بأبوة النبي صلى الله عليه وسلم.
اهـ. فتح.
قال: (ثم أتينا السماء الثانية، قيل: مَنْ هَذَا؟) وعند البخاري: "فاستفتح، قيل: من هذا؟ " أي مَن هذا المستفتحُ (قال: جبريل) أي أنا
جبريل (قيل: من معك؟ قال: محمد) أي معي محمد صلى الله عليه وسلم (فمثل ذلك) بالرفع، فاعل لفعل محذوف، أي فجرى مثلُ ما جَرَى مع خازن السماء الدنيا؛ من قوله: وقد أرسل إليه، قال: نعم، قال: مرحبًا به فلنعم المجيء جاء ويحتمل النصب أي قال مثل ذلك.
(فأتيت على يحيى) بن زكريا (وعيسى) بن مريم -عليهما الصلاة والسلام، وعند البخاري:"فإذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة".
قال النووي رحمه الله: قال ابن السِّكِّيت: يقال: ابنا خالة، ولا يقال: ابنا عمة، ويقال: ابنا عم، ولا يقال: ابنا خال. اهـ.
قال الحافظ: ولم يبين سبب ذلك؛ والسبب فيه أن ابني الخالة، أم كل منهما خالة الآخر لزومًا، بخلاف ابني العمة.
وقد توافقت هذه الرواية مع رواية ثابت عن أنس عند مسلم أن في الأولى آدم، وفي الثانية يحيى وعيسى، وفي الثالثة يوسف، وفي الرابعة إدريس، وفي الخامسة هارون، وفي السادسة موسى، وفي السابعة إبراهيم.
وخالف في ذلك الزهري في روايته عن أنس عن أبي ذر أنه لم يُثْبتْ أسماءهم، وقال فيه:"وإبراهيم في السماء السادسة"، ووقع في روَاية شَرِيك عن أنس أن إدريس في الثالثة، وهارون في الرابعة، وآخر
في الخامسة، وَسِيَاقُهُ يدل على أنه لم يَضْبِطْ منازلهم أيضًا، كما صَرَّحَ به الزهريُّ، وروَاية مَن ضَبَطَ أولى، ولا سَيما مع اتفاق قتادة وثابت، وقد وافقهما يَزِيدُ بنُ أبي مالك، عن أنس، إلا أنه خَالَفَ في إدريس، وهارون، فقال:"هارون في الرابعة، وإدريسُ في الخامسة"، ووافقهم أبو سعيد إلا أن في روايته "يوسف في الثانية، وعيسى ويحيى في الثالثة"، والأول أثبتُ.
وقد استُشْكلَ رُؤية الأنبياء في السموات مع أن أجسادهم مُسْتَقِرَّةٌ في قبورهم بالأرَض.
وأجِيبَ بأن أرواحهم تَشكَّلَت بصُورِ أجسادهم، أو أحْضِرَت أجسادهم لملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم تلكَ الليلةَ تشريفًا له وتكريمًا، ويؤيده حديث عبد الرحمن بن هاشم، عن أنس، ففيه:"وَبُعِثَ له آدم فَمَن دونه من الأنبياء". فافهم. اهـ. "فتح" جـ 7 ص250.
قال الجامع: الظاهر هو أنهم أحضروا بأجسادهم، لظواهر هذه الأحاديث الصحيحة، ولا يُعْدَلُ عن ذلك، والاستشكالُ في مثل هذا غير صحيح، لأن الأمور الغيبية لا تقاسُ على الشاهد، بل يجب تسليم ما صح منه، والله على كل شيء قدير.
(فسلمت عليهما) أي بأمر جبريل، كما مَرَّ (فقالا) بعد رد السلام عليه، وللبخاري: "قال: هذا يحيى وعيسى فَسَلِّم عليهما،
فسَلَّمْتُ، فَرَدَّا، ثم قالا:(مرحبًا بك من أخ ونبي)"، وله: "مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح".
(ثم أتينا السماء الثالثة، قيل: من هذا؟) المستفتح (قال:) أنا (جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد) أي معي محمد (فمثل ذلك) بالرفع، أو بالنصب، كما سبق توجيهه (فأتيت يوسف) بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليه) وعليهم الصلاة و (السلام).
وعند مسلم في رواية ثابت عن أنس زيادةُ: "فإذا هو قد أعطيَ شَطْرَ الحسن"، وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي وأبي هريرة عند ابنَ عائذ، والطبراني:"فإذا أنا برجل أحْسَن ما خَلَقَ اللهُ، قَدْ فَضَلَ الناسَ بالحسن، كالقمر ليلةَ البدر على سائر الكواكب".
قال الحافظ رحمه الله: وهذا ظاهره أن يوسف عليه السلام كان أحسن من جميع الناس، لكن رَوَى الترمذيُّ من حديث أنس:"ما بَعَثَ اللهُ نبيًا إلا حَسَنَ الوجه، حَسَنَ الصوت، وكان نبيكم أحسنهم وجهًا، وأحسنهم صوتًا"، فعلى هذا فيحمل حديث المعراج على أن المراد غيرُ النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤيده قول من قال: إن المتكلم لا يدخل في عموم خطابه.
وحمل ابن المُنَيِّر هذا الحديث على أن المراد أن يوسُفَ أعطِيَ شطر الحسن الذي أوتيه نبينا صلى الله عليه وسلم والله أعلم. اهـ "فتح" جـ 7 ص 251.
(فسلمت عليه) وللبخاري: "قال: هذا يوسف، فَسَلِّم عليه،
فسلمت عليه، فَرَدَّ، ثم (قال: مرحبًا بك من أخ ونبي) وله: "مرحبًا بالأخ الصالح، والنبي الصالح".
(ثم أتينا السماء الرابعة، فمثل ذلك) من الاستفتاح والسؤال والجواب (فأتيت على إِدريس عليه السلام، فسلمت عليه) بعد أمر جبريل له (فقال) بعد رد السلام: (مرحبًا بك من أخ) صالح (ونبي) صالح.
(ثم أتينا السماء الخامسة، فمثل ذلك، فأتيت على هارون عليه السلام أخي موسى عليه السلام (فسلمت عليه، قال: مرحبًا بك من أخ) صالح (ونبي) صالح.
(ثم أتينا السماء السادسة، فمثلُ ذلك، ثم أتَيْتُ على موسى عليه السلام فسلمت عليه) أي بأمر جبريل (فقال) بعد الرَّدّ (مرحبًا بك من أخ) صالح (ونبي) صالح (فَلَمَّا جاوزته بَكَى قيل: ما يبكيك؟) أيْ أيُّ شيء حَمَلَك على البكاء؟؛ فما: استفهامية، (قال: يارب) هذا يدل على أن السائل له عن البكاء، هو الله تعالى (هذا الغلام الذي بعثته بعدي، يدخل من أمته الجنة أكثر) عددًا (وأفضل) درجة (مما يدخلـ) ـها (من أمتي) جار ومجرور بيان لما.
وفيه إطلاق "ما" على العقلاء، وهو جائز، كما في قوله تعالى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] الآية، والغالب استعمالها لغير العقلاء، عَكْس "مَنْ" وعند البخاري:"أكثر ممن يدخلها".
وفي رواية شريك عن أنس: "لم أظُنَّ أحدًا يُرفَعُ عَليَّ"، وفي
حديث أبي سعيد "قال موسى: يَزْعُمُ بنو إسرائيل أني أكْرَمُ على الله، وهذا أكرم عَلَى اللهِ منِّي" زاد الأموي في روايته: "ولو كان هذا وَحْدَهُ لَهَانَ عَلَيَّ، ولكن معه أمته، وهم أفضل الأمم عند الله".
وفي رواية أبي عُبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن إبيه:"أنه مَرَّ بموسى عليه السلام وهو يَرْفَعُ صوته: فيقول: أكْرَمْتَهُ وفَضَّلْتَهُ، فقال جبريل: هذا موسى، قلت: وَمَن يُعَاتبُ؟ قال: يعاتب ربه فيك، قلت: ويرفع صوته على ربه؟ قال: إن الله قد عَرَفَ له حدَّتَهُ"، وفي حديث ابن مسعود عند الحارث، وأبي يَعْلَى والبَزَّارِ: "وسمَعت صوتًا، وتَذْميرًا، فسألت جبريلَ، فقال: هذا موسى، قلت: عَلَى من تَذَمُّروُهُ
(1)
؟ قال: على ربه، قلت: على ربه؟ قال: إنه يَعْرفُ ذلك منه". والله تعالى أعلم.
تنبيه:
قال العلماء: لم يكن بكاءُ موسى حَسَدًا، -معاذ الله- فإنَّ الحَسَد في ذلك العالَم مَنزُوع عن آحاد المؤمنين، فكيف بمن اصطفاه الله تعالى؟ بل كان أسفًا على ما فاته من الأجر الذي يَترتبُ عليه رفعُ الدرجات بسبب ما وقع من أمته من كثرة المخَالفة المقتضية لتنقيص أجورهم المستلزم لتنقيص أجره، لأن لكل نبي مِثْلَ أجْر كل من اتبعه، ولهذا كان من اتبعه من أمته في العدد دون منَ اتبع نبينا صلى الله عليه وسلم مع طول مدتهم بالنسبة لهذه الأمة. والله أعلم.
تنبيه آخر:
قول موسى عليه السلام: "هذا الغلام" ليس على سبيل التنقيص،
(1)
بالذال المعجمة: المَلَامَةَ والعتاب.
بل على سبيل التنويه بقدرة الله، وعظيم كرمه إذ أعطى لمن كان في ذلك السن ما لم يُعطِهِ أحدًا قبله ممن هو أسن منه.
وقد وقع من موسى من العناية بهذه الأمة من أمر الصلاة ما لم يقع لغيره، ووقعت الإشارة إلى ذلك في حديث أبي هريرة عند الطبري والبزار، قال صلى الله عليه وسلم:"كان موسى أشدهم عَلَيَّ حين مررت به، وخَيرَهم لي حين رَجعتُ إليه"، وفي حديث أبي سعيد:"فأقبلت راجعًا، فمررت بموسى، ونعم الصاحب كان لكم، فسألني: كم فرض عليك ربك؟ " الحديث.
وقال ابن أبي جمرة: إن الله جعل الرحمة في قلوب الأنبياء أكثر مما في قلوب غيرهم، لذلك بَكَى رحمةً لأمته. وأما قوله:"هذا الغلام" فأشار إلى صغر سنه بالنسبة إليه.
وقال الخطابي: العرب تسمي الرجل المُسْتَجْمِعَ السن غلامًا ما دامت فيه بَقِيَّةٌ من الْقُوَّةِ. اهـ.
وقال الحافظ: ويظهر لي أن موسى عليه السلام أشار إلى ما أنعم الله به على نبينا عليهما الصلاة والسلام من استمرار القوة في الكهولة، وإلى أن دخل في سن الشيخوخة، ولم يدخل على بدنه هَرَم، ولا اعتَرَى قوته نقص، حتى إن الناس في قدومه المدينة -كما في حديث أنس عند البخاري- لمّا رأوه مردفًا أبا بكر أطلقوا عليه اسم الشاب، وعلى أبي بكر اسم الشيخ مع كونه في العمر أسن من أبي بكر. والله أعلم. اهـ. "فتح" جـ 7 ص 252.
(ثم أتينا السماء السابعة، فمثل ذلك) من الاستفتاح والسؤال الجواب (فأتيت على إِبراهيم) الخليل، وفي حديث أبي سعيد:"فإذا بإبراهيم خليل الرحمن مُسندًا ظهره إلى البيت المعمور كأحسن الرجال، وفي حديث أبي هريرة عند الطبري: "فإذا هو برجل أشمط جالس عند باب الجنة على كرسي
…
" عليه السلام، فسلمت عليه) وعند البخاري: "قال: هذا أبوك، فسلم عليه، قال: فسلمت عليه، فرد السلام" (فقال: مرحبًا بك من ابن) صالح (ونبي) صالح.
تنبيهات:
الأول: استشكل قوله -لما أتى السماء السادسة-: "فأتيت على موسى عليه السلام"، وقد ثبت في حديث آخر أنه قال:"رأيت موسى ليلة الإسراء يصلي في قبره"، وأجيب بأنه لا إشكال فيه، أما على قول من يقول بتعدد الإسراء فظاهر، وأما على قول من قال بعدم التعدد، فيقال: إن موسى عليه السلام صَعدَ إلى السلماء السادسة بعد أن رآه النبي صلى الله عليه وسلم في قبره حتى اجتمع به هَناك، وكذا يقال في الأنبياء الذين صلى بهم في بيت المقدس ثم وجدهم في السماء، وما ذلك على الله بعزيز.
الثاني: استشكل أيضًا في قوله -في السماء السابعة-: "فأتيت على إبراهيم عليه السلام"، كما هو رواية البخاري في المعراج، وفي رواية مسلم في السماء السادسة، وهي رواية البخاري في أول كتاب الصلاة، وأجيب عن هذا باحتمال أن يكون في السادسة، وصَعِدَ قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السابعة، ليستقبله، أو يكون في
السابعة، ولكنه نزل إلى السادسة ليستقبله - وأما على تعدد الإسراء فلا إشكال. أفاده العيني في "العمدة"، ونقلته بتصرف جـ 17 ص 27.
الثالث: اختلف في الحكمة في اختصاص كل منهم بالسماء التي التقاه بها، فقيل: ليظهر تفاضلهم في الدرجات، وقيل: لمناسبة تتعلق بالحكمة في الاقتصار على هؤلاء دون غيرهم من الأنبياء، فقيل: أمرُوا بملاقاته؛ فمنهم من أدركه في أول وَهْلَة، ومنهم من تأخَّر فَلَحِقَ،
ومنهم من فاته. قال الحافظ. وهذا زَيَّفَهُ السُّهَيلي فأصاب.
وقيل: الحكمة في الاقتصار على هؤلاء المذكورين: الإشارة إلى ما سيقع له صلى الله عليه وسلم مع قومه من نظير ما وقع لكل منهم؛ فأما آدم فوقع التنبيه بما وقع له من الخروج من الجنة إلى الأرض بما سيقع للنبي صلى الله عليه وسلم من الهجرة إلى المدينة، والجامع بينهما ما حصل لكل منهما من المشقة، وكراهة فراق ما ألِفَه من الوطن، ثم كان مآل كل منهما أن يرجع إلى موطنه الذي أخرج منه، وبعيسى ويحيى على ما وقع له من أول الهجرة من عداوة اليهود وتماديهم على البغي عليه، وإرادتهم وصول السوء إليه، وبيوسف على ما وقع له من إخوته من قريش في نصبهم الحرب له، وإرادتهم هلاكه، وكانت العاقبة له، وقد أشار إلى ذلك بقوله لقريش يوم الفتح: أقول كما قال يوسف: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} [يوسف: 92]، وبإدريس على رفيع منزلته عند الله، وبهارون على أن قومه رجعوا إلى محبته بعد أن آذوه، وبموسى على ما وقع له من معالجة
قومه، وقد أشار إلى ذلك بقوله:"لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر"، وبإبراهيم في استناده إلى البيت المعمور بما ختم له صلى الله عليه وسلم في آخر عمره من إقامة مناسك الحج، وتعظيم البيت.
قال الحافظ: وهذه مناسبات لطيفة أبداها السهيلي، فأوردتها مُنَقَّحَةً مُلَخَّصَة. وقد زاد ابن المنَيِّرِ في ذلك أشياء أضربت عنها، إذ أكثرها في المفاضلة بين الأنبياء، والإشارة في هذا المقام عندي أولى من تطويل العبارة. وذكر في مناسبة لقاء إبراهيم في السماء السابعة معنى لطيفًا زائدًا، وهو ما اتفق له صلى الله عليه وسلم من دخول مكة في السنة السابعة وطوافه بالبيت، ولم يتفق له الوصول إليها بعد الهجرة قبل هذه، بل قصدها في السنة السادسة، فَصَدُّوه عن ذلك. اهـ. "فتح" جـ 7 ص 251.
الرابع: قال ابن أبي جمرة: الحكمة في كون آدم في السماء الدنيا، لأنه أول الأنبياء، وأول الآباء، وهو أصل، فكان أوَّلًا في الأولى، ولأجل تأنيس النبوة بالأبوة، وعيسى في الثانية لأنه أقرب الأنبياء عهدًا من محمد، ويليه يوسف، لأن أمة محمد تدخل الجنة على صورته،
وإدريس في الرابعة، لقوله:{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57]، والرابعة من السبع وسط معتدل، وهارون لقربه من أخيه موسى، وموسى أرفع لفضل كلام الله، وإبراهيم لأنه الأب الأخير، فناسب أن يتجدد للنبي صلى الله عليه وسلم بلقيه أنس؛ لتوجهه بعده إلى عالم آخر، وأيضًا فمنزلة الخليل تقتضي أن تكون أرفع المنازل، ومنزلة الحبيب أرفع من
منزلته، فلذلك ارتفع النبي صلى الله عليه وسلم عن منزلة إبراهيم إلى قاب قوسين أو
أدنى. اهـ. "فتح" جـ 7 ص 251.
(ثم رفع) بالبناء للمفعول، أي قُرِّبَ (لي البيت المعمور) فقد يطلق الرفع على تقريب الشيء، وقد قيل في قوله تعالى:{وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة: 34] أي مُقَرَّبَة لهم، وكأنه أراد أن البيت المعمور استُبِينَ له كُلَّ الاستبانة، حتى اطلع عليه كُلَّ الاطلاع.
(فسألت جبريل) عن ذلك البيت الذي رُفع، (فقال) جبريل:(هذا البيت العمور) الذي تَعْمُرُهُ الملائكة، فإنه (يصلي فيه كلَّ يوم) منصوب على الظرفية (سبعون ألف ملك، فإِذا خرجوا منه) بعد أداء الصلاة (لم يعودوا فيه، آخر ما عليهم) برفع آخر على أنه خبر لمحذوف؛ أي ذلك الدخولُ آخرُ دخولٍ يدوم عليهم، ويَبقَى لهم، أو بالنصب على الظرفية، متعلق "بيعودوا"، ورجح صاحب المطالع الرفع، كما نقله عنه السيوطي في الزهر، و"ما" موصولة، وصلتها الجار والمجرور.
واستدل به على أن الملائكة أكثر المخلوقات؛ لأنه لا يعرف من جميع العوالم، من يتجدد من جنسه في كل يوم سبعون ألف، غير ما ثبت عن الملائكة في هذا الخبر. اهـ. فتح جـ 7 ص 255. وكلهم من أهل الرحمة والرضا، فمنه يعلم معنى. "إن رحمتي سبقت غضبي" كما قاله السندي. والله أعلم.
تنبيه:
ثم إن الظاهر أن قوله: "يصلي فيه كل يوم
…
إلخ" مرفوع من تمام
الحديث في رواية قتادة، عن أنس، لكن ذكر الحافظ رحمه الله في الفتح أن قصة البيت مدرجة في حديث أنس، وقد أشار البخاري في الصحيح إلى ذلك، حيثما قال بعد سَوْق الحديث من طريق قتادة عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعةَ، وفيه: "فرفع لي البيت المعمور، فسألت جبريل، فقال: هذا البيت المعمور
…
" إلخ ما نصه: وقال همام عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم "في البيت المعمور".
قال الحافظ: يريد أن هَمَّامًا فصل في سياقه قصةَ البيت المعمور من قصة الإسراء، فَرَوى أصلَ الحديث عن قتادة، عن أنس، وقصة البيت عن قتادة، عن الحسن، وأما سعيد -وهو ابن أبي عروبة- وهشام -وهو الدستوائي- فأدرجا قصة البيت المعمور في حديث أنس، والصواب رواية همام، وهي موصولة عن هُدْبَة، عنه، وَوَهِمَ من زَعَمَ أنها مُعَلَّقَة، فقد روى الحسن بن سفيان في مسنده الحديث بطوله عن هدبة، فاقتص الحديث إلى قوله:"فرفع لي البيت المعمور"، قال قتادة:"فحدثنا الحسن عن أبي هريرة، أنه رَأى البيت المعمور يدخله كُلَّ يوم سبعون ألف ملك، ولا يعودون فيه"، وأخرجه الإسماعيلي عن الحسن بن
سفيان، وأبي يعلى، والبغوي، وغير واحد كلهم عن هُدْبَة به مُفَصَّلًا، وعُرِفَ بذلك مرادُ البخاري بقوله:"في البيت المعمور".
وأخرج الطبري من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، قال: ذُكِرَ لنا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البيتُ المعمورُ مسجدٌ في السماء بحَذاءِ الكعبةِ، لو خَرَّ لخَرَّ عليها، يدخله سبعون ألف ملك كل يوم،
إذا خرجوا منه لم يعودوا".
هذا وما قبله يشعر بأن قتادة كان تارة يُدرِجُ قصَّةَ البيت المعمور في حديث أنس، وتارة يفصلها، وحين يفصلها تارةَ يذكر سندها، وتارة يُبْهِمهُ.
وقدَ رَوَى إسحاق في مسنده، والطَّبَريُّ وغير واحد من طريق خالد بن عَرْعَرْة، عن علي "أنه سئل عن السقف المرفوع؟ قال: السماء، وعن البيت المعمور؟ قال: بيت في السماء بحِيالِ البيت؛ حرمته في السماء كحرمة هذا في الأرض، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ولا يعودون إليه".
وفي رواية الطبري: أن السائل عن ذلك عبد الله بن الكَوَّاء
(1)
، ولابن مردويه عن ابن عباس نحوه، وزاد:"وهو على مثل البَيت الحرام، لَوْ سَقَطَ لَسَقَطَ عليه". ومن حديث عائشة نحوه بإسناد صالح، ومن حديث عبد الله بن عمرو نحوه بإسناد ضعيف، وهو عند
الفاكهي في كتاب مكة بإسناد صحيح عنه، لكن موقوفًا عليه.
وَرَوَى ابن مردويه أيضًا، وبن أبي حاتم من حديث أبي هريرة مرفوعًا نحو حديث عليّ، وزاد:"وفي السماء نهر، يقال له: نهر الحَيَوان يدخله جبريل كل يوم، فيغمس، ثم يخرج فينتفض، فيخرج عنه سبعون ألف قطرة يخلق الله من كل قطرة ملكًا، فهم الذين يصلون فيه، ثم لا يعودون إليه"، وإسناده ضعيف. وقد رَوَى ابنُ المنذر نَحْوَهُ بدون ذكر النهر من طريق صحيحة عن أبي هريرة، لكن موقوفًا.
(1)
تابعي روى عن علي رضي الله عنه. قاله في تاج العروس في مادة كوى.
وجاء عن الحسن، ومحمد بن عَبَّادِ بنِ جعفر: أن البيت المعمور هو الكعبة، والأول أكثر، وأشهر.
وأكثر الروايات أنه في السماء السابعة، وجاء من وجه آخر عن أنس مرفوعًا أنه في السماء الرابعة، وبه جزم المجد الشيرازي في القاموس، وقيل: هو في السماء السادسة، وقيل: هو تحت العرش، وقيل: إنه بناء آدم لما أهبط إلى الأرض، ثم رفع زَمَنَ الطُّوفَان.
قال الحافظ: وكأن هذا شبهةُ من قال: إنه الكعبة. ويسمى البيت المعمور الضراح
(1)
، والضَّريح. اهـ فتح جـ 6 ص 355، 356.
وقال الحافظ أيضًا: وفي حديث أبي هريرة عند البَزَّار: "أنه رأى هناك أقوامًا بِيضَ الوُجُوه، وأقوامًا في ألوانِهِم شيء، فَدَخَلُوا نهرًا، فاغتسلوا، فخَرجوا، وقد خَصَلَت ألوانُهم
(2)
، فقال له جبريل: هؤلاء من أمَّتِكَ خَلَطُوا عَمَلًا صالحًا، وآخر سيئًا".
وفي رواية أبي سعيد عند الأموي والبيهقي أنهم "دخلوا معه البيت المعمور، وصَلُّوا فيه جميعًا". اهـ فتح جـ 7 ص 255.
(ثم رُفِعَت لي) وفي الهندية "إليّ"(سدرةُ المُنْتَهى) ظاهره أن إليّ جار ومجرور، وسدرةُ نائب فاعل رُفِعَت.
وقال في الفتح: قوله: "رُفعْتُ إلىَ سِدْرَة المنْتَهَى" كذا للأكثر، بضم الراء، وسكون العين، وضَم التاء من "رُفعْتُ" بضمير المتكلم، وبعده حرف جر، وللكشميهني "رُفِعَتْ" بفتحَ العين، وسكون التاء-
(1)
أي كغراب. اهـ. ق.
(2)
أي صَفت ألوانهم، يقال: خَلَصَ الماءُ من الكَدَرِ، من باب قَعَدَ: أي صَفَا. قاله في المصباح.
أي السدرة- لي، باللام، أي من أجلِي. ويُجمَعُ بين الروايتين بأن المراد أنه رُفِعَ إليها، أي ارتُقِي به، وظَهَرت له، والرَّفْعُ إلىِ الشيء يُطَلَقُ على التقريب منه، وقد قيل في قوله تعالى:{وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة: 34].
وسبب تسميتها بسدرة المنتهى سيأتي في حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وسَنُحَقِّقُ الاختلاف في كونها في السادسة أو في السابعة هناك إن شاء الله تعالى.
(فإِذا نبقها)"إذا" للمفاجأة، والنَّبِقُ: -بفتح النون، وكسر الباء الموحدة، وسكونها أيضًا- جمع نَبِقةٍ، وهي ثَمرُ السِّدْرِ.
(مثل قِلَالِ هَجَر) قال الخطابي رحمه الله: القلالُ -بالكسر- جمع قُلَّةٍ -بالضم- هي الجِرَارُ، يُريد أنّ ثَمَرها في الكبَر مثل القِلال، وكانت معروفة عند المخاطبين، فلذَلك وَقَع التمثيل بها، وهي التي وقع تحديد الماء الكثير بها في قوله "إذا بَلَغَ الماءُ قُلَّتَينِ".
وقوله: "هَجَر" -بفتح الهاء، والجيم-: بلدة بقرب المدينة، مذكر منصرف، وهو غير هَجَرِ البَحْرَين، وقيل. غير منصرف؛ للعلمية والتأنيث باعتبار البلدة. أفاده العيني في "العمدة" جـ 17 ص 28.
(وإِذا وَرَقُهَا مثل آذان الفِيَلَةِ) بكسر الفاء وفتح الياء التحتانية، بعدها لام، جمع فِيلٍ. ووقع عند البخاري في بدء الخلق "مثل آذان الفُيُول"، وهو جَمْعُ فيل أيضًا.
قال ابن دِحْيَة: اخْتِيرَت السِّدْرة دون غيرها؛ لأن فيها ثلاثة
أوصاف: ظِلٌّ مَمْدُود، وطَعَام لَذيذٌ، ورائحة زَكيَّة، فكانت بمنزلة الإيمان الذي يَجمع القول والعمل والنية، والظل بمنزلة العمل، والطعم بمنزلة النِّيَّة، والرائحة بمنزلة القول.
(وإِذا في أصلها أربعة أنهار) أي يخرج من أصل سدرة المنتهى أربعة من الأنهار، فـ"في" بمعنى "من" كما هو عند مسلم:"يخرج من أصلها"، ووقع عنده من رواية أبي هريرة:"أربعة أنهار من الجنة: النيل، والفرات، وسيحان، وجيحان"، فيحتمل أن تكون سدرة
المنتهى مغروسة في الجنة، والأنهار تخرج من تحتها، فيصح أنها من الجنة. اهـ "فتح" جـ 7 ص 254.
(نهران باطنان) أي عن أبصار الناظرين، (ونهران ظاهران) أي لأبصار الناظرين، قال صلى الله عليه وسلم:(فسألت جبريل) عن الأنهار، (فقال: أما) النهران (الباطنان ففي الجنة) أي فنهران يصبان في الجنة.
قال ابن أبي جمرة: فيه أن الباطن أجل من الظاهر، لأن الباطن جعل في دار البقاء، والظاهر جُعل في دار الفناء، ومن ثم كان الاعتماد على ما في الباطن، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم". قاله في الفتح.
(وأما الظاهر فالفرات) هو نهر عظيم مشهور يخرج من حُدُود الرُّوم، ثم يمر بأطْراف الشام، ثم بالكوفة، ثم بالحْلَّة، ثم يلتقي مع دِجْلَة في البَطَائح، ويَصيران نهرًا واحدًا، ثم يَصُبُّ عَندَ عبَّادان في بَحرِ فارِس. قاله الفيومي في "المصباح".
وقال العيني: والفُرَات اسم نهر بالكوفة، قاله الجوهري، واختلفوا
في مخرجه على قولين:
أحدهما: أنه من جبل ببلد الروم، يقال له: افردخش، بينه وبين قاليقلا مسيرة يوم.
والثاني: أنه من أطراف أرمينية اهـ "عمدة" جـ 17 ص 28.
وفي "الفتح": الفُرَات بالمثناة في الخط في حالتي الوصل والوقف في القراءة المشهورة، وجاء في قراءة شاذة أنها هاء تأنيث، وشبهها أبو المظفر بن الليث بالتابوت والتابوه. اهـ جـ7 ص 255.
(والنيل) بالكسر، نهر مصر، وقال العيني: اتفقوا على أن مبدأ النيل من جبال القَمْرِ- بالإضافة، وبضم القاف، وسكون الميم، ويقال: بفتح القاف والميم تَشبيهًا للقمر في بياضه ينبع من اثني عشر عينًا، ثم يَنْبَعث منها عشرة أنهار: أحدها نيل مصر، وهو أول العيون يجري على بلاد الحبشة في قِفَار ومَفَاوِزَ.
وقال ابن الأثير: ليس في الدنيا نهرا أطول منه، لأنه مسيرة شهرين في الإسلام، وشهرين في النوبة، وأربعة أشهر في الخراب. اهـ عمدة جـ 7 ص 28.
وقال الحافظ: وقع في رواية شريك "أنه رأى في السماء الدنيا نهرين يَطَّرِدان، فقال له جبريل: هما النيل والفرات عنصرهما"، والجمع بينهما أنه رأى هذين النهرين عند سدرة المنتهى مع نهري الجنة، ورآهما في السماء الدنيا دون نهري الجنة، وأراد بالعنصر عنصر
امتيازهما
(1)
بسماء الدنيا. كذا قال ابن دحية.
ووقع في حديث شريك أيضًا: "ومَضَى به يَرقَى السماء، فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فضرب بيده، فإذا هو مسك أذفر، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك".
ووقع في رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس، عند ابن أبي حاتم أنه بعد أن رأى إبراهيم قال: "ثم انطلق بي على ظهر السماء السابعة حتى انتهى إلى نهر عليه خيام اللؤلؤ والياقوت والزبرجد، وعليه طير خضر، أنعَمُ طير رأيتُ، قال جبريل: هذا الكوثر الذي أعطاك الله، فإذا فيه آنية الذهب والفضة يجري على رَضْرَاض
(2)
من الياقوت والزمرد، ماؤه أشد بياضًا من اللبن. قال: فأخذت من آنيته، فاغترفت من ذلك الماء، فشربت، فإذا هو أحلى من العسل، وأشد رائحة من المسك".
وفي حديث أبي سعيد: "فإذا فيها عين تجري، يقال لها السلسبيل، فينشق منها نهران: أحدهما: الكوثر، والآخر نهر الرحمة".
قال الحافظ رحمه الله: فيمكن أن يفسر بهما النهران الباطنان المذكوران في حديث الباب. وكذا رُوِي عن مقاتل، قال: الباطنان: السلسبيل، والكوثر.
وأما الحديث الذي أخرجه مسلم بلفظ: "سيحان وجيحان والنيل والفرات من أنهار الجنة" فلا يغاير هذا، لأن المراد به أن في الأرض أربعة
(1)
هكذا في نسخ الفتح "امتيازهما" ولعل الصواب "اجتيازهما" بالجيم، بدل الميم. اهـ الجامع.
(2)
الرَّضْرَاضُ بالفتح: الحَصَى، أو صغارها. اهـ "ق" ص 829.
أنهار أصلها من الجنة، وحينئذ لم يثبت لسيحون وجيحون أنهما ينبعان من أصل سدرة المنتهى، فيمتاز النيل والفرات عليهما بذلك.
وأما الباطنان المذكوران في حديث الباب فهما غير سيحون وجيحون. والله أعلم.
وقال النووي: في هذا الحديث أن أصل النيل والفرات من الجنة، وأنهما يخرجان من أصل سدرة المنتهى، ثم يسيران حيث شاء الله، ثم ينزلان إلى الأرض ثم يسيران فيها، ثم يخرجان منها، وهذا لا يمنعه العقل، وقد شهد به ظاهر الخبر، فَلْيُعْتَمَد.
وأما قول عياض: إن الحديث يدل على أن أصل سدرة المنتهى في الأرض لكونه قال: إن النيل والفرات يخرجان من أصلها، وهما بالمشاهدة يخرجان من الأرض، فيلزم منه أن يكون أصل السدرة في الأرض، فهو مُتَعَقَّب، فإن المراد بكونهما يخرجان من أصلها غير خروجهما بالنَّبع من الأرض.
والحاصل أن أصلها في الجنة، وهما يخرجان أولًا من أصلها، ثم يسيران إلى أن يستقرا في الأرض، ثم ينبعان.
واستدل به على فضيلة ماء النيل والفرات، لكون منبعهما من الجنة، وكذا سيحان وجيحان.
قال القرطبي: لَعلَّ تَرْكَ ذكرهما في حديث الإسراء لكونهما ليسا أصلًا برأسهما، وإنما يحتمل أن يتفرعا عن النيل والفرات، قال: وقيل: إنما أطلق على هذه الأنهار أنها من الجنة تشبيهًا لها بأنهار الجنة،
لما فيها من شدة العُذُوبَةِ والحُسْن والبَرَكَةِ، والأول أولى. والله أعلم.
(ثم فُرِضت عليّ خمسون صلاة) وفي الرواية الآتية: "فرض الله عز وجل على أمتي خمسين صلاة".
قال الحافظ رحمه الله: يحتمل أن يكون في كل من الروايتين اختصار، أو يقال: ذكر الفرض عليه، يستلزم الفرض على الأمة، وبالعكس، إلا ما يستثى من خصائصه.
والحكمة في تخصيص فرض الصلاة بليلة الإسراء أنه صلى الله عليه وسلم لما عُرِجَ
به، رَأى في تلك الليلة تَعَبُّدَ الملائكة، وأنَّ منهم القائم فلا يقعد، والراكع فلا يسجد، والساجد فلا يقعد، فجمع الله له ولأمته تلك العبادات كلها في كل ركعة يصليها العبد، بشرائطها من الطمأنينة والإخلاص، أشار إلى ذلك ابن أبي جمرة، وقال: وفي اختصاص
فرضيتها بليلة الإسراء إشارة إلى عظيم بيانها، ولذا اختص فرضها بكونه بغير واسطة، بل بمراجعات تعددت على ما سبق بيانه، اهـ. "فتح" جـ 7 ص 256.
(فأتيت على موسى، فقال: ما صنعتَ؟)"ما": استفهامية، أيْ أيَّ شيء صنعته في هذا الإسراء (قلت: فرضت علي خمسون صلاة، قال) موسى عليه الصلاة والسلام:(إني أعلم الناس منك) في معالجة الناس (إِني عالجت بني إِسرائيل أشد المعالجة) والجملة تعليل لكونه أعلم مه (وإن أمتك لن يطيقوا ذلك، فارجع إِلى ربك، فاسأله أن يخفف عنك)، وهذا من كمال شفقة موسى عليه الصلاة والسلام.
قال القرطبي: الحكمة في تخصيص موسى بمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الصلاة، لعلها لكون أمة موسى كُلِّفت من الصلوات بما لم تُكَلَّف به غيرها من الأم فثقلت عليهم، فأشفق موسى على أمة محمد صلى الله عليه وسلم من مثل ذلك، ويُشِير إلى ذلك قوله:"إني جَرَّبت الناس قبلك". انتهى.
وقال غيره: لعلها من جهة أنه ليس في الأنبياء من له أتباع أكثر من موسى، ولا من له كتاب أكبر ولا أجمع للأحكام من هذه الجهة مضاهيًا للنبي صلى الله عليه وسلم، فناسب أن يتمنى أن يكون له مثل ما أنعم به عليه من غير أن يُرِيد زواله عنه، وناسب أن يُطْلِعَهَ على ما وَقَعَ له، وينصحه فيما يتعلق به، ويحتمل أن يكون موسى لَمَّا غَلَبَ عليه في الابتداء الأسف على نقص حظ أمته بالنسبة لأمة محمد، حتى تمنى ما تمنى، أن يكون استَدْرَكَ ذلك ببذل النصيحة لهم والشفقة عليهم، ليُزِيل ما عساه أن يُتَوَهَّمَ عليه فيما وقع منه في الابتداء.
وذكر السهيلي أن الحكمة في ذلك أنه كان رَأى في مناجاته صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فدعا الله أن يجعله منهم، فكان إشفاقه عليهم كعناية مَن هُوَ منهم. اهـ. "فتح" جـ 7 ص 252.
قال النبي صلى الله عليه وسلم (فرجعتُ إِلى ربي، فسألته أَن يُخَفِّفَ عني، فجعلها أربعين) أي حط منها عشرة، فصارت أربعين صلاة (ثم رجعت إلى موسى عليه السلام، فقال:)(ما) استفهامية (صنعت) في المراجعة، (قلت: جعلها أربعين) صلاة (فقال لي) موسى (مثل مقالته الأولى) وقد بينها في الرواية الآية: "فقال: راجع ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك".
قال: (فرجعت إِلى ربي عز وجل فجعلها ثلاثين) صلاة (فأتيت على موسى- عليه السلام فأخبرته) أي بعد سؤاله (فقال مثل مقالته الأولى، فرجعت إِلى ربي، فجعلها عشرين) صلاة (ثم) جعلها بعد مراجعة موسى عليه السلام أيضًا (عشرةً، ثم) جعلها كذلك (خمسة، فأتيت على موسى- عليه السلام فقال لي) موسى عليه السلام (مثل مقالته الأولى) أي من أمره له بالمراجعة لربه (فقلت: إني استحييت من ربي عز وجل أنْ أرجع إِليه) طالبًا التخفيفَ، فـ"أنْ" وصلتُها في تأويل المصدر بَدَل من قوله:"ربي".
(فنودي) وفي رواية البخاري فلما جاوزت ناداني منادٍ (أن) تفسيرية، وجملةُ (أمضيت فريضتي) تفسير للنداء، لما فيه من معنى القول، ويحتمل كون "أن" مصدرية، ويقدرُ الجارُّ قبلها؛ أي نودي بأن أمضيت فريضتي، أي جعلت فريضتي ثابتة لا تُبَدَّلُ من كونها خمسًا
بأجر خمسين (وخففتُ عن عبادي) بتقليل عددها، حيث كانت خمسين، فَرُدَّت إلى خمس".
(وأَجْزِي) مضارع جَزَى من باب رَمَى، من الجزاء (بـ) عمل (الحسنة) الواحدة (عشرة أمثالها) أي الحسنة، وإنما ذَكَّر لفظ "عشر" مع أن التمييز مذكر، لإضافته لضمير المؤنث، فاكتسب التأنيث.
وفي هذا الحديث دلالة على أن الله سبحانه كَلَّمَ نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم ليلة
الإسراء بغير واسطة. قاله في "الفتح" جـ 7 ص 257.
والله تعالى أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بحديث مالك بن صعصعة رضي الله عنه هذا
المسألة الأولى: في درجته:
حديث مالك بن صعصعة رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثمانية: في بيان مواضعه عند المصنف:
أخرجه هنا عن يعقوب بن إبراهيم عن يحيى بن سعيد، عن هشام الدستوائي، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عنه. وفي الكُبْرَى عن إسماعيل بن مسعود، عن يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة
…
إلخ. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري ومسلم والترمذي؛ فأخرجه البخاري في أربعة مواضع، بعضها في "بدء الخلق"، وبعضها في "أحاديث الأنبياء"، وفي "المناقب" أيضًا عن هدبة بن خالد، عن هَمَّام بن يحيى -وفي "بدء الخلق": وقال لي خليفة، عن يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة- وهشام الدستوائي- ثلاثتهم عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك ابن صعصعة، وفي بعض النسخ: وقال عباد بن أبي علي، عن أنس به.
وأخرجه مسلم في "الإيمان" عن أبي موسى، عن ابن أبي عَدِيّ، كلاهما عن سعيد بن أبي عروبة - بطوله، وعن أبي موسى، عن معاذ بن هشام، عن أبيه به.
وأخرجه الترمذي في "التفسير" عن محمد بن بشار، عن غندر، وابن أبي عدي، كلاهما، عن سعيد بن أبي عروبة- ببعضه، قال: وفي الحديث قصة، وقال: حسن صحيح. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائد الحديث
(1)
، وإن كان بَعْضُها تقدم: منها: أن فيه إثباتَ الأبواب للسماء حقيقة، وحفظةً موكلين بها.
وفيه إثبات الاستئذان، وأنه ينبغي لمن يستأذن أن يقول: أنا فلان، ولا يقتصر على أنا؛ لأنه ينافي مطلوب الاستفهام، وأنَّ المارَّ يسلم على القاعد، وإن كان المار أفضل من القاعد.
وفيه استحباب تلقي أهل الفضل بالبشر والترحيب والثناء والدعاء، وجواز مدح الإنسان -المأمون عليه الافتتان- في وجهه.
وفيه جواز الاستناد إلى القبلة بالظهر وغيره، أخْذًا من استناد إبراهيم عليه السلام إلى البيت المعمور، وهو كالكعبة في أنه قبلة من كل جهة.
وفيه جواز نسخ الحكم قبل وقوع الفعل.
وفيه فضل السير بالليل على السير بالنهار؛ لما وَقَع من الإسراء بالليل، ولذلك كانت أكثر عبادته صلى الله عليه وسلم بالليل، وكان أكثر
(1)
ليس المراد ما يستفاد مما ساقه المصنف فقط، بل ما يستفاد من حديث مالك بن صعصعة مما ساقه المصنف، أو أشرت إليه في الشرح، أو غير ذلك.
سفره صلى الله عليه وسلم بالليل، وقال صلى الله عليه وسلم:"عليكم بالدُّلجَة، فإن الأرض تُطوَى بالليل".
وفيه أن التَّجْربَة أقْوَى في تحصيل المطلوب من المعرفة الكثيرة، يُسَتَفادُ ذلك من قوَل موسى عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه عالَجَ النَّاسَ قَبْلَهُ وجَرَّبَهُم، ويستفاد تحكيمُ العادة، والتنبيُه بالأعلى على الأدنى؛ لأن من سلف من الأم كانوا أقوى أبدانا من هذه الأمة، وقد قال موسى في كلامه: إنه عالجهم على أقل من ذلك فما وافقوه. أشار إلى ذلك ابن أبي جمرة؛ قال: ويستفاد منه أن مقام الخُلَّة الرِّضا والتسليمُ ومقامَ
التكليم مقامُ الإدلال والانبساط، ومن ثَمَّ استبدَّ موسى بأمر النبي صلى الله عليه وسلم
بطلب التخفيف دونَ إبراهيم عليه السلام
(1)
- مع أن للنبي صلى الله عليه وسلم من الاختصاص بإبراهيم أزيدَ مما له من موسى؛ لمقام الأبُوَّةِ ورفعةِ المنزلةِ والاتباع في الملة.
وقال غيره: الحكمةُ في ذلك ما أشار موسى عليه السلام في نفس الحديث مِن سَبْقِهِ إلى معالجة قومه في هذه العبادة بعينها، وأنهم خالفوه وعصوه.
وفيه أن الجنة والنار مخلوقتان، لقوله في بعض طرق الحديث:"عرضت عليّ الجنة والنار".
وفيه استحباب الإكثار من سؤال الله تعالى، وتكثيرِ الشفاعة
(1)
وفيه نظر لأن الظاهر أن إبراهيم عليه السلام لم يعرف ما فُرِضَ عليه، كما سيأتي التصريح بأنه لم يسأله عن شيء. فكيف يأمره بالمراجعة. فتأمل.
عنده، لما وَقَع منه صلى الله عليه وسلم في إجابته مشورة موسى في سؤال التخفيف، وفيه فضيلة الاستحياء، وبذل النصيحة لمن يحتاجُ إليها وإن لم يُسْتَشَرِ الناصحُ في ذلك. والله ولي التوفيق وعليه التكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
449 -
أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَابْنُ حَزْمٍ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَرَضَ اللهُ عز وجل عَلَى أُمَّتِى خَمْسِينَ صَلَاةً، فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حَتَّى أَمُرَّ بِمُوسَى عليه السلام فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ لِى مُوسَى: فَرَاجِعْ رَبَّكَ عز وجل، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ: فَرَاجَعْتُ رَبِّي عز وجل فَوَضَعَ شَطْرَهَا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْتُ رَبِّي عز وجل، فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ، وَهِيَ خَمْسُونَ، لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ. فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ، فَقُلْتُ: قَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي عز وجل".
رجال الإسناد: ستة
1 -
(يونس بن عبد الأعلى) بن مَيْسَرة الصَّدَفيُّ أبو موسى المصري، ثقة، مات سنة 264، عن 96 سنة، من صغارَ [10]، أخرج له مسلم والنسائي وابن ماجه.
2 -
(ابن وهب) عبد الله، أبو محمد المصري، ثقة ثبت حافظ، من [9]، تقدم في 9/ 9.
3 -
(يونس) بن يزيد الأيليُّ أبو يزيد، ثقة، من كبار [7]، تقدم في 9/ 9.
4 -
(ابن شهاب) محمد بن مسلم الإمام الحجة، من [4]، تقدم في 1/ 1.
5 -
(أنس بن مالك) أبو حمزة الصحابي رضي الله عنه تقدم في 6/ 6.
6 -
(ابن حزم) هو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري النَّجَّاري المدني القاضي، ثقة عابد، من [5]، تقدم في 118/ 163. والله تعالى أعلم.
لطائف الإسناد
منها: أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأن الثلاثة الأولين مصريون، والباقون مدنيون، وفيه أنس بن مالك أحد المكثرين السبعة، روى 2286 حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن ابن شهاب) الزهري، أنه قال:(قال أنس بن مالك) الأنصاري الصحابي رضي الله عنه، وهذا يحتمل أن يكون رواه أنس عن أبي ذر، كما جزم به أصحاب الأطراف، ويحتمل أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة. أفاده في الفتح (و) أبو بكر بن محمد بن عمرو (بن حزم) وروايته مرسلة، لأنه تابعي.
ومقول "قال" قوله: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرض الله عز وجل على أمتي خمسين صلاة) وفي الرواية السابقة؛ "فرض الله عليَّ خمسين صلاة"، فيحتمل أن يقال: في كل من الروايتين اختصار، أو يقال: ذكر الفرض عليه يستلزم الفرض على الأمة وبالعكس، إلا ما يستثنى من خصائصه. قاله في الفتح جـ 1 ص 551.
قال الجامع: الاحتمال الأول هو الأولى، لأن الرواية الآتية تبين ذلك "وكم فرض الله عليك وعلى أمتك
…
" الحديث.
(فرجعت بذلك) أي بما فرض علي (حتى أمُرَّ) بنصب أمُرَّ، لأنه مستقبل، كما قال ابن مالك:
وَبَعْدَ حَتَّى حَالًا أوْ مُؤَوَّلَا
…
بِهِ ارْفَعَنَّ وَانْصِبِ المُسْتَقْبَلَا
(بموسى علية السلام) متعلق بـ"أمُرَّ"(فقال) موسى (ما) استفهامية (فرض ربك على أمتك؟ قلت: فرض عليهم خمسين
صلاة) في كل يوم وليلة (قال لي موسى: فراجع ربك عز وجل، فإِن أمتك لا تطيق ذلك) الفاء للتعليل، والجملة تعليلية للمراجعة، (فراجعت ربي عز وجل في التخفيف (فوضع) أي أسقط (شطرها) وفي الرواية السابقة "فجعلها أربعين" أي حط عشرة، وفي رواية ثابت عن أنس "فحط عني خمسًا" قال ابن المُنَيِّر: ذِكْرُ الشطر أعم من كونه وقع في دفعة واحدة.
وقال الحافظ: وكذا العشر، فكأنه وضع العشرَ في دفعتين، والشطر في خمس دفعات، أو المراد الشطر في هذا الحديث البعض، وقد حَقَّقَت روايةُ ثابت أن التخفيف كان خمسًا خمسًا، وهي زيادة معتمدة يتعين حمل باقي الروايات عليها. اهـ فتح الباري جـ 1 ص 551.
(فرجعت إِلى موسى، فأخبرته) بما وضع (فقال) موسى (راجع ربك، فإِن أمتك لا تطيق ذلك) قال: (فراجعت ربي عز وجل فقال): أي بعد المراجعة التاسعة؛ لأن الراجح أن الحط كان في كل مرة خمسًا، فتكون عدة المراجعات تسعًا. والله أعلم.
(هي خمس) عددًا باعتبار الفعل (وهي خمسون) اعتدادًا باعتبار الثواب. واستدل به على عدم فرضية ما زاد على الصلوات الخمس، كالوتر، وعلى دخول النسخ في الإنشاءات، ولو كانت مؤكدة، خلافًا لقوم فيما أكد، وعلى جواز النسخ قبل الفعل.
قال ابن بطال وغيره: ألا ترى أنه عز وجل نسخ الخمسين بالخمس
قبل أن تُصَلَّى، ثم تفضل عليهم بأن أكمل لهم الثواب. وتعقبه ابن المُنَيِّر فقال: هذا ذكره طوائف من الأصوليين والشُّرَّاحِ، وهوُ مُشْكِلٌ على من أثْبَتَ النَّسخَ قبل الفعل كالأشاعرة، أو مَنَعَه كالمعتزلة؛ لكونهم اتفقوا جميعًا على أن النَّسْخَ لا يتصور قبل البلاغ، وحديثُ الإسراء وقع فيه النسخ قبل البلاغ، فهو مشكل عليهم جميعًا. قال: وهذه نكتةٌ مُبْتَكَرَة.
قال الحافظ: إن أراد قبل البلاغ لكل أحد فممنوع، وإن أراد قبل البلاغ إلى الأمة فَمُسَلَّم، لكن قد يُقَالُ: ليس هو بالنسبة إليهم نَسْخًا، لكن هو نسخ بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه كُلِّفَ بذلك قطعًا ثم نُسِخَ بعد أن بُلِّغَهُ، وقبل أن يفعل، فالمسألة صحيحة التصوير في حقه صلى الله عليه وسلم. والله أعلم اهـ "فتح" جـ 1 ص 552.
(لا يبدل القولُ لَدَيَّ) أي القول بكونها خمسًا، لا مطلقُ القول، فلا يكون هذا دليلًا لمن أنكر النسخ، على أنه قد يُرَدُّ عليهم بأنَّ النسخَ بيانُ انتهاءِ الحكم، فلا يلزم منه تبديل القول.
(فرجعت إِلى موسى) عليه السلام (فقال) بعد أن أخبره بأنه جعلها خمسًا (راجع ربك) في التخفيف أيضًا (فقلت: قد استحييت من ربى عز وجل من مراجعته بعد قوله: "لا يُبَدَّلُ القولُ لَدَيَّ".
وقال السندي رحمه الله: هذه الرواية تدل على أنه منعه الحياء عن
المراجعة، لا كونُ الخمس لا تقبل النسخ، وسيجيء ما يدل على أن كون الخمس لا تقبل النسخ مَنَعَه عن ذلك، فالوجه أن يُجْعَلَ الأمران مانعين، إلا أنه وقع الاختصار من الرواة على ذكر أحدهما. والله أعلم
تنبيه:
حديث أنس رضي الله عنه أخرجه الشيخان وابن ماجه وقد تقدم ما يتعلق به من الفوائد في الحديث السابق، فلا نعيده. وبالله التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
450 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَخْلَدٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُتِيتُ بِدَابَّةٍ فَوْقَ الْحِمَارِ، وَدُونَ الْبَغْلِ، خَطْوُهَا عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهَا، فَرَكِبْتُ، وَمَعِي جِبْرِيلُ عليه السلام فَسِرْتُ، فَقَالَ: انْزِلْ فَصَلّ، فَفَعَلْتُ، فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ صَلَّيْتَ بِطَيْبَةَ، وَإِلَيْهَا الْمُهَاجَرُ، ثُمَّ قَالَ: انْزِلْ فَصَلِّ، فَقَالَ: أَتَدْرِى أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ صَلَّيْتَ بِطُورِ سَيْنَاءَ حَيْثُ كَلَّمَ اللهُ عز وجل مُوسَى عليه السلام، ثُمَّ قَالَ: انْزِلْ فَصَلِّ، فَنَزَلْتُ فَصَلَّيْتُ، فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟
صَلَّيْتَ بِبَيْتِ لَحْمٍ، حَيْثُ وُلِدَ عِيسَى عليه السلام، ثُمَّ دَخَلْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَجُمِعَ لِيَ الأَنْبِيَاءُ عليهم السلام، فَقَدَّمَنِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَمَمْتُهُمْ، ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَإِذَا فِيهَا آدَمُ عليه السلام، ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَإِذَا فِيهَا ابْنَا الْخَالَةِ، عِيسَى وَيَحْيَى عليهما السلام ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَإِذَا فِيهَا يُوسُفُ عليه السلام ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فَإِذَا فِيهَا هَارُونُ عليه السلام ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ، فَإِذَا فِيهَا إِدْرِيسُ عليه السلام ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَإِذَا فِيهَا مُوسَى عليه السلام ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَإِذَا فِيهَا إِبْرَاهِيمُ عليه السلام ثُمَّ صُعِدَ بِي فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتٍ، فَأَتَيْنَا سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، فَغَشِيَتْنِي ضَبَابَةٌ، فَخَرَرْتُ سَاجِدًا، فَقِيلَ لِي: إِنِّي يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فَرَضْتُ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ خَمْسِينَ صَلَاةً، فَقُمْ بِهَا
أَنْتَ وَأُمَّتُكَ، فَرَجَعْتُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَلَمْ يَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ، ثُمَّ أَتَيْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: كَمْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ: فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَقُومَ بِهَا أَنْتَ وَلَا أُمَّتُكَ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَخَفَّفَ عَنِّي عَشْرًا، ثُمَّ أَتَيْتُ مُوسَى، فَأَمَرَنِي بِالرُّجُوعِ، فَرَجَعْتُ، فَخَفَّفَ عَنِّى عَشْرًا، ثُمَّ رُدَّتْ إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ، قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّهُ فَرَضَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ صَلَاتَيْنِ، فَمَا قَامُوا بِهِمَا، فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي عز وجل فَسَأَلْتُهُ التَّخْفِيفَ؟ فَقَالَ: إِنِّي يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فَرَضْتُ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ خَمْسِينَ صَلَاةً، فَخَمْسٌ بِخَمْسِينَ، فَقُمْ بِهَا أَنْتَ وَأُمَّتُكَ، فَعَرَفْتُ أَنَّهَا مِنَ اللهِ تبارك وتعالى صِرَّى فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى عليه السلام فَقَالَ: ارْجِعْ فَعَرَفْتُ أَنَّهَا مِنَ اللهِ صِرَّى -أَىْ حَتْمٌ- فَلَمْ أَرْجِعْ.
رجال الإسناد: خمسة
1 -
(عمرو بن هشام) الحراني، أبو أمَيَّةَ، ثقة، توفي سنة 245، من [10]، أخرج له النسائي.
2 -
(مَخْلَدُ) بن يزيد القرشي الحراني، صدوق، له أوهام، توفي سنة 193، من كبار [9]، أخرج له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
3 -
(سعيد بن عبد العزيز) التَّنُوخيُّ الدمشقيُّ، ثقة إمام سَوَّاه أحمد بالأوزاعي، وقدمه أبو مُسْهِرٍ، لكنه اختلط في أخر عمره، توفى سنة 167، وقيل بعدها، عن بضع و 70 سنة، من [7]، أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم، والأربعة.
4 -
(يزيد بن أبي مالك) هو يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك الهَمْدَاني الدمشقي القاضي، صدوق ربما وَهمَ، توفي سنة 130 أو بعدها وله أكثر من 70 سنة، من [4]، أخرج له أبَو داود، والنسائي، وابن ماجه.
5 -
(أنس بن ممالك) أبو حمزةَ الصحابيُّ الجليل رضي الله عنه، تقدم في 6/ 6. والله تعالى أعلم.
لطائف الإسناد
منها: أنه من خماسياته، وأن رواته دمشقيون، إلا شيخه
فَحرَّاني، وأنسًا فبصري، وأن شيخه من أفراده، وفيه أنس أحد المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(أن أنس بن مالك) رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتيت) بالبناء للمفعول (بِدابَّة فوقَ الحمار ودون البغلِ، خَطْوُها) الخطو بالفتح مصدر خَطَا يَخْطُو: إذا مَشَى، (عند منتهى طَرْفها) أي عند نهاية نظرها، فالطَّرْف -بفتح فسكون- مصدر طَرَفَ، يقال: طَرَفَ البصرُ طَرْفًا، من بابَ ضَرَبَ: تحَرَّك، وطَرْفُ العينِ: نَظرُها، ويطلق على الواحد وغيره، لأنه مصدر. قاله في "المصباح".
(فركبت، ومعي جبريل) جملة حالية من الضمير (عليه السلام فسرت فقال) جبريل: (انزل، فصل) قال النبي صلى الله عليه وسلم (ففعلت) أي ما أمره به (فقال) جبريل: (أتدري أين صليت؟) أي في أي محل صليت؟ قال جبريلُ: (صليتَ) بفتح التاء للمخاطب (بطيبة) اسم لمدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وطابَةُ لغة فيها.
(وإِليها المُهَاجَر) أي الهجرة، وأصل المهاجر: محل الهجرة، يقال: هاجر مُهَاجَرةً، وهذه مُهَاجَرُهُ على صيغة اسم المفعول، أي موضع هجرته. قاله في "المصباح" جـ 2 ص 634، لكن أريد هنا المعنى المصدري، أي الهجرة. لأنه لو أريد المحل لقيل: هي المَهَاجَرُ، والله
أعلم. والمعنى أن جبريل عليه السلام يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن طيبة التي صلى فيها ستكون محل هجرته من مكة.
(ثم) بعد أن رَحَلا من طيبة (قال) جبريل: (انزل، فصل، فقال) بعد صلاته (أتدري أين صليت؟ صليت بطور سيناء) اسم جبل بالشام، ويقال أيضًا: طور سينين (حيث كلم الله عز وجل موسى عليه السلام أي في المكان الذي كلم الله موسى عليه السلام. فيه إثبات صفة الكلام لله عز وجل، لنبيه موسى عليه السلام (ثم قال: انزل، فصل، قال) صلى الله عليه وسلم (فنزلت، فصليت، فقال) جبريل (أتدري أين صليت؟ صليت ببيت لحم)، بفتح اللام، وسكون الحاء المهملة، وذكر في معجم البلدان أنه يقال بالخاء المعجمة أيضًا.
(حيث ولد عيسى عليه السلام أي في المحل الذي ولد فيه عيسى عليه السلام.
قال السندي: وهذا أصل كبير في تتبع آثار الصالحين، والتبرك بها، والعبادة فيها. اهـ
قال الجامع: فيما قاله نظر، لأن هذه أمور تعبدية، لا يدخلها قياس. فتبصر.
(ثم دخلت بميت المقدس) أي البيت المطهر، أي المكان الذي يتطهر فيه من الذنوب. والمقْدِس، وزان مَجْلِس، إمَّا أن يكون على حذف الزوائد، وإمَّا أن يكون اسمًا ليس على الفعل، ويجوز فيه التشديد، كَمُعَظَم، والنسبة اليه مقدِسِيّ، كمجلسي، ومُقَدَّسِيّ، بالتشديد
(1)
.
(1)
أفاده في اللسان جـ 5 ص 3550.
قال صلى الله عليه وسلم (فَجُمِعَ) بالبناء للمفعول (لي الأنبياء عليهم السلام بالرفع نائب فاعل جمع (فقدَّمني جبريل حتى أممتهم) أي صرت إمامهم في الصلاة وقد تقدم أنه صلى بجميع الأنبياء في شرح حديث (448)(ثم) بعد الصلاة (صعد بي) بالبناء للفاعل، كَعِلمَ، والفاعل جبريل، أو البراق، أو بالبناء للمفعول، والجار والمجرور هو النائب عن الفاعل، والباء على الوجهين للتعدية. أفاده السندي.
(فإِذا فيها آدم عليه السلام وتقدم أنه سَلَّمَ عليه، فرد، ورحب به وكذا مع سائر الأنبياء.
(ثم صعد بي) بالضبط المتقدم (إِلى السماء الثانية، فإِذا فيها ابنا الخالة: عيسى ويحيى عليهما السلام، ثم صعد بي إِلى السماء الثالثة، فإِذا فيها يوسف) بن يعقوب بن إسحاق (عليه) وعليهما (السلام، ثم صعد بي إِلى السماء الرابعة، فإِذا فيها هارون عليه السلام وقد تقدم في رواية قتادة عن أنس (448) أنه لقي في الرابعة إدريس، وفي الخامسة هارون، عكس ما هنا في رواية يزيد بن أبي مالك، وتقدم ترجيح رواية قتادة هناك، فتنبه.
(ثم صعد بي إِلى السماء الخامسة، فإِذا فيها إِدريس عليه السلام، ثم صعد بي إِلى السماء السادسة، فإِذا فيها موسى عليه السلام وتقدم أنه لما جاوزه بَكَى.
(ثم صعد بي إِلى السماء السابعة، فإِذا فيها إِبراهيم عليه
السلام) وفي رواية أبي سعيد "فإذا بإبراهيم خليل الرحمن مسند ظهره إلى البيت المعمور، كأحسن الرجال".
وقد تقدم اختلاف الرواية في إبراهيم: في السابعة، أو في السادسة، وكلاهما في الصحيح، وتوجيه ذلك في شرح حديث (448) فارجع اليه.
(ثم صعد بي فوق سبع سموات، فأتينا سدرة المنتهى) سيأتي الكلام عليها في حديث ابن مسعود الآتي بعد هذا. (فغشيتني ضَبَابةِ) كسَحَابَةٍ وزنًا ومعنى، جمعه ضَبَاب، وقال ابن منظور: والضَّبَابُ: نَدًى كالغَيْم، وقيل: الضبابةُ سَحَابَةٌ تَغْشَى الأرْضَ، كَالدُّخَان، والجمع الضَّبَاب، وقيل: الضَّبَابُ والضَّبَابَةُ نَدًى كالغُبَار يغشى الأَرْضَ بالغَدَوَاتِ. اهـ. "لسان العرب" جـ 4 ص 2544.
(فَخَرَرْت) من بابي ضرب، ونصر، أي سقطت حال كوني (ساجدًا، قيل لي: إِني يوم خلقت السموات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة، فقم بها أنت وأمتك)، قال عليه الصلاة والسلام:(فرجعت إِلى إِبراهيم) عليه السلام (فلم يسألني) إبراهيم (عن شيء) مما فرض الله عليَّ. (ثم أتيت على موسى) عليه السلام (فقال: كم فرض الله عليك وعلى أمتك؟) قال: صلى الله عليه وسلم (قلت): فرض علينا (خمسين صلاة، قال) موسى عليه السلام: (فإِنك لا تستطيع أن تقوم بها أنت ولا أمتك) أن مصدرية
والجملة في تأويل المصدر مفعول "تستطيع" أي لا تستطيع القيام بها، وجملة "فإنك لا تستطيع
…
" إلخ، تعليل للأمر بالمراجعة في قوله (فارجع إِلى ربك فاسأله التخفيف) عن الخمسين.
قال صلى الله عليه وسلم: (فرجعت إِلى ربي، فخفف عني عشرًا) هذه الرواية كالرواية السابقة؛ تَدُلُّ على أن الله حَطَّ عنه عشرًا، وقد تقدم أن في رواية ثابت عن أنس أن الحط خمس، وهي زيادة ثابتة، فيتعين حمل العشر عليها بكون ذلك دفعتين. والله أعلم.
(ثم أتيت موسى، فأمرني بالرجوع، فرجعت، فخفف عني عشرا، ثم رُدَّت) بالبناء للمفعول، والتاء للتأنيث، أي الصلوات.
وهذا بيان ما آل إليه الأمر آخرًا بعد تمام المراجعة، وليس المراد أنه بسقوط العشر صارت خمسًا.
وفي نسخة "ثم رُدِدتُ" بصيغة المتكلم، أي رَدَّني الله من خمسين إلى خمس صلوات بالمراجعة المتكررة له (قال) موسى عليه السلام (فارجع إِلى ربك، فاسأله التخفيف، فإِنه) الفاء للتعليل، أي لأنه سبحانه وتعالى (فرض على بني إِسرائيل صلاتين) فيه بيان أن ما فرضه الله على بني إسرائيل صلاتان (فما قاموا بهما) أي لم يصلوهما.
قال صلى الله عليه وسلم (فرجعت إِلى ربي عز وجل، فسألته التخفيف، فقال) الله تعالى (إِني يوم خلقت السموات والأرض فرضت عليك
وعلى أمتك خمسين صلاة، فخمس) من الصلوات (بـ) أجر (خمسين) صلاة (فقم بها أنت وأمتك).
قال النبي صلى الله عليه وسلم (فـ) عند ذلك (عرفت أنها) أي الصلوات الخمس (من الله) متعلق بحال مقدر، أي حال كونها كائنة من الله تعالى، أو متعلق بقوله (صِرَّى) خبر "إن"، وهو بكسر الصاد المهملة وفتح الراء المشددة، آخرها ألف مقصورة، أي عزيمة لا تقبل النسخ، وقال في النهاية: أي حَتْم واجبة، وعزيمة، وجدٌّ، وقيل: هي مشتقة من صَرَّ إذا قَطَعَ، وقيل: هي مشتقة من أصْرَرْتُ الشيَء إذا لَزِمْتَهُ، فإن كان من هذا فهو بالصاد والراء المشددة، وقال أبو موسى: إنه صرِّيٌّ بوزن جِنِّي -يعني مشدد الراء والياء-، قال: وصِرِّيُّ العَزْم: أي ثابته ومستقره. اهـ "نهاية" جـ 3 ص 28. وقال ابن فارس: الإصرار: الثبات على الشيء والعزم عليه، يقال: هذه يمين صِرَّي: أي جِدٌّ. اهـ "زهر الربى" جـ 1 ص224.
(فرجعت إِلى موسى- عليه السلام فقال: ارجع) إلى ربك، فاسأله التخفيف، قال صلى الله عليه وسلم:(فعرفت أنها من الله صِرَّى، أي حتم) الظاهر أن التفسير من بعض الرواة (فلم أرجع) إلى الله تعالى، لكونها لا تقبل التخفيف. والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق أنس رضي الله عنه هذا.
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أنس رضي الله عنه هذا، من رواية يزيد بن أبي مالك
عنه، صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف:
أخرجه المصنف هنا عن عمرو بن هشام الحَرَّاني، عن مَخْلَد بن يَزِيدَ، عن سعيد بن عبد العزيز، عنه به.
قال الحافظ المزي رحمه الله: تابعه -يعني مخلدًا- الوليدُ بن مسلم، ويحى بن صالح الوُحَاظيّ، وعبد الله بن صالح المصري، عن سعيد، وقال أبو مسهر وعمرو بن أبي سلمة، عن سعيد، عن يزيد بن أبي مالك، عن بعض أصحابه، عن أنس بن مالك. اهـ "تحفة" جـ 1
ص 439. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول:
حديث أنس من رواية يزيد بن أبي مالك انفرد به المصنف، وقد أخرجه مسلم من رواية حَمَّاد بن سلمة، وسليمان بن المغيرة كلاهما عن ثابت، عنه.
وبقية مباحث الحديث تقدمت في حديث مالك بن صعصعة رضي الله عنه، فارجع إليها تستفد. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
451 -
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ:
لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم انْتُهِىَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا عُرِجَ بِهِ مِنْ تَحْتِهَا، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا أُهْبِطَ بِهِ مِنْ فَوْقِهَا حَتَّى يُقْبَضَ مِنْهَا، قَالَ:{إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم: 16] قَالَ: فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَأُعْطِيَ ثَلَاثًا: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَيُغْفَرُ لِمَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِهِ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا الْمُقْحِمَاتُ.
رجال الإسناد: سبعة
1 -
(أحمد بن سليمان) بن عبد الملك، أبو الحسين الرُّهَاوي، ثقة حافظ، توفي سنة 261، من أفراد المصنف، من [11]، وتقدم في 38/ 42.
2 -
(يحيى بن آدم) بن سليمان الكوفي، أبو زكريا، مولى بني أمية، ثقة حافظ فاضل، توفي سنة 203، من كبار [9]، أخرج له الجماعة. وفي "صة": أحد الأعلام، عن فِطْر بن خَلِيفَة، ومالك بن مِغْول، وطائفة، وعنه أحمد وإسحاق وابن المديني ومحمد بن رافع وخلق وثقه النسائي وغيره.
3 -
(مالك بن مغول) -بكسر أوله، وسكون المعجمة، وفتح
الواو- الكوفي أبو عبد الله، ثقة ثبت من كبار السابعة، توفي سنة 159 على الصحيح. أخرج له الجماعة، وتقدم في 98/ 127.
4 -
(الزُّبَيرُ بن عديّ) الهَمْدَاني اليامي -بالتحتانية- أبو عبد الله الكوفي
(1)
، ولي قضاء الرَّيِّ، ثقة، توفي سنة 131، من [5]، أخرج له الجماعة. وفي "صة" عن أنس والمَعْرُور بن سُوَيد، وأبي وائل، وعنه إسماعيل بن أبي خالد، وأبو إسحاق السَّبِيعي، والثوري، وثقه أحمد وابن معين والعِجْلي، قال أبو داود الطيالسي: لا يعرف له عن أنس غير حديث واحد. اهـ.
5 -
(طلحة بن مصرف) بن عمرو بن كعب اليامي -أبو محمد- الكوفي، ثقة قارىء فاضل، توفي سنة 112 أو بعدها، من [5]، أخرج له الجماعة. وتقدم في 200/ 306.
6 -
(مُرَّةُ) بن شَرَاحيل الهَمْداني -بسكون الميم- أبو إسماعيل الكوفي، الذي يقال له: مَرة الطيب، ثقة عابد، توفي سنة 76، وقيل بعد ذلك، من [2]، أخرج له الجماعة.
وفي "تت" المعروف بمُرَّةَ الطيّبِ ومرة الخيرِ، لُقِّبَ بذلك لعبادته، وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة، وقال سكن بن محمد العابد، عن الحارث الغَنَوِيّ: سَجَدَ مُرَّةُ الهمداني حتىَ أكل التراب
(1)
هكذا في "ت""أبو عبد الله" والذي في "الخلاصة"، و"تت"، و"تهذيب الكمال": أبو عدي، وأظن ما في "ت" مصحفًا منه. فتأمل.
وَجْهَهُ، وقال ابن حبان: كان يصلي كل يوم ستمائة ركعة، وقال العجلي: تابعي ثقة، وكان يصلي في اليوم والليلة خمسمائة ركعة، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: لم يدرك عمر، وقال هو وأبو زرعة: روايته عن عمر مرسلة، وقال أبو بكر البزار: روايته عن أبي بكر مرسلة، ولم يدركه، وقال ابن منده في تاريخه: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يَرَه. وقال ابن سعد وأبو حاتم: توفي زمن الحجَّاج بعد الجَمَاجِمِ، وقيل توفي سنة 76. انتهى "تت" جـ 10 ص 88 - 89 بتصرف.
7 -
(عبد الله) بن مسعود بن غافل بن حَبيب الهُذَليّ أبو عبد الرحمن، من السابقين الأولين، ومن كبار العلماء من الصحابة، أمّرَهُ عُمَرُ على الكوفة، وتوفي سنة 32، أو في التي بعدها بالمدينة، وأخرج له الجماعة، وتقدم في 35/ 39. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سباعياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأنهم كوفيون إلا شيخه فجَزَرِيّ رُهاوِيٌّ.
ومنها: أن شيخه من أفراده لم يرو عنه من الستة غيره.
ومنها: أنه لا يوجد في الكتب الستة من اسمه أحمد بن سليمان، ويحيى بن آدم، ومالك بن مِغْول، والزبير بن عديّ، وطلحة بن مُصَرّف، ومرة بن شراحيل، وعَبد الله بن مسعود، غير هؤلاء.
ومنها: أنهم ممن اتفقوا عليهم، إلا شيخه.
ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض؛ الزبير وطلحة ومرة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه أنه (قال: لما أسْرِيَ برسول الله صلى الله عليه وسلم) بالبناء للمفعول، يقال: سَرَيْتُ اللَّيْلَ وسَرَيْتُ بِهِ، سَرْيًا -بفتح فسكون- والاسم السِّرَايةُ. إذا قَطَعْتَهُ بالسير، وأسريت بالألف لغةٌ حِجَازيةٌ، ويُستَعملان متعديين بالباء إلى مفعول، فيقال: سَرَيْتُ بزيد، وأسريت به. قاله في "المصباح".
(انتهي به) بالبناء للمفعول أيضًا، والضمير للنبي صلى الله عليه وسلم يقال: انتَهَى الأمرُ: بَلَغَ النهايةَ، وهي أقصى ما يمكن أن يبلغه. قاله في المصباح. والجار والمجرور في محل رفع نائب الفاعل.
ويحتمل أن يكون بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير يعود إلى الإسراء المفهوم من "أسرِي" أي انتهى الإسراء به صلى الله عليه وسلم حتى وَصَلَ (إِلى سدرة المنتهى) من إضافة الموصوف إلى صفته كمسجد الجامع، وصلاة الأولى، ويحتمل أن يكون من إضافة الأعم إلى الأخص، كشجر أراك، وعلى الأول لابد من تأويله لئلا يكون من إضافة الشيء إلى
نفسه، وهو غير جائز، كما قال ابن مالك:
وَلا يُضَافُ اسْمٌ لِمَا بِهِ اتَّحَدْ
…
مَعْنىً وأوِّلْ مُوهِمًا إذا وَرَدْ
أي سدرة الشجرة الُمنْتَهَى، وفيه الحذف والإيصال، والأصل المنتهى
إليها، وسيأتي سبب تسميتها بذلك، (وهي) أي السدرة (في السماء السادسة) هكذا في رواية ابن مسعود أنها في السماء السادسة، وتقدم في رواية أنس ما يدل على أنها في السابعة، حيث قال "ثم صُعِدَ بي فوق سبع سموات، فأتينا سدرة المنتهى" فظاهره أنها في السماء السابعة.
والجمع بينهما كما قال الحافظ رحمه الله: أن يقال: إن أصلها في السماء السادسة، وأغصانها وفروعها في السماء السابعة.
وقال القرطبي في "المفهم": ظاهر حديث أنس أنها في السابعة، وفي حديث ابن مسعود أنها في السادسة، وهذا تعارض لا شك فيه، وحديث أنس هو قول الأكثر، وهو يقتضيه وصفها بأنها التي ينتهي إليها علم كل نبي مرسل، وكل ملك مقرب، على ما قال كعب، قال: وما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله، أو من أعلمه، وبهذا جزم إسماعيل بن أحمد، وقال غيره: إليها منتهى أرواح الشهداء، قال: ويترجح حديث أنس بأنه مرفوع، وحديث ابن مسعود موقوف، كذا قال، ولم يُعَرِّج على الجمع بل جزم بالتعارض. اهـ "فتح الباري" جـ 7 ص 253.
قال الجامع: ما قاله الحافظ في وجه الجمع هو الأولى، وفي قول القرطبي:"موقوف على ابن مسعود" نظر، والله أعلم.
قال مبينًا وجه تسميتها بسدرة المنتهى (ينتهي) بالبناء للفاعل، وفاعله قوله (ما عُرِجَ به) بالبناء للمفعول، والجار والمجرور في محل رفع نائب الفاعل (من تحتها) متعلق بعُرِجَ، أي يَقِفُ عندها كل ما
يُعرَجُ به من أعمال العباد والأرواح من الجهة التحتانية، ولا يتجاوزها (وإِليها ينتهي) بالبناء للفاعل، (ما أهْبِطَ) بالبناء للمفعول (من فوقها) من الوحي وغيره (حتى يقبض منها) أي تقبضه الملائكة فتوصله إلى ما أمر به.
وحاصل المعنى أن سدرة المنتهى غاية لوصول ما ينزل من فوقها حتى يقبض منها، وغاية لصعود ما يصعد به من تحتها.
فقد تَبَيَّن من هذا سبب تسميتها بهذا الاسم، وقيل: لانتهاء علم الخلق إليها، وقيل: لانتهاء أرواح الشهداء إليها، كما مر قريبًا، والأرجح ما هنا؛ لكونه أصح. والله أعلم.
ثم إنَّ ما ذُكِرَ من وصف سدرة المنتهى بهذا الوصف، الظاهر أنه مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وتقدم قول القرطبي: إنه موقوف على ابن مسعود، وفيه بُعْد، ولو سُلِّمَ فالوقف في مثل هذا له حكم الرفع. كما هو مقرر في محله. والله أعلم.
(قال) ابن مسعود رضي الله عنه، كما صُرِّحَ به في رواية الترمذي مُوَضِّحًا معنى قوله تعالى {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم: 16]، الظرف متعلق بقوله "رآه" من قوله تعالى {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13]، وقوله "قال" تأكيد لقال الأول، ويحتمل أن يكون
فاعل قال الأول هو الله تعالى، وفاعل الثاني هو ابن مسعود.
(فراش من ذهب) أي يغشاها فَرَاش من ذهب، والفَرَاش بفتح
الفاء: الطير الذي يُلقِي نفسَهُ في ضوء السراج، واحدتها فَرَاشَة.
كذا فَسَّرَ المبهم في قوله "ما يغشى" بالفراش، ووقع في رواية يزيد ابن أبي مالك عن أنس "جراد من ذهب" قال البيضاوي: وذكر الفراش وقع على سبيل التمثيل، لأن من شأن الشجر أن يسقط عليها الجراد وشبهه، وجعلها من الذهب لصفاء لونها وإضاءتها في نفسها. انتهى.
وقال الحافظ: ويجوز أن يكون من الذهب حقيقة، ويخلق فيه الطَّيرَان، والقدرةُ صالحةٌ لذلك. اهـ جـ 7 ص 253.
قال الجامع: وهذا الاحتمال الثاني هو المتعين، وما قاله البيضاوي غير صحيح عندي، لأن كلام الشارع إذا أمكن حمله على ظاهره لا يُعَدَلُ عنه إلى غيره إلا بدليل صارف عن ظاهره، فدَعوَى المجاز غير صحيح. والله أعلم.
وفي حديث أبي سعيد وابن عباس: "يغشاها الملائكة"، وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي:"على كل ورقة منه ملك" ووقع في رواية ثابت عن أنس عند مسلم "فلما غشيها من أمر الله تَغَيَّرَتْ فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها"، وفي رواية حميد عن أنس عند ابن مردويه نحوه، لكن قال: تحولت نَوْتًا
(1)
، ونحو ذلك. قاله في الفتح.
(فأعطي) بالبناء للمفعول، وعند مسلم:"فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وللترمذي:"فأعطاه الله عندها" أي عند سدرة
(1)
النَّوْت بفتح فسكون، كالنَّيْتِ: التَّمايُلُ من ضعف. قاله في "ق".
المنتهى (ثلاثًا) أي خصالًا ثلاثًا، زاد الترمذي:"لم يُعطهنَّ نبيًا كان قبله".
(الصلوات الخمس) بالنصب بدل من ثلاث، أو مفعولًا لفعل محذوف، كما بينته رواية مسلم "أعطي الصلوات الخمس" وهو الأوْلَى، لأن أولى ما تفسر به الرواية ما جاء في رواية أخرى، ويحتمل الرفع خَبَرًا لمحذوف، أي إحداها: الصلوات الخمس (وخواتيم سورة البقرة) كإعراب سابقه، ولمسلم:"وأعطي خواتيم سورة البقرة". قيل معنى قوله "أعطِيَ خواتيم سورة البقرة" أي أعطي إجابة دعواتها.
قال الجامع: هذا المعنى غير صحيح، بل المعنى أنه أعطي هذه الخواتيم من ذلك المحَلِّ الأعلى، ففي رواية أحمد قال: حدثنا حسين، حدثنا شيبان، عن منصور، عن ربعي، عن خَرَشَةَ بن الحُرِّ، عن المعْرُور بن سُوَيد، عن أبي ذَرّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش، لم يُعْطَهُنَّ نبي قبلي".
وأخرج أحمد أيضًا بسند حسن -كما قال الحافظ ابن كثير عن عُقْبَةَ ابن عامر الجُهَنِيّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ الآيتين من آخر سورة البقرة، فإني أعطيتهما من كنز تحت العرش". إلى غير ذلك من الأحاديث. انظر "تفسير الحافظ ابن كثير" جـ 1 ص 348، 351.
قال العلامة السندي رحمه الله: كَأنَّ المراد أنه قَرَّرَ له إعطاءها، وأنه ستنزل عليك، ونحوه، وإلا فالآيات مدنيات. اهـ جـ 1 ص 224.
(يغفر) بالبناء للفاعل، والفاعل هو الله، أو للمفعول، وهو معطوف على ما قبله بتقدير حرف مصدريّ، أي أن يغفر، وحَذْفُ الحرف المصدري مع رفع الفعل جائز؛ كما في قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} [الروم: 24] الآية، وقولهم "تسمعُ بالمعيدي خير من أن تراه" برفع تسمعُ وأما بنصبه فشاذّ؛ كما قال ابن مالك بعد ذكر مواضع حذف "أن" المصدرية قياسًا: ما نصه:
وَشَذَّ حَذْفُ أنْ ونصْبٌ في سِوى
…
ما مَرَّ فاقْبَلْ مِنْه مَا عَدْلٌ رَوَى
وخالف في ذلك الكوفيون فجعلوه قياسًا مع النصب. وجعل بعضهم الحذف مع الرفع شاذًا أيضا. انظر "حاشية الخضري على ابن عقيل" جـ 2 ص 119.
قال الجامع: الراجح كون الحذف مع الرفع قياسيًا، لأن تخريج الآية على الوجه الشاذ غير صحيح، فتبصر. والله أعلم.
والتقدير هنا: والغفران (لمن مات من أمته) صلى الله عليه وسلم (لا يشرك بالله شيئًا) نكَّر شيئًا إشارةً إلى أن الشرك لا يغفر قليله وكثيره (المُقحِمَاتُ) بصيغة اسم الفاعل، والنصبِ مفعولًا ليغفر، أو بالرفع نائب فاعل له.
ومعنى المُقحمَات: الذنوبُ العِظام التيُ تُقحمُ أصحابها النارَ، أي تدخلهم وتلقيهم فيها.
قال النووي رحمه الله: المُقْحِمَاتُ: بضم الميم وإسكان القاف، وكسر الحاء؛ ومعناها الذنوب العظام الكبائر التي تُهلك أصحابها، وتوردهم النار، وتُقحمهم إياها، والتَّقَحُّمُ: الوقوع في المهالك.
ومعنى الكلام أن من مات من هذه الأمة غير مشرك بالله غفر له المقحمات.
قال: والمراد -والله أعلم- بغفرانها أنه لا يخلد في النار بخلاف المشركين، وليس المراد أنه لا يعذَّب أصلًا، فقد تقررت نصوص الشرع وإجماع أهل السنة على إثبات عذاب بعض العصاة من الموحدين.
ويحتمل أن يكون المراد بهذا خصوصًا من الأمة، أي يغفر لبعض الأمة المقحمات، وهذا يظهر على مذهب من يقول: إن لفظة "مَنْ" لا تقتضي العموم مطلقًا، وعلى مذهب من يقول: لا تقتضيه في الأخبار، وإن اقتضته في الأمر والنهي، ويمكن تصحيحه على المذهب المختار، وهو كونها للعموم مطلقًا؛ لأنه قد قام دليل على إرادة الخصوص، وهو ما ذكرناه من النصوص والإجماع. انتهى كلام النووي.
وقال العلامة السندي رحمه الله: ولعل المراد أن الله تعالى لا يؤاخذهم بكلها، بل لابد أن يغفر لهم بعضها، وإن شاء غفر لهم كلها، وقيل: المراد بالغفران أن لا يخلد صاحبها في النار، أو المراد الغفران لبعض الأمة، ولعله إن كان هناك تأويل فما ذكرتُ أقرب، وإلا فتفويض هذا الأمر إلى علمه تعالى أولى. والله أعلم. اهـ كلام السندي.
قال الجامع: عندي أن ما تقدم في كلام النووي رحمه الله من حمل "من" على الخصوص للأدلة المقتضية لذلك هو الأولى،
جمعًا بين الأدلة.
والحاصل أن المراد بالأمة بعضهم، فيغفر الله تعالى لبعض الأمة جميع ذنوبهم؛ صغائرها وكبائرها ما عدا الشركَ، قال الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] الآية، فبعض الأمة هم الذين شاء الله تعالى أن يغفر ذنوبهم جميعها. فتبصر. والله تعالى أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم في صحيحه.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف:
أخرجه رحمه الله هنا، وفي "الكبرى" برقم (3/ 315) بهذا السند.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول:
أخرجه مسلم والترمذي؛ فأخرجه مسلم في "الإيمان" عن محمد بن عبد الله بن نمير، وزهير بن حرب -كلاهما عن عبد الله بن نمير- وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي أسامة -كلاهما عن مالك بن مِغْول، عن الزُّبير بن عَدِيّ، عن طلحة بن مُصَرّف، عن مُرَّة بن شَرَاحِيل، عنه.
وأخرجه الترمذي في تفسير "سورة النجم" عن ابن أبي عُمَر، عن سفيان بن عيينة، عن مالك بن مغول، عن طلحة نحوه "لمَّا بَلَغَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى
…
" الحديث، ولم يذكر الزبير بن عدي. وقال: حسن صحيح.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: بيان ما أكرم الله به نبيه صلى الله عليه وسلم من المعراج.
ومنها: بيان محل سدرة المنتهى، وبيان وصفها.
ومنها: بيان معنى قوله تعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} . [النجم: 16].
ومنها: بيان ما أكرِمَ به صلى الله عليه وسلم حيث أعطي هذه الخصال الثلاث، ولم
يعطهن أحد غيره.
ومنها: بيان فضل الصلوات الخمس حيث فُرِضت في المحل الرفيع خلاف سائر الفرائض.
ومنها: بيان فضل خواتيم سورة البقرة، وقد ورد في فضلها أحاديث صحاح:
فمنها: ما أخرجه الشيخان من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كَفَتَاه".
ومنها: ما أخرجه الترمذي عن النُّعْمان بن بَشِير، عن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال: "إنَّ الله كَتَبَ كتابًا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام، أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، ولا يُقْرأ بهِنَّ في دار ثلاثَ ليال فَيقْرَبُها شيطانٌ". وصححه الحاكم على شرط مسلم.
ومنها: ما أخرجه مسلم والنسائي، واللفظ له عن ابن عباس رضي الله عنهما. قال:"بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده جبريل إذ سمع نَقيضًا فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء، فقال: هذا باب قد فُتِحَ مَن السماء ما فُتِحَ قَطُّ، قال: فنزل منه ملك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أبشر بنورين قد أوتيتَهُمَا لم يُؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفًا منهما إلا أوتيته".
ومنها: بيان ما أكرم الله به هذه الأمة؛ حيث إنه يغفر لها المُقْحِمَات غيرَ الشرك. وهذا فضل عظيم من رب كريم.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يغفر لهم المقحمات بمنه وكرمه آمين.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
2 - بَابٌ أيْن فُرِضَتِ الصَّلاةُ؟
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على جواب سؤال من سأل: أين فرضت الصلاة؟، ومحل الترجمة من الحديث قوله:"فرضت بمكة". والمراد به أول محل ظهر فيه فرضيتها من الأرض، وإلا فأول محل فرضها فوق السموات. والله تعالى أعلم.
452 -
أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ: أَنَّ عَبْدَ رَبِّهِ بْنَ سَعِيدٍ، حَدَّثَهُ: أَنَّ الْبُنَانِيَّ حَدَّثَهُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ الصَّلَوَاتِ فُرِضَتْ بِمَكَّةَ، وَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَتَيَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَهَبَا بِهِ إِلَى زَمْزَمَ، فَشَقَّا بَطْنَهُ، وَأَخْرَجَا حَشْوَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَغَسَلَاهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ كَبَسَا جَوْفَهُ حِكْمَةً وَعِلْمًا.
رجال هذا الإسناد
1 -
(سليمان بن داود) بن حَمَّاد المَهْرِي، أبو الرَّبِيع المصري بن أخي رِشْدينِ بنِ سَعْد، ثقة، توفي سنة 253، من [11]، أخرج له أبو داود والنسائي، وتقدم في 63/ 79.
2 -
عبد الله (بن وهب) بن مسلم القرشي مولاهم أبو محمد
المصري الفقيه، ثقة حافظ عابد، توفي سنة 179، عن 72 سنة، من [9]، أخرج له الجماعة، وتقدم في 9/ 9.
3 -
(عمرو بن الحارث) بن يعقوب الأنصاري، مولاهم أبو أيوب المصري، ثقة فقيه حافظ، توفي قديمًا قبل سنة 150، من [7]، وأخرج له الجماعة، وتقدم في 63/ 79.
4 -
(عبد ربه بن سعيد) بن قيس الأنصاري، أخو يحيى، المدني، ثقة، توفي سنة 139، وقيل بعد ذلك، من [5].
وفي "تت" عن يحيى بن سعيد القطان، قال: كان وَقَّادًا حَيَّ الفُؤَاد، وعن عبد الله بن أحمد عن أبيه: شيخ ثقة مدني، وقال ابن معين: ثقة مأمون، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: لا بأس به، قلت: يحتج بحديثه؟ قال: حسن الحديث ثقة، ووثقه النسائي، والعجلي، وابن سعد، وقال: كثير الحديث دُونَ أخيه يحيى، وقال أبو عوانة: هو أعَزُّ إخْوَتِهِ حديثًا. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: هو الذي يقال له: عبد ربه المدني، أخرج له الجماعة.
5 -
(البُنَانِيُّ) هو ثابت بن أسلم أبو محمد البصري، منسوب إلى بُنَانَة -بضم الباء الموحدة وتخفيف النون- ابن سَعْد بن لُؤَيّ بن غالب، ثقة عابد، من [4]، تقدم في 45/ 53.
6 -
(أنس بن مالك) بن النضر بن ضَمْضَم أبو حَمْزَة خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه تقدم في 6/ 6. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات أجلاء، اتفقوا عليهم غير شيخه، فتفرد به هو، وأبو داود.
ومنها: أنهم ما بين مصريين؛ وهم الثلاثة الأولون، ومدنيين؛ وهم الباقون.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي، عبدِ رَبِّهِ عن ثابت.
ومنها: أن فيه أنسًا أحد المكثرين المسبعة، رَوَى 2286 حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أنس بن مالك) رضي الله عنه (أنَّ الصلوات الخمس) بفتح همزة "أن"، لأن الجملة في تأويل المصدر مفعول "حَدَّثَ"، (فُرِضَت) بالبناء للمفعول، أي أظهر للناس وجوبها (بمكة) قبل الهجرة إلى المدينة، ليلة المعراج، كما تقدم إيضاحه في الباب السابق.
(وأن ملكين) بفتح "أن" أيضًا عطفًا على "أنَّ الصلوات"، وقد تقدم اختلاف الروايات في الملائكة الذين أتوه، هل هما اثنان أم ثلاثة؟ في الحديث (448)(أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبا به إِلى) بئر (زمزم، فشقا بطنه)، وتقدم أن الشق من النحر إلى مَرَاقِّ البَطنِ،
(وأخرجا حَشْوَه) قال السندي رحمه الله: هكذا في نسختنا -وهو بفتح فسكون- أي ما في بطنه، وفي نسخة السيوطي "حُشوته" وهي بالضم والكسر: الأمعاء. اهـ. قلت: المعنى واحد.
(في طَست) بالفتح والكسر، وتقدم الكلام على ضبطه ومعنا في (448)، والجار والمجرور متعلق بمحذوف، أي وَضَعَاهُ في طست (من ذهب)، وتقدم سبب اختصاص الطست وكونه من ذهب، في حديث الرقم المذكور، (فغسلاه بماء زمزم) فيه أن ماء زمزم أفضل من غيره.
(ثم كَبَسَا) بفتح الكاف والباء، قال المجد في "ق": كَبَسَ البِئْرَ وَالنَّهْرَ يَكْبسُهُمَا: طَمَّهُمَا بالتُّرَاب، وقَال أيْضًا: "طَمَّ الإنَاءَ: مَلأَهُ، والرِّكِيَّةَ، يَطِمُّهَا -بالكسر، ويَطُمُّهَا- بَالضم: دَفَنَهَا، وسَتَرَهَا اهـ.
فتبين بهذا أن معنى قوله (ثم كبسا جوفه) أي ملآه، وقوله:(حكمةً وعلمًا) منصوبان على التمييز، وفي "الكبرى""حِكْمَةً وإيمَانًا" وهو الموافق للرواية المتقدمة في الباب السابق.
وقال السندي: "ثم كبسا جوفه" أي ستراه "حكمةً وعلمًا" أي حال كونه ذا حكمة وعلم. اهـ.
قال الجامع: ما قدمته هو الأوضح. والله أعلم، وهو المستعان وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أنس رضي الله عنه هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف:
أخرجه المصنف هنا في "المجتبى"(452) وفي "الكبرى"(316) بسند "المجتبى"، وقال: قال أبو عبد الرحمن: عبد ربه بن سعيد، ويحيى بن سعيد، وسعد بن سعيد بن قيس بن قهد
(1)
الأنصاري، وهم ثلاثة إخوة، ويحيى بن سعيد أجَلُّهم، وأنْبَلُهُم، وهو أحد الأئمة، وليس بالمدينة بعد الزهري في عصره أجل منه، وعبد ربه ثقة، وسعد ضعيف. اهـ جـ 1 ص 141.
قال الجامع: قوله في نسبه: ابن سعيد بن قيس بن قهد، لا يصح كما قاله البخاري في التاريخ الكبير، والصحيح في نسبه أنه ابن سعيد بن قيس بن عمرو بن سَهْل بن ثَعْلَبَةَ بن الحارث بن زيد بن ثعلبة بن غَنْم بن مالك بن النَّجَّار. انظر "تت" جـ 11 ص 221، و"تهذيب الكمال" جـ 31 ص 347. والله تعالى أعلم.
تنبيه:
هذا الحديث من أفراد المصنف، لم يخرجه من أصحاب الأصول غيره. انظر "تحفة الأشراف" جـ 1 ص 145. والله تعالى أعلم.
(1)
ونسخة "الكبرى" ابن فهد، بالفاء، والصواب ابن قهد بالقاف، كما في "تت" جـ 11 ص 221، و"تهذيب الكمال" جـ 31 ص 347.
المسألة الثالثة: في فوائده:
منها: بيان محل فرض الصلوات الخمس، وهو مكة، وهو محل الترجمة للمصنف، وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل العلم.
ومنها: بيان فضل النبي صلى الله عليه وسلم حيث أكرمه الله تعالى بشق بطنه وغسل ما فيه مما ينافي كمال العبودية؛ من حظوظ النفس والشيطان.
ومنها: إظهار معجزة باهرة له في هذا العمل؛ حيث إنه لم يتأثر بجروح، ولا قَرِحَ مَحَلُّ الشق.
ومنها: بيان فضل ماء زمزم على غيرها من المياه؛ حيث غسل بها باطنه صلى الله عليه وسلم.
ومنها: بيان أنه صلى الله عليه وسلم مُلِىَء حكمًة وعلمًا، وهذا من فضل الله العظيم، قال الله تعالى {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113] والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
3 - بَابُ كيفَ فُرِضَتِ الصَّلاةُ
أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على جواب سؤال السائل عن كيفية فرض الصلاة.
هل فرضها الله تعالى أن تصلى على هيئة صلاة الحضر، أم على هيئة صلاة السفر؟
453 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَوَّلَ مَا فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَأُتِمَّتْ صَلَاةُ الْحَضَرِ.
رجال الإسناد: خمسة
1 -
(إسحاق بن إِبراهيم) بن مَخْلد بن إبراهيم، أبو محمد، أو أبو يعقوب المعروف بابن راهويه الحنظلي المروزي نزيل نيسابور، ثقة حافظ مجتهد، قرين الإمام أحمد، من [10]، وتقدم في 2/ 2.
2 -
(سفيان) بن عيينة أبو محمد الهِلالِي مولاهم الكوفي ثم المكي، ثقة حافظ حجة فقيه إمام، من كبار [8]، تقدم في 1/ 1.
3 -
(الزهري) محمد بن مسلم أبو بكر المدني، الإمام الفقيه الحُجَّة
الحُجَّة رأس الطبقة [4]، تقدم في 1/ 1.
4 -
(عروة) بن الزبير بن العَوَّام أبو عبد الله الأسدي المدني، ثقة فقيه مشهور، من [3]، تقدم في 40/ 44.
5 -
(عائشة) أم المؤمنين الصدّيقة بنت الصدّيق رضي الله عنهما، تقدمت في 5/ 5. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات أجلاء، اتفقوا عليهم، وكلهم مدنيون إلا شيخه فمروزي ثم نيسابوري.
ومنها: أن فيه روايةَ تابعي عن تابعي، الزهري عن عروة.
ومنها: أن عروة هو أحد الفقهاء السبعة.
ومنها: أن عائشة من المكثرين السبعة روت 2210 حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عائشة) رضي الله عنها، أنها قالت:(أوَّل ما فرضت الصلاة ركعتين) هكذا في بعض النسخ؛ بنصب "ركعتين" على الحال لعامل محذوف، تقديره: فُرِضَت حال كونها ركعتين، وأولَ منصوب على الظرفية متعلق بالفعل المقدر، و"ما" مصدرية، والتقدير: في أول فرض الصلاة فرضت حال كونها ركعتين، أو "ما" موصولة عبارة عن
وقت، وجملة "فر ضت الصلاة" صلتها، والعائد محذوف، والتقدير: في أول الوقت الذي فرضت فيه الصلاة، فرضت حال كونها ركعتين.
وفي بعض النسخ: "ركعتان" بالرفع، وعلى هذا يكون مرفوعًا على الابتداء، والظرف قبله خبره، والتقدير: ركعتان كائنتان في أول فرض الصلاة. والله أعلم.
ثم إنَّ المرادَ به الصلاة التي تختلف حَضرًا وَسَفرًا، فلا يستشكل بالمغرب والفجر.
وقد وردت زيادة توضح المراد في مسند أحمد رحمه الله "إلا المغرب فإنها كانت ثلاثًا".
(فأقرت صلاة السفر) فعل ونائب فاعله، أي رَجَعَت إلى الحالة الأولى بعد نزول القصر في السفر بحيث كأنها مقررة على الحالة الأصلية، وما ظهرت الزيادة فيها أصلًا، فلا يشكل بأن ظاهر قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ
…
} الآية [النساء: 101]، يفيد أن صلاة السفر قصرت بعد أن كانت تامة، فكيف يصح القول بأنها أقرت؟ وأيضًا اندفع أن يقال مُقْتَضَى هذا الحديث أن الزيادة على الركعتين لا يصح، ولا يجوز كما في صلاة الفجر، فكيف كانت عائشة تتمها في السفر؟ فليتأمل. قاله السندي رحمه الله.
(وأتمت صلاة الحضر)، وفي الكبرى للمصنف "وَزِيَد في الحَضَر" أي بعد الهجرة إلى المدينة، لمَا عند البخاري في كتاب الهجرة من طريق
قالت: "فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، فَفُرِضَتْ أربعًا".
وقد أخذ بهذا الحديث الحنفية، وقالوا: إن القصر عزيمة، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك في المسائل قريبًا إن شاء الله تعالى، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عائشة رضي الله عنها هذا متفق عليه.
المسألة الثاني: في بيان مواضعه عند المصنف:
أخرجه المصنف هنا (453) وفي "الكبرى"(317) بسند الباب. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول:
أخرجه البخاري ومسلم؛ فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن عبد الله بن محمد، عن سفيان، عن الزهري بسند المصنف، وأخرجه مسلم في "الصلاة" عن علي بن خشْرَم، عن سفيان به. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: أنه استدل الحنفية بحديث عائشة رضي الله عنها على أن القصر في السفر عزيمة، لا رخصة.
واحتج مخالفوهم بقوله سبحانه وتعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} لأن نفي الجُنَاح لا يدل على العزيمة، والقصر إنما يكون من شيء أطول منه.
ويدل على أنه رخصة أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: "صدقة تصدق الله بها عليكم". وأجابوا عن حديث الباب بأنه من قول عائشة غير مرفوع، وبأنها لم تشهد زمان فرض الصلاة، قاله الخطابي وغيره.
قال الحافظ رحمه الله: وفي هذا الجواب نظر، أمَّا أوَّلًا فهو مما لا مَجال للرأي فيه فله حكم الرفع، وأما ثانيًا فعلى تقدير تسليم أنها لم تدرك القصة يكون مرسل صحابي، وهو حجة، لأنه يحتمل أن تكون أخذته عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن صحابي آخر أدرك ذلك.
وأما قول إمام الحرمين: "لو كان ثابتًا لَنُقِلَ متواترًا" ففيه نظر أيضًا، لأن التواتر في مثل هذا غير لازم.
وقالوا أيضًا: يعارض حديثَ عائشة هذا حديثُ ابن عباس "فُرضَت الصلاُة في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين" أخرجه مسلم. ويأتي للمصنف بعد حديثين.
والجواب أنه يمكن الجمع بين حديثي عائشة وابن عباس بحمل حديث عائشة على ما آل إليه الأمر من التخفيف، فيتفق مع حديث ابن عباس رضي الله عنهم.
وألْزَمُوا الحنفيةَ على قاعدتهم -فيما إذا عارض رأيُ الصحابي رِوايتَه- بأنهم يقولون: العبرةُ بما رأى، لا بما رَوَى، وخالفوا ذلك هنا، فقد ثبت أنها كانت تُتِمُّ في السفر، فدل على أن المروي عنها غير ثابت.
والجواب عنهم أنَّ عروة الراوي عنها قد قال لما سُئِلَ عن إتمامها في السفر: إنها تأولت كما تأوَّلَ عثمان، فعلى هذا لا تعارض بين روايتها، وبين رأيها، فروايتها صحيحة، ورأيها مبني علي ما تأولت.
قال الحافظ رحمه الله. والذي يظهر لي -وبه تجتمع الأدلة السابقة- أن الصلوات فرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين، إلا المغرب، ثم زِيدَت بعد الهجرة عَقِبَ الهجرة، إلا الصبح، كماَ رَوى ابنُ خزيمة وابنُ حبان والبيهقيُّ من طَريق الشعبي، عن مسروق، عن عائشة، قالت:"فُرِضَت صلاةُ الحَضَر ركعتان ركعتان، وتُرِكَت صلاةُ الفجر لطول القراءة، وصلاةُ المغرب، لأنها وتر النهار".
ثم بعد أن استقر فرض الرباعية خُفّفَ محها في السفر عند نزول الآية السابقة، وهي قوله تعال:{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء، آية: 101].
ويؤيد ذلك ما ذكره ابنُ الأثير في شرح المسند أن قصر الصلاة كان في السنة الرابعة من الهجرة، وهو مأخوذ مما ذكره غيره؛ أن نزول آية الخوف كان فيها، وقيل: كان قصر الصلاة في ربيع الآخر من السنة الثانية، ذكره الدُّولابِيُّ، وأورده السُّهَيلِيُّ بلفظ "بَعْدَ الهجرةِ بعام، أو نحوه"، وقيل: بعد الهجرة بأربعين يومًا.
فعلى هذا المرادُ بقول عائشة "فأقرَّت صلاةُ السفر" أي باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف، لا أنها استَمَرَّت منذ فَرِضَت، فلا يلزم من ذلك أنَّ القصر عزيمة. اهـ. "فتح الباري" جـ 1 ص 553، 554.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الحافظ في وجه الجمع حسن جدًّا. ويؤيد عدمَ كون القصر عزيمًة ما يأتي للمصنف من طريق العلاء بن زُهَير الأزدي عن عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة رضي الله عنها: "أنها اعتَمَرَتْ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي قَصَرْتَ، وأتْمَمْتُ، وأفطَرْتَ، وصُمْتُ؟ قال: أحسنتِ يا عائشة، وما عاب عليَّ".
والحديث ضعفه ابن حزم بجهالة العلاء، وردَّ عليه ذلك عبدُ الحق، وقال: بل هو ثقة مشهور، والحديث الذي رواه في القصر صحيح، وتناقض فيه ابن حبان؛ فقد ذكره في الثقات، وقال في الضعفاء: يَروِي عن الثقات ما لا يُشْبِهُ حديثَ الأثبات، فَبَطَل الاحتجاجُ به فيما لم يوافق الثقات، ورده الذهبي بأن العبرة بتوثيق يحيى، يعني ابن معين، فقد وثَّقَهُ. انظر "تت" جـ 8 ص 181.
وسيأتي تحقيق الكلام في المسألة في "كتاب تقصير الصلاة" إن شاء الله تعالى. والله ولي التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
454 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَاشِمٍ الْبَعْلَبَكِّيُّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْوَلِيدُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو عَمْرٍو يَعْنِي الأَوْزَاعِيَّ، أَنَّهُ سَأَلَ الزُّهْرِيَّ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ؟ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: فَرَضَ اللهُ عز وجل الصَّلَاةَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَوَّلَ مَا فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أُتِمَّتْ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا، وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى الْفَرِيضَةِ الأُولَى".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(محمد بن هاشم) بن سعيد القرشي (البعلبكي) بفتحات وسكون العين المهملة: نسبة إلى بعلبك مدينة بالشام على 12 فرسخًا من دمشق. اهـ لب اللباب بزيادة جـ 1 ص 135. صدوق، توفي سنة 254، من [10].
وفي "تت": أبو عبد الله البَعْلَبكيُّ، قال النسائي: لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات، وقالَ: يُغَرِّبُ، قال عمرو بن دُحيم: مات ببعلبك سنة 254، وكان مولده في شهر ربيع الأول سنة 167، وقال مسلمة بن قاسم: صدوق مشهور. اهـ "تت" باختصار. انفرد به
المصنف.
2 -
(الوليد) بن مسلم القرشي مولاهم، أبو العباس الدمشقي،
ثقة، لكنه كثير التدليس والتسوية، من [8].
وفي "تت": الوليد بن مسلم القرشي مولى بني أمية، وقيل: مولى بني العباس، أبو الوليد الدمشقي عالم الشام. قال ابن سعد: كان ثقةً كثيرَ الحديث، وقال أبو مسهر: كان الوليد مُعْتَنيًا بالعلم، وكان من ثقات أصحابنا، وفي رواية: من حفاظ أصحابنا، ووثقه العجلي
ويعقوب بن شيبة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وعن أحمد قال: كان الوليد رَفَّاعًا، وعنه كان كثيرَ الخطأ، وعن أبي مسهر: كان الوليد ممن يأخذ عن أبي السَّفَرِ حديثَ الأوزاعي، كان أبو السفر كَذَّابًا، وعنه: كان الوليد يحدث حديثَ الأوزاعي عن الكذابين، ثم يدلسها عنهم، وعن الهيثم ابن خارجة قال: قلت للوليد: قد أفْسَدتَ حديثَ الأوزاعي، قال: كيف؟ قلتُ: تروي عن الأوزاعي عن نافع وعن الأوزاعي عن الزهري، ويحيى بن سعيد، وغيرك يدخل بين الأوزاعي، وبين نافع: عبد الله بن عامر، وبينه وبين الزهري: إبراهيم بن مُرَّة، وقُرَّة، وغيرهما، فما يحملك على هذا؟ قال: أنَبِّل الأوزاعي أن يروي عن مثل هؤلاء، قلت: فإذا رَوَى الأوزاعي عن هؤلاء وهؤلاء ضعفاء أحاديثَ مناكير، فأسقطتهم أنت وَصيَّرتها من رواية الأوزاعي عن الثقات ضُعِّفَ الأوزاعُّي، قال: فلم يلتفت إلى قولي.
وقال الدارقطني: كان الوليد يرسل، يَروي عن الأوزاعي أحاديث عند الأوزاعي عن شيوخ ضعفاء، عن شيوخ قد أدركهم الأوزاعي،
فيُسقِطُ أسماءَ الضعفاء، ويجعلها عن الأوزاعي، عن نافع، وعن عطاء ولد سنة 119، وتوفي سنة 194، وقيل: 195، وقيل: 196، أخرج له الجماعة اهـ "تت" باختصار جـ 11 ص 151 - 155.
3 -
(أبو عمرو الأوزاعي) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو، أبو عمرو الفقيه، ثقة جليل، توفي سنة 157 من [7]، أخرج له الجماعة وتقدم في 45/ 56.
4 -
(الزهري) محمد بن مسلم أبو بكر المدني، الإمام الحجة من [4]، تقدم في 1/ 1.
5 -
(عروة) بن الزبير أبو عبد الله المدني الفقيه الحجة، من [2]، تقدم في 40/ 44.
6 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها تقدمت في 5/ 5. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات أجلاء اتفقوا عليهم، إلا شيخه، فانفرد هو به، ونصفهم الأول شاميون، والثاني مدنيون.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي؛ الزهري عن عروة، ورواية الراوي عن خالته.
ومنها: أن عروة أحد الفقهاء السبعة.
ومنها: أن عائشة من المكثرين السبعة روت 2210 حديثًا.
ومنها: قوله "يعني الأوزاعي"، والقائل هو شيخ المصنف، وهذا هو الظاهر، ويحتمل أن يكون هو المصنفَ، وإنما أتى بها لأن شيخه لم ينسبه، فأراد نسبته، ففصل كلامه من كلام شيخه، قال في ألفية الأثر:
وَلا تَزِدْ فِي نَسَبٍ أوْ وَصَفِ مَنْ
…
فَوْقَ شُيُوخ عَنْهُمُو مَا لَمْ يُبَنْ
بِنَحْوِ يَعْنِي أوْ بِانَّ أوْ بِهُو
…
أمَّا إِذا أتَمَّهُ أوَّلهُ
أجِزْهُ في البَاقي لَدَى الجُمْهُورِ
…
والفَصْلُ أولَى قَاصِرَ المَذْكُورِ
والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عائشة) رضي الله عنها، أنها (قالت: فرض الله عز وجل الصلاةَ على رسوله صلى الله عليه وسلم أولَ ما فرضها) منصوب على الظرفية متعلق بفَرَضَ، و"ما" مصدرية، أو موصولة واقعة على الأوقات، والعائد محذوف، والتقدير: في أول فَرْضهَا، أو في أول الأوقات التي فَرَضَهَا فيها (ركعتين ركعتين) بالتكرار، ليفيد عموم التثنية لكل صلاة رباعية، ولولاه لكان فيه إيهامُ أنَّ الفريضة في السفر والحضر ما كانت إلا فردَ ركعتين فقط.
قال الكرماني: فإن قلتَ: لِمَ انْتَصَبَ "ركعتين"؟ قلتُ: بالحالية، فإن قلتَ: ما حكم لفظ "ركعتين" الثاني؟ قلتُ: هو تكرار للفظ الأول
وهما في الحقيقة عبارة عن كلمة واحدة، نحو مَثْنَى، وذلك كالحُلْوِ الحَامِضِ، القائمِ مَقَامَ المُزِّ. اهـ.
(ثم) بعد الهجرة إلى المدينة (أتمَّت) الصلاة، أي زيد عليها ركعتان، فصارت أربعًا (في الحضر) أَي في حال كون المكلف بها مقيمًا بالحضر (وأقِرَّت صلاة السفر على الفريضة الأولى) وتقدم أن معنى "أقرت": رجعت إلى الحالة الأولى بعد نزول القصر، فكأنها مقرَّرةٌ على الحالة الأولى. والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عائشة رضي الله عنها هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكره عند المصنف:
أخرجه هنا (454) بهذا السند فقط.
المسألة الثالثة: أنه مما انفرد به المصنف من بين الكتب الستة.
وفوائده تقدمت في الحديث الذي قبله، فلا حاجة إلى إعادتها. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
455 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ.
رجال الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة) بن سعيد البَغْلانِيّ، ثقة ثبت، توفي سنة 240 عن 90 سنة، من [10]، وتقدم في 1/ 1.
2 -
(مالك) بن أنس الإمام الشهير المدني، من [7]، وتقدم في 7/ 7.
3 -
(صالح بن كيسان) بفتح الكاف وسكون الياء- المدني مُؤَدِّب أولاد عمر بن عبد العزيز، ثقة ثبت فقيه، توفي بعد سنة 130 أو بعد سنة 140، من [4]، وتقدم في 196/ 314.
4 -
و (عروة) و (عائشة) تقدما في السند الماضي. والله تعالى أعلم.
لطائف الإسناد
منها: أنه من خماسياته، وأنّ روِاته كلهم ثقات أجلاء، اتفقوا عليهم، وكلهم مدنيون إلا شيخه فَبَغْلانِّي، وفيه رواية تابعي عن تابعي؛ صالح عن عروة.
والحديث مضى مشروحًا قريبًا، فلا حاجة إلى إعادته. والله تعالى أعلم.
تنبيه:
حديث عائشة هذا أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود؛ فأخرجه البخاري في الصلاة عن عبد الله بن يوسف، عن مالك بسند المصنف،
وأخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى، عن مالك به، وأخرجه أبو داود؛ في الصلاة أيضًا عن القعنبي، عن مالك به. وبالله تعالى التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
456 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَخْنَسِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً.
رجال الإسناد: سبعة
1 -
(عمرو بن علي) الفَلاسُ الصَّيْرفِيّ، أبو حَفْص البصري، ثقة حافظ أحد مشايخ الستة، توفي سنة 249، من [10]، وتقدم في 4/ 4.
2 -
(يحيى) بن سعيد بن فَرُّوخ التميمي، أبو سعيد القَطَّان البصري، ثقة متقن حافظ إمام قدوة، توفي سنة 198، عن 78 سنة، من كبار [9]، وتقدم في 4/ 4.
3 -
(عبد الرحمن) بن مهدي بن حَسَّان، أبو سعيد العَنْبَرِي مولاهم البصري، ثقة ثبت حافظ عارف بأحوال الرجال والأحاديث، توفي سنة 198، عن 73 سنة، من [9]، وتقدم في 42/ 49.
4 -
(أبو عَوَانَةَ) وَضَّاحُ بن عبد الله اليَشْكُرِي الواسطي البَزَّازُ، مشهور بكنيته، ثقة ثبت، توفي سنة 175 أو 176، من [7].
وفي "تت" الوضاح بن عبد الله اليشكري، مولى يزيد بن عطاء، كان من سَبْيِ جُرْجَان. قال ابن مهدي: كتاب أبي عوانة أثبت من حفظ هشيم، وعن يحيى القطان: ما أشبه حديثه بحديث شعبة وسفيان، وقال عَفَّانُ: كان أبو عوانة صحيح الكتاب كثير العجم والنقط، وكان ثبتًا، وأبو عوانة في جميع حاله أصح حديثا عندنا من شعبة
(1)
.
وعن أحمد: إذا حدث أبو عوانة من كتابه فهو أثبت، وإذا حدث من غير كتابه رُبَّمَا وَهِمَ، وعن ابن معين: أبو عوانة جائز الحديث، وحديث يزيد بن عطاء ضعيف، ثبت حديث أبي عوانة، وسقط مولاه يزيد بن عطاء.
وقال أبو زرعة: ثقة إذا حدث من كتابه، وقال أبو حاتم: كتبه صحيحة، وإذا حدث من حفظه غلط كثيرًا، وهو صدوق ثقة، وهو أحب إليَّ من أبي الأحوص، ومن جرير، وهو أحفظ من حماد بن سلمة، وقال ابن سعد: كان ثقة صدوقًا، ووهيب أحفظ منه، وقال
موسى بن إسماعيل: كل شيء قد حدثتك، فقد سمعته.
وقال العجلي: أبو عوانة بصري ثقة، وقال ابن شاهين في الثقات:
(1)
هكذا في "تت" وتهذيب الكمال، قيل: صوابه من هشيم. والله أعلم.
قال شعبة: إن حدثكم أبو عوانة عن أبي هريرة فصدقوه، وقال ابن مهدي: أبو عوانة وهُشَيم كهمَّام وسعيد، إذا كان الكتاب فكتاب أبي عوانة وهمام، وإذا كان الحفظ فحفظ هشيم وسعيد؛ وقال تمتام عن ابن معين: كان أبو عوانة يقرأ، ولا يكتب.
وقال الدوري عن ابن معين؛ وذكر أبا عوانة، وزهيَر بنَ معاوية، فَقدَّم أبا عوانة، وقال ابن المديني: كان أبو عوانة في قتادة ضعيفًا، لأنه كان قد ذهب كتابه، وكان أحفظ من سعيد، وقد أغرب في أحاديث، وقال يعقوب بن شيبة: ثبت صالح الحفظ صحيح الكتاب.
وقال ابن خراش: صدوق في الحديث، وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقة ثبت حجة فيما حَدَّثَ من كتابه، وقال: إذا حدث من حفظه ربما غَلِطَ.
وعن أحمد ويحيى: ما أشبه حديث أبي عوانة بحديث الثوري وشعبة، وكان أمينا ثقة، وكان أبو عوانة مع ثقته وأمانته يفزع من شعبة، فأخطأ شعبة في اسم خالد بن علقمة، فقال مالك بن عُرْفُطَةَ، وتابعه أبو عوانة على خطئه بعد أن كان رواه على الصواب.
وقال ابن عدي: كان مولاه قد فوض إليه التجارة، فجاءه سائل، فقال له: أعطني درهمين لأنْفَعَكَ فأعطاه، فدار السائل على رؤساء البصرة، فقال: بَكِّروا على يزيد بن عطاء، فقد أعتق أبا عوانة فاجتمع إليه الناس، فأنف من أن ينكر حديثه، وأعتقه حقيقة.
وحَكَى ابنُ حبَّان قصة عتقه، علي صفة أخرى، وحكاها أسلم بن سهل علي صفة أَخرى. والله أعلم وأخرج له الجماعة. اهـ "تت" باختصار وتصرف
(1)
.
