المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

شرح سنن النسائي المسَمَّى ذخيرة العقبى في شرح المجتبى لجامعة الفقير إلى مولاه الغني - ذخيرة العقبى في شرح المجتبى - جـ ٧

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

شرح

سنن النسائي

المسَمَّى

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى

لجامعة الفقير إلى مولاه الغني القدير

محمد بن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى الإتيوبي الوَلَّوِي

المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة

عفا الله عنه وعن والديه آمين

الجزء السابع

دار آل بروم

للنشر والتوزيع

ص: 1

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

جميع الحقوق محفوظة

الطبعة الأولى

1419 هـ-1999 م

ح دار آل بروم للنشر والتوزيع، 1419 هـ

فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر

الاتيوبي، محمد علي أم موسى

شرح سنن النساني المسمى ذخيرة العقبى في شرح المجتبى- مكة المكرمة

750 ص؛ .. سم

ردمك 3 - 151 - 35 - 9960 (مجموعة)

x -152 - 35 - 9960 (ج 7)

1 -

الحديت- سنن

2 -

الحديث- شرح

3 -

الحديث- تخريج

أ- العنوان

ديوي 5، 253

2022/ 19

رقم الإيداع: 2022/ 19

ردمك: 3 - 151 - 35 - 9960 (مجموعة)

x -153 - 35 - 9960 (ج 7)

دار آل بروم للنشر والتوزيع

المملكة العربية السعوديّة- مكّة المكرّمة- المكتب الرئيسي التنعيم

ص ب: 4145 - (تلفاكس 5211545 - جوّال 055541026)

ص: 3

شرح

سنن النسائي

ص: 4

‌12 - أوَّلُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على أول وقت صلاة المغرب.

519 -

أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ:"أَقِمْ مَعَنَا هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ، فَأَمَرَ بِلَالاً، فَأَقَامَ عِنْدَ الْفَجْرِ، فَصَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ أَمَرَهُ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَمَرَهُ حِينَ رَأَى الشَّمْسَ بَيْضَاءَ، فَأَقَامَ الْعَصْرَ، ثُمَّ أَمَرَهُ حِينَ وَقَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَمَرَهُ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، فَأَقَامَ الْعِشَاءَ، ثُمَّ أَمَرَهُ مِنَ الْغَدِ، فَنَوَّرَ بِالْفَجْرِ، ثُمَّ أَبْرَدَ بِالظُّهْرِ، وَأَنْعَمَ أَنْ يُبْرِدَ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ، وَأَخَّرَ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ، ثُمَّ أَمَرَهُ، فَأَقَامَ الْعِشَاءَ حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، فَصَلاَّهَا، ثُمَّ قَالَ: "أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ؟ وَقْتُ

ص: 5

صَلَاتِكُمْ مَا بَيْنَ مَا رَأَيْتُمْ".

رجال الإسناد: ستة

1 -

(عمرو بن هشام) الحَرَّاني، أبو أمية، ثقة، توفي سنة 245، من [10]، أخرج له النسائي، تقدم في 141/ 222.

2 -

(مَخْلدَ بنُ يزيد) القرشي الحَرَّاني، صدوق له أوهام، توفي سنة 193، من كبار [9]، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.

3 -

(سفيان الثوري) بن سعيد بن مسروق أبو عبد الله الكوفي، ثقة حجة، من [7]، تقدم في 33/ 37.

4 -

(علقمة بن مَرْثَد) -بفتح الميم، وسكولت الراء- الحضرمي، أبو الحارث الكوفي، ثقة، من [6]، أخرج له الجماعة، تقدم في 101/ 133.

5 -

(سليمان بن بُرَيدَة) بن الحُصَيب الأسلمي المروزي قاضيها، ثقة، توفي لسنة 105 عن 90 سنة، من [3]، أخرج له مسلم والأربعة، تقدم في 101/ 133.

6 -

(بريدة بن الحُصَيب) بمهملتين مصغرا- الأسلمي صحابي أسلم قبل بدر، مات سنة 63، أخرج له الجماعة، تقدم في 101/ 133. والله تعالى أعلم.

ص: 6

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف.

ومنها: أن رجاله ثقات اتفقوا عليهم إلا شيخه، فمن أفراده، وسليمان فلم يخرج له البخاري.

ومنها: أن فيه رواية الراوي عن أبيه.

ومنها: أن فيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة من صيغ الأداء. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن سليمان بن بريدة، عن أبيه) بريدة بن الحصيب رضي الله عنه، أنه (قال: جاء رجل) لم يسم (إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن وقت الصلاة) أريد به جنس الصلاة، أي الصلوات الخمس (فقال) صلى الله عليه وسلم (أقم معنا هذين اليومين) أي لتتعلم أوقات الصلاة، أوائلها، وأواخرها، إذ المشاهدةُ أقوى من السمع (فأمر بلالًا) هو ابن رَبَاح الصحابي الجليل رضي الله عنه، أي بالأذان، فمفعول "أمر" محذوف (فأقام) أي بعد الأذان، ولمسلم "أمر بلالًا مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم، فأذن، ثم أمره فأقام"(عند الفجر) أي عند أول طلوع الفجر، هذه الرواية صريحة في كونه بدأ بالفجر، وهي رواية الترمذي، من طريق إسحاف الأزرق عن الثوري، عن علقمة، ورواية مسلم من طريق حَرَمِيّ ابن عُمَارة، عن شعبة، عن علقمة، وله من طريق إسحاق الأزرق، عن سفيان، عن علقمة، أنه بدأ بالظهر، فالظاهر أن الاختلاف

ص: 7

من تصرف الرواة (فصلى الفجر، ثم أمره) أي بلالًا بالأذان فأذن (حين زالت الشمس) عن بطن السماء (فصلى الظهر، ثم أمره حين رأى الشمس بيضاء) أي لم تختلط بها صفرة، ولمسلم "فأقام العصر، والشمس بيضاء نقية"، والمراد أنه في أول وقت العصر (فأقام العصر) أي أقام بلال بعد الأذان لصلاة العصر (ثم أمره حين وقع حاجب

الشمس) أي حين غاب وسقط حاجب الشمس، أي طرفها الذي بغيبته تغيب الشمس كلها.

وقال في الزهر: قيل هو طرف قرص الشمس الذي يبدو عند الطلوع، ويغيب عند الغروب، وقيل: النَّيَازِك التي تبدو إذا كان طلوعها، وفي "الصحاح": حواجب الشمس: نواحيها. اهـ. والنَّياَزِك جمع نَيْزَك بفتح فسكون: الرمح القصير.

(فأقام المغرب) فيه أنه صلاها في أول وقتها (ثم أمره حين غاب الشفق، فأقام العشاء) فيه أيضًا أنه صلاها في أول وقتها.

(ثم أمره من الغد) أي اليوم الثاني (فَنوَّر بالفجر) من التنوير، يقال: نَوَّرت بالفجر تنويرًا: صليتها في النُّور، فالباء للتعدية، مثل أسفرت به، وغَلَّست به. قاله في "المصباح". والمراد أنه صلاها في حالة الإسفار (ثم أبرد بالظهر) أي صلى الظهر في البرد، يقال: أبْرَدَ بالظهر: إذا أدخل صلاة الظهر في البرد، وهو سكون شدة الحر. فالباء للتعدية. أفاده في "المصباح".

ص: 8

وقال الخطابي رحمه الله: الإبراد أن يَتَفَيَّأ الأفْياء، ويَنكَسر وَهَجُ الحر، فهو بَرْدٌ بالإضافة إلى حر الظهيرة. ذكره الطيبي (وأنَعم أن يبرد) أي أطال الإبراد، وأخر الصلاة، ومنه قولهم: أنعم النظر في الشيء: إذا أطال التفكر فيه. قاله ابن الأثير في النهاية.

والمعنى أنه أخر الظهر، وبالغ في التأخير، وفي حديث أبي موسى الآتي (523)، ثم أخر الظهر إلى قريب من وقت العصر بالأمس، فتبين به أن المراد تأخيره إلى قبيل صيرورة الظل مثليه

(ثم صلى العصر، والشمس بيضاء) جملة في محل نصب على الحال (وأخر عن ذلك) جملة سيقت لإزالة ما قد يُتَوَهَّم أن بياض الشمس المذكور هنا هو البياض الذي تقدم في بيان وقت العصر في اليوم الأول، حيث قال هناك "حين رَأى الشمسَ بيضاء"، فبَيَّن أنه أخرها عن ذلك الوقت. فاسم الإشارة راجع إلى وقت العصر بالأمس، ومفعول "أخر" ضمير محذوف لكونه فضلة.

(ثم صلى المغرب قبل أن يغيب الشفق) يعني أنه صلاها في آخر الوقت، وفيه حجة على الشافعي ومالك القائلَين بأن للمغرب وقتًا واحدًا، وسيأتي تحقيق الخلاف في بابه، إن شاءَ الله تعالى (ثم أمره، فأقام العشاء، حين ذهب ثلث الليل) أي أمر بلالًا أن يؤذن ويقيم لصلاة العشاء ففعل ذلك (ثم) بعد ما أذن وأقام (صلاها) أي صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء.

ص: 9

(ثم قال) صلى الله عليه وسلم (أين السائل عن وقت الصلاة) ولمسلم "فقال الرجل: أنا يا رسول الله"(وقت صلاتكم ما بين ما رأيتم) مبتدأ وخبر، فـ"وقت" مبتدأ مضاف إلى "صلاتكم"، و"ما"، اسم موصول بالظرف، في محل رفع خبر المبتدإ، و"بين" منصوب على الظرفية متعلق بصلة "ما"، ويحتمل أن تكون "ما" الأولى زائدة، كما هي رواية مسلم، و"بين" مضاف إلى "ما" الموصولة الثانية، وجملة "رأيتم" صلة "ما" الثانية، والتقدير: وقت صلاتكم: هو الذي استقر بين الوقت الذي رأيتموه، يعني أن الوقت المختار للصلوات الخمس، بين الوقت الذي صليناها فيه في اليوم الأول، والوقت الذي صليناها فيه في اليوم الثاني، أي مع إدخال الوقت الذي صلى فيه في اليومين، فيكون بيانًا بالفعل والقول.

وإنما قلنا: الوقت المختار، لأنه يجوز التأخير بعد ذلك لأدلة أخرى، كتأخير العصر ما لم تغرب الشمس، وتأخير العشاء إلى نصف الليل على الراجح، أو إلى الفجر على رأي الجمهور، وتأخير صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس.

وقال النووي رحمه الله: هذا خطاب للسائل وغيره، وتقديره: وقت صلاتكم في الطرفين اللذين صليت فيهما، وفيما بينهما، وترك ذكر الطرفين بحصول علمهما بالفعل، أو يكون المراد ما بين الإحرام بالأولى والسلام من الثانية. اهـ شرح مسلم جـ 5 ص 114، 115. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 10

مسائل تتعلق بهذا الحديث

الأولى: في درجته:

حديث بريدة رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر الصنف له:

أخرجه هنا (519)، وفي "الكبرى"(1515)، عن عمرو بن هشام، عن مَخْلدَ بن يزيد، عن سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجه؛ فأخرجه مسلم في "الصلاة" عن زهير بن حرب، وأبي قُدَامة عبيد الله بن سعيد، كلاهما عن إسحاق الأزرق، عن سفيان الثوري، وعن إبراهيم بن محمد بن عَرْعَرَةَ، عن حَرَمِيّ بن عُمَارَة، عن شعبة- كلاهما عن علقمة بن مرثد به.

وأخرجه الترمذي فيه عن أحمد بن مَنِيع، والحسن بن الصَبَّاح البَزَّار، وأحمد بن محمد بن موسى، ثلاثتهم عن إسحاق الأزرق به.

وأخرجه ابن ماجه فيه عن محمد بن الصباح، وأحمد بن سِنَان- كلاهما، عن إسحاق الأزرق به، وعن علي بن ميمون عن مخلد بن يزيد به.

وأخرجه ابن حبان في "صحيحه"، والبيهقي في "الكبرى". والله تعالى أعلم.

ص: 11

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما بوب عليه المصنف؛ وهو بيان أول وقت المغرب؛ وهو غروب الشمس، حيث صلى في اليوم الأول حين غربت الشمس، وهذا مجمع عليه.

ومنها: وجوب الاهتمام بتعلم أحكام الدين، ولا سيما ما يتعلق بالصلاة.

ومنها: بيان أن للصلاة وقت فضيلة، ووقت اختيار.

ومنها: أن وقت المغرب يمتد إلى غيبوبة الشفق.

ومنها: البيان بالفعل، لأنه أبلغ في الإيضاح، والفعل تعم فائدته السائل وغيره.

ومنها: جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة، وهو مذهب جمهور الأصوليين، كما قاله النووي.

ومنها: جواز تأخير الصلاة عن أول وقتها، وترك فضيلة أول الوقت لمصلحة راجحة. قاله النووي في "شرح مسلم " جـ 5 ص 114. والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، إليه أنيب.

ص: 12

‌13 - تَعْجِيلُ الْمَغْرِبِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على استحباب التعجيل بصلاة المغرب في أول وقتها.

520 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ حَسَّانَ بْنَ بِلَالٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَغْرِبَ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى أَهَالِيهِمْ إِلَى أَقْصَى الْمَدِينَةِ، يَرْمُونَ وَيُبْصِرُونَ مَوَاقِعَ سِهَامِهِمْ.

رجال الإسناد: ستة

1 -

(محمد بن بشار) بن عثمان العَبْدي البصري، أبو بكر بُنْدَار، ثقة، توفي سنة 252، من [10]، أخرج له الجماعة، تقدم في 24/ 27.

2 -

(محمد) بن جعفر الهُذَليّ المعروف بغُنْدَر، ثقة صحيح الكتاب إلا أن فيه غَفْلَةً، توفي سنة 193، أو 194، من [9]، أخرج له الجماعة، تقدم في 21/ 22.

3 -

(شعبة) بن الحجاج البصري، حجة ثبت، من [7]، تقدم في 24/ 26.

ص: 13

4 -

(أبو بشر) بن أبي وَحْشيَّةَ -بفتح الواو، وسكون الحاء المهملة، وكسر المعجمة، وتثقيل التحتانية- جعفر بن إياس اليشكري الواسطي بصري الأصل، ثقة، من [5].

قال علي بن المديني: سمعت يحيى بن سعيد يقول: كان شعبة يضعف أحاديث أبي بشر عن حبيب بن سالم. وقال أحمد: أبو بشر أحب إلي من المنْهَال، قلت: من المنهال؟ قال: نعم شديدًا، أبو بشر أوثق. قال أحمَد: كان شعبة يقول: لم يسمع أبو بشر من حبيب بن سالم، وقال أيضًا: كان شعبة يضعف حديث أبي بشر عن مجاهد، قال: لم يسمع منه شيئًا.

وقال ابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والعجلي، والنسائي: ثقة. وقال ابن معين: طَعَنَ عليه شعبة في حديثه عن مجاهد، قال: من صحيفة. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به.

وقال البرديجي: كان ثقة، وهو من أوثق الناس في سعيد بن جبير. وقال مُطَيَّن: مات سنة 123، وقال نوح بن حبيب: سنة 124، وكان ساجدًا خلف المقام حين مات، قال خليفة وابن سعد وغيرهما: سنة 125، وقال ابن البراء عن ابن المديني: سنة 126، وقال ابن حبان في الثقات: مات في الطاعون سنة 131، أخرج له الجماعة. والله تعالى أعلم.

تنبيه:

أبو بشر هو جعفر كما ذكرنا، وأما ما قاله البهكلي في شرحه

ص: 14

للنسائي من أنه بيان بن بشر الأحمسي فغير صحيح، لأنه صرح في تهذيب الكمال بما قلناه، ولأنهم لم يعدوا ممن يروي عن حسان بن بلال بيان بن بشر، انظر "تهذيب الكمال" جـ 4 ص 14.

5 -

(حسان بن بلال) المُزَني البصري، صدوق، من [3]، روى عن عمار بن ياسر، وحكيم بن حزام، ويزيد بن قتادة العَنَزِي، ورجل من أسلم له صحبة.

وعنه قتادة، وأبو بشر، وأبو قلابة، وأبو أمية عبد الكريم بن أبي المُخَارق، ويحيى بن أبي كثير، ومَطَر الوَرَّاق. وأخرج له الترمذي وابن ماجه حديثًا في تخليل اللحية في الوضوء، والمصنف هذا الحديث فقط، وأنكر البخاري، وابن عيينة سماع عبد الكريم. وقال ابن المديني: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يروي عن عمار إن كان سمع منه، وقال ابن حزم: مجهول، لا يعرف له لقاء عمار. قال الحافظ: وقوله: مجهول، قول مردود، فقد رَوَى عنه جماعة، كما ترى، ووثقه ابن المديني، وكفى به. اهـ أخرج له الترمذي، والمصنف، وابن ماجه.

6 -

(رجل من أسلم) من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لم يُسَمَّ. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف.

ومنها: أن رجاله ثقات، اتفقوا عليهم إلا حسانًا، فانفرد به هو،

ص: 15

والترمذي، وابن ماجه، وإلا الصحابي، فانفرد هو به.

ومنها: أنه مسلسل بالبصريين.

ومنها: أن صحابيه مجهول، لكن جهالة الصحابى لا تضر، إذا صح السند إليهم، لكونهم عدولًا.

فروى البخاري عن الحميدي قال: إذا صح الإسناد عن الثقات إلى رجل من الصحابة فهو حجة، وإن لم يُسَمَّ ذلك الرجل، وقال الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل: إذا قال رجل من التابعين: حدثني رجل من الصحابة، ولم يسمه، فالحديث صحيح؟ قال: نعم.

وسَمَّى هذا النوع البيهقي مرسلًا، قال العلائي: وليس بجيد، اللهم إلا إن كان يسميه مرسلًا، ويجعله حجة كمراسيل الصحابة، فهو قريب. وقيد الصيرفي هذا النوع بما إذا صرح التابعي بالسماع من الصحابي المبهم، وأبى أن يحتج بالمعنعن، واختاره الحافظ السيوطي في "ألفية الأثر"؛ حيث قال:

وَرَجَلٌ منَ الصَّحَابِي وَأبَى

الصَّيْر في مُعَنْعَنا وَلْيُجْتَبى

قال العلامة أحمد شاكر في تعليقته على الألفية: هذا القيد غير جيد عندي، لأنه يرجع إلى حكم المعنعن، فإن كان الراوي معروفًا بالتدليس، أو لم يعاصر من رَوَى عنه كانت روايته منقطعة، فكذا ما هنا؟ وإن كان الراوي غير مدلس، وقد عاصر من رَوَى عنه كانت روايته بالعنعنة محكومًا باتصالها، ومحتجًا بها. انتهى كلام أحمد شاكر ص 28. والله تعالى أعلم.

ص: 16

شرح الحديث

(عن رجل من أسلم، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أنهم) أي الصحابة (كانوا يصلون مع نبي الله صلى الله عليه وسلم المغرب ثم يرجعون إِلى أهاليهم) جمع أهل، قال المجد: أهلُ الرجل: عَشيرته، وذوو قُرْبَاهُ، جمعه أهْلُون، وأهَالٍ، وآهَالٌ، وأهْلَاتٌ، ويحركَ. اهـ "ق"، والمراد أنهم يرجعون إلى عشائرهم (إِلى أقصى المدينة) بدل من الجار والمجرور قبله، أو "إلى" بمعنى "في"، فيكون الجار والمجرور متعلقًا بمحذوف صفة لـ"أهاليهم".

(يرمون) بسهامهم للتعلم، أو للعب، والجملة في محل نصب على الحال من الضمير في "يرجعون"(ويبصرون) من الإبصار، أي ينظرون (مواقع سهامهم) أي مواضع وقوع سهامهم، و"السهام" بالكسر جمع سَهْم بفتح فسكون، وهو واحد النَّبْل، وقيل: نفس النَّصل، قاله في "المصباح". والنَّبْل- بفتح فسكون: السِّهام، وقيل: السهام العربية، وهي مؤنثة، لا واحد لها من لفظها، فلا يقال: نَبْلَة، وإنما يقال: لسَهْم، ونُشَّابَةٌ، وقال بعضهم: واحدتها: نَبْلَة، والصحيح أنه لا واحد لها، إلا السهم. قاله في "اللسان".

والجملة في محل نصب عطف على جملة الحال.

والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم كان يُبَكِّر بصلاة المغرب، فكان الصحابة الذين يصلون معه يرجعون إلى أقصى المدينة عند أهليهم، وهم يرمون

ص: 17

بسهامهم، وينظرون إلى أماكن وقوعها، لشدة الضوء. والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث حسان بن بلال هذا عن رجل من أسلم له صحبة صحيح.

وهو من أفراد المصنف، أخرجه هنا (520) بالسند المذكور فقط.

المسألة الثانية: أنه جاءت أحاديث بمعنى حديث الباب؛ ففي الصحيحين من حديث رافع بن خَدِيج رضي الله عنه، قال:"كنا نصلي المغرب مع النبي صلى الله عليه وسلم، فينصرف أحدنا، وإنه ليبصر مواقع نَبْله"، ولأبي داود من حديث أنس رضي الله عنه بسند صحيح، قال:"كنا نصلي المغرب، مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم نرمي، فَيَرَى أحدُنا موضع نبله".

وروى أحمد في مسنده من طريق علي بن بلال، عن ناس من الأنصار، قالوا:"كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، ثم نرجع، فنترامى حتى نأتي ديارنا، فما يخفى علينا مواقع سهامنا". قال الحافظ: إسناده حسن.

وللشيخين من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: "كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا توارت بالحجاب"، ولفظ مسلم "إذا غربت الشمس، وتوارت بالحجاب". والله تعالى أعلم.

ص: 18

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من تعجيل صلاة المغرب عقيب غروب الشمس، بحيث إنه إذا فرغ منها كان الضوء باقيًا.

قال ابن المنذر رحمه الله: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن التعجيل بصلاة الغرب أفضل، وكذلك نقول. اهـ الأوسط جـ 2 ص 369.

وقال النووى في "المجموع ": قد ذكرنا إجماعهم على أن أول وقتها غروب الشمس، وحكى الماوردي، وغيره عن الشيعة أنهم قالوا: لا يدخل وقتها حتى يشتبك النجوم، والشيعة لا يعتد بخلافهم. اهـ جـ 3 ص 34.

وقال في شرح مسلم عند شرح حديث سلمة ورافع رضي الله عنهما السابقين: وفي هذين الحديثين أن المغرب تعجل عقيب غروب الشمس، وهذا مجمع عليه، وأما الأحاديث السابقة في تأخير المغرب إلى قرب سقوط الشفق، فكانت لبيان جواز التأخير، كما سبق إيضاحه، فإنها كانت جواب سائل عن الوقت، وهذان الحديثان إخبار

عن عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتكررة التي واظب عليها، إلا لعذر، فالاعتماد عليها. والله أعلم. اهـ جـ 5 ص 136.

ومنها: شدة حرص الصحابة رضي الله عنهم في الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانت ديارهم بعيدة عن مسجده.

ص: 19

ومنها: إباحة الرمي بالنبل والسهام لتعلم وسائل الحرب، فقد ورد الترغيب في تعلمه، أخرج مسلم وغيره من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول، وهو على المنبر:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]: ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي"، وأخرج أحمد، وأصحاب السنن من حديثه أيضًا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وارموا، واركبوا، وأن ترموا خير من أن تركبوا". والله تعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، إليه أنيب.

ص: 20

‌14 - تَأخِيرُ الْمَغْرِبِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على تأخير صلاة المغرب.

الظاهر أن المصنف يستدل على تأخير المغرب بحديث أبي بصرة هذا، لكنه غير صحيح.

بل المراد بطلوع الشاهد الكناية عن غروب الشمس، لأن بغروبها ظهوره، كما يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.

521 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ خَيْرِ بْنِ نُعَيْمٍ الْحَضْرَمِيِّ، عَنِ ابْنِ هُبَيْرَةَ، عَنْ أَبِي تَمِيمٍ الْجَيْشَانِيِّ، عَنْ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْعَصْرَ بِالْمُخَمَّصِ، قَالَ:"إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ عُرِضَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَضَيَّعُوهَا، وَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَهَا، حَتَّى يَطْلُعَ الشَّاهِدُ".

وَالشَّاهِدُ النَّجْمُ.

رجال الإسناد: سته

1 -

(قتيبة) بن سعيد البَغْلاني أبو رَجاء، ثقة ثبت، تقدم في 1/ 1.

ص: 21

2 -

(الليث) بن سعد أبو الحارث الفَهْمي المصري ثقة ثبت فقيه، من [7]، تقدم في 31/ 35.

3 -

(خير بن نعيم) بن مُرَّة بن كُرَيب الحَضْرَمي أبو نعيم، ويقال: أبو إسماعيل المصري قاضي برقة، صدوق فقيه توفي سنة 137، من [6]، أخرج له مسلم، وأبو داود في "مراسيله"، والنسائي.

روى عن عبد الله بن هُبَيرة، وسهل بن معلى بن أنس وأبي الزبير، وعطاء، وغيرهم.

وعنه عمرو بن الحارث، وابن لَهِيعَة، والليث، ويزيد بن أبي حبيب، وسعيد بن أبي أيوب في آخرين.

قال أبو زرعة: صدوق، لا بأس به، وقال أبو حاتم: صالح، وقال ضمام بن إسماعيل، عن يزيد بن أبي حبيب: ما أدركت من قُضَاة مصر أفقه منه. وقال ابن يونس: توفي سنة 137، ووثقه المصنف، وابن حبان، وله في مسلم حديث الباب فقط، وعند المصنف هذا، وحديث في قوله تعالى:{وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر، آية: 2].

والحضرمي: بفتح أوله، والر اء، وسكون المعجمة- نسبة إلى والحضرمي، بلد بأقصى اليمن، وقبيلة. قاله في لب اللباب جـ 1 ص 249.

4 -

(ابن هبيرة) هو عبد الله بن هبيرة بن أسعد بن كهلان،

ص: 22

السَّبائي -بفتح المهملة، والموحدة، ثم همزة مقصورة- الحضرمي، أبو هبيرة المصري، ثقة، من [3].

قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة. وقال أبو داود: معروف. وذكره ابن حبان في "الثقات".

ووثقه يعقوب بن سفيان، وفي صحيح مسلم من طريق ابن إسحاق: حدثني يزيد بن أبي حبيب عن خير بن نعيم الحضرمي، عن عبد الله بن هُبيرة السَّبِئيّ، وكان ثقة. وقال ابن يونس: ولد سنة الجماعة

(1)

، ومات سنة 126 عن 85 سنة، أخرج له مسلم والأربعة. والله تعالى أعلم.

تنبيه:

هذا الذي ترجمت عليه هذين الاسمين: خير بن نعيم، وابن هبيرة، هو الذي في النسخة الهندية، وهو الصواب الموافق لما في "صحيح مسلم" جـ 6 ص 113 بشرح النووي، وهو الذي في "تحفة الأشراف" جـ 3 ص 84، ووقع في النسخة المصرية: خالد بن نعيم، عن ابن جبيرة بالجيم والباء مصغرًا- وهو تصحيف، كما نبه عليه الحافظ المنذري، ونقله عنه السيوطي في زهر الربى جـ 1 ص 259، لكنه وقع عنده أيضًا تصحيف في الاسم الثاني، فقال: عن أبي هبيرة، والصواب: عن ابن هبيرة. فتنبه والله تعالى ولي التوفيق.

5 -

(أبو تميم الجيشاني) عبد الله بن مالك بن أبي الأسْحَم-

(1)

يعني سنة صلح الحسن ومعاوية سنة (41).

ص: 23

بمهملتين- مشهور بكنيته، المصري، يمني الأصل، ثقة مخضرم، من [2].

وْلِدَ هو، وأخوه يوسف في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهاجر زمن عمر.

قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد: كان من أعبد أهل مصر، وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال أبو يونس: قرأ القرآن على معاذ باليمن، وشهد فتح مصر، وذكره يعقوب ين سفيان في جملة الثقات عن أهل مصر، وقال العجلي: مصري تابعي ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة، ومات قديمًا. وذكره

الدولابي في الصحابة من "كتاب الكنى"، قال الحافظ: ولعل ذلك لإدراكه.

وقال ابن يونس. مات سنة 77، أخرج له مسلم، وأبو داود في "القدر"، والترمذي والمصنف، وابن ماجه، قال الحافظ: لم يُعَلِّم له المزي علامة البخاري، وقد أخرج له أثرًا من رواية أبي الخير اليَزَنيّ عنه، وهو في الصلاة، وقد ذكره المزي في "الأطراف" في ترجمة أبي الخير، عن عقبة بن عامر. اهـ. تت جـ 5 ص 379 - 380.

والجَيْشاني: بفتح أوله، والمعجمة: نسبة إلى جيشان قبيلة من اليمن، وموضع. اهـ. "لب" جـ 1 ص 229.

6 -

(أبو بَصْرَة الغفاري) بفتح الموحدة وسكون الصاد- حُمَيل ابن بَصْرة بن أبي بصرة، وَقَّاص بن حاجب بن غِفار، رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي ذر. وعنه عمرو بن العاص، وأبو هريرة، وأبو

ص: 24

الخير مرثد اليزني، وعبيد بن جبير، وعبد الرحمن بن شُماَسة، وأبو تميم الجيشاني، وغيرهم. قال ابن يونس: شهد فتح مصر، واخْتَطَّ بها، ومات بها ودفن في مقبرتها.

واختلف في اسمه، فقيل: حَمِيل بفتح الحاء، قاله الدراوردي في روايته، وذكر ابن المديني عن بعض الغفاريين أنه تصحيف، وذكر البخاري أنه وَهَم، وقيل: حُمَيل بالضم، وعليه الأكثر، وصححه ابن المديني، وابن حبان، وابن عبد البر، وابن ماكولا، ونقل الاتفاق عليه، وغيرهم.

وقيل: جَميل بالجيم، قاله مالك في حديث أبي هريرة حين خرج إلى الطور، وذكر البخاري وابن حبان أنه وَهَم، وقيل: اسمه زيد، حكاه البارودي، وقيل فيه: بَصْرَة بن أبي بصرة، كأنه قلب. روى له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم، وأبو داود، والنسائي. والله أعلم اهـ. تت جـ 3 ص 56.

قال مصعب الزبيري: لحميل، وبصرة، وجده أبي بصرة صحبة. اهـ الإصابة جـ 1 ص 293.

والغقاري: بالكسر، وتخفيف الفاء، وراء: نسبة إلى غفار بن مليك بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. اهـ لب

جـ 2 ص 134. والله تعالى أعلم.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف.

ص: 25

ومنها: أن رواته كلهم ثقات.

ومنها: أنه مسلسل بالمصريين، إلا شيخه، فبغلاني.

ومنها: رواية تابعي عن تابعي: ابن هبيرة، عن أبي تميم.

ومنها: أن خير بن نعيم، وابن هُبَيرة، وأبا تَمِيم، وأبا بَصْرة، هذا الباب أول محل ذكرهم.

ومنها: أن فيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة من صيغ الأداء، وكلها للاتصال، على الراجح في "عن" إن لم تصدر من مدلس. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن خير بن نعيم الحضرمي، عن) عبد الله (بن هبيرة) هذا هو الصواب، ووقع في النسخة المصرية: عن خالد بن نعيم، عن ابن جبيرة، وهو تصحيف، كما مر آنفًا (عن أبي تميم الجيشاني) عبد الله ابن مالك (عن أبي بصرة الغفاري) حُمَيل -مصغرًا- ابن بصرة على الصحيح، أنه (قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) صلاة (العمر بالمخمص) بميم مضمومة، وخاء معجمة مفتوحة، ثم ميم مفتوحة مشددة، وقيل. بميم مفتوحة، وخاء ساكنة، وميم مكسورة بعدها، وفي آخرها صاد مهملة: اسم موضع معروف اهـ. "شرح مسلم" جـ 6 ص 113، و"مرقاة المفاتيح" جـ 3 ص 476.

وفي "ق" وشرحه جـ 4 ص 390. والمَخْمِص، كَمَنْزِل، وضبطه

ص: 26

الصاغاني، كمَقعَد: اسم طريق في جبل عَيْرٍ إلى مكة حرسها الله تعالى.

وقد جاء ذكره في الحديث، قال أبو صَخْرٍ الْهُذَلِيّ (من الطويل):

فَجَلَّلَ ذَا عَيْرٍ وَوَالَى

(1)

رِهَامُهُ

وَعَن مَخمِصِ الْحَجَّاجِ لَيْسَ بِنَاكبِ

انتهى.

وعند أحمد من طريق ابن لهيعة عن ابن هُبَيرة صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في واد من أوديتهم، يقال له المخمص صلاة العصر

(قال:) ولمسلم "فقال"، ولأحمد "فلما انصرف قال"(إِن هذه الصلاة) أي صلاة العصر (عرضت) بالبناء للمفعول، يقال: عَرَضَ عليه الشيءَ: أراه إِيَّاه، اهـ. "ق".

(على من كان قبلكم) أي من اليهود، والنصارى. قاله القاري.

(فضيعوها) أي ما قاموا بحقها، وما حافظوا على مراعاتها، فأهلكهم الله تعالى، فاحذروا أن تكونوا مثلهم، ولذا قال تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] أي العصر على الصحيح، خصت بالمحافظة. قاله القاري.

(1)

جمع رِهَمة بالكسر: المطر الضعيف الدائم اهـ. "ق".

ص: 27

وفي رواية لأحمد "فَتَوَانَوْا فيها، وتَرَكُوها"

(ومن حافظ عليها) ولمسلم "فمن حافظ" بالفاء، ولأحمد "فمن صلاها منكم"(كان له أجره مرتين) إحداهما للمحافظة عليها، خلافًا لمن قبلهم، والثانية أجر عمله كسائر الصلوات. قاله الطيبي. أو أجر للمحافظة على العبادة، وأجر لترك البيع والشراء بالزهادة، فإن وقت العصر كان زمان سوقهم، وأوان شغلهم، وقال ابن حَجَرٍ الهَيْتَمِيّ-: مرةً لفضلها، لأنها الوسطى، ومرة للمحافظة عليها، ومشاركة بقية الصلوات لها في هذا لا يؤثر في تخصيصها بمجموع الأمرين اهـ. "المرقاة" جـ 3 ص 139.

قال الجامع: ما قاله الطيبي أقرب، والله أعلم.

(ولا صلاة بعدها) أي بعد صلاة العصر (حتى يطلُع الشاهد) بضم اللام، يقال: طَلَعتِ الشمس، طُلُوعًا، من باب قَعَدَ، ومَطْلَعِاَ، بفتح اللام، وكسرها، وكل ما بدا لك من علو، فقد طلع عليك. وهو كناية عن غروب الشمس، لأن لغروبها يظهر الشاهد.

(والشاهد النجم) مبتدأ وخبر. سمي شاهدًا، لأنه يَشْهَدُ بالليل، ويَحْضُر، ومنه قيل لصلاة المغرب صلاة الشاهد. ويجوز أن يحمل على الاستعارة، شُبِّهَ النجمُ عند طلوعه على وجود الليل بالشاهد الذي يَثبتُ به الدعاوِي. قاله الطيبي رحمه الله. ذكره في "المرقاة".

ص: 28

وفي لسان العرب: ورَوَى شَمرِ في حديث أبي أيوب الأنصاري

(1)

: أنه ذكر صلاة العصر، ثم قال: ولا صلاة بعدها حتى يُرَى الشاهد، قال: قلنا لأبي أيوب: ما الشاهد؟ قال: النجم، كأنه يَشْهَدُ في الليل، أي يَحْضُرُ، وَيْظهَرُ، وصلاةُ الشاهد: صلاة المغرب، وهو اسمها، قال شَمِر: هو راجع إلى ما فسره أبو أيوب أنه النجم.

وقال غيره: وتسمى هذه الصلاة صلاة البَصَرِ، لأنه تبصر في وقته نجوم السماء، فالبَصَرُ يدرك رؤية النجم، ولذلك قيل له: صلاة البصر.

وقيل في صلاة الشاهد: إِنَّها صلاة الفجر، لأن المسافر يُصَلّيها كالشاهد، لا يَقْصُرُ منها، قال (من الرجز):

فَصَبَّحَتْ قَبْلَ أَذَانِ الأوَّلِ

تيْمَاءَ وَالصُّبْحُ كَسَيْفِ الصَيْقَلِ

قَبْلَ صَلاة الشَّاهِدِ الْمُسْتَعْجِلِ

ورُويَ عن أبي سعيد الضرير أنه قال: صلاة المغرب تسمى شاهدًا، لاستواء المقيم والمسافر فيها، وأنها لا تقصر. انتهى "لسان" جـ 4 ص 2349.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحق عندي: أنه عَنَى بقوله: "حتى يطلع الشاهد" غروب الشمس، وذلك لأن ظهور النجم

(1)

يأتي قريبًا ذكر حديث أبي أيوب.

ص: 29

ورؤيته لا يكون إلا بغروبها. وهذا لا ينافي النصوص السابقة أنه صلى الله عليه وسلم صلى المغرب بغروب الشمس.

فيتبين بهذا: أن استدلال المصنف رحمه الله تعالى بالحديث على تأخير المغرب غير واضح، لأن تأخيرها لا يكون إلا إذا انتشرت الكواكب وأضاءت، وليس ذلك معنى الحديث، بل هو نص في الطلوع، والطلوع لا يستلزم التأخير، بل يوجد في أول الغروب.

فيكون معنى الحديث موافقًا للأحاديث الأخرى التي بينت صلاته صلى الله عليه وسلم حين غروب الشمس، ولو كان معنى الحديث على ما ذهب إليه المصنف لكان الحديث نصًا في عدم جواز صلاة المغرب إلا إذا تأخر

الوقت حتى تنتشر النجوم وتشتبك، لأن قوله:"ولا صلاة" نفي لصحة الصلاة، وهذا خلاف الأحاديث الصحيحة الصريحة، في أن وقت صلاة المغرب يدخل بمجرد غروب الشمس. وأيضًا تأخير المغرب إلى ذلك الوقت ممنوع لحديث أبي أيوب، وعقبة بن عامر مرفوعًا:"لا تزال أمتي بخير" -أو قال: "على الفطرة"- "ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم". رواه أبو داود، وأحمد بسند صحيح.

وذكر العلامة السندي رحمه الله عند قوله: "حتى يطلع الشاهد": أن هذا كناية عن غروب الشمس، لأن بغروبها يظهر الشاهد، والمصنف حمله على تأخير المغرب، وهو بعيد، لأن غاية الأمر جواز

ص: 30

التأخير، لا وجوبه، ولو حمل الحديث عليه لأفاد الوجوب، فليتأمل. اهـ. جـ 1 ص 260. والله تعالى أعلم.

تنبيه:

قوله: "والشاهِدُ النجم"، يحتمل أن يكون مرفوعًا، كما هو ظاهر رواية مسلم. والمصنف، ويحتمل أن يكون مدرجًا من أحد الرواة، ويدل عليه ما في المسند، قال عبد الله بن أحمد: حدثني أبي، ثنا يحيى ابن إسحاق، قال: أخبرني ابن لَهِيعة، أنا عبد الله بن هُبَيرة، قال: سمعت أبا تميم الجَيْشَاني، عن أبَي بَصْرَة الغِفَارِي، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في واد من أوْديَتِهِمْ يقال له: المخمص صلاة العصر، فقال:"إن هذه الصلا صلاةَ الَعَصر عُرِضَت على الذين من قبلكم، فضيعوها، ألا ومن صلاها ضعف له أجره مرتين، ألا ولا صلاة بعدها حتى تَرَوُا الشاهدَ".

قلت لابن لهيعة: ما الشاهد؟ قال: الكوكب؛ الأعرابُ يُسَمُّون الكوكب شاهد الليل. اهـ. "المسند" جـ 6 ص 397.

فهذا يدل على أن التفسير من ابن لهيعة. وفيه ابن لهيعة؛ وهو متكلم فيه.

وما أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"، قال: حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نَجْدَة الحوطي، ثنا أحمد بن خالد الوَهْبي، ثنا محمد ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي تميم الجيشاني، عن أبي أيوب الأنصاري، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الصلاة -يعني العصر-

ص: 31

فرضت على من كان قبلكم، فضيعوها، فمن حافظ منكم اليوم عليها، أعطي أجرها مرتين، ولا صلاة بعدها حتى يُرَى الشاهد"، يعني النجم. فالظاهر أنه مدرج، وفيه عنعنة ابن إسحاق. والله أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان موضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا عن قتيبة، عن الليث، عن خير بن نعيم، عن عبد الله ابن هبيرة، عن أبي تميم الجيشاني عنه، فقط.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه مسلم في "الصلاة" عن قتيبة، عن ليث -وعن زهير بن حرب، عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب- كلاهما عن خير بن نعيم به.

وأخرجه أحمد في مسنده، وابن حبان في "صحيحه"، والطبراني في "المعجم الكبير".

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: عظم شأن صلاة العصر، حيث إنها عرضت على الأمم السابقة، وأمروا بالمحافظة عليها.

ص: 32

ومنها: فضيلة هذه الأمة حيث قامت بالمحافظة على صلاةٍ لم يَقُم بها مَن تقدمها من الأمم، وهذا فضل من الله تعالى وتوفيق.

ومنها: مضاعفة الأجر لمن حافظ عليها مرتين.

ومنها: تحريم الصلاة بعدها إلى أن تغرب الشمس، وسيأتي تفصيل المسألة في هذا التحريم في بابه إن شاء الله تعالى.

"إن أريد الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 33

‌15 - آخِرُ وَقْتِ الْمَعْرِبِ

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على آخر وقت صلاة المغرب.

522 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أَيُّوبَ الأَزْدِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ شُعْبَةُ: كَانَ قَتَادَةُ يَرْفَعُهُ أَحْيَانًا، وَأَحْيَانًا لَا يَرْفَعُهُ، قَالَ:"وَقْتُ صَلَاةِ الظُّهْرِ مَا لَمْ تَحْضُرِ الْعَصْرُ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ، وَوَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ ثَوْرُ الشَّفَقِ، وَوَقْتُ الْعِشَاءِ مَا لَمْ يَنْتَصِفِ اللَّيْلُ، وَوَقْتُ الصُّبْحِ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ".

رجال الإسناد: ستة

1 -

(عمرو بن علي) بن بَحْر بن كُنَيز -بنون وزاي- أبو حَفْص الفَلاس الصَّيْرَفي الباهلي البصري ثقة حافظ، توفي سنة 249، من [10]، أخرج له الجماعة، تقدم في 4/ 4.

2 -

(أبو داود) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسي البصري، ثقة حافظ، غَلِطَ في أحاديث، توفي سنة 204، من [9]، أخرج له

ص: 34

البخاري تعليقًا ومسلم والأربعة، تقدم في 343.

3 -

(شعبة) بن الحجاج أبو بِسْطَامَ الواسطي، ثم البصري، ثقة حجة، من [7]، تقدم في 24/ 26.

4 -

(قتادة) بن دِعامَةَ بن قتادة السَّدُوسي، أبو الخطاب البصري، ثقة ثبت، يقال: وُلِدَ أكْمَهَ، وهو رأس الطبقة [4]، توفي سنة بضع عشرة ومائة، أخرج له الجماعة، تقدم في 30/ 34.

5 -

(أبو أيوب الأزدي) المَرَاغي العَتَكِيّ البصري، اسمه يحيى، ويقال: حبيب بن مالك، ثقة، من [3].

يقال: إن المراغي نسبة إلى قبيلة من الأزد، ويقال: إلى موضع بناحية عمان.

رَوَى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وسَمُرَة بن جُندُب، وأبي هريرة، وابن عباس، وجُوَيرية بنت الحارث.

وعنه ثابت البناني، وقتادة، وأبو عمران الجَوْني، وأسلم العجلي، وأبو الواصل عبد الحميد بن واصل، قال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم: توفي في ولاية الحجاج على العراق، وقال خليفة: مات بعد سنة 80، وقال العجلي: بصري تابعي ثقة.

وقال ابن سعد في الطبقة الثانية: كان ثقة مأمونًا. أخرج له

ص: 35

البخاري، ومسلم، وأبو داود، والمصنف، وابن ماجه.

6 -

(عبد الله بن عمرو) بن العاص بن وائل بن هاشم بن سُعَيد

(1)

ابن سَعْد بن سَهْم السهمي أبو محمد، وقيل: أبو عبد الرحمن، أحد السابقين المكثرين من الصحابة، وأحد العبادلة الفقهاء، مات في ذي الحجة لَيَالِيَ الحَرَّة على الأصح بالطائف على الراجح، أخرج له الجماعة، تقدم في 89/ 111. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف.

ومنها: أن رجاله ثقات، اتفقوا عليهم، إلا أبا أيوب الأزدي، فما أخرج له الترمذي.

ومنها: أنه مسلسل بالبصريين.

ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي: قتادة، عن أبي أيوب الأزدي.

ومنها: أن أبا أيوب، هذا الباب أول محل ذكره من الكتاب.

ومنها: أن صحابيه أحد العبادلة الأربعة المذكورين في قول صاحب الألفية:

وَالْبَحْرُ وَاَبْنَا عمَرٍ وَعَمْرِو

وَابنُ الزّبَيرِ فِي اشْتِهَارٍ يَجْرِي

دُونَ ابنِ مَسْعُودٍ لهُمْ عبَادِلَهْ

وَغَلَّطوا من غَيْرَ هذا مَال لَهْ

(1)

بالتصغير.

ص: 36

شرح الحديث

(عن عبد الله بن عمرو) رضي الله عنهما (قال شعبة) بن الحجاج (كان قتادة) بن دعامة (يرفعه) أي يرفع هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم (أحيانًا) جمع حين، أي في بعض الأوقات (وأحيانًا لا يرفعه) ولمسلم من طريق أبي عامر العقدي، ويحيى بن أبي بُكَير، قال شعبة: رفعه مرة، ولم يرفعه مرتين.

والمعنى أن قتادة رَوَى هذا الحديث عدَّةَ مرات، ففي بعضها يرويه مرفوعًا، وفي بعضها موقوفًا، ومثل هذا لا يضر في صحة الحديث، كما سيأتي تحقيقه في المسائل إن شاء الله تعالى.

(قال) النبي صلى الله عليه وسلم (وقت صلاة الظهر: ما لم تحضر العصر)"ما" مصدرية ظرفية، كما في قوله تعالى:{مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31] أصله: مدة عدم حضور العصر، فحذف الظرف، وخلفته "ما" وصلتها، كما جاز في المصدر الصريح، نحو جئتك صلاةَ العصر، وآتيك قُدُومَ الحاج، قاله العلامة ابن هشام في مغنيه جـ 2 ص 6 بحاشية الأمير، فـ"وقت" متبدأ خبره "ما لم تحضر العصر"، تقديره: وقت صلاة الظهر كائن مدة عدم حضور وقت العصر.

وفي رواية لمسلم "وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله، ما لم يحضر العصر"، فقوله:"ما لم يحضر العصر" بيان، وتأكيد لقوله:"وكان ظل الرجل كطوله".

ص: 37

وقوله: "إذا زالت الشمس" بيان لأول وقتها. وقوله: "وكان ظل الرجل كطوله" بيان لآخر وقتها، والمعنى أن وقت الظهر يدخل بزوال الشمس، ويستمر إلى أن يصير ظل الرجل مثل طوله.

وهذا الحديث يدل على أنه لا فاصلة بين وقت الظهر والعصر، ولا اشتراك بينهما، بل متى خرج وقت الظهر دخل وقت العصر، وإذا دخل وقت العصر لم يبق شيء من وقت الظهر، وأما حديث جبريل الذي يدل على الاشتراك، فقد تقدم الجواب عنه، ويدل أيضًا على أنه لا كراهة في تأخير الظهر إلى آخر الوقت.

(ووقت العصر ما لم تصفرِّ الشمسُ) مبتدأ وخبر، و"تصفرّ"- بكسر الراء، ويجوز فتحها

(1)

بفتح الراء، ويجوز كسرها، يعني أنه يدخل وقت العصر بما تقدم، ويستمر من غير كراهة مدة عدم اصفرار الشمس، فإذا اصفرت صار وقتَ كراهة، وتكون أيضًا أداءً حتى تغرب الشمس، للحديث السابق "ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر".

وفي هذا الحديث رَدّ على أبي سعيد الإصطخري رحمه الله تعالى في قوله: إذا صار ظل الشيء مثليه صارت العصر قضاء. قاله النووي في شرح مسلم جـ 5 ص 110.

(ووقت المغرب ما لم يسقط) أي لم يغب (ثور الشفق) بفتح الثاء المثلثة، وسكون الواو: أي انتشاره، وثوران حمرته، من ثَارَ

(1)

سيأتي الكلام في ضبط هذه الراء في "المسألة السادسة".

ص: 38

الشيءُ يَثُور: إذا انتشر، وارتفع. قال ابن منظور رحمه الله: والثَّوْرُ: حُمْرَةُ الشفق الثائرةُ فيه، وفي الحديث "صلاة العشاء الآخرة: إذا سقط ثور الشفق" وهو انتشار الشفَقِ، وثَوَرَانُهُ: حُمْرَتُهُ، ومُعْظَمُهُ، ويقال: قد ثَارَ يَثُور، ثَوْراَ، وثَوَرَانًا: إذَا انتشر في الأفق، وارتفع، فإذا غاب

حلت العشاء الآخرة، وقال في المَغْرِب: ما لم يسقط ثور الشفق، اهـ. لسان العرب جـ 1 ص 521.

ولأبي داود "فور الشفق" بالفاء المفتوحة، أي بقية حمرة الشمس، في الأفق الغربي، وسمي فورًا، لسُطُوعه وحمرته. قال العراقي: صحفه بعضهم بالنون، ولو صحت الرواية لكان له وجه. اهـ المنهل جـ 3 ص 303.

وفيه رد على من يقول: إن للمغرب وقتًا واحد، وهو عقيب غروب الشمس بقدر ما يتطهر، ويستر عورته، ويؤذن، ويقيم، وسيأتي تحقيق الكلام فيه في المسائل إن شاء الله تعالى.

(ووقت العشاء ما لم ينتصف الليل) وإعرابه كسابقه، يعني أن وقت صلاة العشاء يدخل بغروب الشفق، ثم يمتد إلى نصف الليل. وفيه دليل على أن آخر وقت العشاء نصف الليل، وقد ثبت في الحديث الآخر تحديده بثلث الليل، لكن أحاديث النصف صحيحة، فيجب العمل بها.

واحتج به أبو سعيد الإصطخري على أن وقت العشاء إلى نصف الليل فقط، وعند غيره محمولا على بيان وقت الاختيار، وأما وقت الجواز، فيمتذ إلى طلوع الفجر، لما رَوَى أبو قتادة مرفوعًا "إنما التفريط

ص: 39

على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى".

قال الحافظ رحمه الله: عموم حديث أبي قتادة مخصوص بالإجماع في الصبح، فللإصطخري أن يقول: إنه مخصوص بالحديث المذكور، وغيره من الأحاديث في العشاء، قال: ولم أر في امتداد وقت العشاء إلى طلوع الفجر حديثًا صريحًا يثبت اهـ: فتح الباري جـ 2 ص 62.

قال الجامع: سيأتي تحقيق الخلاف مع ترجيح رأي الإصطخري ومن تبعه في محله إن شاء الله تعالى.

(ووقت الفجر ما لم تطلع الشمس) يعني أن وقت صلاة الفجر يدخل بطلوع الفجر، ويستمر مدة عدم طلوع الشمس. وهذا بالإجماع، الا ما رُوِي عن ابن القاسم، وبعض أصحاب الشافعي من أن آخر وقت الفجر الإسفار، كما قاله ابن رشد في "بدايته" جـ 1 ص 97 وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا (522) وفي "الكبرى"(1500) عن عمرو بن علي، عن

ص: 40

أبي داود الطيالسي، عن شعبة، عن قتادة، عن أبي أيوب الأزدي عنه. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه مسلم وأبو داود، فأخرجه مسلم في "الصلاة" عن عبيد الله ابن معاذ، عن أبيه- وعن زهير بن حرب، عن أبي عامر العَقَدي- وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يحيى بن أبي بُكَير- ثلاثتهم عن شعبة- وعن أبي غَسَّان مالك بن عبد الواحد المسْمَعيّ، ومحمد بن المثنى، كلاهما عن مُعَاذ بن هشام، عن أبيه- وعنَ أحمد بن إبراهيم الدَّوْرَقي، عن عبد الصمد، عن همام- وعن أحمد بن يوسف الأزدي، عن عمر بن عبد الله بن رَزين، عن إبراهيم بن طَهْمَان، عن حجاج بت حجاج- أربعتهم عن قتَادة، عن أبي أيوب عنه.

وفي حديث العَقَدِي، وابن أبي بكير، قال شعبة: رفعه مرة، ولم يرفعه مرتين.

وأخرجه أبو داود فيه عن عبيد الله بن معاذ به. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما بوب له المصنف رحمه الله، وهو بيان آخر المغرب، وهو غروب الشفق الأحمر وهذا هو القول المختار، كما يأتي في المسألة التالية، إن شاء الله تعالى.

ومنها: بيان آخر وقت الظهر، وأنه لا فصل بين الظهر والعصر، ولا اشتراك بينهما على الراجح، كما مر بيانه.

ص: 41

ومنها: بيان آخر وقت العصر، وهو اصفرار الشمس، وهذا هو وقت الاختيار، على الراجح، كما مر في بابه.

ومنها: بيان آخر وقت العشاء، وهو نصف الليل، على المختار، كما يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

ومنها: بيان آخر وقت الصبح، وهو طلوع الشمس، وهذا بالإجماع، إلا قولًا لا يعتد به، كما يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

المسألة الخامسة: في ذكر مذاهب العلماء في آخر وقت المغرب:

اختلفوا في المغرب هل لها وقت مُوَسَّع كسائر الصلوات، أو لا؟

فذهب قوم إلى أن وقتها واحد، غير موسع، وهذا هو أشهر الروايات عن مالك، والشافعي.

وذهب قوم إلى أن وقتها موسع، وهو ما بين غروب الشمس إلى غروب الشفق. وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، وأبو ثور، وداود، وقد روي هذا القول عن مالك، والشافعي.

وسبب اختلافهم في ذلك معارضة حديث إمامة جبريل في ذلك لحديث عبد الله بن عمرو، وذلك أن في حديث إمامة جبريل أنه صلى المغرب في اليومين في وقت واحد، وفي حديث عبد الله بن عمرو قال:"ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق"، فمن رجح حديث إمامة جبريل جعل لها وقتًا واحدًا، ومن رجح حديث عبد الله جعل لها وقتًا

ص: 42

موسعًا، وحديث عبد الله أخرجه مسلم، ولم يخرج الشيخان حديث إمامة جبريل، وفي معنى حديث عبد الله بن عمرو حديثُ بريدة الأسلمي، أخرجه مسلم، وقد تقدم للمصنف (519) قالوا حديث بريدة أولى، لأنه كان بالمدينة عند سؤال السائل له عن أوقات الصلوات، وحديثُ جبريل كان في أول الفرض بمكة. أفاده ابن رشد

في "بدايته" جـ 1 ص 95 - 96.

قال الجامع: وفي قوله: "كان بمكة" نظر، يأتي تحقيقه قريبًا.

وقال النووي رحمه الله تعالى في المجموع: أما حكم المسألة، فأول وقت المغرب إذا غربت الشمس وتكامل غروبها، وهذا لا خلاف فيه، نقل ابن المنذر، وخلائق لا يحصون الإجماعَ فيه

(1)

، قال أصحابنا: والاعتبار سقوط قرصها بكماله، وذلك ظاهر في الصحراء، قال الشيخ أبو حامد، والأصحاب: ولا نَظَرَ بعد تكامل الغروب إلى بقاء

شعاعها، بل يدخل وقتها مع بقائه، وأما في العمران، وقُلَلِ الجبال، فالاعتبار بأن لا يُرَى شيء من شعاعها على الجدران، وقُلَلِ الجبال.

وأما آخر وقت المغرب فالمشهور في مذهبنا أن لها وقتًا واحدًا، وهو أول الوقت، والصحيح أن لها وقتين يمتد ثانيهما إلى غروب الشفق. وممن قال بالوقتين أبو حنيفة، والثوري، وأحمد، وأبو ثور،

(1)

وقد تقدم نقل مخالفة الشيعة في ذلك، ولكن لم يعدوه لضعفه.

ص: 43

وإسحاق، وداود، وابن المنذر. وممن قال بوقت واحد الأوزاعي، ونقله أبو علي السنجي في "شرح التلخيص" عن أبي يوسف، ومحمد

(1)

، وأكثر العلماء.

وعن مالك ثلاث روايات:

الصحيحة منها، وهي المشهورة في كتب أصحابه وأصحابنا: إنه ليس لها إلا وقت واحد، ولم ينقل ابن المنذر عنه غيرها.

والثانية: وقتان إلى مغيب الشفق.

والثالثة: يبقى إلى طلوع الفجر، ونقله ابن المنذر عن طاوس، وعطاء.

قال رحمه الله: نص الشافعي رحمه الله في كتبه المشهورة -الجديدة والقديمة- أنه ليس لها إلا وقت واحد، وهو أول الوقت، ونقل أبو ثور عن الشافعي أن لها وقتين، الثاني منهما ينتهي إلى مغيب الشفق. هكذا نقله عنه القاضي أبو الطيب، وغيره.

قال القاضي: والذي نص عليه الشافعي في كتبه أنه ليس لها إلا وقت واحد، وهو أول الوقت، وقال صاحب الحاوي: حكى أبو ثور عن الشافعي في القديم: أن لها وقتين، يمتد ثانيهما إلى مغيب الشفق، وقال: فمن أصحابنا من جعله قولًا ثانيًا، قال: وأنكره جمهورهم،

(1)

لكن المعروف عنهما أنهما يقولان بقول الجمهور. والله أعلم.

ص: 44

لأن الزعفراني، وهو أثبت أصحاب القديم حكَى عن الشافعي أن للمغرب وقتًا واحدًا.

واختلف أصحابنا المنصفون في المسألة على طريقين:

أحدهما: القطع بأن لها وقتًا واحدًا فقط، وبهذا قطع صاحب المهذب، والمحاملي، وآخرون من العراقيين، ونقله صاحب الحاوي عن الجمهور.

والثاني: على قولين: أحدهما هذا، والثاني يمتد إلى مغيب الشفق، وله أن يبدأ بالصلاة في كل وقت من هذا الزمان، وبهذا الطريق قطع أبو إسحاق في التنبيه، وجماعات من العراقيين، وجماهير الخراسانيين، وهو الصحيح، لأن أبا ثور ثقة إمام، ونقل الثقة مقبول، ولا يضره كون غيره لم ينقله، ولا كونه لم يوجد في كتب الشافعي،

وهذا مما لا شك فيه.

فعلى هذا الطريق اختلف في أصح القولين، فصحح جمهور الأصحاب القول الجديد، وهو أنه ليس لها إلا وقت واحد، وصحح جماعة القديم، وهو أن لها وقتين، وممن صححه من أصحابنا أبو بكر ابن خزيمة، وأبو سليمان الخطابي، وأبو بكر البيهقي، والغزالي في إحياء علوم الدين، وفي درسه، والبغوي في التهذيب، ونقله الروياني

في الحلية عن أبي ثور، والمزنيِّ، وابن المنذر، وأبي عبد الله الزبيري، قال: وهو المختار، وصححه أيضًا العجلي، والشيخ أبو عمرو بن الصلاح.

قال النووي: قلت: هذا القول هو الصحيح، لأحاديث صحيحة:

ص: 45

منها: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وقت المغرب ما لم يَغب الشَّفَقُ"، وفي رواية "وقت المغرب إذا غابت الشمس ما لم يسقطَ الشَفق"، وفي رواية:"وقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق" رواه مسلم بهذه الألفاظ كلها.

وعن أبي موسى الأشعري في بيان النبي صلى الله عليه وسلم مواقيت الصلاة، قال:"ثم أخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق"، رواه مسلم، وهو الآتي للمصنف (523).

وعن بريدة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب في اليوم الثاني قبل أن يغيب الشفق" رواه مسلم، ومضى للمصنف (519) وعن أبي قتادة "ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى" رواه مسلم.

قال: فإذا عُرِفَت الأحاديثُ الصحيحةُ تعين القول به جزمًا، لأن الشافعي نص عليه في القديم، كما نقله أبو ثور، وعلق القول به في "الإملاء" على ثبوت الحديث، وقد ثبت الحديث، بل أحاديث، و"الإملاء" من كتب الشافعي الجديدة، فيكون منصوصًا عليه في القديم، والجديد، وهذا كله مع القاعدة العامة التي أوصى بها الشافعي رحمه الله أنه إذا صح الحديث على خلاف قوله، يُتركُ قوله، ويُعمَل بالحديث، وأن مذهبه ما صح فيه الحديث، وقد صح الحديث، ولا معارض له، ولم يتركه الشافعي إلا لعدم ثبوته عنده،

ص: 46

ولهذا علق القول به في الإملاء على ثبوت الحديث. وبالله التوفيق.

وأما حديث صلاة جبريل عليه السلام في اليومين في وقت واحد، فجوابه من ثلاثة أوجه:

أحسنها، وأصحها: أنه إنما أراد بيان وقت الاختيار، لا وقت الجواز، فهكذا هو في أكثر الصلوات، وهي العصر، والعشاء، والصبح، وكذا المغرب.

والثاني: أن حديث جبريل مقدم في أول الأمر بمكة، وهذه الأحاديث متأخرة بالمدينة، فوجب تقديمها في العمل.

قال الجامع عفا اللة عنه: هذا الوجه ضعيف، لأن حديث جبريل من جملة من رواه أبو هريرة وجابر بن عبد الله، كما تقدم، وهما من أهل المدينة، وقد قدمنا أن الراجح تعدد القصة، فلا يمكن أن يكون منسوخًا، بل الوجه الأول هو الصواب في الجواب، ويليه الوجه الثالث الآتي، فتبصر. والله أعلم.

والثالث: أن هذه الأحاديث أقوى من حديث جبريل، لوجهين: أحدهما أن رواتها أكثر. والثاني أنها أصح إسنادًا، ولهذا خرجها ممسلم في صحيحه، دون حديث جبريل، وهذا لا شك فيه.

فحصل أن الصحيح المختار أن للمغرب وقتين: يمتد ما بينهما إلى مغيب الشفق، ويجوز ابتداؤها في كل وقت من هذا.

ص: 47

فعلى هذا لها ثلاثة أوقات: وقت فضيلة واختيار؛ وهو أول الوقت. والثاني: وقت جواز؛ وهو ما لم يغب الشفق. والثالث: وقت عذر؛ وهو وقت العشاء في حق من جمع لسفر أو مطر.

وقد نقل أبو عيسى الترمذي عن العلماء كافة، من الصحابة فمن بعدهم، كراهة تأخير المغرب. اهـ. مجموع، بنوع اختصار جـ 3 ص 29 - 31.

قال الجامع عفا الله عنه: فاتضح بهذا كله كون أرجح المذاهب هو مذهب من قال بأن آخر وقت المغرب هو غروب الشفق الأحمر، لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة في ذلك، وإنما أطلت في نقل كلام النووي رحمه الله، لكونه تحقيقًا بليغًا في عدم التعصب لقول الإمام الشافعي المنصوص عليه في كثير من كتبه واتفق عليه معظم أصحابه، أنه لا وقت لها إلا واحد. فرأيت هذا الإمام أعطى المسألة حقها، ولم يُحَابِ فيها، واعتذر عن إمامه بعدم صحة الحديث عنده، أو بأن ما روي عنه من موافقة الجمهور هو الصحيح.

وهكذا يجب على المسلم أن يكون مع الحق حيثما كان، ولا يهاب إلا الحق، وإن خالفه جل الناس، ويعتذر عن الأئمة الذين خالفوه بوجه من وجوه الأعذار الصحيحة، وياليت أصحاب المذاهب اتبعوا هذا، فإن هذا هو منشأ ائتلاف كلمتهم وتوحيد صفوفهم، وكونهم يدًا واحدة على أعداء الإسلام، ولا يتفرقون تفرق أهل الأهواء الزائغة،

ص: 48

وهذا هو وصيةُ الأئمة لأتباعهم، وليس وصيةً للشافعي فقط، إلا أن أتباعهم ما عملوا بوصاياهم إلا من وفقه الله، قاتل الله التعصب.

ولله در العلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني رحمه الله، حيث يقول (من الطويل):

عَلامَ جَعَلْتُمْ أيُّها النَّاسُ دِيننَا

لأرْبَعَةٍ لا شَكَّ فِي فَضْلِهِمْ عِنْدِي

هُمُ عُلَمَاءُ الدِّينِ شَرْقًا وَمَغْربًا

وَنُورُ عُيُونِ الْفَضْلِ وَالْحَق وَالزُّهْدِ

وَلَكِنَّهمْ كالنَّاسِ لَيْسَ كلامُهُمْ

دَلِيلًا وَلا تَقْلِيدُهُمْ فِي غَدٍ يُنْجِي

وَلا زَعَمُوا -حَاشَاهُمْ- أنَّ قَوْلَهُمُ

دَلِيلٌ فَيَسْتَهْدِي بِهِ كُلُّ مُسْتَهْدِي

بَلَى صَرَّحُوا أنَّا نُقَابِلُ قَوْلَهُمْ

إذَا خَالَفَ الْمَنْصُوصَ بالْقَدْحِ وَالرَّدِّ

اللهم أرنا الحق حقًّا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه. آمين.

المسألة السادسة: في قوله: "ما لم تصفر الشمس" حكاية مَلِيحَة أحببت إيرادها هنا لكونها ظريفة، مستحسنة، مشتملة على أحكام حركات الفعل المضارع المضعف الآخِرِ، وأمره، لكثرة تكرره في الأحاديث، مثل هذا الحديث:

قال العلامة ابن حمدون رحمه الله في "حاشيته" على شرح المكودي لألفية ابن مالك في "باب الإدغام"، ما نصه:

(تتمة) حكاية جرت عادتهم بذكرها هنا، لمناسبتها، نَقَلَها صاحبُ

ص: 49

"الأنيس المطرب" عن الفقيه البوعصامي في ترجمته، وذلك أن بعضهم سأل الفقيه المذكور عن حركة آخر الفعل المضارع المجزوم المضعف الآخر، وعن الأمر منه، نحو لم يَشُدّ، وشُدّ؟ فقال: إن لهذه المسألة قصةً اتفقت للراعي رحمه الله مع بعض أصحابه.

قال الراعي: كان لي صاحب في خواص الملك، فسألني يومًا عن الفعل المضارع المجزوم المضعف، وعن الأمر منه؟ فلما شرعت في الجواب، فَهِمتُ منه، كأنه إنما سألني مختبرًا ما عندي، وأنه غير محتاج إلى جوابي، فسكت عنه، فأعاد السؤال مرارًا، فحلفت يمينًا مغلظة أن لا أخبره حتى ينزل من موضع عال، هو به، ويقعد على الأرض وسط المدرسة من غير حائل بينه، وبين الأرض، ويخضع لي، كما يخضع الصبي لمؤدبه، وإلا فهؤلاء العلماء فيهم كفاية عني في هذه المسألة وغيرها.

فردد رحمه الله الأمر في نفسه مرارًا، وأطرق، ثم قال: لا بأس بالذل في طلب العلم، فإنه عِزّ على الحقيقة، ثم فعل ما طُلب منه، والطَّلَبَةُ ينظرون.

فقلت: يا عبد الله لم تجئني هذه المسألة رَخِيصَة، وسأحدثك كيف استوفيتها:

اعلم أني رحلت يومًا لشيخنا وسيدنا أبي الحسن علي بن محمد الأندلسي الغُرْنَاطي رحمه الله، وكان فقيرًا مُقِلًا، وكان أبوه، وأخوه

ص: 50

يعيشان من نقل الحطب على حمارين لهما، وكان أبي تاجرًا في سوق القُمَاش.

فكنت أخدم الشيخ خدمة العبيد الناصحين، فأتيت له صبيحة يوم بارد، فقلت: هل من حاجة؟ قال: نعم، ليس عندنا ماء، ثم أخرج إليّ سَطلًا من نحاس وقُلَّة يسعان أربعين رطلًا من الماء، والماء من بيته على مسافة بعيدة، فأتيت بنحو اثني عشر نَقْلَة حتى امتلأ الزِّير

(1)

، وجميع أواني الدار.

ثم سلمت عليه، وأردت الخروج، وأنا في غاية التعب، قد ابْتَلَّتْ ثيابي، وامتلأت بالطين، وأنا أرتعد من البرد، فلما رأى ما بي، قال: اقعد حتى أعطيك مسألة جليلة، فقعدت معه.

فقال: ذكر صاحب الدار

(2)

المكنون إنه وصل رجل إلى أشبيلية يقصد قراءة الحديث على أبي بكر الحافظ، فلما قرأ عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"ما لم تصفر الشمس"، وفي الحلقة جماعة من الطلبة، فيهم أبو بكر الشلوبين، فقال الشيخ: كيف تضبطون الراء من قوله: "ما لم تصفر الشمس"، فقالوا بأجمعهم بالفتح، ما عدا أبا بكر، فإنه بقي ساكتًا.

فأنشد الشيخ:

أورَدَها سَعدٌ وَسَعْدٌ مُشْتَمِلْ

مَا هَكَذَا يا سَعْدُ تورَدُ الإِبلْ

(1)

الزِّيرُ بالكسر: الدَّنُّ. اهـ "ق".

(2)

هكذا الدار ولعله الدُّرّ المكنون.

ص: 51

ثم التفت إلى أبي بكر، وقال: ما تقول أنت؟

فقال: إن العرب على ثلاث فِرَقٍ، مُتْبِعُون، وكاسرون، وفاتحون.

فالمتبعون، يتبعون الحرف المضعف لحركة الحرف الذي قبله؛ فإن كانت ضمة ضموه، نحو: لم يردُّ، ورُدُّ، وإن كانت فتحة، أو ألفًا فتحوا، نحو: لم يَعَضَّ، وعَضَّ، وقوله تعالى:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233]، وإن كانت كسرة كسروه، نحو لم يفرّ، وفرّ يا عمرو، إلا في ثلاث مواضع، فإنهم لا يتبعون لما قبله:

أحدهما: إذا اتصل بالفعل ضمير مذكر غائب، فإن المتبعين إنما يتبعون لحركة الضمير، فيقولون: لم يَفِرُّهُ، وفِرُّهُ، بضم الراء فيهما، ولم يَعَضُّهُ، بضم الضاد، وعليه يخرج قوله تعالى:{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] إن قلنا: إن "لا ناهية"، لا نافية.

ثانيها: إذا اتصل بالفعل ضمير مؤنث غائب، نحو رُدَّهَا، ولم يَرُدَّهَا، وفرها، بفتح الحرف المدغم فيه اتباعًا لحركة الهاء، وإنما أتبعوا حركة الهاء في الموضعين لخفة الهاء، فلم يعتدوا بها فاصلًا، فكأن الضمةَ باشرت واو الصلة، والفتحةَ باشرت ألف الصلة.

ثالثها: إن لقي آخرَ الفعل ساكنٌ من كلمة أخرى، لامُ تعريف، أو غيرُها، فيرجع المتبعون هنا للكسر، نحو غُضِّ الطرفَ، وعليه

ص: 52

يقال: "ما لم تصفرِّ الشمس" بكسر الراء، لا غير.

والفرقة الثانية: الكاسرون؛ يَكسرُون آخرَ الفعل مطلقًا على أصل التقاء الساكنين، فيقولون: ردِّ زيدًا، ولم يردّ، بكسر الدال فيهما، فعلى هذه اللغة، إنما يقال:"ما لم تصفرّ" بالكسر أيضًا، وهذه اللغة لغة كعب، ونمير.

والفرقة الثالثة: الفاتحون، وهم على قسمين: فُصَحاء، وغير فصحاء، فالفصحاء ينتقلون إلى الكسر إذا عارضهم ساكن من كلمة أخرى، فيقولون مُدِّ الحبل، وشُدِّ الرَّحْلَ، بكسر المدغم فيه منها، فيقال حينئذ:"ما لم تصفر" بالكسر أيضًا، وغير الفصحاء لا يزالون على أصلهم من الفتح، ولو لقي آخرَ الفعل ساكنٌ؛ وعليه فيقال: "ما لم

تصفرَّ" بفتح الراء، وعليه فجميع العرب يكسرون آخر الفعل إذا لقيه ساكن، إلا غير الفصحاء، ممن لغتهم الفتح، فإنهم يفتحونه.

فلما فرغ الشلوبين، أنشد الشيخ (من الخفيف):

ذُو المَعَالِي فَلْيَعْلُوَنْ مَنْ تعالَى

هَكذَا هَكَذا وإِلاَّ فلَا لَا

وقد نظم هذا التفصيل العلامة القاضي الولي الصالح أبو العباس سيدي أحمد بن الحاج، فقال (من الرجز):

إِنْ جُزِمَ الْفِعْلُ الَّذِي قَدْ شُدِّدَا

آخِرُهُ كَلا تُضَرَّ أَحَدَا

ص: 53

فَاكسِرهُ مُطلَقًا لِقَوْمٍ وافْتَحَا

لآخَرِينَ ثُمَّ إِنَّ الفصَحَا

مِن هَؤلاءِ حَيثُ يَلْقَى ساكِنًا

يَأْتُون بالْكَسْرِ كسُرِّ الْحَزَنَا

ثَالِثَةُ اللغَاتِ أن يُتبعَ مَا

يَلي فَإِثرَ ضَمَّةِ لَهُ اضْمُمَا

وَافتَحْهُ بَعْد فَتْحَةٍ أوْ أَلِفِ

وبَعْدَ كسْرَةٍ لَهُ الْكَسْرُ يَفِي

إِلا بنَحْوِ مُسَّهُ وَفِرَّهُ

فَالضَّمُّ عِندَهُمْ كَلا تُمرَّهُ

وَنَحْوُ رُدَّها وَحُبَّهَا افتَحَا

لِصِلَةٍ وَخِفَّةٍ قَدْ أُوضِحا

وَنَحْوُ غُضِّ الطَّرْفَ غضِّ الَلحْمَا

فَاكسِرة للسَّاكنِ فابغِ الْعِلْمَا

انتهى، "الفتح الودودي على المكودي" جـ 2 ص 206/ 207 وبالله التوفيق، وعليه التكلان، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

523 -

أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَأَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، عَنْ بَدْرِ بْنِ عُثْمَانَ، قَالَ إِمْلَاءً عَلَيَّ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَائِلٌ، يَسْأَلُهُ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا، فَأَمَرَ بِلَالاً، فَأَقَامَ بِالْفَجْرِ حِينَ انْشَقَّ، ثُمَّ أَمَرَهُ، فَأَقَامَ بِالظُّهْرِ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، وَالْقَائِلُ يَقُولُ: انْتَصَفَ النَّهَارُ؟، وَهُوَ أَعْلَمُ، ثُمَّ أَمَرَهُ، فَأَقَامَ بِالْعَصْرِ، وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ، ثُمَّ أَمَرَهُ، فَأَقَامَ

ص: 54

بِالْمَغْرِبِ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ أَمَرَهُ، فَأَقَامَ بِالْعِشَاءِ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، ثُمَّ أَخَّرَ الْفَجْرَ مِنَ الْغَدِ حِينَ انْصَرَفَ، وَالْقَائِلُ يَقُولُ: طَلَعَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ بِالأَمْسِ، ثُمَّ أَخَّرَ الْعَصْرَ، حَتَّى انْصَرَفَ، وَالْقَائِلُ يَقُولُ: احْمَرَّتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ، حَتَّى كَانَ عِنْدَ سُقُوطِ الشَّفَقِ، ثُمَّ أَخَّرَ الْعِشَاءَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ، ثُمَّ قَالَ:"الْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ".

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(عبدة بن عبد الله) الصَّفَّار الخُزَاعي، أبو سَهْل البصري، كوفي الأصل، ثقة، من [11].

قال أبو حاتم: صدوق، وقال النسائي: ثقة، ووثقه الدارقطني، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مستقيم الحديث. مات بالأهواز سنة 258، وقيل بالبصرة سنة 257، أخرج له البخاري، والأربعة.

2 -

(أحمد بن سليمان) بن عبد الملك، أبو الحسين الرُّهَاوِيّ، ثقة حافظ، توفي سنة 261، من [11]، انفرد به النسائي، تقدم في 38/ 42.

ص: 55

3 -

(أبو داود) الحَفَري عُمَر بن سَعْد بن عبيد، ثقة عابد، من [9]، أخرج له مسلم والأربعة، والحَفَري بفتح المهملة والفاء نسبة إلى موضع بالكوفة.

قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال الدوري: سمعت ابن معين قَدَّمَ أبا داود على قبيصة وأبي أحمد ومحمد بن يوسف في حديث سفيان، وقال وكيع: إن كان يدفع بأحد في زماننا، فبأبي داود.

وقال ابن المديني: لا أعلم أني رأيت بالكوفة أعبد منه.

وقال أبو حاتم: صدوق، كان رجلا صالحا. وقال الآجري عن أبي داود: كان جليلًا جدًّا.