5 -
(بكير بن الأخنس) السدوسي، ويقال: الليثي الكوفي، ثقة، من [4]، وثقه ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، ثم أعاده في أتباع التابعين من الثقات قال. وقد قيل. إنه سمع من أنس بن مالك، وقال ابن سعد: رَوَى عن الصحابة، وهو قليل الحديث، وعن أبي داود، قال: شيخ جائز الحديث، وقال العجلي: كوفي ثقة، وقال البخاري في "التاريخ الكبير": بكير بن الأخنس، ويقال: ابن فيروز، رَوَى عنه أبو عوانة، وأما ابن أبي حاتم ففرق بينهما، وقال أبو حاتم. هو قديم؛ ما روى عنه شعبة، ولا
الثوري، فلا أدري كيف روى عنه أبو عوانة، ولا أين لقيه؟ حكاه عن أبيه في العلل. أخرج له البخاري في "جزء القراءة"، والباقون إلا الترمذي. اهـ. "تت".
6 -
(مجاهد) بن جَبْر أبو الحَجَّاج المخزومي مولاهم المكي، ثقة إمام في التفسير والعلم، توفي سنة 101 أو 102 أو 103 أو 104، وله 83 سنة، من [3]، وتقدم في 27/ 31.
7 -
(ابن عباس) عبد الله الحَبْر البحر رضي الله عنه وتقدم في 27/ 31. والله تعالى أعلم.
(1)
تقدمت ترجمة أبي عوانة بطولها برقم 27/ 31، وأعيدت سهوًا.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف، وأن رواته كلهم ثقات حُفَّاظ، وأنهم بصريون، إلا بُكَيْرًا فكوفي، ومجاهدًا فمكي، وأما أبو عوانة فواسطي، ويقال: بصري.
ومنها: أن فيه عَمْرو بن علي وهو من مشايخ الستة.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي؛ بكيرٍ عن مجاهد.
ومنها: أن فيه ابن عباس أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى 1696 حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن ابن عباس) رضي الله عنهما، أنه (قال: فُرِضَتِ الصلاةُ) فعل ونائب فاعله، وعند أبي داود:"فرض الله عز وجل الصلاة"، والمراد الصلاة الرباعية، كما تقدم (على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين)، وفي حالة (الخوف ركعة) واحدة.
فيه دليل لمن يقول: إن صلاة الخوف ركعة واحدة، وبه قال الثوري، وإسحاق، وهو مروي عن أبي هريرة، وأبي موسى الأشعري، وغير واحد من التابعين، ومنهم من قَيَّدَهُ بشدة الخوف، وقال الجمهور: قَصْرُ الخوفِ قَصْرُ هَيْئَة، لا قصرُ عَدَد، وتأوَّلُوا هذا الحديث بأنَّ المراد بها ركعة مع الإمام، وليس فيه نفيُ الثانية وسيأتي
تحقيق القول في ذلك مع ترجيح القول الأول، في كتاب صلاة الخوف، إن شاء الله تعالى. والله ولي التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثاني: في بيان مواضع ذكره عند المصنف:
أخرجه رحمه الله هنا في "المجتبى"(456) وفي "الكبرى"(318) عن عمرو بن علي الفَلاس عن يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، كلاهما عن أبي عوانة، وفي (1532)"المجتبى" و (1920)"الكبرى"- عن قتيبة، عن أبي عوانة، عن بُكَير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفي (1441)"المجتبى"، و (1899)"الكبرى" عن محمد بن وهب الحَرَّاني، عن محمد بن سَلَمَةَ، عن أبي عبد الرحيم، عن زيد بن أبي أنيسة، عن أيوب بن عائذ، عن بكير بن الأخنس، به وفي (1442)"المجتبى"، و (1900)"الكبرى" عن يعقوب ابن ماهان، عن القاسم بن مالك، عن أيوب بن عائذ به. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه مسلم، وأبو داود، وابن ماجه، فأخرجه مسلم في "الصلاة" عن يحيى بن يحيى، وسعيد بن منصور، وأبي الربيع الزهراني،
وقتيبة، أربعتهم عن أبي عوانة به. والله أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
457 -
أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الشُّعَيْثِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ، أَنَّهُ قَالَ لاِبْنِ عُمَرَ: كَيْفَ تَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَإِنَّمَا قَالَ اللهُ عز وجل:"لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ"؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: يَا ابْنَ أَخِي إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَتَانَا، وَنَحْنُ ضُلاَّلٌ، فَعَلَّمَنَا، فَكَانَ فِيمَا عَلَّمَنَا أَنَّ اللهَ عز وجل أَمَرَنَا أَنْ نُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ. قَالَ الشُّعَيْثِيُّ: وَكَانَ الزُّهْرِيُّ يُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ.
رجال الإسناد: ستة
1 -
(يوسف بن سعيد) بن مسلم المِصِّيصِيُّ، ثقة حافظ، توفي سنة 271، وقيل: قبل ذلك، من [11].
وفي "تت" أبو يعقوب الأنْطَاكِيُّ، قال النسائي: ثقة حافظ، وقال ابن أبي حاتم: كَتَبَ إلَيَّ بِبَعْضِ حديثه، وهو صدوق، وقال مَسْلَمَةُ بن
قاسم: ثقة حافظ، وأبوه ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مات بعد سنة 265، وقال ابن قانع، وابن منده: مات سنة 271، وفيها أرَّخَهُ القراب. انفرد به المصنف.
2 -
(حجاج بن محمد) المِصِّيصِيُّ الأعور، أبو محمد الترمذي الأصل، نَزِيلُ بغداد، ثم المصيصَة، ثقة ثبت، لكنه اختلط في آخر عمره لمّا قَدِمَ بغداد، توفي سنة 206، من [9]، وتقدم في 28/ 32.
3 -
(محمد بن عبد الله) بن المُهَاجِر (الشُّعيْثِيُّ) بمعجمة، ثم مهملة، ثم مثلثة مصغرًا، نسبة إلى بطن من بَلْعَنْبَرِ بن عَمْرو بن تمَيم، صدوق، توفي سنة بضع و 150، من [7].
وفي "تت": محمد بن عبد الله بن المهاجر الشعيثي النَّصْرِي، ويقال: العُقَيلي الدمشقي، قال أبو حاتم عن دُحَيْمٍ: كان ثقة، وكان قديمًا يَرْوِي عن مكحول، وقال المفضل بن غَسَّان الغلابي: ثقة، وقال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم
الرازي: ضعيف الحديث ليس بالقوي، يكتب حديثه، ولا يحتج به.
وقال أبو زرعة الدمشقي: سألت أبا سفيان عبيد الله بن سِنَان النصري، عن تاريخ موت محمد بن عبد الله الشعيثي؟ قال: قد رأيته وجالسته، مات بعد سنة 154 بيسير. أخرج له الأربعة.
4 -
(عبد الله بن أبي بكر بن الحارث بن هشام) هكذا في جميع
النسخ نُسِبَ أبوه إلى جده، وهو عبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي المدني، صدوق، من [6].
وفي "صة": له عندهما فرد حديث. وفي "تت": روى عن أبيه، وعن أمية بن عبد الله بن خالد. وعنه ابن عمه مهاجر بن عكرمة ابن عبد الرحمن، والزهري، ومحمد بن عبد الله الشُّعَيْثيُّ، ومُكَمَّل ابن أبي سَهْل. وَسمَّاهُ ابنُ سَعْد لَمَّا عَدَّ أولادَ أبي بكر بن عَبَد الرَّحمنِ:
عَبدَ الرحمن، وقال ابن خلفون: وَثَّقَهُ ابن عبد الرحيم، وَذكره ابن عدي، ونقل عن البخاري أنه قال: لا يصح حديثه. أخرج له المصنف، وابن ماجه. اهـ.
5 -
(أمية بن عبد الله بن خالد بن أسِيد) -بفتح الهمزة وكسر السين المهملة- بن أبي العِيص بن أمية الأموي المكي، ثقة، توفي سنة 87، من [3].
وفي "تت": قال ابن سَعْد: كان قليلَ الحديث، وقال العجلي: ثقة، ولكن سَمَّى أباه عبدَ الرحمن. وقال الزُّبَيْرُ بنُ بَكَّار: استعمله عبد الملك ابن مروان على خُرَاسان، وقال ابن الجارود: ليس له صحبة. قيل: مات سنة 87، وقيل:86. أخرج له المصنف، وابن ماجه.
6 -
(عبد الله بن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما تقدم في 12/ 12. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسياته، وأنّ رواته موثقون، وأن شيخه من أفراده، وأنهم ما بين مِصِّيصِيَّيْنِ وهما: شيخه وحجَّاج، ودمشقي وهو: الشُّعَيْثِيُّ، ومدنيين وهما: عبد الله بن أبي بكر وابن عمر، ومكي وهو: أمَيَّةُ، وفيه ابن عمر أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، رَوَى 2630 حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسِيد) بفتح فكسر، الأموي المكي (أنه قال لـ) عبد الله (ابن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما:(كيف تُقْصَرُ الصلاةُ) ببناء الفعل للمفعول، والصلاة نائب فاعله، ويحتمل أن يكون بالبناء للفاعل مسندًا إلى ابن عمر.
والمراد قصر الصلاة في السفر بدون خوف مع أن الرخصة في القرآن مقَّيدة به، كما أوضحه بقوله (وإِنما قال الله عز وجل:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} ) فَذَكَر القصرَ للخوف ولم يذكر للسفر وحده، وعند ابن ماجه:"أنه قال لعبد الله بن عمر: إنا نجد صلاة الحضر، وصلاة الخوف في القرآن، ولا نجد صلاة السفر"(فقال) له (ابن عمر: يا بن أخي) أي في الدين (إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا) مرسلًا من عند الله تعالى (و) الحال (نحن ضُلال) جمع
ضَالّ، أي غير مهتدين لمعرفة شرع الله تعالى (فعلَّمَنَا) جميعَ الشرع، (فكان في) جملة (ما علَّمنا) من الشرع (أن الله عز وجل أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر) بفتح همزة "أن"؛ لأنَّ الجملة في تأويل المصدر اسم "كان" مؤخرًا. يعني أن قصر الصلاة في السفر من جملة ما أمر الله به.
وأراد ابن عمر رضي الله عنهما بهذا أن يُبَيِّنَ لأمَيَّةَ بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم أعْلَمُ بمعاني القرآن ومقاصده، وهو المبِّينُ الذي أوجب الله قبول بيانه على الناس جميعًا؛ قال الله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فما أجمل فيه بينه بقوله أو فعله، فكل ما قاله، أو فَعَلَه فهو بيان للقرآن، قال الله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3، 4] فلا يسع أحدًا إلا
اتباعه في ذلك، قال تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. وقد حَذَّرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يقولَ من بَلَغَهُ حديثُهُ صلى الله عليه وسلم: لم نجد هذا في كتاب الله تعالى.
فعن أبي رافع رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ألْفِيَنَّ أحدَكم مُتَّكِئًا على أرِيكَتِهِ، يأتيه الأمُر من أمري، مما أمرت به، أو نَهَيْتُ عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه". رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح.
وعن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت القرآن ومثلَه معه، لا يُوشك رجلٌ
شَبْعَانُ على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فَأحِلُّوهُ، وما وجدتم فيه من حرام فَحَرِّمُوه وإنَّ ما حرم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كما حرَّم اللهُ
…
". الحديث رواه أبو داود وغيره بسند صحيح.
والحاصل أن ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قولًا أو فعلًا يجب قبوله، وإن لم يوجد نصًا في القرآن، لأنه وحي مثله، كلٌ من عند الله تعالى. والله أعلم.
(قال) محمد بن عبد الله (الشُّعَيْثِيُّ: وكان) محمد بن مسلم (الزهري يحدث بهذا الحديث عن عبد الله بن أبي بكر) ابن عبد الرحمن بن الحارث المذكور. ورواية الزهري أخرجها المصنف في كتاب تقصير الصلاة (1434) عن قتيبة، عن الليث عنه، عن عبد الله ابن أبي بكر نحوه.
ولَعَلَّ مرَادَ الشعيثي بهذا أنه سمع هذا الحديث عن الزهري، عند عبد الله بن أبي بكر، ثم لَقِيَ عبد الله نفسه، فسمعه منه، فحدث به عنه، وبيّن سماعه بواسطة أيضًا. والله أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا في "المجتبى"(457) بهذا السند، وأخرجه في "كتاب تقصير الصلاة"(1434) وفي "الكبرى" برقم (1892) عن قتيبة، عن الليث، عن ابن شهاب، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أمية بن عبد الله بن خالد، أنه قال لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما إلخ نحوه. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه ابن ماجه في الصلاة عن محمد بن رمح، عن الليث، عن ابن شهاب نحوه. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: سؤال أهل العلم إذا خَفيَ على الشخص وجه تشريع بعض الأحكام؛ قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . [النحل: 43]
ومنها: بيان العالم المسألة بدليلها عند الإجابة.
ومنها: أن بعض الأحكام ثبت بنص الكتاب، وبعضها ثبت بالسنة، وما ثبت بالسنة يجب العمل به كما يجب العمل بما ثبت في الكتاب. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
4 - بَابُ كَمْ فُرِضَتْ فِي اليَوْم والليْلةِ؟
وفي الكبرى: "كَمْ فُرِضَتِ الصَّلاةُ في اليَوْمِ والليْلةِ؟ ".
هذا الباب عَقَدَهُ المصنف لبيان جملة عدد الصلاة المفروضة في اليوم والليلة، كما أنه عقد الباب الماضي لبيان عدد ركعات الصلاة الواحدة.
458 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرَ الرَّأْسِ، نَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ، وَلَا نَفْهَمُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ". قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: "لَا إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ". قَالَ: "وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ". قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: "لَا إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ". وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "لَا إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ"، فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ، وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا، وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة) بن سعيد أبو رَجَاء الثَّقَفِيُّ البَغْلانيّ، ثقة ثبت، من [10]، تقدم في 1/ 1.
2 -
(مالك) بن أنس أبو عبد الله المدني الإمام الشهير، من [7]، وتقدم في 7/ 7.
3 -
(أبو سهيل) نافع بن مالك بن أبي عامر الأصبحي المدني، عَمُّ مالك الراوي عنه، ثقة، مات بعد سنة 140، من [4]، أخرج له الجماعة.
وفي "تت": أبو سهيل التيمي المدني حليف بني تيم، قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: من الثقات، وقال الواقدي: كان يؤخذ عنه القراءة بالمدينة، هلك في إمارة أبي العباس، وقال ابن خراش: كان صدوقًا. اهـ.
4 -
(مالك) بن أبي عامر الأصبحي، سَمِعَ من عمر، ثقة، توفي سنة 64 على الصحيح، من [2].
وفي "تت": أبو أنس، ويقال: أبو محمد، جد مالك بن أنس الفقيه. ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية، وقال: فرض له عثمان، وكان ثقة، وله أحاديث صالحة.
وقال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، قال ابنه الربيع:
مات أبي حين اجتمع الناس على عبد الملك، يعني سنة 74 وَوَهِمَ عبدُ الغني في الكمال تبعًا لابن سعد عن الواقدي، فقال: إنه مات سنة 112 وهو ابن سبعين، أو اثنتين وسبعين سنة. وتعقبه المنذري بأن سماعه من طلحة مُصَرَّح به في الصحيح، وطلحة قتل سنة 36 وعلى ما ذكره يكون مولده سنة 40، فكيف يمكن سماعه؟، ثم قال: فلعل الوهم كان في سنه، والصواب 90 بتقديم التاء. انتهى.
قال الحافظ: وهو مشكل أيضًا، فقد صح سماعه من عمر، فإنه قال: شهدت عمر عند الجمرة وذكر قصة أوْرَدَها ابن سعد بسند جيد، والصواب ما ذكر في الأصل، وكذا ذكره البخاري في الأوسط في فصل من مات ما بين السبعين إلى الثمانين. اهـ أخرج له الجماعة.
5 -
(طلحة بن عُبَيْد الله) بن عثمان بن عَمْرو بن كَعْب بن تَيْمِ بن مُرَّةَ التيمي أبو محمد المدني، أحد العشرة، والستة الشُّورَى، وأحدُ الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وضَرَبَ له النبيُّ صلى الله عليه وسلم بسهم يوم بدر، وأبْلَى يَوْمَ أحُدٍ بلاءً شديدًا.
له ثمانية وثلاثون حديثًا، اتفق الشيخان على حديث، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بثلاثة، روى عنه مالك بن أبي عامر، والسائب بن يزيد، وقيس بن أبي حازم، وأبو عثمان النهدي.
وعن عائشة: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال: ذلك يوم كله لطلحة، وسَمَّاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم طلحةَ الخير، وطلحة الجود، وطلحة
الفَيَّاض؛ قال قيس بن أبي حازم: رأيت يَدَ طلحة شَلاءَ، وَقَى بها النبيَّ صلى الله عليه وسلم يوم أحد.
ورُوي من وجوه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طلحة ممن قضى نَحْبَهُ"، استشهد يوم الجمل سنة 36 وخلف ثلاثين ألف درهم، ومن العين ألفي ألف ومائتي ألف دينار. أخرج له الجماعة. اهـ "صة" ص 180.
وفي "تت": وقال أبو عمر بن عبد البر: لا يختلف العلماء الثقات في أن مَرْوَان قَتَلَ طلحةَ. وعن قيس بن أبي حازم: كان مروان -يعني ابن الحكم- مع طلحة والزبير يوم الجمل، فلما شَبَّ الحربُ قال: إني لا أطلب بثأري بعد اليوم، فرمى طلحةَ بسهم، فأصاب ركبته، فمات منه، وعنَ علي رضي الله عنه أنه قال لعمران بن طلحة: إني لأرجو أن يجعلني الله وأبَاكَ من الذين قال الله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)} [الحجر: 47] اهـ. باختصار وتصرف. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رواته كلهم أجلاء، واتفقوا على التخريج لهم، وأنهم مدنيون، إلا شيخه فبَغْلانِيّ، وأنّ فيه رواية الراوي عن عمه، عن أبيه: مالك، عن أبي سهيل، عن أبيه، وأن أبا سهيل، ووالده، وطلحة: هذا البابُ أوَّلُ محلٍّ ذكروا فيه.
وقال العيني: وطلحة في الصحابة جماعة، وطلحة بن عبيد الله اثنان؛ هذا أحدهما، وثانيهما: التيمي، وكان يسمى أيضًا طلحة الخير،
فأشكل على الناس. اهـ. "عمدة" جـ 1 ص 265. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي سهيل) نافع بن مالك، (عن أبيه) مالك بن أبي عامر الأصبحي (أنه سَمِعَ طلحةَ بنَ عبيدِ الله) رضي الله عنه (يقول) في محل نصب على الحال، أو مفعول ثان لسمع، على خلاف في ذلك بين النحاة (جاء رجل) جزم ابن بطال وآخرون بأنه ضِمَام بنُ ثعلبَة، وَافِدُ بني سعد بن بكر، قال الحافظ: والحامل لهم على ذلَك إيراد مسلم لَقصتة عَقِبَ حديث طلحة، ولأن في كل منهما أنه بَدَوِيّ، وأن كلًا منهما قالَ في آخر حديثه:"لا أزيد على هذا، ولا أنقص منه"، لكن تعقبه القرطبي بأن سياقهما مختلف، وأسئلتهما متباينة، قال: ودَعوَى أنهما قصة واحدة دعوى فَرَط، وتكلف شطط من غير ضرورة. والله أعلم.
وقوَّاه بعضهم بأن ابن سعد وابن عبد البر وجماعة لم يذكروا لضمام إلا الأول، وهذا غير لازم. اهـ. "فتح" جـ 1 ص 131.
(إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) متعلق بجاء (من أهل نجد) متعلق بمحذوف صفة لرجل، و"نجد" -بفتح النون وسكون الجيم- قال الجوهري: نجد من بلاد العرب، وما كان فَوقَ العالية، والعاليةُ: ما كان فوق نجد إلى أرض تهامة إلى ما وراء مكة، فما كان دون ذلك إلى أرض العراق فهو نجد، ويقال له أيضًا: النَّجْد -أي بفتح فسكون- والنُّجُد -أي بضمتين- لأنه في الأصل صفة. قاله في اللسان جـ 6
ص 4346.
وقال المجدُ: النَّجد: ما أشْرَفَ من الأرض جمعه: أنجْدٌ، وأنْجَادٌ، ونجَادٌ -بالكسر- ونُجُودٌ- بالضم، ونُجُدٌ -بضمتين-، وجمع النُّجُود: أنْجِدَة، والطريقُ الواضحُ المرتفعُ، وما خالف الغَوْرَ، أي تَهامَةَ، وتضم، جميعة مُذَكَّر، أعلاه تِهامَةَ واليمنُ، وأسفله العِرَاقُ والشامُ،
وأوله من جهة الحجاز ذات عرق. اهـ "ق"
(ثائر الرأس) بالرفع صفة لرجل، والنصب على الحال من رجل، وإنما جاز نصبه على الحال مع إضافته إلى الرأس، وشرط الحال أن تكون نكرة؛ لكون إضافته لفظية لا تفيد التعريف، وإنما تفيد التخفيف. أفاده الكرماني.
وإنما جاز تأخيره عن صاحبه مع أن صاحب الحال إذا كان نكرة وجب تقديم الحال عليه؛ لكونه موصوفا بالجار والمجرور، قال في "الخلاصة":
ولَمْ يُنَكَّرْ غَالِبًا ذُو الحَالِ إِنْ
…
لَمْ يَتَأخَّرْ أوْ يُخَصَّصْ أوْ يَبِنْ
مِنْ بَعْدِ نَفيٍ أوْ مُضَاهِيهِ كَلا
…
يَبْغِ امْرُؤٌ عَلَى امْرِىءٍ مُسْتَسْهِلا
ومعنى "ثائر الرأس": مُنْتَفِش شعر الرأس، والمواد أنَّ شعره متفرق من عدم الرفاهية، ففيه إشارة إلى قرب عهده بالوِفَادَة، وأوقع اسم الرأس على الشعر إما مبالغةً، أو لأن الشعر منه نَبَتَ. قاله في "الفتح"
جـ 1 ص 131.
(نسمع) بالنون على بناء الفعل للفاعل، أو بالياء على بناءه للمفعول، وكذا قوله:"ولا نفهم" كما أفاده في الفتح (دويّ صوته) مفعول به لنسمع على الأول، ونائب فاعل على الثاني.
والدَّويُّ -بفتح الدال وكسر الواو وتشديد الياء- وحكي ضم الدال، وصوب القاضي عياض الفتح.
قال الخطابي: الدوي صوت مرتفع متكرر لا يُفْهَمُ، وإنما كان كذلك لأنه نَادَى من بعد، ويقال: الدوي بُعْدُ الصوت في الهواء وعُلُوُّه، ومعناه: صوت شديد لا يفهم منه شيء، كدوي النحل.
وقال الشيخ قطب الدين: هو شدة الصوت وبعده في الهواء، مأخوذ من دوي الرعد، ويقال: هو شدة صوت لا يفهم، فلما دَنَا فُهِمَ كلامه، فلهذا قال:"فلما دنا فإذا هو يسأل" وقال الجوهري: دوي الريح: حَفِيفُها، وكذلك دَوِيُّ النحل والطائرِ. اهـ. "عمدة" جـ 1 ص 366.
(ولا نفهم ما يقول) بالضبط المذكور آنفًا، و"ما" موصولة، و"يقول" صلتها، والعائد محذوف، أي لا نفهم الكلام الذي يقوله (حتى دنا)، "حتى" هنا للغاية بمعنى "إلى" أي: إلى أن دنا، أي قَرُبَ من مجلسهم (فإِذا هو يسأل)، "إذا" هنا للمفاجأة، وهي تختص بالجمل الاسمية، ولا تحتاج إلى جواب، ولا تقع في الابتداء، ومعناه
الحال لا الاستقبال، وهي حرف، وقيل: ظرف مكان، وقيل: ظرف زمان. وقوله "هو" مبتدأ، وجملة "يسأل" خبره (عن الإسلام) أي عن شرائع الإسلام. ويحتمل أنه يسأل عن حقيقة الإسلام. وإنما لم يذكر له الشهادة، لأنه عَلمَ أنه يَعْلَمُهَا أو عَلمَ أنه إنما يسأل عن الشرائع
الفعلية، أو ذَكَرَها ولم ينقَلها الراوي لشهرتهَا.
وإنما لم يذكر الحج إمّا لأنه لم يكن فُرِضَ بَعْدُ، أو الراوي اختصره، ويؤيد الثاني ما أخرجه البخاري في الصيام من طريق إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل في هذا الحديث قال:"فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام، فدخل فيه باقي المفروضات، بل المندوبات". قاله في الفتح، وسيأتي مزيد بسط على هذا في المسائل الآتية إن شاء الله تعالى.
(فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات") يجوز فيه الرفع والنصب والجر؛ أما الرفع فعلى أنه خبر مبتدإ محذوف، أي هي خمس صلوات، وأما النصب فعلى تقدير "خذ" خمس صلوات، أو نحوها، وأما الجر فعلى أنه بدل من الإسلام، وفيه حذف أيضا، أي إقامة خمس صلوات، لأن عين الصلوات الخمس ليست عين الإسلام، بل إقامتها من شرائع الإسلام. أفاده العيني.
وفيه أنه لا يجب شيء من الصلوات في كل يوم وليلة غير الخمس، خلافًا لمن أوجب الوتر، أو ركعتي الفجر، أو صلاة الضحى، أو صلاة العيد، أو الركعتين بعد المغرب. قاله في "الفتح" جـ 1 ص 132.
(قال) الرجل السائل (هل علي غيرهن)، "هل" للاستفهام، "وعليّ" جار ومجرور خبر مقدم، و"غيرهن" مبتدأ مؤخر.
والمعنى: هل يجب عَلَيّ غير هذه الصلوات الخمس من جنس الصلاة، وإلا لا يصح النفي في الجواب ضرورة أن الصوم والزكاة غيرهن. أفاده السندي.
(قال) صلى الله عليه وسلم (لا) أي ليس يجب عليك شيء غيرهن (إلا أن تَطَّوَّع)
استثناء من قوله "لا".
و"تطوع" بتشديد الطاء والواو، وأصله تتطوع بتاءين، فأدغمت الثانية في الطاء، ويجوز تخفيف الطاء على حذف إحدى التاءين، كما قال في الخلاصة:
وَمَا بِتَاءَيْن ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ
…
فِيهِ عَلَى تَا كَتَبَيَّنُ العِبَرْ
وهل المحذوفة هي الزائدة، لزيادتها، أو الأصلية، لأن الزائدة جيء بها لإفادة معنى، فلو حُذفَت لَفَاتَ الغرض الذي زيدت من أجله، فيه خلاف بين البصريين والكَوفيين، ويجوز إظهار التاءين أيضًا من غير إدغام. وقال النووي: والمشهور التشديد.
ومعناه: إلا أن تفعله بطواعيتك. واستدل به من قال إن الشروع في التطوع يوجب إتمامه تمسكًا بأن الاستثناء فيه متصل. وسيأتي تحقيق القول في ذلك في المسائل الآتية، إن شاء الله تعالى.
(قال) صلى الله عليه وسلم (وصيام شهر رمضان) عطف على "خمس" بالأوجه الثلاثة (قال) الرجل (هل عليّ غيره؟) من جنس الصيام (قال) صلى الله عليه وسلم (لا) يجب عليك غيره (إلا أن تطوع) بالضبط المتقدم ومعناه، قال الراوي:(وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة) أي بَيَّنَ له في جملة ما بَيَّن من الفرائض، وجوب الزكاة.
وكان الراوي -وهو طلحة بن عبيد الله- نسي ما نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والتبس عليه، فقال: وذكر له الزكاة.
وفيه أن من التبس عليه شيء من الألفاظ ينبغي له أن يشير في لفظه إلى ما يُنِبىءُ عنه، كما فَعَل الراوي هنا. أفاده البدر العيني رحمه الله. "عمدة" جـ 1 ص 268.
وفي رواية إسماعيل بن جعفر قال: أخبرني بما فَرَضَ اللُه عليّ من الزكاة، قال: فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام.
قال الحافظ: فتضمنت هذه الرواية أن في القصة أشياء أجْملَت، منها بيانُ نُصُب الزكاة، فإنها لم تفسر في الروايتين، وكذا أَسماء الصلوات، وكأن السبب فيه شهرة ذلك عندهم، أو القصد من القصة بيان أن المُتَمَسِّك بالفرائض نَاجٍ، وإن لم يفعل النوافل. اهـ. "فتح" جـ 1 ص 132.
(قال) الرجل (هل عليّ غيرهما) أي غير الزكاة من الحقوق المتعلقة بالمال (قال) صلى الله عليه وسلم (لا) أي لا يجب عليك غيرها (إلا أن تطوع)
بالضبط المتقدم ومعناه، قال طلحة:(فأدبر الرجل) من الإدبار، وهو التَّوَلِّي، أي ذهب مُوَلِّيًا دُبُرَهُ إليهم (وهو يقول) جملة حالية من الرجل (والله) وفي رواية إسماعيل بن جعفر، فقال: والذي أكرمك (لا أزيد على هذا) أي لا أزيد على هذا الذي ذكرتَ لي (ولا أنقص منه) من باب قَتَلَ من النقص، وفي لغة ضعيفة من الإنقاص رباعيًّا.
قال العلامة الفَيُّومِيُّ: نَقَصَ نَقْصًا من باب قتل، ونُقْصَانًا، وانْتَقَصَ: ذهب منه شيء بعد تمامه، ونقصته يَتَعَدَّى ولا يَتَعَدَّى، هذه اللغة الفصيحة، وبها جاء القرآن في قوله تعالى:{نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: 41]، {غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود: 109]، وفي لغة ضعيفة يتعدى بالهمزة والتضعيف، ولم يأت في كلام فصيح، ويتعدى أيضًا بنفسه إلى مفعولين، فيقال: نقصت زيدًا حقَّهُ، وانتقصته مثله. اهـ. "المصباح" جـ 2 ص 621.
قال الجامع عفا الله عنه: وما هنا من المتعدي، حذف مفعوله، أي لا أنقص منه شيئًا، كما بُيِّنَ في رواية إسماعيل بن جعفر "لا أتطوع شيئًا، ولا أنقُصُ مما فرض الله عليّ شيئًا".
وفي هذا الحديث جواز الحلف في الأمر المهم.
(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح) أي فاز وظَفِرَ ببُغْيَتِهِ، من الإفلاح، وهو الفوز والبقاء، وقيل: هو الظَّفَرُ وإدراكَ البُغْيَة، وَقيل: إنه عبارة
عن أربعة أشياء: بَقَاء بلا فَنَاء، وغَنَاءٌ بلا فَقْرٍ، وعزّ بلا ذُلٍّ، وعلْم بلا جَهْل، قالوا: ولا كَلمَةَ في اللغة أجمعُ للخيرات منهَ، والعرب تقول لكل من أصاب خيرًا: مُفْلِح، وقال ابن دُرَيْد: أفلح الرجل، وأنجح: أدرك مطلوبه. قاله البدر العيني.
(إن صدق) جواب "إنْ" محذوف دل عليه السابق، أي أفلح.
ووقع في رواية مسلم من رواية إسماعيل بن جعفر المذكورة: "أفلح وأبيه إن صدق"، أو "دَخَلَ الجنةَ وأبيه إن صدق"، ولأبي داود مثله، لكنه بحذف "أو".
وفي قوله "أفلح إن صدق" ردٌ على المرجئة حيث إنه شَرَطَ في إفلاحه أن لا ينقص من الفرائض شيئًا. والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بحديث طلحة رضي الله عنه هذا.
المسألة الأولى: في درجته:
حديث طلحة رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف رحمه الله:
أخرجه المصنف هنا في "المجتبى"(458) وفي "الكبرى"(319) عن قتيبة، عن مالك، وفي "الصوم" في "المجتبى"(2090) و"الكبرى"(2400) عن علي بن حُجْر، عن إسماعيل بن جعفر، وفي "الإيمان" في "المجتبى"(5028) عن محمد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك، عن عمه أبي سهيل عن أبيه، عن طلحة رضي الله عنه.
والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود؛ فأخرجه البخاري في "الإيمان"، وفي "الشهادات"، عن إسماعيل بن أبي أويس، عن مالك به، وفي الصوم، وفي ترك الحِيَلِ عن قتيبة، عن إسماعيل بن جعفر، عن أبي سهيل، به.
وأخرجه مسلم في "الإيمان" عن قتيبة، عن مالك به، وعن قتيبة، ويحيى بن أيوب كلاهما عن إسماعيل بن جعفر به.
وأخرجه أبو داود في "الصلاة" عن القعنبي، عن مالك به، وفي الصلاة، والأيمان، والنذور عن أبي الرَّبيعِ سليمان بن داود، عن إسماعيل بن جعفر، به. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: أن الصلاة ركن من أركان الإسلام، ومنها: أنها خمس صلوات في اليوم والليلة، ومنها: أن الصوم ركن من أركان الإسلام، وهو في كل سنة شهر واحد، ومنها: أن الزكاة ركن من أركان الإسلام ومنها: أن قيام الليل ليس واجبًا، وهو إجماع في حق الأمة، وكذا في
حقه صلى الله عليه وسلم على الأصح.
ومنها: عدم وجوب صلاة العيدين، وقال الإصطخري من أصحاب الشافعي صلاة العيدين فرض كفاية والحديث يرد عليه.
ومنها: عدم وجوب صوم عاشوراء وغيره سوى رمضان، وهذا
مجمع عليه الآن، واختلفوا أنّ صوم عاشوراء كان واجبًا قبل رمضان، أم لا؟ فعند الشافعي في الأظهر: ما كان واجبًا، وعند أبي حنيفة كان واجبًا، وهو وجه للشافعي.
ومنها: أنه ليس في المال حق سوى الزكاة على من ملك نصابًا، وتَمَّ عليه الحول، ومنها: أن من أتى بالخصال المذكورة، وواظب عليها صار مفلحًا بلا شك، ومنها: أنّ السفر والارتحال من بلد إلى بلد لأجل تعلم علم الدين والسؤال عن الأكابر أمر مندوب.
ومنها: جواز الحلف بالله تعالى من غير استحلاف ولا ضرورة؛ لأن الرجل حلف هكذا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يُنْكِر عليه، ومنها: صحة
(1)
الاكتفاء بالاعتقاد الجازم من غير نظر ولا استدلال خِلافَ ما قرره علماء الكلام من وجوب النظر والاستدلال، وهو مذهب باطل لا دليل عليه من النصوص.
ومنها: أن فيه الردَّ على المرجئة حيث إنه شَرَطَ في فلاحه أن لا ينقص من الأعمال المفروضة عليه، ومنها: أن فيه استعمالَ الصدق في الخبر المُستقبل، وقال ابن قتيبة: الكذب مخالفة الخبر في الماضي، والخُلْف مخالفته في المستقبل، فيجب على هذا أن يكون الصدق في
(1)
قال العيني هنا: صحة الاكتفاء بالاعتقاد من غير نظر ولا استدلال، لكنه يحتمل أن
ذلك صح عنده بالدليل، وإنما أشكلت عليه الأحكام. اهـ.
قال الجامع: في هذا الاستدراك نظر لا يخفى؛ بل الصواب في المسألة أنه لا دليل على وجوب النظر والاستدلال، بل مجرد الاعتقاد كاف. والله أعلم.
الخبر الماضي، والوفاء في المستقبل، وفي هذا الحديث ما يَرُدُّ عليه مع قوله تعالى:{وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65]. ذكر هذه الفوائد البدر قاله العيني في "عمدة القاري" جـ 1 ص 269.
المسألة الخامسة: في قوله: (أفلح إِن صدق) كيف أثبت له الفلاح بمجرد ما ذكر مع أنه لم يذكر له المنهيات، ولا جميع الواجبات؟
وأجيب بأنه جاء في رواية البخاري في آخر هذا الحديث قال: فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام، فأدبر الرجل، وهو يقول: لا أزيد، ولا أنقص مما فرض الله عليّ شيئًا، فعلى عموم قوله "بشرائع الإسلام"، وقَولِهِ "مما فرض الله عليّ" يزول الإشكال.
وأما قول ابن بطال: يحتمل أن يكون ذلك وَقَعَ قبلَ وُرُود فرائض النهي، فقال الحافظ: هو عجيب منه، لأنه جزم بأن السائلَ ضِمَامٌ، وأقْدَمُ ما قيل فيه أنه وَفَدَ سنة خمس، وقيل: بعد ذلك، وقد كانَ أكثر المنهيات واقعًا قبل ذلك. والله تعالى أعلم.
المسألة السادسة:
أن إثبات الفلاح له في عدم النقص واضح، فكيف يصح ذلك في عدم الزيادة؟
وقد أجاب النووي رحمه الله بأنه أثبت له الفلاح، لأنه أتى بما عليه، وليس فيه أنه إذا أتى بزائد على ذلك لا يكون مُفْلِحًا، لأنه إذا أفلح بالواجب ففلاحه بالمندوب مع الواجب أولى. أفاده. في "الفتح" جـ 1
ص 133. والله تعالى أعلم.
المسألة السابعة:
كيف أقرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الرجلَ على حلفه، وقد ورد النكير على من حلف أن لا يفعل خيرًا؟
أجيب بأن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، وهذا جارٍ على الأصل بأنه لا إثم على غير تارك الفرائض، فهو مفلح، وإن كان غيره أكثر فلاحًا منه.
وقال الطيبي: يحتمل أن يكون هذا الكلام صَدَرَ منه على طريق المبالغة في التصديق والقبول، أي قبلت كلامك قبولًا لا مزيد عليه من جهة السؤال، ولا نقصان فيه من طريق القبول.
وقال ابن المُنَيِّر: يحتمل أن تكون الزيادة والنقص تتعلق بالإبلاغ، لأنه كان وَافِدَ قومه ليَتَعَلَّمَ ويُعَلِّمَهُم.
قال الحافظ: والاحتمالان مردودان برواية إسماعيل بن جعفر، فإنَّ نصها "لا أتطوع شيئًا، ولا أنقص مما فرض الله علي شيئًا".
وقيل: مراده بقوله "لا أزيد، ولا أنقص" أي لا أغَيِّرُ صفةَ الفرض، كمن ينقص الظهر مثلًا ركعة، أو يزيد المغرب. لكن يعكر عليه كما قال الحافظ لفظ التطوع في رواية إسماعيل بن جعفر. والله أعلم. "فتح" جـ 1 ص 133. والله تعالى أعلم.
المسألة الثامنة:
أنه لمَ لَمْ يذكر الحج في هذا الحديث؟ وأجيب بأنه حينئذ لم يُفْرَضِ الحجُّ، أَو لأن الرجل سأل عن حاله حيث قال: هل علي غيرها؟ فأجاب صلى الله عليه وسلم بما عرف من حاله؛ ولعله ممن لم يكن الحج واجبًا عليه، وقيل: لم يأت في هذا الحديث بالحج كما لم يُذكَر في بعضها الصومُ، وفي بعضها الزكاةُ، وقد ذُكرَ في بعضها صلةُ الرحم، وفي بعضها أداءُ الخمس، فتفاوتت هذه الأحاديث في عدد خصال الإيمان زيادة ونقصانًا، وسبب ذلك تفاوت الرواة في الحفظ والضبط، فمنهم من اقتصر على ما حفظه،. فأدَّاه، ولم يتعرض لما زاده غيره بنفي ولا إثبات، وذلك لا يمنع من إيراد الجميع في الصحيح، لما عرفت أن زيادة الثقة مقبولة. انظر "عمدة القاري" جـ 1 ص 269.
وقد ذكر هناك قاعدة أصولية تركتها لعدم كونها جارية على طريقة المحدثين
(1)
. والله تعالى أعلم.
المسألة التاسعة:
أنه قد اختَلفَ العلماءُ في أن الشروع في التطوع هل يوجب إتمامه، أم لا؟ وسبب اختلافهم في هذا هو الاستثناء الواقع في هذا الحديث في
(1)
القاعدة الأصولية هي أن الحديث إذا رواه راويان، واشتملت إحدى الروايتين على زيادة، فإن لم تكن مغيرة لإعراب الباقي قُبِلَت، وحمل ذلك على نسيان الراوي، وذهوله، أو اقتصاره على المقصود منه في صورة الاستشهاد، وإن كانت مغيرة تعارضت الروايتان، وتعين طلب الترجيح.
قوله "إلا أن تطوع".
قال الحافظ في "الفتح": واستُدِلَّ بهذا علي أن الشروع في التطوع يوجب إتمامه تمسكًا بأن الاستثناء فيه متصل، قال القرطبي: لأنه نَفَى وجوبَ شيء آخر إلا ما تطوع به، والاستثناء من النفي إثبات، ولا قائل بوجوب التطوع، فَيَتَعَيَّنُ أن يكون المراد إلا أن تشرع في تطوع، فيلزمك إتمامه.
وتعقبه الطيبي بأن ما تمسك به مغالطة، لأن الاستثناء هنا من غير الجنس، لأن التطوع لا يقال فيه عليك، فكأنه قال: لا يجب عليك شيء، إلا إن أردت أن تطوع فذلك لك، وقد علم أن التطوع ليس بواجب، فلا يجب شيء آخر أصلًا. كذا قال.
وحرف المسألة دائرة على الاستثناء، فمن قال: إنه متصل تمسك بالأصل، ومن قال: إنه منقطع احتاج إلى دليل، والدليل عليه ما رَوَى النسائيُّ وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحيانًا ينوي صوم التطوع، ثم يفطر"، وفي البخاري: أنه أمر جُوَيْريَةَ بنت الحارث أن تفطر يوم الجمعة بعد أن شرعت فيه، فدل على أن الشَروع في العبادة لا يستلزم الإتمام -إذا كانت نافلة- بهذا النص في الصوم، وبالقياس في الباقي.
فإن قيل: يَرِدُ الحج، قلنا: لا، لأنه امتاز عن غيره بلزوم المضي في فاسده، فكيف في صحيحه. وكذلك امتاز بلزوم الكفارة في نفله كفرضه. والله أعلم.
قال الجامع: في قوله: امتاز بلزوم المضي في فاسده نظر، لأنه لا
دليل على هذا. فتبصر.
قال الحافظ: على أن في استدلال الحنفية نظرًا لأنهم لا يقولون بفرضية الإتمام، بل بوجوبه، واستثناء الواجب من الفرض منقطع لتباينهما، وأيضًا فإن الاستثناء من النفي عندهم ليس للإثبات، بل مسكوت عنه، وقوله "إلا أن تطوع" استثناء من قوله "لا" أي لا فرض عليك غيرها. اهـ. "فتح" جـ 1 ص 132.
قال الجامع عفا الله عنه. الذي يترجح عندي أن من شَرَعَ في نفل الصلاة يلزمه إتمامه لقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، وأما إذا أفسده فليس عليه القضاء لعدم دليل على ذلك، وأما من شَرَعَ في نفل الصوم فله الفطر، لما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان ينو صومًا ثم يفطر، ولحديث الجويرية المتقدم، ولا يجب عليه القضاء، لما رواه البخاري من حديث أبي جُحَيفة رضي الله عنه قال: "آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وبين أبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أمَّ الدرداءُ مُتَبَذِّلةً، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعامًا فقال: كُلْ، فإني صائم، فقال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل
…
" الحديث. فقد استحسن صلى الله عليه وسلم فعل سلمان ولم يُلْزِم أبا الدرداء بالقضاء.
والحاصل أن الصلاة يلزم إتمامها بالشروع للآية المتقدمة، وأما الصوم وإن كانت الآية تشمله إلا أن الأدلة خصصته.
وأما قياس الصلاة على الصوم في هذا التخصيص، كما قاله
الحافظ فغير واضح. فتأمل.
وأما ما قاله ابن عبد البر من أن من احتج بهذه الآية على منع إبطال النوافل بعد الشروع فهو جاهل بأقوال أهل العلم، فإن الأكثر على أن المراد بذلك النهي عن الرياء، وقال آخرون: لا تبطلوا بارتكاب الكبائر، ولو كان المراد بذلك، النهي عن إبطال ما لم يفرض الله عليه، ولا أوجب على نفسه بنذر، أو غيره لامتنع عليه الإفطار إلا بما يبيح الفطر من الصوم الواجب، وهم لا يقولون بذلك. اهـ. فمردود بكون العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، كما قاله الشوكاني، وبأن ما ذكره من الصوم إنما جاز الفطر فيه -وإن كانت الآية تشمله- للنصوص الواردة بذلك. والله أعلم، ومنه التوفيق، هو حسبنا، ونعم الوكيل.
رجال الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة) بن سعيد البَغْلاني، ثقة ثبت، من [10]، تقدم في 1/ 1.
2 -
(نوح بن قيس) بن رَبَاح الأزدي، أبو رَوْحٍ البصري، أخو خالد، صَدُوق رُمِيَ بالتشيع، توفي سنة 183 أو 184، من [8].
وفي "تت": الحُدّاني -بضم الحاء المهملة، وتشديد الدال المهملة-، ويقال: الطَّاحيُّ، قال أحمد وابن معين في رواية عثمان الدارمي عنه: ثقة، وقال أَبو داود: ثقة، بلغني عن يحيى أنه ضَعَّفَهُ، وقال مرة: يتشيع، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال ابن شاهين في
الثقات: قال ابن معين: هو شيخ صالح الحديث، وقال العجلي: بصري ثقة، وقال ابن سعد: نوح بن قيس الحُدَّاني كان ينزل سُوَيقَةَ طاحية فنسب إليها. اهـ. أخرج له الجماعة إلا البخاري.
3 -
(خالد بن قيس) بن رباح الأزدي الحداني البصري، صدوق يُغَرِّب، من [7].
وفي "تت": قال ابن معين: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال العجلي: ثقة، وقال ابن شاهين في الثقات: قال ابن المديني: ليس به بأس، وقال الأزدي: خالد بن قيس عن قتادة فيها مناكير، روى عنه أخوه نوح، ونوح صدوق. اهـ. أخرج له مسلم، وأبو داود، والترمذي في "شمائله"، وابن ماجه.
4 -
(قتادة) بن دِعَامَةَ السَّدُوسِيُّ أبو الخطاب البصري، ثقة ثبت
من [4]، تقدم في 30/ 34.
5 -
(أنس بن مالك) الصحابي رضي الله عنه، تقدم في 6/ 6. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسياته، وأن رجاله موثقون، وكلهم بصريون، إلا شيخه فبَغْلاني، وفيه رواية الراوي عن أخيه، وأن نوحًا وخالدًا هذا الباب أول محل ذكرهما من الكتاب، وفيه أنس أحد المكثرين السبعة روى 2286 حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أنس) بن مالك رضي الله عنه، أنه (قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم) لم أجد تسمية هذا الرجل (فقال: يا رسول الله كم افترض الله عز وجل على عباده؟ قال) صلى الله عليه وسلم (افترض على عباده صلوات خمسًا) هكذا في بعض النسخ "خمسًا" بالنصب بدلا من "صلوات"، وفي بعضها "خمس" بالرفع، قال السندي: فهو إما مرفوع بتقدير "هي خمس"، أو جملتها خمس، أو منصوب لكن حذف الألف
خطًّا على دَأبِ كتابة أهل الحديث، فإنهم كثيًرا ما يكتبون المنصوب بلا ألف. اهـ.
(قال) الرجل (يا رسول الله هل قبلهن) متعلق بفعل محذوف،
أي افترض قبلهن أي الصلوات الخمس (أو) افترض (بعدهن شيئًا) بالنصب مفعولًا للفعل المقدر، وفي الهندية "شيء" بالرفع، وعليه يكون مبتدأ مؤخرًا خبره الظرف قبله. (قال) صلى الله عليه وسلم (افترض الله على عباده صلوات خمسًا) يعني أنه لم يفترض عليهم غير الخمس لا قبلها ولا بعدها (فحلف الرجل لا يزيد علية شيئًا) ذكَّر الضميرَ بالتأويل بالمذكور، أي لا يزيد على المذكور من الصلوات الخمس لا قليلًا، ولا كثيرًا، ومثله قوله (ولا ينقص منه شيئًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إِن صدق) أي فيما قاله، من الالتزام بما ذكر من غير زيادة ولا نقص، وقوله (ليدخلن الجنة) جواب قسم مقدر، أي والله ليدخلن الجنة، وجواب الشرط محذوف دلّ عليه جواب القسم تقديره "دخل الجنة"،
أو الجواب جملة القسم بتقدير الفاء، أي:"فوالله ليدخلن الجنة".
تنبيه:
هذا الحديث من أفراد المصنف، وهو صحيح، ولم يخرجه إلا في هذا الموضع. وفوائده تقدمت في الحديث السابق. والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
5 - بَابُ البَيْعَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية المبايعة على أداء الصلوات الخمس.
والبيعة: -بفتح فسكون- بذل الطاعة للإمام، قاله المناوي
(1)
وقال الراغب: وَبَايَعَ السلطان: إذا تَضَمَّنَ بَذْلَ الطاعة له بما رضخ له، ويقال لذلك بَيْعَة، ومُبَايَعَة. اهـ
(2)
.
460 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَبِيبُ الأَمِينُ: عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الأَشْجَعِيُّ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم"، فَرَدَّدَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَدَّمْنَا أَيْدِيَنَا، فَبَايَعْنَاهُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ بَايَعْنَاكَ، فَعَلَامَ؟ قَالَ: "عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ، وَلَا
(1)
"التوقيف على مهمات التعريف" ص 153.
(2)
المفردات ص 155.
تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ"، وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً "أَنْ لَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا".
رجال الإسناد: سبعة
1 -
(عمرو بن منصور) النسائي، أبو سعيد الخافظ، ثقة ثبت، من [11]، أخرج له النسائي، وتقدم في 108/ 147.
2 -
(أبو مسهر) عبد الأعلى بن مُسْهِر الغَسَّاني الدمشقي، ثقة فاضل من كبار [10].
وفي تهذيب الكمال: ذكره ابن سعد في الطبقة السابعة من أهل الشام، وقال أبو زرعة الدمشقي: قال لي أحمد بن حنبل: كان عندكم ثلاثة أصحاب حديث: مروانُ، والوليدُ، وأبو مسهر. وقال أبو داود: سمعت أحمد يقول: رَحِمَ اللهُ أبا مسهر، ما كان أثبته، وجَعَلَ يُطْرِيه.
وقال أبو الحسن الميموني: وذكر يوما -يعني أحمد بن حنبل- أبا مسهر الشامي، فقال: كَيّسٌ، عالم بالشاميين، قلت: وبالنسب؟ قال: نعم، زَعَمُوا. وقال أبو بكر بن أبي خيثمة عن يحيى بن معين، وأبو حاتم، وأحمد بن عبد الله العجلي: ثقة. وقال أحمد بن أبي الحواري عن يحيى بن معين: ما رأيت منذ خرجت من بلادي أحدًا أشبه بالمشْيَخَةِ الذين أدركتهم من أبي مسهر، والذي يحدث وفي البلد أولى
منه فهو أحمق.
وقال إبراهيم بن يعقوب الجُوزَجَانِّي: سمعت يحيى بن معين يقول: إنّ الذي يحدث بالبلد وبها من هوَ أولى منه بالحديث أحمق، إذا رأيتني أحدث ببلدة فيها مثل أبي مسهر، فينبغي لِلِحَيتي أن تُحْلَقَ، وأمَرّ يَدَهُ على لحيته.
وقال أبو زرعة الدمشقي عن أبي مسهر: وُلِدَ لي، والأوزاعيُّ حي، وجالستُ سعيدَ بنَ عبد العزيز ثنتي عشرة سنة، وما كان أحد من أصحابه أحفظ لحديثه مني، غير أني نسيت.
وقال في موضع آخر: سمعت أبا مسهر يقول: قال سعيد بن عبد العزيز: ما رأيت أحسن مسألة منك بعد سليمان بن موسى. وقال أيضا قال لي سعيد: ما شَبَّهْتُكَ في الحفظ إلا بجَدِّكَ أبى ذُرَامَةَ، ما كان يسمع شيئًا إلا حفظه.
وقال أبو زرعة الدمشقي: قال محمد بن عثمان التَّنُوخيُّ: ما بالشام مثل أبي مسهر، وذكر أبا مسهر، فقال: كان أحفظ الناس، فقلت له: قال يحيى بن معين: منذ خرجت من باب الأنبار إلى أن رجعت لم أرَ مِثلَ أبي مسهر. قال: صَدَقَ، وجعل يُثْنِي عليه. وقال فَيَّاض بن زُهَير عن يحيى بن معين: من ثَبَّتهُ أبو مسهر من الشاميين فهو ثَبْت.
وقال أبو زرعة الدمشقي أيضًا: رأيت أبا مسهر يحضر المسجد الجامع بأحسن هيئة في البياض والساج والخف، ويَعْتَمُّ على شامية
طويلة بعمامة سوداء عَدَنِيَّة.
وقال عبد الملك بن الأصبغ عن مروان بن محمد: أين أنا من أبي مسهر، كان سعيد بن عبد العزيز يسند أبا مسهر معه في صدر المجلس، وأنا بين يدي سعيد في طيلساني عشرون رُقْعَةً.
وقال أبو حاتم الرازي: ما رأيت ممن كَتَبْنَا عنه أفصح من أبي مسهر، وما رأيت أحدًا في كورة من الكُوَرِ أعظم قدرًا، ولا أجل عند أهلها من أبي مسهر بدمشق، وكنت أرَىَ أبا مسهر إذا خرج إلى المسجد اصطَّف الناس يسلمون عليه ويقبلون يده.
وقال أحمد بن علي بن الحسن البصري: سمعت أبا داود، وقيل له: إن أبا مسهر كان متكبرًا في نفسه، فقال: كان من ثقات الناس، رَحِمَ الله أبا مسهر لقد كان من الإسلام بمكان، حُمِلَ على الِمحْنَة فَأبَى، وحُمِلَ على السيف فمدَّ رأسه وجُرِّدَ السيفُ فأبى أن يجيب، فلما رأوا ذلك منه حُمِلَ إلى السجن، فمات.
وقال أبو حاتم بن حبان: كان إمام أهل الشام في الحفظ والإتقان، ممن عُنِي بأنساب أهل بلده وأنبائهم، وإليه يرجع أهل الشام في الجرح والعدالة لشيوخهم.
وقال محمد بن سعد: كان رَاوِيَةً لسعيد بن عبد العزيز وغيره من الشاميين، وكان أشْخِصَ من دمشق إلى عبد الله بن هارون -يعني المأمون- وهو بالرَّقَّةِ، فسَأله عن القرآن؟ فقال: هو كلام الله، وأبي أن
يقول: مخلوق، فدعا له بالسيف والنَّطع ليضرب عنقه، فلما رأى ذلك، قال: مخلوق، فتركه من القتل، وقال: أما إنك لو قلت ذاك قبل أن أدعو لك بالسيف لقبلت منك، ورددتك إلى بلادك وأهلك، ولكنك تخرج الآن فتقول: قلت ذلك فَرَقًا من القتل، أشخصوه إلى بغداد فاحبسوه بها حتى يموت، فأشخص من الرَّقَّة إلى بغداد في شهر ربيع الآخر من سنة (218) فحُبِس قبل إسحاق بن إبراهيم، فلم يلبث في الحبس إلا يسيرًا حتى مات فيه في غُرَّة رجب سنة (218) فأخرج ليُدْفَنَ، فشهده قوم كثير من أهل بغداد.
وُلِدَ أبو مسهر في صفر سنة (140) ومات سنة (218) وله 78 سنة. أخرج له الجماعة.
3 -
(سعيد بن عبد العزيز) التَّنُوخيُّ الدمشقي، ثقة إمام، سَوَّاه أحمد بالأوزاعي، وقَدَّمَه أبو مسهر لكنهَ إختلط في آخر عمره، من [7].
وفي "تت": سعيد بن عبد العزيز بن أبي يحيى أبو محمد، ويقال: أبو عبد العزيز الدمشقي؛ قرأ القرآن على ابن عامر ويزيد بن أبي مالك، وسأل عطاءَ بنَ أبي رباح. قال أحمد: ليس بالشام رجل أصح حديثًا من سعيد بن عبد العزيز، هو والأوزاعي عندي سواء، ووثَّقه ابن معين وأبو حاتم، والعجلي.
وقال أبو زرعة الدمشقي: قلت لِدُحَيْم: مَنْ بَعْدَ عبد الرحمن
ابن يزيد بن جابر من أصحاب مكحول؟ قال: الأوزاعي، وسعيد، قال: قلت ليحيى بن معين، وذكرت له الحجةَ: محمدُ بنُ إسحاق منهم؟ قال: كان ثقة، إنما الحجة عبيد الله بن عمر، ومالك، والأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، وقال عمرو بن علي: حديث الشاميين ضعيف إلا نَفَرًا: منهم الأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، وقال أبو حاتم: كان أبو مسهر يقدم سعيد بن عبد العزيز على الأوزاعي، ولا أقدم بالشام بعد الأوزاعي على سعيد أحدًا، وقال مروان بن محمد: كان علم سعيد في صدره، وقال النسائي: ثقة ثبت، وقال أبو مسهر: كان قد اختلط قبل موته.
وقال الحاكم: هو لأهل الشام كمالك لأهل المدينة، في التقدم والفضل، والفقه، والإمامة، وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله، وقال أبو جعفر العامري: رأى أنسًا، وكان فاضلا دَيِّنًا وَرعًا، وكان مفتي أهل دمشق، وقال ابن حبان في الثقات: كان من عُبَّادِ أهل الشام وفقهائهم ومتقنيهم في الرواية.
وقال الآجري عن أبي داود: تَغَيَّرَ قبل موته، وكذا قال حمزة الكناني، وقال البخاري في تاريخه: قال علي عن الوليد بن مسلم: أحدثكم عن الثقات: صفوان بن عَمْرو، وابن جابر، وسعيد بن عبد العزيز، وقال الدُّوري عن ابن معين: اختلط قبل موته، وكان يعرض عليه، فيقول: لا أجيزها، لا أجيزها.
ولد سنة 90، وتوفي سنة 167، وقيل:168. أخرج له الجماعة.
4 -
(ربيعة بن يزيد) الدمشقي، أبو شُعَيبٍ الإيادي القَصِيرُ، ثقة عابد، توفي سنة 121 أو 123، من [4]، أخرج له الجماعة، وتقدم في 109/ 148.
5 -
(أبو إِدريس الخَوْلاني) عائذ الله بن عبد الله، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم يوم حُنَين، وسمع من كبار الصحابة، كان عالم الشام بعد أبي الدرداء، وتقدم في 72/ 88.
6 -
(أبو مسلم الخَوْلاني) عبد الله بن ثُوَب -بضم المثلثة وفتح الواو بعدها موحدة- وقيل: بإشباع الواو، وقيل: ابن أثْوَب -وزان أحْمَر- ويقال: ابن عوف، أو ابن مِشْكَم، ويقال: اسمه يعقوب بن عوف الشامي الزاهد، ثقة عابد، من [2].
وفي "تت": اليماني الزاهد الشامي، رَحَلَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فمات النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الطريق، فلقي أبا بكر، وذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من تابعي أهل الشام، وقال: كان ثقة، توفي زمن يزيد بن معاوية، وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ثقة، وقال العجلي: شامي تابعي ثقة من كبار التابعين، له في الكتب حديثٌ واحد عن عوف بن مالك. وعند الترمذي آخر عن معاذ.
وقال ابن عبد البر: أدرك الجاهلية، وأسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو معدود في كبار التابعين، وكان ناسكا عابدا، له كرامات.
ورَوَى ابن سعد في الطبقات عن شُرَحْبِيلَ بن مسلم، أن الأسود بن
قيس ذا الحمار تَنَبَّأ في اليمن، فبعث إلى أبي مسلم، فلما جاء قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: ما أسمع، قال: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم، قال: فردد ذلك مرارًا، فأمر بنار عظيمة، فأجِّجَتْ، ثم ألقي فيها، فلم تضره، فأمره بالرحيل، فأتى المدينة، وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم، واستخلف أبو بكر فذكر قصة الحديث في قول عمر لأبي بكر: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فُعِل به كما فُعِل بإبراهيم. اهـ. أخرج له مسلم، والأربعة.
7 -
(عوف بن مالك) الأشجعي، أبو حَمَّاد، ويقال غير ذلك، صحابي مشهور، من مُسْلمَة الفتح، وسكن دمشق، ومات سنة 73، وأخرج له الجماعة، وتقدمَ فيَ 50/ 62. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سباعيات المصنف، ومنها: أن رواته كلهم ثقات.
ومنها: أنهم شاميون إلا شيخه؛ فنسائي. ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: ربيعة، وأبو إدريس، وأبو مسلم.
ومنها: أن شيخه من أفراده؛ لم يرو عنه غيره من أصحاب الأصول. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي مسلم) عبد الله بن ثُوَب، وقيل غيره (الخَوْلاني) -بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو- نسبة إلى خَوْلان قبيلة نَزَلَت الشامَ، أنه (قال: أخبرني الحبيب الأمين) فعيل بمعنى مفعول، أي: المحبوب
المأمون، زاد في رواية مسلم "أما هو فحبيب إليّ، وأما هو عندي فأمين"(عوف بن مالك) بالرفع بدل من الحبيب، أو عطف بيان له (الأشجعي) نسبة إلى أشجع بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عَيْلان، قبيلة مشهورة. قاله في "اللباب" جـ 1 ص 64.
(قال) بدل من أخبرني، أو في محل نصب على الحال من الحبيب (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم) ولمسلم وأبي داود "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة، أو ثمانية، أو سبعة"، (فقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألا تبايعون)"ألا" هنا للعرض والتحضيض، ومعناهما طلب الشيء، لكن العرض طلب بلين، والتحضيض طلب بحَثٍّ، وتختص "ألا" هذه بالجملة الفعلية، نحو، {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22]، {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا} [التوبة: 13]. قاله ابن هشام في مغنيه جـ 1 ص 66 ففيه الحث على مبايعته صلى الله عليه وسلم.
(رسول الله صلى الله عليه وسلم) مفعول "تبايعون"، وإنما قال:"رسول الله" ولم يقل "تبايعوني" تنبيهًا على أن العلة الباعثة على المبايعة هي الرسالة. وجملة "صلى الله عليه وسلم" يحتمل أن تكون منه صلى الله عليه وسلم، وأن تكون من غيره. أفاده السندي.
(قال الجامع): الظاهر الثاني، والله تعالى أعلم.
(فرددها) أي المقالة؛ أي كرر النبي صلى الله عليه وسلم مقالته المذكورة (ثلاث مرات) تأكيدًا عليهم، قال عوف (فقدّمنا) من التقديم، أي مددنا (أيدينا) للمبايعة امتثالًا لأمره صلى الله عليه وسلم (فبايعناه) أي أردنا مبايعته،
(فقلنا: يا رسول الله قد بايعناك) وإنما قالوا ذلك لظنهم نسيانه صلى الله عليه وسلم كونهم مبايعين له، حيث إنهم كانوا قريبي عهد بالمبايعة؛ ففي رواية أبي داود "وكنا حديث عهد ببيعة"، فأرادوا تذكيره بذلك، أو أنهم أرادوا أن يستوضحوا ما هي البيعة المطلوبة منهم الآن؟ كما يدل عليه قولهم (فعلام) أي على أي شيء نبايعك، فـ "ما" استفهامية، وحذفت ألفها تخفيفًا، لكونها مجرورة، وتلحقها هاءُ السكت في الوقف، كما قال في "الخلاصة":
ومَا في الاسْتِفْهَامِ إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ
…
ألِفُها وأوْلِهَا الها إِنْ تَقِفْ
وفي بعض النسغ "فعلاما" بإثبات الألف، وفي رواية أبي داود:"فعلام نبايعك".
(قال) صلى الله عليه وسلم (على أن تعبدوا الله) متعلق بمحذوف، أي تبايعوني على عبادة الله تعالى، أي طاعته (ولا تشركوا به شيئًا) يحتمل أن يكون "شيئًا" مفعولًا به، أي لا تشركوا به شيئًا من الأشياء من غير فرق بين حيّ وميت وجَمَاد وحيوان، ويحتمل أن يكون مفعولًا مطلقًا، أي لا تشركوا به شيئًا من الشرك الأكبر، والأصغر، والجليّ، والخَفيّ، (والصلوات الخمس) عطف على قوله "أن تعبدوا الله"، أي وعلىَ إقامة الصلوات الخمس، زاد في رواية أبي داود "وتسمعوا، وتطيعوا"، قال عوف رضي الله عنه (وأسرَّ) من الإسرار أي أخفى النبي صلى الله عليه وسلم (كلمة خَفيَّة) أي لم يجهر بها كما جهر بما تقدم، وقوله (أن لا تسألوا الناس شيئًا) في تأويل المصدر بدل من "كلمة"، أو خبر لمحذوف؛ أي هي عدم سؤال الناس شيئًا.
والمراد بالسؤال: السؤال المتعلق بالأمور الدنيوية، فلا يتناول السؤال للعلم وأمور الدين، لقوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
وقال في "المنهل": والحكمة في إسرار النهي عن السؤال أن يختص به بعضهم دون بعض، لأنَّ منَ الناس مَنْ لابُدَّ له من السؤال لحاجته، ومنهم الغني عنه بماله، أو بالتَعفف، اهـ. جـ 9 ص 280.
زاد في رواية مسلم، وأبي داود في آخر الحديث:"قال" يعني عوفًا "فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحدًا يناوله إياه".
والله أعلم ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عوف بن مالك رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا في "المجتبى"(460) وفي "الكبرى"(320) فقط.
المسألط افالثة: فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول:
أخرجه مسلم، وأبو داود، وابن ماجه. فأخرجه مسلم في "الزكاة" عن عبد الله بن عبد الرحمن، وسَلَمَة بن شَبيب، كلاهما عن مَرْوَان بن محمد الدمشقي.
وأخرجه أبو داود في "الزكاة" أيضا عن هشام بن عمَّار، عن الوليد بن مسلم.
وأخرجه ابن ماجه في "الجهاد" عن هشام بن عَمَّار، عن الوليد، كلاهما عن سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخَوْلانِيّ، عن أبي مسلم الخولاني، عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: بيانُ ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الحرص على نشر الدعوة وتبليغ الأحكام كُلَّمَا وَجَدَ إلى ذلك سبيلًا.
ومنها: مشروعية التعاهد على البر والتقوى.
ومنها: التنفير من سؤال الناس، ولو يسيرًا. وقد وردت أحاديث في التحذير عن المسألة:
منها: حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تزال المسألة بأحدكم حتى يَلْقَى الله تعالى وليس في وجهه مُزْعَةُ لَحْمٍ". أي قطعة لحم. رواه الشيخان والمصنف.
ومنها: حديث سَمُرَة بن جُنْدُبَ رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال. "إنما المسائل كُدُوح يَكْدَحُ بها الرجلُ وَجْهَهُ، فمن شاء أبْقَى على وجهه، ومن شاء ترك، إلا أن يسأل ذا سلطان، أو في أمر لا يَجِدَ منه بُدًا". رواه أبو داود والمصنف والترمذي. وقال: حسن صحيح.
ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل الناس تَكَثُّرًا فإنما يسأل جَمْرًا، فليستقلَّ أو ليستكثر". رواه مسلم وابن ماجه.
ومنها: حديث علي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سَألَ مسألة عن ظَهْرِ غنِىً استكَثَر بها من رَضْف
(1)
جهنم"، قالوا: وما ظهر غنى؟ قال "عَشَاءُ ليلة". رواه الطبراني في الأوسط بإسناد جيد.
وقد أورد المنذري في الترغيب والترهيب أحاديث كثيرة فراجعه جـ 2 ص 2 - 14.
وقد اختلف العلماء في حَدِّ الغِنَى الذي يمنع عن المسألة لاختلاف الآثار في ذلك، وسنذكر الأقوال مع ترجيح الراجح منها في كتاب الزكاة إن شاء الله تعالى.
(ومن فوائد الحديث) ما ذكره النووي رحمه الله في الزيادة التي في مسلم وأبي داود، وهي "فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحَدًا يناوله إياه". قال: وفيه الأخذ بالعموم، لأنهم نُهُوا عن السؤال، فحملوه على العموم. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
(1)
الرضف: بفتح فسكون: الحجارة المحماة.
6 - بَابُ المُحَافَطَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على المحافظة على أداء الصلوات الخمس.
461 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ، أَنَّ رَجُلاً مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُدْعَى الْمُخْدَجِيَّ سَمِعَ رَجُلاً بِالشَّامِ يُكْنَى أَبَا مُحَمَّدٍ، يَقُولُ: الْوِتْرُ وَاجِبٌ، قَالَ الْمُخْدَجِيُّ: فَرُحْتُ إِلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فَاعْتَرَضْتُ لَهُ، وَهُوَ رَائِحٌ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ، فَقَالَ عُبَادَةُ: كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللهُ عَلَى الْعِبَادِ، مَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ، كَانَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ".
رجال هذا الإسناد: ثمانية
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثَقَفِيُّ البَغْلانِي، ثقة ثبت، من [10]، وتقدم في 1/ 1.
2 -
(مالك) بن أنس الإمام المدني، ثقة حجة، من [7]، تقدم في 7/ 7.
3 -
(يحيى بن سعيد) الأنصاري المدني، ثقة ثبت، من [5]، تقدم في 22/ 23.
4 -
(محمد بن يحيى بن حَبَّان) بن مُنْقِذ الأنصاري المدني، ثقة فقيه، من [4]، تقدم في 22/ 23.
5 -
(ابن مُحَيرِيز) هو عبد الله بن محيريز بن جُنَادَة بن وَهْب الجُمَحي المكي، كان يَتِيمًا في حجْر أبي مَحْذُورَةَ بمكة، ثم نزل بيت المقدس، ثقة عابد، توفي سنة 99، وقيل بعدها، من [3].
وفي "تت": الجمحي أبو محيريز المكي من رَهْط أبي محذورة، نَزَلَ الشامَ وسكَنَ بيتَ المقدس.
قال أبو زرعة: أبو محيريز المقدم -يعني على خالد بن معدان، وكان الأوزاعي لا يذكر خمسة من السلف إلا ما ذكر فيهم ابن محيريز، ورفع ذكْرَه وفضله. قال: دُحَيم: ورأيته أجَلَّ أهل الشام عند أبي زرعة بعد أبَي إدريس وأهل الطبقة، وقال ضمرة عن الأوزاعي كان ابن أبي زكريا يَقْدَمُ فلسطين، فَيلْقَى ابنَ محيريز فتتصاغر إليه نفسه لما يَرَى من فضل
بن محيريز، وقال رجاء بن حَيْوَةَ: كان أهل المدينة لَيَرَوْنَ ابن عمر فيهم أمَانًا، وإنَّا نَرَى ابنَ محيريز فينا أمانًا.
وعن الأوزاعي قال: من كان مقتديًا فليقتد بمثل ابن محيريز. وقال العجلي: شامي تابعي ثقة من خيار المسلمين. قال خليفة: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وقال ضمرة بن ربيعة: مات في خلافة الوليد بن عبد الملك، وكذا قال ابن حبان في "الثقات". اهـ أخرج له الجماعة.
6 -
(المُخْدَجِيُّ) بضم الميم وسكون الخاء المعجمة بعدها جيم: نسبة إلى مُخْدَج بن الحارث أبي بَطْن، كما قاله المجد في "ق"، وهو أبو رُفَيع، وقيل: اسمه رُفَيع -بالتصغير فيهما- مقبول من [3]. وفي "تت": أبو رفيع، وقيل: رفيع المخدجي، عن عبادة بن الصامت، وعنه عبد الله بن محيريز، ذكره ابن حبان في الثقات. اهـ، أخرج له أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، هذا الحديث فقط.
7 -
(أبو محمد) الأنصاري صحابي، قيل اسمه: مسعود بن زيد بن سبيع من بني النجار، قاله الخطابي، وقيل: اسمه قَيْس بن عبَاَية بن عبيد بن الحارث الخَوْلاني، حليف بني حارثة بن الحارث بن الأوس، وقيل: غير ذلك، سكن دمشق، وقيل: داريا، ويقال: إنه
ممن شَهِدَ بَدْرًا، ومات بالمغرب، ويقال: كان عَمًا ليحيى بن سعيد الأنصاري، وذكره يونس بن بكير، عن ابن إسحاق في البدريين،
وسمَّاه مسعودَ بن أوس بن صرم بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار.
وقال أبو سعيد بن يونس: شَهِدَ فتحَ مصر، وقال ابن سعد: تُوُفِّيَ في خلافة عمر، وزعم ابن الكلبي أنه شهد صِفِّين مع علي، ورَوَىَ محمد بن نصر في كتاب الوتر من طريق أبي محيريز، عن أبي رافع قال: تذاكرنا الوتر، فقال رجل من الأنصار يكنى أبا محمد من الصحابة. أخرج له أبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
8 -
(عبادة بن الصامت) بن قيس بن أصْرَم بن فِهْر بن قيس بن ثعلبة بن غنم بن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج الأنصاري، أبو الوليد المدني، أحد النقباء ليلة العقبة، شَهِدَ بَدْرًا فما بعدها، آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي مَرْثَد.
وقال محمد بن كعب القُرَظِيّ: هو أحد من جَمَعَ القرآن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه البخاري في تاريخه الصغير، قال: وأرسله عمر إلى فلسطين لِيُعَلِّمَ أهلها القرآن، فأقام بها إلى أن مات.
وقال ابن سعد عن الواقدي، عن يعقوب بن مجاهد، عن عبادة بن الوليد بن عبادة، عن أبيه: مات بالرَّمْلَة سنة 34، وهو ابن 72 سنة، قال ابن سعد: وسمعت من يقول: إنه بَقِيَ حتى توفي في خلافة معاوية، وكذا قال الهيثم بن عدي، وقال دُحَيم: توفي ببيت المقدس.
قال ابن حبان: هو أول من ولي القضاء بفلسطين، وقال سعيد بن عفير: كان طوله عشرة أشبار. اهـ. تت جـ 5 ص 111، 112، أخرج له الجماعة. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من ثمانياته، وأن رواته كلهم ثقات أجلاء، إلا المُخْدَجِيّ، فمقبول، وأنهم ما بين بغلاني، وهو قتيبة، ومدنيين، وهم مالك ويحيى ومحمد بن يحيي، وشاميين وهم الباقون. وفيه أربعة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، وهم: يحيى، ومحمد، وابن محيريز، والمخدجي. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن) عبد الله (ابن محيريز) الجُمَحي المكي نَزِيلِ بيتِ المقدس، (أن رجلًا من بني كِنانة) بكسر الكاف، وتخفيف النون: اسم لِعِدَّة قبائل من قبائل العرب، انظر التفاصيل في "اللباب" جـ 3 ص 111، 112.
(يُدْعَى) أي يسمى (المُخْدَجِيّ) بصيغة اسم المفعول: نسبة إلى مُخْدَج بن الحارث (سمع رجلًا بالشام يُكْنَى) -بتخفيف النون من الكناية، ويجوز تشديدها من التكنية مبنيًا للمفعول، والنائب عن الفاعل ضمير يعود إلى رجل، وهو المفعول الأول، والثاني قوله (أبا محمد) الأنصاري، وتقدم الخلاف في اسمه، صحابي سكن دمشق، وقيل: دَارِيا، رضي الله عنه (يقول) جملة في محل نصب على الحال من رجل، لكونه موصوفًا، أو مفعول ثان لِسَمِعَ على رأي بعض
النحاة.
(الوتر واجب) جملة من مبتدإ وخبر في محل نصب مقول القول، أي صلاةُ الوتر واجبة (قال المخدجي: فَرُحْتُ) أي ذهبت، يقال: رَاحَ يَرُوحُ رواحًا، وتَرَوَّحَ مثله، يكون بمعنى الغُدُوِّ وبمعنى الرجوع، وقد طابق بينهما في قوله تعالى:{غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12] أي ذهابها ورجوعها، وقد يَتَوَهَّمُ بعض الناس أن الرواح لا يكون إلا في آخر النهار، وليس كذلك، بل الرواح والغدوّ يستعملان عند العرب في المسير أيَّ وقت كان من ليل أو نهار، قاله الأزهري وغيره. اهـ. "المصباح".
(إِلى عبادة بن الصامت) الأنصاري الخزرجي الصحابي الجليل رضي الله عنه، والجار والمجرور متعلق برُحْتُ (فاعترضته) أي تَصَدَّيْتُ له، واستقبلته (وهو رائح إِلى المسَجد) أي ذاهب إلى المسجد، والجملة في محل نصا على الحال (فأخبرته بالذي قال أبو محمد) من كون الوتر واجبًا (فقال عبادة) بن الصامت رضي الله عنه رَدًّا على أبي محمد (كذب أبو محمد) أي أخطأ فيما قاله من وجوب الوتر، فالمراد بالكذب هنا هو الخطأ، لأن الكذب هو الإخبار بخلاف الواقع سواء كان عمدًا أو خطأ.
قال في المصباح: الكذب: هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو، سواء فيه العمد والخطأ، ولا واسطة بين الصدق والكذب على مذهب
أهل السنة، والإثم يَتْبَعُ العَمْدَ. اهـ
وفي المنهل: والعَرَبُ تُطلقُ الكذبَ على الخطأ، يقولون: كَذَبَ سَمْعِي، وكَذَبَ بَصَري، أي أخَطأ، والإثم منوط بالتعمد. اهـ.
والحاصل أن عبادة رضي الله عنه لا يريد بهذا الكلام أن أبا محمد تعمد الكذب، لأنه صحابي لا يتعمد الكذب، وإنما أراد الخطأ في الفتوى.
ثم ذكر عبادة مستنده في الردّ عليه، فقال:(سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم) والجملة تعليلية؛ أي لأني سمعت إلخ، ولأبي داود:"أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم"(يقول: خمس صلوات) مبتدأ سوغه كونه مضافًا، وخبره جملة "كتبهن الله"، ويحتمل أن تكون الجملة صفة لخمس في محل رفع، والخبر جملة قوله "من جاء
بهن
…
" إلخ.
(كتبهن) أي افترضهن (على العباد) المكلفين (من جاء بهن) يحتمل أن تكون "مَنْ" شرطية جوابها جملة "كان"، وأن تكون موصولة مبتدأ، خبرها جملة "كان" أيضًا، والجملة في محل رفع خبر بعد خبرٍ، إنْ كانت جملة "كتبهن" خبرًا، أو خبرٌ إن كانت صفة (لم يضيع) من
التضييع، أو من الإضاعة (منهن شيئًا) أي من الأركان والشروط (استخافًا بحقهن) منصوب على أنه مفعول لأجله، أي لأجل استخفافه بما وجب لهن من حق، واحترز به عمَّا إذا ضَيَّعَ ذلك سهوًا
ونسيانًا، فإنه لا يمنع من دخول الجنة، لقوله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الله تجاوز لي عن أمتي، الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" رواه أحمد والبيهقي وابن حبان
(1)
.
ولأبي داود "خمس صلوات افترضهن الله عز وجل، مَنْ أحْسَنَ وضوءهن، وَصَلاهن لوقتهن، وأتَمَّ ركوعهن، وخشوعهن"(كان له عند الله عهد) العهد في الأصل اليَمين، والأمانة، والذِّمَّةُ، والحفظ. والمراد به هنا: الوعد المُوَثَّق المحفوظَ عند الله. وسمي وعد الله عهدًا لكونه موثقًا، حيث إنه لا يُخْلفُ الميعاد (أن يدخله الجنة) من الإدخال، والمراد به الإدخال أوَّلًا، قَال السندي: وهذا يقتضي أن المُحَافِظَ على الصلوات يوفق للصالحات بحيث يدخل الجنة ابتداء اهـ؛ قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} الآية [العنكبوت: 45].
واستَدَلَّ به عبادةُ بن الصامت رضي الله عنه على عدم وجوب الوتر، ووجه الاستدلال أنه لما رتَّب صلى الله عليه وسلم دخول الجنة على أداء الصلوات الخمس عُرِفَ أن ما عداهن ليس واجبًا، إذ لو وجب لمنع تركه من دخول الجنة.
وقد اختلف العلماء في وجوب الوتر وعدمه، وسنذكر اختلافهم
(1)
رواه أحمد والبيهقي من حديث أبي ذر، والطبراني والحاكم من حديث ابن عباس، والطبراني من حديث ثوبان. انظر "صحيح الجامع" جـ 1 ص 358.
مع أدلتهم وترجيح عدم الوجوب بأدلته في "كتاب قيام الليل"، في "باب الأمر بالوتر" رقم (27/ 1675) إن شاء الله تعالى.
(ومن لم يأت بهن) أي لم يصلهن أصلًا، أوصلاهن ولكِن مع تضييع حقوقهن (فليس له عند الله) سبحانه وتعالى (عهد) أي وعد موثق (إِن شاء عذبه) بتضييعه ما وجب عليه بعدله (وإن شاء أدخله الجنة) بفضله سبحانه وتعالى.
وفيه دليل لمن يقول: إن تارك الصلاة كسلًا داخل تحت المشيئة، وهو مذهب الجمهور، ويأتي تحقيق الخلاف في المسألة في الباب التالي إن شاء الله تعالى. والله ولي التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه هذا صحيح.
قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: هو صحيح ثابت لم يُخْتَلَف عن مالك فيه، ثم قال: والمخْدَجِيُّ مجهول لا يعرف إلا بهذا الحديث.
قال الشيخ تقي الدين القشيري رحمه الله: انظر إلى تصحيحه لحديثه مع حكمة بأنه مجهول، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، ولحديثه شاهد من حديث أبي قتادة عند ابن ماجه، ومن حديث كعب بن عجرة عند أحمد. ورواه أيضًا أبو داود عن الصنابحي. اهـ. "نيل" جـ 2
ص 17.
قال الجامع: الظاهر أن تصحيح ابن عبد البر له لشواهده، فلا ينافي حكمه بالجهالة. والله أعلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكره عند المصنف:
ذكره هنا (461)، وفي "الكبرى" في (322) بهذا السند.
المسألة الثالثة: في ذكر من أخرجه معه:
أخرجه أبو داود وابن ماجه؛ فأخرجه أبو داود في "الصلاة" عن القعنبي، عن مالك، بسند المصنف، وأخرجه ابن ماجه فيه عن محمد بن بشار، عن ابن أبي عَدِيّ، عن شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان نحوه. وأخرجه ابن حبان في "صحيحه"،
وابن السكن. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: أنه دليل على ما كان عليه القوم من البحث عن العلم والاجتهاد في الوقوف على الصحيح منه، وطلب الحجة، وترك التقليد المؤدي إلى ذهاب العلم.
ومنها: أنه حجة على من قال من السلف بوجوب الوتر، وهو مذهب الحنفية، وسيأتي الكلام علية مستوفى في "كتاب الوتر" إن شاء الله تعالى.
ومنها: أنَّ من لم يصل من المسلمين في مشيئة الله تعالى إذا كان موحدًا مؤمنًا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مصدقا به، وإن لم يعمل.
قال ابن عبد البر: وهذا يرد قول المعتزلة والخوارج بأسرهم، ألا تَرَى أن المُقِرَّ بالإسلام في حين دخوله فيه، يكون مسلمًا قبل الدخول في عمل الصلاة وصوم رمضان بإقراره واعتقاده وعقد نيته، فمن جهة النظر لا يجب أن يكون كافرًا إلا برفع ما كان به مسلمًا؛ وهو الجحود لما كان قد أقر به واعتقده.
والله أعلم اهـ. "تمهيد" جـ 23 ص 290.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
7 - بَابُ فَضْلِ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على فضل الصلوات الخمس.
462 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟ قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قَالَ: فَكَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا".
رجال الإسناد: ستة
1 -
(قتيبة) بن سعيد البَغْلاني، ثقة ثبت، من [10]، تقدم في 1/ 1.
2 -
(الليث) بن سعد أبو الحارث الفَهْمي الإمام، ثقة ثَبْت حُجَّة فقيه، من [7]، تقدم في 31/ 35.
3 -
(ابن الهاد) هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي، أبو عبد الله المدني، ثقة مكثر، من [5]، تقدم في 73/ 90.
4 -
(محمد بن إِبراهيم) بن الحارث بن خالد التيمي،
أبو عبد الله المدني، ثقة له أفراد، توفي سنة 120 على الصحيح، من [4]، تقدم في 60/ 75.
5 -
(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، ثقة، مكثر، توفي سنة 94، من [3]، تقدم في 1/ 1.
6 -
(أبو هريرة) الدوسي الصحابي الجليل رضي الله عنه تقدم في 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسياته، وأن رجاله ثقات أجلاء، اتفقوا على الإخراج لهم، وأنهم مدنيون إلا شيخه فبغلاني، وليثًا فمصري.
ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، ابن الهادي، ومحمد بن إبراهيم، وأبا سلمة.
ومنها: أن أبا سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وأنه ممن اشتهر بكنيته.
ومنها: أن أبا هريرة رئيس المكثرين السبعة رَوَى 5374 حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(أرأيتم) الهمزة للاستفهام على سبيل التقرير، والتاء للخطاب، ومعناه أخبروني، ويُرْوَى "أرأيتكم" بالكاف والميم، ولا محل لهما من الإعراب. قاله البدر العيني (لو أن نهرًا) قال الطيبي: لفظ "لو" يقتضي أن يدخل على الفعل، وأن يُجَاب، لكنه وضع الاستفهام موضعه تأكيدًا وتقريرًا، والتقدير: لو ثبت نهر صفته كذا لما بقي كذا.
والنهر -بفتح الهاء وسكونها- ما بين جَنْبَتَيِ الوادي، سمي بذلك لسعته، وكذلك سمي النهار لسعة ضوئه اهـ. "فتح" جـ 2 ص 15، وعمدة جـ 5 ص 15.
(بباب أحدكم) جار ومجرور في محل نصب صفة لنهر، أي نهرًا كائنًا بباب أحدكم (يغتسل منه) جملة في محل نصب على الحال من نهر، أو صفة له بعد صفة (كل يوم) منصوب على الظرفية متعلق بيغتسل (خمس مرات) مفعول مطلق ليغتسل على النيابة، أي
اغتسالًا خمس مرات (هل يَبْقَى) من البقاء مضارع بَقِيَ ثلاثيًا، وللبخاري "يبقي" من الإبقاء رباعيًا (من درنه) متعلق بيبقى.
والدرن -بفتح الدال والراء-: الوسخ، قال في الفتح: وقد يطلق الدَّرَنُ على الحَبِّ الصغار التي تحصل في بعض الأجساد.
قال الجامع. لم أجد هذا الإطلاق في "ق" ولا في "اللسان"، ولا في "المصباح"، ولا في "المختار"، لكن قال في "المعجم الوسيط": الدَّرَن من أمراض الرئتين مُحْدَثَةٌ. اهـ. فعلى هذا كونه مرادًا في الحديث
بعيد، فتدبر. والله أعلم.
(شيء) بالرفع فاعل يبقى (قالوا: لا يَبْقَى من درنه) بعد هذه الاغتسالات المتكررة (شيء) من الوسخ (قال) صلى الله عليه وسلم (فكذلك) وعند البخاري: "فذلك"، والفاء داخلة في جواب شرط مقدر، واسم الإشارة راجع إلى الاغتسال المفهوم، أي إذا أقررتم أن هذا الاغتسال لا يُبْقي من درنه شيئًا، وصح لَدَيْكُم هذا، فهو (مثْلُ الصلَوات الخمس) المثْلُ -بكسر فسكون، وبفتحتين، ويقال أيضًا: المَثِيل وزان كَرِيم: الشَّبيَهُ، وقيل: المثل بكسر فسكون: الشِّبْه، والمثل بفتَحتين: الوصف. أفَاده في "المصباح".
فمعنى الحديث أنَّ ما ذكره من الاغتسال شبيه بالصلوات الخمس، أو ما ذكر من إزالة الوسخ على وجه أبلغ صفة الصلوات الخمس. وجملة قوله (يمحو الله بهن الخطايا) في محل نصب على الحال من الصلوات، أي حال كونه سبحانه وتعالى مُزِيلًا بهذه الصلوات الخمس خطايا المصلي.
قال السندي رحمه الله: إن قلت من أيِّ التشبيه هذا التشبيُه؟
قلت: هو من تشبيه الهيئة بالهيئة، ولا حاجة فيه إلى تكلف اعتبار تشبيه الأجزاء بالأجزاء، فلا يقال: أيُّ شيء يُعْتَبَرُ مثلًا للنهر في جانب الصلاة اهـ.
وقال في "الفتح": وفائدة التمثيل التأكيد، وجعل المعقول كالمحسوس.
وقال الطيبي: في هذا الحديث مبالغة في نفي الذنوب، لأنهم لم يقتصروا في الجواب علي "لا" بل أعادوا اللفظ تأكيدًا.
وقال ابن العربي: وجه التمثيل أن المرء كما يتدنس بالأقذار المحسوسة في بدنه وثيابه، ويطهره الماءُ الكثيرُ، فكذلك الصلوات تطهر العبَد عن أقذار الذنوب حتى لا تُبْقِي له ذنبًا إلا أسقطته. انتهى.
وظاهره أن الخطايا في الحديث ما هو أعم من الصغيرة والكبيرة، لكن قال ابن بطال: يؤخذ من الحديث أن المراد الصغائر خاصة، لأنه شبه الخطايا بالدَّرَن، والدرنُ صغيرٌ بالنسبة إلى ما هو أكبر منَه من القُرُ وح والخُرَاجَات. انتهى.
قال الحافظ: وهو مبني على أن المراد بالدرن في الحديث الحب، والظاهر أن المراد به الوسخ، لأنه هو الذي يناسبه الاغتسال والتَّنَظُّفُ. اهـ. فتح.
قال الجامع: إطلاق الدرن على الحب المذكور ليس معروفًا كما سبق، فلا ينبغي حمل الحديث عليه، بل الأولى أن المراد به الوسخ، ولا سيما وقد جاء التصريح به في حديث أبي سعيد الخدري، فقد أخرج البزار والطبراني بإسناد لا بأس به، كما قال الحافظ من طريق عطاء بن يسار أنه سمع أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يحدث أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أرَأيْتَ لو أنَّ رَجُلًا كان لهُ مُعْتَمَلٌ، وبين منزله ومعتمله خمسةُ أنهار، فإذا انطلق إلى مُعْتَمَلِهِ عَمِلَ ما شاء اللهُ، فأصابه وَسَخٌ،
أو عَرَقٌ، فكلما مَرَّ بنهر اغتسل منه
…
" الحديث.
ولهذا قال القرطبي: ظاهر الحديث أن الصلوات الخمس تَسْتَقِلُّ بتكفير جميع الذنوب، وهو مشكل، لكن رَوَى مسلم قبله حديث العلاء عن أبي هريرة مرفوعًا "الصلواتُ الخمسُ كفارة لما بينها ما اجْتُنِبَتِ الكبائرُ" فعلى هذا المُقَيَّدِ يُحْمَلُ ما أطْلِقَ في غيره.
وقال ابن بزيزة في شرح الأحكام: يتوجه على حديث العلاء إشكال يَصْعُبُ التخلصُ منه، وذلك أن الصغائر بنص القرآن مُكَفَّرة باجتناب الكبائر، وإذا كان كذلك فما الذي تكفره الصلوات الخمس؟ انتهى.
قال الحافظ: وقد أجاب شيخنا الإمام البُلْقِيِنيُّ بأن السؤال غير وارد، لأن مراد الله "إن تجتنبوا" أي في جميع العمر، ومعناه الموافاة على هذه الحالة من وقت الإيمان أو التكليف إلى الموت، والذي في الحديث أن الصلوات الخمس تُكَفَّرُ ما بينها، أي في يومها إذا اجتنبت الكبائر في ذلك اليوم، فعلى هذا لا تعارض بين الآية والحديث. انتهى.
وعلى تقدير ورود السؤال فالتخلص منه بحمد الله سهل، وذلك أنه لا يتم اجتناب الكبائر إلا بفعل الصلوات الخمس، فمن لم يفعلها لم يُعَدَّ مجتنبًا للكبائر، لأن تركها من الكبائر، فوقف التكفير على فعلها. والله أعلم.
وقد فصل البلقيني أحوال الإنسان بالنسبة إلى ما يَصْدُر منه من
صغيرة وكبيرة؛ فقال: تنحصر في خمسة:
أحدها: أن لا يصدر منه شيء البتة، فهذا يُعَاوَضُ برفع الدرجات.
ثانيها: أن يأتي بصغائر بلا إصرار، فهذا تكَفَّرُ عنه جزمًا.
ثالثها: مثله لكن مع الإصرار، فلا تكفر، إذا قلنا: إن الإصرار على الصغائر كبيرة.
رابعها: أن يأتي بكبيرة واحدة وصغائر.
خامسها: أن يأتي بكبائر وصغائر، وهذا فيه نظر، يحتمل إذا لم يجتنب الكبائر أن لا تكفر الكبائر، بل تكفر الصغائر، ويحتمل أن لا تكفر شيئًا أصلًا، والثاني أرجح، لأن مفهوم المخالفة إذا لم تتعين جهته لا يعمل به، فهنا لا تكفر شيئًا، إما لاختلاط الكبائر والصغائر، أو لتمحض الكبائر، أو تكفر الصغائر، فلم تتعين جهة مفهوم المخالفة، لِدَوَرَانه بين الفصلين، فلا يعمل به، ويؤيده أن مقتضى تجنب الكبائر، ومقتضى "ما اجتنبت الكبائر" أن لا كبائر، فيُصَانُ الحديثُ عنه. اهـ. "فتح" جـ 2 ص 16.
وقال السندي رحمه الله عند قوله "يمحو الله بهن الخطايا": ما نصه: خصها العلماء بالصغائر، ولا يَخْفَى أنه بحسب الظاهر لا يناسب التشبيه بالنهر في إزالة الدرن، إذِ النَّهرُ المذكور لا يُبْقِي من الدرن شيئًا
أصلًا، وعلى تقدير أن يُبْقِي فإبقاء القليل والصغير أقرب من إبقاء الكثير الكبير، فاعتبار بقاء الكبائر وارتفاع الصغائر قلب لما هو المعقول نظرًا إلى التشبيه، فلعل ما ذكروا من التخصيص مبني على أن للصغائر تأثيرًا في درن الظاهر فقط، كما يدل عليه ما ورد من خروج الصغائر من الأعضاء عند الوضوء بالماء بخلاف الكبائر؛ فإن لها تأثيرًا في دَرَن الباطن، كما جاء أن العبد إذا ارتكب المعصية تحصل في قلبه نقطةٌ سوداءُ، ونحو ذلك، وقد قال الله تعالى:{بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، وقد عُلمَ أنَّ أثَرَ الكبائر تُذْهبُهَا التوبةُ التي هي الندامة بالقلب، فكما أن الغسلَ إنما يذهب بدرن الظَاهر دون الباطن فكذلك الصلاة. فتفكر. والله أعلم اهـ. كلام السندي جـ 1 ص 231. وبالله تعالى التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف رحمه الله:
أخرجه رحمه الله هنا في "المجتبى"(462)، وفي "الكبرى"(323) أيضًا بسند "المجتبى"، وزاد بعده: قال أبو عبد الرحمن: ابنُ الهاد اسمه يزيد ابن عبد الله بن أسامة بن الهادي، وأبو سلمة اسمه عبد الله بن
عبد الرحمن ابن عوف، وأبو هريرة اسمه عبد عمرو، ويقال: عبد شمس، ويقال: سُكَين، وقال سفيان بن حسين عن الزهري، عن المُحَرَّرِ بن أبي هريرة قال: اسم أبي عبد عمرو بن عبد غَنْم.
أنبأنا محمد بن يحيى، عنُ بكَير بن بَكَّار، عن عمر بن علي بن مُقَدَّم، عن سفيان بن حُسَين، عن الزهري.
قال أبو عبد الرحمن: وَبكْرُ بن بَكَّار ليس بالقوي في الحديث، وسُفْيَانُ بنُ حسين ليس بالقوي في الزهري خاصة، وفي غيره لا بأس به. اهـ.
(1)
والله تعالى أعلم.
المسأله الثالثة: فيمن أخرجه مع المصنف:
أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي، فأخرجه البخاري في الصلاة عن إبراهيم بن حمزة، عن عبد العزيز بن أبي حازم، وعبد العزيز بن محمد الدَّرَاوَرْدي، وأخرجه مسلم في الصلاة أيضًا عن قتيبة، عن ليث، وبكر بن مضر- أربعتهم عن ابن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه.
وأخرجه الترمذي في الأمثال عن قتيبة، عن الليث، وبكر عن ابن الهاد به. وقال: حسن صحيح. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
(1)
"السنن الكبرى" جـ 1 ص 143.
منها: بيان فضل الصلوات الخمس، وهو الذي ترجم له المصنف رحمه الله.
ومنها: ضرب المثل في التعليم زيادة في الإيضاح؛ إذ فيه تشبيه المعقول بالشيء المحسوس.
ومنها: حرص النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم أمته، وشدة رأفته بهم، كما قال الله تعالى {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
8 - بَابُ الحُكْمِ فِي تَارِكِ الصَّلاةِ
أي هذا باب في ذكر الحديث الدال على بيان الحكم في تارك الصلاة.
463 -
أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ".
رجال الإسناد: خمسة
1 -
(الحسين بن حريث) الخُزَاعِيُّ مولاهم أبو عَمَّار المروزي، ثقة، توفي سنة 244، من [10]، وتقدم في 44/ 52.
2 -
(الفضل بن موسى) السِّينَانِيُّ، أبو عبد الله المروزي، ثقة ثبت ربما أغْرَبَ، توفي سنة 192 في ربيع الأول، من كبار [9]، وتقدم في 82/ 100.
3 -
(الحسين بن واقد) المروزي أبو عبد الله القاضي، ثقة له أوهام، توفي سنة 159، وقيل: 157، من [7].
وفي "تت": أبو عبد الله قاضي مَرْوَ، مولى عبد الله بن عامر بن
كريز، قيل لابن المبارك: مَن الجماعةُ؟ قال: محمد بن ثابت، والحسين ابن واقد، وأبو حمزة السُكَّرِيُّ.
قال أحمد بن شبويه: ليس فيهم من الإرجاء شيء. وقال أحمد بن حنبل: ليس به بأس، وأثنى عليه. ووثقه ابن معين. وقال أبو زرعة والنسائي: ليس به بأس، وقال ابن حبان: كان على قضاء مَرْوَ، وكان من خيار الناس، وربما أخطأ في الروايات.
وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: مَا أنْكَرَ حديثَ حُسين بن واقد عن أبي المُنِيب. وقال العُقَيلي: أنكر أحمد بن حنبل حديثه. وقال الأثرم: قال أحَمد: في أحاديثه زيادة لا أدري أي شيء هي؟ ونفض يده، وقال ابن سعد: كان حسن الحديث، وعن أبي داود: ليس به بأس، وقال الساجي: فيه نظر، وهو صَدُوق يَهِم، قال أحمد: أحاديثه ما أدري أيش هي؟ وكَنَاهُ الأكثرون أبا علي. والله أعلم. اهـ. "تت" بتصرف. أخرج له البخاري تعليقًا، ومسلم، والأربعة.
4 -
(عبد الله بن بُرَيَدَة) بن الحُصَيب الأسْلَمِيُّ، أبو سهلٍ المروزي قاضيها، ثقة، توفي سنة 105، وقيل: بل سنة 115، عن 100 سنة، من [3]، وتقدم في "الحيض" 25/ 393.
5 -
(بريدة) بن الحصيب أبو سهل الأسلمي الصحابي الجليل رضي الله عنه توفي بمرو سنة 63، وتقدم في 101/ 133. والله تعالى أعلم.
لطائف هذل الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات
ومنها: أنه مسلسل بالمراوزة.
ومنها: أن رواته اتفقوا عليهم إلا حسين بن واقد فأخرج له البخاري تعليقًا ومسلم والأربعة.
ومنها: أن فيه رواية الابن عن أبيه.
ومنها: أن حسين بن واقد هذا الباب أول محل ذكره في هذا الكتاب. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عبد الله بن بُرَيدَةَ) الأسلمي (عن أبيه) بُرَيدة بن الحُصَيب رضي الله عنه أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ العهد") يُطلَق العهدُ، كما في "مختار الصحاح"- على الأمَاِن، واليَمِينِ، والمَوْثِقِ، والذِّمّة، والحِفَاظِ، والوَصِيَّة.
والظاهر أن الأمان هو المناسب هنا، أي الأمان الذي (بيننا) أهل الإسلام (وبينهم) غيَر أهلِ الإسلام، يعني أن الأمر الذي يكون سببًا لأمن الشخص إذا تمسك به، فلا يجوز التعرض له بشيء، هي (الصلاة) أي أداؤها.
(فمن تركها) أي لم يؤدّها (فقد كفر) وخَرَجَ عن الأمان، فَحَلَّ قتله، على اختلاف بين العلماء في معنى كفره، هل كُفْرٌ مخرج عن المِلَّة، كما قال به بعضهم، أو هو كفر دون كفر، كما قال به الآخرون؟ وسنحقق الكلام على ذلك في مسائل الحديث التالي إن شاء الله تعالى.
وقال السندي في شرحه: قوله (إِنَّ العهد) أي العمل الذي أخذ الله تعالى عليه العهد والميثاق من المسلمين، كيف وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم بايعهم على الصلوات الخمس، وذلك من عهد الله تعالى (الذي بيننا وبينهم) أي الذي يفرق بين المسلمين والكافرين، ويتميز به هؤلاء عن هؤلاء صورة على الدوام (الصلاة) وليس هناك عَمَلٌ على صفتها في إفادة التمييز بين الطائفتين على الدوام (فقد كفر) أي صورة وتشبهًا بهم، إذ لا يتميز إلا المصلي، وقيل: يُخَافُ عليه أن يؤديه إلى الكفر، وقيل: كَفَرَ، أي أبِيحَ دمه، وقيل: المراد مَنْ تَرَكَهَا جَحْدًا، وقال أحمد: تارك الصلاة كافر؛ لظاهر الحديث. والله أعلم اهـ. ما قاله السندي جـ 1 ص 231، 232. وبالله تعالى التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث بريدة رضي الله عنه هذا حديث صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف:
أخرجه هنا في "المجتبى"(463) وفي "الكبرى"(329) بالسند المذكور.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه الترمذي وابن ماجه؛ فأخرجه الترمذي في "الإيمان" عن أبي عمَّار الحسين بن حريث، ويوسف بن عيسى- كلاهما عن الفضل بن موسى، وعن أبي عمَّار ومحمود بن غَيْلان- كلاهما عن علي بن الحسين ابن واقد، وعن محمد بن علي بن الحسن بن شقيق ومحمود بن غيلان- كلاهما عن علي بن الحسن بن شقيق- ثلاثتهم عن الحسين بن واقد
به. وقال: حسن صحيح غريب. وأخرجه أحمد والحاكم. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
464 -
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ إِلاَّ تَرْكُ الصَّلَاةِ"
(1)
.
(1)
هذا الحديث ليس موجودًا في النسخة المصرية.
رجال الإسناد: خمسة
1 -
(أحمد بن حرب) بن محمد بن علي بن حَيَّان بن مَازِن الطائي الموْصِلِيُّ، صدوق، توفي سنة 263، وله 90 سنة، من [10]، أخرج له النسائي، وتقدم في 102/ 135.
2 -
(محمد بن ربيعة) الكِلابِيُّ الكوفي ابن عمِّ وكيع، صدوق، توفي بعد سنة 190، من [9].
وفي "تت": قال الدُّورِي عن ابن معين: ليس به بأس، وعنه: ثقة صدوق، وقال أبو داود: ثقة، رفيق أبي نعيم إلى البصرة، وقال أبو حاتج: صالح الحديث، ووثقه محمد بن إبراهيم بن فرنة، والدارقطني، وابن حبان، وقال الساجي: فيه لِينٌ، وتبعه الأزْدِيّ، ونقل عن عثمان ابن أبي شيبة، قال: جاءنا محمد بن ربيعة، فطلبَ إلينا أن نكتب عنه، فقلنا: نحن لا نُدْخِلُ في حديثنا الكذابين، وهذا جرح غير مفسر لا يقدح فيمن ثبتت عدالته.
وقال ابن سعد: توفي ببغداد، زاد غيره: بعد عَبْدَة بن سليمان. اهـ. أخرج البخاري في "الأدب المفرد"، والأربعة. "تت". باختصار وتصرف جـ 9 ص 163.
3 -
(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج نسب إلى جده، الأموي مولاهم المكي، ثقة فقيه فاضل، كان يدلس ويرسل،
من [6]، تقدم في 28/ 32.
4 -
(أبو الزبير) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسدي مولاهم المكي، صدوق يدلس، توفي سنة 126، من [4]، وتقدم في 31/ 35.
5 -
(جابر) بن عبد الله بن عمرو بن حَرَام الأنصاري الصحابي الجليل رضي الله عنه تقدم في 31/ 35. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسياته، وأن رجاله كلهم وثقوا، وأنهم ما بين مَوْصِلِيّ، وكوفي، وَمكِّيَّيْن، ومدني.
ومنها: أن محمد بن ربيعة، هذا الباب أول محل ذكره من الكتاب.
ومنها: أن جابرًا أحد المكثرين السبعة رَوَى 1540 حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن جابر) بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس بين العبد) المسلم، ومثله المسلمة (وبين الكفر) كرر "بين" لمزيد التأكيد (إِلا ترك الصلاة) "ترك": اسم ليس مؤخرًا، والظرف خبرها مقدمًا، ويتعلق بمحذوف، تقديره: "ليس غير
ترك الصلاة واصلًا بين العبد وبين الكفر". والمعنى أنه يوصله إليه، وبهذا التقدير يزول الإشكال، فإنّ المتبادر أن الحاجز بين الإيمان والكفر فعلُ الصلاة لا تركُها.
وقيل: المعنى: الفارق بين المؤمن والكافر ترك الصلاة، لوجوده في الكافر دون المؤمن، فإنّ من حق ما به الفرق أن يوجد في أحد الطرفين دون الآخر، فترك الصلاة فارق بينهما لتحققه في الكافر دون المؤمن.
وقال السندي في حاشية ابن ماجه: مثل هذه العبارة كما يستعمل في المانع الحائل بين الشيئين، كذلك يستعمل في الوسيلة المفضية لأحدهما إلى الآخر، والحديث من هذا القبيل، فلا يرد أن الحائل بينهما هي الصلاة، فإنها تمنع العبد من الوصول إلى الكفر لا تركها. فليتأمل.
ومثل هذا قول القائل بينك وبين مرادك الاجتهادُ، وليس هو نظيَر قوله تعالى:{وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5]، وقوله:{وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} [النمل: 61]، انتهى.
ولفظ مسلم "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة".
قال النووي: معناه أن الذي يمنع. من كفره كونه لم يترك الصلاة، فإذا ترك لم يبق بينه وبين الشرك حائل بل دخل فيه.
ثم إن الشرك والكفر قد يطلقان بمعنى واحد، وهو الكفر بالله
تعالى، وقد يفرق بينهما، فيكون الكفر أعم من الشرك. اهـ. والله ولي التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث جابر رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا في "المجتبى"(464) وفي "الكبرى"(330) بالسند المذكور هنا.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه؛ فأخرجه مسلم في "الصلاة" عن أبي غَسَّانَ المِسْمَعِيّ مالك بن عبد الواحد، عن أبي عاصم، عن ابن جريج، عن أبي الزبير عنه.
وأخرجه أبو داود في "السنة" عن أحمد بن حنبل، والترمذي في "الإيمان" عن هَنَّاد بن السَّريّ، وابن ماجه في "الصلاة" عن علي بن محمد- ثلاثتهم عن وكيع، عن سفيان، عن أبي الزبير، عنه وأخرجه أحمد والدارمي، وأبو نعيم في "الحلية".
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: تعظيم شأن الصلاة، وأنها هي الفارق بين المؤمن والكافر.
ومنها: أنها سبب الأمن للعبد؛ فإن تركها زال أمنه وحل قتله، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عَصَمُوا مني دِمَاءَهُم وأموالَهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله".
ومنها: إطلاق لفظ الكفر على تارك الصلاة، على اختلاف في معناه، كما سنذكره بعدُ.
المسألة الخماسة: في ذكر أقوال أهل العلم في تارك الصلاة:
ذكر النووي رحمه الله في شرح مسلم تفصيلَ المسألة فقال:
وأما تارك الصلاة؛ فإن كان منكرًا لوجوبها، فهو كافر بإجماع المسلمين خارج عن ملة الإسلام، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، ولم يخالط المسلمين مدة يَبْلُغُهُ فيها وجوب الصلاة عليه.
وإن كان تركه تكاسلًا مع اعتقاده وجوبها، كما هو حال كثير من الناس فقد اختلف العلماء فيه:
فذهب مالك والشافعي رحمهما الله والجماهير من السلف والخلف إلى أنه لا يكفر، بل يفسق، ويستتاب، فإن تاب، وإلا قتلناه حدًا، كالزاني المحصن، ولكنه يُقْتَلُ بالسيف.
وذهب جماعة من السلف إلى أنه يكفر، وهو مروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل رحمه الله، وبه قال ابن المبارك، وإسحاق بن راهويه، وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي رضي الله عنه.
وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة والمُزَنِيّ صاحب الشافعي رحمهم الله إلى أنه لا يكفر، ولا يُقْتَل، بل يعزر، ويُحْبَسُ حتى يصلي.
واحتج من قال بكفره بظاهر حديثي الباب، وبالقياس على كلمة التوحيد.
واحتج من قال: لا يقتل، بحديث "لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث
…
" وليست الصلاة فيه.
واحتج الجمهور على أنه لا يكفر بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"من قال لا إله إلا الله دخل الجنة"، "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة"، "ولايَلْقَى الله تعالى عبد غير شاكّ، فيُحْجَبَ عن الجنة"، "حُرِّمَ على النار من قال لا إله إلا الله"، وغير ذلك.
واحتجوا على قتله بقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس
حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عَصَمُوا مني دماءَهُم، وأموالَهم"، وتأولوا قوله صلى الله عليه وسلم: "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة" علي معنى أنه يستحق بترك الصلاة عقوبةَ الكافر، وهي القتلُ، أو أنه محمول على المستحل، أو على أنه قد يؤول به إلى الكفر، أو أنَّ فعلَهُ فعلُ الكفار. والله أعلم. انتهى ما كتبه النووي في "شرح مسلم" جـ 2 ص 70، 71.
وكتب العلامة أبو الوليد محمد بن رشد في "بداية المجتهد" ما نصه:
وأما الواجب على من تَرَكَهَا عَمْدًا، وأمِرَ بها، فَأبَى أن يصليها لا جُحودًا لِفَرضِهَا، فإن قومًا قالوا: يُقْتَلُ، وقومًا قالوا: يُعَزَّر ويُحْبَس. والذين قَالوا: يقتل، منهم من أوجب قتله كفرًا، وهو مذهب أحمد وإسحاق وابن المبارك، ومنهم من أوجبه حَدًا، وهو مذهب مالك والشافعي. وأبو حنيفة
(1)
وأصحابه وأهل الظاهر، ممن رأى حبسه وتعزيره حتى يصلي.
والسبب في هذا الاختلاف اختلاف الآثار، وذلك أنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:"لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفرٌ بعد إيمان، أوزنًا بعد إحْصَان، أو قتلُ نفس بغير نفس"
(2)
. وذكر حديثي الباب. ثم قال:
(1)
مبتدأ خبره قوله: ممن رأى حبسه .. الخ.
(2)
متفق عليه بنحوه.
فمن فَهِمَ من الكفر ها هنا الكفَر الحقيقي جَعَلَ هذا الحديث كأنه تفسير لقوله عليه الصلاة والسلام: "كفر بعد إيمان"، ومن فَهِمَ ها هنا التغليظ والتوبيخ، أي إن أفعاله أفعال كافر، وإنه في صورة كافر، كما قال:"لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن، ولا يسرِق السارقُ حين يسرق، وهو مؤمن". متفق عليه، لم يَرَ قتله كفرًا.
وأما من قال: يُقْتَلُ حدًا فضعيف، ولا مستند له إلا قياس شبْهُ ضعيف إن أمكن، وهو تشبيه الصلاة بالقتل في كون الصلاة رأَسَ المأمورات، والقتلِ رأسَ المنهيات.
وعلى الجملة فاسم الكفر إنما ينطلق بالحقيقة على التكذيب، وتارك الصلاة معلوم أنه ليس بمكذب إلا أن يتركها مُعْتَقدًا لتركها هكذا، فنحن إذن بين أحد أمرين: إما إن أردنا أن نفهم من الحَديث الكفر الحقيقي، يجب علينا أن نتأول أنه أراد عليه الصلاة والسلام مَنْ تَركَ الصلاةَ معتقدًا لتركها فقد كفر، وإما أن يُحْمَل اسم الكفر على غير موضوعه الأول، وذلك على أحد المعنيين: إما على أنَّ حكمه حكم الكافر، أعني في القتل وسائر أحكام الكفار، وإن لم يكن مكذبًا، وإما على أن أفعاله أفعال كافر على جهة التغليظ والردع له، أي أن فاعل هذا يشبه الكافر في الأفعال، إذا كان الكافر لا يصلي، كما قال عليه الصلاة والسلام:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن".
وحمله على أن حكمه حكم الكافر في جميع أحكامه لا يجب
المصير إليه إلا بدليل، لأنه حكم لم يثبت بعدُ في الشرع من طريق يجب المصير إليه، فقد يجب إذا لم يدل عندنا على الكفر الحقيقي الذي هو التكذيب، أن يدل على المعنى المجازي لا على معنى يوجب حكمًا لم يثبت بعدُ في الشرع، بل يثبت ضده، وهو أنه لا يحل دمه؛ إذ هو خارج عن الثلاث الذين نص عليهم الشرع، فتأمل هذا، فإنه بَيِّن، والله أعلم.
أعني أنه يجب علينا أحد أمرين: إمَّا أن نُقَدِّرَ في الكلام محذوفًا إن أردنا حمله على المعنى الشرعي المفهوم من اسم الكفر، وإما أن نحمله على المعنى المُستعَار، وأما حمله على أن حكمه حكم الكافر في جميع أحكامه -مع أنه مؤمن- فشيء مفارق للأصول، مع أن الحديث نص في حق من يجب قتله كفرًا أو حدًا، لذلك صار هذا القول مضاهيًا لقول من يُكَفِّرُ بالذنوب. انتهى ما كتبه ابن رشد جـ 1 ص 90، 91.
وقال العلامة المحقق الشوكاني رحمه الله بعد ذكر نحو ما تقدم في كلام النووي: والحق أنه كافر يقتل، أمَّا كفره فلأن الأحاديث قد صحت أنَّ الشارع سَمَّى تاركَ الصلاة بذلك الاسم، وجعل الحائل بين الرجل وبين جواز إطلاق هذا الاسم عليه هو الصلاةَ، فتركها مقتضٍ لجواز الإطلاق، ولا يلزمنا شيء من المعاَرضَات التي أوْرَدَ هَا القائلون بأنه لا يكفر، لأنا نقول: لا يُمْنَعُ أن يكون بعضُ أنواع الكفر غيرَ مانع من المغفرة، واستحقاقِ الشفاعةِ، ككفر أهل القبلة ببعض الذنوب التي
سماها الشارع كفرًا، فلا مُلْجِىَء إلى التأويلات التي وقع الناس في مَضِيقهَا.
وَأمَّا أنه يقتل فَلأنَّ حديث "أمرت أن أقاتل الناس
…
" يقضي بوجوب القتل، لاستلزام المقاتلة له، وكذلك لمحائر الأدلة، ولا أوضح من دلالتها على المطلوب، وقد شرط الله في القرآن للتخلية التوبةَ وإقامةَ الصلاة وإيتاءَ الزكاة، فقال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا
الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] فلا يُخَلَّى من لَمْ يُقم الصلاة.
وفي صحيح مسلم: "سيكون عليكم أمراء، فتعرفون، وتنكرون، فمن أنكر فقد بَرِىَء ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، فقالوا: ألا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صَلَّوا". فجعل الصلاة هي المانعة من مقاتلة أمراء الجور.
وكذلك قوله لخالد بن الوليد حين استأذنه في قتل رجل منافق: "لعله يصلي
…
" الحديث، فجعل المانع من القتل نفس الصلاة.
وحديث "لا يحل دم امرىء مسلم
…
" لا يعارض مفهومُهُ المنطوقاتِ الصحيحةَ الصريحةَ. انتهى ما قاله الشوكاني "نيل" جـ 2 ص 13، 14.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله العلامة الشوكاني هو التحقيق الواضح الذي تجتمع به الأدلة من غير تكلف.
والحاصل أنَّ تارك الصلاة كافر بنص الحديث، ولكنه كفر دون كفر إذا لم يقترن بالجحد القلبي، فإذا مات يُصَلَّى عليه، ويُدفَنُ في مقابر المسلمين، ويَرِثُ، ويُورَثُ. والله أعلم.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن رجل يصلي وقتًا، ويترك الصلاة كثيرًا، أوْ لا يُصَلَّي، هل يُصَلَّى عليه؟
فأجاب رحمه الله بأن مثل هذا ما زال المسلمون يصلون عليه. اهـ. مجموع الفتاوى جـ 24 ص 287. والله تعالى أعلم.
تنبيه:
اختلفوا هل يجب قتله لترك صلاة واحدة، أو أكثر؛ فالجمهور أنه يقتل بتركها، والأحاديث قاضية بذلك، والتقييد بالزيادة على الواحدة لا دليل عليه.
قال الإمام أحمد رحمه الله: إذا دعي إلى الصلاة، فامتنع، وقال: لا أصَلِّي حتى خرج وقتها وجب قتله. وهكذا حكم تارك ما يتوقف صحة الصلاة عليه من وضوء، أو غسل، أو استقبال القبلة، أو ستر العورة، وكلِّ ما كان شرطًا، أو ركنًا. راجع نيل الأوطار جـ 2 ص 15.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
9 - بَابُ المُحَاسَبَةِ عَلَى الصَّلاةِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على المحاسبة على أداء الصلاة.