قال ابن سعد: كان ناسكًا زاهدًا، له فضل، وتواضع. وقال ابن حبان في "الثقات": كان من العباد الخُشُن. قال عثمان بن أبي شيبة. كنا في غرفته، وهو يُمْلِي، فلما فرغ، قلت له: أترب الكتاب؟ قال: لا، الغرفة بالكراء. وقال العجلي: كان رجلا صالحًا متعبدًا، حافظًا لحديثه، ثبتًا، وكان فقيرا متعففًا، والذي ظهر له من الحديث: ثلاثة

آلاف، أو نحوها، وكان أبو نعيم يأتيه، ويعظمه، وكان لا يُتِمُّ الكلام من شدة توقيه، ولم يكن بالكوفة بعد حسين الجعفي أفضل منه.

وقال ابن وضاح: كان أبو داود ثقة أزهد أهل الكوفة، قال: وسمعت محمد بن مسعود يقول: هو أحب إلي من حسين الجعفي، وكلاهما ثقة. قال أحمد، وابن معين: مات سنة 203، وفيها أرخه

ص: 56

جماعة، زاد ابن سعد في جمادى الأولى بالكوفة.

وقال بعضهم: سنة 206 وهو خطأ. أخرج له مسلم والأربعة. والله تعالى أعلم.

تنبيه:

هذا الذي ذكرته من كون أبي داود هنا هو الحَفَري هو الصواب لأن المصنف صرح به في "السنن الكبرى"، ووقع عند الحافظ المزي في "تحفة الأشراف" جـ 6 ص 469 أنه أبو داود الطيالسي، وهو وهم، وقد نبه عليه الحافظ في "النكت الظراف". فتنبه. والله أعلم.

4 -

(بدر بن عثمان) الأموي مولاهم الكوفي، ثقة، من [6]، أخرج له مسلم والنسائي وابن ماجه في التفسير.

قال ابن معين: ثقة. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال العجلي، والدارقطني: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال أبو العباس بن شريح في كتاب الرد على ابن أبي داود: بدر بن عثمان ليس بالمشهور.

5 -

(أبو بكر بن أبي موسى) الأشعري، اسمه عمر، أو عامر، ثقة، من [3].

قال الآجري: قلت لأبي داود: سمع من أبيه؟ قال: أرَاه قد سمع.

وأبو بكر أرضى عندهم من أبي بردة، وكان يذهب مذهب أهل الشام، جاءه أبو غادية الجهني قاتِل عمار، فأجلسه إلى جانبه، وقال: مرحبًا بأخي. وقال محمد بن عَبد الله بن نمير: كان أكبر من أبي بردة. وقال:

ص: 57

مات في ولاية خالد بن عبد الله.

وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان اسمه كنيته، مات في ولاية خالد، ومن زعم أن اسمه عامر فقد وَهِمَ؛ عامر اسم أبي بردة.

وقال عبد الله بن أحمد في "العلل": قلت لأبي: فأبو بكر بن أبي موسى سمع من أبيه؟ قال: لا

(1)

.

وقال أبو بكر بن عياش: سمعت أبا إسحاق يقول: أبو بكر بن أبي موسى أفضل من أخيه أبي بردة. وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة. وقال ابن سعد. اسمه كنيته، وكان قليل الحديث يستضعف، ومات في ولاية خالد، وكان أكبر من أخيه أبي بردة. وقال خليفة: مات سنة 106، أخرج له الجماعة.

6 -

(أبو موسى) الأشعري عبد الله بن قيس بن سليم بن حَضَّار الصحابي الجليل رضي الله عنه تقدم في 3/ 3. والله تعالى ولي التوفيق.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف.

ومنها: أن رواته كلهم ثقات.

ومنها: أنه مسلسل بالكوفيين إلا شيخه أحمد بن سليمان فُرهَاويّ، وأما عبدة فهو كوفي الأصل نزيل البصرة.

(1)

تقدم في كلام أبي داود أنه قال: أراه قد سمع، وهو الذي يراه مسلم، حيث أخرج حديث أبي موسى من طريقه محتجًا به في صحيحه. والله أعلم.

ص: 58

ومنها: أن فيه رواية الابن عن أبيه.

ومنها: أن فيه من صيغ الأداء الإخبارَ، والتحديثَ، والعنعنة.

ومنها: قوله: "واللفظ له"، يعني أن لفظ الحديث لشيخه أحمد بن سليمان، وأما شيخه عبدة فرواه بمعناه، والقاعدة عند المحدثين أنه إذا كان الحديث عنده عن اثنين أو أكثر، واتفقا في المعنى دون اللفظ، فله جمعهما في الإسناد، ثم يسوق الحديث على لفظ أحدهما، فيقول: أخبرنا فلان، وفلان، واللفظ لفلان، أو وهذا لفظ فلان، قال، أو قالا: أخبرنا فلان، ونحوه من العبارات. وإلى هذا أشار الحافظ السيوطي في "ألفية الأثر"، بقوله:

وَلَوْ رَوىَ مَتنًا عَنْ أشْيَاخٍ وَقَدْ

تَوَافَقَا مَعْنَىً وَلَفْظٌ مَا اتَّحَدْ

مُقْتصرًا بِلَفط وَاحدٍ وَلَمْ

يُبَيّن اخْتصَاصَهُ فَلَمْ يُلَمْ

أو قَال: قَد تقارَبَا في اللَّفْظِ أوْ

واتَّحد المعنى على خُلْفٍ حَكَوْا

وَإِنْ يَكُن لِلَفْظِهِ يُبَيِّنُ

مَع قَال أو قالا فَذاك أحسَنُ

ومنها: قوله: قال: إملاء علي، أي قال أبو داود: أملى هذا الحديث عَلَيَّ بدرُ بن عثمان إملاءً. والإملاء هو أن يُلقي الشيخ على الطالب الحديث، فيكتبه منه، وهو أعلى أنواع التحمل، وكان من عادة المحدثين عقد مجلس الإملاء. قال في "التقريب"، وشرحه "التدريب":

(فصل) يستحب للمحدث العارف عقدُ مجلس لإملاء الحديث،

ص: 59

فإنه أعلى مراتب الرواية والسماع، وأحسن وجوه التحمل وأقواها، ورَوَى ابنُ عدي والبيهقي في "المدخل" من طريقه: ثنا عبد الصمد بن عبد الله، ومحمد بن بشر الدمشقيان، قالا: ثنا هشام بن عمار، ثنا أبو الخطاب معروف الخياط، قال: رأيت واثلة بن الأسقع رضي الله عنه يملي على الناس الأحاديث، وهم يكتبونها بين يديه. اهـ. جـ 2 ص 132 - 133. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن بدر بن عثمان) الأموي مولاهم (قال) أبو داود الحفري (إِمْلاءً علي) أي أملى بدرٌ عليّ هذا الحديث إملاء، فـ"إملاءً" منصوب على المصدرية لأملى مقدرًا.

والإملاء، ويقال فيه الإملال: الإلقاء على الكاتب، قال في المصباح: وأمللت الكتاب على الكاتب إملالًا: ألقيته عليه، وأمليته عليه إملاءً، والأولى لغة الحجاز وبني أسد، والثانية لغة بني تميم وقيس، وجاء الكتاب العزيز بهما:{وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282]، {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5]، اهـ. جـ 2 ص 580.

قال بدر (حدثنا أبو بكر بن أبي موسى) الأشعري، عمرو، أو عامر (عن أبيه) أبي موسى عبد الله بن قيس رضي الله عنه، أنه (قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم سائل) فاعل مؤخر لأتى، ولم يُعرَف اسمه (يسأله عن مواقيت الصلاة) الجملة في محل رفع صفة لسائل (فلم

ص: 60

يرد) النبي صلى الله عليه وسلم (شيئًا) أي لم يرد عليه جوابا ببيان الأوقات باللفظ بل قال له: "صل معنا" لتعرف ذلك، ويحصل لك البيان بالفعل، وإنما تأولناه لنجمع بينه وبين حديث بريدة، حيث قال له:"صل معنا هذين اليومين"، ولأن من المعلوم من أحواله صلى الله عليه وسلم أنه كان يجيب إذا سئل عما يحتاج إليه. أفاده النووي في شرح مسلم جـ 5 ص 116.

(فأمر بلالًا) بالأذان، فأذن، ثم أمره بالإقامة (فأقام: بالفجر) الباء سببية، أي أقام بسبب حضور صلاة الفجر، أو هي بمعنى اللام، أي أقام للفجر (حين انشق) أي طلع الفجر، يقال: شق الفجر، وانشق: طلع، كأنه شَقَّ محل طلوعه، وخرج منه. ولمسلم:"فأقام الفجر، حين انشق الفجر، والناس لا يعرف بعضهم بعضًا"، والمراد أنه أراد أول الطلوع.

(ثم أمره فأقام بالظهر حين زالت الشمس) عن بطن السماء.

(والقائل يقول: أنتصف النهار؟) قال الشيخ ولي الدين: أنتصف بفتح الهمزة على سبيل الاستفهام، وهمزة الوصل محذوفة، كقوله تعالى:{أَصْطَفَى الْبَنَاتِ} [الصافات: 153]. وقال السندي: يحتمل أن تكون بكسرها على أن حرف الاستفهام مقدر، كما في قول

القائل: طلعت الشمس؟ اهـ.

والجملة في محل نصب على الحال، والتقدير: أمره صلى الله عليه وسلم بالإقامة

ص: 61

للظهر حين زالت الشمس، والحال أن القائل يقول -من شدة تبكيره- هل انتصف الآن النهار؟.

(وهو أعلم) أي والحال أنه صلى الله عليه وسلم أعلم بانتصاف النهار، ودخولِ وقت الظهر، وإنما خفي على غيره، حتى استفهم. وهذا هو الذي يظهر من معنى الحديث، وأما ما وقع في "المنهل العذب" في شرح هذا المحل فغير صحيح

(1)

.

(ثم أمره بالعصر، والشمس مرتفعة) أي في أول وقتها، كما قال في حديث بريدة:"بيضاء نقية"(ثم أمره، فأقام بالمغرب حين غربت الشمس) أي في أول وقتها (ثم أمره، فأقام بالعشاء، حين غاب الشفق) والمراد به الأحمر.

(ثم أخر الفجر من الغد حين انصرف) هكذا في النسخة المصرية والهندية: "حين انصرف"، وأشار في هامش الهندية، وهو ما في "الكبرى" أيضًا:"حتى انصرف" وهو أوضح، وللأول أيضًا وجه صحيح، بأن يتعلق "حين" بمقدر، أي فانصرف حين انصرف (و) الحال أنه (القائل يقول: طلعت الشمس) يعني أنه أخر الفجر في اليوم

(1)

قال: وهذا من قبيل الإخبار، أي أمر صلى الله عليه وسلم بإقامة صلاة الظهر وقت زوال الشمس وقول القائل انتصف النهار. ويحتمل أن يكون على الاستفهام أي أنه صلى الله عليه وسلم أمر بإقامة الظهر حين زوال الشمس، وفي وقت يصح للمستفهم أن يستفهم فيه عن انتصاف النهار، والحال أن القائل انتصف النهار أعلم بانتصافه، وإنما استفهم ليعلم ما عند الغير ويتأكد. اهـ. وهذا الحل بعيد عن معنى الحديث. فتأمل. والله أعلم.

ص: 62

الثاني حتى إنه حين انصرافه من الصلاة يتخيل بعض من رأى أن الشمس قد طلعت، وهي لم تطلع.

(ثم أخر الظهر إِلى قريب العصر بالأمس) يعني أنه أخر صلاة الظهر حتى اقترب وقت العصر في اليوم الأول.

(ثم أخر العصر، حتى انصرف) أي سلم منها (و) الحال أنه (القائل يقول: احمرت الشمس) من شدة تأخيره (ثم أخر المغرب حتى كان) اسم "كان" ضمير يعود إلى الوقت، أي حتى كان الوقت، وخبرها قوله (عند سقوط الشفق) أي غروب الشفق، والمراد قربه من الغروب؛ يدل عليه رواية أبي داود:"وصلى المغرب قبل أن يغبيب الشفق".

(ثم أخر العشاء إلى ثلث الليل)، ولمسلم:"حتى كان ثلث الليل الأول"، وفي حديث بريدة:"وصلى العشاء بعدما ذهب ثلث الليل"، رواه مسلم، وفي رواية له:"عند ذهاب ثلث الليل، أو بعضه" والمعنى متقارب، يعني أنه صلى العشاء في اليوم الثاني في وقت

الثلث، بحيث انتهى منها بعد الثلث.

(ثم قال) ولمسلم: "ثم أصبح، فدعا السائل، فقال (الوقت) مبتدأ، خبره قوله (فيما بين هذين)؛ أي الوقت المقتصد الذي لا إفراط فيه تعجيلًا، ولا تفريط فيه تأخيرًا، هو هذا، أوَ بيَّنْتُ بما فعلتُ أولَ الوقت، وآخره، والصلاة جائزة في جميعه، أوله، وأوسطه،

ص: 63

وآخره، والمراد بالآخر هنا آخر الوقت المختار، لا الجواز، إذ يجوز تأخير الظهر ما لم يدخل وقت العصر، وتأخير العصر ما لم تغرب الشمس، والعشاء إلى نصف الليل. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا (523) عن عبدة بن عبد الله، وأحمد بن سليمان، كلاهما عن أبي داود الحَفَري، عن بدر بن عثمان، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه، وفي "الكبرى"(1499) عن أحمد بن سليمان وحده، عن أبي داود به.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه مسلم وأبو داود؛ فأخرجه مسلم في "الصلاة" عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن أبيه، وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع- كلاهما عن بدر بن عثمان به.

وأخرجه أبو داود فيه عن مسدد، عن عبد الله بن داود، عن بدر بن عثمان به. وأخرجه البيهقي.

قال الجامع عفا الله عنه: أورد المصنف رحمه الله تعالى هذا

ص: 64

الحديث مستدلًا به على آخر وقت المغرب، ومحل الاستدلال قولُهُ:"ثم أخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق".

وفوائد الحديث، وأقوال العلماء فيه قد تقدمت في شرح حديث بريدة رضي الله عنه، وحديث عبد الله بن عمرو الذي قبله، فلا حاجة إلى إعادتها. فارجع إليها تزدد علمًا. والله سبحانه وتعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

524 -

أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَارِجَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ بَشِيرِ بْنِ سَلاَّمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيِّ، فَقُلْنَا لَهُ: أَخْبِرْنَا عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَذَاكَ زَمَنُ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ. قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى الظُّهْرَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، وَكَانَ الْفَيْءُ قَدْرَ الشِّرَاكِ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ، حِينَ كَانَ الْفَيْءُ قَدْرَ الشِّرَاكِ وَظِلِّ الرَّجُلِ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ حِينَ غَابَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ، ثُمَّ

ص: 65

صَلَّى مِنَ الْغَدِ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ الظِّلُّ طُولَ الرَّجُلِ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّ الرَّجُلِ مِثْلَيْهِ قَدْرَ مَا يَسِيرُ الرَّاكِبُ سَيْرَ الْعَنَقِ إِلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ حِينَ غَابَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ، أَوْ نِصْفِ اللَّيْلِ -شَكَّ زَيْدٌ- ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ، فَأَسْفَرَ.

رجال الإسناد: ستة

1 -

(أحمد بن سليمان) أبو الحسين الرُّهَاوي المتقدم في السند السابق، ثقة حافظ، من [11].

2 -

(زيد بن الحُبَاب) أبو الحسين العُكّلي الكوفي، خُراسَاني الأصل، صَدُوق يُخْطِىء في حديث الثوري، توفي سنة 203، من [9]، تقدم في 33/ 37.

3 -

(خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت) الأنصاري، أبو زيد، وقيل: أبو ذر المدني، وقد ينسب إلى جده، صدوق، له أوهام، من [7].

قال أبو طالب عن أحمد: ضعيف، وقال ابن معين: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: شيخ حديثه صالح. وقال أبو داود: شيخ. وقال ابن عدي: لا بأس به، وبرواياته عندي. ذكره ابن أبي عاصم فيمن مات سنة 165، وكذا أرخه ابن حبان في "الثقات"، وكذا قال ابن سعد،

ص: 66

وقال: كان قليل الحديث. وقال ابن الجوزي: ضعفه الدارقطني. وقال الأزدي: اختلفوا فيه، ولا بأس به، وحديثه مقبول كثير المنكر، وهو إلى الصدق أقرب. أخرج له المصنف والترمذي.

4 -

(الحسين بن بشير بن سَلاَّم) أبو سلمان المدني مولى الأنصار، مقبول، من [7]، أخرج له النسائي.

روى عن أبيه، وعنه خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت. له هذا الحديث فقط، ذكره ابن حبان في الثقات. انفرد به المصنف.

5 -

(بشير بن سلام) أو سلمان الأنصاري المدني، والد حسين مولى صفية بنت عبد الرحمن، صدوق، من [3]، أخرج له النسائي.

روى عن جابر في الصلاة، وعنه ابنه. روى له المصنف هذا الحديث فقط، وقال. ليس به بأس، وقال أبو داود: لا بأس به، وسمى النسائي، وأبو داود، والبخاري، وابن أبي حاتم، وابن حبان في "الثقات"، أباه سلمان، ووقع عند عبد الرزاق: ثنا خارجة بن عبد الله بن زيد، عن حسين بن بشير بن سَلاَّم، عن أبيه، فذكر الحديث الذي أخرجه النسائي

(1)

، وهكذا وقع في "المعجم الأوسط" للطبراني، قال الحافظ: وكأن الصواب سلمان. والله أعلم.

6 -

(جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام الأنصاري السلمي الصحابي الجليل رضي الله عنه توفي بالمدينة بعد سنة 70 عن 94 سنة،

(1)

هو أيضًا عند النسائي هنا سلام، ولعل في نسخة الحافظ من سنن النسائي وقع له سلمان. فتأمل.

ص: 67

أخرج له الجماعة، تقدم في 31/ 35. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الاسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف.

ومنها: أن رواته مدنيون، إلا شيخه، فُرهَاوِيّ، وزيدًا فكوفي.

ومنها: رواية الابن عن أبيه.

ومنها: أن صحابيه أحد المكثرين السبعة رَوَى 1540 حديثًا.

ومنها: أن فيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة، والقول.

ومنها: أن الحسين بن بشير، وأباه من أفراده، ولم يخرج لهما إلا في هذا الباب. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن بشير بن سَلاَّم) أنه (قال: دخلت أنا) أكد الضمير المتصل بالمنقصل لأجل العطف عليه، كما قال ابن مالك:

وإن عَلَى ضَمِيرِ رفعٍ مُتَّصِلْ

عَطفتَ فَافصِل بَالضَّمير الْمُنْفَصِلْ

(ومحمد بن علي) عطف على الضمير الفاعل، هو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو جعفر الباقر، ثقة فاضل، مات سنة بضع عشرة ومائة، من [4].

(على جابر بن عبد الله الأنصاري) بفتح الهمزة، وسكون

ص: 68

النون: نسبة إلى الأنصار، وهم جماعة من أهل المدينة، من الصحابة، من أولاد الأوس، والخزرج، قيل لهم: الأنصار، لنصرتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم كثرة على اختلاف بطونها، وأفخاذها. اهـ اللباب جـ 1 ص 89.

(فقلنا له: أخبرنا عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي عن أوقات صلواته، فالمراد جنس الصلاة، يعني الصلوات الخمس (وذاك) إشارة إلى دخولهم عليه، وسؤالهم له وهو مبتدأ (زمن الحجاج بن يوسف) منصوب على الظرفية، متعلق بمحذوف خبر المبتدإ، أي ذاك كائن وقت ولاية الحجاج.

والحجاج هو ابن يوسف هو بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود بن عامر ابن مُعَتِّب بن مالك بن كعب الثقفي، قال ابن قتيبة: هو من الأجلاف، قاَل. وكان أخفش دقيق الصوت، وأول ولاية وليها تَبَالَة -بمثناة فوق مفتوحة، ثم باء موحدة مخففة- فلما رآها احتقرها، فتركها، ثم تولى قتال ابن الزبير رضي الله عنه، فقهره على مكة والحجاز، وقتل ابن الزبير، وصلبه بمكة سنة 73، فولاه عبد الملك الحجاز ثلاث سنين، وكان يصلي بالناس ويقيم لهم الموسم، ثم ولاه العراق وهو ابن 33 سنة، فوليها عشرين سنة، وحطم أهلها، وفعل ما فعل، وتولى بواسط، ودفن هذا، وعفي قبره، وأجري عليه الماء، وكان موته سنة 95. اهـ. "تهذيب النووي" جـ 1 ص 153.

ص: 69

(قال) جابر رضي الله عنه (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى الظهر حين زالت الشمس، وكان الفيء) هو الظل بعد الزوال، وتقدم الفرق بينه، وبين الظل، في شرح حديث جبريل (قدر الشراك) بكسر الشين المعجمة، وفتح الراء: سَيْر من سُيُور النعل التي تكون على وجهها. وقدر الشراك في هذا الموضع ليس على طريقة التحديد، وإنما أراد أن يدل به على زوال الشمس، وأنه أول وقت الظهر، ولا يكاد يَبين الزوالُ في أول الأمر إلا بأقل ما يُرَى من الفيء الذي يستبين به أول الزوال، وليس هذا المقدار مما يبين به الزوال في جميع البلاد، إنما يظهر أثر ذلك في مثل مكة من البلاد التي تجتاز الشمس برؤوس أهلها، ولا يبقى حينئذ لشيء من الأشخاص ظل عند كون الشمس في خط نصف النهار، وهو ما يُسَامِتُ الرؤوس من السماء، فإذا زالت الشمس: ظهر للشخص القائم ظلَ من جهة الشَّمال، فأما ما عدا هذا الحد من البلاد، مما لا تجتاز الشمس برؤوس أهله، فإن الظل من جهة الشمال لا ينعدم، بل يقل ويكثر بأحد أمرين، إما ببعد تلك البلدة عن مُعَدَّل النهار في جهة الشمال، وإما بانحطاط الشمس إلى البروج الجنوبية، فإن الظل يكثر في جهة الشمال بأحد هذين، وبهما جميعًا، فإنهما يجتمعان

لبعض البلاد دون بعض. اهـ. "المغني" لابن باطيش جـ 1 ص 77.

وانتصاب "قدر" على الظرفية، فيكون خبرًا لـ"كان".

(ثم صلى العصر حين كان الفيء قدر الشراك، وظلِّ الرجل) بجر "ظل" عطفًا على "الشراك"، يعني أنه صلى صلاة العصر حين كان

ص: 70

الظل الذي بعد الزوال مثل ظل الرجل مع مقدار الشراك (ثم صلى المغرب حين غابت الشمس) أي في أول وقتها (ثم على العشاء حين غاب الشفق) أي في أول الوقت (ثم صلى الفجر حين طلع الفجر) أي في أول الوقت.

(ثم صلى من الغد الظهر، حين كان الظل طولَ الرجل) أي مثل طوله، والمراد أنه انتهى من صلاة الظهر في ذلك الوقت، وليس أنه ابتدأ الصلاة في ذلك الوقت، للدلائل الصريحة أن وقت الظهر آخره إذا صار ظل كل شيء مثله، وتقدم تحقيق البحث في هذا في بابه.

وانتصاب "طولَ" على الظرفية، كـ"قدرَ"، فيكون خبرًا لـ"كان".

(ثم صلى العصر حين كان ظل الرجل مثليه) آخر الوقت المختار (قدر ما يسير الراكب العَنَقَ) بفتح المهملة، والنون، آخره قاف: ضرب من السير فسيح سريع. قاله في "المصباح ". وقال السندي: هو إلى التوسط أقرب. اهـ.

قال الجامع: يدل على ما قاله السندي حديث: "أن النبي صلى الله عليه وسلم حين دفع من عرفة، سار العَنَقَ، فإذا وجد فَجْوَة نَصَّ"، فإن النَّصَّ هو مُنتهَى الإسراع، كما في "اللسان" وغيره، فيكون العَنَقُ وسطًا.

(إِلى ذي الحليفة) متعلق بيسير، يعني أنه صلى العصر في الوقت الذي يُقَدَّر بأن الراكب إذا سار بعد الصلاة سيرًا عَنَقًا وصل إلى ذي الحليفة قبل الغروب.

ص: 71

(ثم صلى المغرب حين غابت الشمس) في الوقت الذي صلاها فيه بالأمس، وهذا يدل على أنه صلاها في اليومين في وقت واحد، وبه استدل من قال: إن للمغرب وقتًا واحدًا، وقد تقدم الجواب عنه مستوفى في الأحاديث السابقة.

(ثم صلى العشاء إِلى ثلث الليل) متعلق بمحذوف حال من الفاعل، أو المفعول، تقديره: حال كونه مؤخرًا أو حال كونها مؤخرة إلى ثلث الليل، أو "إلى" بمعنى "في"؛ أي صلاها في ثلث الليل (أو) للشك (نصفه) أي نصف الليل.

(شك زيد) هو ابن الحباب، يعني أن زيد بن الحباب شك، هل قال له:"إلى ثلث الليل" أو قال له: "إلى نصف الليل"، لكن الروايات الأخرى على الثلث، وعلى النصف يكون معناه، أنه صلى العشاء، فأخرها، حتى يكون فراغه منها عند النصف، لا أنه صلاها عنده، لأن النصف آخر وقتها، كما يأتي.

(ثم صلى الفجر، فأسفر) أي أخرها إلى انتشار الضوء جدًا.

تنبيه:

حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنف، أخرجه هنا في "المجتبى" بهذا السند فقط. وهو صحيح بشواهده. فإن الأحاديث المتقدمة، والآتية تشهد له، كما أشار إليه الشيخ الألباني في "صحيح النسائي".

ص: 72

وفوائده، وسائر المسائل المتعلقة به تعرف مما سبق، فلا حاجة إلى إعادتها. والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 73

‌16 - باب كَرَاهِيَةِ النَّوْمِ بَعْدَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على كراهية النوم بعد صلاة المغرب، قبل أداء صلاة العشاء، فالكراهية ليست للوقت، وإنما هي لأجل أنه يؤدي إلى فوات العشاء، وإلا فلا كراهة كما يأتي تحقيقه، ومحل الاستدلال من الحديث واضح.

525 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَيَّارُ بْنُ سَلَامَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَرْزَةَ، فَسَأَلَهُ أَبِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ، قَالَ: كَانَ يُصَلِّي الْهَجِيرَ الَّتِي تَدْعُونَهَا الأُولَى، حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ، وَكَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ، حِينَ يَرْجِعُ أَحَدُنَا إِلَى رَحْلِهِ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ، وَكَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ الْعِشَاءَ الَّتِي تَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ، وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا، وَكَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ، وَكَانَ يَقْرَأُ بِالسِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ.

ص: 74

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(محمد بن بَشَّار) بُنْدار البصري ثقة حافظ، من [10]، تقدم في 24/ 27.

2 -

(يحيى) بن سعيد القَطَّان البصري، ثقة ثبت حجة، من [9]، تقدم في 4/ 4.

3 -

(عوف) بن أبي جَمِيلَة بَنْدَوَيْه الأعرابي البصري ثقة رمي بالقدر والتشيع، من [6]، تقدم في 46/ 57.

4 -

(سيَّار بن سلامة) أبو الْمِنْهَال الرّيَاحِيُّ البصري، ثقة، من [4]، تقدم في 495.

5 -

(أبو بَرْزَةَ الأَسْلَمِيّ) نَضْلَةُ بن عُبَيد صحابي مشهور، أسلم قبل الفتح، وغزا سبع غزوات ثم نزل البصرة، وغزا خُرَاسَان، ومات بها سنة 65 على الصحيح، تقدم في 495. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف.

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، اتفقوا عليهم.

ومنها: أنه مسلسل بالبصريين.

ومنها: أنه مسلسل بسماع كل راو عمن روى عنه صريحًا. والله تعالى أعلم.

ص: 75

شرح الحديث

(قال) سيار بن سلامة (دخلت على أبي برزة الأسلمي) نَضْلَة ابن عُبَيد رضي الله عنه (فسأله أبي) لم توجد ترجمة والده سلامة هذا، كما تقدم في قول الحافظ (495)(كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة) والمراد الأوقات التي كان يصلي فيها الصلوات المكتوبة (قال) أبو برزة (كان) صلى الله عليه وسلم (يصلي الهجير) أي الظهر، وأصل الهَجِير، كما في المصباح: نصف النهار في القَيْظِ خاصة.

وقال ابن منظور رحمه الله: الهَجِير، والهَجِيَرةُ، والهَاجرَة: نصف النهار عند زوال الشمس إلى العَصر، وقيلَ في كل ذلك: إنه شدة الحر، وقال الجوهري: هو نصف النهار عند اشتداد الحر. اهـ لسان جـ 6 ص 4619.

(التي تدعونها) أي تسمونها (الأولى) أي الصلاة الأولى، سميت بذلك لكونها أول صلاة صُلِّيَت أولَ ما فُرِضَت الصلاة، كما تقدم في حديث جبريل عليه السلام (حين تدحض الشمس) أي تزول عن وسط السماء إلى جهة الغرب، كأنها دَحَضَت، أي زَلَقَت. قاله في "الزهر".

(وكان يصلي العصر حين يرجع أحدنا) أي بعد فراغه من الصلاة (إِلى رحله) أي منزله، قال المجد: الرَّحْل: مَرْكَبٌ للبعير، جمعه أرْحُل، ورِحَال، ومَسْكَنُكَ، وما تَسْتَصْحبُهُ من الأثَاث. اهـ."ق"، والمناسب هنا معنى المسكن (في أقصَى المدينة) جار

ص: 76

ومجرور متعلق بمحذوف حالٍ من "رحله"، أي حال كون ذلك الرحل كائنًا في أبعد محل من المدينة.

وقوله (والشمس حية) جملة حالية من محذوف، تقديره: فَيَصِلُ إليه، والحال أن الشمس بيضاء نقية، فحياة الشمس كناية عن بقاء حرها، لم تتغير.

وفيه دليل على استحباب التعجيل بصلاة العصر في أول وقتها، وقد مر البحث عنه مستوفىً في بابه، والحمد لله.

قال سيار (ونسيت ما قال) أبو برزة (في) وقت (المغرب) قال أبو برزة (وكان) صلى الله عليه وسلم (يستحب أن يؤخر العشاء التي تدعونها العَتَمَةَ) بفتحات: ثلث الليل الأول بعد غيبوبة الشفق، وقيل: العَتَمَة: وقت صلاة العشاء الأخيرة، سميت بذلك لاستعتام نَعَمها، أي احتلابها، وقيل: لتأخر وقتها. وسيأتي النهي عن تسمية العشاء عتمة، والترخيص فيه في بابه إن شاء الله تعالى.

(وكان يَكْرَهُ النومَ قبلها) لما فيه من التعرض لتفويتها، وقد تقدم أن هذا لمن لا يجد من يوقظه، وإلا فلا بأس لحديث ابن عمر رضي الله عنهما الماضي في شرح حديث (495).

(و) يَكْرَهُ (الحديث بعدها) أي محادثة الناس بعضهم لبعض، وهذا أيضًا فيما إذا لم يكن الحديث في أمر مهم، وإلا فقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان يتحدث بعدها (وكان ينفتل) أي ينصرف (من صلاة الغداة) أي

صلاة الصبح (حين يعرف الرجل جليسه) فعيل بمعنى فاعل، أي

ص: 77

مجالسه، وفي الرواية السابقة:"فينصرف الرجل، فينظر إلى وجه جليسه الذي يعرفه، فيعرفه".

وفيه دليل على استحباب التعجيل بصلاة الصبح؛ لأن ابتداء معرفة الإنسان وجه جليسه يكون في أواخر الغَلَس، وقد صرح في الحديث بأن ذلك كان عند الفراغ من الصلاة، ومن المعلوم من عادته صلى الله عليه وسلم ترتيل القراءة، وتعديل الأركان، فمقتضى ذلك أنه كان يدخل فيها مُغَلِّسا. وسيأتي تمام البحث في هذا في بابه إن شاء الله تعالى (وكان يقرأ) فيها (بالستين إِلى المائة) يعني من الآي، وقَدَّرَهَا في رواية الطبراني بـ "سورة الحاقة"، ونحوها.

تنبيه:

هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدم بيان مواضع ذكره، ومَن أخرجه معه، وفوائد الحديث في الحديث رقم (495) فارجع إليه تزدد علمًا. والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 78

‌17 - أول وَقْتِ الْعِشَاءِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على بيان أول وقت صلاة العشاء.

ومحل الاستدلال واضح في قوله: "حتى إذا ذهب الشفق" الخ. وهذا مجمع عليه لا خلافت بين أهل العلم أن أول وقت العشاء غروب الشفق، وإنما اختلفوا في معنى الشفق، هل هو الحمرة، كما هو رأي الجمهور، أو هو البياض؛ كما هو رأي أبي حنيفة رحمه الله؟. وسيأتي بيان ذلك في بابه إن شاء الله تعالى.

526 -

أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ عليه السلام إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ: قُمْ يَا مُحَمَّدُ، فَصَلِّ الظُّهْرَ، حِينَ مَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ مَكَثَ حَتَّى إِذَا كَانَ فَيْءُ الرَّجُلِ مِثْلَهُ جَاءَهُ لِلْعَصْرِ، فَقَالَ: قُمْ يَا مُحَمَّدُ، فَصَلِّ الْعَصْرَ، ثُمَّ مَكَثَ حَتَّى إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ، جَاءَهُ، فَقَالَ: قُمْ، فَصَلِّ الْمَغْرِبَ، فَقَامَ فَصَلاَّهَا حِينَ غَابَتِ الشَّمْسُ سَوَاءً، ثُمَّ مَكَثَ، حَتَّى إِذَا

ص: 79

ذَهَبَ الشَّفَقُ، جَاءَهُ، فَقَالَ: قُمْ، فَصَلِّ الْعِشَاءَ، فَقَامَ، فَصَلاَّهَا، ثُمَّ جَاءَهُ حِينَ سَطَعَ الْفَجْرُ فِي الصُّبْحِ، فَقَالَ: قُمْ يَا مُحَمَّدُ، فَصَلِّ، فَقَامَ، فَصَلَّى الصُّبْحَ، ثُمَّ جَاءَهُ مِنَ الْغَدِ، حِينَ كَانَ فَيْءُ الرَّجُلِ مِثْلَهُ، فَقَالَ: قُمْ يَا مُحَمَّدُ، فَصَلِّ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عليه السلام حِينَ كَانَ فَيْءُ الرَّجُلِ مِثْلَيْهِ، فَقَالَ: قُمْ يَا مُحَمَّدُ، فَصَلِّ، فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ جَاءَهُ لِلْمَغْرِبِ حِينَ غَابَتِ الشَّمْسُ وَقْتًا وَاحِدًا، لَمْ يَزُلْ عَنْهُ، فَقَالَ: قُمْ، فَصَلِّ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ جَاءَهُ لِلْعِشَاءِ حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الأَوَّلُ، فَقَالَ: قُمْ، فَصَلِّ، فَصَلَّى الْعِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَهُ لِلصُّبْحِ حِينَ أَسْفَرَ جِدًّا، فَقَالَ: قُمْ، فَصَلِّ، فَصَلَّى الصُّبْحَ، فَقَالَ: "مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ كُلُّهُ.

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(سويد بن نصر) أبو الفضل المروزي، لقبه: الشاه، راوية ابن المبارك، ثقة، توفي سنة 240 عن 90 سنة، من [10]، تقدم في 45/ 55.

ص: 80

2 -

(عبد الله بن المبارك) أبو عبد الرحمن الحنظلي المروزي، ثقة حجة عابد فقيه إمام، توفي سنة 180، من [8]، تقدم في 32/ 36.

3 -

(حسين بن علي بن حسين) بن علي بن أبي طالب الهاشمي المدني، صدوق مُقِلّ، توفي سنة 160، من [7].

يقال له: حسين الأصغر، رَوَى عن أبيه، وأخيه أبي جعفر، وَوَهْب ابن كَيْسَان، وعنه موسى بن عقبة، وابن أبي الموالى، وابن المبارك، وأولاده: إبراهيم، ومحمد، وعبيد الله، بنو الحسين، وغيرهم. قال النسائي. ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وأخرج له الترمذي، والمصنف هذا الحديث فقط.

4 -

(وهب بن كيسان) القرشي مولى آل الزبير، أبو نعيم المدني المعلم المكي، ثقة، توفي سنة 127، من كبار [4].

قال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن سعد: قال محمد بن عُمَر: لم يكن له فتوى، وكان مُحَدِّثًا ثقة. وقال العجلي: مدني تابعي ثقة. وقال علي بن الحسين بن الجنيد عن ابن معين: ثقة، وكذا قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه. أخرج له الجماعة.

5 -

(جابر بن عبد الله) الأنصاري الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 31/ 35. والله تعالى أعلم.

ص: 81

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف.

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات مدنيون، إلا شيخه، وابن المبارك، فمروزيان.

ومنها: أن فيه جابر بن عبد الله أحد المكثرين السبعة رَوَى 1540 حديثًا.

ومنها: أن فيه الإخبار، والإنباء، والتحديث، والعنعنة، وكلها من صيغ الاتصال، على الصحيح في "عن" من غير المدلس.

قال الجامع عفا الله عنه: وأما شرح الحديث، والمسائل المتعلقة به، فقد تقدمت في شرح حديث جابر- رضي الله عنه هذا برقم (513) فلا حاجة إلى إطالة الكتاب بإعادته، فارجع إليه تزدد علمًا. وبالله التوفيق.

تنبيه:

قوله هنا: "سواء"، أي مساوية للغروب، حال من مفعول "صلاها". قاله السندي.

وقوله: "لم يَزُلْ عنه": أي لم يتغير الوقت عما كان عليه بالأمس، بمعنى أن صلاته للمغرب في اليومين وقعت في وقت واحد. والله

ص: 82

أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 83

‌18 - تَعْجِيلُ الْعِشَاءِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على استحباب التعجيل بصلاة العشاء. وهذا مقيد بما إذا اجتمع الناس في أول الوقت، وكان التأخير يشق عليهم، وإلا فالتأخير أفضل للأحاديث الآتية في "باب ما يستحب من تأخير العشاء".

527 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَسَنٍ، قَالَ: قَدِمَ الْحَجَّاجُ، فَسَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ، وَالْمَغْرِبَ إِذَا وَجَبَتِ الشَّمْسُ، وَالْعِشَاءَ أَحْيَانًا كَانَ إِذَا رَآهُمْ قَدِ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ، وَإِذَا رَآهُمْ قَدْ أَبْطَئُوا أَخَّرَ.

رجال الإسناد: سبعة

1 -

(عمرو بن علي) الفلاس الصيرفي البصري، ثقة حافظ، من [10]، تقدم في 4/ 4.

2 -

(محمد بن بشار) بُنْدَار أبو بكر البصري، ثقة، من [10]، تقدم في 24/ 27.

ص: 84

3 -

(محمد) بن جعفر غُنْدَر البصري، ثقة، من [9]، تقدم في 21/ 22.

4 -

(شعبة) بن الحجاج البصري الواسطي الأصل، ثقة، حجة، من [7]، تقدم في 24/ 26.

5 -

(سعد بن إبراهيم) بن عبد الرحمن بن عوف الزهري قاضي المدينة، ثقة فاضل عابد، توفي سنة 125، وقيل: بعدها، وهو ابن 72 سنة، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 96/ 124.

6 -

(محمد بن عمرو بن حسن) بن علي بن أبي طالب، الهاشمي، أبو عبد الله المدني، أمه رملة بنت عقيل بن أبي طالب، ثقة، من [4].

رَوَى عن عمة أبيه زينب بنت علي، وابن عباس، وجابر. وعنه سعد بن إبراهيم، ومحمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، وأبو الجحاف: داود بن أبي عوف، وعبد الله بن ميمون. قال: أبو زرعة والنسائى، وابن خراش: ثقة. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. أخرج له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والمصنف.

7 -

(جابر بن عبد الله) رضي الله عنهما، تقدم في 31/ 35. والله تعالى أعلم.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف.

ص: 85

ومنها: أن نصف السند الأول بصريون إلى شعبة، والثاني مدنيون.

ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي: سعد عن محمد، وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن محمد بن عمرو بن حسن) بن علي بن أبي طالب، ولمسلم من طريق معاذ، عن شعبة، عن سعد، سمع محمد بن عمرو بن الحسن، أنه (قال: قدم الحجاج) أي المدينة، والحجاج -بفتح الحاء المهملة، وتشديد الجيم، آخره جيم- هو: ابن يوسف الثقفي، قال الحافظ رحمه الله: وزعم الكرماني أن الرواية بضم أوله، قال: وهو جمع حاج انتهى. وهو تحريف بلا خلاف، فقد وقع في رواية أبي عوانة في صحيحه من طريق أبي النضر عن شعبة:"سألنا جابر بن عبد الله في زمن الحجاج، وكان يؤخر الصلاة عن وقت الصلاة"، وفي رواية مسلم من طريق معاذ عن شعبة:"كان الحجاج يؤخر الصلاة".

فائدة:

كان قدوم الحجاج المدينة أميرًا عليها من قبَلِ عبد الملك بن مروان سنة -74 - وذلك عقيب قتل ابن الزبير، فَأمَّرَهُ عَبد الملك على الحرمين وما معهما، ثم نقله بعد هذا إلى العراق. اهـ. فتح جـ 2 ص 50.

(فسألنا جابر بن عبد الله) لم يبين المسئول ما هو؟ وقد فسره في

ص: 86

رواية أبي عوانة المتقدمة، "أي عن وقت الصلاة" فـ (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالهاجرة) هي شدة الحر، والمراد هذا نصف النهار بعد الزوال، سميت بها لأن الهجرة هي الترك، والناس يتركون التصرف حينئذ لشدة الحر؛ لأجل القيلولة وغيرها. اهـ. جـ 5 ص 56.

قال العلامة ابن دقيق العيد رحمه الله ما حاصله: هذا يدل على تقديمها في أول الوقت، فإنه قد قيل في الهاجرة والهَجيرِ: إنهما شدة الحر وقُوَّتُهُ، ويعارضه ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم "إذا اشتد الحر، فأبردوا"،

ويمكن الجمع بينهما بأن يكون أطلق اسم الهاجرة على الوقت الذي بعد الزوال مطلقا، فإنه قد يكون فيه الهاجرة في وقت، فيطلق على الوقت مطلقا بطريق الملازمة، وإن لم يكن وقت الصلاة في حر شديد، وفيه بُعْد. وقد يقرب بما نقل عن صاحب العين، أن الهجير والهاجرة نصف النهار، فإذا أخذ بظاهر هذا الكلام كان مطلقًا على الوقت. انتهى. "إحكام الأحكام" جـ 2 ص 23 - 24.

والذي ارتضاه العلامة الصنعاني في حاشيته: أن يقال: إن أحاديث التهجير منسوخة كما قال أحمد، ودل له حديث المغيرة، وأنه كان أول الأمر صلاته بالهاجرة، ثم نسخه بالإبراد، وهو خاص بأيام شدة الحر.

وقد يقال: إن الصحابي إذا عبر بعبارة تدل على أن هجّيرَاهُ وعادته كان التهجيرَ بالصلاة، فمراده الأغلبُ ذلك؛ إذ أيام شَدَة الحر قليلة

ص: 87

بالنسبة إلى خلافها في المدينة، انتهى كلام الصنعاني في "العدة" جـ 2 ص 26 وهو جمع حسن. والله أعلم.

(و) كان يصلي (العصر والشمس حية بيضاء نقية) جملة اسمية وقعت حالًا على الأصل بالواو، ومعنى نَقِيَّة: خالصة صافية، لم يدخلها بَعْدُ صفرة، ولا تغير. أفاده العيني.

(و) كان يصلي (المغرب إِذا وجبت الشمس) أي غابت، وأصل الوجوب السقوط، والمراد سقوط قرص الشمس، وفيه دليل على أن سقوط قرص الشمس يدخل به وقت المغرب، ولا يخفى أن محله ما إذا كان لا يحول بين رؤيتها غاربةً، وبين الرائي حائل. قاله في الفتح.

(والعشاء أحيانًا) جمع حينٍ، وهو اسم مبهم يقع على القليل والكثير من الزمان، على المشهور، وهو المراد هنا، وإن كان جاء بمعنى أربعين سنة، وبمعنى ستة أشهر، اهـ. عمدة القاري جـ 5 ص 57.

فقوله: "والعشاء" بالنصب مفعول لفعل محذوف كسابقيه، وقوله:"أحيانًا" ظرف لذلك الفعل المقدر، أي كان يصلي العشاء في أوقات مختلفة، يقدم في بعضها، ويؤخر في بعضمها. فقوله: "كان إذا رآهم

الخ" بيان لمعنى قوله "أحيانًا". ورواية البخاري "والعشاء أحيانًا، وأحيانًا، إذا رآهم اجتمعوا عجَّلَ، وإذا رآهم أبطئوا أخَّرَ"، ولمسلم "أحيانًا يؤخرها، وأحيانًا يعجل" إلخ.

(كان إِذا رآهم اجتمعوا عجل) يعني أنه إذا رأى الجماعة اجتمعوا

ص: 88

عجل صلاة العشاء، لأن في تأخيرها تنفيرهم (وإذا رآهم قد أبطئوا) من الإبطاء رباعيًا، أي تأخروا عن الحضور (أخر) صلاة العشاء ليحرزوا فضيلة الجماعة.

تنبيه:

حديث جابر هذا أخرجه المصنف هنا وفي "الكبرى"، بدون بيان وقت الصبح، وقد أخرجه البخاري، وفيه بيانه، ولفظه "والصبح كانوا أو كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس"، ونحوه لمسلم، وأبي داود؛ ففي رواية المصنف اختصار، والله أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث جابر رضي الله عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا (527) عن عمرو بن علي، ومحمد بن بشار، كلاهما عن غندر، وفي "الكبرى"(1505) عن عمرو بن علي وحده، عن محمد ابن جعفر غندر، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن محمد بن عمرو ابن الحسن، عنه.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود؛ فأخرجه البخاري في

ص: 89

"الصلاة" عن مسلم بن إبراهيم- وعن بندار، عن غندر.

وأخرجه مسلم فيه عن أبي بكر، وبندار، وأبي موسى -ثلاثتهم عن غندر، وعن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه- ثلاثتهم عن شعبة، به.

وأخرجه أبو داود فيه عن مسلم بن إبراهيم به. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما بَوَّبَ له المصنف، وهو استحباب التعجيل بصلاة العشاء، وهو مقيد بما إذا اجتمع الناس، كما هو المنصوص عليه في الحديث وإلا فالتأخير أولى.

ومنها: التعجيل بصلاة الظهر، وهذا محمول على غير شدة الحر، أو محمول على أول الأمر، ثم جاء الأمر بالإبراد، وهو الأولى.

ومنها: استحباب التعجيل بصلاة العصر في أول وقتها، وهو قول الجمهور، خلافًا للحنفية.

ومنها: استحباب التعجيل بصلاة المغرب دائمًا. والله تعالى أعلم.

المسألة الخامسة. في اختلاف أهل العلم في الأفضل من تعجيل العشاء، أو تأخيرها. قال العلامة المجتهد الفقيه ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: اختلف الفقهاء في ذلك: فقال قوم: تقديمها أفضل، وهو ظاهر مذهب الشافعي، وقال قوم: تأخيرها أفضل، لأحاديث كثيرة تأتي للمصنف برقم 530، 531، 532، 533، 534.

ص: 90

وقال قوم: إن اجتمعت الجماعة، فالتقديم أفضل، وإن تأخرت فالتأخير أفضل، وهو قول المالكية، ومستندهم هذا الحديث.

وقال قوم: انه يختلف باختلاف الأوقات، ففي الشتاء، وفي رمضان تؤخر، وفي غيرهما تقدم، وإنما أخرت في الشتاء لطول الليل، وكراهة الحديث بعدها.

قال الصنعاني رحمه الله: هذا القول لا ينتهض عليه حديث، وإنما دليله الرأي الذي أشير إليه. اهـ.

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: وهذا الحديث -يعني حديث جابر هذا- يتعلق بمسألة تكلموا فيها، وهو أن صلاة الجماعة أفضل من الصلاة في أول الوقت، أو بالعكس؟ حتى إنه إذا تعارض في حق شخص أمران: أحدهما أن يقدم الصلاة في أول الوقت منفردًا، أو يؤخر الصلاة في الجماعة، أيهما أفضل؟

قال: والأقرب عندي أن التأخير لصلاة الجماعة أفضل، وهذا الحديث يدل عليه، لقوله:"وإذا أبطئوا أخر"، فأخر لأجل الجماعة مع إمكان التقديم، ولأن التشديد في ترك الجماعة، والترغيب في فعلها موجود في الأحاديث الصحيحة، وفضيلة الصلاة في أول الوقت وردت على جهة الترغيب في الفضيلة، وأما جانب التشديد في التأخير عن أول الوقت، فلم يرد كما في صلاة الجماعة، وهذا دليل على الرجحان لصلاة الجماعة.

ص: 91

نعم إذا صح لفظ يدل دلالةً ظاهرة على أن الصلاة في أول وقتها أفضل الأعمال كان متمسكًا لمن يرى خلاف هذا المذهب

(1)

. والحديث الذي فيه "الصلاة لوقتها"

(2)

ليس فيه دلالة قوية الظهور في أول الوقت. اهـ. "عمدة الأحكام " جـ 2 ص 31 - 33 بحاشية العدة.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي رجحه ابن دقيق العيد في هذه المسألة التي هي كون التأخير لأجل الجماعة هو الأفضلَ، هو الذي يترجح عندي. والله أعلم.

وأما مسألتنا- وهي مسألة اختلاف العلماء هل الأفضل في العشاء التقديم، أم التأخير؟ فالراجح عندي التفصيل الذي في هذا الحديث، وهو أن الإمام إذا رأى اجتماع الناس، يُعَجِّلُ، وإذا رأى تأخرهم يؤخر، وأما من كان يصلي وحده فالأفضل له أن يؤخر إلى ثلث الليل، وبهذا تجتمع الأحاديث. وسيأتي مزيد بسط لذلك في الباب رقم 20/ 530 إن شاء الله تعالى.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

(1)

هذا الحديث صححه بعضهم، وضعفه بعضهم، والأكثرون على تضعيفه.

(2)

يعني حديث "أي الأعمال أحب إلى الله"؟ وفيه "الصلاة لوقتها" متفق عليه.

ص: 92

‌19 - الشَّفَقُ

أي هذا باب ذكر الحديث، الدال على المعنى المراد من ذكر الشفق، في الأحاديث التي فيها أنه صلى الله عليه وسلم "كان يصلي العشاء إذا غاب الشفق"، لكن استدلال المصنف به على ما قاله، من أنه الشفق الأبيض غير

صحيح، كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.

528 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ رَقَبَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ سَالِمٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِمِيقَاتِ هَذِهِ الصَّلَاةِ عِشَاءِ الآخِرَةِ، كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيهَا لِسُقُوطِ الْقَمَرِ لِثَالِثَةٍ.

رجال الإسناد: ستة

1 -

(محمد بن قُدَامة) بن أعين بن المِسْور الهاشمي مولاهم أبو عبد الله المِصِّيصِيّ، ثقة، من [10].

قال النسائي: لا بأس به، وقال مَرَّةً: صالح. وقال الدارقطني: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". مات قريبا من سنة 250. وقال مَسْلَمَةُ: ثقة، صدوق، رَوَى عنه المصنف، وأبو داود، وهو من أفرادهما.

ص: 93

2 -

(جرير) بن عبد الحميد بن قُرط الضَّبِّي، الكوفي نزيل الرَّيّ وقاضيها، ثقة صحيح الكتاب، قيل: كان في آخره يَهِمُ من حفظه، توفي سنة 188 عن 71 سنة، من [8]، تقدم في 2/ 2.

3 -

(رَقَبَةُ) بن مَصْقَلَةَ العَبْدِيّ الكوفي أبو عبد الله، ثقة مأمون، توفي سنة 129، من [6]، تقدم في 403 في كتاب الغسل.

4 -

(جعفر بن إِياس) أبو بشر بن أبي وَحْشيَّة، ثقة من أثبت الناس في سعيد بن جبير، وضعفه شعبة في مجاهد، وحبيب بن سالم، من [5]، تقدم في 520.

5 -

(حبيب بن سالم) الأنصاري، مولى النعمان بن بشير، وكاتبه، لا بأس به، من [3]، أخرج له مسلم والأربعة، روى عن مولاه، وعن حبيب بن يَسَاف، عنه، على اختلاف في ذلك، وقيل: عن أبيه عن النعمان بين بشير، وَرَوَى عن أبي هريرة. وعنه بشير بن ثابت، وأبو بشر جعفر بن إياس، وخالد بن عُرْفُطُةَ، وقتادة، فيما كتب إليه، ومحمد بن المنتشر، وغيرهم. قال أبو حاتم: ثقة. وقال البخاري: فيه نظر، وقال أبو أحمد بن عدي: ليس في متون أحاديثه

حديث منكر، بل قد اضطرب في أسانيد ما يُرْوَى عنه. وقال الآجري عن أبي داود: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. أخرج له مسلم، والأربعة.

6 -

(النعمان بن بشير) بن سَعْد بن ثَعْلَبَة بن جُلاس بن زيد بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج الأنصاري الخزرجي، أبو عبد الله

ص: 94

المدني، له ولأبيه صحبة، وأمه عمرة بنت رَوَاحَةَ. رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن خاله عبد الله بن رواحة، وعمرَ، وعائشةَ. وعنه ابنه محمد، ومولاه حبيب بن سالم، والشعبي، وآخرون.

قال الواقدي: ولد على رأس أربعة عشر شهرا من الهجرة، وهو أول مولود ولد في الأنصار بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم، هذا قول الأكثر، أنه ولد هو، وابن الزبير، عام اثنين من الهجرة، وقيل غير ذلك. وروى نحوه عن جابر أنه قال: أنا أسن منه بنحو من عشرين سنة، وما ولد قبل بدر إلا بثلاثة أشهر، أو أربعة.

وقال يحيى بن معين: ليس يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا، يقول فيه سمعت إلا في حديث الشعبي "الجسد مضغة"، والباقي من حديثه إنما هو عن النبي صلى الله عليه وسلم، ليس فيه، سمعت. وقال أيضًا: أهل المدينة يقولون: لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل العراق يصححون سماعه منه.

وقال أبو نعيم: كان أميرًا على الكوفة في عهد معاوية. وقال أبو حاتم: كان أميرًا على الكوفة تسعة أشهر. وقال أبو مسهر عن سعيد بن عبد العزيز: كان قاضي دمشق بعد فَضَالة بن عُبَيد.

قال سماك بن حرب: استعمله معاوية على الكوفة، وكان من أخطب من سمعت. وقال الهيثم بن عدي: عزله معاوية عن الكوفة، ثم وَلاّه حِمْصَ.

وقال ابن سعد: أخبرت عن أبي اليمان، عن إسماعيل بن عياش،

ص: 95

عن يزيد بن سعيد، عن عبد الملك بن عَمير، قال: أتَى بشيرُ بنُ سعد بالنعمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ادع له، فقال: أما ترضى أن يبلغ ما بلغت، ثم يأتي الشام، فيقتله منافق من أهل الشام.

وقال أبو مسهر: كان النعمان بن بشير عاملًا على حمص، فبايع لابن الزبير -يعني بعد موت- يزيد بن معاوية، فلما تمرد أهل حمص خرج هاربًا، فاتبعه خالد بن خلي الكلاعي، فقتله. وقال خليفة ابن خياط: وفي أول سنة ستين، خرج النعمان من حمص، فاتبعه خالد ابن خلي الكلاعي، فقتله. وقال المفضل الغلابي، وغيره: قتل سنة 66 وقيل: 65، عن 64 سنة، وأخرج له الجماعة. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف.

ومنها: أن رجاله كلهم موثقون.

ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي.

ومنها: أن النعمان، وحبيبًا، ومحمَد بنَ قُدامة، هذا الباب أول محل ذكرهم.

ومنها: أن فيه الإخبار والتحديثَ، والعنعنةَ. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن النعمان بن بشير) بن سَعْد رضي الله عنهما، أنه (قال: أنا

ص: 96

أعلم الناس بميقات هذه الصلاة) وفي الرواية الآتية "والله إني لأعلم الناس بوقت هذه الصلاة".

وإنما قال النعمان رضي الله عنه هذا تحدثًا بنعمة الله تعالى عليه بزيادة العلم، مع ما فيه من حمل السامعين على اعتماد مرويه، ولعل وقوع هذا القول منه بعد موت غالب أكابر الصحابة، وحفاظِهِم الذين هم أعلم بذلك منه. قاله القاري. ويحتمل أنه قال ذلك على ظن أنه لم يضبط وقت صلاة العشاء من الصحابة أحد، كما ضبطه هو، بناء على أنه بحث عنه، واستقرأه، واجتهد في علمه ومشاهدته ما لم ير شيئا من ذلك لأحد من الصحابة. قاله في "المرعاة".

(عشاء الآخرة) وفي الرواية الآتية "صلاة العشاء الآخرة"، وهو بالجر بدل من هذه الصلاة، ويحتمل النصب بتقدير "أغني".

(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها) أي العشاء الآخرة (لسقوط القمر) اللام بمعنى "عند" أى عند غروبه

(1)

(لثالثة) أي في ليلة ثالثة من الشهر، قال الطيبي: هو بدل من قوله: "لسقوط القمر"، أي وقت غروبه، قال القاري: وفيه بحث، والأظهر أنه متعلق بسقوط القمر. اهـ وقيل: صفة للقمر، أي لسقوط القمر الكائن لليلة ثالثة من الشهر.

(1)

وقد صرح ابن هشام بأن اللام تأتي بمعنى "عند" كقولهم: كتبته لخمس خلون، وجعل منه ابن جني قراءة الجحدري:"بل كذبوا بالحقِ لماَ جاءهم" بكسر اللام، وتخفيف الميم، انظر مغني اللبيب بحاشية الأمير جـ 1 ص 178.

ص: 97

وحاصل المعنى أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي العشاء الآخرة عند مغيب القمر في الليلة الثالثة من الشهر، وكأنه يريد به أن هذا هو الغالب، وإلا فقد علم أنه كان يعجل تارة، ويؤخر أخرى بحسب المصلحة، كما تقدم في حديث جابر رضي الله عنه "كان إذا رآهم اجتمعوا عَجَّلَ، وإذا رآهم أبْطَئُوا أخر".

قال في "المرعاة": قال العلامة

(1)

في تعليقه على الترمذي: قد استدل بعض علماء الشافعية بهذا الحديث على استحباب تعجيل العشاء. انظر المجموع للنووي جـ 3 ص 55 - 58.

وتعقبهم ابن التركماني في الجوهر النقي جـ 1 ص 450، فقال: إن القمر في الليلة الثالثة يسقط بعد مضي ساعتين ونصف ساعة، ونصف سبع ساعة من ساعات تلك الليلة المجزأة على ثنتي عشرة ساعة، والشفق الأحمر يغيب قبل ذلك بزمن كثير، فليس في ذلك دليل على التعجيل عند الشافعية، ومن يقول بقولهم.

قال: وقد يظهر هذا النقد صحيحًا دقيقًا في بادئ الرأي، وهو صحيح من جهة أن الحديث لا يدل على تعجيل العشاء، وخطأ من جهة حساب غروب القمر، فَلَعَلَّ ابن التركماني راقب غروب القمر في ليلة ثالثة من بعض الشهور، ثم ظن أن موعد غروبه متحد في كل ليلة ثالثة من كل شهر، وليس الأمر كذلك.

(1)

هكذا أبهمه، فلينظر من هو العلامة.

ص: 98

ثم نقل لإثبات خطأ ابن التركماني جدولين لأوقات غروب القمر في الليالي الثالثة من شهور سنة 1345 هـ وسنة 1356 هـ بحساب مدينة القاهرة ذكر فيهما أوقات العشاء، وأوقات الفجر، وأوقات غروب القمر بالساعة العربية بتقسيم اليوم والليلة إلى 24 ساعة، واحتساب مبدئها من غروب الشمس، قالى: ومنه يظهر خطأ ابن التركماني، فإنك إذا قسمت الوقت بين غروب الشمس، وبين طلوع الفجر، إلى اثني عشر قسمًا -سماها ابن التركماني ساعات- وجدت أن القمر يغرب في بعض الليالي الثالثة قبل الوقت الذي ذكر، وفي بعض الليالي بعده.

ومنه يظهر أيضًا أن النعمان بن بشير لم يستقرئ أوقات صلاة النبي صلى الله عليه وسلم العشاء استقراءً تامًا، ولعله صلاها في بعض المرات في ذلك الوقت، فظن النعمان أن هذا الوقت يوافق غروب القمر لثالثة دائمًا، ومما يؤيد ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يلتزم وقتًا مُعَيَّنًا في صلاتها، كما قال جابر بن عبد الله في ذكر أوقات صلاة النبي صلى الله عليه وسلم:"والعشاء أحيانًا يؤخرها، وأحيانًا يعجل، إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطئوا أخر"، وهو حديث صحيح أخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي. اهـ. مرعاة جـ 2 ص 320، 321. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

ص: 99

حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما هذا صحيح.

قال في "المرعاة": قال ابن العربي في عارضة الأحوذي جـ 1 ص 277: حديث النعمان حديث صحيح، وإن لم يخرجه الإمامان، فإن أبا داود خَرَّجَهُ عن مسدد، والترمذي عن ابن أبي الشوارب، كلاهما عن أبي عوانة، عن أبي بشر جعفر بن أبي وحشية، عن بشير بن ثابت، عن حبيب بن سالم.

فأما حبيب بن سالم مولى النعمان بن بشير، فقال أبو حاتم: هو ثقة، وأما بشير بن ثابت، فقال يحيى بن معين: إنه ثقة. ولا كلام فيمن دونهما، وإن كان هشيم قد رواه عن أبي بشر، عن حبيب بن سالم بإسقاط بشير. وما ذكرناه أصح، وكذلك رواه شعبة، وغيره، وخطَأُ من أخْطَأَ في الحديث لا يخرجه عن الصحة. انتهى.

قال صاحب "المرعاة": حديث شعبة أخرجه أحمد جـ 4 ص 272 عن يزيد بن هارون، والحاكم جـ 1 ص 194 من طريق يزيد بن هارون، عن شعبة، عن أبي بشر نحو رواية أبي عوانة، وحديث هشيم أخرجه أحمد جـ 4 ص 270، وأبو داود الطيالسي- كلاهما عن هشيم.

وأخرجه الحاكم جـ 1 ص 194 من طريق عمرو بن عون، عن هشيم، عن أبي بشر، عن حبيب بن سالم، بغير ذكر واسطة بشير بن ثابت. قال الحاكم: تابعه رَقَبَةُ بن مَصْقَلَةَ عن أبي بشر، هكذا اتفق رَقَبَةُ وهشيم على رواية هذا الحديث عن أبي بشر، عن حبيب بن سالم، وهو

ص: 100

إسناد صحيح، وخالفهما شعبة، وأبو عوانة، فقالا: عن أبي بشر، عن بشير بن ثابت، عن حبيب بن سالم. انتهى.

ورَقَبَةُ بن مَصْقَلَة ثقة، وروايته عند النسائي، عن محمد بن قدامة، عن جرير بن عبد الحميد، عن رقبة، وهذا كما ترى قد اختلفت الرُّواةُ عن أبي بشر، فبعضهم رواه عنه، عن حبيب بن سالم بلا واسطة، وبعضهم رواه عنه، عن بشير بن ثابت، عن حبيب.

وقد رجح الترمذي وتابعه ابن العربي روايةَ من زاد: عن بشير بن ثابت؛ قال الترمذي: وحديث أبي عوانة أصح عندنا، لأن يزيد بن هارون رَوَى عن شعبة، عن أبي بشر نحو رواية أبي عوانة. وصرح ابن العربي -كما تقدم- بأن هشيمًا أخطأ في روايته. ولكن متابعة رَقَبَة بن مَصْقَلَة له تُبْعِدُ احتمال الخطأ. والظاهر أن أبا بشر سمعه من حبيب،

وسمعه من بشير بن ثابت، عن حبيب، فكان يرويه مرة هكذا ومرة هكذا، كما تراه كثيرا في صنيع الرواة. والإسنادُ صحيح في الحالين. كذا حققه صاحب التعليق. وهو تحقيق جيد.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا التحقيق حقيق بالقبول، لا كما قاله الترمذي، وتبعه عليه ابن العربي، وهذا الذي اعتمدته هو الذي يدل عليه صنيع المصنف رحمه الله حيث ساق الحديث بالإسنادين، ولم يتعقب أحدهما بشيء من التعليل. والله أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

ص: 101

أخرجه هنا (258) وفي "الكبرى"(1510) عن محمد بن قُدَامَة، عن جرير، عن رَقَبَة، عن جعفر بن إياس، عن حبيب بن سالم، عن النعمان بن بشير ....

و (529) و"الكبرى"(1511) عن عثمان بن عبد الله، عن عَفَّان، عن أبي عَوَانَةَ، عن أبي بِشْر، عن بشير بن ثابت، عن حبيب بن سالم، عنه. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه أبو داود في الصلاة عن مسدد، عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن بشير بن ثابت، عن حبيب به. وأخرجه الترمذي فيه عن محمد بن عبد الملك بن أبي الشَّوَارِب، عن أبي عوانة به. وعن محمد ابن أبان، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن أبي عوانة، نحوه. وقال: رَوَى هشيم هذا عن أبي بشر، عن حبيب -ولم يذكر بَشِيرَ بنَ ثابت- وحديثُ أبي عوانة أصَحُّ، لأن يزيد بن هارون روى عن شعبة، عن أبي بشر نحو رواية أبي عوانة. اهـ.

وأخر جه أحمد، والحاكم، والبيهقي. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة:

أنه لم يتبين من ترجمة المصنف رحمه الله تعالى هنا في "المجتبى" بقوله: "الشفق" أىَّ شَفَقٍ يريد الاستدلالَ عليه بهذا الحديث؛ هو الشفق

ص: 102

الأحمر، أم هو الشفق الأبيض؟، لكن بَيَّنَ مراده في "الكبرى" حيث قال:"ذِكْرُ مَا يُسْتَدَلُّ به عَلَى أنَّ الشفق البياضُ"، فأورد حديث النعمان هذا من طريق أبيَ عَوانة، عن أبي بشر، عن بشير، عن حبيب، عنه. فأفصح به أنه يريد ترجيح قول من قال: إن الشفق هو الأبيض، ولكن هذا الاستدلال غير واضح.

وقد تقدم الاعتراض على ابن التركماني -في قوله: إن الأحمر يدخل قبل سقوط القمر لثالثة بزمن كثير ردًا على الشافعية في قولهم استحباب تعجيل العشاء مستدلين بحديث النعمان هذا

(1)

- بأن ما قاله غير صحيح، بل أحيانًا يتقدم، وأحيانًا يتأخر، وهكذا هنا يعترض على المصنف في استدلاله بهذا الحديث على أن المراد بالشفق هو الأبيض بأن هذا غير صحيح، فقد يوافق هذا، وقد لا يوافقه، بأن يتقدم مع الأحمر، فلا يدل الحديث على ما قاله. والله أعلم.

المسألة الخامسة: في اختلاف أهل العلم في معنى الشفق:

قال المجد رحمه الله: الشَّفَقُ مُحَرَّكَةً: الحمرةُ في الأفُقِ من الغروب إلى العشاء الآخرة، أو إلى قريبها، أو إلى قريب العَتَمَةِ. اهـ. "ق".

وقال الفيومي رحمه الله: الشفق: الحمرةُ من غروب الشمس إلى

(1)

واستدلال الشافعية به أيضًا غير صحيح، لأنه قد يتأخر عن أول الوقت. فتبصر.

ص: 103

وقت العشاء الآخرة، فإذا ذهب، قيل: غاب الشفقُ، حكاه الخليل، وقال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: عليه ثوب كالشَّفق، وكان أحمر، وقال ابن قُتَيْبَةَ: الشفق: الأحمرُ من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة، ثم يغيب ويبقى الشفق الأبيض إلى نصف الليل. وقال الزَّجَّاج: الشفق: الحمرة التي تُرَى في المغرب بعد سقوط الشمس، وهذا هو المشهور في كتب اللغة.

وقال المُطَرِّزِيُّ: الشفقُ: الحمرة عن جماعة من الصحابة، والتابعين، وهو قول أهل اللغة، وبه قال أبو يوسف، ومحمد، وعن أبي هريرة أنه البياض، وبه قال أبو حنيفة، وعن أبي حنيفة قولٌ متَأخِّر أنه الحمرة. اهـ. "المصباح" جـ 1 ص 318.

وقال النووي رحمه الله في تهذيب الأسماء واللغات:

أجمع العلماء على أن وقت صلاة العشاء يدخل بغيبوبة الشفق، والأحاديث الصحيحة مشهورة بذلك. ولكن اختلفوا في الشفق المراد به، هل هو الأحمر، أو الأبيض؟، والأحمر يتقدم والأبيض يتأخر.

فذهب الشافعي، والجمهور رضي الله عنهم إلى أنه الحمرة. وذهب أبو حنيفة وآخرون رضي الله عنهم إلى أنه البياض.

وَرَوى البيهقيُّ بإسناده الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: الشفق: الحمرة. ورواه البيهقي أيضًا عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس، وأبي هريرة، وعُبادَة بن

ص: 104

الصامت، وشَدَّادِ بن أوس رضي الله عنهم. ورواه عن مكحول، وسفيان الثوري. ورواه مرفوعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس بثابت عنه صلى الله عليه وسلم.

وحكى ابن المنذر في "الإشراف" أنه الحمرة عن ابن أبي ليلى، ومالك، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن. قال: ورُوِيَ ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وعن ابن عباس أيضًا أنه البياض. قال: وَرَوَيْنَا عن أنس، وأبي هريرة، وعمر بن عبد العزيز، ما يدل على أنه البياض، وبه قال أبو حنيفة. قال ابن المنذر: الشفق: البياض.

وحكى القاضي أبو الطيب عن أبي ثور، وداود أنه الحمرة، وعن زُفَرَ، والمُزَنِيِّ أنه البياض.

وحكاه غيره عن معاذ بن جبل الصحابي رضي الله عنه. ونقل البغوي عن أكثر أهل العلم أنه الحمرة.

قال: واستدل أصحابنا للحمرة بأشياء من الحديث، والمعنى لا يظهر منها دلالةً مُحَقَّقَةً،، والذي ينبغي أن يُعتَمَدَ أن المعروف عند العرب أن الشفق الحمرة، وذلك مشهور في شعرهم، ونثرهم، ويدل عليه نقل أئمة اللغة.

قال الإمام أبو منصور الأزهري في شرح ألفاظ المختصر: الشفق

ص: 105

عند العرب: الحمرة. رَوَى سلمة عن الفراء، قال: سمعت بعض العرب يقول: عليه ثوب مصبوغ، كأنه الشفق، وكان أحمرَ.

وقال ابن فارس في المُجْمَل: قال ابن دُرَيدٍ: الشفقُ: الحمرة. قال ابن فارس: وقال أيضا الخليل: الشفق الحمرة التي من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة. وذكر قول الفراء، ولم يذكر ابنُ فارس غَيرَ هذا.

وقال الزبيدي في "مختصر العين": الشفق الحمرة بعد غروب الشمس.

وقال الخطابي في "معالم السنن": حُكِيَ عن الفراء أنه الحمرة، قال: وأخبرني أبو عُمَر عن ثعلب أن الشفق: البياض، قال الخطابي: وقال بعضهم: الشفق: اسم للحمرة، والبياض، إلا أنه إنما يطلق على أحمر ليس بِقَانئٍ، وأبيض ليس بنَاصِع، وانما يعلما المراد به بالأدلة، لا بنفس الاسم، كالقُرّ، وغيره من الأسماء للشتاء. اهـ. "تهذيب الأسماء، واللغات" جـ 3 ص 165 - 166.

وكتب الإمام المجتهد أبو محمد بن حزم رحمه الله تعالى في كتابه النفيس -"المُحَلَّى"- بحثا نفيسًا في هذه المسألة، فقال:

(مسألة الشفق، والفجر) قال علي: الفجر فجران، والشفق شفقان، والفجر الأول هو المُستَطيل المُستَدَقُّ صاعدًا في الفَلَك، كَذَنبِ

ص: 106

السِّرْحَان، وتَحْدُث بعده ظلمةٌ في الأفُقِ، لا يُحَرِّم الأكلَ، ولا الشربَ على الصائم، ولا يدخل به وقت صلاة الصبح. هذا لا خلاف فيه من أحد من الأمة كلها.

والآخر هو البياض الذي يأخذ في عرض السماء في أفق المشرق في موضع طلوع الشمس، في كل زمان، ينتقل بانتقالها، وهو مقدمة ضوئها، ويزداد بياضه، وربما كان ديه توريد بحمرة بديعة، وبتبينه يدخل وقت الصوم، ووقت الأذان لصلاة الصبح، ووقت صلاتها، فأما دخول وقت الصلاة بتبينه فلا خلاف فيه من أحد من الأمة.

وأما الشفقان: فأحدهما الحمرة، والثاني البياض، فوقت المغرب عند ابن أبي ليلى، وسفيان الثوري، ومالك، والشافعي، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، والحسي بن حي، وداود، وغيرهم: يخرج، ويدخل وقت صلاة العتمة، بمغيب الحمرة، وعلى قول أحمد بن حنبل، وإسحاق، إلا أن أحمد، قال: يستحب في الحضر خاصة دون السفر أن لا يصلي إلا إذا غاب البياض، ليكون على يقين من مغيب الحمرة، فقد تُواريها الجُدْران، وقال أبو حنيفة، وعبد

الله بن المبارك، والمُزَني، وأبو ثَوْر: لا يخرج وقت المغرب، ولا يدخل وقت العَتَمَة إلا بمغيب البياض.

قال علي: قد صح أن رسول صلى الله عليه وسلم حد خروج وقت المغرب،

ص: 107

ودخول وقت العتمة بمغيب نور الشفق، والشفق يقع في اللغة على الحمرة، وعلى البياض، فإن ذلك كذلك، فلا يجوز أن يخص قوله عليه السلام بغير نص، ولا إجماع، فوجب أنه إذا غاب ما يسمى شفقًا، فقد خرج وقت المغرب، ودخل وقت العتمة، ولم يقل عليه السلام قط: حتى يغيب كل ما يسمى شفقًا.

وبرهانٌ قاطعٌ، وهو أنه قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد وقت العتمة بأن أوله إذا غاب الشفق، وآخره ثلث الليل الأول، ورُوِيَ أيضًا نصف الليل، وقد عَلِمَ كلُّ من له علم بالمطالع، والمغارب، ودَوَرَان الشمسِ:

أن البياض لا يغيب، إلا عند ثلث الليل الأول، وهو الذي حد عليه السلام خروج أكثر الوقت فيه، فصح يقينا أن وقتها داخل قبل ثلث الليل الأول بيقين. فقد ثبت بالنص أنه داخل قبل مغيب الشفق الذي هو البياض بلا شك

(1)

، فإن ذلك كذلك، فلا قول أصلا، إلا أنه الحمرة بيقين، إذ قد بطل كونه البياض.

واحتج من قَلَّدَ أبا حنيفة بأن قال: إذا صلينا عند غروب البياض، فنحن على يقين بإجماع أننا قد صلينا عند الوقت، وإن صلينا قبل

(1)

قال العلامة أحمد شاكر في تعليقه على "المحلى": هذه القطعة من أبدع حجج ابن حزم، وأمتنها، وقد نقل الشوكاني معناها في نيل الأوطار جـ 1 ص 411 عن شرح الترمذي لابن سيد الناس، وأنا أظن أنه أخذها عن ابن حزم، ويكاد يكون لفظهما متحدًا. اهـ. جـ 1 ص 193.

ص: 108

ذلك، فلم نصل بيقين إجماع في الوقت.

قال علي: هذا ليس شيئًا، لأنه إن التزموه، أبطل عليهم جمهورَ مذهبهم، فيقال مثل هذا في الوضوء بالنبيذ، وفي الاستنشاق، والاستنثار، وقراءة أم القرآن، والطمأنينة، وكل ما اختلف فيه، مما يبطل الصوم، والحج، ومما تجب فيه الزكاة، فيلزمهم أن لا يؤدوا عملًا من الشريعة إلا حتى لا يختلف اثنان في أنهم قد أدَّوْهُ، كما أمروا، ومع هذا لا يصح لهم من مذهمهم جزء من مائة جزء بلا شك.

وذكروا حديث النعمان بن بشير: أنه عليه السلام كان يصلي العتمة لسقوط القمر ليلة ثالثة، ولو كان لكان أعظم حجةٍ لنا، لأن الشفق الأبيض يبقى بعد هذه مدة طويلة بلا خلاف.

واحتج بعضهم بالأثر: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العشاء الآخرة إذا اسود الليل"، وبقاء البياض يمنع من سواد الأفق.