465 -
أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ، هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ الْخَزَّازُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ حُرَيْثِ بْنِ قَبِيصَةَ، قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، قَالَ: قُلْتُ اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِي جَلِيسًا صَالِحًا، فَجَلَسْتُ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: فَقُلْتُ: إِنِّي دَعَوْتُ اللهَ عز وجل أَنْ يُيَسِّرَ لِي جَلِيسًا صَالِحًا، فَحَدِّثْنِي بِحَدِيثٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَنْفَعَنِي بِهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ بِصَلَاتِهِ، فَإِنْ صَلَحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ، وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ". قَالَ هَمَّامٌ: لَا أَدْرِي هَذَا مِنْ كَلَامِ قَتَادَةَ، أَوْ مِنَ الرِّوَايَةِ، "فَإِنِ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ، قَالَ: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ، فَيُكَمَّلُ بِهِ مَا نَقَصَ مِنَ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى
نَحْوِ ذَلِكَ". خَالَفَهُ أَبُو الْعَوَّامِ.
رجال هذا الإسناد: سبعة
1 -
(أبو داود) سليمان بن سيف بن يحيى بن درهم الطائي مولاهم الحَرَّاني، ثقة حافظ، من [11]، من أفراد المصنف، وتقدم في 103/ 136.
2 -
(هارون بن إِسماعيل) أبو الحسن (الخَزَّاز) بمعجمات -نسبة إلى بيع الخَزّ، وأصله اسم دَابَّة، ثم أطلق على الثوب المتَّخَذِ من وَبَرِها- البصري، ثقة، توفي سنة 206، من [9].
وفي "تت": قال أبو حاتم: محله الصدق، كان عنده كتاب عن علي بن المبارك، وكان تاجرًا، وقال أبو داود: لا بأس به، سمعت الحسن بن علي يقول: الخَزَّاز شيخ ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. اهـ.
3 -
(همام) بن يحيى بن دينار العَوْذِي البصري، ثقة ربما وهم، من [7].
وفي "تت": قال عمر بن شبة عن عَفَّان: كان يحيى بن سعيد يعترض على هَمَّام في كثير من حديثه، فلما قَدمَ معاذ نظرنا في كتبه، فوجدناه يوافق هَمَّامًا في كثير مما كان يحيى يُنْكِرُهُ، فكفَّ يحيى بعدُ عنه.
وقال أحمد بن سِنَان عن يزيد بن هاورن: كان قويًّا في الحديث،
وقال صالح بن أحمد عن أبيه: هَمَّام ثبت في كل المشايخ. وقال الأثرم عن أحمد: كان عبد الرحمن يرضاه، وقال أبو حاتم عن أحمد: سمعت ابن مهدي يقول: همام عندي في الصدق مثل ابن أبي عروبة. وقال ابن محرز عن أحمد: همام ثقة، وهو أثبت من أبان العَطَّار في يحيي بن أبي كثير.
وقال الدُّوري عن ابن معين: كان يحيى بن سعيد يَرْوي عن أبان، ولا يَروي عن همام، وهمام عندنا أفضل من أبان، وعن ابن معين: ثقة صالح، وهو أحب إليّ في قتادة من حماد بن سَلَمة، وعنه قال: همام في قتادة أحب إليّ من أبي عَوَانَة، وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: مثْلَهُ، وزاد، قلت: همام أحب إليك في قتادة، أو أبان؟ قال: ما أَقربهما كلاهما ثقتان.
وقال علي بن المديني لمَّا ذكر أصحاب قتادة: كان هشام أرواهم عنه، وسعيد أعلمهم به، وشعبة أعلمهم بما سمع عن قتادة مما لم يسمع، قال: ولم يكن همام عندي بدون القوم فيه، ولم يكن ليحيى فيه رأي، وكان ابن مهدي حسن الرأي فيه، وقال ابن عَمَّار: كان يحيى ابن سعيد لا يَعْبَأ بِهَمَّام، ويقول: ألا تعجبون من عبد الرحمن يقول: مَنْ فَاتَهُ شعبةُ يَسْمَعُ من همام؟، وقال عمرو بن علي: كان يحيى بن سعيد لا يحدث عن همام، وكان عبد الرحمن يحدث عنه.
قال: وسمعت إبراهيم بن عرعرة قال ليحيى: ثنا عفان، ثنا همام،
فقال له: اسكت وَيْحَكَ. قال عمرو بن علي: الأثْبَاتُ من أصحاب قتادة: ابن أبي عروبة، وهشام، وشعبة، وهَمَّام.
وقال ابن المبارك: همام ثَبْت في قتادة، وقال محمد بن المنهال الضرير: سمعت يزيد بن زريع يقول: همام حفظه رديء، وكتابه صالح. وقال ابن سعد: كان ثقة، ربما غَلِطَ في الحديث.
وقال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عنه؟ فقال: لا بأس به. قال: وسئل أبي عن همام وأبان؛ من تُقَدِّم منهما؟ قال: همام أحب، ما حدث من كتابه، وإذا حدث من حفظه فهما متقاربان في الحفظ والغلط.
قال: وسألت أبي عن همام؟ فقال: صدوق، في حفظه شيء، وهو أحب إلي من حماد بن سلمة، وأبان العطار، في قتادة. وقال ابن عدي: أخبرني إسحاق بن يوسف أظنه عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه قال: شهد يحيى بن سعيد في حداثته شهادة، فلم يعدله همام،
فنقم عليه.
قال ابن عدي: وهمام أشهر وأصدق من أن يذكر له حديث، وأحاديثه مستقيمة عن قتادة، وهو متقدم في يحيى بن أبي كثير. وقال ابن أبي خيثمة: قال عبد الرحمن بن مهدي: ظَلَمَ يحيى بنُ سعيد همامَ ابنَ يحيى، لم يكن له به علم ولا مجالسة.
وقال الحسن بن علي الحُلْوَاني: سمعت عفان يقول: كان همام لا
يكاد يرجع إلى كتابه، ولا ينظر فيه، وكان يخالف فلا يرجع إلى كتابه، ثم رجع بعدُ، فنظر في كتبه، فقال: يا عفان كنا نُخْطِىُء كثيرًا، فنستغفر الله تعالى. انتهى.
قال الحافظ: وهذا يقتضي أن حديث همام بآخره أصح ممن سمع منه قديمًا، وقد نص على ذلك أحمد بن حنبل. وقال أبو بكر البَرْدِيجِي: همام صدوق يكتب حديثه، ولا يحتج به، وأبان العطار أمثل منه. وقال العجلي: بصري ثقة، وقال الحاكم: ثقة حافظ، وقال الساجي: صدوق سىء الحفظ؛ ما حدث من كتابه فهو صالح، وما حدث من حفظه فليس بشيء، توفي سنة 163، وقيل سنة 164. اهـ. أخرج له الجماعة. تت. جـ 11 ص 67 - 70.
4 -
(قتادة) بن دعامة السدوسي البصري، ثقة، رأس [4]، تقدم في 30/ 34.
5 -
(الحسن) بن أبي الحسن؛ يسار البصري، الإمام الحجة، من [3]، تقدم في 32/ 36.
6 -
(حريث بن قبيصة) ويقال: قبيصة بن حريث -وهو الأشهر- الأنصاري البصري، صدوق، توفي سنة 167، من [3].
وفي "تت": روى عن سلمة بن المُحَبّق، وعنه الحسن البصري،
قال البخاري: في حديثه نظر، وقال الترمذي في حديث حريث بن قبيصة عن أبي هريرة: رواه بعض أصحاب الحسن عنه، عن قبيصة بن حريث، والمشهور هو قبيصة بن حريث. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مات في طاعون الجارف، والجارف سنة سبع وستين.
وجهله ابن القطَّان، وقال النسائي: لا يصح حديثه، وذكر أبو العرب التميمي أن أبا الحسن العجلي قال: قبيصة بن حريث تابعي ثقة، وأفرط ابن حزم، فقال: ضعيف مطروح. اهـ. أخرج له أبو داود، والترمذي، والنسائي. تت. جـ 8 ص 345 - 346.
7 -
(أبو هريرة) الدوسي الصحابي الجليل رضي الله عنه، وتقدم في 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سباعياته، وأنهم موثقون، وأنهم بصريون، إلا شيخه فحراني، وأبا هريرة فمدني.
ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض؛ قتادة عن الحسن عن حريث. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن حريث بن قبيصة) أو قبيصة بن حريث الأنصاري، أنه (قال: قَدِمت المدينة) يقال: قَدمَ الرجل البلدة يَقْدَمُها، من باب تَعِبَ، قُدُومًا، ومَقْدَما -بفتح الميم وَالدال-: إذا دخلها. والمدينة: عَلَم
بالغَلَبَةِ على مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال ابن مالك:
وَقَدْ يَكُونُ عَلَمًا بِالغَلَبَهْ
…
مُضَافٌ أوْ مَصْحُوب "ألْ" كالعَقَبَه
(قال) حريث (قلت: اللهم يسر لي جليسًا صالحًا) إنما دعا بذلك ليستفيد من الجلوس معه، ففي صحيح البخاري من حديث أبي موسى رضي الله عنه مرفوعًا "مَثَلُ الجليس الصالح، والجليس السوء، كمثل صاحب المسك، وكِيرِ الحَدَّاد، لا يَعْدَمُك من صاحب المسك، إما أن تشتريه، أو تجد ريحه، وكير الحَدَّاد يُحِرق بيتك أو ثوبك، أو تجَدُ منه ريحًا خَبِيَثة".
(فجلست إِلى أبي هريرة رضي الله عنه، قال) حريث (فقلت) لأبي هريرة (إِني دعوت الله عز وجل أن يُيَسِّرَ لي جليسًا صالحًا) فيه إشارة إلى أن الله تعالى استجاب دعاءه (فحَدِّثْني بحديت سمعتَهُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لَعَلَّ الله أن ينفعني به، قال) أبو هريرة رضي الله عنه (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِن أول ما يحاسب) بالبناء للمفعول (به) الباء سببية، ويحتمل كونها بمعنى "عن"، أي أول شيء يحاسب به العبد من أعماله، أو أول شيء يحاسب عنه العبد من الأعمال (العبد) بالرفع على أنه نائب الفاعل (بصلاته) قال السندي: الباء زائدة، تدل عليه الرواية الآتية. اهـ. وهي خبر "إن" أي إن أول عمل يحاسب عنه العبد هي الصلاة. ولمراد بها الصلاة المفروضة بدليل قوله "فإن انتقص من فريضته شيء".
فإن قيل: إن هذا الحديث يعارض ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: "أولُ ما يُقْضَى بين الناس يوم القيامة في الدماء".
أجيب بأن حديث الباب محمول على حق الله تعالى، وحديث الشيخين محمول على حقوق الآدميين فيما بينهم، وقيل: حديث الباب مِنْ تَرْكِ العبادات، وحديثُهُمَا مِنْ فِعْلِ السيئات.
وقيل: المحاسبة غيرُ القضاء، فيكون المحاسبة أولًا في الصلاة، ويكون القضاء أولًا في الدماء، وقيل: حديث الباب مضطرب الإسناد، فلا يقاوم حديث الصحيحين. أفاده في المرعاة جـ 4 ص 275.
قال الجامع: في القول الأخير نظر، لما يأتي من دفع الاضطراب، فأولى الأجوبة أولها. فإن قيل: فأيُّهُمَا يقدّم، محاسبةُ العباد على حق الله تعالى، أو محاسبتهم على حقوقهم؟
فالجواب أنَّ هذا أمر توقيفي، وظواهر الأحاديث دالة على أن الذي يقع أولًا المحاسبة على حقوق الله تعالى قبل حقوق العباد. أفاده العراقي في شرح الترمذي. انظر "تحفة الأحوذي" جـ 2 ص 463.
(فإِن صَلُحَت) بفتح اللام، وضمها، أي إن صلحت الصلاة بأدائها صحيحة، أو بوقوعها مقبولة (فقد أفلح) أي فاز بمقصوده، يقال: أفلح الرجل بالهمزة: فَازَ، وظفِرَ. قاله في "المصباح".
(وأنجح) أي قُضيَتْ حاجتُهُ، يقال: أنجح. الرجل: إذا قضيت حاجته، ويقال أيضًا. نَجَحَ ثلاثيًا، ونَجَحَتْ الحاجةُ، وأنجحت: إذا قُضِيَت. أفاده في المصباح أيضًا.
وقال القاري: "فقد أفلح" أي فاز بمقصوده، "وأنجح" أي ظفر بمطلوبه، فيكون فيه تأكيد، أو فازَ بمعنى خَلَصَ من العقاب، "وأنجح": أي حصل له الثواب. اهـ. "مرقاة" جـ 3 ص421.
(وإِن فسدت) الصلاةُ، بأن لم تُؤَدَّ، أوْ أدِّيَت غيرَ صحيحة، أو غير مقبولة (فقد خاب) بِحِرْمَان المَثُوبَة (وخَسِرَ) بوقوع العقوبة، وقيل: معنى "خاب": نَدِمَ "وخَسِرَ" أَي صار محرومًا من الفوز والخلاص قبل العذاب.
(قال هَمَّامٌ) يعني ابن يحيى الراوي عن قتادة (لا أدري هذا) الآتي هل هو (من كلام قتادة، أو) هو (من) جملة (الرواية) المرفوعة المتصلة الإسناد.
والظاهر أن همامًا شك في كون الآتي من تمام الحديث مرفوعًا متصلًا، أو من رواية قتادة مرسلًا. ولا يريد أنه من كلام قتادة، فإنَّ سياق الحديث يأبى ذلك. وسيأتي في الرواية الآتية من طريق أبي العَوَّام عن قتادة متصلًا مرفوعًا كله من دون شك.
(فإِن انتقص) بمعنى "نقص" اللازم، يقال: نقص نقصًا، من
باب قَتَلَ، ونقصانًا، وانتقص: ذَهَب منه شيء بعد تمامه، ونقصته، يتَعَدّى، ولا يتعدَّى، هذه اللغةُ الفصيحةُ، وبها جاء القرآن في قوله تعالى:{نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: 41]، وقوله:{غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود: 109]. وفي لغة ضعيفة يتعدَّى بالهمزة والتضعيف، ولم يَأت في كلام فصيح، ويتعدى أيضًا بنفسه إلى مفعولين، فيقال: نَقَصتُ زيدًا حَقَّهُ وانتقصتُ مثله. قاله في المصباح.
(من فريضته شيء) أي من الفرائض (قال) الله تعالى لملائكته (انظروا هل لعبدي) في صحيفته (من) زائدة (تطوع) أي نافلة قبلية، أو بعدية، أو غيرهما (فيكمّل) بتشديد الميم، من التكميل، أو بتخفيفها، من الإكمال، وبناءِ الفعل للفاعل، أو المفعول، وهو الأظهر، وهو منصوب بأن مضمرة بعد الفاء السببية في جواب الاستفهام، كما قال ابن مالك:
وَبَعْدَ فَا جَوابِ نَفْيٍ أوْ طَلَبْ
…
مَحْضَيْنِ "أنْ" وَستْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ
ويجوز رفعه على الاستئناف.
قال الطيبي: الظاهر النصب، على أنه من كلام الله تعالى جوابًا للاستفهام، ويؤيده رواية أحمد "فَكَمِّلُوا بِها فَرِيضَتَهُ".
(به) أي التطوع (ما نقص من الفريضة) أي مقداره، وضمير "نقص" راجع إلى الموصول على أنه لازم، أو إلى العبد، فيكون
متعديًا، أي ما نقصه العبد من الفريضة.
ثم إن ظاهر الحديث يدل على أن مَنْ فاتته الصلاة المفروضة، وصلى تطوعًا يحسب له التطوع موضع الفريضة. وقيل: بل ما نقص من خشوع الفريضة، وآدابها يُجْبَرُ بالتطوع، وَرُدَّ بأنَّ قوله:"ثم يكون سائر عمله على ذلك" لا يناسبه، إذ ليس في الزكاة إلا فرض أو فضل، فكما تكمل فرض الزكاة بفضلها، كذلك في الصلاة، وفضل الله أوسع.
وقال العراقي في شرح الترمذي: يحتمل أن يُرَادَ به ما انتقصه من السنن والهيئات المشروعة فيها من الخشوع والأذكار والأدعية، وأنه يحصل له ثواب ذلك في الفريضة، وإن لم يفعله فيها، وإنما فعله في التطوع، ويحتمل أن يراد به ما انتقص أيضًا من فروضها وشروطها، ويحتمل أن يراد ما ترك من الفرائض رَأسًا، فلم يُصَلّهِ، فيعوض عنه من التطوع، والله تعالي يقبل من التطوعات الصحيَحة عوضًا عن الصلوات المفروضات. انتهى.
وقال ابن العربي: الأظهر عندي أنه يكمل بفضل التطوع ما نقص من فرض الصلاة، وأعدادها، لقوله "ثم الزكاة كذلك، وسائر الأعمال"، وليس في الزكاة إلا فرض، أو فضل، فكما يكمل فروض الزكاة بفضلها كذلك الصلاة، وفضل الله أوسع، وكرمه أعمّ وأتمّ. اهـ. منقولًا من "المرعاة" جـ 4 ص 376.
قال الجامع: الأظهر عندي أن يراد به ما هو أعم من ترك الفرض رأسًا، أو الشروط، أو الهيئات، لعموم النص. والله أعلم.
(ثم يكون سائر عمله) أي باقي عمله، من سَئِر الشيُء سُؤْرًا بالهمزة، من باب شَرِبَ: بَقِيَ، فهو سائر، قاله الأزهري، واتفق أهل اللغة على أنَّ سائرَ الشيء باقيه، قليلًا كان أو كثيرًا، قال الصغاني: سائرُ الناس: باقِيهم، وليس معناه جميعُهُم، كما زَعَم من قَصُرَ بَاعُه، وجَعْلُهُ بمعنى الجَميعِ من لَحْن العوامّ، ولا يجوز أن يكون مشتقًا من سور البلد، لاختلاف المادتين. أفاده في المصباح.
يعني أن باقي أعماله من الصوم والزكاة والحج، وغيرها تكون (على نحو ذلك) أي على مثل ما ذكر في الصلاة، فيُنظَرُ أوّلًا إلى الفريضة؛ فإن كانت كاملة، وإلا ينظر إلى تطوعاته، فيكمل ما انتقصه من فريضته منها. والله تعالى أعلم.
ولما وقع اختلاف على قتادة بَيَّنَهُ بقوله (خالفه) أي خالف هَمَّامًا في روايته عن قتادة (أبو العَوَّامِ) فاعل خالف، وهو عمران بن دَاوَر -بفتح الواو بعدها راء- القَطَّان البصري، ومخالفته له حيث إنه جَعَلَهُ عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، كما بين روايته بقوله:
466 -
أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ -يَعْنِي ابْنَ زِيَادِ بْنِ مَيْمُونٍ- قَالَ: كَتَبَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ عَنْهُ -أَخْبَرَنَا
أَبُو الْعَوَّامِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ وُجِدَتْ تَامَّةً كُتِبَتْ تَامَّةً، وَإِنْ كَانَ انْتَقَصَ مِنْهَا شَيْءٌ، قَالَ: انْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ لَهُ مِنْ تَطَوُّعٍ، يُكَمِّلُ لَهُ مَا ضَيَّعَ مِنْ فَرِيضَةٍ مِنْ تَطَوُّعِهِ، ثُمَّ سَائِرُ الأَعْمَالِ تَجْرِى عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ".
رجال هذا الإسناد: سبعة
1 -
(أبو داود) سليمان بن سَيْف بن يحيي بن دِرْهم الطائي مولاهم الحَرَّاني، ثقة حافظ، توفي سنة 272، من [11]، انفرد به المصنف، وتقدم في 103/ 136.
2 -
(شعيب بن بيان بن زياد بن ميمون) الصَّفَّار القَسْمِليُّ البصري، صدوق يخطىء، من [9].
وفي "تت": وقال الجُوزَجَانِيُّ: له مناكير، وقال العقيلي: يحدث عن الثقات بالمناكير، وكان يغلب على حديثه الوهم، ذكره ابن حبان في الثقات، ولم ينسبه، بل قال: شعيب بن بيان، يروي عن يزيد المزي، عن الحسن، وعنه عبد الله بن الحارث، قال الحافظ: فما أدري
هو ذا، أم غيره؟. انفرد به النسائي، فأخرج له حديث الباب، فقط. اهـ. جـ 4 ص 349، 350.
3 -
(أبو العَوَّاِم) بتشديد الواو- عمران بن دَاوَر القَطَان البصري، صدوق يَهِمُ، ورمي برأى الخوارج، توفي بين سنة 160 وسنة 170، من [7].
وفي "تت": قال عمرو بن علي: كان ابن مهدي يحدث عنه، وكان يحيى لا يحدث عنه، وقد ذكره يحيى يومًا، فأحسن الثناء عليه، وقال عبد الله بن أحمد،، عن أبيه: أرجو أن يكون صالح الحديث.
وقال الدُّورِيّ عن ابن معين: ليس بالقوي، وقال مرة: ليس بشيء، لم يَرْوِ عنه يحيى بن سعيد، وقال الآجري عن أبي داود: هو من أصحاب الحسن، وما سمعت إلا خيرًا، وقال مرة: ضعيف، أفتى في أيام إبراهيم بن عبد الله بن حسن بفتوى شديدة فيها سفك الدماء، قال: وقَدَّمَ أبو داود أبا هلال الراسبي عليه تقديمًا شديدًا. وقال النسائى: ضعيف.
وقال ابن عدي: هو ممن يكتب حديثه. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال أبو المنهال عن يزيد بن زريع: كان حَرُورِيًا، كان يَرَى السيف على أهل القبلة.
قال الحافظ: في قوله: "حروريًا" نظر، ولعله شُبِّهَ بهم، وقد ذكر
أبو يعلى في مسنده القصة عن أبي المنهال في ترجمة قتادة، عن أنس، ولفظه: قال يزيد: كان إبراهيم يعني ابن عبد الله بن حسن لمَّا خرج يطلب الخلافة استفتاه عن شيء؟ فأفتاه بفتيا، قتل بها رجال مع إبراهيم. انتهى.
وكان إبراهيم ومحمد خرجا على المنصور في طلب الخلافة، لأن المنصور كان في زمن بني أمية بايع محمدًا بالخلافة، فلمَّا زالت دولة بني أمية وولي المنصور الخلافة تطلب محمدًا، فَفَرَّ، فألح في طلبه، فظهر بالمدينة، وبايعه قوم، وأرسل أخاه إبراهيم إلى البصرة، فملكها، وبايعه
قوم، فقدر أنهما قتلا، وقتل معهما جماعة كثيرة، وليس هؤلاء من الحرورية في شيء.
وقال الساجي: صدوق، ووثقه عفَّان، وقال العُقَيلي من طريق بن معين: كان يرى رأي الخوارج، ولم يكن داعية، وقال الترمذي: قال البخاري: صدوق يَهِمَ، وقال ابن شاهين في الثقات: كان من أخص الناس بقتادة. وقال الدارقطني. كان كثير المخالفة والوهم. وقال العجلي: بصري ثقة.
وقال الحاكم: صدوق، وأورده العقيلي عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن، عن أبي هريرة حديث "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء". قال: لا يتابع عليه بهذا اللفظ، ولا يعرف إلا به. أخرج له البخاري تعليقًا، والأربعة.
4 -
(قتادة) بن دِعَامَة السَّدُوسيّ البصري، ثقة، رأس [4]، تقدم في 30/ 34.
5 -
(الحسن) بن أبي الحسن يسار البصري، الإمام الحجة، من كبار [3]، تقدم في 32/ 36.
تنبيه:
وقع في النسختين المصرية والهندية من "المجتبى" هنا: "الحسن بن زياد"، بزيادة ابن زياد، إلا أن في الهندية ما يشير إلى أنه لا يوجد في بعض النسخ زيادة بن زياد.
قال الجامع: هو الصواب، فإن الحسن هو البصري الراوي عن حريث في السند السابق؛ ولذا أورده أبو الحجاج المزي في "تحفته" في ترجمة الحسن البصري عن أبي رافع، عن أبي هريرة، كما أورده قبله في ترجمة الحسن البصري، عن حريث بن قبيصة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وليس في الكتب الستة من اسمه الحسن بن زياد أصلًا. فتفطن.
6 -
(أبو رافع) نُفَيع الصائغ المدني نزيل البصرة، ثقة ثبت، مشهور بكنيته، من [2]، وتقدم في 129/ 191.
7 -
(أبو هريرة) الصحابي الدوسي الجليل رضي الله عنه تقدم في 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سباعياته، وأن رواته وثقوا.
ومنها: أن شيخه، وشيخ شيخه ممن انفرد هو بهم، والباقون أخرجوا لهم، إلا أبا العَوَّام، فعلق عنه البخاري ولم يخرج له مسلم.
ومنها: أن رجاله بصريون إلا شيخه فَحَرَّاني، وأبا هريرة فمدني.
ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: قتادة والحسن وأبو رافع.
ومنها: أن أبا هريرة أحد المكثرين السبعة روى 5374 حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(أخبرنا أبو داود) سليمان بن سيف (قال: حدثنا شعيب، يعني ابن بيان بن زياد بن ميمون) الصَّفَّار القَسْمَلِيّ (قال) أبو داود شيخ المصنف (كتب علي بين المديني عنه) أي عن شعيب هذا؛ يريد به تقوية أمره، وكونه معروفًا لَدَى المحدثين، حتى كتب عنه الإمام الجليل ابنُ المديني، ورَوَى عنه أيضًا إبراهيم بن المُسْتَمرّ العُرُوقِيّ، وأحمد بن علي العَمِّي، ومحمد بن يزيد الإسفاطي، ومهلبَ بن العلاء، ومحمد بن موسى الكديمي.
وروى هو عن شعبة، وأبي ظِلَال، وسَلاَّم بن مسكين.
تنبيه:
قوله "كتب علي بن المديني عنه" صريح سياق المصنف أنه من كلام شيخه أبي داود، وهكذا ذكره الحافظ المزي في تهذيبه جـ 12 ص 508. وجعله الحافظ في تهذيب التهذيب من كلام محمد بن موسى الكديمي انظر تت جـ 4 ص 349.
قال الجامع: لعله منقول عنهما، أو هو ذهول من الحافظ. والله أعلم.
(قال) شعيب (أخبرنا أبو العوَّام) عمران بن دَاوَر القَطَّانُ (عن قتادة) بن دِعَامَة (عن الحسن بن زياد) تقدم قريبًا أن الصواب "عن الحسن" بدون زيادة ابن زياد، وهو الحسن المصري (عن أبي رافع) نُفَيع الصائغ (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إِن
أول ما يحاسب به العبد) من أعماله، وتقدم معنى الباء في الحديث الماضي (يوم القيامة صلاته، فإِن وُجِدَت تامّة) بأدائها على الوجه المطلوب (كتبت تامة) أي أثبتت في صحيفة أعماله تامة ليأخذ بها أجره بعد انتهاء المحاسبة على أعماله كلها (وإِن كان)"كان" زائدة، أو شأنية، اسمها ضمير الشأن، وخبرها الجملة بعدها (انتقص منها)"انتقص" لازم، ولذا رفع به قوله (شيء) سواء كان من فروضها، أو شروطها، أو مستحباتها، على ما تقدم من ترجيح القول بالعموم.
(قال) الله عز وجل للملائكة (انظروا) في صحيفته (هل
تجدون له من) زائدة (تطوع، يكمل له) من التكميل، أو الإكمال، والفعل مبني للمفعول (ما) موصولة في محل رفع على أنها نائب فاعل "يكمل"، ولا يصح ضبط يكمل هنا بالبناء للفاعل، لركاكة التركيب، بخلافه فيما تقدم (ضيّع) بتشديد الياء، من التضييع، صلة "ما" والعائد محذوف، لكونه منصوبًا، كما قال ابن مالك:
................
…
وَالحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي
في عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ
…
بِفِعْلٍ أوْ وَصْفٍ كَمَنْ نرْجُو يَهَبْ
(من فريضة) بيان لـ"ما"، متعلق بحال مقدر، أي حال كون ما ضَيعَه كائنًا من فريضة، وقوله (من تطوعه) متعلق بيكمل، أي يكمل الذي ضيعه من فريضته مما تطوع به من النوافل.
وجملة "يكمل" إلخ جملة مستأنفة، استئنافًا بيانيًا، وهو ما وقع جوابًا لِسُؤَالٍ مقدر، فكأنه قيل: ماذا يعمل بالتطوع؟ فأجيب بأنه يكمل به ما نقص من الفرائض.
(ثم) بعد محاسبة الصلاة على هذا الوجه (سائر) أي باقي (الأعمال) من الصوم والزكاة والحج، وغيرها، فـ "سائر" مبتدأ، وخبره جملة قوله (تجري) بالبناء للفاعل، أو المفعول (على حساب
ذلك) أي على مثله، يقال: هذا بحسب هذا -بفتح السين- أي بعدده، وقدره، وقد يسكن سينه. كما تفيده عبارة "ق".
يعني أن باقي الأعمال يحاسب عليها العبد على مثال محاسبة الصلاة، فإن كانت الفريضة تامة كتبت له تامة، وإلا نظر إلي التطوع فيكمل به ما نقص من الفريضة. والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بحديث أبى هريرة رضي الله عنه
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه صحيح.
سكت عنه أبو داود، والمنذري، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وما ذكر من الاضطراب في سنده يجاب عنه بما قال العلامة أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي: لعل الحسن البصري سمعه من ناس متعددين: حريث بن قبيصة، عند المصنف، والترمذي، وأبي رافع عند المصنف، وأنس بن حكيم عند أحمد وأبي داود والحاكم، ورجل من بني سليط عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والحاكم، أو يكون الرجل المبهم أحدهما، وليس هذا اضطرابًا فيه
يوجب ضعفه، بل هي طرق يؤيد بعضها بعضًا. والله تعالى أعلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكره عند المصنف:
حديث أبي هريرة عن الحسن، عن حريث بن قبيصة عنه، أخرجه المصنف هنا في "المجتبى"(465) وفي "الكبرى"(326) وعن الحسن،
عن أبي رافع عنه، أخرجه هنا (466) فقط.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أما طريق الحسن، عن حريث، فأخرجها الترمذي في "الصلاة" عن علي بن نصر الجَهْضَمي، عن سهل بن حماد، عن همام، عن قتادة، عنه. وأما طريق الحسن عن أبي رافع فمن أفراد المصنف. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: بيان عظم الصلاة، وفضلها على سائر العبادات؛ حيث وقعت المحاسبة عليها قبل سائر الأعمال.
ومنها: شدة حرص السلف على مُجَالَسَة الصالحين، وشدة رغبتهم في طلب العلم.
ومنها: بيان فضل الله تعالى على عباده المؤمنين حيث جبر خلل فرائضهم بنوافلهم.
ومنها: الترغيب على الاستكثار من نوافل العبادات، ليجبر بها ما يقع من النقص في الفرائض. والله أعلم، ومنه التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
467 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ الأَزْرَقِ بْنِ
قَيْسٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ صَلَاتُهُ، فَإِنْ كَانَ أَكْمَلَهَا، وَإِلاَّ قَالَ اللَّهُ عز وجل: انْظُرُوا لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَإِنْ وُجِدَ لَهُ تَطَوُّعٌ، قَالَ: أَكْمِلُوا بِهِ الْفَرِيضَةَ".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(إِسحاق بن إِبراهيم) الحَنْظَلِيُّ المروزي نزيل نيسابور، ثقة حجة، من [10]، تقدم في 2/ 2.
2 -
(النضر بن شُمَيل) المازني أبو الحسن النحوي البصري، نزيل مرو، ثقة ثبت، في [9]، تقدم في 41/ 45.
3 -
(حماد بن سلمة) أبو سلمة البصري، ثقة عابد، من [8]، تقدم في 181/ 288.
4 -
(الأزرق بن قيس) الحارثي البصري، ثقة، توفي بعد سنة 120، من [3].
وفي "تت": قال النسائي: ثقة وقال ابن سعد: ثقة إن شاء الله، وقال ابن معين: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال الدارقطني: ثقة مأمون، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مات في
ولاية خالد على العراق. أخرج له البخاري، وأبو داود، والنسائي. اهـ.
5 -
(يحيى بن يعمر) بفتح التحتانية، والميم، بينهما مهملة ساكنة -وحكى بعضهم ضم الميم أيضا- البصري، نزيل مرو وقاضيها، ثقة فصيح، وكان يرسل، من [3].
وفي "تت": أبو سليمان، ويقال: أبو سعيد، ويقال: أبو عدي القيسي الجَدَلي، قاضي مرو. قال أبو زرعة، وأبو حاتم، والنسائي: ثقة، وقال الآجري: قلت لأبي داود: سمع من عائشة؟ قال: لا.
وقال الحسين بن الوليد عن هارون بن موسى: أول من نقط المصاحف يحيى بن يعمر. وقال قيس بن الربيع عن عبد الملك بن عمير: فصحاء الناس ثلاثة: موسى بن طلحة، ويحيى بن يعمر، وقبيصة بن جابر، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال كان من فصحاء أهل زمانه، وأكثرهم علمًا باللغة مع الورع الشديد، وكان على قضاء مرو، ولاهُ قتيبة بن مسلم.
وقال الدارقطني: لم يَلْقَ عَمَّارًا، إلا أنه صحيح الحديث عمن لقيه. وقال أبو داود: بينه وبين عمار رجل، وقال ابن سعد: كان نحويًا صاحب علم بالعربية والقرآن، ولي القضاء بمرو، وكان
يقضي باليمين والشاهد، وكان ثقة، وقال الحاكم. يحيى بن يعمر فقيه، أديب، نحوي، مروزي، تابعي، وأكثر روايته عن التابعين، وأخذ النحو عن أبي الأسود الديلي، نفاه الحجاج إلى مرو، فقبله
قتيبة بن مسلم، وقد قضى في أكبر مُدُن خُرَاسَان، وكان إذا انتقل من بلد استخلف على القضاء بها.
وقال أبو الحسن بن الأثير الجزري في الكامل: مات سنة 129 كذا قال، وفيه نظر، وقال غيره: مات في حدود العشرين، وقال ابن الجوزي: مات سنة 89، وقيل: إن قتيبة عزله لما بلغه أنه يشرب المُنَصَّفَ. اهـ. "تت". جـ 1 ص 305 - 306.
6 -
(أبو هريرة) الدوسي الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسياته.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، بَصْرِيُّون إلا شيخه فمروزي نيسابوري، وأبا هريرة فمدني.
ومنها: أن الأزرق، ويحيى بن يعمر هذا الباب أول محل ذكرهما من هذا الكتاب.
ومنها: أن أبا هريرة أحد المكثرين السبعة؛ روى 5374 حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي هريرة) رضي الله عنه (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أنه (قال:
أول ما يحاسب به العبد صلاته، فإِن أكملها" جواب "إن" محذوف، تقديره قُبِلَت (وإِلا) "إن" شرطية، أبدلت نونها لامًا، وأدغمت، في لام "لا" النافية، وفعل الشرط محذوف، تقديره: وإن لا يكملها، وجوابه قوله (قال الله عز وجل لملائكته (انظروا لعبدي من تطوع، فإِن وجد له تطوع، قال) الله تعالى (أكملوا به) أي بتطوعه (الفريضة) أي ما نقص منها.
تنبيه:
هذا الحديث صحيح، وهو من أفراد المصنف، أخرجه هنا في "المجتبى"(467)، وفي "الكبرى"(325).
وقد تقدم ذكر الفوائد في الحديث السابق. والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
10 - بَابُ ثَوَابِ مَنْ أقَام الصَّلاةَ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على ثواب الشخص الذي أقام الصلاة.
وإقامة الشيء: إدامة فعله، والمحافظة عليه، وتَوْفيَةُ حقه، قال الله تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [المائدة: 68] أي توفون حقوقهما بالعلم والعمل، وكذلك قوله:{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [المائدة: 66].
ولم يأمر الله تعالى بالصلاة حيثما أمر، ولا مدح حيثما مدحَ، إلا بلفظ الإقامة، تنبيهًا أن المقصود منها توفية شرائطها، لا الإتيان بهيئتها، نحو {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} في غير موضع {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} [النساء: 162]. قاله الراغب الأصفهاني في "مفردات القرآن"
ص 692، 693. والله تعالى أعلم.
468 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي صَفْوَانَ الثَّقَفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، وَأَبُوهُ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: أَنَّهُمَا سَمِعَا مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، أَنَّ رَجُلاً، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي
الْجَنَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"تَعْبُدُ اللهَ، وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِى الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ. ذَرْهَا" كَأَنَّهُ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ.
رجال هذا الإسناد: سبعة
1 -
(محمد بن عثمان بن أبي صفوان الثقفي) البصري، ثقة، من [11].
وفي "تت": محمد بن عثمان بن أبي صفوان بن مروان بن عثمان ابن أبي العاص الثقفي، أبو عبد الله، وقيل: أبو صفوان البصري، وقيل في نسبه غير ذلك.
قال أبو حاتم: ثقة، وقال النسائي: لا بأس به. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مات سنة 250، أو قبلها بقليل، أو بعدها بقليل، وقال ابن أبي عاصم: مات سنة 252. أخرج له الترمذي، والنسائي. اهـ.
2 -
(بهز بن أسد) العمي، أبو الأسود البصري، ثقة ثبت، توفي بعد سنة 200، من [9]، وتقدم في 24/ 28.
3 -
(شعبة) بن الحجاج أبو بسطام الواسطي، ثم البصري، ثقة حجة، من [7]، تقدم في 24/ 26.
4 -
(محمد بن عثمان بن عبد الله) بن موهب التيمي مولاهم،
ثقة، من [6]، ويقال: الصواب: عمرو، وقيل: هو أخوه.
وفي "تت": مولى آل طلحة، روى عن موسى بن طلحة، عن أبي أيوب أن رجلًا، قال: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة
…
الحديث، رواه شعبة عنه، وعن أبيه عثمان جميعًا عن موسى، قال البخاري: أخشى أن يكون محمد غير محفوظ، وإنما هو عمرو بن عثمان، وهكذا رواه القطان، وابن نمير، وغير واحد عن عمرو بن عثمان، عن موسى، وذكر أبو يحيى أن محمدًا هذا أخ لعمرو. فالله أعلم. أخرج له البخاري، ومسلم، والنسائي. اهـ. "تت".
وفي "الفتح" بعد ذكر ما تقدم عن البخاري: ما نصه: وجزم في التاريخ بذلك، وكذا قال مسلم في شيوخ شعبة، والدارقطني في العلل، وآخرون: المحفوظ: عمرو بن عثمان، وقال النووي: اتفقوا على أنه وَهَمٌ من شعبة، وأن الصواب: عمرو. والله أعلم. اهـ. "فتح" جـ 3 ص311، 312.
5 -
(عثمان بن عبد الله) بن مِوْهَب بفتح الهاء -التيمي مولاهم المدني الأعرج، وقد ينسب إلى جده، ثقة، من [4].
وفي "تت": أبو عبد الله، ويقال: أبو عمرو الأعرج، مولى آل طلحة، وَثَّقَهُ ابن معين، وأبو داود، والنسائي، ويعقوب بن شيبة، والعجلي، وابن حبان، وقال: مات سنة 160 وفيها أرخه ابن سعد،
وخليفة بن خيَّاط، وابن قانع. روى له الجماعة إلا أبا داود. اهـ.
6 -
(موسى بن طلحة) بن عبيد الله التيمي، أبو عيسى، أو أبو محمد، المدني نزيل الكوفة، ثقة جليل، ويقال: ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأمُّهُ خَوْلَة بنت القَعْقَاعِ بن مَعْبَدِ بنِ زُرَارَةَ. من [2].
وفي "تت": قال ابن سعد: قال الواقدي: رأيت مَنْ قبَلنَا وأهلَ بيته يكنونه أبا عيسى، وكان كثير الحديث. وقال الزبير بن بَكَّار: كان من وجوه آل طلحة، وقال المرُّوذِيّ عن أحمد: ليس به بأس، وقال العجلي: تابعي ثقة، وكان خيارًا، وقال مرة: كوفي ثقة رجل صالح.
وقال أبو حاتم: يقال: إنه أفضل ولد طلحة بعد محمد، كان يسمى في زمانه المهدي. وقال ابن خراش: كان من أجلاء المسلمين، ويقال: إنه شهد الجمل مع أبيه، وأطلقه عليّ بعد أن أسِرَ، ويقال: إنه فَرَّ من الكوفة إلى البصرة لمَّا ظَهَرَ المختار بن أبي عبيد، وعن عبد الملك بن عمير، قال: كان فصحاء الناس أربعة، فذكره فيهم.
وروى العقدي عن إسحاق بن يحيى بن طلحة، عن عمه موسى قال: صحبت عثمان اثنتي عشرة سنة. وقال الهيثم، وابن سعد، وغير واحد: مات سنة 103، وقال أبو عبيد: مات سنة ثلاث، أو أربع. وقال أبو نعيم، وأحمد: مات سنة 104 ويقال: سنة 106. قال ابن
عساكر: يقال: إنه ولد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سماه. اهـ "تت"
جـ 10 ص 350 - 351. روى له الجماعة.
7 -
(أبي أيوب) الأنصاري خالد بن زيد بن كُلَيب الصحابي الجليل رضي الله عنه تقدم في 20/ 20. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات.
ومنها: أن شعبة وبهزًا، وموسى، وأبا أيوب ممن اتفق الستة بالتخريج لهم، وأن شيخه ممن انفرد به هو وأبو داود، ومحمد بن عثمان من رجال البخاري ومسلم والنسائي، وأبوه عثمان من رجال البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه.
ومنها: أن شيخه، ومحمد بن عثمان، وأباه عثمان، وموسى بن طلحة، هذا الباب أول محل ذكرهم من هذا الكتاب. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي أيوب) خالد بن زيد الأنصاري من كبار الصحابة رضي الله عنه، مات غازيًا بالروم سنة 50، وقيل: بعدها (أن رجلًا) هذا الرجل حَكَى ابنُ قتيبة في غريب الحديث له أنه أبو أيوب الراوي، وغَلَّطه في ذلك بعضهم، فقال: إنما هو راوي الحديث.
قال الحافظ رحمه الله: وفي التغليط نظر، إذ لا مانع أن يُبِهمَ الراوي نفسه لغرض له، ولا يقال: يَبْعُدُ، لوصفه في رواية أبي هريرة التي بعد هذه بكونه أعرابيًا، لأنا نقول: لا مانع من تعدد القصة، فيكون
السائل في حديث أبي أيوب هو نفسه، لقوله: أن رجلًا، والسائل في حديث أبي هريرة أعرابي آخر، قد سُمِّيَ فيما رواه البغوي، وابن السكن، والطبراني في "الكبير"، وأبو مسلم الكجي في "السنن" من طريق محمد بن جُحَادَة وغيره، عن المغيرة بن عبد الله اليشكري أن أباه حدثه، قال:
انطلقت إلى الكوفة، فدخلت المسجد، فاذا رجل من قيس يقال له: ابن المنتفق، وهو يقول: وُصِفَ لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ـ، فطلبته، فلقيته بعرفات، فزاحمت عليه، فقيل لي: إليك عنه، فقال:"دعوا الرجل، أرَبٌ مَّا لهُ"، قال: فزاحمت عليه حتى خَلَصْتُ إليه، فأخذت بخطام راحلته، فما غَيَّرَ عَلَيَّ.
قال: شيئين أسألك عنهما: ما ينجيني من النار، وما يدخلني الجنة؟ قال: فنظر إلى السماء، ثم أقبل عليّ بوجهه الكريم، فقال:"لئن كنت أوجزتَ المسألةَ، لقد أعظمت وطَوَّلت فاعقل عليّ، اعبد الله، لا تشرك به شيئًا، وأقم الصلاة المكتوبة، وأدِّ الزكاةَ المفروضة، وصُمْ رَمَضَانَ".
وأخرجه البخاري في "التاريخ" من طريق يونس بن أبي إسحاق عن المغيرة بن عبد الله اليشكري، عن أبيه، قال: غَدَوْتُ، فإذا رجل يحدثهم، قال: وقال جرير، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن المغيرة بن عبد الله، قال: سأل أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر الاختلاف فيه
عن الأعمش، وأن بعضهم قال فيه: عن المغيرة بن سعد بن الأخرم، عن أبيه، والصواب: المغيرة بن عبد الله اليشكري، وزعم الصيرفي أن اسم ابن المنتفق هذا لقيط بن صَبِرَة وافد بني المُنْتَفِق. فالله أعلم.
وقد يؤخذ من هذه الرواية أن السائل في حديث أبي هريرة هو السائل في حديث أبي أيوب، لأن سياقه شبيه بالقصة التي ذكرها أبو هريرة، لكن قوله في هذه الرواية:"أرَبٌ ما له"، في رواية أبي أيوب دون أبي هريرة، وكذا حديث أبي أيوب وقع عند مسلم من رواية عبد الله بن نمير، عن عمرو بن عثمان بلفظ "أن أعرابيًا عَرَضَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في سفر، فأخذ بخطام ناقته، ثم قال: يا رسول الله أخبرني
…
" فذكره، وهذا شبيه بقصة سؤال ابن المنتفق. وأيضًا فأبو أيوب لا يقول عن نفسه: "أن أعرابيًا". والله أعلم
وقد وقع نحو هذا السؤال لصخر بن القعقاع الباهلي، في حديث الطبراني أيضًا من طريق قَزَعَة بن سُوَيد الباهلي: حدثني أبي، حدثني خالي، واسمه صخر بن القعقاع، قال: لقيت النبي صلى الله عليه وسلم بين عرفة ومزدلفة، فأخذتُ بخطام ناقته، فقلت: يا رسول الله ما يقربني من الجنة، ويباعدني من النار
…
فذكر الحديث، وإسناده حسن. اهـ.
"فتح" جـ 3 ص 310، 311.
(قال: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة) برفع "يدخلني"، والجملة في محل جر صفة لعمل، ويجوز جزمه بتقدير "إن عملته"، أو على أنه جواب الأمر.
وفي عمدة القاري: الجزم فيه على جواب الأمر غير مستقيم، لأنه إذا جُعِلَ جوابَ الأمر يبقى قوله "بعمل" غير موصوف، والنكرة غير الموصوفة لا تفيد، كذا قاله صاحب المظهر شارح المصابيح.
قال العيني رحمه الله: التنكير في "بعمل" للتفخيم، أو التنويع، أي بعمل عظيم، أو معتبر في الشرع، أو نقول إذا صح الجزم فيه: إن جزاء الشرط محذوف، تقديره: أخبرني بعمل إن عملتُهُ يدخلني الجنة، فالجملة الشرطية بأسرها صفة لعمل، فافهم. اهـ. "عمدة" جـ 8 ص 239.
ويدخلني من الإدخال، أي يدخلني الله به، أو يدخلني ذلك العمل عل الإسناد المجازي. قاله السندي. زاد في رواية البخاري في "كتاب الأدب" فقال القوم: ما له، ما له؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أرب ما له"، وهو بفتح الهمزة والراء منونًا، أي حاجة، و"ما" زائدة للتأكيد، كأنه قال: له حاجة مَّا.
وقال ابن الجوزي: المعنى له حاجة مهمة مفيدة جاءت به، لأنه عَلِمَ بالسؤال أنَّ له حاجةً، ورُوِيَ "أرِبَ" بلفظ الماضي، يقال: أرِبَ الرجَلُ في الأمر إذا بلغ فيه جُهْدَه، قالهَ النضر بن شميل، وعن الأصمعي: أرِبَ في الشيء صار ماهرًا فيه، فهو أرِيب، وكأنه تَعَجَّبَ من حُسْن
فطنته، والاهتداء إلى موضع حاجته، ويؤيده قوله في رواية مسلم: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد وُفِّقَ، أو هُدِيَ". اهـ. فتح بتصرف جـ 3 ص 311.
(تعبد الله) أي توحده، فهو بتقدير حرف مصدري، كقوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} [الروم: 24]، وقول الشاعر (من الطويل):
ألا أيُّهَذَا الزَّاجِرِي أحْضُرُ الوَغَى
…
وأنْ أشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أنْتَ مُخْلِدِي
أو الفعل مُنَزَّل مَنزِلَةَ المصدر، كقولهم: تَسْمَعُ بالمُعَيْديّ خَيْرٌ مِنْ أنْ تَرَاهُ. أو خبر بمعنى الأمر، أي: اعبد الله.
والعبادة يحتمل أن تكون بمعنى التوحيد، فيكون قوله (ولا تشرك به شيئا) تفسيرًا وتأكيدًا له، ويحتمل أن تكون بمعني الطاعة مطلقًا، فتكون الجملة بعده لبيان الإخلاص وترك الرياء، وعلى هذا فعطف قوله "وتقيم الصلاة
…
" إلخ تخصيص بعد تعميم.
وقال البدر العيني رحمه الله: قوله "تعبد الله" أي توحده، وفسره بقوله:"ولا تشرك به شيئًا"، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56] أي ليوحدوني.
والتحقيق هنا أن العبادة: الطاعة مع خضوع، فيحتمل أن يكون المراد بالعبادة هنا معرفة الله تعالى، والإقرار بوحدانيته، فعلى هذا يكون عطف الصلاة وما بعدها، لإدخالها في الإسلام، وإنها لم تكن دخلت في العبادة، ويحتمل أن يكون المراد بالعبادة الطاعة مطلقًا، فيدخل جميع وظائف الإسلام فيها، فعلى هذا يكون عطف الصلاة
وغيرها من باب عطف الخاص على العام تنبيهًا على شرفه وَمَزِيَّتِهِ.
وإنما ذكر قوله: "ولا تشرك به شيئًا"، بعد العبادة لأن الكفار كانوا يعبدون الله سبحانه في الصورة، ويعبدون معه أوثانًا، يزعمون أنها شركاء، فَنَفَى هذا. اهـ. عمدة جـ 8 ص 240.
(وتقيم الصلاة) أي تديم فعْلَهَا وتحافظ عليها على الوجه المطلوب، وتَقَدَّمَ أوّلَ الباب ما قاله الراغب الأصفهاني في معنى إقامة الصلاة. والمراد الصلاة المكتوبة، لما في رواية البخاري، "وتقيم الصلاة المكتوبة"(وتؤتي الزكاة) أي تعطي الزكاة مستحقَّها، فالمفعول الثاني محذوف، والمراد به الزكاة المفروضة، لما في رواية البخاري "وتُؤَدِّي الزكاة المفروضة"(وتصل الرحم) من وَصَلَ يَصِلُ صِلَةً، من باب وَعَدَ. ومعنى صلةِ الرَّحِمِ: مشاركةُ ذوي القربى في الخيرات، قاله العيني.
وَقال الحافظ: قوله: "وتصل الرحم" أي تُوَاسِي ذوي القرابة في الخيرات، وقال النووي: معناه أن تحُسنَ إلى أقاربكَ ذوي رحمك بما تيسر على حسب حالك وحالهم من إنفاق، أو سلام، أو طاعة، أو غير ذلك.
وخَصَّ هذه الخصلة من بين خلال الخير نظرًا إلى حال السائل؛ كأنه كان لا يصل رَحمَهُ، فأمره به، لأنه المهم بالنسبة إليه، ويؤخذ منه تخصيص بعض الأعمال بالحض عليها بحسب حال المخاطب، وافتقاره للتنبيه عليها أكثَر مما سواها، إما لمشقتها عليه، وإما لتساهله في أمرها.
اهـ. "فتح" جـ 3 ص 311.
وقال القرطبي: إنما لم يخبرهم بالتطوع لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام، فاكتفى منهم بفعل ما وجب عليهم للتخفيف، لئلا يعتقدوا أن التطوعات واجبة، فتركهم إلى أن تنشرح صدورهم لها، فتسهل عليهم. اهـ "عمدة" جـ 8 ص 240.
(ذرها) أي اترك الناقة تمشي وهو أمر من وَذرْتُهُ أذَرهُ: إذا تَرَكْتَهُ، قالوا: وأمَاتَت العرب ماضيَه ومصدره، فإذا أريدًا لماضي قيل: تَرَكَ، وربما استُعمِلَ الماضي على قِلَّةٍ، ولا يستعمل منه اسم الفاعل، قاله في "المصباح".
وفي "ق": ذَرْهُ: أي دَعْهُ، يَذَرُ تَرْكًا، ولا تقل: وَذْرًا، وأصله: وذرَهُ يَذَرُهُ، كَوَسعُهُ يَسَعُهُ، لكن ما نطقوا بماضيه، ولا بمصدره، ولا باسَم الفاعل، أوَ قيل: وذِرْتُهُ شَاذَّا. اهـ.
والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم أمر الرجل أن يترك ناقته، لأنه كان حَبَسَهَا لأجل
السؤال (كأنه) صلى الله عليه وسلم (كان) راكبًا (على راحلته)، وهذا الكلام من
بعض الرواة؛ موسى، أو من دونه، يريد أن قوله. "ذَرْهَا"، يدل على كونه راكبًا على الراحلة، لكونه منعها عن المسير لأجل أن يسأل عن الأمر الذي يُدْخِلُهُ الجنة.
و"كأن" هنا للتشبيه، كما هو معناها عند الجمهور، أو للظن، كما رأى بعض النحاة، أي أظنه راكبًا على راحلته، ويحتمل أنها للتحقيق
على رأي الكوفيين، على حد قول الشاعر (من الوافر):
فَأصْبَحَ بَطْنُ مَكَّةَ مُقْشَعِرًّا
…
كَأنَّ الأرْضَ لَيْسَ بِهَا هِشَامُ
أي لأن الأرض ليس بها هشام. انظر التفاصيل في "مغني اللبيب" لابن هشام جـ 1 ص161، 162.
وعلى هذا الاحتمال الأخير فالظاهر أن قائل "كأنه كان على راحلته" هو أبو أيوب رضي الله عنه، أي إنما قال له "ذَرْهَا" لأنه كان راكبًا على راحلته، فمنعها من سيرها، فكأنه يقول له: قد قضيتَ حاجتك، فاترك الناقة تُوَاصِلُ سَيْرَهَا. والله أعلم.
وقال العيني: قوله: "ذرها" أي اترك الر احلة ودَعْهَا، كأن الرجل كان على الراحلة حين سأل المسألة. وفَهِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم استعجالَهُ، فَلمَّا حَصَّلَ مقصودَهُ من الجواب قال له: دَعِ الراحلةَ تمَشِي إلى منزلك، إذ لم يَبْقَ لك حاجة فيما قصدته، أو كان صلى الله عليه وسلم راكبًا وهو كان آخذًا بزمام راحلته، فقال بعد الجواب: دع زِمَامَ الراحلة. اهـ. "عمدة" جـ 18 ص 127.
قال الجامع: الاحتمال الأول مما ذكر العيني بعيد، بل الاحتمال الثاني هو الأولى، كما سبق تقريره، ومما يبين ذلك ما تقدم في بعض طرق الحديث أن السائل أخَذَ بخطامِ ناقته صلى الله عليه وسلم. فتبصر. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، ونعم الوكيل.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه المصنف هنا في "المجتبى"(468)، وفي "الكبرى" في "الصلاة" أيضًا (328)، وفي "الكبرى" في "العلم"(5880) بالسند المذكور هنا. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري ومسلم، فأخرجه البخاري في "الزكاة"، عن حفص ابن عمر، عن شعبة، عن محمد بن عثمان بن عبد الله بن مَوْهَب، عن موسى بن طلحة، عن أبي أيوب رضي الله عنه. وقال: أخشى أن يكون غير محفوظ، إنما هو عمرو.
وفي "الأدب"، عن أبي الوليد، عن شعبة، عن ابن عثمان بن عبد الله بن موهب، ولم يُسَمَّ-، عن موسى
…
وعن عبد الرحمن بن بِشْر، عن بَهْزِ بنِ أسَد، عن شعبة عن ابن عثمان بن عبد الله -وأبيه عثمان- كلاهما عن موسى.
وأخرجه مسلم في "الإيمان" عن محمد بن عبد الله بن نمُير، عن أبيه، عن عمرو بن عثمان، عن موسى
…
وعن محمد بن حاتم، وعبد الرحمن بن بشر - كلاهما عن بهز، عن شعبة، عن محمد بن عثمان، وأبيه عثمان، عن موسى
…
وعن يحيى بن يحيى، وأبي بكر ابن أبي شيبة - كلاهما عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن موسى. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف؛ وهو بيان ثواب من أقام الصلاة، حيث إن أداءها على الوجه المطلوب من موجبات الجنة.
ومنها: ما كان عليه الصحابة من شدة رغبتهم إلى الجنة، وبحثهم عما يكون سببًا في دخولها، وهذا هو الواجب على العاقل، فلا ينبغي أن يشغل نفسه بغير ذلك، فإن دخولها هو الفوز العظيم {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].
ومنها: بيان قدر التوحيد، وأنه أساس الأعمال كلها.
ومنها: بيان فرضية الصلاة والزكاة، وبيان فضلهما.
ومنها: بيان فضل صلة الرحم، وأنها من أسباب دخول الجنة، وأن قطعها من الكبائر المانعة عن دخولها؛ فقد أخرج الشيخان من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة قاطع"، يعني قاطع رحم.
ومنها: جواز الإفتاء، وهو على الدابة، وقد عقد البخاري في صحيحه في كتاب العلم، فقال:"باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها"؛ فأخرج حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه
…
الحديث. والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
11 - بَابُ عَدَدِ صَلاةِ الظُّهرِ في الحَضَرِ
أي باب ذكر الحديث الدال على بيان عدد صلاة الظهر في الحضر.
قال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات": "صلاة الظهر" معروفة، سميت ظهرًا لظهورها وبُرُوزِهَا. اهـ. جـ 3 ص 196.
وقال في المصباح: و"الظه" مضمومًا -أي مضافًا- إلى "الصلاة" مؤنثة، فيقال: دخلت صلاة الظهر، ومن غير الإضافة يجوز التأنيث، والتذكير، فالتأنيث على معنى ساعة الزوال، والتذكير على معنى الوقت والحين، فيقال: حَانَ الظهرُ، وحانت الظهر، ويُقَاسُ على هذا باقي الصلوات. اهـ. "المصباح" جـ 2 ص 387، 388.
والحَضَر -بفتحتين- خلاف البَدْوِ، والنسبة إليه حَضَرِيّ على لفظه. قاله في المصباح.
وفي اللسان: والحَضَرُ -أي بفتحتين-، والحَضْرَةُ -أي بفتح فسكون- والحاضِرَةُ: خلاف البادية، وهي المُدُنُ والقُرَى، والرِّيفُ. اهـ
والمراد به هنا خلاف السفر الذي تُقْصَرُ فيه الصلاة. والله تعالى أعلم.
469 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، سَمِعَا أَنَسًا، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَبِذِي الْحُلَيْفَةِ الْعَصْرَ
رَكْعَتَيْنِ.
رجال الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة) بن سعيد البَغْلاني، الحجة الثبت، من [10]، تقدم في 1/ 1.
2 -
(سفيان) بن عيينة أبو محمد الكوفي ثم المكي، الإمام الحجة الثبت، من كبار [8]، تقدم في 1/ 1.
3 -
(ابن المنكدر) هو محمد بن المنكدر بن عبد الله بن الهُدَير التيمي المدني، ثقة فاضل، توفي سنة 130، أو بعدها، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 103/ 138.
4 -
(إِبراهم بن مَيْسرَة) الطائفي ثم المكي، ثقة حافظ، من [5].
وفي "تت": قال البخاري: له نحو ستين حديثًا، أو أكثر، وقال الحميدي عن سفيان: أخبرني إبراهيم بن ميسرة؛ من لَمْ تَرَ عَيْنَاك والله مثله، وقال حامد البلخي عن سفيان: كان من أوثق الناس، وأصدقهم.
وقال أحمد، ويحيى، والعجلي، والنسائي: ثقة. وقال ابن سعد: مات في خلافة مَرْوَانَ بن محمد، وكان كثير الحديث. وقال ابن المديني: قلت لسفيان: أين كان حفظ إبراهيم عن طاوس، من حفظ
ابن طاوس؟ قال: لو شئت أن أقول لك: إني أقدم إبراهيم عليه في الحفظ، لقلت. وقال أبو حاتم: صالح. وذكره ابن حبان في الثقات.
وقال البخاري: مات قريبًا من سنة 132 اهـ. روى له الجماعة. "تت" جـ 1 ص 172.
5 -
(أنس) بن مالك الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 6/ 6. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من رباعياته، وهو -15 - من رباعيات الكتاب، وهو أعلى ما وقع له من الأسانيد، وقد تقدم.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات أجلاء، اتفق الجماعة بالإخراج لهم.
ومنها: أن إبراهيم هذا الباب أول محل ذكره.
ومنها: أن أنسًا أحد المكثرين السبعة، روى 2286 حديثًا. والله أعلم.
شرح الحديث
(عن) محمد (ابن المنكدر) التيمي (وإِبراهيم بن ميسرة) بالجر عطفًا على ابن المنكدر، فسفيان يروي عنهما جميعًا، أنهما (سمعا أنسًا) رضي الله عنه (قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعًا) أي أربع ركعات، وكان ذلك في اليوم الذي خرج فيه إلى مكة
للحج، وهو يوم الخميس لست ليال بقين من ذي القعدة، وقيل: يوم السبت لخمس ليال بقين منه، وفي صحيح مسلم "لخمس بقين من ذي القعدة" وذلك سَنَةَ عشرٍ، للحجّ. أفاده العيني.
(و) صليت (بذي الحليفة) ماءٌ من مياه بني جُشَم، ثم سُمِّيَ به الموضع، تصغير حلفة، وهو ميقات أهل المدينة، نحو مَرْحَلَةٍ عنها، ويقال: ستة أميال. وقيل: سبعة. انتهى المصباح مع زيادة.
(العصر) أي صلاة العصر (ركعتين) فيه أن من أراد السفر لا يَقْصُرُ حتى يَبْرُزَ من البلد، خلافًا لمن قال من السلف: يقصر ولو في بيته، وفيه أيضًا حجة على مجاهد في قوله: لا يقصر حتى يدخل الليل. واستدل به من قال بجواز القصر في السقر القصير، لأن بين
المدينة وذي الحليفة ستة أميال.
وتعقب بأن ذا الحليفة لم يكن منتهى السفر، وإنما خرج إليها حيث كان قاصدًا إلى مكة، فاتفق نزوله بها، وكانت أول صلاة حَضَرتْ بها العصرُ، فقصرها، واستَمَرَّ يقصر إلى أن رجع إلى المدينة. أفاده في الفتح جـ 2 ص 664. وبالله تعالى التوفيق، وهو المستعان، وعليه
التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
الأولى: في درجته:
حديث أنس رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا في "المجتبى"(469)، وفي "الكبرى" في "الصلاة" أيضا (353) بسند الباب، وقال بعده: قال أبو عبد الرحمن: ابن المنكدر اسمه محمد، وله ثلاث بنين: عمر بن محمد بن المنكدر، والمنكدر بن محمد بن المنكدر، ويوسف بن محمد بن المنكدر، فعمر بن محمد بن المنكدر ثقة، والمنكدر بن محمد بن المنكدر ليس بالقوي؛ في حفظه سُوء، ويوسف بن محمد ليس بشيء في الحديث. اهـ. جـ 1 ص 151. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي؛ فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن أبي نعيم، عن سفيان الثوري، عن محمد بن المنكدر، وإبراهيم بن ميسرة، كلاهما عن أنس رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.
وأخرجه مسلم في "الصلاة" أيضًا عن سعيد بن منصور- وأبو داود فيها عن زهير بن حرب - والترمذي فيها عن قتيبة - ثلاثتهم عن سفيان بن عيينة، عن ابن المنكدر، وإبراهيم، كلاهما عن أنس رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف؛ وهو بيان عدد صلاة الظهر في الحضر، وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل العلم.
ومنها: بيان مشروعية قصر الصلاة الرباعية في السفر.
ومنها: أن من أراد سفرًا لا يشرع له القصر قبل خروجه من بيته، خلافًا لمن قال: يقصر ولو في بيته.
ومنها: أن من خرج من بيته يقصر ولو لم يدخل الليل، خلافًا لمجاهد.
ومنها: أن الخروج إلى المحل القريب لا يشرع فيه القصر، لأنه صلى الله عليه وسلم
كان يأتي قباء، وأحُدًا، وَبقِيعًا، وغيرَ ذلك فما قصر فيها، وإنما قصر في السفر الطويل، كمكة ونحوها.
وسيأتي تحقيق مسائل السفر وبيان مذاهب العلماء بأدلتها؛ وترجيح الراجح منها بدليله في "كتاب تقصير الصلاة في السفر" - إن شاء الله تعالى.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
12 - بَابُ صَلاةِ الظُّهْرِ فِي السَّفَرِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على عدد صلاة الظهر في حالة السفر.
والسَّفر -بفتحتين- خِلافُ الحَضَر. قال الفيومي رحمه الله: سَفَرَ الرَّجُلُ سَفْرًا، من باب ضرب، فهو سافِرٌ، والجمع سَفْرٌ -أي بفتح فسكون- مثل رَاكبٍ وركْب، وصاحب وصَحْب، وهو في الأصل مصدر، والاسم السَّفَرُ -بفتحتين- وهو قطع المَسَافة، يقال ذلك إذا خرج للارتِحَال، أو لقصد موضع فوق مسافة العَدْوَي
(1)
، لأن العَرَب لا يُسَمُّون مسافَةَ العَدْوَى سَفَرًا.
وقال بعض المصنفين: أقلُّ السفر يومٌ، كأنه أخذَ من قوله تعالى:{رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ: 19] فإن في التفسير: كان أصل أسفارهم يومًا يَقِيلُون في موضع، ويَبِيتُون في موضع، ولا يتزودون لهذا.
لكن استعمال الفعل، واسم الفاعل منه مَهْجُور، وجمع الاسم أسْفَار، وقوم سَافِرةٌ، وسُفَّار، وَسافَرَ مُسَافَرةً كذلك، وكانت سَفْرَتُهُ قريبةً، وقياس جمعها سَفَرَات، مثل سَجْدَة وسَجَدَات. اهـ. "المصباح
(1)
مسافة العَدوَى: هي التي يمكن قطعها في اليوم الواحد ذهابًا ورجوعًا، ومعناه أن يتمكن المبتكر إليها من الرجوع إلى منزله قبل الليل. اهـ. "تهذيب الأسماء واللغات" جـ 4 ص 12.
المنير" ص 287.
قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي تحقيق تحديد المسافة التي يشرع فيها قصر الصلاة في موضعه إن شاء الله تعالى.
470 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْهَاجِرَةِ- قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى إِلَى الْبَطْحَاءِ- فَتَوَضَّأَ، وَصَلَّى، الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(محمد بن المثنى) بن عبيد بن قيس أبو موسى العَنَزِي البصري، المعروف بالزَّمِنِ، ثقة ثبت، توفي سنة 252، من [10]، تقدم في 64/ 80.
2 -
(محمد بن بشار) بن عثمان العبدي البصري، أبو بكر بُنْدَار، ثقة ثبت، توفي سنة 252، من [10]، تقدم في 24/ 27.
3 -
(محمد بن جعفر) الهُذَليُّ مولاهم البصري، المعروف بغُنْدَر، ثقة، صحيح الكتاب، إلا أن فيه غَفْلَة، توفي سنة 193، أو 194، من [9]، تقدم في 21/ 22.
4 -
(شعبة) بن الحجَّاج بن الوَرْد العَتكِيُّ مولاهم أبو بِسْطام الواسطي ثم البصري، ثقة حافظ متقن عابد حجة، توفي سنة 160 عن 77 سنة، من [7]، تقدم في 24/ 26.
5 -
(الحكم بن عُتَيْبَةَ) أبو محمد الكندي الكوفي، ثقة ثبت فقيه، ربما دلَّسَ، توفي سنة 113 أو بعدها عن نيف وستين سنة، من [5]، تقدم في 86/ 104.
6 -
(أبو جُحَيْفَة) وَهْبُ بن عبد الله السُّوَائي، بضم المهملة والمد، ويقال: اسم أبيه وهب أيضًا، مشهور بكنيته، ويقال: وهبُ الخَيْرِ، صحابي معروف، وصحب عليًا، وسكن الكوفة، ومات سنة 74 رضي الله عنه. تقدم في 103/ 137. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسياته، وأن رجاله كلهم ثقات أجلاء من رجال الكتب الستة.
ومنها: أن شيخيه ممن اتفق الستة بالرواية عنهم بدون واسطة، وهم تسعة جمعتهم بقولي:
اشَتَركَ الأئِمَّةُ الهُدَاةُ
…
ذَوُو الأصُولِ السِّتَةِ الوُعَاةُ
في تِسْعَة مِنَ الشّيُوخِ المَهَرَهْ
…
النَّاقِدِينَ الحَافِظِينَ البَرَرَهْ
أوْلَئِك الأشَجُّ وابْنُ مَعْمَرِ
…
نَصْرٌ ويَعْقُوبُ وعَمْروٌ السَّري
وابْنُ العَلاءِ وابْنُ بَشَّارٍ كَذا
…
ابن المُثَنَّى وَزِيَادٌ يُحْتَذَى
ومنها: أن الأربعة الأوَّلين بصريون، والحكمُ وأبو جحيفة كوفيان. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن الحكم بن عتيبة) بصيغة تصغير عُتْبَةَ الكنديُّ، أنه (قال: سمعت أبا حنيفة) وهب بن عبد الله السوائي رضي الله عنه (قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أي من قبته التي كان فيها، ففي صحيح البخاري من رواية عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في قُبَّة حَمْرَاء، من أدَم، ورأيت بلالًا أخذ وَضُوءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأيت الناس يبتدرون ذاك الوَضُوء، فمن أصاب منه شيئا تَمَسَّحَ به، ومن لم يُصب منه شيئًا أخذ من بَلَلِ يد صاحبه، ثم رأيت بلالًا أخذ عَنَزَة، فَرَكَزَهَا، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء مُشَمِّرًا، صلى إلى العنزة بالناس ركعتين، ورأيت الناس والدواب يمرون بين يدي العَنَزَةِ".
وفي رواية مسلم من طريق الثوري، عن عون ما يُشْعرُ بأن ذلك كان بعد خروجه من مكة، لقوله:"ثم لم يزل يصلي ركعتينَ حتى رجع إلى المدينة".
(بالهاجرة) متعلق بخرج، والباء فيه ظرفية، أي في الهاجرة.
والهاجرة، ويقال أيضًا: الهَجيرُ، والهَجيرَةُ، والهَجْرُ -بفتح فسكون-: نصفُ النهار عند زوال الشمس مع الظهر، أو من عند زوالها إلى العصر، سُمِّي به لأن الناس يَسْتَكِنُّونَ في بيوتهم، كأنهم قد
تَهَاجَرُوا، ويطلق أيضًا على شدة الحر، أفاده المجد في "ق".
(قال) محمد (ابن المثنى) في روايته (إِلى البطحاء)؛ مقولُ قال، لقصد لفظه.
يعني أن ابن المثنى زاد في روايته بعد قوله "بالهاجرة" قَوْلَهُ "إلى البطحاء" ولم يزدها ابن بشار.
والبَطحَاءُ، ويقال له: الأبْطحُ: هو مَسِيلٌ واسع، فيه دُقَاقُ الحَصَى، وقيل: بَطْحَاءُ الوادي: ترابٌ لين مماَ جَرَّته السيول، والجمع بَطحَاوَات، وبِطاح، ويسمى المكان أبطح، لأن الماء يَنْبَطِحُ فيه، أي يذهب يمينًا وشمالًا. أفاده في اللسان- جـ 1 ص 299.
والمراد به هنا بَطحَاءُ مكة، وهو مَسِيلُ مائِهَا.
(فتوضأ)، وفي رواية البخاري:"فَأتِيَ بِوَضُوء، فتوضأ"(وصلى الظهر ركعتين)، "الظهر" منصوب على أنه مفعول به لصلى، و"ركعتين" منصوب إما على الحال من الظهر، وإما على البدلية منه.
وقوله: (والعصر ركعتين) عَطفٌ على قوله: "الظهر ركعتين" عَطفَ معمولين على معمولي عاملين مختلفين، وفيه الخلاف المشهور في محله، أو يقدر له العامل، فيكون من عطف الجملة، أي وصلى العصر ركعتين؛ يعني أنه صلى الله عليه وسلم صلى كُلا من الظهر والعصر ركعتين لكونه مسافرًا.
(وبين يديه عنزة) جملة في محل نصب على الحال من فاعل "صَلَّى"؛ أي والحال أن قُدَّامَهُ صلى الله عليه وسلم رُكِزَت عَنَزَةٌ لتستره ممن يمر بين يديه.
والعَنَزَةُ: بمهملة ونون مفتوحتين، فزاي: عصًا أقْصَرُ من الرُّمْحِ، ولها زُجُّ من أسفَلهَا، والجمع عَنَزٌ، وعَنَزَاتٌ، مثل قَصَبَة، وقَصَبٍ، وقَصَبَاتٍ. قاله في المصباح.
والزُّجُّ -بضم الزاي وتشديد الجيم-: السِّنَانُ، وهي الحديدة، وقيل: العَنَزَةُ هي الحَرْبَةُ القَصيرَةُ. وفي الطبقات لابن سعد: أن النَّجَاشيَّ كان أهداها للنبي صلى الله عليه وسلم. والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي جحيفة رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا في "المجتبى"(470) وفي "الكبرى"(343) لكن عن محمد بن المثنى وحده بسند الباب، وقال: قال أبو عبد الرحمن: أبو جحيفة بن وهب. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري ومسلم، وفيه زيادات، قال الحافظ المزي رحمه الله: حديثُ "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة إلى البطحاء، فَأتِيَ بِوَضُوء، فتوضأ وصلى الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، وبين يديه عَنَزَة". قال شعبة: زاد فيه عون بن أبي جحيفة، عن أبيه:"يمر من ورائها المرأة".
وفي حديث الحكم: "فجعل الناس يأخذون من فضل وَضُوئه، فيتمسحون به". وفي حديث حجاج عن شعبة: "وقام الناس، فجعلوا يأخذون يديه، يمسحون بها وجوههم
…
" الحديث.
أخرجه البخاري في "الطهارة" عن آدم -وفي "الصلاة" عن سليمان بن حرب- وفي "صفة النبي صلى الله عليه وسلم" عن الحسن بن منصور أبي عليّ، عن حجاج بن محمد.
وأخرجه مسلم في "الصلاة" عن محمد بن المثنى، ومحمد بن بشار -كلاهما عن غُندَر- وعن زُهَير بن حَرْب، ومحمد بن حاتم، كلاهما عن بن مهدي خمستهم عن شعبة، عن الحكم، عن أبي جحيفة رضي الله عنه. قال: ولم يذكر آدم، ولا سليمان بن حرب، زيادة
عون بن جحيفة، عن أبيه، وذكرها الباقون. اهـ. "تحفة" جـ 9 ص 97. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو بيان عدد صلاة الظهر في السفر، فدل الحديث على أن فرض المسافر حتى يرجع إلى بلده ركعتان.
ومنها: مشروعية اتخاذ السترة لمن يصلي في الصحراء، وسيأتي تحقيق المسألة في ذلك في بابه 4/ 746 إن شاء الله تعالى.
ومنها: ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من تعظيمه صلى الله عليه وسلم، وشدةِ محبتهم له حتى يتبركون بآثار وَضُوئه.
ومنها: جواز التشمير، لقوله "مشمِّرًا".
ومنها: جواز لبس الأحمر، لقوله "في حُلَّة حَمْرَاء"، وفيه خلاف بين العلماء سيأتي تحقيقه في موضعه إن شاء الله تعالى.
ومنها: جواز المرور بين يدي المصلي وراء السُتْرَة، لقوله:"ورأيت الناس والدواب يمرون بين يدي العَنَزَة". وسيأتَي هذا في محله أيضا إن شاء الله تعالى.
ومنها: أن مكة كغيرها من البلدان في مشروعية اتخاذ السترة فيها خلافًا لبعضهم، حيث قال باغتفار ذلك للطائفين دون غيرهم، ولبعض الحنابلة، حيث قالوا يجواز ذلك في جميع الحرم. كما في الفتح جـ 2 ص 687. وسيأتي تحقيق ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
13 - بَابُ فَضْلِ صَلاةِ العَصْرِ
أي هذا باب في ذكر الحديث الدال على فضل صلاة العصر.
471 -
أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، وَابْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَالْبَخْتَرِيُّ بْنُ أَبِي الْبَخْتَرِيُّ، كُلُّهُمْ سَمِعُوهُ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُمَارَةَ بْنِ رُوَيْبَةَ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَنْ يَلِجَ النَّارَ مَنْ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا".
رجال الإسناد: سبعة
1 -
(محمود بن غَيْلان) العَدَوي مولاهم أبو أحمد المروزي، نزيل بغداد، ثقة، توفي سنة 239، من [10]، تقدم في 33/ 37.
2 -
(وكيع) بن الجَرَّاح بن مَلِيح الرُّؤَاسِيُّ، أبو سفيان الكوفي، ثقة حافظ عابد، توفي في آخر سنة 186 أَوْ أوَّلِ سنة 187 وله 70 سنة، من كبار [9]، تقدم في 23/ 25.
3 -
(مِسْعَرٌ) -بكسر الميم، وسكون المهملة، وفتح العين المهملة آخره راء -ابن كِدَام- بكسر الكاف، وتخفيف الدال- بن ظُهَير الهلالي،
أبو سلمة الكوفي، ثقة ثبت فاضل، توفي سنة 153 أو 155، من [7]، تقدم في 8/ 8.
4 -
(ابن أبي خالد) هو إسماعيل بن أبي خالد، البَجَليُّ الأحْمَسِيُّ مولاهم، أبو عبد الله الكوفي، ثقة ثبت، من [4]، قيل: اسم أبيه سعد، وقيل: هُرْمُز، وقيل كَثِير.
وفي "تت": قال ابن المبارك عن الثوري: حفاظ الناس ثلاثة: إسماعيل، وعبد الملك بن أبي سليمان، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهو -يعني إسماعيل- أعلم الناس بالشعبي، وأثبتهم فيه، وقال مروان بن معاوية: كان إسماعيل يُسَمَّى الميزانَ. وقال علي: قلت ليحيى بن سعيد: ما حملت عن إسماعيل، عن الشعبي صحاح؟ قال: نعم.
وقال البخاري عن علي: له نحو ثلاثمائة حديث. وقال أحمد: أصحُّ الناس حديثًا عن الشعبي ابنُ أبي خالد. وقال ابن مهدي، وابن معين، والنسائي: ثقة. وقال ابن عمار الموصلي: حجة. وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة، وكان لَحَّانًا. وقال يعقوب بن شيبة: كان ثقة ثبتًا. وقال أبو حاتم لا أقَدِّمُ عليه أحدًا من أصحاب الشعبي، وهو ثقة.
وقال يعقوب بن سفيان: كان أميًا
(1)
حافظًا ثقة. وقال هشيم: كان إسماعيل فحش اللحن، كان يقول: حدثني فلان عن أبوه. وقال
(1)
هكذا نسخة "تهذيب التهذيب""أميا" ولعل الصواب "أمينا".
الآجري: سألت أبا داود هل سمع من سَعْد بن عُبَيْدَة؟ قال: لا أعلمه.
وقال ابن عيينة: كان أقْدَمَ طلبًا وأحفظَ للحديث من الأعمش.
وقال العجلي: كان ثبتًا في الحديث، وربما أرسل الشيء عن الشعبي وإذا وقف أخبر، وكان صاحب سنة، وكان حديثه نحو خمسمائة حديث، وكان لا يروي إلا عن ثقة.
وحكى ابن أبي خيثمة في تاريخه عن يحيى بن سعيد. قال: مرسلات ابن أبي خالد ليست بشيء. وقال أبو نعيم: أدرك إسماعيل اثني عشر نفسًا من الصحابة منهم من سمع منه، ومنهم من رآه رؤية. قال البخاري عن أبي نعيم: مات سنة 146.
وقال الخطيب: حَدَّثَ عن الحَكَم بن عتيبة، ويحيى بن هاشم، وبين وفاتيهما نحو من 110 - سنين، وروى عن أبي عمرو الشيباني، سعدِ بن إياس. وقال ابن حبان في الثقات: كان شيخًا صالحًا، مات سنة 145 أو 146، وقال علي بن المديني: رأى أنسًا رؤية، ولم يسمع منه، ولم يسمع من إبراهيم التيمي، ولم يرو عن أبي وائل شيئًا.
وقال ابن معين: لم يسمع من أبي ظَبْيَان. وقال مسلم في الوُحْدَان: تفرد عن جماعة، وسَرَدَهُم. اهـ. روى له الجماعة. "تت" بتصرف. جـ 1 ص 291 - 292.
5 -
(البَخْتَري بن أبي البَخْتَري) -بفتح. الموحدة وسكون المعجمة، وفتح المثناة، وكسر الراء- واسم أبيه المُختار، عبدي بصري، صدوق، من السادسة.
وفي "تت": البختري بن أبى البختري، المختار بن رُوَيح العبدي.
قال ابن المديني: ثقة، وقال البخاري: يخالف في بعض حديثه. وقال ابن عدي: ليس له كثير رواية، ولا أعلم له حديثًا منكرًا. قال عمرو بن علي: مات سنة 148.
قال المزي: فرق في الأصل -يعني صاحب الكمال- بين البختري ابن أبي البختري، والبختري بن المُخْتَار، وهما واحد، والحديث الذي أخرجاه -يعني مسلمًا والنسائي- وهو من رواية وكيع عنه، عن أبي بكر بن عمارة بن رويبة.
قال الحافظ: قد سبقه إلى التفرقة بينهما البخاري وابن حبان في "الثقات"، فذكر ابن أبي البختري في التابعين، ثم قال في أتباع التابعين: البختري بن المختار، كان يخطىء، وأرخ وفاته كما قال عمرو بن علي. اهـ. أخرج له مسلم، والنسائي. "تت" جـ 1 ص 421، 422.
6 -
(أبو بكر بن عمارة بن رويبة) -براء وموحدة مصغرًا- الثقفي الكوفي، مقبول، من [3]، وفي "صة" أبو بكر بن عمارة بن رؤيبة الثقفي الكوفي عن أبيه، وعنه مسعر، وثقه ابن حبان.
7 -
(عمارة بن رؤيبة) الثقفي، أبو زُهَير، صحابي نزل الكوفة، وتأخر إلى ما بعد الستين، له تسعة أحاديث، انفرد مسلم بحديثين، أخرج له مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي.
وفي "تت": روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن علي. روى عنه ابنه أبو بكر بن عمارة، وأبو إسحاق السِّبِيعِي، وعبد الملك بن عُمَير، وحُصَين بن عبد الرحمن.
قال الحافظ رحمه الله: الراوي عن علي آخر غيره، وبيان ذلك أن ابن أبي حاتم ذكر في الجرح والتعديل عُمَارَةَ بن رويبة رَوَى عن علي بن أبي طالب أنه خَيَّره بين أبيه وأمه وهو صغير، فاختار أمه، روى عنه يونس الجرمي، فتبين أنه غيره، الصحابي ثقفي، والراوي عن علي جرمي، ولأن الذي روى عن علي كان صغيرًا في زمن علي، فليس بصحابي. والله أعلم اهـ. "تت" جـ 7 ص 416.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنها: أن رواته كلهم وُثِّقُوا.
ومنها: أنهم كوفيون إلا شيخه فمروزي ثم بغدادي، والبَخْتَري فبصري.
ومنها: أن إسماعيل بن أبي خالد، والبَخْتَري، وأبا بكر بن عمارة، وأباه. هذا الباب أوّلُ محلِّ ذكرهم من الكتاب.
ومنها: رواية الراوي عن أبيه. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عُمَارَة بن رُوَيبة) الثقفي الصحابي رضي الله عنه أنه (قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لن يلج النار مَنْ صَلَّى) ولمسلم "لن يلج النار أحَدٌ صلَّى"(قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها) يعني الفجرَ والعصرَ، أي داوم على أدائهما.
والمراد أنه لا يدخلها أصلًا للتعذيب، بل يدخلها أو يَمُّر عليها تَحِلَّةَ القسمِ، وهذا إذا وُفِّقَ لِبَقِيَّةِ الأعمال، أو لا يدخلها على وجه التأبيد، وهذا لا ينافي أنه قد يُعَذَّبُ؛ لما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أتدرون من المفلس؟ " قالوا: المفلس فينا من لا درهمَ له، ولا مَتَاعَ، فقال:"إن المفلس من أمتي مَن يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فَيُعْطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضَى ما عليه أخذَ من خطاياهم فَطُرِحَت عليه، ثم طُرِحَ في النار". رواه مسلم. قاله فَي "المنهل" جـ 4 ص 7.
وإنما خَصَّ هاتين الصلاتين بالذكر لأن وقتَ الصبح وقتُ لَذَّةِ النوم، والقيامُ فيه أشق على النفس من القيام في غيره، ووقتُ العصرَ وقتُ قُوَّةِ الاشتغال بالتجارة أو غيرها، فلا يَتَفَرغُّ للصلاة فيه إلا مَن
كان قَوِيَّ الإيمان. كما قال الله تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ
…
} الآية [النور: 37].
فالمسلم إذا حافَظَ على هاتين الصلاتين مع ما فيه من التثاقل والتشاغل كان الظاهر من حاله أن يحافظ على غيرهما أشَدَّ، ولأن الوقتين مشهودان، تشهدهما ملائكة الليل، وملائكة النهار، وتُرْفَعُ فيهما الأعمال إلى الله تعالى، فبالحَرِيِّ أن من داوم عليهما لا يدخل النار أصلًا، ويدخل الجنة، لصيرورة ذلك مكفرًا لذنوبه، وإن كان هذا ينافي ما عليه الجمهور من اختصاص كفارة الصلاة بالصغائر، ولكن فضل الله واسع.
وقيل: خُصَّتَا بالذكر، لأن أكرم أهل الجنة على الله من ينظر الى وجهه غَدْوَة، وعَشِيَّةً، كما في حديث ابن عمر عند أحمد، والترمذي، وقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:"إنكم ستَرَوْن ربكم كما تَرَوْن هذا القمر، لا تُضَامُّون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تُغْلَبُوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها فافعلوا" يَدُل على أن رؤية الله تعالى، والنظر إلى وجهه الكريم، قد يُرْجَى نَيْلُهُ بالمحافظة على هاتين الصلاتين اللتين تُؤَدَّيانِ طَرَفَيِ النهارِ غَدْوَةً وعشية. أفاده في "المرعاة" جـ 2 ص 331. والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عُمَارة بن رُوَيْبَةَ رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا في "المجتبى"(471) وفي "الكبرى"(354) بهذا السند، وفي (487) عن عمرو بن علي، ويعقوب بن إبراهيم- كلاهما عن يحيى بن سعيد عن إسماعيل بن أبي خالد، عي أبي بكر بن عمارة ابن رويبة، عن أبيه رضي الله عنه.
وفي "الكبرى"، في "التفسير"- عن قتيبة، عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عمارة بن رويبة نحوه. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه مسلم وأبو داود؛ فأخرجه مسلم في "الصلاة" عن أبي بكر، وأبي كُرَيب وإسحاق بن إبراهيم- ثلاثتهم عن وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، ومِسْعَر، والبَخْتَري بن المُختار، سمعوه من أبي بكر بن عُمارة بن رؤيبة، عن أبيه. وعن يعقوب بن إبراهيم الدَّوْرَقي، عن يحيى بن أبي بُكَير، عن شَيْبَان بن عبد الرحمن، عن عبد الملك بن عُمَير، عن ابن عمارة بن رؤيبة، عن أبيه.
وأخرجه أبو داود في "الصلاة" أيضًا عن مسدد، عن يحيى بن
سعيد، عن إسماعيل بن أبي خالد به. وفي رواية مسلم زيادة:"فقال له رجل من أهل البصرة: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال الرجل: وأنا أشهد أني سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته أذناي، ووعاه قلبي"، وفي رواية "وعنده رجل، من أهل البصرة، فقال: أنت سمعت هذا من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، أشهد به عليه، قال: وأنا أشهد، لقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقوله بالمكان الذي سمعته منه". ونحوه لأبي داود، وفيه أنه قال:"أنت سمعته منه -ثلاث مرات- قال: نعم". والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو بيان فضل صلاة العصر.
ومنها: بيان فضل صلاة الصبح، وسيأتي في الباب (21) مزيد بسط لبيان فضل هاتين الصلاتين إن شاء الله تعالى.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
14 - بَابُ المُحَافَظَةِ عَلى صَلاةِ العَصْرِ
أي هذا باب ذكر الحديثين الدالين على وجوب المحافظة على أداء صلاة العصر.
472 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي يُونُسَ، مَوْلَى عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: أَمَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنْ أَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا فَقَالَتْ: إِذَا بَلَغْتَ هَذِهِ الآيَةَ، فَآذِنِّي:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، فَلَمَّا بَلَغْتُهَا آذَنْتُهَا، فَأَمْلَتْ عَلَيَّ:"حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ، وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ" ثُمَّ قَالَتْ: سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
رجال الإسناد: ستة
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثَّقَفِيّ أبو رَجَاء، ثقة ثبت، توفي سنة 240، من [10]، تقدم في 1/ 1.
2 -
(مالك) بن أنس أبو عبد الله الإمام المدني، ثقة فقيه حجة،
توفي سنة 179، من [7]، تقدم في 7/ 7.
3 -
(زيد بن أسلم) العدوي مولى عمر بن الخطاب، أبو عبد الله، أو أبو أسامة المدني، ثقة عالم، كان يرسل، توفي سنة 136، من [3]، تقدم في 64/ 80.
4 -
(القَعْقَاعُ بنُ حَكِيم) الكناني المدني، ثقة، من [4]، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم، والأربعة، تقدم في 36/ 40.
5 -
(أبو يونس) مولى عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ثقة، من [3].
وفي "تت": رَوَى عن عائشة، وعنه زيد بن أسلم، وأبو طُوَالَة الأنصاري، والقعقاع بن حكيم، ومحمد بن أبي عَتِيق، ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية، وذكره مسلم في الطبقة الأولى من المدنيين، وذكره ابن حبان في الثقات. روى له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي. له في "صحيح مسلم"، وفي "السنن"، حديثان عن عائشة، ورَوَى له البخاريُّ في الأدب آخَر. اهـ. جـ 12 ص 283، 284.
6 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدمت في 5/ 5. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف.
ومنها: أنه مسلسل بثقات المدنيين، غير شيخه، فبغلاني.
ومنها: أنهم اتفق الجماعة بالإخراج لهم، غير القعقاع؛ فأخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم، والأربعة، وأبي يونس؛ فأخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي.
ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض؛ زيد بن أسلم، والقَعْقَاعُ، وأبو يونس.
ومنها: أن أبا يونس، هذا الباب أول محل ذكره من الكتاب، وهو من المُقَلِّين، كما سبق قريبًا.
ومنها: أن عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة روت 2210 حديثًا.
ومنها: أن فيه من صيغ الأداء: الإخبارَ، والعنعنة، والسماعَ. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي يونس) المدني، لا يعرف اسمه (مولى عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم) أنه (قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفًا)، قال المجد في "ق": المصحف مثلثة الميم، من أصْحفَ بالضم- أي جُعلَت فيه الصُّحُفُ. اهـ. وفي المصباح أنه بضم الميم أشَهر من كسرها. اهـ. وقال في اللسان: والمُصْحَف -أي بالضم- والمصْحَفُ -أي بالكسر-: الجامع للصُّحُفِ المكتوبة بين الدَّفَّتَيْنِ، كأنه أصْحَفَ. اهـ
(فقالت: إِذا بَلَغْتَ هذه الآيةَ) الآتي ذكرها (فآذني) بالمد،
وتشديد النون بإدغام نون الكلمة في نون الوقاية، من الإيذان، وهو الإعلام، أي أعلمني ببلوغك إياها، وإنما أمرته بذلك لتُمليَ عليه ما ظنته من الآية، ثم ذكرت الآية المشار إليها بقولها:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} أمر الله تعالى عباده بالمحافظة على الصلوات بأدائها في
أوقاتها. وحفظ حدودها وآدابها.
{وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} بالجر عطفًا على الصلوات، أي وحافظوا على أداء الصلاة الوُسْطَى.
والوُسْطى: فُعْلَى، مؤنثة الأوسط، وهي من الوسَطَ الذي هو الخِيَارُ، وليست من الوَسَط الذي معناه متوسط بين شيئين، لأن فُعْلى معناها التفضيل، ولا يُبْنَى للتفضيل إلا ما يَقْبَلُ الزيادة والنقص، والَوسط بمعني العدل والخيار يقبلها بخلاف التوسط بين الشيئين، فإنه لا
يقبلهما، فلا يبنى منه أفعل للتفضيل
(1)
.
وأشار الشيخ زاده في حاشيته على البيضاوي إلى جواز كونه من الوسط بمعنى المتوسط بين شيئين؛ فقال: ثم إن الأوسط قد يكون من الوسط بين الشيئين، وقد يكون اسم تفضيل من الوسط بمعنى العدل والخيار، فالوسط بهذا المعنى يقبل الزيادة والنقصان، فيبنى منه أفعل التفضيل، بخلاف الوسط بمعنى المتوسط بين الشيئين، فإنه لا يقبلهما، ولا يبنى منه أفعل التفضيل، فالأوسط الذي يكون من الوسط بهذا المعنى يكون صفة كأحمر لا اسم تفضيل، فيحتمل حمل الآية على كل
(1)
"الفتوحات الإلهية على الجلالين" في التفسير جـ 1 ص 194.
من المعنيين. اهـ. باختصار وتصرف جـ 1 ص 551.
وكذا ذكر الزمخشري، وابن العربي القولين على الاحتمال. قاله في "المرعاة". جـ 2 ص 340.
وقال العلامة القرطبي رحمه الله: قوله تعالى: {حَافِظُوا} خطاب لجميع الأمة، والآية أمر بالمحافظة على إقامة الصلوات في أوقاتها بجميع شروطها. والمحافظة هي المداومة على الشيء، والمواظبة عليه.
والوُسْطَى تأنيث الأوسط، ووَسَطُ الشيء خيره وأعدله، ومنه قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، وقال أعرابي يمدح النبي صلى الله عليه وسلم (من البسيط):
يَا أوْسَطَ النَّاسِ طُرًّا فِي مَفَاخِرهِمْ
…
وأكْرَمَ النَّاسِ أمًّا بَرّةً وَأبَا
ووَسَطَ فُلانٌ القومَ يَسِطُهُم، أي صار في وسطهم.
وأفرد الصلاة الوسطى بالذكر وقد دخلت قبل في عموم الصلوات تشريفًا لها، كقوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب: 7]، وقوله:{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68].
وقرأ أبو جعفر الواسطي "والصلاةَ الوُسْطَى" بالنصب على الإغراء، أي الزموا الصلاةَ الوُسْطى، وكذلك قرأ الحلواني. وقرأ قالون عن نافع "الوُصْطَى" بالصاد لمجاورة الطاء لها، لأنهما من حَيِّز واحد، وهما لغتان كالصراط ونحوه. اهـ
(1)
.
(1)
تفسير القرطبي جـ 3 ص 208 - 209.
قال أبو يونس (فلما بلغتها) أي الآية المذكورة (آذنتها) أي أعلمتها بالبلوغ (فَأمْلَت علي) من الإملاء، ولأبي داود:"فأملّت" بتشديد اللام، أي ألقت علي لأكتب وهما لغتان فصيحتان.
قال الفَيُّوميُّ: وأمَللْتُ الكتابَ على الكاتب إملالًا: ألقيته عليه، وأمْلَيْتُ عليه إملاء، والأولى لغة الحجاز، وبني أسد، والثانية لغة بني تميم، وقيس، وجاء بهما الكتاب العزيز {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282]، {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5].اهـ المصباح جـ 2 ص 580.
(حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وصلاة العصر) هكذا الرواية بواو العطف، واستدل به بعضهم على أن صلاة العصر ليست هي صلاة الوسطى، لأن العطف يقتضي المغايرة، وَرُدَّ عليه بأن العطف للتفسير، بدليل الأحاديث الصحيحة المرفوعة، كحديث علي رضي الله عنه الآتي.
وقال النووي رحمه الله تعالى: واستدل به بعض أصحابنا على أن الوُسْطَى ليست العصر، لأن العطف يقتضي المغايرة، لكن مذهبنا أن القراءة الشاذة لا يُحْتَجُّ بها، ولا يكون لها حكم الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن ناقلها لم ينقلها إلا على أنها قرآن، والقرآن لا يثبت إلا بالتواتر بالإجماع، وإذا لم يثبت قرآنًا لا يثبت خبرًا، والمسألة مقررة في الأصول، وفيها خلاف بيننا وبين أبي حنيفة رحمه الله. اهـ
(1)
.
والظاهر أن هذا كان من النبي صلى الله عليه وسلم قاله تفسيرًا للآية، فَزَعَمَت
(1)
شرح مسلم جـ 5 ص 130، 131.
عائشة أنه جزء من الآية، أو كان جزءًا فنسخ، وزعمت عائشة بقاءه. والله أعلم، قاله السندي.
{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} اختلف أهل العلم في معنى "قانتين" على أقوال:
الأول: أن معناه ساكتين، وبه قال السدي.
الثاني: طائعين، وبه قال الشعبي، وجابرُ بنُ زيد، وعطاء، وسعيد بن جبير، وقال الضحاك: كل قنوت في القرآن، فإنما يُعْنَى به الطاعة.
الثالث: خاشعين، وبه قال مجاهد، قال: والقنوت طول الركوع، والخشوع، وغض البصر، وخفض الجَنَاح.
الرابع: القنوت طول القيام، وبه قال ابن عمر، وقرأ "أمَّن هو قانت آناء الليل ساجدًا وقائمًا"، وأخرج مسلم في صحيحه "أفضلُ الصلاةِ طولُ القنوت".
وقال الشاعر (من الرَّمَل):
قَانِتًا للهِ يَدْعُوَ رَبَّهُ
…
وَعَلَى عَمْدٍ مِنَ النَّاسِ اعْتَزَلْ
الخامس: معناه داعين، لما في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه: "قَنَتَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شهرًا
…
" الحديث. أي دعا. وقال قوم: معناه طَوَّلَ قيامه.
قال الجامع: أرجح هذه الأقوال أولها، لما في الصحيحين من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: "كنا نتكلم في الصلاة يُكَلِّمُ الرجلُ منا صاحبه، وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت
{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ، فأمرنا بالسكوت، ونُهِينا عن الكلام".
فهذا نص ظاهر في كون معنى القنوت في الآية السكوتَ. فتبصر. والله أعلم.
وقيل: إن أصل القنوت في اللغة الدوام على الشيء، ومن حيث كان أصل القنوت في اللغة الدواَم على الشيء جاز أن يُسَمَّى مديمُ الطاعة قانتًا، وكذلك من أطَالَ القيامَ، والقراءةَ والدعاءَ في الصلاة، أو أطال الخشوع والسكوت كل هؤلاء فاعلون للقنوت
(1)
.
(ثم قالت عائشة) رضي الله عنها (سمعتها) أي الآية على هذه القراءة (من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
هذا الكلامُ من عائشة رضي الله عنها يحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون هذه اللفظة الزائدة من القرآن، ثم نُسِخَت كما أخرجه مسلم في صحيحه عن البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال:"نزلت هذه الآية حافظوا على الصلوات، وصلاة العصر" فقرأناها ما شاء الله، ثم نسخها الله، فنزلت {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] فلعل عائشة رضي الله عنها لم تعلم بنسخها، فأرادت إثباتها في المصحف، أو اعتقدت أنها مما نسخ حكمها، وبَقِيَ تلاوتها، فأرادت إثباتها.
(1)
انظر تفاصيل الأقوال في تفسير القرطبي جـ 3 ص 213، 214.
الثاني: أن تكون عائشة سمعت اللفظة من النبي صلى الله عليه وسلم ذَكَرَهَا على أنها من القرآن لتأكيد فضيلة العصر مع الصلاة الوسطى، كما ثبت في حديث جرير بن عبد الله البَجَلِيّ رضي الله عنه قال: كنَّا جلوسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نَظرَ إلى القمَر ليلةَ البدر، فقال: "أمَا إنكم سَتَرَوْنَ ربكم، كما ترون هذا القمر، لا تُضَامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تُغْلَبُوا على صلاةٍ قبلَ طلوِع الشمس وقبلَ غروبها -يعني العصرَ والفجرَ- ثم قرأ جرير {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130]. أخرجه الجماعة. فأكَّد فضيلتها، فأرادت عائشة أن تثبتها في المصحف، لما ظنت أنها من القرآن، أو لأنها اعتقدت جواز إثبات غير القرآن مع القرآن، كما رُويَ عن أبَيِّ بن كعب، وغيره من الصحابة أنهم جَوَّزُوا إثبات القنوت، وبعض التفسير في المصحف، وإن لم يعتقدوه قرآنًا. والله أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
الأولى: في درجته:
حديث عائشة رضي الله عنها هذا أخرجه مسلم.
الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا في "المجتبى"(472) وفي "الكبرى"(366) بسند الباب، وفي "الكبرى" في "التفسير"(11046) عن قتيبة، عن مالك،
والحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن القعقاع، عن أبي يونس مولى عائشة رضي الله عنها.
الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي؛ فأخرجه مسلم في "الصلاة" عن يحيى بن يحيى، وأبو داود فيه عن القعنبي، والترمذي في "التفسير" عن قتيبة، وعن إسحاق بن موسى، عن مَعْنِ بن عيسى- كلهم عن مالك به. والله تعالى أعلم.
الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو وجوب المحافظة على صلاة العصر، والظاهر أن المصنف يرى أن الوسطى هي العصر، وأن العطف فيه للتفسير، ومنها: كون الصحابة يعتنون بكتابة المصحف، ومنها: أن من عرف شيئًا خفي على غيره ينبغي له التنبيه عليه، ومنها: أنه استَدَلَّ به من قال إن الوسطى غير العصر، وسيأتي تحقيق ذلك في الحديث التالي إن شاء الله تعالى، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
473 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:
"شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ".
رجال الإسناد: سبعة
1 -
(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني ثم البصري، ثقة، توفي سنة 245، من [10]، تقدم في 5/ 5.
2 -
(خالد) بن الحارث الهُجَيمي أبو عثمان البصري، ثقة ثبت، توفي سنة 186، من [8]، تقدم في 42/ 47.
3 -
(شعبة) بن الحجاج أبو بسطام العَتَكِي الواسطي البصري، الإمام الحجة، من [7]، تقدم في 24/ 26.
4 -
(قتادة) بن دِعَامَةَ السَّدُوسي البصري أبو الخطاب، ثقة ثبت، من [4]، تقدم في 30/ 34.
5 -
(أبو حسان) الأعرج الأجْرَدُ البصري، مشهور بكنيته، واسمه مسلم بن عبد الله، صدوق رمي برأي الخوارج، قتل سنة 130، من [4].
قال الأثرم عن أحمد: مستقيم الحديث، أو متقارب الحديث، وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة، وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال يعقوب بن شيبة: قلت لابن المديني: من رَوَى عن أبي حسان غير قتادة؟ قال: لا أعلم. وذكره ابن حبان في الثقات.
وقال الآجري عن أبي داود: سمي الأجرد لأنه كان يمشي على
عَقِبِه خَرَجَ مع الخوارج. وقال العجلي: بصري تابعي ثقة، ويقال: إنه كان يرى رأي الخوارج. وقال ابن عبد البر: الأجردُ الذي يمشي على ظهر قدميه وقدماه مُلْتَوِيَتَان، وهو عندهم ثقة في حديثه، إلا أنه رُوِي عن قتادة، قال: سمعت أَبا حسان الأعرج، وكان حَرُوريًا، وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله تعالى. قُتِلَ يوم الحَرَّة سنة 130 روى له البخاري تعليقًا، والباقون. اهـ. جـ 12 ص 72.
6 -
(عَبِيدَة) -بفتح العين وكسر الباء- ابن عمرو السّلماني
(1)
المُرَادي، أبو عمرو الكوفي، تابعي مخضرم، ثقة ثبت، توفي سنة 72 أو بعدها، والصحيح أنه مات قبل سنة 70، من [2].
أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين، ولم يَلْقَه. قال الشعبي: كان شُرَيح أعلم بالقضاء. وكان عَبيدَةَ يوازيه، وقال أشْعَثُ عن ابن سيرين: أدركتُ الكوفة، وبها أربعةَ يُعَدُّ في الفقه، فمن بدأ بالحارث ثَنَّى بعَبِيدَةَ، أو العكس، ثم علقمة الثالث، وشريح الرابع، ثم يقول: وإن أربعة أحسنهم شريح لخيار.
وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة، جاهلي أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين، ولم يَرَهُ، وكان من أصحاب علي، وعبد الله، وكان ابن سيرين من أرْوَى الناس عنه، قال ابن نمير: كان شريح إذا أشكل عليه الأمر كَتَبَ إلى عَبِيدَةَ، ويروى عن ابن سيرين: ما رأيت رجلا أشدَّ
(1)
السلماني: بفتح السين وسكون اللام، وقيل: بفتحها أيضًا: نسبة إلى سلمان حي من مراد، وبطن من همدان وتميم، قاله في اللب جـ 2 ص 23.
تَوَقِّيًا منه، وكل شيء روى عن إبراهيم عن عَبِيدَة سوى رأيه فإنه عن عبد الله إلا حديثًا واحدًا. وقال محمد بن سعد: قال محمد بن عُمَر: هاجر عَبِيدَة زَمَنَ عمر. وقال ابن معين: كان عيسى بن يونس يقول: السَّلَمَاني مفتوحة، وعدَّه علي بن المديني في الفقهاء من أصحاب ابن مسعود. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة لا يسأل عن مثله.
وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: علقمة أحب إليك، أو عبيدة؟ فلم يُخَيِّرْ. قال عثمان: هما ثقتان. وقال ابن المديني، والفَلاس: أصح الأسانيد محمد بن سيرين، عن عَبِيدَة، عن علي. وقال العجلي: كل شيء رَوَى محمد عن عَبِيدَة سوى رأيه فهو عن علي، وكل شيء روى عن إبراهيم فذكر مثل ما تقدم.
مات سنة 2، وقيل:(73)، وقيل:(74)، قال الحافظ: وصحح هذا ابن حبان في "الثقات"، وقال البخاري في "تاريخه": حدثنا ابن بشار، ثنا ابن مهدي، ثنا شعبة، عن ابن حصين، قال أوصى عبيدة أن يصلي عليه الأسود خَشِيَ أن يصلي عليه المختار، فبادَرَ، فصلَّى عليه. وهذا إسناد صحيح، رواه ابن سعد أيضًا عن أبي داود، عن شعبة، ومقتضاه أن عبيدة مات قبل سنة (60) بمدة، لأن المختار قتل سنة (67) بلا خلاف. اهـ. روى له الجماعة. تت جـ 7 ص 84، 85.
7 -
(علي) بن أبي طالب أبو الحسن الخليفة الراشد رضي الله عنه، تقدم في 74/ 91. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سباعيات المصنف.
ومنها: أن رواته كلهم ثقات، إلا أبا حسان فصدوق.
ومنها: أنهم ممن اتفق الجماعة بالإخراج لهم، إلا أبا حسان، فعلق له البخاري وأخرج له الباقون.
ومنها: أنهم بصريون، إلا عليًا وعَبِيدَة، فكوفيان.
ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض؛ قتادة، وأبو حسان، وعبيدة.
ومنها: أن أبا حسان وعبيدة، هذا البابُ أوّلُ محل ذكرهم من الكتاب.
ومنها: أن عليًا أحد الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم أجمعين. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن علي) بن أبي طالب رضي الله عنه (عن النبي صلى الله عليه وسلم) أنه (قال) يوم الخندق وهو يومُ الأحزاب، وكان في شوال سنة أربع من الهجرة، كما قال موسى بن عُقْبَةَ، واختاره البخاري، وقيل: سنة خمس، وعليه كثيرون.
سُمِّيَت الغزوةُ بالخندق لأجل الخندق الذي حُفِرَ بأمره صلى الله عليه وسلم حولَ المدينة لَمَّا أشار به سلمانُ الفارسيُّ رضي الله عنه، فإنه من مكائد الفُرْس دون العرب، وعمِلَ فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بنفسه ترغيبًا للمسلمين، فإنهم قَاسَوا في حَفْرِهِ شدائدَ، منها شدةُ الجوع والبرد، وكثرةُ الحفر، والتعب، وأقاموا في عمل الحفر عشرين ليلة، أو خمسة عشر يومًا، أو أربعًا وعشرين، أو أشهرًا، على أقوال.
وسميت بالأحزاب لاجتماع طَوَائِفَ من المشركين، قريشٍ، وغطفانَ، وبني أسد، وبني سليم، وبني سعد، واليهود على حرب المسلمين، وهم كانوا ثلاثة آلاف، والمشركون عشرة آلاف، وقيل: أربعة وعشرين ألفًا. اهـ. "مرعاة" جـ 2 ص 339.
(شَغَلُونا) أي منعونا، يقال: شَغَلَه الأمر شَغلًا، من باب نَفَع، فالأمر شَاغِل، وهو مَشْغُول، والاسم الشُّغُل -بضم الشين، وتضم الغين، وتسكن للتخفيف - وشُغِلْتُ به بالبناء للمفعول: تَلَهَّيت به. كذا في المصباح، وأشغله بالألف لغة رديئة. كما قاله ابن منظور. وفي "ق" الشُّغْلُ -بالضم، وبضمتين، وبالفتح، وبفتحتين-: ضِدُّ الفراغ، جمعه أشْغَال، وشُغُول. اهـ.
(عن الصلاة الوسطى) بتعريف "الصلاة"، و"الوُسطى" صفة، وفي نسخة "عن صلاة الوسطى" بالتنكير وإضافتها إلى الوسطى، قال النووي في شرح مسلم: وهو من باب قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ
الْغَرْبِيِّ} [القصص: 44]، وفيه المذهبان المعروفان؛ مذهب الكوفيين جواز إضافة الموصوف إلى صفته، ومذهب البصريين منعه، ويقدرون فيه محذوفًا، وتقديره هنا، عن صلاة الصلاة الوسطى، أي عن فعِل الصلاة الوسطى. اهـ. جـ 4 ص 129.
وقد تقدم البحث في معنى الوسطى في الحديث الماضي. فارجع إليه تستفد.
(حتى غربت الشمس) غايةٌ لشغلهم عن الصلاة، يعني أنهم شغلوهم عن صلاة العصر إلى غروب الشمس، فما صَلَّوْهَا إلا بعده.
وللبخاري عن طريق ابن سيرين، عن عَبيدَة، عن علي:"حبسونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس، ملأَ الله قبورهم وبيوتهم -أو أجوافهم- نارًا"، زاد مسلم عن طريق شُتَير بن شَكَل، عن علي:"شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاةِ العصر"، وزاد في آخره "ثم صلاها
بين المغرب والعشاء" وله عن ابن مسعود نحوُ حديث علي، وللترمذي والنسائي من طريق زِرّ بن حُبَيش عن علي مثله.
ولمسلم أيضًا من طريق أبي حَسَّان الأعرج عن عَبيدَة، عن علي، فذكر الحديث بلفظ "كما حبسونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس" يعني العصر.
وَرَوَى أحمدُ والترمذي من حديث سَمُرَةَ رَفَعَهُ قال: "صلاةُ الوُسْطَى صلاةُ العصر".
ورَوَى ابنُ جرير من حديث أبي هريرة رَفَعَهُ: "الصلاة الوسطى صلاة العصر"، ومن طريق كُهَيل بن حرملة سئل أبو هريرة عن الصلاة الوسطى؟ فقال: اختلفنا فيها، ونحن بفناء بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفينا أبو هاشم بن عتبة، فقال: أنا أعْلَمُ لكم، فقام، فاستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج إلينا، فقال: أخبرنا أنها صلاة العصر، ومن طريق عبد العزيز بن مروان أنه أرسل إلى رجل فقال: أيّ شيء سمعتَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة الوسطى؟ فقال: أرسلني أبو بكر، وعمر
أسأله، وأنا غلام صغير؟ فقال:"هي العصر".
ومن حديث أبي مالك الأشعري رَفَعَهُ: "الصلاة الوسطى صلاة العصر". وروى الترمذي، وابن حِبَّان من حديث ابن مسعود مثله. ورَوَى ابنُ جرير من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، قال: كان في مصحف عائشة: "حافظوا على الصلوات، والصلاة الوسطى، وهي صلاة العصر".
ورَوَى ابنُ المنذر من طريق مِقْسمٍ عن ابن عباس، قال:"شَغَلَ الأحزابُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر حتى غربت الشمس، فقال: شغلونا عن الصلاة الوسطى".
وأخرج أحمد من حديث أم سلمة، وأبي أيوب، وأبي سعيد، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة، وابن عباس رضي الله عنهم من قولهم إنها صلاة العصر. وسيأتي تمام البحث في المسائل الآتية إن شاء الله تعالى. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث علي رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا برقم (473) عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد بن الحارث، عن شعبة، عن قتادة، عن أبي حسَّان الأعرج، عن عَبِيدَة السَّلِماني عن علي رضي الله عنه.
وفي "الكبرى" في "التفسير" برقم (11045) عن إسحاق بن إبراهيم، عن عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن مسلم بن صُبَيح، عن شُتَير بن شَكَل، عن علي رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، فأخرجه البخاري في "الجهاد" عن إبراهيم بن موسى، عن عيسى بن يونس -وفي "المغازي" عن إسحاق، عن رَوْح بن عُبَادَةَ، وفي "الدعوات" عن محمد بن المثنى، عن محمد بن عبد الله الأنصاري، وفي "التفسير" عن عبد الله بن محمد، عن يزيد بن هارون وعن عبد الرحمن بن بِشْر، عن يحيى بن سعيد- خمستهم عن هشام بن حَسَّانَ، عن محمد بن سيرين، عن عَبِيدَة، عنه.
وأخرجه مسلم في "الصلاة" عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي أسامة- وعن محمد بن أبي بكر المُقَدَّمِيِّ، عن يحيى بن سعيد القَطَّان - وعن إسحاق بن إبراهيم، عن المُعْتَمِر- ثَلاثتهم عن هشام بن حَسَّانَ، به.
وعن محمد بن المثنى، وبُندَار، كلاهما عن غُندَر، عن شعبة، وعن محمد بن المثنى، عن ابن أبي عدي، عن سعيد بن أبي عَرُوبَةَ - كلاهما عن قتادة، عن أبي حَسَّان الأعرج، عن عَبيدَة، عن علي رضي الله عنه.
وأخرجه أبو داود في "الصلاة" عن عثمان بن أبي شيبة، عن يحيى بن زكريا، ويزيد بن هارون، كلاهما عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن عبيدة، عن علي رضي الله عنه.
وأخرجه الترمذي في "التفسير" عن هَنَّاد بن السَّرِيِّ، عن عَبْدَةَ بن سُلَيمان، عن سعيد بن أبي عروبة، به. وقال: حسن صحيح. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو وجوب المحافظة على صلاة العصر.
ومنها: وقوع إيذاء الكافر للمسلم في الدنيا التي هي دار أكدار.
ومنها: جواز حصول الأعراض البشرية التي ليس فيها نقص لأفضل المرسلين عليه وعليهم أفضل الصلاة والتسليم.
ومنها: جواز الدعاء على الظالم بما يليق به.
ومنها: أن صلاة الوسطى هي صلاة العصر.
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أخَّرُوا صلاة العصر حتى خرج وقتها، لاشتغالهم بالعدو. والله أعلم.
تنبيه:
حديث علي رضي الله عنه يقتضي أن الأحزاب شَغَلُوا النبي صلى الله عليه وسلم عن العصر فقط، وأخرج أحمد والنسائي من حديث أبي سعيد: "أنهم شَغَلُوه صلى الله عليه وسلم عن الظهر والعصر والمغرب، وصَلَّوا بعد هويّ من الليل، وذلك قبل أن يُنَزلَ اللهُ في صلاة الخوف {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239].
وأخرج الترمذي والنسائي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه "أنهم شغلوه عن أربع صلوات يوم الخندق حتى ذهب من الليل ما شاء الله".
فإن قيل: كيف يُجمَعُ بين هذا الاختلاف؟
قلت: قد جَمَعَ النووي رحمه الله بأن وَقْعَة الخَنْدَق دامت أيامًا، فكان هذا في بعض الأيام، وذلك في بعضها الآخر.
وقوله في حديث ابن مسعود: "عن أربع صلوات"، فيه تجوز، لأن العشاء ما خرج وقتها، أو يُحْمَل على تأخيرها عن وقتها المعتاد، ويدل عليه قوله "حتى ذهب من الليل ما شاء الله". ثم إن هذا التأخير لهذه الصلوات كان عن عمد، لاشتغاله بالعدو فكان عذرًا، ويحتمل أن يكون نسيانًا، والأول هو الظاهر، لقوله في حديث أبي سعيد: "قبل أن
ينزل الله في صلاة الخوف".
وأما بعد نزول صلاة الخوف فلا يجوز هذا التأخير، بل يصلون صلاة الخوف على حسب الحال، رجالا أو ركبانا
(1)
. والله تعالى أعلم.
المسألة الخامسة: في اختلاف العلماء في معنى الصلاة الوسطى:
قد اختلف السلف في المراد بالصلاة الوسطى على أقوال:
الأول: أنها الصبح، وبه قال أبو أمامة، وأنس، وجابر، وأبو العالية، وعُبَيد بن عُمَير، وعطاء، وعكرمة، ومجاهد، وغيرهم، نقله عنهم ابن أبي حاتم، وهو أحد قولي ابن عمر، وابن عباس، ونقله مالك والترمذي عنهما، ونقله مالك بلاغًا عن علي، والمعروف عنه خلافه.
ورَوَى ابنُ جرير من طريق عوف الأعرابي، عن أَبي رَجَاء العُطَارديّ، قال:"صليت خلف ابن عباس الصبح، فقَنَتَ فيها، ورفع يديه، ثم قال: هذه الصلاة الوسطى التي أمِرْنَا أن نقوم فيها قانتين" وأخرجه أيضًا من وجه آخر عنه، وعن ابن عمر، ومن طريق أبي العالية "صليت خلف عبد الله بن قيس بالبصرة في زمن عمر صلاة الغداة، فقلت لهم: ما الصلاة الوسطى؟ قال: هي هذه الصلاة".
وهو قول مالك، والشافعي فيما نص عليه في الأمِّ، واحتجوا له بأن فيها القنوت، وقد قال الله تعالى:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ، وبأنها لا تقصر في السفر، وبأنها بين صلاتي جهر، وصلاتي سر.
(1)
انظر المنهل جـ 3 ص 327.
وأجيب بأن ما استدلوا به لا يصلح لمعارضة ما ثبت من الأحاديث الصحيحة الصريحة بأنها العصر؛ ولذا قال النووي في شرح المهذب: الذي تقتضيه الأحاديث الصحيحة أنها العصر وهو المختار. وقال صاحب الحاوي: نصَّ الشافعي رحمه الله أنها الصبح، وصحت الأحاديث أنها العصر، ومذهبه اتباع الحديث، فصار مذهبه أنها العصر، ولا يكون في المسألة قولان، كما وَهِمَ بعض أصحابنا. اهـ
القول الثاني: أنها الظهر، وبه قال زيد بن ثابت، أخرجه أبو داود من حديثه، قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، ولم تكن صلاة أشد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، فنزلت "حافظوا على الصلوات" الآية.
وجاء عن أبي سعيد وعائشة القول بأنها الظهر، أخرجه ابن المنذر، وغيره، ورَوَى مالكٌ في "الموطأ" عن زيد بن ثابت الجزم بأنها الظهر، وبه قال أبو حنيفة في رواية، ورَوَى الطيالسي من طريق زُهْرَةَ بن مَعْبَد، قال: كنا عند زيد بن ثابت، فأرسلوا إلى أسامة، فسألوه عن الصلاة الوسطى؟ فقال: هي الظهر".
ورواه أحمد من وجه آخر، وزاد:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهجير، فلا يكون وراءه إلا الصف أو الصفان، والناس في قائلتهم، وفي تجارتهم، فنزلت".
القول الثالث: أنها العصر، وبه قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد رَوَى الترمذي والمصنف من طريق زِر بن حُبَيش، قال: "قلنا
لعبيدة: سل عَلِيًّا عن الصلاة الوسطى، فسأله؟ فقال: كنا نُرَى أنها الصبح، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب:"شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: وهذه الرواية تَدْفَعُ دَعْوَى من زَعَمَ أن قوله: "صلاة العصر"، مدرج من تفسير بعض الرواة، وهي نص في أن كونها العصر من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وأن شبهة من قال: إنها الصبح قوية، لكن كونها العصر هو المعتمد.
وبه قال ابن مسعود وأبو هريرة، وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة، وقول أحمد، والذي صار إليه معظم الشافعية، لصحة الحديث فيه. قال الترمذي: هو قول أكثر علماء الصحابة.
وقال الماوردي: هو قول جمهور التابعين. وقال ابن عبد البر: هو قول أكثر أهل الأثر، وبه قال من المالكية: ابن حبيب، وابن العربي، وابن عَطِيَّة، ويؤيده أيضًا ما رواه مسلم عن البراء بن عازب:"نزلت حافظوا على الصلوات، وصلاة العصر، فقرأناها ما شاء الله، ثم نسخت، فنزلت حافظوا على الصلوات، والصلاة الوسطى"، فقال رجل: فهي إذن صلاة العصر، فقال: أخبرتك كيف نزلت".
القول الرابع: أنها المغرب، نقله ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن ابن عباس، قال:"صلاة الوسطى هي المغرب"، وبه قال قَبِيصَةُ بن ذُؤَيب، أخرجه ابن جرير، وحجتهم أنها معتدلة في عدد الركعات، وأنها لا تقصر في الأسفار، وأن العمل مَضى على المُبَادَرَةِ إليها، والتعجيل لها
في أول ما تغرب الشمس، وأن قبلها صلاتا سر، وبعدها صلاتا جهر.
القول الخامس: أنها جميع الصلوات، وهو آخر ما صححه ابن أبي حاتم، أخرجه أيضًا بإسناد حسن عن نافع، قال:"سُئِلَ ابنُ عمر؟ فقال: هي كلهن، فحافظوا عليهن"، وبه قال معاذ بن جبل، واحتج له بأن قوله:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} يتناول الفرائض، والنوافل،
فعطف عليه الوسطى، وأريد بها كل الفرائض تأكيدًا لها، واختار هذا القول ابن عبد البر.
القول السادس: أنها الجمعة، ذكره ابن حبيب من المالكية، واحتج بما اختصت به من الاجتماع والخطبة، وصححه القاضي حسين في صلاة الخوف من تعليقه، ورجحه أبو شامة.
القول السابع: أنها الظهر في الأيام، والجمعة يوم الجمعة.
القول الثامن: العشاء؛ نقله ابن التين، والقرطبي، واحتج له بأنها بين صلاتين، لا تُقْصَرَانِ، ولأنها تقع عند النوم، فلذلك أمِرَ بالمحافظة عليها، واختاره الواحدي.
القول التاسع: الصبح، والعشاء، للحديث الصحيح في أنهما أثقل الصلاة على المنافقين، وبه قال الأبهري من المالكية.
القول العاشر: الصبح والعصر، لقوة الأدلة في أن كلا منهما قيل: إنه الوسطى، فظاهر القرآن الصبح، ونص السنة العصر.
القول الحادي عشر: صلاة الجماعة.
القول الثاني عشر: الوتر، وصنف فيه عَلَمُ الدين السخاوي جزءًا، ورجحه القاضي تقي الدين الأخنائي، واحتج له في جزء، قال الحافظ: رأيته بخطه.
القول الثالث عشر: صلاة الخوف.
القول الرابع عشر: صلاة عيد الأضحى.
القول الخامس عشر: صلاة عيد الفطر.
القول السادس عشر: صلاة الضحى.
القول السابع عشر: واحدة من الخمس غير معينة، قاله الربيع بن خُثَيْم، وسعيد بن جبير، وشريح القاضي، وهو اختيار إمام الحرمين من الشافعية، ذكره في النهاية؛ قال: كما أخفيت ليلة القدر.
القول الثامن عشر: أنها الصبح، أو العصر على الترديد، وهو غير القول المتقدم الجازم بأن كلا منهما يقال له: الصلاة الوسطى.
القول التاسع عشر: التوقف، فقد رَوَى ابنُ جرير بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا، وشبك بين أصابعه.
القول العشرون: صلاة الليل، قال الحافظ: وجدته عندي، وذَهِلْت الآن عن معرفة قائله.
وأقوى شُبْهَة لمن زعم أنها غير العصر مع صحة الحديث حديثُ البراء الذي تقدم لمسلم، فإنه يشعر بأنها أبهمت بعد ما عُيِّنَت، كذا قاله القرطبي، قال: وصار إلى أنها أبهمت جماعة من العلماء المتأخرين، قال: وهو الصحيح، لتعارض الأدلة، وعسر الترجيح.
قال الحافظ: وفي دعوى أنها أبهمت، ثم عينت من حديث البراء نظر؛ بل فيه أنها عينت، ثم وصفت، ولهذا قال الرجل: فهي إذن العصرُ، ولم ينكر عليه البراء، نعم جواب البراء يشعر بالتوقف لما نظر فيه من الاحتمال، وهذا لا يدفع التصريح بها في حديث علي.
ومن حجتهم أيضًا حديث عائشة المذكور في الباب، ففيه "وصلاة العصر" بالعطف، وروي مالك عن عَمْرو بن رافع، قال: كنت أكتب مصحفًا لحفصة، فقالت: إذا بلغتَ هذه الآية، فآذِنِّي، فَأمْلَتْ علي:"حافظوا على الصلوات، والصلاة الوسطى، وصلاةَ العصر". وأخرجه
ابن جرير من وجه آخر حسن عن عمرو بن رافع.
وروى ابن المنذر من طريق عبيد الله بن رافع: "أمرتني أم سلمة أن أكتب لها مصحفًا" فذكر مثل حديث عمرو بن رافع سواء، ومن طريق سالم بن عبد الله بن عمر أن حفصة أمرت إنسانًا أن يكتب لها مصحفًا نحوه، ومن طريق نافع أن حفصة أمرت مولى لها أن يكتب لها
مصحفًا، فذكر مثله، وزاد:"كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولها".
قال نافع: فقرأت ذلك المصحف، فوجدت فيه الواو.
فتمسك قوم بأن العطف يقتضي المغايرة، فتكون صلاة العصر غير صلاة الوسطى.
وأجيب بأن حديث علي، ومن وافقه أصح إسنادًا، وأصرح، وبأن حديث عائشة قد عورض برواية عروة أنه كان في مصحفها "وهي العصر"، فيحتمل أن تكون الواو زائدة، ويؤيده ما رواه أبو عبيدة بإسناد صحيح عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر" بغير واو، أو هي عاطفة، لكن عطف صفة، لا عطف ذات، وبأن قوله "والصلاة الوسطى والعصر لم يقرأ بها أحد، ولعل أصل ذلك ما في حديث البراء أنها نزلت أولا، "والعصر"، ثم نزلت ثانيا بدلها "والصلاة الوسطى" فجمع الراوي بينهما، ومع وجود الاحتمال لا ينهض الاستدلال، فكيف يكون مقدمًا على النص الصريح بأنها صلاة العصر.
قال الحافظ صلاح الدين العلائي رحمه الله: حاصل أدلة من قال: إنها غير صلاة العصر يرجع إلى ثلاثة أنواع:
أحدهما: تنصيص بعض الصحابة، وهو معارض بمثله ممن قال منهم: إنها العصر، ويترجح قول العصر بالنص الصريح المرفوع، وإذا اختلف الصحابة لم يكن قول بعضهم حجة على غيره، فتبقى حجة المرفوع قائمة.
ثانيها: معارضة المرفوع بورود التأكيد على فعل غيرها كالحث
على المواظبة على الصبح والعشاء، وهو معارض بما هو أقوى منه، وهو الوعيد الشديد الوارد في ترك صلاة العصر.
ثالثها: ما جاء عن عائشة، وحفصة من قراءة "حافظوا على الصلوات، والصلاة الوسطى، وصلاة العصر" فإن العطف يقتضي المغايرة، وهذا يرد عليه إثبات القرآن بخبر الآحاد، وهو ممتنع، وكونه ينزل منزلة خبر الواحد مختلف فيه، سلمنا، لكن لا يصلح معارضا للمنصوص صريحًا، وأيضا فليس العطف صريحا في اقتضاء المغايرة، لوروده في نسق الصفات، كقوله تعالى:{الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3] انتهى كلام العلائي ملخصًا اهـ. "فتح" جـ 8 ص 43 - 45.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبين مما ذُكِرَ أن أرجح الأقوال قول من قال: إنها العصر، لقوة دليله، كما تحرر من ملخص كلام الحافظ العلائي رحمه الله. والله أعلم.
قال في الفتح: وجمع الدمياطي في ذلك جزءًا مشهورًا سماه "كشف الغطاء عن الصلاة الوسطى"، فبلغ تسعة عشر قولًا، ثم ساقها كما تقدم. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
15 - بَابُ مَنْ تَرَكَ صَلاةَ العَصْرِ
أي هذا الباب ذكر الحديث الدال على وَعِيدِ مَن ترك صلاة العصر.
474 -
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْمَلِيحِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ بُرَيْدَةَ فِي يَوْمٍ ذِي غَيْمٍ، فَقَالَ: بَكِّرُوا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ، فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ".
رجال الإسناد: سبعة
1 -
(عبيد الله بن سعيد) بن يحيى اليشكري، أبو قُدَامة السَّرَخْسِيُّ، نَزِيلُ نَيْسَابُور، ثقة مأمون سُنِّيٌ، توفي سنة 241، من [10]، أخرج له البخاري ومسلم والنسائي، وتقدم في 15/ 15.
2 -
(يحيى) بن سعيد القَطَّانُ أبو سعيد البصري، ثقة متقن حافظ إمام قدوة، توفي سنة 198، من كبار [9]، أخرج له الجماعة، تقدم في 4/ 4.
3 -
(هشام) بن أبي عبد الله سَنْبَر أبو بكر الدستوائي البصري، ثقة ثبت رُمِيَ بالقَدَر، من كبار [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 42/ 47.
4 -
(يحيى بن أبي كثير) أبو نَصْر الطائي مولاهم اليمامي، ثقة ثبت يُدَلِّس ويُرْسِلُ، توفي سنة 132، وقيل: غير ذلك، من [5]، أخرج له الجماعة، وتقدم في 23/ 24.
5 -
(أبو قِلابَةَ) عبد الله بن زيد بن عمرو -أو عامر- الجَرْميّ البصري، ثقة فاضل كثير الإرسال فيه نصب يسير، من [3]، وتقدم في 203/ 322.
6 -
(أبو المَلِيح) بن أسامة بن عُمَير -أو عامر- بن حُنَيف بن ناجية الهُذَلي، اسمه عامر، وقيل: زيد، وقيل: زياد، ثقة، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 102/ 139.
7 -
(بُرَيدَة) بن الحُصَيب الأسلمي الصحابي الجليل رضي الله عنه أبو سهل سكن المدينة، ثم البصرة، ثم مَرْوَ، ومات بها سنة 63، وهو آخر من مات بخراسان من الصحابة، تقدم في 101/ 133. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سباعيات المصنف، وأن رواته كلهم ثقات أجلاء، اتفق الجماعة بالإخراج لهم، إلا شيخه؛ فأخرج له البخاري، ومسلم، والنسائي فقط.
ومنها: أنه مسلسل بالبصريين.
ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم من بعض: يحيى
وأبو قلابة وأبو المليح.
ومنها: أن صحابيه آخر من مات من الصحابة بخراسان- مات سنة 62 أو 63. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي قلابة) عبد الله بن زيد الجَرْميّ، أنه (قال: حدثني أبو المليح) عامر بن أسامة، وقيل: غيره، كما مر قريبًا، الهُذَليّ البصري.
تنبيه:
قال في الفتح: تابع هشامًا على هذا الإسناد عن يحيى بن أبي كثير شيبان، ومعمر، وحديثهما عند أحمد، وخالفهم الأوزاعي؛ فرواه عن يحيى، عن أبي قلابة، عن أبي المهاجر، عن بريدة، والأول هو المحفوظ، وخالفهم أيضًا في سياق المتن. اهـ. "فتح" جـ 2 ص 39.
(قال) أبو المليح (كنا مع بريدة) بن الحصيب رضي الله عنه (في يوم ذي غيم) أي ذي سَحَاب، واحدته غَيْمَةٌ، وهو في الأصل مصدر من غامَت السماءُ، من باب سَارَ: إذا أطبَقَ بها السَّحَابُ، وأغامَتْ بالألف، وَغيَّمَتْ، وتَغَيَّمَتْ مثله. قاله في المصباح.
قيل: خص يوم الغيم بذلك لأنه مظنة التأخير، إمَّا لمُتَنَطِّع يَحْتَاط لدخول الوقت، فيبالغ في التأخير حتى يخرج الوقت، أو لمتشاغل بأمر آخر، فيظن بقاء الوقت، فيسترسل في شغله إلى أن يخرج الوقت.
قاله في الفتح جـ 2 ص 39.
(فقال) بريدة رضي الله عنه (بكروا بالصلاة) أي عجلوا بأداء صلاة العصر في أول وقتها، فـ "أل" للعهد الحضوري بدليل قوله "من فاتته صلاة العصر".
والتبكير يطلق على المبادرة بأي شيء كان، في أي وقت كان، وأصله المبادرة بالشيء أول النهار، ثم علل أمره لهم بالتبكير بقوله (فإِن رسول الله صلى الله عليه وسلم) فالفاء للتعليل.
وقد استشكل معرفة تيقن دخول أول الوقت مع وجود الغيم، لأنهم لم يكونوا يعتمدون فيه إلا على الشمس، وأجيب باحتمال أن بريدة قال ذلك عند معرفة دخول الوقت، لأنه لا مانع في يوم الغيم من أن تظهر الشمسُ أحيانًا، ثم لا يشترط إذا احتجبت الشمس اليقين، بل يكفي الاجتهاد. قاله في "الفتح" جـ 2 ص 39.
(قال: من فاتته صلاة العصر) أي بتقصيره؛ فخرج من فاتته بنسيان أو نوم، أو نحوهما، ويدل على ذلك ما في البخاري "مَنْ تَركَ صلاةَ العصر"، قال في "الفتح": زاد معمر في روايته "مُتَعَمِّدًا"، وكذا أخرجه أحمد من حديث أبي الدرداء.
و"مَنْ " شرطية، وجوابها قوله:(فقد حَبِطَ عمله) -بكسر الباء، وتفتح، قال في المصباح. حَبِطَ العَمَلُ حَبَطًا، من باب تَعِبَ،
وحُبُوطًا: فَسَد، وهَدَر، وحَبَطَ يَحْبِطُ، من باب ضَرَبَ لغة، وقُرِئَ بها في الشواذ. اهـ. جـ 1 ص 118.
وفي رواية معمر "أحبط الله عمله". والله أعلم ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث بُرَيْدَة رضي الله عنه هذا أخرجه البخاري.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا في "الصلاة"(474) عن عبيد الله بن سعيد، عن يحيى القطان، عن هشام الدّسْتوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قِلابَة، عن أبي المَلِيح، عنه. وفي "الكبرى"(364) بهذا السند. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري في "الصلاة" عن مسلم بن إبراهيم، ومعاذ بن فَضَالة كلاهما عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير
…
والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو بيان الوعيد لمن ترك صلاة العصر.
ومنها: ما كان عليه الصحابة من حرصهم في الدعوة إلى المبادرة بالصلاة في أول وقتها.
ومنها: شدة الوعيد في ترك صلاة العصر، وأنه سبب لإحباط العمل، وذلك لمزيد فضلها حيث إنها هي الصلاة الوسطى على الراجح، كما تقدم تفصيل ذلك في الباب السابق.
المسألة الخامسة: أنه استدل بهذا الحديث من يقول بتكفير أهل المعاصي من الخوارج وغيرهم، وقالوا: هو نظير قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 5].
وقال ابن عبد البر: مفهوم الآية أن من لم يكفر بالإيمان لم يحبط عمله، فيتعارض مفهومها ومنطوق الحديث، فيتعين تأويل الحديث، لأن الجمع إذا أمكن كان أولى من الترجيح.
وتمسك بظاهر هذا الحديث أيضًا القائلون بأن تارك الصلاة يكفر، وقد تقدم الجواب عنهم في الحديث (463) وأيضًا فلو كان على ما ذهبوا إليه لما اختصت العصر بذلك.
وأما الجمهور فتأولوا الحديث، فافترقوا في تأويله فِرَقًا:
فمنهم: من أوَّلَ سبب الترك. ومنهم: من أوّل الحَبَطَ. ومنهم: من أوّل العمل، فقيل: المراد: من تركها جاحدًا لوجوبها، أو معترفًا، لكن مستَخِفًا مستهزئًا بمن أقامها.
وتُعُقِّبَ بأن الذي فهمه الصمحابي إنما هو التفريط، ولهذا أمر بالمبادرة إليها، وفَهْمُهُ أولى من فهم غيره.
وقيل: المراد من تركها متكاسلًا، لكن خرج الوعيد مخرج الزجر الشديد، وظاهره غير المراد، كقوله:"لا يزني الزاني، وهو مؤمن". وقيل: هو من مجاز التشبيه، كأن المعنى: فقد أشبه مَن حَبطَ عَمَلُهُ، وقيل: معناه كاد أن يُحبَطَ، وقيل: المراد بالحَبَط نقصان العمل في ذلك الوقت الذي ترفع فيه الأعمال إلى الله، فكأن المراد بالعمل الصلاة خاصة أي لا يحصل على أجرِ مَن صَلَّى العصرَ، ولا يرتفع له عملها حينئذ، وقيل المراد بالحبط الإبطال، أي يبطل انتفاعه بعمله في وقتٍ مَّا، ثم ينتفع به، كمن رَجَحَت سيئاته على حسناته، فإنه موقوف في المشيئة، فإن غُفرَ له فمجرد الوقوف إبطال لنفع الحسنة إذ ذاك، وإن عُذِّبَ، ثم غُفِرَ لهَ فكذلك.
قال معنى ذلك، القاضي أبو بكر بن العربي. ومحصل ما قال: إن المراد بالحبط في الآية غير المراد بالحبط في الحديث.
وقال في شرح الترمذي: الحبط على قسمين: حَبَطُ إسقاط، وهو إحباط الكفر للإيمان وجميع الحسنات. وحَبَطُ مُوَازَنَةٍ، وهو إحباط المعاصي للانتفاع بالحسنات عند رجحانها عليها إلى أن تحصل النجاة، فيرجع إليه جزاء حسناته.
وقيل: المراد بالعمل في الحديث عمل الدنيا الذي يسبب الاشتغال
به ترك الصلاة، بمعنى أنه لا ينتفع به، ولا يتمتع.
قال الحافظ: وأقرب هذه التأويلات قول من قال: إن ذلك خَرَج مَخْرَجَ الزجر الشديد، وظاهره غير مُراد. والله أعلم. اهـ. "فتح الباري" جـ 2 ص 40.
وقال السندي رحمه الله: قيل: أريد به تعظيم المعصية، لا حقيقة اللفظ، ويكون من مجاز التشبيه، قال: وهذا مبني على أن العمل لا يحبط إلا بالكفر، لكن ظاهر قوله تعالى:{لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} [الحجرات: 2] الآية يفيد أنه يحبط ببعض المعاصي أيضًا، فيمكن أن يكون ترك العصر عمدًا من جملة تلك المعاصي. اهـ.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن حمل حبط العمل بترك صلاة العصر على ظاهره هو الأولى، لعدم ما يمنع منه، ولا يلزم منه أن يكون تركها محبطا لجميع أعماله كإحباط الكفر. إلا إذا اقترن معه الجحد لوجوبها.
وحاصله أنه إحباط دون إحباط الكفر، فيصدق أن يحبط بعض أعماله من صحائفه بسبب تركها، كما أن الارتداد عن الإسلام يحبط جميعها. والله أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
16 - بَابُ عَدَدِ صَلاةِ العصرِ فِي الحَضَرِ
أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على عدد صلاة العصر في الحضر.
وتقدم معنى الحضر في الباب 11/ 469 فارجع إليه تزدد علما .. ومحل الاستنباط قوله: "في الركعتين الأوليين من العصر
…
إلخ"، فقد بيَّن به أن عدد صلاة العصر في الحضر أربع ركعات، وهذا بالإجماع. والله أعلم.
475 -
أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَنْصُورُ بْنُ زَاذَانَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ النَّاجِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: كُنَّا نَحْزُرُ قِيَامَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الظُّهْرِ قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيَةً، قَدْرَ سُورَةِ السَّجْدَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ، وَفِي الأُخْرَيَيْنِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ، وَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ مِنَ الْعَصْرِ عَلَى قَدْرِ الأُخْرَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ، وَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ مِنَ الْعَصْرِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ.
رجال الإسناد: ستة
1 -
(يعقوب بن إِبراهيم) بن كَثير العَبْدِي الدَّوْرَقِيُّ، أبو يوسف البغدادي، ثقة، توفي سنة 252، من [10]، أخرج له الجماعة، وتقدم في 21/ 22.
2 -
(هُشَيم) بن بَشِيرِ بن القاسم بن دينار السلمي، أبو معاوية الواسطي، ثقة ثبت كثير التدليس والإرسال الخفي، توفي سنة 183، من [7]، أخرج له الجماعة، وتقدم في 88/ 109.
3 -
(منصور بن زاذان) -بزاي وذال معجمتين- الواسطي، أبو المغيرة الثقفي، ثقة ثبت عابد، توفي سنة 129، وقيل: سنة 128، وقيل: 131، من [6]، على الصحيح.
قال عبد الله بن أحمد عن أبيه. شيخ ثقة، وقال ابن معين، وأبو حاتم، والنسائي: ثقة. وقال العجلي: رجل صالح متعبد، كان ثقة ثبتا، وكان سريع القراءة، وكان يحب أن يترسل فلا يستطيع. وقال إبراهيم بن عبد الله الهَرَوِي عن هُشَيم: لو قيل لمنصور بن زاذان: إن ملك الموت على الباب ما كان عنده زيادة في العمل، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان يختم القرآن بين الأولى والعصر، وكان من المُتَقَشِّفِينَ المُتَجَرِّدِين مات سنة 129، وكذا أرخه خليفة بن خَيَّاط، ويحيى بن بكير، والبخاري، وابن قانع، والقراب، وكذا
حكاه ابن أبي خيثمة عن ابن معين، روى له الجماعة. اهـ. تت بتصرف جـ 10 ص 306 - 307.
4 -
(الوليد بن مسلم) بن شهاب التميمي العَنْبَريِ، أبو بشر البصري، ثقة، من [5]، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي، وثقه ابن معين، وأبو حاتم، وابن حبان.
5 -
(أبو الصديق الناجي) بكر بن عمرو، وقيل: ابن قيس البصري، ثقة، توفي سنة 108، من [3]، أخرج له الجماعة، قال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات.
تنبيه:
الناجي: نسبة إلى نَاجِيَةَ قبيلةٍ من سَامَةَ بنِ لُؤَيٍّ، قاله في اللباب جـ 3 ص 287.
6 -
(أبو سعيد الخدري) سعد بن مالك بن سِنَان الصحابي الجليل ابن الصحابي، رضي الله عنهما، تقدم في 169/ 262. والله أعلم.
لطائف الإسناد
منها: أنه من سداسياته.
ومنها: أن يعقوب ممن أخرج له الستة بدون واسطة.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات أجلاء اتفق الجماعة بالإخراج لهم غير الوليد بن مسلم فأخرج له مسلم وأبو داود والنسائي فقط.
ومنها: أنهم ما بين بغدادي، وهو يعقوب، وواسطيين، وهما هشيم، ومنصور، وبصرِيَّيْنِ، وهما الوليد، وأبو الصديق، ومدني، وهو الصحابي.
ومنها: أن فيه تابعيَّيِن، وهما الوليد وأبو الصديق يروي أحدهما عن الآخر.
ومنها: أن أبا سعيد من المكثرين السبعة، رَوَى -1170 - حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي سعيد الخدري) سعد بن مالك بن سِنَان رضي الله عنه، أنه (قال: كنا نحزر) أي نقدر، من الحزر، وهو التقدير، يقال: حَزَرْتُ الشيءَ حَزْرًا، من باب ضرب، وقتل: قَدَّرتُهُ، ومنه حزرت النخل: إذا خرصته. قاله في المصباح.
وقوله: "كنا" يدل على أن الحازرين كانوا جماعة، وقد أخرج ابن ماجه في سننه بسنده عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: اجتمع ثلاثون بَدْرِيًّا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: تعالوا حتى نقيس قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما لم يجهر فيه من الصلاة، فما اختلف منهم رجلان، فقاسوا قراءته في الركعة الأولى من الظهر بقدر ثلاثين آية، وفي الركعة الأخرى قدر النصف من ذلك، وقاسوا
ذلك في العصر على قدر النصف من الركعتين الأخريين من الظهر".
لكن في إسناده زيد العمّي، ضعيف، والمسعوديُّ اختلط بآخر عمره، والراوي عنه أبو داود الطيالسي سمع منه بعد الاختلاط قاله البوصيري. جـ 1 ص 290.
(قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في) كل من صلاة (الظهر) وصلاة (العصر فحزرنا) أي قدرنا (قيامه في) صلاة (الظهر قدر ثلاثين آية) أي مقدار ما يقرأ ثلاثين آية (قدر سورة السجدة) بالنصب بدل من قدر الأوّل، أي مقدار ما يقرأ سورة السجدة، وهي "الم تنزيل السجدة"(في الركعتين الأوليين) أي في كل منهما، وليس المراد أنه يقرأ في كليهما مقدار ذلك، لما في رواية مسلم، ونحوها الرواية التالية للمصنف من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أيضا: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية، أو قال: نصف ذلك، وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر خمس عشرة آية، وفي الأخريين قدر نصف ذلك. فبينت هذه الرواية أن ذلك كان في كل ركعة.
(و) يقرأ (في) كل من الركعتين (الأخريين) من صلاة الظهر (على) قدر (النصف من ذلك) وهو خمس عشرة آية.
وفيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأخريين من الظهر غير الفاتحة معها، ويوضحه قوله: (وحزرنا قيامه
في الركعتين الأوليين من) صلاة (العصر على قدر) قراءته في (الأخريين من) صلاة (الظهر) إذ من المعلوم أنه كان يقرأ في الأوليين من العصر غير الفاتحة (وحزرنا قيامه في الركعتين الأخريين من) صلاة (العصر على) قدر (النصف من ذلك) أي من قيامه في الأوليين، فيكون بقدر سبع آيات، أو نحوها؛ لأنه تقدم في رواية مسلم، أنه كان يقرأ في العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر خمس عشرة آية، فيكون نصف ذلك المقدار المذكور.
وفيه دليل أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يزيد في الأخريين من العصر على الفاتحة
بخلافه في الظهر، كما سبق آنفا. والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
476 -
أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ، عَنِ الْوَلِيدِ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُومُ فِي الظُّهْرِ، فَيَقْرَأُ قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيَةً فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، ثُمَّ يَقُومُ فِي الْعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ قَدْرَ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً.
رجال الإسناد: سبعة
1 -
(سُوَيد بن نصر) المروزي، أبو الفضل، يُلَقَّبُ شَاهْ، راوية ابن المبارك، ثقة، توفي سنة 240، وله 90 سنة، من [10]، أخرج له الترمذي والنسائي، وتقدم في 45/ 55.
2 -
(عبد الله بن المبارك) بن واضح الحَنْظلِيّ، أبو عبد الرحمن المروزي، ثقة ثبت حجة إمام، توفي سنة 181 عن 63 سنة، من [8]، أخرج له الجماعة، وتقدم في 32/ 36.
3 -
(أبو عوانة) وَضَّاحُ بن عبد الله الْيَشْكُرِي الواسطي البَزَّازُ، مشهور بكنيته، ثقة ثبت، توفي سنة 175 أو 176، من [7]، أخرج له الجماعة، وتقدم في 41/ 46.
4 -
(منصور بن زاذان) الثَّقَفِيُّ الواسطي، تقدم في السند الماضي.
5 -
(الوليد أبو بشر) بن مسلم المتقدم فيه أيضا.
6 -
(أبو المتوكل) علي بن داود، ويقال: دُؤَاد -بضم الدال بعدها واو بهمزة- البصري مشهور بكنيته، ثقة، توفي سنة 108 وقيل: قبل ذلك، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 169/ 262.
7 -
(أبو سعيد الخدري) رضي الله عنه تقدم في السند الذي قبله. والله تعالى أعلم.
لطائف الإسناد
منها: أنه من سباعياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأنهم ما بين مروزيين، وهما سويد، وابن المبارك، وواسطيين، وهما أبو عوانة، ومنصور بن زاذان، وبصريين، وهما الوليد، وأبو المتوكل، ومدني، وهو أبو سعيد. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي المتوكل الناجي) علي بن دَاوُد، أو دُؤاد. كذا وقع في هذه الرواية أبو المتوكل بدل أبي الصديق في الرواية السابقة، وقد اختلف الرواة عن أبي عوانة في هذا، فرواه ابن المبارك عنه هكذا، وخالفه فيه شَيْبَانُ بن فَرُّوخَ، كما عند مسلم، ويونس بن محمد، كما
عند أحمد في مسنده، ويحى بن حماد، كما عند الدارمي في سننه، وحَبَّانُ بن هلال، كما عند الطحاوي، كلهم عن أبي عوانة، عن أبي الصديق الناجي، وانفرد ابن المبارك عنه بقوله: عن أبي المتوكل.
قال الحافط في "النُّكتِ الظِّرَاف" جـ 3 ص 431: وهذا من أبي عوانة لعله حدثه من حفظه، وحدث أولئك من كتابه، وكان إذا حدث من كتابه أتْقَنَ مما إذا حدث من حفظه. اهـ.
وفي ترجمته من "تهذيب التهذيب": قال: أحمد إذا حدث أبو عوانة من كتابه فهو أثبت، وإذا حدث من خير كتابه رُبَّما وَهِمَ،
وقال أبو زرعة: ثقة إذا حدث من كتابه. وقال أبو حاتم: كتبه صحيحة، وإذا حدث من حفظه غَلِطَ كَثيرًا. وقال ابنُ عبد البر: أجمعوا على أنه ثقة ثبت حجة فيما إذا حدث من كتابه، وإذا حدث من حفظه ربما غلط. اهـ. جـ 11 ص 120.
قال الجامع: فظهر بهذا أن قوله: عن أبي المتوكل مما وهم فيه لكونه حدث به ابن المبارك من حفظه، والصواب ما رواه عنه الجماعة، وقالوا: عن أبي الصديق، لموافقة هشيم له على ذلك كما تقدم في الرواية السابقة -475 - والله أعلم.
(عن أبي سعيد الخدري) رضي الله عنه، أنه (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم في الظهر) أي لأداء صلاة الظهر (فيقرأ قدر ثلاثين آية في كل ركعة، ثم يقوم في العصر في الركعتين الأوليين) أي أداء كل من الركعتين الأوليين (قدر خمس عشرة آية) على النصف من الظهر. والله تعالى أعلم؛ وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي سعيد رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية. في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (475) عن يعقوب بن إبراهيم، عن هشيم، عن
منصور بن زاذان، عن الوليد بن مسلم، عن أبي الصديق الناجي، عنه. وفي "الكبرى"(351) بهذا السند، ثم قال: قال: أبو عبد الرحمن: خالفه أبو عوانة، ثم أخرج بالطريق الثاني للمصنف هنا (476) عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن أبي عوانة، عن منصور، عن الوليد، عن أبي المتوكل، عنه. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه مسلم وأبو داود، فأخرجه مسلم في "الصلاة" عن يحيى بن يحيى، وأبي بكر بن أبي شيبة، كلاهما عن هشيم -وعن شيبان بن فَرُّوخ، عن أبي عوانَةَ،- كلاهما عن منصور بن زاذان، عن الوليد بن مسلم، عن أبي الصديق الناجي، عنه.
وأخرجه أبو داود في "الصلاة" أيضا عن عبد الله بن محمد النُّفَيْلِيّ، عن هشيم، عن منصور به.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو بيان عدد ركعات صلاة العصر في الحضر، وهو أربع ركعات، وهو مجمع عليه. ومحل الاستدلال قوله: في الركعتين الأوليين، والركعتين الأخريين، فإنه يدل على أن الفرض في العصر أربع.
ومنها: وجوب القراءة في الصلاة.
ومنها: عدم مشروعية الجهر في الظهر والعصر، لقوله "كنا نحزر"، لأنهم إنما قدّروا لعدم سماعهم لقراءته.
ومنها: استحباب تطويل الركعتين الأوليين في كل من الظهر والعصر.
ومنها: أن العصر تكون على النصف من الظهر.
ومنها: مشروعية غير الفاتحة في الظهر في الركعتين الأخريين، لأن الفاتحة سبع آيات، وهو كان يقوم قدر خمس عشرة آية، وهذا هو المذهب الجديد للشافعي، وهو الراجح لهذا الحديث.
ومنها: كونه لا يقرأ في العصر في الأخريين أكثر من الفاتحة.
قيل: الحكمة في كون العصر على النصف من الظهر كون صلاة الظهر تفعل في وقت الغفلة بنوم القائلة، فطولت ليدركها المتأخر، بخلاف العصر، فإنها تفعل في وقت تَعَبِ أهل الأعمال فخففت لذلك. والله أعلم. إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا
بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
17 - بَابُ صَلاة الْعصْرِ في السّفَرِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على عدد صلاة العصر في السفر.
477 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَصَلَّى الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ.
رجال الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة) بن سعيد البَغْلاني أبو رَجَاء، ثقة ثبت، من [10]، تقدم في 1/ 1.
2 -
(حماد) بن زيد بن درهم أبو إسماعيل البصري، ثقة ثبت فقيه، من كبار [8]، تقدم في 3/ 3.
3 -
(أيوب) بن أبي تميمة كَيْسَان السختياني البصري، ثقة حجة فقيه، من [5]، تقدم في 42/ 48.
4 -
(أبو قِلابَة) عبد الله بن زيد الجَرْمي البصري، ثقة فاضل كثير الإرسال، فيه نَصْب يسير، توفي هاربًا من القضاء بالشام سنة 104، وقيل: بعدها، من [3]، تقدم في 203/ 322.
5 -
(أنس بن مالك) الأنصاري الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 6/ 6. والله تعالى أعلم.
لطائف الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنها: أن رواته كلهم ثقات أجلاء، اتفق الجماعة بالإخراج لهم.
ومنها: أنهم بصريون، إلا شيخه فبغلاني.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي.
ومنها: أن فيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة.
ومنها: أن أنسًا أحد المكثرين السبعة رَوَى 2286 حديثا. وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة سنة 92 أو 93 وقد جاوز 100 سنة.
شرح الحديث
(عن أنس بن مالك) رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى) صلاة (الظهر بالمدينة أربعًا) في اليوم الذي أراد فيه الخروج إلى مكة للحج، وهو يوم الخميس لست بقين من ذي القعدة، وقيل: يوم السبت لخمس بقين منه، كما تقدم في 469.
(وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين) لكونه مسافرًا، وهذا هو محل الترجمة حيث بين أن عدد فرض المسافر ركعتان في الصلاة الرباعية. والحديث متفق عليه.
وقد تقدم ما يتعلق بالحديث من المسائل في (469) فارجع إليه تزدد
علمًا.
تنبيه:
من الغريب أن المصنف ذكر في هذا الباب حديث نوفل بن معاوية رضي الله عنه، مع أنه لا مناسبة له بالباب، بل المناسب أن يذكره في "باب من ترك العصر" الذي سبق (15/ 474) أو يترجم له ترجمة مستقلة كما فعل البخاري حيث قال:"باب إثم من فاتته صلاة العصر"، فأورد الحديث. والله أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وحديث نوفل هو ما 1كره بقوله:
478 -
أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ أَنَّ عِرَاكَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ أَنَّ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ، فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ".
قَالَ عِرَاكٌ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ".
رجال الإسناد: سبعة
1 -
(سُوَيد بن نصر) المروزي رَاوِيَةُ ابن المبارك، ثقة تقدم قبل حديث.
2 -
(عبد الله بن المبارك) الحنظلي، ثقة حجة، تقدم قبل حديث أيضًا.
3 -
(حَيْوَةُ بن شُرَيح) بن صَفْوَان التُّجِيبي، أبو زرعة المصري، ثقة ثبت فقيه زاهد، من [7].
قال عبد الله بن أحمد: قيل لأبي: حيوة بن شريح، وعمرو بن الحارث؟ فقال: جميعًا، كأنه سَوَّى بينهما، وقال حرب عن أحمد: ثقة ثقة، وقال ابن معين: ثقة، وقال ابن يونس: كانت له عبادة وفضل، وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي، وسئل عن حيوة، ويحيى بن أيوب؟ فقال: حيوة أعلى القوم، وهو ثقة وأحب إلي من المُفَضَّل بن فَضَالَةَ.
وقال ابن وهب: ما رأيت أحدًا أشد استخفافًا بعمله من حيوة، وكان يعرف بالإجابة، وقال ابن المبارك: ما وصف لي أحد ورأيته إلا كانت رؤيته دون صفته إلا حيوة، فإن رؤيته كانت أكبر من صفتة، وقال يعقوب بن سفيان المقرئ: ثنا حيوة بن شريح، وهو كندي شريف عَدْلٌ رَضِيّ ثقة، توفي سنة 158، وأرخه الكلاباذي سنة 159 ووثقه العجلي ومسلمة.
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان مستجاب الدعوة، يقال: إن الحصاة كانت تتحول في يده تمرة بدعائه، وقال ابن سعد: مات في آخر خلافة أبي جعفر، وكان ثقة.
وقال ابن وضاح: بلغني أن رجلًا كان يطوف ويقول: اللهم اقض عني الدين، فرأى في المنام: إن كنت تريد وفاء الدين فائت حيوة بن شريح يدعو لك، فأتى إلى الإسكندرية بعد العصر يوم الجمعة، قال: فأقمت حتى صار ما حوله دنانير، فقال لي: اتق الله ولا تأخذ إلا قدر دينك، فأخذت ثلاثمائة.
وقال ابن أبي حاتم في المراسيل: كَتَبَ إليّ عبدُ الله بن أحمد، قال: سمعت أبي يقول: لم يسمع حيوة من الزهري، ولا من بُكَير بن الأشج، ولا من خالد بن أبي عمران. روى له الجماعة. اهـ. تت. جـ 3 ص 70.
4 -
(جعفر بن ربيعة) بن شُرَحبيل بن حَسَنَةَ الكندي، أبو شرحبيل المصري، ثقة، توفي سنة 136، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 122/ 173.
5 -
(عِرَاك بن مالك) -بكسر أوله، وتخفيف الراء، آخره كاف - الغفاري الكناني المدني، ثقة فاضل، توفي في خلافة يزيد بن عبد الملك بعد 100 سنة، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 134/ 207.
6 -
(نوفل بن معاوية) بن عروة، وقيل: عمرو بن صخر بن يعمر بن نعامة بن عدي بن الديل بن بكر بن عبد مناف بن كنانة، أبو معاوية الديلي، صحابي من مسلمة الفتح، وعاش إلى أول خلافة يزيد ابن معاوية، وعُمِّرَ مائة وعشرين سنة، ستين في الجاهلية، وستين في الإسلام.
رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه ابن أخته عبد الرحمن بن مطيع بن الأسود، وعراك، وعوف بن الحارث بن هشام.
قال ابن سعد: قال محمد بن عمر: كان نوفل قد شهد بدرًا والخندق مع المشركين، وكان له ذكر ونِكَاية، ثم أسلم، وشهد الفتح، وحنينًا، والطائف، ونزل المدينة في بنَي الدِّيل، وحج مع أبي بكر سنة تسع، ومع النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر، ومات بالمدينة في خلافة معاوية.
أنا أبو بكر بن أبي سبرة، عن جواثة بن عبيد الدّيلي، قال: عُمِّرَ نوفل بن معاوية في الجاهلية ستين سنة، وفي الإسلام ستين سنة، وقال غيره: مات في خلافة يزيد، وهو قول الواقدي، وتابعه عليه أبو حاتم الرازي، وابن حبان، والقراب، وابن عبد البر في آخرين. روى له البخاري، ومسلم، والنسائي. اهـ. تت. جـ 10 ص 492.
7 -
(عبد الله بن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما، تقدم في 12/ 12.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات أجلاء، أخرج لهم الجماعة إلا شيخه فأخرج له الترمذي والنسائي، ونوفلًا فأخرج له البخاري، ومسلم، والنسائي فقط.
ومنها: أنهم ما بين مروزِيَّينِ؛ وَهما سويد وابن المبارك، ومصريَّينِ؛ وهما حيوة وجعفر، ومدَنِيَّين؛ وهم الباقون.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي؛ وهما جعفر وعراك.
ومنها: أن نوفلًا ممن عاش من الصحابة مائة وعشرين سنة نصفها في الجاهلية ونصفها في الإسلام. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(أن نوفل بن معاوية) الدِّيلي رضي الله عنه (حدثه) أي حدث عراكا (أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من فاتته صلاة العصر)"مَنْ" شرطية، جوابها قوله: "فكأنما وتر
…
إلخ".
وفيه رد على من أنكر أن يقال: فاتتنا الصلاة.
قيل: فواتها بغروب الشمس، وقيل: بفوت الوقت المختار، ومجيء وقت الاضطرار، وقيل: بفوت الجماعة، والراجح الأول؛ لما
سيأتي تحقيقه.
(فكأنما وتر أهله وماله)"وتر" بالبناء للمفعول، و"أهله" بالنصب عند الجمهور على أنه مفعول ثان لِوُتِرَ، وأضمر المفعول الأول نائب فاعل، وهو عائد على "من" من قوله "من فاتته"، فالمعنى أصيب بأهله وماله، فوتر متعد إلى مفعولين، كما في قوله تعالى {وَلَنْ يَتِرَكُمْ
أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35]، وقيل:"وتر" هنا: نقص، فعلى هذا يجوز نصبه، ورفعه، لأن من رَدَّ النقصَ إلى الرجل نَصَبَ، وأضمر ما يقوم مقام الفاعل، ومن رده إلى الأهل رفع.
وقال القرطبي: يروى بالنصب على أن "وُتِرَ" بمعنى سُلِبَ، وهو يتعدى إلى مفعولين، وبالرفع على أن "وتر" بمعنى أخذَ، فيكوَن "أهله" هو المفعول الذي لم يسم فاعله.
وحقيقة الْوَتْر، كما قال الخليل: هو الظلم في الدم، فعلى هذا فاستعماله في المال مجاز، لكن قال الجوهري: الموتُورُ هو الذي قتل له قتيل، فلم يدرك بدمه، تقول منه: وُتِرَ، وتقول أيضا: وَتَرَهُ حَقَّه، أي نقصه، وقيل: الموتور: من أخذ أهله أو ماله وهو ينظر إليه، وذلك
أشد لِغَمِّهِ، فوقع التشبيه بذلك لمن فاتته الصلاة؛ لأنه يجتمع عليه غَمَّانِ؛ غم الإثم، وغم فقد الثواب، كما يجتمع على الموتور غمان؛ غم السلب، وغم الطلب بالثَّأر.
وقيل: معنى وتر: أخذ أهله وماله، فصارَ وِترًا، أي فردًا، ويؤيد الذي قبله رواية أبي مسلم الكجي من طريق حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، فذكر نحو هذا الحديث، وزاد في آخره:"وهو قاعد".
وظاهر الحديث التغليظ على من تفوته العصر، وأن ذلك مختص بها. وقال ابن عبد البر: يحتمل أن يكون هذا الحديث خرج جوابًا لسائل سأل عن صلاة العصر، فأجيب، فلا يمنع ذلك إلحاق غيرها من الصلوات بها.
وتعقبه النووي بأنه إنما يلحق غير المنصوص بالمنصوص إذا عرفت العلة، واشتركا فيها، قال: والعلة في هذا الحكم لم تتحقق، فلا يلتحق غير العصر بها. انتهى.
قال الحافظ: وهذا لا يدفع الاحتمال، وقد احتج ابن عبد البر بما رواه ابن أبي شيبة وغيره من طريق أبي قلابة عن أبي الدرداء مرفوعًا "من ترك صلاة مكتوبة حتى تفوته
…
" الحديث.
وفي إسناده انقطاع؛ لأن أبا قلابة لم يسمع من أبي الدرداء. وقد رواه أحمد من حديث أبي الدرداء بلفظ "من ترك العصر"، فرجع حديث أبي الدرداء إلى تعيين العصر.
وقد رَوَى ابنُ حبان وغيره من حديث نوفل بن معاوية مرفوعًا "من
فاتته الصلاة، فكأنما وتر أهله وماله"، وهذا ظاهر العموم في الصلوات المكتوبات. وأخرجه عبد الرازق من وجه آخر عن نوفل بلفظ: "لأن يوتر أحدكم أهله وماله خير له من أن يفوته وقت صلاة"، وهذا أيضا ظاهره العموم.
ويستفاد منه أيضًا ترجيح توجيه رواية النصب المصدر بها، لكن المحفوظ من حديث نوفل بلفظ:"من الصلوات صلاة من فاتته، فكأنما وتر أهله وماله"، أخرجه البخاري في علامات النبوة من الصحيح، ومسلم أيضًا، والطبراني وغيرهم.
ورواه الطبراني من وجه آخر، وزاد فيه عن الزهري، قلت لأبي بكر -يعني ابن عبد الرحمن- وهو الذي حدثه به: ما هذه الصلاة؟ قال: العصر، رواه ابن أبي خيثمة من وجه آخر، فصرح بكونها العصر في نفس الخبر، والمحفوظ أن كونها العصر من تفسير أبي بكر بن عبد الرحمن.
ورواه الطحاوي والبيهقي من وجه آخر، وفيه أن التفسير من قول ابن عمر، فالظاهر اختصاص العصر بذلك اهـ. "فتح" جـ 2 ص 38.
قال الجامع: قوله: إن التفسير من قول ابن عمر، فيه نظر، بل هو من حديثه المرفوع، كما هو واضح من رواية النسائي الآتية (480) انظر "السنن الكبرى" للبيهقي جـ 1 ص 445.
والحاصل أن الراجح اختصاص العصر بالوعيد المذكور، لقوة دليله، وأما الروايات المطلقة على تقدير صحتها فيمكن حملها على المقيدة. والله أعلم.
تنبيه:
اختلف العلماء في المعنى المراد بالفوات من قوله "من فاتته" فذهب بعضهم إلى أن المراد به خروج وقتها، ويؤيده -كما قال الحافظ- ما وقع في رواية عبد الرزاق، فإنه أخرج هذا الحديث عن ابن جريج، عن نافع، فذكر نحوه، وزاد: قلت لنافع: حين تغيب الشمس؟ قال: نعم، وتفسير الراوي إذا كان فقيهًا أولى من غيره.
وذهب الأوزاعي إلى أن المراد بفواتها أن تدخل الشمس صُفْرَةً، ولعله مبني على مذهبه في خروج وقت العصر بالاصفرار.
ونقل عن ابن وهب أن المراد إخراجها عن الوقت المختار.
وذهب ابن المهلب، ومن تبعه من الشراح إلى أن المراد فواتها مع الجماعة، لا فواتها باصفرار الشمس، أو بمغيبها، قال: ولو كان لفوات وقتها كله لبطل اختصاص العصر، لأن ذهاب الوقت موجود في كل صلاة، ونوقض بعين ما ادعاه، لأن فوات الجماعة موجود في كل صلاة، لكن في صدر كلامه أن العصر اختصت بذلك لاجتماع المتعاقبين من الملائكة فيها.
وتعقبه ابن المنير بأن الفجر أيضًا فيها اجتماع المتعاقبين، فلا تختص العصر بذلك. قال: والحق أن الله تعالى يختص ما شاء من الصلوات بما شاء من الفضيلة. انتهى.
وَبَوَّبَ الترمذي على حديث الباب: "بابُ ما جاء في السهو عن وقت العصر" فحمله على الساهي، وعلى هذا فالمراد بالحديث أنه يلحقه من الأسَفِ عند معاينة الثواب لمن صَلَّى ما يَلحَق مَنْ ذَهَبَ منه أهله وماله، وقد رُويَ بمعنى ذلك عن سالم بن عبد الله بن عمر، ويؤخذ منه التنبيه على أن أَسَفَ العامد أشَدُّ لاجتماع فقد الثواب وحصول الإثم.
قال الجامع: أرجح الأقوال عندي أولها، لكونه أقرب إلى ظاهر النص، وأما غيره فبعيد عنه فلا يصار إليه إلا بدليل. والله أعلم.
(قال عراك) بن مالك بالسند السابق (وأخبرني عبد الله بن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما (أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من فاتته صلاة العصر، فكأنما وتر أهله وماله") يعني أن هذا الحديث مما سمعه عراك من كُلٍّ من نوفل بن معاوية، وعبدِ الله بن عمر رضي الله عنهم. والله أعلم ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث نوفل بن معاوية، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم هذا
صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا في (478) وفي (479) وفي (480) وأخرجه في "الكبرى" من حديث ابن عمر رقم (364) عن قتيبة، عن الليث، عن نافع، عنه بلفظ:"إن الذي تفوته صلاة العصر، كأنما وتر أهله وماله".
وفي (365) عن قتيبة، عن مالك، عن نافع، عنه بلفظ "الذي تفوته صلاة العصر، فكأنما وتر أهله، وماله". والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أما حديث نوفل بن معاوية فأخرجه البخاري ومسلم؛ فأخرجه البخاري في "علامات النبوة" عن عبد العزيز الأوَيسي عن إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كَيْسَانَ، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، عن عبد الرحمن بن مطيع بن الأسود، عن نوفل بن معاوية، بلفظ:"مِنَ الصلاة صلاة مَنْ فاتته، فكأنما وتر أهله، وماله"
(1)
.
(1)
أورده البخاري في علامات النبوة، ومسلم في الفتن، بعد حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأ أو معاذًا فليعذبه" ثم أخرجا حديث نوفل فقالا: مثل حديث أبي هريرة إلا أن أبا بكر يزيد "من الصلاة صلاة
…
" الحديث.
وأخرجه مسلم في "الفتن"(2886) عن عمرو الناقد، والحسن الحُلْوَاني، وعبد بن حُمَيد، كلهم عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن به. والله أعلم.
تنبيه:
أشار البيهقي إلى أن الشيخين أخرجا حديث نوفل بن معاوية هذا في "صحيحيهما"، فاعترض عليه ابن التركماني، بأنه ليس فيهما، ولا في واحد منهما، بل هو في ستن النسائي.
قال الجامع: الصواب مع البيهقي، كما نبه على ذلك الحافظ في الفتح، وبيناه آنفًا فتنبه.
وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه؛ فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن نافع، عنه.
وأخرجه مسلم في "الصلاة" عن يحيى بن يحيى، عن مالك عن نافع عنه. وعن أبي بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد، كلاهما عن ابن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عنه. قال عَمْرو: يبلغ به، وقال أبو بكر: رفعه. وعن هارون بن سعيد الأيلي، عن ابن وهب، عن عمرو ابن الحارث، عن ابن شهاب، عن سالم، عنه.
وأخرجه أبو داود عن القعنبي، عن مالك، عن نافع، عنه.
وأخرجه ابن ماجه في "الصلاة"، عن هشام بن عمار، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: الوعيد الشديد لمن تفوته صلاة العصر.
ومنها: بيان عِظَمِ صلاة العصر.
ومنها: ما قاله ابن عبد البر: إن فيه إشارة إلى تحقير الدنيا، وأن قليل العمل خير من كثير منها.
ومنها: ما قاله ابن بطال رحمه الله: لا يوجد حديث يقوم مقام هذا الحديث؛ لأن الله تعالى قال: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238]، قال: ولا يوجد حديث فيه تكييف المحافظة غير هذا الحديث.
انظر الفتح جـ 2 ص 38. والله ولي التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
ولما وقع اختلاف بين جعفر بن ربيعة، وبين يزيد بن أبي حبيب على عراك بن مالك ذكر ذلك بقوله:
(خَالَفَهُ) أي خالف جعفرًا في روايته لهذا الحديث عن عراك بن مالك (يزيدُ بن أبي حبيب) بالرفع فاعل مؤخر لخالف.
ثم بين مخالفته فقال:
479 -
أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ، زُغْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ
يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مِنَ الصَّلَاةِ صَلَاةٌ مَنْ فَاتَتْهُ، فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ، وَمَالَهُ". قَالَ ابْنُ عُمَرَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "هِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ".
رجال الإسناد: ستة
1 -
(عيسى بن حَمَّاد، زُغْبَةُ) التُّجِيبِيُّ، أبو موسى الأنصاري، وزغبة، بدل من عيسى، وهو لقبه، وهو لقب أبيه أيضًا، ثقة، توفي سنة 248 وقد جاوز 90 سنة، من [10]، وهو آخر من حدث عن الليث من الثقات، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، تقدم في 135/ 211.
2 -
(الليث) بن سعد بن عبد الرحمن، أبو الحارث الفَهْمي المصري، ثقة ثبت، فقيه إمام مشهور، توفي في شعبان سنة 175، من [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 31/ 35.
3 -
(يزيد بن أبي حبيب) سُوَيد، أبو رَجَاء المصري، ثقة فقيه، وكان يرسل، توفي سنة 128 وقد قارب 80 سنة، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 134/ 207.
وأما عِرَاكٌ، ونوفل، وابنُ عمر فقد تقدموا في السند السابق. والله أعلم.
شرح الحديث
(عن عراك بن مالك أنه بلغه) أي بلغ عراكًا (أن نوفل بن معاوية) رضي الله عنه.
وهذا هو أول المخالفة، ووجهه أن جعفرًا قال في روايته عن عراك: إن نوفل بن معاوية حدثه، فجعله متصلًا.
وقال يزيد في روايته عنه: أنه بلغه أن نوفل بن معاوية قال
…
فجعله منقطعًا.
فالضمير في قوله "أنه" ضمير الشأن، وفي قوله "بلغه" لعراك (قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من الصلاة صلاة من فاتته، فكأنما وتر أهله وماله") الجار والمجرور خبر مقدم، وقوله "صلاة" مبتدأ مؤخر، و"من" شرطية، وجوابها جملة "فكأنما وتر
…
" الخ، وجملة الشرط والجواب في محل رفع صفة لِـ"صَلاةٌ".
وهذا ثاني المخالفة، ووجهه أن في رواية جعفر التصريح بالصلاة الفائتة، خيث قال: "من فاتته صلاة العصر
…
" وخالفه يزيد في روايته، فأبهمها، حيث قال: "من الصلاة صلاة
…
".
والحاصل أن يزيد بن أبي حبيب خالف جعفر بن ربيعة في السند والمتن جميعًا.
قال الجامع: يمكن أن يجمع بينهما بأن عراكا كان بلغه عن نوفل، ثم لقيه فحدثه بالحديث، فحينما بلغه، بلغه بالإبهام، وحينما حدثه، حدثه بالتعيين، فكان تارة يحدث بهذا، وتارة يحدث بهذا، والله أعلم.
وما تقدم عن الحافظ رحمه الله من أن المحفوظ هو الإبهام، وأن التفسير من قول أبي بكر بن عبد الرحمن، أو من حديث ابن عمر رضي الله عنهما فلم يذكر دليلا عليه، فالأولى ما ذكرته لأن جعفرًا ثقة بالاتفاق، فلا وجه لترجيح رواية يزيد علي روايته. والله أعلم.
قال عراك بالسند السابق (قال ابن عمر) رضي الله عنهما (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هي صلاة العصر) أي الصلاة التي من فاتته، فكأنما وتر أهله وماله، هي: العصر.
والحاصل أن عراكًا في هذه الرواية بلغه حديث نوفل بالإبهام، وسمع التفسير مرفوعًا من ابن عمر رضي الله عنهما. كما سمع التفسير مرفوعًا من كل من نوفل، وابن عمر في الرواية السابقة، وقد عرفت طريقة الجمع آنفًا، فتنبه. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
ولما وقع اختلاف على يزيد بن أبي حبيب في روايته عن عِرَاك ذكره بقوله:
(خَالَفَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ) أي خالف الليثَ بن سعد في روايته عن يزيد محمدُ بن إسحاق المطلبي، ثم بيَّنَ رواية محمد بن إسحاق
فقال:
480 -
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ: "صَلَاةٌ مَنْ فَاتَتْهُ، فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ".
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ".
رجال الإسناد: ثمانية
1 -
(عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن سعد) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أبو الفضل البغدادي، قاضي أصبهان، ثقة، من [11].
قال ابن أبي حاتم: كتبت عنه مع أبي، وهو صدوق. وقال النسائي: لا بأس به. وقال الخطيب: كان ثقة. وقال أبو نعيم الحافظ: ولي قضاء أصبهان مرتين، وعزل عن قريب. ووثقه الدارقطني، وذكر أبو إسحاق الحَبَّال أن مسلمًا روى عنه أيضًا، وفي الزهرة رَوَى عنه البخاري ستة أحاديث.
قال البغوي، ومحمد بن مَخْلدَ: مات في ذي الحجة سنة 260 وذكر الداني أنه ولد سنة 185، أخرج له البخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي. اهـ. تت جـ 6 ص 15، 16.
2 -
(عم عبيد الله بن سعد) هو يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أبو يوسف المدني نزيل بغداد، ثقة فاضل، توفي سنة 208، من صغار [9]، أخرج له الجماعة، تقدم في 196/ 314.
3 -
(أبو يعقوب) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف الزهري أبو إسحاق المدني نزيل بغداد، ثقة، تكلم به بلا قادح، توفي سنة 185، من [8]، أخرج له الجماعة، تقدم في 196/ 314.
4 -
(محمد بن إِسحاق) بن يسار بن خيار، ويقال: كومان، أبو بكر، ويقال: أبو عبد الله، المطلبي مولاهم المدني نزيل العراق، إمام المغازي، صدوق يدلس، ورُمِيَ بالتشيع، والقَدَر، من صغار [5].
روى له مسلم في المتابعات، وذكره النسائي في الطبقة الخامسة من أصحاب الزهري.
وقال ابن المديني: ثقة لم يضعه عندي إلا روايته عن أهل الكتاب، وكَذَّبه سليمان التيمي، ويحيى القطان، وَوُهَيب بن خالد، فأما وهيب
والقطان، فقلّدا فيه هشام بن عروة ومالكًا، وأما سليمان التيمي، فقال الحافظ: لم يتبين لي لأي شيء تكلم فيه، والظاهر أنه لأمر غيرِ الحديث، لأن سليمان ليس من أهل الجرح والتعديل.
قال ابن حبان في الثقات: تكلم فيه رجلان؛ هشام، ومالك، فأما هشام فليس مما يجرح به الإنسان، وذلك أن التابعين سمعوا من عائشة من غير أن ينظروا إليها، وكذلك ابن إسحاق كان سمع من فاطمة، والستر بينهما مسبل، وأما ما لك فإن ذلك كان منه مرة واحدة، ثم
عاد إلى ما يحب، ولم يكن يقدح فيه من أجل الحديث، إنما كان ينكر تتبعه غزوات النبي صلى الله عليه وسلم من أولاد اليهود الذين أسلموا وحفظوا قصة خيبر وغيرها، وكان ابن إسحاق يتتبع هذا منهم من غير أن يحتج بهم، وكان مالك لا يرى الرواية إلا عن متقن، ولما سئل ابن المبارك؟، قال: إنا وجدناه صدوقًا، ثلاث مرات.
قال ابن حبان: ولم يكن أحد بالمدينة يقارب ابن إسحاق في علمه، ولا يوازيه في جمعه، وهو من أحسن الناس سياقًا للأخبار إلى أن قال: وكان يكتب عمن فوقه، ومثله، ودونه، فلو كان ممن يستحل الكذب لم يحتج إلى النزول، فهذا يدلك على صدقه. سمعت محمد بن نصر الْفَرَّاء يقول: سمعت يحيى بن يحيى، وذُكِرَ عنده، محمد بن إسحاق فوثقه.
وقال الدارقطني: اختلف الأئمة فيه، وليس بحجة، إنما يعتبر به.
وقال أبو يعلي الخليلي: محمد ابن إسحاق عالم كبير، وإنما لم يخرجه البخاري من أجل روايته المطولات، وقد استشهد به، وأكثر عنه فيما يحكي في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أحواله، وفي التواريخ، وهو عالم واسع الرواية والعلم، ثقة.
وقال ابن البرقي: لم أر أهل الحديث يختلفون في ثقته وحسن حديثه، وفي حديثه عن نافع بعض الشيء. وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه. وقال أبو زرعة: صدوق.
وقال الحاكم: قال محمد بن يحيى: هو حسن الحديث، عنده غرائب، وَرَوى عن الزهري فأحسن الرواية، قال الحاكم: وذكر عن البوشنجي أنه قال: هو عندنا ثقة ثقة. وتعقب الذهبي قول هشام ابن عروة: حَدَّثَ عن امرأتي فاطمة بنت المنذر، وأدخِلَت عليَّ، وهي بنت تسع، وما رآها رجل حتى لقيت الله تعالى. قال اَلذهبي: قوله: وهي بنت تسع غَلطٌ بَيِّنٌ، لأنها أكبر من هشام بثلاث عشرة سنة، وكانَ أخْذُ ابن إسحاق عنها، وقد جاوزت الخمسين، وقد رَوَى عنها أيضًا، غير محمد بن إسحاق من الغرباء: محمد بن سوقة.
قال الذهبي بعد ذكر ما قيل في ابن إسحاق جرحًا وتعديلًا: فالذي يظهر لي أن ابن إسحاق حسن الحديث، صالح الحال صدوق، وما انفرد به ففيه نكارة، فإن في حفظه شيئًا، قد احتج به أئمة. فالله أعلم.
وقد استشهد مسلم بخمسة أحاديث لابن إسحاق ذكرها في
صحيحه. اهـ. كلام الذهبي. روى له البخاريّ تعليقًا، والباقون.
مات سنة 150، وقيل: 151 وقيل: 152 أو 153، اهـ.
باختصار من ترجمته الطويلة في تت جـ 9 ص 45، 46، وبزيادة قليلة من الميزان جـ 3 ص 475.
5 -
(يزيد بن أبي حبيب)، 6 - و (عراك)، 7 - و (نوفل)، 8 - و (ابن عمر) تقدموا في السند الماضي.
وكذلك شرح الحديث فلا حاجة إلى إعادته.
ومحل مخالفة محمد بن إسحاق لليث في هذه الرواية في قوله: قال: سمعت نوفل بن معاوية يقول: "صلاة؛ من فاتته، فكأنما وتر أهله وماله".
ووجهُ ذلك أن يزيد في رواية الليث قال عن عراك أنه بلغه أن معاوية
…
إلخ، فجعله منقطعًا، فخالفه ابن إسحاق، فصرح بسماع عراك من نوفل، ورفعه في رواية الليث، وخالفه ابن إسحاق فوقفه.
والحاصل أن محمد بن إسحاق خالف الليث بن سعد في موضعين:
الأول: في سنده حيث جعله متصلًا بالسماع.
والثاني: في المتن حيث جعله موقوفًا.
وترجح رواية الليث، لأن ابن إسحاق في حفظه شيء كما تقدم في
كلام الذهبي وغيره، فتكون روايته منكرة. والله أعلم.
وقد تقدم الجمع بين رواية جعفر بن ربيعة -حيث رواه متصلًا- وبين رواية يزيد بن أبي حبيب -حيث رواه بالبلاغ- بأن عراكًا بلغه أولًا عن نوفل، ثم لقيه بعد ذلك فحدثه، فكان يحدث تارة بلاغًا، وتارة سماعًا. فتنبه. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
18 - بَابُ صَلاةِ الْمَغْرِبِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على عدد صلاة المغرب.
481 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، قَالَ: رَأَيْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ بِجَمْعٍ، أَقَامَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى يَعْنِي الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ صَنَعَ بِهِمْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله صلى الله عليه وسلم صَنَعَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ.
رجال الإسناد: ستة
1 -
(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني، ثم البصري، ثقة، توفي سنة 245، من [10]، أخرج له مسلم، وأبو داود في القدر، والنسائي، وابن ماجه، تقدم في 5/ 5.
2 -
(خالد) بن الحارث الهُجَيمي، أبو عثمان البصري، ثقة ثبت، توفي سنة 186، من [8]، أخرج له الجماعة، تقدم في 42/ 47.
3 -
(شعبة) بن الحَجَّاج أبو بِسْطَام العَتَكيُّ مولاهم الواسطي، ثم البصري، ثقة حافظ متقن أمير المؤَمنين في الحدَيث، وأول من فَتَّشَ عن
عن الرجال بالعراق، وذَبَّ عن السنة، وكان عابدًا، توفي سنة 160، من [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 24/ 26.
4 -
(سَلَمَةُ بنُ كهَيل) الحَضْرمي، أبو يحيى الكوفي، ثقة، من [4]، أخرج له الجماعة، تقدم في 195/ 312.
5 -
(سعيد بن جبير) الأسدي مولاهم الكوفي، ثقة ثبت فقيه، قُتِلَ بين يدي الحجاج سنة 95، ولم يكمل 50 سنة، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في كتاب الغسل 28/ 436.
6 -
(ابن عمر) عبد الله رضي الله عنهما، تقدم في 12/ 12. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات، أخرج لهم الجماعة، إلا شيخه فأخرج له أبو داود في القدر، ولم يخرج له البخاري أصلًا.
ومنها: أنهم بصريون إلا سعيدًا فكوفي، وابن عمر فمدني.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي.
ومنها: أن فيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة، ومنها: أن ابن عمر رضي الله عنه أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة روى 2630 حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن سلمة بن كهيل) بفتحات الأول، وتصغير الثاني، الحضرمي، أنه (قال: رأيت سعيد في جبير) الأسدي الوَالِبيَّ مولاهم (بجَمْع) متعلق بِرَأي، و "جَمْع" بفتح فسكون: اسم للمزدلفة، سميت به لاجتماع الناس بها، وقيل: لجمعهم بين الصلاتين بها، قاله النووي في تهذيب الأسماء واللغات جـ 3 ص 55 (أقام) ظاهر هذه الرواية أنه لم يؤذن، بل اكتفى با لإقامة لكل واحدة، وهو قول الشافعي الجديد، وقول الثوري، ورواية عن أحمد، وسيأتي تحقيق الخلاف بالأدلة وترجيح الراجح بدليله في محله، إن شاء الله تعالى.
(فصلى) سعيد (المغرب ثلاث ركعات) هذا محل الترجمة، حيث إن فيه أن عدد صلاة المغرب ثلاث ركعات دائمًا سفرًا وحضرًا (ثم أقام، فصلى -يعني العشاء- ركعتين) الظاهر أن العناية ممن دون سَلَمَة، وذلك أن سلمة قال: فصلى ركعتين، فَبَيَّن الراوي أن تلك الصلاة التي صلاها ركعتين هي العشاء.
وفيه أن صلاة العشاء في السفر ركعتان، وهل القصر للنسك -كما هو الراجح- أو للسفر؟ فيه خلاف يأتي تحقيقه في محله إن شاء الله تعالى.
(ثم ذكر) سعيد (أن) عبد الله (بن عمر) رضي الله عنهما
(صنع بهم) أي بسعيد، ومن كان معه من الحُجَّاج (مثل ذلك) العمل في العدد، وفي كيفية الصلاة (في ذلك المكان) أي الجمع، وهو المزدلفة (وذكر) أي ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع مثل ذلك) الصنع (في ذلك المكان) أي الجمع والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه المصنف هنا (481) عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد الهُجَيمي، عن شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن سعيد بن جبير، عنه، و (483 و 484) عن عمرو بن يزيد عن بهز عن شعبة، عن الحكم، عن سعيد، عنه. و (606) عن يعقوب بن إبراهيم، عن هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي إسحاق، عن سعيد، عنه. و (657) عن علي بن حُجْر، عن شريك، عن سلمة، عن سعيد عنه.
و (658) عن محمد بن المثنى، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن الحكم وسلمة، كلاهما عن سعيد عنه. و (659) عن عمرو بن علي، عن يحيى بن سعيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي
إسحاق، عن سعيد عنه. و (3030) عن عمرو بن منصور، عن أبي نعيم، عن سفيان، عن سلمة، عن سعيد، عنه.
وفي "الكبرى"(377) بسند الباب. و (384) عن عمرو بن يزيد، عن بهز، عن شعبة، عن الحكم، عن سعيد، عنه. و (385) عن عمرو، عن بهز، عن شعبة، عن سلمة، عن سعيد، عنه. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي؛ فأخرجه مسلم في "الحج" عن محمد بن المثنى، عن عبد الرحمن بن مهدي، وعن زهير بن حرب، عن وكيع كلاهما عن شعبة، عن الحكم -وسلمة بن كهيل- وعن عبْدِ بنِ حُمَيد، عن عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيَل- وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد الله بن نمير، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي إسحاق- ثلاثتهم عن سعيد، عنه.
وأخرجه أبو داود في "الحج" عن مسدد، عن يحيى، عن شعبة، عن سَلَمَةَ وحده به. وعن محمد بن العلاء، عن أبي أسامة، عن إسماعيل، به، وعن الأنباري، عن إسحاق الأزرق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن سعيد، وعبد الله بن مالك، كلاهما عنه.
وأخرجه الترمذي في "الحج" عن بُنْدَار، عن يحيى بن سعيد، عن إسماعيل به. وقال: ورَوَى إسرائيل هذا الحديث عن أبي إسحاق، عن
عبد الله وخالد ابني مالك، عن ابن عمر رضي الله عنهما. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو أن عدد صلاة المغرب ثلاث ركعات في السفر والحضر، وهذا بالإجماع.
ومنها: أن فرض العشاء في السفر ركعتان.
ومنها: مشروعية الجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة بالإقامة لكل واحدة منهما، وقد اختلفت الروايات في هذا، وأقوالُ أهل العلم، وسيأتي تحقيق ذلك في محله إن شاء الله تعالى.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
19 - بَابُ فَضْلِ صَلاةِ الْعِشَاءِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على فضل صلاة العشاء.
والفَضْلُ: ضد النقص، جمعه: فضول، وقد فَضَلَ، كنَصَرَ، وعَلِمَ، أما فَضِلَ، كعَلِمَ، يَفْضُلُ، كَيَنْصُرُ، فمركبة منهما. قاله المجد في "ق".
482 -
أَخْبَرَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ نَصْرٍ، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَعْتَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْعِشَاءِ حَتَّى نَادَاهُ عُمَرُ رضي الله عنه: نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ غَيْرُكُمْ، وَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ يُصَلِّي غَيْرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
رجال الإسناد: ستة
1 -
(نصر بن علي بن نصر) بن علي الجهضمي البصري، ثقة ثبت، توفي سنة 250 أو بعدها، من [10]، تقدم في "كتاب الحيض" 20/ 386.
2 -
(عبد الأعلى) بن عبد الأعلى السامي البصري، أبو محمد،
ثقة، توفي سنة 189، من [8]، أخرج له الجماعة، تقدم في "كتاب الحيض" 20/ 386.
3 -
(معمر) بن راشد الأزدي مولاهم، أبو عروة البصري نزيل اليمن، ثقة ثبت فاضل، إلا أن في روايته عن ثابت والأعمش وهشام بن عروة شيئًا، وكذا فيما حدث به بالبصرة، توفي سنة 154 عن 58 سنة، من كبار [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 10/ 10.
4 -
(الزهري) محمد بن مسلم أبو بكر المدني الفقيه الحافظ المتفق على جلالته وإتقانه، توفي سنة 125، وقيل: قبل ذلك بسنة أو بسنتين، من رؤوس [4]، أخرج له الجماعة، تقدم في 1/ 1.
5 -
(عروة) بن الزبير بن العَوَّام بن خُوَيلد الأسدي أبو عبد الله المدني، ثقة فقيه مشهور، توفي سنة 94 على الصَحيح، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 40/ 44.
6 -
(عائشة) أم المؤمنين أم عبد الله رضي الله عنها، تقدمت في 5/ 5. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، أخرج لهم الجماعة.
ومنها: أنهم ما بين بصريين ومدنيين؛ فنصفه الأول بصريون،
والثاني مدنيون.
ومنها: أن شيخه من شيوخ الأئمة الستة الذين أخرجوا عنهم بدون واسطة؛ وهم تسعة.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي، ورواية الراوي عن خالته.
ومنها: أن عروة أحد الفقهاء السبعة المعروفين بالمدينة.
ومنها: أن عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت 2210 حديثًا.
ومنها: أن فيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عائشة) رضي الله عنها، أنها (قالت: أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي دخل في العتمة، مثل أصبح: دخل في الصباح. قاله في المصباح.
والعَتَمَةُ محرَّكَة: ثلثُ الليل الأول بعد غيبوبة الشفق، وقيل: عبارة عن وقت صلاة العشاء الآخرة، وقيل: هي بقية الليل. أفاده العيني في "عمدته" جـ 5 ص 63.
وقوله (بالعشاء) متعلق بأعتم، أي دَخَلَ بصلاة العشاء العَتَمَةَ، أي أخر أداءها (حتى ناداه عمر) بن الخطاب رضي الله عنه قائلًا
(نام النساء) بالكسر، ومثله النسوة، بكسر النون أيضًا، أفصح من النُّسوة بضمها، اسمان لجماعة إناث الأناسي، الواحدة امرأة من غير لفظ الجمع. أفاده في "المصباح".
(والصبيان) بالكسر وتضم: جمع صبي، وهو من لدن يُولد إلى أن يفطم، قاله في اللسان. وقال المجد: الصبي من لم يفطم بعد، جمعه أصْبِيَةٌ، وَأصْبٍ، وَصبْوَة -بالكسر-، وصَبْيَةٌ، بالفتح، وصِبْيَةٌ، وصُبْوانٌ، وصُبْيَانٌ بكسر الثلاثة، وتضم. اهـ "ق" بإيضاح.
وأراد عمر رضي الله عنه النساء والصبيان الحاضرين في المسجد، لا النائمين في بيوتهم، وإنما خص هؤلاء بالذكر لأنهم مظنة قلة الصبر على النوم، ومحل الشفقة والرحمة بخلاف الرجال.
(فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي من حجرته إلى المسجد (فقال) لأهل المسجد (إِنه) الضمير للشأن، أي إن الأمر والشأن (ليس أحد يصلي هذه الصلاة) وعند البخاري زيادة:"من أهل الأرض"، يعني أنه لا يصلي العشاء أحد من الناس.
و"أحد" اسم "ليس" وخبرها جملة "يصلي".
وقوله (غيركم) بالرفع صفة لأحد، ووقع صفة لنكرة، لأنه لا يتعرف بالإضافة إلى المعرفة، لِتَوغُّله في الإبهام، اللهم إلا إذا أضيف إلى المشتهر بالمغايرة، ويجوز أَن يكون بدلًا من لفظ أحد، ويجوز أن
ينتصب على الاستثناء. قاله العيني في "العمدة" جـ 5 ص 64.
(ولم يكن يومئذ أحد يصلي غير أهل الدينة) فـ "أحد" اسم يكن، وخبرها جملة "يصلي"، وإعراب "غَيْرُ" كسابقه.
والمراد به أنها لا تُصَلَّى بالهيئة المخصوصة، وهي الجماعة إلا بالمدينة، وبه صرح الداودي، لأن مَنْ كَانَ بمكة من المستضعفين لم يكونوا يصلون إلا سِرًا، وأما غير مكة والمدينة من البلاد فلم يكن الإسلام دخلها. قاله فَي "الفتح" جـ 2 ص 67.
قال الجامع عفا الله عنه: فإن قيل: أين موضع الاستدلال لفضل العشاء من هذا الحديث؟
أجيب بأنه قوله: "إنه ليس أحد يصلي هذه الصلاة غيركم"، فكأنه يقول: إن هذه الصلاة من خصوصياتكم، فاللائق بكم أن تَعْتَنُوا بالانتظار بها، لأن الانتظار كالاشتغال بها أجرًا.
ويؤيد ذلك ما وقع عند الطبراني من طريق طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما "فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما صلى هذه الصلاة أمة قبلكم". أفاده في "الفتح" جـ 2 ص 62، والله ولي التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عائشة رضي الله عنها هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في ديان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (482) عن نصر بن علي، عن عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عنها.
وفي "كتاب المواقيت"(21/ 535) عن عمرو بن عثمان، عن محمد ابن حمير، عن إبراهيم بن أبي عَبْلَةَ، عن الزهري، وعن عمرو بن عثمان، عن أبيه، عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن عروة، عنها. وفي (536) عن إبراهيم بن الحسن، ويوسف بن سعيد، كلاهما عن حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن المغيرة بن حكيم، عن أم كلثوم بنت أبي بكر، عنها. وفي "الكبرى" في "الصلاة"(4/ 389) بسند الباب. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري ومسلم؛ فأخرجه البخاري في "الصلاة"(566) عن يحيى بن بكير، عن الليث، عن، عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عنها. وفي (569) عن أيوب بن سليمان، عر أبي بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب،
به. وفي (862) عن أبي اليمان، عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري به. قال البخاري: وقال عياش: حدثنا عبد الأعلى، حدثنا معمر، عن الزهري، به. وفي (864) عن أبي اليمان، عن شعيب، عن
الزهري، به.
وأخرجه مسلم في "الصلاة" عن يحيى بن بُكَير، عن الليث، عن عقيل، عن الزهري، به. وعن عمرو بن سَوَّاد، وحَرْمَلَة بن يحيى، كلاهما عن يونس، عن الزهري به، وعن إسحاق بن إبراهيم، ومحمد ابن حاتم، كلاهما عن محمد بن بكر، وعن حجاج بن الشاعر، ومحمد بن رافع، كلاهما عن عبد الرزاق -وعن هارون بن عبد الله الحَمَّال، عن حجاج بن محمد- ثلاثتهم عن ابن جريج، عن المغيرة بن حَكيم، عن أم كلثوم بنت أبي بكر رضي الله عنهما، عنها. والله تعالى أعلمَ.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو بيان فضل العشاء، كما تقدم تقريره، وقال الحافظ عند قول البخاري:"باب فضل العشاء": ما حاصله: إنه لم ير من تكلم على هذه الترجمة، فإنه ليس في الحديثين - يعني اللذين أوردهما البخاري، ومنهما حديث عائشة هذا- ما يقتضي اختصاصَ العشاء بفضيلة ظاهرة، وكأنه مأخوذ من قوله "ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم" فعلى هذا، في الترجمة حذف، تقديره:"باب فضل انتظار العشاء" والله أعلم. اهـ. "فتح" جـ 2 ص 57.
فاعترضه العيني بأن مطابقته للترجمة من حيث إن العشاء عبادة، قد اختصت بالانتظار لها من بين سائر الصلوات، وبهذا ظهر فضلها، فحسن قوله:"باب فضل العشاء". اهـ. "عمدة" جـ 5 ص 63.
ومنها: مشروعية الإعلام للإمام ليخرج إلى الصلاة.
ومنها: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التواضع والحلم؛ حيث لم ينكر على عمر حين ناداه، لكن عند مسلم من رواية يونس عن ابن شهاب، قال ابن شهاب:"وذُكِر لي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وما كان لكم أن تَنْزُرُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة"، وذلك حين صاح عمر.
ومعنى تنزروا -بفتح التاء، وسكون النون، وضم الزاي- أي تُلِحُّوا عليه. ورُوِي بضم أوله بعدها موحدة، ثم راء مكسورة، ثم زاي، أي تخرجوا. اهـ. "فتح" جـ 2 ص 60.
ومنها: أنه استَدَلَّ به من ذهب إلى أن النوم لا ينقض الوضوء.
قال في الفتح: ولا دلالة فيه؛ لاحتمال أن يكون الراقد منهم كان قاعدًا متمكنًا، أو لاحتمال أن يكون مضطجعًا لكنه توضأ وإن لم ينقل، اكتفاءً بما عرف من أنهم لا يصلون على غير وضوء. اهـ. جـ 2 ص 60.
ومنها: ما كان عليه الصحابة من اهتمامهم بصلاة الجماعة؛ حتى يحضر النساء والصبيان. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
20 - بَابُ صَلاةِ الْعِشَاءِ فِي السّفَر
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على عدد صلاة العشاء في حالة السفر.
483 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَكَمُ، قَالَ: صَلَّى بِنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ بِجَمْعٍ الْمَغْرِبَ ثَلَاثًا، بِإِقَامَةٍ، ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ فَعَلَ ذَلِكَ، وَذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذَلِكَ.
رجال الإسناد: ستة
1 -
(عمرو بن يزيد) أبو بُرَيد -بموحدة، وراء مصغرا- الجَرْمي -بفتح الجيم، وسكون الراء- صدوق، من [11]، أخرج له النسائي، تقدم في 100/ 130.
2 -
(بهز بن أسد) العَمِّي أبو الأسود البصري، ثقة ثبت، توفي بعد سنة 200، وقيل قبلها، من [9]، أخرج له الجماعة، تقدم في 24/ 28.
3 -
وأما (شعبة) فقد تقدم قبل بابٍ برقم (481).
4 -
(الحكم) بن عُتَيبَةَ، أبو محمد الكندي الكوفي، ثقة ثبت فقيه، إلا أنه رُبَّما دَلَّسَ، توفي سنة 113 أو بعدها، عن نيف وستين سنة، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 86/ 104.
وأما سعيد، وابن عمر فتقدما مع شعبة (481).
وكذا بيان لطائف الإسناد.
وشيخ المصنف هنا من أفراده.
وشرح الحديث والمسائل المتعلقة به تقدمت هناك، فارجع إليها تزدد علمًا.
وموضع الترجمة واضح من قوله: "ثم صلى العشاء ركعتين". والله أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
484 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ صَلَّى بِجَمْعٍ، فَأَقَامَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثَلَاثًا، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ فِي هَذَا الْمَكَانِ.
وهذا الحديث هو الحديث المذكور آنفًا، إلا أن شعبة هنا رواه عن سلمة بن كُهَيل، وهناك عن الحَكَم، وقد مَضَى مشروحًا برقم (481) فارجع إليه تزدد علمًا.
وقوله: "فأقام، فصلى
…
" إلخ، الفاء عاطفة عطفَ مُفَصَّلٍ على مُجْمَل، كما في قوله تعالى:{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [البقرة: 36] الآية، وقوله:{فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153] الآية، وقوله:{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] الآية
(1)
.
فَعَطَفَ جملةَ "فأقام" على قوله "صلى" للتفصيل. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
(1)
انظر مغني اللبيب جـ 1 ص 139 بحاشية الأمير.
21 - بَابُ فَضْلِ صَلاةِ الْجَمَاعَةِ
هكذا النسخ المصرية والهندية، فضل صلاة الجماعة، وهي غير واضحة، اللهم أن يريد فضل صلاة الجماعة في الفجر والعصر، وإلا ففضل صلاة الجماعة سيأتي في كتاب الإمامة برقم (42/ 837) وأشار في الهندية إلى أن في بعض النسخ "باب فضل صلاة الفجر"، وهو الذي في الكبرى برقم (57/ 459)"فضل صلاة الفجر"، وهو أوضح، وأنسب لما تقدم من قوله "باب فضل صلاة العصر"، وقوله "باب فضل صلاة العشاء"، فتأمل.
485 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ، كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ".
رجال الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفي أبو رجاء البَغْلاني، ثقة ثبت، من [10]، تقدم في 1/ 1.
2 -
(مالك) بن أنس أبو عبد الله الإمام الحافظ الحجة، من [7]، تقدم في 7/ 7.
3 -
(أبو الزِّنَاد) عبد الله بن ذَكْوَان القرشي، أبو عبد الرحمن المدني، وأبو الزناد لقبه، ثقة فقيه، توفي سنة 130، وقيل بعدها، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 7/ 7.
4 -
(الأعرج) عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدني، مولى ربيعة بن الحارث، ثقة ثبت عالم، توفي سنة 117، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 7/ 7.
5 -
(أبو هريرة) الدوسي الصحابي الجليل عبد الرحمن بن صخر، أو عبد الله بن عمرو -على ما قاله البخاري وصححه الترمذي في جامعه- رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات أجلاء، أخرج لهم الجماعة.
ومنها: أنهم مدنيون، إلا شيخه فبغلاني، وهي قرية من قرى بلخ.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي.
ومنها: أن فيه الإخبار، والعنعنة.
ومنها: أن أبا هريرة رضي الله عنه أكثر الصحابة حديثا، رَوَى 5374 حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يتعاقبون") أي تأتي طائفة عقب طائفة، ثم تعود الأولى عقب الثانية. قال ابن عبد البر: وإنما يكون التعاقب بين طائفتين، أو رجلين بأن يأتي هذا مرة، ويعقبه هذا، ومنه تعقيب الجيوش؛ أن يجهز الأمير بعثًا إلى مدة، ثم يأذن لهم مي الرجوع بعد أن يجهز غيرهم إلى مدة، ثم يأذن لهم في الرجوع بعد أن يجهز الأولين.
قال القرطبي: الواو في قوله: "يتعاقبون" علامة الفاعل المذكر المجموع على لغة بلحارث، وهم القائلون:"أكلوني البراغيث"، ومنه قول الشاعر:(من الطويل)
بِحُوْرَانَ يَعْصِرْنَ السَّلِيطَ أقَارِبُهْ
(1)
(1)
صدر البيت كما في اللسان، مادة سلط "وَلَكِنْ دِيَافِيٌّ أبُوهُ وَأمُّهُ" وحوران موضع بالشام، والمراد بالسليط الزيت.
وهي لغة فاشية، وعليها حمل الأخفش قوله تعالى:{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء: 3] الآية، قال: وقد تعسف بعض النحاة في تأويلها وردها للبدل، وهو تكلف مستغنى عنه، فإن تلك اللغة مشهورة، ولها وجه من القياس واضح.
وقال غيره في تاويل الآية: قوله {وَأَسَرُّوا} عائد على الناس المذكورين أوّلًا {الَّذِينَ ظَلَمُوا} بدل من الضمير. وقيل: التقدير أنه لَمَّا قيل: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} قيل: من هم؟ قال: الذين ظلموا، حكاه الشيخ محيي الدين، والأول أقرب، إذ الأصل عدم التقدير.
وتوارد جماعة من الشراح على أن حديث الباب من هذا القبيل، ووافقهم ابن مالك، وناقشه أبو حيان زاعمًا أن هذه الطريق اختصرها الراوي، واحتجَّ بما رواه البزار من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ "إن لله ملائكةً يتعاقبون فيكم، ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار
…
" الحديث.
قال الحافظ رحمه الله: وقد سومح في العزو إلى مسند البزار مع أن الحديث بهذا اللفظ في الصحيحين، فالعزو إليهما أولى، وذلك أن هذا الحديث رواه عن أبي الزناد مالك في الموطأ، ولم يختلف عليه باللفظ المذكور، وهو:"يتعاقبون فيكم"، وتابعه على ذلك عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه. أخرجه سعيد بن منصور عنه.
وقد أخرجه البخاري في "بدء الخلق" من طريق شعيب بن أبي حمزة،
عن أبي الزناد بلفظ "الملائكة يتعاقبون، ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار". وأخرجه النسائي أيضًا من طريق موسى بن عقبة، عن أبي الزناد بلفظ "إن الملائكة يتعاقبون فيكم"، فاختلف فيه على أبي الزناد. فالظاهر أنه كان تارة يذكره هكذا، وتارة هكذا، فيقوى بحث أبي حيان، ويؤيد ذلك أن غير الأعرج من أصحاب أبي هريرة قد رواه تامًا، فأخرجه مسلم من طريق هَمَّام بن مُنَبِّه، عن أبي هريرة مثل رواية موسى بن عُقْبَةَ، لكن بحذف "إنَّ" من أوله. وأخرجه ابن خزيمة والسَّرَّاج من طريق أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ "إنَّ لله ملائكة يتعاقبون" وهذه هي الطريقة التي أخرجها البزار. وأخرجه أبو نعيم في الحلية بإسناد صحيح من طريق أبي موسى، عن أبي هريرة بلفظ "إن الملائكة فيكم يتعاقبون".
وإذا عرفت ذلك فالعزو إلى الطريق التي تتحد مع الطريق التي وقع القول فيها أولى من طريق مغايرة لها، فليعز ذلك إلى تخريج البخاري، والنسائي من طريق أبي الزناد؛ لما أوضحته. اهـ كلام الحافظ في "فتح" جـ 2 ص 42.
(فيكيم) أي المصلين، أو مطلق المؤمنين (ملائكة) جمع مَلَكٍ، واختلف في اشتقاقه، قيل: من الألُوكِ، وقيل: من المألُك، وقيل: غير ذلك.
قال في "المصباح": ألكَ بين القوم، ألْكًا، من بَابِ ضَرَبَ، وألُوكًا،
أيضًا: تَرَسَّلَ، واسم الرِّسَالة مَألُكٌ بضم اللام، وَمَألَكُةٌ أيضًا بالهاء، ولامُها تضم وتفتح، والملائكةُ مشتقة من لفظ الألُوك، وقيل: من المَألَكِ، الواحد: ملك، وأصله مَلأك، ووزنه مَعْفَل، فنقلت حركة الهمزةَ إلى اللام، وسقطت، فوزنه مَعَلٌ، فإنَّ الفاء هي الهمزة، وقد سقطت، وقيل: مأخوذ من لأكَ: إذا أرسل، فَمَلأك مَفْعَل، فنقلت الحركة، وسقطت الهمزة، وهي عين، فوزنه مَفَلٌ، وقيل: غير ذلك. اهـ. جـ 1 ص 18، 19.
فملائكة بالرفع فاعلُ "يتعاقبون" على كون الواو علامة، أو بدلٌ من الضمير على جعل الواو ضميرًا، أو بيان، كأنه قيل: من هم؟ فقيل: ملائكة، أو مبتدأ خبره قبله.
ثم قيل: المراد بهم الحفظة، نقله عياض، وغيره عن الجمهور.
وتردد ابن بزيزة. وقال القرطبي: الأظهر عندي أنهم غيرهم. قال الحافظ: ويقويه أنه لم ينقل أن الحفظة يفارقون العبد، ولا أن حفظة الليل غيرُ حَفَظَة النهار، وبأنهم لو كانوا هم الحفظة لم يقع الاكتفاء في السؤال منهم عن حالة الترك دون غيرها في قوله "كيف تركتم عبادي". اهـ. "فتح" جـ 2 ص 43.
(ويجتمعون في صلاة الفجر، وصلاة العصر) قال الزين ابن المُنَيِّر: التعاقب مغاير للاجتماع، لكن ذلك مُنَزَّل على حالين. قال الحافظ. وهو ظاهر.
وقال ابن عبد البر: الأظهر أنهم يشهدون معهم الصلاة في الجماعة، واللفظ محتمل للجماعة وغيرها، كما يحتمل أن التعاقب يقع بين طائفتين دون غيرهم، وأن يقع التعاقب بينهم في النوع، لا في الشخص.
وقال القاضي عياض رحمه الله: والحكمة في اجتماعهم في هاتين الصلاتين من لطف الله تعالى بعباده، وإكرامه لهم بأنْ جَعَل اجتماعَ ملائكته في حال طاعة عباده، لتكون شهادتهم لهم بأحسن الشهادة.
قال الحافظ رحمه الله: وفيه شيء، لأنه رجَّحَ أنهم الحفظة، ولا شك أن الذين يصعدون كانوا مقيمين عندهم مشاهدين لأعمالهم في جميع الأوقات، فالأولى أن يقال: الحكمة في كونه تعالى لا يسألهم إلا عن الحالة التي تركوهم عليها ما ذكر، ويحتمل أن يقال: إن الله تعالى يستر عنهم ما يعملونه فيما بين الوقتين، لكنه بناء على أنهم غير الحفظة. وفيه إشارة إلى الحديث الآخر "إن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما"، فمن ثَمَّ وقع السؤال من كل طائفة عن آخر شيء فارقوهم عليه.
(ثم يعرج) من باب قتل، أي يصعد الملائكة (الذين باتوا فيكم) يقال: بَاتَ يَبِيتُ بَيْتُوتَة، ومَبِيتًا، وَمَبَاتًا، فهو بَائِتٌ: إذا فَعَلَ فِعْلًا بالليل، كما اخَتص الفعل في "ظَلَّ" بالنهار، وقد تأتي بمعنى "صار"، يقال: بات بموضع كذا، أي صَارَ بِهِ، سواء كان في ليل، أو نهار، وبَاتَ يَبَاتُ من باب تَعِبَ لغة. اهـ. المصباح باختصار.
قال الجامع: المناسب هنا معنى "صار"، فيشمل الحديثُ الذين كانوا معهم ليلًا، والذين كانوا معهم نهارًا، ولا داعي إلى التكلفات الآتية.
وقال في الفتح: اختُلِفَ في سبب الاقتصار على سؤال الذين باتوا دون الذين ظَلُّوا، فقيل: هو من باب الاكتفاء بذكر أحد المثلين عن الآخر، كقوله تعالى:{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9] أي وإن لم تنفع، وقوله تعالى:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]، أي
والبرد، وإلى هذا أشار ابن التين وغيره.
ثم قيل: الحكمة في الاقتصار على ذلك أن حكم طرفي النهار يعلم من حكم طرفي الليل، فلو ذكره لكان تكرارًا.
ثم قيل: الحكمة في الاقتصار على هذا الشِّقِّ دون الآخر أن الليل مظنة المعصية، فلما لم يقع منهم عصيان مع إمكان دواعي الفعل من إمكان الإخفاء ونحوه، واشتغلوا بالطاعة كان النهار أولى بذلك، فكان السؤال عن الليل أبلغ من السؤال عن النهار، لكون النهار محل
الاشتهار.
وقيل: الحكمة في ذلك أن ملائكة الليل إذا صَلَّوُا الفجرَ عَرَجُوا في الحال، وملائكة النهار إذا صلوا العصر لَبِثُوا إلى آخر النهار لضبط بقية عمل النهار، قال الحافظ: وهذا ضعيف، لأنه يقتضي أن ملائكة النهار
لا يسألون عن وقت العصر، وهو خلاف ظاهر الحديث، كما سيأتي، ثم هو مبني على أنهم الحفظة، وفيه نظر، لما سنبينه، وقيل: بناه أيضًا على أنهم الحفظة أنهم ملائكة النهار فقط، وهم لا يبرحون عن ملازمة بني آدم، وملائكة الليل هم الذين يعرجون، ويتعاقبون، ويؤيده ما رواه أبو نعيم في كتاب الصلاة له من طريق الأسود بن يزيد النخعي، قال:"يلتقي الحارسان -أي ملائكة الليل، وملائكة النهار- عند صلاة الصبح، فيسلم بعضهم على بعض، فتصعد ملائكة الليل، وتلبث ملائكة النهار".
وقيل: يحتمل أن يكون العروج إنما يقع عند صلاة الفجر خاصة، وأما النزول فيقع في الصلاتين معًا، وفيه التعاقب، وصورته أن تنزل طائفة عند العصر، وتبيت، ثم تنزل طائفة ثانية عند الفجر، فيجتمع الطائفتان في صلاة الفجر، ثم يعرج الذين باتوا فقط، ويستمر الذين نزلوا وقت الفجر إلى العصر، فتنزل الطائفة الأخرى، فيحصل اجتماعهم عند العصر أيضًا، ولا يصعد منهم أحد، بل تبيت الطائفتان أيضًا، ثم تعرج إحدى الطائفتين، ويستمر ذلك، فتصح صورة التعاقب مع اختصاص النزول بالعصر، والعروج بالفجر، فلهذا خُصَّ السؤال بالذين باتوا. والله أعلم.
وقيل: إن قوله في هذا الحديث "ويجتمعون في صلاة الفجر، وصلاة العصر" وَهَمٌ، لأنه ثَبَتَ في طرق كثيرة أن الاجتماع في صلاة
الفجر من غير ذكر صلاة العصر، كما في الصحيحين من طريق سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة في أثناء حديث قال فيه "وتجتمع ملائكة الليل، وملائكة النهار في صلاة الفجر"، وقال أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78].
وفي الترمذي والنسائي من وجه آخر بإسناد صحيح عن أبي هريرة في قوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} قال: تشهده ملائكة الليل والنهار. ورَوَى ابنُ مَرْدويه من حديث أبي الدرداء نحوه.
قال ابن عبد البر رحمه الله: ليس في هذا دَفْعٌ للرواية التي فيها ذكر العصر، إذ لا يلزم من عدم ذكر العصر في الآية، والحديثِ الآخرِ عدمُ اجتماعهم في العصر، لأن المسكوت عنه قد يكون في حكم المذكور بدليل آخر، قال: ويحتمل أن يكون الاقتصار وقع في الفجر لكونها جهرية.
قال الحافظ رحمه الله: وبحثه الأول مُتَّجِهٌ، لأنه لا سبيل إلى ادعاء توهيم الراوي الثقةِ مع إمكان التوفيق بين الروايات، ولا سيما أن الزيادة من العدل الضابط مقبولة، وَلِمَ لا يُقاَلُ: إن رواية مَن لم يذكر سؤال الذين أقاموا في النهار واقعٌ من تقصير بعض الرواة، أو يُحْمَلُ
قوله: "ثم يعرج الذين باتوا" على ما هو أعم من البيت بالليل، والإقامة بالنهار، فلا يختص ذلك بليل دون نهار، ولا عكسه، بل كل طائفة
منهم إذا صَعِدَت سُئِلَت، وغاية ما فيه أنه استعمل لفظ "بات" في "أقام" مجازًا، ويكوَن قوله. "فيسألهم" أي كُلًا من الطائفتين في الوقت الذي يصعد فيه، ويَدُلُّ على هذا الحملِ رواية موسى بنِ عقبة، عن أبي الزناد عند النسائي، ولفظه "ثم يعرج الذين كانوا فيكم" فعلى هذا لم يقع في المتن اختصار، ولا اقتصار، وهذا أقرب الأجوبة.
قال: وقد وقع لنا هذا الحديث من طريق أخرى واضحًا، وفيه التصريح بسؤال كل من الطائفتين.
وذلك فيما رواه ابن خزيمة في "صحيحه"، وأبو العباس السَّرَّاج جميعًا عن يوسف بن موسى، عن جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تجتمع ملائكة الليل، وملائكة النهار في صلاة الفجر، وصلاة العصر، فيجتمعون في صلاة الفجر، فتصعد ملائكة الليل، وتبيت ملائكة النهار، ويجتمعون في صلاة العصر، فتصعد ملائكة النهار، وتبيت ملائكة الليل، فيسألهم ربهم: كيف تركتم عبادي؟ " الحديث.
وهذه الرواية تزيل الإشكال، وتُغْنِي عن كثير من الاحتمالات المتقدمة، فهي المعتمدة، ويحمل ما نقص منها على تقصير بعض الرواة. اهـ. "فتح" جـ 2 ص 44.
قال الجامع عفا الله عنه: بل الأولى والأرجح عندي ما رجحه
الحافظ قبل هذا، وهو عدم دعوى الاختصار، والاقتصار في رواية الباب، لأن معنى "باتوا فيكم": صاروا معكم، وقد تقدم ما نقلته من عبارة المصباح في ذلك، ويؤيد ذلك رواية النسائي المتقدمة؛ "ثم يعرج الذين كانوا فيكم". وهذه الرواية رواية ابن خزيمة والسَّرَّاج مُوَضِّحَة لهذا المعنى، فلا داعي لدعوى التقصير من بعض الرواة.
والحاصل أن معنى "ثم يعرج الذين باتوا فيكم" ثم يصعدون الذين كانوا معكم، سواء الذين كانوا معهم ليلًا، والذين كانوا معهم نهارًا، فيشمل السؤال الطائفتين بنص هذا الحديث، فلا إشكال. والله أعلم.
تنبيه:
استدل بعض الحنفية بهذا الحديث على استحباب تأخير صلاة العصر ليقع عروج الملائكة إذا فرغ آخر النهار، وتعقب بأن ذلك غير لازم، إذ ليس في الحديث ما يقتضي أنهم لا يصعدون إلا ساعة الفراغ من الصلاة، بل جائز أن تفرغ الصلاة، ويتأخروا بعد ذلك إلى آخر النهار، ولا مانع أيضًا من أن تصعد ملائكة النهار، وبعضُ النهار باقٍ، وتقيم ملائكة الليل. قاله في "الفتح" جـ 2 ص 43.
قال الجامع: هذا التوجيه الثاني هو الواضح، وأما الأول فلا يصح، لأن دعوى تأخرهم بعد الصلاة ينافيه قوله في الحديث:"تركناهم وهم يصلون"، وأيضا الاستدلال المذكور تعارضه النصوص
التي تدت عدى استحباب تعجيل صلاة العصر، وهي صريحة تقدم على المفهوم، وسيأتي تحقيق ذلك في باب تعجيل العصر من كتاب المواقيت، إن شاء الله تعالى.
وأما اعتراض العيني على الحافظ في هذا التوجيه فهو مجرد اعتراض لم يستند إلى دليل، فلا يلتفت إليه، فتبصر.
(فيسألهم) هكذا النسخ بدون ذكر الفاعل، وفي الصحيحين "فيسألهم ربهم"، ففي رواية المصنف يقدر ضمير يعود إلى المعلوم من المقام، يدك عليه قوله "عبادى"، أي هو، أي ربهم على رأي جمهور النحاة، أو هو من باب حذف الفاعل لدليل على رأي الكسائي، أي
ربهم.
قيل: الحكمة فيه استدعاء شهادتهم لبني آدم بالخير، واستنطاقهم بما يقتضي التعطف عليهم، وذلك لإظهار الحكمة في خلق نوع الإنسان في مقابلة مَنْ قَالَ من الملائكة {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، أي وقد وجد فيهم من يسبح، ويقدس مثلكم بنص شهادتكم.
وقال عياض: هذا السؤال على سبيل التعبد للملائكة، كما أمروا أن يكتبوا أعمال بني آدم، وهو سبحانه وتعالى أعلم من الجميع بالجميع.
(وهو أعلم بهم) أي بالمصلين من الملائكة، فحذف صلة أفعل التفضيل.
(كيف تركتم عبادي؟) قال ابن أبي جمرة: وقع السؤال عن آخر الأعمال، لأن الأعمال بخواتيمها، قال: والعباد المسئول عنهم هم المذكورون في قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42](فيقولون) أي الملائكة المسئولون (تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون) لم يراعوا الترتيب الوجودي، لأنهم بدؤوا بالترك قبل الإتيان، والحكمة فيه أنهم طابقوا السؤال، لأنه قال:"كيف تركتم"، ولأن المخبر به صلاة العبادة، والأعمال بخواتيمها، فناسب ذلك إخبارهم عن آخر عملهم قبل أوله.
وقوله "تركناهم وهم يصلون" ظاهره أنهم فارقوهم عند شروعهم في العصر سواء تمت أم منع مانع من إتمامها، وسواء شرع الجميع فيها، أم لا، لأن المنتظر في حكم المصلي، ويحتمل أن يكون المراد بقولهم:"وهم يصلون" أي ينتظرون صلاة المغرب.
قال الجامع: الاحتمال الأول أولى لأنه الذي يقتضيه ظاهر الحديث. والله أعلم.
وقال ابن التين: الواو في قوله "وهم يصلون" واو الحال، أي تركناهم على هذه الحال، ولا يقال: يلزم منه أنهم فارقوهم قبل انقضاء
الصلاة، فلم يشهدوها معهم، والخبر ناطق بأنهم يشهدونها لأنا نقول: هو محمول على أنهم شهدوا الصلاة مع من صلاها في أول وقتها وشهدوا من دخل فيها بعد ذلك، ومن شرع في أسباب ذلك.
قال الجامع: الظاهر أنهم فارقوهم، وهم يصلون، ولا يلزم من ذلك معارضة النصوص التي تدل على شهودهم، لأن الشهود لا يستلزم انقضاء الصلاة، على أن هؤلاء الذين فارقوا قد اجتمعوا مع الذين بَقُوا معهم، فالصلاة لم تخل من شهود الملائكة من أولها إلى آخرها، والله أعلم.
وقال ابن أبي جمرة: أجابت الملائكة بأكثر مما سُئِلُوا عنه، لأنهم عَلِمُوا أنه سؤال يَسْتَدْعِي التَّعَطُّفَ على بني آدم، فزادوا في موجب ذلك.
ووقع في صحيح ابن خزيمة من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة في آخر هذا الحديث "فاغفر لهم يوم الدين". اهـ. فتح جـ 2 ص 45. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف:
أخرجه هنا (485)، وفي "النعوت" في "الكبرى"، عن قتيبة، عن مالك، وعن الحارث بن مسكين، عن القاسم، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عنه.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري ومسلم؛ فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن عبد الله بن يوسف، وفي "التوحيد" عن إسماعيل وعن قتيبة، كلهم عن مالك به. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو فضل صلاة الجماعة في الفجر والعصر.
ومنها: أن الصلاة أعلى العبادات بعد الشهادتين؛ لأنه وقع عنها السؤال والجواب.
ومنها: أن فيه الإشارة إلى عظم هاتين الصلاتين، لكونهما تجتمع فيهما الطائفتان، وفي غيرهما طائفة واحدة.
ومنها: الإشارة إلى شرف الوقتين المذكورين، قال الحافظ: وقد ورد أن الرزق يقسم بعد صلاة الصبح، وأن الأعمال ترفع آخر النهار، فمن كان حينئذ في طاعة بورك في رزقه، وفي عمله، ويترتب عليه حكمة الأمر بالمحافظة عليهما، والاهتمام بهما.
ومنها: أن فيه تشريف هذه الأمة على غيرها، ويستلزم تشريف نبيها على غيره.
ومنها: أن فيه الإخبار بالغيوب، ويترتب عليه زيادة الإيمان.
ومنها: الإخبار بما نحن فيه من ضبط أحوالنا حتى نتيقظ، ونتحفظ في الأوامر والنواهي، ونفرح في هذه الأوقات بقدوم رُسُلِ ربنا، وسؤال ربنا عنا.
ومنها: إعلامنا بحب الملائكة لنا لنزداد فيهم حبًا، ونتقرب إلى الله بذلك.
ومنها: كلام الله تعالى مع ملائكته.
ومنها: ما استنبطه منه بعض الصوفية من أنه يستحب أن لا يفارق الشخص شيئًا من أموره إلا وهو على طهارة، كشعره إذا حلقه، وظفره إذا قَلَمَهُ، وثوبه إذا أبدله، ونحو ذلك
(1)
.
قال الجامع: وفي هذا الاستنباط بعد. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
486 -
أَخْبَرَنَا كَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَفْضُلُ صَلَاةُ الْجَمْعِ
(1)
انظر فتح جـ 2 ص 45.
عَلَى صَلَاةِ أَحَدِكُمْ وَحْدَهُ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا، وَيَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78].
رجال الإسناد: ستة
1 -
(كَثِيرُ بنْ عُبَيد) بن نُمَير المَذْحِجِيُّ، أبو الحسن الحمصي الحَذَّاء المقرئ، ثقة، من [10].
قال أبو حاتم: ثقة، وقال النسائي: لا بأس به، وقال ابن أبي داود: كان يقال: إنه أمَّ بأهل حمص ستين سنة، فما سَهَا في صلاته قط، قال عبد الغني بن سعيد: فذاكرت بذلك أبا الحسين أحمد بن محمد بن عمر بن عامر الفرضي الحمصي، فقال: قيل لكثير بن عبيد في ذلك؟ فقال: ما دخلت من باب المسجد قط، وفي نفسي غيرُ الله. ووثقه مسلمة بن قاسم، وأبو بكر بن أبي داود، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مات سنة 250 أو قبلها بقليل، أو بعدها، وكان من خيار الناس. وقيل: مات سنة 247، والأول أصح. روى له أبو داود،
والنسائي، وابن ماجه. اهـ. "تت" جـ 8 ص 423، 424 بتصرف.
2 -
(محمد بن حرب) الخَوْلاني الحِمْصي الأبْرَش -بالمعجمة- ثقة، توفي سنة 194، من [9]، أخرج له الجماعة. تقدم في
122/ 172.
3 -
(الزبيدي) محمد بن الوليد، أبو الهُذَيل الحمصي القاضي، ثقة ثبت، من أكابر أصحاب الزهري، توفي سنة 146 أو 147 أو 149، من [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 45/ 56.
والزبيدي -مصغرًا- نسبة إلى قبيلة من مَذْحِج، كما في "اللب" جـ 1 ص 373.
4 -
(الزهري) محمد بن مسلم، الإمام الحجة الفقيه الثبت، توفي سنة 125، من رؤوس [4]، أخرج له الجماعة، وتقدم في 1/ 1.
5 -
(سعيد بن المُسَيِّب) بن حَزْن بن أبي وَهْب القرشي المخزومي المدني، أحد الفقهاء الكبار، توفي بعد سنة 90 وقد ناهز 80 سنة، من كبار [2]، أخرج له الجماعة، تقدم في 9/ 9.
6 -
(أبو هريرة) الدوسي الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات أجلاء، أخرج لهم الجماعة، إلا شيخه، فانفرد به هو، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
ومنها: أنهم ما بين حمصيين، وهم مَنْ قبل الزهري، ومدنيين، وهم الباقون.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي.
ومنها: أن سعيدًا هو أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، الذين يعتد مالك بإجماعهم كإجماع سائر الناس.
ومنها: أن فيه أبا هريرة أحد المكثرين السبعة، رَوَى 5374 حديثًا.
ومنها: أن فيه من صيغ الأداء؛ الإخبار والتحديث والعنعنة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تفضل صلاة الجمع) وفي النسخ "صلاة الجميع" وهي رواية البخاري، أي تزيد صلاة الجميع، والإضافة بمعنى "في"، لا بمعنى اللام، قاله العيني. وقال السندي: الإضافة لأدنى ملابسة، أي صلاة
أحدكم مع الجمع، أي الجماعة، أو بحذف المضاف، أي صلاة آحاد الجميع، وإلا فليس المطلوب تفضيل صلاة المجموع على صلاة الواحد، بل تفضيل صلاة الواحد على صلاته باعتبار الحالين. اهـ.
(على صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءًا) وفي رواية ابن عمر رضي الله عنهما "بسبع وعشرين درجة"، فيحمل على أنه
أوحِيَ إليه أولًا بخمس وعشرين، ثم بسبع وعشرين، تفضلًا من الله تعالى، حيث زاد درجتين، أو يحمل على أن المراد بالعدد التكثير لا التحديد.
وسيأتي تمام البحث في "كتاب الإمامة"(42/ 837) إن شاء الله تعالى.
(ويجتمع ملائكة الليل، و) ملائكة (النهار في صلاة الفجر) فيه بيان مَزِيَّة صلاة الفجر جماعة، حيث إن الملائكة تجتمع في وقتها، ومثلها صلاة العصر، كما تقدم في الحديث السابق، فلذلك حَثَّ الشارعُ على المحافظة عليهما، ليكون من حضرهما تَرْفَعُ الملائكة
عمله، وتشفع له.
(واقرؤوا إِن شئتم) أي إن أردتم أن تعرفوا مصداق ذلك من كتاب الله تعالى، فاقرؤوا هذه الآية {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} بالنصب عطفًا على الصلاة، من قوله:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} ، أي وأقم قرآن الفجر، أو منصوب على الإغراء، أي وعليك قرآن الفجر، على رأي من يقول: إن أسماء الأفعال تعمل مقدرة، ويقدر على رأي غيرهم "الْزَمْ قرآن الفجرِ"{إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ} أي صلاة الصبح، سميت قرآنًا، وهو القراءة، لأنهَا ركن منها، لا تجوز الصلاة إلا بها، كما سميت ركوعًا، وسجودًا، وقنوتًا؛ أي قيامًا، وإنما خص القراءة بالتسمية هنا
للحث على تطويل القراءة فيها.
{كَانَ مَشْهُودًا} أي محضورًا؛ تحضره الملائكة.
قال السندي: ولا يخفى أن طائفة من الملائكة على البدلية تشهد الصلوات كلها، وكلتا الطائفتين لا يحضرون صلاة الفجر أو العصر بتمامهما أيضًا، لقولهم:"تركناهم وهم يصلون"، فكأنهم يشهدون القرآن جميعًا، ثم تذهب طائفة عند تمام الركعة الثانية من الفجر، أو الرابعة من العصر قبل الفراغ من الصلاة. فليتأمل. والله تعالى أعلم. اهـ.
قال الجامع: وهذا الذي قاله توجيه وجيه. والله أعلم.
تنبيه:
الظاهر أن قوله: "واقرؤوا إن شئتم" من قول النبي صلى الله عليه وسلم، لكن عند الشيخين، قال أبو هريرة:"اقرؤوا إن شئتم" الحديث، وهذا يدل على أنه من قول أبي هريرة، وللترمذي في التفسير من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:{إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} ، قال:"تشهده ملائكة الليل، وملائكة النهار" وصححه، وهذا يشهد للأول، ولا تنافي بينهما، لإمكان كون أبي هريرة تارة يرفعه، وتارة يذكره هو من عند نفسه. والله أعلم، وهو المستعان وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
الأولى: في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.
الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه المصنف هنا (486) وفي الكبرى (461) عن كثير بن عُبَيد، عن محمد بن حرب، عن الزُّبَيدي، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وفي 42/ 838 وفي "الكبرى" 42/ 912 عن قتيبة عن مالك، عن ابن شهاب به.
وفي الملائكة من "الكبرى" عن عمرو بن عثمان بن سعيد، عن أبيه، وَبقِيَّةَ بن الوليد، كلاهما عن شعيب، به. والله تعالى أعلم.
الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري ومسلم؛ فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة، كلاهما، عنه.
وأخرجه مسلم في "الصلاة" أيضًا عن أبي بكر بن محمد بن إسحاق، عن أبي اليمان، به.
وبقية مباحث الحديث تأتي في "كتاب الإمامة" إن شاء الله تعالى.
ومناسبة الحديث للباب واضحة مما ذكرناه أول الباب، فتنبه. والله أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
487 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَا:
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عُمَارَةَ بْنِ رُوَيْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَلِجُ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ".
رجال الإسناد: ستة
1 -
(عمرو بن علي) الفَلاس الصَّيْرَفيُّ البصري، ثقة حافظ، توفي سنة 249، من [10]، تقدم في 4/ 4.
2 -
(يعقوب بن إِبراهيم) أبو يوسف الدَّوْرَقِيُّ البغدادي، ثقة، توفي سنة 252، من [10]، تقدم في 21/ 22.
3 -
(يحيى بن سعيد) القَطَّان البصري، ثقة متقن إمام حجة، توفي سنة 198، من كبار [9]، تقدم في 4/ 4.
4 -
(إِسماعيل) بن أبي خالد البجلي أبو عبد الله الكوفي، ثقة ثبت، من [4]، تقدم في 471.
5 -
(أبو بكر بن عُمَارَة بن رُوَيبة) الثقفي الكوفي، مقبول، من [3]، تقدم في 471.
6 -
(عمارة بن رويبة) الثقفي صحابي نزل الكوفة، توفي بعد سنة 70، تقدم في 471.
وأما الحديث فقد مضى برقم (12/ 471) في "باب فضل صلاة العصر"، أخرجه هناك عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن مسعر، وإسماعيل بن أبي خالد، والبَخْتَري بن أبي البَخْتَري، الثلاثة عن أبي بكر بن عُمَارة، عن أبيه، وتقدم هناك ذكر ما يتعلق به من المسائل، فلا نطيل الكتاب بإعادته، فارجع إليه تزدد علمًا.
وأورده المصنف هنا في "فضل الجماعة"، وإن كان غير صريح فيه، لأنه إذا كان هاتان الصلاتان مانعتين من دخول النار لمن صلاهما، فأداؤهما مع الجماعة يكون أكمل وأفضل، فيستفاد منه فضل صلاة الجماعة في الفجر والعصر، والله أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب".
22 - بَابُ فَرْضِ الْقِبْلَةِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على كون استقبال القبلة في الصَّلاة فرضًا.
وأشار في الهندية إلى أن في بعض النسخ "باب فضل القبلة".
قلت: والأولى أوضح. والقِبلةُ مأخوذة من قَابَلَ الشيءُ الشيءَ إذا حاذاه. وأقبل عليه: إذا حاذاه بوجهه، وأصله من القُبُل: نقيض الدُّبُر، قال الهروي: سميت القبلة قبلة، لأن المصلي يقابلها، وتقابله. اهـ. "النظم المستعذب"
(1)
جـ 1 ص 74.