قال علي: وهذا خطأ، لأنه يصلي العتمة مع بياض القمر، وهو أمنع من سواد الأفق على أصولهم: من البياض الباقي بعد الحمرة الذي لا يمنع من سواد الأفق، لقلته، ودِقَّتِهِ. وذكروا حديث النعمان بن بشير: أنه عليه السلام كان يصلي العتمة لسقوط القمر ليلة ثالثة. وهذا لا حجة لهم فيه، لأننا لا نمنع من ذلك، ولا من تأخيرها إلى نصف

ص: 109

الليل، بل هو أفضل، وليس في هذا، المنع من دخول وقتها قبل ذلك.

وذكروا حديثًا ساقطًا موضوعًا، فيه أنه عليه السلام صلى العتمة قبل غروب الشقق.

(1)

وهذا لو صح -ومعاذ الله من ذلك- لما كان فيه إلا جواز الصلاة قبل وقتها، وهو خلاف قولهم، وقولنا.

وذكروا عن ثعلب: أن الشفق البياض. قال علي: لسنا ننكر أن الشفق البياض، والشفق الحمرة، وليس ثعلب حجة في الشريعة، إلا في نقله، فهو ثقة، وأما في رأيه فلا.

وأظرف ذلك احتجاج بعضهم بأن الشفق مشتق من الشفقة، وهي الرِّقَّة، ويقال: ثوب شفيق إذا كان رقيقًا، وقالوا: البياض أحق بهذا، لأنها أجزاء رقيقة تبقى بعد الحمرة.

قال علي: وهذا هَوَس، ناهيك به، فإن قيل لهم: بل الحمرة أولى به لأنها تتولد عن الإشفاق، والحياء!، وكل هذا تخليط هو في الهزل

(1)

قال العلامة أحمد شاكر رحمه الله: هذا الحديث لم أجده، إلا أن البيهقي أشار إليه في السنن، فقال: والذي رواه سليمان بن موسى، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في أوقات الصلاة: ثم صلى العشاء قبل غيبوبة الشفة" مخالف لسائر الروايات. جـ 1 ص 373، ولكنه رَوَى حديث سليمان في ص 372 بلفظ "ثم صلى المغرب قبل غيبوبة الشفق"، ونقل الشوكاني بعد حديث النعمان بن بشير أن ابن العربي، قال: هو صحيح، وصلى قبل غيبوبة الشفق". جـ 1 ص 411.

ص: 110

أدخل منه في الجِدِّ.

وقال بعضهم: لما كان وقت صلاة الفجر يدخل بالفجر الثاني وجب أن يدخل وقت صلاة العتمة بالشفق الثاني، فعورضوا بأنه لما كان الفجر فجرين، وكان دخول وقت صلاة الفجر الذي معه الحمرة وجب أن يكون دخول وقت العتمة بالشفق الذي معه الحمرة.

وقالوا أيضًا: لما كانت الحمرة -التي هي مقدمة طلوع الشمس- لا تأثير لها في خروج وقت صلاة الفجر، وجب أن يكون أيضا لا تأثير لها في خروج وقت المغرب، فعورضوا بأنه لما كانت الطوالع ثلاثة، والغوارب ثلاثة، وكان الحكم في دخول وقت صلاة الصبح للأوسط من الطوالع: وجب أن يكون الحكم في دخول صلاة العتمة للأوسط من الغوارب.

وهذه كلها تخاليط، ودعاوٍ فاسدة، متكاذبة، وإنما أوردناها لِيَعْلَمَ من أنعم الله تعالى عليه بأن هداه لإبطال القياس في الدين: عظيمَ نعمة الله تعالى عليه في ذلك، وليتبصر من غَلِطَ، فقال به

(1)

. وما توفيقنا إلا

(1)

قال الجامع: هذا عند المحققين في القياس الفاسد بأن كان في مقابلة النصوص، وأما غيره فلا يرد، وأما ابن حزم فمذهبه رد القياس مطلقًا. فتنبه.

ص: 111

بالله تعالى. اهـ المحلى جـ 1 ص 192 - 195.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تَبَيَّن بما قال هؤلاء الأئمة أن الأرجح في معنى الشفق المذكورِ في حديث صلاة العشاء هو الحمرة، لقوة مُتَمَسَّكِهِ الذي ذُكِرَ في كلامهم. والله أعلم.

خاتمة: نسأل الله تعالى حسنها- في ذكر ثلاث فوائد:

الأولى: قال النووي رحمه الله تعالى: للعشاء أربعة أوقات: فضيلة، واختيار، وجواز، وعذر، فالفضيلة أول الوقت، والاختيار بعده إلى ثلث الليل في الأصح، وفي قول: نصفه، والجواز إلى طلوع الفجر الثاني، والعذر وقت المغرب لمن جمع بسفر، أو مطر.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: والجواز إلى طلوع الفجر، هذا مذهبه ومذهب أكثر العلماء، لكن الصحيح الذي تدل عليه الأحاديث الصحيحة أن الجواز إلى نصف الليل، وسيأتي تحقيق ذلك في بابه، إن شاء الله تعالى.

الثانية: قال النووي أيضًا: قال صاحب التتمة: في بلاد المشرق نَوَاحٍ تقصر لياليهم فلا يغيب الشفق عندهم، فأولُ وقت العشاء عندهم أن يَمْضِيَ من الزمان بعد غروب الشمس قدر ما يغيب الشفق في مثله في أقرب البلاد إليهم.

ص: 112

الثالثة: قال أيضًا: قيل: إن بين المغرب، والعشاء نصف سدس الليل، فإن طال الليل، طال نصف السدس، وإن قصر: قصر. ذكر النووي هذه الفوائد في مجموعه جـ 3 ص 40، 41. والله تعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 113

‌20 - مَا يُسْتَحَبُ مِنْ تَأخِيرِ الْعِشَاءِ

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على بيان ما يستحب من تأخير صلاة العشاء.

فما: موصولة بمعنى الذي، واقعة على العمل، و"من تأخير العشاء": بيان لها.

والتقدير: هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على بيان العمل الذي يستحب، وهو تأخير صلاة العشاء. والله تعالى أعلم.

530 -

أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللهِ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ سَيَّارِ بْنِ سَلَامَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي عَلَى أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ، فَقَالَ: لَهُ أَبِي أَخْبِرْنَا كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ، قَالَ: كَانَ يُصَلِّي الْهَجِيرَ الَّتِي تَدْعُونَهَا الأُولَى، حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ، وَكَانَ يُصَلِّي الْعَصْر، ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنَا إِلَى رَحْلِهِ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، قَالَ: وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ، قَالَ: وَكَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ تُؤَخَّرَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ الَّتِي تَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ، قَالَ: وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا، وَكَانَ

ص: 114

يَنْفَتِلُ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ، وَكَانَ يَقْرَأُ بِالسِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ.

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(سُوَيد بنُ نَصْر) بن سويد المروزي، أبو الفضل لقبه الشَّاه، راوية ابن المبارك، ثقة، توفي سنة 240، وله 90 سنة، من [10]، أخرج له الترمذي والنسائي، تقدم في 45/ 55.

2 -

(عبد الله) بن المبارك المروزي مولى بني حَنْظَلَة، ثقة، ثبت، فقيه، عالم، جَوَاد، مُجَاهد، اجتمعت فيه خصال الخير، توفي سنة 181 عن 63 سنة، من [8]، أخرج له الجماعة، تقدم في 32/ 36.

3 -

(عوف) بن أبي جَمِيلَة الأعْرَابي العَبْدِي البصري، ثقة رمي بالقَدَر، والتشيع، توفي سنة 146 أو 147 عن 86 سنة، من [6]، أخرج له الجماعة، تقدم في 46/ 57.

4 -

(سَيَّار بن سَلامَة) الرِّيَاحيُّ، أبو الْمنْهَال البصري، ثقة، توفي سنة 129، من [4]، أخرج له الجماعة، تقَدم في 2/ 495.

5 -

(أبو بَرْزَة الأسلمي) اختلف في اسمه، واسم أبيه، والأشهر الأصح: نَضْلَة بن عُبَيد، أو نَضْلَة بن عبد الله، ويقال. نضلة بن عائذ -بالذال المعجمة-، توفي سنة 64، وقيل. توفي بعد ولاية ابن زياد، قبل موت معاوية، سنة 60، وكانت وفاته بالبصرة. قاله ابن دقيق العيد

ص: 115

رحمه الله تعالى. تقدم في 2/ 495. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف.

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات.

ومنها: أنهم بصريون، إلا سويدًا، وعبد الله، فمروزيان.

ومنها: أن أبا برزة انفرد بهذه الكنية في الصحابة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن سيار بن سلامة) الرياحي البصري، أنه (قال: دخلت أنا) أتى بالضمير المنفصل ليعطف على الضمير المتصل قَولَه (وأبي) لم تعرف ترجمته، كما تقدم، وكان ذلك، كما زاد الإسماعيلي "زمن خَرَجَ ابن زياد على البصرة"، وقال الحافظ: وكان ذلك في سنة 64.

(على أبي برزة الأسلمي) بفتح الموحدة، وسكون الراء، بعدها زاي، رضي الله عنه.

(فقال له أبي: أخبرنا كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة) يعني به كيفية الأوقات من تقديم، وتأخير، ونحو ذلك، والألف واللام للاستغراق، ولهذا أجاب بذكر الصلوات كلها، لأنه فهم من السائل العموم. قاله ابن دقيق العيد.

ص: 116

(قال) أبو برزة (كان يصلي الهجير) هو على حذف مضاف، أي صلاة الهجير، وقد تقدم أن الهجير، والهاجرة: شدة الحر، وقُوَّتُهُ.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: إن لفظة "كان" تشعر عرفًا بالدوام، والتكرار، كما يقال: كان فلان يكرم الضيوف، وكان فلان يقاتل العدو: إذا كان ذلك دأبه، وعادته.

(التي تدعونها الأولى) وتقدم سبب تسميتها بذلك، بأنها أول صلاة صلاها جبريل عليه السلام.

(حين تدحض الشمس) بفتح التاء، والحاء. والمراد به هنا زوالها، واللفظة من حيث الوضع أعم من هذا. وظاهر اللفظ يقتضي وقوع صلاته صلى الله عليه وسلم عند الزوال، ولابد من تأويله، لأنه قد علم من ضرورية شرعية الأوقات أنه لا وقت للظهر إلا من بعد

الزوال.

وقد اختلف أصحاب الشافعي فيما تحصل به فضيلة أول الوقت؛ فقال بعضهم: إنما تحصل بأن يقع أول الصلاة مع أول الوقت، بحيث تكون شروط الصلاة متقدمة على دخول الوقت، وتكون الصلاة واقعة في أوله، وقد يتمسك هذا القائل بظاهر هذا الحديث، فإنه قال:"يصلي حين تزود"، فظاهره وقوع أول الصلاة في أول جزء من الوقت عند

ص: 117

الزوال، لأن قوله:"يصلي" يجب حمله على يَبْتَدِئ الصلاة، فإنه لا يمكن إيقاع جميع الصلاة حين تدحض الشمس.

ومنهم من قال: تمتد فضيلة أول الوقت إلى نصف وقت الاختيار، فإن النصف السابق من الشيء ينطلق عليه أول الوقت بالنسبة إلى المتأخر.

ومنهم من قال -وهو الأعدل- كما قاله ابن دقيق العيد رحمه الله: إنه إذا اشتغل بأسباب الصلاة عقيب دخول أول الوقت، وسعى إلى المسجد، وانتظر الجماعة -وبالجملة لم يشغل بعد دخول الوقت، إلا بما يتعلق بالصلاة- فهو مدرك لفضيلة أول الوقت.

قال: ويشهد لهذا فعل السلف، والخلف، ولم ينقل عن أحد منهم أنه كان يشدد في هذا، حتى يُوقِعَ أول تكبيرة في أول جزء من الوقت. اهـ عمدة مع العدة جـ 2 ص 36 - 38.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي رجحه العلامة ابن دقيق العيد رحمه الله حسن جِدًّا. والله أعلم.

(وكان يصلي العصر، ثم يرجع أحدنا) بعد انقضاء الصلاة.

(إلى رحله في أقصى المدينة، والشمس حية) جملة حالية من مقدر، أي فيصل إلى رحله، والحال أن الشمس نقية بيضاء، لم يخالطها صفرة.

ص: 118

وفيه دليل على استحباب تقديم صلاة العصر في أول وقتها، وقد تقدم تمام البحث في بابه. 8/ 505 والحمد لله.

(قال) سيار؛ كما بينه أحمد في "مسنده".

(ونسيت ما قال) أبو برزة.

(في) بيان وقت صلاة (المغرب، قال) أبو برزة (وكان) صلى الله عليه وسلم (يَسْتَحِبُّ) أي يستحسن.

(أن تُؤَخَّر صلاةُ العضاء)"أن" مصدرية، والفعل المبني للمفعول، ونائبه في تأويل المصدر مفعول يستحب، أي يستحب تأخير صلاة العشاء.

وفي الرواية السابقة (495)"كان لا يبالي بعض تأخيرها -يعني العشاء- إلى نصف الليل" أي إلى قريب من نصف الليل.

وعند البخاري "ولا يبالي بتأخير العشاء إلى ثلث الليل"، ثم قال:"إلى شطر الليل".

ولمسلم من طريق معاذ، عن شعبة، قال: ثم لقيته مرة، فقال:"أو ثلث الليل".

قال الحافظ: وجزم حماد بن سلمة عن أبي المنهال عند مسلم بقوله: "إلى ثلث الليل"، وكذا لأحمد عن حجاج، عن شعبة. اهـ.

والحاصل أن رواية نصف الليل لابد من تأويلها بما ذكرنا لتوافق

ص: 119

رواية "وآخرُ وقت العشاء نصفُ الليل"، كما يأتي.

وهذا هو محل استدلال المصنف رحمه الله تعالى حيث بوب بقوله: "ما يستحب من تأخير العشاء". ففيه استحباب تأخيرها إلى ثلث الليل، أو بعده. وسيأتي بيان اختلاف العلماء في هذا قريبًا، إن شاء الله تعالى.

وقوله (التي تدعونها العتمة) فيه أن الأحسن تسميتها بالعشاء، كما في لفظ الكتاب العزيز:{وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 58].

وقد ورد في تسميتها بالعتمة ما يقتضي الكراهة، وورد أيضًا ما يدل علي جواز ذلك، وسيأتي بيان التوفيق بينهما في بابه إن شاء الله تعالى.

قال في "الفتح": وقال الطيبي: لعل تقييده الظهر، والعشاء دون غيرهما للاهتمام بأمرهما، فتسمية الظهر بالأولى يشعر بتقديمها، وتسمية العشاء بالعتمة يشعر بتأخيرها. اهـ جـ 2 ص 34.

(وكان يكره النوم قبلها) لأنه قد يكون سببًا لنسيانها، أو تأخيرها إلى خروج وقتها.

(و) كان يكره (الحديث بعدها) لأنه قد يؤدي إلى سهر يفضي إلى النوم عن الصبح، أو إلى إيقاعها في غير وقتها المستحب، أو لأن الحديث قد يقع فيه من اللغط واللغو، ما لا ينبغي ختم اليقظة به، أو

ص: 120

لغير ذلك. قاله ابن دقيق العيد.

(وكان ينفتل) أي ينصرف (من صلاة الغداة) أي الصبح (حين يعرف الرجل جليسه) فيه دليل على التغليس بصلاة الفجر، فإن ابتداء معرفة الإنسان لجليسه يكون مع بقاء الغبش.

(وكان يقرأ بالستين إِلى المائة) أي بالستين من الآيات إلى المائة منها، وفي ذلك مبالغة في التقدم في أول الوقت، لاسيما مع ترتيل قراءته صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت أنها كانت مدًا، يقف عند رأس كل آية، ومع ذلك كان يطيل الركوع، والسجود، والاعتدال على حسب ما يقتضية طول قيامه، ولذا ورد أن صلاته صلى الله عليه وسلم كانت على سواء، وفيه دلالة واضحة على التغليس لصلاة الفجر. أفاده في العمدة مع حاشيته العدة جـ 2 ص 40. والله تعالى أعلم.

تنبيهان:

الأول: هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدمت جميع المسائل المتعلقة به في (2/ 495) من كتاب المواقيت، فلا نطيل الكتاب بإعادتها، فارجع إليها إن شئت تستفد علمًا، والله المستعان، وعليه التكلان.

الثاني: أنه بقي علينا أن نكمل بحث الحديث ببيان الغرض الذي ساقه المصنف هنا من أجله، وهو استحباب تأخير العشاء، فلنذكر اختلاف أهل العلم فيه:

ص: 121

قد اختلف العلماء، هل الأفضل تقديم العشاء في أول وقتها، أم تأخيرها؟

وهما مذهبان مشهوران للسلف، وقولان لمالك، والشافعي. قاله النووي.

وقال ابن دقيق العيد:

ذهب قوم إلى أن تقديمها أفضل.

وذهب قوم إلى أن تأخيرها أفضل.

وذهب قوم إلى أنه إن اجتمعت الجماعة فالتقديم أفضل، وإن تأخرت فالتأخير أفضل.

وقال قوم. إنه يختلف باختلاف الأوقات، ففي الشتاء، وفي رمضان تؤخر، وفي غيرهما تقدم

(1)

.

احتج القائلون بأفضلية التقديم بأن العادة الغالبة للنبي صلى الله عليه وسلم هي التقديم، وإنما أخرها في أوقات يسيرة لبيان الجواز، والشغل، والعذر، ولو كان تأخيرها أفضل لواظب عليه، وإن كان فيه مشقة.

ورُدَّ بأن هذا إنما يتم لو لم يكن منه صلى الله عليه وسلم إلا مجرد الفعل لها في ذلك

الوقت، وهو ممنوع لورود الأقوال، كما في حديث ابن عباس (531)، وحديث أبي هريرة (534)، وحديث عائشة (535)، وغير ذلك،

(1)

قاله في "إحكام الأحكام"، ونقلته بتصرف. جـ 2 ص 31.

ص: 122

وفيها تنبيه على أفضلية التأخير، وعلى أن ترك المواظبة عليه لما فيه من المشقة، كما صرحت به تلك الأحاديث.

واحتج القائلون بأفضلية التأخير لهذه الأحاديث التي أشرنا إليها، وهي أحاديث صحيحة صريحة.

واحتج القائلون بالتفصيل بين اجتماع الناس، وعدم اجتماعهم، بحديث جابر الذي مضى (527) ففيه أنه:"إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم قد أبطئوا أخر".

ولا حجة للقائلين: إنه يختلف باختلاف الأوقات، ففي الشتاء ورمضان تؤخر، وفي غيرهما تقدم إلا قولهم: إنما أخرت في الشتاء لطول الليل، وكراهة الحديث بعدها.

قال العلامة الصنعاني رحمه الله: هذا القول لا ينتهض عليه حديث، وإنما دليله هذا الرأي. اهـ العدة بتصرف يسير جـ 2 ص 31.

قال الجامع عفا الله عنه: الراجح عندي أن التأخير هو الأفضل إلا لأجل المشقة، بأن كان إمام جماعة يشق عليهم التأخير، فيكون في حقه التقديم أفصل، وهو الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، حيث إنه بين أن تأخيرها هو الأولى، لولا خوف المشقة على أمته. وبه تجتمع الأدلة بدون إهمال لبعضها، وأما ما ورد من أفضلية أول الوقت على العموم، فأحاديث الباب خاصة، فتقدم عليه. كما بينه العلامة الشوكاني رحمه الله في نيله جـ 2 ص 64.

ص: 123

والحاصل أن التأخير لمن لا يشق عليه هو الأفضل. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

531 -

أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، وَيُوسُفُ بْنُ سَعِيدٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَيُّ حِينٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَنْ أُصَلِّيَ الْعَتَمَةَ، إِمَامًا، أَوْ خِلْوًا؟ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: أَعْتَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ بِالْعَتَمَةِ حَتَّى رَقَدَ النَّاسُ، وَاسْتَيْقَظُوا، وَرَقَدُوا، وَاسْتَيْقَظُوا، فَقَامَ عُمَرُ: فَقَالَ: الصَّلَاةَ، الصَّلَاةَ، قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَرَجَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ الآنَ، يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً، وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى شِقِّ رَأْسِهِ، قَالَ: وَأَشَارَ، فَاسْتَثْبَتُّ عَطَاءً، كَيْفَ وَضَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، فَأَوْمَأَ إِلَيَّ، كَمَا أَشَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَبَدَّدَ لِي عَطَاءٌ بَيْنَ أَصَابِعِهِ بِشَيْءٍ مِنْ تَبْدِيدٍ، ثُمَّ وَضَعَهَا، فَانْتَهَى أَطْرَافُ أَصَابِعِهِ إِلَى مُقَدَّمِ الرَّأْسِ، ثُمَّ ضَمَّهَا، يَمُرُّ بِهَا، كَذَلِكَ عَلَى الرَّأْسِ، حَتَّى مَسَّتْ إِبْهَامَاهُ طَرَفَ الأُذُنِ مِمَّا يَلِي الْوَجْهَ، ثُمَّ عَلَى الصَّدْغِ، وَنَاحِيَةِ الْجَبِينِ، لَا يَقْصُرُ، وَلَا يَبْطُشُ شَيْئًا،

ص: 124

إِلَّا كَذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ:"لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ أَنْ لَا يُصَلُّوهَا إِلَّا هَكَذَا".

رجال الإسناد: ستة

1 -

(إِبراهيم بن الحسن) بن الهَيْثَم الخثعمي، أبو إسحاق المصِّيصِيُّ المقْسَمِيُّ، ثقة، من [11]، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي، تقدم في 51/ 64.

2 -

(يوسف بن سعيد) بن مسلم أبو يعقوب المِسْمَعِيُّ المصيصي نزيل أنطاكية، ثقة، حافظ، توفي سنة 271، وقيل قبل ذلك، من [11]، أخرج له النسائي، تقدم في 131/ 198.

3 -

(حجاج) بن محمد المصيصي الأعور، أبو محمد الترمذي الأصل، نزيل بغداد، ثم المصيصة، ثقة ثبت لكنه اختلط آخرًا بعد دخوله بغداد، توفي سنة 206، من [9]، أخرج له الجماعة، تقدم في 28/ 32.

4 -

(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم، المكي، ثقة فقيه، فاضل، لكنه يدلس، ويرسل، توفي سنة 150، أو بعدها، من [6]، أخرج له الجماعة، تقدم في 28/ 32.

5 -

(عطاء) بن أبي رباح أسلم القرشي مولاهم المكي، ثقة فقيه فاضل، لكنه كثير الإرسال، توفي سنة 114 على المشهور، من [3]،

ص: 125

أخرج له الجماعة، تقدم في 112/ 154.

6 -

(ابن عباس) عبد الله الحبر البحر رضي الله عنه تقدم في 27/ 31. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف.

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات اتفقوا عليهم إلا شيخه يوسف فمن أفراده، وإبراهيم بن الحسن فانفرد له هو، وأبو داود، والترمذي.

ومنها: أنهم إلى الحجاج مصيصيون، ومن بعده مكيون.

ومنها: أن ابن عباس أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة روى 1696 حديثًا، وآخر من مات من الصحابة بالطائف، مات سنة 68. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن) عبد الملك بن عبد العزيز (بن جريج) اشتهر بالنسبة إلى جده، وله كنيتان، أبو الوليد، وأبو خالد المكي، أنه (قال: قلت لعطاء) بن أبي رباح (أيُّ حين) أي اسم استفهام مبتدأ، مضاف إلى حين، وخبره قوله:(أحب إِليك).

(أن أصلي العتمة)"أن" مصدرية، و"أصلي" صلتها، ومتعلقه

ص: 126

محذوف، تقديره "فيه"، و"العتمة" منصوب على المفعولية، و"أن" وصلتها في تأويل المصدر مجرور بحرف جر مقدر، أي لصلاتي، وتقدير الكلام: أيُّ وقت أحبُّ إليك لصلاتي العتمة فيه. والعتمة مُحرّكَةً: المراد هذا هنا العشاء، وتقدم الخلاف في معناها.

(إِمامًا) حال من فاعل "أصلي"، وهو المُقْتَدَى به في الصلاة.

قال الفيومي رحمه الله: والإمام: الخليفة، والعالمُ المقتدَى به، ومن يؤتم به في الصلاة، ويطلق على الذكر، والأنثى، قال بعضهم: وربما أنث إمام الصلاة بالهاء، فقيل: امرأة إمامة، وقال بعضهم: الهاء فيها خطأ، والصواب حذفها، لأن الإمام اسم لا صفة. انتهى المصباح جـ 1 ص 23.

(أو خِلْوًا) بالنصب عطفًا على "إمامًا"، والخلو بكسر فسكون: الخالي، والمراد به هنا المنفرد.

(قال) عطاء (سمعت ابن عباس) رضي الله عنهما (يقول: أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي أبطأ، وتأخر (ذات ليلة) أي ليلة من الليالي، فذات مقحمة (بالعتمة) أي بصلاة العشاء.

(حتى رقد الناس) أي ناموا، ويقال: رَقَدَ، رَقْدًا، ورُقَادًا، بالضم: نام، ليلًا كان، أو نهارًا، وبعضهم يخصه بنوم الليل، والأول هو الحق، ويشهد له المطابقة في قوله تعالى:{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف: 18]. قاله في المصباح.

ص: 127

والمراد بالناس: الحاضرون في المسجد.

(واستيقظوا، ورقدوا، واستيقظوا) يعني أن النوم والاستيقاظ تكرر منهم لطول الانتظار.

(فقام عمر) بن الخطاب رضي الله عنه.

(فقال: الصلاةَ الصلاةَ) زاد في رواية البخاري "نام النساء، والصبيان"، و"الصلاة" بالنصب على الإغراء، وعامله محذوفٌ وجوبًا، لكون المُغْرَى به مكررًا، كما قال ابن مالك في الخلاصة:

وكمُحذَّرٍ بلا "إِيَّا" اجْعلا

مُغْرى به في كُلِّ مَا قَدْ فُصِّلا

بعد بيان حكم المحذَّر بقوله:

إيَّاك وَالشَّرَّ ونحْوهُ نَصَبْ

مُحذِّرٌ بِمَا اسْتتارُهُ وجَبْ

ودُون عَطْفٍ ذا لإيّا انْسُبْ وما

سواه سَترُ فعْلِه لنْ يَلْزَمَا

إِلا مع الْعَطْفِ أو التَكْرَارِ

كَالضَّيغم الضَّيْغَمَ يَا ذَا السَّارِي

أي الزم الصلاة. ويحتمل أن يكون مفعولًا مطلقًا لمحذوف أي صَلِّ الصلاة، والتكرار للتأكيده.

(قال عطاء: قال ابن عباس: خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم) وفي نسخة "رسول الله صلى الله عليه وسلم"؛ أي من حجرته إلى المسجد.

(كأني أنظر إِليه الآن) أي كأني أشاهده في الوقت الذي أحدثكم فيه، وهذا قاله ابن عباس تأكيدًا لكلامه، وأنه ما نَسِيَ الواقعة، بل

ص: 128

استحضرها في ذهنه، حتى كأنها مشاهَدَة له حين التحديث بها.

و"الآن" منصوب على الظرفية، متعلق بأنظر، وهو ظرف للوقت الحاضر الذي أنت فيه ويلزم دخول الألف واللام، وليس ذلك للتعريف، لأن التعريف تمييز المشترِكات، وليس لهذا ما يَشْرَكُهُ في معناه.

قال ابن السَّرَّاج: ليس هوآنَ، وآن، حتى يدخل عليه الألف، واللام للتعريف، بل وُضِعَ مع الألف واللام للوقت الحاضر، مثل "الثُّرَيَّا"، "والذي"، ونحوِ ذلك. قاله في المصباح.

والجملة في محل نصب حال من محذوف، أي أخبركم به حال كوني مشبهًا نفسي ناظرة إليه في الوقت الحاضر.

(يقطر رأسه ماءً) وكأنه اغتسل قبيل خروجه، والجملة حال من الضمير في "إليه"، ويحتمل أن تكون حالًا من "نبي الله"، و"ماءً" تمييز محول عن الفاعل.

(واضعًا يده) حال أيضًا، إما مترادف، أو متداخل.

(على شق رأسه) أي على جانب رأسه، وإنما وضع يده عليه ليعصر ما فيه من الماء.

(قال:) عطاء (وأشار) أي ابن عباس إلى كيفية وضع يده على شق رأسه.

ص: 129

قال ابن جريج (فاستثبت عطاء) أي طلبت منه التثبيت، يقال: اسْتَثْبَتَ في أمره: إذا شاور، وفحص عنه. قاله في اللسان.

(كيف وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على رأسه، فأومأ إِليّ) أي أشار إلي موضحًا ذلك (كما أشار ابن عباس) إلى ذلك.

(فبدد لي عطاء) أي فرق، من التبديد، وهو التفريق (بين أصابعه بشيء من التبديد) أي تفريقًا قليلًا.

(ثم وضعها) أي أصابعه على رأسه (فانتهى) أي بلغ (أطراف أصابعه إِلى مقدم الرأس، ثم ضمها) أي ضم أصابعه، وكذا عند البخاري "ضمها" بالضاد، ولمسلم "وصبها" بالصاد المهملة، والموحدة، وصوبه القاضي عياض، قال: لأنه يصف عصر الماء من الشعر باليد.

قال الجامع: ورواية المصنف، والبخاري، أيضًا موجهة، كما قال الحافظ، بأن ضم الأصابع صفة للعاصر، فلا اختلاف بين المعنيين.

(يمر هذا) من الإمرار رباعيًا، حال من الأصابع (كذلك) أي على مثل تلك الحال من الضم، والجار والمجرور: متعلق بحال مقدر، أي حال كون الإمرار كائنًا كذلك (على الرأس) متعلق بيمر.

(حتى مست إِبهاماه طرف الأذن)"إبهاماه" مرفوع على الفاعلية، و"طرَفَ" مفعول به.

(مما يلي الوجه، ثم) مَرَّ (على الصدغ) بضم، فسكون: ما بين

ص: 130

لَحْظِ العين إلى أصل الأذن، والجمع: أصداغ، مثل: قُفْل، وأقْفَال، ويسمى الشعر الذي تدلى على ذلك الموضع صُدْغًا. قاله في المصباح.

(وناحية الجَبين) أي جانب الجبين، و"الجبينُ": ناحية الجبهة من مُحَاذَاة النَّزَعَةِ

(1)

إلى الصدغ، وهما جبينان، عن يمين الجبهة، وشمالها، قاله الأزهري، وابن فارس، وغيرهما؛ فتكون الجبهة بين جبينين، وجمعه جُبُن، بضمتين، مثل بَرِيد، وبُرُد، وأجْبِنَةٌ، مثل أسْلِحَةٍ. قاله في المصباح.

(لا يقصر) من التقصير بالقاف؛ أي لا يبطىء. قال في الفتح: ووقع عند الكشميهني: "لا يعصر" بالعين، والأولى أصوب. اهـ.

(ولا يبطش) من باب نصر، وضرب، أي لا يستعجل.

وقوله (شيئًا) منصوب بنزع الخافض، متعلق بكل من يقصر، ويبطش، أي لا يقصر في شيء مما فعله من الإمرار، والعصر، ويحتمل أن يكون مفعولًا مطلقًا ليبطش، حذف نظيره من يقصر، أي لا يقصر في ذلك تقصيرًا، ولا يبطش بَطْشًا.

(إِلا كذلك) أي إلا مثل ما وصفه ابنُ عباس لعطاء، وعطاءٌ لابن جريج.

(ثم قال:) صلى الله عليه وسلم مبينًا استحباب تأخير العشاء.

(1)

النَّزَعَةَ مُحَرَّكة: موضع النَّزَع من الرأس، وهو انحسار الشعر من جانبي الجبهة. اهـ "ق".

ص: 131

(لولا أن أشق على أمتي)"لولا" حرف امتناع لامتناع، و"أن أشق" في تأويل المصدر مبتدأ خبره محذوف وجوبًا، لقيام جواب "لولا" مقامه، وهو قوله (لأمرتهم) أي لولا خوف المشقة على أمتي في تأخير صلاة العشاء إلى هذا الوقت لأمرتهم (أن لا يصلوها) في تأويل المصدر مجرور بباء مقدرة قياسًا، أي بعدم صلاتها (إِلا هكذا) أي إلا في حال مشابهٍ لهذا، وهو كونها مؤخرة إلى هذا الوقت، وفي الرواية التالية "إنه الوقت، لولا أن أشق على أمتي". والله أعلم.

فائدة:

وقع في الطبراني من طريق طاوس في هذا الحديث بمعناه، قال: وذهب الناس إلا عثمان بن مظعون في ستة عشر رجلًا، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما صلى هذه الصلاة أمة قبلكم". قاله في الفتح جـ 2 ص 62. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا (531) عن إبراهيم بن الحسن، ويوسف بن سعيد،

ص: 132

كلاهما عن حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عنه.

وفي (532) وفي "الكبرى" أيضًا (1531/ 2) عن محمد بن منصور المكي، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عنه. وعن ابن جريج، عن عطاء، عنه. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري ومسلم؛ فأخرجه البخاري في "التمني" عن علي ابن المديني، عن سفيان، عن عمرو، عن عطاء، قال: أعتم النبي صلى الله عليه وسلم

فذكره، وفيه تعليقًا: قال ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس: أخر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة. وفي "الصلاة" عقيب حديث نافع عن ابن عمر- فقرن: عن محمود، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: قال ابن عباس: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم

الحديث. والله تعالى أعلم.

وأخرجه مسلم في "الصلاة" عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أي حين أحب إليك

الحديث.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما ترجم عليه المصنف رحمه الله، وهو استحباب التأخير بصلاة العشاء، وقد مر تفصيله في مسائل الحديث الماضي.

ومنها: حرص السلف في طلب الأوْلَى والأفضل من الأوقات

ص: 133

لإيقاع أفضل الطاعات بعد الشهادتين، وهي الصلاة فيه.

ومنها. أنه ينبغي لمن استُفْتِيَ أن يذكر الجواب مقرونًا بدليله.

ومنها: أنه ينبغي للسائل أن يتثبت في نقل العلم، ويشدد في الأخذ، ليكون على بصيرة.

ومنها: أن النوم لا ينقض الوضوء، وهذا محمول على نوم الممكن مقعدته على الأرض، توفيقًا بين هذا وبين النصوص الدالة على أن النوم ينقض الوضوء، كما تقدم البحث عنه مُسْتَوْفًى في بابه (113/ 158) من كتاب الطهارة.

ومنها: فضيلة صلاة العشاء، حيث إنها خصت هذا هذه الأمة، كما سبق آنفًا في حديث الطبراني "ما صلى هذه الصلاة أمة قبلكم".

وأما يتعلق بتحقيق المذاهب فقد تقدم في مسائل الحديث الماضي فارجع إليه تزدد علمًا. وبالله التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

532 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ الْمَكِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَخَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَامَ عُمَرُ رضي الله عنه، فَنَادَى: الصَّلَاةَ، يَا رَسُولَ الله، رَقَدَ النِّسَاءُ، وَالْوِلْدَانُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْمَاءُ يَقْطُرُ

ص: 134

مِنْ رَأْسِهِ، وَهُوَ يَقُولُ:"إِنَّهُ الْوَقْتُ، لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي".

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(محمد بن منصور المكي) هو محمد بن منصور بن ثابت ابن خالد الخُزَاعي الجَوَّاز -بجيم، وتشديد واو، ثم زاي- المكي، ثقة، توفي سنة 252، من [10]، أخرج له النسائي، تقدم في 20/ 21.

2 -

(سفيان) بن عيينة أبو محمد الهلالي المكي، ثقة حجة إمام، من [8]، أخرج له الجماعة، تقدم في 1/ 1.

3 -

(عمرو) بن دينار، أبو محمد الأثرم الجُمَحي مولاهم المكي ثقة، من [4]، أخرج له الجماعة، تقدم في 112/ 154.

وأما ابن جريج، وعطاء، وابن عباس، فقد ذكروا في السند السابق.

قال الجامع عفا الله عنه: من لطائف هذا الإسناد أنه مسلسل بثقات المكيين الذين اتفق عليهم الأئمة، غير شيخه، فمن أفراده.

وقوله: "وعن ابن جريج" عطف على عمرو، فسفيان يروي هذا الحديث عن شيخين، هما: عمرو بن دينار، وابن جريج، والله أعلم.

شرح الحديث

(عن ابن عباس) رضي الله عنهما، أنه (قال: أخر النبي صلى الله عليه وسلم -

ص: 135

العشاء ذات ليلة، حتى ذهب من الليل) أي بعض الليل، فمِن: اسم بمعنى بعض.

(فقام عمر) بن الخطاب رضي الله عنه.

(فنادى: الصلاة يا رسول الله، رَقَدَ النساء والولدان)، قال العلامة ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: يحتمل أن يكون المراد مَنْ حَضَرَ المسجدَ منهم؛ لقلة احتمالهم المشقة في السهر، فيرجع ذلك إلى أنهم كانوا يحضرون المسجد لصلاة الجماعة.

ويحتمل أن يكون المراد مَنْ خَلَفَهُ المصلون في البيوت، من النساء، والصبيان، ويكون قوله:"رقد النساء" إشفاقًا عليهن من طول الانتظار. اهـ.

وقال الصنعاني في حاشيته: ويحتمل أن يراد الكل: من في المسجد، ومن في البيوت، وهو أتم في بيان المشقة، واقتصر الحافظ في الفتح على الأول، ولم يذكر الآخر، ولا ذَكَرَ للاقتصار مُرَجِّحًا

(1)

، وكأنه رجحه بأن الذين في المسجد هم الذين يشاهدهم عمر، ويخبر عنهم.

ولك أن تقول: ويدل للثاني ما عرفه من عادة الناس أنه لا يأتي

(1)

قال الجامع: بل أشار إلى الترجيح، حيث ذكر بعده حديث ابن عمر، قال: حتى رقدنا في المسجد، ثم استيقظنا" فإنه يدل أن المراد بهم هم الذين في المسجد.

ومثله في رواية عائشة عند مسلم "وحتى نام أهل المسجد" والله أعلم.

ص: 136

ذلك الوقتُ، إلا وغالبهم راقد، فيراد الأمران. اهـ "العدة" جـ 2 ص 63.

وفي الحديث دليل على مشروعية تنبيه الأكابر، إما لاحتمال غفلة، أو لاستثارة فائدة منهم في التنبيه، لقول عمر:"رَقَدَ النساء، والصبيان". اهـ "إحكام الأحكام" جـ 2 ص 63.

(فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، والماء يقطر من رأسه) جملة في محل نصب حال من فاعل "خرج".

(وهو يقول:) جملة في محل نصب على الحال من فاعل "خرج" أيضًا.

(إِنه الوقت) جملة في محل نصب مقول القول، أي إنه الوقت الكامل الذي يستحب أداء صلاة العشاء فيه، فـ"ألّ" للكمال.

(لولا أن أشق على أمتي) جواب "لولا" محذوف دل عليه ما قبله، أي لأمرتهم أن يصلوا فيه. وفيه دليل على استحباب تأخير العشاء.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه. قد تقدم جميع ما يتعلق بهذا الحديث في الحديث السابق، فارجع إليه تزدد علمًا، وبالله التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

533 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ،

ص: 137

عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ الآخِرَةَ.

رجال هذا الإسناد: أربعة

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي البَغْلاني ثقة ثبت، من [10]، تقدم في 1/ 1.

2 -

(أبو الأحوص) سَلام بن سُلَيم الحنفي الكوفي، ثقة متقن صاحب حديث، توفي سنة 179، من [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 79/ 96.

3 -

(سماك) بن حرب بن أوس الذُّهْلي البكري، أبو المغيرة الكوفي، صدوق، وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وقد تغير بآخره، فكان ربما يُلَقَّن، توفي سنة 123، من [4]، تقدم 325.

4 -

(جابر بن سَمُرَة) بن جُنَادة السُّوَائى، صحابي بن صحابي، نزل الكوفة، وتوفي هذا بعد سنة 70، أخرج له الجماعة. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه [22] من رباعيات المصنف، في هذا الكتاب، وهو أعلى ما وقع له، كما تقدم غير مرة.

ومنها: أنهم كوفيون، إلا شيخه فبغلاني.

ص: 138

ومنها: أن الأئمة اتفقوا على التخريج لهم.

أما شرح الحديث فواضح مما قبله والله أعلم.

تنبيه:

هذا الحديث أخرجه مسلم، في الصلاة عن أبي بكر بن أبي شيبة، ويحيى بن يحيى، وقتيبة، كلهم عن سلام بن سليم به.

وأخرجه المصنف هنا (533) عن قتيبة، عن أبي الأحوص، عن سماك، عن جابر رضي الله عنه. والله تعالى أعلم، ومنه التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

534 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ، وَبِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ".

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(محمد بن منصور) الجَوَّاز المكي، ثقة، من [10]، تقدم في 20/ 21.

2 -

(سفيان) بن عيينة المكي ثقة ثبت حجة، من [8]، تقدم في 1/ 1.

ص: 139

3 -

(أبو الزناد) عبد الله بن ذَكْوان القرشي أبو عبد الرحمن المدني، ثقة فقيه، توفي سنة 130، وقيل بعدها، من [5]، تقدم في 7/ 7.

4 -

(الأعرج) عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدني، ثقة ثبت عالم، من [3]، تقدم في 7/ 7.

5 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه تقدم في 1/ 1.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله.

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات اتفقوا عليهم، إلا شيخه فمن أفراده، وهم مدنيون إلا شيخه وسفيان فمكيان.

ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي. والله تعالى أعلم.

تنبيهان:

الأول: هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدم بيان مواضعه عند المصنف، ومَن أخرجه معه، وذكر فوائده، واختلاف العلماء، في كتاب الطهارة برقم 7/ 7.

الثاني: قال العلامة ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: قد كنا قدمنا في قوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"

ص: 140

أنه يستدل بذلك على أن الأمر للوجوب.

فلك أن تنظر: هل يتساوى هذا اللفظ مع ذلك في الدلالة، أم لا؟

فأقول: لقائل أن يقوك: لا يتساويان مطلقًا، فإن وجه الدليل ثَمَّ أنَّ كلمة "لولا" تدل على انتفاء الشيء لوجود غيره، فيقتضي ذلك انتفاء الأمر لوجود المشقة، والأمر المنتفي ليس أمر الاستحباب لثبوت الاستحباب، فيكون المنتفي هو أمر الوجوب، فثبت أن الأمر المطلق للوجوب.

فإذا استعملنا هذا الدليل في هذا المكان، وقلنا: إن الأمر المنتفي ليس أمر الاستحباب؛ لثبوت الاستحباب، توجه المنع ها هنا عند من يرى أن تقديم العشاء أفضل بالدلائل الدالة على ذلك، اللهم إلا أن تضم إلى هذا الاستدلال الدلائل الخارجية الدالة على استحباب التأخير، فيترجح على الدلائل المقتضية للتقديم، ويجعل ذلك مقدمة، ويكون المجموع دليلًا على أن الأمر للوجوب، فحينئذ يتم ذلك بهذه الضميمة. اهـ "عمدة الأحكام" جـ 2 ص 61 - 62. والله تعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 141

‌21 - آخِرُ وَقْتِ الْعِشَاءِ

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على آخر وقت العشاء. ولم يذكر المصنف رحمه الله حديثًا صَريحًا يدل على آخر وقت العشاء، ولعله أراد بآخر الوقت آخر وقت الاختيار، لا وقت الجواز، كما هو رأي الجمهور، لكن الصحيح خلافه، وهو أن آخر وقت العشاء نصف الليل، لا يمتد إلى طلوع الفجر، وسنحققه في المسائل الآتية إن شاء الله تعالى.

535 -

أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حِمْيَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ

وَأَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَعْتَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً بِالْعَتَمَةِ، فَنَادَاهُ عُمَرُ رضي الله عنه، نَامَ النِّسَاءُ، وَالصِّبْيَانُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ:"مَا يَنْتَظِرُهَا غَيْرُكُمْ"، وَلَمْ يَكُنْ يُصَلَّى يَوْمَئِذٍ إِلاَّ بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ قَالَ:"صَلُّوهَا فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ". وَاللَّفْظُ لاِبْنِ حِمْيَرَ.

ص: 142

رجال هذا الإسناد: ثمانية

1 -

(عمرو بن عثمان) بن سَعِيد بن كَثِير بن دينار القرشي مولاهم، أبو حفص الحِمْصِيُّ، صدوق، توفي سنة 250، من [10].

قال أبو زرعة: كان أحفظ من ابن مصفى، وأحب إلي منه. وقال أبو حاتم: صدوق. وذكره ابن حبان في الثقات.

ووثقه المصنف في أسماء شيوخه، وكذا وثقه أبو داود، ومسلمة، أخرج له أبو داود، والمصنف، وابن ماجه.

2 -

(محمد بن حمير) بن أنيس القضاعي، ثم السَّلِيحِيِّ، أبو عبد الحميد، ويقال. أبو عبد الله، الحمصي، صدوق، توفي سنة 200 - ، من [9].

قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ما علمت إلا خيرًا. وقال ابن معين، ودُحَيم: ثقة. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، ولا يحتج به، ومحمد بن حرب، وبقية، أحب إليّ منه. وقال النسائي: ليس به بأس.

وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الدارقطني: لا بأس به. وقال ابن قانع: صالح. ونقل ابن الجوزي في الموضوعات عن يعقوب بن سفيان: أنه قال: ليس بالقوي.

ص: 143

قال أبو سعيد بن يونس: توفي بحمص في صفر سنة 200. وكذا قال البخاري عن يزيد بن عبد ربه.

أخرج له البخاري، وأبو داود في "المراسيل"، والمصنف، وابن ماجه.

3 -

(إبراهيم بن أبي عَبْلَةَ) -بسكون الباء- واسمه شِمْر -بكسر المعجمة- بن اليَقْظَان بن عبد الله المرتحل أبو إسماعيل، ويقال. أبو سعيد الرَّمْلِيِّ، وقيل: الدمشقي، ثقة.

قال ابن معين، ودُحَيم، ويعقوب بن سفيان، والنسائى: ثقة. وقال ابنت المديني: كان أحد الثقات. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال الذهبي: يا لك من رجل. وقال الدارقطني: الطرق إليه ليست تصفو، وهو ثقة، لا يخالف الثقات إذا روى عنه ثقة. وقال ضمرة بن ربيعة: ما رأيت أفصح منه.

وفي كتاب ابن أبي حاتم عن أبيه: رأى ابن عمر، وروى عن واثلة ابن الأسقع، وهو صدوق ثقة. وقال البخاري في التاريخ: سمع ابن عمر. وأخرج الطبراني في مسند الشاميين من طريق إبراهيم، قال:"رأيت ابن عمر يحتبي يوم الجمعة". انتهى.

وقال الذهبي في مختصر المستدرك: أرسل عن ابن عمر، وتبعه العلائي في المراسيل، فقال: لم يدرك ابن عمر. قال الحافظ: وهو

ص: 144

متعقب بما أسلفناه.

وقال النسائي في "التمييز": ليس به بأس. وقال الخطيب: ثقة من تابعي أهل الشام، يُجْمَعُ حديثه.

وقال ابن عبد البر في التمهيد: كان ثقة فاضلًا، له أدب، ومعرفة، وكان يقول الشعر الحسن. انتهى.

وأغرب يحيى بن يحيى الليثي، فقال في الموطأ: عن إبراهيم بن عبد الله بن أبي عَبْلَة، و"عبدُ الله" زيادة، لا حاجة إليها.

توفي سنة 151 أو 152 أو 153، من [5]، أخرج له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والمصنف، وابن ماجه.

4 -

(عثمان بن سعيد) بن كَثير بن دِينار القرشي مولاهم، أبو عمرو الحمصي، ثقة عابد، توفي سنة 209، من [9]، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجه، وتقدم في 69/ 85.

5 -

(شعيب) بن أبي حَمْزَةَ دينار الأموي مولاهم، أبو بشْرٍ الحمصي، ثقة عابد، من أثبت الناس في الزهري، توفي سنة 162 أو بعدها، من [7]، وتقدم في 69/ 85.

6 -

(الزهري) محمد بن مسلم المدني الإمام الحجة الفقيه، من [4]، تقدم في 1/ 1.

7 -

(عروة) بن الزبير بن العوام المدني الإمام الفقيه الحجة، من

ص: 145

[2]

، تقدم في 40/ 44.

8 -

(عائشة) رضي الله عنها، تقدمت في 5/ 5. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف.

ومنها: أن للمصنف رحمه الله إلى الزهري فيه طريقان: إحداهما: عمرو بن عثمان، عن محمد بن حمير، عن إبراهيم بن أبي عَبْلَة، عنه، والثانية: عمرو بن عثمان، عن أبيه، عن شعيب بن أبي حمزة، عنه.

ومنها: أن رجاله ثقات، شاميون، إلا عروة، وعائشة، فمدنيان، والزهري، وإن كان مدنيًا، إلا أنه سكن الشام أيضًا.

ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، ابن أبي عبلة، عن الزهري، عن عروة.

ومنها: أن فيه وواية الابن عن أبيه، والراوي عن خالته؛ عروة عن عائشة.

ومنها: أن فيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وعائشة من المكثرين السبعة، روت 2210 حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عائشة) رضي الله عنها، أنها (قالت: أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم)

ص: 146

أي دخل في العتمة، مثل أصبح: دخل في الصباح.

(ليلة بالعتمة) أي بصلاة العشاء ولفظ البخاري "بالعشاء"، وسيأتي الكلام في تسميتها بالعتمة في الباب التالي إن شاء الله تعالى.

(فناداه عمر) بن الخطاب رضي الله عنه (نام النساء والصبيان) بالكسر، ويضم: جمع صبي، وتقدم هل المراد بهم الذين حضروا المسجد، أو الذين في البيوت، أو جميعهم؟، في شرح حديث ابن عباس في الباب الماضي.

(فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم) إلى أهل المسجد (وقال) لهم (ما) نافية (ينتظرها) أي صلاة العشاء (غيركم) أي غير أهل المدينة، كما بينه الراوي بقوله:(ولم يكن يصلى يومئذ إِلا بالمدينة)، اسم "يكن" ضمير الشأن الْمُفَسَّرُ بجملة خبرِها، و"يصلى" بالياء، والبناء للمفعول، يعني أنه ما كان يصلي الناس الصلاة يوم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا إلا بالمدينة، وللبخاري "ولا تصلي" بالتاء، والضمير عليه يعود إلى العشاء ورواية المصنف أعم، وجملة "يكن" معترضة أتي بها بيانًا لسبب قوله صلى الله عليه وسلم:"ما ينتظرها غيركم".

قال في الفتح: والمراد أنها لا تصلى بالهيئة المخصوصة، وهي الجماعة، إلا بالمدينة، وبه صرح الداودي، لأن من كان بمكة من المستضعفين لم يكونوا يصلون إلا سرًا، وأما غير أهل مكة والمدينة من البلاد فلم يكن الإسلام دخلها. اهـ جـ 2 ص 60.

ص: 147

(ثم قال) صلى الله عليه وسلم (صلوها فيما بين أن يغيب الشفق إِلى ثلث الليل) هكذا رواية المصنف بصيغة الأمر، ورواية البخاري "وكانوا يصلون فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول" بصيغة الإخبار.

قال في "الفتح". وفي هذا بيان الوقت المختار لصلاة العشاء، لما يُشعِر به السياق من المواظبة على ذلك.

قال: وليس بين هذا، وبين قوله في حديث أنس:"إنه أخر الصلاة إلى نصف الليل" معارضة، لأن حديث عائشة محمول على الأغلب من عادته صلى الله عليه وسلم. اهـ جـ 2 ص 60.

فائدة:

زاد مسلم من رواية يونس عن ابن شهاب، في هذا الحديث، قال ابن شهاب: وذُكِرَ لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وما كان لكم أن تَنْزُرُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة"، وذلك حين صاح عمر.

وقوله: "تنزروا" بفتح المثناة الفوقانية وسكون النون، وضم الزاي بعدها، أي تُلِحُّوا عليه، ورُوي بضم أوله بعدها موحدة ثم راء مكسورة ثم زاي، أي تُخْرِجُوا. قاله في "الفتح" جـ 2 ص 60.

قال المصنف رحمه الله: (واللفظ لابن حمير) أي اللفظ الذي ساقه هو لفظ محمد بن حمير، وأما والد عمرو، فرواه بمعناه، والله أعلم ومنه التوفيق، وعليه التكلان.

ص: 148

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عائشة رضي الله عنها هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا (535)، وفي "الكبرى"(1516)، عن عمرو بن عثمان، عن محمد بن حمير، عن ابن أبي عبلة -وعن عمرو بن عثمان، عن أبيه، عن شعيب بن أبي حمزة- كلاهما عن الزهري، عن عروة، عنها.

وفي (536) عن إبراهيم بن الحسن، ويوسف بن سعيد، كلاهما، عن حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن المغيرة بن حكيم، عن أم كلثوم، عنها. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري ومسلم؛ فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن أبي اليمان، عن شعيب بن أبي حمزة به. وأخرجه مسلم في "الصلاة" عن إسحاق بن إبراهيم، ومحمد بن حاتم، كلاهما عن محمد بن بكر- وعن حجاج بن الشاعر، ومحمد بن رافع، كلاهما عن عبد الرزاق- وعن هارون بن عبد الله الحمال، عن حجاج بن محمد- ثلاثتهم عن ابن جريج، عن المغيرة بن حكيم، عن أم كلثوم، عنها. والله تعالى أعلم.

ص: 149

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: استحباب تأخير صلاة العشاء، لمن لا يشق عليه.

ومنها: مشروعية تنبيه الصغير للكبير إذا ظن أنه غفل عن الصلاة.

ومنها: حرص الصحابة على حضور صلاة الجماعة حتى يحضرون معهم الصبيان.

ومنها: كون النوم لا ينقض الوضوء، وهذا محمول على من كان ممكنًا مقعدته على الأرض، عند الجمهور، وقد تقدم تمام البحث في ذلك في كتاب الطهارة. والله تعالى أعلم.

المسألة الخامسة: في اختلاف العلماء في آخر وقت العشاء:

قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله تعالى: اختلف أهل العلم في آخر وقت العشاء، فقال بعضهم: آخر وقتها إلى ربع الليل، هذا قول النخعي، ولا نعلم مع قائله حجة.

وقالت طائفة أخرى: وقت العشاء الآخرة إلى ثلث الليل، كذلك قال عمر بن الخطاب، وأبو هريرة، وعمر بن عبد العزيز.

ثم أخرج بسنده إلى أسلم: أن عمر كتب أن وقت العشاء الآخرة إذا غاب الشفق إلى ثلث الليل الآخر

(1)

، ولا تؤخروا ذلك إلا من شغل.

(1)

هكذا النسخة: "الآخر"، ولعل الصواب:"الأول".

ص: 150

وأخرج بسنده عن أبي هريرة، قال: وَصَلِّ صلاة العشاء إذا ذهب الشفق، وادْلأمَّ

(1)

الليل من ها هنا- وأشار إلى المشرق فيما بينك وبين ثلث الليل، وما عجلت بعد ذهاب بياض الأفق فهو أفضل.

وبه قال الشافعي

(2)

وقد كان يقول إذ هو بالعراق: وقتها نصف الليل، ولا يفوت إلى الفجر وهذا أصح قوليه، لأنه يجعل على المفيق قبل طلوع الفجر المغرب والعشاء، ولو كان الوقت فائتًا ما وجب القضاء بعد الفوات.

ومن حجة من قال بقول عمر بن الخطاب، وأبي هريرة: حديث ابن عباس الذي فيه ذكر إمامة جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم.

وقالت طائفة: وقتها إلى نصف الليل، وروي هذا القول عن عمر ابن الخطاب.

ثم أخرج بسنده: أن عمر كتب إلى أبي موسى أن صل صلاة العشاء الآخرة إلى نصف الليل الأول، أي حيث تبيت.

وبه قال الثوري، وابن المبارك، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وقال أصحاب الرأي: ومن صلاها بعد ما مضى نصف الليل يجزئه، ونكرهه له.

(1)

ادلأمَّ الليل: ادلهَمَّ: أي اسوَدَّ. اهـ "ق".

(2)

قال في الأم: وآخر وقتها إلى أن يمضي ثلث الليل، فإذا مضى ثلث الليل الأول فلا أراها إلا فائتة. اهـ جـ 1 ص 74. اهـ من هامش الأوسط جـ 2 ص 343.

ص: 151

ومن حجة من قال هذا القول حديث عبد الله بن عمرو.

ثم أخرج بسنده عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وقت العشاء إلى نصف الليل".

قال: وفيه قول رابع، وهو أن آخر وقت العشاء إلى طلوع الفجر، روي هذا القول عن ابن عباس، وقال عطاء: لا تفوت صلاة الليل، المغرب والعشاء حتى النهار، وقال طاوس، وعكرمة: وقت العشاء إلى الفجر.

ومن حجة القائل بهذا القول: حديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إنما التفريط على من لم يصل صلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى".

ثم رجح ابن المنذر قول من قال: إنه إلى طلوع الفجر. انتهى الأوسط جـ 2 ص 343 - 346 بالاختصار.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحق الذي يؤيده الدليل قول من قال: إن آخر وقت العشاء نصف الليل، فليس للعشاء وقت أداء بعد ذلك، وإنما هو قضاء، وأقوى دليل في ذلك وأصرحه، حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الذي أخرجه مسلم في "صحيحه":"فإذا صليتم العشاء، فإنه وقت إلى نصف الليل".

فهذا نص صريح في أن النصف هو الآخر، لا يزيد عليه، ولا يوجد نص صريح يدل على تأخره بعده.

ص: 152

قال الحافظ رحمه الله: ولم أر في امتداد وقت العشاء إلى طلوع الفجر حديثًا صريحًا يثبت.

قال: ودليل الجمهور حديث أبي قتادة: "إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى". قال: وعموم حديث أبي قتادة مخصوص بالإجماع في الصبح، وعلى قول الشافعي الجديد في المغرب، فللإصطخري -يعني: القائل: إذا ذهب نصف الليل صارت قضاء- أن يقول: إنه مخصوص بالحديث المذكور، وغيره من الأحاديث في العشاء، والله أعلم. اهـ فتح جـ 2 ص 62.

قال الجامع: هذا التقرير من الحافظ رحمه الله هو عين الإنصاف إعطاءً لكل ذي حق حقه، وليس فيه تهور واعتساف مجاراة للمذهب، وهو التحقيق الحقيق بالقبول، وفقنا الله تعالى لقبول الحق، فإنه أكرم مسئول.

وقال العلامة المحدث الألباني في "تمام المنة": ولا دليل فيه -يعني حديث أبي قتادة- على ما ذهبوا إليه؛ إذ ليس فيه بيان أوقات الصلاة، ولا سيق من أجل ذلك، وإنما لبيان إثم من يؤخر الصلاة حتى يخرجها عامدًا عن وقتها مطلقًا، سواء كان يَعْقُبُها صلاة أخرى مثل العصر مع المغرب، أو لا، مثل الصبح مع الظهر.

ويدل على ذلك أن الحديث ورد في صلاة الفجر حين فاتته صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، وهم نائمون في سفر لهم، واستعظم الصحابة رضي الله

ص: 153

عنهم وقوع ذلك منهم، فقال صلى الله عليه وسلم:"أما لكم فِيَّ أسوة"؟ ثم ذكر الحديث، كذلك هو في صحيح مسلم وغيره.

فلو كان المراد من الحديث ما ذهبوا إليه من امتداد وقت كل صلاة إلى دخول الأخرى لكان نصًا صريحًا على امتداد وقت الصبح إلى وقت الظهر، وهم لا يقولون بذلك، ولذلك اضطروا إلى استثناء صلاة الصبح من ذلك، وهذا الاستثناء على ما بينا من سبب الحديث يعود عليه بالإبطال، لأنه إنما ورد في خصوص صلاة الصبح، فكيف

يصح استثناؤها؟

فالحق أن الحديث لم يرد من أجل التحديد، بل لإنكار تعمد إخراج الصلاة عن وقتها مطلقًا.

ولذلك قال ابن حزم في "المُحَلَّى" جـ 3 ص 178 - مجيبًا على استدلالهم المذكور: هذا لا يدل على ما قالوه أصلًا، وهم مُجْمعُون معنا أن وقت صلاة الصبح لا يمتد إلى وقت الظهر، فصح أن هذا الخبر لا يدل على اتصال وقت كل صلاة بوقت التي بعدها، وإنما فيه معصية من أخر صلاة إلى وقت غيرها فقط. سواء أتصل آخر وقتها بأول الثانية، أم لم يتصل، وليس فيه أنه لا يكون مفرطًا أيضًا من أخرها إلى خروج وقتها، وإن لم يدخل وقت أخرى، ولا أنه يكون مفرطًا، بل هو مسكوت عنه في هذا الخبر، ولكن بيانه في سائر الأخبار التي فيها نص على خروج وقت كل صلاة، والضرورة توجب أن مَن تَعَدَّى بكل عمل

ص: 154

وقته الذي حده الله تعالى لذلك العمل، فقد تعدى حدود الله، وقال تعالى:{وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229].

وإذ قد ثبت أن الحديث لا دليل فيه على امتداد وقت العشاء إلى الفجر فإنه يتحتم الرجوع إلى الأحاديث الأخرى التي هي صريحة في تحديد وقت العشاء، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط

" رواه مسلم، غيره.

ويؤيده ما كتب به عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري: "

وأن تصلي العشاء ما بينك وبين ثلث الليل، وإن أخرت فإلى شطر الليل، ولا تكن من الغافلين". أخرجه مالك، والطحاوي، وابن حزم، وسنده صحيح.

فهذا الحديث دليل واضح على أن وقت العشاء إنما يمتد إلى نصف الليل، فقط، وهو الحق، ولذلك اختاره الشوكاني في الدرر البهية، فقال: "

وآخر وقت صلاة العشاء نصف الليل". وتبعه صديق حسن خان في شرحه 69 - 70.

وقد رُوي القول به عن مالك، كما في "بداية المجتهد"، وهو اختيار جماعة من الشافعية كأبي سعيد الإصطخري، وغيره. انظر المجموع جـ 3 ص 40.اهـ "تمام المنة" ص 140 - 142.

قال الجامع عفا الله عنه: والحاصل أن ما اختاره هؤلاء الأئمة من أن آخر وقت العشاء هو نصف الليل هو الذي أختاره، وأرجحه، لكون

ص: 155

الدليل معه، وما عداه لا دليل عليه أصلًا، كما تقدم في كلام الحافظ رحمه الله تعالى. وبالله التوفيق، وعليه التكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

536 -

أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ.

ح وَأَخْبَرَنِي يُوسُفُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتْ: أَعْتَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى ذَهَبَ عَامَّةُ اللَّيْلِ، وَحَتَّى نَامَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ خَرَجَ، فَصَلَّى، وَقَالَ:"إِنَّهُ لَوَقْتُهَا لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي".

رجال الإسناد: سبعة

1 -

(إِبراهيم بن الحسن) بن الهَيْثَم الخثعمي أبو الحسن المصيصي ثقة، من [11]، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجه في التفسير، تقدم في 51/ 64.

2 -

(يوسف بن سعيد) بن مسلم المصيصي، ثقة حافظ، توفي سنة 271، من [11]، أخرج له النسائي، تقدم في 198.

3 -

(حجاج) بن محمد الأعور المصيصي الترمذي الأصل، ثقة ثبت، اختلط آخرًا، توفي سنة 206، من [9]، أخرج له الجماعة، تقدم

ص: 156

في 28/ 32.

4 -

(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز المكي ثقة، فقيه، مدلس، من [6]، تقدم في 28/ 32.

5 -

(المغيرة بن حَكِيم) الصنعاني الأبْنَاوِي، ثقة، من [4].

قال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة. وكذا قال النسائي، والعجلي. وقال الدوري: هو الذي روى عنه ابن جريج، وجرير بن حازم، ليس مغيرة غيره.

وقال عُبَيد بن عمير، عن نافع: سألني عمر بن عبد العزيز عن زكاة العسل؟ فقلت: أخبرني المغيرة بن حكيم أنه ليس فيه زكاة، فقال: عدل مرضي، فكتب إلى الناس بذلك.

وقال الآجري عن أبي داود: المغيرة بن حكيم: أحد الآخذين. وذكره ابن حبان في "الثقات".

له في مسلم هذا الحديث، وله في البخاري موضع واحد معلق، وأخرج له الترمذي، والمصنف.

6 -

(أم كلثوم ابنة أبي بكر) الصديق، أمها حبيبة بنت خارجة، وتوفي أبوها وهي حمل، ثقة، من [2]، روت عن أختها عائشة. وروى عنها ابنُها إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وهو أكبر منها، وطلحة بن يحيى بن طلحة، والمغيرة بن حَكِيم الصنعاني، وجُبَير بن حبيب، ولوط بن يحيى.

ص: 157

وذكرها ابن منده، وأبو نعيم، وغيرهما في الصحابة، وأخطئوا في ذلك، لأنها ولدت بعد موت أبي بكر الصديق.

أخرج لها البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم، والمصنف، وابن ماجه.

"فائدة": وقع السؤال عن "أم كلثوم" هل يمنع عجزه من الصرف للعلمية والتأنيث المعنوي، كما منع في "أبي هريرة"، و"أبي بكرة" للتأنيث اللفظي.

فأجاب الشيخ محمد الدمياطي الخُضَريّ في حاشيته على ألفية ابن مالك بالفرق بينهما بأن العلة الثانية، وهي التأنيث في "هريرة" تامة مستقلة به قبل التركيب وبعده، فانضمت لجزء العلمية الحاصلة بعد التركيب، ومنعته، بخلاف كلثوم، فإن فيه جزء كل من العلمية والتأنيث المعنوي لأنه مدلول لمجموع الجزأين، لا للعجز وحده،

فالظاهر أن لا يمنع، وهو الجاري على ألسنة المحدثين كما في الدماميني على المغني، لتجزئ كل من العلتين فيه.

انظر "حاشية الخضري على شرح ابن عقيل لألفية ابن مالك" جـ 2 ص 102.

7 -

(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدمت في 5/ 5. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف.

ص: 158

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات.

ومنها: أنهم ما بين مِصيِّصِيِّين، وهم: شيخاه، وحجاج، ومكي وهو: ابن جريج، وصنعانَي وهَو: المغيرة، ومدنيتين، وهما: عائشة، وأم كلثوم.

ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعية، ورواية المرأة عن أختها.

ومنها: قوله: أخبرني إبراهيم بالإفراد في نسخة، وقوله: أخبرني يوسف بن سعيد في كل النسخ بالإفراد، ومثله قول ابن جريج: أخبرني المغيرة، وذلك لكونه قرأه بنفسه.

قال الحافظ السيوطي رحمه الله:

واسْتَحْسَنُوا لِمُفردٍ حَدَّثَنِي

وَقَارئٍ بنفْسِهِ أخْبَرَنِي

وَإِنْ يُحَدِّثْ جُمْلَةً حَدَّثَنَا

وَإِنْ سمِعْت قارئًا أخبَرَنَا

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدم شرح الحديث، والمسائل المتعلقة به في الحديث الذي قبله، فلا حاجة إلى إعادتها.

وقوله هنا: "حتى ذهب عامة الليل"، قال النووي رحمه الله: أي كثير منه، وليس المراد أكثره، ولابد من هذا التأويل، لقوله صلى الله عليه وسلم:"إنه لوقتها"، ولا يجوز أن يكون المراد بهذا القول ما بعد نصف الليل، لأنه لم يقل أحد من العلماء أن تأخيرها إلى ما بعد نصف الليل أفضل. انتهى "شرح مسلم" جـ 5 ص 138.

قال الجامع عفا الله عنه: بل الأدلة الصحيحة قاضية بأنّ ما بعد

ص: 159

النصف ليس وقتا لها، فلابد من هذا التأويل جمعًا بين الأدلة، فتبصر.

والله أعلم، ومنه التوفيق وعليه التكلان، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

537 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: مَكَثْنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِعِشَاءِ الآخِرَةِ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا، حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، أَوْ بَعْدَهُ، فَقَالَ حِينَ خَرَجَ:"إِنَّكُمْ تَنْتَظِرُونَ صَلَاةً، مَا يَنْتَظِرُهَا أَهْلُ دِينٍ غَيْرُكُمْ، وَلَوْلَا أَنْ يَثْقُلَ عَلَى أُمَّتِي لَصَلَّيْتُ بِهِمْ هَذِهِ السَّاعَةَ" ثُمَّ أَمَرَ الْمُؤَذِّنَ، فَأَقَامَ، ثُمَّ صَلَّى.

رجال الإسناد: ستة

1 -

(إِسحاق بن إِبراهيم) ابن راهويه الحنظلي المروزي نزيل نيسابور، أبو يعقوب، أو أبو محمد، ثقة حافظ حجة، توفي سنة 238، من [10]، أخرج له الجماعة، تقدم في 2/ 2.

2 -

(جرير) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبي الكوفي نزيل الرَّيِّ، وقاضيها، ثقة صحيح الكتاب، توفي سنة 188، من [8]، أخرج له الجماعة، تقدم في 2/ 2.

3 -

(منصور) بن المعتمر بن عبد الله السَّلَمي، أبو عَتَّاب الكوفي، ثقة ثبت، توفي سنة 132، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 2/ 2.

ص: 160

4 -

(الحَكَم) بن عُتَيبَةَ، أبو محمد الكِنْدِي الكوفي، ثقة ثبت فقيه، ربما دلس، توفي سنة 113 أو بعدها عن نيف و 60 سنة، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 86/ 104.

5 -

(نافع) مولى ابن عمر العدوي، أبو عبد الله المدني، ثقة ثبت فقيه مشهور، توفي سنة 117 أو بعدها، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 12/ 12.

6 -

(عبد الله بن عمر) بن الخطاب الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 12/ 12.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى.

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات نبلاء.

ومنها: أنه اتفق الأئمة بالتخريج لهم، إلا إسحاق، فما أخرج له ابن ماجه.

ومنها: أن إسحاق مروزي نيسابوري، وجريرًا كوفي رازي، ومنصورًا، والحكم، كوفيان، ونافعًا، وابن عمر، مدنيان.

ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي.

ومنها. أن ابن عمر أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة.

ومنها: أن فيه الإخبار، والإنباء، والعنعنة، وكلها من صيغ

ص: 161

الاتصال، على الراجح في "عن". والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن ابن عمر) رضي الله عنهما، أنه (قال: مكثنا) بفتح الكاف، وضمها. قال في المصباح: مَكَثَ مَكثًا، من باب قَتَلَ: أقام، ولَبِثَ، فهو ماكث، ومَكُثَ مُكْثًا، فهو مَكِيث، مثل قَرُبَ قُرْبًا، فهو قريب، لغة، وقرأ السبعة:{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل: 22] باللغتين، ويتعدى بالهمزة، فيقال: أمكثه، وتَمَكَّث في أمره، إذا لم يعجل فيه. اهـ أي لبثنا في المسجد (ذات ليلة) أي ليلة من الليالي (ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم) والجملة في محل نصب على الحال من فاعل "مكث".

(لعشاء الآخرة) أي لأجل صلاة العشاء الآخرة، قال النووي: فيه دليل على جواز وصفها بالآخرة، وأنه لا كراهة فيه خلافًا لما حكي عن الأصمعي من كراهة هذا. اهـ شرح مسلم.

(فخرج علينا) أي من حجرته الشريفة (حين ذهب) أي مضى (ثلث الليل، أو) للشك من الراوي (بعده) أي بعد الثلث.

(فقال حين خرج) زاد في رواية مسلم: "فلا ندري، أشيء شغله في أهله، أو غير ذلك"، فقال حين خرج (إِنكم تنتظرون صلاة، ما) نافية (ينتظرها أهل دين غيركم) بالرفع على البدل، وبالنصب على

ص: 162

الاستثناء، والأول المختار، قاله القاري. قال في الخلاصة:

وَاستَثنِ مَجرُورًا بغَيْرِ مُعْرَبَا

بِمَا لِمُسْتَثْنًى بِإِلا نُسِبَا

وقد بين قبله حكم المستثنى بإلا بقوله:

ما اسْتَثنَت إِلا مَعْ تَمَامٍ يَنْتَصِبْ

وَبَعدَ نفيٍ أَو كنَفْيٍ انْتُخِبْ

إِتبَاعُ مَا اتَّصَلَ وانصِبْ مَا انْقَطَعْ

وَعَن تَمِيمٍ فِيه إِبْدَالٌ وَقَعْ

يعني أن انتظار هذه الصلاة من بين سائر الأمم من خصوصياتكم التي اختصكم الله هذا، فكلما زدتم يكون الأجر أكمل، مع أن الوقت يقتضي الاستراحة، فالمثوبة على قدر المشقة. قاله القاري.

وفيه أنه يستحب للإمام والعالم إذا تأخر عن أصحابه، أو جرى منه ما يَظُنُّ أنه يشق عليهم أن يعتذر إليهم، ويقول: لكم في هذا مصلحة من جهة كذا، أو كان لي عذر، أو نحو هذا. قاله النووي في شرح مسلم جـ 5 ص 139.

(ولولا أن يثقل على أمتي) يثقل: بالياء، وهكذا لمسلم، والضمير يعود إلى التأخير، أو الفعل، أي لولا أن يثقل التأخير، أو هذا الفعلُ، وعند أبي داود "تثقل" بالتاء، أي الصلاة في هذه الساعة (لصليت بهم) أي دائمًا (هذه الساعة) قال الطيبي: أي لزمت على صلاتها في مثل هذه الساعة.

وفيه تصريح بأن ترك التأخير إنما هو للمشقة، والثقل على الأمة. وقد تقدم بيان اختلاف العلماء في الأفضل من التقديم والتأخير،

ص: 163

وترجيح القول بأفضلية التأخير إذا لم تكن مشقة، في الباب الماضي فراجعه.

(ثم أمر المؤذن فأقام) ولمسلم "فأقام الصلاة"، والظاهر أن الأذان تقدم قبل خروجه، وهو الذي يدل عليه قول عمر:"الصلاة"، في حديث عائشة، ويحتمل أن يكون تقدير الكلام، فأمر المؤذن بالأذان، فأذن، ثم بالإقامة، فأقام (ثم) بعد الإقامة (صلى) بهم العشاء. والله تعالى أعلم ومنه التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان موضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا (537) عن إسحاق بن إبراهيم، عن جرير، عن منصور، عن الحكم، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، فقط.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه مسلم وأبو داود؛ فأخرجه مسلم في "الصلاة" عن زهير بن حرب، وإسحاق بن إبراهيم. وأخرجه أبو داود في "الصلاة" عن عثمان ابن أبي شيبة- ثلاثتهم عن جرير به.

قال الجامع عفا الله عنه: فوائد الحديث، وبقية المسائل تعرف من

ص: 164

الأحاديت السابقة، فلا حاجة إلى إطالة الكتاب بإعادتها، فارجع إليها تزدد علمًا، وبالله التوفيق، وعليه التكلان، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

538 -

أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْمَغْرِبِ ثُمَّ لَمْ يَخْرُجْ إِلَيْنَا حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ، فَخَرَجَ فَصَلَّى بِهِمْ، ثُمَّ قَالَ:"إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلُّوا، وَنَامُوا، وَأَنْتُمْ لَمْ تَزَالُوا فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلَاةَ، وَلَوْلَا ضَعْفُ الضَّعِيفِ، وَسُقْمُ السَّقِيمِ لأَمَرْتُ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ أَنْ تُؤَخَّرَ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ".

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(عمران بن موسى) القَزَّازُ الليثي، أبو عمرو البصري صدوق، توفي سنة 240، من [10]، أخرج له الترمذي والنسائي وابن ماجه، تقدم في 6/ 6.

2 -

(عبد الوارث) بن سعيد بن ذكوان العَنْبَرِي مولاهم، أبو عبيدة التَّنُّوري البصري، ثقة ثبت، توفي سنة 108، من [8]،

ص: 165

أخرج له الجماعة، تقدم في 117/ 162.

3 -

(داود) بن أبي هند دينار بن عُذَافِر، وقيل: طَهْمان

(1)

، القشيري مولاهم، أبو بكر، أو أبو محمد البصَري، ثقة متقن، كان يهم بآخره، توفي سنة 140 وقيل قبلها، من [5].

قال ابن عيينة عن أبيه: كان يفتي في زمان الحسن. وقال ابن المبارك عن الثوري: هو من حفاظ البصريين. وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ثقة ثقة. قال: وسئل عنه مرة أخرى، فقال: مثل داود يسئل عنه؟!.

وقال ابن معين: ثقة، وهو أحب إلي من خالد الحذاء. وقال العجلي: بصري ثقة جيد الإسناد، رفيع، وكان صالحًا، وكان خياطًا. وقال أبو حاتم والنسائي: ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة ثبت.

وقال يزيد بن هارون وغير واحد: مات سنة 139، وقال علي بن المديني وغير واحد: سنة 140، وقيل: سنة 141.

وقال ابن حبان: روى عن أنس خمسة أحاديث لم يسمعها منه، وكان من خيار أهل البصرة من المتقنين في الروايات، إلا أنه كان يَهِم إذا حدث من حفظه، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال

(1)

عذافر: بضم العين، وتخفيف الذال، وكسر الفاء. وطهمان: بفتح الطاء، وسكون الهاء.

ص: 166

الحاكم: لم يصح سماعه من أنس.

وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن داود، وعَوْف، وقُرَّةَ؟ فقال: داود أحب إلي، وهو أحب إلي من عاصم، وخالدٍ الحذَاء. وقال ابن خراش: بصري ثقة. وقال الأثرم عن أحمد: كان كثير الاضطراب والخلاف. أخرج له البخاري تعليقًا، ومسلم، والأربعة.

4 -

(أبو نضرة) المنذر بن مالك بن قطعة -بضم القاف، وفتح الطاء- العبدي، ثم العَوَقي -بفتحتين، آخره قاف- البصري، مشهور بكنيته، ثقة، توفي سنة 108 أو 109، من [3].

قال صالح بن أحمد عن أبيه: ما علمت إلا خيرًا. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة. وكذا قال أبو زرعة، والنسائي. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي عن أبي نضرة، وعطية؟ فقال: أبو نضرة أحب إلي. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، وليس كل أحد يحتج به.

قيَل: مات قبل الحسن. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان من فصحاء الناس فُلِجَ في آخر عمره.

مات سنة ثمان، أو تسع ومائة، وأوصى أن يصلي عليه الحسن، وكان ممن يخطىء.

وأورده العقيلي في "الضعفاء"، ولم يذكر فيه قدحًا لأحد، وكذا ابن عدي في الكامل، وقال: كان عَرِيفًا لقومه، قال الحافظ: وأظن ذلك

ص: 167

ما أشار إليه ابن سعد، ولهذا لم يحتج به البخاري.

وقال ابن شاهين في الثقات: قال أحمد بن حنبل: ثقة. علق له البخاري، وأخرج له مسلم، والأربعة.

5 -

(أبو سعيد الخدري) سعد بن مالك بن سنان الصحابي بن الصحابي رضي الله عنهما، تقدم في 169/ 262. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف.

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات.

ومنها: أنه مسلسل بالبصريين، إلا الصحابي، فمدني.

ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي.

ومها: أن فيه أبا سعيد أحد المكثرين السبعة من الصحابة روى 1170 حديثًا.

ومنئها: أن فيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي سعيد الخدري) سعد بن مالك بن سِنَان رضي الله عنهما، أنه (قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب، ثم لم يخرج إِلينا) مع انتظارهم له في المسجد.

ص: 168

(حتى ذهب شطر الليل) غاية لعدم خروجه، أي أنه لم يخرج إليهم إلى أن مضى شطر الليل. قال المجد: الشطر: نصف الشيء، وجزؤه، وفي حديث الإسراء "فوضع شطرها"، أي بعضها، جمعه أشطر، وشطو ر. اهـ. "ق".

والمراد بالشطر هنا: قريب الشطر، فيكون المعنى، "حتى كاد يذهب نصف الليل"، ويؤيد ذلك حديث أنس الآتي بعده "أخر صلاة العشاء إلى قريب من شطر الليل"؛ إذ لو ذهب نصف الليل حقيقة لخرج وقتها، على الراجح للأحاديث المتقدمة، أو خرج وقتها المختار على قول الجمهور، ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم صلاها بعد النصف. أو معنى الشطر: مطلق الجزء؛ فيكون ما قبل النصف. والله أعلم.

(ثم قال:) أي بعد الصلاة، لما في سنن ابن ماجه:"فخرج فصلى بهم، ثم قال"(إِن الناس) أي الذين لم يحضروا صلاة العشاء معه في تلك الليلة (قد صلوا وناموا، وأنتم لن تزالوا في صلاة) أي في ثواب صلاة، والتنكير للتعميم، لئلا يتوهم اختصاص هذا الحكم بصلاة العشاء، أيْ أيُّ صلاة انتظرتموها، فأنتم فيها.

(ما انتظرتم الصلاة)"ما" مصدرية ظرفية، أي مدة انتظاركم الصلاة، إذ المقصود من الصلاة هو الخضوع والذل بين يدي الله تعالى، فمنتظر الصلاة في المسجد فيه هذا المعنى، فله ثوابها.

ص: 169

(ولولا) حرف امتناع لامتناع (ضعف الضعيف): "الضعف" بفتح الضاد في لغة تميم، وبضمها في لغة قريش: خلاف القوة، والصحة، فالمضموم مصدر ضَعُفَ، مثال قَرُبَ، قُرْبًا، والمفتوح مصدر ضَعَفَ، ضَعْفًا، من باب قَتَلَ، ومنهم من يجعل المفتوح في الرأي، والمضموم في الجسد.

والضعيف: فعيل بمعنى مفعول، جمعه ضُعفَاء وضِعاف، وجاء ضَعَفَة، وضَعْفَى، لأن فعيلًا إذا كان صفة، وهو بمعنى مفعول، جُمِعَ على فَعْلَى، مثل قَتِيل، وقَتْلَى، وجَرِيح، وجَرْحَى.

قال الخليل: قالوا: هَلْكَى، ومَوْتَى: ذهابًا إلى أن الْمَعْنَى مَغنَى مَفْعُولٍ، وقالوا: أحمق، وحَمْقى، وأنْوَك، ونَوْكَى

(1)

لأنه عيب أصيبوا به، فكان بمعنى مفعول، وشذ من ذلك سَقِيم، فجمع على سِقَام، بالكسر، لا على سَقْمَى، ذَهَابًا إلى أن المعنى معنى فاعل، ولوحظ في ضعيف معنى فاعل، فجمع على ضِعاف، وضَعَفَة، مثل كافر، وكفرة. أفاده في المصباح.

(وسُقْم السقيم)"السَّقَم": بفتحتين، وبضم، فسكون، مصدر، قال في الَمصبَاح: سَقِم، سَقَمًا، من باب تَعِبَ: طال مرضه، وسَقُمَ سُقْمًا، من باب قَرُبَ قُرْبًا، فهو سقيم: وجمعه: سِقام -بالكسر- مثل

(1)

الأنوك: الأحمق.

ص: 170

كَرِيم، وكِرَام، ويتعدى بالهمزة، والتضعيف، والسَّقام، بالفتح اسم منه. اهـ.

والضعيف أعم من السقيم، لأنه يتناول من به سقم، ومن ذهبت قوته كالشيخ الهرم، وكل عاجز عن الحضور، فعطف الثاني على الأول لشدة الاهتمام. أفاده في المنهل جـ 3 ص 347.

فقوله: "ضعف الضعيف": مبتدأ، وقوله:"سقم السقيم" عطف عليه، والخبر محذوف وجوبًا كما تقدم، أي موجودان، وزاد أحمد في روايته "وحاجة ذي الحاجة"، وجواب "لولا" قوله:(لأمرت بهذه الصلاة أن تؤخر إِلى شطر الليل) يريد قريب نصفه.

والمعنى: لولا الضُّعْفُ، والسُّقمُ موجودان في الناس لأمرت بتأخير هذه الصلاة دائمًا إلى شطر الليل، لكن تركت ذلك لدفع المشقة، فَبَيَّنَ صلى الله عليه وسلم فضيلة تأخير صلاة العشاء من وجهين:

أحدهما: أن الناس في حالة التأخير يكونون في صلاة ما داموا منتظرين لها.

ثانيهما: أن تأخيرها إلى شطر الليل أكثر ثوابًا، لكون ذلك وقتها المستحب، حيث قال في حديث عائشة:"إنه الوقت"، أي الوقت المستحب، لكن رعايةً لجانب أصحاب الأسقام، والعاجزين الذين لا يستطيعون التأخير قدمها، فإن في إحراز فضيلة التأخير، تفويت فضيلة تكثير الجماعة، وهي أهم هذا.

ص: 171

واستدل به على فضل تأخير العشاء لمن لا يشق عليه، قال في الفتح: ولا يعارض ذلك فضيلة أول الوقت، لما في الانتظار من الفضل، لكن قال ابن بطال: ولا يصلح ذلك الآن للأئمة، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالتخفيف، وقال:"إن فيهم الضعيف وذا الحاجة"، فترك التطويل عليهم في الانتظار أولى.

قال الحافظ رحمه الله: وقد روَى أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن خزيمة، وغيرهم من حديث أبي سعيد الخدري: "صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العتمة، فلم يخرج حتى مضى نحو من شطر الليل، فقال: إن الناس قد صلوا، وأخذوا مضاجعهم، وإنكم بن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة، ولولا ضعف الضعيف، وسقم

السقيم، وحاجة ذي الحاجة لأخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل".

وفي حديث ابن عباس: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يصلوها هكذا".

وللترمذي، وصححه من حديث أبي هريرة:"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل، أو نصفه".

فعلى هذا من وجد به قوة على تأخيرها، ولم يغلبه النوم، ولم يشق على أحد من المأمومين فالتأخير في حقه أفضل، وقد قرر النووي ذلك في شرح مسلم، وهو اختيار كثير من أهل الحديث من الشافعية،

ص: 172

وغيرهم.

ونقل ابن المنذر عن الليث، وإسحاق أن المستحب تأخير العشاء إلى قبيل الثلث. وقال الطحاوي: يستحب إلى الثلث، وبه قال مالك، وأحمد، وأكثر الصحابة، والتابعين، وهو قول الشافعي في الجديد، وقال في القديم: التعجيل أفضل، وكذا قال في الإملاء، وصححه النووي، وجماعة، وقالوا. إنه مما يُفْتَى به على القديم، وتعقب بأنه ذكره في الإملاء، وهو من كتبه الجديدة، والمختار من حيث الدليل أفضلية التأخير، ومن حيث النظر التفصيل. والله أعلم. اهـ فتح جـ 2 ص 58.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي عندي أن المختار من حيث الدليل أيضًا التفصيل الذي مر في هذه الأحاديث، فمن كان لا يشق عليه التأخير فالأفضل له التأخير سواء كان منفردًا، أو مع جماعة، ومن كان يشق عليه ذلك فالأفضل له التقديم. والله أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

الأولى: في درجته:

حديث أبي سعيد الخدري هذا صحيح.

الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

ص: 173

أخرجه هنا (538) وفي "الكبرى"(15/ 1520) عن عمران بن موسى، عن عبد الوارث، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة عنه. والله أعلم.

الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه أبو داود وابن ماجه؛ فأخرجه أبو داود في "الصلاة" عن مسدد، عن بشر بن المفضل، عن داود به. وأخرجه ابن ماجه في "الصلاة" أيضًا عن شيخ المصنف بسنده.

قال الجامع: وفوائد الحديث، وسائر مسائله واضحة مما تقدم فلا حاجة إلى إعادتها فارجع إليها تزدد علمًا. وبالله التوفيق، وعليه التكلان، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

539 -

أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ح وَأَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَا: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، قَالَ: سُئِلَ أَنَسٌ، هَلِ اتَّخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا؟ قَالَ: نَعَمْ، أَخَّرَ لَيْلَةً صَلَاةَ الْعِشَاءِ الآخِرَةِ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ شَطْرِ اللَّيْلِ، فَلَمَّا أَنْ صَلَّى أَقْبَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ:"إِنَّكُمْ لَنْ تَزَالُوا فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُوهَا"، قَالَ أَنَسٌ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ خَاتَمِهِ.

فِى حَدِيثِ عَلِيٍّ: "إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ".

ص: 174

رجال الإسناد: ستة

1 -

(علي بن حُجْر) بن إياس السَّعْدِي المروزي نزيل بغداد، ثم مرو، ثقة حافظ، توفي سنة 244، وقد قارب 100 سنة أو جاوزها، من صغار [9]، أخرج له البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، تقدم في 13/ 13.

2 -

(إِسماعيل) بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري الزُّرَقي، أبو إسحاق القارئ، المدني، ثقة ثبت، توفي سنة 180، من [8]، أخرج له الجماعة، تقدم في 16/ 17.

3 -

(محمد بن المثنى) أبو موسى العَنزِي البصري، ثقة حافظ، توفي سنة 252، من [10]، تقدم في 60/ 80.

4 -

(خالد) بن الحارث بن عُبَيد بن سُلَيم الهُجَيْمِيُّ، أبو عثمان البصري، ثقهْ ثبت، توفى سنة 186، من [8]، أخرج له الجماعة، تقدم في 42/ 47.

5 -

(حميد) بن أبي حميد، تير، أو تيرويه الطويل، أبو عبيدة البصري، ثقة عابد مدلس، توفي سنة 142 عن 75 سنة، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 87/ 108.

6 -

(أنس) بن مالك الصحابي رضي الله عنه تقدم فى 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من رباعيات المصنف، وهو الثالث والعشرون من

ص: 175

رباعيات الكتاب.

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات.

ومنها: أنهم بصريون، إلا عليًا فمروزي، وإسماعيل فمدني.

ومنها: كتابة (ح) إشارة إلى تحويل السند، كما قال في ألفية الأثر:

وَكتَبُوا (ح) عِندَ تَكرِيرِ سَنَد

فَقِيلَ مِن صحَّ وَقِيلَ ذَا انْفَرَدْ

مِنَ الحَديثِ أو لِتَحْويلٍ وَرَدْ

أَو حَائِلٍ وقَوْلُهَا لَفْظًا أسَدْ

فله إسنادان لهذا الحديث: أحدهما علي بن حجر، عن إسماعيل، والثاني محمد بن المثنى، عن خالد الحذاء- كلاهما عن حميد، عن أنس رضي الله عنه.

ومنها: أن فيه أنسًا أحد المكثرين السبعة، روى 2286 حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

قال حميد الطويل رحمه الله: (سئل أنس) رضي الله عنه (هل اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتمًا؟) هو حَلْيٌ للأصبع، كما في "ق". وفي المصباح: حلقة ذات فَصٍ من غيرها، فإن لم يكن لها فص، فهي فَتَخَةٌ، بفاء وتاء مثناة من فوق، وخاء معجمة، وزان قَصَبَة. اهـ.

وفيه لغات: الخاتَم بفتح التاء، وكسرها، والخَاتَام، والْخَيْتَامُ بفتح

ص: 176

الخاء، وكسر ها، والخَتَمُ محركة، والخَاتِيَام، وجمعه خَوَاتِم، وخَوَاتِيم. قاله المجد.

وقد نظم الحافظ العراقي لغاته، بقوله (من البسيط):

خذَ عَدَّ نَظْمِ لُغاتِ الْخَاتَمِ انْتَظَمَت

ثَمَانيًا ما حَواهَا قَبْلُ نِظَامُ

خَاتامُ خَاتَمُ خَتمٌ خاتمٌ وَخِتَا

مٌ خَاتِيَامٌ وَخَيتُومٌ وَخَيْتَامُ

وَهمَزُ مفتُوحِ تَاءٍ تَاسِعٌ وإِذَا

ساغَ الْقيَاسُ أتَمَ الْعَشْرَ خَأتامُ

قال المرتضى رحمه الله: ولم يذكر الناظم خَتَمًا محركة، وقد ذكره صاحب "ق" وابن سيده، وابن هشام في شرح الكعبية. اهـ تاج جـ 8 ص 266.

أي فتصير اللغات مع ما قاله الناظم إحدى عشرة لغة.

(قال) أنس (نعم) اتخذ خاتمًا، وقد بين سبب اتخاذه في رواية البخاري من طريق قتادة، عن أنس رضي الله عنه قال:"كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتابًا -أو أراد أن يكتب- فقيل له: إنهم لا يقرؤون كتابًا إلا مختومًا، فاتخذ خاتمًا من فضة، نقشه محمد رسول الله، كأني أنظر إلى بياضه في يده".

(أخر) الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم، والجملة مستأنفة، أتى بها أنس رضي الله عنه لبيان كونه شاهد النبي صلى الله عليه وسلم لابسًا خاتمًا في تلك الليلة.

(ليلة) منصوب على الظرفية متعلق بأخَّرَ، أي ليلة من الليالي.

(صلاة العشاء الآخرة) مفعول به لأخر، وقوله:"الآخرة" بالجر

ص: 177

صفة للعشاء، قال القاري: ولعل تأنيثها باعتبار مرادف العشاء، وهو العتمة، قال: وجُوِّز النصبُ على أنها صفة لصلاة، أو بتقدير "أعني". اهـ.

(إِلى قريب من شطر الليل) متعلق بـ "ـأخَّرَ"، أي إلى وقت قريب من نصف الليل. هذه الرواية فيها بيان معنى الرواية الأخرى أنه أخرها إلى "شطر الليل" بأن المعنى قريب الشطر.

(فلما أن صلى)"لَمَّا" حينية مضافة إلى جملة "صلى"، متعلقة بجوابها، وهو "أقبل"، و"أنْ" مُقْحَمَة، كما في قوله تعالى:{فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ} [يوسف: 96]، و {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ} [العنكبوت: 33].

(أقبل النبي صلى الله عليه وسلم علينا بوجهه) الشريف، ثم قال:(إِنكم لن تزالوا في) ثواب (صلاة، ما) مصدرية ظرفية (انتظرتموها) أي مدة انتظاركم إياها.

(قال أنس: كأني أنظر إِلى وبيص خاتمه) الوَبيصُ: كالبَريق وزنًا ومعنى، أي إلى لَمَعَانِ خاتمه صلى الله عليه وسلم.

قال المصنف رحمه الله: (في حديث علي) في النسخة الهندية: "في حديث علي، وهو ابن حجر"(إِلى شطر الليل) يعني أن شَيْخَهُ محمد بن المثنى قال في روايته: إلى قريب من شطر الليل، وشيخَهُ عليَّ بنَ حُجْر قال:"إلى شطر الليل"، فبين له اختلاف الشيخين. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 178

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:.

حديث أنس رضي الله عنه هذا أخرجه البخاري.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا (21/ 539) عن علي بن حجر، عن إسماعيل، وعن محمد ابن المثنى، عن خالد بن الحارث، كلاهما عن حميد، عنه. وفي الكبرى (14/ 1519) عن علي بن حجر، عن إسماعيل به، والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري وابن ماجه، فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن قتيبة، عن إسماعيل بن جعفر، عن حميد عنه. وعن عبد الرحمن المحاربي، عن زائدة، عن حميد عنه. وأخرجه ابن ماجه في "الصلاة" عن محمد بن المثنى، عن خالد بن الحارث، عن حميد، عنه. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: استحباب تأخير صلاة العشاء إلى قريب نصف الليل وقد تقدم تمام البحث فيه في الأحاديث السابقة.

ومنها: جواز اتخاذ الخاتم من الفضة للرجال، قال القاضي عياض رحمه الله: أجمع العلماء على جواز اتخاذ الخواتم من الورق -وهي

ص: 179

الفضة- للرجال، إلا ما روي عن بعض أهل الشام من كراهة لبسه إلا لذي سلطان، وهو شاذ مردود.

وأجمعوا على تحريم خاتم الذهب على الرجال، إلا ما روي عن أبي بكر بن محمد بن عوو بن حزم إباحته، وروي عن بعضهم كراهته، قال النووي رحمه الله: هذان النقلان باطلان.

وحكى الخطابي أنه يكره للنساء التختم بالفضة، لأنه من زِيِّ الرجال، ورُدَّ عليه ذلك، قال النووي: الصواب أنه لا يكره لها ذلك، وقول الخطابي ضعيف، أو باطل، لا أصل له.

ومنها: جواز نقش الخاتم، ونقش اسم صاحب الخاتم، ونقش اسم الله تعالى فيه؛ بل فيه: كونه مندوبًا، وهو قول مالك، وابن المسيب، وغيرهما، وكرهه ابن سيرين، وأما نهيه عليه الصلاة والسلام أن ينقش أحد على نقش خاتمه، فلأنه إنما نقش فيه ذلك ليختم به كُتُبَهُ إلى الملوك، فلو نقش على نقشه لدخلت المفسدة، وحصل الخلل. قاله في "عمدة القاري" جـ 2 ص 30.

ومنها: استحباب انتظار الصلاة بعد الصلاة، وفيه فضل عظيم، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم الرِّباط.

ومنها: مشروعية إقبال الإمام على المأمومين عند إرشادهم أو بيان فضل العبادة لهم، ليكون صوته مسموعًا للجميع والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 180

‌22 - بَابُ الرُّخْصَةِ فِي أنْ يُقَالَ لِلْعِشَاءِ الْعَتَمَةَ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على الرخصة في استعماله لفظ العتمة للعشاء.

والرُّخْصَةُ: وِزَانَ غُرْفَةٍ، وتضم الخاء للإتباع، جمعه رُخَص، ورُخُصَات، مثل غُرَفٍ، وغُرُفَات، وهي التسهيل في الأمر والتيسير، يقال: رخص الشرع في كذا ترخيصًا، وأرخص إرخاصًا: إذا يسره وسهله. اهـ "المصباح".

والعتمة: محركة: ثلث الليل الأول. بعد غَيْبُوبَة الشَّفَقِ، أعْتَمَ الرجلُ: صار في ذلك الوقت، ويقال: أعْتَمْنَا مِنَ الْعَتَمَة، كما يقال: أصْبَحْنَا من الصُّبح، وأعْتَمَ القومُ، وَعَتَّمُوا تَعْتيمًا: سَارُوا في ذلك الوقت، أو أوردوا، أو أصدروا، أو عَمِلُوا أيَّ عمل كان. وقيل: العَتَمَةُ: وقت صلاة العشاء الأخيرة، سُمِّيت بذلك لاسْتعْتَامِ نَعَمِهَا، وقيل: لتَأخُّرِ وقتها. قال ابن الأعرابي: عَتَمَ الليلُ، وَأعْتَمَ: إذَا مَرَّ قِطعَةٌ مِنَ الليل، وقال: إذا ذهب النهار، وجاء الليل، فقد جنح الليل.

وأهلُ البادية يُرِيحون نَعَمَهُمْ بُعَيدَ المغربِ، ويُنيخُونَهَا في مُرَاحِهَا سَاعَةً، يَسْتَفيقُونَهَا، فَإذَا أفَاقَتْ، وذلك بَعْدَ مَرِّ قِطْعَةٍ من الليل، أثَارُوهَا، وحَلَبُوها، وتلك الساعة تُسَمَّى عَتَمَةً. اهـ لسان العرب

ص: 181

باختصار. والله ولي التوفيق.

540 -

أَخْبَرَنَا عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ح وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ، وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي التَّهْجِيرِ، لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ عَلِمُوا مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا، وَلَوْ حَبْوًا".

رجال الإسناد: سبعة

1 -

(عُتْبَةُ بن عبد الله) بن عُتْبَةَ الْيُحْمديُّ، أبو عبد الله المروزي، صدوق، توفي سنة 244، من [10]، أخرج له النسائي، تقدم في 81/ 98.

2 -

(الحارث بن مسكين) بن محمد بن يوسف مولى بني أمية، أبو عمرو المصري قاضيها، ثقة فقيه، توفي سنة 250، عن 96 سنة، من [10]، أخرج له أبو داود والنسائي، تقدم في 9/ 9.

ص: 182

3 -

(عبد الرحمن بن القاسم) بن خالد بن جُنَادة العُتَقِيُّ -بضم ففتح- أبو عبد الله المصري الفقيه، صاحب مالك، ثقة، توفي سنة 191، من كبار [10]، أخرج له البخاري وأبو داود في "المراسيل"، والنسائي، تقدم في 19/ 20.

4 -

(مالك) بن أنس أبو عبد الله الإمام الحجة المدني، من [7]، تقدم في 7/ 7.

5 -

(سمي) لصيغة التصغير- مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، المخزومي، أبو عبد الله المدني، ثقة، من [6].

قال أحمد، وأبو حاتم: ثقة. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: سهيل بن أبي صالح عن أبيه أحب إليك، أو سمي؟ قال: سمي خير منه. وقال النسائي في الجرح والتعديل: ثقة. وقال ابن المديني: قلت ليحيى بن سعيد: سمي أثبت عندك، أو القعقاع؟ فقال: القعقاع أحب إلي منه.

وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: قتلته الحرورية سنة 135، وقال البخاري: قال لنا عبد الملك بن شيبة: قتل بقديد سنة 130، وقال ابن عيينة: قتله الحرورية يوم قديد، وقال غيره: وذلك سنة 131، أخرج له الجماعة.

ص: 183

6 -

(أبو صالح) ذكوان السمان الزيات المدني، ثقة ثبت، توفي سنة 101، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 36/ 40.

7 -

(أبو هريرة) الدوسي الصحابي الجليل رضي الله عنه تقدم في 1/ 1. وبالله تعالى التوفيق.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف عن طريق شيخة عتبة، ومن سداسياته عن شيخه الحارث بن مسكين.

ومنها. قوله: قراءة عليه، وأنا أسمع؛ وذلك أن الحارث كان لا يسمح له بالدخول عليه، لأمر جرى بينهما، وقد تقدم ذكر القصة في أوائل هذا الشرح، فكان يستمع المصنف قراءة من يقرأ على الحارث بحيث لا يراه، فكان يقول إذا حدث عنه أخبرنا الحارث، قراءة عليه، وأنا أسمع، وفيه ما كان عليه المصنف من شدة رغبته للعلم بحيث لا يمنعه منه جفاء الشيخ.

ومنها: أن السند الأول عال حيث إنه وصل إلى مالك بواسطة، بخلاف الثاني، فبواسطتين.

ومنها: كتابة (ح) بين الإسنادين وتقدم البحث عنها في المسند الماضي.

ومنها: أن أبا هريرة أحد المكثرين من الأحاديث روى 5374 حديثًا. والله تعالى أعلم.

ص: 184

شرح الحديث

(عن أبي هريرة) رضي الله عنه، (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعلم الناس) أي لو علموا فَوَضَعَ المضارعَ موضع الماضي ليفيد استمرار العلم، وأنه مما ينبغي أن يكون على بال.

(ما في النداء) أي الأذان، قال الحافظ: وهي رواية بشر بن عمر عن مالك عند السَّرَّاج. اهـ.

(والصف الأول) زاد أبو الشيخ في رواية له من طريق الأعرج عن أبي هريرة "من الخير، والبركة"، وقال الطيبي رحمه الله: أطلق مفعول يَعْلَم، وهو "ما" ولم يبين الفضيلة ما هي ليفيد ضربًا من المبالغة، وأنه مما لا يدخل تحت الوصف، والإطلاق إنما هو في قدر الفضيلة، وإلا فقد بُيِّنَت في الرواية الأخرى بالخير والبركة. قاله في الفتح جـ 2 ص 115.

واختلف في المراد بالصف الأول: فقيل: ما يلي الإمام مطلقًا، وهو الأصح. وقيل: أول صف تام يلي الإمام، لا ما تخلله شيء، كمقصورة، وقيل: المراد به من سبق إلى الصلاة، ولو صلى آخر الصفوف. وسيأتي تمام البحث فيه في بابه إن شاء الله تعالى.

(ثم لم يجدوا) أي للتمكن من النداء والصف الأول (إِلا أن يستهموا) أي يقترعوا؛ من الاستهام وهو الاقتراع، يقال: استهموا فسَهَمَهُم فلان سَهْمًا: إذا أقرعهم. قاله العيني، قيل: سمي بذلك،

ص: 185

لأنها سهام تكتب عليها الأسماء، فمن وقع له منها سهم فاز بالحظ المقسوم. قاله القاري في "المرقاة" جـ 2 ص 322.

يعني أنهم لم يجدوا شيئًا من وجوه الأولوية: أما في الأذان، فبأن يستووا في معرفة الوقت، وحسن الصوت، ونحو ذلك من شرائط المؤذن، وتكملاته. وأما في الصف الأول، فبأن يَصِلُوا دفعة واحدة، ويستووا في الفضل، فيقرع بينهم، إذا لم يتراضوا فيما بينهم في الحالين.

واستدل به بعضهم لمن قال بالاقتصار على مؤذن واحد، وليس بظاهر، لصحة استهام أكثر من واحد في مقابلة أكثر من واحد، ولأن الاستهام على الأذان يتوجه من جهة التولية من الإمام، لما فيه من المزية.

وزعم بعضهم أن المراد بالاستهام هنا: الترامي بالسهام، وأنه أخْرِجَ مَخرَجَ المبالغة، واستأنس لحديث لفظه:"لتجالدوا عليه بالسيوف"، لكن الأَوْلى، كما قال الحافظ رحمه الله. حمله على معنى الاقتراع، وتدل عليه رواية مسلم "لكانت قرعة". أفاده في "الفتح" جـ 2 ص 115.

وقال النووي رحمه الله: معناه أنهم لو علموا فضيلة الأذان، وعظيم جزائه، ثم لم يجدوا طريقًا يحصلونه، لضيق الوقت، أو لكونه لا يؤذن للمسجد إلا واحد لاقترعوا في تحصيله.

ص: 186

وقال الطيبي رحمه الله: المعنى: لو علموا ما في النداء والصف الأول من الفضيلة ثم حاولوا الاستباق، لوجب عليهم ذلك، وأتى بـ "ثم" المؤذنة بتراخي رتبة الاستباق من العلم، وقَدَّم ذكر الآذان دلالة على تهييء المقدمة الموصلة إلى المقصود الذي هو المثول بين يدي رب العزة. اهـ عمدة جـ 5 ص 125.

(عليه) أي على كل واحد من الأذان والصف الأول. وقد تنازع ابن عبد البر، والقرطبي في مرجع الضمير؛ فقال ابن عبد البر: يرجع إلى الصف الأول، لأنه أقرب المذكورين، وقال القرطبي: يلزم منه أن يبقى النداء ضائعًا، لا فائدة له، بل الضمير يعود على الكلام المتقدم، مثل قوله تعالى:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68]، أي

جميع ما ذكر. قال البدر العيني: الصواب مع القرطبي، ويؤيده ما رواه عبد الرزاق عن مالك بلفظ:"لاستهموا عليهما".

(ولو يعلم الناس ما في التهجير) أي التبكير إلى الصلوات، قاله الهروي. وحمله غيره على ظاهره، فقالوا: المراد: الإتيان إلى صلاة الظهر في أول الوقت، لأن التهجير مشتق من الهاجرة، وهي شدة الحر نصف النهار، وهو أول وقت الظهر.

وقال ابن منظور رحمه الله نقلًا عن الأزهري: يذهب كثير من الناس إلى أن التهجير في هذه الأحاديث من المهاجرة وقت الزوال، قال: وهو غلط، والصواب فيه ما روى أبو داود المصاحفي عن النضر

ص: 187

ابن شُمَيل أنه قال: التهجير إلى الجمعة، وغيرها: التبكير، والمبادرة إلى كل شيء، قال: وسمعت الخليل يقول ذلك، قاله في تفسير هذا الحديث. يقال: هَجَّرَ، يُهَجِّر، تَهْجيرًا، فهو مُهَجِّر. قال الأزهري: وهذا صحيح، وهي لغة أهل الحجاز، ومن جاورهم من قيس.

قال لبيد (من البسيط):

رَاحَ الْقَطِينُ بِهَجْرٍ بَعْدَمَا ابْتَكَرُوا

فقرن الهجر بالابتكار، والرواح عندهم: الذهابُ، والمُضِيُّ، يقال: رَاحَ القومُ، أي خَفُّوا، ومَرُّوا، أيَّ وقت كان. وقول صلى الله عليه وسلم "لو يعلم الناس ما في التهجير لاستبقوا إليه" أراد التبكير إلى جميع الصلوات، وهو المضي إليها في أول أوقاتها.

قال الأزهري: وسائر العرب يقولون: هَجَّرَ الرجل، إذا خرج بالهاجرة، وهي نصف النهار، ويقال: أتيته بالهَجِير وبالْهَجْرِ. اهـ "لسان العرب" جـ 6 ص 4619.

وقال الطيبي: لما فرغ من الترغيب في الصف الأول عقبه بالترغيب في إدراك أول الوقت، وبهذا وجب أن يفسر التهجير بالتبكير، كما ذهب إليه الكثيرون. قال في النهاية: التهجير: التبكير إلى كل شيء، والمبادرة إليه، وهي لغة حجازية، أراد المبادرة إلى وقت الصلاة. اهـ.

قال الجامع: هذا الذي رجحه الأزهري وغيره من تفسير التهجير

ص: 188

بالتبكير إلى جميع الصلوات في أول وقتها هو الأولى، لكونه لغة أهل الحجاز التي هي لغة النبي صلى الله عليه وسلم وقومه. والله أعلم.

(لاستبقوا إِليه) أي إلى التهجير، وقال ابن أبي جمرة: المراد بالاستباق: مَعْنىً، لا حِسًّا، لأن المسابقة على الأقدام حِسًّا تقتضي السرعة في المشي، وهو ممنوع منه. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: بل الصواب في معنى الاستباق هنا، كما قال العيني رحمه الله: التبكير في الحضور، بأن يسبق غيره في الحضور إلى الصلاة وليس من لازم ذلك السعي المنهي عنه، والله أعلم.

(ولو علموا) بصيغة الماضي، وعند البخاري:"ولو يعلمون"(ما في العتمة) أي صلاة العشاء، وفيه جواز تسمية العشاء بالعتمة، يعني لو يعلمون ما في أدائها، وأداء صلاة (الصبح) من مزيد الفضل (لأتوهما) بالقصر، ثلاثيًا، يقال: أتَى الرجلُ، يَأتِي، أتْيًا: جاء، والإتيان اسم منه، وأتيته، يستعمل لازمًا، ومتعديًا، قال الشاعر:

فَاحْتَل لِنَفْسِك قَبْلَ أَتَي الْعَسْكَرِ

وأتَا يَأتُو أتْوًا لُغَةٌ، قاله في "المصباح". قلت: المناسب هنا المتعدي، لأنه عَمِل في ضمير المثنى.

والمراد: لأتوا المحل الذي يُصَلِّيَان فيه جماعة، وهو المسجد وخصتا

ص: 189

لهذا لأنهما في وقت النوم، والغفلة، والكسل عن العبادة، فحث عليهما، لكونهما مظنة التفويت. أفاده القاري.

(ولو حبوًا) أي ولو كانوا حابين، من حَبَى الصبيُّ: إذا مشى على أربع، قاله صاحب المجمل، ويقال: إذا مشى على يديه، أو ركبتيه، أو استه. قاله العيني. أي يزحفون إذا منعهم مانع من المشي، كما يزحف الصغير، ولابن أبي شيبة عن حديث أبي الدرداء:"ولو حبْوًا على المرافق والركب". قاله في الفتح جـ 2 ص 166. والله تعالى ولي التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا (540) وفي "الكبرى"(1521) عن عتبة بن عبد الله، عن مالك، وعن الحارث بن مسكين، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك، عن سمي، عن أبي صالح، عنه.

وفي (671) و"الكبرى"(1635) عن قتيبة، عن مالك به. والله أعلم

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخر جه البخاري، ومسلم، والترمذي؛ فأخرجه البخاري في "الصلاة"

ص: 190

عن عبد الله بن يوسف وقتيبة، وفي "الشهادات" عن إسماعيل- كلهم عن مالك به.

وأخرجه مسلم في "الصلاة" عن يحيى بن يحيى عن مالك به.

وأخرجه الترمذي في "الصلاة" عن إسحاق بن موسى، عن مَعْن، عن مالك به. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما بوب له المصنف، وهو جواز تسمية العشاء عتمة وهو لبيان الجواز، والنهي الآتي في الباب التالي ليس للتحريم، ويأتي تمام البحث فيه في المسألة التالية، إن شاء الله تعالى.

ومنها: بيان فضيلة الأذان، وتمام البحث فيه سيأتي في بابه، إن شاء الله تعالى.

ومنها: بيان فضيلة الصف الأول والقرب من الإمام لاستماع القرآن إذا جهر، والتعلم منه، والفتح عليه، والتبليغ عنه، والسلامة من اختراق المارة بين يديه، وسلامة البال من رؤية من يكون قدامه، والمسارعة إلى خلاص الذمة، والسبق لدخول المسجد.

ومنها: بيان فضيلة التبكير إلى الصلاة في أول وقتها.

ومنها: الحث على حضور صلاتي العشاء والصبح، وبيان ما فيه من الفضل الكثير، لما فيهما من المشقة على النفس بتنقيص أول النوم

ص: 191

وآخره.

ومنها: مشروعية الاقتراع فيما فيه التساوي من الأمور الجائزة. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

المسألة الخامسة: في اختلاف العلماء في تسمية العشاء بالعتمة:

اختلف السلف في ذلك: فمنهم من كرهه، كابن عمر رضي الله عنه، كان إذا سمعهم يقولون: العتمة، صاح، وغضب.

ومنهم من أطلق جوازه، نقله ابن أبي شيبة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وغيره.

ومنهم من جعله خلاف الأولى، وهو الراجح، ونقله ابن المنذر عن مالك، والشافعي، واختاره، ونقل القرطبي عن غيره: إنما نهي عن ذلك تنزيهًا لهذه العبادة الشرعية الدينية عن أن يُطلَقَ عليها ما هو اسم لِفِعْلَة دنيوية، وهي الحَلْبَةُ التي كانوا يحلبونها في ذلك الوقت، ويسمونها العتمة.

قال الحافظ: وذكر بعضهم أن تلك الحلبة إنما كانوا يعتمدونها في زمان الجدب خوفًا من السُّؤَّال والصعاليك، فعلى هذا فهي فعْلَة دنيوية مكروهة، لا تطلق على فِعْلة دينية محبوبة. ومعنى العتم في الأصل: تأخير مخصوص. وقال الطبري: العتمة بقية اللبن، تغبق هذا الناقة بعد هُوِيّ من الليل، فسميت الصلاة بذلك، لأنهم كانوا يصلونها في تلك

ص: 192

الساعة. وروى ابن أبي شيبة من طريق ميمون بن مِهْران، قال: قلت لابن عمر: من أول من سمى صلاة العشاء العتمة؟ قَال: الشيطان. اهـ "فتح" جـ 2 ص 56.

وقيل. إن استعمال العتمة هنا لمصلحة، لأن العرب كانت تستعمل العشاء في المغرب، فلو قال ما في العشاء لحملوها على المغرب، ففسد المعنى، وفات المطلوب، فاستعمل العتمة التي لا يشكون فيها، وقواعد الشرع متظاهرة على احتمال أخف المفسدتين، لدفع أعظمهما. قاله في "عمدة القاري" جـ 5 ص 126.

قال الجامع عفا الله عنه: ما رجحه ابن المنذر، وتبعه عليه الحافظ رحمهما الله تعالى من حمل النهي على خلاف الأولى حسن، جمعًا بين الأحاديث، وأحسن منه ما يأتي عن العلامة السندي رحمه الله من أن النهي محمول على الإكثار من الاستعمال، ويدل عليه قوله:"لا تغلبنكم". والله أعلم. إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 193

‌23 - الْكَرَاهِيَة فِي ذَلِكَ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على الكراهية في أن يقال للعشاء العتمة.

541 -

أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، هُوَ الْحَفَرِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي لَبِيدٍ، عن أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَغْلِبَنَّكُمُ الأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّهُمْ يُعْتِمُونَ عَلَى الإِبِلِ، وَإِنَّهَا الْعِشَاءُ".

رجال الإسناد: ستة

1 -

(أحمد بن سليمان) بن عبد اللك، أبو الحسين الرُّهاوي، ثقة حافظ، توفي سنة 261، من [11]، أخرج له النسائي، تقدم في 38/ 42.

2 -

(أبو داود) عمر بن سعد بن عُبَيد الحَفَرِي، ثقة عابد، توفي سنة 203، من [9]، أخرج له مسلم، والأربعة، تقدم في 523.

تنبيه:

وقع في النسخة المصرية الخُضَري بالخاء والضاد المعجمتين بدل

ص: 194

الحاء المهملة والفاء، وهو تصحيف. فتنبه.

3 -

(سفيان) بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، ثقة حجة ثبت، من [7]، تقدم في 33/ 37.

4 -

(عبد الله بن أبي لبيد) بفتح اللام، مولى الأخنس بن شَرِيق، أبو المغيرة المدني، نزيل الكوفة، ثقة، رمي بالقدر، من [6].

قال عبد الله بن أحمد عن أييه: مَدَنِيٌّ قدم الكوفة، ما أعلم به بأسًا، وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق في الحديث، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال الحميدي عن سفيان. وكان من عباد أهل المدينة.

وقال الدراوردي: كان يرْمَى بالقدر، فلم يُصَلِّ عليه صفوان بن سُلَيم. وقال ابن عدي: أما في الروايات، فلا بأس به. وقال: ابن سعد: كان من العباد المنقطعين، وكان يقول بالقدر، وكان قليل الحديث. وقال العجلي: ثقة. وقال الساجي: كان صدوقًا، غير أنه اتهم بالقدر، وقال العقيلي: يخالف في بعض حديثه، وكان من المجتهدين في العبادة. وذكره ابن حبان في "الثقات". قال الواقدي: مات في خلافة أبي جعفر سنة يضع وثلاثين ومائة. أخرح له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.

ص: 195

5 -

(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الى. هري المدني، ثقة فقيه، من [3]، تقدم في 1/ 1.

6 -

(عبد الله بن عمر) الصحابي الجليل رضي الله عنهما، تقدم في 12/ 12. وبالله تعالى التوفيق.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات.

ومنها: أن أبا سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال.

ومنها: أن ابن عمر أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى 2630 حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن ابن عمر) رضي الله عنهما، أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا) ناهية (تغلبنكم) فعل مضارع مؤكد بالنون الثقيلة، يقال. غَلَبَهُ على كذا: غصبه منه، أو أخذه منه قهرًا. قاله الطيبي.

(الأعراب) بفتح الهمزة: أهل البدو من العرب، واحده أعرابي، بالفتح أيضا، وهو الذي يكون صاحب نُجْعَة، وارتيَادٍ للْكَلأِ، قال الأزهري: سواء كان من العرب، أو من موالَيهم، قَالَ: فمن نزل البادية، وجاور البادين، وظَعَنَ بِظَعْنهم، فهم: أعْرَاب، ومن نزل بلاد

ص: 196

الرِّيف، واستوطن المُدُن، والقُرَى العربية، فهم عرب، وإن لم يكونوا فُصَحَاء.

ويقال: سُمُّوا عَرَبًا، لأن البلاد التي سَكَنُوهَا تسمى العَرَبَاتَ، ويقال: العَرَبُ العَارِبَةُ: هم الذين تكلموا بلسان يعرب بن قحطان، وهو اللسان القديم، والعرب المستعربة: هم الذين تكلموا بلسان إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وهي لغات الحجاز، وما والاها. قاله في المصباح.

(على اسم صلاتكم هذه) نعت، أو بدل من "صلاتكم"، والإشارة إلى العشاء، والمعنى لا تتعرضوا لما هو من عادتهم، من تسمية العشاء بالعتمة، فتَغْصبَ منكم اسم العشاء التي سماها الله تعالى به، أي لا يليق العدول عما في كتاب الله من تسميتها عشاء، إلى ما ألفَهُ الأعراب من تسميتها عَتَمَةً، ولعل حكمةَ العدول عنه قبح لفظهَ، إذ العتمة شدة الظلام، والصلاة هي النور الأعظم، فلا يليق أن يوضع لها لفظ يدل على نقيضها. قاله القاري رحمه الله في "المرقاة" جـ 2 ص 325.

وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله: المعنى فيه: أن العادة أن العظماء، إذا سَمَّوا شيئًا باسم، فلا يليق العدول عنه إلى غيره، لأن ذلك تنقيص لهم، ورغبة عن صنيعهم، وترجيح لغيره عليه، وذلك لا يليق، والله سبحانه وتعالى سماها في كتابه العشاء، في

ص: 197

قوله: {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 58]، فيقبح بعد تسمية ذي الحلال والإكرام العدولُ إلى غيره. اهـ "زهر" جـ 1 ص 270.

وقال السندي رحمه الله: قوله: (لا تغلبنكم الأعراب) أي الاسمُ الذي ذكر الله تعالى في كتابه لهذه الصلاة اسمُ العشاء، والأعراب يسمونها العتمةَ، فلا تُكثروا استعمالَ ذلك الاسم، لما فيه من غلبة الأعراب عليكم، بل أكثروا استعمال اسم العشاء، موافقة للقرآن، فالمراد النهي عن إكثار اسم العتمة، لا عن استعماله أصلًا، فاندفع ما يتوهم من التنافي بين حديثي البابين. اهـ.

قال الجامع: هذا الذي ذكره العلامة السندي رحمه الله من الجمع بين حديثي البابين بحمل النهي على إكثار الاستعمال، حسن جدًا، وهو الذي يدل عليه تعبيره بقوله. "لا تغلبنكم"، فإن الغلبة تكون بإكثار الاستعمال، لا بالاستعمال أحيانًا للحاجة. والله أعلم.

(فإِنهم) أي الأعراب (يعتمون) من الإعتام رباعيًا، يقال: أعْتَمَ الرجل: إذا دخل في العتمة وهي الظلمة، كأصبح: إذا دخل في الصباح. أفاده في المصباح، والفاء للتعليل، فالجملة تعليل للنهي عن التسمية.

(على الإبل)"على" بمعنى اللام، للتعليل، كما في قوله تعالى:{وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185]، أي يؤخرون الوقت لأجل حِلاب الإبل، في الظلام، ورواية مسدم "وإنها تُعتِم بحلاب الإبل".

ص: 198

وقال السندي رحمه الله: أي يؤخرون الصلاة، ويدخلون في ظلمة الليل بسبب الإبل، وحلبها. اهـ.

وقيل: كانوا يؤخرون الحلاب إلى الظلمة، ويسمون ذلك الوقت العَتَمَةَ، فهو من باب تسمية الشيء باسم وقته، أي لا تطلقوا هذا الاسم على العشاء، لئلا يغلب مصطلحهم على ما جاء في كتاب الله تعالى، كما قال (وإِنها العشاء) أي اسمها الذي سماها الله به في كتابه هو: العشاء؛ حيث قال: {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 58]، فلا ينبغي العدول عنه. والجملة عطف على جملة التعليل. والله أعلم.

تنبيه:

ورد النهي أيضًا عن تسمية المغرب بالعشاء:

فقد أخرج البخاري في "صحيحه" بسنده عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب"، قال:"وتقول الأعراب: هي العشاء". وأخرجه أحمد، وابن خزيمة.

قال الطيبي: المعنى: لا تتعرضوا لما هو من عادتهم من تسمية المغرب بالعشاء، والعشاء بالعتمة، فيَغْصبَ منكم الأعراب اسمَ العشاء التي سماها الله هذا. قال: فالنهي على الظاهر للأعراب، وعلى الحقيقة لهم.

ص: 199

وقال غيره: معتى الغلبة أنكم تسمونها اسمًا، وهم يسمونها اسمًا، فإن سميتموها بالاسم الذي يسمونها به وافقتموهم، وإذا وافق الخصم خصمه: صار كأنه انقطع له حتى غلبه، ولا يحتاج إلى تقدير غصب، ولا أخذ.

وقال التوربشتي: المعنى: لا تطلقوا هذا الاسم على ما هو متداول بينهم، فيَغلِبَ مصطلحُهم على الاسم الذي شرعته لكم. اهـ فتح جـ 2 ص 52. والله ولي التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بحديث الباب

المسألة الأولى: في درجته:

حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا (541) وفي "الكبرى"(1522/ 1) عن أحمد بن سليمان، عن أبي داود الحفَرَي، عن الثوري، من عبد الله بن أبي لَبِيد، عن أبي سلمة، عنه.

وفي (542)"المجتبى"، و"الكبرى"(1523) عن سويد بن نصر، عن عبد الله بن المبارك، عن ابن عيينة، عن عبد الله بن أبي لبيد به. والله أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه مسلم، وأبو داود، وابن ماجه؛ فأخرجه مسلم في "الصلاة"

ص: 200

عن زهير بن حرب، وابن أبي عمر، كلاهما عن سفيان بن عيينة- وعن أبي بكر بن ألي شيبة، عن وكيع، عن الثوري- كلاهما عن عبد الله بن أبي لبيد به. وأخرجه أبو داود في الأدب عن عثمان بن أبي شيبة، عن ابن عيينة به. وأخرجه ابن ماجه في الصلاة عن هشام بن عمار، ومحمد ابن الصباح، كلاهما عن ابن عيينة به. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: النهي عن تسمية العشاء بالعتمة، وتقدم أنه محمول على كثرة استعماله حتى يغلب على الاسم الشرعي، أو محمول على التنزيه.

ومنها: أن الاسم الذي سماها الله تعالى به في كتابه هو العشاء، حيث قال:{وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} .

ومنها: أن الأسماء الشرعية إذا خالفت الأسماء العرفية ينبغي أن تقدم عليها.

ومنها: أنه ينبغي للمسلم أن لا يقلد الجاهلية حتى في الأسماء، بل يتبع الشرع في جميع أموره، فإن للشارع حكمة في اختيار الأسماء وغيرها، فلا ينبغي العدول عنه. والله أعلم. ومنه التوفيق، وعليه التكلان، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

542 -

أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي لَبِيدٍ، عَنْ

ص: 201

أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: "لَا تَغْلِبَنَّكُمُ الأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ، أَلَا إِنَّهَا الْعِشَاءُ".

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(سُوَيدُ بنُ نصر) أبو الفضل المروزي، لقبه: الشاه، ثقة، من [10]، تقدم في 45/ 55.

2 -

(عبد الله بن المبارك) الحنظلي مولاهم المروزي، ثقة ثبت حجة، من [8]، تقدم في 32/ 36.

3 -

(سفيان بن عيينة) أبو محمد الكوفي ثم المكي، ثقة ثبت حجة من كبار [8]، تقدم في 1/ 1.

وأما الباقون فقد تقدموا في السند السابق، وكذا شرح الحديث، وما يتعلق به من المسائل، فلا حاجة إلى إعادته، فارجع إليه إن شئت تزدد علمًا والله تعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 202

‌24 - أوَّلِ وَقْتُ الصُّبْحِ

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على أول وقت صلاة الصبح.

والصُّبْحُ: بضم فسكون: الفجر، والصباح مثله، وهو أول النهار، والصباح أيضًا: خلاف المساء، قال ابن الْجَوَاليقيِّ: الصباح عند العرب من نصف الليل الآخر إلى الزوال، ثم المساءَ إلى آخر نصف الليل، هكذا رُوِيَ عن ثَعْلَب. قاله في "المصباح".

543 -

أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، قَالَ:"صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصُّبْحَ، حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ".

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(إِبراهيم بن هارون) الْبَلْخِيُّ العابد، صدوق، من [11].

روى عن حاتم بن إسماعيل، وداود بن الجراح، والنضر بن زرارة الذهلي، وغيرهم.

وروى عنه الترمذي في الشمائل، والنسائي، ومحمد بن علي بن

ص: 203

الحكيم الترمذي.

قال النسائي: ثقة، وقال في موضع آخر: لا بأس به.

2 -

(حاتم بن إِسماعيل) المدني، أبو إسماعيل الحارثي مولاهم كوفي الأصل، صحيح الكتاب صدوق يهم، توفي سنة 186 أو 187، من [8].

قال أحمد: هو أحب إليَّ من الدَّرَاوَرْدي، وزعموا أن حاتمًا فيه غفلة، إلا أن كتابه صالح. وقال أبو حاتم: هو أحب إليَّ من سعيد بن سالم. وقال النسائي: ليس به بأس.

وقال ابن سعد: كان أصله من الكوفة، ولكنه انتقل إلى المدينة، فنزلها، ومات هذا سنة 186، وكان ثقة مأمونًا كثير الحديث. وقال البخاري عن أبي ثابت المديني: مات سنة 187، وكذا قال ابن حبان، وزاد ليلة الجمعة لتسع ليال مضين من جمادى الأولى.

وقال العجلي: ثقة. وكذا قال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين، وقال ابن المديني: روى عن جعفر، عن أبيه أحاديث مراسيل أسندها، قال الحافظ: وقرأت بخط الذهبي في الميزان: قال النسائي: ليس بالقوي. أخرج له الجماعة.

3 -

(جعفر بن محمد بن علي بن الحسين) بن علي بن أبي طالب الهاشمي، أبو عبد الله المدني المعروف بالصادق، صدوق فقيه إمام،

ص: 204

توفي سنة 148، من [6]، أخرج له البخاري في "الأدب المفرد" ومسلم، والأربعة، تقدم في 123/ 182.

4 -

(محمد بن علي) والد جعفر الباقر المدني، ثقة فاضل، من [4]، تقدم في 87/ 95.

5 -

(جابر بن عبد الله) الأنصاري الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 31/ 35. وبالله تعالى التوفيق.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسياته، ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين، إلا شيخه، فبلخي، ومنها: أن فيه رواية الابن عن أبيه، ومنها: أن جابرًا أحد المكثرين السبعة، روى 1540 حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن محمد بن علي (أن جابر بن عبد الله) رضي الله عنهما (قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح) أي صلاة الصبح.

(حين تَبَيَّن له الصبح) فيه أن أول الصبح إذا تبين الفجر، واتضح، فأما قبل تبينه فلا تصح صلاة الصبح، ولا يحرم الأكل في الصوم. وهذا الفجر هو الفجر الثاني المسمى بالصادق، الذي تتعلق به الأحكام، من صلاة الصبح، وحرمة الأكل ونحوه على الصائم، كما يأتي قريبًا. والله ولي التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 205

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى:

حديث جابر رضي الله عنه هذا صحيح، وهو من أفراد المصنف

(1)

كما أشار إليه الحافظ أبو الحجاج المزي في "تحفته" جـ 2 ص 280، أخرجه هنا (543) وفي "الكبرى"(1525/ 1) عن إبراهيم بن هارون البلخي، عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عنه.

المسألة الثانية:

قال الإمام النووي رحمه الله تعالى.

قال أصحابنا: الفجر فجران: أحدهما يسمى الفجر الأول، والفجر الكاذب، والآخر يسمى الفجر الثاني، والفجر الصادق؛ فالفجر الأول يطلع مستطيلًا نحو السماء، كذنب السِّرْحَان، وهو الذئب، ثم يغيب ذلك ساعة، ثم يطلع الفجر الثاني الصادق مستطيرًا -بالراء- أي منتشرًا عرضًا في الأفق.

قال أصحابنا: والأحكام كلها متعلقة بالفجر الثاني؛ فيه يدخل وقت صلاة الصبح، ويخرج وقت العشاء

(2)

، ويدخل في الصوم، ويحرم به الطعام، والشراب على الصائم، وبه ينقضي الليل، ويدخل

(1)

أي مختصرًا، وإلا فقد أخرجه مسلم في جملة حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، كما أشار إليه الشيخ الألباني في صحيح النسائي.

(2)

قوله: "ويخرج وقت العشاء" قد تقدم في باب "آخر وقت العشاء" أن الراجح في آخر وقتها هو نصف الليل، فليس لها وقت بعد نصفه، فتنبه.

ص: 206

النهار، ولا يتعلق بالفجر الأول شيء من الأحكام بإجماع المسلمين، قال صاحب الشامل: سمي الأول كاذبًا لأنه يضيء ثم يسود ويذهب، وسمي الثاني صادقًا، لأنه صَدَقَ عن الصبح، وبَيَّنَهُ.

ومما يستدل به من الحديث للفجرين حديث ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"لا يمنعن أحدكم -أو واحدًا منكم- أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن -أو ينادي- بليل، ليَرْجِعَ قائمكم، ولينتبه نائمكم، وليس أن يقول الفجر -أو الصبح- هكذا -وقال بأصابعه، ورفعها إلى فوق، وطأطأها إلى أسفل- حتى يقول هكذا؛ وقال بسبابتيه، إحداهما فوق الأخرى، ثم مَدَّهما عن يمينه وشماله". رواه البخاري ومسلم.

وعن سمرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغرنكم أذان بلال، ولا هذا العارض، لعمود الصبح، حتى يستطير". رواه مسلم، ورواه الترمذي عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال، ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير في الأفق"، قال الترمذي: حديث حسن.

وعن طلق بن علي رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كلوا، واشربوا، ولا يَهِيدَنَّكُم الساطع المصعد، وكلوا، واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر"، رواه أبو داود، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن، قال: والعمل عليه عند أهل العلم أنه لا يحرم الأكل والشرب على

ص: 207

الصائم حتى يكون الفجر المعترض. والله أعلم. انتهى. "المجموع" جـ 3 ص 44، 45. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة:

قال النووي رحمه الله تعالى أيضًا: صلاة الصبح من صلوات النهار، وأول النهار طلوع الفجر الثاني، هذا مذهبنا، وبه قال العلماء كافة، إلا ما حكاه الشيخ أبو حامد في تعليقه عن قوم أنهم قالوا: ما بين طلوع الشمس والفجر، لا من الليل ولا من النهار، بل زمن مستقل، فاصل بينهما، قالوا: وصلاة الصبح لا في الليل، ولا في النهار.

وحكى الشيخ أبو حامد أيضًا عن حذيفة بن اليمان، وأبي موسى الأشعري، وأبي مجْلَز، والأعمش رضي الله عنهم أنهم قالوا: آخر الليل طلوع الشمس، وهو أول النهار، قالوا: وصلاة الصبح من صلوات الليل، قالوا: وللصائم أن يأكل حتى تطلع الشمس، هكذا نقله أبو حامد عن هؤلاء، ولا أظنه يصح عنهم.

وقال القاضي أبو الطيب، وصاحب الشامل: وحكي عن الأعمش أنه قال: هي من صلوات الليل، وإن ما قبل طلوع الشمس من الليل؛ يحل فيه الأكل للصائم، قالا: وهذه الحكاية بعيد صحتها مع ظهور تحريم الأكل بطلوع الفجر في كل عصر مع ظاهر القرآن، فإن احتُجَّ له بقوله تعالى:{فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء:

12] وآية النهار هي الشمس، فيكون النهار من طلوعها، وبقول أمية ابن أبي الصلت (من الكامل):

ص: 208

والشَّمْسُ تطْلُعُ كلَّ آخِرِ لَيْلَةٍ

حمْرَاءَ تُبْصَرُ لوْنُهَا تَتوَقَّدُ

فالجواب أنه يثبت كونه من النهار بقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، وبإجماع أهل الأعصار على تحريم الطعام والشراب بطلوع الفجر.

وثبت في حديث جبريل عليه السلام: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثم صلى الفجر حين برق الفجر، وحَرُمَ الطعامُ على الصائم"، وهو حديث صحيح، كما سبق. وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن بلالًا يُؤَذِّن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم"، والليل لا يصح الصوم فيه بإجماع المسلمين.

وأما الجواب عن الآية التي احتج له هذا، فليس فيها دليل، لأن الله تعالى أخبر أن الشمس آية للنهار، ولم ينف كون غيرها آية، فإذا قامت الدلائل على أن هذا الوقت من النهار وجب العمل هذا، ولأن الآية العلامة، ولا يلزم أن يقارن جميع الشيء، كما أن القمر آية الليل، ولا يلزم مقارنته لجميع الليل.

وأما الشعر، فقد نقل الخليل بن أحمد إمام اللغة أن النهار هو الضياء الذي بين طلوع الفجر، وغروب الشمس، وحينئذ يحمل قول الشاعر أنه أراد قريب آخر كل ليلة، لا آخرها حقيقة.

فإن قيل: فقد رُويَ عن النبي صلى الله عليه وسلم: "صلاة النهار عَجْماءُ"، قلنا: قال الدارقطني، وغيره من الحفاظ: هذا ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولم

ص: 209

يرو عنه، وإنما هو قول بعض الفقهاء، قال الشيخ أبو حامد: وسألت عنه أبا الحسن الدارقطني، فقال: لا أعرفه عن النبي صلى الله عليه وسلم صحيحًا، ولا فاسدًا، مع أن المراد معظم صلوات النهار، ولهذا يجهر في الجمعة

والعيد. والله أعلم.

واحتج الأصحاب على من قال: إن ما بين الفجر والشمس، لا من الليل ولا من النهار، بقول الله تعالى:{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [فاطر: 13]، فدل على أنه لا فاصل بينهما. والله أعلم. انتهى المجموع جـ 3 ص 45، 46. والله ولي التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

544 -

أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ عَنْ وَقْتِ صَلَاةِ الْغَدَاةِ؟ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا مِنَ الْغَدِ أَمَرَ حِينَ انْشَقَّ الْفَجْرُ أَنْ تُقَامَ الصَّلَاةُ، فَصَلَّى بِنَا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَسْفَرَ، ثُمَّ أَمَرَ، فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَصَلَّى بِنَا، ثُمَّ قَالَ:"أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ؟؛ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ".

رجال الإسناد: أربعة

1 -

(علي بن حُجْر) بن أوس المروزي، ثم البغدادي، ثم

ص: 210

المروزي، ثقة حافظ، من صغار [9]، تقدم في 13/ 13.

2 -

(إِسماعيل) بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري الزرقي أبو إسحاق القارئ المدني، ثقة ثبت، توفي سنة 180، من [9]، تقدم في 16/ 17.

3 -

(حُمَيد) بن أبي حُمَيد الطويل، أبو عبيدة البصري، ثقة عابد مدلس، توفي سنة 142 أو 143، من [5]، تقدم في 87/ 108.

4 -

(أنس) بن مالك الأنصاري الصحابي الجليل رضي الله عنه تقدم في 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه [24] من رباعيات المصنف رحمه الله في هذا الكتاب، وهو أعلى ما وقع له، وقد تقدم غير مرة، وأن رجاله كلهم ثقات، اتفقوا عليهم، إلا شيخه، فلم يُخْرج له أبو داود، وابن ماجه، وأنهم مدنيون إلا شيخه، فمروزي، وأن أنسًا أحد المكثرين السبعة، وتقدم غير مرة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أنس) بن مالك رضي الله عنه (أن رجلًا) لم أعرف اسمه (أتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فسأله عن وقت صلاة الغداة) فيه استعمال الغداة للفجر، وهو قول الجمهور، وكرهه بعضهم، ولا وجه له.

ص: 211

قال النووي رحمه الله تعالى: لصلاة الصبح اسمان: الفجر، والصبح، جاء القرآن بالفجر، والسنة بالفجر والصبح، قال الشافعي رحمه الله في الأم: أحب أن لا تُسَمَّى إلا بأحد هذين الاسمين، ولا أحب أن تسمى الغداة، هذا نص الشافعي، وكذا قال المحققون من أصحابنا، فقالوا: يستحب تسميتها صبحًا وفجرًا، ولا يستحب تسميتها غداةً، ولم يقولوا: تكره تسميتها غداة، وقول صاحب المهذب، وشيخه أبي الطيب:"يكره أن تسمى غداة" غريب ضعيف، لا دليل له، وما استدل به؛ من أن الله تعالى سماها بالفجر، وسماها النبي صلى الله عليه وسلم الصبح، لا يدل على الكراهة، لأن المكروه ما ثبت فيه نهي غير جازم، ولم يَرِدْ في الغداة نهي، بل اشتهر استعمال لفظ الغداة فيها في الحديث وفي كلام الصحابة رضي الله عنهم من غير معارض، فالصواب أنه لا يكره، لكن الأفضل الفجر، والصبح. والله أعلم. انتهى "المجموع" جـ 3 ص 46.

قال الجامع: هذا الذي قاله النووي رحمه الله حسن جدًا. والله أعلم.

(فلما أصبحنا) أي دخلنا في الصباح (من الغد) أي اليوم الثاني ليوم السؤال، والغَدُ: اليوم الذي بعد يومك على إِثْره، ثم توسعوا فيه حتى أطلق على البعيد المرتقب، وأصله غَدْوٌ مثل فَلْس، حذفت لامه، وجُعِلَتِ الدال حرف إعراب، أفاده في المصباح.

(أمر حين انشق الفجر) أي طلع (أن تقام الصلاة) في تأويل

ص: 212

المصدر منصوب بنزع الخافض قياسًا، كما قال ابن مالك:

وَعَدِّ لازِمًا بِحَرْفِ جَرٍّ

وَإِنْ حُذِفْ فَالنَّصْبُ لِلْمُنْجَرِّ

نَقْلًا وَفِي أنَّ وَأنْ يَطَّرِدُ

مَعْ أمْن لَبسٍ كعَجِبتُ أن يَدُوا

أي بأن تقام الصلاة، وأل في المواضع الثلاثة للعهد الذكري، أي صلاة الغداة التي سئل عنها.

(فصلى بنا) أي تلك الصلاة، حذف المفعول لكونه معلومًا.

(فلما كان من الغد) الظاهر أن "كان" تامَّة، و"من" زائدة على رأي من يرى زيادتها في الإثبات، وهو مذهب الأخفش، و"الغد" فاعل "كان"، أي فلما جاء الغد. ويحتمل أن يكون اسم "كان" ضميرًا عائدًا على النبي صلى الله عليه وسلم، و"من" بمعنى "في"، أي فلما كان صلى الله عليه وسلم كائنًا في اليوم الثاني (أسفر) أي دخل في وقت الإضاءة (ثم أمر، فأقيمت الصلاة) أي صلاة الغداة (فصلى بنا) أي بمن حضر معه من الصحابة.

(ثم قال) صلى الله عليه وسلم (أين السائل عن وقت الصلاة؟) أي صلاة الغداة (ما) موصولة في محل رفع مبتدأ (بين هذين) منصوب على الظرفية، صلة "ما"، وقوله:(وقت) خبر المبتدإ، أي الوقت الذي استقر بين هذين الوقتين، وقت لصلاة الصبح.

وأورده المصنف رحمه الله تعالى مُستَدلًا به على أول وقت الصبح، ودلالته عليه واضحة من صلاته في اليَوم الأول، حيث إنه

ص: 213

صلى حين طلع الفجر.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث أنس رضي الله عنه هذا صحيح، وهو من أفراد المصنف رحمه الله، كما أشار إليه الحافظ المزي في "تحفته" جـ 1 ص 177، أخرجه هنا (544)، وفي الكبرى (1526/ 2) عن علي بن حجر، عن إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس رضي الله عنه.

وفوائده، وسائر متعلقاته تعرف من الأحاديث السابقة. فلا حاجة إلى إطالة الكتاب بإعادتها. والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 214

‌25 - التَّغْلِيسُ فِي الْحَضَرِ

أي هذا باب في ذكر الأحاديث الدالة على استحباب التغليس بصلاة الصبح في الحضر.

والتغليس: هو الدخول في الغَلَس، وهو بفتحتين: ظلام آخر الليل، يقال: غَلَّس القَومُ، تَغْليسًا: خَرَجُوا بغَلَس، وغَلَّسَ في الصلاة: صلاها بغلس. قاله في "المصباح". والله تعالى أعلم.

والحَضَر بفتحتين: خِلافُ البَدْوِ، والنسبة إليه حَضَري، على لفظه، وحَضَر: أقام بالحضر، والحَضارة بفتح الحاء، وكسرها: سكون الحَضَر. قاله في "المصباح". والله تعالى أعلم.

545 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:"إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيُصَلِّي الصُّبْحَ، فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ".

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(قتيبة) بن سعيد أبو رجاء البَغْلانيُّ، ثقة ثبت، من [10]، تقدم في 1/ 1.

ص: 215

2 -

(مالك) بن أنس الإمام المدني، ثقة حجة، من [7]، تقدم في 7/ 7.

3 -

(يحيى بن سعيد) بن قيس بن عمرو الأنصاري المدني، أبو سعيد القاضي، ثقة ثبت، توفي سنة 144، من [5]، تقدم في 22/ 23.

4 -

(عمرة) بنت عبد الرحمن بن سَعْد بن زُرَارَةَ الأنصارية المدنية، أكثرت عن عائشة، ثقة، توفيت قبل سنة 100، ويقال: بعدها، من [3]، تقدمت في 134/ 203.

5 -

(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدمت في 5/ 5. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف، ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، اتفقوا عليهم، ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين، وقتيبة وإن كان بغلانيًا، إلا أنه دخل المدينة، ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعية، ومنها: أن عائشة من المكثرين السبعة روت 2210 حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عائشة) رضي الله عنها، أنها (قالت: إن) مخففة من الثقيلة، وإذا خففت "إن" لا تعمل غالبًا، وتلزمها اللام الفارقة بينها، وبين "إن" الشرطية، ولا يليها من الأفعال غالبًا إلا النواسخ؛ ككان،

ص: 216

وظن، وأخواتهما، كقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143]، وإلى ذلك كله أشار ابن مالك بقوله:

وَخُفِّفَتْ "إِنَّ" فَقَلَّ الْعَمَلُ

وَتَلْزَمُ اللامُ إِذَا مَا تُهْمَلُ

وَرُبَّمَا اسْتُغْنِي عَنْهَا إِنْ بَدَا

مَا نَاطِقٌ أَرَادَهُ مُعْتَمِدَا

وَالْفِعْلُ إِنْ لَمْ يَكُ نَاسِخًا فَلا

تَلْفِهِ غَالِبًا بِإِنْ ذِي مُوصَلا

(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح، فينصرف النساء متلفعات) بالنص على الحال من النساء، اسم فاعل من التَّلَفُّع -بالفاء والعين المهملة- أي ملتحفات، ورُويَ بالفاء المكررة، بدل العين، والأكثرون على خلافه.

قال الأصمعي: التلفع بالثوب أن يشتمل به حتى يجلل به جسده، وهو اشتمال الصماء عند العرب، لأنه لم يرفع جانبًا منه، فيكون فيه فُرْجَة، وهو عند الفقهاء مثل الاضطباع، إلا أنه في ثوب واحد، وعن يعقوب: اللِّفَاعُ: الثوبُ، تَلْتَفِعُ به المرأة، أي تلتحف به، فيُغَيِّبُهَا، وعن كُرَاع: وهو المِلْفَع أيضًا.

وعن ابن دُرَيدٍ: اللِّفَاع الْمِلْحَفَةُ، أو الكِسَاء. وقال أبو عمرو: وهو الكساء.

وعن صاحب العين: تَلَفَّعَ بثوبه: إذا اضطبع به، وتلفع الرجل بالشيب: كأنه غطى سواد رأسه، ولحيته.

وفي "شرح الموطأ": التلفع أن يُلْقِيَ الثوب على رأسه، ثم يلتف

ص: 217

به، لا يكون الالتفاع إلا بتغطية الرأس، وقد أخطأ من قال: الالتفاع مثل الاشتمال، وأما التلفف فيكون مع تغطية الرأس وكشفه.

وفي المحكم: الملْفَعَة ما يُلْفَعُ به من رِدَاء، أو لحَاف، أو قِنَاعٍ، وفي المُغيث: وقيل: اللِّفَاع: النطع، وقيل. الكساءً الغليظ. وفي الصَحاح: لَفَّعَ رأسه تَلْفِيعًا: أي غطاه. اهـ عمدة القاري جـ 4 ص 89.

(بمروطهن) جمع مِرْط بكسر الميم، قال القزاز: المِرْط: مِلْحَفَة يُتَّزَرُ بها، والجمع أمْرَاط، ومُرُوط. وقيل: يكون المِرْطُ كِسَاءً من خَزٍّ، أو صوف، أو كَتَّان. وفي المحكم: وقيل. هو الثوب الأخضر، وفي مجمع الغرائب: أكسية من شعر أسود، وعن الخليل: هي أكسية معلمة. وقال ابن الأعرابي: هو الإزار.

وقال النضر بنت شميل: لا يكون المرط إلا درعًا، وهو من خز أخضر، ولا يسمى إلا أخضر، ولا يلبسه إلا النساء.

وقال عبد الملك بن حبيب في "شرح الموطأ": هو كساء صوف رقيق، خفيف، مربع، كن النساء في ذلك الزمان يتزرن به، ويتلفعن. أفاده العيني.

(ما) نافية (يعرفن) وللبخاري "لا يعرفهن أحد"، قال في "الفتح": قال الداودي: لا يعرفن أنساء هن أم رجال، فلا يظهرن للرائي، إلا أشخاصًا خاصة.

وقيل: لا يعرف أعيانهن، فلا يفرق بين خديجة، وزينب. وضعف

ص: 218

النووي، لأن المتلفعة في النهار، لا تعرف عينها، فلا تبقى في الكلام فائدة.

قال الحافظ: يريد لا تبقى فائدة للتقييد بمتلفعات، وهذا بناء على أن عدم معرفتهن، لأجل التلفع، وليس كذلك، بل عدم المعرفة للغلس، وإلا لم يكن الحديث حجة على التغليس، وإنما ذكرت عائشة التلفع بيانًا للواقع. قال: وتعقب -يعني كلام النووي- بأن المعرفة إنما تعلق بالأعيان، ولو كان المراد الأول لعبر بنفي العلم، وما ذكره من أن المتلفعة بالنهار لا تعرف عينها فيه نظر، لأن لكل امرأة هيئة غير هيئة الأخرى في الغالب، ولو كان بدنها مُغَطّى.

وقال الباجي: هذا يدل على أنهن كن سافرات، إذ لو كن متغطيات لمنع تغطية الوجه معرفتهن، لا التغليس، وفيه ما فيه، لأنه مبني على الاشتباه الذي أشار إليه النووي، وأما إذا كان لكل واحدة منهن هيئة غالبًا ففيه ما سلف. اهـ "فتح" جـ 2 ص 66 - 67.

قال الصنعاني: نعم قد يسلم للحافظ مدعاه فيمن تطول مصاحبته من الأهل ونحوهم، فيعرف الهيئة والمشي المعين، كما قال عمر لسودة: قد عرفناك يا سودة، مع أنها كانت متلفعة، ولكن الكلام في أعم من ذلك.

قال الجامع: فيما قال الصنعاني في سودة: "مع أنها كانت متلفعة" نظر، لأن القصة كانت قبل الأمر بالحجاب فلا يعلم كونها متلفعة.

ص: 219

فتأمل. والله أعلم.

(من الغلس) أي من اختلاط ضياء الصبح بظلمة الليل. قال الأزهري: الغَلَس: بقايا ظلمة الليل يخالطها بياض الفجر. وفي "ق" والصحاح: الغَلَس محركة: ظلمة آخر الليل. قاله في العدة جـ 2 ص 17 بتصرف.

فمن ابتدائية، أو تعليلية، ولا معارضة بين هذا، وبين حديث أبي برزة الأسلمي السابق أنه كان ينصرف من الصلاة حين يعرف الرجل جليسه، لأن هذا إخبار عن رؤية المتلفعات على بعد، وذاك إخبار عن رؤية الجليس. قاله في "الفتح" جـ 2 ص 67. والله ولي التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عائشة رضي الله عنها هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا (545)، وفي "الكبرى"(1528/ 2) عن قتيبة، عن مالك، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة، عنها. والله أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي. فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن عبد الله بن يوسف، والقعنبي، وأخرجه

ص: 220

مسلم فيه عن نصر بن علي، وإسحاق بن موسى، كلاهما عن مَعْنِ بنِ عيسى، وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي، وأخرجه الترمذي فيه عن قتيبة- كلهم عن مالك، عن يحيى به. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما ترجم عليه المصنف، وهو استحباب التغليس بصلاة الصبح، وفيه اختلاف العلماء سيأتي تحقيقه في المسألة التالية إن شاء الله تعالى.

ومنها: جواز خروج النساء إلى المساجد لشهود الصلاة بالليل مع الرجال، وليس في الحديث ما يدل على كونهن عُجُزًا، أو شواب، وكره بعضهم الخروج للشواب، وهو رأي ابن عمر، وجماعة من السلف، قال الصنعاني: ويحسن حمله على خشية الفتنة عليهن، أو بهن، فإنها مفسدة تربو على مصلحة حضور الجماعة، ودفع المفاسد أهم من جلب المصالح. اهـ "العدة" جـ 2 ص 70.

وقال الحافظ: ويؤخذ منه جوازه في النهار من باب أولى، لأن الليل مظنة الريبة أكثر من النهار، ومحل ذلك إذا لم يُخشَ عليهن، أو بهن فتنة. اهـ.

قال الصنعاني: ويقال: الفتنة بالنهار أكثر لظهور محاسنهن، ولذا كان نساؤه صلى الله عليه وسلم لا يخرجن لقضاء حاجتهن إلا ليلًا، كما أفاده حديث عائشة في قصة الإفك. اهـ عدة. وستأتي المسألة في بابها إن شاء الله تعالى.

ومنها: ما استدل به بعضهم على جواز صلاة المرأة مختمرة الأنف

ص: 221

والفم، فكأنه جعل التلفع صفة لشهود الصلاة. وتعقبه عياض بأنها إنما أخبرت عن هيئة الانصراف. اهـ "فتح".

قال الصنعاني: رواية البخاري التي ذكرناها أولًا، ورواية مسلم- يعني قوله:"كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن"- يدل لما قاله ذلك البعض، لأنه جعل متلفعات

حالًا من فاعل شهود الصلاة، والحال قيد في عاملها، أي شهدنها حال كونهن متلفعات فهو صريح في صلاتهن متلفعات، أي يحضرنها معه على تلك الحال، نعم إحدى الروايات نيست على اللفظ -يعني رواية النسائي- إلا أنه قد يقال: من أين يلزم منه تغطية الأنف والفم، إلا أن يكون عرف ذلك العصر كذلك. اهـ "العدة" جـ 2 ص 22.

(قال الجامع عفا الله عنه): رواية المصنف الآتية بعد هذا صريحة في كون الصلاة مع التلفع، ولفظه:"كُنَّ النساءُ يصلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح متلفعات بمروطهن": فالظاهر جواز صلاتها مختمرة،

لظاهر هذا النص، مع أنه ليس في المنع دليل مرفوع. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الخامسة: في بيان مذاهب العلماء في التغليس بصلاة الصبح:

ذهب أكثر أهل العلم إلى أن الأفضل فيها التغليس، وهو مذهب عمر، وعثمان، وابن الزبير، وأنس، وأبي موسى، وأبي هريرة رضي الله عنهم

(1)

، ونقله الحازمي عن بقية الخلفاء الأربعة، وابن

(1)

انظر: المجموع جـ 3 ص 51.