488 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا -شَكَّ سُفْيَانُ- وَصُرِفَ إِلَى الْقِبْلَةِ.
رجال الإسناد: خمسة
1 -
(محمد بن بَشَّار) أبو بكر بُندَار البصري، ثقة حافظ، توفي سنة 252، من [10]، تقدم في 24/ 27.
2 -
(يحيى بن سعيد) القَطَّان، تقدم في السند السابق.
(1)
اسم كتاب في تفسير غريب ألفاظ المهذب، تصنيف الإمام بَطَّال بن أحمد بن سليمان ابن بطال الرَّكَبي المتوفى سنة 633 هـ.
3 -
(سفيان) بن سعيد بن مسروق، أبو عبد الله الثوري الكوفي الإمام الحجة، توفي سنة 161، رأس الطبقة [7]، تقدم في 33/ 37.
4 -
(أبو إِسحاق) عمرو بن عبد الله السَّبِيعي الهَمْداني الكوفي، ثقة عابد، اختلط بِأخَرَة، توفي سنة 129، وقيَل: غير ذلك، من [3]، تقدم في 38/ 42.
5 -
(البَرَاءُ) بنُ عَازِب بن الحارث بن عَدِيّ الأنصاري، أبو عُمَارَة المدني صحابي ابن صحابي، نزل الكوفة، مَات سنة 72، تقدم في 86/ 105. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله ثقات أجلاء، أخرج لهم الجماعة.
ومنها: أنهم بين بصرِيَّيْنِ، وهما ابن بشار، ويحيى، وكوفِيِّينَ، وهم الباقون.
ومنها: أن شيخه هو أحد مشايخ الستة الذين رووا عنهم بدون واسطة، وأنه لا يوجد في الكتب الستة من اسمه محمد بن بشار غيره.
ومنها: أن فيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة.
ومنها: أن أبا إسحاق مدلس، لكنه صرح بالسماع في رواية عند البخاري في التفسير من طريق الثوري، عنه، قال:"سمعت البراء"،
فزال ما يُخشى من التدليس، كما قاله في "الفتح" جـ 1 ص 119. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن البراء) بن عازب رضي الله عنهما، أنه (قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحْو بَيتِ المقدس) أي جهته.
والمقدس: فيه لغتان مشهورتان؛ إحداهما: فتح الميم، وسكون القاف، وكسر الدال المخففة. والثانية: ضم الميم، وفتح القاف، والدال المشددة.
قال الواحدي: أما من شَدَّدَه، فمعناه المُطَهَّرُ، وأما من خَفَّفَهُ، فقال أبو علي الفارسي: لا يخلو إما أن يكون مصدرًا، أو مكانًا، فإن كان مصدرًا كان كقوله تعالى:{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} ، ونحوِهِ من المصادر، وإن كان مَكَانًا، فمعناه بيتُ المكان الذي جعل فيه الطهارة، أو بيتَ مكان الطهارة، وتطهيره إخْلاؤُه من الآثام، وإبعاده منها.
وقال الزجاج: البيت المقدس
(1)
، والمطهر، وبيت المقدس، أي المكان الذي يطهر فيه من الذنوب. اهـ. زهر جـ 1 ص 243، 244.
(ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، شك سفيان) أي الثوري الراوي عن أبي إسحاق، وكذا وقع الشك من زُهَير بن معاوية عند البخاري في الإيمان، والصلاة، ووقع الشك أيضًا من إسرائيل بن يونس عند البخاري، والترمذي، ورواية زكريا بن أبي زائدة الآتية
(1)
هكذا نسخة الزهر، ولعل الصواب: أي المطهر.
للمصنف "ستة عشر" بدون شك.
ورواه أبو عوانة في "صحيحه" عن عَمَّار بن رَجَاء، وغيره عن أبي نعيم، فقال:"ستة عشر" من غير شك، وكذا لمسلم من رواية أبي الأحوص، وللنسائي من رواية زكريا بن أبي زائدة، وشريك، ولأبي عوانة أيضًا من رواية عمَّار بن رزيق -بتقديم الراء مصغرًا- كلهم عن أبي إسحاق، وكذا لأحمد بسند صحيح عن ابن عباس، وللبزار والطبراني من حديث عمرو بن عوف "سبعة عشر"، وكذا للطبراني عن ابن عباس.
والجمع بين الروايتين -كما قال الحافظ- سهل بأن يكون مَنْ جَزَمَ بستة عشر لَفَّقَ من شهر القدوم وشهر التحويل شهرا، وألغى الزائد، ومَنْ جَزَم بسبعة عشر عَدَّهما مَعًا، ومَنْ شَكَّ تَرَدَّد في ذلك، وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف، وكذا التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور، ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال ابن حبان: "سبعة عشر شهرًا، وثلاثة أيام"، وهو مبني على أن القدوم كان في ثاني عشر شهر ربيع الأول.
وشذَّت أقوال أخرى، ففي ابن ماجه من طريق أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق في هذا الحديث "ثمانية عشر شهرًا"، وأبو بكر سيئ
الحفظ، وقد اضطرب فيه، فعند ابن جرير من طريقه في رواية "سبعة عشر"، وفي رواية "ستة عشر"، وخرجه بعضهم على قول محمد بن حبيب: إن التحويل كان في نصف شعبان، وهو الذي ذكره النووي في الروضة وأقره، مع كونه رجح في شرح مسلم رواية "ستة عشر شهرًا"، لكونه مجزومًا بها عند مسلم، ولا يستقيم أن يكون ذلك في شعبان إلا أن ألْغَى شَهْرَي القدوم، والتحويل، وقد جزم موسى بن عقبة بأن التحويل كان في جمادى الآخرة.
ومن الشذوذ أيضًا رواية "ثلاثة عشر شهرًا"، ورواية "تسعة أشهر"، ورواية "شهرين"، ورواية "سنتين"، وهذه الأخيرة يمكن حملها على الصواب، وأسانيد الجميع ضعيفة، والاعتماد على القول الأول، فجملة ما حكاه تسع روايات. اهـ. فتح جـ 1 ص 120.
(وصُرِفَ) بالبناء للمفعول، أي وُجِّهَ النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، ولظهور البعدية من السَّوْقِ لم يقل: ثم صرف، قاله السندي رحمه الله (إِلى القبلة) اللام للعهد، أي القبلة المعهودة، وهي الكعبة المشرفة، وفي الرواية الآتية "ثم إنه وُجِّهَ إلى الكعبة". وعبارة السندي: اللام فيها للعهد، والمراد القبلة المعهودة بين المسلمين، وهي الكعبة المشرفة، وإلا فقد كان بيت المقدس قبلةً لهم، قال تعالى:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142] اهـ. والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما هذا من طريق سفيان الثوري متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان موضع ذكر المصنف له.
أخرجه هنا بهذا السند فقط.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري ومسلم؛ فأخرجه البخاري في "التفسير" عن محمد ابن المثنى، عن يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عنه. وأخرجه مسلم في "الصلاة" عن محمد بن المثنى، وأبي بكر بن خَلاد- كلاهما عن يحيى بن سعيد، عن الثوري، به.
وفوائد الحديث تأتي في الحديث التالي، إن شاء الله تعالى، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
489 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْرَقُ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، فَصَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ
عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ إِنَّهُ وُجِّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَمَرَّ رَجُلٌ، قَدْ كَانَ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَوْمٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ وُجِّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَانْحَرَفُوا إِلَى الْكَعْبَةِ.
رجال الإسناد: خمسة
1 -
(محمد بن إِسماعيل بن إِبراهيم) بن مِقْسَمٍ الأسَدِيُّ المعروف أبوه بابن عُلَيَّة، البصري نزيل دمشق وقاضيها، ثقة، توفي سنة 264، من [10].
وفي "تت" أبو عبد الله، ويقال: أبو بكر، قال النسائي: حافظ ثقة، وقال الدارقطني: لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يُغْرِبُ، وقال محمد بن جعفر بن بلاس: ثنا القاضي محمد بن إسماعيل ابن علية الثقة الرضي، قال محمد بن الفيض: عُزِلَ يحيى بن
أكثم، وتولى جعفر بن عبد الواحد القضاء، فولى محمد بن إسماعيل ابن عُلَيَّة دمَشْقَ، فلم يزل قاضيًا بدمشق حتى توفي سنة (264)، وولي بعده أبو حَازم عبد الحميد بن عبد العزيز. وقال مسلمة: ثنا عنه العدوي، وكان ثقة، وقال المستملي: كان مستقيم الحديث، ثنا عن النسائى
(1)
. اهـ باختصار. انفرد به المصنف.
(1)
هكذا نسخة "تت" ثنا عن النسائي، ولعل الصواب: ثنا عنه النسائي.
2 -
(إِسحاق بن يوسف الأزرق) المخزومي الواسطي، ثقة، من [9].
وفي "تت": إسحاق بن يوسف بن مرْدَاس المخزومي الواسطي المعروف بالأزرق، قيل لأحمد: إسحاق الأزرق ثقة؟ فقال: إيْ، والله ثقة. وقال ابن معين والعجلي: ثقة، وقال أبو حاتم: صحيح الحديث، صدوق، لا بأس به. وقال يعقوب بن شيبة: كان من أعلمهم بحديث شريك. وقال الخطيب: كان من الثقات المأمونين. وقال وهب بن بَقِيَّةَ: وُلِدَ سنة (117) وقال خليفة، ومحمد بن سعد، وغير واحد: مات سنة (195) زاد ابن سعد، وكان ثقة، وربما غَلطَ. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال البزار: كان ثقة. اهـ تت باختصار. روى له الجماعة.
3 -
(زكريا بن أبي زائدة) خالدٍ، ويقال: هُبَيَرَةَ بنِ ميمون بنِ فَيْرُوزَ الهَمْدَاني الوَادعِيُّ، أبو يحيى الكوفي، ثقة، يدلس، وسماعه من أبي إسحاق بِأخَرَةٍ، من [6]، تقدم في 93/ 115.
وأما 4 - (أبو إسحاق) السبيعي، 5 - (البراء بن عازب) رضي الله عنهما فقد تقدما في السند السابق. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله.
منها: أن رجاله كلهم ثقات أجلاء، أخرج لهم الجماعة، إلا شيخه
فإنه من أفراده.
ومنها: أن شيخه، وإسحاق الأزرق هذا الباب أولُ محل ذكرهم.
ومنها: أن زكريا بن أبي زائدة سماعه من أبي إسحاق بآخره، لكن تابعه غيره في روايته عنه كما تقدم تفصيل ذلك في الحديث السابق. والله أعلم.
شرح الحديث
(عن البراء بن عازب) رضي الله عنهما، أنه (قال: قَدِمَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم) وكان قدومه يوم الاثنين، لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول حين اشتداد الضحا، وكادت الشمس تعتدل، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من مكة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، فالظاهر أن بين خروجه من مكة، ودخوله المدينة خمسة عشر يومًا، لأنه أقام بغار ثور ثلاثة أيام، ثم سلك طريق الساحل، وهو أبعد من طريق الجَادَّة. ذكره العيني في "العمدة".
(فصلى نحو بيت المقدس) أي جهته (ستة عشر شهرًا) بدون شك، وقد تقدم تحقيق الكلام في الحديث السابق (ثم إِنه) صلى الله عليه وسلم (وُجِّهَ) بالبناء للمفعول، أي أمره الله تعالى بالتوجه (إِلى) جهة (الكعبة، فمر رجل) هو عَبَّاد بن بِشْر بن قَيْظِيّ، كما رواه بن مَنْدَه من حديث تُوَيْلَةَ بنتِ أسْلَمَ، وقيل: هو عَبَّاد بن نَهيِك -بفتح النون، وكسر
الهاء- (قد صلى) جملة في موضع جر صفة لرجل (مع النبي صلى الله عليه وسلم)
متعلق بصَلَّى (على قوم) متعلق بمَرَّ (من الأنصار) متعلق بمحذوف صفة لقوم. قيل: هم من بني سَلمَةَ، قال البدر العيني، رحمه الله عند قوله:"فمر على أهل مسجد". ما نصه: هؤلاء ليسوا أهل قباء، بل أهل مسجد بالمدينة، وهو مسجد بني سَلمَةَ، ويعرف بمسجد القبلتين،
ومَرَّ عليهم الْمَارُّ في صلاة العصر، وأمَا أهل قباء، فأتاهم الآتي في صلاة الصبح. اهـ.
وقد اختلفت الروايات في تعيين الصلاة التي وقع فيها التحويل، والمسجد الذي أتاهم الآتي فيه فوقع في رواية البراء أنها العصر، وهي رواية البخاري، ووقع في تفسير ابن أبي حاتم من طريق تُوَيْلَةَ بنت أسلم "صليت الظهر، أو العصر في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد إيلياء، فصلينا سجدتين -أي ركعتين- ثم جاءنا من يُخْبرُنَا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام".
وذكر ابن سعد في الطبقات، قال: يقال: إنه صلى ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين، ثم أمرَ أن يَتَوَجَّهَ إلى المسجد الحرام، فاستدار إليه، ودار معه المسلمون.
ويقال: زَارَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أم بِشْرِ بنِ البراء بن مَعْرُور في بني سَلمَة، فَصَنَعَت له طعامًا، وحانت الظهر، فصلى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بأصَحابه
ركعتين، ثم أمِرَ، فاستدار إلى الكعبة، واستَقْبَلَ الميَزابَ، فسمي
مسجد القبلتين، قال ابن سعد: قال الواقدي: هذا أثبت عندنا.
وأخرج ابن أبي داود بسند ضعيف عن عُمَار بن رُوَيْبَةَ، قال:"كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العَشِيِّ حين صُرِفَت القبلةُ، فدار، وَدُرنَا معه في ركعتين".
وأخرج البزار من حديث أنس: "انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيت
المقدس -وهو يصلي الظهر- بوجهه إلى الكعبة"، وللطبراني نحوه من وجه آخر عن أنس، وفي كل منهما ضعف. اهـ. "فتح". وقال في موضع آخر عند رواية ابن عمر رضي الله عنهما "في صلاة الصبح": ما نصه: وهذا فيه مغايرة لحديث البراء، فإن فيه أنهم كانوا في صلاة العصر، والجواب أنه لا منافاة بين الخبرين، لأن الخبر وصل وقت العصر إلى من هو داخل المدينة، وهم بنو حارثة، وذلك في حديث البراء، والآتي إليهم بذلك عَبَّاد بن بِشْر، أو ابن نَهِيك، كما تقدم، ووصل الخبر وقت الصبح إلى من هو خارج المدينة، وهم بنو عمرو بن عوف، أهل قباء، وذلك في حديث ابن عمر، ولم يُسَمَّ الآتي إليهم، وإن كان ابن طاهر وغيره نقلوا أنه عباد بن بشر، ففيه نظر، لأن ذلك إنما ورد في حق بني حارثة في صلاة العصر، فإن كان ما نقلوا محفوظًا، فيحتمل أن يكون عباد أتى بني حارثة أوَّلًا في وقت العصر، ثم توجه إلى أهل قباء، فأعلمهم بذلك في وقت الصبح.
ومما يدل على تعددهما أن مسلمًا رَوَى من حديث أنس "أن رجلًا
من بني سَلِمَةَ مَرَّ، وهم ركوع في صلاة الفجر" فهذا موافق لرواية ابن عمر في تَعيين الصلاة، وبنو سلمة غير بني حارثة. اهـ. فتح جـ 1 ص 103.
(فقال) الرجل (أشهد) أي أحلف، قال الجوهري: يقال: أشهد بكذا، أي أحلف به. وفي رواية البخاري "أشهد بالله"(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجه) أي أمر بالتوجه (إِلى الكعبة، فانحَرفوا) أي تحول القوم الذين أخبرهم الرجل (إِلى) جهة (الكعبة) ووقع بيان كيفية التحول في حديث تُوَيْلَة بنت أسْلَم عند ابن أبي حاتم، وقد تقدم
بعضه قريبًا، وقالت فيه:"فتحول النساء مكان الرجال، والرجال مكان النساء، فصلينا السجدتين الباقيتين إلى البيت الحرام".
قال الحافظ رحمه الله: وتصويره أن الإمام تحول من مكانه في مُقَدَّم المسجد إلى مؤخر المسجد؛ لأن من استقبل الكعبة استدبر بيت المقدس، وهو لَوْ دَارَ كما هو في مكانه لم يكن خلفه مكان يَسَعُ الصفوف، ولما تحوَّل الإمَامُ تحولت الرجال حتى صاروا خلفه، وتحولت النساء حتى صِرْنَ خَلْفَ الرجال، وهذا يَسْتَدْعِي عَمَلًا كثيرًا في الصلاة، فيحتمل أن يكون ذلك وقع قبل تحريم العمل الكثير، كما كان قبل تحريم الكلام، ويحتمل أن يكون اغْتُفرَ العملُ المذكور من أجل المصلحة المذكورة، أو لم تتوالى الخُطَا عند التحويل، بل وقعت مُفَرَّقَة. والله أعلم. اهـ. "فتح" جـ 2 ص 604.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (489)، وفي "الكبرى" في "التفسير"(11000) عن محمد ابن إسماعيل بن إبراهيم، عن إسحاق الأزرق، عن زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عنه.
وفي "الكبرى" في "التفسير"(11003) عن محمد بن حاتم بن نعيم، عن حِبَّان بن موسى، عن ابن المبارك، عن شريك، عن أبي إسحاق، عنه. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه.
تقدم في الحديث السابق (488) أن الشيخين أخرجاه من طريق الثوري، عن أبي إسحاق به.
وأخرجه البخاري في "الإيمان" عن عمرو بن خالد، وفي "التفسير" عن أبي نعيم، وفي "الصلاة" عن عبد الله بن رَجَاء، وفي "خبر الواحد" عن يحيى، عن وكيع - الأربعة عن أبي إسحاق، عنه.
وأخرجه مسلم أيضًا عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي الأحوص سَلاَّم بن سُلَيم، عن أبي إسحاق، عنه.
وأخرجه الترمذي في "الصلاة"، وفي "التفسير" عن هَنَّاد، عن وَكِيعٍ، عن أبي إسحاق، عنه.
وأخرجه أبو عوانة في "صحيحه" من رواية عَمَّار رُزَيق، عن أبي إسحاق، عنه.
وأخرجه أحمد من حديث ابن عباس بسند صحيح.
والبَزَّارُ، والطبراني من حديث عَمْرِو بن عُوْفٍ.
والطبرانيُّ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. انظر "الفتح" جـ 1 ص 120. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو فرضية استقبال القبلة، وموضع الاستدلال قوله:"وصُرِفَ إلى القبلة"، في الحديث الأول، وقوله:"ثم إنه وجه إلى الكعبة" في الحديث الثاني، وذلك لأن معنى "صرف" و"وُجِّهَ" أن الله صرفه، وأمره بالتوجه إليها، بقوله:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] وهذا الأمر للوجوب، فيجب استقبال الكعبة في الصلاة، إلا فيما استثني، كما يأتي، وهذا بالإجماع.
ومنها: جواز نسخ الأحكام، وهو إجماع عند المسلمين.
ومنها: أن فيه جواز نسخ السنة بالقرآن، وهو رأي الجمهور، وللشافعي فيه قولان.
ومنها: أنه يدل على قبول خبر الواحد.
ومنها: جواز الصلاة الواحدة إلى جهتين.
ومنها: أن حكم النسخ لا يثبت في حق المكلف حتى يبلغه؛ لأن أهل قباء لم يؤمروا بالإعادة مع كون الأمر باستقبال الكعبة وقع قبل صلاتهم تلك بصلوات.
ومنها: ما استنبطه الطحاوي رحمه الله من أن مَن لم تَبْلُغْهُ الدعوةُ، ولم يمكنه استعلام ذلك، فالفرض غير لازم له.
ومنها: جواز الاجتهاد في زمنه صلى الله عليه وسلم، لأنهم لما تَمَادَوْا في الصلاة ولم يقطعوها، دَلَّ على أنه رَجَح عندهم التَّمَادِي والتَّحَوُّلُ على القطع والاستئنافِ، ولا يكون ذلك إلا عن اجتهاد، كذا قيل.
قال الحافظ: وفيه نظر لاحتمال أن يكون عندهم في ذلك نص سابق، لأنه صلى الله عليه وسلم كان مترقبًا التحول المذكور، فلا مانع أن يعلمهم ما صنعوا من التمادي والتحول.
قال الجامع: في هذا النظر نظر، إذ لا دليل يدل على هذا االمُدَّعَى، فالظاهر هو الأول، فتبصر.
ومنها: وجوب العمل بخبر الواحد، ونسخ ما تقرر بطريق العلم به، لأن صلاتهم إلى بيت المقدس كانت عندهم بطريق القطع، لمشاهدتهم صلاته صلى الله عليه وسلم إلى جهته، ووقع تحولهم عنها إلى جهة الكعبة
بخبر الواحد.
وأجيب بأن الخبر المذكور احتفت به قرائن، ومقدَّمات أفادت القطع عندهم بصدق ذلك المُخْبِرِ، فلم ينسخ عندهم ما يفيد العلم إلا بما يفيد العلم.
قال الجامع -عفا الله عنه-: في هذا الجواب نظر، إذ لا دليل عليه، فالظاهر أن النسخ وقع بخبر الواحد، لإفادته العلم عندهم، وقد ذكرتُ اختلافَ أهل العلم في إفادة خبر الواحد العلمَ في شرحي الكبير على ألفية السيوطي في الحديث، وذكرت ترجيح إفادته بدلائله، فارجع إليه، فإنه نفيس جِدًا، والله أعلم.
وقيل: كان النسخ بخبر الواحد جائزًا في زمنه صلى الله عليه وسلم مطلقًا، ومنع
بعده. وفيه أنه يحتاج إلى دليل.
ومنها: جواز تعليم من ليس في الصلاة لمن هو فيها، وأن استماع المصلي لكلام من ليس فيها لا يفسد الصلاة. والله أعلم. راجع "الفتح" جـ 1 ص 604، و"عمدة القاري" جـ 3 ص 136.
المسألة الحامسة: أنه اختلف العلماء في كيفية استقباله صلى الله عليه وسلم بيت
المقدس على ثلاثة أقوال:
الأول: أنه كان باجتهاد منه، وبه قال الحسن، وعكرمة، وأبو العالية.
الثاني: أنه كان مُخَيَّرًا بينه وبين الكعبة، فاختار القدس طمعًا في إيمان اليهود واستمالتهم، قاله الطبري، وقال الزجاج: امتحانًا للمشركين، لأنهم ألِفُوا الكعبةَ.
الثالث: ما عليه الجمهور؛ ابن عباس وغيرُهُ، أنه وجب عليه استقباله بأمر الله تعالى ووحيه لا محالة، ثم نسخ الله ذلك، وأمره أن يستقبل الكعبة، واستدلوا بقوله تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143] الآية
(1)
.
قال الجامع: ما قاله الجمهور هو الصحيح، لظهور دليله. والله أعلم.
المسألة السادسة: أنه اختلف العلماء أيضًا حين فرضت الصلاة أوَّلًا بمكة، هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل بيت المقدس، أم يستقبل الكعبة؟
على قولين:
فذهبت طائفة إلى الأول، قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
وذهبت طائفة إلى الثاني، وأنه لم يزل يصلي إلى الكعبة طول مُقَامِهِ بمكة على ما كانت عليه صلاة إبراهيم، وإسماعيل، فلما قَدمَ المدينةَ صَلَّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، على
(1)
تفسير القرطبي جـ 2 ص 150 بتصرف.
الخلاف، ثم صرفه الله إلى الكعبة
(1)
.
قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: وهذا أصح القولين عندي، ثم أخرج بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:"كان أول ما نسخ الله من القرآن القبلة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة -وكان أكثر أهلها اليهود- أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرًا"، وكان عليه السلام يحب قبلة إبراهيم، وكان يدعو الله، وينظر إليها، فأنزل الله:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} إلى قوله: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
شَطْرَهُ} يعني نحوه، فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: ما وَلاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} وقال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ، وقال تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} .
قال ابن عباس: ليميز أهل اليقين من أهل الشك والريبة، وقال تعالى:{وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} يعني تحويلها على أهل الشك، لا على الخاشعين، يعني المصدقين بما أنزل الله.
ثم أخرج بسنده أيضًا عن أبي العالية في قوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} يعلمون أن الكعبة المسجد الحرام
(1)
تفسير القرطبي جـ 2 ص 150.
كانت قبلة إبراهيم والأنبياء عليهم السلام، ولكنهم تركوها عمدًا، وقوله:{وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يكتمون صفة محمد عليه السلام، ويكتمون أن الكعبة البيت الحرام، ثم قال لنبيه عليه السلام {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} يقول: لا تكن في شك يا محمد أن الكعبة قبلتك، وكانت قبلة الأنبياء قبلك.
ثم أخرج عن أبي العالية أن موسى عليه السلام كان يصلي عند الصخرة، ويستقبل الكعبة، والصخرة بين يديه، وعن أبي العالية، قال: صليت في مسجد صالح، وقبلته الكعبة، وعنه أنه رَأى مسجد ذي القرنين، وقبلته الكعبة. اهـ. كلام ابن عبد البر بنوع اختصار من "الاستذكار" جـ 2 ص 32، 33.
المسألة السابعة: قال العلامة القرطبي رحمه الله تعالى في هذه الآية -يعني آية نسخ القبلة- دليل واضح على أن في أحكام الله تعالى وكتابه ناسخًا ومنسوخًا، وأجمعت عليه الأمة، إلا من شَذَّ. وقال في موضع آخر: أنكرت طوائف من المنتمين للإسلام المتأخرين جوازه، وهم محجوجون بإجماع السلف السابق على وقوعه في الشريعة، وأنكرته أيضًا طوائف من اليهود، وهم محجوجون بما جاء في توراتهم بزعمهم أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام عند خروجه من السفينة: إني قد جعلت كل دابة مَأكَلًا لك ولذريتك، وأطلقت ذلك لكم كنبات العُشْب، ما خلا الدمَ، فلا تأكلوه، ثم قد حَرَّم على موسى وعلى بني إسرائيل كثيرًا من الحيوان، وبما كان آدم عليه السلام يزوج الأخ من
الأخت، وقد حَرَّمَ اللهُ ذلك على موسى عليه السلام وعلى غيره، وبأن إبراهيم الخليل أمِرَ بذبح ابنه، ثم قال له: لا تذبحه، وبأن موسى عليه السلام أمر بني إسرائيل أن يقتلوا مَنْ عَبَدَ منهم العِجْلَ، ثم أمرهم برفع السيف عنهم، وبأن نبوته غير مُتَعَبَّدٍ بها قبل بعثه، ثم تُعُبِّد بها بعد ذلك، إلى غير ذلك، وليس هذا من باب البداء، بل هو نقل العباد من عبادة إلى عبادة، وحُكْمٍ إلى حكم، لِضَرْب من المصلحة، إظهارًا لحكمته، وكمال مملكته، ولا خلاف بين العقلاء أن شرائع الأنبياء قُصِدَ بها مصالح الخلق الدينية والدنيوية، وإنما كان يلزم البداء لو لم يكن عالمًا بمآل الأمور، وأما العالِمُ بذلك فإنما تتبدل خطاباته بحسب تبدل
المصالح، كالطبيب المراعي أحوال العليل، فراعى ذلك في خليقته بمشيئته وإرادته، لا إله إلا هو، فخطابه يتبدل، وعلمه وإرادته لا تتغير، فإن ذلك محال في جهة الله تعالى
(1)
.
وقال القرطبي أيضًا: وأجمع العلماء على أن القبلة أول ما نسخ من القرآن، وأنها نسخت مرتين على أحد القولين المذكورين في المسألة قبلُ
(2)
. والله تعالى أعلم.
(1)
تفسير القرطبي جـ 2 ص 63 - 64.
(2)
المصدر نفسه جـ 2 ص 151.
المسألة الثامنة: في الحديث دليل على جواز نسخ السنة بالقرآن، قال البدر العيني رحمه الله: وهو جائز عند الجمهور من الأشاعرة والمعتزلة، وللشافعي فيه قولان، قال في أحد قوليه: لا يجوز، كما لا يجوز عنده نسخ القرآن بالسنة قولًا واحدًا، وقال عياض: أجازه الأكثر عقلًا وسمعًا، ومنعه بعضهم عقلًا، وأجازه بعضهم عقلًا، ومنعه سمعًا.
قال الإمام فخر الدين الرازي: قطع الشافعي، وأكثر أصحابنا، وأهل الظاهر، وأحمد في إحدى روايتيه بامتناع نسخ الكتاب بالسنة المتواترة، وأجازه الجمهور، ومالك، وأبو حنيفة، رضي الله عنهم.
واستدل المجوزون على المسألة الأولى بأن التوجه نحو بيت المقدس لم يكن ثابتًا بالكتاب، وقد نسخ بقوله تعالى:{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144].
وأجيب من جهة الشافعي بأنما هي نسخ قرآن بقرآن، وأن الأمر كان أوَّلًا بتخيير المصلي أن يُوَلِّيَ وجهه حيث شاء بقوله تعالى {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، ثم نسخ باستقبال القبلة.
وأجاب بعضهم بأن قوله تعالى {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} مجمل، فُسِّرَ بأمور: منها التوجه إلى بيت المقدس، فيكون كالمأمور به لفظًا في الكتاب، فيكون التوجه إلى بيت المقدس بالقرآن بهذه الطريقة، وباحتمال أن المنسوخ كان قرآنًا نسخ لفظه.
وقال بعضهم: النسخ كان بالسنة، ونزل القرآن على وفقها، ورد
الأول والثاني بأنا لو جوزنا ذلك لأفضى إلى أن لا يعلم ناسخ من منسوخ بعينه أصلًا، فإنهما يطردان في كل ناسخ ومنسوخ.
والثالث مجرد دعوى، فلا تقبل.
قالوا: قال الله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وصفه بكونه مبينًا، فلو جاز نسخ السنة بالقرآن لم يكن النبي مبينًا، واللازم باطل، فالملزوم مثله، أما الملازمة فلأنه إذا أثبت حكمًا، ثم نسخه الله تعالى بقوله لم يتحقق التبيين، لأن المنسوخ مرفوع لا مبين، لأن النسخ رفع، لا بيان.
وأما بطلان اللازم فلقوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] حيث وصفه بكونه مبينًا.
قلنا: لا نسلم الملازمة، لأن المراد بالتبيين البيان، ولا نسلم أن النسخ ليس ببيان، فإنه بيان لانتهاء أمر الحكم الأول، ولئن سلمنا أن النسخ ليس ببيان، وأن المراد منه بيان العام، والمجمل، والمنسوخ، وغيرها، لكن نسلم أن الآية تدل على امتناع كون القرآن ناسخًا للسنة.
وقالوا: لو جاز ذلك لزم تنفير الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن طاعته، لأنه يوهم أن الله تعالى لم يرض بما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم، واللازم باطل، لأنه مناقض للبعثة. فالملزوم كذلك.
قلنا: الملازمة ممنوعة، لأنه إذا علم أنه مبلغ فلا تنفير، ولا تنفر، لأن الكل من عند الله تعالى
(1)
.
(1)
انظر عمدة القاري جـ 1 ص 247.
قال الجامع عفا الله عنه: قد حقق هذه المسألة الإمام الجليل، والمجتهد النبيل أبو محمد بن حزم الظاهري رحمه الله تعالى في كتابه "الإحكام في أصول الأحكام"، ودونك عبارته، قال رحمه الله:
(فصل في نسخ القرآن بالسنة، والسنة بالقرآن)
قال أبو محمد: اختلف الناس في هذا بعد أن اتفقوا على جواز نسخ القرآن بالقرآن، وجواز نسخ السنة بالسنة، فقالت طائفة: لا تنسخ السنة بالقرآن، ولا القرآن بالسنة، وقالت طائفة: جائز كل ذلك، والقرآن ينسخ بالقرآن، وبالسنة، والسنة تنسخ بالقرآن وبالسنة.
قال أبو محمد: وبهذا نقول، وهو الصحيح، وسواء عندنا السنة المنقولة بالتواتر، والسنة المنقولة بأخبار الآحاد، كل ذلك ينسخ بعضه بعضًا، وينسخ الآيات من القرآن، وينسخه الآيات من القرآن، وبرهان ذلك ما بيناه في باب الإخبار من هذا الكتاب، من وجوب الطاعة لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، كوجوب الطاعة لما جاء في القرآن، ولا فرق، وأن كل ذلك من عند الله تعالى، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]، فإذا كان كلامه وحيًا من عند الله عز وجل، والقرآن وحي، فنسخ الوحي بالوحي جائز، لأن كل ذلك سواء في أنه وحي.
واحتج مَنْ مَنَعَ ذلك بقوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس: 15]، قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لأننا لم نقل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَدَّلَه من تلقاء نفسه وقائل هذا كافر،
وإنما نقول: إنه عليه السلام بَدَّلَه بوحي من عند الله تعالى، كما قال آمرًا له أن يقول:{إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15]، فَصَحَّ بهذا نصًا جواز نسخ الوحي بالوحي، والسنة وحي، فجائز نسخ القرآن بالسنة، والسنة بالقرآن.
واحتجوا أيضًا بقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، قالوا: والسنة ليست مِثْلًا للقرآن، ولا خيرًا منه.
قال أبو محمد: وهذا أيضًا لا حجة لهم فيه، لأن القرآن أيضًا ليس بعضه خيرًا من بعض، وإنما المعنى نأت بخير منها لكم، أو مثلها لكم، ولا شك أن العمل بالناسخ خير من العمل بالمنسوخ قبل أن ينسخ، وقد يكون الأجر على العمل بالناسخ مثل الأجر على العمل بالمنسوخ قبل أن ينسخ، وقد يكون أكثر منه، أو مثله، ولابد من أحد الوجهين، تفضلًا
من الله تعالى، لا إله إلا هو، علينا.
وأيضًا فإن السنة مثل القرآن في وجهين:
أحدهما: أن كلًا منهما من عند الله عز وجل على ما تلونا آنفًا من قوله تعالى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4].
والثاني: استواؤهما في وجوب الطاعة بقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، وبقوله تعالى:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59]، وإنما افترقا في أن لا يكتب في
المصحف غير القرآن، ولا يتلى معه غيره مخلوطًا به، وفي الإعجاز فقط. وليس في العالَم شيئان إلا وهما يشتبهان من وجه، ويختلفان من آخر، لابد من ذلك ضرورة، ولا سبيل إلى أن يختلفا من كل وجه، ولا أن يتماثلا من كل وجه، وإذ قد صح هذا كله، فالعمل بالحديث الناسخ أفضل وخير من العمل بالآية المنسوخة، وأعظم أجرًا، كما قلنا قبل، ولا فرق، وقد قال تعالى:{وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة: 221]، وقد تكون المشركة خيرًا منها في الجمال، وفي أشياء ممت الأخلاق ونحوها، وإن كانت المؤمنة خيرًا عند الله تعالى وهذا شيء يُعلَمُ حِسًا ومشاهدة، وبالله التوفيق.
واحتجوا أيضًا بقوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39].
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لأنه كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فالله عز وجل هو المثبت له، وهو تعالى الماحي به لما شاء أن يمحو من أوامره، وكلٌ من عند الله، وهذه الآية حجة لنا عليهم في أنه تعالى يمحو ما شاء بما شاء على العموم، ويدخل في ذلك السنة والقرآن.
واحتجوا أيضًا بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] قالوا: والمبين لا يكون ناسخًا.
قال أبو محمد: وهذا خطأ من وجهين:
أحدهما: ما قد بينا في أول الكلام في النسخ، من أن النسخ نوع
من أنواع البيان؛ لأنه بيان ارتفاع الأمر المنسوخ، وبيان إثبات الأمر الناسخ.
والثاني: أن قولهم: إن المبين لا يكون ناسخًا دعوى لا دليل عليها، وكل دعوى تَعَرَّت من برهان فهي فاسدة ساقطة.
واحتجوا بقوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} [النحل: 101] قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لأنه لم يقل تعالى: إني لا أبدل آية إلا مكان آية، وإنما قال لنا: إنه يبدل آية مكان آية، ونحن لم ننكر بل أثبتناه، وقلنا: إنه يبدل آية، ويفعل أيضا غير ذلك، وهو تبديل وحي -غير ذلك- متلو مكان آية، ببراهين أخرى، وكل ما أبطلنا به أقوالهم في دليل الخطاب، فهو مبطل لاحتجاجهم بهذه الآية.
واحتجوا بقوله تعالى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114]، قالوا: فإذا منعه الله تعالى من أن يبين القرآن من قبل أن يقضى إليه وحيه، فهو من نسخه أشد منعًا.
قال أبو محمد: وهذا شغب وتمويه، لأننا لم نجز قط أن يكون الرسول عليه السلام ينسخ الآيات من القرآن قبل أن يقضى إليه وحيُ نَسْخهَا، وقائل ذلك عندنا كافر، وإنما قلنا: إنه عليه السلام إذا قضى إليه رَبه تعالى وحيًا غير متلو بنسخ آية أبداه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس حينئذ بكلامه، فكان سنة مبلغة وشريعة لازمة ووحيًا منقولًا، ولا
يضره أن لا يسمى قرآنًا، ولا يكتب في المصحف، كما لم يضر ذلك سائر الشرائع التي ثبتت بالسنة، ولا بيان لها في القرآن من عدد ركوع الصلوات، ووجوه الزكوات، وما حرم من البيوع، وسائر الأحكام، وكل ذلك من عند الله عز وجل.
واحتج بعضهم بقوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} [النحل: 102] قال: وهذا لا يطلق إلا على القرآن.
قال أبو محمد: وهذا كله كَذِب من قائله وافتراء، وكل وحي أتَى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشريعة من الشرائع، فإذا
(1)
نزل به الروح القدس من ربه، وقد جاء نص الحديث بأن جبريل علحه السلام نزل فصلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا، حتى علمه الصلوات الخمس، وليس هذا في القرآن، وقد نزله روح القدس كما ترى. فبطل كل ما احتجوا به.
وقد قال الشافعي رحمه الله: إذا أحدث الله تعالى لنبيه عليه السلام أمرًا برفع سنة تقدمت أحدث النبي صلى الله عليه وسلم سنة تكون ناسخة لتلك السنة الأولى، فأنكر عليه بعض أصحابه هذا القول، فقال: لو جاز أن يقال- في وحي نزل ناسخًا لسنة تقدمت، فعمل بها النبي صلى الله عليه وسلم: إن عمله هذا نسخ السنة الأولى، لكان إذا عمل عليه السلام سنة، فنسخ بها سنة سالفة له، فعمل بها الناس- إن عمل الناس نسخ السنة الأولى،
(1)
هكذا النسخة، ولعل الصواب: فإنه نزل به روح القدس من ربه.
وهذا خطأ.
قال أبو محمد: وهذا اعتراض صحيح، والرسول صلى الله عليه وسلم مفترض عليه الانقياد لأمر ربه عز وجل، فإنما الناسخ هو الأمر الوارد من الله عز وجل، لا العمل الذي لابد منه، والذي إنما يأتي انقيادًا لذلك المطاع.
فيقال لمن خالفنا في هذه المسألة: أيفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يقول شيئًا من قِبَلِ نفسِه دون أن يوحى إليه به؟ فإن قال: نعم، كفر وكَذَّبَهُ ربه تعالى بقوله عز وجل:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]، وبقوله تعالى آمرًا له أن يقول:{إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15]، فلما بطل أن يكون فعله صلى الله عليه وسلم أو قوله إلا وحيًا، وكان الوحي ينسخ بعضه بعضًا، كانت السنة والقرآن ينسغ بعضها بعضًا.
قال أبو محمد: ومما يبين نسخ القرآن بالسنة بيانا لا خفاء به قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15]، ثم قال صلى الله عليه وسلم:"خذوا عَنِّي خذوا عَنِّي، قد جعل الله لهن سبيلًا: البكر بالبكر جَلْدُ مائة، وتغريب سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم"، فكان كلامه صلى الله عليه وسلم الذي ليس قرآنًا ناسخًا للحبس الذي ورد به القرآن.
فإن قال قائل: ما نسخ الحبس إلا قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2].
قيل له: أخطأت، لأن هذا الحديث يوجب بنصه أنه قبل نزول آية الجلد، لأنه بيان السبيل الذي ذكر الله تعالى، وأمر لهم باستماع تلك السبيل، وأيضًا فإن في الحديث التغريب والجلد، وليس ذلك في الآية التي ذُكِرَت، فالحديث هو الناسخ على الحقيقة، لا سيما إذا كان خصمنا من أصحاب أبي حنيفة، والشافعي، أو مالك، فإنهم لا يرون على الثيب جلدًا، إنما يرون الرجم فقط، فوجب على قولهم الفاسدِ ألا مدخل للآية المذكورة أصل في نسخ الأذى والحبس الذي كان حد الزناة والزواني.
فإن قال قائل منهم: ما نسخ الأذى والحبس إلا ما روي مما كان نازلًا، وهو:"الشيخ والشيخة، فارجموهما البتة"، قيل له، وبالله التوفيق: قد تركتَ قولك، ووافقتنا على جواز نسخ القرآن المتلوّ بما ليس مثله في التلاوة، وبما ليس مثله في أن يكتب في المصحف، فإذا جوزت ذلك، فكذلك كلامه صلى الله عليه وسلم بنص القرآن وحي غير متلوّ، وليس ذلك بمانع من أن ينسخ به.
ومما نَسَخَت فيه السنةُ القرآنَ قوله عز وجل: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]، فإن القراءة بخفض أرجلكم وفتحها، كلاهما لا يجوز إلا أن يكون معطوفًا على الرؤوس في المسح، ولابد، لأنه لا يجوز البتة أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه
بخبر غير الخبر عن المعطوف عليه، لأنه إشكال، وتلبيس، وإضلال،
لا بيان، لا تقول: ضربت محمدًا وزيدًا، ومررت بخالد وعمرًا، وأنت تريد أنك ضربت عمرًا أصلًا، فلما جاءت السنة بغسل الرجلين صح أن المسح منسوخ عنهما.
وهكذا عَمَلُ الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم كانوا يمسحون على أرجلهم حتى قال عليه السلام "ويل للأعقاب والعراقيب من النار"، وكذلك قال ابنُ عباس: نزل القرآن بالمسح.
قال أبو محمد: والنسخ تخصيص بعض الأزمان بالحكم الوارد دون سائر الأزمان، وهم يجيزون بالسنة تخصيص بعض الأعيان، مثل قوله عليه السلام:"لا قطع إلا في ربع دينار، فصاعدًا"، وما أشبه ذلك، فما الفرق بين جواز تخصيص بعض الأعيان بالسنة، وبين جواز
تخصيص بعض الأزمان بها؟ وما الذي أوجب أن يكون هذا ممنوعا، وذلك موجودًا؟
فإن قالوا: ليس التخصيص كالنسخ، لأن التخصيص لا يرفع النص، والنسخ يرفع النص كله، قيل لهم: إذا جاز رفع بعض النص بالسنة -وبعض النص نص- فلا فرق بين رفع نص آخر بها، وكل ذلك سواء، ولا فرق بين شيء منه.
قال أبو محمد: وقد أقروا، وثبت الخبر، بأن آيات كثيرة رفع رسمها البتة، ولا يجوز أن ترفع بقرآن، إذ لو رفعت بقرآن لكان ذلك القرآن موجودًا متلوًا، وليس في شيء من المتلوّ ذكر رفع لآية كذا مما
رفع البتة، فوجب ضرورة أن ما ارتفع
(1)
، وهذا نفس ما أجزنا من نسخ القرآن بالسنة، فإن قالوا: إنما رفع بالإنساء، قيل لهم: الإنساء ليس قرآنًا، وإنما هو فعل منه تعالى، وأمر بألا يتلى.
قال: ومما نسخ من القرآن بالسنة قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] نسخ بعضها قوله صلى الله عليه وسلم "لا وصية لوارث".
وقد قال قوم: إن آيات المواريث نسخت هذه الآية.
قال أبو محمد: وهذا خطأ محض، لأن النسخ هو رفع حكم المنسوخ ومضادّ له، وليس في آية المواريث ما يمنع الوصية للوالدين والأقربين، إذ جائز أن يرثوا ويُوصَى لهم مع ذلك من الثلث.
قال: ومما نسخ من السنة بالقرآن صُلْحُهُ صلى الله عليه وسلم أهلَ الحديبية إلى المدة التي كانت، ثم نسخ الله تعالى ذلك في سورة براءة، ولم يَجُزْ لنا صلح مشركٍ إلا على الإسلام فقط، حاشا أهل الكتاب، فإنه تعالى أجاز صلحهم على أداء الجزية مع الصَّغَار، وأبطلَ تعالى تلك الشروط كلها، وتلك المدة كلها، وبالله التوفيق. اهـ. ما قاله أبو محمد بن حزم في "الإحكام في أصول الأحكام" جـ 1 ص 518 - 525 باختصار. والله
تعالى أعلم.
(1)
هكذا النسخة، ولعل الصواب:"أنه ما ارتفع" أي أن ذلك المرفوع لم يرتفع بمتلوّ، بل إنما إرتفع بالسنة والله أعلم.
المسألة التاسعة: في الحديث دليل على جواز نسخ المتواتر بخبر الواحد، قال القاضي: وإليه مال القاضي أبو بكر وغيره من المحققين، ووجهه أن العمل بخبر الواحد مقطوع به، كما أن العمل بالقرآن والسنة المتواترة مقطوع به، وإن الدليل الموجب لثبوته أوّلًا غير الدليل الموجب لنفيه وثبوت غيره، قال البدر العيني: اختاره الإمام الغزالي، والباجي من المالكية، وهو قول أهل الظاهر. اهـ. انظر "العمدة" جـ 1 ص 247.
وقال العلامة القرطبي رحمه الله: وفيها -يعني الآية المذكورة في النسخ- دليل على جواز القطع بخبر الواحد، وذلك أن استقبال بيت المقدس كان مقطوعًا به من الشريعة عندهم، ثم إن أهل قباء لما أتاهم الآتي، وأخبرهم أن القبلة قد حُوِّلَت إلى المسجد الحرام قبلوا قوله، واستداروا نحو الكعبة، فتركوا المتواتر بخبر الواحد، وهو مظنون
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الصحيح الذي عليه المحققون أن خبر الواحد الصحيح يفيد العلم القطعي، وقد كتبت في تحقيق هذا الموضوع في شرحي على "ألفية السيوطي في الحديث" بحثًا طويلًا نفيسًا، وذكرت من رجح هذا الرأي من المحققين، وحججهم التي استندوا إليها، أسأل الله تعالى أن يوفقني لإكماله، ويسهل طبعه، وينفع به، إنه سميع قريب مجيب.
(1)
تفسير القرطبي جـ 1 ص 151.
المسأله العاشرة: أنه قال المازري: اختلفوا في النسخ إذا ورد متى يتحقق حكمه على المكلف، ويحتج بهذا الحديث لأحد القولين، وهو أنه لا يثبت حكمه حتى يبلغ المكلف، لأنه ذكر أنهم تحولوا إلى القبلة، وهم في الصلاة، ولم يُعيدُوا ما مضى، فهذا يدل على أن الحكم إنما يثبت بعد البلاغ، وقال غيره: فائدة الخلاف في هذه المسألة في أن ما فُعِلَ من العبادات بعد النسخ وقبل البلوغ هل يعاد أم لا؟ ولا خلاف أنه لا يلزم حكمه قبل تبليغ جبريل عليه السلام.
وقال الطحاوي رحمه الله: وفيه دليل على أن من لم يعلم بفرض الله، ولم تبلغه الدعوة، ولا أمكنه استعلام ذلك من غيره، فالفرض غير لازم، والحجة غير قائمة عليه.
وقال القاضي: قد اختلف العلماء فيمن أسلم في دار الحرب، أو أطراف بلاد الإسلام حيث لا يجد من يستعلم منه الشرائع، ولا علم أن الله فرض شيئًا من الشرائع، ثم بعد ذلك، هل يلزمه قضاء ما مَرَّ عليه من صيام وصلاة لم يعملها؟
فذهب مالك والشافعي في آخرين إلى إلزامه، وإنه قادر على الاستعلام، والبحث، والخروج إلى ذلك، وذهب أبو حنيفة إلى أن ذلك يلزمه إن أمكنه أن يستعلم، فلم يستعلم، وفَرَّطَ، وإن كان لا يحضره من يستعلمه، فلا شيء عليه، قال: وكيف يكون ذلك فرض
على من لم يفرضه
(1)
. اهـ "عمدة القاري" جـ 1 ص 247، 248.
وقال القرطبي رحمه الله بعد ذكر نحو ما تقدم، وترجيح القول بأن من لم يبلغه النسخ متعبد بالحكم الأول إلى أن يعلم بالنسخ ما نصه: وفائدة الخلاف: في عبادات فعلت بعد النسخ وقبل البلاغ هل تعاد، أم لا؟ وعليه تبنى مسائل الوكيل في تصرفه بعد عزل موكله، أو موته،
وقبل علمه بذلك - على قولين، وكذلك المُقارِض -أي المضارب-، والحاكم إذا مات من ولاه، أو عُزِلَ.
والصحيح أن ما فعله كل واحد من هؤلاء ينفذ فعله، ولا يُرَدّ حكمه.
قال القاضي عياض: ولم يختلف المذهب في أحكام من أعتِقَ، ولم يعلم بعتقه أنها أحكام حُرّ فيما بينه وبين الناس، وأما بينه وبين الله تعالى فجائزة، ولم يختلفوا في المعتقة أنها لا تعيد ما صلت بعد عتقها وقبل علمها بغير سَتْر، وإنما اختلفوا فيمن طرأ عليه موجب يُغَيّر حكم عبادته وهو فيها، قياسًا على مسألة قباء، فَمَنْ صلَّى على حال، ثم تغيرت به حاله تلك قبل أن يتم صلاته إنه يتمها، ولا يقطعها، ويجزيه ما مضى. وذلك كمن صلَّى عُرْيانًا، ثم وجد ثوبًا في الصلاة، أو ابتدأ صلاته صحيحًا فَمَرِضَ، أو مرض فصح، أو قاعدًا، ثم قَدَرَ على القيام، أو أمة عُتِقَت وهي في الصلاة أنها تأخذ قِنَاعَهَا وتبني.
(1)
هكذا النسخة: "وكيف يكون ذلك فرض على من لم يفرضه"، ولعل الصواب:"وكيف يكون ذلك فرضا على من لم يعلمه".
قال القرطبي: وكمن دخل في الصلاة بالتيمم، فطرأ عليه الماء إنه لا يقطع، كما يقوله مالك والشافعي -رحمهما الله- وغيرهما، وقيل: يقطع، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى. اهـ. "تفسير القرطبي" جـ 1 ص 152.
قال الجامع عفا الله عنه: الراجح عندي هو قول من قال: إن من لم يبلغه النسخ لا يلزمه الحكم إلا إذا علم، كما رجحه القرطبي، قال: لأن أهل قباء لم يزالوا يصلون إلى بيت المقدس إلى أن أتاهم الآتي، فأخبرهم بالناسخ، فمالوا نحو بيت الكعبة، فالناسخ إذا حصل
في الوجود فهو رافع لا محالة، لكن بشرط العلم به، لأن الناسخ خطاب، ولا يكون خطابًا في حق من لم يبلغه. اهـ. جـ 1 ص 152. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
23 - باب الْحَالِ الَّتِى يَجُوزُ فِيهَا اسْتِقْبَالُ غَيْرِ الْقِبْلَةِ
أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على الحالة التي يجوز التوجه فيها إلى غير الكعبة.
والحال: صفة الشيء، يُذَكَّر ويؤنث، فيقال: حال حسن، وحال حسنة، وقد يؤنث بالهاء؛ فيقال. حالة. قاله في "المصباح".
490 -
أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ، زُغْبَةُ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:"كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُسَبِّحُ عَلَى الرَّاحِلَةِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَتَوَجَّهُ، وَيُوتِرُ عَلَيْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ".
رجال الإسناد: ثمانية
1 -
(عيسى بن حماد زُغْبة) بن مسلم التُّجِيبي، أبو موسى الأنصاري، ثقة، توفي سنة 248، وقد جاوز 90 سنة، من [10]، وهو آخر من حَدَّث عن الليث من الثقات، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، تقدم في 135/ 211.
وزغبة: بضم الزاي، وسكون المعجمة بعدها موحدة: لقبه، وهو لقب أبيه أيضًا.
2 -
(أحمد بن عمرو بن السرح) المصري، أبو الطاهر، ثقة، توفي سنة 250، من [10]، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، تقدم في 35/ 39.
3 -
(الحارث بن مسكين) بن محمد بن يوسف مولى بني أمية، أبو عمرو المصري قاضيها، ثقة فقيه، توفي سنة 250، عن 96 سنة، من [10]، أخرج له أبو داود والنسائي، تقدم في 9/ 9.
4 -
(ابن وهب) هو عبد الله بن وهب بن مسلم، أبو محمد القرشي مولاهم المصري الفقيه، ثقة حافظ عابد، توفي سنة 197 عن 72 سنة، من [9]، أخرج له الجماعة، تقدم في 9/ 9.
5 -
(يونس) بن يزيد بن أبي النِّجَاد الأيْلِيِّ، أبو يزيد، ثقة، من كبار [7]، تقدم في 9/ 9.
6 -
(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري، الإمام الحجة، رأس الطبقة [4]، تقدم في 1/ 1.
7 -
(سالم) بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي، أبو عمر، أو أبو عبد الله المدني، أحد الفقهاء السبعة، كان ثبتًا عابدًا فاضلًا، كان يُشَبَّهُ بأبيه في الهدي والسمت، من كبار [3].
قال ابن المسيب: كان عبد الله أشبهَ ولدِ عمر به، وكان سالم أشبه ولد عبد الله به، وقال مالك: لم يكن أحد في زمان سالم بن عبد الله أشبه من مَضَى من الصالحين في الزهد والفضل والعيش منه، وقال الأصمعي عن ابن أبي الزناد: كان أهل المدينة يَكْرَهُون اتخاذَ أمهات الأولاد حتى نشأ فيهم القراء السادة: علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، ففاقوا أهل المدينة عِلْمًا وتُقىً وعبادةً وَوَرَعًا، فَرَغبَ الناسُ حينئذ في السراري. وقال عَلي بن الحسن العَسْقَلاني عن ابن المبارك: كان فقهاء أهل المدينة سبعة، فذكره فيهم. قال: وكانوا إذا جاءتهم المسألة دخلوا فيها جميعًا، فنظروا فيها، ولا يقضي القاضي حتى يرفع إليهم، فينظرون فيها، فيصدرون. وقال مالك: كان ابن عمر يخرج إلى السوق، فيشتري، وكان سالم دهره يشتري في الأسواق، وكان من أفضل أهل زمانه. وقال أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه: أصح الأسانيد: الزهري، عن سالم، عن أبيه. وقال الدوري عن ابن معين: سالم، والقاسم حديثهما قريب من السواء، وسعيد بن المسيب قريب منهما، وإبراهيم أعجب إلي مرسلاتٍ منهم.
وقال البخاري: لم يسمع من عائشة، وقال العجلي: تابعي ثقة، وقال ابن سعد: كان كثير الحديث عاليًا من الرجال. وقال أبو نعيم، وجماعة: مات سنة 106، في ذي القعدة، أو ذي الحجة، وقال خليفة
سنة 107، وقال الهيثم بن عدي: سنة 108، وقال الأصمعي: سنة 105، والأول أصح.
وقال ابن حبان في الثقات: كان يُشْبِهُ أباه في السَّمْت والهَدْي، وقال البخاري في التاريخ الصغير: لا أدري سالم عن أبي رافع صحيح، أم لا؟، وقال غيره: لما قَدِمَ سَبْيُ فارس على عمر كان فيه بنات يَزْدَجْرِد، فَقُوِّمن، فأخذهن علي، فأعطى واحدة لابن عمر، فولدت له سالمًا، وأعطى أختها لولده الحسين، فولدت له عليًا، وأعطى أختها لمحمد بن أبي بكر، فولدت له القاسم.
قال الحافظ رحمه الله. فرواية سالم عن عم أبيه زيد بن الخطاب منقطعة قطعا. والله أعلم. أخرج له الجماعة. اهـ تت جـ 3 ص 437 - 438.
8 -
(عبد الله بن عمر) بن الخطاب الصحابي الجليل رضي الله عنه تقدم في 12/ 12. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف.
ومنها: أن رواته كلهم ثقات أجلاء، اتفق الجماعة عليهم، إلا شيوخه الثلاثة؛ فالأولان لم يخرج لهما البخاري والترمذي، والثالث انفرد به هو وأبو داود.
ومنها: أنهم ما بين مصريين؛ وهم إلى يونس، ومدنيين؛ وهم من بعده.
ومنها: أن فيه رواية الابن عن أبيه.
ومنها: أن فيه أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وهو سالم.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي.
ومنها: أن فيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، رَوَى 2630 حديثًا.
ومنها: أن فيه من صيغ الأداء الإخبار، والعنعنة. والله تعالى أعلم.
تنبيه:
قوله: "زغبة" بدل من عيسى، أو عطف بيان له، وقوله:"قراءة عليه" منصوب على التمييز، وقوله:"وأنا أسمع" جملة حالية دي محل نصب من الضمير المنصوب دي أخبرنا، وقوله:"واللفظ له" أي لفظ الحديث الآتي للحارث، وأما عيسى وأحمد فروياه بالمعنى، وقد تقدم
البحث عن مثل هذا غير مرة. وبالله التوفيق.
شرح الحديث
(عن سالم) بن عبد الله (عن أبيه) عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح) أي يصلي النافلة.
قال في الفتح: وقد تكرر -يعني ذكر التسبيح- في الحديث كثيرًا، والتسبيح حقيقة في قول سبحان الله، فإذا أطلق على الصلاة فهو من باب إطلاق اسم البعض على الكل، أو لأن المصلي منزِّه لله سبحانه وتعالى بإخلاص العبادة، والتسبيح: التنزيه، فيكون من باب
الملازمة، وأما اختصاص ذلك بالنافلة فهو عرف شرعي. والله أعلم. اهـ. جـ 2 ص 670.
(على الراحلة) هي المركب من الإبل ذكرًا كان، أو أنثى، وبعضهم يقول: الراحلة الناقة التي تصلح أن تُرَحَّلَ، وجمعها رَوَاحِل. قاله في المصباح (قِبَلَ) -بكسر ففتح- وزان عِنَبٍ: أي جهة، متعلق بيسبح، وهو مضاف إلى قوله:(أيِّ وجه) أي جهة (تتوجه) أي تستقبل تلك الراحلة، وعند البخاري "تَوَجَّهَ" بتاء واحدة بصيغة الماضي، فالضمير للنبي صلى الله عليه وسلم.
وفيه دليل على جواز التنفل في السفر لغير القبلة، وهو يخصص قوله تعالى:{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، ويبين أن قوله تعالى:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، في النافلة، كما يأتي في الحديث التالي.
(ويوتر عليها) أي يصلي صلاة الوتر على الراحلة (غير أنه) صلى الله عليه وسلم (لا يصلي عليها المكتوبة) بالنصب مفعول يصلي، أي الصلاة الفريضة.
وفيه دليل على أن الوتر غير واجب، إذ لو كان واجبا لما جاز راكبا. وبه قال الجمهور؛ مالك، والشافعي، وأحمد، وهو مروي عن علي، وابن عمر، وعطاء بن أبي ربَاح، والحسن البصري رضي الله عنهم.
وخالف في ذلك الحنفية، فقالوا: لا يجوز الوتر إلا على الأرض، كما في الفرائض، وأحاديث الباب ترد عليهم، وسيأتي تحقيق المسألة في باب الوتر على الراحلة من كتاب قيام الليل (33/ 1686)، إن شاء الله تعالى. والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث ابن عمر رضي الله عنه هذا من طريق سالم؛ أخرجه مسلم، وعلقه البخاري.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (490) عن عيسى بن حماد، والحارث بن مسكين، وأحمد بن أبي السرح، وفي "الكبرى"(947) عن عيسى، كلهم عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن سالم، عنه. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه.
أخرجه البخاري تعليقًا ومسلم وأبو داود؛ فعلقه البخاري في "تقصير الصلاة"، قال: وقال الليث: حدثني يونس، عن ابن شهاب
عن سالم عنه. وأخرجه مسلم في "الصلاة" عن حرملة، عن ابن وهب، عن يونس، به. وأخرجه أبو داود في "الصلاة" عن أحمد بن صالح، عن ابن وهب، عن يونس، به. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو أن استقبال القبلة في التنفل غير لازم سفرًا.
ومنها: جواز النافلة على الدابة في السفر، وهو مجمع عليه.
ومنها: كون الوتر غير فرض لكونه يُصَلَّى على الراحلة، إذ لو كان فرضًا لما جاز راكبًا.
ومنها: عدم جواز الفرض على الراحلة، وإن كان في السفر. والله تعالى أعلم.
المسألة الخامسة: أنه أخذ بمضمون حديث ابن عمر رضي الله عنهما فقهاء الأمصار، فقالوا: يجوز التنفل في السفر لغير القبلة، إلا أن أحمد وأبا ثور كانا يستحبان أن يستقبل القبلة بالتكبير حال ابتداء الصلاة.
والحجة لهم حديث الجارود بن أبي سَبْرَة، عن أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يتطوع في السفر استقبل بناقته القبلة، ثم صَلَّى حيث وَجَّهَت رِكَابُهُ" أخرجه أبو داود، وأحمد، والدارقطني. وصححه ابن السكن. اهـ. "فتح" جـ 2 ص 670، و"التلخيص"
جـ 1 ص 214.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله الإمام أحمد، وأبو ثور هو الأولى لهذا الحديث. والله تعالى أعلم.
المسألة السادسة: أنه أجمع أهل العلم على جواز النافلة على الراحلة في السفر قِبَلَ مقصده كما قاله النووي، والعراقي، والحافظ، وغيرهم.
واختلفوا في جوازه في الحضر، فَجَوَّزه أبو يوسف، وأبو سعيد الإصطخري من أصحاب الشافعي، وأهل الظاهر، وقال ابن حَزْم: وقد روينا عن إبراهيم النخعي، قال: كانوا يصلون على رحالهم ودَوَابِّهم حيثما توجهت، قال: وهذه حكاية عن الصحابة والتابعين عمومًا في الحضر والسفر.
قال النووي: وهو محكي عن أنس بن مالك.
وقال العراقي: استدل من ذهب إلى ذلك بعموم الأحاديث التي لم تصرح بذكر السفر، وهو ماش على قاعدتهم أنه لا يحمل المطلق على المقيد، بل يعمل بكل منهما، فأما من يحمل المطلق على المقيد، وهم الجمهور، فحملوا الروايات المطلقة على المقيدة.
ثم إن الجمهور الذين يشترطون السفر قالوا بجواز التنفل على الراحلة سواء كان السفر طويلًا أو قصيرًا، وخالفهم في ذلك مالك،
فخصه بالسفر الذي تقصر فيه الصلاة، قال الطبري: لا أعلم أحدًا وافقه على ذلك، وقال الحافظ رحمه الله: ولم يتفق على ذلك عنه، وحجته أن هذه الأحاديث إنما وردت في أسفاره صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل عنه أنه سافر سفرًا قصيرًا، فصنع ذلك.
وحجة الجمهور مطلق الأخبار في ذلك.
وكأن السر في جواز التطوع على الراحلة تيسير تحصيل النوافل على العباد، وتكثيرها تعظيمًا لأجورهم رحمةً من الله بهم. انظر "الفتح" جـ 2 ص 670.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يترجح عندي القول بعدم جواز التنفل في الحضر، لأن التوجه إلى القبلة فرض في الصلاة مطلقًا بنص الكتاب، فلا يُسْتَثْنَى منه إلا ما استثناه النص، وهو حالة السفر، كما يأتي نصًا من حديثا ابن عمر رضى الله عنهما أن آية {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] نزلت في ذلك. والله أعلم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
491 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى دَابَّتِهِ، وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَفِيهِ أُنْزِلَتْ {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115].
رجال الإسناد: ستة
1 -
(عمرو بن علي) الفَلاس الصيرفي البصري أبو حفص، ثقة حافظ، توفي سنة 249، من [10]، تقدم في 4/ 4.
2 -
(محمد بن المثنى) أبو موسى العَنَزِيُّ البصري المعروف بالزَّمِنِ، ثقة ثبت، توفي سنة 252، من [10]، تقدم في 64/ 80.
3 -
(يحيى) بن سعيد القَطَّان البصري، ثقة مُتْقِن حافظ، توفي سنة 198، من كبار [9]، تقدم في 4/ 4.
4 -
(عبد الملك) بن أبي سليمان مَيْسَرَة العَرْزَميُّ، أبو محمد الكوفي، صدوق له أوهام، توفي سنة 145، من [5]، أخرج له البخاري تعليقا، ومسلم، والأربعة، تقدم في 406.
5 -
(سعيد بن جبير) الأسدي الكوفي الفقيه الثقة، من [3]، تقدم في 28/ 436.
6 -
(ابن عمر) عبد الله الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 12/ 12. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنها: أن رواته كلهم من رجال الجماعة، وكلهم ثقات نبلاء إلا عبد الملك، فمختلف فيه.
ومنها: أن شيخيه من مشايخ الستة.
ومنها: أنهم بصريون إلا عبد الملك وسعيدًا فكوفيان، وابن عمر فمدني.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي؛ عبد الملك عن سعيد. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن ابن عمر) رضي الله عنهما، أنه قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على دابته) أي يتنفل، بدليل قوله في الحديث الماضي:"غير أنه لا يصلي المكتوبة"(وهو) أي والحال أنه (مقبل من مكة إِلى المدينة) أراد به أنه كان يتنفل مستدبر القبلة، ولذا أتبعه قوله (وفيه) أي في هذا العمل الذي هو التنفل مع عدم استقبال الكعبة (أنزلت) آية
{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} "أين" ظرف متعلق بِتُوَلُّوا، و"ما" زائدة، وهو مضمن معنى الشرط، ولذا جُزِمَ به الشرطَ، والجواب، و "ثَمَّ" ظرف مكان للبعيد في محل النصب متعلق بمحذوف خبر لقوله:"وجه"، والجملة في محل جزم جواب الشرط.
وقد ذكر ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى اختلاف أهل العلم في معنى قوله {فَثَمَّ وَجْهُ} في تفسيره فأخرج بسنده عن النضر بن عربي، عن مجاهد، قال: قبلة الله، وأخرج عن إبراهيم، عن مجاهد، قال:
حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها.
وقال: وقال آخرون: معناه: فثم الله تبارك وتعالى، وقال آخرون: معناه: فثم تدركون بالتوجه إليه رضا الله الذي له الوجه الكريم، وقال آخرون: عَنَى بالوجه: ذا الوجه، وقال قائلو هذه
المقالة: وجه الله صفة له. اهـ. جـ 1 ص 506.
وقال قبل ذلك: وقال آخرون: بل أنزل الله هذه الآية قبل أن يفرض التوجه إلى الكعبة، وإنما أنزلها ليعلم نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن لهم التوجه بوجههم للصلاة حيث شاءوا من نواحي المشرق والمغرب، لأنهم لا يوجهون وجوههم وجهًا من ذلك وناحية إلا كان جَلَّ ثناؤه في ذلك الوجه، وتلك الناحية، لأن له تعالى المشارق والمغارب، وأنه لا يخلو منه مكان، كما قال تعالى:{وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7] قالوا: ثم نسخ ذلك بالفرض الذي فرض عليهم في التوجه إلى المسجد الحرام. اهـ. جـ 1 ص 502.
وتعقبه الحافظ ابن كثير قائلًا: وفي قوله: وأنه تعالى لا يخلو منه مكان: إن أراد علمه تعالى فصحيح، فإن علمه تعالى محيط بجميع المعلومات، وأما ذاته تعالى فلا تكون محصورة في شيء من خلقه، تعالى الله عن ذلك عُلُوًا كبيرًا. اهـ. "تفسير ابن كثير" جـ 1 ص 163، وبالله التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من رواية سعيد بن جبير أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (491) عن عمرو بن علي، ومحمد بن المثنى، كلاهما عن يحيى بن سعيد، عن عبد الملك بن أبي سليمان، وفي "الكبرى" في التفسير (10997) عن محمد بن آدم بن سليمان عن ابن المبارك، عن عبد الملك، به، بلفظ:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته، حيث توجهت به. ثم تلا هذه الآية، {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ". والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه مسلم، والترمذي؛ فأخرجه مسلم في "الصلاة" عن عبيد الله بن عمر القواريري، عن يحيى بن سعيد، وعن أبي كريب، عن ابن المبارك- ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة- وعن محمد بن عبد الله بن نمير، عن أبيه- كلهم عن عبد الملك به.
وأخرجه الترمذي في "التفسير" عن عَبْدِ بن حُمَيد، عن يزيد بن هارون، عن عبد الملك، به. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: مشروعية التطوع بالنوافل المطلقة بخلاف السنن الرواتب، وهذا هو القول الراجح، وسيأتي تحقيقه في موضعه إن شاء الله تعالى.
ومنها: عدم وجوب استقبال القبلة في التطوع، وقد تقدم البحث عنه قريبًا.
ومنها: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من إكثار الطاعة مع كونه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ شكرًا لله تعالى.
ومنها: أن القرآن نَزَلَ على النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا بعد شيء على حسب الحاجة إليه، حتى أكمل الله دينه، كما قال:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] الآية. والله تعالى أعلم.
المسألة الخامسة: أنه اختلف العلماء في المعنى الذي نزلت فيه هذه الآية على أقوال:
أحدها: هذا الذي ذكره ابن عمر رضي الله عنهما، وهو الأرجح كما يأتي.
الثاني: أنها نزلت فيمن صَلَّى إلى غير القبلة في ليلة مظلمة.
أخرج الترمذي بسنده عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة، فلم نَدْرِ أين القبلةُ؟ فصلى كل رجل منا على حِيَالِه، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم،
فنزلت {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} . لكن الحديث ضعيف، لضعف الأشعث السَّمَّان، قال الترمذي: يضعف في الحديث، وشيخه عاصم بن عبيد الله أيضًا ضعيف، قال البخاري: منكر الحديث، وقال ابن معين: ضعيف لا يحتج به، وقال ابن حبان: منكر الحديث.
الثالث: أنها نزلت في النجاشي لَمَّا صلَّى عليه النبي صلى الله عليه وسلم حين مات، أخرج ابن جرير رحمه الله بسنده عن قتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخًا لكم قد مات فَصَلُّوا عليه" قالوا: نصلي على رجل ليس بمسلم؟ قال: فنزلت {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} [آل عمران: 199] قال قتادة: فقالوا: إنه كان لا يصلي إلى القبلة، فأنزل الله {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]. قال الحافظ ابن كثير: وهذا غريب والله أعلم. اهـ. تفسير ابن كثير جـ 1 ص 162.
قال الجامع: وهو مرسل أيضًا، فهو ضعيف. والله أعلم.
الرابع: أنها نزلت لما أنكرت اليهود تحويل القبلة إلى الكعبة بعد ما كانت إلى بيت المقدس، فقالوا:{مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142] فَرَدَّ الله عليهم بقوله {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} يعني أن له أن يتعبد عباده بما شاء، فإن شاء وجههم إلى بيت المقدس، وإن شاء إلى الكعبة، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء: 23]
الخامس: أن الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] ذكره ابن عباس رضي الله عنهما.
السادس: أنها محكمة، والمعنى أينما كنتم من شرق وغرب، فثم وجه الله الذي أمركم باستقباله، وهو الكعبة، رُوي هذا عن مجاهد، والضحاك.
السابع: ما رُوِيَ عن مجاهد، وابن جبير: لما نزلت {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] قالوا: إلى أين؟ فنزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115].
الثامن: ما رُوِي عن ابن عمرو النخعي: أينما تولوا في أسفاركم، ومنصرفاتكم فثم وجه الله.
التاسع: قيل: هي متصلة بقوله تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114] الآية، فالمعنى أن بلاد الله أيها المؤمنون تَسَعُكُم، فلا يَمْنَعْكُمْ تخريبُ مَن خَرَّبَ مساجد الله أن تولوا وجوهكم نحو قبلة الله أينما كنتم من أرضه.
العاشر: أنها نزلت حين صُدَّ النبي صلى الله عليه وسلم البيت عام الحديبية، فَاغْتَمَّ المسلمون لذلك.
فهذه عشرة أقوال في هذه الآية مُلَخصة من "تفسير القرطبي". جـ 2 ص 79 - 83، وزيادة من "تفسير ابن كثير".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أرجح الأقوال عندي قول من
قال: إنها نزلت في الصلاة النافلة في السفر، لحديث الباب، فقد أخرجه مسلم كما تقدم، فيكون أصح من غيره، والله أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
492 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ.
قَالَ مَالِكٌ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ.
رجال الإسناد: أربعة
1 -
(قتيبة بن سعيد) الثقفي أبو رجاء البغلاني، ثقة ثبت، توفي سنة 244، من [10]، أخرج له الجماعة، تقدم في 1/ 1.
2 -
(مالك) بن أنس أبو عبد الله الإمام الحجة المدني، توفي سنة 179، من [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 7/ 7.
3 -
(عبد الله بن دينار) العدوي مولاهم أبو عبد الرحمن المدني ثقة، توفي سنة 127، من [4]، أخرج له الجماعة، تقدم في 167/ 260.
4 -
(ابن عمر) رضي الله عنهما تقدم في السابق. والله تعالى أعلم
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من رباعيات المصنف، وهو أعلى ما وقع له من الأسانيد، وهذا هو الموضع السادس عشر من رباعيات الكتاب.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات اتفق الجماعة عليهم.
ومنها: أنهم مدنيون إلا شيخه، فبغلاني.
ومنها: أنه لا يوجد في الكتب الستة من اسمه قتيبة إلا شيخه، وكذا من يسمى مالك بن أنس غير مالك الإمام. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن ابن عمر) رضي الله عنهما، أنه (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته) أي النافلة، كما تقدم تحقيقه (في) حال (السفر حيثما توجهت به) الباء للتعدية، أو المصاحبة، أي إلى أي جَهَةٍ وَجَّهَتْهُ، أو تَوَجَّهَتْ معه، والعائد إلى حيث محذوف، أي إليه، وحيث متعلق بيصلي. وقال ابن التين: مفهومه: أنه يجلس عليها على هيئته التي يركب عليها، ويستقبل بوجهه ما استقبلته، فتقديره: يصلي على راحلته التي له حيث توجهت به، فعلى هذا يتعلق قوله:"توجهت به" بقوله: "يصلي"، ويحتمل أن يتعلق بقوله:"على راحلته". لكن يؤيد الأول الرواية بلفظ "وهو على الراحلة يسبح قبَلَ أيّ وَجْه توجهت". ذكره في "الفتح" جـ 1 ص 668.
قال الحافظ رحمه الله: واستدل به على أن جهة الطريق تكون بدلًا عن القبلة، حتى لا يجوز الانحراف عنها عامدًا قاصدًا لغير حاجة المسير إلا إذا كان في غير جهة القبلة فانحرف إليها، فإنه لا يضره على الصحيح. واستُنبط من دليل التنفل للراكب جواز التنفل للماشي، ومنعه مالك مع أنه أجازه لراكب السفينة. اهـ. "فتح" جـ 2 ص 670.
(قال مالك) بن أنس رحمه الله (قال عبد الله بن دينار: كان ابن عمر) رضي الله عنهما (يفعل ذلك) أي المذكور من الصلاة على الراحلة في السفر اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
مسائل تتعلق به الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من رواية عبد الله بن دينار أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان موضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا بهذا السند فقط.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه مسلم في "الصلاة" عن يحيى بن يحيى، عن مالك، عن عبد الله بن دينار، عنه.
وبقية المسائل تقدمت في الحديثين السابقين، فارجع إليهما تَزْدَدْ
عِلْمًا. وبالله تعالى التوفيق.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
24 - بَابُ اسْتِبَانَةِ الْخَطأ بَعْدَ الاجْتِهَادِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على حكم اتضاح الخطأ في القبلة بعد الصلاة بالاجتهاد.
والاستبانة معناها الوضوح، قال الفيومي: رحمه الله تعالى في المصباح المنير: بَانَ الأمرُ، يَبِينُ، فهو بَيِّن، وجاء بَائِنٌ على الأصل، وأبَانَ إبَانَةً، وَبَيَّنَ، وَتَبَيَّنَ، وَاسْتَبَانَ، كُلُّهَا بمعنى الوضوح، والانكشاف، والاسمُ البَيَانُ، وجميعُها يُستَعمَلُ لازمًا ومتعديًا إلا الثلاثي، فلا يكون إلا لازمًا. اهـ. المقصود من كلامه. وفي "ق" بَانَ بَيَانًا: اتضح. اهـ.
قال الجامع عفا الله عنه: المناسب هنا المعنى اللازم. والله أعلم.
493 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ جَاءَهُمْ آتٍ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ، فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ، فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ.
هذا الإسناد هو الإسناد الذي مضى في الحديث السابق، فلا حاجة إلى إعادة الكلام عليه، وهو السابع عشر من رباعيات الكتاب.
شرح الحديث
(عن) عبد الله (بن عمر) رضي الله عنهما أنه (قال: بينما الناسُ)"بينما" هي "بين" الظرفية اتصلت بها "ما" الكافة، كقوله:(من الخفيف)
بَيْنَمَا نَحْنُ بِالأرَاكِ مَعًا
…
إِذ أتَى رَاكِبٌ عَلَى جَمَلِهْ
وقيل: "ما" زائدة، و "بين" مضافة إلى الجملة بعدها، وقيل: زائدة، و "بين" مضافة إلى زمن محذوف مضاف إلى الجملة، أي بين أوقات الناس بقباء، والأقوال الثلاثة تجري في "بين" مع الألف في نحو قوله:
فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالأمْرُ أمْرُنَا
…
إذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ لَيْسَ نَنْتَصِفْ
(1)
وقوله "الناسُ" مبتدأ، وقوله (بقباء) جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر للمبتدإ.
وقباء: موضع بقرب مدينة النبي صلى الله عليه وسلم من جهة الجَنُوب نحو ميلين،
وهو بضم القاف، يقصر، ويمد، ويصرف، ولا يصرف. قاله في المصباح.
وقال في الفتح: قباء بالمد والصرف، وهو الأشهر، ويجوز القصر،
(1)
انظر مغني اللبيب بحاشية الأمير جـ 2 ص 10.
وعدمُ الصرف، وهو يذكر، ويؤنث، موضع بظاهر المدينة، والمراد هنا مسجدُ أهلِ قباءَ، ففيه مجازُ الحذف، واللام في الناس للعهد الذهني، والمراد أهل قباء، ومن حَضَرَ معهم. اهـ. جـ 1 ص 603.
(في صلاة الصبح) ولمسلم "في صلاة الغداة"، وهو أحد أسمائها، وقد نَقَلَ بعضهم كراهية تسميتها بذلك.
وهذا فيه مغايرة لحديث البراء المتقدم، فإن فيه أنهم كانوا في صلاة العصر، والجواب أنه لا منافاة بين الخبرين، لأن الخبر وصل وقت العصر إلى من هو داخلَ المدينة، وهم بنو حارثة، وذلك في حديث البراء، ووصل الخبر وقت الصبح إلى من هو خارجَ المدينة، وهم بنو عمرو بن عوف، أهلُ قباء، وذلك في حديث ابن عمر هذا. أفاده في الفتح.
(جاءهم آتٍ) قال في "الفتح": ولم يُسَمَّ الآتي بذلك إليهم، وإن كان ابن طاهر وغيرُه نقلوا أنه عباد بن بشر ففيه نظر، لأن ذلك إنما ورد في حق بني حارثة في صلاة العصر، فإن كان ما نقلوا محفوظًا، فيحتمل أن يكون عبادٌ أتى بني حارثة أوَّلًا في وقت العصر، ثم تَوَجَّهَ
إلى أهل قباء، فأعلمهم بذلك في وقت الصبح، ومما يدل على تعددهما أن مسلمًا رَوَى من حديث أنس "أن رجلًا من بني سَلِمَةَ مَرَّ، وهم راكعون في صلاة الفجر" فهذا موافق لرواية ابن عمر في تعيين الصلاة، وبنو سَلِمَةَ غيرُ بني حارثة.
(فقال) ذلك الآتي (إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُنْزِلَ عليه) بالبناء للمفعول، ونائب الفاعل ضمير يعود إلى المعلوم من السياق، وقد بَيَّنَ ذلك في رواية أخرى، فعند البخاري "قد أنْزِلَ عليه الليلةَ قرآن" قال في الفتح: فيه إطلاق الليلةِ على بعض اليوم الماضي والليلة التي تليه مجازًا، والتنكيرُ في قوله "قرآن" لإرادة البعضية، والمراد قوله
تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ
…
} [البقرة: 144] الآيات اهـ. جـ 1 ص 603.
(وقد أمر) بالبناء للمفعول أيضًا، أي أمره الله في تلك الآيات المُنْزَلَة عليه (أن يستقبل)"أن" مصدرية، والفعل في تأويل المصدر مجرور بحرف جر محذوف قياسًا، أي بالاستقبال (الكعبةَ) منصوب على المفعولية. سُمِّيَ البيت الحرام كعبة لارتفاعه، وقيل: لتربيعه، قال في المصباح في مادة "كَعَبَ" وكَعَبَت المرأة تَكْعُبُ، من باب قَتَلَ، كِعَابَةً: نَتَأ ثَدْيُها، فهي كاعب، وسميت الكعبة بذلك لنُتُوْئِها، وقيل: لتربيعها وارتفاعها. اهـ.
قال في الفتح: وفيه أنَّ ما أمرَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم يلزم أمَّتهُ، وأنَّ أفعاله يتأسى بها، كأقواله حتى يقوم دليل الخصوص. اهـ.
(فاستقبَلُوهَا) بفتح الموحدة للأكثر، أي فتحولوا إلى جهة الكعبة، والواو في "استقبلوا" لأهل قباء، وقوله (وكانت وجوههم إِلى الشام) تفسير من الراوي للتحول المذكور، ويحتمل أن يكون
الواو ضَمِيرَ النبي صلى الله عليه وسلم، ومن معه، وضمير "وجوههم" لهم، أو لأهل قباء على الاحتمالين. أفاده في "الفتح".
وقال النووي رحمه الله: "فاستقبلوها"- بكسر الباء، وفتحها، والكسر أصح، وأشهر، وهو الذي يقتضيه تمام الكلام بعده. اهـ.
قال الحافظ رحمه الله تعالى: وفي رواية الأصيلي "فاستقبلوها" -بكسر الموحدة- بصيغة الأمر، ويأتي في ضمير "وجوههم" الاحتمالان المذكوران، وعوده إلى أهل قباء أظهر، ويرجح رواية الكسر أنه عند البخاري في التفسير من رواية سليمان بن بلال عن عبد الله بن دينار في هذا الحديث بلفظ "وقد أمِرَ أن يستقبلَ الكعبةَ، ألا فاستقبلُوها"، فدخول حرف الاستفتاح يشعر بأن الذي بعده أمر، لا أنه بقية الخبر الذي قبله. والله أعلم. اهـ. "فتح" جـ 1 ص 604.
(فاستداروا إِلى الكعبة) أي توجهوا إلى القبلة المأمور بها، وهي الكعبة، وقد تقدم الكلام في كيفية تحولهم في شرح حديث (489) فارجع إليه تزدد علمًا. وبالله تعالى التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكره عند المصنف:
أخرجه هنا (493) وفي "التفسير" في "الكبرى"(11002) عن قتيبة، عن مالك، عن عبد الله بن دينار، عنه.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري ومسلم؛ فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن عبد الله ابن يوسف -وفي "التفسير" عن يحيى بن قَزَعَةَ- وقتيبة -فَرَّقهما- وفي "خبر الواحد" عن إسماعيل بن أبي أويس- وأخرجه مسلم في "الصلاة" عن قتيبة- أربعتهم عن مالك، به. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في بعض فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو أن من استبان له خطؤه في استقبال القبلة مجتهدًا لا يعيد الصلاة، ووجه الدلالة من الحديث أنَّ أهل قباء لما صَلَّوا أول تلك الصلاة إلى القبلة المنسوخة جاهلين بوجوب التحول عنها، وأجزأ عنهم مع ذلك، حيث لم يُؤمَرُوا بالإعادة كان المخطئ بعد الاجتهاد مثلهم. وهذا القول الراجح في المسألة، كما يأتي تحقيقه في المسألة التالية إن شاء الله تعالى.
وأما بقية الفوائد فقد تقدمت في الباب الماضي، فارجع إليها تزدد علمًا. والله ولي التوفيق.
المسألة الخامسة: في اختلاف العلماء فيمن اجتهد في القبلة، فصلى إلى غيرها، فهل يعيد الصلاة، أم لا؟
ذهب إبراهيم النخعي، والشعبي، وعطاء، وسعيد بن المسيب، وحماد إلى أنه لا يعيد، وبه قال الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه، وإليه ذهب البخاري؛ حيث قال في الصحيح:"باب ما جاء في القبلة، ومَن لا يَرَى الإعادة على مَن سَهَا، مصلى إلى غير القبلة"، "وقد سَلَّم النبي صلى الله عليه وسلم في ركعتي الظهر، وأقبل على الناس بوجهه، ثم إنه أتَمَّ ما بقي" اهـ.
وعن مالك كذلك، وعنه يعيد في الوقت استحبابًا، وقال ابن المنذر: وهو قول الحسن، والزهري.
وقال المغيرة: يعيد أبدًا، وعن حميد بن عبد الرحمن وطاوس والزهري: يعيد في الوقت.
وقال الشافعي: إن فرغ من صلاته، ثم بان له أنه صلى إلى المغرب استأنف الصلاة، وإن لم يَبِنْ له ذلك إلا باجتهاده، فلا إعادة عليه. وفي التوضيح: وقال الشافعي: إن لم يتيقن الخطأ فلا إعادة عليه، وإلا أعاد. أفاده البدر العيني رحمه الله في "عمدته" جـ 4 ص 143.
قال الجامع عفا الله عنه: أرجح الأقوال عندي القول الأول وهو الذي رجحه البخاري رحمه الله كما مر آنفًا، لحديث الباب، ووجه دلالته عليه من حيث إن الخطأ والجهل متشابهان، فيكون حكمهما واحدًا. ولِمَا استَدَلَّ به البخاري من أنه صلى الله عليه وسلم سَلَّم في ركعتي الظهر
…
الخ، وهو طرف من حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين، وهو
موصول في الصحيحين من طرق، لكن قوله:"وأقبل على الناس" ليس في الصحيحين بهذا اللفظ موصولًا، لكنه في الموطأ من طريق أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ووجه الاستدلال به من جهة أنَّ بناءه على الصلاة دال على أنه في حال استدباره القبلة كان في حكم المصلي، ويؤخذ منه أن من ترك الاستقبال ساهيًا لا تبطل صلاته. أفاده في "الفتح" جـ 1 ص 602.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
6 - كِتَابُ الْمَوَاقِيتِ
أي هذا كتاب في ذكر الأحاديث الدالة على مواقيت الصلاة.
والمواقيت جمع مِيقَات، وأصله: مِوْقات، بالواو، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، ولهذا ظهرت في الجمع، فقيل: مواقيت، ولم يُقَلْ: مياقيت. اهـ. المستعذب في تفسير ألفاظ المهذب جـ 1 ص 52.
وفي المصباح: المِيقَاتُ: الوَقْت، وهو مِقْدَارٌ من الزمان مفروض لأمْرٍ مَا، وكل شيء قَدرت له حِينًا فقد وَقَّتَّهُ تَوْقِيتًا، وكذلك ما قَدَّرْتَ له غاية، والجمع: مَوَاقِيت. اهـ. بتصرف.
494 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخَّرَ الْعَصْرَ شَيْئًا، فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ: أَمَا إِنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام قَدْ نَزَلَ، فَصَلَّى أَمَامَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عُمَرُ: اعْلَمْ مَا تَقُولُ يَا عُرْوَةُ، فَقَالَ: سَمِعْتُ بَشِيرَ بْنَ أَبِي مَسْعُودٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا مَسْعُودٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "نَزَلَ جِبْرِيلُ، فَأَمَّنِي فَصَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ، يَحْسُبُ بِأَصَابِعِهِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ".
رجال الإسناد: ست
1 -
(قتيبة) بن سعيد البَغْلاني، تقدم في السند السابق، أخرج له الجماعة.
2 -
(الليث بن سعد) بن عبد الرحمن، أبو الحارث الفَهْمي المصري، ثقة ثبت فقيه، إمام مشهور، توفي في شعبان سنة 175، من [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 31/ 35.
3 -
(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري المدني الإمام الحجة من [4]، أخرج له الجماعة، تقدم في 1/ 1.
4 -
(عروة) بن الزبير بن العوَّام الفقيه المدني ثقة مشهور، توفي سنة 94، من [2]، تقدم في 40/ 44.
5 -
(بشير بن أبي مسعود) عقبة بن عَمْرو الأنصاري المدنى، له رؤية، وقال العِجْلي: تابعي ثقة.
وفي "تت": روى عن أبيه، وعنه ابنه عبد الرحمن، وعروة بن الزبير، وهِلَالُ بنُ جَبْرٍ، ويونس بن ميسرة بن حَلْبَس، وذكره ابن حبان في "الثقات" في التابعين، وكذا البخاري، ومسلم، وأبو حاتم الرازي. وَرَوى ابنُ منده من طريق سعيد بن عبد العزيز، عن ابن حلبس، قال:
قال بشير بن أبي مسعود، وكان من الصحابة، قال ابن منده: وروى أبو معاوية، عن مسعر، عن ثابت بن عبيد، قال: رأيت بشير بن أبي
مسعود، وكانت له صحبة.
قال الحافظ رحمه الله: وقرأت بخط مغلطاي أن ابن خلفون ذكر في الثقات أن بشيرًا وُلِدَ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقليل كذا قال، ولفظه ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، أَو بعده بيسير. اهـ. روى له الجماعة إلا الترمذي.
6 -
(أبو مسعود) عقبة بن عمرو بن ثَعْلَبَةَ بن أسيرة بن عَميرَة بن عَطِيَّةَ بن جدَارَة
(1)
بن عوف بن الحارث بن الخزرج الأنصاري، البدري صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، شَهِدَ العَقَبَة.
قال شعبة: كان أبو مسعود بدريًا، وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب: لم يشهد بدرًا، وهو قول ابن إسحاق. وقال ابن سعد: شهد أحدًا وما بعدها، ولم يشهد بدرًا، ليس بين أصحابنا في ذلك اختلاف. وقيل: إنه نزل ماء ببدر، فنسب إليه. وفي "صحيح البخاري" من حديث عروة بن الزبير، قال: أخر المغيرة بن شعبة العصر، فدخل عليه أبو مسعود عقبة بن عمرو، جد زيد بن حسن، وكان شهد بدرًا، فقال: يا مغيرة، فذكر الحديث، سمعه عروة من بشير بن أبي مسعود،
عن أبيه، وبذلك عده البخاري في البدريين، وقال مسلم بن الحجاج في "الكنى": شهد بدرًا. وقال أبو أحمد الحاكم: يقال: إنه شهد بدرًا. وقال أبو القاسم البغوي: حدثني أبو عمرو يعني علي بن عبد العزيز، عن أبي عبيد، يعني القاسم بن سلام قال: أبو مسعود عقبة بن عمرو
(1)
من الخلاصة: جدارة بالجيم، وفي الاستيعاب: خدارة بالخاء. اهـ. من هامش تت.
شهد بدرًا. وقال ابن البرقي: لم يذكره ابن إسحاق في أهل بدر، وفي غير حديث أنه فيمن شهد بدرًا. وقال أبو القاسم الطبراني: أهل الكوفة يقولون: إنه شهد بدرًا، ولم يذكره أهل المدينة فيمن شَهِدهَا، وذكره عروة بن الزبير فيمن شهد العَقَبَةَ. قال الحافظ: فإذا شهد العقبة فما المانعُ من شهوده بدرًا، وما تقدم عن ابن سعد لم يقله من عند نفسه، وإنما نقله عن شيخه الواقدي، ولو قبلنا قوله في المغازي مع ضعفه، فلا ترد به الأحاديث الصحيحة. والله الموفق.
قال خليفة: مات قبل الأربعين -يعني بالكوفة- وقال المدائني: مات سنة 40، وقيل: غير ذلك في تاريخ وفاته، وقيل: مات بالمدينة، أخرج له الجماعة. اهـ. تت بتصرف. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف.
ومنها: أن رواته كلهم ثقات اتفق الجماعة عليهم، إلا بشيرًا، فلم يخرج له الترمذي، وأنهم مدنيون، إلا شيخه، فبغلاني، والليث فمصري.
ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض؛ ابن شهاب وعروة وبشير.
ومنها: أن فيه رواية الابن عن أبيه.
ومنها: أن فيه من صيغ الأداء الإخبارَ، والتحديثَ، والعنعنة، والسماع. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن ابن شهاب) الزهري (أن عمر بن عبد العزيز) بن مَرْوَان بن الحَكَم بن أبي العاص الأمويَّ، أميرَ المؤمنين، أمُّهُ أمُّ عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، ولي إمرة المدينة للوليد، وكان مع سليمان كالوزير، وولي الخلافة بعده، فَعُدَّ مع الخلفاء الراشدين، توفي في رجب سنة 101، وله 40 سنة، ومدة خلافته سنتان ونصف، من [4]، تقدم في 122/ 171.
(أخر الصلاة شيئًا) أي أخر صلاة العصر تأخيرًا يسيرًا، أو وقتًا يسيرًا، فشيئًا مفعول مطلق، أو منصوب على الظرفية، والتنوينُ للتقليل.
يعني أنه أخرها قليلًا بحيث خرج الوقت المستحب، لا أنه أخرها حتى خرج وقتها بالكلية.
وقد وقع تعيين الصلاة المؤخرة عند البخاري في "بدء الخلق"، ولفظه:"أخر العصر شيئًا"، قال ابن عبد البر رحمه الله: ظاهر سياقه أنه فَعَلَ ذلك يَوْمًا مَّا، لا أنَّ ذلك كان عادةً له، وإن كان أهل بيته معروفين بذلك. اهـ.
وفي رواية عبد الرزاق عن معمر، عن ابن شهاب "أخر الصلاة" يعني العصر. وللطبراني من طريق أبي بكر بن حزم أن عروة حدث عمر بن عبد العزيز -وهو يومئذ أمير المدينة في زمان الوليد بن عبد الملك- وكان ذلك زَمَانَ يُؤخِّرُونَ فيه الصلاة، يعني بني أمية.
قال ابن عبد البر: المراد أنه أخرها حتى خرج الوقت المستحب، لا أنه أخرها حتى غربت الشمس. اهـ.
قال الجامع عفا الله عنه: يؤيد ما قاله الحافظ ابن عبد البر رحمه الله رواية المصنف، حيث قال "شيئًا" بالتنكير، وكذا رواية أبي داود "وكان قاعدًا على المنبر، فأخر العصر شيئًا"، وفيها أيضًا بيان سبب تأخيره، وهو أنه كان مشتغلًا بمصالح المسلمين، لا للتهاون بأمر الصلاة.
قال الحافظ رحمه الله: وأما ما رواه الطبراني من طريق يزيد بن أبي حبيب، عن أسامة بن زيد الليثي، عن ابن شهاب في هذا الحديث قال:"دعا المؤذنُ لصلاة العصر، فأمسى عمر بن عبد العزيز قبل أن يصليها" فمحمول على أنه قارب المساء، لا أنه دخل فيه.
وقد رجع عمر بن عبد العزيز عن ذلك، فَروى الأوزاعيُّ عن عاصم بن رجاء بن حيوة، عن أبيه: أن عمر بن عبد العزيز -يعني في خلافته- كان يصلي الظهر في الساعة الثامنة والعصر في الساعة العاشرة
حين تدخل. اهـ. "فتح" جـ 2 ص 6.
(فقال له عروة) بن الزبير (أما) بفتح الهمزة، وتخفيف الميم: أداة استفتاح، كألا، وتكثر قبل القسم، كقوله:
أمَا وَالَّذِي أبْكَي، وَأضْحَكَ، وَالَّذِي
…
أمَاتَ، وأحْيَا، وَالَّذِي أمْرُهُ الأمْرُ
وقد تبدل همزتها هاءً، أو عينًا قبل القسم، وكلاهما مع ثبوت الألف، وحذفها، أو تُحذَفُ الألف مع ترك الإبدال، وإذا وقعت "إن" بعدها كُسِرَت، كما تُكسَرُ بعد "ألا" الاستفتاحية. أفاده في مغني اللبيب جـ 1 ص 52 بحاشية الأمير.
(إِن جبريل عليه السلام بكسر "إن" كما مر آنفًا.
وقد كتب النووي رحمه الله في تهذيب الأسماء واللغات ترجمة جبريل عليه السلام، أحببت إيرادها هنا لحسنها، فقال:
وجبريل: هو الملك الكريم رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم، وفيه تسع لغات، حكاها ابن الأنباري، وابن الجوالقي: جِبريل، وجَبريل -بكسر الجيم وفتحها-، وجَبرئِلّ -بفتح الجيم وهمزة مكسورة وتشديد اللام-، وجبْرائيل -بهمزة ثم ياء مع الألف-، وجبْرَاييل -بياءين بعد الألف-، وجِبْرَئيَل -بهمزة بعد الراء وياء-، وجَبْرَئِل -بكَسر الهمزة وتخفيف اللام مع فتح الجيم والراء-، وجَبْرِين، وجِبْرِين -بفتح الجيم وكسرها-.
قال جماعات من المفسرين، وصاحبُ المحكم، والجوهريُّ،
وغيرُهما من أهل اللغة في جبريل ومكائيل: إن جَبْر، ومِيك اسمان أضيفا إلى إيل، وأل، وقال: وإيل، وأل: اسمان لله تعالىَ، وجبر، وميك: معناه بالسريانية عبد، فتقديره عبد الله.
قال أبو علي الفارسي: هذا الذي قالوه خطأ من وجهين:
أحدهما: أن "إيل" و "أل" لا يعرفان في أسماء الله تعالى. والثاني: أنه لو كان كذلك لم يتصرف آخر الاسم في وجوه العربية، ولكان آخره مجرورًا أبدًا، كعبد الله.
قال النووي رحمه الله: وهذا الذي قاله أبو علي، هو الصواب، فإن ما زعموا باطل، لا أصل له.
(واعلم) أن جبريل يقال له الناموس بالنون كما ثبت في الصحيحين في حديث المبعث. قال أهل اللغة: الناموس صاحب سر الرجل الذي يُطلِعُهُ على باطن أمره، وقيل: الناموس صاحب خبر
الخير، والجاسوس صاحب خبر الشر.
وقد تظاهرت الدلائل على عظَمِ مَرْتَبَة جبريل عليه السلام، قال الله تعالى:{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 97، 98]، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ
…
} [الشعراء: 192، 193، 194] الآية.
وقال تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5] الآيات، المراد بشديد القوى جبريل عليه السلام، وقال تعالى:{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم: 13، 14] الآية، المراد رأى جبريل، هذا قول الجمهور، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم على صورته له ستمائة جناح مرتين، وقال تعالى:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)} [التكوير: 19، 24].
وثبت في صحيح البخاري ومسلم في حديث المبعث عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جبريل، وهو يتعبد في غار حراء، فأخذه، فغطه، ثم أرسله، فقال: اقرأ، ثم غطه ثانية، وثالثة، يقول له: مثل ذلك، ثم قال:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 1 - 5].
وفي "صحيح مسلم" عن ابن مسعود في قول الله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} قال: رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح. وعن مسروق، قال: قلت لعائشة رضي الله عنه: ألم يقل الله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)} ، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطًا من السماء سَادًا عِظَمُ خلقته ما بين السماء والأرض".
وفي "صحيح مسلم" عن مسروق أيضًا، قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: قوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 8، 9]؟ فقالت: إنما ذلك جبريل، كان يأتيه في صورة الرجال، وإنه أتاه هذه المرة في صورته فسَدَّ أفُقَ السماء.
وفي "صحيحي البخاري ومسلم" عن عائشة أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحيانًا يأتيني مثل صَلْصَلَة الْجَرَسَ، وهو أشده علي، فيفصم عني، وقد وَعَيْتُ عنه ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلًا، فيكلمني، فأعي ما يقول"، قالت عائشة:"ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فَيُفْصَمُ عنه، وإن جبينه ليَتَفَصَّد عَرَقًا".
قال أهل اللغة: الفَصْم: القطع بغير إبانة، ومعناه: يفارقني على أن يعود. وفي صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس، وكان أجودُ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة".
وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: "ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا، فنزلت {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} [مريم: 64].
وفيه أيضًا عن البراء رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان
رضي الله عنه: "اهجهم" أو "هاجهم، وجبريلُ معك".
وفي "الصحيحين" في حديث الإسراء صعود رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل إلى السموات السبع، وأن جبريل يستفتح في باب كل سماء، فيقال: مَنْ هذا؟ فيقول: جبريلُ، فيقال: مَن معك؟، فيقول: محمد، فيفتح.
وفي الصحيح "إن الله تعالى إذا أحب عبدًا نادى: يا جبريلُ إني أحب فلانًا، فأحبَّه، فيحبه جبريل، ثم يُنادي جبريل في السماء إن الله يحب فلانًا، فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض". والأحاديث الصحيحة المتعلقة بِعظَمِ فضل جبريل كثيرة مشهورة.
وكان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دِحْيَةَ الكلبي، ورأته الصحابة حين جاء في صورة رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرَى عليه أثَرُ السفر، ولا يعرفه أحد، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يرونه، ويسمعونه عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، والساعة، وأمَارَتِهَا، ثم خرج، فطلبوه في الحال، فلم يجدوه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم". كما في "الصحيحين".
وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: "هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب". وفيه أيضًا عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "لما رجع
النبي صلى الله عليه وسلم من الخَنْدق، ووضع السلاح، واغتسل أتاه جبريل، فقال: قد وضعتَ السلاحَ، والله ما وضعناه، فاخْرُجْ إليهم، قال: فإلى أين؟ قال: ها هنا، وأشار بيده إلى بني قُرَيَظةَ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إِليهم".
وفيه عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كأني أنظر إلى الغبار ساطعًا في زُقَاق بني غنم، موكب جبريل حين سار النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة. اهـ. تهذيب الأسماء واللغات بتصرف يسير جـ 1 ص 143 - 146. والله تعالى أعلم.
تنبيهان:
الأول: أنه قال الحافظ السيوطي رحمه الله: لا خلاف أن جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت رؤوس الملائكة، وأشرافهم، وأفضل الأربعة: جبريل وإسرافيل، وفي التفضيل بينهما توقف، سببه اختلاف الآثار في ذلك، وفي معجم الطبراني الكبير حديث "أفضل الملائكة جبريل"، لكن سنده ضعيف، وله معارض، فالأوْلَى الوقفُ عن ذلك. اهـ، نقله الزرقاني في "شرح الموطأ" جـ 1 ص 12.
الثاني: أنه اختلف في نزول جبريل في صفة رجل، فقال إمام الحرمين رحمه الله: نزوله في صفة رجل، معناه: أن الله أفنى الزائد من خلقه، أو أزاله عنه، ثم يعيده إليه بعد، وجزم ابن عبد السلام رحمه الله بالإزالة دون الفناء، إذ لا يلزم أن يكون انتقالها موجبًا لموته، بل يجوز
أن يبقى الجسد حَيًا، لأن موته بمفارقة الروح لا يجب عقلًا، بل بعادة أجراها الله في بعض خلقه، ونظيره انتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طيور خُضْر، تَسْرحُ في الجنة.
وقال البلقيني رحمه الله: يجوز أن الآتي هو جبريل بشكله الأصلي، إلا أنه انضم، فصار على قدر هيئة الرجل، وإذا ترك ذلك العادة عاد إلى هيئته، ومثال ذلك القطن إذا جمع بعد أن كان مُنتَفِشًا، فإنه بالنفش يحصل له صورة كبيرة، وذاته لم تتغير، وهذا على سبيل التقريب.
قال الحافظ رحمه الله: والحق أن تمثيل الملك رجلًا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلًا، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسًا لمن يخاطبه، والظاهر أن القدر الزائد لا يزول، ولا يفنى، بل يَخْفَى على الرائي فقط.
وقال القونوي: يمكن أن جسمه الأول بحاله، لم يتغير، وقد أقام الله له شَبَحًا آخر، وروحه متصرفة فيهما جميعًا في وقتٍ واحد، اهـ. "شرح الزرقاني على الموطأ" جـ 1 ص 12، 13.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن مثل هذه المسألة مما لا ينبغي الخوض فيها لعدم وجود نص يدل عليها، وليست مما يُدرَكُ بمجرد العقل، لأنها من الأمور الغيبية، ولم يكلفنا الله بمعرفة تفاصيلها، فالخوض فيها يكون من الخوض فيما لا يعني، فالأولى
تركه، وتفويض علمه إلى عالم غيب السموات والأرض. وبالله التوفيق.
(قد نزل) صبيحة ليلة الإسراء، قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: لم يختلف أن جبريل هبط صبيحة الإسراء عند الزوال، فَعَلَّمَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم الصلاة، ومواقيتها، وهيئتها. اهـ. "تمهيد" جـ 8 ص 34.
تنبيه:
رواية المصنف فيها اختصار، ففي رواية البخاري عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن ابن شهاب، أن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة يومًا، فدخل عليه عروة بن الزبير، فأخبره أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يومًا، وهو بالعراق، فدخل عليه أبو مسعود الأنصاري، فقال: ما هذا يا مغيرة؟ أليس أن جبريل نزل، فصلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
الحديث. والصلاة التي أخرها المغيرة هي العصر؛ كما بينه عبد الرزاق في روايته، وهي التي أخرها عمر بن عبد العزيز كما تقدم.
(فصلى إِمام رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال السندي رحمه الله تعالى: بكسر الهمزة، وهو حال، لكون إضافته لفظية نظرًا إلى المعنى، أو بفتح الهمزة، وهو ظرف، والمعنى يميل إلى الأول. اهـ.
وقال السيوطي رحمه الله: لا إشكال في فتح همزة "إمام"، بل في كسرها، لأن إضافة إمام مُعَرِّفَة، والموضع موضع الحال، فيوجب جعله
نكرة بالتأويل، كغيره من المعارف الواقعة أحوالًا، كأرسلها العِرَاكَ، يعني في قول الشاعر:
فَأرْسَلَها الْعِرَاكَ وَلَمْ يَذُدْهَا
…
وَلَمْ يُشْفِقْ عَلَى نَغَصِ الدِّخَالِ
أي أرسلها معتركة، أي مزدحمة.
قال السندي رحمه الله: ومقصود عروة بذلك أن أمر الأوقات عظيم، قد نزل لتحديدها جبريل فعلمها النبي صلى الله عليه وسلم بالفعل، فلا ينبغي التقصير في مثله. اهـ.
(فقال له) أي لعروة (عمر) بن عبد العزيز (اعلم ما تقول يا عروة) قال السندي: بصيغة الأمر من العلم، أي كن حافظًا ضابطًا له، ولا تقله عن غفلة، أو من الإعلام، أي بَيِّن لي حاله، وإسنادك له فيه. اهـ.
قال الجامع عفا الله عنه: الأول أظهر، فـ "ما" موصولة في محل نصب مفعول "اعلم"، وهي بمعنى اعرف، فتتعدى لمفعول واحد، كما قال ابن مالك:
لِعِلْمِ عِرْفَانٍ وَظَنِّ تُهَمَهْ
…
تَعْدِيَةٌ لِوَاحِدٍ مُلْتَزَمَهْ
وعند البخاري: "فقال عمر لعروة: اعلم ما تحدث"، وفي رواية للشافعي، عن سفيان، عن الزهري، فقال:"اتق الله يا عروة، وانظر ما تقول". قال الرافعي في شرح المسند: لا يحمل مثله على الاتهام،
ولكن المقصود الاحتياط والاستثبات، ليتذكر الراوي، ويجتنب ما عساه يعرض من نسيان وغلط. قاله الزرقاني في "شرح الموطأ" جـ 1 ص 14.
وقال البدر العيني رحمه الله: قوله "اعلم ما تحدث به" بصيغة الأمر، تنبيه من عمر بن عبد العزيز لعروة على إنكاره إياه، وقال القرطبي: ظاهره الإنكار، لأنه لم يكن عنده خبر من إمامة جبريل عليه الصلاة والسلام، إمَّا لأنه لم يبلغه، أو بلغه فنسيه. اهـ. "عمدة" جـ 5 ص 5.
وفي رواية البخاري وغيره زيادة "أو أن جبريل هو الذي أقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الصلاة".
(فقال) عروة (سمعت بشير بن أبي مسعود) الأنصاري المتقدم ذكره (يقول: سمعت أبا مسعود) عقبة بن عمرو الأنصاري المتقدم أيضًا، يعني أباه (يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواية المصنف رحمه الله توضح بطلان دعوى من ادعى الانقطاع في هذا الحديث.
قال في الفتح: قال ابن عبد البر: هذا السياق منقطع عند جماعة من العلماء، لأن ابن شهاب لم يقل: حضرت مراجعة عروة لعمر، وعروة لم يقل: حدثني بشير، لكن الاعتبار عند الجمهور بثبوت اللقاء والمجالسة، لا بالصيغ. اهـ.
وقال الكرماني: اعلم أن هذا الحديث بهذا الطريق ليس متصل الإسناد، إذ لم يقل أبو مسعود: شاهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ.
قال الحافظ رحمه الله: قلت: هذا لا يسمى منقطعًا اصطلاحًا، وإنما هو مرسل صحابي، لأنه لم يدرك القصة، فاحتمل أن يكون سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، أو بلغه عنه بتبليغ من شاهده، أو سمعه، كصحابي آخر. على أن رواية الليث عند المصنف -يعني البخاري- تزيل الإشكال كله، ولفظه "فقال عروة: سمعت بشير بن أبي مسعود، يقول: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول" فذكر الحديث.
وكذا سياق ابن شهاب، وليس فيه التصريح بسماعه له من عروة، وابنُ شهاب قد جُرِّبَ عليه التدليس، لكن وقع في رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن شهاب، قال: "كنا مع عمر بن عبد العزيز
…
" فذكره. وفي رواية شعيب، عن الزهري "سمعت عروة يحدث عمر بن عبد العزيز
…
" الحديث.
قال الجامع عفا الله عنه: في رد الحافظ لكلام الكرماني بأنه مرسل صحابي، يحتمل أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أو بلغه، أو سمعه من صحابي آخر مع كون أبي مسعود صرح بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم نظر لا يخفى، بل الأولى في الرد عليه أن يقال: إن الإسناد متصل
لتصريح أبي مسعود بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، فلا حاجة إلى ترديد الاحتمال، ومثله يقال في الرد على من ادعى الانقطاع بين ابن شهاب وبين عروة، وبين عروة وبشير بن أبي مسعود، حيث صرح كل منهما بالسماع. والله أعلم.
(يقول: نزل جبريل) عليه السلام، وقد بيَّن ابنُ إسحاق في المغازي أن ذلك كان صَبيحَةَ الليلة التي فرضت فيها الصلاة، وهي ليلة الإسراء، قال ابنُ إسحاقَ: حدثني عتبة بن مسلم، عن نافع بن جبير، وقال عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال نافع بن جبير، وغيره: لما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم من الليلة التي أسري به لم يَرُعْهُ إلا جبريل نزل حين زاغت الشمس، ولذلك سميت الأولى، أي صلاة الظهر، فأمَرَ، فَصِيحَ بأصحابه "الصلاة جامعة" فاجتمعوا، فصلى به جبريل، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس. فذكر الحديث.
وإنما دعاهم إلى الصلاة بقوله: "الصلاة جامعة" لأن الأذان لم يكن شرع حينئذ.
قال الحافظ رحمه الله: وفيه ردٌّ على من زعم أن بيان الأوقات إنما وقع بعد الهجرة، والحق أن ذلك وقع قبلها ببيان جبريل، وبعدها ببيان النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ "فتح" جـ 2 ص7.
(فأمني) أي صار إمامي، يقال: أمَّهُ، وأمَّ بِهِ: صلى به إمَامًا، قاله في "المصباح".
(فصليت معه) فيه أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم كان مع صلاة جبريل عليه السلام وفي رواية البخاري "نزل، فصلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
" الحديث.
قال في الفتح: قال عياض: ظاهره أن صلاته كانت بعد فراغ صلاة جبريل، لكن المنصوص في غيره أن جبريل أمَّ النبي صلى الله عليه وسلم، فيحمل قوله:"صلى، فصلى" على أن جبريل كان كلما فعل جزءًا من الصلاة تابعه النبي صلى الله عليه وسلم بفعله اهـ. وبهذا جزم النووي. وقال غيره: الفاء بمعني الواو، واعترض بأنه يلزم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يتقدم في بعض الأركان على جبريل على ما يقتضيه مطلق الجمع. وأجيب بمراعاة
الحيثية، وهي التبيين، فكان لأجل ذلك يتراخى عنه. وقيل: الفاء للسببية، كقوله تعالى:{فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15].
وفي رواية الليث عند المصنف وغيره "نزل جبريل، فأمني، فصليت معه"، وفي رواية عبد الرزاق عن معمر "نزل، فصلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى الناس معه"، وهذا يؤيد رواية نافع بن جبير المتقدمة. اهـ. "فتح" جـ 2 ص 7.
(فصليت معه) أي الظهر (ثم صليت معه) أي العصر (ثم صليت معه) أي المغرب (ثم صليت معه) أي العشاء (ثم صليت معه) أي الصبح (يَحْسُبُ) أي يَعُدُّ وهو بضم السين، يقال: حسبت
المال حَسْبًا من باب قتل، وحِسْبَةً بالكسر وحُسْبَانًا بالضم إذا أحصيته.
أفاده في المصباح.
والظاهر أن الفاعل ضمير النبي صلى الله عليه وسلم (بأصابعه، خمس صلوات) بالنصب مفعولًا ليحسب، أو لصليت مقدرًا، ويأتي قريبًا ما يدل على أنه صلى الخمس كل واحدة منها مرتين.
تنبيه:
قال القرطبي رحمه الله: قول عروة: إن جبريل نزل ليس فيه حجة واضحة على عمر بن عبد العزيز، إذ لم يعين له الأوقات، قال: وغاية ما يتوهم عليه أنه نبهه، وذَكَّره بما كان يعرفه من تفاصيل الأوقات، قال: وفيه بعد؛ لإنكار عمر على عروة حيث قال له: "اعلم ما تحدث يا عروة"
قال: وظاهر هذا الإنكار أنه لم يكن عنده علم من إمامة جبريل.
قال الحافظ رحمه الله: لا يلزم من كونه لم يكن عنده علم منها أن لا يكون عنده علم بتفاصيل الأوقات المذكورة من جهة العمل المُسْتَمِرّ، لكن لم يكن يعرف أن أصله بتبيين جبريل بالفعل، فلهذا استثبت فيه، وكأنه يَرَى أن لا مفاضلة بين أجزاء الوقت الواحد، وكذا يُحمَلُ عمل
المغيرة وغيره من الصحابة.
قال الحافظ رحمه الله: ولم أقف في شيء من الروايات على جواب المغيرة لأبي مسعود، والظاهر أنه رجع إليه. والله أعلم.
وأما ما زاده عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن الزهري في هذه القصة، قال: فلم يزل عمر يعلم الصلاة بعلامة حتى فارق الدنيا.
ورواه أبو الشيخ في كتاب المواقيت له من طريق الوليد، عن الأوزاعي، عن الزهري، قال:"مازال عمر بن عبد العزيز يتعلم مواقيت الصلاة حتى مات". ومن طريق إسماعيل بن أبي حكيم "أن
عمر بن عبد العزيز جعل ساعات يَنقَضينَ مع غروب الشمس"، زاد من طريق ابن إسحاق، عن الزهري "فما أخرها حتى مات"، فكله يدل على أن عمر لم يكن يحتاط في الأوقات كثير احتياط إلا بعد أن حدثه عروة بالحديث المذكور.
تنبيه آخر:
قال الحافظ رحمه الله تعالى: ورد في هذه القصة من وجه آخر عن الزهري بيان أبي مسعود للأوقات، وفي ذلك ما يرفع الإشكال، ويُوضِّحَ توجيهَ احتجاجِ عروة به، فَرَوَى أبو داود وغيره، وصححه ابن خزيمة وغيره من طريق ابن وهب، والطبرانيُّ من طريق يزيد بن أبي حبيب كلاهما عن أسامة بن زيد، عن الزهري هذا الحديث بإسناده، وزاد في آخره "قال أبو مسعود: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر حين تزول الشمس" فذكر الحديث. وذكر أبو داود أن أسامة بن زيد تفرد بتفسير الأوقات فيه، وأن أصحاب الزهري لم يذكروا ذلك، قال:
وكذا رواه هشام بن عروة، وحبيب بن أبي مرزوق عن عروة لم يذكرا
تفسيرًا اهـ. ورواية هشام أخرجها سعيد بن منصور في سننه، ورواية حبيب أخرجها الحارث بن أبي أسامة في مسنده، قال الحافظ: وقد وجدت ما يَعْضِدُ رواية أسامة ويزيد عليها أن البيان من فعل جبريل، وذلك فيما رواه الباغندي في مسند عمر بن عبد العزيز، والبيهقي في السنن الكبرى من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري، عن أبي بكر بن حزم أنه بلغه عن أبي مسعود، فذكره منقطعًا، لكن رواه الطبراني من وجه آخر عن أبي بكر، عن عروة، فرجع الحديث إلى عروة، وَوَضَحَ أن له أصلًا، وأن في رواية مالك ومَنْ تابعه اختصارًا، وبذلك جزم ابن عبد البر، وليس في رواية مالك ومن تابعه ما ينفي الزيادة المذكورة فلا توصف -والحالة هذه- بالشذوذ. اهـ. "فتح" جـ 2 ص 8 - 9. والله ولي التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي مسعود رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان موضع ذكر المصنف له:
لم يذكره إلا في هذا الموضع.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه؛ فأخرجه
البخاري في "الصلاة" عن القعنبي، عن مالك -وفي "بدء الخلق" عن قتيبة، عن ليث- وفي المغازي عن أبي اليمان، عن شعيب- ثلاثتهم عن الزهري، عن عروة، عن بشير بن أبي مسعود، عن أبيه رضي الله عنه.
وأخرجه مسلم في "الصلاة" أيضًا عن قتيبة، ومحمد بن رمح، كلاهما عن ليث به. وعن يحيى بن يحيى عن مالك به.
وأخرجه أبو داود في "الصلاة" أيضًا عن محمد بن سلمة المرادي، عن ابن وهب، عن أسامة بن زيد، عن الزهري به. وقال: رواه عن الزهري معمر، ومالك، وابن عيينة، وشعيب بن أبي حمزة، والليث، وغيرهم- لم يذكروا الوقت الذي صلى فيه، ولم يفسروه، وكذلك رَوَى هشام بن عروة، وحبيب بن أبي مرزوق، عن عروة إلا أن حبيبًا لم يذكر بشيرًا.
وأخرجه ابن ماجه في "الصلاة" أيضًا عن محمد بن رمح، عن ليث به.
وأخرجه مالك في "الموطأ"، وهو أول حديث وقع فيه. وأحمد، والبيهقي، والطحاوي، والدارقطني؛ مع اختلاف في بعض الألفاظ. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو أن الصلوات الخمس لها أوقات محددة.
ومنها: أن تحديد تلك الأوقات كان ببيان جبريل عليه السلام.
ومنها: أنه يدل على أن أوقات الصلاة من فرائضها، وأنها لا تجزىء قبل وقتها، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، إلا شيء رُوِي عن أبي موسى الأشعري، وعن بعض التابعين، قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: وقد انعقد الإجماع على خلافه، فلم نَرَ لذكره وجهًا، لأنه لا يصح عندي عنهم، وقد صح عن أبي موسى خلافه بما يوافق الجماعة، فصار اتفاقًا صحيحًا. اهـ. "الاستذكار" جـ 1 ص 36.
ومنها: المبادرة بالصلاة في أول وقتها، ولا ينافي ذلك ما ورد من الإبراد بالظهر في شدة الحر، لأن المبادرة تكون بما يناسب ذلك الإبراد، فيبادر أول ما يحصل الإبراد المطلوب.
ومنها: أن فيه دخولَ العلماء على الأمراء، وإنكارَهم عليهم إذا خالفوا السنة.
ومنها: جواز مراجعة العالم لطلب البيان، والرجوع عند التنازع إلى السنة.
ومنها: أنه استدل به من يرى جواز الائتمام بمن يأتم بغيره، قال في الفتح: ويجاب عنه بما يجاب به عن قصة أبي بكر في صلاته خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وصلاة الناس خلفه، فإنه محمول على أنه كان مبلغا فقط، كما سيأتي تقريره في أبواب الإمامة اهـ. جـ 2 ص 7.
ومنها: أنه استدل به بعضهم على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل من جهة أن الملائكة ليسوا مكلفين بمثل ما كلف به الإنس، قاله ابن العربي، وغيره، وأجاب عياض باحتمال أن لا تكون تلك الصلاة كانت واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ. وتعقبه بما تقدم من أنها كانت صبيحة ليلة فرض الصلاة، وأجاب باحتمال أن الوجوب عليه كان معلقًا بالبيان، فلم يتحقق الوجوب إلا بعد تلك الصلاة، قال: وأيضًا لا نسلم أن جبريل كان متنفلًا، بل كانت تلك الصلاة واجبة عليه، لأنه مكلف بتبليغها، فهي صلاة مفترض خلف مفترض اهـ. "فتح" جـ 2 ص 7.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن اقتداء المفترض بالمتنفل يجوز لحديث إمامة معاذ رضي الله عنه لقومه بعد الصلاة معه صلى الله عليه وسلم، كما يأتي تحقيقه في محله إن شاء الله، وأما الاستدلال بهذا الحديث فغير واضح، والله أعلم.
ومنها: ما قاله ابن المُنَيِّر رحمه الله: قد يتعلق به من يجوز صلاة مفترض بفرض خلف مفترض بفرض آخر، كذا قال. قال الحافظ رحمه الله: وهو مسلم له في صورة المؤداة مَثَلًا خلف المقضية، لا في الظهر خلف العصر مثلًا. اهـ. "فتح" جـ 2 ص 7.
ومنها: أن فيه فضيلة عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
ومنها: قبول خبر الواحد الثبت.
ومنها: أنه استدل به ابن بطال وغيره على أن الحجة بالمتصل دون المنقطع، لأن عروة أجاب عن استفهام عمر له، لمَّا أن أرسل الحديث بذكر من حدثه به، فرجع إليه، فكأنَّ عمر قال له: تأمل ما تقول، فلعله بلغك عن غير ثبت، فكأن عروة قال له: بل قد سمعته ممن قد سمع صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصاحب قد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ. "فتح" جـ 2 ص 9.
ومنها: أنه استدل به عياض على جواز الاحتجاج بمرسل الثقة، كصنيع عروة حين احتج على عمر، قال: وإنما راجعه عمر، لتثبته فيه، لا لكونه لم يرض به مرسلًا، كذا قال. قال الحافظ: وظاهر السياق يشهد لما قال ابن بطال.
ومنها: أن ابن بطال قال: في هذا الحديث دليل على ضعف الحديث الوارد في أن جبريل أمَّ النبي صلى الله عليه وسلم في يومين لوقتين مختلفين لكل صلاة، قال: لأنه لو كان صحيحًا لم ينكر عروة على عمر صلاته في آخر الوقت محتجًا بصلاة جبريل، مع أن جبريل قد صلى في اليوم الثاني في آخر الوقت، وقال:"الوقت ما بين هذين".
وأجيب باحتمال أن تكون صلاة عمر كانت خرجت عن وقت الاختيار، وهو مصير ظل الشيء مثليه، لا عن وقت الجواز، وهو مغيب الشمس، فيتجه إنكار عروة، ولا يلزم منه ضعف الحديث، أو
يكون عروة أنكر مخالفة ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الصلاة في أول الوقت، ورأى أن الصلاة بعد ذلك إنما هي لبيان الجواز، فلا يلزم منه ضعف الحديث أيضًا.
وقد رَوَى سعيدُ بنُ منصور من طريق طلق بن حبيب مرسلًا، قال:"إن الرجل ليصلي الصلاة، وما فاتته، ولما فاتته من وقتها خير له من أهله وماله". ورواه أيضًا عن ابن عمر من قوله.
ويؤيد ذلك احتجاج عروة بحديث عائشة رضي الله عنها، حيث قال: ولقد حدثتني عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر، والشمس في حجرتها قبل أن تظهر".
وهي الصلاة التي وقع الإنكار بسببها، وبذلك تظهر مناسبة ذكره لحديث عائشة بعد حديث أبي مسعود، لأن حديث عائشة يشعر بمواظبته صلى الله عليه وسلم على صلاة العصر في أول الوقت، وحديث أبي مسعود يشعر بأن أصل بيان الأوقات كان بتعليم جبريل عليه السلام. قاله في "الفتح" جـ 2 ص 9. والله تعالى أعلم.
تنبيه:
الحديث الذي أشار ابن بطال إلى تضعيفه سيأتي للمصنف برقم (502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث حسن، وبرقم (504) من حديث جابر رضي الله عنه، وهو حديث صحيح،
وهو مروي من حديث ابن عباس، وابن عمر، وأبي موسى الأشعري، وأنس بن مالك، وأبي سعيد الخدري، وأبي مسعود البدري رضي الله عنهم، وسيأتي الكلام عليها في مواضعها إن شاء الله تعالى.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
وَلَمَّا ذكر المصنف رحمه الله تعالى الحديثَ الدالَّ على أن للصلاة أوقاتًا محددة، لا يجوز أن تُفْعَل إلا فيها، وتلك الأوقات بَيَّنهَا جبريلُ عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم بالفعل: أراد أن يذكر الأحاديث الدالة على أن لهذه الأوقات الخمس أولًا وآخرًا، وأن الصلاة فيها أحيانًا يطلب تعجيلها، وأحيانًا يطلب تأخيرها، فذكر تلك الأحاديث بأبواب متتالية متناسقة، فقال:. . . .
2 - أوَّلُ وَقْتِ الظُّهرِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على أول وقت صلاة الظهر.
وتقدم معنى الوقت في الباب السابق.
وأما الظُّهر -بضم فسكون- فهو الوقت بين الزوال والإبراد، مأخوذ من الظهور، وهو الارتفاع، وسمي الظهيرة أيضًا، قال الله تعالى:{وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} [النور: 58]. اهـ. النظم المستعذب جـ 1 ص 54، وقال ابن منظور رحمه الله: والظُّهْرُ ساعةُ الزوال، ولذا قيل: صلاة الظهر، وقد يَحْذِفُون على السَّعَةِ، فيقولون: هذه الظُّهْرُ، يريدون صلاة الظهر، وقال الَجوهري: الظهر بالضم بَعْدَ الزوال، ومنه صلاة الظهر. والظَّهِيرةُ: الهاجرة، يقال: أتيته حَدَّ
الظَّهِيرة، وحين قام قائم الظهيرة، وفي الحديث ذِكْرُ صَلاة الظُّهر، قال ابن الأثير: هو اسم لنصف النهار، سمي به من ظَهِيرَة الشمس، وهو شدة حَرِّها، وقيل: أضيفت إليه لأنه أظهر أوقات الصلوات للأبصار، وقيل: أظهرها حَرًا، وقيل: لأنها أول صلاة أظهرت، وصليت، وقد
تكرر في الحديث ذكر الظهيرة، وهو شدة الحر نصف النهار، قال: ولا يقال في الشتاء ظهيرة. وقال ابن سيدَه: الظَّهِيرَة حَدُّ انتصاف النهار. وقال الأزهري: هما واحد. اهـ. "لسَان" ج 4 ص2769.
قال الجامع عفا الله عنه: إنما قدم المصنف وقت الظهر لكونها أول
صلاة صلاها جبريل إمامًا للنبي صلى الله عليه وسلم على الراجح، ولذا تسمى الصلاة الأولى، كما تقدم في الباب السابق. والله أعلم.
495 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيَّارُ بْنُ سَلَامَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَسْأَلُ أَبَا بَرْزَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قُلْتُ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ؟ قَالَ: كَمَا أَسْمَعُكَ السَّاعَةَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَسْأَلُ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كَانَ لَا يُبَالِي بَعْضَ تَأْخِيرِهَا -يَعْنِى الْعِشَاءَ- إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، وَلَا يُحِبُّ النَّوْمَ قَبْلَهَا، وَلَا الْحَدِيثَ بَعْدَهَا". قَالَ شُعْبَةُ: ثُمَّ لَقِيتُهُ بَعْدُ، فَسَأَلْتُهُ؟ قَالَ:"كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ، وَالْعَصْرَ، يَذْهَبُ الرَّجُلُ إِلَى أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ"، وَالْمَغْرِبَ لَا أَدْرِي أَيَّ حِينٍ ذَكَرَ، ثُمَّ لَقِيتُهُ بَعْدُ، فَسَأَلْتُهُ؟ فَقَالَ:"وَكَانَ يُصَلِّي الصُّبْحَ فَيَنْصَرِفُ الرَّجُلُ، فَيَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ جَلِيسِهِ الَّذِي يَعْرِفُهُ، فَيَعْرِفُهُ"، قَالَ: وَكَانَ يَقْرَأُ فِيهَا بِالسِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ".
رجال الإسناد: خمسة
1 -
(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني، ثم البصري، ثقة، توفي سنة 245، من [10]، تقدم في 5/ 5.
2 -
(خالد) بن الحارث الهُجَيمي أبو عثمان، البصري، ثقة ثبت، من [8]، تقدم في 42/ 47.
3 -
(شعبة) بن الحجاج أبو بِسْطام البصري الإمام الحجة، من [7]، تقدم في 24/ 26.
4 -
(سَيَّارُ بن سَلامَةَ) بفتح السين وتشديد الياء من سيار، وفتح السين، وتخفيف اللام من سلامة، أبو المنْهَال الرِّياحي البصري، ثقة، توفي سنة 129، من [4] روَى عن أبَي بَرْزة الأسلمي، والبراء السليطي، وأبيه سَلامة، وأبي العالية الرياحي، وأبي مسلم الجَرْمِيِّ، وغيرهم. وعنه سليمان التيمي، وخالد الحَذَّاء، وعَوْفُ الأعْرَابي، وغيرهم.
وثقه ابن معين، والنسائي، والعجلي، وابن سعد، وابن حبان، وقال أبو حاتم: صدوق صالح الحديث. اهـ. تت جـ 4 ص 290، 291 بتصرف. أخرج له الجماعة.
5 -
(أبو برزة الأسلمي) نَضْلَةُ بن عُبَيد، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم. رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر الصديق، وعنه ابنه المغيرة، وبنت
ابنه منية بنت عبيد بن أبي برزة، وأبو المنْهال الرِّياحي، والأزرق بن قيس، وأبو عثمان النَّهْدِيّ، وأبو العاليةَ الرياحيُّ، وكِنَانَةُ بن نعيم، وغيرهم.
قال البخاري: نزل البصرة، وذكَرَ له حديث "غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات". وقال أبو نضرة عن عبد الله بن مولة القشيري، قال: كنت بالأهواز إذ مر بي شيخ ضخم، فإذا أبو برزة، وقال ابن سعد: كان من ساكني المدينة، ثم البصرة، وغزا خراسان،
وقال الخطيب: شَهِدَ مع علي، فقاتل الخوارج بالنهروان، وغزا بعد ذلك خراسان، فمات بها، وقال أبو علي محمد بن علي بن حمزة المروزي: قيل: إنه مات بنيسابور، وقيل: بالبصرة، وقيل: بمفازة بين سجستان وهَرَاة، وقال خليفة: مات بخراسان بعد سنة 64، بعد ما أخرج ابن زياد من البصرة، وقال غيره: مات في آخر خلافة معاوية. وجزم الحاكم أبو أحمد بسنة 64، وقال ابن حبان: وقد قيل: إنه بقي إلى ولاية عبد الملك. اهـ. وبه جزم البخاري في التاريخ الأوسط في فصل من مات بين الستين إلى السبعين، قال الحافظ: ومما يؤيد ذلك أن في صحيح البخاري أنه شهد قتال الخوارج بالأهواز، زاد الاسماعيلي: مع المُهَلَّبِ بن أبي صُفْرَةَ، وكان ذلك في سنة 65 كما جزم به محمد بن قُدَامَةَ وغيره، وكان عبد الملك قد ولي الخلافة بالشام. أخرج له الجماعة. اهـ. تت جـ 10 ص 446 - 447.
(الأسلمي) نسبة إلى أسْلَم بن أفْصَى بن حارثة بن عمرو بن عامر. كما في اللباب جـ 1 ص 58.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات نُبَلاء، أخرج لهم الجماعة، إلا شيخه، فلم يخرج له البخاري وأخرج له أبو داود في "القدر".
ومنها: أنه مسلسل بالبصريين.
ومنها: أنَّ سيارًا، وأبا برزة هذا الباب أول محل ذكرهم.
ومنها: أن فيه من صيغ الأداء الإخبارَ، والتحديثَ، والسماعَ.
شرح الحديث
قال سيار رحمه الله (سمعت أبي) سلامة. قال الحافظ رحمه الله تعالى: وسلامة والد سيار حَكَى عنه ولده هنا، ولم أجد من ترجمه، وقد وقعت لابنه عنه رواية في الطبراني الكبير في ذكر الخوض. وفي الرواية الآتية (525) من طريق عوف، عن سيار، قال: دخلت على أبي برزة، وفي (530) دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي. وهي رواية البخاري، وزاد الإسماعيلي "زمن أخرج ابن زياد من البصرة"، قال الحافظ رحمه الله: وكان ذلك سنة 64. اهـ. "فتح" جـ 2 ص 33.
وقال البدر العيني رحمه الله: وقال الإسماعيلي: لما كان زمن أخرج ابن زياد، ووثب مروان بالشام، قال أبو المنهال: انطلَقَ أبي إلى أبي بَرْزَةَ، وانطلقت معه، فَإِذَا هو قاعد في ظل عُلوٍ له من قَصَب في يوم شديد الحر
…
" فذكر الحديث. اهـ. "عمدة" جـ 5 ص 34.
(يسأل أبا برزة) الأسلمي بالبناء للفاعل، "وأبا" مفعول به، والجملة في محل نصب على الحال من "أبي"، على رأي الجمهور، أو مفعول ثان على رأي من يقول إن "سمع" من أخوات "ظن"، على ما هو مقرر في محله.
(عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي المكتوبة لما في الرواية الآتية "فسأله أبي، كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة".
والمراد عن الأوقات التي كان يصلي فيها المكتوبة، ويداوم عليها.
قال شعبة (قلت) لسيار (أنت سمعته) بتقدير الاستفهام، أي أأنت سمعت أباك يسأل أبا برزة (قال) سيار (كما أسمعك الساعة) أي سمعته يسأله كسماعي لكلامك في هذه الساعة. فما مصدرية، والفعل في تأويل المصدر مجرور بالكاف، والساعة منصوب على الظرفية متعلق بالفعل. هذا على جعل "سمع" ثلاثيًا من السماع، وقال السندي: من الإسماع، وعليه يكون المعنى كما أسْمِعُك كلامي.
قال الجامع: الأول أظهر. والله أعلم.
(فقال) سيار (سمعت أبي يسأل) أبا برزة (عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم) الظاهر أن هذه الجملة تأكيد للأولى (قال) أبو برزة رضي الله عنه (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يبالي) أي لا يَهْتَمُّ، ولا يكْتَرثُ، يقال: لا أباليه، ولا أبَالِي بِهِ: أي لا أهْتَمُّ به، ولا أكْتَرِثُ له، ولم أَبَال، ولم أبَلْ للتخفيف، كما حذموا الياء من المصدر، فقالوا:"لا أبَاليه بَالَةً"، والأصل بَاليَةً، مثل عَاَفَاهُ مُعَافَاةً، وعَافِيَةً، قالوا: ولا تسَتعَمل إلا مع الجَحْد، والأصل فيه قولهم: تَبَالَى القَوُم: إذا تَبَادَرُوا إلى الماء القليل، فاستَقَوْا، فمعنى "لا أبَالي": لا أبَادرُ، إهْمَالًا لَهُ. وقال أبو زيد: ما بَالَيْتُ مُبَالاةً، والاسم الَبَلاءُ، وِزَانَ كتَاب، وهو الهَمُّ الذي تُحَدِّثُ به نَفْسَكَ. قاله في "المصباح". جـ 1 ص 62.
(بعض تأخيرها) بالنصب، مفعولًا ليبالي (يعني العشاء) أي يقصد أبو برزة بالضمير في "تأخيرها" العشاء والعناية من بعض الرُّواة؛ سَيَّارٍ، أو غيره (إلى نصف الليل) وعند البخاري "ولا يبالي بتأخير العشاء إلى ثلث الليل" ثم قال "إلى شطر الليل"، ولمسلم من طريق معاذ عن شعبة قال:"ثم لَقِيتُهُ مَرَّة" فقال: "أو ثلث الليل". قال الحافظ رحمه الله: وجزم حماد بن سلمة، عن أبي المنْهَال عند مسلم بقوله "إلى ثلث الليل"، وكذا لأحمد عن حجاج، عن شَعبة اهـ.
(ولا يحب النوم قبلها) أي لما فيه من التعرض لتفويتها. وهذا لمن لا يَجِد مُوقِظًا، أو يستغرقه النوم حتى يفوت العشاء، وإلا فلا
بأس، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شُغِلَ عنها -يعني العشاء- لَيْلَةً، فأخرها حتى رَقَدْنا في المسجد، ثم استيقظنا، ثم رقدنا، ثم استيقظنا
…
" الحديث متفق عليه.
(ولا) يحب (الحديث بعدها) أي حديث الناس، أي المحادثة، وهذا إذا لم يكن الحديث في أمر مُهِمّ، وإلا فقد ثَبَتَ من حديث عمر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يَسْمُرُ هو وأبو بكر في الأمر من أمور المسلمين، وأنا معهما". حسنه الترمذي. ومن حديث أنس رضي الله عنه "أنه صلى الله عليه وسلم خطبهم بعد العشاء، فقال: ألا إنّ الناس قد صَلَّوا، ثم رَقَدُوا" وإنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة". متفق عليه. ومن حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام، فقال: "أرأيتكم ليلتكم هذه
…
" الحديث. متفق عليه.
والحاصل أن الحديث المكروه هو الحديث الذي لا فائدة فيه، وإنما كرهه لكونه يؤدي إلى ترك قيام الليل، أو للاستغراق في الحديث، ثم يستغرق في النوم، فيخرج وقت الصبح.
وكان عمر رضي الله عنه يضرب الناس على ذلك، ويقول: أسَمَرًا أوَّلَ الليلِ، ونَوْمًا آخِرَهُ؟
قال الحافظ رحمه الله تعالى: وإذا تقرر أن علة النهي ذلك، فقد يُفَرِّقُ فَارِقٌ بين الليالي الطوال والقصار، ويمكن أن تُحْمَلَ الكراهة على
الإطلاق حَسْمًا للْمَادَّة، لأن الشيء إذا شرع لكونه مَظنَّة قد يَسْتَمِرُّ، فيصير مَئِنَّة. والله أعلم. اهـ. "فتح" جـ 2 ص 87.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حمله على الإطلاق هو المتعين، لإطلاق النص. ولابد أيضًا من تقييد إباحة الأمر المهم بما لا يؤدي إلى ما ذكر من التفويت لطوله، وما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم لا يؤدي إليه، إذ ليس طويلًا. فتبصر. والله تعالى أعلم.
(قال شعبة) بن الحجاج (ثم لَقِيتُهُ) أي سَيَّارًا (بعدُ) من الظروف المبنية على الضم لقطعه عن الإضافة، ونية معناها، أي بعدَ ما حدثني بهذا الحديث على الوجه المذكور (فسألته) عن الحديث استثباتًا، فقال (قال) أبو برزة رضي الله عنه (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم (يصلي الظهر) أي صلاة الظهر (حين تزول الشمس) أي تميل عن وسط السماء الى جهة المغرب، وفيه إشارة إلى أنه كان يصلي الظهر في أول الوقت، ولا يخالف ذلك الأمْرَ بالإبراد، لاحتمال أن يكون ذلك في زمن البرد، أو قبل الأمر بالإبراد، أو عند فقد شروط الإبراد، لأنه مختص بشدة الحر، أو لبيان الجواز.
وقد يتمسك من قال: إن فضيلة أول الوقت لا تحصل إلا بتقديم ما يمكن تقديمه من طهارة، وستر، وغيرهما قبل دخول الوقت، قال الحافظ رحمه الله: ولكن الذي يظهر أن المراد بالحديث التقريب، فتحصل الفضيلة لمن لم يتشاغل عند دخول الوقت بغير أسباب
الصلاة. قاله في "الفتح" جـ 2 ص 33، 34.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الحافظ رحمه الله هو التحقيق الصحيح. والله تعالى أعلم.
(و) يصلي (العصر، يذهب الرجل) أي بعد الفراغ من الصلاة، كما يدل عليه السياق، لأن الحديث مسوق لتحديد الوقت الذي يصلي فيه النبي صلى الله عليه وسلم (إِلى أقصى المدينة) أي أبعد محل في المدينة، وجملة "يذهب" في محل نصب على الحال، أي يصلي العصر، والحال أنه يذهب الرجل الذي صلى معه إلى أبعد محل في المدينة فَيصِلُ إليه (و) الحال أنه) الشمسُ حَيَّةٌ) أي بيضاءُ نَقِيَّةٌ، فحياةُ الشمس عِبَارة عن بقاء حَرِّها لم يُغَيَّر، وبقاء لونها لم يتغير، وإنما يدخلها التغير بدنوها إلى الغروب، كأنه جُعِلَ مغيبها موتًا لها. أفاده العيني. عمدة جـ 5 ص 28.
وقال الزين بن المُنَيِّر: المرادُ بحياتها قُوَّة أثرها حرارةً ولوْنًا وشُعَاعًا وإنَارَةً، وذلك لا يكون بعد مصير الظل مثلي الشيء اهـ. وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن خَيْثَمَةَ أحد التابعين، قال: حياتُها أن تجد حَرَّهَا. اهـ. "فتح" جـ 2 ص 34.
(والمغرب لا أدري أيَّ حين ذكر)"المغرب" بالنصب مفعول مقدم لقوله "ذكر"، و "أي" بالنصب على الظرفية، لإضافتها إلى الظرف متعلق بـ "ذكر"، أي لا أعلم في أي وقت ذكر صلاة المغرب، وفي الرواية الآتية "ونسيت ما قال في المغرب". وقائل ذلك هو سَيَّار
ابن سَلَامَةَ، كما بينه أحمد في روايته عن حجاج، عن شعبة، عنه. قاله في الفتح.
يعني أن سَيَّارًا نَسِيَ ما ذكره أبو برزة رضي الله عنه في وقت صلاته صلى الله عليه وسلم للمغرب.
قال شعبة (ثم لقيته بعد، فسألته؟) عن حديث أبي برزة استثباتًا أيضًا (فقال: وكان) صلى الله عليه وسلم (يصلي الصبح، فينصرف الرجل) أي يسلم من الصلاة (فينظر إلى وجه جليسه) فعيل بمعنى فاعل، من يُجالِسُهُ، أي الشخص الذي بجنبه، ففي رواية الجوزقي من طريق وهب بن جرير، عن شعبة "فينظر الرجل إلى جليسه، إلى جنبه، فيعرف وجهه"(الذي يعرفه) صفة لجليسه (فيعرفه) فيه دليل على استحباب التعجيل بصلاة الصبح، لأن ابتداء معرفة الإنسان وجه جليسه يكون في أواخر الغلس، وقد صرح بأن ذلك كان عند فراغ
الصلاة، ومن المعلوم من عادته صلى الله عليه وسلم ترتيل القراءة، وتعديل الأركان،
فمقتضى ذلك أنه كان يدخل فيه مُغَلِّسًا.
وادعى الزين بن المُنَيِّر أنه مخالف لحديث عائشة رضي الله عنها الآتي (545) حيث قالت فيه: "لا يُعْرَفْن من الغَلَس"، وتعقب بأن الفرق بينهما ظاهر، وهو أن حديث أبي برزة متعلق بمعرفة من هو مُسْفِرٌ جالس إلى جنب المصلي، فهو ممكن، وحديث عائشة متعلق بمن هو مُتَلفِّفٌ مع أنه على بُعْد، فهو بعيد. قاله في "الفتح" جـ 2 ص 34.
(قال) أبو برزة رضي الله عنه (وكان) صلى الله عليه وسلم (يقرأ فيها) أي في صلاة الصبح (بالستين إلى المائة) يعني من الآي، وقَدَّرَهَا في رواية الطبراني بـ "سورة الحاقة"، ونحوها. ووقع في رواية للبخاري "ما بين الستين إلى المائة" وأشار الكرماني إلى أن القياس أن يقول "ما بين الستين والمائة"، لأن لفظ "بين" يقتضى الدخول على متعدد. قال: ويحتمل أن يكون التقدير: ويقرأ ما بين الستين، وفوقها إلى المائة، فحذف لفظ فوقها لدلالة الكلام عليه. قاله في الفتح. والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له.
أخرجه هنا (495) بسند الباب، وفي (525) عن محمد بن بشار، عن يحيى بن سعيد، عن عوف الأعْرَابي، عن أبي الْمِنْهال، عنه. وفي (530) عن سُوَيد بن نَصْر، عن ابن المبارك، عن عوف، به. وفي 42/ 948 عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، عن يزيد بن هارون، عن سليمان التيمي، عن سيار به، مختصرًا بلفظ "كان يقرأ في صلاة الغداة بالستين إلى المائة".
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه؛ فأخرجه
البخاري في "الصلاة" عن حفص بن عمر، -وعن آدم بن أبي إيَاسٍ- كلاهما عن شعبة، عن أبي الْمِنْهال، عنه. وقال تعليقًا: وقال معاذ، عن شعبة، ثم لقيته مرة أخرى، فقال "أو ثلث الليل". وأخرجه عن محمد بن مقاتل عن ابن المبارك -وعن مسدد، عن يحيى- كلاهما عن عوف، عنه نحوه.
وأخرجه مسلم في "الصلاة" أيضًا عن يحيى بن حبيب بن عَرَبِيّ، عن خالد بن الحارث -وعن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه- كلاهما عن شعبة به. وعن أبي كريب، عن سُوَيد بن عَمْرو الكَلْبِيّ، عن حماد بن سلمة، عنه به.
وأخرجه أبو داود في "الصلاة" أيضًا عن حفص بن عمر بتمامه، وفي الأدب ببعضه. وأخرجه ابن ماجه في الصلاة عن محمد بن بشار، عن يحيى بن سعيد، عن عوف، به. وأخرجه أحمد. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو بيان أول وقت الظهر، وهو زوال الشمس عن وسط السماء.
ومنها: ما كان عليه السلف من حرصهم على معرفة عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليمكنهم الاتباع، فكانوا يسألون الصحابة رضي الله عنهم عن ذلك {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
ومنها: عناية المحدثين في الفحص عن سماع من حدثهم، حيث
قال شعبة لشيخه: أنت سمعته؟
ومنها: استحباب تأخير العشاء إلى ثلث الليل، أو نصفه، والأول هو الأولى، لأن أكثر الروايات على الثلث، ولحديث "ووقْتُ صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط" رواه مسلم، وسيأتي تحقيق القول فيه في بابه إن شاء الله تعالى.
ومنها: كراهة النوم قبلها، لما فيه من التعرض لتفويتها، وهذا لمن ليس له موقظ أو نحوه.
ومنها: كراهة الحديث بعدها، وذلك لأن السهر في الليل سبب للتكاسل عما يتوجه من حقوق الناس والطاعات، ومصالح الدين، قالوا: المكروه منه ما كان في الأمور التي لا مصلحة فيها، أما ما فيه مصلحة وخير فلا كراهة فيه، وذلك كمدارسة العلم، وحكايات الصالحين، ومحادثة الضيف والعروس للتأنيس، ومحادثة الرجل أهله وأولاده للملاطفة، والحاجة، ومحادثة المسافرين لحفظ متاعهم أو أنفسهم، والحديث في الإصلاح بين الناس، والشفاعة لهم في خير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإرشاد الى مصلحة ونحو ذلك، فلا كراهة في ذلك. أفاده في "العمدة" جـ 5 ص 29.
قال الجامع: لكن كل هذا لابد من تقييده بما لا يؤدي إلى تفويت الصلاة، كما مر التنبيه عليه. فافهم.
ومنها: استحباب تعجيل صلاة الظهر في أول وقتها، وهو مُقَيَّد
بما إذا لم يشتد الحرّ، لأنه ورد الأمر بالإبراد فيه.
ومنها: استحباب التعجيل في صلاة العصر، وهو مذهب الجمهور، وخالف فيه أبو حنيفة، فقال بتأخيرها، والأحاديث ترد عليه، وسيأتي تحقيق القول فيه في بابه إن شاء الله تعالى.
ومنها: استحباب التغليس بصلاة الفجر، ولا ينافي ذلك ما يأتي من الأمر فيها بالإسفار، لإمكان الحمل على أن الإسفار هو أن يمد بصلاة الفجر إلى أن يُسْفرَ، ومعنى ذلك تطويل القراءة، كما سيأتي الكلام عليه مستوفىً فِي بابه إن شاء الله تعالى.
المسألة الخامسة: قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى: أجمع علماء المسلمين في كل عصر، وفي كل مصر بَلَغَنَا عنهم أنّ أول وقت الظهر زوال الشمس عن كَبِدِ السماء، وَوَسط الْفَلَكِ إذا استوقن ذلك في الأرض بالتفقد والتأمل، وذلك ابتداء زيادةَ الظل بعد تناهي نقصانه في الشتاء والصيف جميعًا، وإن كان الظل مخالفًا في الصيف له في الشتاء، وهذا إجماع من علماء المسلمين كُلِّهم في أول وقت الظهر، فإذا تبين زوال الشمس بما ذكرنا، أو بغيره فقد حلَّ وقت الظهر، وذلك ما لا خلاف فيه، وذلك تفسير لقوله تعالى:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، ودُلُوكُها مَيْلُهَا عند أكثر العلماء، ومنهم من قال: غروبها، واللغة محتملة للقولين، والأول أكثر. اهـ. "تمهيد" جـ 7 ص 70. والله تعالى أعلم.
المسألة السادسة: قال النووي رحمه الله: للظهر ثلاثة أوقات؛
وقت فضيلة، ووقت اختيار، ووقت عذر؛ فوقت الفضيلة: أوله، ووقت الاختيار: ما بعد وقت الفضيلة إلى آخر الوقت، ووقت العذر: وقت العصر في حق من يجمع بسفر، أو مطر، هكذا قال الأكثرون، وقال القاضي حسين: لها أربعة أوقات: وقت فضيلة، ووقت اختيار، ووقت جواز، ووقت عذر، فوقت الفضيلة: إذا صار ظل الشيء مثل ربعه، والاختيار: إذا صار مثل نصفه، والجواز: إذا صار ظله مثله، وهو آخر الوقت، والعذر: وقت العصر لمن جمع بسفر، أو مطر. اهـ. المجموع جـ 3 ص 24. وبالله تعالى التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
496 -
أَخْبَرَنَا كَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسٌ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ، فَصَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الظُّهْرِ.
رجال الإسناد: خمسة
1 -
(كَثِير بن عُبَيد) بن نُمَير المَذْحِجِيُّ، أبو الحسن الحِمْصي الحَذَّاء الُمقْرِئُ، ثقة، توفي في حدود سنة 250، من [10]، أخرَج له أبو داود والنسائي وابن ماجه، تقدم في (486).
2 -
(محمد بن حَرْب) الخَوْلاني الحمصي، الأبْرَش، ثقة، توفي سنة 194، من [9]، أخرج له الجماعة، تقدم في 122/ 172.
3 -
(الزبيدي) محمد بن الوليد بن عامر، أبو الهُذَيل الحمصي القاضي، ثقة ثبت، من كبار أصحاب الزهري، توفي سنة 146 أو 147 أو 149، من [7]، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، تقدم في 45/ 56.
4 -
(الزهري) محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله القرشي المدني أبو بكر، الفقيه الحجة الحافظ، توفي سنة 125 على الصحيح، من رؤوس [4]، أخرج له الجماعة، تقدم في 1/ 1.
5 -
(أنس) بن مالك بن النَّضْر بن ضَمْضَم الأنصاري الخزرجي أبو حمزة خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، خدمه عشر سنين، مات بعد سنة 90، وقد جاوز 100 سنة، أخرج له الجماعة، رضي الله عنه، تقدم في 6/ 6. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات أجلاء، اتفقوا عليهم إلا شيخه فلم يخرج له البخاري، ومسلم، والترمذي. والزبيدي فلم يخرج له الترمذي.
ومنها: أنهم حمصيون إلا الزهري فمدني، وأنسًا فمدني بصري.
ومنها: أن أنسًا أحد المكثرين السبعة، رَوَى 2286 حديثًا، وآخرُ من مات من الصحابة بالبصرة.
ومنها: أن فيه من صيغ الأداء الإخبار، والتحديث، والعنعنة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن الزهري) أنه (قال: أخبرني أنس) رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس) أي مالت عن كَبد السماء، يقال: زَاغَت الشمسُ، تَزِيغُ، زَيْغًا: مالت، وزَاغَ الشَّيَءُ كذلك، ويَزُوغُ زَوْغًا لغَة. وأزاغه إزاغة في التعدي. قاله في المصباح. (فصلى بهم) أي بالصحابة رضي الله عنهم (صلاة الظهر) فيه بيان أن أول وقت الظهر زوال الشمس. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أنس رضي الله عنه هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان موضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (496) بهذا السند فقط، وهو من أفراده، لم يخرجه من أصحاب الكتب الستة غيره كما أشار إليه الحافظ أبو الحجاج المزي في "الأطراف" جـ 1 ص 391.
المسألة الثالثة: ذَكَرَ العلامةُ عمَاد الدين إسماعيل بن أبي البركات ابن باطيش -575 - 655 هـ، في كتَابه النفيس
(1)
"المغني في الإنباء عن غريب المُهَذَّب والأسماء" تنبيهًا نفيسًا في معرفة أوقات الصلاة أحببت
(1)
وهو كتاب ألفه لشرح غريب وتراجم المهذب لأبي إسحاق الشيرازي في فقه الشافعي، طبع 1411 هـ-1991 م بتحقيق الدكتور مصطفى عبد الحفيظ سالم.
إيراده هنا تتميمًا للفائدة، قال رحمه الله تعالى:
إذا أردت أن تعرف زوال الشمس فانصب في الأرض عُودًا مستقيمًا، ثم انظر إلى موضع انتهاء ظله، فَعَلِّم عليه، ثم اصبر قليلًا، فإن رأيت الظل قد نقص، فاعلم أن الشمس لم تَزُلْ بَعدُ، وإن رأيته قد زاد، فقد زالت.
ثم احفظ مقدارَ الظل الذي زالت عليه الشمس، فإذا أردت أن تعرف دخول وقت العصر، فانصب ذلك العود مقابل الشمس، وانظر إلى حيث ينتهي ظله، فعلم عليه، ثم انظر، فإن كان مقدار ذلك الظل مثل طول العود مع القدر الذي زالت عليه الشمس، فهو آخر وقت
الظهر، فإذا زاد أدنى زيادة، فقد دخل وقت العصر.
ومدة الوقت لصلاة الظهر من أوله إلى خروجه ثلاث ساعات زمانية، تطول إذا طال النهار، وتقْصُرُ إذا قَصُرَ.
ومدة الاختيار لصلاة العصر، وذلك منذ دخول المِثْلِ الثاني بعد القدر الذي زالت عليه الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه، مبلغ مدة ذلك نصف ساعة بالتقريب، فمتى زاد على نصف ساعة، فقد خرج وقت الاختيار، ودخل الظل في المثل الثالث بعد قدر الزوال.
وأما المغرب، فيدخل وقتها بغروب الشمس، فإن أمكنك معاينة غروب قُرْصِ الشمس، فعند غروبه يدخل وقتها، وإن كان بينك وبين
الشمس حائل وقت الغروب، فانظر إلى الجهة المحاذية لغروب الشمس في ذلك اليوم، فترى سوادًا شبيها بالسَّحَابة معترضًا، ثم لا يزال يعلو، حتى إذا غاب نصف قرص الشمس ظهرت حمرة فوق ذلك السواد كالعصابة، فإذا تكامل الغروب: غلب السوادُ الحمرةَ، وتلاشت إلا الشيءُ الخَفِيُّ.
وأما العشاء، فأول وقتها، على مذهب الشافعي رضي الله عنه: إذا غاب الشفق الأحمر، والصُّفْرَةُ التي تعقبه، ولم يبق إلا البياض، ومقدار ما بينه وبين صلاة المغرب نصف سدس الليل، إن طال الليل: طال ذلك النصف سدس، وإن قصر الليل: قصر.
قال أبو العباس أحمد بن سعيد الشِّيحِيُّ
(1)
: ومقداره ساعة وثلاثة أسباع ساعة تقريبًا.
ومن يزعم أن الشفق هو البياض فمقدار ما بينه وبين صلاة المغرب سدس سواد الليل.
وأما وقت الاختيار لصلاة العشاء، فعلى قول الشافعي: إن أول وقتها: إذا غاب الشفق الأحمر، وآخر وقت الاختيار: إذا مضى ثلث الليل، وهو الجديد، فعلى هذا يكون مقدار الوقت ثلاث ساعات
(1)
أبو العباس الشامي، سكن بغداد، وحدث بها عن ابن غلبون المقرئ، له كتاب مصنف في الزوال وعلم مواقيت الصلاة، توفي سنة 406 هـ. اهـ. من هامش المغني جـ 1 ص 75.
ونصف بالتقريب.
وعلى قول من يزعم أن الشفق هو البياض، وأن آخر وقت الاختيار: إذا مضى نصف الليل يكون مدته ثلاث ساعات وربع وسدس، بالتقريب.
وإذا أردت معرفة دخول وقت العشاء، ولم تنظر إلى موضع الشفق، فإذا رأيت صغار النجوم قد ظهرت ظهورًا بَيِّنًا فاعلم أن الحمرة قد غابت، وأن وقت العشاء قد دخل، فإن لم تكن نجوم لغيم، فإذا مضى نصف سدس الليل: فقد دخل وقتها.
وإذا أردت معرفة طلوع الفجر الثاني، فانظر إلى مطلع الشمس، فعلم نحو جهته، ثم انظر آخر الليل، فإن البياض يبتدئ من تلك الجهة إذا بقي من الليل قَدْرُ ساعتين، ثم يرتفع إلى ربع السماء في رأي العين، كأنه عمود مستطيل، وأدناه عريض، وهو الفجر الأول، ثم يَنْحَدِرُ نَحْوَ المشرق، فإذا رأيت السواد الذي تحته قد صارت فيه خطوط بيض، واعترض البياض في المشرق، فقد طلع الفجر الثاني.
ومقدار الوقت من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس: ساعة وخمسة أسباع ساعة زمانية، وهو سُبُع منازل القمر من مغيب الشمس إلى طلوعها، فإن طال الليل: طال هذا السبع، وإن قصر الليل: قصر، فهو في المدة بالزيادة والنقصان من حساب الليل، وهو على الصائمين من حساب النهار. فتبارك الله رب العالمين.
وإذا أردت معرفة ما مضى من ساعات النهار، فخذ عودًا طوله اثنا عشر إصبعًا، وانصبه في موضع مُسْتَوٍ بإزاء الشمس، ثم انظر كم طول ظله، فزد عليه مثل طول ظل العُود، أعني اثني عشر أصبعًا أخرى، ثم ألق من الجملة مثل ظل الزوال، وهو القدر الذي يكون من ظل ذلك العود عند الزوال، فما بقي اقسم عليه اثنين وسبعين، فما خرج فهو قدر الساعات الذاهبة من النهار. والله أعلم. وهذا الطريق ذكره صاحب البيان. اهـ. "المغني في الإنباء في غريب المهذب والأسماء" جـ 1 ص 78 - 81. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
497 -
أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ خَبَّابٍ، قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَرَّ الرَّمْضَاءِ، فَلَمْ يُشْكِنَا.
قِيلَ لأَبِي إِسْحَاقَ فِي تَعْجِيلِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ.
رجال الإسناد: ستة
1 -
(يعقوب بن إِبراهيم) الدَّورقي أبو يوسف، ثقة، توفي سنة 252، من [10]، تقدم في 21/ 22.
2 -
(حميد بن عبد الرحمن) بن حميد بن عبد الرحمن
الرؤاسي
(1)
-بضم الراء بعدها همزة خفيفة- أبو عوف الكوفي، ثقة، من [8].
وقيل: كنيته، أبو علي، وأبو عَوْف لقبه. قال الأثرم: أثْنَى عليه أحمد، وَوَصَفهُ بخير، وقال ابن معين: ثقة، وقال ابن أبي خيثمة عن أبي بكر بن أبي شيبة: قَلَّ من رأيت مثله. وقال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث لم يكتب الناس كل ما عنده، وقال العجلي: ثقة ثبت عاقل ناسك. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مات في آخر سنة 192، وقال ابن نمير: توفي سنة 190، وقيل: سنة 189. اهـ. "تت". روى له الجماعة.
3 -
(زهير) بن معاوية بن حُدَيج، ابن خيثمة الجعفي الكوفي نزيل الجَزِيرَة، ثقة ثبت، إلا أن سماعه من أبي إسحاق بآخره، توفي سنة 132، وقيل: غير ذلك، من [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 38/ 42.
4 -
(أبو إِسحاق) عمرو بن عبد الله السَّبيعي الكوفي، ثقة مكثر عابد، اختلط بآخره، من [3]، تقدم في 38/ 42.
5 -
(سعيد بن وهب) الهَمْداني الخَيواني
(2)
-بفتح المعجمة وسكون الياء، وبعد الألف نون- يقال له: القُرَاد -بضم القاف، وتخفيف الراء- الكوفي، ثقة مخضرم. أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وَسَمِعَ
(1)
نسبة إلى رُؤاس بن كِلابِ. اهـ. من هامش تت.
(2)
الخيواني: نسبة إلى خيوان؛ بطن من همدان. اهـ. لب اللباب جـ 1 ص 356.
من معاذ بن جبل باليمن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. وَرَوَى عنه، وعن ابن مسعود، وعلي، وسلمان، وأبي مسعود، وحذيفة، وخباب بن الأرت، وأم سلمة رضي الله عنهم. وعنه ابنه عبد الرحمن، وأبو إسحاق، وعمارة ابن عمير، والسري بن إسماعيل. قال ابن معين: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات. قال ابن أبي عاصم: توفي سنة 75، وقال عمرو بن علي: سنة 76، وقال ابن سعد: عُرِف بالقُراَد للزومه عليَّ بن أبي طالب، ووثقه العجلي، وابن نمير، وقال ابن حبان: وهو الذي يقال له: سعيد ابن أبي خيرة. اهـ. "تت". روى له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم، والنسائي.
6 -
(خَبَّابُ) بنُ الأرَتِّ
(1)
بن جندلة بن سعد التميمي، أبو عبد الله، شهد بدرًا، وكان قَيْنًا في الجاهلية. رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى عنه أبو أمامة الباهلي، وابنه عبد الله بن خباب، وأبو معمر عبد الله بن سَخْبَرَة، وقيس بن أبي حازم، ومسروق بن الأجدع، وعلقمة بن قيس، وأبو وائل، وحارثة بن مضرب، وأبو الكنود الأزدي، وأبو ليلى الكندي، وأرسل عنه، ومجاهد، والشعبي، وسليمان بن أبي هند، ويقال: ابن أبي هندية، نزل الكوفة، ومات بها سنة 37 وهو ابن 73 سنة، وقيل: أو ستين، وصلى عليه علي بن
(1)
خباب: بموحدتين الأولى مثقلة. اهـ. ت. والأرت: بهمزة وراء مفتوحتين، وشدة مثناة فوق.
أبي طالب، وكان من المهاجرين الأولين. قال ابن سعد: أصابه سبي، فبيع بمكة، ثم حالف بني زهرة، وأسلم قبل أن يدخل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم دارَ الأرقَمِ، وكان من المستضعفين الذين يُعَذَّبُون بمكة، وحَكَى البَارُودِيّ أنه أسلم سادس ستة، وحكى ابن عبد البر في الاستيعاب أنه شَهِد صِفِّين مع علي، ثم قال: وقيل: مات سنة 19، وصَلَّى عليه
عمر، وقال أبو الحسن بن الأثير: الصحيح أنه لم يشهد صِفِّين، منعه من ذلك مرضه. وقال ابن حَبان: مات مُنْصَرَف علي من صفين، وصَلَّى عليه عليٌّ. وقيل: توفي سنة 19، والأول أصح. اهـ. "تت". والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات اتفقوا عليهم إلا سعيدًا فما أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
ومنها: أن شيخه هو أحد مشايخ الستة، رووا عنه بدون واسطة، كما تقدم غير مرة.
ومنها: أنه مسلسل بالكوفيين، إلا شيخه، فبغدادي.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي. وأن فيه الإخبارَ، والتحديث، والعنعنة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن خَبَّاب) بن الأرتّ رضي الله عنه أنه (قال: شَكَوْنا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) يقال: شَكَوْتُهُ، شَكْوًا، من باب قَتَلَ، والاسم شَكْوَى، وشِكَايَة، وشَكَاة، فهو مَشْكُوٌّ، ومَشْكِيٌّ، واشْتَكَيْتُ منه، والشَّكِيَّةُ اسم للمَشْكُوِّ، وأشْكَيْتُهُ بالألف: فَعَلْتُ به ما يُحْوِج إلى الشَّكْوى. قاَله في "المصباح".
وقال ابن بَرِّيّ: الشَّكَايَةُ، والشَّكِيَّةُ: إظهار ما يَصِفُكَ به غَيرُك من المَكْرُوه، والاشتِكَاء: إظهار ما بك من مكروه ومَرَض، ونحوه. قاله في اللسان.
(حَرَّ الرَّمْضَاء) كحمراء بضاد معجمة: هي الرَّمْل الحَارّ لحَرَارِةِ الشمس، قاله السندي. وفي المصباح: الرَّمْضَاءُ: الحِجَارَةُ الحامية من حَرّ الشمس (فلم يُشْكِنا) مضارع أشْكَى رُبَاعيًا، يقال: أشكيت فلانًا: إذا أزلت شكايته، فالهمزة للسلب، مثل أعربته: إذا أزلت عَرَبَهُ، وهو فساده. قاله في "المصباح". وتقدم أنه يقال: أشْكَيْتُهُ بالألف: إذا فعلت به ما يحوج إلى الشكوى، فهو من الأضداد.
ومعنى الحديث كما قال ابن الأثير في "النهاية": أنهم شَكَوا إليه حَرَّ الشمس، وما يُصيبُ أقدامَهُم منه إذا خرجوا إلى صلاة الظهر، وسألوه تأخيرها قليلًا، فلم يُشْكِهم: أي لم يُجِبْهُمْ إلى ذلك، ولم يُزل شكواهم.
قال ابن الأثير رحمه الله: وهذا الحديث يذكر في مواقيت الصلاة لأجل قول أبي إسحاق لَمَّا قِيل له: في تعجيلها؟ قال: نعم، والفقهاء يذكرونه في السجود، فإنهم كانوا يضعون أطراف ثيابهم تحت جباههم في السجود من شدة الحر، فَنُهُوا عن ذلك، وإنهم لما شَكَوا إليه ما يجدون من ذلك لم يَفْسَحْ لهم أن يسجدوا على أطراف ثيابهم. اهـ. "نهاية" جـ 2 ص 497.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله ابن الأثير نقلًا عن الفقهاء غير صحيح، لمخالفته ما صح من حديث أنس رضي الله عنه، أنه قال:"كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه، فسجد عليه" رواه مسلم.
ودعوى كون المراد بالثوب الثوبَ المنفصلَ -كما قالت الشافعية- مما لا دليل عليه. والله أعلم.
وقال القرطبي رحمه الله: يحتمل أن يكون هذا منه صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمروا بالإبراد، ويحتملى أنهم طلبوا زيادة تأخير الظهر على وقت الإبراد، فلم يُجِبْهم إلى ذلك. وقد قال ثعلب في قوله: فلم "يشكنا": أي لم يُحْوِجْنا إلى الشَّكْوَى، ورَخَّص لنا في الإبراد، حكاه القاضي أبو الفرج، وعلى هذا تكون الأحاديث كلها متواردة على معنى واحد. اهـ. "زهر".
قال الجامع عفا الله عنه: تفسير ثعلب يرده -كما قال الحافظ-
أن في الخبر زيادة رواها ابنُ المنذر بعد قوله "فلم يُشْكنَا" وقال: "إذا زالت الشمس فصلوا". فالأولى أن يحمل معنى "فلم يشكنا" على المعنى الأول، فيكون المعنى لم يزل شكوانا، وذلك أنهم طلبوا منه تأخيرًا زائدًا عن وقت الإبراد، وهو زوال حر الرَّمْضَاء، وذلك قد يستلزم خروج الوقت. فلم يُجِبْهُم إليه. وسيأتي زيادة تحقيق في المسألة بعد بابين إن شاء الله تعالى.
(فقيل لأبي إِسحاق) السبيعي، والقائل له هو زهير، ففي رواية مسلم قال زهير: قلت لأبي إسحاق: أفي الظهر؟ قال: نعم، قلت: أفي تعجيلها؟ قال: نعم (في تعجيلها) مقول "قيل" بتقدير الاستفهام، أي أكانت الشكوى في شأن تعجيل صلاة الظهر (قال: نعم) أي قال أبو إسحاق: نعم، كانت في ذلك.
وحاصل المعنى أنَّ زُهَيْرًا لما حدثه أبو إسحاق بهذا الحديث، قال له: هل هذه الشكوى من أجل تعجيل صلاة الظهر الذي تسبب لإيذاء حر الرَّمْضَاء لهم؟ فقال أبو إسحاق: نعم.
والحديث يدل على استحباب الاستعجال بصلاة الظهر، ولذا أورده المصنف في باب أول وقت الظهر، ويؤيده جواب أبي إسحاق المذكور. لكن تعارضه الأحاديث الواردة في الأمر بالإبراد عند اشتداد الحر، وسيأتي الجمع بينهما في "باب الإبراد بالظهر إذا اشتد الحر" بعد بابين، إن شاء الله تعالى، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث خَبَّاب رضي الله عنه أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان موضع ذكر المصنف له:
لم يخرجه إلا في هذا الباب.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه مسلم في "الصلاة" عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي الأحوص -وعن أحمد بن يونس، وعون بن سَلام- كلاهما عن زهير بن معاوية- كلاهما عن أبي إسحاق، عن سعيد بن وَهْب، عنه. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: استحباب التعجيل بصلاة الظهر في شدة الحر، وسيأتي وجه الجمع بينه وبين أحاديث الإبراد.
ومنها: ما كان عليه الصحابة من مراجعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم فيما أشكل عليهم، ولا يتقدمون بين يديه؛ قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1].
ومنها: أنه ينبغي للعبد أن يكلف نفسه تحمل ما يشق عليها في طاعة
الله تعالى؛ لينال به الأجر العظيم. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
3 - بَابُ تَعْجِيلِ الظُّهْرِ فِي السَّفَرِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على استحباب تعجيل صلاة الظهر في حال السفر، وهو مقيد بما إذا كان الوقت باردًا، وإلا فيستحب الإبراد، لحديث أبي ذر رضي الله عنه الذي سنذكره، إن شاء الله تعالى.
498 -
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَمْزَةُ الْعَائِذِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ:"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا نَزَلَ مَنْزِلاً لَمْ يَرْتَحِلْ مِنْهُ، حَتَّى يُصَلِّىَ الظُّهْرَ، فَقَالَ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَتْ بِنِصْفِ النَّهَارِ؟ قَالَ: وَإِنْ كَانَتْ بِنِصْفِ النَّهَارِ".
رجال هذا الإسناد: خمْسة
1 -
(عبيد الله بن سعيد) اليشكري، أبو قُدَامَةَ السَّرَخْسيُّ، نزيل نيسابور، ثقة مأمون سني، توفي سنة 241، من [10]، أخرج له البخاري ومسلم والنسائي.
2 -
(يحيى بن سعيد) القطان البصري، ثقة حجة ثبت، من [9]، تقدم في 4/ 4.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجاج الواسطي، ثم البصري، ثقة حافظ متقن، من [7]، تقدم في 24/ 26.
4 -
(حمزة العائذي) هو ابن عمرو، أبو عُمَر الضَّبِّيُّ البصري، صدوق، من [4].
قال أبو حاتم: شيخ، وقال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: قد وَهِمَ من زعم أنه جمرة -يعني بالجيم، والراء. روى له مسلم، وأبو داود، والنسائي.
تنبيه:
العائذي: نسبة إلى عائذة ضَبَّةَ، وهم بنو عائذة بن مالك بن بكر بن سعد بن ضَبَّةَ بن أدّ، وقيل: عائذ الله بن سعد بن ضبة. أفاده في اللباب جـ 2 ص 308.
5 -
(أنس بن مالك) الأنصاري الصحابي الجليل رضي الله عنه تقدم في 6/ 6. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، إلا حمزة، فصدوق.
ومنها: أنهم بصريون إلا شيخه، فسرخسي، نزيل نيسابور.
ومنها: أن فيه أنسًا أحد المكثرين السبعة، رَوَى 2286 حديثًا.
ومنها: أن فيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة، والسماع. والله أعلم.
شرح الحديث
قال حمزة (سمعت أنس بن مالك) رضي الله عنه (يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم إِذا نزل منزلًا) للاستراحة وأدركه الزوال فيه (لم يرتحل منه) من ذلك المنزل (حتى يصلي الظهر) فيه.
والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم إذا نزل مكانا للاستراحة، ثم زالت الشمس وهو في ذلك المكان لم ينتقل منه إلا بعد أداء صلاة الظهر، وليس المراد أنه كلما نَزَل مَنْزِلًا انتظر الزوال ليصلي صلاة الظهر، لما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل، فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر، ثم ركب".
فهذا الحديث يدل على أنه إنما يصلي إذا اتفق زوال الشمس قبل ارتحاله، لا أنه ينتظر الزوال هناك، والحاصل أنه إذا زالت الشمس قبل ارتحاله صلى الظهر، وإلا ارتحل، حتى يجمعها مع العصر في وقت العصر.
(فقال رجل) لأنس بن مالك رضي الله عنه (وإن كانت
بنصف النهار) أي يصلي وإن كانت الصلاة بنصف النهار، فاسم "كان" ضمير يعود إلى الصلاة المفهومة من قوله "يصلي"، و"بنصف النهار" جار ومجرور متعلق بمحذوف خبرها (قال) أنس (وإِن كانت بنصف النهار) يعني عقب الزوال، فالمراد من الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يبادر بصلاة الظهر في السفر في أول وقتها قبل ارتحاله، وليس المراد أنه يصليها قبل الزوال، لحديث الصحيحين المذكور، آنفًا، وللإجماع على عدم صحة الصلاة قبل الوقت، إلا ما يأتي من الخلاف في صلاة الجمعة قبل الزوال في بابه إن شاء الله تعالى. وبالله التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته.
حديث أنس رضي الله عنه هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (498)، وفي "الكبرى"(1485) بهذا السند.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه أبو داود في "الصلاة" عن مسدد، عن يحيى، عن شعبة، عن حمزة بن عمرو العائذي، عنه. والله أعلم.
المسألة الرابعة:
استدل المصنف رحمه الله تعالى بحديث أنس رضي الله عنه هذا، على استحباب التعجيل بصلاة الظهر في السفر، ومثله ما أخرجه أبو داود بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه، قال: كنا إذا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر، فقلنا: زالت الشمس، أو لم تزل، صلى الظهر، ثم ارتحل".
فإن قيل: يعارضه ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، قال. "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أبْرِد، ثم أراد أن يؤذن، فقال له: أبرد، حتى رأينا فَيْءَ التُّلُول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن شدة الحرّ من فَيْحِ جهنم، فإذا اشتد الحر، فأبردوا بالصلاة"؛ فإنه يدل على استحباب التأخير في الظهر في السفر.
أجيب بأن حديث أنس رضي الله عنه محمول على أيام البرد، وحديث أبي ذر رضي الله عنه على أيام اشتداد الْحَرّ، فلا تعارض. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
4 - تَعْجِيلُ الظُّهْرِ فِي الْبَردِ
أي هذا باب في ذكر الحديث الدال على استحباب التعجيل بصلاة الظهر في زمان البرد، سواء كان في الحضر، أو في السفر.
499 -
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ دِينَارٍ، أَبُو خَلْدَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ وَإِذَا كَانَ الْبَرْدُ عَجَّلَ".
رجال الإسناد: أربعة
1 -
(عُبَيد الله بن سعيد) السَّرَخْسِيُّ المتقدم في السند الماضي.
2 -
(أبو سعيد مولى بني هاشم) عبدُ الرحمن بن عبد الله بن عُبَيد البصري، نَزِيل مكة، لقبه جَرْدَقَةُ -بفتح الجيم والدال، بينهما راء ساكنة، ثم قاف، صدوق ربما أخطأ، من [9]، أخرج له البخاري.
قال أحمد، وابن معين. ثقة. وقال أبو حاتم: كان أحمد لا يرضاه، وما كان به بأس. وقال أبو القاسم الطبراني: ثقة. وقال هارون بن الأشعث. توفى سنة 197 ووثقة البغوي، والدارقطني، وذكره ابن شاهين في الثقات. وقال الساجي: يَهِمُ في الحديث. وحكى العقيلي عن أحمد بن حنبل أنه قال. كان كثير الخطأ. ونقل القباني: أنه جاء عن
أحمد أنه كان لا يرضاه. اهـ "تت". أخرج البخاري، وأبو داود في "فضائل الأنصار"، والنسائي، وابن ماجه.
3 -
(خالد بن دينار أبو خَلْدَة) -بفتح المعجمة، وسكون اللام- التميمي السعدي، مشهور بكنيته، البصري الخياط، صدوق، من [5].
قال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: صالح. وقال عثمان بن سعيد عن يحيى: ثقة. وقال عمرو بن علي، عن يزيد بن زريع: ثنا أبو خَلْدَةَ، وكان ثقة، وقال أيضًا: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا أبو خلدة، فقال له رجل: كان ثقة؟ فقال: كان مأمونًا خيارًا، الثقة: شعبة، وسفيان.
وقال النسائي: ثقة. وقال أبو زرعة: أبو خلدة أحب إلي من الربيع ابن أنس. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله سن، وقد لَقِيَ
(1)
، وقال العجلي، والدارقطني: ثقة، وقال الترمذي: ثقة عند أهل الحديث.
وفي تاريخ البخاري: قال ابن مهدي: كان خيارًا مسلمًا، صدوقًا، وقال ابن حبان في الثقات: كان ابن مهدي يحسن الثناء عليه، وقال ابن عبد البر في الكنى: هو ثقة عند جميعهم، وكلام ابن مهدي لا معنى له في اختيار الألفاظ، وقال ابن قانع. مات سنة 152. اهـ. "تت". أخرج له البخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي.
(1)
أي لقي بعض الصحابة.
4 -
(أنس بن مالك) أبو حمزة الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 6/ 6. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من رباعيات المصنف، وهو أعلى ما عنده من الأسانيد، وقد تقدم غير مرة، وهو (18) من رباعيات الكتاب.
ومنها: أن رجاله كلهم موثقون، بصريون إلا شيخه فسرخسي.
ومنها: أن أنسًا أحد المكثرين السبعة روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة، مات بعد سنة 90 وقد جاوز 100.
ومنها: أن فيه الإخبارَ، والتحديثَ، والسماعَ، من صيغ الأداء. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(قال) خالد بن دينار رحمه الله (سمعت أنس بن مالك) رضي الله عنه (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا كان الحر)"كان" تامة، ولذا اكتفت بمرفوعها، كما قال ابن مالك:
................
…
وَذُ وتَمَامٍ مَا بِرَفعٍ يَكْتَفِي
وقال الحَرِيريُّ في مُلْحَته:
وَإِنْ تُقُلْ يَا قَومُ قَدْ كَانَ المَطَرْ
…
فَلَسْتَ تَحْتَاجُ لَهَا إِلى خَبَر
ومعناها: حصل وَوُجِدَ الحَرُّ.
(أبرد بالصلاة) من الإبراد، وهو الدخول في البَرْد، يقال: أبْرَدْنَا دخلنا في البَرْد، مثل أصبحنا: دَخَلْنا فى الصباح، وأبْرَد بالظهر: أدخل صلاة الظهر في البرد، وهو سكون شدة الحر، فالباء للتعدية. أفاده في المصباح (وإِذا كان البرد) أي حصل البرد (عجل) أي بادر
بأداء الصلاة في أول الوقت.
ثم إن المراد بالصلاة هنا هي الظهر، ولذا أورد المصنف الحديث في باب تعجيك الظهر في البرد.
وأما البخاري فقد أورده في كتاب الجمعة، في "باب إذا اشتد الحر يوم الجمعة" قال حدثنا محمد بن أبي بكر المقدّمي، قال: حدثنا حرمي بن عمارة، قال: حدثنا أبو خَلْدة هو خالد بن دينار، قال: سمعت أنس بن مالك، يقول:"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتد البرد بَكَّر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة"، يعني الجمعة. قال يونس بن بكير: أخبرنا أبو خلدة، فقال:"بالصلاة"، ولم يذكر الجمعة. وقال بشر بن ثابت: حدثنا أبو خلدة، قال:"صَلَّى بنا أمير البصرة الجمعة، ثم قال لأنس رضي الله عنه: كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر"؟.
قال الزين ابن المُنَيِّر: نحا البخاري إلى مشروعية الإبراد بالجمعة، ولم يَبُتَّ الحُكْمَ بذلك؛ لأن قوله "يعني الجمعة" يحتمل أن يكون التابعي مما فَهِمَهُ، ويحتمل أن يكون من نقله، فرجح عنده إلحاقها
بالظهر، لأنها إما ظهر، وزيادة، أو بدل عن الظهر، وأيد ذلك قولُ أمير البصرة لأنس يوم الجمعة "كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر"، وجواب أنس من غير إنكار ذلك.
انظر الفتح جـ 2 ص 452 - 453، وسيأتي تحقيق القول في المسألة في "كتاب الجمعة"- "باب وقت الجمعة"(14/ 1388) إن شاء الله تعالى. وبالله التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أنس رضي الله عنه هذا أخرجه البخاري.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (499)، وفي "الكبرى"(1486) بسند الباب، وقال الحافظ المزي: وعن إسماعيل بن مسعود، عن خالد بن الحارث، عنه نحوه، وأولُهُ: أن الحكم بن أيوب أخر الجمعة، فتكلم يزيد الضبي. اهـ "تحفة" جـ 1 ص 216.
قال الجامع: لم أر طريق إسماعيل، والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري في "الصلاة"، في "كتاب الجمعة"، كما مر بيانه قريبًا. والله أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو استحباب التعجيل بصلاة الظهر في وقت البرد.
ومنها: استحباب التأخير بها في وقت اشتداد الحر.
ومنها: الإشارة إلى إزالة التشويش عن المصلي بكل طريق، محافظةً على الخشوع، لأن ذلك هو السبب في مراعاة الإبراد في الحر دون البرد. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
5 - الإبْرَادُ بِالظُّهْرِ إِذَا أشْتَدَّ الْحَرُّ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على استحباب الإبراد وقت اشتداد الحر.
500 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ، فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(قتيبة بن سعيد) البَغْلَاني أبو رَجَاء الثَّقَفِيُّ ثقة ثبت، توفي سنة 240، من [10]، تقدم في 1/ 1.
2 -
(الليث) بن سعد أبو الحارث الفَهْمي إمام أهل مصر، ثقة حجة فقيه، من [7]، تقدم في 31/ 35.
3 -
(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري الإمام الحجة الحافظ، من [4]، تقدم في 1/ 1.
4 -
(ابن المسيب) سعيد المخزومي المدني الفقيه الثقة الثبت، من [2]، تقدم في 9/ 9.
5 -
(أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف الزهري المدني، قيل: اسمه: عبد الله، وقيل: إسماعيل، ثقة مكثر، توفي سنة 94، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 1/ 1.
6 -
(أبو هريرة) الدَّوْسيُّ الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، أخرج لهم الجماعة.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعيين: ابن شهاب عن ابن المسيب، وأبي سلمة.
ومنها: أن ابن المسيب، وأبا سلمة من الفقهاء السبعة، على خلاف في أبي سلمة.
ومنها: أنهم مدنيون إلا قتيبة فبغلاني، والليث فمصري.
ومنها: أن أبا هريرة أحفظ مَن رَوَى الحديثَ في عصره؛ رَوَى 5374 حديثًا.
وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي هريرة) رضي الله عنه، أنه (قال: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم)
بكسر همزة "إن" لكونه مقولًا لـ"قال"(قال: إذا اشتد) من الاشتداد، من باب الافتعال، وأصله "اشْتَدَدَ" أدْغِمَتِ الدالُ الأولى في الثانية (الحَرُّ) فاعل "اشتد"، والحر: ضد البردَ، جمعه: حَرُور، وأحَارِر، كما في "ق"، ومفهومه أن الحر إذا لم يشتد لم يُشرعَ الإبراد، وكذا لا يشرع في البرد من باب أولى. قاله في الفتح.
(فأبردوا) بفتح الهمزة، من الإبراد، قال الزمخشري في الفائق: حقيقة الإبراد الدخول في البرد، والمعنى: إدخال الصلاة في البرد، ويقال: معناه: افعلوها في وقت البرد، وهو الزمان الذي يتبين فيه شدة انكسار الحر، لأن شدته تُذْهِبُ الخشوعَ.
وقال السفاقسي: أبردوا: أي ادخلوا في وقت الإبراد، مثل أظلَمَ: دَخَلَ في الظلام، وأمسى: دخل في المساء.
وقال الخطابي: الإبراد: انكسار شدة حَرِّ الظهيرة، وذلك أن فتور حرها بالإضافة إلى وَهَجِ الهاجرة بَرْدٌ، وليس ذلك بأن يُؤَخَّرَ إلى آخر برد النهار، وهو بَرْدُ العَشِيّ، إذ فيه الخروج عن قول الأئمة. ذكره العيني في "عمدته" جـ 5 ص 20.
(عن الصلاة) قال الحافظ ولي الدين العراقي رحمه الله: تحتمل "عن" أوجهًا:
أحدها: أن تكون بمعنى الباء، ك ما أن الباء تكون بمعنى "عن"،
فَمِنَ الأول فيما قيل، قَولُهُ تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3]، أي بالهوى، ومن الثاني: قوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59]، وتسمى هذه باءَ المجاوزة.
ثانيها: أن تكون زائدة، أي أبردوا الصلاة، يقال: أبرد الرجل كذا: إذا فعله في بَرْدِ النهار، ذكره القاضي عياض، وغيره، وفيه نظر؛ لأن مَنْ جَعَلَ "عَن" زائدة قَيَّدَ ذلك بأن تزاد للتعويض من أخْرَى محذوفة، ومثلوه بقوله الشاعر:
أتَجْزَعُ إِنْ نَفْسٌ أتاَهَا حِمَامُهَا
…
فَهَلاَّ الَّتيِ عَنْ بَيْنِ جَنْبَيْكَ تَدْفَعُ
قال أبو الفتح: أراد تدفع عن التي بين جنبيك، فحذفت "عن" من أول الموصول، وزيدت لعده.
ثالثها: تضمين "أبردوا" معنى أخروا، وحذف مفعوله، تقديره: أخروا أنفسكم عن الصلاة.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: معنى قوله "أبردوا" أخروا إلى زمان البرد، ولا ينتظم ذلك مع قوله:"عن"؛ فإن صورته أخروا عن الصلاة إلا بإضمارٍ، وتقديره: أخروا أنفسكم عن الصلاة، وهو قريب من قول الخطابي: معنى قوله: "أبردوا عن الصلاة": تأخروا عنها مُبردِين.
قلت: أي داخلين في وقت البرد. انتهى. وهو مثل كلام ابن
العربي إلا أنه ضمن "أبردوا" معنى فعلٍ قاصرٍ، لا يحتاج إلى تقدير مفعول، وهو "تأخروا". اهـ. "طرح" جـ 2 ص 156 - 157.
ثم إن المراد بالصلاة هنا: الظهر، لأنها الصلاة التي يشتد الحر غالبًا في أول وقتها، وقد جاء صريحًا في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبردوا بالظهر، فإن شدة الحر من فَيْحِ جَهَنَّم". رواه البخاري. وقد حمل بعضهم الصلاة على عمومها بناء على أن المفرد المُعَرَّفَ يعم، فقال به أشهب في العصر، وقال به أحمد في رواية عنه في العشاء؛ حيث قال: تؤخر في الصيف دون الشتاء، ولم يقل أحد به في المغرب، ولا في الصبح لضيق وقتهما. أفاده في "الفتح" جـ 2 ص 22.
وسيأتى مزيد بسط للمسألة في المسائل الآتية إن شاء الله تعالى.
(فإِن شدة الحر) الفاء فيه للتعليل، أراد به أن علة الأمر بالإبراد هي شدة الحر.
اختلف في حكمة هذا التأخير؛ فقيل: دفع المشقة، لكون شدة الجر مما يذهب الخشوع. قال الحافظ رحمه الله: وهذا أظهر، وقيل: لأنه وقت تُسْجَرُ فيه جهنم، ويؤيده حديث عمرو بن عَبَسَةَ عند مسلم، حيث قال له:"أقْصِرْ عن الصلاة عند استواء الشمس، فإنها ساعة تسجر فيها جهنم". وقد استُشْكلَ هذا بأن الصلاة سبب الرحمة، ففعلها مَظِنَّةٌ لطرد العذاب، فكيف أَمر بتركها؟
وأجاب أبو الفتح اليعمري بأن التعليل إذا جاء من جهة الشارع وجب قبوله، وإن لم يفهم معناه.
واستنبط له الزين ابن المُنَيِّر مَعْنًى يناسبه، فقال: وقت ظهور أثر الغضب، لا يَنْجَعُ فيه الطلبَ، إلا ممن أذنَ له فيه. والصلاة لا تنفك عن كونها طلبا، ودعاء، فناسب الاقتصار عنها حينئذ، واستَدَلَّ بحديث الشفاعة حيث اعتذر الأنبياء كلهم للأمم بأن الله غضب غضبا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، سوى نبينا صلى الله عليه وسلم، فلم يَعْتَذِرْ، بل طلب لكونه أذِنَ له في ذلك.
ويمكن أن يقال: سَجْر جَهَنَّم سبب فَيْحِها، وفَيْحُهَا سبب وجود الحر، وهو مظنة المشقة التي هي مظنة سلب الخشوع، فناسب أن لا يُصَلَّى فيها، لكن يرد عليه أن سجرها مستمر في جميع السنة، والإبراد مختص بشدة الحر، فهما متغايران، فحكمة الإبراد المشقة، وحكمة الترك وقت سجرها، لكونه وقت ظهور أثر الغضب. والله أعلم. قاله في "الفتح" جـ2 ص 22.
(من فيح جهنم) أي من سعة انتشارها، وتنفسها، ومنه: مكان أفيح: أي مُتَّسِعٌ. قاله في "الفتح".
وقال العراقي رحمه الله: فَيْحُ جهنم وفَوْحُها، بالياء والواو، مع فتح الأول فيهما، وبالحاء المهملة: سُطُوع حرها، وانتشاره، يقال: فاَحَتِ القِدْرُ، تَفِيحُ، وتَفُوح: إذا غلت.
اهـ "طرح". جـ 2 ص 157.
وجهنم: اسم من أسماء النار نعوذ بالله منها، قال الأزهري: في جهنم قولان: قال يونس بن حبيب، وأكثر النحويين: جهنمُ اسم النار التي يُعذِّب الله بها في الآخرة، وهي أعجمية، لا تُجرَى للتعريف والعجمة. وقال آخرون: جهنم عربي، سميت نار الآخرة بها لبعد قَعْرها، وإنما لم تُجْرَ لثقل التعريف، وثقل التأنيث، وقيل: هو تعريب كِهِنَّام بالعبرانية، وقال ابنُ خَالَوَيْه: بئر جِهنَّامٌ، للبعيدة القعر، ومنه سميت جَهَنَّمُ. أفاده في "اللسان" جـ 1 ص 715. والله تعالى أعلم.
تنبيه:
اختلف العلماء في معنى قوله: "فإن شدة الحر من فيح جهنم" هل هو حقيقة، أو مجاز؟ فحمله الجمهور على الحقيقة، وقالوا: إن وَهَجَ الحرمن فيح جهنم، ويؤيده ما أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"اشتَكَتِ النارُ إلى ربها، فقالت: يا رب أكَلَ بعضي بعضًا، فَأذنَ لها بِنَفَسَين: نَفسٍ في الشتاء، ونفسٍ في الصيف، فهو أشَدُّ ما تجدَون من الحر، وأشد ما تجدون من الزَّمْهَرِيرِ".
وقيل: إنه كلام خَرَجَ مَخْرجَ التشبيه، أي كأنه نار جهنم في الحر، فاجتنبوا ضَرَرَهُ.
قال القاضي عياض رحمه الله: وكلا الوجهين ظاهر، وحَمْلُهُ على
الحقيقة أولى. وقال ابن عبد البر رحمه الله: القول الأول يعضده عموم الخطاب، وظاهرُ الكتاب، وهو أولى بالصواب. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله عياض وابن عبد البر، لا ينبغي العدول عنه، إذ لا داعي إلى ذلك، فإنه إذا أمكن حمل النص على ظاهره لا يجوز العدول عنه إلا لدليل. فتبصر.
وعليه فيستفاد منه أن النار مخلوقة الآن موجودة، وهذا إجماع ممن يعتد به، وخالفت فى ذلك المعتزلة، فقالوا إنها إنما تخلق يوم القيامة، قال العراقي رحمه الله: والأدلة السمعية متوافرة على خلاف ذلك. انتهى. والله الهادي إلى سواء السبيل، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (500)، وفي "الكبرى"(1489) بسند الباب، وفي "الكبرى" أيضًا (1487) عن أحمد بن محمد بن المغيرة الحِمْصي، عن عثمان بن شعيب، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وفيه (1488) عن قتيبة، ومحمد بن عبد الله بن يزيد، عن سفيان، عن الزهري، عن سعيد، عنه. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أما من طريق المصنف، فأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
فأخرجه مسلم في "الصلاة" عن قتيبة، ومحمد بن رمح -كلاهما عن الليث، عن الزهري له.
وأخرجه أبو داود فيه عن يزيد بن خالد بن مَوْهَب -وقتيبةَ- كلاهما عن الليث به. وأخرجه الترمذي فيه عن قتيبة، عن الليث به.
وأخرجه ابن ماجه فيه، عن محمد بن رُمْح، عن الليث به.
وأما من غير طريق المصنف، فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن أيوب بن سليمان بن بلال، عن أبي بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، قال: قال صالح بن كيسان: حدثنا الأعرج وغيره، عن أبي هريرة، ونافعٌ عن ابن عمر، بهذا. والله تعالى أعلم.
تنبيه:
قال في التلخيص. حديث: "إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فَيْحِ جهنم" متفق عليه من حديث أبي هريرة، وأبي ذَرّ، وأخرجه البخاريُّ من حديث ابن عمر، ولفظ ابن ماجه فيه:"أبردوا بالظهر".
وفي الباب عن أبي موسى، وعائشة، والمغيرة، وأبي سعيد،
وعَمْرُو بن عَبَسَة، وصفوان والد القاسم، وأنس، وابن عباس، وعبد الرحمن بن علقمة، وعبد الرحمن بن جارية، وصحابي لم يسم، ورواه مالك من رواية عطاء بن يسار مرسلًا، وُرِويَ عن عمر موقوفًا: فحديث أبي موسى رواه النسائي
(1)
بلفظ: "أبردوا بالظهر، فإن الذي تجدونه في الحر من فيح جهنم". وحديث عائشة رواه ابن خزيمة بلفظ: "أبردوا بالظهر في الحر"، وحديث المغيرة رواه أحمد، وابن ماجه، وابن حبان، وتفرد به إسحاق الأزرق، عن
شريك، عن طارق، عن قيس، عنه. وفي رواية للخلال: وكان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم الإبراد.
وسئل عنه البخاريُّ، فعده محفوظًا، وذكر الميموني عن أحمد أنه رجَّحَ صحته، وكذا قال أبو حاتم الرازي: هو عندي صحيح، وأعله ابن معين بما رَوىَ أبو عوانة عن طارق، عن قيس، عن عمر موقوفًا، وقال: لو كان عند قيس عن المغيرة مرفوعا لم يفتقر إلى أن يحدث به عن عمر موقوفًا، وقَوَّى ذلك عنده أن أبا عوانة أثبت من شريك، والله أعلم.
وحديث أبي سعيد رواه البخاري بلفظ "أبردوا بالظهر".
وحديث عمرو بن عَبَسَة رواه الطبراني، وحديث صفوان رواه ابن أبي شيبة والحاكم والبغوي، من طريق القاسم بن صفوان، عن أبيه،
(1)
حديث يأتي للمصنف برقم (501).
بلفظ "أبردوا بصلاة الظهر" الحديث. وحديث أنس
(1)
وحديث ابن عباس رواه البزار بلفظ "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك يؤخر الظهر حتى يبرد، ثم يصلي الظهر، والعصر
…
" الحديث. وفيه عُمَر بن صُهْبَان، وهو ضعيف.
وحديث عبد الرحمن بن جارية رواه الطبراني. وحديث عبد الرحمن بن علقمة رواه أبو نعيم. وحديث الصحابي المبهم رواه الطبراني. وحديث عمر تقدم مع المغيرة اهـ. "التلخيص" جـ 1 ص 181، 182.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو مشروعية الإبراد بصلاة الظهر إذا اشتد الحر، وسيأتي حكم الإبراد، واختلاف أهل العلم فيه، في المسألة التالية إن شاء الله تعالى.
ومنها: بيان حكمة الأمر بالإبراد، وهو كون شدة الحر من فيح جهنم.
ومنها: كون النار، وكذا الجنةُ مخلوقة الآن وهو مذهب أهل السنة والجماعة، كما مر آنفًا.
(1)
هكذا بياض في الأصل، ولم يذكر من أخرج حديث أنس، والله أعلم.
ومنها: بيان سماحة الشريعة، حيث سَهَّلَت في تأخير الصلاة، مع أن المبادرة إلى الطاعة هو المطلوب، دفعًا للحرج، قال الله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
المسألة الخامسة: اختلف العلماء القائلون بمشروعية الإبراد في الأمر الوارد في هذا الحديث، هل هو للوجوب، أم للاستحباب؟
فقال الجمهور: إنه للاستحباب، وحكى القاضي عياض وغيره: أن بعضهم ذهب إلى الوجوب، وقال الحافظ: وغفل الكرماني، فنقل الإجماع على عدم الوجوب. وقال البدر العيني: فإن قلت: ما القرينة الصارفة عن الوجوب، وظاهِرُ الكلامِ يقتضيه؟ قلت: لَمَّا كانت العلة فيه دفعَ المشقة عن المصلي لشدة الحر، وكان ذلك للشفقة عليه، فصار من باب النفع له، فلو كان للوجوب يصير عليه، ويعود الأمر على موضوعه بالنقض. اهـ "عمدة" جـ 5 ص 20 - 21.
وقال الحافظ أبو محمد بن حزم رحمه الله: وإنما لم نَحْمِلِ الأمرَ على الوجوب، لحديث خَبَّابٍ رضي الله عنه، قال:"شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة الرمضاء، فلم يُشْكِنَا"، قال زهير: قلت لأبي إسحاق: أفي الظهر في تعجيلها؟ قال: نَعم. اهـ "المحلى" بتصرف جـ 3 ص 184 - 185. وهو الحديث المتقدم للمصنف برقم (497) وفيما قاله ابن حزم نظر سيأتي، إن شاء الله. والله تعالى أعلم.
المسألة السادسة: اختلف أهل العلم في استحباب الإبراد في شدة الحر:
قال الحافظ ولي الدين العراقي رحمه الله: في هذا الحديث استحباب الإبراد بصلاة الظهر في شدة الحر، وهو تأخيرها إلى أن يبرد الوقت، وينكسر وَهَجُ الحَرِّ، وبه قال الأئمة الأربعة، وجمهور العلماء من السلف والخلف، لكن أكثر المالكية على اختصاص الإبراد
بالجماعة، فأما المنفرد، فتقديم الصلاة في حقه أفضل، وكذا قال ابن حزم الظاهري؛ أنه يختص الإبراد بالجماعة.
وحَكَى ابنُ القاسم عن مالك أن الظهر تصلى إذا فاء الفيء ذراعًا في الشتاء والصيف للجماعة والمنفرد، على ما كتب به عمر بن الخطاب إلى عماله. وقال ابن عبد الحكم، وغيره: معنى كتاب عمر مساجد الجماعة، فأما المنفرد، فأول الوقت أولى به. قال ابن عبد البر: وإلى هذا مال الفقهاء المالكيون من البغداديين، ولم يلتفتوا إلى رواية ابن القاسم. انتهى.
وقال الشافعي: إنما يستحب الإبراد في شدة الحر بشروط:
الأول: أن يكون في بلد حار. وقال الشيخ أبو محمد الجُوَيني وغيره: يستحب في البلاد المعتدلة والباردة أيضا إذا اشتد الحر.
الثاني: أن تُصَلَّى في جماعة، فلو صَلَّى منفردًا، فتقديمُ الصلاة
له أفضلُ.
الثالث: أن يَقْصدَ الناسُ الجماعةَ من بُعُد، فلو كانوا مجتمعين في موضع صَلَّوا في أولَ الوقت.
الرابع: أن لا يجدو كِنًّا يمشون تحته، يَقيِهِمُ الحر، فإن اخْتَلّ شرط من الشروط، فالتقديم أفضل.
وقال الشيخ موفق الدين بن قدامة في المغني: ظاهر كلام أحمد استحباب الإبراد بها على كل حال، قال الأثرم: وهذا على مذهب أبي عبد الله سواء يُستَحَبّ تعجيلها في الشتاء، والإبراد بها في الحر. وهو قول إسحاق، وأصحاب الرأي، وابن المنذر، لظاهر قوله:"إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة"، وهذا عام.
وقال القاضي: إنما يستحب الإبراد بثلاث شرائط:
شدة الحر، وأن يكون في البلدان الحارّة، ومساجد الجماعات، فأما من صلاها في بيته، أو في مسجدٍ بفِنَاءِ بيته فالأفضل تعجيلها. وقال القاضي في الجامع: لا فرق بين البلدان الحارَّة، وغيرِها، ولا بين كون المسجد ينتابه الناس، أو لا؛ فإن أحمد كان يؤخرها في مسجده، ولم يكن بهذه الصفة، والأخذُ بظاهر الخبر أولى. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي ترجيح هذا القول إن شاء الله تعالى.
وذهبت طائفة إلى عدم استحباب الإبراد مطلقا، وحكاه ابن المنذر عن عمر، وابن مسعود، وجابر رضي الله عنهم، وحكاه ابن بطال عنهم، وعن أبي بكر، وعليٍّ، وحكاه ابن عبد البر عن الليث بن سعد، والمشهورُ عنه موافقة الجمهور.
احتج الجمهور القائلون باستحباب الإبراد في شدة الحر مطلقا بحديث الباب، وغيره من الأحاديث، فإنه ليس فيها سوى ذلك.
قال الحافظ العراقي رحمه الله: واستنبط الشافعي رحمه الله هذه الشروط التي اعتبرها من الحديث، وجعله تخصيصا للنص بالمعنى، فحُكِيَ عنه أنه قال: إن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإبراد كان بالمدينة لشدة حر الحجاز، ولأنه لم يكن بالمدينة مسجد غير مسجده يومئذ، وكان يُنتَابُ من البعد، فَيَتَأذَّون بشدة الحر، فأمرهم بالإبراد، لِمَا في الوقت من السَّعَة. حكاه ابن عبد البر.
واستدل الترمذي في جامعه بحديث أبي ذر رضي الله عنه الثابتِ في الصحيحين: "أذَّنَ مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أبرد، أبرد"، أو قال: "انتظر، انتظر"، وقال: "شدةُ الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحر، فأبردوا عن الصلاة"، حتى رأينا فيء التُّلُول". وفي رواية للبخاري أن ذلك كان في سفر، على خلاف ما ذهب إليه الشافعي، وقال: لو كان على ما ذهب إليه لم يكن للإبراد في ذلك الوقت معنى لاجتماعهم في السفر، وكانوا لا يحتاجون إلى أن يَنْتَابُوا من
البُعْد. انتهى.
وأجاب الشافعية عما قاله الترمذي بأن اجتماعهم في السفر قد يكون أكثر مشقة منه في الحضر، فإنه يكون كل واحد منهم في خبائه، أو مستقرًا في ظل شجرة، أو صخرة، ويؤذيه حر الرمضاء إذا خرج من موضعه، وليس هناك ظلّ يمشون فيه، وأيضًا فليس هناك خِبَاءٌ كبير يجمعهم، فيحتاجون إلى أن يصلوا في الشمس، والظاهر أيضًا أن أخْبِيَتَهُم كانت قصيرة، لا يتمكنون من القيام فيها.
وقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم "كان يأمر مناديه، في الليلة الباردة أو المطيرة في السفر أن يقول: ألا صَلُّوا في الرحال"، فلما كان وجود البرد الشديد، أو المطر في السفر مرخصا في ترك الجماعة، كذلك وجود الحر الشديد في السفر مقتض للإبراد بالظهر، وقال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اشتد الحر، فأبردوا بالظهر"، وبخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم نقول، وهو علي العموم، لا سبيل يستثنى من ذلك البعض. انتهى.
قال العراقي: وقد عرفت أن التخصيص إنما هو بالمعنى، والصحيح في الأصول أنه يجوز أن يستنبط من النص معنى يخصصه.
لكن قد يقال: لا يتعين أن تكون العلة ما أشار إليه الشافعي من تأذيهم بالحر في طريقهم، فقد تكون العلة ما يجدونه من حر الرمضاء في جباههم في حالة السجود، وقد ثبت في الصحيح عن أنس رضي
الله عنه، قال:"كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالظهائر جلسنا على ثيابنا اتقاء الحر"، ورواه أبو عوانة في صحيحه بلفظ "سجدنا" بدل "جلسنا".
وفي "سنن أبي داود" وغيره "كنت أصلي الظهر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآخذ قبضة من الحصى، لتَبْرُدَ في كفي، أضعها لجبهتي، أسجد عليه، لشدة الحر".
وفي حديث أنس رضي الله عنه في الصحيح: "فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه، فسجد عليه"، فهذا هو المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم، ولم نجد عنهم أنهم شَكَوْا مشقة المسافة، ولا بُعْد الطريق.
ويمكن أن تكون العلة في ذلك أنه وقت يفوح فيه حر جهنم، ولهيبها، وهو ظاهر قوله:"فإن شدة الحر من فَيْحِ جهنم"، وكونها ساعة يفوح فيها لَهَب جهنم وحرها، يقتضي الكف عن الصلاة، كما في حديث عمرو بن عَبَسَةَ "فإذا اعتدل النهار، فَأقْصِرْ" يعني عن الصلاة، "فإنها ساعة تُسْجَرُ فيها جهنم".
قال الجامع عفا الله عنه: هذه العلة هي أوضح ما يُعَلَّلُ به الأمر "بالإبراد"، لكون الحديث نصًا فيها، فلا معنى للتعليل بغيرها، فحينئذ يستوي في الحكم الجماعةُ، والمنفرد، والحضري، والمسافر، فالقول بالعموم هو الراجح. والله أعلم.
واحتج القائلون بعدم استحباب الإبراد مطلقا بالأحاديث الدالة على فضيلة أول الوقت، وبحديث خباب رضي الله عنه:"شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرمضاء، فلم يُشِكْنا" الذي تقدم في (497) وأجابوا عن حديث الباب، وغيره من الأحاديث الداله على الإبراد بأن معناها: صَلُّوها في أول وقتها، أخْذًا من بَرْدِ النَّهَار، وهو أوله.
ورد عليهم بأن هذا تأويل بعيد، يُبطِلُهُ قوله:"فإن شدة الحر من فيح جهنم"، لأن أول وقت الظهر أشد حَرًّا من آخره، وحديث أبي ذر المتقدم صريح في أن المراد بالإبراد التأخير إلى وقت البرد. وقال الخطابي رحمه الله: ومن تأول الحديث على برد النهار، فقد خرج من جملة قول الأئمة.
وأجيب عما تمسكوا به، بأن أحاديث أول الوقت عامة، أو مطلقة، والأمر بالإبراد خاص، فهو مقدم، ولا التفات إلى من قال: التعجيل أكثر مشقة، فيكون أفضل، لأن الأفضلية لم تنحصر في الأشق، بل قد يكون الأخف أفضل، كما في قصر الصلاة في السفر. قاله في "الفتح". جـ 2 ص22.
وأجيب عن حديث خباب رضي الله عنه بأوجه:
أحدها: أنه إنما لم يُجِبْهُمْ لمَّا سألوا، لأنهم أرادوا أن يؤخروا الصلاة بعد الوقت الذي حده لهم، وأمرهم بالإبراد إليه، ويزيدوا على الوقت المرخص لهم فيه، ومن المعلوم أن حر الرمضاء الذي يسجد
عليه، لا يزول إلا بعد خروج الوقت كله. ذكر المازري هذا الجواب، وقال: إنه الأشبه، يعني أشبه الأجوبة.
ثانيها: أن هذا الحديث ونحوه من الأحاديث الدالة على التقديم، منسوخة بأحاديث الإبراد، لأنها رويت من حديث أبي هريرة، والمغيرة بن شعبة، ونحوهما ممن تأخر إسلامه، بخلاف أحاديث التعجيل، كحديث خباب، وحديث عبد الله بن مسعود.
ويدل ما رواه ابن ماجه، وابن حبان في صحيحه عن قيس بن أبي حازم، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر بالهاجرة، فقال لنا:"أبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم"، ورواه الطحاوي بلفظ:"ثم قال: أبردوا" وأعله أبو حاتم
(1)
بأنه رُويَ عن قيس بن أبي حازم، عن عمر بن الخطاب من قوله.
وذكر الخَلاَّل عن الميموني: أنهم ذاكروا أبا عبد الله، يعني أحمد بن حنبل حديث المغيرة بن شعبة، فقال: أسانيدها جياد، ثم قال: خباب يقول: "شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يُشْكنَا"، والمغيرة -كما ترى- رَوىَ القصتين جميعًا، قال: وفي رواية غير الميموني: وكان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، الإبراد.
(1)
تقدم في كلام الحافظ أن أبا حاتم صححه، وإنما أعله ابن معين. فلينظر.
وقال الأثرم بعد ذكر أحاديث التعجيل: والإبراد: فأما التي ذكر فيها التعجيل في غير الحر فإن الأمر عليها، وأما حديث خباب، وجابر، وما كان فيها من شدة الحر، فإن ذلك عندنا قبل أن يأمر بالإبراد. وقد جاء بيان ذلك في حديثين: أحدهما حديث بيان، عن قيس، عن المغيرة بن شعبة: قال: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم بالهاجرة، فقال لنا:"أبردوا" فتبين لنا أن الإبراد كان بعد التهجير، والحديث الآخر أبْيَنُ من هذا: خالد بن
(1)
دينار أبو خلدة، قال: سمعت أنسًا، يقول:"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان البرد بَكَّر بَالصلاة، وإذا كان الحر أبرد بالصلاة".
ثالثها: أن الإبراد رخصة، وتقديمه صلى الله عليه وسلم كان أخْذًا بالأشق. قال العراقي: وبهذا قال بعض أصحابنا، ونص عليه الشافعي في البويطي، وصححه أبو علي السنجي، لكن الصحيح من مذهبنا أن الإبراد هو الأفضل، فلا يمشي عليه هذا الجواب.
رابعها: أن معنى قوله: "فلم يُشِكنا" لم يُحْوِجْنا إلى شكوى، بل رخص لنا في الإبراد، حكاه القاضي أبو الفرج المالكي عن ثعلب، ويرده أن في بعض طرقه "فما أشكانا"، وقال:"إذا زالت الشمس فَصَلُّوا"، رَوَى هذه الزيادة أبو بكر بن المنذر، كما ذكره ابن القطان.
(1)
مبتدأ خبره جملة "قال: سمعت أنسًا" إلخ.
خامسها: أن الإبراد أفضل، وحديث خباب فيه بيان جواز التعجيل، دل عليه كلام ابن حزم، فإنه ذكر استحباب الإبراد، ثم قال: وإنما لم نحمل هذا الأمر على الوجوب، لحديث خباب، قال العراقي: لكن في هذا نظر، لأن ظاهر حديث خباب المنع من التأخير، أو أنه مرجوح بالنسبة إلى التقديم. والله أعلم. اهـ "طرح التثريب" جـ 2 ص 151، 155 ببعض تصرف. وبعض زيادة من "الفتح".
قال الجامع عفا الله عنه: أرجح الأجوبة عندي جواب من قال بنسخ حديث خباب بحديث المغيرة رضي الله عنه الذي استدل به الطحاوي عليه، قال:"كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالهاجرة، ثم قال لنا: "أبردوا بالصلاة"، وهو حديث رجاله ثقات، رواه أحمد، وابن ماجه، وصححه ابن حبان، ونقل الخلال عن أحمد أنه قال: هذا آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما قاله الحافظ في "الفتح" جـ 2 ص 21.
وقال في "التلخيص": وسئل البخاري عنه، فعده محفوظًا، وذكر الميموني عن أحمد أنه رجح صحته، وكذا قال أبو حاتم الرازي: هو عندي صحيح. وأعله ابن معين بما رَوَى أبو عوانة عن طارق، عن قيس، عن عمر موقوفًا، وقال: لو كان عند قيس، عن المغيرة مرفوعًا، لم يفتقر إلى أن يحدث به عن عمر موقوفًا، وَقَوَّى ذلك عنده أن أبا عوانة أثبتُ من شريك. والله أعلم. اهـ جـ 1 ص 181.
قال الجامع: فتبين بهذا كله أن الأكثرين على تصحيحه، ويؤيد ذلك ما تقدم؛ حديث أنس:"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان البرد بَكَّر بالصلاة، وإذا كان الحر أبرد بالصلاة".
والحاصل: أن الراجح كون حديث خباب منسوخًا، وأن أرجح المذاهب مذهب من قال بالإبراد في اشتداد الحر مطلقًا، سواء كان جماعة، أو منفردًا، لقوة دليله. والله أعلم.
وقال العلامة الشوكاني رحمه الله بعد ذكر نحو ما تقدم: ولو نسلم جهل التاريخ، وعدم معرفة المتأخر لكانت أحاديث الإبراد أرجح، لأنها في الصحيحين، بل في جميع الأمهات بطرق متعددة، وحديث خباب في مسلم فقط، ولا شك أن المتفق عليه مقدم، وكذا ما جاء بطرق. اهـ "نيل الأوطار" جـ 2 ص 32 - 33.
المسألة السابعة:
قيل: لفظ الصلاة عام بناء على أن المفرد الْمُعَرَّف بالألف واللام للعموم، فيتناول سائر الصلوات، وذلك يقتضي تأخير كل منها في شدة الحر، وبه قال الجمهور في الظهر، كما تقدم، وقال به أشهب وحده في صلاة العصر؛ قال: تؤخر ربع القامة، وقال به أحمد بن حنبل في رواية عنه في صلاة العشاء، فَرَأى تأخيرها في الصيف، وتعجيلها في الشتاء، وعكس ابن حبيب من المالكية، فَرَأى تأخيرها في الشتاء لطول الليل، وتعجيلها في الصيف، لقصره.
قال العراقي: وهو أظهر في المعنى، ولا نعلم أحدا قال بالإبراد في المغرب، وكأن ذلك لضيق وقتها، ولا في الصبح، وكأن ذلك لأن وقتها أبرد الأوقات مطلقًا، فلا معنى للإبراد بها.
وجواب الجمهور عن ترك القول بالإبراد في العصر والعشاء: أن المراد بالصلاة هنا صلاة الظهر، كما ورد بيانه في بعض الطرق الصحيحة المتقدمة؛ ففي رواية البخاري من حديث أبي سعيد، فقال:"أبردوا بالظهر"، وهي رواية المصنف من حديث أبي موسى التالية، فتكون الألف واللام في الصلاة في الرواية المطلقة للعهد.
وأيضًا فإن أول وقت العصر، وأول وقت العشاء لا يكون في الغالب أشد حرًا من آخر وقت الظهر، فإذا فعلت الظهر في آخر وقتها، ففعل العصر في أول وقتها، والعشاء في أول وقتها، وهما أقل حرًا أولى بذلك.
وأيضًا فإنه عليه الصلاة والسلام لم ينقل عنه في خبر الإبراد، لا بالعصر، ولا بالعشاء، بل كان يأتي بكل منهما في أول وقتها صيفًا وشتاء، وأما تأخيره العشاء دي بعض الأوقات، فهو إما لاجتماع الناس، كما ورد بيانه، أولما في تأخيرها من الفضل، وليس ذلك لأجل الإبراد، ولا فرق فيه بين الصيف والشتاء. اهـ "طرح" جـ 2 ص 155. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
501 -
أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، ح وَأَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصٌ، ح وَأَنْبَأَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى، يَرْفَعُهُ، قَالَ:"أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ، فَإِنَّ الَّذِي تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ".
رجال الإسناد: عشرة
1 -
(إِبراهيم بن يعقوب) بن إسحاق الجُوزَجَاِنيُّ
(1)
-بضم الجيم الأولى، وزاي، فجيم- نزيل دمشق، ثقة حافظ، رُميَ بالنصب، توفي سنة 259، من [11]، تقدم في 122/ 174، أخرج له أبو داود، والترمذي، والنسائي.
2 -
(عمر بن حفص) بن غِيَاثِ بن طَلْق الكوفي، ثقة رُبَّمَا وَهِمَ، من [10]، وثقه أبو حاتم، وأبو زرعة، والعجلي، وقال ابن شاهين في الثقات: قال أحمد: صدوق. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال:
(1)
نسبة إلى مدينة بخراسان مما يلي بلخ. قاله في اللباب جـ 1 ص 308.
ربما أخطأ، وقال أبو داود: تبعته إلى منزله، ولم أسمع منه شيئًا. قال البخاري، وابن سعد: مات سنة 222، زاد ابن سعد: في ربيع الأول. روى له الجماعة، إلا ابن ماجه.
3 -
(حفص بن غياث) بن طَلْق بن معاوية النَّخَعِيُّ، أبو عمر الكوفي القاضي، ثقة فقيه، تَغَيَّرَ حفظه قليلًا في الآخر، توفي سنة 194 أو 195، وقد قارب 80 سنة، من [8]، أخرج له الجماعة، تقدم في 86/ 105.
4 -
(يحيى بن معين) بن عَوْن بن زياد بن بسطام بن عبد الرحمن، وقيل في نسبه غير ذلك، الْمُرِّيُّ الغَطَفَاني مولاهم، أبو زكريا البغدادي، ثقة حافظ مشهور، إمام الجرح والتعديل، من [10]،
رَوىَ عن عبد السلام بن حَرْب، وعبدِ الله بن المبارك، وحفص بن غياث، وجرير بن عبد الحميد، وعبد الرزاق، وابن عيينة، ووكيع، وغيرهم.
وروى عنه البخاري، ومسلم، وأبو داود، ورووا هم أيضًا، والباقون له بواسطة، وغيرهم.
قال ابن عدي عن شيخ له: كان معين على خراج الري، فخلف لابنه يحيى ألف ألف درهم، وخمسين ألف درهم، فأنفقه كله على الحديث. وقال أحمد بن يحيى بن الجارود وغيره: قال ابن المديني: ما أعلم أحدًا كتب ما كتب يحيى بن معين.
وقال محمد بن نصر الطبري: دخلت على ابن معين، فوجدت عنده كذا وكذا سَفَطًا
(1)
وسمعته يقول: كل حديث لا يوجد ها هنا، وأشار بيده إلى الأسفاط فهو كذب. قال: وسمعته يقول: قد كتبت بيدي ألف ألف حديث. وقال صالخ جزرة: ذكر لي أن يحيى بن معين خلف من الكتب لما مات ثلاثين قِمَطرًا
(2)
وعشرين جُبًا
(3)
(4)
.
وقال مجاهد بن موسى: كان ابن معين يكتب الحديث نيفًا وخمسين مرة، وقال الدُّوري عن ابن معين: لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجهًا ما عقلناه. وقال ابن سعد: كان قد أكثر من كتابة الحديث، وعُرِفَ به، وكان لا يكاد يحدث. وقال الدوري: سمعته يقول: القرآن كلام الله تعالى، وليس بمخلوق، وسمعته يقول: الإيمان يزيد وينقص، وهو قول وعمل.
وقال علي بن أحمد بن النضر عن ابن المديني: انتهى العلم إلى يحيى بن آدم، وبعده إلى يحيى بن معين، وفي رواية عنه: انتهى العلم إلى ابن المبارك، وبعده إلى ابن معين. وقال صالح جزرة: سمعت ابن المديني يقول: انتهى العلم إلى ابن معين. وقال أبو زرعة الرازي، وغيره، عن علي. دَارَ حديثُ الثقات على ستة، ثم قال: ما شذّ عن
(1)
السَّفَطُ بفتحتين: الدفتر.
(2)
القمطر -بكسر ففتح فسكون: ما تصان فيه الكتب.
(3)
الجُبُّ بضم الجيم، وتشديد الباء: الْمزَاَدةُ يُخَيَّطُ بعضها إلى بعض. قاله في "ق".
(4)
وفي تهذيب الكمال: قال صالح بن محمد: خلف يحيى من الكتب مائة قمطر، وأربعة عشر قمطرًا، وأربع جباب شبرانية مملوءة كتبًا. اهـ.
هؤلاء يصير إلى اثني عشر، ثم صار حديث هؤلاء كلهم إلى بن معين.
قال أبو زرعة: ولم ينتفع به، لأنه كان يتكلم في الناس، ويُرْوَى هذا عن علي من وجوه.
وقال أبو عبيد القاسم بن سَلام: انتهى العلم إلى أربعة: أبو بكر بن أبي شيبة أسردهم له، وأحمد أفقههم فيه، وعلي بن المديني أعلمهم به، ويحيى بن معين أكتبهم له، وفي رواية عنه: أعلمهم بصحيحه وسقيمه ابن معين.
وقال صالح بن محمد: أعلم من أدركت بعلل الحديث ابن المديني، وبفقهه أحمد بن حنبل، وأحفظهم عند المذاكرة أبو بكر بن أبي شيبة، وأعلمهم بتصحيف المشايخ يحيى بن معين، وفي رواية عنه: يحيى أعلم بالرجال والكُنَى.
وقال الآجري: قلت لأبي داود: أيما أعلم بالرجال: علي، أو يحيى؟ قال: يحيى عالم بالرجال، وليس عند علي من خبر أهل الشام شيء. وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: سمعت عليًا يقول: كنت إذا قدمت إلى بغداد منذ أربعين سنة، كان الذي يذاكرني أحمد بن حنبل، فربما اختلفنا في الشيء، فنسأل يحيى بن معين، فيقوم، فيخرجه، ما كان أعرفه بموضع حديثه.
وقال ابن البراء عن ابن المديني: ما رأيت يحيى بن معين استفهم حديثًا، ولا رده. وقال عمرو الناقد: ما كان في أصحابنا أعلم بالإسناد من يحيى بن معين، ما قدر أحَدٌ يقلب عليه إسنادًا قط.
وقال الإسماعيلي: سئل الفرهيابي عن يحيى، وأحمد، وعلي، وأبي خيثمة؟ قال: أما علي، فأعلمهم بالعلل، وأما يحيى، فأعلمهم بالرجال، وأحمد بالفقه، وأبو خيثمة من النبلاء. وقال حنبل عن أحمد: كان ابن معين أعلمنا بالرجال.
وقال القَوَارِيرِي: قال لي يحيى
(1)
: ما قَدِمَ علينا مثل هذين الرجلين. أحمد، ويحيى.
وقال عبد الخالق بن منصور: قلت لابن الرومي: سمعت بعض أصحاب الحديث يحدث بأحاديث يحيى، ويقول: حدثني من لم تطلع الشمس على أكبر منه، فقال: وما يُعْجَبُ، سمعت ابن المديني يقول: ما رأيت في الناس مثله.
وقال أيضًا: قلت لابن الرومي: سمعت أبا سعيد الحَدَّاد يقول: الناس كلهم عيال على يحيى بن معين، فقال: صدق، ما في الدنيا مثله. قال: وسمعت الن الرومي يقول: ما رأي أحدًا قط يقول الحق في المشايخ غير يحيى.
وقال هارون بن بشير الرازي: رأيت يحيى بن معين استقبل القبلة رافعًا يديه، يقول: اللهم إن كنت تكلمت في رجل، وليس هو كذابًا،
(1)
يحيى هذا هو القطان، والثاني ابن معين.
فلا تغفر لي. وقال هارون بن معروف: قَدِمَ علينا بعض الشيوخ من الشام، فكنت أول من بَكَّرَ عليه، فسألته أنَ يُمْلي عليّ شيئًا، فأخذ الكتاب يصلي فإذا بإنسان يَدُقُّ الباب، فقال الشيخَ: مَن هذا؟ قال أحمد بن حنبل، فأذن له، والشيخ على حالته، والكتاب في يده، فإذا بآخر، فذكر أحمد بن الدورقي، وعبد الله الرومي، وزهير بن حرب، كلهم يدخل، والشيخ على حالته، فإذا بآخر يَدُقّ الباب، قال الشيخ: مَن هذا؟ قال: يحيى بن معين، فرأيت الشيخ ارتعدت يده، ثم سقط الكتاب من يده.
وقال جعفر الطيالسي عن يحيى بن معين: قَدمَ علينا عبدُ الوهاب بن عطاء، فكتب إلى أهل البصرة: وقدمت بغدادَ، وقَبِلَنِي يحيى بن معين، والحمد لله. وقال ابن أبي الحواري: ما رأيت أباَ مسهر يَسهُل لأحد من الناس سُهُولته ليحيى بن معين، ولقد قال له يومًا: هل بقي معك شيء؟ وقال عبد الخالق بن منصور: قلت لابن الرومي: سمعت أبا سعيد الحداد يقول: لولا ابن معين ما كتبت الحديث، قال: وإنا لنذهب إلى الحديث، فننظر في كتبه، فلا نرى إلا كل حديث صحيح، حتى يجيء أبو زكرياء، فأول شيء يقع في يده الخطأ، ولولا أنه عَرَّفَنَاهُ لم نعرفه، فقال ابن الرومي: وما يعجب، لقد نفعنا الله تعالى به، ولقد كان المحدث يحدثنا لكرامته، ولقد كنا في مجلس لبعض أصحابنا، فقلت
له: يا أبا زكرياء ما نفيدك حديثًا؟ وفينا يومئذ عليّ، وأحمد، فقال: وما هو؟ فقلت: حديث كذا، وكذا فقال: هذا غلط، فكان كما قال.
قال ابن الرومي: وكنت عند أحمد، فجاء رجل، فقال: يا أبا عبد الله انظر في هذه الأحاديث، فإن فيها خطأ، قال: عليك بأبي زكرياء، فإنه يعرف الخطأ، قال: وكنت أنا وأحمد، نختلف إلى يعقوب
بن إبراهيم في المغازي، فقال أحمد: ليت أن يحيى هنا، قلت: وما تصنع به؟ قال: يعرف الخطأ.
وقال علي بن سهل بن المغيرة: سمعت أحمد يقول: في دهليز عفان، فذكر نحو هذه القصة.
وقال عبد الخالق: حدثني أبو عمرو أنه سمع أحمد بن حنبل، يقول: السماع مع يحيى بن معين شفاء لما في الصدور. قال ابن أبي حاتم: سمعت عباسًا الدُّوري يقول: رأيت أحمد يسأل يحيى بن معين - عند رَوْح بن عبادة- مَن فلان؟ ما اسم فلان.
قال الأصم عن الدوري: رأيت أحمد في مجلس روح بن عبادة سنة خمس ومائتين يسأل يحيى بن معين عن أشياء؛ يقول: يا أبا زكرياء كيف حديث كذا؟ وكيف حديث كذا؟ يريد أن يستثبته في أحاديث قد سمعوها، كلما قال يحيى، كتبه أحمد، وقلما سمعت أحمد يسميه باسمه، بل يكنيه.
وقال سليمان بن عبد الله: سمعت أحمد يقول: ها هنا رجل
خلقه الله تعالى لهذا الشأن يُظهِرُ كَذِبَ الكذابين، يعني ابن معين.
وقال الأثرم: رأى أحمد يحيى بن معين بصنعاء يكتب صحيفة معمر عن أبان، عن أنس، فقال له أحمد: تكتب هذه الصحيفة، وتعلم أنها موضوعة، فلو قال لك قائل: أنت تتكلم في أبان، ثم تكتب حديثه على الوجه؟ فقال: نعم أكتبها، فأحفظها، وأعلم أنها موضوعة حتى لا يجيء إنسان بعده، فيجعل أبان ثابتًا.
وقال أحمد بن علي الأبَّار عن ابن معين: كتبنا عن الكذابين، ثم سجرنا به التنور.
وقال أبو حاتم: إذا رأيت البغدادي يحب أحمد فاعلم أنه صاحب سنة، وإذا رأيته يبغض ابن معين، فاعلم أنه كذاب. وقال محمد بن هارون الفلاس: إذا رأيت الرجل يقع في ابن معين فاعلم أنه كذاب، إنما يبغضه لما بين من أمر الكذابين.
وقال محمد بن رافع: سمعت أحمد بن حنبل يقول: كل حديث لا يعرفه ابن معين، فليس بحديث. وفي رواية: فليس هو ثابتًا. وقال الحسن بن عُلَيل العَنَزي: ثنا يحيى بن معين قال: أخطأ عفان في نَيِّفٍ وعشرين حديثًا، ما أعلمت به أحدًا، وأعلمته فيما بيني وبينه، ولقد طلب إلَيَّ خلف بن سالم أن أذكرها، فما قلت له، قال يحيى: وما رأيت على رجل قط خطأ إلا سترته، وما استقبلت رجلًا في وجهه بما يكره، ولكن أبين له خطأه، فإن قبل، وإلا تركته.
وقال موسى بن حَمْدُون عن أحمد بن عُقْبة: سمعت يحيى بن معين يقول: من لم يكن سَمْحًا في الحديث كان كذابًا، قيل له: وكيف يكون سمحًا؟ قال: إذا شك في الحديث تركه.
وقد انفرد يحيى بأشياءٍ في الفقه يخالف فيها مذهبه، منها: قال عباس الدوري: سمعت يحيى في زكاة الفطر: لا بأس أن يعُطَى فضة، وسمعت يحيى يقول: لا أرى الصلاة على الرجل بغير البلد، ولا أرى أن يزوج الرجل امرأته على سورة من القرآن، وفي الرجل يصلي خلف الصف وحده قال: يعيد، وفي امرأة مَلَّكَت أمرها رجلًا، فأنكحها، قال: بل تذهب إلى القاضي، فإن لم يكن، فإلى الوالي، وذكر عنه شيئا غير ذلك.
وقال سعيد بن عمرو البردعي: سممعت أبا زرعة يقول: كان أحمد بن حنبل لا يرى الكتابة عن أحد ممن امتحن فأجاب، وذكر ابن معين، وأبا نصر التمار.
وقال أبو بكر بن المقري: سمعت محمد بن عقيل البغدادي يقول: قال إبراهيم بن هاني رأيت أبا داود يقع في يحيى بن معين، فقلت: تقع في مثل يحيى بن معين؟ فقال: من جَرَّ ذُيُول الناس جَرُّوا ذيله.
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: وُلِدَ يحيى بنُ معين سنة 158 ومات بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم سنة 233 وله 77 سنة إلا نحوًا من عشرة أيام. وقال الحسين بن فهم: سمعت ابن معين يقول: ولدت في خلافة أبي جعفر
سنة 158 في آخرها.
وقال الدوري: نحو ما قال البخاري، وزاد: قبل أن يَحُجَّ، وفيها أرخه غير واحد، زاد عباس في موضع آخر: ونُوديَ بين يديه: هذا الذي كان ينفي الكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزاد إبراهيم بن المنذر: فرأى رجل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مجتمعين، فسألهم، فقال: جئت لهذا الرجل أصلي عليه، فإنه كان يذب الكذب عن حديثي.
وقال حبيش بن مبشر: رأيت يحيى بن معين في النوم، فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، وأعطاني، وزوجني ثلاثمائة حَوْرَاء، وأدخلني عليه مرتين، وقال عبد الله بن أحمد: قال فيه بعض أهل الحديث (من الكامل):
ذَهَبَ الْعَليِمُ بِعَيْبِ كلِّ مُحَدِّثٍ
…
وَبِكُلِّ مُخْتَلِفٍ منَ الإسْنَادِ
وَبِكلِّ وَهْمٍ فِي الْحَدِيثِ وَمُشِكلٍ
…
يُعْنَى بِهِ عُلَمَاءُ كُلِّ بِلَادِ
وقال الخطيب: كان إماما ربانيًا عالمًا حافظًا ثبتًا متقنًا. وقال ابن حبان في الثقات: أصله من سرخس، وكان من أهل الدين والفضل، وممن رفض الدنيا في جمع الستن، وكثرت عنايته بها،
وجمعه، وحفظه إياها حتى صار عَلَمًا يُقتَدَى به في الإخبار، وإمامًا يرجع إليه في الآثار.
وقال العجلي: ما خلق الله تعالى أحدًا كان أعرف بالحديث من
يحيى بن معين، ولقد كان يجتمع مع أحمد، وابن المديني، ونظرائهم، فكان هو الذي ينتخب لهم الأحاديث، لا يتقدمه منهم أحد، ولقد كان يؤتى بالأحاديث قد خُلِطت، وتلبست، فيقول: هذا الحديث كذا، وهذا كذا، فيكون كما قاَل. أخرج له الجماعة.
5 -
(عمرو بن منصور) أبو سعيد النسائي، ثقة ثبت من [11]، أخرج له النسائي، تقدم في 108/ 147.
6 -
(الحسن بن عبيد الله) بن عروة النخعي، أبو عروة الكوفي، ثقة فاضل، توفي سنة 139 وقيل بعدها، من [6]، أخرج له مسلم والأربعة.
قال ابن المديني: له نحو ثلاثين حديثًا، أو أكثر. وقال ابن معين: ثقة صالح، وثقه العجلي، وأبو حاتم، والنسائي، وقال الساجي: صدوق، وقال ابن المديني ليحيى بن سعيد: أيما أعجب إليك: الحسن بن عبيد الله، أو الحسن بن عمرو؟ قال: الحسن بن عمرو أثبتهما، وهما جميعًا ثقتان صدوقان. وقال يعقوب بن سفيان: كان من خيار أهل الكوفة.
وقال البخاري: لم أخرج حديث الحسن بن عبيد الله، لأن عامة حديثه مضطرب، وضعفه الدارقطني بالنسبة للأعمش، فقال في العلل بعد أن ذكر حديثًا للحسن: خالفه الأعمش، والحسن ليس بالقوي، ولا يقاس بالأعمش.
7 -
(إِبراهيم) بن يزيد النخعي، أبو عمران الفقيه الكوفي ثقة يرسل كثيرًا، من [5]، تقدم في 29/ 33.
8 -
(يزيد بن أوس) كوفي مقبول، من [4]، أخرج له أبو داود والنسائي. رَوىَ عن أبي موسى، وامرأته، وثابت بن قيس النخعي، وعلقمة. وعنه إبراهيم النخعي. قال ابن المديني: نظرت، فإذا قَلَّ رجل من الأئمة إلا وقد حدث عن رجل لم يرو عنه غيره، فقال له رجل: فإبراهيم النخعي ممن رَوىَ عن المجهولين؟ قال: رَوىَ عن يزيد بن أوس، عن علقمة، فمن يزيد بن أوس؟ لا نعلم أحدًا روى عنه غير إبراهيم، وذكره ابن حبان في "الثقات".