ص: 222

مسعود، وأبي مسعود الأنصاري، وأهل الحجاز

(1)

، وبه قال الأوزاعي، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وجمهور العلماء.

وذهب بعض أهل العلم إلى أن الإسفار أفضل من التغليس، وهو مذهب النخعي، والثوري، وأبي حنيفة، وأصحابه، والحسن بن حَيِّ، وأكثر العراقيين، وهو مروي عن علي، وابن مسعود رضي الله عنهما.

قال النووي رحمه الله: احتج هؤلاء بحديث رافع بن خديج رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر"، رواه أبو داود، والترمذي

(2)

، وقال: حسن صحيح وهذا لفظ الترمذي، وفي رواية أبي داود:"أصبحوا بالصبح، فإنه أعظم للأجر".

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها، إلا صلاتين، جمع بين المغرب والعشاء بجمع -يعني بالمزدلفة- وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها"، رواه البخاري، ومسلم، قالوا: ومعلوم أنه لم يصلها قبل طلوع الفجر، وإنما صلاها بعد طلوعه مغلسًا هذا، فدل على أنه كان يصليها في جميع الأيام غير ذلك اليوم مسفرًا هذا، قالوا: ولأن الإسفار يفيد كثرة الجماعة، واتصال الصفوف، ولأن الإسفار يتسع به وقت التنفل قبلها، وما أفاد كثرة النافلة كان أفضل.

واحتج الأولون القائلون بأفضلية التغليس بقول الله تعالى:

(1)

انظر: نيل الأوطار جـ 2 ص 74.

(2)

سيأتي للمصنف (548) بلفظ: "أسفروا بالفجر".

ص: 223

{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238]، ومن المحافظة تقديمها في أول الوقت، لأنه إذا أخرها عَرَّضَهَا للفوات، وبقوله تعالى: فهو {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133]، والصلاة تحصل ذلك، وبقوله تعالى:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [المائدة: 48].

وبحديث عائشة رضي الله عنها هذا، وهو متفق عليه، وبحديث أبي برزة رضي الله عنه، وتقدم (525)، وفيه:"وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه، وكان يقرأ بالستين إلى المائة". متفق عليه. وبحديث جابر رضي الله عنه، قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر إذا زالت الشمس، والعصر والشمس حية، والمغرب إذا غابت الشمس، والعشاء إذا رأى في الناس قلة أخر، وإذا رأى كثرة عجل، والصبح بغلس". متفق عليه.

وبحديث أنس رضي الله عنه، قال:"تسحر نبي الله صلى الله عليه وسلم، وزيد بن ثابت، فلما فرغا من سحورهما، قام نبي الله صلى الله عليه وسلم، فصلى، قال قتادة: قلت لأنس: كم كان بين فراغهما من سحورهما، ودخولهما في الصلاة؟ قال: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية". رواه البخاري بلفظه، ومسلم بمعناه.

وعن سهل بن سعد رضي الله عنه، قال:"كنت أتسحَّر في أهلي، ثم يكون سُرْعَةٌ بي أن أدرك صلاة الفجر مع رسول آلله صلى الله عليه وسلم "، رواه البخاري.

وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى

ص: 224

الصبح مرة بغلس، ثم صلى مرة أخرى فأسفر هذا، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس، حتى مات لم يعد إلى أن يسفر"، رواه أبو داود بإسناد حسن، قال الخطابي: هو صحيح الإسناد.

وعن مغيث بن سُمَيّ، قال:"صليت مع ابن الزبير صلاة الفجر، فصلى بغلس، وكان يُسْفِرُ هذا، فلما سلم قلت لابن عمر: ما هذه الصلاة؟ وهو إلى جانبي، فقال: هذه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، فلما قتل عمر أسفر بها عثمان رضي الله عنه"، قال الترمذي في كتاب العلل: قال البخاري: هذا حديث حسن

(1)

.

وأما الجواب عن حديث رافع بن خديج، فمن وجهين:

أحدهما: أن المراد بالإسفار طلوع الفجر، وهو ظهوره، يقال: سفرت المرأة، أي كشفت وجهها، فإن قيل: لا يصح هذا التأويل، لقوله صلى الله عليه وسلم:"فإنه أعظم للأجر"، لأن هذا يدل على صحة الصلاة قبل الإسفار، لكن الأجر فيها أقل، فالجواب أن المراد أنه إذا غلب على الظن دخول الوقت، ولم يتيقنه جازت الصلاة، ولكن التأخير إلى إسفار الفجر، وهو ظهوره الذي يتيقن به طلوعه أفضل، وقيل: يحتمل أن يكون الأمر بالإسفار في الليالي المقمرة، فإنه لا يتيقن فيها الفجر إلا باستظهار في الإسفار.

(1)

وصححه العلامة الألباني، انظر صحيح ابن ماجه جـ 1 ص 111.

ص: 225

والثاني: ذكره الخطابي أنه يحتمل أنهم لما أمروا بالتعجيل صلوا بين الفجر الأول، والثاني طلبًا للثواب، فقيل لهم: صلوا بعد الفجر الثاني، وأصبحوا بها، فإنه أعظم لأجركم.

فإن قيل: لو صلَّوا قبل الفجر لم يكن فيها أجر، فالجواب أنهم يؤجرون على نيتهم، وإن لم تصح صلاتهم، لقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا اجتهد الحاكم، فأخطأ فله أجر".

وأما الجواب عن حديث ابن مسعود رضي الله عنه، فمعناه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الفجر في هذا اليوم قبل عادته في باقي الأيام، وصلى في هذا اليوم أول طلوع الفجر، ليتسع الوقت لمناسك الحج، وفي غير

هذا اليوم كان يؤخر عن طلوع الفجر قدر ما يتوضأ المحدث، ويغتسل الجنب، ونحوه، فقوله قبل ميقاتها معناه قبل ميقاتها المعتاد بشيء يسير، والجواب عن قولهم: الإسفار يفيد كثرة الجماعة، ويتسع به وقت النافلة إن هذه الفائدة لا تلحق بفائدة فضيلة أول الوقت، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُغَلِّس بالفجر. اهـ "المجموع" بتصرف يسير جـ 3 ص 51 - 54.

قال الجامع عفا الله عنه: في بعض هذه الأجوبة تعسف ظاهر، وأحسن الأجوبة عندي، وأولاها في الجمع بين الأحاديث جواب من أجاب بأن حديث الإسفار معناه مد القراءة إلى الإسفار، فيكون الدخول في القراءة في الغلس، والخروج في الإسفار.

ص: 226

قال العلامة ابن القيم رحمه الله بعد ذكر حدث رافع بن خديج ما لفظه: وهذا بعد ثبوته إنما المراد به الإسفار دوامًا، لا ابتداء، فيدخل فيها مُغَلِّسًا، ويخرج مُسْفِرًا، كما كان يفعله صلى الله عليه وسلم، فقوله موافق لفعله، لا مناقض له، وكيف يُظَنُّ به المواظبة على فعل ما الأجر الأعظم في خلافه؟ اهـ.

وهذا هو الذي اختاره الطحاوي في شرح معاني الآثار، وقد بسط الكلام فيه، وقال في آخره: فالذي ينبغي الدخول في الفجر في وقت التغليس، والخروج منها في وقت الإسفار، على موافقة ما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن. اهـ

(1)

.

وأصرح حديث يدل على هذا الجمع: ما يأتي للمصنف من حديث أنس رضي الله تعالى عنه (552)، وفيه "

ويصلي الصبح إلى أن ينفسح البصر"، ولفظ أحمد في مسنده

(2)

"والصبح إذا طلع الفجر إلى أن ينفسح البصر"، ففيه دلالة على أنه كان يدخل في الغلس، ويمد القراءة إلى أن يُسْفِرَ. والله أعلم، وبه التَوفيق، وعليه التكلان.

(1)

هكذا عزاه الطحاوي إليهم لكن المشهور عند الحنفية أنهم يقولون باستحباب الإسفار دخولًا، وخروجًا، والله أعلم. انظر: الدر المختار مع حاشيته رد المحتار جـ 1 ص 382.

(2)

انظر: المسند جـ 3 ص 129، 169.

ص: 227

والحاصل أن أرجح المذهبين في هذه المسألة مذهب جمهور العلماء وهو أن الأفضل التغليس، لقوة دليله، ولأنه واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر بعده، ولأن فيه العمل بالحديثين جميعًا، حيث يحمل

حديث الإسفار على مد القراءة حتى يسفر الصبح.

كما اعترف زعيم الحنفية الطحاوي رحمه الله تعالى كما مر آنفًا. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

546 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:"كُنَّ النِّسَاءُ يُصَلِّينَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصُّبْحَ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، فَيَرْجِعْنَ، فَمَا يَعْرِفْهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْغَلَسِ".

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(إِسحاق بن إِبراهيم) بن مخلد الحنظلي المروزي ثم النيسابوري، المعروف بابن راهويه، ثقة حافظ حجة، من [10]، تقدم في 2/ 2.

2 -

(سفيان) بن عيينة أبو محمد الهلالي مولاهم الكوفي، ثم المكي، ثقة فقيه حجة عابد، من [8]، تقدم في 1/ 1.

3 -

(الزهري) محمد بن مسلم أبو بكر الإمام الحجة الفقيه

ص: 228

المدني، من [4]، تقدم في 1/ 1.

4 -

(عروة) بن الزبير بن العوَّام الفقيه الحجة الثبت المدني، من [2]، تقدم في 40/ 44.

5 -

(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدمت في 5/ 5. والله تعالى أعلم.

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله.

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات نبلاء، اتفقوا عليهم، وأنهم مدنيون، إلا شيخه فمروزي ثم نيسابوري، وسفيان فكوفي ثم مكي.

ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي؛ الزهري عن عروة.

ومنها: أن عروة أحد الفقهاء السبعة.

ومنها: أن عائشة من المكثرين السبعة روت 2210 حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عائشة) رضي الله عنها، أنها (قالت: كُنَّ النساءُ) النساء بدل من الضمير، وهو الفصيح، ويحتمل أن يكون اسم كان على لغة أكلوني البراغيث، قال ابن مالك:

وَجَرِّدِ الْفِعْلَ إِذَا مَا أسْنِدَا

لاثْنَيْنِ أوْ جَمْعٍ كفَازَ الشُّهَدَا

وَقَدْ يُقَالُ: سَعِدَا، وسَعِدُوا

وَالْفِعْلُ لِلظَاهِرِ بَعْدُ مُسْنَدُ

ص: 229

وخبر كان قوله: (يصلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح متلفعات) منصوب على الحال، وهو بعين مهملة بعد الفاء، أي متلففات، والتَّلَفُّعُ: التلفف، إلا أن فيه زيادة تغطية الرأس، فكل مُتَلَفِّعٍ متلفف، وليس كل متلفف متلفعًا، قاله في الزَّهْرِ، وتقدم مستوفى في الحديث السابق.

(بمروطهن) متعلق بمتلفعات، وهو جمع مِرْط، وهو الكساء، وأكثر ما يستعمل للنساء، وقال ابن فارس: هي ملْحَفَة يؤتزر بها، والأول أشهر، وقيل: المِرْط كساء من صوف مربع سَدَاهُ شعر. قاله في الزهر، وتقدم مستوفى أيضًا.

(فيرجعن) إلى بيوتهن.

(ما يعرفهن أحد من الغلس) أي لأجل الغلس، لا لأجل التلفع، والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عائشة رضي الله عنها أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا (546)، وفي "الكبرى"(1527/ 1) عن إسحاق بن إبراهيم، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عنها.

ص: 230

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه مسلم وابن ماجه، فأخرجه مسلم في "الصلاة" عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد، وزهير بن حرب، كلهم عن ابن عيينة به، وأخرجه ابن ماجه فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة، به.

وبقية مباحث الحديث تقدمت في الحديث السابق. والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، إليه أنيب.

ص: 231

‌26 - التَّغْلِيسُ فِي الْسَّفَرِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية التغليس بصلاة الصبح في حال السفر.

547 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِغَلَسٍ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْهُمْ، فَأَغَارَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ:"اللهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ، -مَرَّتَيْنِ- إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ، فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ".

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(إِسحاق بن إبراهيم) الحنظلي المعروف بابن راهويه تقدم في السند السابق.

2 -

(سليمان بن حرب) الأزدي الوَاشِحِيُّ البصري، القاضي بمكة، ثقة إمام حافظ، توفي سنة 124، من [9]، تقدم في 181/ 288.

3 -

(حماد بن زيد) بن درهم الأزدي الجَهْضَمِيُّ، أبو إسماعيل

ص: 232

البصري، ثقة ثبت فقيه، توفي سنة 179، من كبار [8]، تقدم في 3/ 3.

4 -

(ثابت) بن أسلم البُنَاني، أبو محمد البصري، ثقة عابد، من [4]، تقدم في 45/ 53.

5 -

(أنس) بن مالك الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 6/ 6. وبالله تعالى التوفيق.

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسياته.

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات نُبَلاء، اتفقوا عليهم، وكلهم بصريون، إلا شيخه فمروزي ثم نيسابوري.

ومنها: أن ثابتًا ممن لزم أنسًا أربعين سنة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أنس) رضي الله عنه، أنه (قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم خيبر) أي يوم غزوة بلدة تسمى خيبر، وخيبر بلغة اليهود: الحصن، وقيل: أول من سكن فيها رجل من بني إسرائيل يسمى خيبر، فسميت

به، وهي بلدة في جهة الشمال والشرق من المدينة النبوية على ستة مراحل، وكان لها نخيل كثير، وكانت في صدر الإسلام دارًا لبني قريظة

ص: 233

والنضير، وكانت غزوة خيبر في جمادى الأولى سنة سبع من الهجرة، قاله ابن سعد، وقال ابن إسحاق: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من الحديبية ذا الحجة، وبعض المحرم، وخرج في بقيته غازيًا إلى خيبر،

ولم يبق من السنة السادسة إلا شهر وأيام، وهو غير منصرف للعلمية والتأنيث، أفاده العيني في "عمدته" جـ 4 ص 84.

(صلاة الصبح بغَلَس) بفتحتين، هو ظلمة آخر الليل، والمراد به هنا أول طلوع الفجر، وهو محل الاستدلال للمصنف في مشروعية التغليس بصلاة الصبح في السفر.

(وهو قريب منهم) جملة في محل نصب على الحال من فاعل صلى، أي "صلى" حال كونه صلى الله عليه وسلم قريبًا من أهل خيبر، أي في مكان قريب منهم.

(فأغار عليهم) أي هَجَم عليهم ديارهم، وأوقع بهم، قاله في المصباح.

(وقال) لَمَّا القوم خرجوا إلى أعمالهم بمكاتلهم ومساحيهم.

(الله أكبر) فيه مشروعية التكبير عند ملاقاة العدو.

(خربت) من باب تَعب، يقال: خَرِبَ المنزلُ، فهو خراب، ويتعدى بالهمزة، والتضعَيف، فيقال: أخْرَبْتُهُ، وخَرَّبته، وهو ضد العُمْرَان، وأما خَرَبَ، يَخْرُبُ، كقتل، يقتل، خِرَابَةً، بالكسر، إذا

ص: 234

سرق، كما في المصباح، فلا يناسب هنا (خيبر) أي صارت خرابًا، وهذا يحتمل أنه قاله على سبيل الخبرية، فيكون ذلك من باب الإخبار بالغيب، ويحتمل أن يكون قاله على جهة الدعاء عليهم، أو على جهة التفاؤل لَمَّا رآهم خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم، وذلك من آلات الهدم. ويجوز أن يكون أخذه من اسمها، وقيل: إن الله أعلمه بذلك.

ذكر نحوه العيني.

(مرتين) أي قال ذلك مرتين، وللبخاري "قالها ثلاثًا".

(إِنا إِذا نزلنا بساحة قوم) ساحة الدار: الموضع المتسع أمامها، والجمع سَاحَاتٌ، وسَاحٌ، مثل ساعة، وساعات، وساع. قاله في المصباح.

(فساء صباح المنذرين) أي بئس وقت القوم المنذرين، وصباح فاعل "ساء"، والمخصوص بالذم محذوف، أي صباحهم، ويحتمل أن يكون صباح مخصوصًا بالذم، والفاعل ضمير يعود إليه، والتمييز مقدر، أي ساء هو، أي صباحهم صباحًا

(1)

، وقال البيضاوي في تفسيره: أي فبئس صباح المنذرين صباحهم، واللام للجنس، والصباح

مستعار من صباح الجيش المُبَيِّت لوقت نزول العذاب، ولما كثر الهجوم، والغارة في الصباح سَمّوَا الغارة صباحًا، وإن كان في وقت آخر. اهـ.

وإنما قال: اللام للجنس، لأن ما بعد بئس ونعم يشترط أن يكون

(1)

أفاده سليمان الجمل في حاشيته على "تفسير المحلي" جـ 3 ص 559، ونقلته بالمعنى.

ص: 235

شائعًا، ليكون فيه التفسير بعد الإبهام، والتفصيل بعد الإجمال، فلو كان "ساء" بمعنى قبح جاز كونها للعهد، أفاده الشهاب الخفاجي في حاشيته جـ 7 ص 292، وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر، إذ الظاهر أن يقول: صباحهم، إيذانًا بكونهم مُنذَرِين، من قبلُ، أي بلغتهم دعوته، فعاندوا، فاستحقوا الإغارة عليهم. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أنس رضي الله عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا (547)، وفي "الكبرى"(1529)، وفي السير عن إسحاق ابن إبراهيم، عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن ثابت، عنه، وفي "النكاح"(3380)، وفي "الوليمة" من "الكبرى" عن زياد بن أيوب، وفي "التفسير" من "الكبرى" عن إسحاق بن إبراهيم، كلاهما عن ابن علية، عن عبد العزيز بن صهيب، عنه. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه.

أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن مسدد، وفي "المغازي" عن سليمان بن حرب، كلاهما

ص: 236

عن حماد به، وفي "الصلاة" عن يعقوب بن إبراهيم الدَّوْرَقي، عن إسماعيل بن علية، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس رضي الله عنه.

وأخرجه مسلم في "النكاح"، وفي "المغازي" عن زهير بن حرب، عن ابن علية، به.

وأخرجه أبو داود في "الخراج" عن يعقوب بن إبراهيم، عن ابن علية به. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده.

منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله، وهو مشروعية التغليس بصلاة الصبح في السفر.

ومنها: جواز الإغارة على العدو، ولكن هذا فيمن بلغتهم الدعوة، وأما قبلها فلا يجوز.

ومنها: مشروعية التكبير عند ملاقاة العدو، امتثالًا لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]. والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 237

‌27 - الإسْفَارُ

وفي نسخة "باب الإسفار".

أي هذا باب ذكر الحديثين الدالين على استحباب الإسفار بصلاة الصبح.

وقد تقدم في الباب (25) أن المختار في معنى الإسفار هو مد القراءة إلى أن يدخل وقت الإسفار، فيكون الدخول في الصلاة في الغلس، والخروج منها في الإسفار، جمعًا بين الأحاديث. والله أعلم.

548 -

أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ".

رجال الإسناد: سته

1 -

(عبيد الله بن سعيد) أبو قُدَامَة السرخسي، نزيل نيسابور ثقة مأمون سُنِّيّ، من [10]، تقدم في 15/ 15.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطان البصري، ثقة ثبت حجة، من [9]، تقدم في 4/ 4.

3 -

(ابن عَجْلان) هو محمد بن عجلان المدني، صدوق، إلا أنه

ص: 238

اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة، توفي سنة 148، من [5]، تقدم في 36/ 40.

4 -

(عاصم بن عمر بن قتادة) بن النعمان بن زيد بن عامر بن سَوَادَة بن كعب وهو ظفر بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس، الأنصاري الظفري، أبو عمرو، ويقال: أبو عمر المدني، ثقة عالم بالمغازي، توفي بعد 120، من [4].

وثقه ابن معين، وأبو زرعة، والنسائي. وقال ابن سعد: كان راوية للعلم، وله علم بالمغازي والسير، أمَرَهُ عمر بن عبد العزيز أن يجلس في مسجد دمشق، فيحدث الناس بالمغازي، ومناقب الصحابة، ففعل، وكان ثقة، كثير الحديث، عالمًا، توفي سنة 120، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: توفي سنة 119، وقيل: توفي سنة 126، وقيل: سنة 127، وقيل: 129، وكناه ابن حبان أبا محمد. وقال البزار: ثقة مشهور. وقال عبد الحق في الأحكام: هو ثقة عند أبي زرعة، وابن معين، وقد ضعفه غيرهما، وقد رد ذلك عليه ابن القطان. وقال: بل هو ثقة عندهما، وعند غيرهما، ولا أعرف أحدًا ضعفه، ولا ذكره في الضعفاء. أخرج له الجماعة.

5 -

(محمود بن لَبِيد) بن عُقْبَةَ بن رافع بن امرئ القيس بن زيد ابن عبد الأشهل الأوسي الأنصاري الأشهلي، أبو نعيم المدني، وأمه أم منظور بنت محمد بن مسلمة. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، ولم تصح

ص: 239

له رؤية، ولا سماع منه، وعن عمر، وعثمان، وشداد بن أوس، ورافع ابن خَدِيج، وقتادة بن النعمان، وأبي سعيد الخدري، وسلمة بن سلامة ابن وقش، وجابر، وعبد الله بن أبي أمامة بن ثعلبة، ورفيدة امرأة صحابية، وجماعة.

روى عنه الزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وجعفر بن عبد الله ابن الحكم، ومحمد بن إبراهيم التيمي، وصالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف، وحصين بن عبد الرحمن الأشهلي، وبكير بن الأشج، والمسيب بن عبد الله بن أبي أمامة بن ثعلبة، وآخرون.

ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين، فيمن ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: سمع من عمر، وتوفي بالمدينة سنة 96، وكان ثقة قليل الحديث. قال الواقدي: مات، وهو ابن 99 سنة، وقال ابن أبي عاصم وغيره: مات سنة 97. وقال ابن أبي خيثمة تبعًا للهيثم بن عدي: مات في خلافة ابن الزبير، زاد ابن أبي خيثمة، وقد قيل: سنة 96، قال الحافظ: على مقتضى قول الواقدي في سنه يكون له يوم موت النبي صلى الله عليه وسلم 13 سنة، وهذا يقوي قول من أثبت الصحبة، وقد قال البخاري: قال أبو نعيم: حدثنا عبد الرحمن بن الغسيل، عن عاصم بن عمر، عن محمود بن لبيد: "أسرع النبي صلى الله عليه وسلم حتى تقطعت نعالنا يوم مات سعد بن معاذ"، وذكره مسلم في الطبقة الثانية من التابعين. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة، قال ابن عبد البر: قول البخاري أولى. يعني

ص: 240

في إثبات صحبته، وكذا ذكره ابن حبان في الصحابة، وقال الترمذي: رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو غلام صغير. وفي "ت" صحابي صغير، وجُلُّ روايته عن الصحابة. أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم،

والأربعة.

6 -

(رافع بن خَدِيج) بن رافع بن عدي الحارثي الأوسي الأنصاري، صحابي جليل، أول مشاهده أحد، ثم الخندق، توفي سنة 73 أو 74، وقيل: قبل ذلك، أخرج له الجماعة، تقدم في 112/ 155. وبالله تعالى التوفيق.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسياته.

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، وأنهم مدنيون، إلا شيخه فسرخسي ثم نيسابوري، ويحيى فبصري.

ومنها: أن فيه رواية صحابي عن صحابي، إن قلنا: إن محمودًا صحابي، وهو الراجح.

ومنها: أن فيه رواية ثلاثة من التابعين، بعضهم عن بعض؛ ابن عجلان، عن عاصم، عن محمود، إن قلنا: تابعي، وإلا ففيه رواية تابعي، عن تابعي.

ومنها: أن عاصمًا، ومحمودًا هذا الباب أول محل ذكرهما من

ص: 241

الكتاب. والباقون تقدموا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن رافع بن خديج) رضي الله عنه، (عن النبي صلى الله عليه وسلم) أنه (قال:"أسفروا بالفجر") أمر بالإسفار، أي صلوا صلاة الفجر إذا أضاء الفجر، وأشرق، قال الجزري في "النهاية": أسفر الصبح: إذا انكشف، وأضاء. وقال في المصباح: وأسفر الصبحُ إسفارًا: أضاء، وأسفر الوجهُ من ذلك: إذا علاه جَمَالٌ، وأسفر الرجلُ بالصلاة: صلاها في الإسفار. اهـ.

وزاد الترمذي من طريق محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر، عن محمود بن لبيد، عن رافع، "فإنه أعظم للأجر"، ولفظ أبي داود من طريق سفيان، عن ابن عجلان "أصبحوا بالصبح، فإنه أعظم لأجوركم، أو "أعظم للأجر".

واستدل به من قال: باستحباب الإسفار بالفجر، وهو مذهب الحنفية، كما تقدم، وقد أجاب القائلون باستحباب التغليس عن هذا الحديث بأجوبة.

الأول: ما قاله البيهقي: إنه حديث مختلف في سنده ومتنه. وفيه نظر إذ الحديث صحيح لا يضر فيه الاختلاف، كما سيأتي.

الثاني: أنه محمول على تحقق طلوع الفجر بدليل أنه قد ثبت مداومة

ص: 242

النبي صلى الله عليه وسلم على التغليس حتى فارق الدنيا.

الثالث: أنه محمول على الليالي المُقْمِرَة التي يصبح القمر فيها موجودًا، فإنه قد يخفى فيها الفجر غالبًا.

الرابع: أنه محمول على الأمر بتطويل القراءة حتى يخرج من الصلاة مُسْفِرًا.

الخامس: أنه وقع منه صلى الله عليه وسلم، ثم كانت صلاته بالغلس حتى مات، كما أخرجه أبو داود من حديث أبي مسعود رضي الله عنه:"أنه صلى الله عليه وسلم: أسفر بالفجر، ثم كانت صلاته بالغلس، حتى مات، لم يَعُدْ إلى أن يسفر".

قال الصنعاني رحمه الله: فيكون الفعل قرينة على صحة الأجوبة، والتأويل لحديث الإسفار.

السادس: أن أعظم بمعنى عظيم، من باب قوله تعالى:{وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27].

قال الصنعاني رحمه الله: وأجاب ابن الهمام في شرح الهداية عن الثاني بأنه ليس بشيء، إذ ما لم يتبين لا يحكم بجواز الصلاة فيه، فضلًا عن إصابة الأجر المفاد بقوله:"فإنه أعظم للأجر"، وقد سبقه إلى هذا ابن دقيق العيد. وأجاب أيضًا الأخير بأن في بعض رواياته ما ينفيه، وهي رواية الطحاوي، وفيها "فكلما أسفرتم، فهو أعظم للأجر"، ثم

ص: 243

ذكر إسناده إلى الطحاوي من حديث إبراهيم النخعي أنه اجتمع الصحابة على التنوير"، قال: وإسناده صحيح. ورَدّ الرابع بأن الإسفار بالفجر إيقاعها فيه، فإنه الذي يفيده اللفظ، فإنها اسم لمجموعها، فيلزم إدخال مجموعها فيه، ثم قال: فالأولى حمل التغليس في حديث الكتاب على غلس المسجد، لأن بيتها رضي الله عنها كان فيه، وكان سقفه عريشًا، ونحن نشاهد الآن أنه يظن بقاء الغلس داخل المسجد، وصَحْنُهُ قد انتشر فيه ضوء الفجر، وهو الإسفار، وإنما وجب هذا الاعتبار لما وجب من ترجيح رواية الرجال، فإن الحال أكشف لهم في صلاة الجماعة، سيما ابن مسعود، وقد قال: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة إلا لميقاتها، إلا صلاتين: المغرب، والعشاء بجمع، وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها"، مع أنه كان بعد الفجر، كما يفيده لفظ البخاري، "والفَجَرَ حينَ بَزغً الفجرُ"، فعلم أن المراد قبل ميقاتها الذي اعتاد الأداء فيه، لأنه غلس يومئذ. انتهى.

قال الصنعاني رحمه الله: أما التأويل بأن عائشة رضي الله عنها ظنت شهود النساء بغلس، لكونها تحت سقف بيتها، فظاهر أكثر الروايات ينافيه، لقولها "ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة ما يعرفهن أحد من الغلس"، واللفظ الآخر فيه، كما أسلفناه، فإنه ظاهر أن عدم معرفتهم لهن بعد الانقلاب في الأزِقَّةِ والطرقات، فلو كان انقلابهن

بعد الإسفار لعُرِفْنَ فيها، ويبعد أن عائشة عبرت عن ظنها أنه غلس،

ص: 244

ويفرع عليه أن تخبر بأنهن لا يعرفن، وإن أريد أنها أرادت لا يعرفن في المسجد من الغلس الذي توهمته لبقائها تحت سقف بيتها، فيبعده قولها:"ثم ينقلبن إلى بيوتهن، لا يعرفهن أحد"، فإنه ظاهر في استمرار عدم معرفة إحداهن حتى يدخلن بيوتهن.

وأما قوله: لَمَّا وَجَبَ من ترجيح رواية الرجال، وذكر أثر ابن مسعود، فيقال عليه: قد ثبتت رواية الغلس من رواية الرجال، فقد أخرجها الشيخان من رواية جابر بن عبد الله، قال:"والصبحُ كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس"، وقد تقدم من حديث أبي مسعود عند أبي داود، وفيه أن صلاته صلى الله عليه وسلم كانت بالغلس، حتى مات، بعد وقوع الإسفار منه في بعض الأحيان، فالواجب صرف قوله في حديث ابن مسعود:"قبل ميقاتها" إلى أن المراد أنه بالغ في صلاة الفجر في جمع في التغليس الذي كان يعتاد الصلاة فيه، ليوافق حديثه حديث أبي داود، فيجتمع الحديثان، فقد كان يتراخى صلى الله عليه وسلم قليلًا بعد الأذان رَيْثَمَا يَقضِي الرجلُ حاجته، ويتوضأ، أخرجه أبو الشيخ في الأذان عن سلمان وأبي هريرة، وابنُ أحمد بن حنبل في زوائده عن أبي ذر، ويدل له ما في رواية البخاري حيث قال:"والفجرَ حين بَزَغَ الفجرُ".

على أن رواية "أسفروا بالفجر" لا أكْشَفِيَّةَ فيها في أن صلواتهم كانت بالإسفار، إذ هو حكاية قول الإخبار عن إيقاعها في الإسفار، وحديث عائشة خبر عن إيقاعها، فلا معارضة بينهما، ولو حملناه على ما قاله

ص: 245

ابن الهمام لأبطلنا حديث أبي داود، وأما ما ذكره من رواية الطحاوي وأن لفظها ينفي تأويل أعظم بعظيم فغير واضح، إذ التأويل جار فيها، واجتماع الصحابة الذي رواه النخعي يُحمَل على ظهور الفجر، لا على الإسفار، ليوافق ما سلف، ولفظ التنوير يحتمل ما ذكرناه. اهـ "العدة" جـ 2 ص 17 - 19.

قال الجامع عفا الله عنه: الأولى في معنى ما نُقِلَ عن إبراهيم من اجتماع الصحابة على التنوير أن يقال: هو تطويل الصلاة مبتدءًا بالغلس، ومدها إلى إضاءة الإسفار، فالتنوير بها هو التطويل إلى اتضاح النور، وقد تقدم في "باب التغليس في الحضر" أن أولى ما يجمع به بين الأحاديث في هذا الباب هو حمل الإسفار على مد الصلاة إلى الإسفار، مبتدءًا بالغلس فتفطن. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث رافع بن خَدِيج رضي الله عنه هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا (548)، وفي "الكبرى"(1530/ 1) عن عُبَيد الله بن سعيد، عن يحيى القطان، عن ابن عجلان، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لَبِيد، عنه.

ص: 246

وفي (549)، وفي "الكبرى"(1531)، عن إبراهيم بن يعقوب، عن ابن أبي مريم، عن زيد بن أسلم، عن عاصم بن عمر، عن محمود بن لبيد، عن رجال من قومه من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم

والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه؛ فأخرجه أبو داود في "الصلاة" عن إسحاق بن إسماعيل الطَّالَقَاني، عن سفيان بن عيينة، عن ابن عَجْلان، به.

وأخرجه الترمذي فيه عن هَنَّاد بن السَّرِيِّ، عن عَبْدَة بن سليمان، عن ابن إسحاق، عن عاصم به.

وقال: حسن صحيح.

وأخرجه ابن ماجه فيه عن محمد بن الصباح، عن سفيان به.

وأخرجه أحمد، والطحاوي، وابن حبان، والطبراني، والدارمي، وابن أبي شيبة.

قال الجامع عفا الله عنه: وبقية مباحث الحديث تعرف مما سبق، فلا حاجة إلى إعادتها فارجع إليها -إن شئت- تزدد علمًا. والله أعلم ومنه الإعانة والتوفيق، وعليه التكلان، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

549 -

أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو غَسَّانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، عَنْ

ص: 247

رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ، مِنَ الأَنْصَارِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَا أَسْفَرْتُمْ بِالْفَجْرِ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ بِالأَجْرِ".

رجال هذا الإسناد: سبعة

1 -

(إِبراهيم بن يعقوب) بن إسحاق الجُوزَجَانِى، نزيل دمشق، ثقة حافظ رُمِيَ بالنصب، توفي سنة 259، من [11]، تقدم في 122/ 174.

2 -

(ابن أبي مريم) هو سعيد بن الحَكَم بن محمد بن سالم بن أبي مريم الجُمَحي بالولاء، أبو محمد المصري، ثقة ثبت فقيه، توفي سنة 224، وله 80 سنة، من كبار [10].

قال أبو داود: ابن أبي مريم عندي حجة. وقال الحسين بن الحسن الرازي: سألت أحمد عمن أكتب بمصر؟ فقال: عن ابن أبي مريم. وقال العجلي: كان عاقلًا، لم أر بمصر أعقل منه، ومن عبد الله بن الحكم. وقال أبو حاتم: ثقة. وقال ابن يونس: كان فقيهًا، ولد سنة 144، ومات سنة 224، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن معين: ثقة

من الثقات. وقال الحكم عن الدارقطني: قال النسائي: سعيد بن عُفَير صالح، وسعيد بن الحكم لا بأس به، وهو أحب إليّ من ابن عفير. أخرج له الجماعة.

3 -

(أبو غَسَّان) محمد بن مُطَرِّف بن داود الليثي، المدني، نزيل عسقلان، أحد العلماء الأثبات، ثقة، توفي بعد سنة 160، من [7]،

ص: 248

قال علي بن السراج: كان من أهل وادي القرى، قدم بغداد أيام المهدي، ووثقه يزيد بن هارون، وأحمد، وأبو حاتم، والجُوزجاني، ويعقوب بن شيبة. وقال أبو حاتم أيضًا: لا بأس به. وقال أبو حاتم: ذكره أحمد، فجعل يثني عليه. وقال ابن الغلابي عن ابن معين: شيخ ثقة ثبت. وقال ابن أبي مريم عن ابن معين: ثقة. وقال إسحاق بن

منصور عن ابن معين: أرجو أن يكون ثقة. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ليس به بأس، وكذا قال أبو داود، والنسائي. وقال ابن المثنى: كان شيخًا صالحًا. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال يُغْرِب. أخرج له الجماعة.

4 -

(زيد بن أسلم) العدوي مولى عمر، أبو عبد الله، أو أبو أسامة المدني، ثقة عالم، يرسل، توفي سنة 106، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 64/ 80.

وأما عاصم، ومحمود بن لبيد فتقدما في الإسناد السابق. وشيوخ محمود لم يذكروا. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سباعياته. وأن رجاله كلهم ثقات، وأنهم مدنيون، إلا شيخه فجوزجاني، دمشقي، وابن أبي مريم، فمصري.

ومنها: أن شيوخ محمود بن لبيد مجهولون، ولكن لا يضر جهالتهم، لأنهم صحابة، من الأنصار، وقد تقدم عن طريق ابن

ص: 249

عجلان تسمية بعضهم، وهو رافع بن خديج الأنصاري. والله أعلم.

شرح الحديث

(عن محمود بن لبيد) الأنصاري المدني (عن رجال من قومه) بيان لرجال (من الأنصار) بدل من الجار والمجرور قبله.

(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما أسفرتم بالفجر)، "ما" شرطية، و"أسفرتم" في محل جزم فعل شرطها، و"بالفجر" متعلق به، وتقدم معنى الإسفار، واختلاف العلماء فيه، وجواب الشرط جملة قوله (فإِنه

أعظم بالأجر) هكذا في بعض النسخ بالباء، وفي بعضها "للأجر" باللام، وهي واضحة، فتكون الأولى: بمعناها.

قال الجامع: هذا الحديث من أفراد المصنف، لم يخرجه من أصحاب الأصول غيره، وهو صحيح الإسناد، وأخرجه الطبراني، وأحمد، والطحاوي

(1)

.

وقد تقدم ما يتعلق به من المباحث في الحديث الذي قبله، فإن شئت فارجع إليه تزدد علمًا، والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

(1)

انظر: إرواء الغليل جـ 1 ص 283.

ص: 250

‌28 - بَابُ مَنْ أَدْرَكَ رَكعَةً مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على حكم من أدرك ركعة من صلاة الصبح.

550 -

أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"مَنْ أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَهَا، وَمَنْ أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَهَا".

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(إبراهيم بن محمد) بن عبد الله بن عُبَيد الله بن مَعْمَرٍ التيمي المَعْمَري، أبو إسحاق البصري قاضيها، ثقة، من [11].

قال أحمد: ما بلغني عنه إلا الجميل. وقال النسائي والدارقطني: ثقة. وقال محمد بن خَلَفٍ وَكِيعٌ

(1)

: وليَ قضاءَ البصرة سنة 239، ومات في ذي الحجة سنة 250، وهو على القضاء. وذكر أحمد بن

(1)

وكيع لقب محمد بن خلف، وهو صاحب كتاب "أخبار القضاة".

ص: 251

كامل أنه كان -وهو قاض- يَعْمَلُ في بُسْتَانه بِمِسْحاة، فإذا جاء الخصمان نظر في أمرهما، ثم عاد إلى حاله، وكان رَجلًا صالحًا. وذكره ابن حبان في الثقات. أخرج له أبو داود، والمصنف.

2 -

(محمد بن المثنى) أبو موسى العنزي البصري، ثقة حافظ، توفي سنة 252، من [10]، تقدم في 64/ 80.

3 -

(يحيى) بن سعيد القطان البصري، ثقة حجة، من [9]، تقدم في 4/ 4.

4 -

(عبد الله بن سعيد) بن أبي هِند الفزاري مولاهم، أبو بكر المدني، صدوق رُبَّما وَهِمَ، من [6].

قال أبو طالب عن أحمد: ثقة ثقة. وقال الدوري عن ابن معين: ثقة. وقال أبو بكر بن خلاد الباهلي: سألت يحيى بن سعيد عنه؟ فقال: كان صالحًا يعرف وينكر. وقال الآجري عن أبي داود: ثقة. روى عنه يحيى، ولم يرفعه كما رفع غيره، وَرَوى عنه مالك كلامًا. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث. وذكره ابن

حبان في الثقات، وقال يخطئ. قال البخاري عن مكي بن إبراهيم: سمعت منه سنة 144، وقال أحمد، عن مكي: سمعت منه سنة 47، وذكر ابن حبان أنه مات فيها. وقال ابن سَعْدٍ: كان كثير الحديث، مات سنة 146 أو 147، وكذا أرخه ابن أبي خيثمة، قال: فيما بلغني. وقال

ص: 252

العجلي ويعقوب وسفيان

(1)

: مدني ثقة. وقال ابن خلفون: وثقه ابن المديني وابن البرقي. أخرج له الجماعة.

5 -

(عبد الرحمن الأعرج) بن هُرْمُز المدني أبو داود ثقة ثبت عالم، من [3]، تقدم في 7/ 7.

6 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف.

ومنها: أن رجاله موثقون اتفقوا عليهم، إلا شيخه إبراهيم، فمن أفراده هو وأبي داود.

ومنها: أن الثلاثة الأولين بصريون، والباقون مدنيون.

ومنها: أن أبا هريرة أحد المكثرين السبعة، روى 5374 حديثًا.

ومنها: أن قوله واللفظ له: أي لفظ الحديث الذي ساقه هنا لمحمد ابن المثنى، وأما إبراهيم فرواه بالمعنى. والله أعلم.

شرح الحديت

(عن أبي هريرة) رضي الله عنه (عن النبي صلى الله عليه وسلم) أنه (قال: من أدرك)"من" شرطية، مبتدأ في محل رفع، جوابها قوله "فقد أدركها"

(1)

هكذا نسخة تهذيب التهذيب "وسفيان" جـ 5 ص 239. ولعل الصواب ويعقوب بن سفيان.

ص: 253

وهو الخبر، على بعض الأقوال، أو هو دليل الخبر، وقيل: غير ذلك.

(سجدة) أي ركعة، إطلاقًا للبعض على الكل، أو سميت الركعة سجدة لإتمامها بها، قاله القاري (من) صلاة (الصبح، قبل أن تطلع الشمس، فقد أدركها) أي أدرك حكمها، فليتم ما بقي، وليس المراد أن ما أدركه من الركعة يكفيه عن الإتمام، وهذا بالإجماع، فيحمل على معنى أنه أدرك الوقت، فإذا صلى ركعة أخرى فقد كملت صلاته، وقد صرح بذلك كما في الفتح في رواية الدَّراَوَرْدِيّ عن زيد بن أسلم.

أخرجه البيهقي من وجهين، ولفظه "من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس، وركعة بعد ما تطلع الشمس، فقد أدرك الصلاة"، وأصرح منه رواية أبي غسان محمد بن مطرف، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة بلفظ "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، ثم صلى ما بقي بعد غروب الشمس، فلم يفته العصر"، وقال مثل ذلك في الصبح.

وللبخاري من طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة "فليتم صلاته"، وللنسائي من وجه آخر "من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة كلها، إلا أنه يقضي ما فاته"، وللبيهقي من وجه آخر "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس، فليصل إليها أخرى".

أفاده في "الفتح" جـ 2 ص 67، 68.

(ومن أدرك سجدة من) صلاة (العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدركها) أي أدرك حكم صلاة العصر، فليتم ما بقي.

ص: 254

قال الجامع عفا الله عنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه من هذا الوجه من أفراد المصنف، كما أشار إليه الحافظ أبو الحجاج المزي في تحفته جـ 10 ص 210 وهو حديث صحيح أخرجه هنا (550)، وفي الكبرى (1535/ 3) بهذا السند، وقد تقدم ما يتعلق به من الفوائد، وبيان مذاهب العلماء بأدلتها، وترجيح الراجح منها بدليله في باب من أدرك ركعتين من العصر، مستوفى، فارجع إليه إن شئت تستفد علمًا. والله تعالى أعلم. وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

551 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيٍّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَهَا، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَهَا".

رجال هذا الإسناد: سبعة

1 -

(محمد بن رافع) القشيري النيسابوري، ثقة عابد، توفي سنة 245، من [11]، تقدم في 93/ 114.

2 -

(زكريا بن عدي) بن زريق بن إسماعيل، ويقال: ابن عدي

ص: 255

ابن الصلت بن بسطام التيمي، أبو يحيى الكوفي، نزيل بغداد، ثقة جليل يحفظ، من كبار [10].

قال عبد الخالق بن منصور عن ابن معين: لا بأس به. وقال ابن الجنيد. قيل لابن معين: ذكر لأبي نعيم حديث عن زكريا بن عدي، فقال: ماله وللحديث؟ ذاك بالتوراة أعلم، فقال ابن معين: كان زكريا ابن عدي لا بأس به، وكان أبوه يهوديًا فأسلم. وقال العجلي: كوفي ثقة رجل صالح، وأخوه يوسف ثقة، وزكريا أرفع منه، كان متقشفًا حسن الهيئة، له نفس. وقال المنذر بن شاذان: ما رأيت أحفظ منه، جاءه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، فقالا له: أخرج إلينا كتاب عبيد الله بن عمر، فقال: ما تصنعون بالكتاب، خذوا حتى أملي عليكم كله، وكان يحدث عن عدة من أصحاب الأعمش، فيميز ألفاظهم. وقال عباس الدوري: حدثنا زكريا بن عدي، كان من خيار خلق الله. وقال ابن خراش: ثقة جليل، ورع. وقال ابن سعد: توفي ببغداد في جمادى الأولى سنة 211، كان رجلًا صالحًا، ثقة صدوقًا، كثير الحديث.

وقال مطين، وإسماعيل بن أبي الحارث: مات سنة 212، زاد إسماعيل، وابن حبان يوم الخميس ليومين مضيا من جمادى الآخرة.

أخرج له البخاري، ومسلم، وأبو داود في "المراسيل"،

ص: 256

والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.

3 -

(ابن المبارك) عبد الله الإمام الجليل المروزي، ثقة حجة ثبت، من [8]، تقدم في 32/ 36.

4 -

(يونس بن يزيد) الأيلي أبو يزيد، ثقة من كبار [7]، تقدم في 9/ 9.

5 -

(الزهري) محمد بن مسلم الإمام الحجة، رأس [4]، تقدم في 1/ 1.

6 -

(عروة) بن الزبير بن العَوَّام المدني، ثقة فقيه، من [3]، تقدم في 40/ 44.

7 -

(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدمت في 5/ 5. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سباعيات المصنف.

ومنها: أن رواته كلهم ثقات، اتفقوا عليهم إلا شيخه، فلم يخرج له ابن ماجه، وزكريا فأخرج له أبو داود في "المراسيل".

ومنها: أنهم ما بين نيسابوري وهو شيخه، وكوفي ثم بغدادي وهو زكريا، ومروزي وهو ابن البارك، وأيلي وهو يونس، والباقون مدنيون.

ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي، وفيه أحد الفقهاء السبعة،

ص: 257

وفيه عائشة من المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الإسناد

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عائشة رضي الله عنها هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا (551)، وفي "الكبرى"(1533/ 1)، عن محمد بن رافع، عن زكريا بن عدي، عن ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري، عن عروة، عنها. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه مسلم وابن ماجه؛ فأخرجه مسلم في "الصلاة" عن أبي طاهر ابن السرح، وحرملة بن يحيى، كلاهما عن ابن وهب، وعن الحسن بن الربيع، عن ابن المبارك، كلاهما عن يونس به.

وأخرجه ابن ماجه في "الصلاة" عن أبي طاهر، وحرملة، به.

قال الجامع عفا الله عنه: أما شرح الحديث، وسائر متعلقاته فتعرف مما تقدم، فلا حاجة إلى تطويل الكتاب بإعادتها. والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 258

‌29 - آخِرُ وَقْتِ الصُّبْحِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على آخر وقت صلاة الصبح.

والظاهر أنه أراد آخر الوقت الذي يمد إليه صلى الله عليه وسلم الصلاة، وإلا فآخر وقت الجواز طلوع الشمس لحديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا "ووقت الفجر ما لم تطلع الشمس". رواه مسلم ولحديث الباب الماضي "من أدرك ركعة من الفجر"

الحديث فتنبه. والله تعالى أعلم.

552 -

أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَا: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي صَدَقَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الظُّهْرَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، وَيُصَلِّي الْعَصْرَ بَيْنَ صَلَاتَيْكُمْ هَاتَيْنِ، وَيُصَلِّي الْمَغْرِبَ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَيُصَلِّي الْعِشَاءَ إِذَا غَابَ الشَّفَقُ، ثُمَّ قَالَ عَلَى إِثْرِهِ: وَيُصَلِّي الصُّبْحَ إِلَى أَنْ يَنْفَسِحَ الْبَصَرُ.

رجال الإسناد: ستة

1 -

(إِسماعيل بن مسعود) الجَحْدري، أبو مسعود البصري، ثقة، توفي سنة 248، من [10]، تقدم في 42/ 47.

ص: 259

2 -

(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني البصري، ثقة، توفي سنة 245، من [10]، أخرج له مسلم، وأبو داود في "القدر"، والترمذيّ، والنسائي، وابن ماجه، تقدم في 5/ 5.

3 -

(خالد) بن الحارث بن عُبَيد بن سُلَيم الهُجَيمي أبو عثمان البصري، ثقة ثبت، توفي سنة 186، من [8]، أخرج له الجماعة، تقدم في 42/ 47.

4 -

(شعبة) بن الحجاج العَتكي مولاهم الواسطي، ثم البصري ثقة ثبت حجة، توفي سنة 160، من [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 24/ 26.

5 -

(أبو صدقة) الأنصاري، اسمه توبة، مولى أنس البصري، ثقة

(1)

، من [5].

روى عن أنس هذا الحديث، وعنه شعبة، ومعاوية بن صالح، وأبو نعيم، ووكيع.

روى له المصنف هذا الحديث الواحد، وقال أبو الفتح الأزدي: لا يحتج به. قال الحافظ: وقرأت بخط الذهبي، بل هو ثقة، روى عنه شعبة، يعني وروايته عنه توثيق له.

قال الجامع: بل أثنى عليه شعبة، ففي "مسند أحمد" جـ 3 ص 169

(1)

هذا هو الصواب، وما في "ت" من أنه مقبول غير مقبول، لما يأتي في كلام الذهبي. فتنبه.

ص: 260

قال عبد الله بن أحمد: حدثني أبي، ثنا حجاج، حدثني شعبة، عن أبي صدقة مولى أنس، وأثنى عليه شعبة خيرًا، قال: سألت أنسًا عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان يصلي الظهر

". فثبت بهذا أن شعبة زكاه قولًا أيضًا، وليس مجرد الرواية فقط.

وأما قول الشيخ الألباني: ذكره ابن حبان، وسمى أباه كيسان الباهلي، وقال: روى عنه شعبة، ومطيع بن راشد. اهـ. فهو خطأ، فإن هذا رجل آخر، وهو أبو المُوَرعّ العنبري، جد العباس بن عبد العظيم ولم يترجم ابن حبان لأبي صدقة أصلًا، وانظر تهذيب التهذيب جـ 1 ص 515 - 516 فقد ترجم للاثنين فتنبه.

6 -

(أنس بن مالك) الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات، إلا أبا صدقة فمختلف فيه؛ لكن تابعه فيه بيان بن بشر كما يأتي إن شاء الله تعالى.

ومنها: أن فيه أنسًا أحد المكثرين السبعة، روى 2286 حديثًا، وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة، توفي سنة 92 أو 93 وقد جاوز 100 سنة. والله تعالى أعلم.

ص: 261

شرح الحديث

(عن أنس بن مالك) رضي الله عنه، أنه (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر إِذا زالت الشمس) عن بطن السماء (ويصلي العصر بين صلاتيكم هاتين) يعني الظهر والعصر، ففي رواية السراج: "وكان

يصلي العصر بين صلاتيهم: الظهر والعصر". يعني أنه كان يصلي العصر بين ظهركم وعصركم، وأراد به أنه صلى الله عليه وسلم كان يُعَجِّل، وأنهم يؤخرون.

وقد تقدم في باب تعجيل العصر 8/ 509 عن أبي أمامة بن سهل، قال: صلينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر، ثم خرجنا، حتى دخلنا على أنس بن مالك، فوجدناه يصلي العصر، قلت: يا عم: ما هذه الصلاة التي صليت؟ قال: العصر، وهذه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كنا نصلي" 509.

(ويصلي المغرب إِذا غربت الشمس، ويصلي العشاء إِذا غاب الشفق) يعني الأحمر (ثم قال) أنس (على أثره) بفتحتين، أو بكسر، فسكون، يقال: وجئت في أثره، وأثره: أي تبعته. قاله في المصباح، أي قال بعد الكلام السابق بغير فصل.

(ويصلي الصبح إِلى أن ينفسح البصر) الجملة مقول القول أي كان صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح، ويمده إلى أن ينفسح البصر، فالجار والمجرور يتعلق بمحذوف، كما قدرناه.

ص: 262

ويوضح هذا المعنى ما في رواية أحمد "والصبح إذا طلع الفجر، إلى أن ينفسح البصر". والله تعالى أعلم.

تنبيه:

وقع في بعض نسخ "الكبرى": "ولا يصلي الفجر إلى أن ينفسح البصر"، بزيادة "لا"، وأظنه غلطًا لأنها مخالفة لما وقع في الكتب التي أخرجت الحديث كالمجتبى، ومسند أحمد وغيرهما، وقد أشار محقق "السنن الكبرى" أنه وقع في النسخة المغربية من الكبرى "ويصلي" فوافقت الجميع.

ومعنى: "ينفسح البصر": يتسمع نظره، يقال: انفسح طرفه: إذا لم يَرُدُّهُ شيء عن بُعْدِ النظر. أفاده في "اللسان". والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أنس رضي الله عنه هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا (552) عن إسماعيل بن مسعود، ومحمد بن عبد الأعلى، كلاهما عن خالد بن الحارث، وفي "الكبرى"(1532) عن محمد بن عبد الأعلى وحده، عن خالد، عن شعبة، عن أبي صدقة، عنه.

ص: 263

وفيه (في 1509) عن إسماعيل وحده عن خالد به مختصرًا.

وهو من أفراده من بين الستة، كما أشار إليه الحافظ المزي في تحفته جـ 1 ص 103.

وأخرجه أحمد في "مسنده" جـ 3 ص 129، 169.

وأخرجه السراج في "مسنده"، قال. حدثنا عبيد الله بن جرير، ثنا أمية بن بسطام، ثنا معتمر، ثنا بيان، عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر عند دلوكها، وكان يصلي العصر بين صلاتيهم: الظهر، والعصر، وكان يصلي المغرب عند غيوبها، وكان يصلي العشاء -وهي التي يدعونها العتمة- إذا غاب الشفق، وكان يصلي الغداة إذا طلع الفجر حين ينفسح البصر فيما بين ذلك صلاته".

قال الشيخ الألباني. وهذا سند صحيح، رجاله كلهم ثقات، رجال الشيخين غير عبيد الله بن جرير، وهو أبو العباس العتكي البصري، وثقه الخطيب البغدادي، وبهذا الطريق كما قال الهيثمي رواه أبو يعلى، وإسناده حسن. أفاده في "الإرواء" جـ 1 ص 281.

قال الجامع: وسائر متعلقات الحديث تعلم مما سبق، فلا حاجة إلى إعادتها. والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 264

‌30 - بَابُ مَنْ أدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاةِ

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على حكم من أدرك ركعة من الصلاة في الوقت.

والظاهر من تبويب المصنف أن أحاديث الباب المطلقة على إطلاقها، لا تُقَيَّد بما تقدم من تخصيص العصر والفجر، فيستفاد منها أن من أدرك ركعة من أيِّ صلاة فقد أدرك حكمها. والله أعلم.

553 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصَّلَاةِ رَكْعَةً، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ".

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(قتيبة) بن سعيد البَغْلاني، ثقة ثبت، من [10]، تقدم في 1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس الإمام المدني، ثقة حجة فقيه، من [7]، تقدم في 7/ 7.

3 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري المدني، ثقة حجة فقيه، من [4]، تقدم في 1/ 1.

ص: 265

4 -

(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني، ثقة فقيه، من [3]، تقدم في 1/ 1.

5 -

(أبو هريرة) الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسياته، وأن رجاله كلهم ثقات، اتفقوا عليهم، وكلهم مدنيون، إلا شيخه، فَبَغْلاني، وقد دخل المدينة، وفيه رواية تابعي عن تابعي، وفيه أبو سلمة أحد الفقهاء السبعة، وفيه أبو هريرة أحد المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك من الصلاة ركعة")"من" شرطية، "ومن الصلاة" بيان لركعة، قدم عليه، فيعرب حالًا، و"ركعة" نصب على المفعولية.

ثم إن الظاهر أن هذا أعم مما تقدم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (515) "من أدرك ركعة من العصر

" الحديث، ولهذا أفرده المصنف رحمه الله بباب خاص إشارة إلى أن المقصود منه عمومه، وقال الحافظ رحمه الله: ويحتمل أن تكون اللام عهدية، فيتحدان، ويؤيده

ص: 266

أن كلًا منهما من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة، وهذا مطلق، وذاك مقيد، فيحمل المطلق على المقيد. اهـ.

قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الأول هو الأولى، على ظاهر عمل المصنف، وكذا البخاري، فقد عقد لكلٍ من المطلق والمقيد بابًا خاصًا إشارة إلى أن كلًا منهما مقصود، ولا داعي لحمل المطلق على المقيد، فمن أدرك ركعة من الصلاة، أيَّ صلاة كانت، فقد أدركها.

قال الكرماني رحمه الله: وفي الحديث، أن من دخل في الصلاة فصلى ركعة، وخرج الوقت، كان مدركًا لجميعها، وتكون كلها أداء، وهو الصحيح. اهـ.

وقال التيمي: معناه من أدرك مع الإمام ركعة، فقد أدرك فضل الجماعة، وقيل: المراد بالصلاة الجمعة، وقيل: غير ذلك. قاله في الفتح جـ 2 ص 69.

قال الجامع: لفظ الحديث عام يشمل كل المعاني فالحمل على العموم أولى.

وقوله: (فقد أدرك الصلاة) جواب "من". قال في الفتح: ليس على ظاهره بالإجماع، لأنه لا يكون بالركعة الواحدة مدركًا لجميع

ص: 267

الصلاة، بحيث تحصل براءة ذمته من الصلاة، فَإذًا فيه إضمار تقديره: فقد أدرك وقت الصلاة، أو حكم الصلاة، أو نحو ذلك، ويلزمه إتمام بقيتها.

ومفهوم التقييد بالركعة أن من أدرك دون الركعة لا يكون مدركًا لها، وهو الذي استقر عليه الاتفاق، وكان فيه شذوذ قديم، منها أن إدراك الإمام راكعًا يجزئ، ولو لم يدرك معه الركوع، وقيل: يدرك الركعة ولو رفع الإمام رأسه ما لم يرفع بقية من ائتم به رؤوسهم، ولو بقي واحد، وعن الثوري، وزفر: إذا كبر قبل أن يرفع الإمام رأسه أدرك إن وضع يديه على ركبتيه قبل رفع الإمام، وقيل: من أدرك تكبيرة الإحرام، وتكبيرة الركوع أدرك الركعة، وعن أبي العالية: إذا أدرك السجود أكمل بقية الركعة معهم، ثم يقوم فيركع فقط، وتجزيه. اهـ فتح.

قال الجامع عفا الله عنه: هذه الأقوال التي ذكرها من أن إدراك الإمام راكعًا يجزئ، ولو لم يدرك معه الركوع، والأقوال التي بعده كلها أقوال لا أثارة عليها من علم، بل الراجح أن من فاتته الفاتحة يلزمه قضاء تلك الركعة، وإن أدرك الركوع مع الإمام، لحديث "وما فاتكم فاقضوا"، وهذا قد فاتته الفاتحة وسيأتي تحقيق المسألة في موضعها إن شاء الله تعالى. وبالله التوفيق، ومنه الإعانة، وعليه

ص: 268

التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه من طريق أبي سلمة متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا (553)، وفي "الكبرى"(1537/ 2) عن قتيبة، عن مالك، عن ابن شهاب، عنه به. وفي (554)، وفي "الكبرى"(1536/ 2) عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الله بن إدريس، عن عبيد الله بن عمر، عن الزهري به. وفي (555)، و"الكبرى"(1538) عن يزيد بن محمد بن عبد الصمد، عن هشام العطار، عن إسماعيل بن

سماعة، عن موسى بن أعين، عن الأوزاعي، عن أبي سلمة به. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن عبد الله بن يوسف، عن مالك به. وأخرجه مسلم فيه عن يحيى بن يحيى، عن مالك به. وعن أبي كريب، عن ابن المبارك، عن معمر، ومالك، ويونس، والأوزاعي، أربعتهم، عن الزهري به. وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي، عن مالك به. والله تعالى أعلم.

ص: 269

المسألة الرابعة: أن معنى "قد أدرك الصلاة": أنه قد أدرك الوقت، فإذا صلى ركعة أخرى فقد كملت صلاته، وهذا قول الجمهور، وقد صرح بذلك في رواية أبي هريرة من طريق عطاء بن يسار عنه "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، ثم صلى ما بقي بعد غروب الشمس، فلم تفته العصر"، وقال مثل ذلك في الصبح، وفي الرواية الآتية للمصنف (558)"من أدرك ركعة من صلاة من الصلوات، فقد أدركها، إلا أنه يقضي ما فاته".

قال الحافظ رحمه الله: ويؤخذ من هذا الرَّدُّ على الطحاوي حيث خص الإدراك باحتلام الصبي، وطهر الحائض، وإسلام الكافر، ونحوها، وأراد بذلك نُصْرَةَ مذهبه في أن من أدرك من الصبح ركعة تفسد صلاته، لأنه لا يكملها إلا في وقت الكراهة، وهو مبني على أن الكراهة تتناول الفرض والنفل، وهي خلافية مشهورة.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله الطحاوي قياس في مقابلة النص، فلا قيمة له، ولقد أجاد من قال، وأحسن في المقال (من الوافر):

إِذَا جَالَتْ خُيُولُ النَّصِّ يَوْمًا

تُجَارِي فِي مَيَادِينِ الْكِفَاحِ

غَدَتْ شُبَهُ الْقِيَاسِيّينَ صَرْعَى

تَطِيرُ رُؤُوسُهُنَّ مَعَ الرياح

وقد تقدم البحث في هذه المسألة مستوفى في حديث (514) فارجع ليه تزدد علمًا، وبالله سبحانه التوفيق، وعليه التكلان.

ص: 270

تنبيه:

قال السندي: قوله: "من أدرك من الصلاة ركعة الخ" لا دلالة لى على حكم من أدرك دون الركعة، إلا بالمفهوم، ولا حجة فيه عند من لا يقول به، ولذلك يقول علماؤنا الحنفية القائلون بعدم المفهوم أن من أدرك التحريمة في الوقت، فقد أدرك، إلا في الصبح، والجمعة، لما عندهم من الدليل على ذلك. اهـ.

قال الجامع عفا الله عنه: ليس لهم دليل إلا نحو ما تقدم عن الطحاوي، وقد علمت ما فيه. فتبصر، والله الهادي إلى سواء السبيل، ومنه التوفيق، وعليه التكلان، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

544 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصَّلَاةِ رَكْعَةً، فَقَدْ أَدْرَكَهَا".

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(إِسحاق بن إبراهيم) الحنظلي ابن راهويه، ثقة حجة، من [10]، تقدم في 2/ 2.

2 -

(عبد الله بن إِدريس) بن يزيد بن عبد الرحمن الأوْدِيُّ،

ص: 271

أبو محمد الكوفي، ثقة فقيه عابد، توفي سنة 192، عن بضع و 70 سنة، من [8]، أخرج له الجماعة، تقدم في 85/ 102.

3 -

(عبيد الله بن عمر) بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري المدني، أبو عثمان، ثقة ثبت، توفي سنة بضع و 140، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 15/ 15.

وأما الباقون فقد تقدموا في السند السابق، وكذا شرح الحديث، والمسائل المتعلقة به. وبالله تعالى التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

555 -

أَخْبَرَنِي يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، وَهُوَ ابْنُ سَمَاعَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصَّلَاةِ رَكْعَةً، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ".

رجال هذا الإسناد: ثمانية

1 -

(يزيد بن محمد بن عبد الصمد) بن عبد الله الدمشقي، أبو القاسم القرشي مولاهم، صدوق، من [11].

قال أبو حاتم: ثقة صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال

ص: 272

ابن عدي: كان جوصاء يعتمد على يزيد بن محمد بن عبد الصمد، وعلى أبي زرعة الدمشقي في حديثه، وخاصة في حديث دمشق. وقال ابن يونس: قدم، وكتب، ورجع إلى مصر، فتوفي بها سنة 277، وكان ثقة، وقال أبو بكر بن فطيس: مات سنة 275 أو 276، وقال ابن ملاس: سنة 276، وكذا قال عمرو بن دُحَيم، وزاد في شوال، ومولده سنة 198 وقال النسائي في مشيخته: صدوق. أخرج له أبو داود، والمصنف.

2 -

(هشام العطار) بن إسماعيل بن يحيى بن سليمان، أبو عبد الملك الدمشقي، ثقة فقيه عابد، من [10].

قال عبد السلام بن عتيق: ما كان في بلدنا مثله، كان شيخًا ثقة، كنت أشبهه بالقعنبي، وقال ابن عمار: كان من العباد، ما رأيت بدمشق أفضل منه. وقال العجلي: شيخ كيس ثقة، صاحب سنة، لم يكن بدمشق في زمانه أفضل منه. وقال أبو حاتم: كان شيخًا صالحًا. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات.

وذكره أبو زرعة الدمشقي في أهل الفتوى بدمشق، وقال: مات سنة 217، قال أبو حاتم: قدمت دمشق سنة 216، وهو مريض، فمات في مرضه. أخرج له أبو داود، والترمذي، والمصنف.

3 -

(إِسماعيل بن سماعة) هو إسماعيل بن عبد الله بن سَمَاعَةَ العدوي، مولى آل عمر، الرَّمْليُّ، نسب إلى جده، ثقة قديم الموت، من

ص: 273

[8]

، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي، تقدم في 134/ 201.

4 -

(موسى بن أعين) الجزري، مولى قريش، أبو سعيد، ثقة عابد، توفي بعد أخيه النضر، من [8]، أخرج له الجماعة، تقدم في 415.

5 -

(أبو عمرو الأوزاعي) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو، الفقيه الدمشقي، ثقة جليل، توفي سنة 157، من [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 45/ 46.

والباقون تقدموا قريبًا. وبالله تعالى التوفيق.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من ثمانياته.

ومنهسا: أنه مسلسل بالدمشقيين الثقات إلى الزهري، وبقية اللطائف تقدمت في (553)، وكذا شرح الحديث، وسائر متعلقاته. فارجع إليها تزدد علمًا. وبالله التوفيق، وعليه التكلان، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

556 -

أَخْبَرَنِي شُعَيْبُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ

ص: 274

- صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصَّلَاةِ رَكْعَةً فَقَدْ أَدْرَكَهَا".

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(شعيب بن شعيب بن إِسحاق) بن عبد الرحمن الأموي مولاهم، أبو محمد الدمشقي، توفي أبوه، وهو حمل، فسمي باسمه، صدوق، من [11].

قال ابن أبي حاتم: صدوق. وقال النسائي: ثقة. وقال مسلمة في الصلة: حدثنا عنه بعض شيوخنا، وكان ثقة. وقال عمرو بن دحيم: مات سنة 264، في جمادى الأولى، وكان مولده سنة 190، أخرج له المصنف.

2 -

(أبو المغيرة) عبد القدوس بن الحجاج الخَوْلاني، الحمصي، ثقة، من [9]، أخرج له الجماعة.

قال أبو حاتم: كان صدوقًا. وقال العجلي، والدارقطني: ثقة. وقال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في الثقات. قال البخاري: مات سنة 212، وصلى عليه أحمد بن حنبل. وفي الزهرة: روى عنه البخاري ثلاثة أحاديث. أخرج له الجماعة.

3 -

(سعيد بن المسيب) المخزومي المدني، ثقة ثبت، من [2]، تقدم في 9/ 9.

وأما الزهري، وأبو هريرة فتقدما قريبًا، وكذا شرح الحديث، فراجع ما مضى تستفد.

ص: 275

تنبيه:

هذا الحديث من أفراد المصنف كما أشار إليه الحافظ المزي في تحفته جـ 10 ص 31، أخرجه هنا (556)، وفي "الكبرى"(1539/ 4) بهذا السند، وقال في الكبرى: قال أبو عبد الرحمن: لا نعلم أحدًا تابع أبا المغيرة على قوله: عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، والصواب: عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. اهـ.

قال الجامع عفا الله عنه: المتن صحيح من الطرق السابقة. فلا تضره علة السند. فتنبه.

والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

557 -

أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ عَنْ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْجُمُعَةِ أَوْ غَيْرِهَا، فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ".

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(موسى بن سليمان بن إِسماعيل بن القاسم) المنبجي

(1)

(1)

المنبجي: بفتح، فسكون، فكسر الموحدة، وجيم: نسبة إلى مدينة بالشام. اهـ. لب جـ 2 ص 276.

ص: 276

صالح الحديث إلا عن بقية، من صغار [10].

روى عن أبيه، وبقية بن الوليد، وروى عنه المصنف، وقال: صالح الحديث، وعمرو بن سعيد بن سنان المَنْبِجِيِّ. ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مستقيم الحديث إذا روى عن غير بقية؛ وذلك لأنه قبل التلقين في حديث بقية، كما قال محمد بن حاتم المنبجي، فلا تقبل روايته عنه، ويقبل في غيره، أفاده في "تت". انفرد به المصنف.

2 -

(بقية) بن الوليد بن صائد بن كعب الكَلاعِيُّ، أبو يُحْمِدِ الحمصي، صدوق كثير التدليس عن الضعفاء، من [8].

قال ابن المبارك: كان صدوقًا، ولكنه يكتب عمن أقبل، وأدبر.

وقال ابن سعد: كان ثقة في روايته عن الثقات، ضعيفًا في روايته عن غير الثقات. وقال العجلي: ثقة فيما روى عن المعروفين، وما روى عن المجهولين فليس بشيء. وقال أبو زرعة: بقية عجب إذا روى عن الثقات فهو ثقة، وقال أيضًا: ما له عيب إلا كثرة روايته عن المجهولين.

وقال النسائى: إذا قال: حدثنا وأخبرنا فهو ثقة، وإذا قال:"عن"، فلا يؤخذ عنه، لأنه لا يُدرَى عمن أخذه.

وقال ابن عدي: يخالف في بعض رواياته عن الثقات، وإذا روى عن أهل الشام فهو ثبت، وإذا روى عن غيرهم خلط، وإذا روى عن المجهولين فالعهدة منهم، لا منه، وبقية صاحب حديث، ويروي عن

ص: 277

الصغار والكبار، ويروي عنه الكبار من الناس، وهذه صفة بقية.

وقال أبو مسهر الغساني: بقية ليست أحاديثه نقية، فكن منها على تقية. روى له مسلم حديثًا واحدًا شاهدًا في "النكاح"، قال بقية: ولدت سنة 115، ومات سنة 197، وقيل: 198، وقد ترجمه الحافظ في "تت"، وطول فيه الكلام، فارجع إليه، تستفد. علق عنه البخاري، وأخرج له مسلم، حديثًا واحدًا، والأربعة.

3 -

(يونس) بن يزيد الأيلي، أبو يزيد ثقة، من كبار [7]، تقدم في 9/ 9.

4 -

(الزهري) تقدم قريبًا.

5 -

(سالم) بن عبد الله بن عمر المدني الفقيه، ثقة ثبت، من [3]، تقدم في 490.

6 -

(عبد الله بن عمر) بن الخطاب العدوي الصحابي الجليل رضي الله عنهما، تقدم في 12/ 12. وبالله تعالى التوفيق.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسياته، ومنها: أن رجاله ثقات، إلا شيخه، وبقية، فتقدم الكلام عليهما.

ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي، ورواية الابن عن أبيه، وفيه سالم أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه ابن عمر أحد العبادلة

ص: 278

الأربعة، وأحد المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن سالم، عن أبيه) عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (عن النبي صلى الله عليه وسلم) أنه (قال: "من أدرك ركعة من) صلاة (الجمعة) مع الإمام (أو غيرها) من الصلوات (فقد تمت صلاته) أي تم حكم صلاته، فعليه أن يقضي ما فاته، كما تبينه الرواية الآتية.

وفيه أن من أدرك مع الإمام ركعة من صلاة الجمعة أتمها جمعة، وإلا يصلي أربعًا. قال الترمذي رحمه الله: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، قالوا: من أدرك ركعة من

الجمعة صلى إليها أخرى، ومن أدركهم جلوسًا صلى أربعًا، وبه يقول سفيان الثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. اهـ.

قال الجامع: سيأتي تحقيق الخلاف في هذا، وترجيح الراجح بدليله في موضعه، إن شاء الله تعالى، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا ضعيف بهذا السند، وإنما الصحيح روايةُ نافع عنه، كما يأتي قريبًا بلفظ: "من أدرك ركعة من يوم الجمعة، فقد أدركها، ولْيُضِفْ إليها أخرى. لأن في سنده بقية، وهو

ص: 279

مدلس تدليس التسوية، وقد خالفه سندًا ومتنًا سليمانُ بنُ بلال، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سالم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك ركعة من صلاة من الصلوات

" فأرسله. والله أعلم

(1)

.

المسألة الثانيه: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا (557) عن موسى بن سليمان عن بقية، وفي الكبرى (1540) عن عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير، وموسى بن سليمان، كلاهما عن بقية، عن يونس، عن الزهري، عن سالم عنه.

وفي (558)، وفي "الكبرى"(1541) عن محمد بن إسماعيل، عن أيوب بن سليمان، عن أبي بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

مرسلًا. والله أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه ابن ماجه في "الصلاة" عن عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير، عن بقية به.

وأخرجه الدارقطني قال: حدثنا أبو حامد محمد بن هارون الحضرمي، ثنا يعيش بن الجهم ثنا عبد الله بن نمير، عن يحيى بن سعيد (ح) وحدثنا عيسى بن إبراهيم، ثنا عبد العزيز بن مسلم، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا "من أدرك ركعة من يوم الجمعة،

(1)

وطريق سليمان هي الآتية للمصنف بعد هذا الحديث 558.

ص: 280

فقد أدركها، وليضف إليها أخرى". وهذا لفظ عبد العزيز، وقال ابن نمير: "من أدرك من الجمعة ركعة، فليصل إليها أخرى".

وأخرجه الطبراني في الصغير، والأوسط من طريق إبراهيم بن سليمان الدباس، ثنا عبد العزيز بن مسلم القَسْمَلِيُّ، عن يحيى بن سعيد به. وقال: لم يروه عن يحيى إلا عبد العزيز، تفرد به إبراهيم.

قال الحافظ رحمه الله: وَوَهِمَ في الأمرين معًا، أي لأنه كما مر آنفًا، قد تابعه عيسى بن إبراهيم- وهو الشَّعِيري، عن عبد العزيز بن مسلم، وتابع هذا عبدُ الله بن نمير، وهما ثقتان حجتان.

قال الشيخ الألباني: فالحديث عندي صحيح مرفوعًا، وإن ذكر الدارقطني في "العلل" الاختلاف فيه، وصوب وقفه، كما في "التلخيص"، فإن زيادة الثقة مقبولة، فكيف، وهي من ثقتين، ومجيئه موقوفًا، كما رواه البيهقي وغيره، لا ينافي الرفع، لأن الراوي قد يوقف الحديث أحيانًا، ويرفعه أحيانًا، والكل صحيح. ويؤيد الرفع

(1)

أنه ورد من طريق سالم عن ابن عمر مرفوعًا بلفظ: "من أدرك ركعة من صلاة الجمعة، أو غيرها، فقد أدرك الصلاة".

أخرجه النسائي، وابن ماجه، والدارقطني من طريق بقية بن الوليد، ثنا يونس بن يزيد الأيلي، عن الزهري، عن سالم به. وقال

(1)

قال الجامع: في دعوى تأييده هذا نظر، إذ الحديث من طريق بقية غير صحيح، لتدليسه، ومخالفته لسليمان بن بلال وهو ثقة، فروايته منكرة. والله أعلم.

ص: 281

الدارقطني: قال لنا ابن أبي داود: لم يروه عن يونس إلا بقية.

وفي "التلخيص": وقال ابن أبي حاتم في "العلل" عن أبيه: هذا خطأ في المتن والإسناد، وإنما هو عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعًا:"من أدرك من صلاةٍ ركعةً، فقد أدركها"، وأما قوله:"من صلاة الجمعة"، فَوَهَم.

قال الحافظ: إن سلم من وَهَمِ بقيةَ ففيه تدليسه تدليس التسوية، لأنه عنعنه لشيخه، وله طريق أخرى أخرجها ابن حبان في "الضعفاء" من حديث إبراهيم بن عطية الثقفي، عن يحيى بن سعيد، عن الزهري به. قال: إبراهيم منكر الحديث جدًا، وكان هشيم يدلس عنه أخبارًا لا أصل لها، وهو خطأ.

قال الشيخ الألباني: قد خالف بقيةَ سليمانُ بنُ بلال، فقال: عن يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من أدرك ركعة من صلاة من الصلوات، فقد أدركها، إلا أنه يقضي ما فاته". وهو

الحديث الآتي للمصنف بعدُ.

قال الشيخ الألباني: وهو صحيح مرسل، وهو يدلنا على أمور:

الأول: خطأ بَقِيَّةَ في وصله، وفي ذكر الجمعة فيه.

الثاني: أن له أصلًا من رواية الزهري، عن سالم، خلافًا لما يُشعِرُ به كلام أبي حاتم.

ص: 282

الثالث. أنه شاهد جَيِّدٌ لرواية نافع عن ابن عمر المتقدمة، فإن قوله:"صلاة من الصلوات" يعم الجمعة أيضًا، والله أعلم.

وجملة القول أن الحديث بذكر الجمعة صحيح من حديث ابن عمر مرفوعًا، وموقوفًا، لا من حديث أبي هريرة. والله تعالى ولي التوفيق. اهـ "الإرواء" جـ 3 ص 88 - 90.

قال الجامع: في قوله: خطأ بقية الخ ما يرد قوله الأول من أن رواية بقية تؤيد حديث ابن عمر من طريق نافع، فإن رواية بقية غير صحيحة، لما سبق من تدليسه، ومخالفته للثقة، وهو سليمان بن بلال، فلا تصلح شاهدًا. فتصحيحه له في صحيح النسائي من هذا الوجه ليس كما ينبغي. فتبصر. والحاصل أن حديث ابن عمر رضي الله عنه صحيح

من رواية نافع، لا من رواية سالم عنه والله أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

558 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ، فَقَدْ أَدْرَكَهَا، إِلاَّ أَنَّهُ يَقْضِي مَا فَاتَهُ".

ص: 283

رجال هذا الإسناد: سبعة

1 -

(محمد بن إِسماعيل) بن يوسف السلمي، أبو إسماعيل الترمذي، نزيل بغداد، ثقة حافظ، من [11].

قال النسائي: ثقة، وقال أبو بكر الخلال: رجل معروف ثقة كثير العلم، متفقه. وقال ابن عقدة: سمعت عمر بن إبراهيم يقول: أبو إسماعيل الترمذي صدوق مشهور بالطلب. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الخطيب: كان فَهِمًا متقنًا مشهورًا بمذهب السنة. وقال أحمد بن كامل القاضي: مات في رمضان سنة 280، وقال الحاكم عن

الدارقطن ي: ثقة صدوق، وتكلم فيه أبو حاتم. وقال الحاكم: ثقة مأمون. وقال مسلمة: قاض ثقة. وقال القراب: أنا أبو علي الخفاف ثنا أبو الفضل بن إسحاق بن محمود، قال: كان أبو إسماعيل ثقة. وقال ابن أبي حاتم: تكلموا فيه. أخرج عنه الترمذي، والمصنف.

2 -

(أيوب بن سليمان) بن بلال القرشي المدني، أبو يحيى، ثقة، لينه الأزدي، والساجي بلا دليل، توفي سنة 224، من [9].

قال الآجري عن أبي داود: ثقة. وقال الحاكم عن الدارقطني: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: سمع مالكًا، مات سنة 224.

وقال زكرياء الساجي، وأبو الفتح: يحدث بأحاديث لا يتابع

ص: 284

عليها، ثم ساق الأزدي له أحاديث غرائب صحيحة. ونسب الدارقطني في غرائب مالك أيوب بن سليمان الراوي عن مالك خزاعيًا، فكأنه غير هذا، واشتبه على ابن حبان، أو يكونان جميعًا رويا عن مالك. والله أعلم.

وقال ابن عبد البر في "التمهيد": أيوب بن سليمان بن بلال ضعيف، وَوَهِمَ في ذلك، ولم يسبقه من الأئمة إلى تضعيفه إلا ما أشرنا إليه عن الساجي، ثم الأزدي. والله أعلم. اهـ "تت".

أخرج له البخاري، وأبو داود، والترمذي، والمصنف.

3 -

(أبو بكر) بن أبي أويس عبد الحميد بن عبد الله بن عبد الله ابن أويس الأصبحي المدني الأعشى مشهور بكنيته كأبيه، ثقة توفي سنة 202، من [9].

قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال آخر عن يحيى: ليس به بأس. وقال الآجري: قدمه أبو داود على إسماعيل تقديمًا شديدًا. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال النسائي: ضعيف. وقال الحاكم عن الدارقطني: حجة أخرج له الجماعة، إلا ابن ماجه.

4 -

(سليمان بن بلال) التيمي مولاهم، أبو محمد، أو أبو أيوب المدني، ثقة، من [8].

قال أبو طالب عن أحمد: لا بأس به ثقة. وقال الدوري عن ابن

ص: 285

معين: ثقة صالح. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: سليمان أحب إليك، أو الدراوردي؟ فقال: سليمان، وكلاهما ثقة.

وقال أبن سعد: كان بَرْبَرِيًا جميلًا عاقلًا حسن الهيئة، وكان يفتي بالبند، وولي خراج المدينة، وكان كثير الحديث. مات بالمدينة سنة 172، وقال الذهلي: ما ظننت أن عند سليمان بن بلال من الحديث ما عنده حتى نظرت في كتاب ابن أبي أويس، فإذا هو قد تبحر حديث المدنيين. وقال أبو زرعة: سليمان بن بلال أحب إلي من هشام بن سعد.

وقال البخاري عن هارون بن محمد المزني: مات سنة 177، وذكره ابن حبان في الثقات، وحكى القولين في وفاته. وقال الخليلي: ثقة، ليس بمكثر، لقي الزهري، ولكنه يروي كثير حديثه عن قدماء أصحابه، وأثنى عليه مالك، وآخر من حدث عنه لُوَيْن.

وقال ابن الجنيد عن ابن معين: إنما وضعه عند أهل المدينة أنه كان على السوق. وكان أروى الناس عن يحيى بن سعيد. وقال عبد الرحمن ابن مهدي: ندمت أن لا أكون أكثرت عنه. وقال ابن شاهين في كتاب الثقات: قال عثمان بن أبي شيبة: لا بأس به، وليس ممن يعتمد على حديثه. وقال ابن عدي: ثقة. قال الحافظ: ورأيت رواية مالك عنه في كتاب مكة للفاكهي. أخرج له الجماعة.

وأما الباقون فقد تقدموا في السند السابق، وكذا شرح الحديث

ص: 286

وسائر متعلقاته يعلم مما سبق فلا حاجة إلى إعادتها، فراجع ما سبق تستفد. وبالله تعالى التوفيق.

تنبيه:

هذا الحديث من هذا الوجه مرسل، وهو صحيح، لما تقدم له من الشواهد والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 287

‌31 - باب السَّاعَاتِ الَّتِى نُهِىَ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على بيان الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها.

559 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ الصُّنَابِحِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الشَّمْسُ تَطْلُعُ، وَمَعَهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا، فَإِذَا اسْتَوَتْ قَارَنَهَا، فَإِذَا زَالَتْ فَارَقَهَا، فَإِذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا، فَإِذَا غَرَبَتْ فَارَقَهَا". وَنَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّلَاةِ فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ.

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثَّقفي أبو رَجاء الْبَغْلاني، ثقة ثبت، من [10]، تقدم في 1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس الإمام المدني، ثقة حجة فقيه، من [7]، تقدم في 7/ 7.

3 -

(زيد بن أسلم) العدوي مولى عمر، أبو عبد الله المدني ثقة عالم، توفي سنة 106، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في

ص: 288

64/ 80.

4 -

(عطاء بن يسار) الهلالي، أبو محمد المدني، مولى ميمونة، ثقة فاضل، صاحب مواعظ وعبادة، توفي سنة 94، وقيل بعد ذلك، من صغار [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 64/ 80.

5 -

(عبد الله الصُّنَابِحِيِّ) مختلف في وجوده، فقيل: صحابي مدني، وقيل: هو أبو عبد الله الصنابحي: عبد الرحمن بن عُسَيلَة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجه، تقدم في 85/ 103. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رواته كلهم ثقات، اتفقوا عليهم إلا الصنابحي، فأخرج له أبو داود، والترمذي، والمصنف، وأنه مختلف في صحبته، وأنهم مدنيون إلا قتيبة، فبغلاني. وفيه رواية تابعي، عن تابعي، أو ثلاثة إن كان الصنابحي تابعيًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عبد الله الصنابحي) بضم الصاد المهملة، وفتح النون، وكسر الموحدة: نسبة إلى صنابح بطن من مراد. اهـ لب جـ 2 ص 74.

(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الشمس) مبتدأ، خبره جملة (تطلع) من باب قَعَد، يقال: طَلَعت الشمسُ طُلُوعًا، ومَطلَعًا -بفتح اللام، وكسرها، وكل ما بدا لك من علو، فقد طلع عليك. قاله في المصباح.

ص: 289

(ومعها قرن الشيطان)"معها" منصوب على الظرفية متعلق بمحذوف، خبر مقدم لقرن، والجملة في محل نصب على الحال من ضمير الشمس.

وقد اختلف في معنى هذه الجملة على نحو خمسة أقوال، تقدم تفاصيلها في شرح الحديث رقم: 511، وأن الراجح من تلك الأقوال قول من قال: إن الشيطان يقارنها عند هذه الأوقات حقيقة، حيث إن الكفار يسجدون للشمس فيها، فينقلب سجود الكفار عبادة له. وإنما رجح هذا القول لحديث عبد الله الصنابحي هذا، فإنه ظاهر في هذا المعنى، وفي حديث عمرو بن عَبَسَةَ "فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار".

(فإِذا ارتفعت) الشمس عن مطلعها (فارقها) أي ابتعد عنها، لانتهاء مهمته، وهي طلب سجود الكفار له.

(فإِذا استوت) في بطن السماء (قارنها، فإِذا زالت) عن بطن السماء (فارقها، فإِذا دنت) أي اقتربت اللغروب قارنها، فإِذا غربت فارقها، ونَهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في تلك الساعات) أي الساعات الثلاث المذكورة.

وقد علل النهي في الحديث حيث قال: "فإنها تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار"، فبين أن سبب النهي هو أنها تكون في هذه الساعات مقارنة للشيطان فكأن من يصلي حينئذ يصلي له،

ص: 290

ولذا قال في حديث عمرو بن عَبَسَة: "وحينئذ يسجد لها الكفار". والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عبد الله الصنابحي هذا حديث صحيح، وقد اختلف في كونه موصولًا، أو مرسلًا، فمن أثبت الصحبة له جعله متصلًا صحيحًا، ومن نفاها عنه، جعله مرسلًا ولكنه صحيح لشواهده.

ودونك عبارة الحافظ في "تت": قال رحمه الله: عبد الله الصنابحي مختلف في صحبته. رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عبادة بن الصامت. وعنه عطاء بن يسار، وقال الدوري عن ابن معين: عبد الله الصنابحي روى عنه المدنيون يشبه أن يكون له صحبة.

وقال ابن السكن: عبد الله الصنابحي، يقال: له صحبة، معدود في المدنيين، رَوَى عنه عطاء بن يسار، قال: وأبو عبد الله الصنابحي -يعني عبد الرحمن بن عُسَيلَة- أيضًا مشهور، رَوَى عن أبي بكر، وعبادة ابن الصامت، ليست له صحبة. انتهى.

وقال مالك عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله الصنابحي، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا توضأ العبد المسلم

" الحديث، قال الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل عنه؟ فقال: وَهِمَ فيه مالك،

ص: 291

وهو أبو عبد الله، واسمه عبد الرحمن بن عُسَيلَة، ولم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال سويد بن سعيد، عن حفص بن مَيْسَرَة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء، عن عبد الله الصنابحي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "إن الشمس تطلع مع قرني شيطان

" الحديث. وقال أبو غَسَّان محمد

ابن مُطَرِّف، عن زيد بن أسلم، عن عطاء، عن عبد الله الصنابحي، عن عبادة في الوتر، وهكذا رواه زهير بن محمد، عن زيد بن أسلم، فاتفق حفص بن ميسرة، وأبو غسان، وزهير على قولهم: عبد الله، فنسبة الوَهَم في ذلك إلى مالك وحده فيه نظر.

قال الحافظ رحمه الله: وقد رُويَ عن مالك الحديث المسند، فقيل فيه: عن أبي عبد الله على الصواب، هكذا رواه مطرف، وإسحاق بن عيس بن الطباع عن مالك، ولكن المشهور عن مالك: عبد الله.

وقال الدارقطني في غرائب مالك: حدثنا أحمد بن محمد بن يزيد الزعفراني، ثنا إسماعيل بن أبي الحارث، ثنا روح بن عبادة، ثنا زهير ابن محمد، ومالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار: سمعت عبد الله الصنابحي، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر حديث النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس، هكذا رواه إسماعيل، عن روح، وهو ثقة، وخالفه الحارث بن أبي أسامة، فرواه في مسنده، عن روح بإسناده هذا، وقال: عن أبي عبد الله. فالله أعلم. اهـ ما في "تت" جـ 6 ص 90 - 92.

ص: 292

وقال أبو حاتم: عبد الله الصنابحي لم تصح صحبته اهـ المراسيل ص 105.

قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل أن عبد الله الصنابحي مختلف فيه، هل هو صحابي، أم تابعي، أم هو أبو عبد الله الصنابحي: عبد الرحمن بن عسيلة؟ على أقوال، لكن حديثه هذا صحيح، وإن قلنا بكونه تابعيًا، لشواهده، إلا أن قوله:"فإذا استوت قارنها" لم أرَ له شاهدًا من روايات غيره، ففي روايات الآخرين التعليل بأن جهنم تُسْجَرُ فيه، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الثانية: في فوائده:

منها: أن الشيطان له تسلط في هذه الأوقات الثلاثة، فيقارن الشمس فيها ليكون سجود عباد الشمس له.

ومنها: النهي عن الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة، وسيأتي تفصيل أقوال العلماء فيه في المسألة التالية إن شاء الله تعالى.

ومنها: أن سبب النهي عن الصلاة في هذه الأوقات هو التشبه بالكفار، حيث إنهم يعبدون الشمس بالسجود لها، ويطيعون الشيطان بذلك، جيث إنه يقارنها فيها، فلا ينبغي لمسلم أن يشابههم في عملهم. والله أعلم.

المسألة الثالثة: في اختلاف أهل العلم في حكم الصلاة في هذه الأوقات:

ص: 293

قال النووي رحمه الله تعالى: أجمعت الأمة على كراهة صلاة لا سبب لها في هذه الأوقات، واتفقوا على جواز الفرائض المؤداة فيها، واختلفوا في النوافل التي لها سبب، كصلاة تحية المسجد، وسجود التلاوة، والشكر، وصلاة العيد، والكسوف، وفي صلاة الجنازة، وقضاء الفوائت، ومذهب الشافعي وطائفة، جواز ذلك كله بلا كراهة، ومذهب أبي حنيفة وآخرين أنه داخل في النهي لعموم الأحاديث، واحتج الشافعي وموافقوه بأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى سنة الظهر بعد العصر، وهذا صريح في قضاء السنة الفائتة، فالحاضرة أولى، والفريضة المقضية أولى، وكذا الجنازة. اهـ "شرح مسلم" جـ 6 ص 110.

وما ادعاه من الإجماع والاتفاق متعقب، فقد حَكَى غيره عن طائفة من السلف الإباحة مطلقًا، وقالوا بالنسخ لأحاديث النهي، وهو مذهب داود، وعن طائفة المنع مطلقًا، وحكى آخرون الإجماع على جواز صلاة الجنازة في هذه الأوقات، ولكنه متعقب بما سيأتي في بابه. أفاده في "الفتح" جـ 2 ص 71.

وقال في "طرح التثريب": صح النهي عن الصلاة في حالتين أخريين، وهما بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:"شَهِدَ عندي رجال مرضيون، وأرضاهم عندي عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس"، وفي رواية "حتى تطلع، وبعد العصر حتى تغرب"،

ص: 294

وهو في الصحيحين أيضًا من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد بلفظ:"حتى تطلع الشمس".

قال الجامع: حديث ابن عباس يأتي للمصنف برقم 562 بنحوه، وحديث أبي هريرة يأتي برقم 561.

وبهذا قال مالك، والشافعي، وأحمد، والجمهور، وهو مذهب، الحنفية أيضًا، إلا أنهم رأوا النهي في هاتين الحالتين أخف منه في الصُّوَرِ المتقدمة -يعني الطلوع، والاستواء، والغروب- كما سنحكيه عنهم.

ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن عمر، وابن مسعود، وخالد بن الوليد، وأبي العالية، وسالم بن عبد الله بن عمر، ومحمد بن سيرين، وغيرهم، وقال الترمذي: وهو قول أكثر الفقهاء، من الصحابة، فمن بعدهم، وحكاه ابن عبد البر عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وسعد، ومعاذ بن عفراء، وابن عباس، قال: وحسبك بضرب عمر على ذلك بالدِّرَّة، لأنه لا يستجيز ذلك من أصحابه إلا لصحة ذلك عنده.

وذهب آخرون، إلى أنه لا تكره الصلاة في هاتين الصورتين -يعني بعد صلاتي الصبح، والعصر- ومال إليه ابن المنذر بعد ذكره ثبوت النهي عن الصلاة بعد الصبح، وبعد العصر، فدل قوله عليه الصلاة والسلام:"لا تصلوا بعد العصر، إلا والشمسن مرتفعة"، وقوله:"لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس، ولا غروبها، فإنها تطلع بين قرني شيطان"، مع قول عقبة بن عامر: "ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ص: 295

ينهي أن يُصَلَّى فيهن

" الحديث، مع سائر الإخبار المذكورة في غير هذا الكتاب على أن الوقت المنهي عن الصلاة فيه هذه الأوقات الثلاثة.

قال: وفيمن روينا عنه الرخصة في التطوع بعد العصر علي بن أبي طالب، وروينا معنى ذلك عن الزبير، وابن الزبير، وتميم الداري، والنعمان بن بشير، وأبي أيوب الأنصاري، وعائشة أم المؤمنين، وفَعَلَ ذلك الأسودُ بنُ يزيد، وعمرو بن ميمون، ومسروق، وشريح، وعبد الله بن أبي الهُذَيل، وأبو بردة، وعبد الرحمن بن الأسود، وعبد الرحمن بن البيلماني، والأحنف بن قيس. وقال أحمد: لا نفعله، ولا نعيب فاعله، وبه قال أبو خيثمة، وأبو أيوب. وحكى ابن

بطال إباحةَ الصلاة بعد الصبح، والعصر عن ابن مسعود، وأصحابه، وبلال، وأبي الدرداء، وابن عمر، وابن عباس.

قال العراقي: الذي في مصنف ابن أبي شيبة عن أكثر هؤلاء المذكورين فعلُ الركعتين بعد العصر، ولا يلزم من إباحتهم الركعتين بورود النص فيهما إباحة التطوع بعد العصر مطلقًا، فيكون هذا مذهبًا ثالثًا مفصلًا بين الركعتين، وما زاد عليهما.

وقال ابن عبد البر: قال قائلون: لا بأس بالتطوع بعد الصبح والعصر، لأن النهي إنما قصد بة ترك الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها. واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تصلوا بعد العصر، إلا أن تصلوا، والشمس مرتفعة"، وبقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تحروا بصلاتكم طلوع

ص: 296

الشمس، ولا غروبها".

وبإجماع المسلمين على الصلاة على الجنازة بعد الصبح، والعصر، إذا لم يكن عند الطلوع، والغروب، قالوا: فالنهي عن الصلاة بعد الصبح، والعصر هذا معناه، وحقيقته، قالوا: ومخرجه على قطع الذريعة، لأنه لو أبيحت الصلاة بعد الصبح، والعصر، لم يُؤْمَنْ التمادي فيها إلى الأوقات المنهي عنها، وهي حين طلوع الشمس، وحين غروبها، هذا مذهب ابن عمر، قال: أما أنا فلا أنهى أحدًا يصلي من ليل، أو نهار، غير أن لا يتحرى طلوع الشمس ولا غروبها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، ذكره عبد الرزاق. قال العراقي: وهو في

"صحيح البخاري".

قال ابن عبد البر رحمه الله: وهو قول عطاء، وطاوس، وعمرو بن دينار، وابن جريج، ورُوِيَ عن ابن مسعود مثله، وهو مذهب عائشة، قالت: أوهم عمر، إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة أن يتحرى بها

طلوع الشمس، أو غروبها. وقال محمد بن سيرين: تكره الصلاة في ثلاث ساعات: بعد صلاة العصر، وبعد الصبح، ونصف النهار في شدة الحر، وتحرم في ساعتين حين يطلع قرن الشمس حتى يستوي طلوعها، وحين تصفر حتى يستوي غروبها، انتهى.

وهو مذهب رابع، لأن المذكورين قبله لم يكرهوا الصلاة بعد الصبح، والعصر، وهذا كرهها.

ص: 297

قال في الطرح: فإن قلت: هذا مذهب الحنفية، لأنهم اقتصروا في كتبهم على الكراهة في هاتين الصورتين، وعَبَّرُوا في الصور الأخرى بعدم الجواز. قلت: هو كذلك، ومع ذلك، فيخالفهم، لأنه ضم حالة الاستواء إلى هاتين الصورتين في الكراهة، وهم ضموها إلى طلوع الشمس وغروبها في عدم الجواز.

وذهب محمد بن جرير الطبري إلى التحريم في حالتي الطلوع، والغروب، والكراهة فيما بعد العصر، والصبح.

ثم قال ابن عبد البر: وقال آخرون: لا يجوز بعد الصبح، أي ويجوز بعد العصر، وممن ذهب إليه ابن عمر، ثم روى بإسناده عن قدامة بن إبراهيم بن محمد بن حاطب، قال: ماتت عمتي، وقد أوصت أن يصلي عليها عبد الله بن عمر، فجئته حين صلينا الصبح، فأعلمته، فقال: اجلس، فجلست حتى طلعت الشمس، وصفت، ثم قام، فصلى عليها. قالوا: فهذا ابن عمر، وهو يبيح الصلاة بعد العصر، قد كرهها بعد الصبح.

فهذا مذهب خامس في المسألة، وبه قال ابن حزم الظاهري: مَنَعَ الصلاةَ بعد صلاة الصبح، وجوزها بعد صلاة العصر إلى الإصفرار، لحديث الركعتين، ولحديث علي:"أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر، إلا والشمس مرتفعة"، وهو في سنن أبي داود، وإسناده صحيح. وزاد عليه داود الظاهري، فجوزها إلى غروب الشمس،

ص: 298

ورأى النهيَ عن ذلك منسوخًا. اهـ "طرح التثريب" جـ 2 ص 185 - 187.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أرجح الأقوال عندي قول من قال: إن الصلاة في هذه الأوقات ممنوعة، مطلقًا، إلا ذوات الأسباب، وهذا مذهب الشافعي وطائفة من الصحابة والتابعين، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. انظر "مجموع الفتاوى" جـ 23 ص 19.

والمراد بذوات الأسباب: هي التي لها سبب متقدم عليها:

مثل الفائتةِ، فريضةً كانت أو نافلةً، وصلاةِ الجنازة، وسجود التلاوة، والشكرِ، وصلاةِ الكسوف، وصلاةِ الاستسقاء، وصلاةِ الطواف، وركعتي الوضوء، وتحية المسجد، ونحوِ ذلك.

وكذا يستثنى من النهي الصلاةُ بعد العصر، والشمسُ بيضاءُ نَقِيَّةٌ. أما استثناء ذوات الأسباب، فللأدلة الآتية:

منها: حديث أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نَسِيَ صلاة، أو نام عنها، فكفارتها أن يُصَليها إذا ذكرها". متفق عليه. واللفظ لمسلم. ففيه دلالةُ أن من تذكر، أو استيقظ في هذه الأوقات، فعليه أن يصلي الصلاة.

وعن أم سلمة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم: "صلى ركعتين بعد العصر، فلما انصرف، قال: يا بنت أبي أمَيَّةَ سألت عن الركعتين بعد العصر، إنه أتاني ناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم، فشغلوني

ص: 299

عن اللتين بعد الظهر، فهما هاتان الركعتان، بعد العصر". رواه الشيخان.

وعن عائشة رضي الله عنها، قالت:"صلاتان لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدعهما سرًا، ولا علانية، ركعتان قبل صلاة الصبح، وركعتان بعد صلاة العصر". رواه الشيخان.

وعن يزيد بن الأسود رضي الله عنه: "شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجته، وصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته، وانحرف، إذا هو برجلين في آخر القوم، لم يصليا معه، قال: "عَلَيَّ بهما"، فجيء بهما، تَرْعَدُ فرائصهما، قال-: "ما منعكما أن تصليا معنا"؟ فقالا: يا رسول الله إنا قد كنا صلينا في رحالنا، قال: "فلا تفعلا، فإذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم، فإنهما لكما نافلة". رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وغيرهم، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، انتهى "المجموع" جـ 4 ص 171 - 172.

قال الجامع: ففي هذا الحديث إباحة النافلة بعد الصبح لما ذكرنا.

قال الإمام ابن حبان في "صحيحه": أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، ووصيف بن عبد الله الحافظ بأنطاكية، قالا: حدثنا الربيع بن سليمان، قال: حدثنا أسد بن موسى، قال: حدثنا الليث بن سعد،

ص: 300

قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن أبيه، عن جده قيس بن قهد

(1)

"أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، ولم يكن ركع ركعتي الفجر، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام يركع ركعتي الفجر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، ينظر إليه، فلم ينكر ذلك عليه". اهـ "صحيح ابن حبان" جـ 2 ص 49.

قال الجامع: هذا إسناد صحيح.

وكذا ما ورد في تحية المسجد يوم الجمعة، والإمام يخطب، مع أن الوقت وقت استماع، للخطبة، ففي رواية الشيخين من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعًا، "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، وقد خرج الإمام، فليصل ركعتين". وفي رواية مسلم. "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، والإمام يخطب، فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما".

فأمره صلى الله عليه وسلم الداخل حال الخطبة بصلاة ركعتين، والتجوز فيهما يدل على أن تحية المسجد تجوز، وإن كان الوقت وقت استماع الخطبة. ومثله الأوقات المذكورة. والله تعالى أعلم.

وأما استثناء الصلاة بعد العصر، والشمسُ مرتفعة، فلما يأتي من

(1)

وقع في صحيح ابن حبان قيس بن فهر بالفاء والراء، وأظنه تصحيفًا؛ فجد يحيى بن سعيد قيس بن قهد بالقاف والدال، ومنهم من قال: قيس بن عمرو بن قهد، وقيل غير ذلك. انظر أسد الغابة جـ 4 ص 222.

وقال الحاكم في المستدرك بعد إخراج هذا الحديث، وتصحيحه ما نصه: وقيس بن قهد له صحبة، ووافقه الذهبي جـ 1 ص 274 - 275.

ص: 301

حديث علي رضي الله عنه (573) قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر، إلا أن تكون الشمس بيضاءَ نَقِيَّة مرتفعة". وسيأتي تمام الكلام عليه. إن شاء الله تعالى.

والحاصل أن أقوى المذاهب هو مذهب من قال: إن ذوات الأسباب تجوز في هذه الأوقات دون ما سواها، للأدلة التي ذُكرَتْ وغيرها. وكذا الصلاةُ بعد العصر، والشمس مرتفعة. والله أعلمَ، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

560 -

أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، يَقُولُ: سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِيَّ، يَقُولُ:"ثَلَاثُ سَاعَاتٍ، كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، أَوْ نَقْبُرَ مَوْتَانَا: حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً، حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ، حَتَّى تَمِيلَ، وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ، حَتَّى تَغْرُبَ".

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(سويد بن نصر) أبو الفضل المروزي ثقة، من [10]، تقدم

ص: 302

في 45/ 55.

2 -

(عبد الله) بن المبارك المروزي الإمام الجليل، ثقة ثبت حجة، من [8]، تقدم في 32/ 36.

3 -

(موسى بن عُلَيِّ بن رَبَاح) اللَّخْمِيُّ، أبو عبد الرحمن المصري، صَدُوق، رُبَّما أخطأ-، من [7]. ولي إمْرَةَ مِصْرَ سنة ستين، ذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من أهل مصر، وقال: كان ثقة، إن شاء الله تعالى. وقال أحمد وابن معين، والعجلي، والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: كان رجلًا صالحًا، يتقن حديثه، لا يزيد، ولا ينقص، صالح الحديث، وكان من ثقات المصريين، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال: كان مولده بالمغرب سنة 89، وقال ابن يونس: ولد بإفريقية سنة 90، ومات بالأسكندرية سنة 163، وفيها أرخه غير واحد. وقال ابن شاهين في الثقات: قال أحمد بن حنبل: كان ثقة. وقال الساجي: صدوق، قال: وقال ابن معين: لم يكن بالقوي، وقال ابن عبد البر:

ما انفرد به فليس بالقوي. أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم، والأربعة.

4 -

(عُلَيَّ بن رَبَاح) بن قَصير -ضد الطويل- اللَّخْمِيّ، أبو عبد الله البصري، ثقة، والمشهور فيه: علي بالتصغير، وكان يغضب منها، من صغار [3].

ص: 303

وفي "تت": علي بن رباح بن قصير بن القَشِيب بن يَيْنَع بن أردة بن حجر بن جزيلة بن لَخْم، اللخمي، أبو عبد الله، ويقال: أبو موسى المصري، والمشهور فيه الضم.

وفَدَ على معاوية. ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل مصر. قال: كان ثقة. وقال العجلي: مصري تابعي ثقة. وعن أحمد: ما علمت إلا خيرًا. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات.

وقال الليث: قال علي بن رباح: لا أجعل في حل من سماني عُلَيّ، فإن اسمي عَلِيّ. وقال المُقْرِي: كان بنو أمية إذا سمعوا بمولود اسمه علي قتلوه، فبلغَ ذلك رَبَاحًا، فقال: هو علي، وكان يغضب من علي، ويجرح على من سماه به.

وقال ابن يونس: ولد سنة 10، وذهبت عينه يوم ذي الصواري في البحر مع ابن أبي سرح سنة 34، قيل: مات سنة 114، وقيل: 117، وذكر ابن سعد، وابن معين أن أهل مصر يقولونه بفتح العين، وأن أهل العراق يقولونه بالضم. اهـ. روى له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم، والأربعة.

5 -

(عقبة بن عامر الجُهَني) صحابي مشهور، اختلف في كنيته على سبعة أقوال، أشهرها أنه أبو حماد، ولي إمرة مصر لمعاوية ثلاث سنين، وكان فقيهًا، فاضلًا، مات في قرب الستين، أخرج له الجماعة، تقدم في 108/ 144.

ص: 304

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف، وأنهم ثقات، وأنهم ما بين مروزيين وهما: سويد، وعبد الله، ومصريين وهم الباقون، وأن فيه رواية الابن عن أبيه، وأن عُلَيّ بن رَبَاح بالضم لا نظير له في هذا الاسم. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

قال علي بن رباح (سمعت عقبة بن عامر الجُهَني) بضم، ففتح، نسبة إلى جُهَينة، قبيلة من قُضَاعَةَ. كما في اللب جـ 1 ص 225.

(ثلاث ساعات) مبتدأ خبره الجملة بعده، أي ثلاث أوقات.

(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن) هو بإطلاقه يشمل صلاة الجنازة، لأنها صلاة. قاله في المرعاة.

قال الجامع: لكن المراد تأخيرها إلى هذه الأوقات، وتحري أدائها فيها، بدليل حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَتَحَرَّى أحدكم، فيصليَ عند طلوع الشمس، ولا عند غروبها". متفق عليه

(1)

، وفي رواية للبخاري:"ولا تَحَيَّنُوا بصلاتكم طلوع الشمس، ولا غروبها، فإنها تطلع بين قرني الشيطان". فإنه يدل على أن المنهي عنه هو القصد للصلاة في هذه الأوقات، لا أداء ما حضر فيها، كالصلاة على الجنازة الحاضرة في تلك الأوقات. والله أعلم.

(1)

ويأتي للمصنف برقم 563.

ص: 305

(أو نقبر فيهن موتانا) قال في المصباح: وقَبَرتُ المَيْتَ، قَبْرًا، من بابي قَتَلَ وضَرَبَ؛ دَفَنْتُهُ، وأقبرته بالألف: أمرت أنْ يُقْبَرَ، أو جعلت له قبرًا. اهـ والمَوْتَى، جمع مَيْت.

قال القرطبي رحمه الله: روي بأو، وبالواو، وهي أظهر، ويكون مراد النهي الصلاةَ على الجنازة والدفنَ، لأنه إنما يكون إثر الصلاة عليها، وأما رواية "أو" ففيها إشكال، إلا إذا قلنا: إن "أو" بمعنى الواو، كما قال الكوفي. اهـ "زهر الربى". جـ 1 ص 275.

وفيه دليل على أن دفن الميت في هذه الأوقات الثلاثة منهي عنه، وإليه ذهب أحمد، وهو الحق لظاهر الحديث. قال السندي: ظاهر الحديث كراهة الدفن في هذه الأوقات، وهو قول أحمد، وغيره، ومن لا يقول به يؤَول الحديث بأن المراد صلاة الجنازة على الميت بطريق الكناية، للملازمة بين الدفن والصلاة، ولا يخفى أنه تأويل بعيد، لا ينساق الذهن إليه من لفظ الحديث؛ يقال: قبره: إذا دفنه، ولا يقال: قبره: إذا صلى عليه. قال: والأقرب أن الحديث يميل إلى قول أحمد، وغيره: أن الدفن مكروه في هذه الأوقات. انتهى.

وقال البيهقي: نهيه عن القبر في هذه الساعات لا يتناول الصلاة على الجنازة، وهو عند كثير من أهل العلم محمول على كراهية الدفن في تلك الساعات. انتهى.

قال في "المرعاة": قلت: حمله أبو داود على الدفن الحقيقي حيث بوب عليه في الجنائز "باب الدفن عند طلوع الشمس، وعند غروبها"،

ص: 306

وإليه يظهر ميل النسائي، حيث عقد عليه في أثناء أبواب الدفن "باب الساعات التي نهي عن إقبار الموتى فيها"، وحمله ابن ماجه على الصلاة والدفن كليهما، فقد بوب عليه في الجنائز:"باب الأوقات التي لا يصلى فيها على الميت، ولا يدفن"، وحمله الترمذي على الصلاة، ولذلك بوب عليه "باب كراهية الصلاة على الجنازة عند طلوع الشمس، وعند غروبها"، وأيده بما نقل عن ابن المبارك، قال: معنى هذا الحديث: أو أن نقبر فيهن موتانا، يعني الصلاة على الجنازة. انتهى. وقد ضعف النووي هذا التأويل، وزيفه، كالسندي. هذا.

وقد علمت مما قدمنا أن صلاة الجنازة مكروهة في هذه الأوقات عند مالك، وأحمد، وأبي حنيفة، واستدل هؤلاء بحديث عقبة هذا وغيره من الأحاديث المطلقة الدالة على كراهة الصلاة في هذه الساعات خلافًا للشافعي. والقول الأول هو الظاهر. قال الخطابي: قول الجماعة أولى، لموافقة الحديث. اهـ "مرعاة" جـ 3 ص 454 - 455.

قال الجامع: بل ما قاله الشافعي عندي هو الأولى، لما عرفت من أن الراجح أن ذوات الأسباب لا تُمنَعُ في تلك الأوقات، إذ النهي محمول على التحري فيها، فما كان ذا سبب، ليس فيه تَحَرٍّ. فتفطن. والله أعلم. ثم بين تلك الساعات، فذكر الأولى بقوله:

(حين تطلع الشمس بازغة) و"تَطْلُعُ" من باب قَعَدَ، كما مر، و"بازغة" أي طالعة، ظاهرة لا يخفى طلوعها، وهي حال مؤكدة لعاملها، كما قال في "الخلاصة"

ص: 307

وَعَامِلُ الْحال بهَا قَدْ أكِّدَا

فِي نَحْوِ لا تَعْثَ في الأَرْضِ مُفْسِدَا

(حتى ترتفع) أي إلى أن ترتفع كرمح في رأي العين، كما بينته رواية عمرو بن عَبَسَة الآتية (572)"فَدَعِ الصلاةَ حتى ترتفع قِيدَ رمح، ويَذْهَبَ شعاعها".

ثم بين الثانية بقوله:

(وحين يقوم قائم الظهيرة) هي شدة الحر، وقيل: حَدُّ انتِصَافِ النهار، أي يقف، ويستقر الظل الذي يقف عادة حسب ما يبدو، فإن الظل عند الظهيرة لا يظهر له حركة سريعة، حتى يظهر بِمَرْأى العين أنه واقف، وهو سائر حقيقة. قال في المجمع: إذا بلغت الشمس وسط السماء، أبطأت حركتها إلى أن تزول، فيحسب الناظر المتأمل أنها وقفت، وهي سائرة، ولا شك أن الظل تابع لها.

والحاصل: أن المراد: وعند الاستواء. وقيل: المراد بقائم الظهيرة الشخص القائم في الظهيرة، فإن الناس في السفر يَقِفُون في هذا الوقت، لشدة الحر، ليستريحوا.

وقال النووي رحمه الله: الظهيرة حال استواء الشمس، ومعناه حين لا يبقى للقائم في الظهيرة ظل في المشرق، ولا في المغرب. وقال ابن حجر الهيتمي رحمه الله: الظهيرة: هي نصف النهار، وقائمها، إمَّا الظلُّ، وقيامُهُ: وقوفه؛ من قامت به دابته: وقفت. والمراد بوقوفه بطء حركته الناشيءُ عن بطء حركة الشمس حينئذ باعتبار ما يظهر للناظر

ص: 308

ببادئ الرأي، وإلا فهي سائرة على حالها. وإمَّا القائمُ فيها، لأنه حينئذ لا يميل له ظل إلى جهة المشرق، ولا جهة المغرب، وذلك كله كناية عن وقت استواء الشمس في وسط السماء. أفاده في "المرعاة" جـ 3 ص 455 - 456.

(حتى تميل) أي عن وسط السماء إلى جهة المغرب، وميلها هذا هو الزوال. قال ابن حجر رحمه الله: ووقتُ الاستواء المذكور، وإن كان وقتًا ضيقًا لا يسع صلاة، إلا أنه يسع التحريمة، فيحرم تعمد التحريم فيه. اهـ.

ثم بين الثالثة بقوله (وحين تضيف الشمس) -بتشديد الياء بعد الضاد المفتوحة، صيغة مضارع، أصله تتضيف بالتاءين، حذفت إحداهما، كـ {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} [القدر: 4]، و {نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]-أي تميل، وقيل: هو بسكون الياء بعد الضاد المكسورة، يقال: ضاف يضيف: إذا مال.

وقال المجد: وضاف: مال، كتَضَيَّفَ، وضَيَّفَ، وأضَفْتُهُ: أمَلْتُهُ. اهـ "ق"، وقال التوربشتي: أصل الضيف: الميل، يقال: ضفْتُ إلى كذا: ملت إليه، وسمي الضيف ضيفًا، لميله إلى الذي نزل عليه. اهـ.

والمعنى وحين تميل، وتجنح الشمس (للغروب) أي تبدأ في الغروب (حتى تغرب) أي يتكامل غروبها. والله تعالى أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.

ص: 309

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف:

أخرجه هنا (560)، وفي "الكبرى"(1543) بهذا السند، وفي (565)، و"الكبرى"(1548) عن حميد بن مسعدة، عن سفيان بن حبيب، عن موسى به. وفي "الجنائز"(2013) عن عمرو بن علي، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن موسى بن علي به. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه مسلم في "الصلاة" عن يحيى بن يحيى، عن ابن وهب، عن موسى به. وأخرجه أبو داود في "الجنائز" عن عثمان بن أبي شيبة، عن وكيع، عن موسى به. والترمذي فيه عن هناد، عن وكيع به. وابن ماجه فيه عن علي بن محمد، عن وكيع به. وعن عمرو بن رافع، عن ابن المبارك به. وأخرجه أحمد، والبيهقي.

وبقية المسائل تقدمت في الحديث الماضي، فراجعها تزدد علمًا. وبالله التوفيق.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 310

‌32 - النَّهْيُ عَنِ الصَّلاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على النهي عن الصلاة بعد أداء صلاة الصبح.

561 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ، حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَعَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ.

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي أبو رجاء البغلاني، ثقة ثبت، من [10]، تقدم في 1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس أبو عبد الله المدني الإمام، ثقة ثبت حجة، من [7]، تقدم في 7/ 7.

3 -

(محمد بن يحيى بن حَبَّان) بفتح الحاء- بن منقذ الأنصاري المدني، ثقة فقيه، توفي سنة 121 عن 74 سنة، من [4]، أخرج له الجماعة، تقدم في 22/ 23.

4 -

(الأعرج) عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدني مولى ربيعة

ص: 311

ابن الحارث، ثقة ثبت عالم، توفي سنة 117، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 7/ 7.

5 -

(أبو هريرة) الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف.

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، مدنيون، إلا شيخه؛ وقد دخلها، واتفقوا على التخريج لهم.

ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي.

ومنها: أن أبا هريرة أكثر الصحابة حديثًا، روى 5374 حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم) بفتح همزة "أن" وجوبًا، لكونها وقعت سادة مسد مفعولي "أخبر"، لأن "أخبر" من الأفعال المتعدية إلى ثلاثة مفاعيل، فالمفعول الأول، هو ضمير المتكلم،

و"أن" ومعمولاها سدت مسد المفعول الثاني، والثالث (نهى عن الصلاة بعد العصر، حتى تغرب الشمس، و) نهى (عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس).

ص: 312

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف:

أخرجه هنا (561)، وفي "الكبرى"(1545) بهذا السند.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه مسلم في "الصلاة" عن يحيى بن يحيى، عن مالك، بسند المصنف.

وبقية المسائل تقدمت في الباب الماضي، فارجع إليها. وبالله التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

562 -

أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ عُمَرُ، وَكَانَ مِنْ أَحَبِّهِمْ إِلَيَّ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَعَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ.

ص: 313

رجال الإسناد: سبعة

1 -

(أحمد بن منيع) بن عبد الرحمن أبو جعفر الأصم البغوي نزيل بغداد، ثقة حافظ، توفي سنة 244، وله 84 سنة، من [10].

قال النسائي وصَالِحُ جزرة: ثقة. وقال أبو القاسم البغوي: أخُبِرتُ عن جدي أنه قال: أنا أختم منذ أربعين سنة في كل ثلاث. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن أبي حاتم: كتب عنه أبي، وأبو زرعة، ونقل عنهما أن كنيته أبو عبد الله، وقال أبي: هو صدوق. وقال الدارقطني: لا بأس به. وقال مسلمة وهبة الله السجزي: ثقة. أخرج له الجماعة.

2 -

(هُشيم) بن بَشير الواسطي أبو معاوية بن أبي خازم، ثقة ثبت كثير التدليس والإرسال الخفي، توفي سنة 183، وقد قارب 80 سنة، من [7]، تقدم في 88/ 109.

3 -

(منصور) بن زاذان -بزاي، وذال معجمة- الواسطي، أبو المغيرة الثقفي، ثقة، ثبت، عابد، توفي سنة 129 على الصحيح، من [6]، أخرج له الجماعة، تقدم في 475.

4 -

(قتادة) بن دِعامة السَّدُوسي، أبو الخطاب البصري، ثقة ثبت رأس الطبقة [4]، توفي سنة بضع عشرة ومائة، أخرج له الجماعة، تقدم في 30/ 34.

ص: 314

5 -

(أبو العالية) رُفَيع بن مهْران الرّياحي البصري، ثقة كثير الإرسال، توفي سنة 90، وقيل: 93، وقيل: بعد ذلك، من [2].

وفي "تت": أدرك الجاهلية، وأسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين، ودخل على أبي بكر، وصلى خلف عمر. قال ابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم: ثقة. وقال اللالكائي: مجمع على توثيقه. وقال قتادة عنه: قرأت القرآن بعد وفاة نبيكم بعشر سنين. وقال الآجري عن أبي داود: ذهب علم أبي العالية، لم يكن له رواة. وقال ابن أبي داود: ليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقراءة من أبي العالية، وبعده سعيد بن جبير، وبعده السُّدِّيُّ، وبعده الثوري. وقال ابن عدي: له أحاديث صالحة، وأكثر ما نقم عليه حديث الضحك في الصلاة، وكل من رواه غيره، فإنما مدارهم ورجوعهم إلى أبي العالية، والحديث له، وبه يعرف، ومن أجله تكلموا فيه، وسائر أحاديثه مستقيمة صالحة. اهـ باختصار. أخرج له الجماعة.

6 -

(ابن عباس) رضي الله عنه تقدم في 27/ 31.

7 -

(عمر) بن الخطاب رضي الله عنه تقدم في 60/ 75. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سباعيات المصنف.

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، نبلاء، اتفقوا عليهم.

ص: 315

ومنها: أنهم ما بين بغدادي وهو: أحمد، وواسطيين: هشيم، ومنصور، وبصريين: قتادة، وأبو العالية، وابن عباس، ومدني: عمر ابن الخطاب رضي الله عنهم.

ومنها: أن فيه رواية صحابي عن صحابي، وتابعي، عن تابعي.

ومنها: أن ابن عباس أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى 1696 حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي العالية) الرياحي -بالياء التحتانية- رُفَيع بن مهران، قال الحافظ: وقع مصرحًا به عند الإسماعيلي من رواية غندر، عن شعبة. اهـ ووقع عند البخاري من طريق يحيى القطان، عن شعبة، تصريح قتادة بالسماع من أبي العالية.

(عن) عبد الله (بن عباس) رضي الله عنهما، أنه (قال: سمعت غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم عمر) بن الخطاب رضي الله عنه (وكان من أحبهم إِلي) جملة "كان" معترضة بين العامل ومعموله، ولفظ مسلم: و"كان أحَبَّهم إلي"، ولفظ البخاري:"شَهِدَ عندي رجال مرضيون، وأرضاهم عندي عمر" ....

قال الحافظ رحمه الله: لم يقع لنا تسمية الرجال الذين حَدَّثوا ابن عباس بهذا الحديث، وبلغني أن بعض من تكلم على العمدة تجاسر،

ص: 316

وزعم أنهم المذكورون فيها عند قول مصنفها: وفي الباب عن فلان، وفلان. ولقد أخطأ هذا المتجاسر خطأ بَيّنًا، فلا حول ولا قوة إلا بالله. اهـ فتح جـ 2 ص 71.

(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الفجر) أي بعد أداء صلاة الصبح، لأنه لا جائز أن يكون الحكم فيه متعلقًا يالوقت، إذ لابد من أداء الصبح، فتعين التقدير المذكور. أفاده في الفتح.

(حتى تطلع الشمس) ولفظ البخاري. "حتى تُشْرِقَ الشمس"، قال في الفتح: بضم أوله من أشرق، يقال: أشرقت الشمس: ارتفعت، وأضاءت، قال الحافظ: ويؤيده حديث أبي سعيد بلفظ: "حتى ترتفع الشمس"، ويروى بفتح أوله، وضم ثالثه بوزن تغرب، يقال. شرقت الشمس: أي طلعت.

ويجمع بين روايتي الطلوع والإشراق بأن المراد بالطلوع طلوع مخصوص، أي حتى تطلع مرتفعة. أفاده في "الفتح".

(و) نهى (عن الصلاة بعد) أداء صلاة (العصر، حتى تغرب الشمس). والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عمر رضي الله عنه هذا متفق عليه.

ص: 317

المسألة الثانية: في بيان موضعه عند المصنف:

أخرجه هنا (562) بهذا السند، فقط.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخر جه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه؛ فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن حفص بن عمر الحوضي، عن هشام الدستوائي- وعن مسدد، عن يحيى، عن شعبة.

وأخرجه مسلم فيه عن داود بن رشيد، وإسماعيل بن سالم، كلاهما عن هشيم، عن منصور بن زاذان- وعن زهير بن حرب، عن يحيى، عن شعبة- وعن أبي غَسَّان، مالك بن عبد الواحد المسْمَعِيّ، عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن سعيد بن أبي عَرُوبَةَ- وإسَحاق بن إبراهيم، عن معاذ بن هشام، عن أبيه.

وأبو داود فيه عن مسلم بن إبراهيم، عن أبان بن يزيد خمستهم عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس، عن عمر رضي الله عنهم.

والترمذي فيه عن أحمد بن منيع، عن هشيم به. وقال: حسن صحيح. وقال شعبة: لم يسمع قتادة من أبي العالية إلا ثلاثة أحاديث. هذا أحدها.

وابن ماجه فيه عن بندار، عن غندر، عن شعبة به. وعن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن عفان، عن همام، عن قتادة به. أفاده الحافظ المزي

ص: 318

رحمه الله تعالى في "تحفته" جـ 8 ص 42.

وفوائد الحديث، وذكر مذاهب العلماء في حكم الحديث مع ترججع الراجح تقدمت في 559.

والله أعلم. إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 319

‌33 - بَابُ النَّهْيِ عَنِ الصَّلاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ

563 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَتَحَرَّى أَحَدُكُمْ، فَيُصَلِّيَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَعِنْدَ غُرُوبِهَا".

رجال الإسناد: أربعة

1 -

(قتيبة بن سعيد) الثقفي البغلاني أبو رجاء، ثقة ثبت، من [10]، تقدم في 1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس أبو عبد الله المدني، ثقة ثبت حجة، من [7]، تقدم في 7/ 7.

3 -

(نافع) مولى ابن عمر العدوي المدني، ثقة ثبت، من [3]، تقدم في 12/ 12.

4 -

(ابن عمر) عبد الله الصحابي رضي الله عنهما، تقدم في 12/ 12. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من رباعيات المصنف، وهو أعلى ما وقع له من الأسانيد، وهو 25 - من رباعيات الكتاب.

ص: 320

ومنهما: أن رجاله كلهم ثقات نبلاء.

ومنها: أنهم ممن اتفق الأئمة الستة بالإخراج لهم.

ومنها: أنهم مدنيون، إلا شيخه، فبغلاني.

ومنها: أن هذا الإسناد أصح سند على الإطلاق: مالكٌ، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، على ما نقل عن البخاري رحمه الله تعالى.

ومنها: أن صحابيه أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، رَوَى 2630 حديثًا. والله تعالى أعلم

شرح الحديث

(عن ابن عمر) رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يتحرى أحدكم) كذا في النسخة الهندية بلفظ الخبر. قال السهيلي: يجوز الخبر عن مستقر أمر الشرع، أي لا يكون إلا هذا. نقله في الفتح جـ 2 ص 73.

وفي النسخة المصرية "لا يتحر"، بالجزم، فلا ناهية.

ووقع في نسخة السندي: "لا يتحسر"- بسين وراء بعد الحاء المهملة، أي لا يتعجز، ولا يتثقل عن أداء الصلاة في الوقت اللائق بها، فيصلي بسبب ذلك عند طلوع الشمس، أو غروبها، لأجل تأخيرها عن الوقت اللائق بها. قاله السندي.

ص: 321

وقال في طرح التثريب: "لا يتحرى" وكذا وقع في الموطأ والصحيحين بإثبات الألف، وكان الوجه حذفها، ليكون علامة جزمه، ولكن الإثبات إشباع، فهو على حد قوله تعالى:{إِنه من يتقي ويصبر} [يوسف: 90]، فيمن قرأ بإثبات الياء. اهـ جـ 2 ص 182.

(فيصلي) بالنصب جوابًا للنهي المتضمن لـ"ـلا يَتَحَرَّى"، كالمضارع المقرون بالفاء في نحو "ما تأتينا فتحدثنا" في أن يراد به نفي التحري والصلاة كليهما، وأن يراد به نفي الصلاة فقط، ويجوز الرفع من جهة النحو، أي لا يتحرى أحدكم الصلاة في وقت كذا، فهو يصلي فيه.

وقال الطيبي رحمه الله: لا يتحرى هو نفي بمعنى النهي، و"يصلي" هو منصوب بأنه جوابه، ويجوز أن يتعلق بالفعل المنهي أيضًا، فالفعل المنهي معلل في الأول، والفعل المعلل منهي في الثاني، والمعنى على الثاني: لا يتحرى أحدكم فعلًا، يكون سببًا لوقوع الصلاة في زمان الكراهة، وعلى الأول كأنه قيل: لا يتحرى، فقيل: لمَ ينهانا عنه؟ فأجيب عنه خِيفَةَ أن تصلوا أوانَ الكراهة. وقال ابن خروف: يجوز في "فيصلي" ثلاثة أوجه: الجزمُ عطفًا، أي لا يَتَحَرَّ، ولا يصل، والرفعُ على القطع، أي لا يتحرَّ، فهو يصلي، والنصب على جواب النهي، والمعنى لا يتحرَّ مصليًا. قاله في "عمدة القاري" جـ 5 ص 81.

وقال التوربشتي: يقال: فلان يتحرى الأمر، أي يتوخاه ويقصده، ومنه قوله تعالى:{فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الجن: 14] أي: تَوَخوَّا

ص: 322

وعَمَدُوا، ويتحرى فلان الأمر: إذا طلب ما هو الأحرى.

والحديث يحتمل الوجهين، أي لا يقصد الوقت الذي تطلع فيه الشمس، أو تغرب، فيصلي فيه، أو لا يصلي في هذا الوقت ظنًا منه أنه قد عمل بالأحرى، والأول أبلغ، وأوجه في المعنى المراد. انتهى. قاله في "المرقاة" جـ 3 ص 124.

(عند طلوع الشمس، وعند غروبها) قال في الفتح: واختلف أهل العلم في المراد بذلك، فمنهم من جعله تفسيرًا للحديث السابق -يعني حديث عمر رضي الله عنه ومبينًا للمراد به، فقال: لا تكره الصلاة بعد الصبح، ولا بعد العصر إلا لمن قصد بصلاته طلوع الشمس وغروبها، وإلى ذلك جنح بعض أهل الظاهر، وقواه ابن المنذر، واحتج له.

وقد روى مسلم من طريق طاوس عن عائشة، قالت: وهم عمر، إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتحرى طلوع الشمس وغروبها. انتهى. وربما قوى ذلك بعضهم بحديث "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فليضف إليها أخرى"، فامر بالصلاة حينئذ، فدل على أن الكراهة مختصة بمن قصد الصلاة في ذلك الوقت، لا من وقع له ذلك اتفاقًا.

ومنهم من جعله نهيًا مستقلًا، وكره الصلاة في تلك الأوقات سواء قصد لها، أم لم يقصد، وهو قول الأكثر. اهـ "فتح" جـ 2 ص 71 - 72.

ص: 323

قال الجامع: ما قاله الأولون هو الأرجح عندي، لوضوح أدلته. والله أعلم.

وسيأتي الكلام على حديث عائشة في ردها على عمر رضي الله عنهما برقم -570 - إن شاء الله تعالى. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان موضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا (563) بهذا السند، فقط.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري، ومسلم، فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن عبد الله ابن يوسف، ومسلم فيه عن يحيى بن يحيى- كلاهما عن مالك، عن نافع، عنه.

وبقية المسائل تقدمت، ويأتي بعضها، إن شاء الله تعالى، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

564 -

أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، أَنْبَأَنَا خَالِدٌ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُصَلَّى مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، أَوْ غُرُوبِهَا.

ص: 324

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(إِسماعيل بن مسعود) الجَحْدَري أبو مسعود البصري، ثقة، توفي سنة 248، من [10]، تقدم في 42/ 47.

2 -

(خالد) بن الحارث الهُجَيمي البصري، ثقة ثبت، توفي سنة 186، من [8]، تقدم في 42/ 47.

3 -

(عبيد الله) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب أبو عثمان العمري المدني، ثقة ثبت، توفي سنة بضع و 140، من [5]، تقدم في 15/ 15.

وأما نافع وابن عمر فقد تقدما في السند السابق.

ومن لطائفه أنه من خماسيات المصنف، ورجاله كلهم ثقات، اتفقوا عليهم إلا شيخه فمن أفراده.

والحديث صحيح، تفرد به المصنف، كما أشار إليه الحافظ المزي.

أخرجه هنا (564) وفي "الكبرى"(28/ 1546) ومعناه واضح مما تقدم فلا حاجة إلى تكراره، وبالله التوفيق.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 325

‌34 - باب النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ نِصْفَ النَّهَارِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على النهي عن الصلاة وقت استواء الشمس وسط السماء.

565 -

أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، وَهُوَ ابْنُ حَبِيبٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُلَيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، يَقُولُ: ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، أَوْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا: حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً، حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ، حَتَّى تَمِيلَ، وَحِينَ تَضَيَّفُ لِلْغُرُوبِ، حَتَّى تَغْرُبَ.

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(حميد بن مسعدة) بن المبارك الباهلي البصري، صدوق، توفي سنة 244، من [10]، تقدم في 5/ 5.

2 -

(سفيان بن حبيب) البصري البزاز، أبو محمد، وقيل: غير ذلك، ثقة، توفي سنة 182، وقيل: سنة 186، وله 58 سنة، من [9]، أخرج له البخاري في "الأدب المفرد" والأربعة، تقدم في 67/ 83.

ص: 326

3 -

(موسى بن علي) علي-مصغرًا ومكبرًا- بن رَبَاح، أبو عبد الرحمن المصري، صدوق ربما أخطأ، من [7]، تقدم في 560.

4 -

(أبو موسى) عُلَيّ بن رَبَاح بن قَصِير اللَّخْمِي المصري، ثقة، من [3]، تقدم في 560.

5 -

(عقبة بن عامر) الجُهَني صحابي مشهور ولي إمرة مصر لمعاوية رضي الله عنهما ثلاث سنين، وكان فقيهًا فاضلًا، توفي في قرب الستين، أخرج له الجماعة، تقدم في 108/ 144.

وشرح الحديث وما يتعلق به قد تقدم في 560 - فارجع إليه تزدد علمًا. والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 327

‌35 - بَابُ النَّهْيِ عَنِ الصَّلاةِ بَعْدَ العَصْرِ

566 -

أَخْبَرَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ سَعِيدٍ، سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى الطُّلُوعِ، وَعَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى الْغُرُوبِ".

رجال الإسناد: أربعة

1 -

(مجاهد بن موسى) الخُوَارَزْمِيُّ، وهو الخُتَّلِيُّ، أبو علي البغدادي، ثقة، من [10]، تقدم في 85/ 102.

2 -

(ابن عيينة) سفيان الكوفي ثم المكي، ثقة ثبت حجة إمام، توفي سنة 198، من [8]، تقدم في 1/ 1.

3 -

(ضَمْرَة بن سعيد) بن أبي حَنَّة -بمهملة، ثم نون، وقيل: حبة بموحدة- الأنصاري المدني، ثقة، من [4]، أخرج له مسلم والأربعة.

وثقه أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، والنسائي، وابن حبان، والعجلي.

4 -

(أبو سعيد الخدري) سعد بن مالك بن سِنَان الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما المدني، تقدم في 169/ 262.

ص: 328

ومن لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيات المصنف، وهو أعلى ما عنده من الأسانيد، كما تقدم غير مرة، وهو 26 - من رباعيات الكتاب ورجاله ثقات، نبلاء، أخرجوا لهم إلا البخاري، فلم يخرج لمجاهد، وضمرة. والله تعالى أعلم.

تنبيه:

هذا الحديث صحيح، وهو من طريق ضمرة بن سعيد من أفراد المصنف، كما أشار إليه الحافظ الْمِزِّيّ، أخرجه هنا (566)، وفي الكبرى (30/ 1549) بهذا السند. وشرح الحديث وما يتعلق به فقد تقدم في الأحاديث السابقة، وبالله التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

567 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَخْلَدٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَبْزُغَ الشَّمْسُ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ".

رجال الإسناد: ستة

1 -

(عبد الحميد بن محمد) بن الْمُسْتَام -بضم الميم وسكون المهملة بعدها مثناة- أبو عمر الحَرَّاني، إمام مسجدها، ثقة، من [11].

رَوَى عن عبد الجبار بن محمد الخطابي، وعثمان بن محمد

ص: 329

الطرائفي، ومخلد بن يزيد، والمغيرة بن سفيان، وأبي جعفر النُّفَيْليّ. وعنه النسائي، وأبو عَوَانة، وأبو علي محمد بن سعيد الرَّقِّيّ الحافَظ، وإبراهيم بن محمد بن متويه، وأبو عبد الله الإسفرايني، وابن صاعد، وعدة. قال النسائي: ثقة، وقال ابن أبي حاتم: لم يُقضَ لي السماع منه. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال: مات في جمادى الآخرة سنة

266.

انفرد به المصنف.

2 -

(مخلد) بن يزيد القرشي الحَرَّاني، صدوق له أوهام، توفي سنة 193، من كبار [9]، تقدم في 141/ 222.

3 -

(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، ثقة فقيه فاضل يدلس ويرسل، توفي سنة 150 أو بعدها، من [6]، تقدم في 28/ 32.

4 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري المدني، إمام حجة فقيه، من [4]، تقدم في 1/ 1.

5 -

(عطاء بن يزيد) الليثي المدني نزيل الشام، ثقة، من [3]، تقدم في 20/ 21.

6 -

(أبو سعيد الخدري) رضي الله عنه، تقدم في السند السابق. وبالله التوفيق.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف، وأن رواته كلهم ثقات، اتفقوا

ص: 330

عليهم، إلا شيخه، فمن أفراده، ومخلدًا، فلم يخرج له الترمذي، وأنهم ما بين حرانيين: شيخه، ومخلد، ومكي: ابن جريج، ومدنيين، وهم: الباقون.

ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي.

ومنها: أن صحابيه أحد المكثرين السبعة، روى 1170 حديثًا. والله تعالى أعلم.

تنبيه:

هذا الحديث متفق عليه، أخرجه المصنف هنا (567) بهذا السند، وفي (568) بالسند الآتي. وأخرجه البخاري في "الصلاة" عن عبد العزيز ابن عبد الله، عن إبراهيم بن سعد، عن صالح. وأخرجه مسلم فيه عن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن يونس- كلاهما عن الزهري، عن عطاء الليثي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

وقوله: "حتى تَبْزُغُ": من باب قتل، أي تطلع. وبقية مباحث الحديث تقدمت قريبًا، فارجع إليها تزدد علمًا. وبالله التوفيق. وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

568 -

أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نَمِرٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِهِ.

ص: 331

رجال الإسناد: ستة

1 -

(محمود بن غَيْلان) أبو أحمد المروزي، نزيل بغداد، ثقة، توفي سنة 239، من [10]، تقدم في 33/ 37.

تنبيه:

وقع في بعض النسخ: محمود بن خالد بدلًا من محمود بن غيلان. ومحمود بن خالد هو السلمي، أبو علي الدمشقي، ثقة، توفي سنة 247، وله 73 سنة، من صغار [10]، أخرج له أبو داود، والمصنف، وابن ماجه.

ولم يتبين لي ما هو الصواب هنا؟، حيث إن كلًا منهما يروي عن الوليد بن مسلم، ويروي عنه المصنف، كما بينه الحافظ المزي في "تهذيب الكمال" جـ 27 ص 296، وص 307 فالله أعلم بالصواب.

2 -

(الوليد) بن مسلم أبو العباس الدمشقي، ثقة كثير التدليس والتسوية، من [8]، تقدم في 454.

3 -

(عبد الرحمن بن نَمِر) -بفتح النون، وكسر الميم،- اليحصبي، أبو عمرو الدمشقي، ثقة، لم يرو عنه غير الوليد، من [8].

قال الدُّوري عن ابن معين: ابن نمر الذي يروي عن الزهري ضعيف. وقال دُحَيم: صحيح الحديث عن الزهري. وقال الآجري

ص: 332

عن أبي داود: ليس به بأس، كان كاتبًا، حضر مع ابن هشام، والزهري يملي عليهم. وقال أبو حاتم: ليس بقوي، وسليمان بن كثير، وسفيان ابن حسين أحب إلي منه، لا أعلم روى عنه غير الوليد بن مسلم. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: من ثقات أهل الشام ومتقنيهم. وقال ابن عدي: في حديثه عن الزهري، عن مَرْوَان، عن بُسْرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء في مس الذكر، والمرأة مثل ذلك. قال: وهذه الزيادة التي ذكرت في متنه: "والمرأة مثل ذلك"، لا يرويها عن الزهري غير ابن نمر هذا، وقال يحيى بن معين: هو ضعيف في الزهري، ليس أنه أنكر عليه في أسانيد ما روى عن الزهري، ولا في متونه إلا ما ذكرت من قوله:"والمرأة مثل ذلك"، وهو في جملة من يُكْتَبُ حديثه من الضعفاء، وابن نمر هذا له عن الزهري غير نسخة، وهي أحاديث مستقيمة. انتهى.

ولم يخرج له الشيخان سوى حديث واحد في الكسوف متابعة. وقال أبو أحمد الحاكم: مستقيم الحديث. وقال ابن البرقي: ثقة. وقال الذهلي: عبد الرحمن بن نَمِر، وعبد الرحمن بن خالد ثقتان، ولا تكاد تجد لابن نمر حديثًا عن الزهري إلا ودون الحديث مثله، يقول: سألت الزهري عن كذا؟ فحدثني عن فلان، وفلان، فيأتي بالحديث على وجهه، ولا أعلم روى عنه غير الوليد، وكذا قال دُحَيم: لم يرو عنه غير الوليد. أخرج له الشيخان، وأبو داود، والمصنف.

وأما الباقون فقد تقدموا في السند السابق.

ص: 333

وقوله: "بنحوه" أي إن رواية عبد الرحمن بن نمر بمعنى رواية ابن جريج. وبالله تعالى التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

569 -

أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ.

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(أحمد بن حرب) بن محمد بن علي بن حَيَّان بن مازن الطائي المَوْصِلِيُّ، صدوق، توفي سنة 263، وله 90 سنة، من [10]، أخرج له النسائي، تقدم في 102/ 135.

2 -

(سفيان) بن عيينة أبو محمد الكوفي، ثم المكي، ثقة ثبت حجة، من [8]، تقدم في 1/ 1.

3 -

(هشام بن حُجَيير) -بمهملة وجيم مصغرًا- المكي، صدوق له أوهام، من [6].

قال الميموني عن أحمد، عن ابن عيينة، قال ابن شبرمة: ليس بمكة مثله. وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ليس بالقوي، قلت: هو ضعيف؟ قال: ليس هو بذاك. قال: وسألت يحيى بن معين عنه؟ فضعفه جدًا. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: صالح. وقال ابن المديني عن يحيى بن سعيد: ثنا عنه ابن جريج، وخَلِيقٌ أن أدَعَهُ، قلت:

ص: 334

أضرب على حديثه؟ قال: نعم. وقال الآجري عن أبي داود: ضُرِبَ الْحَدَّ بمكة، قلت: فيماذا؟ قال: فيما يُضْرَبُ فيه أهل مكة. وقال العجلي: ثقة صاحب سنة. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث. وقال الساجي: صدوق. وقال العقيلي: قال ابن عيينة: لم نأخذ منه إلا ما لا نجده عند غيره. أخرج له الشيخان، والمصنف.

4 -

(طاوس) بن كَيْسان اليماني، أبو عبد الرحمن الحميري مولاهم الفارسي، يقال: اسمه ذكوان، وطاوس لقبه، ثقة فقيه فاضل، توفي سنة 106، وقيل بعد ذلك، من [3]، تقدم في 27/ 31.

5 -

(ابن عباس) عبد الله الحبر البحر رضي الله عنه تقدم في 27/ 31. والله تعالى أعلم.

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رواته مكيون، إلا شيخه، فموصلي، وطاوسًا فيماني، واتفق الأئمة عليهم إلا شيخه، فمن أفراده، وهشامًا، فأخرج له البخاري ومسلم والنسائي، وفيه ابن عباس أحد المكثرين. والله تعالى أعلم.

تنبيه:

هذا الحديث صحيح، وهو كما أشار إليه الحافظ المزي بهذا السياق،

ص: 335

من أفراد المصنف، وشرحه واضح مما سبق. وبالله التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

570 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُبَارَكِ الْمُخَرِّمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ عَنْبَسَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: أَوْهَمَ عُمَرُ رضي الله عنه إِنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"لَا تَتَحَرَّوْا بِصَلَاتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ، وَلَا غُرُوبَهَا، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ".

رجال الإسناد: ستة

1 -

(محمد بن عبد الله بن المبارك المُخَرِّمِيُّ) أبو جعفر البغدادي، ثقة حافظ، توفي سنة بضع و250، من [11]، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي، تقدم في 43/ 50.

والْمُخرِّمي -بضم الميم، وفتح الخاء المعجمة، وتشديد الراء المكسورة- نسبة إلى محلة ببغداد نزلها ولد يزيد بن المُخَرِّم. قاله في "اللب".

2 -

(الفضل بن عَنْبَسَة) الخزاز -بمعجمات- الواسطي، ثقة، انفرد ابن قانع بتضعيفه، وليس ابن قانع بمقنع، من كبار [10].

وفي "تت": أبو الحسن، ويقال: أبو الحسين. قال عبد الله بن

ص: 336

أحمد عن أبيه: ثقة من كبار أصحاب الحديث.

وقال ابن سعد: كان ثقة معروفًا. وقال النسائي: ثقة، ووثقه الدارقطني. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال البخاري عن هارون بن حميد: مات أراه سنة 203، وقال أسلم بن سهل: أخبرني تميم بن المنتصر أنه مات سنة 197، وأرَّخَ خليفة وابن قانع وفاته سنة 201.

أخرج له البخاري حديثًا واحدًا مقرونًا بغيره من مسند ابن عباس "بِتُّ عند ميمونة"، وعند النسائي حديثان: أحدهما حديث عائشة في الصلاة عند طلوع الشمس.

3 -

(وهيب) بن خالد بن عَجْلان الباهلي مولاهم، أبو بكر البصري، ثقة ثبت، لكنه تغير قليلًا بآخره، توفي سنة 165، وقيل بعدها، من [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 427.

4 -

(ابن طاوس) عبد الله، أبو محمد اليماني، ثقة فاضل عابد، توفي سنة 132، من [6]، تقدم في 511.

5 -

(طاوس) بن كيسان أبو عبد الرحمن اليماني، ثقة فقيه فاضل، من [3]، تقدم في 27/ 31.

6 -

(عائشة) رضي الله عنها، تقدمت في 5/ 5. والله تعالى أعلم.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف، وأن رواته كلهم ثقات، اتفقوا

ص: 337

عليهم ما عدا شيخه، فلم يخرج له مسلم والترمذي وابن ماجه، وأنهم ما بين بغدادي وهو: شيخه، وبصري وهو: وهيب، ويمانيين وهو: ابن طاوس، وطاوس، ومدنية وهي: عائشة، وهي من المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن طاوس) بن كيسان، أنه قال: قالت عائشة رضي الله عنها: أوهم عمر رضي الله عنه

(1)

.

قال السندي رحمه الله: هكذا في النسخ بالألف، والصواب "وَهِمَ" -بكسر الهاء- أي غلط، أو بفتح الهاء: أي ذهب وَهْمُهُ إلى ما قالَ، كما صرحوا في مثله، وهو المشهور في رواية هذا الحديث، يقال: أوْهَمَ في صلاته، أو في الكلام: إذا أسقط منها شيئًا، وَوَهِمَ بالكسر: إذا غَلِطَ، وَوَهَمَ بالفتح يَهِمُ: إذا ذهب وَهْمُهُ، إلا أن يقال: المراد أن الحديث كان مقيدًا، فأسقط القيد من الكلام نسيانًا، ثم تبع إطلاقه.

قال الجامع: لكن قال في "ق" بعد ما ذكر نحْوَ هذا: ما نصه: وَهَمَ، كَوَعَدَ، وَوَرِثَ، وأوْهَمَ، بمعنى. اهـ.

وقال في "اللسان": وقال ابن الأعرابي: أوْهَمَ، وَوَهِمَ، وَوَهَمَ سواء، وأنشد (من الوافر):

فَإِنْ أخْطَاتُ أوْ أوْهَمْتُ شَيْئًا

فَقَدْ يَهِمُ الْمُصَافِي بِالْحَبيبِ

(1)

وقع في الكبرى "أوهم ابن عمر" بدل عمر، وهو وهم، كما يأتي تحقيقه.

ص: 338

وقال الزِّبْرِقان بن بَدْر (من الكامل):

فَبِتِلْكَ أقْضي الْهَمَّ إِذْ وَهِمَتْ بِهِ

نَفْسِي وَلَسْتُ بِنَأْنَإِ عُوَّارِ

(1)

وقال شَمِرٌ: أوْهَمَ، وَوَهِمَ، وَوَهَمَ بمعنى، قال: ولا أرى الصحيح إلا هذا. اهـ.

قال الجامع: فعلى هذا إن "أوْهَمَ" بالألف هنا صواب، وليس بخطأ. فتبصر. والله أعلم.

قال السندي: ومقصود عائشة رضي الله عنها أن عمر رضي الله عنه كان يَرى المنع بعد العصر مطلقًا، وهو خطأ، والصواب أن الممنوع هو التحري بالصلاة. وفي "النهاية": التحري: هو القصد، والاجتهاد في الطلب، والعزم على تخصيص الشيء بالفعل والقول. فالمنهي عنه تخصيص الوقتين المذكورين بالصلاة، واعتقادهما أولى وأحرى للصلاة.

أو أرادت عائشة رضي الله عنها أن المنهي عنه هو الصلاة عند الطلوع والغروب بخصوصهما، لا بعد العصر والفجر مطلقًا، وعلى كل تقدير فقد وافق عمر على رواية الإطلاق صحابة، فالوجه أن روايته صحيحة، والإطلاق مراد، والتقييد في بعض الروايات لا يدل على نفيه، بك لعله كان للتغليظ في النهي. والله تعالى أعلم. اهـ كلام السندي.

(1)

النَّأنَأ: العاجز الجَبَان. والعُوَّار، كالرُّمانِ: الضعيف العاجز. أفاده في "ق".

ص: 339

قال الجامع: بل الأولى كون التقييد مرادًا، كما تقدم التفصيل فيه، فتبصر. والله أعلم.

وقال النووي رحمه الله: قولها: "وَهمَ عمر" تعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه في روايته النهي عن الصَلاة بعد العصر مطلقًا، وإنما نهى عن التحري. قال القاضي: إنما قالت عائشة هذا لما روته من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الركعتين بعد العصر، قال: وما رواه عمر قد رواه أبو سعيد، وأبو هريرة، وقد قال ابن عباس في مسلم أنه أخبره به غير واحد. قلت: ويجمع بين الروايتين، فرواية التحري محمولة على تأخير الفريضة إلى هذا الوقت، ورواية النهي محمولة على غير ذوات الأسباب. اهـ "شرح مسلم" جـ 6 ص 119.

(إِنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم) مُتَعَلَّقُ "نهى" محذوف، يدل عليه ما بعده، وتقديره "عن التحري بالصلاة طلوعَ الشمس، وغروبَهَا"، ورواية المصنف في الكبرى:"إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُتَحرَّى طلوع الشمس، أو غروبها"، ونحوُها روايةُ مسلم، وهي واضحة، وجملة قوله (قال: لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس، ولا غروبها، فإِنها تطلع بين قرني شيطان) مفسرة لما قبلها.

وقد تقدم معنى التحري في شرح حديث ابن عمر (563)، وكذا معنى قوله:"بين قرني شيطان" في شرح حديث الصنابحي (559) فارجع إليه تزدد علمًا. وبالله التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 340

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عائشة رضي الله عنها هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا (570)، وفي "الكبرى"(1547) بهذا السند، ولفظ الكبرى، "قالت عائشة: أوهم ابن عمر: "إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُتَحَرَّى طلوعُ الشمس، أو غُرُوبها".

قال الجامع: قوله: "أوهم ابن عمر" الظاهر أن هذا خطأ، والصواب "عمر"، كما هو الواقع في المجتبى، وهو الذي في صحيح مسلم، لأن ابن عمر صح عنه مثل ما روته عائشة رضي الله عنهم، انظر ما تقدم برقم (563) وفي "الكبرى" (1551) ولفظه عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس، ولا غروبها، فإنها تطلع بين قرني شيطان، وتغرب بين قرني شيطان". والله أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه مسلم في "الصلاة" عن محمد بن حاتم، عن بَهْز بن أسد، عن وُهيب بن خالد، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عنه.

قال الجامع عفا الله عنه: أما بقية المسائل المتعلقة بالحديث فقد تقدمت في الأحاديث الماضية، فلا حاجة إلى إطالة الكتاب بتكرارها. وبالله التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 341

571 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تُشْرِقَ، وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَغْرُبَ".

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(عمرو بن علي) الفلاس الصيرفي أبو حفص البصري، ثقة ثبت حافظ، توفي سنة 249، من [10]، تقدم في 4/ 4.

2 -

(يحيى بن سعيد) القطان أبو سعيد البصري، ثقة ثبت حافظ، توفي سنة 198، من [9]، تقدم في 4/ 4.

3 -

(هشام بن عروة) أبو المنذر المدني، ثقة فقيه، ربما دلس، من [5]، تقدم في 49/ 61.

4 -

(عروة) بن الزبير المدني، ثقة فقيه، من [3]، تقدم في 40/ 44.

5 -

(ابن عمر) عبد الله الصحابي رضي الله عنه، تقدم في 12/ 12.

ص: 342

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات، اتفقوا عليهم، وأن شيخه ممن رووا عنه بلا واسطة، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وفيه ابن عمر أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى 2630 حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(قال) ابن عمر رضي الله عنهما (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِذا طلع) أي ظهر (حاجب الشمس) أي طرفها الأعلى من قرصها، سمي به لأنه أول ما يبدو منها، فيصير كحاجب الإنسان.

(فأخروا الصلاة) هذا محمول على ما عَدَا ذَوَاتِ الأسباب على الراجح، كما تقدم جمعًا بين الأدلة.