9 -
(ثابت بن قيس) النخعي، أبو المُنَقِّع، بضم الميم، وفتح النون، وتشديد القاف - كوفي، مقبول، من [3]، أخرج له النسائي، رَوىَ عن أبي موسى الأشعري في الإبراد بالظهر، وعنه يزيد بن أوس، وأبو زرعة بن عمرو بن جرير، رَوىَ له النسائيُّ هذا الحديث فقط. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: روى عن ابن مسعود.
10 -
(أبو موسى) الأشعري عبد الله بن قيس بن سُلَيم بن حَضَّار، الصحابي الجليل رضي الله عنه، توفي سنة 50، وقيل بعدها، أخرج له الجماعة، تقدم في 3/ 3. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من ثمانيات المصنف.
ومنها: أن رواته كوفيون إلا شيخه إبراهيم فجُوزَجَاني، ثم دمشقي، وشيخه عمرًا فنسائي، ويحيى بن معين فبغدادى.
منها: أن فيه ثلاثةً من التابعيين يَرْوِي بعضهم عن بعض: إبراهيم، ويزيد بن أوس، وثابت بن قيس.
ومنها: أن فيه كتابة (ح) مرتين إشارة إلى تحويل السند، فللمصنف في هذا الحديث شيخان: الأول: إبراهيم بن يعقوب؛ يروى عن شيخين، عُمَر بنِ حفص، ويحيى بن معين، كلاهما عن والد الأول، والثاني: عمرُو بنُ منصور، عن عمر بن حفص، عن أبيه.
ومنها: أن فيه الإخبارَ، والإنباءَ، والتحديثَ، والعنعنةَ، من صيغ الأداء.
وأما شرحُ الحديث فقد قضَى مُستوفى في الذي قبله، فارجع إليه، تزدد علمًا. والله تعالى أعلم.
تنبيه:
هذا الحديث من أفراد المصنف، لم يخرجه من أصحاب الأصول غيره، كما أشار إليه الحافظ المزي في "تحفته"، وهو وإن كان في سنده يزيد بن أوس، وهو مجهول عين، كما تقدم في كلام ابن المديني، إلا
أنه تابعهُ أبو زرعة البَجَلِيُّ، كما يأتي للمصنف في الكبرى، ويشهد له ما قبله أيضًا، فهو صحيح. والله أعلم.
تنبيه آخر:
أخرج المصنف هذا الحديث هنا (501) بالسند المذكور، وفي الكبرى (1490) عن عمرو بن منصور، عن عمر بن حفص، عن أبيه عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم، عن يزيد بن أوس، عن ثابت بن قيس، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي زرعة بن عمرو، عن
ثابت بن قيس، عن أبي موسى، يرفعه
…
الحديث.
فقوله: "وعن أبي زرعة" عطف على يزيد بن أوس، فالظاهر أنه متصل بالإسناد المذكور، وليس معلقًا، فيكون أبو زرعة متابعًا ليزيد في روايته عن ثابت؛ فإبراهيم رواه عن يزيد، وأبي زرعة كليهما. والله أعلم.
تنبيه آخر:
قوله: "عن أبي موسى يرفعه" أي حال كون أبي موسى الأشعري رضي الله عنه يرفع هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال في تقريب النووى مع شرحه التدريب ما نصه: إذا قيل في الحديث عند ذكر الصحابي: يرفع الحَدَيث، أوْ رَفَعَهُ، أو ينميه، أو يبلغ به، كقول ابن عباس: "الشفاءُ في ثلاثة: شربة عسل، وشرطة
مِحْجَم، وكَيَّةُ نار" رفع الحديث، رواه البخاري، وَروَى مالك في الموطأ عَن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: "كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة"، قال أبو حازم: لا أعلم إلا أنه ينمي ذلك، وكحديث الأعرج عن أبي هريرة يَبْلُغُ به: "الناسُ تبع لقريش"، أخرجاه. أو روايةً، كحديث الأعرج عن أبي هريرة، رِوَايَةً "تقاتلون قومًا، صغار الأعين"، أخرجه البخاري، فكل هذا، وشبهه -كيرويه، ورواه بلفظ الماضي- مرفوع عند أهل العلم.
وإذا قيل عند ذكر التابعي: يرفعه، أو سائر الألفاظ المذكورة، فمرفوع مرسل. اهـ. جـ 1 ص 191، 192 والسبب الحامل للعدول عن التصريح بالإضافة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إما الشك في الصيغة التي سمع بها أهي "قال رسول الله"، أو "نبي الله" أو نحو ذلك، كسمعت، أو حدثني، وهو ممن لا يرى الإبدال، أو طلبًا للتخفيف، وإيثارًا للاختصار، أو للشك في ثبوته، أو وَرَعًا، حيث علم أن المروي بالمعنى. أفاده الحافظ السخاوي في "فتح المغيث" جـ 1 ص 144، 145، والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
6 - بَاب آخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على آخر الوقت لصلاة الظهر.
502 -
أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هَذَا جِبْرِيلُ عليه السلام جَاءَكُمْ، يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ، فَصَلَّى الصُّبْحَ، حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ، وَصَلَّى الظُّهْرَ، حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ، حِينَ رَأَى الظِّلَّ مِثْلَهُ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ، حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَحَلَّ فِطْرُ الصَّائِمِ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ حِينَ ذَهَبَ شَفَقُ اللَّيْلِ، ثُمَّ جَاءَهُ الْغَدَ، فَصَلَّى بِهِ الصُّبْحَ حِينَ أَسْفَرَ قَلِيلاً، ثُمَّ صَلَّى بِهِ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ الظِّلُّ مِثْلَهُ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ كَانَ الظِّلُّ مِثْلَيْهِ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ بِوَقْتٍ وَاحِدٍ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَحَلَّ فِطْرُ الصَّائِمِ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ حِينَ ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ قَالَ: الصَّلَاةُ مَا بَيْنَ صَلَاتِكَ أَمْسِ، وَصَلَاتِكَ
الْيَوْمَ".
رجال الإسناد: خمسة
1 -
(الحسين بن حريث) الخُزَاعي مولاهم أبو عَمَّار المروزي، ثقة توفي سنه 244، من [10]، تقدم في 44/ 52.
2 -
(الفضل بن موسى) السِّينَانِيُّ أبو عبد الله المروزي ثقة ثبت، ربما أغرب، توفي سنة 192 في ربيع الأول، من كبار [9]، أخرج له الجماعة، تقدم في 83/ 100.
3 -
(محمد بن عمرو) بن علقمة بن وقاص الليثي المدني، صدوق له أوهام، توفي سنة 144، من [6]، تقدم في 16/ 17.
4 -
(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني أحد الفقهاء، ثقه مكثر، من [3]، تقدم في 1/ 1.
5 -
(أبو هريرة) الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنهما: أن رجاله كلهم ثقات أجلاء أخرج الجماعة لهم، إلا شيخه، فلم يُخْرِج له ابن ماجه.
ومنها: أنهم مدنيون، إلا شيخه، والفضل، فمروزيان.
ومنها: أن فيه أبا سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال.
ومنها: أن صحابيه أكثر الصحابة رواية، رَوَى 5374 حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي هريرة) رضي الله عنه، أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا جبريل عليه السلام جاء يعلمكم دينكم) الظاهر أنه أراد صلاتكم، سماها دينًا لكونها من أعظم أركانه، ويحتمل أن يريد أمور الدين مطلقًا. والله أعلم.
وقال السندي رحمه الله تعالى: الظاهر أن هذه الواقعة بمكة قبل إسلام أبي هريرة رضي الله عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام لمن حضره يومئذ، وأبو هريرة أخذ الحديث من بعض أولئك، فالحديث مرسل صحابي، لِكِنَّ مرسل الصحابى كالمتصل، ويحتمل -على بُعْد- مجيء جبريل مرة ثانية بعد إسلام أبي هريرة، ويكون الحديث متصلًا. والله أعلم. اهـ. جـ 1 ص249، 250.
قال الجامع: أخرج البيهقي بسنده عن محمد بن عمار بن سعد، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم أن جبريل عليه السلام أتاه، فصلى
…
الحديث. "السنن الكبرى" جـ 1 ص 369، فظهر بهذا أن أبا هريرة سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم. والله وأعلم.
(فصلى الصبح حين طلع الفجر)، قال السندي: أي جبريل،
أو النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ
قال الجامع: الظاهر الأول، كما تشهد له الروايات الأخرى.
ثم إن هذا الرواية مخالفة للروايات الأخرى، حيث إن فيها أنه بدأ بالظهر، وأشار الحافظ في التلخيص إلى أن الصحيح ما في الروايات الأخرى، وهو أنه بدأ بالظهر
(1)
.
(وصلى الظهر حين زاغت الشمس) أي مالت عن كَبِدِ السماء إلى جهة الخرب يسيرًا (ثم صلى العصر حين رَأى الظل مثله) أي ظل نفسه، كما تدل عليه رواية أبي داود:"حين كان ظله مثله"، والمراد ظل صورته التي ظهر بها في تلك الحال، أو المراد ظل الشيء، كما تدل عليه الرواية الآتية (504):"حين كان فيء كل شيء مثله".
قال السندي رحمه الله: أي قدر قامته، ولم يكن في تلك الأيام فيء كما جاء، أو كان، والمراد سوى فيء الزوال، ضرورةَ أنَّ المقصود تحديد الوقت وتعيينه، وفيء الزوال لا يتعين زمانًا، ولا مكانًا، فعند اعتباره في المثل لا يحصل التحديد أصلًا. اهـ.
والظِّلُّ: بكسر الظاء، وتشديد اللام: جمعه ظِلَال، وأظِلَّةٌ، وظُلَلٌ، وِزَانَ رُطَبٍ. كما في "المصباح".
قال أبو محمد بن قُتَيبة رحمه الله في "أدب الكاتب": يَذهَبُ
(1)
انظر التلخيص جـ 1 ص 173، 174.
الناسُ إلى أن الظل والْفَيْء شيء واحد، وليس كذلك، لأن الظل يكون غُدْوَة وعَشيَّة، ومن أول النهار إلى آخره، ومعنى الظل: السِّتْرُ، ومنه قولهم:"أَنا في ظلك" أي في ذاراك
(1)
وسِتْرِكَ، ومنه ظل الجَنة، وظل شجرها: إنما هو سترُها ونَوَاحِيهَا، وظل الَليَل: سَوَادُهُ، لأنه يستر كل شيء، قال ذو الرمة (من البسيَط):
قَدْ
(2)
أعْسِفُ
(3)
النَّازِحَ الَمجْهُولَ
(4)
مَعْسِفُهُ
…
فِي ظِلِّ أخْضَرَ
(5)
يَدْعُو هَامَهُ
(6)
الْبُومُ
أي في ستر ليل أسود، فكأن معنى ظل الشمس: ما سترته الشخوص من مَسْقِطِهَا، والفيء لا يكون إلا بعد الزوال، ولا يقال لما قبل الزوال: فيء، وإنما سمي بالعشي فيئًا، لأنه ظِلٌّ فَاءَ عن جانب إلى جانب، أي رجع عن جانب المغرب إلى جانب المشرق، والفيء هو الرجوع، ومنه قول الله تعالى:{حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]، أي ترجع إلى أمر الله. اهـ. ص 23 - 24.
وقال في "المصباح" بعد نقل كلام ابن قتيبة: وقال ابن السكيت:
(1)
الذَّرىَ بالفتح والقصر: الكِنُّ، وكل ما كَنَّكَ من الريح الباردة من حائط وشجر. أفاده في "اللسان".
(2)
أي أسير على غير هداية.
(3)
والنازح: الخرف البعيد.
(4)
أي الذي لا يهتدي لطريق السير فيه.
(5)
الأخضر: الأسود.
(6)
الهام: أنثى البوم.
الظل من الطلوع إلى الزوال، والفيء: من الزوال إلى الغروب، وقال ثعلب: الظلُّ للشجرة وغيرِها بالغداة، والفيءُ بالعشي. وقال رؤبة بن العَجَّاجِ: كُلُّ ما كانت عليه الشمس، فزالت عنه، فهو ظل، وفَيْءٌ، وما لم يكن عليه الشمس، فهو ظل، ومن هنا قيل: الشمس تنسخ الظل، والفيء ينسخ الشمس. اهـ ما نقله في "المصباح".
(ثم صلى المغرب حين غربت الشمس، وحل فطر الصائم) من باب عطف المسبب على السبب، إذ حل فطر الصائم يتسبب عن غروب الشمس (ثم صلى العشاء حين ذهب شَفَقُ الليل) قال في المصباح: الشفق: الحُمْرَة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة، فإذا ذهب، قيل: غاب الشفق، حكاه الخليل، وقال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: عليه ثوب كالشفق، وكان أحمر، وقال ابن قتيبة: الشفق: الأحمر من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة، ثم يغيب، ويبقى الشفق الأبيض إلى نصف الليل، وقال الزجاج: الشفق: الحمرة التي ترى في المغرب بعد سقوط
الشمس، وهو المشهور في كتب اللغة، وقال المُطرِّزِيُّ: الشفق: الحمرة عن جماعة من الصحابة والتابعين، وهو قول أهل اللغة، وبه قال أبو يوسف، ومحمد. وعن أبي هريرة أنه البياض، وبه قال أبو حنيفة، وعن أبي حنيفة قول متأخر: إنه الحمرة. اهـ ما في "المصباح". وسيأتي تحقيق اختلاف العلماء في الشفق مستوفًى في بابه إن شاء الله تعالى.
(ثم جاءه) أي جاء جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم (الغَدَ) بفتح الغين: اليوم الذي يأتي بعد يومك على إثره، ثم توسعوا فيه حتى أطلق على البعيد الْمُتَرَقَّب، وأصله: غَدْوٌ، مثل فلس، لكن حذفت اللام، وجعلت الدال حرف إعراب، قال الشاعر (من الرجز):
لا تَقْلُوَاهَا وادْلُوَاهَا دَلْوًا
…
إِنَّ مَعَ الْيَوْمِ أخَاهُ غَدْوًا
قاله في المصباح. وهو منصوب على الظرفية متعلق بـ "جاء".
(فصلى به الصبح حين أسفر قليلًا) أي أضاء، يقال: أسفر الصبح، إسفارًا: أضَاءَ، وأسفر الوجه من ذلك: إذا علاه جَمَالٌ، وأسفر الرجل بالصلاة: صلاها في الإسفار. قاله في المصباح.
(ثم صلى به الظهر حين كان الظل مثله) استدل به مَنْ قال: بأن وقت الظهر لا يخرج بكون الظل مثله، بل بمقدار أربع ركعات مشتركًا في ذلك مع العصر، وبه قال مالك وطائفة، وذهب الجمهور
إلى أنه لا اشتراك بين الظهر والعصر في الوقت، بل إذا خرج وقت الظهر بصيرورة الظل مثله دخل وقت العصر.
وقال السندي رحمه الله تعالى عند قوله: "ثم صلى به الظهر" ما نصه: أي فرغ منها، وأما في العصر الأول، فالمراد بقوله:"صلى": شَرَعَ فيها، وهذا لأن تعريف وقت الصلاة بالمرتين يقتضي أن يعتبر الشروع في أولى المرتين، والفراغ في الثانية منهما، ليتعين بهما الوقت،
ويعرف أن الوقت من شروع الصلاة في أولى المرتين إلى الفراغ منها في المرة الثانية، وهذا معنى قول جبريل:"الصلاة ما بين صلاتك أمس، وصلاتك اليوم"، أي وقت الصلاة من وقت الشروع في المرة الأولى إلى وقت الفراغ في المرة الثانية، وبهذا ظهر صحة هذا القول في صلاة المغرب، وإن صُلِّيَ في اليومين في وقت واحد، وسقط ما يُتَوَهَّمُ أن لفظ الحديث يُعْطِي وقوع الظهر في اليوم الثاني في وقت العصر في اليوم الأول، فيلزم إما التداخل في الأوقات، وهو مردود عند
الجمهور، ومخالف لحديث "لا يدخل وقت صلاة حتى يخرج وقت صلاة أخرى"، أو النسخ، وهو يُفَوِّت التعريف المقصود بإمامة جبريل مرتين، فإن المقصود في أول المرتين تعريف أول الوقت، وبالثانية تحريف آخره، وعند النسخ لا يحصل ذلك، على أن قوله: "والصلاة ما بين صلاتك
…
" إلخ تصريح في رد القول بالنسخ.
ثم قوله: "والصلاة ما بين صلاتك
…
" إلخ يقتضي بحسب الظاهر أن لا يجوز العصر بعد المثلين، لكنه محمول على بيان الوقت المختار، ففيما يدل الدليل على وجود وَقْتٍ سوى الوقت المختار نقول به، كالعصر، وفيما لم يقم دليل على ذلك، بل قام على خلافه، كالظهر، حيث اتصل العصر بمضي وقته المختار نقول فيه بأن وقته كله مختار، وليس له وقتٌ سِوىَ ذلك. والله تعالى أعلم. اهـ. كلام السندي.
وسيأتي تحقيق الخلاف في خروج وقت الظهر بصيرورة الظل مثله وعدمه مُسْتَوفىً في المسائل الآتية، إن شاء الله تعالى.
(ثم صلى العصر حين كان الظل مثليه) أي بعد فيء الزوال (ثم صلى المغرب بوقت واحد) الباء بمعنى "في" أي في وقت واحد، وهو ما صَلَّى فيه المغرب بالأمس، كما بينه بقوله (حين غربت الشمس، وحل فطر الصائم، ثم صلى العشاء حين ذهب ساعةٌ من الليل) أي وقت من الليل، وقد بُيِّنَ ذلك الوقتُ في الروايات الأخرى، كما في رواية جابر الآتية أنه ثلث الليل.
(ثم قال) أي جبريل (الصلاة) أي وقتها، والمراد جنس الصلاة، أي وأوقاتُ الصلوات التي فرض الله أدَاءَهَا في وقت مُوَسَّع رحمةً بعباده، وهو مبتدأ خبره قوله (ما بين صلاتك أمس)"ما" موصولة، و "بين" منصوب على الظرفية، متعلق بمحذوف صلة لما، و"أمس" من الظروف المبنية على الكسر، عند جمهور العرب، وبنو تميم تعربه إعراب ما لا ينصرف، فتقول: ذهب أمسُ بما فيه، بالرفع، قال الشاعر (من الرجز):
لَقَدْ رَأيْتُ عَجَبًا مُذْ أمْسَا
…
عَجَائِزًا مِثْلَ السَّعَالِي خَمْسًا
وهو اسم عَلَم على اليوم الذي قبل يومك، وقد يُستَعْمَلُ فيما قبله مجازًا. أفاده في "المصباح".
(وصلاتك اليوم) يعني أن الوقت المُحَدَّد لأداء الصلوات المفروضات هو الوقت الذي بين صلاتك في اليوم الماضي، وصلاتك في اليوم الحاضر.
فإن قيل: هذا القول من جبريل عليه السلام يقتضي أن لا يكون الوقت الذي صَلَّى فيه في اليومين وَقْتًا لها، لأنه بَيَّنَ أن وقتها ما بين ذلك، أجيب بأنه لما صَلَّى في أول الوقت وآخره وُجدَ البيانُ بالفعل، وبقي الاحتياج إلى ما بين الأول والآخر، فبَيَّنَ بالقول أن هذا بيان للوقت المستحب إذ الأداء في أول الوقت مما يتعسر على الناس، ويؤدي أيضًا إلى تقليل الجماعة، وفي التأخير إلى آخر الوقت خشية الفوات، فكان المستحب ما بينهما. أفاده في "المنهل" جـ 3 ص 289.
قال الجامع عفا الله عنه: وفي دعواه كون الوسط هو المستحبَّ نظر لا يخفى، لمخالفته الأحاديث الصحيحة، إذ منها ما يستحب فيه التقديم في أول الوقت، وهي الصبح، والظهر في البرد، والعصر، والمغرب، ومنها ما يستحب فيه التاخير، وهي الظهر في شدة الحر، والعشاء. فتبصر. والله تعالى أعلم.
تنبيه:
وقع في رواية أبي داود، والترمذي في رواية ابن عباس رضي الله عنهما لحديث جبريل عليه السلام "ثم التفت إليّ، فقال: يا محمد هذا
وقت الأنبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين الوقتين".
فاستشكل قوله: "هذا وقت الأنبياء من قبلك"، إذ ظاهره يوهم أن هذه الصلاة في هذه الأوقات كانت مشروعة لمن كان قبله من الأنبياء، وليس كذلك، بل المراد أن هذا الوقت المُوَسَّعَ المحدود بالطرفين: الأولِ والآخرِ كان مثله وقتًا للأنبياء قبلك، فصلاتهم كانت واسعة الوقت، وذات طرفين، وإلا فلم تكن هذه الصلوات على هذا الميقات إلا بهذه الأمة خاصة، وإن كان غيرهم قد شاركهم في بعضها. قاله ابن العربي في عارضته جـ 1 ص 257، 258. والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا إسناده حسن، وصححه ابن السكن، والحاكم، وحسنه الترمذي في العلل. انظر "التلخيص" جـ 1 ص 173.
قال الجامع: لكن في متنه نكارة، حيث خالف الأحاديث المشهورة التي فيها البداءة بالظهر، إلا أن يحمل على تعدد الواقعة، ففي بعضها بدأ بالفجر، وفي بعضها بدأ بالظهر، ولكن هذا يحتاج إلى دليل. والله أعلم
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف:
أخرجه هنا (502)، وفي "الكبرى" في "الصلاة"(1493)، بسند الباب.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
لم يخرجه من أصحاب الأصول غيره، كما قال الحافظ المزي في تحفته.
وأخرجه الطحاوي، والسَّرَّاج، والدارقطني، والحاكم، وعنه البيهقي. انظر "الإرواء" جـ 1 ص 269. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف؛ وهو بيان آخر وقت الظهر، وذلك أنه صلى الظهر في اليوم الثاني حين صار ظله مثله، وَبيَّنَ في آخره أن وقت الصلاة بين الوقتين، فلا يجوز تأخيره عن المِثْل، ويأتي في المسألة التالية تحقيق الخلاف في ذلك.
ومنها: الدلالة على عِظَمِ أمر الصلاة، ومزيد قدرها، حيث إن الله تعالى أرسل جبريل لبيان وقتها، وكيفيتها بالفعل، ولم يكتف بالقول كسائر الأحكام.
ومنها: بيان أنه صلى الله عليه وسلم ليس مُشَرِّعًا بنفسه، بل بأمر من الله تعالى.
ومنها: أن العبادة مقصورة على الوارد عن الله تعالى بالتحديد والكيفية.
ومنها: بيان فضل الله تعالى على عباده حيث وَسَّعَ عليهم أوقات الصلاة، ولم يضيقها، والله ذو الفضل العظيم.
المسألة الخامسة: في مذاهب العلماء في آخر وقت صلاة الظهر: حَقَّقَ الإمام النووي رحمه الله تعالى في كتابه النفيس، المجموعِ شرحِ المُهَذَّب هذه المسألة، تحقيقًا ظريفًا وفصلها بأدلتها تفصيلًا منيفًا، أحببت إيراد خلاصته هنا لحسنه، قال رحمه الله تعالى:
أجمعت الأمة على أن أول وقت الظهر زوال الشمس، نقل الإجماع فيه خلائق - ودليله الأحاديث الصحيحة، المذكورة عند النسائي، وغيره:
منها: حديث أبي برزة رضي الله عنه المتقدم، (49)، وحديث أبي هريرة المذكور في الباب، وحديث جابر الآتي، (503)، وحديثه، (512)، وحديث بريدة الآتي، (518)، وحديث أبي موسى الآتي، (522)، وغير ذلك مما أورده النسائي في الأبواب الآتية، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أبي داود والترمذي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمني جبريل عند البيت مرتين، فصلى الظهر في المرة الأولى حين كان الفيء مثل الشراك
…
" الحديث، وكلها أحاديث صحيحة.
وأما آخر وقت الظهر فهو إذا صار ظل الشيء مثله غيرَ ظل الزوال الذي يكون له عند الزوال، وإذا خرج هذا دخل وقت العصر متصلًا به، ولا اشتراك بينهما، قال: هذا مذهبنا يعني الشافعية، وبه قال الأوزاعي، والثوري، والليث، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد.
وقال عطاء، وطاوس: إذا صار ظل الشيء مثله دخل وقت العصر، وما بعده وقت للظهر، والعصر على سبيل الاشتراك حتى تغرب الشمس.
وقال إسحاق بن راهويه، وأبو ثور، والمُزَنِيُّ، وابن جرير: إذا صار ظله مثله فَقَدْرُ أربع ركعات بعده وقت للظهر والعصر، ثم يتمحض الوقت للعصر.
وقال مالك: إذا صار ظله مثله فهو آخر وقت الظهر، وأول وقت العصر بالاشتراك، فإذا زاد على المثل زيادة بَيِّنَةً خرج وقت الظهر، وعن مالك رواية أن وقت الظهر يمتد إلى غروب الشمس، وقال أبو حنيفة: يبقى وقت الظهر حتى يصير الظل مثلين، فإذا زاد على ذلك يسيرًا كان أول وقت العصر.
قال أبو الطيب: قال ابن المنذر: لم يقل هذا أحد غير أبي حنيفة.
واحتج من قال بالاشتراك بحديث ابن عباس المذكور، قالوا: "فصلى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر في اليوم
الأول"، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا، قال: "جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر بالمدينة من غير خوف ولا سفر" رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم "من غير خوف، ولا مطر"، فدل على اشتراكهما، قالوا: ولأن الصلوات زيد فيها على بيان جبريل في اليوم الثاني، وللاختيار، فينبغي أن يزاد وقت الظهر.
واحتج القائلون بعدم الاشتراك بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صليتم الفجر، فإنه وقت إلى أن يطلع قرن الشيطان الأول، ثم إذا صليتم الظهر، فإنه وقت إلى أن تحضر العصر، فإذا صليتم العصر، فإنه وقت إلى أن تصفرّ
الشمس، فإذا صليتم المغرب، فإنه وقت إلى أن يسقط الشفق، فإذا صليتم العشاء، فإنه وقت إلى نصف الليل" رواه مسلم من طرق كثيرة، وفي بعضها" وقت الظهر إذا زالت الشمس ما لم تحضر العصر".
واحتجوا أيضًا بحديث أبي موسى رضي الله عنه الآتي (522)، وهو عند مسلم أيضًا، قال فيه، في صلاة الظهر في اليوم الثاني:"ثم أخر الظهر حتى كان قريبًا من وقت العصر بالأمس" ثم قال في آخره "الوقت ما بين هذين"، وهذا نص في أن وقت الظهر لا يمتد وراء ذلك، فيلزم منه عدم الاشتراك.
وبحديث أبي قتادة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يُصَلِّ الصلاةَ حتى يجيء وقت
الأخرى" رواه مسلم في جملة حديث طويل.
وأجابوا عن قوله صلى الله عليه وسلم: "صلى بي العصر في اليوم الأول حين صار ظل الشيء مثله" وصلى بي الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله" بأن معناه بدأ بالعصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله، وفرغ من الظهر في اليوم الثاني حين صار الظل مثله، وبهذا التفسير يحصل بيان أول وقت العصر، وآخر وقت الظهر، ولو حُمِلَ على الاشتراك لم يحصل تحديد آخر وقت الظهر، ولَفَاتَ بيانه، وقد قال في آخر الحديث: "الوقت بين هذين". قال الشيخ أبو حامد: ولأن حقيقة الكلام أن يكون فرغ من الصلاتين حين صار ظل الشيء مثله فمنعنا الإجماع من إرادة ذلك في العصر، فتأولناها على أنه ابتدأ حينئذ، وبقيت الظهر على حقيقته، ونظير ما تأولنا عليه لفظَ الحديث قولُ الله تعالى:{فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} [البقرة: 231]، وقال تعالى:{فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232] المراد بالبلوغ الأول مقاربته، وبالثاني حقيقة انقضاء الأجل، ويقال: بلغ المسافر البلد: إذا انتهى إليه، وإن لم يدخله، وبلغه: إذا دخله.
وأجابوا عن حديث الجمع بالمدينة من وجهين:
أحدهما: أنه محمول على أنه أخر الظهر إلى آخر وقتها، وقدم العصر في أول وقتها، فصار صورته صورة جمع، وليس بجمع،
وعلى هذا التأويل حمله إمامان تابعيان من رواته: أبو الشعثاء جابر بن زيد، وعمرو بن دينار، كما في صحيح مسلم وغيره.
الثاني: أنه جمع بعذر: إما بمطرٍ، وإما بمرض، عند من يقول به.
قال الجامع عفا الله عنه: في هذين التأويلين نظر لا يخفى، وسنحققه في باب الجمع بين الصلاتين في الحضر (74/ 600) إن شاء الله تعالى.
قال النووي رحمه الله: وأما قولهم زيد في الصلاة على بيان جبريل، فتلك الزيادات ثمتت بنصوص، ولا نص هنا في الزيادة، ولا مدخلَ للقياس.
واحتُجَّ لأبي حنيفة بحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم قبلكم، كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة، فعملوا حتى إذا انتصف النهار عجزوا، فَأعْطُوا قيراطًا قيراطًا، ثم أوتي أهل الإنجيلِ الإنجيلَ، فعملوا إلى صلاة العصر، فعجزوا، فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أوتينا القرآن، فعملنا إلى غروب الشمس، فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتاب: أي ربنا أعْطَيتَ هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطًا قيراطًا، ونحن أكثر عملًا، قال الله تعالى: "هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء" رواه البخاري، ومسلم.
قالوا. فهذا دليل على أن وقت العصر أقصر من وقت الظهر، ومن حِينَ يَصير ظل الشيء مثله إلى غروب الشمس هو ربع النهار، وليسَ بأَقل من وقت الظهر، بل هو مثله. واحتجوا بأقيسة، ومناسبات لا أصل لها، ولا مدخل لها في الأوقات.
قال النووي رحمه الله: واحتج أصحابنا -أي وهو مذهب الجمهور- عليهم بحديث ابن عباس رضي الله عنهما يعني حديث جبريل- فقال إمام الحرمين: عمدتنا حديث جبريل، ولا حجة للمخالف إلا حديث ساقه صلى الله عليه وسلم مَسَاقَ ضَرْبِ الأمثال، والأمثالُ مظنة التوسعات والمجاز، ثم التأويلُ مُتطرِّق إلى حديثهم، ولا يتطرق إلى ما اعتمدناه تأويل، ولا مطمع في القياس من الجانبين.
وأجابوا عن حديث ابن عمر بأربعة أجوبة:
أحدها: هذا الذي ذكره إمام الحرمين.
الثاني: أن المراد بقولهم: أكثر عملًا: أن مجموع عمل الفريقين أكثر.
الثالث: أن ما بعد صلاة العصر مع التأهب لها بالأذان، والإقامة، والطهارة، وصلاة السنة، أقل مما بين العصر ونصف النهار.
الرابع: قال الإصطخري: كثرة العمل لا يلزم منها كثرة الزمان؛ فقد يعمل الإنسان في زمن قصير أكثر مما يعمل غيره في زمن مثله، أو أطول منه. انتهى خلاصة ما كتبه النووي رحمه الله في "المجموع"
ببعض تصرف جـ 3 ص 21، 22.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبين مما تقدم من الأدلة الكثيرة ترجيح مذهب الجمهور؛ وهو أن آخر وقت الظهر صيرورة ظل كل شيء مثله. وأنه لا اشتراك بين الظهر والعصر في الوقت، والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
503 -
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَذْرَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبِيدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ، سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُدْرِكٍ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كَانَ قَدْرُ صَلَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ فِي الصَّيْفِ ثَلَاثَةَ أَقْدَامٍ إِلَى خَمْسَةِ أَقْدَامٍ، وَفِي الشِّتَاءِ خَمْسَةَ أَقْدَامٍ إِلَى سَبْعَةِ أَقْدَامٍ".
رجال الإسناد: ستة
1 -
(أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد الأذرَمِيُّ) هو عبد الله بن محمد بن إسحاق، الجَزَري الأذْرَمِيُّ
(1)
المَوْصِليُّ، ثقة، من [10]، أخرج له أبو داود والنسائي.
(1)
الأذرمي: بفتح الهمزة، وسكون المعجمة، وفتح الراء: نسبة إلى قرية عند نَصِيبِين من الجَزِيرَةِ. قاله في اللباب جـ 1 ص 38.
وثقه أبو حاتم، والنسائي، وقال الخطيب: كان الواثق أحضر شيخًا من أهل أذَنَةَ للمحنة وناظر ابن أبي دؤاد بحضرته، واستعلى عليه الشيخ بحجته، فأطلقه الواثق، ورده إلى وطنه، ويقال: إنه الأذرمي.
وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال مسلمة: لا بأس به.
2 -
(عَبِيدَةُ بنُ حُمَيد) الأول مكبر، والثاني مصغر، الكوفي أبو عبد الرحمن الحَذَّاء، صدوق نحوي، ربما أخطأ، توفي سنة 190، وقد جاوز 80، من [8]، أخرج له البخاري والأربعة، تقدم في 13/ 13.
3 -
(أبو مالك الأشجعي؛ سعْد بنُ طارق) الكوفي، ثقة، توفي في حدود سنة 140، من [4]، تقدم في 110/ 149.
4 -
(كثير بن مُدْرِك) الأشجعي، أبو مُدْرِك الكوفي، ثقة، من [6]، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي، ذكره ابن حبان في الثقات، له في مسلم حديث واحد في المتابعات في التلبية، وقال العجلي: كوفي ثقة.
5 -
(الأسود بن يزيد) بن قَيْس النخعي، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن الكوفي، ثقة مخضرم مكثر فقيه، توفي سنة 74 أو 75، من [2]، أخرج له الجماعة، تقدم في 29/ 33.
6 -
(عبد الله بن مسعود) أبو عبد الرحمن الْهُذَلي الصحابي
الجليل رضي الله عنه، تقدم في 35/ 39. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف، وأن رواته كلهم ثقات، وكلهم كوفيون إلا شيخه، فأذْرَميٌّ كما تقدم، نسبة إلى أذرمة، قرية بالجزيرة
ومنها: أن فيه رواية كبير عن صغير، فسعد بن طارق تابعي رَوَى عن أبيه، وأنس وعبد الله بن أبي أوفى، وكثير بن مدرك، لم يدرك صحابيًا بل روى عن علقمة، والأسود، وعبد الرحمن ابني يزيد، فهو من تابعي التابعين.
منها: أن فيه الإخبارَ، والتحديثَ، والعنعنة، من صيغ الأداء.
وقوله: عبدُ الله بن محمد بالرفع بدل، أو عطف بيان لقوله: أبو عبد الرحمن، وقوله: سعدِ بنِ طارق بالجر عطف بيان لأبي مالك. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عبد الله بن مسعود) رضي الله عنه، أنه (قال: كان قدرُ صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم) قدر: اسم "كان"، مضاف إلى "صلاة"، ويقدر بينهما مضاف، أي قدر تأخير صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم (الظهر) بالنصب مفعول "صلاة"، لأنه اسم مصدر لصَلَّى، يعمل عمل فعله، كما قال ابن مالك.
.................
…
وَلاِسْمِ مَصْدَرٍ عَمَلْ
ويحتمل أن يكون مفعولًا لفعل محذوف، أي أعني الظهرَ، ويحتمل الجر بدلًا من "صلاة"(في الصيف) متعلق بصلاة، والصيف، بفتح فسكون، الْقَيْظَ، أو بعد الرِّبيع، جمعه أصْيَاف. قاله في "ق"، والقيظ: شِدَّةُ الحرّ.
وقال الفَيُّومي رحمه الله: السنة أربعة أزْمِنَة، وهي الفصول أيضًا، فالأول الربيع، وهو عند الناس الخَريف، سمته العرب رَبِيعًا، لأن أول المطر يكون فيه، وبه ينبت الربيع، وسماه الناس خريفًا، لأن الثمار تُخْتَرَفُ فيه، أي تقطع، ودخوله عند حلول الشمس رأس الميزان. والثاني: الشتاء، ودخوله عند حلول الشمس رأس الجَدْي. والثالث: الصيف، ودخوله عند حلول الشمس رأس الحمل، وهو عند الناس الربيع. والرابع: القيظ، وهو عند الناس الصيف، ودخوله عند حلول الشمس رأس السرطان. اهـ المصباح في مادة "زمن". ومنهم من يقسم السنة قسمين: الصيف، والشتاء، فيجعل الصيف ستة أشهر، والشتاء ستة أشهر. قاله في "المغني"
(1)
.
قال الجامع: الظاهر أن هذا هو المراد في هذا الحديث، والله أعلم.
وقوله (ثلاثة أقدام إِلى خمسة أقدام) خبر "كان"، أي كان
(1)
هو المغني في الإنباء عن غريب المهذب والأسماء، للعلامة عماد الدين بن باطيش المتوفى سنة 655 هـ.
تأخير رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر في الصيف منتهيًا بصيرورة ظل كل إنسان ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام (وفي الشتاء) قيل: جمع شَتْوةٍ، مثل كَلْبَةٍ، وَكلَاب، نقله ابن فارس عن الخليل، ونقله بعضهم عن الفراء وغيره، ويقَالْ: إنه مفرد عَلَمٌ على الفصل، ولهذا جمع على أشْتِيَةٍ. قاله في المصباح.
(خمسةَ أقدام إِلى سبعة أقدام) أي كان ابتداء صلاته صلى الله عليه وسلم الظهر في الشتاء إذا صار ظل كل إنسان خمسة أقدام إلى سبعة على حسب قِصَرِ ظل الفيء، وطوله.
قال الدهلوي رحمه الله: الظل الأصلي في المدينة يكون في ابتداء الشتاء خمسة أقدام، وفي شدة الشتاء يكون سبعة أقدام، وفي ابتداء الصيف يكون ثلاثة أقدام، فتكون الصلاة في هذه الأيام على هذا الظل في أول الوقت، ويكون الظل الأصلي في شدة الحر نصف القدم، فصلاته صلى الله عليه وسلم على خمسة أقدام في الصيف كانت للإبراد اهـ. منقولًا من "المنهل" جـ 3 ص 311.
وقال السندي: قوله: "كان قدر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
" إلخ: أي قدر تأخير الصلاة عن الزوال ما يظهر فيه قدر ثلاثة أقدام للظل، أي يصير ظل كل إنسان ثلاثة أقدام من أقدامه، فيعتبر قدم كل إنسان ثلاثة بالنظر إلى ظله، والمراد أن يبلغ مجموع الظل الأصلي والزائد هذا المبلغ، لا أن يصير الزائد هذا القدر، ويعتبر الأصلي سوى ذلك، فهذا
قد يكون لزيادة الظل الأصلي كما في أيام الشتاء، وقد يكون لزيادة الظل الزائد بسبب التبريد كما في أيام الصيف. انتهى.
وقال الخطابي رحمه الله: وهذا أمر يختلف في الأقاليم والبلدان، ولا يستوي في جميع المدن والأمصار، لأن العلة في طول الظل وقصره هو زيادة ارتفاع الشمس في السماء وانحطاطها، فكلما كانت أعلى، وإلى مُحاذاة الرؤوس في مجراها أقرب كان الظل أقصر، وكلما كانت أخفض، ومن محاذاة الرأس أبعد كان الظل أطول، ولذلك ظلال الشتاء تراها أبدا أطول من ظلال الصيف في كل مكان.
وكانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة والمدينة، وهما من الإقليم الثاني، ويذكرون أن الظل فيهما في أول الصيف في شهر آذار ثلاثة أقدام وشيء، ويشبه أن تكون صلاته إذا اشتد الحر متأخرة عن الوقت المعهود قبله، فيكون الظل عند ذلك خمسة أقدام.
وأما الظل في الشتاء، فإنهم يذكرون أنه في تشريق الأول خمسة أقدام وشيء، وفي الكانون سبعة أقدام، أو سبعة وشيء، فقول ابن مسعود منزل على هذا التقدير في ذلك الإقليم، دون سائر الأقاليم والبلدان التي هي خارجة عن الإقليم الثاني. والله أعلم. اهـ "معالم السنن" جـ 1 ص 237، 238
قال في عون المعبود: قال السيوطي في مرقاة الصعود: قال ولي الدين: هذه الأقدام هي قدم كل إنسان بقدر قامته.
قلت: ضابط ما يعرف به زوال كل بلد أن يُدَقَّ وَتَدُ في حائط، أو خشبة موازيًا للقطب يمانيًا، أو شماليًا، فينظر لظله، فمهما ساواه، فذلك وسط النهار، فإذا مال للمشرق ميلًا تامًّا، فذلك الزوال، وأولُ وقت الظهر، فكل الأقدام إذًا بكل شهر، واحفظها لكل شهر بكل فصل وكل بلد، فلم أر ضابطًا أفضل من هذا.
وقال علي القاري في المرقاة: قال السبكي: اضطربوا في معنى الحديث الذي أخرجه أبو داود والنسائي -يعني هذا الحديث- والذي عندي في معناه أنه كان يصليها في الصيف بعد نصف الوقت، وفي الشتاء أوَّلَهُ، ومنه يؤخذ حد الإبراد. انتهى.
والأظهر أنه لا حَدَّ للإبراد، وإنما يختلف باختلاف البلاد، ولعله أراد أن لا يَتَعَدَّى في الإبراد عن نصف الوقت. والله أعلم. انتهى. اهـ "عون" جـ 2 ص 73، 74.
تنبيه:
قوله: "وفي الشتاء": جار ومجرور معطوف على قوله: "في الصيف" الذي هو معمول "صلاة"، وقوله:"خمسة أقدام" بالنصب عطف على "ثلاثة أقدام" الذي هو خبر "كان"، ففيه عطف المعمولين على معمولي عاملين مختلفين، وفيه الخلاف:
قال العلامة ابن هشام الأنصاري رحمه الله تعالى في "معني اللبيب": أجمعوا على جواز العطف على معمولي عامل واحد، نحو:
إن زيدًا ذاهب، وعمرًا جالسٌ، وعلى معمولات عامل، نحو أعْلَمَ زيدٌ بكرًا جالسًا، وأبو بكر خالدًا سَعِيدًا منطلقًا، وعلى منع العطف على معمولي أكثر من عاملين، نحوَ إنَّ زيدًا ضاربٌ أبوه لعمرٍو، وأخاكَ غُلَامُهُ بَكْرٍ.
وأما معمولا عاملين، فإن لم يكن أحدهما جارًّا، فقال ابن مالك: هو ممتنع إجماعًا، نحو كان آكلًا طعامَكَ عمروٌ، وتَمْرَك بَكْرٌ، وليس كذلك، بل نقل الفارسي الجواز مطلقًا عن جماعة، وقيل: منهم الأخفش، وإن كان أحدهما جارًا، فإن كان الجار مؤخرًا، نحو زيد في الدار، والحجرة عمروٌ، أو وعَمْروٌ الحُجْرَةِ، فنقل المهدوي أنه ممتنع إجماعًا، وليسَ كذلك، بل هو جائز عند من ذكرنا، وإن كان الجار مقدما نحو في الدار زيدٌ، والحجرة عَمْروٌ، فالمشهور عن سيبويه المنع،
وبه قال المبرد، وابن السَّرَّاج، وهشَام، وعن الأخفش الإجازة، وبه قال الكسائي، والفراء، والزجاج، وفَصَّلَ قوم، منهم الأعلم، فقالوا: إنْ وَلِيَ المخفوضُ العاطفَ، كالمثال جاز، لأنه كذا سُمِعَ، ولأن فيه تَعَادُلَ المَتعاطفات، وإلا امتنع، نحو في الدار زيدٌ، وعمروٌ الحجرةِ. اهـ "مغني اللبيب" جـ2 ص 101 بحاشية الأمير.
تنبيه آخر:
محل استدلال المصنف على آخر وقت الظهر من هذا الحديث: هو قوله "إلى خمسة أقدام" و"إلى سبعة أقدام"، وذلك لأن الصحابي ذكر
هذا بيانًا لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم في الصيف حيث يبدأ في ثلاثة أقدام، إلى أن ينتهي إلى خمسة أقدام. وفي الشتاء حيث يبدأ في خمسة أقدام إلى أن تكون النهاية سبعة أقدام. والله أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (503)، وفي "الكبرى"(1492) بهذا السند.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه أبو داود في "الصلاة" عن عثمان بن أبي شيبة، عن عَبِيدَة بن حُمَيد بسند المصنف.
وأخرجه الحاكم، والبيهقي.
المسألة الرابعة: أنه تقدم تقسيم العرب للسنة أربعة أقسام نقلًا عن عبارة المصباح، وقد رأيت للعلامة عماد الدين بن باطيش في كتابه "المغني" كلامًا نفيسًا في تقسيم السنة فأحببت إيراده هنا وإن كان بعضه تقدم إتمامًا للفائدة، قال رحمه الله تعالى:
وقد كانت العرب تقسم السنة أربعة أقسام، كل ثلاثة أشهر منها قسمًا، فقسم منها عندهم: الربيع: وهو الذي يسميه الناس الخريف،
لأن الثمار تُخْتَرَفُ فيه، أي تُجْنَى، وأوله: عند حلول الشمس في برج الميزان، وذلك في نصف أيلول، وآخره: عند خروج الشمس من برج القَوْسِ، وذلك في نصف كانون الأول، وله من المنازل: الْغَفْر، والزُّبُانَى، والإكْلِيلُ، والقَلْبُ، والشَّوْلَةُ، والنَّعَائِمُ، والْبَلْدَةُ.
والقسم الثاني: هو الشتاء، وأوله عند حلول الشمس بُرْجَ الْجَدْيِ، وذلك في نصف كانون الأول، وآخره عند خروجها من بُرْجِ الحُوتِ، وذلك في نصف آذار، وله من المنازل: سَعْدُ الذَّابِح، وسَعْد بُلَع، وسعد السُّعُود، وسعد الأخْبِيَةِ، والفَرغُ المُقَدَّم، والفَرغ المؤَخَّرُ، والرِّشَاءُ.
والقسم الثالث: الصيف، وهو عند الناس الرَّبيعُ، وأوله: عند حلول الشمس في برج الْحَمَلِ، في نصف آذَار، وآخَره: عند خروج الشمس من بُرْج الجَوْزَاء، وذلك في نصف حَزيرَان، وله من المنازل الشَّرَطَانِ، والْبُطَيْنُ، والثُّرَيَّا، والدَّبَرَانُ، والْهَقْعَةُ، والْهَنْعَةُ، والذِّرَاعُ.
والقسم الرابع: الْقَيْظُ، وهو عند الناس الصَّيْفُ، وأوله حُلُولُ الشمس في برج السَّرَطَان في نصف حَزِيرَان، وآخره: عند خروجها من بُرْجِ السُّنْبُلَةِ في نصفَ أيلُول، وله من المنازل: النَّثْرَةُ، والطَّرْفُ، والْجَبْهَةُ، والزُّبرَةُ، والصَّرْفَةُ، والْعَوَّاءُ، والسِّمَاكُ.
ومنهم: من يقسم السنة أربعة أقسام أخَرَ، الأول: أيلُول، وتِشْرِين، وتِشْرِينُ
(1)
. والثاني: كَانُونُ، وكانُونُ، وشُبَاطُ. والثالث:
(1)
أي تشرين الأول، وتشرين الثاني.
آذارُ، ونَيْسانُ، وأيَّارُ. والرابع: حَزِيرانُ، وتَمُّوزُ، وآبُ.
وكأن هذه القسمة أقربُ إلى الاعتدال، وتلك أقرب إلى قسمة البروج، ومَسِيرِ الشمس، فإن البُرُوج اثنا عشر بُرْجًا: الحَمَلُ، والثَّوْرُ، والجَوْزَاءُ، والسَّرَطَانُ، والأسَدُ، والسُّنْبلَةُ، والمِيزَان، والعَقْرَب، والقَوْسُ، والْجَدْيُ، والدَّلْوُ، والْحُوتُ.
ولكل برج من هذه البروج منزلان وثُلُث من المنازل، وفي كل فصل ثلاثة بروج، فأوجب أن يكون فيه سبع منازل.
ومنهم: من قسم السنة قسمين: الصيف، والشتاء، فجعل الصيفَ ستةَ أشهر، أوَّلُهَا: نيسانُ، وآخرها: أيلول، والشتاء: ستة أشهر، أولها: تشرين الأول، وآخرها: آذار. اهـ. المغني في الإنباء عن غريب المُهَذَّب والأسماء جـ 1 ص 245 - 247. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
7 - أوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على أول وقت صلاة العصر.
504 -
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ثَوْرٌ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ:"صَلِّ مَعِي، فَصَلَّى الظُّهْرَ، حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ، وَالْعَصْرَ حِينَ كَانَ فَيْءُ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، وَالْمَغْرِبَ حِينَ غَابَتِ الشَّمْسُ، وَالْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، قَالَ: ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ حِينَ كَانَ فَيْءُ الإِنْسَانِ مِثْلَهُ، وَالْعَصْرَ حِينَ كَانَ فَيْءُ الإِنْسَانِ مِثْلَيْهِ، وَالْمَغْرِبَ حِينَ كَانَ قُبَيْلَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ. قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَارِثِ: ثُمَّ قَالَ فِي الْعِشَاءِ: أُرَى إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ".
رجال الإسناد: خمسة
1 -
(عُبَيدُ الله بن سعيد) بن يحيى اليَشْكري، أبو قُدَامَة السَّرَخْسِيُّ نزيلُ نَيْسَابُور، ثقة مأمون سُنّيّ، توفي سنة 41، من [10]،
أخرج له البخاري ومسلم والنسائي، تقدم في 15/ 15.
2 -
(عبد الله بن الحارث) بن عبد الملك المخزومي، أبو محمد المكي، ثقة، من [3] رَوىَ عن حنظلة بن أبي سفيان، وداود بن قيس الفَرَّاء، وثور بن يزيد الحمصي، وغيرهم.
وروى عنه أحمد، وإسحاق، والشافعي، وأبو قُدَامة السرخسي، وغيرهم. قال أبو حاتم: عبد الله بن الحارث المخزومي أحب إلَيَّ من عبد الله بن الحارث الحاطبي، وقال يعقوب بن شيبة: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". روى له مسلم، والأربعة.
3 -
(ثور) بن يزيد بن زياد الكَلاعِيُّ، ويقال: الرَّحَبِيُّ، أبو خالد الحمصي، ثقة ثبْت، إلا أنه يَرىَ القدَرَ، من [7].
قال ابن سعد: كان ثقة في الحديث، ويقال: إنه كان قَدَرِيًّا، وكان جده قُتِل يوم صِفِّين مع معاوية، فكان ثور إذا ذكر عليًا، قال: لا أحب رجلًا قتل جدي. وقال محمد بن إسحاق: حدثني ثور بن يزيد الكلاعي، وكان ثقة، وكان أبو أسامة يُحْسِن الثناءَ عليه، وَعدَّهَ دُحَيم في أثبات أهل الشام، مع أرْطَاة، وحَرِيزٍ، وَبحِير بن سَعِيد، وفي رواية يعقوب بن سفيان عنه ثور بن يزيد أكبرهم، وكل هؤلاء ثقات، وقال عثمان الدارمي عن دُحَيم: ثور بن يزيد ثقة، وما رأيت أحدًا يشك أنه قَدَرِيّ، وهو صحيح الحديث، حمصي، وقال أحمد بن صالح: ثور
ثقة، إلا أنه كان يرى القدر، وقال يحيى بن سعيد: ما رأيت شاميًا أوثق من ثور بن يزيد، وعنه قال: ليس في نفسي منه شيء أتتبعه، وقال وكيع: ثور كان صحيح الكتاب، وقال أيضًا: رأيت ثور بن يزيد، وكان أعْبَدَ من رأيتُ. وقال عيسى بن يونس: كان ثور من أثبتهم، وقال أيضًا: جيد الحديث.
وقال الوليد بن مسلم: ثور يحفظ حديث خالد بن مَعْدَان، وقال سفيان الثوري: خذوا عن ثور، واتقوا قرنيه. قال عبد الرزاق: ثم أخذ الثوري بيد ثور، وخَلا بِه في حانوت يحدثه، وقال الثوري بعد ذلك لرجل رأى عليه صوفا. ارم بهذا عنك، فإنه بدعة، فقال له الرجل: ودخولك مع ثور الحانوت، وإغلاقك الباب عليكما بدعة. وقال أبو عاصم: قال لنا ابن أبي رَوَّاد: اتقوا، لا يَنْطِحَنَّكُمْ بقرنيه. وقال أبو مسهر وغيره: كان الأوزاعي يتكلم فيه، ويهجوه. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثور بن يزيد الكَلَاعي كان يَرَى القَدَرَ، كان أهل حمص نفوه لأجل ذلك، ولم يكن به بأس. وقال أبو مسهر عن عبد الله بن سالم: أدركت أهل حمص وقد أخرجوا ثور بن يزيد، وأحرقوا داره، لكلامه في القدر.
وقال ابن معين: كان مكحول قَدَرِيًا، ثم رجع، وثور بن يزيد قدري. وقال أبو زرعة الدمشقي عن منبه بن عثمان: قال رجل لثور بن يزيد: يا قدري، قال: لئن كنتُ كما قلتَ إني لرجل سوء، وإن كنتُ
على خلاف ما قلتَ، فأنت في حِلّ. وقال عباس الدوري عن يحيى بن معين: ثور بن يزيد ثقة، وقال في موضع آخر: أزهر الحرازي، وأسد ابن وَدَاعَة، وجماعة، كانوا يجلسون، ويَسُبُّون علي بن أبي طالب، وكان ثور لا يسبه، فإذا لم يسب جَرُّوا برجله. وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه، عن يحيى القطان: كان ثور إذا حدثني عن رجل لا أعرفه، قلت: أنت أكبر، أم هذا؟ فماذا قال: هو أكبر مني، كتبته، وإذا قال: هو أصغر مني، لم أكتبه. وقال محمد بن عوف والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق حافظ. وقال نُعَيم بن حَمَّاد: قال عبد الله بن المبارك:
أيّهَا الطَّالِبُ علْمًا
…
ايتِ حَمَّادَ بْنِ زَيْدِ
فَاطْلُبَنَّ الْعِلْمَ مِنْهُ
…
ثمَّ قَيِّدْهُ بِقَيْدِ
لَا كَثَوْرٍ وَكَجَهمِ
…
وَكَعَمْرِو بْنِ عُبَيدِ
وقال ابن عدي بعد أن رَوىَ له أحاديث: وقد روى عنه الثوري، ويحيى القطان، وغيرهما من الثقات، ووثقوه، ولا أرى بحديثه بأسًا، إذا روى عنه ثقة، أو صدوق، ولم أر في أحاديثه أنكر من هذا الذي ذكرته، وهو مستقيم الحديث صالح في الشاميين.
وقال الآجري عن أبي داود: ثقة، قلت: أكان قَدَرِيًا؛ قال: اتُّهِمَ بالقدر، وأخرجوه من حمص سَحْبًا. وقال ابن حبان في الثقات: كان
قدريًا، ومات، وله سبعون سنة. وقال العجلي: شامي ثقة، وكان يرى القدر. وقال الساجي: صدوق قدري، قال فيه أحمد: ليس به بأس، قَدِمَ المدينة، فَنَهىَ مالك عن مجالسته، وليس لمالك عنه رواية؛ لا في الموطأ، ولا في الكتب الستة، ولا في غرائب مالك للدارقطني، قال الحافظ: فما أدري أين وقعت روايته عنه مع ذمه له. وقال ابن خزيمة في صحيحه: هو أصغر سِنًا من المدني.
قال أبو عيسى الترمذي: توفي سنة 150، وقال ابن سعد، وخليفة، وجماعة: مات سنة 153 ببيت المقدس. وقال يحيى بن بُكَير: سنة، 155، اهـ. تت. جـ 2 ص 33 - 35. روى له البخاري، والأربعة.
4 -
(سليمان بن موسى) الأموي مولاهم أبو أيوب، ويقال: أبو الربيع، ويقال: أبو هشام، الدمشقي الأشدق، صدوق فقيه أهل الشام في زمانه، في حديثه بَعْضُ لِين، وخُولِط قبل موته بقليل، من [5].
قال سعيد بن عبد العزيز: سليمان بن موسى كان أعلم أهل الشام بعد مكحول، وقال عطاء بن أبي رَبَاح: سيد شباب أهل الشام سليمان بن موسى. وقال الزهري: سليمان بن موسى أحفظ من مكحول. وقال عثمان الدارمي عن دُحَيم: ثقة. وعن ابن معين: ثقة في الزهري. وقال ابن معين: سليمان بن موسى عن مالك بن يُخَامِر مرسل، وعن جابر مرسل. وقال أبو مُسْهِر: لم يدرك سليمان بن
موسى كثير بن مرة، ولا عبد الرحمن بن غنم. وقال المفضل بن غسان الغلابي: لم يلق أبا سيارة، والحديث مرسل. وقال أبو حاتم: محله الصدق، وفي حديثه بعض الاضطراب، ولا أعلم أحدًا من أصحاب مكحول أفقه منه، ولا أثبت منه. وقال البخاري: عنده مناكير. قال النسائي: أحد الفقهاء، وليس بالقوى في الحديث. وقال في موضع آخر: في حديثه شيء.
وقال ابن عدي: سليمان بن موسى فقيه راو، حدث عنه الثقات، وهو أحد علماء أهل الشام، وقد روى أحاديث ينفرد بها، لا يرويها غيره، وهو عندي ثبت صدوق. وقال الدارقطني في العلل: من الثقات، أثنى عليه عطاء والزهري. وقال ابن سعد: كان ثقة، أثنى عليه ابن جريج، وذكر العقيلي عن ابن المديني: كان من أكابر أصحاب مكحول، وكان خولط قبل موته بيسير. وذكره ابن المديني في الطبقة الثالثة من أصحاب نافع. وقال يحيى بن معين ليحيى بن أكثم: سليمان بن موسى ثقة، وحديثه صحيح عندنا. وقال ابن حبان في الثقات: مات سنة 115 من شربة سقيها، وكان فقيهًا ورعًا. وقال دحيم: مات ستة 115، وقال خليفة وغير واحد: مات سنة 119. أخرج له مسلم في مقدمته، والأربعة.
5 -
(عطاء بن أبي رباح) بفتح الراء واسمه أسلم القرشي مولاهم المكي، ثقة فقيه فاضل، لكنه كثير الإرسال، توفي سنة 114،
على المشهور، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في كتاب الغسل 2/ 401.
6 -
(جابر) بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصارى الصحابي الجليل رضي الله عنه تقدم في 31/ 35. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف، وأن رواته كلهم موثقون.
ومنها: أنهم ما بين نيسابورى؛ وهو شيخه، ومكيين؛ وهما عبد الله بن الحارث، وعطاء، وحمصي، وهو ثور، ودمشقي، وهو سليمان، ومدني، وهو جابر.
ومنها: أن جابر رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى 1540 حديثًا.
ومنها: أنه يقدر "قال" قبل قوله: حدثني سليمان بن موسى، فيقال: حدثنا ثور، قال: حدثني.
ومنها: أن ثورًا قال: حدثني، ولم يقل: حدثنا بضمير الجمع، لأنه سمعه من سليمان وحده، بخلاف الباقين، وهذا على سبيل الاستحباب، لا على الوجوب، كما قال في الألفية السيوطية:
وَاسْتَحْسَنُوا لِمُفْرَدٍ حَدَّثَنِي
…
وَقَارِىءٍ بِنَفْسِهِ أَخْبَرَنِي
وَإنْ يُحَدِّثْ جُمْلَةً حَدَّثَنَا
…
وَإِنْ سَمِعْتَ قَارِئًا أَخْبَرَنَاَ
ومنها: أن فيه من صِيَغ الأداء الإخبارَ، والتحديثَ، والعنعنةَ، وكلها من صِيَغِ الاتصال على الراجح. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن جابر) بن عبد الله رضي الله عنه، أنه (قال: سأل رجل) لم يُعرَف اسمه (رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مواقيت الصلاة) جمع ميقات، بمعنى الوقت، أي عن أوقات الصلوات الخمس (فقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (صل معي) هكذا في النسختين: المصرية، والهندية:"صل" بحذف الياء وهو الموافق للقواعد لكونه مبنيا على حذفها، كما قال بعضهم:
وَالأَمْرُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا يُجْزمُ
…
بِهِ الْمُضَارِعُ أيَا مَنْ يَفْهَمُ
وقال السندي رحمه الله: قوله: "صلي معي" هكذا في نسختنا ثبوت الياء، والظاهر حذفها، وكأن الياء الموجودة للإشباع، وأما لام الكلمة فهي محذوفة، أو هي لام الكلمة، إلا أن المعتل عومل معاملة الصحيح، وقد تكرر الوجهان في مواضع، فكن على ذكر منهما، فلعلي ما أعيد بعد ذلك، والله تعالى أعلم. اهـ.
وفي حديث بريدة الآتي (519)"فقال: أقم معنا هذين اليومين".
وإنما أمره صلى الله عليه وسلم أن يصلي معه، ولم يبين له بالقول، لكون التعليم بالفعل أوضح، وأرسخ في الذهن، واستدل به على جواز تأخير البيان إلى
وقت الحاجة، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يبين له وقت السؤال، بل أخر بيان كل صلاة حتى يجيء وقتها، لعدم الحاجة قبل ذلك، والله أعلم.
(فصلى الظهر حين زاغت الشمس) أي مالت عن وسط السماء إلى جهة المغرب.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا رواية المصنف هنا، وفي الكبرى (1506)، "فصلى الظهر"، لم يذكر الصبح، لا في اليوم الأول، ولا في اليوم الثاني، وقد أخرج الحديث أحمد في مسنده، والطحاوي في "معاني الآثار"، والبيهقي في "السنن الكبرى" من طريق أحمد ففي روايتهم ذكر الصبح في اليومين:
قال عبد الله بن أحمد: حدثني أبي، حدثنا عبد الله بن الحارث، حدثني ثور بن يزيد، عن سليمان بن موسى، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله، قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الصلاة، فقال "صَلِّ مَعِي"، فَصَلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح حين طلع الفجر، ثم صلى الظهر حين زاغت الشمس، ثم صلى العصر حين كان فيء الإنسان مثله، ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس، ثم صلى العشاء حين غيبوبة الشفق، ثم صلى الصبح، فأسفر، ثم صلى الظهر حين كان فيء الإنسان مثله، ثم صلى العصر حين كان فيء الإنسان مثليه، ثم صلى المغرب قبل غيبوبة الشفق، ثم صلى العشاء، فقال
بعضهم: ثلث الليل، وقال بعضهم: شطره". "المسند" جـ 3 ص 351، 352.
وأخرجه الطحاوي جـ 1 ص 147، عن ابن أبي داود، عن حامد بن يحيى، عن عبد الله بن الحارث بسند أحمد نحو روايته، إلا أنه في العشاء قال:"ثم صلى العشاء قبل غيبوبة الشفق".
قال الجامع: فالظاهر أن رواية المصنف فيها اختصار، إمَّا منه وإما من شيخه عبيد الله. والله أعلم.
(و) صلى (العصر حين كان فيء كل شيء مثله) أي ظل كل شيء قدر طوله، وقد تقدم الفرق بينه وبين الظل في شرح الحديث (502).
(و) صلى (المغرب حين غابت الشمس) أي غربت، والمراد أنه شرع في الصلاة بعد غروبها، لا أنه صلى وقت الغروب.
(و) صلى (العشاء حين غاب الشفق) أي بعد غيبوبة الشفق الأحمر (قال) جابر رضي الله عنه (ثم صلى الظهر) في اليوم الثاني (حين كانَ فيء الإِنسان مثله) والمراد أنه انتهى من الصلاة في ذلك
الوقت، لا أنه صلاها فيه، للأدلة الأخرى.
(و) صلى (العصر حين كان فيء الإِنسان مثليه و) صلى (المغرب حين كان قبيل غيبوبة الشفق) واسم "كان" ضمير يعود إلى
الوقت، أي حين كان الوقتُ، و "قبيل" منصوب على الظرفية متعلق بخبر "كان" محذوفًا، أي كائنًا قبل غيبوبة الشفق.
(قال عبد الله بن الحارث: ثم قال) ثور بن يزيد (في العشاء) أي بيان وقت صلاة العشاء (أُرَى) بالبناء للمفعول: بمعنى أظُنُّ، والغالب في استعمال أرى بمعنى أظُنُّ ضم همزته، كما قاله العلامة يس، وقد تفتح، ويتعدى لمفعولين
(1)
(إِلى ثلث الليل) متعلق بمحذوف، أي أخرها إلى ثلث الليل. وفي رواية أحمد المتقدمة "ثم صلى العشاء، فقال بعضهم: ثلث الليل، وقال بعضهم: شطره". والله أعلم. ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث جابر رضي الله عنه هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (504)، وفي "الكبرى"، 1506، بالسند المذكور.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه أبو داود تعليقًا في "الصلاة" بعد حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الآتي (523)، وأخرجه أحمد في مسنده، والبيهقي في
(1)
انظر حاشية الخضري على ابن عقيل جـ 1 ص 132.
السنن الكبرى من طريق أحمد، والطحاوي في "معاني الآثار". والله أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو بيان أول وقت العصر، وذلك لأنه صلى في اليوم الأول العصر حين صار فَيْءُ كلِّ شيء مثله، وقد فرغ من الظهر في اليوم الثاني حين صار الظل مثله فعرفنا بذلك أن أول وقت العصر لا يتقدم على ذلك الوقت.
ومنها: اهتمام الصحابة بتعلم أحكام الدين.
ومنها: أن عِظَمَ قدر المسؤول لا يمنع من سؤال من هو أقل قَدْرًا منه.
ومنها: كون أوقات الصلوات موسعة.
ومنها: أن العالم يطلب منه الاهتمام بتعليم الجاهل، وأن يَسْلُك في ذلك أقرب الطرق إلى الفهم.
ومنها: أنه ينبغي للمعلم أن يجمع في تعليمه بين البيان الفعلي والقولي، ليكون أوقع في النفس، وأرسخ في الذهن.
وقد تقدم بيان الخلاف في أول وقت العصر في (6/ 502) عند الكلام على الخلاف في آخر وقت الظهر مُفَصَّلا، فارجع إليه تزدد علمًا. والله تعالى أعلم.
المسألة الخامسة: قال النووي رحمه الله في "المجموع": للعصر
خمسة أوقات، وقت فضيلة، ووقت اختيار، ووقت جواز بلا كراهة، ووقت جواز مع الكراهة، ووقت عذر.
فالفضيلة من أول الوقت إلى أن يصير ظل الشخص مثله، ونصف مثله، ووقت الاختيار إلى أن يصير مثلين، والجواز بلا كراهة إلى اصفرار الشمس، والجواز مع الكراهة حال الاصفرار حتى تغرب، والعذر وقت الظهر لمن جمع بسفر أو مطر.
وقد نقل أبو عيسى الترمذي عن الشافعي وغيره من العلماء كراهة تأخير العصر، ودليلُ الكراهة حديثُ أنس رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تلك صلاة المنافقين، يجلس يَرْقُب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فَنَقَرهَا أربعًا، لا يذكر الله فيها إلا قليلًا" رواه مسلم
(1)
. والله أعلم. اهـ "المجموع" جـ 3 ص 27، 28.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
(1)
أخرجه المصنف برقم (511).
8 - تَعْجِيلُ الْعَصْرِ
أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على استحباب التعجيل بصلاة العصر.
505 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا، لَمْ يَظْهَرِ الْفَيْءُ مِنْ حُجْرَتِهَا.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة) بن سعيد البَغْلاني ثقة ثبت، من [10]، تقدم في في 1/ 1.
2 -
(الليث) بن سعد الإمام المصري، ثقة ثبت، من [7]، تقدم في 31/ 35.
3 -
(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري المدني، ثقة إمام حجة، من [4]، تقدم في 1/ 1.
4 -
(عروة) بن الزبير بن العَوَّام المدني، ثقة فقيه إمام، من [2]، تقدم في 40/ 44.
5 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدمت في 5/ 5. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنها: أن رواته كلهم ثقات مدنيون إلا شيخه؛ فبغلاني، والليث؛ فمصري.
ومنها: أن فيه راوية تابعي عن تابعي.
ومنها: أن عروة أحد الفقهاء السبعة.
ومنها: أن عائشة من المكثرين السبعة روت 2210 حديثًا.
ومنها: أن فيه من صيغ الأداء الإخبار، والتحديث، والعنعنة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عائشة) رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة العصر) ووقع عند البخاري في أول المواقيت: قال عروة: "ولقد حدثتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر، والشمس في حجرتها قبل أن تظهر". وهي صريحة في كون هذا الفعل عادة له صلى الله عليه وسلم (والشمس في حجرتها) مبتدأ وخبر، والجملة في محل نصب على الحال من فاعل "صلى"، والرابط الواو، والضمير، كما قال ابن مالك:
وَجُمْلَةُ الْحَالِ سِوىَ مَا قُدِّمَا
…
بِوَاوٍ آوْ بمُضْمَرٍ أَو بِهِمَا
والمعنى أن ضوء الشمس باق في حجرتها، فهو على تقدير مضاف.
وللإسماعيلي في مستخرجه من طريق أبي أسامة بلفظ "والشمس واقعة في حجرتي" قال الحافظ: وعرف بذلك أن الضمير في قوله: "في حجرتها" لعائشة، وفيه نوع التفات. اهـ.
والحجرة- بضم الحاء المهملة، وإسكان الجيم: البيت، وكل موضع حجر عليه بالحجارة فهو حجرة، قاله في المشارق، وأصله كما ذكر في الصحاح: حظيرة للإبل. وفي رواية للبيهقي "والشمس في قعر حجرتها". قال العراقي: وفي هذه الرواية زيادة، فإنه لا يلزم من كون الشمس في الحجرة أن تكون في قعرها. اهـ "طرح" ص 2 ص 167.
(لم يظهر الفيء من حجرتها) أي لم يظهر الظل في داخل حجرة عائشة رضي الله عنها، "فمن" بمعنى "في"، وفي رواية البخاري "والشمس في حجرتها قبل أن تَظهَرَ" أي قبل أن يرتفع ضوءها من داخل الحجرة، وينبسط فيه الظل، فالظهور هنا كما قال الخطابي بمعنى الصعود والعلو، يقال: ظهرت على الشيء: إذا علوته، ومنه قوله تعالى:{وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33].
وقال في الفتح: وقوله في رواية الزهري "والشمس في حجرتها" أي باقية، وقوله:"لم يظهر الفيء" أي في الموضع الذي كانت الشمس فيه، وقد تقدم في أول المواقيت من طريق مالك، عن الزهري بلفظ "والشمس في حجرتها قبل أن تظهر" أي ترتفع، فهذا الظهور غير ذلك الظهور، ومحصله أن المراد بظهور الشمس خروجها من الحجرة،
وبظهور الفيء انبساطه في الحجرة، وليس بين الروايتين اختلاف، لأن انبساط الفيء لا يكون إلا بعد خروج الشمس. اهـ. جـ 2 ص 31، 32.
وقال ابن عبد البر رحمه الله: معنى قوله: "قبل أن تظهر: قبل أن يظهر الظل على الجدار، أي قبل أن يرتفع ظل حجرتها على جُدُرها، وكل شيء علا شيئًا فقد ظهر عليه، قال الله تعالى:{فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف: 97] أي يعلوا عليه وقال النابغة الجَعْديّ (من الطويل):
بَلَغْنَا السَّماءَ مَجْدُناَ وجُدُودُنَا
…
وإِنَّا لنَرْجُو فَوْقَ ذَلِكَ مَظْهَرَا
أي مُرْتَقًى وعُلُوًّا.
وقيل: معناه: أن يخرج الظل من قاعة حجرتها، وكل شيء خرج أيضًا فقد ظهر. والحجرةُ: الدار، وكلُّ ما أحاط به حائط، فهو حجرة. اهـ. "الاستذكار" جـ 1 ص 46، 47.
والحديث يدل على استحباب تعجيل صلاة العصر في أول وقتها، وهذا هو الذي فهمته عائشة، وكذا الراوي عنها عروة، واحتج به على عمر بن عبد العزيز في تأخيره صلاة العصر، وشذ الطحاوي، فقال: لا دلالة فيه على التعجيل، لاحتمال أن الحجرة كانت قصيرة الجدار، فلم تكن الشمس تحتجب عنها إلا بقرب غروبها، فيدل على التأخير، لا
على التعجيل. وتُعُقِّبَ بأن الذي ذكره من الاحتمال إنما يتصور مع اتساع الحجرة، وقد عرف بالاستفاضة والمشاهدة أن حُجَرَ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن متسعة، ولا يكون ضوء الشمس باقيًا في قعر الحجرة الصغيرة إلا والشمس قائمة مرتفعة، وإلا متى مالت جِدًا ارتفع ضوءها عن قاع الحجرة، ولو كانت الجُدُرُ قصيرة.
قال النووي رحمه الله: كانت الحجرة ضيقة العَرْصَة قصيرة الجدار بحيث كان طول جدارها أقل من مسافة العرصة بشيء يسير، فإذا صار ظل الجدار مثله كانت الشمس بعد في أواخر العرصة. اهـ "فتح" جـ 2 ص 32. والله ولي التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عائشة رضي الله عنها هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (505)، وفي "الكبرى" في الصلاة (1494) بالسند المذكور.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه في "الصلاة" بسند المصنف، وعن إبراهيم بن المنذر، عن أنس بن عياض،
عن هشام بن عروة، عن أبيه عنها، وعن أبي نعيم، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عنها.
وأخرجه مسلم في "الصلاة" عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد، كلاهما، عن ابن عيينة به، وعن يحيى بن يحيى، عن مالك، عن الزهري به.
وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي، عن مالك به.
وأخرجه الترمذي فيه بسند المصنف.
وأخرجه ابن ماجه فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن ابن عيينة به. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة:
من فوائد الحديث: ما ترجم له المصنف، وهو استحباب التعجيل بصلاة العصر، وهو مذهب جمهور أهل العلم، كما يأتي قريبًا، قال الشافعي رحمه الله: وهذا من أبين ما روي في أول الوقت، لأن حُجَرَ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في موضع منخفض من المدينة، وليست بالواسعة، وذلك أقرب لها من أن ترتفع الشمس منها في أول وقت العصر.
ومن فوائده أيضًا: ما ذكره ابن عبد البر، قال: فيه دليل على قصَرِ بُنْيَانِهِمْ وحيطانهم، لأن الحديث إنما قصد به تعجيل العصر، وذلكَ إنما يكوَن مع قِصَرِ الحيطان، ثم ذكر عن الحسن البصري، أنه قال: كنت
أدخل بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا محتلم، فأنال سقفها بيدي، وذلك في خلافة عثمان رضي الله عنه. أفاده في "طرح" جـ 2 ص 168. والله تعالى أعلم.
المسألة الخامسة: في اختلاف العلماء في استحباب التعجيل بالعصر:
قال الحافظ ابن المنذر رحمه الله تعالى -في كتابه الأوسط- ما خلاصته: اختلف أهل العلم في تعجيل العصر وتأخيرها؛ فقالت طائفة: تعجيلها أفضل.
كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن وقت العصر، والشمس بيضاء نقية، بقدر ما يسير الراكب فرسخين، أو ثلاثة. وقال جابر بن عبد الله: صَلَّى أبو بكر العصر، ثم جاءنا، ونحن في دور بني سَلمَةَ، وعندنا جَزُور، وقد تَشَرَّكْنَا عليها، فنحرناها، وجَزَّيْنَاهَا، وصنعنا له، فأكل قبل أن تغرب الشمس. وقال نافع: كان ابن عمر يصلي العصر، والشمس بيضاء لم تتغير، من أسرع السير سار قبل الليل خمسة أميال.
قال ابن المنذر: وهذا مذهب أهل المدينة، وبه قال الأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، والأخبار الثابتة دالة على صحة هذا القول.
وذهبت طائفة إلى أن تأخير العصر أفضل، ورُوِيَ ذلك عن أبي
هريرة، وابن مسعود، وطاوس، وأبي قلابَةَ، وابن سيرين، وحكي عن أبي قلابة أنه قال: إنما سميت العصَر لتُعَصَرَ، وكذلك قال ابن شُبْرُمَة، وعن إبراهيم، وهَمَّام، وعلقمة أنهم كانوا يؤخرون العصر، وقال أصحاب الرأي: يُصَلِّي العصر في آخر وقتها، والشمس بيضاء لم تتغير في الشتاء والصيف. اهـ كلام ابن المنذر في "الأوسط" باختصار. جـ 2 ص 362 - 365.
وقال النووي رحمه الله: وأما العصر فتقديمها في أول الوقت أفضل، وبه قال جمهور العلماء، وقال الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه: تأخيرها أفضل ما لم تتغير الشمس، واحتجوا بقول الله تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114]، وبحديث علي بن شيبان رضي الله عنه قال:"قَدِمْتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يؤخر العصر مادامت الشمس نقية"، وعن عبد الواحد بن نافع، عن ابن رافع بن خَدِيج، عن أبيه رضي الله عنه، قال:"أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتأخير العصر"، ولأنها إذا أخرت اتسع وقت النافلة.
قال: واحتج أصحابنا بقول الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238] الآية، ومن المحافظة تقديمها في أول الوقت، لأنه إذا أخرها عَرَّضَها للفَوَات، وبقوله تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] والصلاةُ تُحَصِّلُ ذلك، وبقوله تعالى:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 48]، وبحديث أنس رضي الله عنه
قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر، والشمسُ مرتفعة حَيَّة، فيذهب الذاهب إلى قُبَاء، فيأتيهم، والشمس مرتفعة" رواه البخاري ومسلم
(1)
.
وفي رواية لهما "فيذهب الذاهب إلى العوالي".
قال العلماء: العوالي قُرًى عند المدينة أقربها منها أربعةُ أمْيَال، وقيل: ثلاثة، وأبْعَدُها على ثمانية.
وعن أبي أمامة بن سَهْل بن حُنَيف، قال:"صلينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر، ثم خرجنا حتى دخلنا على أنس بن مالك، فوجدناه يصلي العصر، فقلت: يا عم ما هذه الصلاة التي صَلَّيْتَ؟ قال: العصرُ، وهذه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كنا نصلي معه". رواه البخاري ومسلم
(2)
، وعن رافع بن خَدِيج رضي الله عنه، قال:"كنا نصلي العصر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نَنْحَرُ الجَزُور، فتُقْسَمُ عَشْرَ قسم، فنأكل لحمًا نضيجًا قبل مَغِيب الشمس". رواه الشيخان.
وعن أنس رضي الله عنه، قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر، فلما انصرف أتاه رجل من بني سَلمَةَ، فقال: يا رسول الله إنا نريد أن ننحر جزورًا لنا، ونحب أن تَحْضُرَها، فانطلَقَ، وانطلقنا معه، فوجدنا
(1)
هو الحديث الآتي للمصنف 506، 507.
(2)
يأتي في 509.
الجَزُور لم تُنْحَر، فنُحِرَت، ثم قُطِّعَت، ثم طُبِخَ منها ثم أكلنا قبل أن تغيب الشمس". رواه مسلم.
وعن هشام بن عروة، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه "أن صل العصر، والشمس بيضاءُ نَقِيَّةٌ قَدْر ما يَسيرُ الراكبُ ثلاثَ فراسخ". رواه مالك في الموطأ عن هشام.
وأما الجواب عن احتجاجهم بالآية، فقال أصحابنا: قال أهل اللغة: الطَّرَفُ ما بعد النصف.
وعن حديث علي بن شيبان: أنه باطل، لا يعرف، وعن حديث رافع: أنه ضعيف، رواه الدارقطني، والبيهقي، وضعفاه، وبينا ضعفه، ونقل البيهقي عن البخاري أنه ضعفه، وضعفه أيضًا أبو زرعة الرازي، وأبو القاسم اللالكائي، وغيرهم. وعن قولهم. يتسع وقت النافلة أجيب بأن هذه فائدة لا تلتحق بفائدة فضيلة أول الوقت. اهـ "المجموع" جـ 3 ص 54، 55. والله تعالى أعلم.
المسألة السادسة: قال العلامة المباركفوري رحمه الله في "تحفته": وقال محمدٌ يعني ابن الحسن - في الموطأ: تاخير العصر أفضل عندنا من تعجيلها إذا صليتها، والشمس بيضاء نقية، لم تدخلها صفرة، وبذلك جاء عامة الآثار، وهو قول أبي حنيفة. انتهى. وعلله
صاحب "الهداية" وغيره من فقهاء الحنفية بأن في تأخيرها تكثير النوافل، وقد رده صاحب "التعليق الممجد"، وهو من العلماء الحنفية بأنه تعليل في مقابلة النصوص الصحيحة الصريحة الدالة على أفضلية التعجيل، وهي كثيرة مروية في الصحاح الستة وغيرها. انتهى.
وقد استدل العيني في "البناية شرح الهداية" على أفضلية التأخير بأحاديث:
الأول: أخرجه أبو داود عن يزيد بن عبد الرحمن بن علي بن شيبان، عن أبيه، عن جده قال:"قَدمْنَا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ، فكان يؤخر العصر ما دامت الشمس بيضَاءَ نَقيَّةً".
والثاني: حديث رافع بن خَدِيج "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بتأخير هذه الصلاة" يعني العصر. أخرجه الدارقطني.
والثالث: حديث أم سلمة رضي الله عنها "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد تعجيلًا للظهر منكم، وأنتم أشد تعجيلًا للعصر منه"، أخرجه الترمذي.
الرابع: حديث أنس رضي الله عنه "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العصر، والشمس بيضاء".
وأجاب عن هذه الأحاديث صاحب "التعليق الممجد"، فقال: ولا يخفى على الماهر ما في الاستدلال بهذه الأحاديث.
أما الحديث الأول، فلا يدل إلا على أنه كان يؤخر العصر ما دام كون الشمس بيضاء، وهذا أمر غير مستنكر، فإنه لم يقل أحد بعدم جواز ذلك، والكلام إنما هو في أفضلية التأخير، وهو ليس بثابت منه.
لا يقال: هذا الحديث يدل على أن التأخير كان عادته يشهد به لفظ "كان" المستعمل في أكثر الأحاديث لبيان عادته المستمرة، لأنا نقول: لو دل على ذلك لعارضه كثير من الأحاديث القوية الدالة على أن عادته كانت التعجيل، فالأولى أن لا يُحْمَلَ هذا الحديث على الدوام دفعًا للمعارضة، واعتبارًا لِتَقْدِيِم الأحاديث القوية.
قال المباركفوري رحمه الله: حديث عبد الرحمن بن علي بن شيبان ضعيف، فإنه رواه عنه يزيد بن عبد الرحمن بن علي بن شيبان، وهو مجهول، كما صرح به في "التقريب" و"الخلاصة" و"الميزان"، فهذا الحديث الضعيف لا يصلح للاحتجاج به.
قال اللكنوي رحمه الله: وأما الحديث الثاني، فقد رواه الدارقطني في سننه عن عبد الواحد بن نافع، قال: دخلت مسجد الكوفة، فأذن مؤذن بالعصر، وشيخ جالس، فلامه، وقال: إن أبي أخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بتأخير هذه الصلاة، فسألت عنه؟ فقالوا: عبد الله بن رافع بن خديج، رواه البيهقي في سننه، وقال: قال الدارقطني فيما أخبرنا عنه أبو بكر بن الحارث: هذا حديث ضعيف
الإسناد، والصحيح عن رافع ضده، ولم يروه عن عبد الله بن رافع غير عبد الواحد بن نافع، وهو يروي عن أهل الحجاز المقلوبات، وعن أهل الشام الموضوعات، لا يحل ذكره في الكتب إلاعلى سبيل القدح فيه. انتهى.
ورواه البخاري في تاريخه الكبير في ترجمة عبد الله بن رافع: حدثنا أبو عاصم، عن عبد الواحد بن نافع، وقال: لا يتابع عليه، يعني عن عبد الله بن رافع. وقال ابن القطان: عبد الواحد بن نافع مجهول الحال، مختلف في حديثه. كذا ذكره الزيلعي في تخريج أحاديث الهداية.
وأما الثالث: فإنما يدل على كون التعجيل في الظهر أشد من التعجيل في العصر، لا على استحباب التأخير.
وأما الحديث الرابع: فلا يدل أيضًا على استحباب التأخير.
قال المباركفوري رحمه الله: بل يدل على استحباب التعجيل، فإن الطحاوي رواه هكذا عن أنس مختصرًا، ورواه أصحاب الكتب الستة عنه بلفظ "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر، والشمس مرتفعة، وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال، أو نحوه، فالعجب من العيني أنه كيف استدل بهذه الأحاديث التي الأول والثاني منها لا يصلحان للاستدلال، والثالث، لا يدل على استحباب التأخير،
والرابع يدل على استحباب التعجيل.
قال العلامة المباركفوري: ولم أر حديثًا صحيحًا صريحًا يدل على أفضلية تأخير العصر.
انتهى خلاصة ما كتبه المباركفوري جـ 1 ص 495، 496.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله المباركفوري رحمه الله تعالى كلام نفيس جِدًّا. والحاصل أن أحاديث استحباب التعجيل صحاح، وأصرح فيَ المقصود، ولا ينبغي لطالب الحق أن يعارضها بهذه الأدلة التي لا يصح أكثرها للاستدلال به، أو ليس صريحًا في الدلالة.
فتبصر، والله الهادي إلى سواء السبيل، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
506 -
أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللهِ، عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَنَسٍ، "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ، ثُمَّ يَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى قُبَاءٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: فَيَأْتِيهِمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَقَالَ الآخَرُ: وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ".
رجال الإسناد: ستة
1 -
(سويد بن نصر) المروزي راوية ابن المبارك، ثقة، من [10]، تقدم في 45/ 55.
2 -
(عبد الله) بن المبارك الحنظلي المروزي، ثقة ثبت حجة جليل، من [8]، تقدم في 32/ 63.
3 -
(مالك) بن أنس أبو عبد الله المدني، الإمام الحجة الثبت الفقيه، من [7]، تقدم في 7/ 7.
4 -
(الزهري) محمد بن مسلم أبو بكر المدني، الإمام الحافظ الحجة الثبت، من [4]، تقدم في 1/ 1.
5 -
(إِسحاق بن عبد الله) بن أبي طلحة الأنصاري المدني أبو يحيى، ثقة حجة، توفي سنة 132، وقيل: بعدها، من [4]، تقدم في 54/ 68.
6 -
(أنس) بن مالك الأنصاري الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 6/ 6. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنها: أن رواته كلهم ثقات نُبَلاء، اتفقوا عليهم إلا شيخه فانفرد له هو والترمذي.
ومنها: أنهم مدنيون، إلا شيخه، وعبد الله، فمروزيان.
ومنها: أنه يقدر قبل قوله. "عن أنس" لفظ "كلاهما" لأن مالكًا
يروي هذا الحديث عن شيخين: الزهري، وإسحاق، وكلاهما يرويان عن أنس.
ومنها: أن فيه رواية الراوي عن عمه؛ إسحاق عن أنس.
ومنها: أن أنسًا أحد المكثرين السبعة، رَوَى 2286 حديثًا، وأنه آخر من مات من الصحابة بالبصرة مات سنة 92 أو 93، وقد جاوز 100 سنة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أنس) بن مالك رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر، ثم يذهب الذاهب) وللبخاري "ثم يذهب الذاهب مِنَّا"، قال الحافظ رحمه الله: كأن أنسًا أراد بالذاهب نفسه، كما تشعر بذلك رواية الطحاوي من طريق أبي الأبيض عن أنس. قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا العصر، والشمسُ بيضاء مُحَلِّقَةٌ، ثم أرجع إلى قومي في ناحية المدينة، فأقول لهم: قوموا، فصلوا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى" اهـ. ويأتي للمصنف مختصرًا برقم (508)(إِلى قباء) متعلق بيذهب، وهو بضم القاف، والباء الموحدة، والقصر، والمد، والصرف، وعدمه، والتذكير، والتأنيث، والأفصحُ فيه المدُّ، والصرفُ، والتذكيرُ. قاله في "طرح التثريب" جـ 2 ص
164، والمراد أهل قباء، وهم على حدّ قوله تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] قاله فى "الفتح" جـ 2 ص 37.
قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: لم يختلف على مالك أنه قال في هذا الحديث "إلى قباء"، ولم يتابعه أحد من أصحاب الزهري بل كلهم يقولون:"إلى العوالي"، وهو الصواب عند أهل الحديث. قال: وقول مالك: "إلى قباء" وَهَمٌ، لا شك فيه.
قال الحافظ: وتعقب بأنه رُوِي عن ابن أبي ذئب، عن الزهري "إلى قباء"، كما قال مالك، نقله الباجي عن الدارقطني، فنسبة الوهم فيه إلى مالك مُنْتَقَد، فإنه إن كان وَهَمًا احتمل أن يكون منه، وأن يكون من الزهري حين حدث مالكًا. وقد رواه خالد بن مَخْلد عن مالك، فقال فيه "إلى العوالي" كما قال الجماعة، فقد اختلف فيه على مالك، وتوبع عن الزهري بخلاف ما جزم به ابن عبد البر. وأما قوله: الصواب عند أهل الحديث "العوالي"، فصحيح من حيث اللفظ، ومع ذلك فالمعنى متقارب، لكن رواية مالك أخص، لأن قباء من العوالى، وليست العوالي كل قباء، ولعل مالكًا لما رأى أن في رواية الزهري إجمالًا حملها على الرواية المفَسَّرَة، وهي روايته عن إسحاق، حيث قال فيها:"ثم يخرج الإنسان إلى بني عمرو بن عوف"، وقد تقدم أنهم أهل قباء، فبنى مالك على أن القصة واحدة لأنهما جميعًا حدثاه عن أنس، والمعنى
متقارب، فهذا الجمع أولى من الجزم بأن مالكًا وَهِمَ فيه. وأما استدلال ابن بطال على أن الوهم فيه ممن دون مالك بروَاية خالد بن مخلد المتقدمة الموافقة لرواية الجماعة عن الزهري ففيه نظر، لأن مالكًا أثبته في الموطأ باللفظ الذي رواه عنه كافة أصحابه، فرواية خالد بن مخلد عنه شاذة، فكيف تكون دالة على أن رواية الجماعة وهم؟ بل إن سلمنا أنها وهم فهو من مالك، كما جزم به البزار، والدارقطني، ومن تبعهما، أو من الزهري حين حدثه به، والأوْلَى طريق الجمع التي أوضحناها. انتهى كلام الحافظ "فتح" جـ 2 ص 36.
(فقال أحدهما) أي أحد شيخي مالك، الزهريِّ، وإسحاقَ (فيأتيهم). أي أهلَ قباء (وهم يصلون) جملة حالية من الضميرِ المفعولِ.
وهذا القائل هو إسحاق، كما بينته رواية البخاري عن عبد الله بن مسلمة، ورواية مسلم عن يحيى بن يحيى- كلاهما عن مالك، عنه، ولفظه "كنا نصلي العصر، ثم يخرج الإنسان إلى بني عمرو بن عوف، فيجدهم يصلون العصر".
ولا تنافي بين قوله في رواية المصنف: "إلى قباء"، ورواية الشيخين "إلى بني عمرو بن عوف" لأن قباء منازل بني عمرو بن عوف.
ثم إن رواية المصنف مرفوعة صريحًا، ورواية الشيخين ليست
صريحة في الرفع، حيث قال "كنا نُصَلِّي العصر".
قال الجامع عفا الله عنه: وعمل الشيخين رحمهما الله تعالى في هذا يشعر أن قول الصحابي: "كنا نفعل كذا" مُسْنَد، ولو لم يُصَرِّحْ بإضافته إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو -كما قال الحافظ رحمه الله اختيار الحاكم، وقال الدارقطني، والخطيب، وغيرهما هو موقوف. والحق أنه موقوف لفظًا مرفوع حكمًا، لأن الصحابي أورده في مقام الاحتجاج، فيحمل على أنه أراد كونه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال النووي رحمه الله: قال العلماء: كانت منازل بني عمرو بن عوف على ميلين من المدينة، وكانوا يصلون العصر في وسط الوقت، لأنهم كانوا يشتغلون بأعمالهم وحروثهم، فدل هذا الحديث على تعجيل النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة العصر في أول وقتها. اهـ فتح جـ 2 ص 35.
(وقال الآخر) أي الشيخ الآخر لمالك (والشمس مرتفعة) مقول قال، أي قال "فيأتيهم، والشمس مرتفعة"، والجملة في محل نصب على الحال من الضمير المنصوب المفعول.
وهذا الآخر هو الزهري، كما بينته رواية البخاري عن عبد الله بن يوسف، وروايةُ مسلم عن يحيى بن يحيى- كلاهما عن مالك، عنه.
والمعنى أن ذلك الذاهب يأتي أهل قباء، ويَصِلُ إليهم في حال ارتفاع الشمس، دون ذلك الارتفاع الذي صلَّى فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم،
ولكنها لم تَصِلْ إلى الحد الذي توصف به بأنها منخفضة.
وفيه دليل على تعجيله صلى الله عليه وسلم لصلاة العصر، لوصف الشمس بالارتفاع بَعْدَ أن تمضي مسافة أربعة أميال. والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أنس رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
لم يخرجه إلا في هذا الباب بهذا السند.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، ومسلم في "الصلاة"؛ فأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن ابن شهاب، عنه.
وعن أبي اليمان، عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عنه.
وعن القعنبي، عن مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عنه.
وأخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى، عن مالك عن إسحاق، عنه.
وعن يحيى، عن مالك، عن ابن شهاب عنه. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في هذا الحديث استحباب تقديم صلاة العصر في أول وقتها، وبه قال مالك، والشافعي، وأحمد، والجمهور، خلافًا للحنفية، فإنهم قالوا باستحباب تأخيرها، وذهب إليه طائفة من السلف، كما تقدم التفصيل فيه في الحديث السابق.
قال الحافظ ولي الدين العراقي رحمه الله: وحاول الطحاوي تأويل هذا الحديث، وأنه لا يدل على التعجيل، لجواز أن تكون الشمس مرتفعة، قد اصفرت، فَرَوَى عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أنس أنه قال:"ما أحد أشَدُّ تعجيلًا لصلاة العصر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن كان أبعد رجلين من الأنصار دارًا من مسجد رسول صلى الله عليه وسلم لأبو لبابة بن عبد المنذر أخو بني عمرو بن عوف، وأبو عُبيَس بن جَبْر أحد بني حارثة، ودار أبي لبابة بقباء، ودار أبي عُبَيس في بني حارثة، ثم إن كانا ليصليان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر، ثم يأتيان قومهما، وما صَلَّوْها، لتبكير رسول الله صلى الله عليه وسلم بها".
ثم روى عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس، قال:"كنا نُصَلِّي العصرَ، ثم يخرج الإنسان إلى بني عمرو بن عوف، فيجدهم يصلون العصر"، ثم روى حديث الزهري عن أنس هذا، ثم روى عن أبي الأبيض، قال: حدثنا أنس بن مالك، قال: "كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر، والشمس بيضاء، ثم أرجع إلى قومي في ناحية المدينة، فأقول لهم: قوموا، فصلوا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى"، ثم قال الطحاوي: فقد اختلف عن أنس في هذا الحديث، فكان ما رَوَى عاصم بن عمر بن قتادة، وإسحاق بن عبد الله، وأبو الأبيض عنه يدل على العجيل بها، لأن في حديثهم أنه عليه الصلاة والسلام كان يصليها ثم يذهب الذاهب إلى المكان الذي ذكروا، فيجدهم لم يصلوا العصر، ونحن نعلم أن أولئك لم يكونوا يصلونها إلا قبل اصفرار الشمس، فهذا دليل التعجيل.
وأما رواية الزهري عن أنس، فقد يجوز أن تكون الشمس مرتفعة، قد اصفرت، فقد اضطرب حديث أنس، لأن معنى ما رَوَى الزهري منه بخلاف ما روى إسحاق، وعاصم، وأبو الأبيض عنه. هذا كلام الطحاوي.
وفيه نظر من أوجه:
أحدها: أن هذا الاحتمال الذي ذكره من كونه يأتيهم، والشمس مرتفعة، قد اصفرت يَرُدُّهُ قوله في رواية أبي داود عن قتيبة، عن الليث، عن الزهري، عن أنس "والشمس مرتفعة حية"
(1)
. كذا رواه
البيهقي في سننه من طريق أبن داسة، عن أبي داود، وقال في المعرفة:
(1)
هي الرواية التالية للمصنف الآتية برقم (507).
وفي رواية الليث "فيأتيهم، والشمس مرتفعة حية". انتهى. وحياتها بقاء حرها ولونها، وهذا ينافي أن تكون قد اصفرت.
ثانيها: لو لم ترد هذه اللفظة "وهي حية"، وكان ارتفاعها لا ينافي صفرتها على ما قرره الطحاوي، فذلك لا يحصل مقصوده، لأن المصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة إذا وصل إلى قباء التي هي على ثلاثة أميال، والشمس مرتفعة، فذلك دليل التعجيل، ولو كانت الشمس مصفرة، ولا سيما الرواية فيها العوالي وقتها أنها على أربعة أميال
(1)
، وفي رواية ستة أميال، ولو لم يعجل بالعصر أول وقتها لما وصل إلى هذه المسافة إلا بعد الغروب.
ثالثها: كيف يجعل حديث أنس مضطربًا مع أن الروايات عنه لم يتحقق اختلافها، وغاية ما ذكره أن رواية الزهري عن أنس تحتمل مخالفة روايةَ الباقين، وقد صرح هو بذلك في قوله: فقد يجوز أن تكون الشمس مرتفعة قد اصفرت، ومع احتمال المخالفة والموافقة لا يكون اضطرابًا، بل الواجب حمل الرواية المحتملة على الروايات المصرّحة، وجَعْلُها على نَسَق واحد، لا اختلاف بينها، ولا تَضَادَّ، وكيف نجيء إلى الرواية التي هي صريحة في المقصود، لا تحتمل التأويل، فنردها بورود رواية أخرى تحتمل أن تخالفها احتمالًا مرجوحًا، بل لو كان احتمال المخالفة راجحًا لكان الواجب الحمل على
(1)
هكذا النسخة، ولعل الصواب: وقَدَّروها أنها أربعة أميال.
المرجوح ليوافق بقية الروايات، فكيف واحتمال المخالفة هو المرجوح، أو الاحتمالان مستويان إن تنزلنا، والواقف على كلام الطحاوي في هذا الموضع يفهم منه التعصب ببادىء الرأي، لأنه ذكر أولًا أن رواية الزهري عن أنس محتملة لأن تكون الشمس قد اصفرت، ثم إنه نَزَّلَ هذا الاحتمال منزلة المجزوم به، وقال: فقد اضطرب حديث أنس، ثم جزم بأن معنى ما روي عن الزهري بخلاف ما رواه غيره، مع قوله أولًا: إنه يحتمل المخالفة فقط.
ثم ذكر الطحاوي حديث أبي الأبيض عن أنس، قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة العصر، والشمس بيضاء مُحَلِّقَةٌ"، وقال: ذلك دليل على أنه قد كان يؤخرها، ثم ذكر أنه رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه كان يصليها، والشمس مرتفعة بيضاء نقية، قدر ما يسير الراكب فرسخين، أو ثلاثة"، فذكر أنه دليل على التأخير أيضًا، وهذا من أعجب العجب. والله أعلم. انتهى كلام الحافظ العراقي في "طرحه" جـ 2 ص 165 - 167.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله ولي الدين رحمه الله كلام نفيس جدًّا في الرد على من يتعصب لمذهب الحنفية في قولهم باستحباب تأَخير العصر، مثل الطحاوي، ومن تبعه كالعيني،
وصاحب العرف الشذي. والله تعالى أعلم.
تنبيه:
الواجب على المسلم العاقل أن يكون ناصرًا للحق، ومتبعًا للدليل،
يدور حيثما دار، ولا يلتفت إلى من خالفه، أيًا قدره ومنزلته من العلم، ولا يمنعه من ذلك تقليده لإمام من الأئمة المجتهدين، فإنهم يصيبون ويخطئون، ولكنهم مأجورون على خطئهم أجرًا واحدًا، كما أنهم يؤجرون على صوابهم أجرين، فإنهم ما خالفوا النص، إلا لعدم وصوله إليهم، أو بلغهم إلا أنه عن طريق لا يرتضونها، أو تأولوه على حسب ما ظهر لهم، فأخطئوا في تأويله، إلى غير ذلك من الأعذار التي تُبْرىء ساحتهم أن ينزل فيها لَوْم وتوبيخ. وأما هؤلاء الذين يقلدونهم في أخطائهم فليس لهم عذر، إلا أنهم يقولون: إن إمامهم أعلم من غيره، فلا ينبغي مخالفته، يا للعجب! هل إمامهم أعلم من الصحابة والتابعين، المخالفين له في تلك المسألة، القائلين بما وافق النص الصريح الصحيح؟! إن هذا لشيء عُجَاب!
عجيبة: مما اتفق لي أن مؤذنًا أذن للمغرب، فدخل رجل حنفي المسجد بعد الأذان، فجلس قبل أن يركع ركعتين، فقلت له: يا أخي لا تجلس، فإنك دخلت المسجد، فتوجه إليك شيئان: نهيه صلى الله عليه وسلم لمن دخل المسجد أن يجلس حتى يركع ركعتين، وقوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا قبل المغرب
…
" الحديث، فرد علي بأن الصلاة قبل المغرب مكروهة في مذهبنا، فقلت له: إني كنت حنفيًّا مثلك، وقرأت من كتب الحنفية أصولًا وفروعًا كتبًا كثيرة، وفي ظني أنك ما قرأتها كلها، ولكني لما رأيت الأحاديث الصحاح مخالفة لبعض مسائلها -كمسألتنا هذه-
تركت ما كنت أقلد؛ لوضوح الحق لي والحمد لله، فتناقشنا كثيرًا، فلما أكثرت عليه قال لي: هل أنت أعلم من الإمام أبي حنيفة؟ فقلت له: هَبْ أني لست أعلم، ولكن هل تعتقد أنت أن الإمام أبا حنيفة أعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول:"صلوا قبل المغرب"، ويقول هو بكراهة الصلاة قبل المغرب، مع أني أحترم الإمام أبا حنيفة رحمه الله، وأعتذر عنه في مخالفته لهذا الحديث بأنه ما بلغه، أو بلغه، إلا أنه عن طريق لا يرضاها. فانقطعت حجة الرجل، ولكنه ما تراجع عما هو عليه، لمجرد تعصب، نسأل الله تعالى أن يُرِيَنَا الحق حَقًّا، ويرزقنا اتباعه، ويُرِيَنَا الباطل باطلًا، ويرزقنا اجتنابه، إنه بعباده رؤوف رحيم.
ثم إني لا أقصد بهذا التَّنقُّصَ بمذاهب الأئمة، حاشا ثم حاشا، وكيف وهم الذين خدموا الكتاب والسنة، وقاموا في ذلك حق القيام، فأقوالهم شارحة للكتاب والسنة، فمما يجب على طالب العلم أن يستعين في فهم الكتاب والسنة بأقوال أهل العلم، من الفقهاء، والأصوليين، والنحويين، واللغويين، وغيرهم رحمهم الله تعالى.
ولكني أنصح المسلم، وأحذّره أن يقلد آراءهم التي تخالف النصوص الصريحة الصحيحة، بدعوى أنهم أعلم منه، وأدرى بتلك النصوص، وكيف يَدَّعي ذلك، وقد خالفهم في تلك المسائل من هو
أعلم منهم، أو مثلهم.
وبالجملة فالواجب على المسلم أن يجعل النصوص الصحيحة
أساسًا يبني عليه دينه، ويستعين على فهمها بأقوال العلماء المحققين، ويجعل النصوص أيضًا ميزانًا يزن به آراءهم، فما وافق قَبِلَه، وما خالف رده، ولا يلتفت إلى قائله، فإن الحق أحق أن يُتَّبَعَ. نسَأل الله تعالى أن يهدينا سواء السبيل، إنه سميع قريب مجيب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
507 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّى الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ حَيَّةٌ، وَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْعَوَالِي، وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ.
رجال الإسناد: أربعة
1 -
(قتيبة) بن سعيد الْبَغْلَاني، ثقة ثبت، توفي سنة 240، من [10]، تقدم في 1/ 1.
2 -
(الليث) بن سعد الإمام المصري، ثقة ثبت فقيه، من [7]، تقدم في 31/ 35.
3 -
(ابن شهاب) محمد بن مسلم المدني، الإمام الحجة الحافظ الثبت، من [4]، تقدم في 1/ 1.
4 -
(أنس بن مالك) رضي الله عنه، تقدم في 6/ 6. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه التاسع عشر من رباعيات المصنف رحمه الله في هذا الكتاب، وهو أعلى ما وقع له من الأسانيد، وقد تقدم غير مرة.
ومنها: أن رجاله ثقات أجلاء، اتفق الأئمة على التخريج لهم.
ومنها: أنهم ما بين بغلاني؛ وهو قتيبة، ومصري، وهو الليث، ومدنِيَّينِ؛ وهما الزهري، وأنس.
ومنها: أن أنسًا أحد المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة بالبصرة، كما مر قريبًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أنس بن مالك) رضي الله عنه (أنه) أي أنسًا (أخبره) أي ابن شهاب (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) في تأويل المصدر مفعول ثان لأخبر (كان يصلي العصر، والشمس مرتفعة، حية) قال الخطابي وغيره: حياتها وجودُ حَرِّهَا، وصَفَاءُ لونها قبل أن يَصْفَرَّ، ويتغير (ويذهب الذاهب) أي بعد الصلاة، بدليل الروايات الأخرى؛ كحديث أنس المتقدم في رواية الطحاوي "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا العصر، والشمس بيضاء نقية، ثم أرجع إلى قومي
…
" الحديث.
(إِلى العوالي، والشمس مرتفعة) جملة حالية من محذوف، أي
فيأتيهم، والحال أن الشمس مرتفعة، وقد بَيَّنَت المحذوفَ روايةُ البخاري "فيذهب الذاهب إلى العوالي، فيأتيهم، والشمس مرتفعة". ورواية مسلم "فيأتي العوالي، والشمس مرتفعة". والارتفاع هنا دون الارتفاع في قوله: "كان يصلي العصر، والشمس مرتفعة"، ولكن لا تصل إلى أن توصف بالانخفاض، كما أفاده في "الفتح".
تنبيه:
وقع عند البخاري رحمه الله في رواية شعيب بن أبي حمزة لهذا الحديث عن الزهري في آخره زيادةُ "وبعضُ العوالي من المدينة على أربعة أميال، أو نحوه". قال في "الفتح": كذا وقع هنا أي بين بعض العوالي والمدينة المسافةُ المذكورة.
وَروَى البيهقيُّ حديثَ الباب من طريق أبي بكر الصغاني، عن أبي اليمان شيخ البخاري فيه، وقال في آخره:"وبُعْدُ العوالي"، بضم الموحدة، وبالدال المهملة، وكذلك أخرجه البخاري في الاعتصام
تعليقًا، ووصله البيهقي من طريق الليث، عن يونس، عن الزهري، لكن قال:"أربعة أميال، أو ثلاثة".
وَروَى هذا الحديث أبو عوانة في "صحيحه"، وأبو العباس السَّرَّاج جميعًا عن أحمد بن الفرج أبي عتبة، عن محمد بن حمير، عن إبراهيم ابن أبي عَبْلَة، عن الزهري، ولفظه "والعوالي من المدينة على ثلاثة أميال"، أخرجه الدارقطني عن المحاملي، عن أبي عتبة المذكور بسنده،
فوقع عنده "على ستة أميال"، ورواه عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، فقال فيه:"على ميلين، أو ثلاثة".
فتحصل من ذلك أن أقرب العوالي من المدينة مسافة ميلين، وأبعدها مسافة ستة أميال، إن كانت رواية المحاملي محفوظة.
ووقع في المدونة عن مالك "أبعد العوالي مسافة ثلاثة أميال"، قال عياض: كأنه أراد معظم عمارتها، وإلا فأبعدها ثمانية أميال. انتهى. وبذلك جزم ابن عبد البر، وغير واحد، آخرهم صاحب النهاية.
ويحتمل أن يكون أراد أنه أبعد الأمكنة التي كان يذهب إليها الذاهب في هذه الواقعة.
والعوالي: عبارة عن القرى المجتمعة حول المدينة من جهة نجدها، وأما ما كان من جهة تهامتها، فيقال لها السافلة. اهـ ما في الفتح جـ 2 ص 36.
وقال ابن منظور رحمه الله: والعوالي أماكن بأعلى أراضي المدينة، وأدناها من المدينة على أربعة أميال، وأبعدها من جهة نجد ثمانية، والنسبة إليها عَالِيّ على القياس، وعُلْوِيٌّ نادر على غير قياس. اهـ "لسان" جـ 4 ص 3090. والله أعلم.
تنبيه آخر:
ثم إن هذه الزيادة في هذا الحديث مدرج من كلام الزهري في
حديث أنس، بينه عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري في هذا الحديث، فقال فيه -بعد قوله:"والشمس حية"- قال الزهري: والعوالي من المدينة على ميلين، أو ثلاثة. قاله في "الفتح".
والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أنس رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكره عند المصنف:
أخرجه هنا (507)، وفي "الكبرى"(1495)، بهذا السند.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن أبي اليمان، عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عنه.
وأخرجه مسلم في "الصلاة" عن قتيبة، ومحمد بن رمح، كلاهما عن الليث، عن ابن شهاب به. وعن هارون بن سعيد الأيلي، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن الزهري به.
وأخرجه أبو داود في "الصلاة" بسند المصنف.
وأخرجه ابن ماجه فيه عن محمد بن رمح، عن الليث بن سعد به.
وأخرجه عبد الرزاق، وأبو عوانة، والطحاوي، والبيهقي.
والله ولي التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
508 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ أَبِي الأَبْيَضِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِنَا الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ مُحَلِّقَةٌ.
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(إسحاق بن إِبراهيم) الحَنْظَلِيُّ المعروف بابن راهويه المروزي نزيل نيسابور، ثقة حجة فقيه، من [10]، تقدم في 2/ 2.
2 -
(جرير) بن عبد الحميدْ بن قُرْطٍ الضَّبِيُّ الكوفي نزيل الرَّيِّ وقاضيها، ثقة صحيح الكتاب، قيل: كان في آخر عمره. يَهِمُ من حفظه، توفي سنة 188، من [8]، تقدم في 2/ 2.
3 -
(منصور) بن المعتمر بن عبد الله السّلمي أبو عَتَّاب الكوفي، ثقة ثبت، كان لا يُدَلِّسُ، توفي سنة 132، وكان من طبقة الأعمش، تقدم في 2/ 2.
4 -
(ربعي بن حراش) ربعي -بكسر الراء، وسكون الموحدة، وحراش- بكسر المهملة، وآخره معجمة، أبو مريم العَبْسي الكوفي، ثقة
عابد مخضرم من [2].
وفي "تت": ربعي بن حراش بن جحش بن عمرو بن عبد الله بن بجاد. قَدِم الشامَ، وسمع عمر بالجابية، وَرَوَى عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وَأبي موسى، وعمران بن حُصَين، وغيرهم. وعنه عبد الملك ابن عمير، ومنصور بن المعتمر، وعمرو بن هَرِم.
قال ابن المديني: بنو حراش ثلاثة: ربعي، وربيع، ومسعود، ولم يُرْوَ عن مسعود شيء سوى كلامه بعد الموت. وقال العجلي: تابعي ثقة من خيار الناس، لم يكذب كَذْبَةً قط. وقال ابن سعد: توفي بعد الجماجم في ولاية الحجاج بن يوسف، وليس له عقب، وكان ثقة، وله أحاديث صالحة.
وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من عباد أهل الكوفة.
وقال الآجري: قلت لأبي داود: سمع ربعي من عمر؟ فقال: نعم.
وقال اللالكائي: مُجْمَع على ثقته. وقال الدوري: سئل ابن معين سمع ربعي من أبي اليسر؟ فقال: لا أدري. وقال حجاج: قلت لشعبة: أدرك ربعي عليًّا؟ قال: نعم. وقال ابن عساكر في الأطراف: لم يسمع من أبي ذر. قال الحافظ: وإذا ثبت سماعه من عمر، فلا يمتنع سماعه من أبي ذَرّ. وقال أبو نعيم، وغير واحد: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز.
وقال أبو عبيد: مات سنة 100 وقال ابن نمير: سنة 101، وقال ابن
معين وغيره: سنة 0104 انتهى "تت " جـ 3 ص 236، 237. روى له الجماعة.
5 -
(أبو الأبيض) العنسي الشامي، ويقال المدني ثقة من [2].
روى عن حذيفة بن اليمان، وأنس. وعنه ربعي بن حراش، وإبراهيم بن أبي عَبْلَة، ويمان بن المغيرة. قال العجلي: شامي تابعي ثقة.
وقال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عن اسم أبي الأبيض الذي روى عن أنس، فقال: لا يعرف اسمه، وذكره في الأسماء، فقال: عيسى أبو الأبيض، عن أنس. قال ابن عساكر: وهذا وَهَم، ويحتمل أنه وجد في بعض الروايات، أبو الأبيض عنسي، فتصحف عليه. وقال ضمرة ابن ربيعة عن علي بن أبي جَميلة: لم يكن بالشام أحد يستطيع أن يَعِيب الحجاج علانية إلا بجير بن أبيَ بجير، وأبو الأبيض العنسي، وكذا رواه أيوب بن سعيد عن يحيى بن أبي عمرو السَّيْبَاني، ويُرْوَى أنه خرج مع العباس بن الوليد في الصائفة، فقال: إني رأيت في المنام كأني أتِيتُ بتمر، وزبد، فأكلته، ثم دخلت الجنة، فقال العباس: يعجل لك التمر والزبد، والله لك الجنة، فدعا بتمر، وزبد، فأكل، ثم لقي العدو، فقاتل حتى قُتِلَ. وقال الوليد بن مسلم: قتل أبو الأبيض العنسي بالطوانة. قال يحيى بن بكير عن الليث: كانت غزوة الطوانة سنة 88، انتهى "تت" جـ 12 ص 3. انفرد به المصنف.
6 -
(أنس بن مالك) الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 6/ 6.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف.
ومنها: أن رواته كلهم ثقات اتفقوا عليهم، إلا أبا الأبيض، فانفرد هو به.
ومنها: أن فيه أنسًا أحدَ المكثرين السبعة، وآخرَ من مات من الصحابة بالبصرة.
ومنها. أن فيه من صيغ الأداء الإخبار، والتحديثَ، والعنعنة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أنس بن مالك) رضي الله عنه، أنه (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا العصر، والشمس بيضاء مُحَلِّقَة) بصيغة اسم الفاعل: أي مرتفعة، والتحليق: الارتفاع، ومنه: حَلَّق الطائر في كبد السماء: أي صعد، وحكى الأزهري عن شَمِرٍ: قال: تحليق الشمس من أول النهار: ارتفاعها من المشرق، ومن آخر النهار: انحدارها، وقال: لا أدري التحليق إلا الارتفاع في الهواء، يقال: حَلَّقَ النَّجْمُ: إذا ارتفع، وتحليق الطائر: ارتفاعه في طيرانه، ومنه حلق الطائر في كبد السماء. إذا ارتفع واستدار، قال ابن الزُّبَيرِ الأسدي في النجم:
رُبَّ مَنْهَلٍ طَاوٍ وَرَدتُ وَقَدْ خَوَى
…
نجْمٌ وَحَلَّقَ فِي السَّمَاء نُجُومُ
خَوَى: غَابَ. وقال ذُو الرمة في الطائر (من الطويل):
وَرَدْتُ اعْتِسَافًا والثُّرَيَّا كَأنَّهَا
…
عَلَى قِمَّةِ الرَّأْسِ ابْنُ مَاءٍ مُحَلِّقُ
أفاده في "اللسان".
والمراد به أن الشمس مرتفعة، وفيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر في أول وقتها.
تنبيه:
حديث أنس رضي الله عنه هذا صحيح، وهو من أفراد المصنف، لم يخرجه إلا في هذا الباب. والمسائل المتعلقة به تقدمت في الأحاديث السابقة، فلا حاجة إلى إطالة الكتاب بإعادتها. فارجع إليها تستفد. وبالله سبحانه وتعالى التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
509 -
أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللهِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ بْنَ سَهْلٍ، يَقُولُ: صَلَّيْنَا مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الظُّهْرَ، ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَوَجَدْنَاهُ يُصَلِّي الْعَصْرَ، قُلْتُ: يَا عَمِّ مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّيْتَ؟ قَالَ: الْعَصْرَ، وَهَذِهِ صَلَاةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي كُنَّا
نُصَلِّي.
رجال الإسناد: خمسة
1 -
(سُوَيد بن نَصْر) المروزي أبو الفضل، رَاوِيَةُ ابنِ المبارك، ثقة، من [10]، تقدم في 45/ 55.
2 -
(عبد الله) بن المبارك الحَنْظَلِيُّ المروزي، الإمام الحجة الثبت، من [8]، تقدم في 32/ 36.
3 -
(أبو بكر بن عثمان بن سهل بن حُنيف) الأنصاري الأوسي المدني، مقبول، من [6]، أخرج له البخاري ومسلم والنسائي، رَوىَ عن عمه أبي أمامة بن سهل بن حنيف. وعنه الثوري، ومالك، وابن المبارك، وأبو ضمرة، ذكره ابن حبان في الثقات.
4 -
(أبو أمامة في سهل) بن حنيف، اسمه أسعد، وقيل: سعد، وقيل: قتيبة، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وسمي باسم جده لأمه أسعد بن زُرَارَة، وكُنِيَ بكنيته.
رَوىَ عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وعن عمر، وعثمان، وعمه عثمان، وأبيه سهل، وابن عباس، وأبي هريرة، وغيرهم. وعنه ابناه سهل، ومحمد، وابنا عمه عثمان، وحكيم، وغيرهم.
قال أبو مشعر المدني: رأيته شيخًا كبيرًا يخضب بالصفرة، وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، وقال سعيد بن السكن: وُلِدَ على عهد
النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه شيئًا، وكذا قال البغوي، وابن حبان، وقال يونس عن ابن شهاب: أخبرني أبو أمامة بن سهل، وكان من أكابر الأنصار، وعلمائهم، وقال غيره: وُلِدَ قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بعامين، وقال الطبراني: له رؤية.