(حتى تُشرِقَ) يقال: شَرَقَت الشمس شُرُوقًا، من بَابِ قَعَدَ، وشَرْفًا أيضًا: طلعت، وأشرقت بالألف: أضاءت، ومنهم من يجعلهما بمعنى. قاله في "المصباح". وفي المحكم: أشرقت الشمس: أضاءت وانبسطت، وقيل: شَرَقَت، وأشرقت: أضاءت، وشرِقَت بالكسر: دَنَت للغروب. اهـ "عمدة القاري".

وفي "الفتح": "حتى تُشْرِق"- بضم أوله من أشرق، يقال: أشرقت الشمس: ارتفعت، وأضاءت، ويؤيده حديث أبي سعيد "حتى ترتفع

ص: 343

الشمس"، ويروى- بفتح أوله، وضم ثالثه، بوزن تَغْرُب، يقال: شَرَقَت، الشمس: أي طلعت، ويؤيده رواية البيهقي من طريق أخرى عن ابن عمر بلفظ "حتى تشرق، أو تطلع" على الشك، وفي رواية للبخاري "حتى تطلع الشمس" بالجزم، ويجمع بين الحديثين بأن المراد بالطلوع طلوع مخصوص، أي حتى تطلع مرتفعة. اهـ جـ 2 ص 71.

(وإِذا غاب حاجب الشمس) أي الطرف الذي يغيب آخرًا.

(فأخروا الصلاة حتى تغرب) أي تغيب بالكلية. والله تعالى أعلم.

تنبيه:

كُتِبَ بهامش النسخة المصرية، ما نصه: وجد بهامش الأصل: ما نصه: حديث محمد بن عبد الله المُخَرِّمي، وحديث عمرو بن علي بعده، هكذا هما في النسخ الموجودة بأيدينا.

ورأيت في نسخة: ما نصه: أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك، قال: حدثنا الفضل بن عنبسة، قال: أنبأنا وهيب، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: قالت عائشة: أوهم عمر رضي الله عنه، إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتحرى طلوع الشمس، أو غروبها، أخبرنا عمرو بن علي، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا هشام، قال: أخبرني أبي، قال: أخبرني ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس، ولا غروبها، فإنها تطلع بين قرني شيطان".

ص: 344

أخبرنا عمرو بن علي، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا هشام بن عروة، قال: أخبرني أبي، قال: أخبرني ابن عمر، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا طلع حاجب الشمس، فأخروا الصلاة حتى تشرق، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغرب".

قال الجامع: أما حديث عائشة رضي الله عنها بهذا اللفظ، فهو في الكبرى للمصنف رقم (1547) لكن وقع فيه خطأ في قوله: أوهم ابن عمر، وإنما هو أوهم عمر، كما نبهت عليه سابقًا. وأما حديث ابن عمر الأول فهو في الكبرى أيضًا، ولكن في آخره:"وتغرب بين قرني شيطان"

(1)

، وأما حديثه الثاني فهو المذكور في "المجتبى". وبالله التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث ابن عمر رضي الله عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا (571)، وفي "الكبرى"(1551)، بالسند المذكور هنا وقد ذكرت لفظه في "الكبرى" آنفًا.

(1)

ووقع عند مسلم باللفظ المشار إليه، لكن فيه:"فإنها تطلع بقرني الشيطان". انظر شرح النووي جـ 6 ص 112.

ص: 345

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري ومسلم، فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن مسدد، عن يحيى بن سعيد، وفي "صفة إبليس" عن محمد، عن عبدة، وأخرجه مسلم في "الصلاة" عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع- وعن محمد بن عبد الله بن نمير، عن أبيه- ومحمد بن بشر- كلهم عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنهما

(1)

.

قال الجامع: قد تقدم ما يتعلق بالحديث من المسائل في الأحاديث السابقة، فارجع إليها تزدد علمًا. وبالله التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

572 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو يَحْيَى: سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ، وَضَمْرَةُ بْنُ حَبِيبٍ، وَأَبُو طَلْحَةَ: نُعَيْمُ بْنُ زِيَادٍ، قَالُوا: سَمِعْنَا أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ عَبَسَةَ يَقُولُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ مِنْ سَاعَةٍ أَقْرَبُ مِنَ

(1)

ولفظ البخاري: "لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس، ولا غروبها"، وقال: حدثني ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا طلع حاجب الشمس فأخروا عن الصلاة حتى ترتفع، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب".

ولفظ مسلم مقطع.

ص: 346

الأُخْرَى، أَوْ هَلْ مِنْ سَاعَةٍ يُبْتَغَى ذِكْرُهَا؟ قَالَ:"نَعَمْ، إِنَّ أَقْرَبَ مَا يَكُونُ الرَّبُّ عز وجل مِنَ الْعَبْدِ جَوْفُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللهَ عز وجل فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَحْضُورَةٌ مَشْهُودَةٌ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، وَهِيَ سَاعَةُ صَلَاةِ الْكُفَّارِ، فَدَعِ الصَّلَاةَ حَتَّى تَرْتَفِعَ قِيدَ رُمْحٍ، وَيَذْهَبَ شُعَاعُهَا، ثُمَّ الصَّلَاةُ مَحْضُورَةٌ مَشْهُودَةٌ حَتَّى تَعْتَدِلَ الشَّمْسُ اعْتِدَالَ الرُّمْحِ بِنِصْفِ النَّهَارِ، فَإِنَّهَا سَاعَةٌ تُفْتَحُ فِيهَا أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَتُسْجَرُ، فَدَعِ الصَّلَاةَ حَتَّى يَفِيءَ الْفَيْءُ، ثُمَّ الصَّلَاةُ مَحْضُورَةٌ مَشْهُودَةٌ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ، فَإِنَّهَا تَغِيبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ وَهِيَ صَلَاةُ الْكُفَّارِ".

رجال الإسناد: تسعة

1 -

(عمرو بن منصور) أبو سعيد النسائي، ثقة ثبت، من [11]، أخرج له النسائي، تقدم في 108/ 147.

2 -

(آدم بن أبي إِياس) عبدِ الرحمنِ العسقلانيُّ، خُرَاسَاني

ص: 347

الأصل، أبو الحسن، نشأ ببغداد، ثقة عابد، توفي سنة 221، من [9]، أخرج له البخاري وأبو داود في "الناسخ"، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، تقدم في 108/ 147.

3 -

(الليث بن سعد) أبو الحارث الفهمي المصري، ثقة ثبت فقيه إمام مشهور، توفي سنة 175 في شعبان، من [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 31/ 35.

4 -

(معاوية بن صالح) بن حُدَير الحضرمي، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن الحمصي، قاضي الأندلس، صدوق له أوهام، توفي سنة 158، وقيل: بعد 170، من [7]، أخرج له مسلم، والأربعة، تقدم في 50/ 62.

5 -

(أبو يحيى: سُلَيم بن عامر) الكَلاعي، ويقال الخَبَائري -بخاء معجمة، وموحدة- الحمصي، ثقة، غَلِطَ من قال إنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، توفي سنة 130، من [3]، أخرج لهَ البخاري في "الأدب المفرد" ومسلم، والأربعة، من [3]، تقدم في 108/ 147.

6 -

(ضَمْرَة بن حَبِيب) بن صُهَيب الزُّبَيديُّ -بضم الزاي- أبو عُتْبَةَ الحِمْصِيُّ، ثقة، توفي سنة 130، من [4]، أخَرج له الأربعة، تقدم في 108/ 147.

7 -

(أبو طلحة: نُعَيم بن زياد) الأنْمَارِي- بفتح أوله وسكون

ص: 348

النون- الشامي، ثقة يرسل، من [3]، أخرج له أبو داود والنسائي، تقدم في 108/ 147.

8 -

(أبو أمامة الباهلي) صُدَيُّ بن عَجْلان، صحابي مشهور، سكن الشام، ومات بها سنة 86، أخرج له الجماعة، تقدم في 108/ 147.

9 -

(عمرو بن عَبَسَةَ) -بموحدة، ومهملتين مفتوحات- بن عامر ابن خالد السلمي، أبو نَجِيحٍ، صحابي مشهور، أسلم قديمًا، وهاجر بعد أحد، ثم نزل الشام، أخرج له مسلم، والأربعة، تقدم في 108/ 147. وبالله تعالى التوفيق.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سباعيات المصنف.

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، غير معاوية، فصدوق له أوهام.

ومنها: أن شيخه ممن انفرد هو به.

ومنها: أنهم شاميون إلا شيخه، فنسائي، والليث، فمصري.

ومنها: أن فيه رواية صحابي عن صحابي. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(يقول) عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه (قلت: يا رسول الله هل

ص: 349

من) زائدة، كما في قوله تعالى:{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3]، قال ابن مالك في "خلاصته":

وَزِيدَ في نَفْيٍ وَشِبْهِهِ فَجَرّ

نَكِرَةً كمَا لِبَاغٍ مَنْ مَفَرّ

(ساعة) مبتدأ، سوغ الابتداء به مع كونه نكرَة وَقوعه بعِد الاستفهام، مرفوع بضمة مقدرة، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد (أقرب) خبر المبتدإ (من الأخرى؟) متعلق "بأقرب"، يعني هل تكون ساعة أقرب للإجابة من ساعة أخرى؟، ويحتمل أن يكون المعنى: هل ساعة يكون الله فيها أقرب إلى عبده من الساعة الأخرى؟ (أو) للشك من الراوي (هل من ساعة يبتغى) بالبناء، للمفعول، أي يطلب (ذكرها؟) بالرفع نائب فاعل "يبتغى"

يعني يطلب ذكر تلك الساعة لكون التقرب إلى الله فيها أفضل، ويحتمل أن يكون الكلام من الحذف والإيصال، أي ذكر الله فيها، أي يطلب ذكر الله تعالى فيها. والله أعلم. وعند أبي داود "قلت: يا رسول الله أيُّ الليل أسمع"؟ الحديث.

(قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (نعم) أي تكون بعض الساعات أقرب من الأخرى.

(إِن أقرب ما يكون الرب عز وجل قربًا يليق بجلاله سبحانه وتعالى، وفيه إثبات صفة القرب لله على ما يليق به سبحانه وتعالى (من العبد) متعلق بأقرب.

ص: 350

(جوف الليل الآخر) فقوله: "أقرب" اسم "إن"، وهو مضاف إلى "ما يكون إلخ"، و"ما" مصدرية، صلتها الجملة بعدها، ويكون تامة، فلا تحتاج إلى خبر، والتقدير: أقرب أكوان الرب عز وجل، وإنما قدرناه بأكوان لأن "أقرب" أفعل تفضيل، وهو بعض ما يضاف إليه، فلابد من تعدده، انظر إعراب قولهم:"أخطب ما يكون الأمير قائمًا" في حاشية العلامة يس على شرح قطر الندى للفاكهي جـ 1 ص 256.

و"من العبد" متعلق "بأقرب"، و"جوف الليل" خبر "إن"، على حذف مضاف، أي قرب جوف الليل، يعني أن الساعة التي يكون الله فيها أقرب من عبده جوف الليل.

و"الآخر" بالرفع صفة "جوف" وذلك أن الليل له نصفان، ولكل نصف جوف، فيكون القرب في جوف النصف الثاني، وهو الثلث الأخير من الليل. والله أعلم. وقال الخطابي رحمه الله: قوله "جوف الليل الآخر" يريد به ثلث الليل الآخر، وهو الجزء الخامس من أسداس الليل. اهـ معالم جـ 2 ص 81.

(فإِن استطعت أن تكون ممن يذكر الله عز وجل بالصلاة، وإنما قدرنا هذا لدلالة قوله:"فإن الصلاة محضورة" الخ، وعند أبي داود:"فَصَلِّ ما شئت، فإن الصلاة" الخ.

(في تلك الساعة) أي ساعة جوف الليل الآخر (فكن) خبر "كن" محذوف، يدل عليه ما سبق، أي منهم.

ص: 351

(فإن الصلاة) الفاء للتعليل، أي لأن الصلاة (محضورة مشهودة) قال النووي: أي تحضرها الملائكة، وتشهدها، فهي أقرب إلى القبول، وحصول الرحمة.

وقال القاري: أي يحضرها الملائكة ليكتبوا أجرها، ويشهدوا بها لمن صلاها، ويؤيده أن في رواية أبي داود:"مشهودة مكتوبة". وقال الطيبي: أي يحضرها أهل الطاعة من سكان السماء والأرض. وعلى المعنيين "فمحضورة" تفسير "مشهودة" وتأكيد لها.

ويمكن أن يحمل "مشهودة" على المعنى الأول، و"محضورة" على المعنى الثاني، أو الأولى بمعنى الشهادة، والثانية بمعنى الحضور للتبرك، والتأسيس أولى من التأكيد. انتهى كلام القاري اهـ "مرعاة" جـ 3 ص 458.

(إِلى طلوع الشمس) غاية للصلاة، أي صلِّ إلى طلوع الشمس، وهذا بظاهره يدل على إباحة الصلاة النافلة بعد طلوع الفجر بأكثر من ركعتيه، ولكن يعارضه ما في رواية لأحمد في مسنده جـ 4 ص 385 - من طريق شهر بن حَوْشَب، عن عمرو بن عَبَسَةَ ففيه: "قلت: أيُّ الساعات أفضل؟ قال: جوف الليل الآخر، ثم الصلاة مكتوبة مشهوفى حتى يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر، فلا صلاة إلا الركعتين حتى تصلي الفجر

" الحديث. فإنه صريح في كراهة التطوع بعد طلوع الفجر بغير ركعتي الفجر، قال في "المنهل": فلعله وقع اختصار في حديث المصنف. اهـ. جـ 7 ص 173.

ص: 352

(قال الجامع): لكن يجاب بأن هذه الرواية في سندها شهر بن حوشب كثير الأوهام، فتكون روايته منكرة لمخالفته لأبي أمامة الباهلي، الحافظ الثبت، وقد تابعه غيره. والله أعلم.

(فإِنها تطلع بين قرني الشيطان) الفاء للتعليل، والجملة تعليلية مقدمة على محلولها، وهو قوله:"فدع الصلاة" إلخ، ولأبي داود: "ثم أقْصِرْ حتى تطلع الشمس، فترتفع قِيس رُمْح، أو رُمْحَين، فإنها تطلع بين قرني شيطان

" الحديث.

والمراد بقرني الشيطان: جانبا رأسه، وذلك لأنه يدني رأسه من الشمس حين طلوعها، فيكون الساجد من الكفار للشمس كالساجد له، فنُهِيَ عن الصلاة في تلك الساعة لئلا يكون المصلي مشابهًا للكفار المطيعين الساجدين له. وقد تقدم اختلاف العلماء في معنى قرني الشيطان مستوفى في شرح حديث الصُّنَابِحِيّ (559) فارجع إليه تزدد علمًا.

(وهي) أي تلك الساعة، وهي ساعة طلوع الشمس (ساعة صلاة الكفار) حيث يسجدون للشمس فيها. (فدع الصلاة) أي اترك أداء الصلاة وقت طلوعها، وانتظر (حتى ترتفع قيد رمح) أي قدرَ رُمح، وقيد رمح- بالكسر، وقَادَ رمح- بالفتح: قدره، ومثله الْقِيبُ، والقَاب، والقِيس، والقَاس، كما في "المصباح".

ص: 353

(ويذهب شعاعها) قال في "ق": وشُعَاعُ الشمس، وشُعُّهَا -بضمها- الذي تراه كأنه الحبَالُ مُقْبِلَةً عليك إذا نظرت إليها، أو الذي ينتشر من ضوئها، أو الذيَ تراه مَمتدًا كالرماح بُعَيدَ الطلوع، وما أشبهه، الواحدة بهاء، جمعه: أشِعَّةٌ، وشُعُعٌ،-بضمتين- وشِعَاعٌ- بالكسر. اهـ.

قال النووي رحمه الله. وفيه أن النهي عن الصلاة بعد الصبح لا يزول بنفس الطلوع، بل لابد من الارتفاع. اهـ "شرح مسلم" جـ 6 ص 116.

(ثم الصلاة محضورة مشهودة حتى تعدل الشمس اعتدال الرمح بنصف النهار) وانتصاب "اعتدال" على أنه مفعول مطلق لتعدل، يعني حتى تستوي الشمس في وسط السماء، كاعتدال الرمح المنصوب في الأرض المستوية، وهو كناية عن وقت الاستواء.

وفي رواية مسلم: "حتى يستقل الظل بالرمح"، أي حتى يرتفع الظل مع الرمح، أو في الرمح، ولم يبق على الأرض منه شيء من الاستقلال بمعنى الارتفاع.

قال ابن الملك: يعني لم يبق ظل الرمح، وهذا بمكة، والمدينة، وحواليهما في أطول يوم في السنة، فإنه لا يبقى عند الزوال ظل على وجه الأرض، بل يرتفع عنها، ثم إذا مالت الشمس من جانب المشرق إلى جانب المغرب، وهو أول وقت الظهر يقع الظل على الأرض.

ص: 354

وقيل: من القِلَّةِ، يقال: استقله: إذا رآه قليلًا؛ أي حتى يَقِلَّ الظلُّ الكائن بالرمح، أدنى غاية القلة، وهو المسمى بظل الزوال. قال القاري: وروي "حتى يستقل الرمحُ بالظل"، أي يرفع الرمح ظله، فالباء للتعدية. وعلى الروايتين هو مجاز عن عدم بقاء ظل الرمح على الأرض، وذلك يكون في وقت الاستواء، وتخصيص الرمح بالذكر، لأن العرب كانوا إذا أرادوا معرفة الوقت رَكَزُوا رِمَاحهم في الأرض، ثم نظروا إلى ظلها.

وقال النووي: قوله: "حتى يستقل الظل بالرمح"، أي يقوم مقابله في جهة الشمال، ليس مائلًا إلى المغرب، ولا إلى المشرق، وهو حالة الاستواء.

وقال التوربشتي: كذا في نسخ "المصابيح"، وفيه تحريف، وصوابه حتى يَسْتَقِلَّ الرمحُ بالظل، ووافقه صاحب النهاية حيث قال: حتى يبلغ ظل الرمح المغروز في الأرض، أدْنَى غايةِ القلَّةِ والنقص، فقوله:"يستقل" من القلة، لا من الإقلال، والاستقلال الذي بمعنى الارتفاع، والاستبداد.

قال الطيبي: كيف ترد نسخ المصابيح مع موافقتها بعض نسخ مسلم، وكتاب الحميدي، على أن لها محامل:

منها: أن معناه أن يرتفع الظل معه، ولا يقع منه شيء على الأرض من قولهم: استقلت السماء: ارتفعت. ومنها أن يقدر المضاف؛ أي

ص: 355

يعلم قلة الظل بواسطة ظل الرمح.

ومنها: أن يكون من باب عرضت الناقة على الحوض، وطينت

(1)

بالفَدَن السياعا

(2)

، قال صاحب "المفتاح": لا يشجع على القلب إلا كمال البلاغة مع ما فيه من المبالغة من أن الرمح صار بمنزلة الظل في القلة، والظل بمنزلة الرمح. انتهى.

ووقع في رواية لأحمد: "حتى يستقل الرمح بالظل"، وفي أخرى:"حتى يقوم الظل قيام الرمح"، وفي رواية أبي داود:"حتى يعدل الرمح ظله"، وفي رواية لأحمد، وعند ابن ماجه أيضًا "حتى يقوم العمود على ظله"، قال السندي: العمود: خشبة يقوم عليها البيت، والمراد حتى يبلغ الظل في القلة بحيث لا يظهر إلا تحت العمود، قائم عليه، والمراد وقت الاستواء. قاله في "المرعاة" جـ 3 ص 459.

(فإِنها ساعة) تعليل مقدم على المعلل، وهو قوله "فَدَعِ الصلاةَ" الخ.

(تفتح أبواب جهنم) قال النووي رحمه الله: واختلف أهل

(1)

وعبارة اللسان بطنت بالباء.

(2)

أي في قول القُطَامِي (من الوافر):

فَلَمَّا أَنْ جَرَى سِمَنٌ عَلَيْهَا

كَمَا بَطَّنْتَ بِالْفَدَن السِّياعا

والسَّيَاعُ، والسِّيَاعُ: الطين، وقيل: الطين بالتَّبْن الذي يطين به.

والفَدَنُ: القصر، أي كما بطنت بالسياع الفدن. أفاده في لسان العرب.

ص: 356

العربية، هل جهنم اسم عربي، أم عجمي؟ فقيل: عربي، مشتق من الجهومة، وهي كراهة المنظر، وقيل: من قولهم: بئر جهام، أي عميقة، فعلى هذا لم تصرف للعلمية والتأنيث، وقال الأكثرون: هي عجمية مُعَرَّبة، وامتنع صرفها للعلمية والعجمة. اهـ شرح مسلم جـ 6 ص 117.

(وتسجر) بالتخفيف والتشديد مجهولًا، أي يوقد عليها إيقادًا بليغًا، من سجر التنور- بالتخفيف والتشديد: ملأه وَقُودًا، وأحْمَاهُ. قال ابن الملك: أي تملأ نيران جهنم، وتوقد، ولعل تسجيرها حينئذ لمقارنة الشيطان الشمس، وتهيئة عباد الشمس أن يسجدوا لها.

وقال الخطابي في "المعالم" جـ 1 ص 276: ذكر تسجير جهنم، وكون الشمس بين قرني الشيطان، وما أشبه ذلك من الأشياء التي تذكر على سبيل التعليل لتحريم شيء، أو لنهي عن شيء أمور لا تدرك معانيها من طريق الحس والعيان، وإنما يجب علينا الإيمان بها والتصديق للمخبر بها، والانتهاء إلى أحكامها التي علقت بها. انتهى.

(فدع الصلاة حتى يفيء الفيء) أي حتى يرجع الظل إلى جهة المشرق، يقال: فاء الظل يَفِيء، فَيْئًا، رجع من جانب المغرب إلى جانب المشرق. قاله في المصباح.

والفيء مختص بما بعد الزوال، وأما الظل، فيقع على ما قبل الزوال، وما بعده. قاله النووي. وقال القاري: والفيء ما نسخ

ص: 357

الشمسَ، وذلك بالعشي، والظل ما نسخته، وذلك بالغَدْوة.

(ثم الصلاة محضورة مشهودة) أي فينبغي لك الاستكثار منها (حتى تغيب الشمس) أي فاترك الصلاة عندئذ (فإِنها تغيب بين قرني شيطان) تعليل للأمر بالترك المقدر.

(وهي صلاة الكفار) وفي "الكبرى""وهي ساعة صلاة الكفار"، ولمسلم:"فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار"، يعني أن تلك الساعة ساعة يسجد فيها الكفار للشمس، فلا ينبغي التشبه بهم. والله تعالى أعلم.

تنبيه:

في هذه الرواية اختصار، حيث إنه لم يذكر ما بعد العصر، وقد ذكره في الرواية الآتية (584) من طريق عبد الرحمن البَيْلَماني، عن عمرو بن عَبَسَة، ففيه:"ثم صَلِّ ما بدا لك حتى تصلي العصر، ثم انته حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان، وتطلع بين قرني شيطان". والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه أخرجه مسلم.

ص: 358

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا (572) وفي "الكبرى"(1544) بالسند المذكور هنا، وفي (584)، عن الحسن بن إسماعيل، وأيوب بن محمد، وفي "الكبرى"(1560) عن أيوب وحده، كلاهما عن حجاج عن شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن يزيد بن طلق، عن عبد الرحمن بن البَيْلَماني، عن عمرو بن عَبَسَة، رضي الله عنه.

وأخرجه في "الطهارة"(147) بقصة الوضوء عن عمرو بن منصور، عن آدم بن أبي إياس، عن الليث بن سعد، عن معاوية بن صالح به. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه.

أخرجه مسلم وابن ماجه؛ فأخرجه مسلم في "الصلاة" بطوله عن أحمد ابن جعفر المَعُقرِيّ، عن النضر بن محمد، عن عكرمة بن عَمَّار، عن شداد أبي عمار، ويحيى بن أبي كثير، كلاهما عن أبي أمامة، عن عمرو ابن عبسة رضي الله عنه.

وأخرجه ابن ماجه في "الطهارة" بقصة الوضوء عن أبي بكر بن أبي شيبة وبندار كلاهما عن غندر، عن شعبة، عن يعلى بن عطاء به. وفي الصلاة مختصرًا عن أبي بكر، وبندار، ومحمد بن الوليد، ثلاثتهم عن غندر، عن شعبة به. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: أنه ينبغي للمسلم أن يسأل عن أفضل الأوقات والأماكن

ص: 359

ليتقرب فيها إلى ربه، ويكثر من طاعته.

ومنها: فضل جوف الليل الآخر، واستحباب ذكر الله تعالى فيه بالصلاة.

ومنها: النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس.

ومنها: تسلط الشيطان في ذلك الوقت للإغواء.

ومنها: النهي من مشابهة الكفار في عبادتهم.

ومنها: النهي عن الصلاة وقت الاستواء، لأنه وقت فتح أبواب جهنم، وتسجيرها.

ومنها: النهي عن الصلاة وقت الغروب للعلة المتقدمة في الطلوع.

وقد تقدم اختلاف أهل العلم في حكم الصلاة في هذه الأوقات، وترجيح الراجح من أقوالهم بدليله، في الحديث (559)، وما بعده مستوفى فارجع إليه تزدد علمًا، وبالله سبحانه التوقيق.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 360

‌36 - الرُّخْصَةُ فِي الصَّلاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ

573 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يِسَافٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ الأَجْدَعِ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ:"نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الشَّمْسُ بَيْضَاءَ نَقِيَّةً مُرْتَفِعَةً".

رجال الإسناد: ستة

1 -

(إِسحاق بن إِبراهيم) الحنظلي المروزي المعروف بابن راهويه، ثقة حجة، توفي سنة 238، من [10]، تقدم في 2/ 2.

2 -

(جرير) بن عبد الحميد الضبي الكوفي، ثم الرازي، ثقة حافظ، من [8]، تقدم في 2/ 2.

3 -

(منصور) بن المعتمر، أبو عَتَّاب الكوفي، ثقة حجة، من [6]، تقدم في 2/ 2.

4 -

(هلال بن يساف) بكسر التحتانية، وتفتح، ويقال: إساف الأشجعي مولاهم الكوفي ثقة، من [3]، تقدم في 39/ 43.

5 -

(وهب بن الأجدع) الهمداني الكوفي، ثقة، من [2]، أخرج له أبو داود والنسائي.

ص: 361

روى عن عمر، وعلي، وعنه هلال بن يساف، والشعبي. ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل الكوفة، وقال: كان قليل الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة.

6 -

(علي) بن أبي طالب أبو الحسن الهاشمي رضي الله عنه، تِقدم في 74/ 91. والله تعالى أعلم.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف.

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، اتفقوا عليهم إلا وهبًا فانفرد به المصنف، وأبو داود، وإسحاق فلم يخرج له ابن ماجه.

ومنها. أنهم كوفيون غير شيخه فمروزي، ثم نيسابوري. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن علي) بن أبي طالب رضي الله عنه. أنه (قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر) ولفظ البيهقي: "لا تصلوا بعد العصر، إلا أن تصلوا، والشمس مرتفعة".

(إِلا أن تكون الشمس بيضاء نقية) صافية لم تتغير بِدُنُوِّهاَ للغروب، فهو صفة لـ "بيضاء" كاشفة وكذا قوله (مرتفعة) وجمَلة "أن تكون" الخ في تأويل المصدر مجرور بحرف جر مُقَدَّرٍ قياسًا، أي إلا في

ص: 362

حال بياض الشمس ونقائها، وارتفاعها.

واستدلت الشافعية والحنابلة بهذا الحديث على جواز النافلة التي لها سبب بعد العصر ما دامت الشمس مرتفعة، ولكن لا دلالة فيه على تخصيص ذات السبب، بل فيه الدلالة على جواز الصلاة مطلقًا بعد العصر ما دامت الشمس مرتفعة.

وحَمَلَ الحنفية المستثنى في حديث الباب على فائتة المكتوبة، والجنازة، ونحوها من الواجبات، فإنه لا يكره فعلها بعد العصر بالإجماع ما دامت الشمس مرتفعة، فإذا دنت للغروب كره ذلك أيضًا. وحمله بعضهم على أن معناه نَهَى عن الصلاة بعد دخول وقت العصر إلا أن تكون الشمس مرتفعة، فيصلى العصر، فالمستثنى إنما هو فرض صلاة العصر. اهـ المنهل جـ 6 ص 169. والله ولي التوفيق.

قال الجامع: الراجح عندي أن الصلاة مطلقًا مباحة بعد صلاة العصر ما دامت الشمس نقية، لصحة الحديث بذلك، فيكون مخصصًا لحديث:"لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس". والله تعالى أعلم.

فصل

قد أورد العلامة النَّظَّار

(1)

الإمام الجِهْبِذُ أبو محمد بن حزم الآثار

(1)

النظار: كشَدَّاد، يقال: فرس نظَّار: شَهْم، حَدِيدُ الفوائد، طامح الطرف، أو فحل من فحول الإبل. اهـ. "ق".

ص: 363

الواردة في جواز الركعتين بعد العصر، مرفوعاتها، وموقوفاتِها، فأجاد، وأفاد، وأنا إن شاء الله تعالى ألخصها هنا تتميمًا للفائدة:

أخرج رحمه الله بسنده من طريق مسلم بن الحجاج عن عائشة رضي الله عنها، قالت:"ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد العصر عندي قط". أخرجه مسلم جـ 1 ص 230. وهو الآتي للمصنف (574).

ومن طريقه عن عائشة، قالت:"صلاتان ما تركهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي قط سرًا، ولا علانية: ركعتين قبل الفجر، وركعتين بعد العصر". رواه مسلم جـ 1 ص 229، ويأتي للمصنف (577).

وعنها، قالت:"لم يدع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعتين بعد العصر". رواه مسلم.

وأخرج من طريق البخاري عن عائشة، قالت:"والذي ذهب به -تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- ما تركهما حتى لقي الله تعالى -تعني الركعتين بعد العصر- قالت: وما لقي الله حتى ثَقُلَ عن الصلاة".

فهذا غاية التأكيد فيهما، وقد روتهما أيضًا أم سلمة، وميمونة، أما المؤمنين، وتميم الداري، وعمر بن الخطاب، وزيد بن خالد الجهني، وغيرهم، فصار نقل تواتر، يوجب العلم.

وأخرج أيضًا بسنده عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، قال: صَلَّى بنا معاوية العصر، فرأى ناسًا يصلون، فقال: ما هذه الصلاة؟ قالوا:

ص: 364

هذه فتيا عبد الله بن الزبير، فجاء عبد الله بن الزبير مع الناس، فقال له معاوية: ما هذه الفتيا التي تفتي أن يصلوا بعد العصر؟ فقال ابن الزبير: حدثتني زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه عليه السلام صلى بعد العصر" فأرسل معاوية إلى عائشة، فقالت: هذا حديث ميمونة بنت الحارث، فأرسل إلى ميمونة رسولين، فقالت: إنما حدثْتُ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجهز جيشًا فحبسوه حتى أرْهَقَ العصر، فصلى العصر، ثم رجع، فصلى ما كان يصلي قبلها، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة، أو فعل شيئًا يحب أن يداوم عليه"، فقال ابن الزبير:"أليس قد صلى؟ والله لنصلينه".

قال علي

(1)

: ظهرت حجة ابن الزبير، فلم يجز الاعتراض عليه.

قال علي: وقالوا: قد كان عمر يضرب الناس عليها، وابن عباس معه، قلنا: لا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا في عمر، ولا في غيره، بل هو عليه السلام الحجة على عمر وغيره، وقد خالف عمر في

ذلك. طوائف من الصحابة. وقد صح عن عمر، وعن ابن عباس إباحة الركوع والتطوع. والوجه الذي من أجله ضرب عمر عليها، فقد خالفو اعمر رضي الله عنه في ذلك.

وأخرج بسنده عن عروة: "أخبرني تميم الداري، أو أخْبرْت أن تميمًا الداري ركع ركعتين بعد العصر، فأتاه عمر، فضربه بالدِّرَّةَ، فأشار إليه

(1)

علي: هو أبو محمد بن حزم رحمه الله تعالى.

ص: 365

تميم: أن اجلس فجلس عمر حتى فرغ تميم: فقال لعمر: لِمَ ضربتني؟ فقال له عمر: لأنك ركعت هاتين الركعتين، وقد نهيتُ عنَهما، قال له تميم: إني قد صليتهما مع من هو خير منك: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عمر: إني ليس بي إياكم أيها الرهط، ولكني أخاف أن يأتي بعدكم قوم يصلون ما بين العصر إلى المغرب، حتى يمرون بالساعة التي نهى عنها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يُصَلَّى فيها، كما صَلَّوا بين الظهر والعصر، ثم يقولون: قد رأينا فلانًا، وفلانًا يصلون بعد العصر".

وأخرج أيضًا عن زيد بن خالد الجهني: "أن عمر رآه يصلي بعد العصر ركعتين -وعمر خليفة- فضربه بالدِّرَّة، وهو يصلي، كما هو، فلما انصرف قال له زيد: يا أمير المؤمين، فوالله لا أدَعُهُمَا أبدًا بعد إذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليهما، فجلس إليه عمر، وقال: يا زيد بن خالد لولا أن أخشى أن يتخذهما الناس سُلَّمًا إلى الصلاة حتى الليل لم أضرب فيهما".

فهذا نص جلي ثابت عن عمر بإجازته التطوع بعد العصر. ما لم تصفر الشمس، وتقارب المغرب.

ورَوَيْنَا بالإسناد الثابت عن شعبة، عن أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي، قال: قال ابن عباس: لقد رأيت عمر بن الخطاب يضرب الناس على الصلاة بعد العصر، ثم قال ابن عباس: صَلِّ إن شئت ما بينك وبين أن تغيب الشمس.

ص: 366

قال علي: هم يقولون: في الصاحب يروي الحديث، ثم يخالفه: لولا أنه كان عنده علم بنسخه ما خالفه، فيلزمهم أن يقولوا ها هنا: لولا أنه كان عند ابن عباس علم أثْبَتُ من فعل عمر ما خالف ما كان عليه مع عمر.

وبمثله عن شعبة، عن أبي شعيب، عن طاوس: سُئِلَ ابن عمر عن الركعتين بعد العصر؟ فرخص فيهما.

قال علي: هلا قالوا: إن ابن عمر لم يكن ليخالف أباه لولا فضل علم كان عنده أثبت من فعل أبيه؟

وروينا عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح: أن عائشة، وأم سلمة أمَّي المؤمنين كانتا تركعان ركعتين بعد العصر. وروينا عن حماد بن سلمة، وهشام بن عروة، قال حماد: عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، قال: كانت عائشة أم المؤمنين تصلي ركعتين بعد العصر، وهي قائمة، وكانت ميمونة أم المؤمنين تصلي

أربعًا، وهي قاعدة، فَسُئلت عن ذلك؟ فقالت عن عائشة: أنها شابة، وأنا عجوز، فأصلي أربعًا بدل ركعتيها.

قال علي: هذا يبطل رواية مَنْ رَوَى عن أم سلمة: "أنقضيهما نحن؟ قال: لا".

وقال هشام عن أبيه: كان الزبير، وعبد الله بن الزبير يصليان بعد العصر ركعتين. روينا عن عبد الرزاق، عن معمر، عن هشام بن عروة:

ص: 367

كنا نصلي مع ابن الزبير العصر في المسجد الحرام، فكان يصلي بعد العصر ركعتين، وكنا نصليهما معه، نقوم صفًا خلفه.

وعن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن السائب بن يزيد، قال: سبح المنكدر بعد العصر، فضربه عمر.

قال علي: المنكدر، والسائب صاحبان لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه: أن أبا أيوب الأنصاري كان يصلي قبل خلافة عمر ركعتين بعد العصر، فلما استُخلِفَ عمر تركهما، فلما توفي عمر ركعهما، فقيل له: ما هذا؟ فقال: إن عمر كان يضرب الناس عليهما.

قال علي: في هذا الحديث بيان واضح أن أبا بكر الصديق، وعثمان رضي الله عنهما كانا يُجِيزَان الركوع بعد العصر.

وروينا عن عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، وسفيان جميعًا، قالا: ثنا أبو إسحاق السبيعي، عن عاصم بن ضمرة: أن علي بن أبي طالب كان في سفر، فصلى العصر، ثم دخل فسطاطه، فصلى ركعتين.

وعن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن أبي إسحاق السبيعي، قال: سألت أبا جحيفة عن الركعتين بعد العصر؟ فقال: إن لم ينفعاك لم يضراك. وعن يحيى بن سعيد القطان، عن شعبة: ثنا يزيد بن خمير، عن عبد الله بن يزيد، عن جُبَير بن نُفَير، قال: كتب عمر إلى عمير بن

ص: 368

سعد، ينهاه عن الركعتين بعد العصر، فقال أبو الدرداء: أما أنا فلا أتركهما، فمن شاء أن يَنْحَضِجَ فَلْيَنْحَضِج

(1)

.

وعن حماد بن زيد: ثنا أنس بن سيرين، قال: خرجت مع أنس بن مالك إلى أرضه ببذق سيرين

(2)

وهي خمس فراسخ، فحضرت صلاة العصر، فأمنا قاعدًا على بساط في السفينة، فصلى بنا ركعتين، ثم سلم، ثم صلى بنا ركعتين.

وعن يزيد بن هارون، عن عمار بن معاوية الدُّهني، عن أبي شعبة التميمي، قال: رأيت الحسن بن علي بن أبي طالب يطوف بعد العصر، ويصلي. وعن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، عن قيس ابن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لم يُنْه عن الصلاة إلا عند غروب الشمس.

وعن عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي إسحاق السبيعي، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود في حديث: "سيأتي عليكم زمان كثير خطباؤه، قليل علماؤه، يطيلون الخطبة، ويؤخرون الصلاة، حتى يقال: هذا شرق الموتى، قلت: وما شرق الموتى؟ قال: إذا اصْفَرَّت

(1)

انحضج الرجل -بالحاء المهملة، والضاد المعجمة، وآخره جيم-: التهب غضبًا، واتقد من الغيظ، فلزق بالأرض. اهـ من هامش المحلى.

(2)

قال محقق المحلى أحمد محمد شاكر: قد أعجزني أن أعرف هذا الموضع، أو صحة اسمه، فيراجع إن شاء الله اهـ.

ص: 369

الشمس جدًا، فمن أدرك ذلك منكم، فليصل الصلاة لوقتها، فإن احتبس فليصل معهم، وليجعل صلاته وحده الفريضة، وصلاته معهم تطوعًا.

قال علي: فهؤلاء أكابر الصحابة رضي الله عنهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير، وعائشة، وأم سلمة، وميمونة، أمهات المؤمنين، وابن الزبير، ومَنْ بحضرته من الصحابة، وتميم الداري، والمنكدر، وزيد بن خالد الجُهَني، وابن عباس، وابن عمر، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو جحيفة، وأبو الدرداء، وأنس، والحسن بن علي،

وبلال، وطارق بن شهاب، وابن مسعود، وروي أيضًا عن النعمان بن بشير، وغيرهم، فمن بقي؟

وما نعلم لهم متعلقًا بأحد من الصحابة رضي الله عنهم إلا رواية عن أبي سعيد الخدري، جعلها خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا قال صاحب: هي خاصة، وقال آخرون منهم: هي عامة، فالسير على العموم حتى يأتي نص صحيح بأنها خصوص، ولا سبيل إلى وجوده، وأخرى عن معاوية ليس فيها نهي عنهما، بل فيها: إن الناس كانوا يصلونها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرى مرسلة لا تصح عن ابن مسعود، ليس فيها أيضا إلا: وأنا أكره ما كَرِهَ عمر، وقد صح عن عمر، وعن ابن مسعود إباحة ذلك، وعن أبي بكرة المنع من الصلاة

جملة من حين صفرة الشمس.

ص: 370

وأما التابعون فكثير، منهم هشام بن عروة، وأنس بن سيرين، كما ذكرنا آنفًا. وعن عبد الرزاق، عن معمر، عن عبد الله بن طاوس، قال: كان أبي لا يدعهما، يعني الركعتين بعد العصر.

وعن حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن يزيد بن طلق: أن عبد الرحمن بن البَيْلَماني كان يصلي بعد العصر ركعتين.

وعن عبد الرزاق، عن ابن جريج أخبرني إبراهيم بن مَيْسَرَة، أن طاوسًا صلى بحضرته ركعتين بعد العصر، ثم قال له: أتصلي بعد العصر؟ قلت: نعم، قال: أكرمت والله.

وعن يحيى بن سعيد الْقَطَّان، عن شعبة، عن أشعث بن أبي الشَّعْثَاء، قال: سافرت مع أبي، وعمرو بن ميمون، والأسود، ومسروقَ، وأبي وائل، فكانوا يصلون بعد الظهر ركعتين، وبعد العصر ركعتين.

وعن محمد بن جعفر غندر: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: رأيت شريحًا القاضي يصلي بعد العصر ركعتين.

وعن محمد بن المثنى، عن معاذ بن معاذ العنبري: ثنا أبي، عن قتادة، قال: كان سعيد بن المسيب يصلي بعد العصر ركعتين.

وعن محمد بن المثنى: ثنا أبو عاصم النبيل، عن عمر بن سعيد، قال: رأيت القاسم بن محمد ابن أبي بكر يطوف بعد العصر، ويصلي ركعتين، وكذلك أيضًا عن الحسن.

ص: 371

فهؤلاء: هشام بن عروة، وأنس بن سيرين، وطاوس، وعبد الرحمن ابن البيلماني، وإبراهيم بن ميسرة، وأبو الشعثاء، وأشعث ابنه، وعمرو بن ميمون، ومسروق، والأسود، وأبو وائل، وشريح القاضي، وسعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وغيرهم، كعبد الله بن أبي الهذيل، وأبي بردة بن أبي موسى، وعبد الرحمن بن الأسود، والأحنف بن قيس، وبهما يقول أبو خيثمة، وأبو أيوب الهاشمي، وبه نأخذ إن شاء الله تعالى. "المحلى" جـ 2 ص 272 - 275، وجـ 3 ص 2 - 7.

قال الجامع: الحاصل أن الراجح جواز الصلاة بعد العصر، مادامت الشمس بيضاء نقية، لصحة الحديث به، وعمل أهل العلم من الصحابة، ومن بعدهم ممن ذكرهم أبو محمد بن حزم رحمه الله تعالى به، فيكون حديث النهي عن الصلاة بعد العصر مخصصًا بحديث الباب. والله أعلم.

تنبيه:

حديث علي رضي الله عنه هذا: صحيح، أخرجه المصنف هنا (573) بالسند المذكور، وفي "الكبرى"(1552)، عن عمرو بن علي، عن عبد الرحمن، عن شعبة -وسفيان- كلاهما عن منصور، عن هلال بن يساف، عن وهب بن الأجدع، عنه.

وأخرجه أبو داود في "الصلاة" عن مسلم بن إبراهيم، عن شعبة، به. والله أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 372

574 -

أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي: قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: "مَا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم السَّجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ عِنْدِي قَطُّ".

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(عبيد الله بن سعيد) أبو قُدَامة اليشكري، السرخسي نزيل نيسابور، ثقة مأمون سني، من [10]، تقدم في 15/ 15.

2 -

(يحيى) بن سعيد القَطَّان البصري، ثقة ثبت حجة، من [9]، تقدم في 4/ 4.

3 -

(هشام) بن عروة، أبو المنذر المدني، ثقة فقيه، ربما دلس، من [5]، تقدم في 49/ 61.

4 -

(عروة) بن الزبير المدني، ثقة فقيه، من [3]، تقدم في 40/ 44.

5 -

(عائشة) رضي الله عنها، تقدمت في 5/ 5. والله تعالى أعلم.

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسياته، ورجاله كلهم ثقات، وهم مدنيون إلا شيخه، ويحى، فبصريان، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وفيه عائشة من المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

ص: 373

شرح الحديث

(عن عائشة) رضي الله عنها، أنها (قالت: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم السجدتين) أي الركعتين.

(بعد العصر عندي قط) قال في "ق": وما رأيته قطٍّ، بفتح القاف، وضم الطاء مشددة، ويضمان، ويخففان، وقَطٍّ مشددة مجرورة: بمعنى الدهر، مخصوص بالماضي، أي فيما مضى من الزمان، أو فيما انقطع من عمري اهـ.

وقد نظم شيخنا العلامة عبد الباسط بن محمد المناسي النحوي رحمه الله لغات "قط" هذه فقال:

وخَمْسَة جَعَلَ مَنْ قَط ضَبَطْ

قَطُّ وَقُطُّ، قَطِّ، ثمَّ قُطُ، قَطْ

قال في "الفتح": تمسك بهذه الروايات -يعني روايات عائشة رضي الله عنها في الباب- من أجاز التنفل بعد العصر مطلقًا ما لم يقصد الصلاة عند غروب الشمس، وقد تقدم نقل المذاهب في ذلك.

قال الجامع: هذا المذهب هو الراجح، كما تقدم تحقيقه في شرح حديث علي رضي الله عنه.

قال: وأجاب عنه من أطلق الكراهة بأن فعله هذا يدل على جواز استدراك ما فات من الرواتب من غير كراهة، وأما مواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك فهو من خصائصه، والدليل عليه رواية ذكوان مولى عائشة أنها

ص: 374

حدثته أنه صلى الله عليه وسلم "كان يصلي بعد العصر، وينهى عنها، ويواصل، وينهى عن الوصال" رواه أبو داود، ورواية أبي سلمة عن عائشة في نحو هذه القصة، وفي آخره:"وكان إذا صلى صلاة أثبتها". رواه مسلم. قال

البيهقي: الذي اختص به صلى الله عليه وسلم المداومة على ذلك، لا أصل القضاء، وأما ما روي عن ذكوان، عن أم سلمة في هذه القصة أنها قالت:"فقلت: يا رسول الله أنقضيهما إذا فاتتا؟ فقال: "لا" فهي رواية ضعيفة، لا تقوم بها حجة، قال الحافظ: أخرجها الطحاوي، واحتج بها على أن ذلك كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم، وفيه ما فيه. اهـ فتح جـ 2 ص 77.

قال الجامع: تقدم قريبًا ترجيح القول بإباحة الصلاة بعد العصر ما لم تصفر الشمس، لقوة دليله، فتبصر. وبالله التوفيق.

تنبيه:

حديث عائشة رضي الله عنها هذا، أخرجه البخاري في "الصلاة" وفي "الوتر" عن مسدد، عن يحيى بن سعيد القَطَّان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عنها. وأخرجه المصنف هنا (574)، وفي "الكبرى"(1553) عن عبيد الله بن سعيد، عن يحيى القطان به. والله تعالى أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

575 -

أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ

ص: 375

عنها: "مَا دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الْعَصْرِ، إِلاَّ صَلاَّهُمَا".

رجال الإسناد: ستة

1 -

(محمد بن قُدَامة) بن أعين الهاشمي مولاهم الْمِصِّيصِيُّ، ثقة، توفي سنة 250 تقريبًا، من [10]، أخرج له أبو داود، والنسائي، تقدم في "الحيض"392.

2 -

(جرير) بن عبد الحميد الضبي الكوفي نزيل الرّيّ، ثقة ثبت، من [8]، تقدم في 2/ 2.

3 -

(مُغِيرَةُ) بن مقْسَم الضبي مولاهم أبو هشام الكوفي الأعمى، ثقة متقن، إلا أنه يدلس، ولا سيما عن إبراهيم، توفي سنة 136 على الصحيح، من [6]، أخرج له الجماعة، تقدم في 188/ 300.

4 -

(إِبراهيم) بن يزيد النخعي الكوفي الفقيه، ثقة يرسل كثيرًا، من [5]، تقدم في 29/ 33.

5 -

(الأسود) بن يزيد بن قيس النخعي، الكوفي مخضرم ثقة مكثر فقيه، من [2]، تقدم في 29/ 33.

6 -

(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدمت في 5/ 5. والله تعالى أعلم.

تنبيه:

حديث عائشة رضي الله عنها هذا صحيح، وهو من أفراد المصنف،

ص: 376

كما أشار إليه الحافظ المِزِّي في "تحفته" جـ 11 ص 367، أخرجه هنا (575)، وفي "الكبرى"(1554) بهذا السند. والله تعالى أعلم.

تنبيه:

قول عائشة هنا: "ما دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العصر إلا صلاهما"، مرادها من الوقت الذي شغل عن الركعتين بعد الظهر، فصلاهما بعد العصر، ولم ترِدْ أنه كان يصلي ركعتين من أول ما فُرِضَت الصلوات مثلًا إلى آخر عمره، بل في حديثها الآتي (578) وحديث أم سلمة الآتي (579، 580)، ما يدل على أنه لم يكن يفعلهما قبل ذلك الوقت الذي ذكرت أنه قضاهما فيه. أفاده في الفتح. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

576 -

أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ مَسْرُوقًا، وَالأَسْوَدَ، قَالَا: نَشْهَدُ عَلَى عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ عِنْدِي بَعْدَ الْعَصْرِ صَلاَّهُمَا".

رجال الإسناد: سبعة

1 -

(إِسماعيل بن مسعود) الجَحْدَري البصري أبو مسعود، ثقة، من [10]، أخرج له النسائي، تقدم في 42/ 47.

ص: 377

2 -

(خالد بن الحارث) الهُجَيميُّ أبو عثمان البصري، ثقة ثبت، من [8]، تقدم في 42/ 47.

3 -

(شعبة) بن الحجاج العتكي الواسطي، ثم البصري، ثقة ثبت حجة، من [7]، تقدم في 24/ 26.

4 -

(أبو إِسحاق) عمرو بن عبد الله السَّبيعي الكوفي، ثقة عابد اختلط بآخره، من [3]، تقدم في 38/ 42.

5 -

(مسروق) بن الأجدع الهَمْدَاني الكوفي، ثقة فقيه عابد مخضرم، من [2]، تقدم في 90/ 112.

6 -

(الأسود) بن يزيد المتقدم في السند السابق، وكذا:

7 -

(عائشة) رضي الله عنها.

والحديث واضح المعنى. والله تعالى أعلم.

تنبيه:

حديث عائشة رضي الله عنها هذا متفق عليه.

أخرجه المصنف هنا (576)، وفي "الكبرى"(1555) بالسند المذكور.

وأخرجه البخاري في "الصلاة" عن محمد بن المثنى، ومحمد بن بشار، كلاهما عن غندر.

وأبو داود فيه عن حفص بن عمر- ثلاثتهم عن شعبة به. والله أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 378

577 -

أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:"صَلَاتَانِ مَا تَرَكَهُمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِي سِرًّا، وَلَا عَلَانِيَةً، رَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعَصْرِ".

رجال الإسناد: ستة

1 -

(علي بن حجر) السَّعْدي المروزي نزيل بغداد، ثم مرو، ثقة حافظ، من صغار [9]، تقدم في 13/ 13.

2 -

(علي بن مسهر) القرشي الكوفي قاضي الموصل، ثقة له غرائب بعدما أضر، من [8]، تقدم في 52/ 66.

3 -

(أبو إِسحاق) سليمان بن أبي سليمان فيروز الشيباني الكوفي، ثقة، توفي في حدود 140، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 172/ 267.

4 -

(عبد الرحمن بن الأسود) بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي، ثقة، توفي سنة 99، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 38/ 42.

5 -

(الأسود) بن يزيد.

6 -

(عائشة) تقدما في الذي قبله.

ص: 379

تنبيه:

حديث عائشة رضي الله عنها هذا متفق عليه.

أخرجه البخاري في "الصلاة" عن موسى بن إسماعيل، عن عبد الواحد بن زياد.

ومسلم فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعلي بن حجر، كلاهما عن علي بن مسهر.

وأخرجه المصنف هنا (577) عن علي بن حجر، عن علي بن مسهر كلاهما عن أبي إسحاق الشيباني، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عنها. والله أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

578 -

أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَرْمَلَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنِ السَّجْدَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الْعَصْرِ؟ فَقَالَتْ:"إِنَّهُ كَانَ يُصَلِّيهِمَا قَبْلَ الْعَصْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ شُغِلَ عَنْهُمَا، أَوْ نَسِيَهُمَا، فَصَلاَّهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، وَكَانَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَثْبَتَهَا".

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(علي بن حجر) السعدي تقدم في السند السابق.

ص: 380

2 -

(إِسماعيل) بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري الزرقي المدني أبو إسحاق القاريء، ثقة ثبت، توفي سنة 180، من [8]، أخرج له الجماعة، تقدم في 16/ 17.

3 -

(محمد بن أبي حَرْمَلَة) القرشي أبو عبد الله المدني، مولى عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حويطب، وقد ينسب إليه، ثقة، توفي سنة بضع و 130، من [6].

قال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن سعد: توفي في أول خلافة أبي جعفر المنصور، وكان كثير الحديث. أخرج له البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي.

4 -

(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف المدني الفقيه، ثقة، من [3]، تقدم في 1/ 1.

5 -

(عائشة) رضي الله عنها، تقدمت في 5/ 5. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف، اختلف في اسمه، فقيل: عبد الله، وقيل: إسماعيل.

(أنه سأل عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها (عن السجدتين) أي الركعتين (اللتين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليهما بعد العصر؟ فقالت: كان) صلى الله عليه وسلم (يصليهما قبل العصر، ثم إِنه شغل) بالبناء

ص: 381

للمفعول، والنائب عن الفاعل ضمير النبي صلى الله عليه وسلم.

(عنهما) متعلق بشغل، أي عن أدائهما قبل العصر (أو نسيهما) يحتمل أن يكون الشك من عائشة رضي الله عنها، يعني أنها شكت في سبب تأخيره لهما، هل هو الشغل، أو النسيان؟ ويحتمل أن يكون من أبي سلمة، يعني أنه شك فيما ذكرت عائشة من سبب التأخير، وقد بُين في حديث أم سلمة الآتي أن السبب هو الشغل. والله أعلم.

قال النووي رحمه الله. هذا الحديث ظاهر في أن المراد بالسجدتين ركعتان، هما سنة العصر قبلها، وقال القاضي رحمه الله: ينبغي أن تحمل على سنة الظهر، كما في حديث أم سلمة، ليتفق الحديثان، وسنة الظهر تصح تسميتها أنها قبل العصر. اهـ "شرح مسلم" جـ 6 ص 122.

(فصلاهما بعد العصر) قضاءً عما فاته.

(وكان) صلى الله عليه وسلم (إذا صلى صلاة أثبتها) أي داوم عليها.

تنبيه:

حديث عائشة رضي الله عنها هذا أخرجه مسلم في "الصلاة" عن قتيبة، ويحيى بن أيوب، وعلي بن حجر- ثلاثتهم عن إسماعيل بن جعفر بإسناد المصنف، وأخرجه المصنف هنا (578)، وفي الكبرى (1556)، بالسند المذكور. وبالله التوفيق، وعليه التكلان، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

579 -

أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ،

ص: 382

قَالَ: سَمِعْتُ مَعْمَرًا، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي بَيْتِهَا بَعْدَ الْعَصْرِ رَكْعَتَيْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأَنَّهَا ذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ؟ فَقَالَ:"هُمَا رَكْعَتَانِ، كُنْتُ أُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الظُّهْرِ، فَشُغِلْتُ عَنْهُمَا حَتَّى صَلَّيْتُ الْعَصْرَ".

رجال الإسناد: ستة

1 -

(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني، ثم البصري، ثقة، توفي سنة 245، من [10]، تقدم في 5/ 5.

2 -

(المعتمر) بن سليمان التيمي، أبو محمد البصري، يلقب بالطُّفَيل، ثقة، توفي سنة 187، وقد جاوز 80 سنة، من كبار [9]، أخرج له الجماعة، تقدم في 10/ 10.

3 -

(معمر) بن راشد الأزدي مولاهم أبو عروة البصري، نزيل اليمن، ثقة ثبت فاضل، إلا أن في روايته عن ثابث، والأعمش، وهشام بن عروة شيئًا، وكذا فيما حدث به بالبصرة، توفي. سنة 154، وهو ابن 58 سنة، من كبار [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 10/ 10.

4 -

(يحيى بن أبي كثير) صالح بن المتوكل الطائي مولاهم، أبو نصر اليمامي، ثقة ثبت، لكنه يدلس، ويرسل، توفي سنة 132، وقيل

ص: 383

قبل ذلك، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 23/ 24.

5 -

(أبو سلمة بن عبد الرحمن) تقدم في السند السابق.

6 -

(أم سلمة) هند بنت أبي أمية المخزومية، أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدمت في 123/ 183. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف، وأن رواته كلهم ثقات، اتفقوا عليهم، إلا شيخه، فما أخرج له البخاري، وأخرج له أبو داود في القدر، وأنهم بصريون، إلا أبا سلمة، وأم سلمة فمدنيان، وفيه رواية تابعي، عن تابعي، وفيه أبو سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أم سلمة) هند بنت أمية أم المؤمنين رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في بيتها بعد العصر ركعتين مرة واحدة) أي في أول ما صلى، فلا ينافي ما تقدم أنه داوم عليها، فتنبه.

(وأنها) أي أم سلمة (ذكرت ذلك له) أي سألته عن الركعتين، وقد ساق البخاري رحمه الله حديثها مطولًا، وفيه بيان سؤالها له صلى الله عليه وسلم، فقال في "باب إذا كُلِّمَ، وهو يصلي، فأشار بيده، واستمع" من "كتاب السهو": حدثنا يحيى بن سليمان، قال: حدثني ابن وهب، قال:

ص: 384

أخبرني عمرو عن بكير، عن كريب: أن ابن عباس، والمسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن أزهر رضي الله عنهم أرسلوه إلى عائشة رضي الله عنها: فقالوا: اقرأ عليها السلام منا جميعًا، وسلها عن الركعتين بعد صلاة العصر، وقل لها: إنا أخْبِرْنَا أنك تصلينهما، وقد بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنهما، وقال ابن عباس: وكنت أضرب الناس مع عمر بن الخطاب عنهما.

قال كريب: فدخلت على عائشة رضي الله عنها، فبلغتها ما أرسلوني، فقالت: سل أم سلمة، فخرجت إليهم، فأخبرتهم بقولها، فردوني إلى أم سلمة بمثل ما أرسلوني به إلى عائشة، فقالت أم سلمة رضي الله عنها: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عَنْهَا، ثم رأيته يصليهما حين صلى العصر، ثم دخل علي، وعندي نسوة من بني حَرَامٍ من الأنصار، فأرسلت إليه الجارية، فقلت: قومي بجنبه قولي له: تقول لك أم سلمة يا رسول الله سمعتك تنهى عن هاتين، وأراك تصليهما، فإن أشار بيده، فاستأخري عنه، فَفَعَلَتِ الجاريةُ، فأشار بيده، فاستأخرت عنه، فلما انصرف قال: يا ابنة أبي أميَة، سألت عن الركعتين بعد العصر، وإنه أتاني ناس من عبد قيس، فشغلوني عن الركعتين بعد الظهر، فهما هاتان". انتهى "صحيح البخاري" جـ 2 ص 88.

(فقال) صلى الله عليه وسلم (هما ركعتان، كنت أصليهما بعد الظهر، فَشُغِلْتُ عنهما) بالبناء للمفعول، كما تقدم، وقد مر آنفًا سبب شغله.

(حتى صليت العصر) غاية لشغله، أي شغلت من أدائهما إلى أن

ص: 385

صليت العصر، فصليتهما بعده قضاءً. والله أعلم.

قال الجامع: حديث أم سلمة رضي الله عنها هذا صحيح، وهو بهذا السياق من أفراد المصنف، كما أشار إليه الحافظ المزي في "تحفته" جـ 13 ص 43، أخرجه هنا (579)، وفي "الكبرى"(1557) بالسند المذكور. وبالله تعالى التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

580 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: شُغِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْعَصْرِ، فَصَلاَّهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ.

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(إِسحاق بن إِبراهيم) الحنظلي ابن راهويه الحافظ الحجة، من [10]، تقدم في 2/ 2.

2 -

(وكيع) بن الجَرَّاح بن مَلِيح، أبو سفيان الرُّؤَاسي الكوفي، ثقة حافظ عابد، توفي في آخر سنة 196 أو أول 197، وله 70 سنة، من كبار [9]، أخرج له الجماعة، تقدم في 23/ 25.

3 -

(طلحة بن يحيى) بن طلحة بن عبيد الله التيمي المدني، نزيل

ص: 386

الكوفة، صدوق يخطىء، من [6].

قال ابن المديني عن يحيى القطان: لم يكن بالقوي، وعمر بن عثمان أحب إلي منه. وقال أحمد: صالح الحديث، وهو أحب إلي من بُرَيد ابن أبي بُرْدَةَ، بريد له أحاديث مناكير، وطلحة إنما أنكر عليه حديث "عصفور من عصافير الجنة".

وقال ابن معين: ثقة، وقدمه على أخيه إسحاق، وقال يعقوب بن شيبة، والعجلي: ثقة. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أبو داود: ليس به بأس. وقال أبو زرعة، والنسائي: صالح. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، حسن الحديث، صحيح الحديث.

وقال ابن عدي: روى عنه الثقات، وما برواياته عندي بأس. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان يخطىء.

وقال الفَلاسُ: ولد هو، والأعمش، وهشام بن عروة، وعمر بن عبد العزيز سنة 61، وقال صالح بن أحمد عن أبيه، والحاكم عن الدارقطني: ثقة. وقال يعقوب بن شيبة أيضًا: لا بأس به، في حديثه لين. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث صالحة، وأمه أم أبان بنت أبي موسى الأشعري. وقال الساجي: صدوق، لم يكن بالقوي.

وقال ابن معين: مات سنة 148، وقال ابن حبان: سنة 146، قال: وقد قيل: إنه رأى ابن عمر، وليس عليه اعتماد. أخرج له مسلم، والأربعة. اهـ. تت بتصرف جـ 5 ص 28.

ص: 387

4 -

(عبيد الله بن عبد الله بن عتبة) بن مسعود الهذلي، أبو عبد الله المدني، ثقة فقيه ثبت، توفي سنة 94، وقيل: 98، وقيل: غير ذلك، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 45/ 56.

5 -

(أم سلمة) رضي الله عنها، تقدمت في الذي قبله.

قال الجامع: حديث أم سلمة هذا صحيح، وهو بهذا السياق من أفراد المصنف، كما أشار إليه الحافظ المزي في "تحفته" جـ 13 ص 23، أخرجه هنا (580)، وفي "الكبرى"(1558)، بالسند المذكور، وهو واضح المعنى لا يحتاج إلى إعادة ما تقدم من الكلام. والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 388

‌37 - الرُّخصَةُ فِي الصَّلاةِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ

581 -

أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ حُدَيْرٍ، قَالَ: سَأَلْتُ لَاحِقًا عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ؟ فَقَالَ: كَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ يُصَلِّيهِمَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ، مَا هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ؟ فَاضْطَرَّ الْحَدِيثَ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ:"إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْعَصْرِ، فَشُغِلَ عَنْهُمَا، فَرَكَعَهُمَا حِينَ غَابَتِ الشَّمْسُ، فَلَمْ أَرَهُ يُصَلِّيهِمَا قَبْلُ، وَلَا بَعْدُ".

رجال الإسناد: ستة

1 -

(عثمان بن عبد الله) بن محمد بن خُرَّزَاذَ - بضم المعجمة، وتشديد الراء، بعدها زاي ثم ذال معجمتان- أبو عمرو البصري نزيل أنطاكية، ثقة، توفي سنة 281، وقيل: في أول التي بعدها، من صغار [11]، أخرج له النسائي، تقدم في 112/ 155.

2 -

(عبيد الله بن معاذ) بن معاذ بن نصر بن حسان بن الحر بن

ص: 389

مالك بن الخشخاش العنبري، أبو عمرو البصري، ثقة حافظ، رجح ابن معين أخاه الْمُثَنَّى عليه، من [10].

قال أبو حاتم: ثقة. وقال الآجري عن أبي داود: كان يحفظ، وكان فصيحًا. وذكره ابن حبان في الثقات. قال البخاري، وموسى بن هارون: مات سنة 237، وقال ابن أخيه معاذ بن المثنى: مات سنة 38، وكذا أرخه ابن قانع، وقال: هو ثقة. وقال إبراهيم بن الجنيد عن ابن معين: ابنُ سمينة، وشَبَابٌ، وعبيد الله بن معاذ ليسوا أصحاب

حديث، ليسوا بشيء، ومُثَنَّى بن معاذ لا بأس به.

وفي "الزهرة" روى عنه البخاري، 7 أحاديث، وروى في مواضع عن غير واحد عنه، وروى عنه مسلم 167 حديثًا. أخرج له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والمصنف.

3 -

(معاذ بن معاذ) بن نصر بن حسان العنبري، أبو المثنى البصري القاضي، ثقة متقن، توفي سنة 196، من كبار [9]، أخرج له الجماعة، تقدم في 34/ 38.

4 -

(عمران بن حُدَير) بمهملات مصغرًا -السَّدُوسي، أبو عبيدة بالضم- البصري، ثقة ثقة، من [6].

صلى على جنازة خلف أنس. قال أبو حاتم: حدثني عبد الله بن دينار البصري، قال: ذكر شعبة عمرانَ بن حُدَير، فقال: كان شيئًا

ص: 390

عجبًا، كأنه يثبته. وقال يزيد بن هارون: كان أصدق الناس. وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: بخ بخ ثقة.

وقال ابن معين، والنسائي: ثقة. وقال ابن المديني: ثقة، من أوثق شيخ بالبصرة. وذكره ابن حبان في الثقات. قال البخاري: قال أبو قطن: مات سنة 149. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث.

وقال ابن شاهين في الثقات: قال أحمد بن حنبل: هو صدوق صدوق. وقال ابن خلفون. وثقه ابن نمير، وأحمد بن صالح، وغيرهما، ووصفه عثمان بن الهيثم بأنه أصدق الناس. أخرج له مسلم، وأبو داود، والترمذي، والمصنف.

5 -

(لاحِق) بن حُمَيد بن سَعِيد السَّدُوسي أبو مِجْلَزٍ البصري، مشهور بكنيته، ثقة، توفي سنة 106، وقيل: 109، وقيل: قبل ذلك، من كبار [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 188/ 296.

6 -

(أم سلمة) رضي الله عنها تقدمت قريبًا. والله أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف، وأن رجاله ثقات.

ومنها: أنه مسلسل بالبصريين، إلا الصحابية، فمدنية.

ومنها: أن شيخه ممن انفرد هو به.

ومنها: أن عبيد الله بن معاذ، وعمران بن حُدَير هذا أول محل

ص: 391

ذكرهما في الكتاب. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

قال عمران بن حُدَير رحمه الله: (سألت لاحقًا) هو ابن حميد أبو مجْلَزٍ البصري (عن) حكم (الركعتين قبل غروب الشمس؟ فقال) لاحق (كان عبد الله بن الزبير) بن العوام القرشي الأسدي، أبو بكر، وأبو خبيب -بالمعجمة، مصغرًا- كان أول مولود في الإسلام بالمدينة من المهاجرين، ولي الخلافة تسع سنين، وقتل في ذي الحجة سنة 73، (يصليهما) أي الركعتين عند الغروب (فأرسل إِليه معاوية) بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية الأموي، أبو عبد الرحمن الخليفة، صحابي أسلم قبل الفتح، وكتب الوحي، ومات في رجب سنة 60، وقد قارب 80 سنة.

(ما هاتان الركعتان عند غروب الشمس؟ فاضطر الحديث إِلى أم سلمة) أي ألجأ عبدُ الله بنُ الزبير حديث الصلاة عند غروب الشمس إلى أم سلمة رضي الله عنها، وأسنده إليها، يقال: اضطره إلى كذا، وضره إليه: ألجأ إليه، وليس له منه بُدٌّ. أفاده في "المصباح".

وحاصل المعنى أن معاوية لما سأل عبد الله بن الزبير عن دليله في تجويزه الصلاة وقت غروب الشمس مع أنه ثبت النهي عن ذلك، أسند عبد الله ذلك إلى أم سلمة رضي الله عنها.

ص: 392

(فقالت أم سلمة: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين قبل العصر، فشغل عنهما) فلم يصلهما (فركعهما حين غابت الشمس) أي عند الغروب (فلم أره يصليهما قبلُ، ولا بعدُ) أي قبل ذلك اليوم، ولا بعده، تعني أنه لم يَعُدْ إليهما، وهذا يدل على أن هاتين الركعتين غير الركعتين اللتين كان يداوم عليهما بعد قضائه، فإنهما بَعْديَّتَا الظهر، وهاتان قبليتا العصر، ويحتمل أن تكون الركعتان هما اللتان بعد الظهر، لكن أم سلمة لم تعرف دوامه عليهما، فيكون النفي لعلمها فقط، وهذا هو الذي ذكره الحافظ رحمه الله تعالى في "الفتح" حيث قال:

[فائدة]: رَوَى الترمذي من طريق جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: "إثما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الركعتين بعد العصر، لأنه أتاه مال فشغله عن الركعتين بعد الظهر، فصلاهما

بعد العصر، ثم لم يَعُدْ"، قال الترمذي: حديث حسن.

قال الحافظ. وهو من رواية جرير، عن عطاء، وقد سمع منه بعد اختلاطه، وإن صح فهو شاهد لحديث أم سلمة، لكن ظاهر قوله:"ثم لم يعد" معارض لحديث عائشة المذكور في هذا الباب، فيحتمل النفي على علم الراوي، فإنه لم يطلع على ذلك، والمثبت مقدم على النافي.

وكذا ما رواه النسائي من طريق أبي سلمة، عن أم سلمة: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في بيتها بعد العصر ركعتين مرة واحدة

"

ص: 393

الحديث، وفي رواية له عنها:"لم أره يصليهما قبل، ولا بعد"، فيجمع بين الحديثين بأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يصليهما إلا في بيته، فلذلك لم يره ابن عباس، ولا أم سلمة، ويشير إلى ذلك قول عائشة في الرواية الأولى:"وكان لا يصليهما في المسجد مخافة أن يثقل على أمته". اهـ "فتح" جـ 2 ص 77 - 78.

قال الجامع: الاحتمال الأول هو الذي يظهر لي. والله أعلم.

تنبيه:

حديث أم سلمة رضي الله عنها هذا صحيح، وهو من أفراد المصنف، كما أشار إليه الحافظ المزي في "تحفته" جـ 13 ص 35 - 36، أخرجه هنا (581)، وفي "الكبرى"(1558). والله تعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 394

‌38 - الرَّخْصَةُ فِي الصَّلاةِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ

قال الجامع: كان الأولى للمصنف أن يترجم "باب استحباب الصلاة قبل المغرب" لأن الترخيص يقتضي أن يكون هناك نهي، كما هو حال الصلاة بعد العصر، كما في الباب السابق. فتنبه.

582 -

أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُفَيْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ مُضَرَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ: أَنَّ أَبَا الْخَيْرِ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا تَمِيمٍ الْجَيْشَانِيَّ، قَامَ لِيَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ، فَقُلْتُ لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: انْظُرْ إِلَى هَذَا، أَيَّ صَلَاةٍ يُصَلِّي؟ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ، فَرَآهُ، فَقَالَ: هَذِهِ صَلَاةٌ كُنَّا نُصَلِّيهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

رجال الإسناد: ثمانية

1 -

(علي بن عثمان بن محمد بن سعيد بن عبد الله بن نفيل) أبو محمد النفيلي -مصغرًا- الحراني، لا بأس به، من [11].

ص: 395

قال النسائي: ثقة، وقال في موضع آخر، لا بأس به، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال مسلمة في الصلة: ثقة. وقال ابن عقدة: توفي سنة 272.انفرد به المصنف.

2 -

(سعيد بن عيسى) بن سعيد بن تَلِيد، بفتح المثناة، وكسر اللام -الرُّعَينِيّ الْقِتْبَانِيّ- بكسر القاف، وسكون المثناة، بعدها موحدة مولاهم، أبو عثمان المصري، ثقة فقيه، من قدماء [10].

قال أبو حاتم: ثقة لا بأس به. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن يونس: توفي في الثالث عشر من ذي الحجة سنة 219، وكان فقيهًا، وكان يكتب للقضاة، وكان ثقة ثبتًا في الحديث. وقال الدارقطني: ليس به بأس. انفرد به البخاري، والمصنف، يروي له المصنف بواسطة عبد الرحمن بن عبد الله بن الحكم، وعلي بن عثمان النفيلي.

3 -

(عبد الرحمن بن القاسم) بن خالد بن جنادة العتقي، أبو عبد الله المصري، صاحب مالك، ثقة، توفي سنة 191، من كبار [10]، أخرج له البخاري، وأبو داود في "مراسيله"، والنسائي، تقدم في 19/ 20.

4 -

(بكر بن مُضَر) بن محمد بن حكيم المصري، أبو محمد، أو أبو عبد الملك، ثقة ثبت، توفي سنة 173، أو 174، وله نيف و70 سنة، من [8]، أخرج له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي،

ص: 396

والنسائي، تقدم في 122/ 173.

5 -

(عمرو بن الحارث) بن يعقوب الأنصاري مولاهم المصري، أبو أيوب، ثقة فقيه حافظ، توفي قديمًا قبل 150، من [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 63/ 79.

6 -

(يزيد بن أبي حبيب) سُوَيد، أبو رَجَاء المصري، ثقة فقيه، كان يرسل، توفي سنة 128، وقد قارب 80 سنة، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 134/ 207.

7 -

(أبو الخير) مَرْثَد بنُ عبد الله اليَزَني بفتحتين المصري، ثقة فقيه، من [3].

وقال ابن يونس: كان مفتي أهل مصر في زمانه، وكان عبد العزيز ابن مروان يُحْضِرُهُ، فيجلسه للفتيا، وذكره ابن حبان في الثقات. قال سعيد بن عفير: توفي سنة 90، وقال العجلي: مصري تابعي ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة وله فضل، وعبادة. وقال ابن شاهين في الثقات: قال ابن معين: كان عند أهل مصر مثل علقمة عند أهل الكوفة، وكان رجل صدق، ووثقه يعقوب بن سفيان. أخرج له الجماعة.

8 -

(عقبة بن عامر) الجُهَني صحابي مشهور، اختلف في كنيته على سبعة أقوال، أشهرها أبو حماد، ولي إمرة مصر لمعاوية رضي الله عنهما ثلاث سنين، وكان فقيهًا فاضلًا، مات في قرب الستين، أخرج

ص: 397

له الجماعة، تقدم في 108/ 144. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من ثمانياته، وأن رواته كلهم ثقات، مصريون، إلا شيخه فحراني.

ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي.

ومنها: أن فيه التحديث، والإخبار، والعنعنة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن يزيد بن أبي حبيب) سُوَيد (أن أبا الخير حدثه) أي حدث

يزيد (أن أبا تميم الجَيْشاني) هو عبد الله بن مالك الجيشاني -بفتح الجيم، وسكون التحتانية، بعدها معجمة- نسبة إلى جيشان، قبيلة باليمن، وموضع، كما في اللب جـ 1 ص 229 - تابعي كبير مخضرم، أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ القرآن على معاذ بن جبل، ثم قدم في زمن عمر، فشهد فتح مصر، وسكنها، قال ابن يونس: وقد عده جماعة في الصحابة لهذا الإدراك، مات سنة 77.اهـ فتح جـ 3 ص 72 بزيادة من اللب وغيره.

(قام ليركع ركعتين قبل) صلاة (المغرب) زاد الإسماعيلي: "حين يسمع أذان المغرب".

ص: 398

(فقلت لعقبة بن عامر) رضي الله عنه (انظر إِلى هذا أيَّ صلاة يصلي)"أيَّ" بالنصب مفعول مطلق ليصلي مقدم عليه وجوبًا، لأن الاستفهام له الصدر، ولا يعمل فيه ما قبله، والجملة سادة مسد مفعول "انظر". وفي رواية البخاري: "قال: أتيت عقبة بن عامر الجُهَنِيّ، فقلت: ألا أعَجِّبُكَ من أبي تميم، يركع ركعتين قبل صلاة المغرب

" الحديث، وعند الإسماعيلي "فقلت لعقبة، وأنا أريد أن أغْمِصَهُ"، وهو بمعجمة، ثم مهملة، أي أعيبه.

(فالتفت فرآه) أي التفت عقبة إلى أبي تميم، فرآه يصلي الركعتين (فقال: هذه صلاة كنا نصليها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي في زمنه، وقد بُيِّنَ في رواية البخاري سبب تركه لها بعده صلى الله عليه وسلم، حيث قال أبو الخير: قلت: "فما يمنعك الآن؟ قال: الشُّغْل". وفيه رد على قول القاضي أبي بكر بن العربي: لم يفعلهما أحد بعد الصحابة، لأن أبا تميم تابعي وقد فعلهما. وذكر الأثرم عن أحمد أنه قال: ما فعلتهما إلا مرة واحدة حين سمعت الحديث.

قال في الفتح: وفيه أحاديث جياد عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة، والتابعين، إلا أنه قال:"لمن شاء". فمن شاء صلى. اهـ جـ 3 ص 72. والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

ص: 399

حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أخرجه البخاري.