وقال أبو زرعة: لم يسمع من عمر. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي، قيل له: هو ثقة؟ فقال: لا يسأل عن مثله، هو أجل من ذاك. وقال أبو منصور الباوَرْدي
(1)
: مختلف في صحبته، إلا أنه ولد في عهده، وهو ممن يُعَدُّ في الصحابة الذين رَوَى عنهم الزهري. وقال السلمي: سئل الدارقطني: هل أدرك النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، وأخرج حديثه في المسند.
وقال البخاري: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه. وقال أحمد بن صالح: حدثنا عنبسة، ثنا يونس، عن الزهري: حدثني أبو أمامة، وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وسماه، وَحنَّكَه، هذا إسناد صحيح. ونقل ابن منده عن أبي داود أنه قال: صحب النبي صلى الله عليه وسلم وبايعه. قال ابن منده: وقول البخاري أصح. وقال خليفة، وغيره: مات سنة 100، واسم أمه حبيبة بنت أسعد. أخرج له الجماعة.
(1)
بفتح الواو، وسكون الراء، ومهملة: نسبة إلى أبي ورد. اهـ. لب اللباب.
5 -
(أنس بن مالك) الصحابي رضي الله عنه، تقدم في 6/ 6. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم موثقون، اتفقوا عليهم؛ إلا شيخه فانفرد به هو والترمذي، وأبا بكر، فمن أفراده والشيخين وأنهم مدنيون إلا شيخه وابن المبارك فمروزيان.
ومنها: أن فيه الإخبار، والإنباء، والسماع، والعنعنة من صيغ الأداء.
ومنها: أن أبا بكر، وأبا أمامة، هذا الباب أول محل ذكرهم. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي بكر بن عثمان بن سهل بن حنيف) بضم الحاء مصغرًا، وأبو بكر لا يعرف اسمه، أنه (قال: سمعت أبا أمامة بن سهل) هو عمه (يقول: صلينا مع عمر بن عبد العزيز) الخليفة الراشد الأموي، المتوفى سنة 101، تقدمت ترجمته في 122/ 171 رحمه الله تعالى (الظهر، ثم خرجنا) أي من المسجد (حتى دخلنا على أنس ابن مالك) رضي الله عنه (فوجدناه يصلي العصر) قال أبو بكر (قلت: يا عم) قاله على سبيل التوقير، ولكونه أكبر منه
سنًا، مع أن نسبهما يجتمع في الأنصار، لكنه ليس عمه حقيقة. قاله في "الفتح". والله أعلم.
تنبيه:
إذا كان المنادى المضاف إلى ياء المتكلم صحيحًا، كيا عمي، ويا أخي، جاز فيه ستة أوجه:
الأول: حذف الياء، والاستغناء بالكسرة، نحو يا عمِّ، وهو الأكثر.
الثاني: إثبات الياء ساكنة، نحو يا عمي، وهو دون الأول في الكثرة.
الثالث: إثبات الياء مفتوحة، نحو يا عَمّيَ بفتح الياء، وهو يلي ما قبله.
الرابع: قلب الياء ألفًا، نحو يا عَمَّا، وهو يلي ما قبله.
الخامس: حذف الألف اكتفاء بالفتحة، نحو يا عم، بفتح الميم، وهو أضعف الأوجه، ولذا منعه الأكثرون، وأجازه الأخفش، والفارسي.
وإلى هذه الخمسة أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة"، فقال:
وَاجْعَلْ مُنَادًى صَحَّ إِنْ يُضَفْ لِيَا
…
كعَبْدِ عَبْدِ عَبْدَ عَبْدَا عَبْدِيَا
السادس: ضم الاسم بعد حذف الألف، كالمفرد اكتفاء بنية الإضافة، وهذا فيما يكثر نداؤه مضافًا، كالرب، والأبوين، والعم،
والقوم، لا في نحو الغلام. انظر التفاصيل في شروح ألفية ابن مالك، وحواشيها فى باب المُنَادَى المضافِ إلى ياء المتكلمَ. والله تعالى أعلم.
(ما هذه الصلاة التي صليت؟ قال: العصر) يحتمل الرفع على أنه خبر لمحذوف، أي هي العصر، ويحتمل النصب على أنه مفعول لفعل محذوف، أي صليت العصر، ثم قال أنس رضي الله عنه مبينًا دليله على تعجيله العصر في مثل هذا الوقت الذي يصلي فيه الناس الظهر (وهذه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كنا نصلي) وعائد الموصول محذوف، كما قال ابن مالك:
..................
…
وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كثِيرٌ مُنْجَلِي
فِي عَائِد مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ
…
بِفِعْل اوْ وَصْفٍ كَمَنْ نَرْجُو يَهَبْ
أي نصليها معه.
قال النووي رحمه الله: هذا الحديث صريح في التبكير بصلاة العصر في أول وقتها، وأنَّ وقتها يدخل بمصير ظل الشيء مثله، ولهذا كان الآخرون يؤخرون الظهر إلى ذلك الوقت، وإنما أخرها عمر بن عبد العزيز على عادة الأمراء قبله قبل أن تبلغه السنة في تقديمها، فلما بلغته صار إلى التقديم، ويحتمل أنه أخرها لشغل وعذر عرض له، وظاهر الحديث يقتضي التأويل الأول، وهذا كان حين ولي عمر بن عبد العزيز المدينةِ نيَابَةً، لا خِلافَةً، لأن أنسًا رضي الله عنه توفي قبل
خلافة عمر بن عبد العزيز بنحو تسع سنين. اهـ "شرح مسلم" جـ 5 ص 124.
وقال في "الفتح": وفي القصة دليل على أن عمر بن عبد العزيز كان يصلي العصر في آخر وقتها تبعًا لسلفه، إلى أن أنكر عليه عروة، فرجع إليه، كما تقدم، وإنما أنكر عليه عروة في العصر دون الظهر، لأن وقت الظهر لا كراهة فيه بخلاف وقت العصر.
وفيه دليل على صلاة العصر في أول وقتها أيضًا، وهو عند انتهاء وقت الظهر، ولهذا تشكك أبو أمامة في صلاة أنس، أهي الظهر أو العصر؟ فيدل أيضًا على عدم الفاصلة بين الوقتين. اهـ "فتح" جـ 2 ص 35.
قال الجامع عفا الله عنه: وما اعترض به العيني كلامَ النووي بأن هذا الحديث ليس فيه تصريح في التبكير لصلاة العصر، ومثل عمر ابن عبد العزيز كان يتبع الأمراء، ويترك السنة. مما لا قيمة له، بل جرى على عادته في التعصب لمذهبه، مع كون أحاديث الباب صريحة في مخالفته. والله المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
الأولى: في درجته:
حديث أنس هذا متفق عليه.
الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه المصنف هنا (509)، وفي "الكبرى"(1496) بهذا السند.
الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري ومسلم؛ فأخرجه البخاري في الصلاة عن محمد ابن مقاتل، عن عبد الله بن المبارك، عن أبي بكر بن عثمان، عن أبي أمامة، عنه.
وأخرجه مسلم في الصلاة أيضًا عن منصور بن أبي مُزَاحِم، عن ابن المبارك، به.
وبقية المسائل تقدمت في الأحاديث السابقة، فارجع إليها تزدد علمًا. والله تعالى ولي التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
510 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلْقَمَةَ الْمَدَنِيُّ. قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: صَلَّيْنَا فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، ثُمَّ انْصَرَفْنَا إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَوَجَدْنَاهُ، يُصَلِّي العَصْرَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ لَنَا: صَلَّيْتُم الظُّهْرَ؟ قَالَ: إِنِّي صَلَّيْتُ الْعَصْرَ، فَقَالُوا لَهُ: عَجَّلْتَ، فَقَالَ: إِنَّمَا أُصَلِّي، كَمَا رَأَيْتُ أَصْحَابِي يُصَلُّونَ.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(إِسحاق بن إبراهيم) الحنظلي المعروف بابن راهويه، ثقة حجة فقيه، من [10]، تقدم في 2/ 2.
2 -
(أبو عَلْقَمَةَ المدني) عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي فَرْوَة الأموي مولاهم الفروي، صدوق، من [8].
وقال ابن الجنيد عن ابن معين: ليس به بأس، وكذا قال أبو حاتم. وقال الدوري عن ابن معين: ثقة، وكذا قال النسائي. وذكره ابن حبان في الثقات. وحكى ابن عبد البر عن ابن المديني أنه قال: هو ثقة، ما أعلم أني رأيت بالمدينة أتقن منه. وقد رُويَ عنه أنه قال: رأيت السائب ابن يزيد. وقال ابن سعد: عُمِّر عَبد الله حتى لقيناه سنة 189، وكان ثقة قليل الحديث. قال ابنه: مات في المحرم سنة 190، أخرج له مسلم، والبخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والمصنف.
3 -
(محمد بن عمرو) بن علقمة بن وَقَّاص الليثي المدني، صدوق له أوهام، من [6]، تقدم في 16/ 17.
4 -
(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، ثقة فقيه مكثر، من [3]، تقدم في 1/ 1.
5 -
(أنس بن مالك) الصحابي رضي الله عنه، تقدم في 6/ 6. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنها: أن رواته كلهم موثقون.
ومنها: أنهم مدنيون، إلا شيخه، فمروزي ثم نيسابوري.
ومنها: أن أبا سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال.
ومنها: أن أبا علقمة هذا الباب أول محل ذكره. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف، أنه (قال: صلينا في زمان عمر بن عبد العزيز) أي في أيام إمارته على المدينة، لا في خلافته، لما تقدم من أن أنسًا رضي الله عنه مات قبل خلافته بنحو تسع سنين (ثم انصرفنا إِلى أنس بن مالك) ظاهر هذا أن القصة جرت في المدينة، ولعله جَرَى في حال قدوم أنس إلى المدينة للحاجة، وإلا فهو في
ذلك الوقت كان في البصرة، ويحتمل أن يكون عمر بن عبد العزيز ذهب إلى البصرة لحاجة، والله أعلم.
(فوجدناه يصلي العصر) الجملة في محل نصب على الحال من المفعول، وليست مفعولًا ثانيًا لوجد، لأن "وجد" هنا بمعنى "لَقِي"، وهي لا تتعدى إلا إلى واحد، ومصدرها الوُجْدَان، قيل: والوجود أيضًا، وأما التي تتعدى إلى اثنين فهى "وجد" بمعنى عَلِمَ، كقوله تعالى:
{وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} . انظر شرح ابن عقيل على الألفية، وحاشية الخضري عليه جـ 1 ص 148.
(فلما انصرف) أي سلم أنس رضي الله عنه من الصلاة (قال لنا: صليتم الظهر) بتقدير أداة الاستفهام، أي أصليتم الظهر؟ فلما أجابوه (قال: إِني صليت العصر، فقالوا: عَجَّلْتَ) وإنما قالوا ذلك مع كون أنس أعلم منهم بالسنة، لا حتمال الخطأ منه (فقال: إنما أصلي كما رأيت أصحابي يصلون) يريد النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم. وفيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم كانوا يصلون العصر في أول الوقت. وإنما تغير بعدهم في أمراء بني أمية.
وإنما صلى أنس رضي الله عنه في أول الوقت ولم ينتظر الجماعة عملًا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال لأبي ذر رضي الله عنه "إنه سيكون بعدي أمراء يميتون الصلاة، فَصَلِّ الصلاة لوقتها، فإن صُلّيَتْ لوقتها كانت لك نافلة، وإلا كنت قد أحرزت صلاتك"، وفي رواية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضرب فخذي:"كيف أنت إذا بقيت في قوم يؤخرون الصلاة عن وقتها"، قال: ما تأمر؟ قال: "صل الصلاة لوقتها، ثم اذهب لحاجتك، فإن أقيمت الصلاة، وأنت في المسجد، فصل" وفي رواية "صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتك الصلاة معهم، فصل، ولا تقل: إني قد صليت، فلا أصلي"، وفي رواية "فصلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم نافلة". أخرجه مسلم.
تنبيه:
هذا الحديث من أفراد المصنف رحمه الله، وهو حديث صحيح.
وقد تقدمت المسائل المتعلقة به في شرح الأحاديث السابقة، فلا نطيل الكتاب بإعادتها، فارجع إليها تزدد علمًا. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
9 - بَابُ التَّشْدِيدِ فِي تَأخِيِر صَلاةِ العَصْرِ
أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على التشديد في الوعيد في تأخير صلاة العصر.
511 -
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرِ بْنِ إِيَاسِ بْنِ مُقَاتِلِ بْنِ مُشَمْرِجِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي دَارِهِ بِالْبَصْرَةِ حِينَ انْصَرَفَ مِنَ الظُّهْرِ، وَدَارُهُ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا دَخَلْنَا عَلَيْهِ، قَالَ: أَصَلَّيْتُمُ الْعَصْرَ؟ قُلْنَا: لَا، إِنَّمَا انْصَرَفْنَا السَّاعَةَ مِنَ الظُّهْرِ، قَالَ: فَصَلُّوا الْعَصْرَ، قَالَ: فَقُمْنَا، فَصَلَّيْنَا، فَلَمَّا انْصَرَفْنَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، جَلَسَ يَرْقُبُ صَلَاةَ الْعَصْر، حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا، لَا يَذْكُرُ اللهَ عز وجل فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً".
رجال الإسناد: أربعة
1 -
(علي بن حُجْر بن إِياس بن مقاتل بن مُشَمْرِج بن خالد) وفي تهذيب الكمال: علي بن حُجْر بن إياس بن مقاتل بن مخادش بن
مخادش بن مشمرج بن خالد السَّعْدي، أبو الحسن المروزي، ولجده مشمرج صحبة. سكن بغداد قديمًا، ثم انتقل إلَى مرو، فنزلها، ونسب إليها، وانتشر حديثه بها، وكان متيقظًا حافظًا ثقة مأمونًا. اهـ ونحوه في "تت"، وفي "ت" المروزي نزيل بغداد، ثم مَرْوَ، ثقة حافظ، توفي سنة 224، وقد قارب 100سنة أو جاوزها، من صغار [9]. اهـ تقدم في 13/ 13.
2 -
(إِسماعيل) بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري الزُّرَقيُّ، أبو إسحاق القارىء المدني، ثقة ثبت، توفي سنة 180، من [8]، أَخرج له الجماعة، تقدم في 16/ 17.
3 -
(العلاء) بن عبد الرحمن بن يعقوب الحُرَقيُّ -بضم ففتح- أبو شبْل -بكسر فسكون- المدني، صدوق ربما وَهِمَ، توفي سنة بضع وثلاثين ومائة، من [5]، أخرج له البخاري في جزء القراءة والأربعة، تقدم في 107/ 143.
4 -
(أنس بن مالك) رضي الله عنه، تقدم في 6/ 6. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه العشرون من رباعيات المصنف، وهو أعلى ما وقع له من الأسانيد، كما تقدم غير مرة.
ومنها: أن رجاله ثقات نبلاء اتفقوا عليهم، إلا شيخه، فلم يخرج
له أبو داود وابن ماجه، والعلاء، فأخرج له البخاري في جزء القراءة فقط.
ومنها: أنهم مدنيون، إلا شيخه، فبغدادي مروزي.
ومنها: أن فيه من صِيَغ الأداء الإخبار، والتحديث، والسماع.
ومنها: أن أنسًا أحد المكثرين السبعة روى 2286 حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
عن العلاء بن عبد الرحمن رحمه الله (أنه دخل) وفي رواية أبي داود دخلنا (على أنس بن مالك في داره بالبصرة) قال الفيومي رحمه الله: البَصْرة وزان تَمْرَة: الحجَارة الرّخْوَةُ، وقد تحذف الهاء مع فتح الباء، وكسرها، وبها سميت اَلبلدة المعروفة، وأنكر الزَّجَّاج فتح الباء، مع الحذف، ويقال في النسبة: بَصري بالوجهين، وهي مُحْدَثَةٌ إسْلَاميِّة، بُنيَت في خلافة عمر رضي الله عنه سنة 17من الهجرة، بعد وقف السواد، ولهذا دخلت في حده، دون حكمه. انتهى "المصباح" جـ 1 ص 50.
(حين انصرف) متعلق بدخل (من) صلاة (الظهر، وداره) أي دار أنس (بجنب المسجد) وفي رواية أبي داود "دخلنا على أنس بن مالك بعد الظهر، فقام يصلي العصر
…
" الحديث.
يعني أنه صلى في أول وقتها، وصلى في بيته، ولم يصلها مع
الإمام، لأن الأمراء كانوا يؤخرون الصلاة عن أول وقتها، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يدركهم أن يصلي الصلاة أول وقتها، ويجعل صلاته معهم نافلة. كما تقدم في حديث أبي ذر رضي الله عنه (فلما دخلنا عليه قال: أصليتم العصر؟ فقلنا: لا، إِنما انصرفنا الساعة) أي في الساعة الحاضرة، فأل للعهد الحضوري (من الظهر، قال) أنس رضي الله عنه (فصلوا العصر، قال) العلاء (فقمنا، فصلينا) أي صلاة العصر (فلما انصرفنا) أي سلمنا من العصر (قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تلك) أي الصلاة المتأخرة عن الوقت (صلاة المنافق) فتلك: إشارة إلى مذكور حكمًا، كما قدرناه، وقال الطيبي: إشارة إلى ما في الذهن من الصلاة المخصوصة، والخبر بيان لما في الذهن.
وفي رواية أبي داود "تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين". بالتكرار ثلاث مرات، مبالغةً في ذم من يؤخر الصلاة إلى هذا الوقت بدون عذر.
ثم إن المنافق إما محمول على حقيقته بأن يكون بيانًا لصلاته، أو يكون تغليظًا، يعني أن من أخر صلاة العصر إلى قبيل الغروب، فقد شبه نفسه بالمنافق، فإن المنافق لا يعتقد حقية الصلاة، بل إنما يصلي لدفع السيف عن نفسه، ولا يبالي بالتأخير، إذ لا يطلب فضيلة، ولا ثوابًا، والواجب على السلم أن يخالف المنافق. انتهى "مرعاة" جـ 2 ص 302.
(جلس) ولمسلم "يجلس" بصيغة المضارع، ولأبي داود "يجلس أحدهم"(يرقب صلاة العصر) أي ينتظر قرب آخر وقتها، وهو غروب الشمس، ولمسلم "يرقب الشمس"، أي ينتظر غروبها، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا، وهو ما يقع جوابًا لسؤال مقدر، كأنه قيل: ما هي صفة تلك الصلاة، التي وصفت بأنها صلاة المنافق، فقال: يجلس ينتظر قرب غروب الشمس
…
إلخ (حتى إِذا كانت) الضمير راجع إلى الشمس بقرينة السياق، كما بينته رواية مسلم (بين قرني الشيطان) ولأبي داود "حتى إذا اصفرت الشمس، فكانت بين قرني شيطان، أو على قرني شيطان".
ومعنى قرني الشيطان: جانبا رأسه، وهو كناية عن قرب الغروب، وذلك لأن الشيطان عند طلوع الشمس، واستوائها، وغروبها ينتصب دون الشمس، بحيث يكون الطلوع والغروب بين قرنيه، فهو محمول على حقيقته. قاله في المرعاة.
وفي "المنهل" جـ 3 ص 335: اختلفوا فيه، فقيل: هو على حقيقته، وظاهر لفظه، والمراد أن يحاذيها بقرنيه عند غروبها، وكذا عند طلوعها، لأن الكفار يسجدون لها حينئذ، فيقارنها، ليكون الساجد لها في صورة الساجد له، ويخيل لنفسه، ولأعوانه أنهم يسجدون له.
وقيل: هو على المجاز، والمراد بقرنيه علوه، وارتفاعه، وسلطانه، وتسلطه، وغلبة أعوانه، وسجود مطيعه من الكفار للشمس.
وقال الخطابي رحمه الله: اختلفوا في تأويله على وجوه؛ فقال قائل: معناه: مقارنة الشيطان للشمس عند دنوها للغروب، على معنى ما رُوِيَ أن الشيطان يقارنها إذا طلعت، فإذا ارتفعت فارقها، فإذا استوت قارنها، فإذا زالت فارقها، فإذا دنت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها، فحرمت الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة لذلك.
وقيل: معنى "قرن الشيطان" قوته، من قولك: أنا مُقْرِن لهذا الأمر، أي مُطِيق له قوي عليه.
وذلك لأن الشيطان إنما يقوى أمره في هذه الأوقات، لأنه يُسَوِّل لعَبَدَة الشمس أن يسجدوا لها في هذه الأزمان الثلاثة، وقيل: قَرْنُهُ: حِزْبُهُ، وأصحابه الذين يعبدون الشمس، يقال: هؤلاء قرن، أي نشء جاءوا بعد قرن مضى.
وقيل: إن هذا تمثيل، وتشبيه، وذلك أن تأخير الصلاة إنما هو من تسويل الشيطان لهم وتزيينه ذلك في قلوبهم، وذوات القرون إنما تعالج الأشياء وتدفعها بقرونها، فكأْنهم لما دفعوا الصلاة، وأخروها عن أوقاتها بتسويل الشيطان لهم حتى اصفرت الشمس، صار ذلك منه بمنزلة ما تعالجه ذوات القرون بقرونها، وتدفعه بأرْوَاقِهَا.
وفيه وجه خامس قاله بعض أهل العلم، وهو أن الشيطان يقابل الشمس حين طلوعها، وينتصب دونها حتى يكون طلوعها بين قرنيه، وهما جانبا رأسه، فينقلب سجود الكفار للشمس عبادة له، وقرنا
الرأس: فَوْدَاهُ، وجانباه. وسُمِّيَ ذو القرنين بذلك لأنه ضُرِبَ على جانبي رأسه، فلقب به. انتهى كلام الخطابي في "المعالم" جـ 1 ص 241، 242.
قال الجامع عفا الله عنه: أرجح هذه الأقوال عندي هذا الوجه الخامس، وقريب منه الوجه الأول، أو هو تفصيل له، وإنما كان هذا أرجح، لأن ظاهر النص لا يُعدَل عنه إلا إذا كان فيه ما يصرفه عن ظاهره، وهنا لا داعي لذلك، لأن الشيطان كونه ينتقل من مكان إلى مكان بحيث يصل إلى محل طلوع الشمس وغروبها غير مستبعد، فلا حاجة لصرف اللفظ عن ظاهره إلى غيره. والله أعلم.
وقوله (قام) جواب "إذا"، أي إلى الصلاة، "وحتى" غاية لمراقبته للشمس، يعني أنه جلس مراقبًا للشمس إلى أن صارت بين قرني الشيطان، فقام يسابق غروبها (فنقرها أربعًا) من نَقَرَ الطائرُ الحب نَقْرًا، من باب قتل: التقطه. أي نقر صلاة العصر نقرًا كنقر الطائر الحب.
قال الجزري رحمه الله: يريد تخفيف السجود، وأنه لا يمكث فيه إلا قدر وضع الغراب مِنْقَارَهُ فيما يريد أكله. انتهى.
وقال السندي رحمه الله: كأنه شبه كل سجدتين من سجداته من حيث إنه لا يمكث فيهما، ولا بينهما، بنقر طائر إذا وضع منقاره يلتقط شيئًا. انتهى. يعني إنما قال: أربعا، أي أربع سجدات مع أن في العصر
ثماني سجدات، لأنه لا يمكث بينهما، فكأنه سجد أربعًا.
وفيه تصريح بذم من صلى مسرعًا بحيث لا يكمل الخشوع، والطمأنينة، والأذكار.
وقيل: معنى "نقر أربعًا" أي لقط أربع ركعات سريعًا، فالنقر عبارة عن السرعة في أداء الصلاة.
وقيل: عن سرعة القراءة، وقلتها، وقلة الذكر فيها. قاله في المرعاة جـ 2 ص 302.
وفي المنهل: وتخصيص الأربع بالنقر، وفي العصر ثماني سجدات اعتبارًا بالركعة، أو أن الحديث جاء حين كانت صلاة العصر ركعتين، ثم زيدت بعده.
قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الأول أقرب. والله أعلم.
وإنما خص العصر بالذكر لأنها الصلاة الوسطى، ولأنها تأتي في وقت تعب الناس من مقاساة أعمالهم، وإلا فتأخير غيرها من المكتوبة إلى آخر وقتها بدون عذر مذموم، وفيه الوعيد الشديد. انتهى.
(لا يذكر الله عز وجل فيها) لعدم اعتقاده، أو لخلوه عن الإخلاص (إِلا قليلًا) أي إلا ذكرًا قليلًا، وقيل: الظاهر أنه منفصل، أي لكنه في زمن قليل يذكر الله فيه بلسانه فقط. والله ولي التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أنس رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف رحمه الله تعالى:
أخرجه هنا (511)، وفي "الكبرى"(1497) بهذا السند.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي؛ فأخرجه مسلم في "الصلاة" عن يحيى بن أيوب، ومحمد بن الصباح، وقتيبة، وعلي بن حجر- أربعتهم عن إسماعيل بن جعفر، عن العلاء، عن أنس رضي الله عنه.
وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي، عن مالك، عن العلاء، عنه.
وأخرجه الترمذي فيه عن علي بن حُجْر، عن إسماعيل به. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما بَوَّبَ عليه المصنف رحمه الله تعالى، وهو بيان الوعيد الشديد لمن أخر العصر عن وقتها المستحب إلى قرب غروبها.
ومنها: التصريح بذم من أخر صلاة العصر، والحكم على صلاته بأنها صلاة المنافق، ولا أقبح من هذا الوصف عند العاقل.
ومنها: التصريح بذم من صلى مسرعًا بحيث لا يكمل الطمأنينة،
والخشوع، والأذكار.
ومنهما: الإشارة إلى أن صلاة المؤمن إنما تكون بالطمأنينة، والخشوع، والأذكار على الصفة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المشار إليها بقوله:"صلوا كما رأيتموني أصلي" رواه البخاري، وهي الصلاة التيِ علق الله سبحانه الفلاحِ بها حيث قال:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1،2].
ومنهما: أنه يتضح بهذا الحديث أن صلاة غالب العوام من أهل هذا الزمان ليست صلاة شرعية، وإنما هي صلاة المنافقين الذين إن صَلَّوا يصلون في آخر الوقت، ثم تراهم ينقرونها كنقر الديك، ويلعبون، وتظن إذا رأيتهم فيها كأنهم خارج الصلاة، لا خشوعَ ولا طمأنينةَ، ويلتفتون يَمْنةً وَيسْرَةً كالتفات الثعلب، نواصيهم بيد الشيطان، فهو
الذي يحركهم، ويتولى توجيههم فيها، وكأنهم من تضايقهم منها في سجن أليم، نعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وعَمىَ بصيرتنا، واستحواذ الشيطان علينا، ونسأله أن يجعلنا من عباده الذين قال فيهم {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، إنه قريب مجيب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
512 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"الَّذِي تَفُوتُهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ، فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ، وَمَالَهُ".
رجال الإسناد: خمسة
1 -
(إِسحاق بن إِبراهيم) الحنظلي ابن راهويه المروزي النيسابوري، ثقة حجة، من [10]، تقدم في 2/ 2.
2 -
(سفيان) بن عيينة أبو محمد المكي، ثقة ثبت حجة، من [8]، تقدم في 1/ 1.
3 -
(الزهري) محمد بن مسلم القرشي المدني، ثقة ثبت حجة، من [4]، تقدم في 1/ 1.
4 -
(سالم) بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العَدَوِيّ المدني، ثقة ثبت عابد فقيه، توفي آخر سنة 106 على الصحيح، من كبار [3]، تقدم في 490.
5 -
(عبد الله بن عمر) بن الخطاب الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 12/ 12. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله.
ومنها: أن رواته كلهم ثقات نُبَلَاء، اتفقوا عليهم.
ومنها: أنهم مدنيون إلا شيخه؛ فمروزي، ثم نيسابوري.
ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي، الزهري، عن سالم.
ومنها: أن فيه رواية الابن عن أبيه.
ومنها: أن سالمًا هو أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، كما قال الحافظ العراقي في ألفية المصطلح:
وَفِي الْكِبَارِ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ
…
خَاِرجَةُ الْقَاسِمُ ثُمَّ عُرْوَةُ
ثُمَّ سُلَيْمَانُ عُبَيْدُ اللهِ
…
سَعِيدُ وَالسَّابِعُ ذُو اشْتِبَاهِ
إِمَّا أبُو سَلَمَة أوْ سَاِلمُ
…
أْو فَابُو بَكْرٍ خِلافٌ قَائمُ
ومنها: أن ابن عمر رضي الله عنهما أحد المكثرين السبعة من الصحابة، كما قال الحافظ السيوطي في ألفية المصطلح:
وَالْمُكثِرُونَ فِي رِوَايَةِ الأثَرْ
…
أبُو هُرَيْرَةَ يَلِيهِ ابْنُ عُمَرْ
وأنسٌ الْبَحْرُ كَالْخُدْرِيِّ
…
وَجَابِرٍ وَزَوْجْةِ النَّبِيِّ
وهو أيضًا أحد العبادلة الأربعة، كما قال الحافظ السيوطي أيضًا:
وَالْبَحْرُ وابْنَا عُمَرٍ وَعَمْرِو
…
وَابْنُ الزَبَيْرِ فِي اشْتِهَارٍ يَجْرِي
دُونَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَهُمْ عَبَادِلَهْ
…
وَغَلَّطُوا مَنْ غَيْرَ هَذَا مَالَ لَهْ
وقد تقدم هذا ك له غير مرة، وإنما أعدته تذكيرًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن ابن عمر) رضي الله عنهما (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أنه (قال: الذي) مبتدأ خبره جملة "فكأنما وتر
…
" إلخ (تفوته صلاة
العصر) فيه جواز قول الشخص فاتتنا الصلاة، خلافًا لمن كرهه، كذا قيل، وفيه نظر لأن الكلام سيق مساق الذم، فكيف يستفاد منه هذا.
واختلف في المراد بفوات العصر في هذا الحديث، فقال ابن وهب وغيره: هو فيمن لم يصلها في وقتها المختار، وقال سحنون، والأصيلي، وابن عبد البر: هو أن تفوته بغروب الشمس، وقيل: هو تفويتها إلى أن تَصْفرَّ الشمسُ، وقد ورد مفسرًا من رواية الأوزاعي في هذا الحديث، قال فيه:"وفواتها أن تدخل الشمس صفرة".
قال العراقي رحمه الله: كذا ذكر القاضي عياض، وتبعه النووي، وظاهر إيراد أبي داود في سننه أن هذا من كلام الأوزاعي، قاله من عند نفسه، لا أنه من الحديث، فإنه روي بإسناد منفرد عن الحديث عن الأوزاعي أنه قال: وذلك أن ترى ما على الأرض من الشمس صفراء.
وفي العلل لابن أبي حاتم: سألت أبي عن حديث رواه الوليد عن الأوزاعي، عن نافع، عن ابن عمر، قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فاتته صلاة العصر؛ وفواتُهَا أن تدخل الشمس صفرة، فكأنما وتر أهله،
وماله"، قال أبي: التفسير من قول نافع. انتهى.
وكلام القاضي أبي بكر بن العربي يقتضي أنه من كلام ابن عمر، فإنه قال. وقد اختلف عن ابن عمر فيه، فروى الوليد، عن الأوزاعي، عن نافع، عن ابن عمر "من فاتته صلاة العصر، وفواتها أن تدخل الشمس صفرة"، وابن جريج يروي عنه:"إن فواتها غروب الشمس". انتهى.
وكيفما كان فليس هذا الكلام مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلا حجة فيه.
وقال ابن عبد البر رحمه الله في هذا القول: إنه ليس بشيء.
وقال ابن بطال رحمه الله: إنما أراد فواتها في الجماعة، لا فواتها باصفرار الشمس، أو مغيبها، لما يفوته من صلاتها في الجماعة من حضور الملائكة فيها، فصار ما يفوته من هذا المشهد العظيم الذي يجتمع فيه ملائكة الليل، وملائكة النهار أعظم من ذهاب أهله وماله، ولو كان المراد فوات وقتها كله باصفرار، أو غيبوبة لبطل الاختصاص،
لأن ذهاب الوقت كله موجود في كل صلاة، بهذا المعنى فسره ابن وهب، وابن نافع، وذكره ابن حبيب عن مالك، وابن سحنون عن أبيه، قال ابن حبيب: وهو مثل حديث يحيى بن سعيد: "إن الرجل ليصلي الصلاة، وما فاتته، ولَمَا فاته من وقتها أكثر من أهله وماله"، يريد أن الرجل ليصلي الصلاة في الوقت المفضول، ولما فاته من وقتها الفاضل الذي مضى عليه اختيار النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وكُتُب عمر إلى عماله- أفضل من أهله وماله، وليس في الإسلام حديث يقوم مقام هذا الحديث، لأن الله تعالى قال:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238]، ولا يوجد حديث فيه تكييف المحافظة غيره. انتهى.
وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن هشيم، عن حجاج، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ترك العصر حتى تغيب الشمس من غير عذر، فكأنما وتر أهله وماله". اهـ "طرح
التثريب" جـ 2 ص 180، 181.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدم تحقيق الخلاف في المسألة، وترجيح قول من قال: إن التفويت إخراجها عن وقتها، في شرح حديث رقم 478، فارجع إليه تزدد علمًا. والله أعلم.
(فكأنما وتر أهله وماله) يروى بنصب "أهله، وماله"، ورفعهما، والنصب هو الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور، كما قال النووي، وقال القاضي عياض: وهو الذي ضبطناه عن جماعة شيوخنا، ووجهه أنه مفعول ثان، أي وتر هو أهله وماله، وقيل: إنه منصوب على نزع الخافض، أي وتر في أهله وماله، فلما حذف الخافض انتصب، قال القاضي عياض والنووي: ومن رفع فعلى ما لم يسم فاعله، قال العراقي: وفيما قالاه نظر، إذ الفعلُ لم يسم فاعله، وهو مبني للمفعول على كل حال، فرواية النصب على أن التارك هو المنقوص، فأقام ضميره مقام الفاعل، فانتصب أهله وماله، لأنه مفعول ثان، ورواية الرفع على أن أهله، وماله هم المنقوصون، فأقامه مقام الفاعل، فرفعه.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: إن رفعت فعلى البدل من الضمير في وتر. اهـ.
فأما على رواية النصب، فاختلفوا في معناه، فقال الخطابي وغيره: معناه نَقَصَ هو أهْلَهُ وماله، وسَلَبَهُم، فبقي وِترًا فَرْدا بلا أهل ولا مال،
فليحذر من تفويتها، كَحذَرِهِ من ذهاب أهله وماله. جزم به الخطابي في المعالم، وقال في أعلام الجامع الصحيح: وتر: أي نقص، ومنه قوله تعالى:{وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35]، وقيل: سلب أهله وماله، فبقي وترًا، لا أهل له ولا مال. اهـ.
فجعلهما قولين متغايرين، تفسيره بنقص، وتفسيره بسلب.
قال العراقي: وهذا يخالف ما حكيته عنه أولًا، وكذا غاير بينهما غيره، قال ابن بطال: قال صاحب العين: الوِتْرُ، والتّرَةُ: الظلم في الدم، يقال منه: وتر الرجل وترًا، وتِرَةً، فمعنى وُتِرَ أهله وماله: سلب ذلك، وحرمه، فهو أشد لغمه وحزنه، لأنه لو مات أهله، وذهب ماله من غير سلب، لم تكن مصيبته في ذلك عنده بمنزلة السلب، لأنه يجتمع عليه في ذلك غَمَّان، غم ذهابهم، وغم الطلب بوترهم، وإنما مثله صلى الله عليه وسلم فيما يفوته من عظيَم الثواب، ثم قال: وقد يحتمل أن يكون عنى بقوله: "فكأنما وتر أهله وماله" أي نقص ذلك، وأفرد منه، من قوله تعالى:{وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} ، أي لن ينقصكم، والقول الأول أشبه بمعنى الحديث. اهـ.
وقال ابن عبد البر رحمه الله: معناه عند أهل اللغة، والفقه: أنه يصاب بأهله وماله إصابةً يطلب بها وترا، والوتر الجناية التي يطلب ثأرها، فيجتمع عليه غَمَّان، غَمُّ المصيبة، وغم مُقَاساةِ طلب الثأر. وقال الداودي من المالكية: معناه يتوجه عليه من الاسترجاع ما يتوجه
على مَن فَقَدَ أهله وماله، فيتوجه عليه الندم، والأسف بتفويت الصلاة، وقيل: معناه: فاته من الثواب ما يلحقه من الأسف عليه كما يلحق من ذهب أهله وماله.
وقال الباجي: يحتمل أن يريد وتر دون ثواب يدخر له، فيكون ما فات من ثواب الصلاة، كما فات هذا الموتور. اهـ.
وأما رواية الرفع، فمعناه: انتزع منه أهله وماله. وهذا تفسير مالك ابن أنس رحمه الله.
قال الحافظ العراقي رحمه الله: يحتمل أن يقال: إنما خص الأهل والمال بالذكر، لأن الاشتغال في وقت العصر إنما هو بالسعي علي الأهل، والشغل بالمال، فذَكَرَ عليه الصلاة والسلام أن تفويت هذه الصلاة نازل منزلة فقد الأهل والمال، فلا معنى لتفويتها بالاشتغال بهما، مع كون تفويتها كفواتهما أصلًا ورأسًا. والله أعلم.
فائدة نفيسة: الفاء في قوله "فكأنما وتر
…
" إلخ، إنما دخلت في خبر المبتدإ لما فيه من معنى العموم، فأشبه الشرط الذي يربط جوابه بها.
وقد ذكر العلامة النحوي محمد الخضري في حاشيته على شرح ابن عقيل لألفية ابن مالك، فائدة مهمة ينبغي أن تُذْكرَ هنا لنفاستها، قال رحمه الله:
فائدة: لا يقترن الخبر بالفاء إلا إذا كان المبتدأ يشبه الشرط في
العموم، والاستقبال، وتَرَتُّبِ ما بعده عليه، وذلك لكونه مُوصَلًا بفعل صالح للشرطية بأن يخلو من عَلَمِ الاستقبال، كالسين، وأداة الشرط، ومن "قد"، و"ما" النافية، أو بظرف، أو مجرور، كالذي يَأتيني، أو هو هنا، أو في الدار، فله درهم، أو نكرة موصوفة بذلك، كرجل يأتيني، أو هنا، أو في الدار، فله درهم، أو مضافًا إلى الموصول والموصوف المذكورين بشرط كونه لفظ "كل" في الثاني، كما قاله السيد البُلَيْدِيّ، كغلام الذي يأتيني، أو كلُّ رجل يأتيني إلخ، أو موصوفًا بالموصول المذكور، كالرجلُ الذي يأتيني إلخ، وكذا المضاف لِذَلِكَ، فيما يظهر، كغلامُ الرجل الذي يأتيني إلخ، فتلك ثماني عشرة صورة يكثر اقتران خبرها بالفاء، لتنص على مراد المتكلم من تَرَتُّب الدرهم على الإتيان مثلًا، فلو عُدمَ العمومُ، كالسعي الذي تسعاه في الخير ستلقاهُ، أو الاستقبالُ، كالذي زارني أمس له كذا، أو اقترن الفعل بشيء مما مَرَّ، كالذي سيأتيني، أو إن يأتيني أكْرِمْه، أوقد أتاني، أو ما أتاني له
كذا، امتنعت الفاء، لفوات الشبه بالشرط، وكذا لو كانت الصفة، أو الصلة غير ما ذُكرَ، كالذي أبوه محسن مُكْرَم، والقائم: زيد، ولا يجوز، فمكرمٌ، ولا فزيدٌ، خلافًا لابن مالك في الثاني، وأما آية السرقة، والزنا، فخبرهما محذوف، أي مما يُتْلىَ عليكم حكمُ السارق، والزاني إلخ، وقوله {فَاقْطَعُوا} ، و {فَاجْلِدُوا} بيان للحكم.
وتدخل الفاءُ بِقِلَّة في خبر "كل" إذا أضيف لغير ما مر، بأن أضِيفَ
لغير موصوف أصلًا، كَكُلُّ نعمةٍ فمن الله، أو لموصوف بغير ما ذُكِرَ، كقوله (من الخفيف):
كُلُّ أمْرٍ مُبَاعِد أوْ مُدَانِ
…
فَمَنُوطٌ بِحِكْمَةِ الْمُتَعَالِي
ومنه حديثُ "كلُّ أمر ذي بَالٍ
…
" إلخ
(1)
بناء على أن العبرة الصفةُ الأولى، فإن اعتُبِرَت الثانيةُ، وهي "لا يُبدأ" كان من الكثير، لصلوحه للشرط، كما في "حاشية الصبان"، والظاهر أن مثل ذلك إضافتها لموصول بغير ما مر، ككلُّ الذي أبو قائم، فله درهم.
فجملة ما تدخل الفاء في خبره إحدى وعشرون صورةً، ما لم يدخلها ناسخ، فيُمنَعُ الفاءُ، بإجماع المحققين، إلا "إنَّ"، و"أنَّ" و"لَكِنَّ" على الصحيح، كآية {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [فصلت: 30] الآية، {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} [الأنفال: 41] الآية، وذلك كثير. والله أعلم. اهـ حاشية الخضري جـ 1 ص 103.
قال الجامع عفا الله عنه: إنما أطلت الكلام في هذه المسألة لكثرة دورانها في الأحاديث، فينبغي معرفتها تَمَامَ المعرفة، وقد قدمت في مقدمة هذا الشرح بأن المقصود الأساسي في وضع الشرح هو إيضاح الكتاب المشروح بما يتطلبه من المعاني اللغوية، والنحوية، والفقهية، والفوائد الإسنادية، والمتنية، والمصطلحات الحديثية، وغير ذلك من
(1)
هذا الحديث تقدم الكلام عليه في البسملة من هذا الشرح، وأنه ضعيف.
أنواع العلوم التي يحتاج إليها طالب العلم.
وقد قال الإمام المحقق المحدث، الفقيه، الأصوليّ، مُحَرِّر المذهب الشافعي بلا مدافع أبو زكريا يحيى بن شرف النووي رحمه الله تعالى في أوائل شرحه لصحيح الإمام مسلم رحمه الله تعالى ما نصه: ولا ينبغي للناظر في هذا الشرح أن يسأم من شيء من ذلك -يعني تنبيهه على دقائق الإسناد- يجده مبسوطًا واضحًا، فإني إنما أقصد بذلك إن شاء الله الكريم الإيضاح والتيسير، والنصحية لمطالعه، وإعانته، وإغنائه من مراجعة غيره في بيانه، وهذا مقصود الشروح، فمن استطال شيئًا من هذا، وشبهه، فهو بعيد من الإتقان مباعد للفلاح في هذا الشان، فَلْيُعَزِّ نفسه لسوء حاله، وليرجع عما ارتكبه من قبيح فعاله، ولا ينبغي لطالب التحقيق، والتنقيح، والإتقان، والتدقيق، أن
يلتفت إلى كراهةِ، أو سآمةِ ذوي البَطالة، وأصحاب الغَبَاوَة، والمهَانَة، والمَلَالَة، بل يفرح بما يجده من العلم مبسوطًا، وما يصادفه من القواعد والمشكلات واضحًا مضبوطًا، ويحمد الله الكريم على تيسيره، ويدعو لجامعه الساعي في تنقيحه، وإيضاحه، وتقريره، وفقنا الله الكريم لمعالي الأمور، وجنبنا بفضله جميع أنواع الشرور، وجمع بيننا وبين أحبابنا في دار الحبور والسرور. والله أعلم.
اهـ كلام النووي في "شرح مسلم" جـ 1 ص 152، 153.
فينبغي لك أيها الأخ العزيز المطالع لشرحي هذا أن تجعل هذه
النصيحة نُصْبَ عينيك، فكلما مر عليك تكرار، أو إطالة فتذكرها تنفعك، فإن الكتاب هذا قد شرحه الحافظ السيوطي، والعلامة السندي رحمهما الله تعالى قبلي، بزمان، ولكن أين الفوائد المذكورة من هذين الشرحين؟ والله المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف:
أخرجه هنا (512)، وفي "الكبرى" في "الصلاة"(1498) بهذا السند.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه.
أخرجه مسلم وابن ماجه؛ فأخرجه صسلم في "الصلاة" عن أبي بكر ابن أبي شيبة، وعمرو الناقد.
كلاهما عن ابن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه رضي الله عنه.
وأخرجه ابن ماجه في "الصلاة" أيضًا عن هشام بن عمار، عن سفيان ابن عيينة به.
وأخرجه أحمد، ومالك في "الموطأ".
وأما فوائد الحديث فقد تقدمت في شرح الحديث رقم (478)،
(479)
، (480)، فارجع إليها تزدد علمًا.
قال الجامع: مناسبة حديث ابن عمر رضي الله عنهما للباب واضحة، إذ التأخير صادق على تأخيرها إلى أن يخرج وقتها، وعلى تأخيرها إلى آخر وقتها الذي لا يسع لأدائها على الوجه الأكمل، فحديث أنس رضي الله عنه مبين لما يترتب على من أخرها إلى آخر وقتها، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما مبين لما يترتب على من أخرها حتى خرج وقتها. والله أعلم.
تنبيه:
وجد في هامش النسخة الهندية، زيادة حديث بعد الحديث المذكور، وقد ذكره الحافظ المزي مستدركًا على ابن عساكر، وقال: حديث النسائي في رواية أبي الطيب
(1)
محمد بن الفضل بن العباس عنه ولم يذكره أبو القاسم. اهـ وحيث لم يكن من رواية ابن السني لم أضع له رقمًا، كما فعل الشيخ أبو غدة في ترقيمه لـ "لمجتبى".
قال رحمه الله تعالى.
أَخْبَرَنَي قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"الَّذِي تَفُوتُهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ، فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ".
(1)
أبو الطيب هذا لم أجد ترجمته.
رجال الإسناد: أربعه
1 -
(قتيبة) بن سعيد البغلاني، ثقة ثبت، من [10]، تقدم في 1/ 1.
2 -
(مالك) بن أنس الإمام، ثقة حجة فقيه، من [7]، تقدم في 7/ 7.
3 -
(نافع) مولى ابن عمر الفقيه المدني، ثقة ثبت، من [3]، تقدم 12/ 12.
4 -
(ابن عمر) عبد الله العدوي الصحابي رضي الله عنهما تقدم في 12/ 12. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: اْنه من رباعياته، وهو (21) من رباعيات الكتاب.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات نُبَلاء، اتفقوا عليهم.
ومنها: أنهم مدنيون، إلا شيخه، فبَغْلاني.
ومنها: أن هذا السند أصح الأسانيد مطلقًا عند الإمام البخاري رحمه الله تعالى.
ومنها: أن فيه ابن عمر أحد المكثرين السبعة، وأحد العبادلة الأربعة.
تنبيه:
هذا الحديث متفق عليه، أخرجه المصنف هنا، كما أشار إليه في النسخة الهندية، وفي "الكبرى" في "الصلاة"(364)، وأخرجه البخاري في "الصلاة" عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه مسلم فيه عن يحيى بن يحيى، عن مالك به. وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي، عن مالك به.
وشرحه مضى في الذي قبله، فلا حاجة إلى إعادته، فارجع إليه إن شئت تزدد علمًا. والله سبحانه وتعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
10 - آخِرُ وقْتِ الْعَصْرِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على آخر وقت صلاة العصر.
والظاهر أنه أراد آخر الوقت المستحب، بدليل أن في الحديث صلى العصر في اليوم الثاني حين كان الظل مثليه، وأما وقت الاضطرار فيمتد إلى غروب الشمس، ولذا أتبعه بحديث "من أدرك ركعة من صلاة العصر
…
" الحديث. إشارة إلى أن هذا الباب موضوع لبيان آخر الوقت المستحب، والباب التالي لبيان آخر وقت الاضطرار، والله أعلم.
513 -
أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا قُدَامَةُ -يَعْنِي ابْنَ شِهَابٍ- عَنْ بُرْدٍ، عَنْ عَطَاءِ، بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ: أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُهُ مَوَاقِيتَ الصَّلَاةِ، فَتَقَدَّمَ جِبْرِيلُ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَلْفَهُ، وَالنَّاسُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى الظُّهْرَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، وَأَتَاهُ حِينَ كَانَ الظِّلُّ مِثْلَ شَخْصِهِ، فَصَنَعَ كَمَا صَنَعَ، فَتَقَدَّمَ جِبْرِيلُ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَلْفَهُ، وَالنَّاسُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ أَتَاهُ حِينَ وَجَبَتِ
الشَّمْسُ، فَتَقَدَّمَ جِبْرِيلُ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَلْفَهُ، وَالنَّاسُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَتَاهُ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، فَتَقَدَّمَ جِبْرِيلُ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، خَلْفَهُ، وَالنَّاسُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى الْعِشَاءَ، ثُمَّ أَتَاهُ حِينَ انْشَقَّ الْفَجْرُ، فَتَقَدَّمَ جِبْرِيلُ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَلْفَهُ، وَالنَّاسُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى الْغَدَاةَ، ثُمَّ أَتَاهُ الْيَوْمَ الثَّانِيَ حِينَ كَانَ ظِلُّ الرَّجُلِ مِثْلَ شَخْصِهِ، فَصَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعَ بِالأَمْسِ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَتَاهُ حِينَ كَانَ ظِلُّ الرَّجُلِ مِثْلَ شَخْصَيْهِ، فَصَنَعَ كَمَا صَنَعَ بِالأَمْسِ، فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ أَتَاهُ حِينَ وَجَبَتِ الشَّمْسُ، فَصَنَعَ كَمَا صَنَعَ بِالأَمْسِ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، فَنِمْنَا، ثُمَّ قُمْنَا، ثُمَّ نِمْنَا، فَأَتَاهُ، فَصَنَعَ كَمَا صَنَعَ بِالأَمْسِ، فَصَلَّى الْعِشَاءَ، ثُمَّ أَتَاهُ حِينَ امْتَدَّ الْفَجْرُ، وَأَصْبَحَ، وَالنُّجُومُ بَادِيَةٌ مُشْتَبِكَةٌ فَصَنَعَ كَمَا صَنَعَ بِالأَمْسِ، فَصَلَّى الْغَدَاةَ، ثُمَّ قَالَ: مَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ وَقْتٌ.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(يوسف بن واضح) الهاشمي، أبو يعقوب البصري المكتب، ثقة، من [10].
رَوىَ عن معتمر بن سليمان، وقُدَامَةَ بن شِهَاب، وعمر بن على بن مُقَدَّم، وغيرهم. وعنه النسائي، وروى أيضًا عن زكرياء السِّجْزِيّ عنه، وأبو حاتم، وابن ياسين، وغيرهم.
قال أبو حاتم: محله الصدق، وقال النسائي: ثقة، وقال مَسْلَمَةُ: لا بأس به. وقال ابن حبان في الثقات. مات سنة 250، وقال البخاري: مات سنة 251. اهـ "تت". انفرد به المصنف.
2 -
(قُدَامة بن شِهَاب) -بضم القاف، وتخفيف الدال المهملة- المازني البصري، صدوق، من [8].
قال أبو زرعة: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: محله عندي محل الصدق، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما خالف اهـ. انفرد به المصنف، له عنده حديث جابر رضي الله عنه هذا فقط. كما في "تت".
3 -
(بُرْد) بن سِنَان، أبو العَلاء الدمشقي، نزيل البصرة، مولى قريش، صدوق، رمي بالقدر، من [5].
ذكره النسائي في الطبقة السادسة من أصحاب نافع، وقال عبد الله ابن أحمد، عن أبيه: صالح الحديث. وقال ابن معين: ثقة. وقال
دُحَيم، والنسائي، وابن خراش: ثقة. وقال الدُّوري عن ابن معين: ليس بحديثه بأس، وكان شاميًا. وقال ابن الجنيد عنه: نحو ذلك، وقال أيضًا: هَرَبَ من الشام من أجل قتل الوليد بن يزيد، فلأجل ذلك سمع منه أهل البصرة. وقال يزيد بن زريع: ما رأيت شاميًا أوثق من برد. وقال يعقوب بن سفيان: سألت عبد الرحمن بن إبراهيم: أيُّ أصحاب مكحول أعلى؟ فقال وذكر جماعة، ثم قال. ولكن برد بن سنان من كبارهم. وقال النسائي مرة: ليس به بأس. وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال أيضًا: كان صدوقًا في الحديث. وقال أبو حاتم: كان صدوقا قَدَرِيًا. وقال الدارمي عن علي بن المديني: برد بن سنان ضعيف. وقال أبو داود: كان يَرَى القدر. وقال أبو حاتم أيضا: ليس بالمتين، وقال مرة: كان صدوقا في الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال عمرو بن علي: مات سنة 135، أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، والأربعة.
4 -
(عطاء بن أبي رباح) أسلم المكي، ثقة فقيه فاضل، لكنه كثير الإرسال، من [3]، تقدم في 112/ 154.
5 -
(جابر بن عبد الله) الأنصاري الصحابي الجليل رضي الله عنه 31/ 35. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله موثقون، وأنهم ما بين بَصْرِيَّين؛ وهما يوسف وقدامة، ودمشقي، وهو بُرد، ومكي، وهو عطاء، ومدني، وهو جابر.
ومنها: أن شيخه وشيخ شيخه من أفراده، وهذا الباب أول محل ذكرهما، وأن قدامة ليس له عنده إلا هذا الحديث الواحد.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي؛ برد عن عطاء.
ومنها: أن جَابِرًا أحد المكثرين السبعة؛ روى 1540 حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام الأنصاري السَّلَمِيّ رضي الله عنه (أن جبريل) عليه السلام، تقدم الكلام على لغاته في شرح حديث (494)(أتى النبي صلى الله عليه وسلم، يعلمه مواقيت الصلاة) جملة حالية في محل نصب من فاعل أتى (فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه) جملة في محل نصب على الحال من "جبريل". ظاهر هذا الحديث يدل على أن الصحابة ما كانوا يرون جبريل عليه السلام في ذلك الوقت، ولذا تقدم النبي صلى الله عليه وسلم أمامهم ليقتدوا بفعله حيث لا يعلمون بانتقالات جبريل، وكيفية صلاته، ويحتمل أن يروه، وإنما تقدم صلى الله عليه وسلم لتبليغ التكبير، ويحتمل أن يكون بيانًا لجواز اقتداء المصلي بمن يقتدي بغيره، كما سيأتي في محله، إن شاء الله تعالى. والاحتمال
الأول هو الأظهر. والله أعلم.
(والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم) جملة في محل نصب على الحال من رسول الله، والرابط فيها الواو، كما أن الأولى رُبطت بها، وبالضمير أيضًا، كما قال في الخلاصة:
وَجُمْلةُ الْحَالِ سوَى مَا قُدِّمَا
…
بِواوٍ اوْ بِمُضْمَرٍ أوْ بِهمَا
قال العلامة السندي رحمه الله: وكانت إمامة جبريل بأمر الله تعالى، فاقتداء النبي صلى الله عليه وسلم به، والناس اقتداء مفترض بمفترض، فلا يستقيم استدلالُ مَنِ استدل بالحديث على جواز اقتداء الفترض بالمتنفل اهـ.
قال الجامع عفا الله عنه: لكن المسألة وإن كان هذا الحديث ليس نصًا فيها فلها أدلة أخرى، كحديث إمامة معاذ رضي الله عنه لقومه بعد صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي تمام البحث في ذلك في بابه إن شاء
الله تعالى.
(فصلى الظهر حين زالت الشمس) عن وسط السماء، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما في إمامة جبريل "فصلى الظهر في المرة الأولى، حين كان الفيء مثل الشِّراك"، والشراك بكسر الشين: أحد سُيُور النعل التي تكون على وجهها، وليس الشراك هنا للتحديد، والاشتراط، بل لأن الزوال لا يبين بأقل منه.
والمراد بالزوال ما يظهر لنا، لا الزوال في نفس الأمر، فإن ذلك يتقدم على ما يظهر، ولكن لا اعتبار بذلك، وإنما يتعلق التكليف، ويدخل الوقت بالزوال الذي يظهر لنا، فلو شَرَعَ في تكبيرة الإحرام
بالظهر قبل ظهور الزوال، ثم ظهر عقيبها، أو في أثنائها لم تصح الظهر، وإن كانت التكبيرة حاصلة بعد الزوال في نفس الأمر، لكن قبل ظهوره لنا، ذكره إمام الحرمين. وغيره، قالوا. وأما قبل ظهور الظل فهو معدود من وقت الاستواء، قال: وكذا الصبح، ولو اجتهد فيها، وطلع الفجر بحيث عَلِمَ وقوعها لعد طلوعه، لكن في وقت لا يتصور
أن يَبِينَ الفجرُ للناظر لم تصح الصبح. والله أعلم. قاله في"المجموع" جـ 3 ص 20، 21.
(وأتاه حين كان الظل مثل شخصه) -بفتح فسكون- هو سواد الإنسان، تراه من بُعْد، ثم استُعِملَ في ذاته، قال الخطابي رحمه الله: ولا يُسَمَّى شخْصًا، إلا جسم مؤلف، له شخوص وارتفاع. قاله في المصباح. والمعنى: حين كان ظل الشيء مثل ذاته.
(فصنع) جبريل (كما صنع) في الظهر، ثم بَيَّنَ صنعه بقوله (فتقدم جبريل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى) صلاة (العصر، ثم أتاه حين وجبت الشمس) أي غربت (فتقدم جبريل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى المغرب، ثم أتاه حين غاب الشفق) والمراد به الأحمر، كما تقدم (فتقدم جبريل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى العشاء، ثم أتاه حين انشق الفجر) أي طلع (فتقدم جبريل،
ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى الغَدَاة) أي صلاة الصبح (ثم أتاه اليوم الثاني، حين كان ظل الرجل مثل شخصه) أي مثل طوله، وارتفاعه (فصلى الظهر) لليوم الثاني.
والمراد أنه أتاه في وقت قريب من كون ظل الرجل مثله، بحيث يكون فراغه من صلاة الظهر وقت كون ظل الرجل مثله، لا أنه أتاه عند نهاية الظل، ثم صلى الظهر بعده، يخلاف ما تقدم في العصر في اليوم الأول، فإن المراد أنه أتاه عند نهاية الظل، فصلى العصر بعده، فلا مُتَمَسَّكَ لمن قال باشتراك وقت الظهر والعصر بظاهر هذا الحديث، كما تقدم تحقيق المسألة في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه في إمامة جبريل عليه السلام برقم (502) فتنبه والله أعلم.
(ثم أتاه حين كان ظل الرجل مثل شخصيه فصنع كما صنع بالأمس، فصلى العصر) لليوم الثاني (ثم أتاه حين وجبت) أي غربت (الشمس، فصنع كما صنع بالأمس، فصلى المغرب) فيه أنه صلى المغرب في اليومين لوقت واحد، وهو غروب الشمس، وتمسك يه من قال. إنه ليس للمغرب إلا وقت واحد، وبه قال مالك والأوزاعي، والشافعي في الجديد، قالوا: لها وقت واحد، مُقَدَّر بمقدار فعلها مع تحصيل شروطها، وقال الثوري، وأصحاب الرأي، وأحمد، وإسحاق: آخرُ وقت المغرب مَغيب الشفق، وهذا أصح المذهبين، وسيأتي تحقيق المسألة بدلائلها في "باب آخر وقت المغرب"(15/ 522)
إن شاء الله تعالى.
(فنمنا) بكسر النون، لأن أصله نَوِمْنَا، كَفَرِحْناَ، فَنُقلَتْ كسرةِ عين الكلمة إلى الفاء، ثم حذفت العين لالتقاء الساكنين، فَصار نِمْناَ، قال ابن مالك رحمه الله في "لامِيَّةِ الأفعال":(من البسيط).
وانْقُلْ لِفَاءِ الثُّلَاثِي شَكْلَ عَيْنٍ إِذَا اعْـ
…
ـتَلَّتْ وَكانَ بِتَا الإِضْمَارِ مُتَّصِلَا
أَوْ نُونِهِ وَإِذَا فَتْحًا يَكون فَمِنْ
…
ـهُ اعْتَضْ مُجَانِسَ تِلْكَ الْعَيْنِ مُنْتَقِلَا
وإنما نبهت عليه -وإن كان واضحًا- لفُشُوِّ اللحن في الكلمة حتى من طلبة العلم فضلًا عن العوام، فيقولون: نُمْنَا بضم النون.
قال السندي رحمه الله تعالى: ظاهره أن جابرًا قد حضر هذه الصلاة، لكن المشهور أن هذه الصلاة كانت بمكة قبل الهجرة، فإمّا أن يُقَال: إن هذا الكلام كَلامُ مَن سَمِعَ جَابِرٌ الحديثَ عنه، ثم ذَكَرَهُ جابر على وجه الحكاية، أو نقول بتعدد الواقعة، كما ذكرتُ في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وعلى الثاني فقول جابر:"يُعَلِّمُهُ مواقيت الصلاة" يُحْمَلُ على زيادة الإتقان والحفظ، والله أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الثاني هو الأظهر، لأن قوله:"نِمْنَا" ظاهر في أنه حضر الواقعة. والله أعلم.
(فنمنا، ثم قمنا، ثم نمنا، ثم قمنا) الظاهر أنه أراد الحاضرين في المسجد لا نتظار صلاة العشاء، يعني أنهم لطول انتظارهم لها ناموا
في المسجد، ثم استيقظوا، ثم ناموا، ثم استيقظوا، وهذا يدل على تأخره في اليوم الثاني، وثبت تقديره في رواية جابر رضي الله عنه الآتية من رواية وهب بن كيسان (17/ 536) حيث قال:"ثم جاءه للعشاء حين ذهب ثلث الليل"(فصنع كما صنع بمالة مس، فيصلى العشاء، ثم أتاه حين امتد الفجر) أي طال (وأصبح) أي دخل في الصباح، وهو مؤكد لمعنى "امتد الفجر"(والنجوم بادية) جملة حالية في محل نصب من فاعل أتى، أي والحال أن النجوم ظاهرة (مشتبكة) أي كثيرة منضمة، والمراد أن الفجر في أوائل إسفاره. وهذا موافق لحديث أبي هريرة السابق (502)"ثم جاءه الغد، فصلى به الصبح حين أسفر قليلًا".
قال السندي: ولعله ما انتظر الإسفار التام لتطويل القراءة، فصلى بحيث وقع الفراغ عند الإسفار، فضبط آخر الوقت بالفراغ من الثانية، كما ضبط أوله بالشروع في الأولى. والله أعلم. اهـ.
فإن قلت: هذا يعارض ما يأتي في رواية جابر الآتية (526) من قوله: "ثم جاءه للصبح حين أسفر جدًّا".
أجيب: بأن وصف الإسفار بالمبالغة هناك بالنسبة لليوم الأول، فإن جبريل جاءه في اليوم الأول حين طلع الفجر، وجاءه في اليوم الثاني متأخرًا حين انتشر الضوء، ولكنه لم يبلغ انتشاره إلى أن يطمس ظهور النجوم.
والحاصل أن صلاته في اليوم الثاني وقع في الإسفار، الذي معه اشتباك النجوم، وهو أوائل الإسفار، ولكنه بالنسبة لليوم الأول متأخر حيث إن الضوء انتشر، ولذا وصفه بمبالغة الإسفار. حيث قال:"حين أسفر جدًا". والله أعلم.
(فصنع، كما صنع بالأمس، فصلى الغداة، ثم قال: ما) اسم موصول بمعنى الذي مبتدأ، وقوله (بين هاتين) منصوب على الظرفية، متعلق بفعل محذوف صلةٍ لـ "ما"، أي الوقت الذي استقر بين هاتين، و"هاتين" اسم إشارة لمثنى المؤنث المجرور، وقوله (الصلاتين) نعت لاسم الإشارة، أو بدل، أو عطف بيان، كما قال بعضهم:
مُعَرَّفٌ بَعْدَ إشَارَةٍ بِألْ
…
يُعْرَبُ نَعْتًا أوْ بَيَانًا أوْ بَدَلْ
والمراد جنس الصلاة، أي الصلوات الواقعة في اليومين، وقوله (وقت) خبر المبتدإ يعنى أن الوقت الذي ثبت بين هاتين الصلاتين: وقت لأداء ما فرض الله تعالى من الصلوات الخمس.
فإن قيل: هذا يقتضي أن لا يكون الأول والآخر وقتًا لها.
قيل: لما صَلَّى في أول الوقت وآخره وجد البيان بالفعل، وبقي الاحتياج إلى بيان ما بين الأول والآخر، فَبَيَّنَ بالقول، فجمع بين التعليم الفعلي والقولي، وقد تقدم مزيد بسط في هذا في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه (502) والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث جابر رضي الله عنه هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف.
أخرجه هنا (513) وفي "الكبرى"(1507) عن يوسف بن واضح، عن قُدامة بن شهاب، عن بُرْد، عن عطاء، عنه، وفي (526) المجتبى، و (1508)"الكبرى" عن سُوَيد بن نَصْر، عن ابن المبارك، عن حسين ابن علي بن حسين، عن وَهْب بن كَيْسَان، عنه. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أما طريق عطاء فمن أفراده، وأما طريق وهب فأخرجه الترمذي في "الصلاة" بعد حديث ابن عباس عن أحمد بن محمد بن موسى، عن ابن المبارك به، وقال: فذكر نحو حديث ابن عباس بمعناه، ولم يذكر فيه "لوقت العصر بالأمس"، قال أبو عيسى: حديث حسن صحيح. وقال محمد -يعني البخاري-: أصح شيء في المواقيت حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال. وحديث جابر في المواقيت قد رواه عطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، وأبو الزبير عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث وهب بن كيسان، عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ كلام
الترمذي جـ 1 ص 101، وقد تقدم ذكر فوائد الحديث في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه (502) فارجع إليه تزدد علمًا، والله أعلم.
المسألة الرابعة: في اختلاف العلماء في آخر وقت العصر: قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى: واختلفوا في آخر وقت العصر، فقال مالك: آخر وقت العصر أن يكون ظل كل شيء مثليه، بَعْدَ المثلِ الذي زالت عليه الشمس، وهذا محمول عندنا من قوله على وقت الاختيار، وما دامت الشمس بيضاء نقية، فهو وقت مختار
لصلاة العصر عنده، وعند سائر العلماء.
وقد أجمع العلماء على أن من صلى العصر، والشمسُ بيضاء نقية لم تدخلها صفرة فقد صلاها في وقتها المختار، وفي ذلك دليل على أن مراعاة المثلين عندهم استحباب.
وقال الثوري رحمه الله: إن صلاها، ولم تتغير الشمس، فقد أجزأه، وأحب إلي أن يصليها إذا كان ظله مثله إلى أن يكون مثليه.
وقال الشافعي رحمه الله: أول وقتها في الصيف إذا جاوز ظل كل شيء مثله بشيء ما كان، وَمنْ أخر العصر حتى يجاوز ظل كل شيء مثليه في الصيف، أو قدر ذلك في الشتاء فقد فاته وقت الاختيار، ولا يجوز أن يقال: فاته وقت العصر مطلقًا، كما جاز ذلك على الذي أخر الظهر إلى أن جاوز ظل كل شيء مثله، قال: وإنما قلت ذلك، لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن
تغرب الشمس، فقد أدركها ".
قال أبو عمر: إنما جعل الشافعي وقت الاختيار، لحديث إمامة جبريل، وحديث العلاء، عن أنس "تلك صلاةُ المنافقين"
(1)
ونحوها من الآثار، ولم يقطع بخروج وقتها، لحديث أبي هريرة الذي ذكره. ومذهب مالك نحو هذا.
وقد كان يلزم الشافعي أن لا يشرك بين الظهر والعصر في الوقت لأصحاب الضرورات، لخروج وقت الظهر عنده بكمال المثل، ولكن وقت العصر عنده وقت رفاهية ومقام لا يتعدى ما جاء فيه، وأما أصحاب الضرورات فأوقاتهم كأوقات المسافر، لعذر السفر، وضرورته، والسفر عنده تشترك فيه صلاتا النهار، وصلاتا الليل.
وأما مالك فقد رَوَى عنه ابنُ وهب وغيره أن الظهر والعصر آخر وقتهما غروب الشمس، وهو قول ابن عباس، وعكرمة مطلقًا، ورواية ابن وهب عن مالك لذلك محمولة عند أصحابه لأهل الضرورات، كالمغمى عليه، ومن أشبهه. وروى ابن القاسم عن مالك: آخر وقت العصر اصفرار الشمس.
وقال أبو يوسف، ومحمد: وقت العصر إذا كان ظل كل شيء قامته، فيزيد على القامة إلى أن تتغير الشمس.
(1)
تقدم للمصنف (511).
وقال أبو ثور: أول وقتها إذا كان ظل كل شيء مثله بعد الزوال، وزاد على الظل زيادة تبين إلى أن تصفر الشمس، وهو قول أحمد بن حنبل، قال: آخر وقت العصر ما لم تصفر الشمس
(1)
. وحجة من قال بهذا القول: حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"وقت العصر ما لم تصفر الشمس"
(2)
رواه قتادة، عن أبي أيوب الأزدي، عنه.
وقال إسحاق بن راهويه: آخر وقت العصر أن يدرك المصلي منها ركعة قبل الغروب، وهو قول داود لكل الناس، معذور، وغير معذور، صاحب ضرورة، وصاحب رفاهية، إلا أن الأفضل عنده، وعند إسحاق أيضًا أول الوقت.
وقال الأوزاعي: إن ركع ركعة قبل غروبها، وركعة بعد غروبها فقد أدركها.
وحجتهم حديث أبي هريرة رضي الله عنه "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر
…
" الحديث
(3)
. اهـ خلاصة ما قاله ابن عبد البر رحمه الله في كتابه "التمهيد" جـ 8، ص 76 - 79.
(1)
هذا أصح القولين عنه، وعنه حين يصير ظل كل شيء مثليه، قاله في المغني جـ 2 ص 15.
(2)
يأتي للمصنف (522).
(3)
يأتي للمصنف في الباب التالي.
قال الجامع عفا الله عنه: الراجح عندي قول من قال: إن آخر وقت العصر غروب الشمس، فمن أدرك ركعة من العصر فقد أدرك العصر، وإنما كان هذا أرجح، لأن به تجتمع الأدلة، فيحمل حديث جبريل "الوقت ما بين الوقتين"، وحديث "ووقت العصر ما لم تصفر الشمس" على بيان وقت الاختيار، لا لاستيعاب وقت الاضطرار والجواز، وحديث" من أدرك ركعة من العصر فقد أدرك العصر" على بيان وقت الاضطرار والجواز، وهذا الجمع هو الأولى من قول من قال: إن حديث جبريل منسوخ، لأن النسخ لا يصار إليه مع إمكان الجمع، وكذا لا يصار إلى الترجيح، مع إمكانه، ويؤيد هذا الجمع، حديث "تلك صلاة المنافق" الماضي (511)، فمن كان معذورًا كان الوقت في حقه ممتدًا إلى الغروب، ومن كان غير معذور كان الوقت له إلى المثلين، وما دامت الشمس بيضاء نقية، فإن أخرها إلى الاصفرار، وما بعده كانت صلاته صلاة المنافق المذكورة في الحديث. أفاده في "نيل" جـ 2 ص 34، 35.
والحاصل أن وقت العصر الاختياري ينتهي باصفرار الشمس، ووقت الجواز يمتد إلى آخر النهار، لكن إن كان بلا عذر كان الجواز مع الكراهة. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
11 - من أدْركَ رَكْعَتَينِ مِنَ الْعَصْرِ
أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على حكم من أدرك ركعتين من صلاة العصر.
هكذا ترجم المصنف "من أدرك ركعتين"، والمشهور "من أدرك ركعة"، فكان الأولى أن يبوب عليه، وأشار في الهندية إلى أن في بعض النسخ "من أدرك ركعة" والله أعلم.
514 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، قَالَ: سَمِعْتُ مَعْمَرًا، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَتَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، أَوْ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ".
رجال الإسناد: سبعة
1 -
(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني ثم البصري، ثقة، توفي سنة 245، من [10]، تقدم في 5/ 5.
2 -
(معتمر) بن سليمان التيمي أبو محمد الحَذَّاءُ البصري، يلقب أبا الطُّفَيل، ثقة، توفي سنة 187، وقد جاوز80 سنة، من كبار [9]،
أخرج له الجماعة، تقدم في 10/ 10.
3 -
(معمر) بن راشد الأزدي مولاهم، أبو عروة البصري، نزيل اليمن، ثقة ثبت فاضل، توفي سنة 154 عن 58 سنة، من كبار [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 10/ 10.
4 -
(عبد الله بن طاوس) بن كيسان اليماني، أبو محمد، ثقة فاضل عابد، من [6].
قال أبو حاتم، والنسائي: ثقة. وقال عبد الرزاق، عن معمر: قال لي أيوب: إن كنت راحلًا إلى أحد فعليك بابن طاوس، فهذه رحلتي إليه، وقال أيضًا عن معمر: ما رأيت ابن فقيه مثل ابن طاوس، فقلت له: ولا هشام بن عروة؟ فقال: حسبك بهشام، ولكن لم أر مثل هذا، وكان من أعلم الناس عربية، وأحسنهم خلقًا.
وقال النسائي: ثقة مأمون، وكذا قال الدارقطني في الجرح والتعديل، وقال العجلي: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مات بعد أيوب بسنة، وكان من خيار عباد الله فضلًا، ونسكًا، ودينًا، وتكلم فيه بعض الرافضة.
قال ابن سعد عن الهيثم بن عدي: مات في خلافة أبي العباس. وقال ابن عيينة: مات سنة 132، وقال ابن قانع 131، أخرج له الجماعة.
5 -
(طاوس) بن كيسان، اليماني، أبو عبد الرحمن الحِمْيرِي مولاهم الفارسي، يقال: اسمه ذَكْوَان، وطاوس لقبه، ثقة فقيه فاضل، توفي سنة 106، وقيل بعد ذلك، من [3]، تقدم في 27/ 31.
6 -
(ابن عباس) عبد الله الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 27/ 31.
7 -
(أبو هريرة رضي الله عنه الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سباعيات المصنف.
ومنها: أن رواته كلهم ثقات نبلاء، اتفقوا عليهم، إلا شيخه فلم يخرج له البخاري، وأخرج له أبو داود في القدر.
ومنها: أن فيه رواية صحابي عن صحابي.
ومنها: أن فيه رواية الابن عن أبيه.
ومنها: أن فيه ابن عباس، وأبا هريرة رضي الله عنهما من المكثرين السبعة؛ روى ابن عباس 1696 حديثًا، وأبو هريرة 5374 حديثًا.
ومنها: أن فيه من صيغ الأداء: الإخبارَ، والتحديثَ، والعنعنةَ، وكلها من صيغ الاتصال على الراجح. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم) أنه (قال: من) شرطية، جوابها "فقد أدرك"(أدرك ركعتين من صلاة العصر) غالب الروايات "ركعة"، وهي التي في "الكبرى"، ولكن أشار في الهامش أن في بعض النسخ "ركعتين".
الظاهر أن معنى الإدراك أن يأتي بواجباتها من الفاتحة، واستكمال الركوع والسجود، ومفهومُهُ أن من أدرك أقل من ذلك لا يكون مدركًا للوقت، وأن صلاته تكون قضاء، وقيل: تكون أداء.
(قبل أن تغرب الشمس، أو) أدرك (ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك) أي صلاة العصر، وصلاة الصبح.
ومعنى الحديث أن من صلى ركعتين من صلاة العصر قبل غروب الشمس، أو صلى ركعة من صلاة الصبح قبل طلوع الشمس فقد أدرك الصلاتين، فليتم ما بقي. لا فرق في ذلك بين معذور وغيره، وهو مذهب الجمهور، خلافًا لأبي حنيفة القائل ببطلان صلاة الصبح، ولمن قال: إنها كلها قضاء، ولمن قال: ما وقع في الوقت أداء، وما بعده
قضاء. وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك إن شاء الله تعالى.
هذا على جعل ركعتين رواية صحيحة، لكن في صحتها نظر، فإن الحديث أخرجه مسلم في "الصحيح" عن حسن بن الربيع، عن ابن
المبارك، عن معمر بسند المصنف، ولفظه "من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب
…
" الحديث، ثم أخرجه عن عبد الأعلى بن حماد، عن معتمر قال: سمعت معمرًا بهذا الإسناد. فالظاهر أن رواية معتمر كرواية ابن المبارك بلفظ "ركعة"؛ لأن من عادة مسلم أن ينبه في الإحالات إذا اختلفت الألفاظ، فلو كان هناك اختلاف في ألفاظ المتن
لبَيَّنَهُ. وهو أيضًا ما في "السنن الكبرى" للمصنف، لكن أشار في الهامش إلى أن بعض النسخ فيه "ركعتين". وأيضًا تشهد له الروايات الآتية، ولذلك قال الشيخ الألباني في "صحيح النسائي" ما معناه: المحفوظ لفظ "ركعة" للطرق التالية. والله أعلم.
وحاصل معنى الحديث: أن من أدرك ركعة من صلاة العصر، وصلاة الصبح فقد أدركهما أداء، فالإتيان بهذا الجزء كالإتيان بكل الصلاة حكمًا، فيضم ما بقي من أجزائها، ويكون ذلك أداء، وليس المراد أن تلك الركعة تكفي عن الكل.
ثم إن هذا لصاحب العذر، كالرَّجُلِ يَنَام عن الصلاة، أو ينساها، فيستيقظ، أو يذكرها عند طلوع الشمس، أو غروبها. وأما الذي لا عذر له فلا يجوز له أن يؤخر الصلاة إلى أن يقع بعض أجزاء الصلاة خارج الوقت، لأنه تفريط فيما أوجب الله عليه، ففي "صحيح مسلم" "ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء
وقت الصلاة الأخرى" الحديث.
وقال الحافظ رحمه الله: عند قوله "فقد أدرك الصبح": الإدراك: الوصول إلى الشيء، فظاهره أنه يُكْتَفَى بذلك، وليس مرادًا بالإجماع، فقيل: يُحمَل على أنه أدرك الوقت، فاذا صلى ركعة أخرى، فقد كملت صلاته، وهذا قول الجمهور، وقد صرح بذلك في رواية الدراوردي عن زيد بن أسلم أخرجه البيهقي من وجهين، ولفظه "من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس، وركعة بعدما تطلع الشمس، فقد أدرك الصلاة"، وأصرح منه رواية أبي غسان محمد بن مُطَرِّف، عن زيد بن أسلم، عن عطاء -وهو ابن يسار- عن أبي هريرة، بلفظ "من صلى ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، ثم صلى ما بقي بعد غروب الشمس، فلم يفته العصر، وقال مثل ذلك في الصبح"، وللبخاري والنسائي من طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة "فليتم صلاته"، وللنسائي من وجه آخر "من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة كلها، إلا أنه يقضي ما فاته"(558)، وللبيهقي من وجه آخر "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس، فليصل إليها أخرى".
قال الحافظ: ويؤخذ من هذا الرد على الطحاوي حيث خص الإدراك باحتلام الصبي، وطهر الحائض، وإسلام الكافر، ونحوها، وأراد بذلك نصرة مذهبه في أن من أدرك من الصبح ركعة تفسد صلاته، لأنه لا يكملها إلا في وقت الكراهة، وهو مبني على أن الكراهة
تتناول الفرض والنفل، وهي خلافية مشهورة.
قال التر مذي: وبهذا يقول الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وخالف أبو حنيفة؛ فقال: من طلعت عليه الشمس وهو في صلاة الصبح بطلت صلاته، واحتج لذلك بالأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس. وادعى بعضهم أن أحاديث النهي ناسخة لهذا الحديث، وهي دعوى تحتاج إلى دليل، فإنه لا يصار إلى النسخ بالاحتمال،
والجمع بين الحديثين ممكن بأن تحمل أحاديث النهي على ما لا سبب له من النوافل، ولا شك أن التخصيص أولى من ادعاء النسخ.
قال الجامع عفا الله عنه: وما اعترض به الشوكاني على الحافظ في قوله: بأن تحمل أحاديث النهي على ما لا سبب له من النوافل- من أن هذا جمع بما يوافق مذهبه غير صحيح، لما سنحققه في موضعه إن شاء الله تعالى.
ومفهوم الحديث أن من أدرك أقل من ركعة لا يكون مدركًا للوقت، وللفقهاء في ذلك تفاصيل بين أصحاب الأعذار وغيرهم، وبين مدرك الجماعة، ومدرك الوقت، وكذا مدرك الجمعة، ومقدار هذه الركعة قدر ما يكبر للإحرام، ويقرأ أم القرآن، ويركع، ويرفع، ويسجد سجدتين بشروط كل ذلك. وقال الرافعي: المعتبر فيها أخف ما يقدر عليه أحد، وهذا في حق غير أصحاب الأعذار، أما أصحاب الأعذار، كمن أفاق من إغماء، أو طهرت من حيض، أوغير ذلك، فإن
بقي من الوقت هذا القدر كانت الصلاة في حقهم أداء، وقد قال قوم: يكون ما أدرك في الوقت أداء وبعده قضاء، وقيل: يكون كذلك لكنه يلتحق بالأداء حكمًا، والمختار أن الكل أداء، وذلك من فضل الله تعالى. ونقل بعضهم الاتفاق على أنه لا يجوز لمن ليس له عذر تأخير الصلاة حتى لا يبقى منها إلا هذا القدر. والله أعلم. اهـ فتح جـ 2 ص 67، 68. والله ولي التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته.
حديث ابن عباس عن أبي هريرة رضي الله عنهم هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (514)، وفي "الكبرى"(1501) عن محمد بن عبد الأعلى، عن معتمر، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عنه. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه مسلم في "الصلاة" عن حسن بن الربيع، عن ابن المبارك- وعن عبد الأعلى بن حماد، عن معتمر بن سليمان- وعن عبد بن حُمَيد، عن عبد الرزاق- ثلاثتهم عن معمر به.
وأخرجه أبو داود فيه عن الحسن بن الربيع عن ابن المبارك، به.
وأخرجه ابن حبان في "صحيحه". والله أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما بوب له المصنف، وهو أن من أدرك ركعة من صلاة العصر، ومن باب أولى إذا أدرك ركعتين، كان مدركًا لها حكمًا، فيكمل ما بقي، ويكون ذلك أداء.
ومنها: أن من أدرك ركعة من الصبح يكون مدركًا لها، وخالف في ذلك الحنفية، فقالوا ببطلان الصلاة إذا طلعت الشمس وهو في صلاة الصبح، وإن أدرك ركعة فما فوقها، ويأتي تحقيق الخلاف في ذلك في المسألة التالية إن شاء الله تعالى.
ومنها: أن من زال عذره؛ كنائم استيقظ، وحائض طهرت، وصبي بلغ، وكافر أسلم، وقد بقي من الوقت ما يسع ركعة وجبت عليه تلك الصلاة.
ومنها: سماحة الشريعة، ويسر أمر الدين حيث وُسِّعَ على من لم يتمكن من أداء الصلاة إلى هذا الوقت فأدّى، فإنه يكون مؤديًا للواجب في وقته. ذلك من فضل الله ورحمته. والله ذو الفضل العظيم.
المسألة الخامسة: في أقوال أهل العلم فيمن أدرك ركعة من العصر، والصبح، ثم خرج الوقت:
أجمع أهل العلم على أن من صلى ركعة من العصر، ثم خرج الوقت، لا تبطل صلاته، بل يتمها، واختلفوا فيمن صلى ركعة من الصبح، ثم خرج الوقت؛ فقال مالك، والشافعي، وأحمد، والعلماء كافة يتم صلاته، وهي صحيحة، وخالف في ذلك أبو حنيفة، فقال: تبطل صلاته بطلوع الشمس، واحتج في ذلك بالأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس، ورد عليه بأن أحاديث النهي عامة، تشمل ذوات الأسباب المتقدمة، وغير ذوات الأسباب من النوافل والفرائض، وحديث أبي هريرة هذا خاص؛ ليس فيه إلا ذكر صلاة ذات سبب متقدم، فتحمل أحاديث النهي على ما لاسبب له من النوافل جمعًا بين الحديثين.
قال النووي رحمه الله: قال أبو حنيفة رحمه الله: تبطل صلاة الصبح بطلوع الشمس، لأنه دخل وقت النهي عن الصلاة بخلاف غروب الشمس، ففرق بين فجر اليوم، وعصره، والحديث حجة عليه.
قال القاري رحمه الله بعد ذكر كلام النووى ما نصه: وجوابه ما ذكره صدر الشريعة في شرح الوقاية: أن المذكور في كتب أصول الفقه أن الجزء المقارن للأداء سبب لوجوب الصلاة، وآخر وقت العصر وقت ناقص، إذ هو وقت عبادة الشمس، فوجب ناقصًا، فإذا أداه أداه، كما وجب، فإذا اعترض الفساد بالغروب لا تفسد، والفجر كل وقته وقت كامل، لأن الشمس لا تعبد قبل طلوعها، فوجب كاملًا، فإذا اعترض
الفساد بالطلوع تفسد، لأنه لم يؤده كما وجب.
فإن قيل: هذا تعليل في معرض النص، قلنا: لما وقع التعارض بين هذا الحديث، وبين النهي الوارد عن الصلاة في الأوقات الثلاثة رجعنا إلى القياس، كما هو حكم التعارض، والقياس رجح هذا الحديث في صلاة العصر، وحديث النهي في صلاة الفجر، وأما سائر الصلوات، فلا تجوز في الأوقات الثلاثة المكروهة لحديث النهي الوارد، إذ لا معارض لحديث النهي فيها.
قال صاحب "مرعاة المفاتيح": قلت: قد رد هذا التقرير المزخرف الشيخ عبد الحي اللكنوي، وهو من الحنفية في حاشيته على شرح الوقاية، حيث قال: فيه بحث، وهو أن المصير إلى القياس عند تعارض النصين إنما هو إذا لم يمكن الجمع بينهما، وأما إذا أمكن يلزم الجمع بينهما، وها هنا العمل بكليهما ممكن بأن يخص صلاة العصر والفجر الوقتيتان من عموم حديث النهي، ويعمل بعمومه في غيرهما، وبحديث الجواز فيهما، إلا أن يقال: حديث الجواز خاص، وحديث النهي عام، وكلاهما قطعيان عند الحنفية، متساويان في الدرجة والقوة، فلا يخص أحدهما الآخر، وفيه أن قطعية العام كالخاص ليس متفقًا عليه بين الحنفية، فإن كثيرًا منهم وافقوا الشافعية في كون العام ظنيًا، كما هو مبسوط في شرح المنتخب الحسامي وغيرها. انتهى.
وقال صاحب "الكوكب الدري"- بعد ذكر وجه الفرق بين الفجر
والعصر بنحو ما ذكره صدر الشريعة- ما لفظه: هذا ما قالوا، وأنت تعلم ما فيه من الاختلال، وتزويق المقال، فإن قولهم: النهي عن الأفعال الشرعية يقتضي صحتها في أنفسها، ينادي بأعلى نداء على جواز الصلاتين كلتيهما، وإن اعتبراهما حرمة بعارض التشبه بعبدة الشمس، فادعاء المعارضة بينهما باطل، وإن قُطِعَ النظر عن ذلك فلا وجه لعدم الجواز في الفجر، والجواز في العصر، فإن الوقت شرط لكلتيهما، فإذا غربت الشمس بأداء ركعة أو ركعتين لم يبق الوقت المشروط لصحة الباقي، فكيف يمكن لهم القول بأن الصلاة تامة، إذ ليس ذلك إلا قولًا بعدم اشتراط الوقت، فعلى هذا يلزم عليهم جواز صلاة من شرع في الصلاة، وثوبه نجس بقدر الدرهم، أو دونه، ثم بعد
أدائه ركعة وضع عليه رجل شيئًا نجسًا ليس ذلك إلا أداء الصلاة على الكيفية التي التزمها، أو من أخذ في الصلاة، وهو يدافعه الأخبثان، فلما قضى ركعة أو ركعتين، بال أو تغوط، أوَ لَيْسَ نظير ما قالوا؟ فإنه أدَّى صلاته بعد الحدث على نحو مما التزمه
…
إلى آخر ما قال، وأطال في الرد عليهم.
قال صاحب "المرعاة": قلت. ويلزمهم أيضًا أن يقولوا بفساد صلاة العصر إذا شرع فيها في الجزء الصحيح الكامل، أي قبل الاصفرار، ومدها إلى أن غربت، مع أنها لا تكره عندهم فضلًا عن أن تفسد، وما اعتذروا عنه بعذر الخشوع والخضوع لا ينفع، كما أقر به صاحب "فيض الباري"، فإن الاحتراز عن المد إلى غروب الشمس ليس
مما يتعذر، كما لا يخفى على المنصف غير المتعسف. واختار صاحب الكوكب في معنى الحديث ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة من جواز الصلاتين؛ العصرِ والصبحِ، وفراغِ الذمة لمن صلى في هذين الوقتين، وإن لم يخل فعله ذلك من الكراهة.
واعلم أن الحنفية قد عجزوا عن دفع إلزام العمل ببعض هذا الحديث، وترك بعضه مع أن النقص قارَنَ العصر ابتداء، والفجر بقاء، ولذلك ذهب الطحاوي إلى عدم جواز عصر يومه كالفجر، خلافًا لمذهب الحنفية. قال صاحب الفيض: إن الحديث لا يفرق بين الفجر والعصر، وظاهره موافق لما ذهب إليه الجمهور، وتفريق الحنفية
باشتمال العصر على الوقت الناقص دون الفجر عَمَلٌ بإحدى القطعتين، وترك الأخرى بنحو من القياس. وذا لا يَرِدُ على الطحاوي، فإنه ذهب إلى النسخ بالكلية بالأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، إلا أن المعروف من مذهب الحنفية خلافه، فإنهم قائلون في العصر بصحتها، كما في الحديث، قال: فَلَمْ
أرَ جوابًا شافيًا عنه في أحد من كتب الحنفية بعدُ.
ثم حَمَلَ هو هذا الحديث على المسبوق، وقال: إن المراد بالإدراك إداراك الجماعة، لا إدراك الوقت، وإن الصلاة كلها في الوقت قبل الطلوع في الفجر، وقبل الغروب في العصر، ومعنى الحديث: من أدرك ركعة من الصبح مع الإمام، وركعة أخرى بعد انصرافه، وكلتاهما
في الوقت قبل الطلوع، وكذا في العصر أدرك ركعة مع الإمام، وثلاث ركعات بعد سلامه، لكن الصلاة كلها وقعت في الوقت قبل الغروب.
قال صاحب المرعاة: وهذا تحريف للحديث، وإبطال لمؤداه، لا توجيه له مع أنه يبطل شرحه، ويهدمه -كما اعترف هو- ما تقدم من رواية البيهقي بلفظ "من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس، وركعة بعدما تطلع الشمس، فقد أدرك الصلاة هذا".
وقد أطال الكلام في الجواب عن هذه الرواية، وتقرير ما رامه من تحريف الحديث، وأتى بكلام كله تكلفات، ودعاوى محضة، ونسبة الوهم، وسوء الفهم، والاختصار إلى الرواة من غير دليل وبرهان. اهـ كلام صاحب "المرعاة" جـ 2 ص 309 - 311.
قال الجامع عفا الله عنه: وبهذا ظهر لك تعصب هؤلاء، وانحرافهم عن قبول ما صح من الحديث إذا خالف مذهبهم، ومنهم العينيُّ في شرحه على البخاري، فقد أتى هناك بما لا يتناسب مع خدمته للبخاري، وقيامه في حل عويصات الكتاب اللغوية والنحوية قيامًا حسنًا، ولكن قاتل الله التعصب الذي يُعمِي عن رؤية الحق حَقًا، ويُصِمُّ عن سماعه صدقًا.
اللهم أرنا الحق حقًا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه.
والحاصل أن المذهب الصحيح هو مذهب الجمهور القائلين بأن من
أدرك ركعة من الصبح قبل طلوع الشمس، فقد أدرك الصبح، فَيُتِمُّ ما بقي، كما أن الكل اتفقوا على أن من أدرك ركعة من العصر، فقد أدرك العصر. والله أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
515 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، قَالَ: سَمِعْتُ مَعْمَرًا، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ، قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ، أَوْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَقَدْ أَدْرَكَ".
رجال الإسناد: ستة
كلهم تقدموا في السند السابق، إلا أبا سلمة، وهو ابن عبد الرحمن ابن عوف الزهري المدني، ثقة مكثر فقيه، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، من [3]، تقدم في 1/ 1.
وشرح الحديث مضى في الذي قبله، فلا حاجة إلى إعادته.
تنبيهات:
الأول: حديث أبي هريرة من طريق الزهري عن أبي سلمة أخرجه المصنف هنا (515)، وفي "الكبرى"(1503)، وأخرجه مسلم في "الصلاة" عن عبد بن حميد، عن عبد الرزاق، عن معمر بسند المصنف نحوه، وأخرجه ابن ماجه فيه أيضًا عن جَمِيل بن الحسن، عن عبد
الأعلى، عن معمر به نحوه.
الثاني: قال النووي رحمه الله: أجمع المسلمون على أن هذا الحديث ليس على ظاهره، وأنه لا يكون بالركعة مدركًا لكل الصلاة، وتكفيه، وتحصل براءته من الصلاة بهذه الركعة، بل هو مُتَأوَّلٌ، وفيه إضمار، تقديره: فقد أدرك حكم الصلاة، أو وجوبها، أو فضلها.
قال أصحابنا: يدخل فيه ثلاث مسائل:
إحداها: إذا أدرك من لا تجب عليه الصلاة ركعة من وقتها لزمته تلك الصلاة، وذلك في الصبي يبلغ، والمجنون والمُغْمَى عليه يُفيقان، والحائض والنفساء تطهران، والكافر يسلم، فمن أدرك من هؤلاء ركعة قبل خروج وقت الصلاة لزمته تلك الصلاة، وإن أدرك دون ركعة كتكبيرة، ففيه قولان للشافعي رحمه الله تعالى أحدهما: لا تلزمه،
لمفهوم هذا الحديث.
وأصحها عند أصحابنا تلزمه، لأنه أدرك جزءًا منه، فاستوى قليله وكثيره، ولأنه يشترط
(1)
قدر الصلاة بكمالها بالاتفاق، فينبغي أن لا يفرق بين تكبيرة وركعة، وأجابوا عن الحديث بأن التقييد بركعة خرج على الغالب، فإن غالب ما يمكن معرفة إدراكه ركعة ونحوها، وأما التكبيرة، فلا يكاد يحس بها، وهل يشترط مع التكبيرة أو الركعة إمكان الطهارة؟ فيه وجهان لأصحابنا، أصحهما أنه لا يشترط.
(1)
هكذا نسخة شرح مسلم "يشترط" ولعل الصواب "لا يشترط" بزيادة حرف النفي. فليتأمل.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن القول الأول للإمام الشافعي هو الأصح لظاهر مفهوم هذا الحديث، كما قال رحمه الله. والله تعالى أعلم.
المسألة الثانية: إذا دخل في الصلاة في آخر وقتها، فصلى ركعة، ثم خرج الوقت، كان مدركًا لأدائها، ويكون كلها أداء، وهذا هو الصحيح عند أصحابنا، وقال بعض أصحابنا: يكون كلها قضاء، وقال بعضهم: ما وقع في الوقت أداء، وما بعده قضاء.
وتظهر فائدة الخلاف في مسافر نَوَى القصر، وصلى ركعة في الوقت، وباقيها بعده، فإن قلنا: الجميع أداء، فله قصرها، وإن قلنا: كلها قضاء، أو بعضها، وجب إتمامها أربعًا، إن قلنا: إن فائتة السفر إذا قضاها في السفر يجب إتمامها، هذا كله إذا أدرك ركعة في الوقت، فإن أدرك دون ركعة، فقال بعض أصحابنا: هو كالركعة، وقال الجمهور: يكون كله قضاء.
واتفقوا على أنه لا يجوز تعمد التأخير إلى هذا الوقت، وإن قلنا: إنها أداء، وفيه احتمال لأبي محمد الجُوَيني على قولنا: أداء، وليس بشيء. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: إذا أدرك المسبوق مع الإمام ركعة كان مدركًا لفضيلة الجماعة بلا خلاف، وإن لم يدرك ركعة، بل أدرك قبل السلام بحيث لا يحسب له ركعة، ففيه وجهان لأصحابنا: أحدهما: لا يكون مدركًا
للجماعة، لمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم:"من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام، فقد أدرك الصلاة". والثاني: وهو الصحيح، وبه قال جمهور أصحابنا، يكون مدركًا لفضيلة الجماعة؛ لأنه أدرك جزءًا منه، ويجاب عن مفهوم الحديث بما سبق. اهـ. "شرح مسلم" جـ 5 ص 105، 106.
قال الجامع عفا الله عنه: وفي ترجيحه القول الثاني نظر، بل الراجح هو القول الأول، لظهور دلالة الحديث عليه. والله أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
516 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"إِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ أَوَّلَ سَجْدَةٍ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ، وَإِذَا أَدْرَكَ أَوَّلَ سَجْدَةٍ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(عمرو بن منصور) النسائي، أبو سعيد، ثقة ثبت، من [11]، أخرج له النسائي، تقدم في 108/ 147.
2 -
(الفضل بن دُكَين) الكوفي، واسم دكين. عمرو بن حماد بن زهير، التيمي مولاهم الأحول، المُلَائي أبو نعيم مشهور بكنيته، ثقة
ثبت، من [9]، وهو من كبار شيوخ البخاري.
قال محمد بن سليمان الباغندي: سمعت أبا نعيم يقول: أنا الفضل بن عمرو بن حماد، ودُكَين لقب، وقيل: إن رجلًا قال لأبي نعيم: كان اسم أبيك دُكينًا؟ قال: كان اسم أبي عمرًا، ولكنه لقبه فَرْوةُ الجُعْفي دُكَينًا. وقال حنبل بن إسحاق: قال أبو نعيم: كتبت عن نيف ومائة شيخ ممن كتب عنه سفيان. وقال الفضل بن زياد الجعفي عن أبي نعيم: شاركت الثوري في ثلاثة عشر ومائة شيخ. وقال أبو عوف اليُزُوريُّ عن أبي نعيم: قال لي سفيان مرة، وسألته عن شيء: أنت لا تبصر النجوم بالنهار، فقلت: وأنت لا تبصرها كلها بالليل، فضحك.
وقال صالح بن أحمد: قلت لأبي: وكيعٌ، وعبدُ الرحمن بن مهدي، ويزيد بن هارون، أين يقع أبو نعيم من هؤلاء؟ قال: على النصف، إلا أنه كَيِّس، يتحرى الصدق، قلت: فأبو نعيم أثبت، أو وكيع؟ قال: أبو نعيم أقل خطأ. قلت: فأيما أحب إليك، أبو نعيم، أو ابن مهدي؟ قال: ما فيهما إلا ثبت، إلا أن عبد الرحمن كان له فهم. وقال حنبل عن أحمد: أبو نعيم أعلم بالشيوخ وأنسابِهِم، وبالرجال، ووكيع أفقه. وقال يعقوب بن شيبة: أبو نعيم ثقة ثبت صدوق، سمعت أحمد بن حنبل يقول: أبو نعيم يُزَاحَمُ به ابن عيينة، فقال رجل: وأي شيء عند أبي نعيم من الحديث؟ ووكيع أكثر رواية، فقال: هو على قلة روايته أثبت من وكيع. وعن أبي زرعة الدمشقي، عن أحمد مثله.
وقال الفضل بن زياد: قلت لأحمد: يجري عندك ابن فُضَيل
مجرى عبيد الله بن موسى؟ قال: لا، كان ابن فضيل أثبت، فقلت: وأبو نعيم يجرى مجراهما؟ قال: لا، أبو نعيم يَقْظاَنُ في الحديث، وقام في الأمر، يعني الامتحان. وقال المروذي عن أحمد: قال يحيى، وعبد الرحمن: أبو نعيم: الحجة الثبت، كان أبو نعيم ثبتًا. وقال أيضًا عن أحمد: إنما رفع الله عفان، وأبا نعيم بالصدق حتى نوه بذكرهما. وقال مهنا: سألت أحمد عن عفان، وأبي نعيم؟ فقال: هما العقدة، وفي رواية ذهبا مَحْمُودَيْنِ.
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: سئل يحيى بن معين، أي أصحاب الثوري أثبت؟ قال: خمسة، يحيى، وعبد الرحمن، ووكيع، وابن المبارك، وأبو نعيم. وقال أبو زرعة الدمشقي: سمعت ابن معين، يقول: ما رأيت أثبت من رجلين: أبي نعيم، وعفان. قال: وسمعت أحمد بن صالح، يقول: ما رأيت محدثًا أصدق من أبي نعيم. وقال أبو حاتم: سألت علي بن المديني: مَنْ أوثق أصحاب الثوري؟ قال: يحيى، وعبد الرحمن، ووكيع، وأبو نعيم، وأبو نعيم من الثقات.
وقال ابن عمار: أبو نعيم متقن حافظ، إذا روى عن الثقات فحديثه أرجح ما يكون. وقال الحسين بن إدريس: خرج علينا عثمان بن أبي شيبة، فقال: حدثنا الأسد، فقلنا: من هو؟ فقال: الفضل بن دُكَين.
وقال الآجري: قلت لأبي داود: كان أبو نعيم حافظًا؟ قال: جِدًا.
وقال العجلي: أبو نعيم الأحول كوفي ثقة ثبت في الحديث. وقال يعقوب بن سفيان: أجمع أصحابنا على أن أبا نعيم كان غاية في
الإتقان. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عن أبي نعيم، وقبيصة؟ فقال: أبو نعيم أتقن الرجلين. وقال أبو حاتم: ثقة، كان يحفظ حديث الثوري ومسعر حفظًا، كان يحرز حديث الثوري ثلاثة آلاف وخمسمائة، وحديث مسعر نحو خمسمائة، كان يأتي بحديث الثوري على لفظ واحد، لا يغيره، وكان لا يلقن، وكان حافظًا متقنًا، وقال
أبو حاتم أيضًا: لَمْ أرَ من المحدثين من يحفظ يأتي بالحديث على لفظ واحد، لا يغيره، سوى قبيصة، وأبي نعيم في حديث الثوري، ويحيى الحِمَّاني في شريك، وعلي بن الجَعْد في حديثه.
وقال أحمد بن عبد الله الحداد: سمعت أبا نعيم يقول: نظر ابن المبارك في كتبي، فقال: ما رأيت أصح من كتابك. وقال حنبل بن إسحاق: سمعت أبا عبد الله يقول: شيخان كان الناس يتكلمون فيهما، ويذكرونهما، وكنا نلقى من الناس في أمرهما ما الله به عليم، قاما لله بأمر لم يقم به أحد، أو كبير أحد، مثل ما قاما به، عَفَّانُ، وأبو نعيم- يعني بالكلام فيهما لأنهما كانا يأخذان الأجرة على التحديث، وبقيامهما عدم الإجابة في المحنة.
قال أبو نعيم: يلومونني على الأجر، وفي بيتي 13، وما في بيتي رغيف.
قال أبو نعيم. ولدت سنة 130، في آخرها، وقال إبراهيم الحربي: كان بين وكيع، وأبي نعيم سنة، وَفَاتَ أبا نعيم في تلك السنة الخلقُ. مات أبو نعيم سنة 218، وقيل: 219، قيل: في سلخ شعبان، وقيل:
في رمضان. أخرج له الجماعة. اهـ تت باختصار جـ 8 ص 271 - 276.
3 -
(شيبان) بن عبد الرحمن التميمي مولاهم النحوي، أبو معاوية البصري، نزيل الكوفة، ثقة صاحب كتاب، توفي سنة 164، من [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 347.
4 -
(يحيى) بن أبي كثير الطائي مولاهم، أبو نَصْرِ اليمامي، ثقة ثبت، لكنه يدلس ويرسل، توفي سنة 132، وقيل: قَبل ذلك، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 23/ 24.
5 -
(أبو سلمة) بن عبد الرحمن، تقدم في السند السابق.
6 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه، تقدم في السابق أيضًا.
لطائف هذا الإِسناد:
منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، غير شيخه، وأن فيه رواية تابعي، عن تابعي، وأن فيه أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وأن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أكثر الصحابة رواية للحديث، روى -5374 - حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي هريرة) رضي الله عنه (عن النبي صلى الله عليه وسلم) أنه (قال: إِذا أدرك أحدكم أول سجدة) أي السجدة الأولى، فهو من إضافة الصفة
إلى الموصوف، والمراد بالسجدة الركعة، ورواية البخاري "إذا أدرك أحدكم سجدة
…
" ويؤيد تفسيره بالركعة رواية الإسماعيلي له من طريق حسين بن محمد، عن شيبان، بلفظ "من أدرك منكم ركعة"، فإنها تدل على أن الاختلاف في الألفاظ وقع من الرواة، وكذا رواية مالك التالية بلفظ "من أدرك ركعة"، فإنه -كما قال الحافظ- لم يختلف على راويها، في ذلك، فكان عليها الاعتماد.
وقال الخطابي رحمه الله: المراد بالسجدة الركعة بركوعها وسجودها، والركعة إنما يكون تمامها بسجودها، فسميت على هذا المعنى سجدة. انتهى.
(من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس، فليتم صلاته) هذا ظاهر في أن تلك الصلاة أداء، وفيه إبطال زعم من زعم أن المراد بالحديث مَنْ زالَ عذره في ذلك الوقت، وكان بحيث يدرك ركعة من العصر والصبح، كما تقدم تفنيده (وإِذا أدرك أول سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس، فليتم صلاته) وهذا نص صريح في رد ما ذهب إليه أبو حنيفة، ومن تبعه من أن من طلعت عليه الشمس، وهو في صلاة الصبح بطلت صلاته، وقد تقدم تحقيق القول في ذلك قريبًا والله أعلم.
تنبيه:
حديث أبي هريرة من رواية أبي سلمة عنه أخرجه المصنف هنا (516)، وفي الكبرى (1504)، عن عمرو بن منصور، عن الفضل بن
دكين، عن شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة، عنه. وأخرجه البخاري في "الصلاة" أيضًا عن أبي نعيم، به. وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" جـ 3 ص 58، والإسماعيلي، كما قاله في "الفتح".
وبقية مباحث الحديث تقدمت في شرح حديث ابن عباس عن أبي هريرة رضي الله عنهما (514)، فارجع إليها تزدد علمًا. والله أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
517 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، وَعَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، وَعَنِ الأَعْرَجِ يُحَدِّثُونَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ".
رجال الإسناد: سبعة
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفي أبو رجاء البَغْلاني، ثقة ثبت، من [10]، تقدم في 1/ 1.
2 -
(مالك) بن أنس أبو عبد الله الإمام المدني، ثقة ثبت حجة، من [7]، تقدم في 7/ 7.
3 -
(زيد بن أسلم) العدوي مولى عمر، أبو عبد الله، أو أبو
أسامة المدني، ثقة عالم، وكان يرسل، توفي سنة 136، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 64/ 80.
4 -
(عطاء بن يسار) الهلالي المدني، أبو محمد مولى ميمونة، ثقة فاضل صاحب مواعظ وعبادة، توفي سنة 94، وقيل غير ذلك، من صغار [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 64/ 80.
5 -
(بسر بن سعيد) المدني العابد مولى ابن الحضرمي، ثقة جليل، توفي سنة 100، من [2].
قال علي بن المديني عن يحيى بن سعيد: بسر أحب إلي من عطاء ابن يسار، وقال ابن معين، والنسائي: ثقة.
وقال أبو حاتم: لا يسأل عن مثله. وقال ابن سعد: كان من العباد المنقطعين، وأهل الزهد في الدنيا، وكان ثقة كثير الحديث. وقال مالك: قال الوليد بن عبد الملك لعمر بن عبد العزيز: مَنْ أفضلُ أهل المدينة؟ قال: مولى لبني الحضرمي، يقال له: بسر. قال مالك: ولم يُخَلِّفْ كَفَنًا. وقال العجلي: تابعي مدني ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان يسكن دار الحضرمي في جذيلة بني قيس، فنسب إليهم، وكان سَعيدًا متزهدًا، لم يُخَلِّفْ كَفَنًا. وقال الواقدي: مات بالمدينة سنة 100 وهو ابن 78، وقيل: مات سنة، 101، أخرج له الجماعة.
6 -
(الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز، أبو داود المدني مولى ربيعة ابن الحارث، ثقة ثبت عالم توفي سنة، 117، [3] أخرج له الجماعة تقدم في 7/ 7.
7 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه، تقدم في1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات، اتفقوا عليهم، وأنهم مدنيون، إلا شيخه، فبغلاني، وفيه رواية تابعي، عن ثلاثة من التابعين، كلهم يروون عن صحابي واحد، وفيه بسر بن سعيد هذا الباب أول محل ذكره من هذا الكتاب. والله تعالى أعلم.
تنبيه:
حديث أبي هريرة هذا متفق عليه، أخرجه المصنف هنا (517)، وفي "الكبرى"(1502)، عن قتيبة، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، وبسر بن سعيد، والأعرج، الثلاثة عنه. وأخرجه البخاري في "الصلاة" عن القعنبي، ومسلم فيه عن يحيى بن يحيى، والترمذي فيه عن إسحاق بن موسى الأنصاري، عن معن بن عيسى- ثلاثتهم عن مالك به، وابن ماجه فيه عن محمد بن الصباح، عن الدراوردي، عن زيد بن أسلم، به.
وتقدم شرح الحديث وبقية مباحثه قريبًا. والله أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
518 -
أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ نَصْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جَدِّهِ مُعَاذٍ، أَنَّهُ طَافَ مَعَ مُعَاذِ ابْنِ عَفْرَاءَ، فَلَمْ يُصَلِّ، فَقُلْتُ: أَلَا تُصَلِّي؟ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ، حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ، وَلَا بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ".
رجال الإسناد: سبعة
1 -
(أبو داود) الحَرَّاني، سليمان بن سَيْف بن يحيى بن دِرْهم الطائي مولاهم، ثقة حافظ، توفي سنة 272، من [11]، أخرج له النسائي، تقدم في 103/ 136.
2 -
(سعيد بن عامر) الضُّبَعِيُّ، أبو محمد البصري، ثقة صالح، ربما وَهِمَ، من [9].
قال محمد بن الوليد التّستري، عن يحيى بن سعيد: هو شيخ المصر منذ أربعين سنة. وقال يحيى أيضًا: إني لأغبط جيرانه. وقال ابن مهدي لابنه يحيى: الزمه، فلو حدثنا كل يوم حديثًا لأتيناه. وقال أبو مسعود زياد بن أيوب: ما رأيت بالبصرة مثله. وقال ابن معين: حدثنا سعيد بن عامر الثقةُ المأمونُ، وقال أبو حاتم: كان رجلًا صالحًا، وكان
في حديثه بعض الغلط، وهو صدوق، وقال ابن سَعْدٍ: كان ثقة صالحًا، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان مولده سنة 122، ومات لأربع بَقِينَ من شوال سنة 208.
قال أبو بكر الخطيب. حدث عنه ابن المبارك، ومحمد بن يحيى بن المنذر القزاز، وبين وفاتيهما 109 سنة، وقال العجلي: ثقة رجل صالح من خيار الناس، وقال ابن قانع: ثقة. أخرج له الجماعة.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الواسطي البصري، الإمام الحجة الثبت، من [7]، تقدم في 24/ 26.
4 -
(سعد بن إبراهيم) بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني، ولي قضاء المدينة، وكان ثقة فاضلًا عابدًا، توفي سنة 125، وقيل: بعدها، عن 72 سنة، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 96/ 124.
5 -
(نصر بن عبد الرحمن) المكي مقبول، من [4]، روى عن جده معاذ أنه طاف بالبيت مع معاذ بن عفراء
…
الحديث في النهي عن الصلاة بعد العصر، كذا رواه سعيد بن عامر الضبعي، ومحمد بن جعفر غندر عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم عنه، وقال غيرهما عن شعبة، عن سعد، عن نصر، عن جده معاذ بن عفراء أنه طاف، فقال له معاذ رجل من قريش: مالك لا تصلي؟
…
فذكر الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات". انفرد به المصنف.
6 -
(معاذ) القرشي جد نصر الراوي عنه، لم أجد ترجمته.
7 -
(معاذ بن عفراء) هو ابن الحارث بن رفاعة بن الحارث بن سوادة بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار، عرف بابن عفراء، وهي أمه عفراء بنت عبيد بن ثعلبة، شهد بدرًا، وما بعدها، ويقال: إنه جرح يوم بدر، ومات من جراحته، وقيل: عاش إلى زمان عثمان، وقيل: إلى زمن علي، وهو معدود في السبعة الذين يُرْوَى أنهم أول من لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار.
وقال العسكري: مات في أيام علي قبل الأربعين، وقال ابن حبان في الصحابة: قُتِلَ بالحَرَّة سنة 63، وقيل: قتل مع علي. أخرج له المصنف هذا الحديث فقط، وفي إسناده اختلاف، سنذكره إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سباعيات المصنف، ورجاله ثقات، غير نصر فوثقه ابن حبان، وجده معاذ فلم أعرفه.
ومنها: أن نصرًا، وجده، ومعاذ بن عفراء من أفراد المصنف، ولم يخرج لهم إلا هذا الحديث الواحد.
ومنها. أن صحابيه من المقلين في الرواية، ذكر له في "الإصابة" هذا الحديث، وحديثًا آخر عند البغوي من طريق أبي نصر بن سليمان بن
زياد، عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت ربي
…
" الحديث. انتهى "الإصابة" جـ 9 ص 222. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن نصر بن عبد الرحمن) القرشي الحجازي (عن جده معاذ) القرشي، لم أجد ترجمته (أنه طاف) بالبيت (مع معاذ بن عفراء) هو ابن الحارث بن رفاعة، كما مر آنفًا، وعفراء: أمه، وهي بنت عبيد ابن ثعلبة بن سواد بن غنم بن مالك بن النجار الأنصارية، أم معاذ، ومعوذ، وعوف، وبها يعرف أولادها، بايعت النبي صلى الله عليه وسلم. (فلم يصل) معاذ بن عفراء بعد الطواف، لكونه في وقت النهي عن الصلاة، فعند أحمد في المسند "فلم يصل بعد العصر، أو بعد الصبح"(فقلت: ألا تصلي) ولأحمد "ما يمنعك أن تصلي"، يعني ركعتي الطواف (فقال) معاذ بن عفراء مبينًا سبب تركه (إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا صلاة) نفي بمعنى النهي، كقوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] (بعد) صلاة (العصر حتى تغيب الشمس) أي تغرب (ولا) صلاة (بعد) صلاة (الصبح حتى تطلع الشمس) فيه أن مطلق الصلاة في هذين الوقتين منهي عنه، ولذا استدل به الصحابي على تركه ركعتي الطواف، وفيه خلاف مشهور سيأتي تحقيقه في "باب الساعات التي نهي عن الصلاة فيها" إن شاء الله تعالى.
قال الجامع عفا الله عنه: لم يتبين لي وجه إيراد المصنف رحمه الله تعالى لهذا الحديث في هذا الباب. والله أعلم.
تنبيه:
هذا الحديث من أفراد المصنف رحمه الله، لم يخرجه إلا في هذا الباب، وهو ضعيف الإسناد، للاضطراب فيه، قال في تهذيب الكمال جـ 29، ص 352، 353 في ترجمة نصر بن عبد الرحمن القرشي الحجازي ما نصه. رَوَى حديث شعبة، فاختُلِف عليه فيه فقال محمد بن جعفر غندر، وسعيد بن عامر الضُّبَعي، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن نصر بن عبد الرحمن القرشي، عن جده معاذ القرشي أنه طاف بالبيت مع معاذ بن عفراء
…
الحديث في النهي عن الصلاة بعد العصر.
وقال وهب بن جرير بن حازم، والنضر بن شُمَيل، وأبو عامر العقدي، وأبو الوليد الطيالسي، وسليمان بن حرب عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن نصر بن عبد الرحمن، عن جده معاذ بن عفراء أنه كان يطوف بالبيت بعد صلاة العصر، فقال له رجل من قريش: مالَكَ لا تصلي؟ الحديث. اهـ "تهذيب الكمال".
وفي "المسند" جـ 4 ص 219، 220، حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، وحجاج، قال: أنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن نصر بن عبد الرحمن، عن جده معاذ بن عفراء القرشي أنه
طاف بالبيت مع معاذ بن عفراء بعد العصر، أو بعد الصبح. الحديث.
حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا عفان، ثنا شعبة، قال: سعد بن إبراهيم أخبرني
…
فذكره.
قال الجامع: الحاصل أن السند مضطرب، وأن جد نصر لم يعرف، وكذلك نصر فلم يذكروا له راويًا غير سعد بن إبراهيم، فهو مجهول العين. وإن ذكره ابن حبان في الثقات.
وأما ما قاله الحافظ في "الإصابة" من أنه عند البغوي بسند صحيح عن نصر، عن معاذ، عن رجل من قريش، قال: رأيت معاذ بن عفراء يطوف
…
الحديث. فإنه أراد السند إلى نصر، وهو كذلك عند النسائي، وإنما الكلام من نصر فمن فوقه. فتأمل.
وأما أحاديث النهي عن الصلاة في هذين الوقتين فمروية من جماعة من الصحابة بأسانيد صحيحة، ستأتي في أبوابها إن شاء الله تعالى.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
"الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله".
"سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين".
"اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل
إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد".
"السلام على النبي ورحمة الله وبركاته".
"سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".
قال الجامع الفقير، إلى مولاه الغني القدير، محمد ابن الشيخ العلامة علي بن آدم الإِتْيُوبّيّ الْوَلَّوي، نزيل مكة، عفا الله عنه، وعن والديه ومشايخه:
هذا آخر الجزء السادس من شرح سنن النسائي المسمى "ذَخِيرَةَ العُقْبَى في شرح الُمجتْبَىَ"، أو "غاية المُنَى في شرح المُجتنى" بين المغرَب والعشاء ليلة الجمعة 11 من شهر صفر الخير سنة 1414 هـ الموافق 1993 م
(1)
وذلك في مكة المكرمة بحي الهنداوية.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، ونافعا لي، ولكل من تلقاه بقلب سليم؛ إنه بعباده رؤوف رحيم. ويليه الجزء السابع إن شاء الله تعالى مفتتحا 12 - بباب "أوَّلُ وقتِ المَغْرِبِ" رقم الحديث (519).
(1)
هذا التاريخ حسب التقسيم السابق، وإلا فقد أخذت جزءًا منه فألحقته بالجزء السابع، وذلك بتاريخ 20/ 10/ 1416 هـ، 8 مارس / 1996 م.