المسألة الثانية: في بيان موضعه عند المصنف:

أخرجه هنا (582) بهذا السند فقط:

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه.

أخرج البخاري في "الصلاة" عن عبد الله بن يزيد، عن سعيد بن أبي أيوب، عن حبيب بن أبي ثابت، بسند المصنف، وأخرجه الإسماعيلي، كما في "الفتح".

المسألة الرابعة: في هذا الحديث استحباب الركعتين قبل صلاة المغرب، وقد وردت أحاديث في هذا المعنى:

منها: حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"صلوا قبل صلاة المغرب"، قال في الثالثة:"لمن شاء" كراهية أن يتخذها الناس سنة. أخرجه البخاري، ويأتي للمصنف بنحوه (681)

وفي رواية أبي داود: "صلوا قبل المغرب ركعتين"، ثم قال:"صلوا قبل المغرب ركعتين"، وفي رواية أبي نعيم في المستخرج:"صلوا قبل المغرب ركعتين"، قالها ثلاثا، ثم قال:"لمن شاء".

قال في الفتح: قوله: "كراهية أن يتخذها الناس سنة" قال المحب الطبري: لم يرد نفي استحبابهما، لأنه لا يمكن أن يأمر بما لا يستحب؛ بل هذا الحديث من أقوى الأدلة على استحبابها، ومعنى قوله:"سنة"

ص: 400

أي شريعة، وطريقة لازمة، وكأن المراد انحطاط مرتبتها عن رواتب الفرائض، ولهذا لم يعدها أكثر الشافعية في الرواتب، واستدركها بعضهم. وتعقب بأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم واظب عليها. قاله في الفتح

جـ 3 ص 71 - 72.

ومنها: حديث أنس رضي الله عنه، قال:"رأيت كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري عند المغرب"، رواه البخاري. وعنه قال:"كنا نصلي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب، قال المختار بن فلفل: فقلت: أكان النبي صلى الله عليه وسلم صلاهما؟ قال: كان يرانا نصليهما، فلم يأمرنا، ولم ينهنا"، رواه مسلم، وعنه قال:"كنا بالمدينة إذا أذن المؤذن بصلاة المغرب ابتدروا السواري، فركعوا ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد، فيحسب أن الصلاة قد صليت، من كثرة من يصليهما"، رواه مسلم.

ومنها: حديث عقبة المذكور في الباب.

قال النووي رحمه الله: فهذه الأحاديث صحيحة صريحة في استحبابهما، وممن قال به من أصحابنا: أبو إسحاق الطوسي، وأبو زكريا السكري، حكاه عنهما الرافعي. وهذا الاستحباب إنما هو بعد دخول وقت المغرب، وقبل شروع المؤذن في إقامة الصلاة، وأما إذا شرع المؤذن في الإقامة فيكره أن يشرع في شيء من الصلوات غير

المكتوبة للحديث الصحيح:

ص: 401

"إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة"، رواه مسلم.

وأما الحديث الذي رواه أبو داود عن ابن عمر، قال:"ما رأيت أحدًا يصلي الركعتين قبل المغرب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " فإسناده حسن، وأجاب البيهقي، وآخرون عنه بأنه نَفَى ما لم يعلمه، وأثبته غيره ممن عَلمَهُ، فوجب تقديم رواية الذين أثبتوا، لكثرتهم، ولما معهم من علم ما لا يعلمه ابن عمر. اهـ "المجموع" جـ 3 ص 8 - 9.

وقال القرطبي وغيره: ظاهر حديث أنس -يعني المتقدم قريبًا في رواية البخاري ومسلم- أن الركعتين بعد المغرب، وقبل صلاة المغرب كان أمرًا أقر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عليه، وعملوا به، حتى كانوا يستبقون

إليه، وهذا يدل على الاستحباب، وكأن أصله قوله صلى الله عليه وسلم:"بين كل أذانين صلاة". وأما كونه صلى الله عليه وسلم لم يصلهما فلا ينفي الاستحباب بل يدل على أنهما ليستا من الرواتب. اهـ "فتح" جـ 3 ص 128.

قال الجامع: في قوله: وكأن أصله إلخ نظر؛ بل أصله قوله صلى الله عليه وسلم: "صَلُّوا قبل المغرب

" الحديث، فإنه أصرح في الدلالة على الاستحباب، من قوله: "بين كل أذانين صلاة"، فتبصر. والله أعلم.

المسألة الخامسة: ذهب إلى استحباب الركعتين قبل صلاة المغرب أحمد، وإسحاق، وأصحاب الحديث، وروي عن ابن عمر، قال: ما رأيت أحدًا يصليهما على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الخلفاء الأربعة، وجماعة من الصحابة أنهم كانوا لا يصلونهما، وهو قول مالك،

ص: 402

والشافعي، وادعى بعض المالكية نسخهما، فقال: إنما كان ذلك في أول الأمر حيث نهي عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، فَبَيَّن لهم بذلك وقت الجواز، ثم ندب إلى المبادرة إلى المغرب في أول وقتها، فلو استمرت المواظبة على الاشتغال بغيرها لكان ذلك ذريعة إلى مخالفة إدراك أول وقتها.

قال الحافظ: وتعقب بأن دعوى النسخ لا دليل عليها، والمنقول عن ابن عمر رواه أبو داود من طريق طاوس عنه، ورواية أنس المُثْبِتَةُ مقدمة على نفيه، والمنقول عن الخلفاء الأربعة رواه محمد بن نصر، وغيره من طريق إبراهيم النخعي عنهم، وهو منقطع، ولو ثبت لم يكن فيه دليل على النسخ، ولا على الكراهة، ولعلهم كان لهم شغل يمنعهم من ذلك، كما تقدم في حديث عقبة بن عامر أنه لَمَّا قيل له: فما يمنعك الآن؟ قال: الشغل.

وقد روى محمد بن نصر، وغيره من طرق قوية عن عبد الرحمن ابن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبَيِّ بن كعب، وأبي الدرداء، وأبي موسى، وغيرهم أنهم كانوا يواظبون عليهما.

وأما قول أبي بكر بن العربي: اختَلَفَ فيها الصحابة، ولم يفعلها أحد بعدهم، فمردود بقول محمد بن نصر: وقد روينا عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يصلون الركعتين قبل المغرب، ثم أخرج ذلك بأسانيد متعددة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن بريدة،

ص: 403

ويحيى بن عقيل، والأعرج، وعامر بن عبد الله بن الزبير، وعراك بن مالك، ومن طريق الحسن البصري أنه سئل عنهما، فقال: حسنتين، والله لمن أراد الله بهما. وعن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: حق على كل مؤمن إذا أذن المؤذن أن يركع ركعتين.

وعن مالك قولٌ آخرٌ باستحبابهما. وعن الشافعية وجه رجحه النووي، ومن تبعه. وقال في شرح مسلم: قول من قال: إن فعلهما يؤدي إلى تأخير المغرب عن أول وقتها خَيَال فاسد مُنَابِذٌ للسنة، ومع ذلك فزمنهما زمن يسير، لا تتأخر به الصلاة عن أول وقتها.

قال الحافظ: ومجموع الأدلة يرشد إلى استحباب تخفيفهما، كما في ركعتي الفجر.

قيل: الحكمة في الندب إليهما رجاء إجابة الدعاء، لأن الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد، وكلما كان الوقت أشرف كان ثواب العبادة فيه أكثر. اهـ "فتح" جـ 3 ص 128.

قال الجامع: الحاصل أن الراجح قول من قال باستحباب الركعتين قبل صلاة المغرب، للأدلة التي تقدمت، وليس عند من يقول بكراهتهما دليل يعتمد عليه، فلا يلتفت إليه. والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 404

‌39 - الصَّلاةُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ

قال الجامع: الظاهر أن المصنف يرى عدم صحة الأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة بعد طلوع الفجر بأكثر من ركعتين، فكأنه يقول: إنه لم يثبت في الباب شيء سوى مجرد تركه صلى الله عليه وسلم، وهو بمفرده لا يكفي دليلًا على النهي، ولذا أعقبه بباب:"إباحة الصلاة إلى أن يصلي الصبح" وهذا هو المذهب الراجح، كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم.

583 -

أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ نَافِعًا يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ:"كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ لَا يُصَلِّي إِلاَّ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ".

رجال الإسناد: سبعة

1 -

(أحمد بن عبد الله بن الحكم) بن أبي فَرْوَةَ الهاشمي، يعرف بابن الكُرْدِيّ، أبو الحسين البصري، ثقة، توفي سنة 247، من [10].

ص: 405

روى عن مروان بن معاوية، ومحمد بن جعفر، غُندَر، وغيرهما.

وعنه مسلم، والترمذي، والنسائي. وقال: ثقة، والبزار، والقاسم المطرز. وقال ابن حبان في "الثقات": مستقيم الحديث.

2 -

(محمد بن جعفر) غندر أبو عبد الله البصري، ثقة صحيح الكتاب، إلا أن فيه غفلة، توفي سنة 193 أو 194، من [9]، أخرج له الجماعة، تقدم في 21/ 22.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الواسطي، ثم البصري، ثقة ثبت حجة، من [7]، تقدم في 24/ 26.

4 -

(زيد بن محمد) بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، ثقة، من [7].

روى عن أبيه، ونافع. وعنه أخواه: عاصم وعمر، وشعبة.

قال أبو داود، والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة، لا بأس به.

وقال الدارقطني: مُقِلّ فاضل، وهم خمسة إخوة كلهم ثقات. وذكره ابن حبان في الثقات. أخرج له مسلم، والمصنف.

5 -

(نافع) العدوي، مولى ابن عمر المدني، ثقة ثبت فقيه مشهور، من [3]، تقدم في 12/ 12.

6 -

(ابن عمر) عبد الله العدوي الصحابي رضي الله عنه، تقدم

ص: 406

في 12/ 12.

7 -

(حفصة) بنت عمر بن الخطاب، أم المؤمنين، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد خُنَيس بن حُذَافَة سنة 3، وماتت سنة 45.

قيل: إنها ولدت قبل الْمَبْعَثِ بخمسة أعوام، وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث وقيل: سنة اثنتين. وَرَوَت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبيها. وروى عنها أخوها عبد الله بن عمر، وابنه حمزة، وزوجته صفية بنت أبي عبيد، وأم مبشر الأنصارية، والمُطِّلب بن أبي وَدَاعَةَ، وحارثة بن وهب، وغيرهم.

قال ابن وهب عن مالك: افتتحت إفريقية عام وفاة حفصة، وقال ابن أبي خيثمة: توفيت أول ما بويع معاوية سنة 41، وقال الواقدي: توفيت سنة 45، وصلى عليها مروان بن الحكم.

وحكى الدولابي أنها توفيت سنة 27.

قال الحافظ: وكأن الذي أوقعه في ذلك أن عبد الله بن سعد غزا في هذه السنة إفريقية، فلما رأى ذلك، ورأى قول مالك: إنها ماتت عام فتح إفريقية لَفَّق من ذلك قولًا خطأ، وإنما كان فتحها سنة 50، على يد معاوية بن حُدَيج

(1)

، وذكر ابن سعد أن عمر أوصى إليها لما احْتُضِرَ.

(1)

بحاء مهملة، وجين مصغرا.

ص: 407

أخرج لها الجماعة. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها. أنه من سباعيات المصنف.

ومنها: أن رواته ثقات، اتفقوا عليهم، إلا شيخه، فهو من أفراده، ومسلم والترمذي، وزيد بن محمد، فمن أفراده، ومسلم.

ومنها: أنهم ما بين بصريين، وهم إلى شعبة، ومدنيين، وهم الباقون.

ومنها: أن فيه رواية صحابي، عن صحابية، ورواية الراوي عن أخته.

ومنها: أن ابن عمر أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، رَوَى 2630 حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن حفصة) بنت عمر أم المؤمنين رضي الله عنها (أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا طلع الفجر) من باب "قعد".

(لا يصلي إِلا ركعتين خفيفتين) وهما سنتا الصبح، قال النووي رحمه الله: قد يستدل به من يقول: تكره الصلاة من طلوع الفجر إلا سنة الصبح، وما له سبب، ولأصحابنا في المسألة ثلاثة أوجه:

ص: 408

أحدها: هذا، ونقله القاضي عن مالك، والجمهور.

والثاني: لا تدخل الكراهة حتى يصلي سنة الصبح.

والثالث: لا تدخل الكراهة حتى يصلي فريضة الصبح، وهذا هو الصحيح عند أصحابنا، وليس في هذا الحديث دليل ظاهر على الكراهة، فإنما فيه الإخبار بأنه كان صلى الله عليه وسلم لا يصلي غير ركعتي السنة، ولم

ينه عن غيرهما. اهـ "شرح مسلم" جـ 6 ص 2 - 3. وبالله تعالى التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته.

حديث حفصة رضي الله عنها هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا (583)، وفي "الكبرى"(1559)، عن أحمد بن عبد الله ابن الحكم، عن غندر، عن شعبة، عن زيد بن محمد، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة رضي الله عنهم.

وفي (1760) عن قتيبة، عن ليث، و (1761) عن محمد ابن منصور، و (1779) عن الحسين بن عيسى، كلاهما عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن الزهري، به.

ص: 409

و (1767) عن إسحاق بن منصور، عن يحيى بن سعيد، و (1766) عن شعيب بن شعيب بن إسحاق، عن عبد الوهاب بن سعيد، عن شعيب بن إسحاق، كلاهما عن الأوزاعي، و (1769) عن إسحاق بن منصور، عن معاذ بن هشام، عن أبيه- كلاهما عن يحيى بن أبي كثير، عن نافع، به.

و (1768) عن هشام بن عمَّار، عن يحيى بن حمزة، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، ونافع، كلاهما عن ابن عمر به، و (1770) عن يحيى بن محمد بن السكن، عن محمد بن جهضم، عن إسماعيل بن جعفر، عن عمر بن نافع، عن أبيه به.

و (1771) عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن إسحاق بن الفُرات، عن يحيى بن أيوب، عن يحيى بن سعيد. و (1772) عن عبد الله بن إسحاق، عن أبي عاصم، عن ابن جريج، عن موسى بن عُقْبَةَ. و (1775) عن محمد بن عبد الله بن يزيد، عن أبيه، عن جويرة بن أسماء- ثلاثتهم عن نافع به.

و (1773) عن محمد بن سلمة، عن ابن القاسم، عن مالك عن نافع به. و (1774) عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد بن الحارث، عن

ص: 410

عبيد الله بن عمر عن نافع به. و (1778) عن إسحاف بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر به.

والألفاظ مختلفة. أفاده الحافظ المزي رحمه الله في تحفته جـ 11 ص 383 - 384. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه؛ فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن عبد الله بن يوسف، عن مالك- وعن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن أيوب- وعن مسدد، عن يحيى بن سعيد، عن عبيد الله بن عمر- ثلاثتهم عن نافع، عن عبيد الله بن عمر به.

وأخرجه مسلم فيه عن يحيى بن يحيى عن مالك، به. وعن قتيبة، ومحمد بن رمح، ويحيى بن يحيى- ثلاثتهم عن ليث، عن نافع به. وعن زهير بن حرب، وعبيد الله بن سعيد، كلاهما عن يحيى بن سعيد به. وعن زهير بن حرب، عن إسماعيل بن علية، عن أيوب به. وعن أحمد بن عبد الله بن الحكم، عن غندر- وعن إسحاق بن إبراهيم، عن

النَّضْر بن شُمَيل- كلاهما عن شعبة، عن زيد بن محمد، عن نافع به. وعن محمد بن عَبَّاد المكي، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار،

ص: 411

عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر به.

وأخرجه الترمذي فيه عن الحسن بن علي، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، به. وفي الشمائل عن أحمد بن منيع، عن إسماعيل ابن عُلَيَّةَ به. وعن قتيبهَ عن مروان بن معاوية، عن جعفر بن برقان، عن ميمون بن مِهْران، عن ابن عمر، قال: وحدثتني حفصة بركعتي الغداة، ولم أكن أراهما من النبي صلى الله عليه وسلم.

وأخرجه ابن ماجه فيه عن محمد بن رُمْح به. ورواه عبد الحميد بن جعفر، عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد، عن حفصة رضي الله عنها. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في بيان اختلاف العلماء في كراهة التنفل بعد طلوع الفجر بأكثر من سنة الصبح:

ذهب بعض أهل العلم إلى الكراهة، وبه قال سعيد بن المسيب، والعلاء بن زياد، وحميد بن عبد الرحمن، والحنفية، وروي ذلك عن ابن عمر، وابن عمرو، وهو المشهور عن أحمد.

وذهب بعضهم إلى الجواز، وهو قول الحسن البصري، والشافعي، وحملا النهي عن الصلاة بعد الصبح المراد منه بعد صلاة الفريضة، واستدلا بما تقدم في حديث عمرو بن عَبَسَة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فصل

ما شئت، فإن الصلاة مشهودة مكتوبة حتى تصلي الصبح"، وبه قال

ص: 412

ابن حزم. وهو مذهب المصنف، وهو المذهب الراجح كما سيأتي. والله تعالى أعلم.

وقال مالك: يجوز ذلك لمن فاتته صلاة الليل، لما رواه في الموطأ عن سعيد بن جبير "أن عبد الله بن عباس رقد، ثم استيقظ، ثم قال لخادمه: انظر ما صنع الناس؟ وهو يومئذ قد ذهب بصره، فذهب الخادم، ثم رجع، فقال: قد انصرف الناس من الصبح، فقام عبد الله ابن عباس، فأوتر، ثم صلى الصبح"، ولما رواه أنه بلغه أن عبد الله بن

عباس، وعبادة بن الصامت، والقاسم بن محمد، وعبد الله بن عمر ابن ربيعة قد أوتروا بعد الفجر، وما رواه عن هشام بن عروة عن أبيه أن عبد الله بن مسعود قال: ما أبالي لو أقيمت صلاة الصبح، وأنا أوتر، وما رواه عن يحيى بن سيعد، أنه قال: كان عبادة بن الصامت يؤم قومًا، فخرج يومًا إلى الصبح، فأقام المؤذن صلاة الصبح، فأسكته

عبادة حتى أوتر، ثم صلى بهم الصبح، وما رواه عن عبد الرحمن بن القاسم أنه قال: سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة يقول: إني لأوتر، وأنا أسمع الإقامة، أو بعد الفجر، يشك عبد الرحمن أيّ ذلك، وما رواه عن عبد الرحمن بن القاسم أنه سمع أباه القاسم بن محمد: يقول: إني لأوتر بعد الفجر.

ففي هذا كله دلالة على أن الوتر تصلى بعد الفجر، وقبل صلاة

ص: 413

الصبح.

وقال الشوكاني: والحديث -يعني حديث "لا تصلوا بعد الفجر إلا سجدتين"- يدل على كراهة التطوع بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر، قال الترمذي: وهو مما أجمع عليه أهل العلم، كرهوا أن يصلي الرجل بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر.

قال الحافظ في التلخيص: دعوى الترمذي الإجماع على الكراهة لذلك عجيب، فإن الخلاف في ذلك مشهور، حكاه ابن المنذر، وغيره. وقال الحسن البصري: لا بأس به. وكان مالك يرى أن يفعله من فاتته صلاة بالليل، وقد أطنب في ذلك محمد بن نصر في قيام الليل. اهـ "نيل" جـ 3 ص 380، و"المنهل" جـ 7 ص 178 - 179 بتصرف.

قال الجامع: الراجح القول بعدم الكراهة، وأحاديث النهي كلها ضعيفة، وبعضها مرسل، فلا تعارض حديث عمرو بن عَبَسَةَ الصحيح. والله تعالى أعلم.

تنبيه:

حديث. "ليبلغ شاهدكم غائبكم أن لا صلاة بعد الصبح إلا ركعتين" رواه أحمد وأبو داود والترمذي والدارقطني من حديث أبي علقمة، عن يسار مولى ابن عمر، عن ابن عمر، وفيه قصة، وقد

ص: 414

تقدم ذكرها، قال الترمذي: غريب، لا نعرفه إلا من حديث قُدَامة بن موسى.

قال الحافظ: وقد اختلف في اسم شيخه، فقيل: أيوب بن حصين، وقيل: محمد بن حصين، وهو مجهول. وروى أبو يعلى، والطبراني من وجهين آخرين عن ابن عمر نحوه. ورواه ابن عدي في ترجمة محمد بن الحارث من روايته عن محمد بن عبد الرحمن البيلماني، عن أبيه، عن ابن عمر، والمحمدان ضعيفان، ورواه الطبراني أيضًا من حديث عبد الرزاق، عن أبي بكر بن محمد، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر بالحديث دون القصة، وينظر في سنده. ورواه الدارقطني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وفي سنده الإفريقي. ورواه الطبراني من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وفي سنده رَوَّاد بن الجَرَّاح. ورواه البيهقي من حديث سعيد بن المسيب مرسلًا، وقال: روي موصولًا عن أبي هريرة، ولا يصح. ورواه موصولًا الطبراني، وابن عدي، وسنده ضعيف، والمرسل أصح. اهـ "التلخيص الحبير" جـ 1 ص 190، 191.

(قال الجامع عفا الله عنه): الحاصل أن أحاديث النهي كلها ضعيفة، وإن صححها بعض أهل العلم بمجموع طرقها، فلا تصلح لمعارضة حديث عمرو بن عَبَسَةَ الصحيح، "فصلّ ما بدا لك حتى

ص: 415

تصلي الصبح"، فإنه نص صريح في إباحة الصلاة بعد طلوع الفجر قبل أداء الفرض والله تعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 416

‌40 - إبَاحَةُ الصَّلاةِ إلَى أنْ يُصَلِّي الصُّبْحَ

قال الجامع: تقدم في الباب الماضي أن الظاهر من المصنف أنه يرى إباحة الصلاة بعد الفجر بأكثر من ركعتين لعدم صحة النهى عنها، بل الذي صح هو دليل الإباحة، وهو حديث عمرو بن عبسة المذكور في هذا الباب. والله تعالى أعلم.

584 -

أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَأَيُّوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ أَيُّوبُ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ حَسَنٌ: أَخْبَرَنِي شُعْبَةُ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ طَلْقٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ أَسْلَمَ مَعَكَ؟ قَالَ: "حُرٌّ، وَعَبْدٌ". قُلْتُ: هَلْ مِنْ سَاعَةٍ أَقْرَبُ إِلَى اللهِ عز وجل مِنْ أُخْرَى؟ قَالَ: "نَعَمْ، جَوْفُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَصَلِّ مَا بَدَا لَكَ حَتَّى تُصَلِّيَ الصُّبْحَ، ثُمَّ انْتَهِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَمَا دَامَتْ وَقَالَ أَيُّوبُ: فَمَا دَامَتْ -كَأَنَّهَا حَجَفَةٌ، حَتَّى تَنْتَشِرَ، ثُمَّ

ص: 417

صَلِّ مَا بَدَا لَكَ، حَتَّى يَقُومَ الْعَمُودُ عَلَى ظِلِّهِ، ثُمَّ انْتَهِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، فَإِنَّ جَهَنَّمَ تُسْجَرُ نِصْفَ النَّهَارِ، ثُمَّ صَلِّ مَا بَدَا لَكَ حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ، ثُمَّ انْتَهِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَتَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ".

رجال الإسناد: ثمانية

1 -

(الحسن بن إِسماعيل) بن سليمان بن مُجَالِد، أبو سَعيد الْمُجَالِدِي الْمِصِّيصِيُّ، ثقة، توفي بعد سنة 240، من [10]، أخرج له النسائي، تقدمَ في 432.

2 -

(أيوب بن محمد) بن زياد الوزان، أبو محمد الرَّقِّيّ، مولى ابن عباس

(1)

، ثقة، من [10]، تقدم في 28/ 32.

3 -

(حجاج بن محمد) الْمِصِّيصِيُّ الأعور أبو محمد الترمذي الأصل نزيل بغداد، ثم المصيصة، ثقة ثبت، لكنه اختلط في آخر عمره لما قَدِمَ بغداد، توفي سنة 206، من [9]، تقدم في 28/ 32.

4 -

(شعبة) بن الحجاج أبو بِسْطَام الواسطي، ثم البصري، الإمام الحجة، من [7]، تقدم في 24/ 26.

5 -

(يعلى بن عطاء) العامري، ويقال: الليثي، الطائفي، ثقة،

(1)

هكذا في "ت" و"تهذيب الكمال": مولى ابن عباس، ولعل الصواب مولى بني العباس، فليحرر.

ص: 418

من [4].

قال الأثرم: أثنى عليه أحمد بن حنبل خيرًا. وقال ابن معين، والنسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن سعد: كان ثقة. وقال الدوري عن ابن معين: سمع يعلى، وهو صغير جدًّا.

وقال الفضل بن زياد عن أحمد: قال هشيم: فارقنا يعلى سنة 120، وقال البخاري: يقال: مات بواسط سنة 120، وفيها أرخه ابن حبان. وقال ابن المديني: يعلى بن عطاء له أحاديث لم يروها غيره، ورجال لم يرو عنهم غيره، منهم وكيع بن عدس، وأهل الحجاز لا يعرفونه، وإنما رَوَى عنه قوم بواسط، أخرج له البخاري في "جزء

القراءة"، ومسلم، والأربعة.

6 -

(يزيد بن طلق) مجهول

(1)

، من [6].

رَوى عن عبد الرحمن بن البَيْلَماني. وعنه يعلى بن عطاء. قال الدارقطني: يعتبر به. وذكره ابن حبان في الثقات. أخرج له المصنف، وابن ماجه.

7 -

(عبد الرحمن بن البَيْلَمَاني) مولى عمر مدني، نزل حَرَّان، ضعيف، من [3].

قال أبو حاتم: لين، وقال ابن سعد: هو من أخماس عمر بن

(1)

إذا قال في "ت" مجهول يريد به جهالة العين، وهو أن لا يروي عنه غير واحد، ولم يوثق.

ص: 419

الخطاب. وقال عبد المنعم بن إدريس: هو من الأبناء الذين كانوا باليمن، وكان ينزل بِحَرَّان، وقيل: كان شاعرًا مُجيدًا، وَفَدَ على الوليد، فأجزل له الحِبَاَء، وتوفي في ولايته، له عند الترمذي في طواف الوداع، وعند النسائي حديث عمرو بن عبسة الطويل في قصة إسلامه، وغير ذلك، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في ولاية

الوليد ابن عبد الملك، لا يجب أن يعتبر بشيء من حديثه إذا كان من رواية ابنه، لأن ابنه يضع على أبيه العجائب، وقال الدارقطني: ضعيف، لا تقوم له حجة، وقال الأزدي: منكر الحديث، يروي عن ابن عمر بواطل، وقال صالح جَزَرَةَ: حديثه منكر، ولا يعرف أنه سمع من أحد من الصحابة، إلا من سرق. قال الحافظ: فعلى مطلق هذا يكون حديثه عن الصحابة المسمين أولًا مرسلًا عند صالح. اهـ. أخرج له الأربعة.

8 -

(عن عمرو بن عبسة) السلمي الصحابي الجليل، رضي الله عنه، تقدم في 108/ 147. والله أعلم.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سباعيات المصنف، ورواته ثقات، غير يزيد بن طلق، فمجهول الحال، وعبد الرحمن فضعيف، وفيه قوله: قال أيوب: حدثنا، وقال حسن: أخبرني شعبة، يعني أن شيخيه: أيوب وحسنًا، اختلفا على شيخهما حجاج في صيغة الأداء لِمَا تحمله عن شغبة، فقال أيوب: قال حجاج: حدثنا شعبة، وقال الحسن: قال

ص: 420

حجاج: أخبرني شعبة، وذلك أن حجاجًا تحمله عن شعبة سماعًا، وقراءة، فحينما حدث لأيوب حدثه بما تحمله عن شعبة سماعًا مع غيره، وحينما حدث الحسن حدثه بما تحمله قراءة بنفسه عليه. وهذا من احتياط المصنف في بيان اختلاف ألفاظ الشيوخ، وإن كان لا يختلف به المعنى، فإيضاح صورة الحال مستحسن.

فقوله: شعبةُ بالرفع تنازعه الفعلان قبله على الفاعلية. والأولى إعمال الثاني لقربه عند البصريين، وإعمال الأول لسبقه عند الكوفيين، كما قال في الخلاصة:

إِنْ عَامِلانِ اقْتَضَيَا فِي اسْمٍ عمَلْ

قْبلُ فَللَّوَاحد منْهُما الْعَمَلْ

وَالثَّانِ أوْلَى عِنْدَ أهْلِ الْبَصْرَهَ

واخْتَار عكْسًا غيرُهُمْ ذا أسْرَهْ

والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عمرو بن عبسة) بن عامر بن خالد بن غاضرة بن عَتَّاب، أبو نَجِيح، أسلم قديمًا بمكة، رابعَ أربعة في الإسلام، وهاجر بعد أحُد، ونزل الشام، وهو أخو أبي ذر لأمه. ومات في أواخر خلافة عثمان رضي الله عنهما. أنه (قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي في مكة.

فقد روى مسلم في صحيحه قصة إسلامه، نقال: كنت، وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء، وهم

ص: 421

يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارًا فقعدت على راحلتي، فَقَدِمْتُ عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيًا جُرَاءُ عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة، فقلت له: ما أنت؟ قال: أنا نبي، فقلت: وما نبي؟ قال: أرسلني الله، فقلت: بأي شيء أرسلك؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يُوَحَّدَ الله، ولا يُشرَك به شيء، قلت له: فمن معك على هذا؟ قال: حر، وعبد، ومعه يومئذ أبو بكر، وبلال، ممن آمن به، فقلت: إني متبعك، قال: إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي، وحال الناس، ولكن ارجع إلى أهلك،

فإذا سمعت بي قد ظهرت، فائتني.

قال: فذهبت إلى أهلي، وقَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكنت في أهلي، فجعلت أتخبر الإخبار، وأسأل الناس حين قدم الدينة، حتى قَدِمَ عليَّ نفر من أهل يثرب من أهل المدينة، فقلت: ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة؟ قالوا: الناس إليه سراع، وقد أراد قومه قتله، فلم يستطيعوا.

فقدمت المدينة، فدخلت عليه، فقلت: يا رسول الله أتعرفني؟ قال: نعم، ألست الذي لقيتني بمكة؟ فقلت: بلى، فقلت: يا نبي الله، أخبرني عما علمك الله، وأجهله؛ أخْبِرْنِي عن الصلاة؟ قال: "صَلِّ الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس

" الحديث.

(فقلت: يا رسول الله منْ أَسْلَمَ معك؟ قال: حُرٌّ وعبد) يريد أبا بكر، وبلالًا رضي الله عنهما، فيكون صلى الله عليه وسلم ثالثهما، وعمرو بن

ص: 422

عَبَسَة رابعهما كما تقدم، هذا بالنسبة للرجال، وإلا فخديجة قد أسلمت قبل أبي بكر، وبلال رضي الله تعالى عن جميعهم.

(قلت: هل من ساعة أقرب إِلى الله عز وجل من أخرى؟ قال: نعم، جوف الليل الآخر) يعني ثلثه الآخر أقرب للإجابة، فجوف مبتدأ، خبره أقرب مقدرًا، وفي رواية أبي داود:"أي الليل أسمع؟ قال: جوف الليل الآخرُ"، والآخر بالرفع صفة "جوف".

(فَصَلِّ ما بدا لك) وفي رواية أبي داود: "فصل ما شئت"، وفيه أن صلاة الليل ليس لها عدد معين، خلاف ما يزعمه بعض الناس أن الزيادة على إحدى عشرة ركعة التي وردت في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعة، فينكرون على من يصلي في رمضان عشرين ركعة، أو أقل، أو أكثر على حسب نشاط المتهجدين، فيرد عليهم هذا الحديث، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"فصلّ ما شئت، فإن الصلاة مشهودة مكتوبة حتى تصلي الصبح"، رواه أبو داود، فإنه أطلق له الكيفية والكمية. وكذا حديث:"الصلاةُ خيرُ موضوعٍ، فمن استطاع أن يستكثر، فليستكثر"، رواه الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وحسنة الشيخ الألباني، انظر "صحيح الجامع" جـ 2 ص 719.

والحاصل أن من تيسر له موافقة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم كَمًّا وكيفًا فهو الأفضل، وإلا فلا حجر على أحد، والله أعلم.

(حتى تصلي الصبح) هذا محل الترجمة حيث أباح له النبي صلى الله عليه وسلم -

ص: 423

الصلاة إلى أن يصلي الصبح، فدخل ما بعد طلوع الفجر، والاستدلال به واضح، ومعارضته بحديث "لا تصلوا بعد الفجر إلا سجدتين" غير صحيحة، لعدم صحته، كما تقدم.

والحاصل أن الصحيح جواز الصلاة بعد طلوع الفجر إلى أن تصلى الصبح لحديث الباب. والله تعالى أعلم.

(ثم انته) أمر من الانتهاء، أي اترك الصلاة حتى تطلع الشمس، (وما دامت- وقال أيوب: فما دامت) يعني أن شيخيه اختلفا في قوله: وما دامت- فرواه الحسن بالواو، ورواه أيوب بالفاء، وهذا من احتياطات المحدثين، وحرصهم على أداء ما سمعوه كما سمعوه، وإن لم يكن هناك كبير اختلاف يضر بمعنى الحديث.

وهو عطف على جملة "تطلع" الخ، و"ما" مصدرية ظرفية، أي اترك أيضا بعد طلوعها مدة دوامها.

(كأنها حَجَفة) بفتحات، الترس الصغير، يُطَارَقُ

(1)

بين جلدين، والجمع: حَجَف، وحَجَفَات، مثل قَصَبَة، وقَصَب، وقَصَبَات. قاله في المصباح. أي كأنها ترس، في عدم الحرارة، وإمكان النظر إليها.

(حتى تنتشر) أي إلى أن ترتفع، وينتشر ضوءها.

(1)

أي يُخصَفُ، يقال: طارقت النعل، وطرقتها، خَرَزْتُهَا من جلدين، أحدهما فوق الآخر. أفاده في المصباح، و"ق".

ص: 424

وفيه أن وقت النهي لا ينتهي بطلوع الشمس، بل لابد من ارتفاعها، وإشراقها، فالأحاديث التي فيها الإطلاق لابد من تقيدها بهذا، فتنبه.

(ثم صلّ ما بدا لك، حتى يقوم العَمُود على ظله) قال السندي: العمود خشبة، يقوم عليها البيت، والمراد حتى يبلغ الظل في القلة غايته بحيث لا يظهر إلا تحت العمود ومحل قيامه، فيصير كأن العمود قائم عليه، والمراد وقت الاستواء. اهـ.

(ثم انته، حتى تزول الشمس، فإِن جهنم تُسجَر نصف النهار)"تسجر" بالتخفيف، والتشديد، مبنيًا للمجهول: أي يوقد عليها إيقادًا بليغًا، وتقدم ما قاله الخطابي وغيره في تسجير جهنم في شرح حديث 572 فراجعه تزدد علمًا.

(ثم صل ما بدا لك حتى تصلي العصر، ثم انته، حتى تغرب الشمس، فإِنها تغرب بين قرني شيطان، وتطلع بين قرني شيطان) قيل: التنكير للتحقير، وقد تقدم اختلاف العلماء في المعنى المراد بقرني الشيطان، وأن أقوى الأقوال قول من قال: إن المراد به ناحيتا الرأس، وأنه على ظاهره، ومعناه أنه يُدْنِي رأسه إلى الشمس في تلك الأوقات ليكون الساجدون لها من الكفار كالساجدين له في الصورة. والله أعلم.

تنبيه:

هذا الحديث في سنده يزيد بن طلق، وابن البيلماني، وقد تقدم

ص: 425

المقال فيهما، إلا أنه صحيح بما سبق في 572، وتقدم ما يتعلق به من المسائل هناك، فلا حاجة إلى إعادته، والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 426

‌41 - إبَاحَةُ الصَّلاةِ فِي السَّاعَاتِ كُلِّها بِمَكَّةَ

قال الجامع: الظاهر أن المراد بمكة البيت وما حوله لا جميع الحرم كما قيل، لظاهر حديث جبير، وأما حديث "إلا بمكة" فضعيف، فلا يصلح للاحتجاج به، كما يأتي إن شاء الله تعالى.

585 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: سَمِعْتُ مِنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ بَابَاهْ يُحَدِّثُ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ، وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ، أَوْ نَهَارٍ".

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(محمد بن منصور) بن ثابت بن خالد الخُزاعي الجَوَّاز- بتشديد الواو ثقة، توفي سنة 252، من [10]، أخرج له النسائي، تقدم في 20/ 21.

2 -

(سفيان) بن عيينة الهلالي أبو محمد الكوفي، ثم المكي، ثقة ثبتا حجة إمام، من [8]، تقدم في 1/ 1.

3 -

(أبو الزبير) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسدي مولاهم المكي، صدوق، قيل: يدلس، توفي سنة 126، من [4]، أخرج له

ص: 427

الجماعة، تقدم في 31/ 35.

4 -

(عبد الله بن باباه) بموحدتين، بينهما ألف ساكنة، ويقال: بتحتانية بدل الألف، ويقال: بحذف الهاء، المكي، ثقة، من [4].

قال علي بن المديني: عبد الله بن بابيه من أهل مكة معروف، ويقال له أيضًا: باباه، وقال: البخاري عبد الله بن باباه، ويقال: ابن بَابِي. وقال ابن معين: هؤلاء ثلاثة مختلفون. وقال أبو القاسم الطبراني: عبد الله بن بابي بصري، وعبد الله بن باباه مكي، وعبد الله بن بابيه كوفي. وقال أبو الحسين بن البراء: القول عندي ما قال ابن المديني،

والبخاري. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال النسائي: عبد الله ابن باباه: ثقة. ووثقه العجلي، وابن المديني، وذكره ابن حبان في الثقات. أخرج له مسلم، والأربعة.

5 -

(جبير بن مطعم) بن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي النوفلي صحابي عارف بالأنساب توفي سنة 58 أو 59، أخرج له الجماعة، تقدم في 158/ 250. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف.

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، اتفقوا عليهم إلا شيخه، فمن

ص: 428

أفراده، وابن باباه، فلم يخرج له البخاري.

ومنها: أنه مسلسل بالمكيين.

ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي، وهو من رواية الأقران. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن جبير بن مُطْعِمٍ) النوفلي رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا بني عبد مناف) يريد من كان له تسلط على البيت من قريش؛ وعبدُ مناف هو الجد الثالث للنبي صلى الله عليه وسلم.

(لا) ناهية، ولذا جزم الفعل بها.

(تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت) يعني الكعبة، لأن البيت، وإن كان في الأصل اسم للمسكن الذي يُبَاتُ فيه، إلا أنه صار علمًا بالغلبة للكعبة، كما قال ابن مالك:

وَقَدْ يَكُونُ عَلَمًا بِالْغَلْبَهْ

مُضَافٌ اوْ مَصْحُوبُ أَلْ كَالْعَقَبَهْ

(وصلى أية ساعة شاء)"أية" اسم شرط منصوب على الظرفية متعلق بفعل الشرط، وهو "شاء"، قُدِّمَ عليه وجوبًا لكون اسم الشرط يجب له صدر الكلام.

والأفصح في "أيّ" استعمالها في الشرط والاستفهام بلفظ واحد للمذكر والمؤنث، لأنها اسم؛ والاسم لا تلحقه هاء التأنيث الفارقة بين

ص: 429

المذكر والمؤنث، قال الله تعالى:{فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} [غافر: 81]، وقال:{بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34]. وقد يطابق في التذكير والتأنيث، نحو أي رجل، وأية امرأة، وقرئ في الشذوذ:(بأية أرض تموت)

(1)

وقال الشاعر:

بِأيِّ كِتَابٍ أمْ بِأيَّةِ سُنَّةِ

تَرىَ حُبَّهُمْ عَارًا عَلَيَّ وَتَحْسَبُ

ومنه هذا الحديث. وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، أي فلا تمنعوه. والله أعلم.

(من ليل أو نهار) متعلق بحال من "أية ساعة"؛ "فمن": بيانية، أي حال كون تلك الساعة كائنة من ليل أو نهار.

وقال السندي رحمه الله: قوله: "أية ساعة" الظاهر أن المعنى لا تمنعوا أحدًا دخل المسجد للطواف، والصلاة عند الدخول أية ساعة يريد الدخول، فقوله:"أية ساعة" ظرف لقوله: "لا تمنعوا"، لا لطاف، وصلى، ففي دلالة الحديث على الترجمة بَحْثٌ، كيف، والظاهر أن الطواف، والصلاة حين يصلي الإمام الجمعة، بل حين يخطب الخطيب

يوم الجمعة، بل حين يصلي الإمام إحدى الصلوات الخمس غير مأذون فيها للرجال!. والله أعلم. اهـ.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: ظرف لقوله: "لا تمنعوا" فيه نظر لا يخفى، إذ أسماء الشرط، والاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها، لوجوب الصدارة لها، بل الصواب أنه ظرف لشاء، لكونه فعل الشرط، كما

(1)

أفاد هذه القاعدة في المصباح، وزدته إيضاحًا.

ص: 430

قدمناه، والمقصود منه إطلاق إرادة الشخص، ففي أيّ وقت من أوقات الليل والنهار أراد أن يطوف أو يصلي فلا يمنع منه، وأما ما ذكره من منع ذلك عند الخطبة، أو صلاة الجمعة، أو الجماعة فلأدلة أخرى خصت ذلك من هذا العموم.

فاستدلال المصنف على إباحة الصلاة في الساعات كلها ما عدا ما استثناه الدليل واضح، فدخل في هذا العموم أوقات النهي، فيجوز أن يُصَلَّى في مكة في أوقات النهي، وليس هذا خاصًا بركعتي الطواف، بل مطلق الصلاة كذلك، لما في صحيح ابن حبان:"يا بني عبد المطلب إن كان إليكم من الأمر شيء، فلا أعرفن أحدًا منكم أن يمنع من يصلي عند البيت، أي ساعة شاء، من ليل، أو نهار". والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى ولى: في درجته:

حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا (585)، وفي "الكبرى"(1561) عن محمد بن منصور، عن سفيان، عن أبي الزبير، عن عبد الله بن باباه، عنه. وفي "الحج"(2924) عن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن، عن سفيان به. والله أعلم.

ص: 431

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، فأخرجه أبو داود في "الحج" عن أبي الطاهر بن السرح، والفضل بن يعقوب، وأخرجه الترمذي فيه عن الحسين بن الحريث- وعلي بن خَشْرَم-، وأخرجه ابن ماجه في "الصلاة" عن يحيى بن حكيم- أربعتهم عن سفيان به. وأخرجه أحمد، وابن خزيمة، وابن حبان، والدارقطني. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في مذاهب أهل العلم في جواز الصلاة في مكة في جميع الأوقات:

قال الإمام الترمذي رحمه الله تعالى: وقد اختلف أهل العلم في الصلاة بعد العصر، وبعد الصبح بمكة، فقال بعضهم: لا بأس في الصلاة والطواف بعد العصر، وبعد الصبح، وهو قول الشافعي، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم يعني حديث جبير هذا- وقال بعضهم: إذا طاف بعد العصر لم يصلِّ حتى تغرب الشمس، وكذلك إن طاف بعد صلاة الصبح أيضًا لم يصل حتى تطلع الشمس.

واحتجوا بحديث عمر أنه طاف بعد الصبح، فلم يصل، وخرج من مكة حتى نزل بذي طوى، فصلى بعدما طلعت الشمس، وهو قول سفيان الثوري، ومالك بن أنس. اهـ "جامع الترمذي" جـ 2 ص 178، 179.

وقال الصنعاني رحمه الله: حديث جبير دال على أنه لا تكره الطواف بالبيت، ولا الصلاة فيه في أي ساعة من ساعات الليل

ص: 432

والنهار، وقد عارض ما سلف فالجمهور عملوا بأحاديث النهي ترجيحًا لجانب الكراهة، ولأن أحاديثها في "الصحيحين"، وغيرهما، وهي أرجح من غيرها. وذهب الشافعي وغيره إلى العمل بحديث جبير، قالوا: لأن أحاديث النهي قد دخلها التخصيص بالفائتة، والنوم عنها، والنافلة التي تُقْضَى، فضعفوا عمومها، فتخصص أيضًا بهذا الحديث.

ولا تكره الصلاة النافلة بمكة في أي ساعة من الساعات، وليس هذا خاصًا بركعتي الطواف، بل يعم كل نافلة، لرواية ابن حبان في صحيحه:"يا بني عبد المطلب إن كان لكم من الأمر شيء، فلا أعرفن أحدًا منكم يمنع من يصلي عند البيت أى ساعة شاء من ليل، أو نهار".

قال في "النجم الوهاج": وإذا قلنا: بجواز النفل- يعني في المسجد الحرام في أوقات الكراهة، فهل يختص ذلك المسجدَ الحرامَ، أو يجوز في جميع حرم مكة؟ فيه وجهان، والصواب أنه يعم الحرم. اهـ "سبل السلام" جـ 1 ص 235.

قال الجامع: في دعوى الجواز في جميع الحرم نظر، إذ حديث جبير لا يدل عليه، وأما حديث أبي ذر عند الشافعي، بلفظ:"لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس إلا بمكة"، وكرر الاستثناء ثلاثًا، ورواه أحمد، وابن عدي، فإنه ضعيف، لضعف عبد الله بن المؤمل، وذكر ابن عدي هذا الحديث من جملة ما أنكر عليه، وقال البيهقي: تفرد به عبد الله ولكن تابعه إبراهيم

ص: 433

ابن طهمان، وهو أيضًا من رواية مجاهد عن أبي ذر، وقد قال أبو حاتم، وابن عبد البر، والبيهقي، والمنذري، وغير واحد: إنه لم يسمع منه. وقد رواه أيضًا ابن خزيمة في "صحيحه"، وقال: أنا أشك في سماع مجاهد من أبي ذر. قاله في "النيل" جـ 1 ص 386.

فالظاهر التخصيص بالمسجد الحرام فقط. والله أعلم.

قال الجامع: الحاصل أن أرجح المذاهب في هذه المسألة قول من قال بجواز التنفل في المسجد الحرام مطلقًا، لحديث جبير بن مطعم هذا، فإنه يخصص عمومات أحاديث النهي لأنها دخلها التخصيص بغيره.

وأما ما قاله الشوكاني- من أن حديث جبير لا يصلح لتخصيص أحاديث النهي، لأنه أعم منها من وجه، وأخص من وجه، وليس أحد العمومين أولى بالتخصيص من الآخر- فغير صحيح، لأنا نقول: إن عموماتها أولى بالتخصيص به، حيث إن التخصيص دخلها بغيره، كحديث:"من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها"، وحديث قضاء السنن الفائتة، وحديث من أدرك الجماعة في الصبح بعد أن صلى وحده، فإنه يصلي، وهي نافلة له، وغير ذلك، فكان التخصيص بحديث جبير أولى فتبصر. والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما أستطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 434

‌42 - الْوَقْتُ الذِّي يَجْمَعُ فِيهِ الْمسَافِرُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على بيان الوقت الذي يجمع فيه المسافر بين صلاة الظهر وصلاة العصر. وذِكْرُ أحاديث الجمع في كتاب الأوقات ظاهر، وقد ذكره غيره، كالبخاري في كتاب تقصير الصلاة، نظرًا لكون أكثر الجمع في السفر. والله أعلم.

586 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُفَضَّلٌ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ، فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ زَاغَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ.

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي البغلاني، ثقة ثبت، من [10]، تقدم في 1/ 1.

2 -

(مُفَضَّل) بن فَضَالة بن عُبَيد بن ثُمامة بن مَزْيَدَ بن نوْف الرُّعَيني، ثم القِتباني -بكسر القاف، وسكون المثناة بعدها موحدة-

ص: 435

المصري، أبو معاوية القاضي، ثقة فاضل، أخطأ ابن سعد في تضعيفه، من [8].

قال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة. وقال الدوري عن ابن معين: رجل صدوق، وكان إذا جاء رَجُل قد انكسرت يده أو رِجْله جبرها، وكان يصنع الأرْحِيَةَ. وقال أبو زرعة: لا بأس به.

وقال أبو حاتم، وابن خراش: صدوق في الحديث. وقال ابن يونس: ولي القضاء بمصر مرتين، وكان من أهل الفضل، والدين، ثقة في الحديث، من أهل الورع. ذكره أحمد بن شعيب يومًا، وأنا حاضر، فأحسن الثناء عليه، ووثقه، وقال: سمعت قتيبة بن سعيد يذكر عنه فضلًا. وقال الآجري عن أبي داود: كان مجاب الدعوة لم يُحَدِّث عنه ابن وهب؛ وذلك أنه قضى عليه بقضية.

وقال عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم: أخبرني بعض مشايخنا أن رجلًا لقي المفضل بن فضالة بعد أن عزل عن القضاء، فقال: حسيبك الله قضيت علي بالباطل، فقال له المفضل: لكن الذي قضينا له يطيب الثناء.

قال يحيى بن أبي بكير: ولد سنة 107، ومات سنة 181 أو 182، وكذا قال ابن يونس، لكن لم يقل: أو اثنتين. وقال البخاري: مات في شوال سنة 181، وذكره ابن حبان في الثقات. وذكره ابن سعد في الطبقة الخامسة من أهل مصر، وقال: كان منكر الحديث. قال

ص: 436

عيسى بن حماد زُغْبَةُ: كان مجاب الدعوة، وطويل القيام مع ضعف بدنه. أخرج له الجماعة.

3 -

(عُقيل) مصغرًا- بن خالد بن عَقيل -بالفتح- الأيْلِيُّ، أبو خالد الأموي مولاهم، ثقة ثبت، سكن المدينةَ، ثم الشام، ثم مصر، توفي سنة 144، من [6]، أخرج له الجماعة، تقدم في 125/ 187.

4 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم، الأ مام الحجة الثبت، من [4]، تقدم في 1/ 1.

5 -

(أنس بن مالك) الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 6/ 6. والله أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات، اتفقوا عليهم، وأنهم ما بين بغلاني وهو شيخه، ومصريين وهما مفضل، وعُقَيل، ومدنيين وهما: ابن شهاب، وأنس، وأن أنسًا هو أحد المكثرين من الصحابة، رَوَى 2286 حديثًا، وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أنس بن مالك) رضي الله عنه، أنه (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا ارتحل) أي ذهب (قبل أن تزيغ الشمس) بزاي، ومعجمة: أي

ص: 437

تميل، وزاغت: مالت، وذلك إذا قام الفيء.

(أخر الظهر إِلى وقت العصر، ثم نزل، فجمع بينهما) أي في وقت العصر، ولمسلم من رواية جابر بن إسماعيل، عن عُقَيل:"يؤخر الظهر إلى وقت العصر، فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق"، وله من رواية شَبَابَةَ عن عُقَيل "حتى يدخل أول وقت العصر، ثم يجمع بينهما".

(فإِن زاغت الشمس قبل أن يرتحل على الظهر، ثم ركب) قال في الفتح: كذا فيه -أي في حديث أنس- الظهر فقط، وهو المحفوظ عن عقيل في الكتب المشهورة ومقتضاه أنه لا يجمع بين الصلاتين إلا في وقت الثانية منهما، وبه احتج من أبى جمع التقديم، ولكن روى إسحاق بن راهويه هذا الحديث عن شبابة، فقال: "كان إذا كان في

سفر، فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا، ثم ارتحل"، أخرجه الإسماعيلي، وَأعِلَّ بتفرد إسحاق بذلك عن شبابة، ثم تفرد جعفر الفريابي به عن إسحاق. قال الحافظ: وليس ذلك بقادح، فإنهما إمامان حافظان.

وقد وقع نظيره في "الأربعين" للحاكم، قال: حدثنا محمد بن يعقوب، هو الأصم، حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني، هو أحد شيوخ مسلم، قال: حدثنا محمد بن عبد الله الواسطي، فذكر الحديث، وفيه: "فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر

ص: 438

والعصر، ثم ركب".

قال الحافظ صلاح الدين العلائي: هكذا وجدته بعد التتبع في نسخ كثيرة من الأربعين بزيادة العصر، وسند هذه الزيادة جيد. انتهى.

قال الحافظ: وهي متابعة قوية لرواية إسحاق بن راهويه إن كانت ثابتة، لكن في ثبوتها نظر، لأن البيهقي أخرج هذا الحديث عن الحاكم بهذا الإسناد مقرونًا برواية أبي داود عن قتيبة، وقال: إن لفظهما سواء، إلا أن في رواية قتيبة:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية حسان "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم".

والمشهور في جمع التقديم ما أخرجه أبو داود، والترمذي، وأحمد، وابن حبان من طريق الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطُّفَيل، عن معاذ بن جبل.

وقد أعله جماعة من أئمة الحديث بتفرد قتيبة عن الليث، وأشار البخاري إلى أن بعض الضعفاء أدخله على قتيبة، حكاه الحاكم في علوم الحديث، وله طريق أخرى عن معاذ بن جبل، أخرجها أبو داود من رواية هشام بن سعد، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، وهشامٌ مختلف فيه، وقد خالفه الحفاظ من أصحاب أبي الزبير، كمالك، والثوري،

وقرة بن خالد، وغيرهم، فلم يذكروا في روايتهم جمع التقديم.

وقد وردفي جمع التقديم حديث آخر عن ابن عباس أخرجه أحمد،

ص: 439

وذكره أبو داود تعليقًا، والترمذي في بعض الروايات عنه، وفي إسناده حسين بن عبد الله الهاشمي، وهو ضعيف، لكن له شواهد من طريق حماد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن ابن عباس، لا أعلمه إلا مرفوعًا: "أنه كان إذا نزل منزلًا في السفر، فأعجبه أقام فيه حتى يجمع بين الظهر والعصر، ثم يرتحل، فإذا لم يتهيأ له المنزل مَدَّ في السير،

فسار حتى ينزل، فيجمع بين الظهر والعصر". أخرجه البيهقي، ورجاله ثقات، إلا أنه مشكوك في رفعه، والمحفوظ أنه موقوف. وقد أخرجه البيهقي من وجه آخر مجزومًا بوقفه على ابن عباس، ولفظه: "إذا كنتم سائرين"

فذكر نحوه.

وفي حديث أنس استحباب التفرقة في حال الجمع بين ما إذا كان لكن وقع التصريح في حديث معاذ بن جبل في الموطأ، ولفظه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة في غزوة تبوك، ثم خرج، فصلى الظهر والعصر جميعًا، ثم دخل، ثم خرج، فصلى المغرب والعشاء جميعًا". قال الشافعي في الأم: قوله: "دخل، ثم خرج" لا يكون إلا وهو نازل، فللمسافر أن يجمع نازلًا، ومسافرًا.

وقال ابن عبد البر: في هذا أوضح دليل على الرد على من قال: لا يجمع إلا من جد به السير، وهو قاطع للالتباس. اهـ.

وحكى بعضهم أن بعضهم أوَّل قوله "ثم دخل" أي في الطريق

ص: 440

مسافرًا، "ثم خرج" أي عن الطريق للصلاة، ثم استبعده، ولا شك في بعده. وكأنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لبيان الجواز، وكان أكثر عادته ما دل عليه حديث أنس. والله أعلم. ومن ثم قال الشافعية: ترك الجمع أفضل، وعن مالك أنه مكروه. اهـ "فتح" جـ 2 ص 679 - 680.

قال الجامع: في كون ترك الجمع أفضل نظر، وليس في حديث أنس ما يدل عليه، وأما القول بالكراهة فلا وجه له أصلًا. فتبصر. والله أعلم.

وفي هذا الحديث ونحوه من أحاديث الجمع تخصيص لحديث الأوقات التي بَيَّنَهَا جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم، وبينها النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي، حيث قال في آخرها:"الوقت ما بين هذين". قاله في الفتح. والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أنس هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا (586)، وفي "الكبرى"(1562) عن قتيبة، عن مفضل، عن عُقَيل، عن ابن شهاب، عنه.

وفي 594 عن عمرو بن سَوَّاد، عن ابن وهب، عن جابر بن

ص: 441

إسماعيل، عن عقيل به. والله تعالى أعم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود؛ فأخرجه البخاري في "تقصير الصلاة" عن حسان الواسطي، وقتيبة، كلاهما عن مفضل به.

وأخرجه مسلم في "الصلاة" عن قتيبة به. وعن عمرو الناقد، عن شبابة، عن ليث، عن عقيل به. وعن أبي الطاهر، وعمرو بن سَوَّاد، كلاهما عن ابن وهب، عن جابر بن إسماعيل، عن عقيل به.

وأخرجه أبو داود فيه عن قتيبة، ويزيد بن خالد بن موهب، كلاهما عن المفضل به، وأخرجه البيهقي. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: بيان كون الشريعة سمحة سهلة، تُوسِّعُ على المكلفين في محل الحرج، فلذا شرع الجمع في السفر ونحوه.

ومنها: مشروعية الجمع بين الظهر والعصر في وقت أحدهما تأخيرًا، أو تقديمًا؛ أما تأخيرًا، فلهذا الحديث، وأما تقديمًا فللأدلة الأخرى، كما تقدم قريبًا.

ومنها: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من مراعاة ما يسهل على الناس، فإذا كان المحل مناسبًا لهم تأخر، فجمع بين الصلاتين، وإذا كان غير ذلك عجل المسير، وواصل حتى يجمع في وقت الثانية، تخفيفًا على

ص: 442

أصحابه رضي الله عنهم.

المسألة الخامسة: في مذاهب العلماء في حكم الجمع بين الصلاتين:

قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله تعالى بعد ذكر أحاديث الجمع ما نصه: قد ذكرنا الإخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدالة على جمعه بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بالمزدلفة، وذكرنا

جمعه في غير هذين الموضعين من أسفاره.

وقد أجمع أهل العلم على القول ببعض هذه الإخبار، واختلفوا في القول بسائرها، فما أجمع أهل العلم على القول به، وتوارثته الأئمة قرنًا عن قرن، وتبعهم الناس عليه منذ زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا الوقت: الجمع بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بجمع في ليلة النحر.

واختلفوا في الجمع بين الصلاتين في سائر الأسفار، فرأت طائفة أن يجمع المسافر بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، وممن رأى ذلك:

سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وأسامة بن زيد، وابن عباس، وابن عمر، وأبو موسى الأشعري، وطاوس، ومجاهد، وعكرمة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور.

ص: 443

ثم ذكر رحمه الله بأسانيده إلى بعض هؤلاء ما نقل عنهم في الجمع

(1)

.

وحكاه البيهقي عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، رضي الله عنهما، ورواه عن زيد بن أسلم، وربيعة، ومحمد بن المنكدر، وأبي الزناد، وأمثالهم، قال: وهو من الأمور المشهورة المستعملة فيما بين الصحابة والتابعين

(2)

.

قال ابن المنذر: وكرهت طائفة الجمع بين الصلاتين إلا عشية عرفة، وليلة جمع، هذا قول الحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وقال أصحاب الرأي: لا يجمع بين صلاتين في سفر، ولا حضر في وقت إحداهما ما خلا عرفة ومزدلفة.

وقال النووي: وقال الحسن البصري، وابن سيرين، ومكحول، والنخعي، وأبو حنيفة، وأصحابه: لا يجوز الجمع بسبب السفر بحال، وإنما يجوز في عرفات في وقت الظهر، وفي المزدلفة في وقت العشاء بسبب النسك للحاضر، والمسافر، ولا يجوز غير ذلك. وحكاه القاضي أبو الطيب وغيره عن المزني.

واحتج لهم بأحاديث المواقيت، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت

(1)

الأوسط جـ 2 ص 421 - 242.

(2)

المجموع جـ 4 ص 371.

ص: 444

الأخرى"، رواه مسلم.

وعن ابن عمر، قال:"ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء قط في السفر إلا مرة" رواه أبو داود. وعن ابن مسعود، قال:"ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة بغير ميقاتها إلا صلاتين جمع بين المغرب والعشاء، وصلى الفجر قبل ميقاتها"، رواه البخاري ومسلم. يعني الجمع بالمزدلفة، وصلاة الصبح، وقياسًا على جمع المقيم، وجمع المريض، وجمع المسافر سفرًا قصيرًا.

واحتج الأولون بالأحاديث الصحيحة المشهورة في الجمع في أسفار النبي صلى الله عليه وسلم:

منها: حديث ابن عمر، قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جد به السير" رواه الشيخان، وغيرهما. ويأتي للمصنف 598، 599، 600.

وعن أنس رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل، فجمع بينهما، فإن زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب" رواه الشيخان

وغيرهما، وهو حديث الباب.

وعن أنس رضي الله عنه، قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر، ثم يجمع بينهما". رواه مسلم.

ص: 445

وعن نافع أن ابن عمر كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق، ويقول:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء"، رواه مسلم. ورواه البخاري بمعناه من

رواية سالم عن ابن عمر. وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه إذا عجل عليه السفر يؤخر الظهر إلى وقت العصر، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق". رواه مسلم.

وعن معاذ رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر، وإن ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى ينزل للعصر، وفي المغرب مثل

ذلك؛ إذا غابت الشمس قبل أن يرتحل جَمَعَ بين المغرب والعشاء، وإن ترحل قبل أن تغيب الشمس أخر المغرب حتى ينزل للعشاء، ثم جمع بينهما" رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن. وقال البيهقي: هو محفوظ صحيح.

وعن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر، فزالت الشمس صلى العصر والظهر جميعًا، ثم ارتحل، رواه الإسماعيلي، والبيهقي بإسناد صحيح.

قال إمام الحرمين في الأساليب: في إثبات الجمع أخبار صحيحة، هي نصوص، لا يتطرق إليها تأويل، ودليله في المعنى الاستنباط من صورة الإجماع، وهي الجمع بعرفات، والمزدلفة، فإنه لا يخفى أن

ص: 446

سببه احتياج الحجاج إليه، لاشتغالهم بمناسكهم، وهذا المعنى موجود في كل الأسفار، ووجدنا الرخص لا يستدعي ثبوتها نسكًا، ولكنها تثبت في الأسفار المباحة، كالقصر، والفطر، ثم لا يلزم الأفراد المترفهين في السفر، فإنا لو تتبعنا ذلك عرت الرخصة، وضاق محلها، وتطرق إلى كل مترخص إمكان الرَّفاهية، فاعتبر الشرع فيه كون السفر مظنة للمشقة، ولم ينظر إلى أفراد الأشخاص، والأحوال، وبهذا تمت الرخصة، واستمرت التوسعة.

وأما الجواب عن احتجاجهم بأحاديث المواقيت، فهو أنها عامة في الحضر والسفر، وأحاديث الجمع خاصة بالسفر، فَقُدِّمَتْ، وبهذا يجاب أيضًا عن حديث "ليس في النوم تفريط"، فإنه عام أيضًا.

والجواب عن حديث أبي داود عن ابن عمر أن أبا داود قال: روي موقوفًا على ابن عمر من فعله، والحديث إذا رُويَ مرفوعًا وموقوفًا هل يحتج به؟ فيه خلاف مشهور للسلف، فإن سلمنا الاحتجاج به فجوابه أن الروايات المشهورة في الصحيحين، وغيرهما عن ابن عمر صريحة في إخباره عن جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجب تأويل هذه الرواية وردها، ويمكن أن يتأول على أنه لم يره يجمع في حال سيره، إنما يجمع إذا نزل، أو كان نازلًا في وقت الأولى.

وأما حديث ابن مسعود فجوابه أنه نفي، فالإثبات الذي ذكرناه في الأحاديث الصحيحة مقدم عليه، لأن مع رواتها زيادة علم. اهـ

ص: 447

المجموع باختصار جـ 4 ص 371 - 373.

وقال أبو بكر بن المنذر: وبالأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقول، ولا معنى لكراهة من كَرِهَ ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، إذ ما قالوا من ذلك خلاف السنن الثابتة، والسنة إذا ثبتت استغني بها عن كل قول. اهـ "الأوسط" جـ 2 ص 425.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله ابن المنذر رحمه الله هو واجب كل مسلم، فوجب القول بجواز الجمع في السفر، تقديمًا وتأخيرًا لثبوت الإخبار بذلك، فكان المذهب الصحيح مذهب القائلين به، والذين خالفوا لم يأتوا بشيء يعتد به، فلا يلتفت إليه. فتبصر وبالله التوفيق، وعليه التكلان، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

587 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ: أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ تَبُوكَ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، فَأَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا، ثُمَّ خَرَجَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ

ص: 448

خَرَجَ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ.

رجال الإسناد: سبعة

1 -

(محمد بن سلمة) بن أبي فاطمة المُرَادي الجَمَلِي أبو الحارث المصري، ثقة ثبت، توفي سنة 248، من [11]، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، تقدم في 19/ 20.

2 -

(الحارث بن مسكين) بن محمد أبو عمرو المصري قاضيها، ثقة فقيه، من [10]، تقدم في 9/ 9.

3 -

(ابن القاسم) عبد الرحمن العُتَقِيُّ المصري أبو عبد الله الفقيه صاحب مالك، ثقة، توفي سنة 191، من كبار [10]، تقدم في 19/ 20.

4 -

(مالك) بن أنس الإمام المدني الحجة، من [7]، تقدم في 7/ 7.

5 -

(أبو الزبير المكي) محمد بن مسلم بن تدرس الأسدي مولاهم، صدوق، من [4]، تقدم في 31/ 35.

6 -

(أبو الطفيل، عامر بن واثلة) بن عبد الله بن عمرو بن جحش، ويقال: خميس بن جريّ بن سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناة ابن علي بن كنانة، الليثي، ويقال. اسمه عمرو والأول أصح، ولد عام أحد.

ص: 449

رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وعمر، وعلي، ومعاذ بن جبل، وحذيفة، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي سَرِيحة، ونافع بن عبد الحارث، وزيد بن أرقم، وغيرهم. وعنه الزهري، وأبو الزبير، وقتادة، وعبد العزيز بن رفيع، وغيرهم.

قال مسلم: مات أبو الطفيل سنة 100 وهو آخر من مات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال خليفة: مات بعد سنة 100، ويقال: مات سنة 107، وقال وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه كنت بمكة سنة 110، فرأيت جنازة، فسألت عنها؟ فقالوا: هذا أبو الطفيل. وقال ابن البرقي: مات سنة 102، وقال موسى بن إسماعيل: ثنا مبارك بن فضالة، ثنا كثير بن أعين، سمعت أبا الطفيل بمكة سنة 107، يقول: ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر قِصَّة. وقال ابن السكن: رُويَ عنه رؤيته لرسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة، ولم يُرْوَ عنه من وجه ثابت سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن سعد: حدثنا عمرو بن عاصم، ثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي الطفيل، قال: كنت أطلب النبي صلى الله عليه وسلم فيمن يطلبه ليلة الغار، فقمت على باب الغار، ولا أرى فيه أحدًا. ثم قال ابن سعد:

وهذا الحديث غلط، أبو الطفيل لم يولد تلك الليلة، وينبغي أن يكون حدث بهذا الحديث عن غيره، فأوهم الذي حدث عنه، وكان أبو الطفيل ثقة في الحديث، وكان متشيعًا، وذكر البخاري في التاريخ الصغير هذا الحديث عن عمرو بن عاصم، وقال: الأول أصح -يعني

ص: 450

قوله: أدركت ثمان سنين من حياة النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال يعقوب بن سفيان في تاريخه: حدثنا عُقْبَةُ بن مكْرَم، ثنا يعقوب بن إسحاق، ثنا مهدي بن عمران الحنفي، قال: سمعت أبا الطفيل يقول: كنت يوم بدر غلافا قد شددت علي الإزار، وأنقل اللحم من السهل إلى الجبل. قال الحافظ: قلت: لي فيه

(1)

وهم في لفظة واحدة، وهي قوله: يوم بدر، والصواب يوم حنين. والله أعلم. فقد رويناه هكذا من طريق أخرى عن أبي الطفيل. وقال ابن عدي: له صحبة، قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قريبًا من عشرين حديثا، وكانت الخوارج يرمونه باتصاله بعلي، وقوله بفضله، وفضل أهل بيته، وليس في روايته بأس. وقال ابن المديني: قلت لجرير: أكان مغيرة يكره الرواية عن أبي الطفيل؟ قال: نعم. وقال صالح بن أحمد عن أبيه: أبو الطفيل مكي ثقة. أخرج له الجماعة.

7 -

(معاذ بن جبل) بن عمرو بن أوس بن عائذ بن عدي بن كعب ابن عمرو بن أدَيّ بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن يزيد بن جُشَم ابن الخزرج الأنصاري الخزرجي، أبو عبد الرحمن المدني، أسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة، وشهد بدرًا، والعقبة، والمشاهد.

روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعنه ابن عباس، وأبو موسى الأشعري، وابن عمرو، وابن عمر، وعبد الرحمن بن سمرة، وابن أبي أوفى، وأنس، وجابر، وأبو الطفيل، وغيرهم.

(1)

هكذا عبارة الحافظ في "تت" جـ 5 ص 83 ولعل الصواب "ظهر لي فيه وهم" أو نحوه من العبارات، فليحرر.

ص: 451

قال قتادة عن الحسن: جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة، كلهم من الأنصار: أبَيّ، ومعاذ، وزيد بن ثابت، وأبو زيد.

وقال مسروق، عن عبد الله بن عمرو: أربعة رهط لا أزال أحبهم بعدما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اقرءوا القرآن من أربعة: من ابن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل".

وعن أبي قلابة، عن أنس مرفوعًا "وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ ابن جبل". ويُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا ومتصلًا "يأتي معاذ يوم القيامة أمام العلماء برتوة".

وقال الشعبي عن مسروق: كنا عند ابن مسعود، فقرأ:"إن معاذًا كان أمة قانتًا لله" الآية، فقال فروة بن نوفل: نسي، فقال عبد الله: من نسي، إنا كنا نشبهه بإبراهيم عليه السلام، ورواه أبو الأحوص، عن عبد الله نحوه.

وقال الأعمش، عن أبي سفيان: حدثني أشياخ لنا، فذكر قصة، فيها: فقال عمر: عجزت النساء أن تَلِدَ مثل معاذ، لولا معاذ لهلك عمر. ومناقبه كثيرة جدًا.

قال أبو مسهر: مات سنة 17، قال أبو مسهر: قرأت مثله في كتاب أبي عبيدة بن مهاجر، وكان سعيد بن عبد العزيز يقول: إنه صحيح. وقال يحيى بن معين: مات سنة 17، أو 18، زاد يحيى، وهو ابن 34 سنة، وقال الواقدي عن رجاله: مات سنة 18، وهو ابن

ص: 452

38 سنة، قال الواقدي: وكان من أجمل الناس، وفيها أرخه غير واحد، وقيل في سنه غير ذلك. أخرج له الجماعة. والله أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف.

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، وأنهم ما بين مصريين، وهم مَنْ قبل مالك، ومدني وهو: مالك، ومكيين وهما: أبو الزبير، وأبو الطفيل، وشامي وهو: معاذ.

ومنها: قوله: قراءة عليه وأنا أسمع، وقوله: واللفظ له، وقد تقدم الكلام عليهما غير مرة.

ومنها: أن فيه رواية صحابي عن صحابي.

ومنها: أن أبا الطفيل ومعاذا، هذا أول محل ذكرها من الكتاب. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي الطفيل: عامر بن واثلة) الليثي المكي الصحابي رضي الله عنه (أن معاذ بن جبل) رضي الله عنه (أخبرهم) أي أبا الطفيل، ومن معه (أنهم) أي الصحابة رضي الله عنهم (خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك) أي في السنة التي غزا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك، وهي سنة تسع من الهجرة في رجب، وهي آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، وتسمى غزوة العُسْرَة. وتبوك بوزن رَسُول بلد

ص: 453

بالشام، قريب من مَدْيَن، بينها وبين المدينة أربع عشرة مرحلة، وهي غير مصروفة للعلمية والتأنيث، أو وزن الفعل، صَالَحَ النبي صلى الله عليه وسلم أهلها على الجزية من غير قتال. قاله في "المنهل" جـ 7 ص 59 - 60.

(فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء) أي جمع تأخير بأن يؤخر الظهرَ إلى وقت العصر، والمغربَ إلى وقت العشاء، ويحتمل أن يكون جمع تقديم إن ارتحل عند الزوال بأن يصلي العصر مع الظهر في أول وقتها، وجمع تأخير إن ارتحل قبل الزوال، وكذا يقال في المغرب والعشاء.

ويدل على هذا حديث معاذ الذي رواه أبو داود، والترمذي، وحسنه، وصححه ابن حبان، وابن القيم

(1)

، ولفظه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخّر الظهر حتى يجمعها إلى العصر، فيصليهما جميعًا، وإذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا، ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء، فصلاها مع المغرب".

(فأخر الصلاة يومًا) أي أخر صلاة الظهر يومًا (ثم خرج) من رحله (فصلى الظهر والعصر جميعًا) أي جمع بينهما في وقت الثانية

(1)

وصححه أيضًا من المتأخرين الشيخ العلامة أحمد محمد شاكر، انظر تعليقه على الترمذي جـ 2 عن 441 - 442. والعلامة المحدث الألباني انظر إرواءه جـ 3 ص 29 - 32

ص: 454

جمع تأخير.

وهذا بيان لما أجمل في قوله: "كان يجمع" الخ على الاحتمال الأول، وتفسير لبعضه على الثاني. قاله في المنهل.

(ثم دخل) إلى رحله (ثم خرج) منه، قال في المنهل: مقتضاه أنه صلى الله عليه وسلم كان غير سائر، لأن الغالب استعمال الدخول إلى الخباء، أو المنزل، وكذا الخروج حال الإقامة، فمعنى قوله:"فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء" أنه يجمع بينهما سائرًا. ومعنى قوله: "فأخر الصلاة يومًا" الخ: أنه جمع بينهما يومًا في حالة النزول، يدل على هذا لفظ "ثم دخل، ثم خرج". قال ابن عبد البر: هذا أوضح دليل على رد قول من قال: لا يجمع إلا من جَدَّ به السير. اهـ. المنهل جـ 7 ص 60.

وقد استدل بهذا الحديث من قال بجواز الجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء مطلقًا، في عرفة، والمزدلفة وغيرهما، جَدَّ به السير، أولا، وهو رأي الجمهور، وهو الصواب، كما تقدم تحقيقه في المسألة الخامسة من الحديث الذي قبله. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث معاذ رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.

ص: 455

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا (587)، وفي "الكبرى"(1563) عن محمد بن سلمة، والحارث بن مسكين، كلاهما عن ابن القاسم، عن مالك عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل عنه. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه مسلم، وأبو داود، وابن ماجه؛ فأخرجه مسلم في "الصلاة" عن أحمد بن يونس، عن زهير بن معاوية- وعن يحيى بن حبيب بن عَرَبِيّ، عن خالد بن الحارث، عن قُرَّةَ بن خالد- كلاهما عن أبي الزبير به.

وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي، عن مالك، عن أبي الزبير نحوه، وعن يزيد بن خالد الرَّمْلِيّ عن المُفَضَّل بن فَضَالة، والليث بن سعد، كلاهما عن هشام بن سعد، عن أبي الزبير به.

وأخرجه ابن ماجه فيه عن علي بن محمد، عن وكيع، عن سفيان، عن أبي الزبير به. وأخرجه مالك في "الموطأ"، وأحمد في "مسنده"، وابن حبان في "صحيحه"، والبيهقي.

وبقية المسائل تفدمت في الذي قبله. والله تعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 456

‌43 - بَيَانُ ذَلِكَ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على كيفية الجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، وبيان ذلك واضح من قوله: "حتى إذا كان بين الصلاتين نزل، فقال: أقم، فإذا سلمت فأقم

" الخ. والله تعالى أعلم.

588 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ قَارَوَنْدَا، قَالَ: سَأَلْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ عَنْ صَلَاةِ أَبِيهِ فِي السَّفَرِ، وَسَأَلْنَاهُ هَلْ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ فِي سَفَرِهِ، فَذَكَرَ أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ أَبِي عُبَيْدٍ كَانَتْ تَحْتَهُ، فَكَتَبَتْ إِلَيْهِ، وَهُوَ فِي زَرَّاعَةٍ لَهُ أَنِّي فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَأَوَّلِ يَوْمٍ مِنَ الآخِرَةِ، فَرَكِبَ، فَأَسْرَعَ السَّيْرَ إِلَيْهَا، حَتَّى إِذَا حَانَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ قَالَ لَهُ الْمُؤَذِّنُ: الصَّلَاةَ، يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ، حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ نَزَلَ، فَقَالَ: أَقِمْ، فَإِذَا سَلَّمْتُ، فَأَقِمْ، فَصَلَّى، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ، قَالَ لَهُ الْمُؤَذِّنُ: الصَّلَاةَ، فَقَالَ: كَفِعْلِكَ فِي

ص: 457

صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى إِذَا اشْتَبَكَتِ النُّجُومُ نَزَلَ، ثُمَّ قَالَ لِلْمُؤَذِّنِ: أَقِمْ، فَإِذَا سَلَّمْتُ فَأَقِمْ، فَصَلَّى، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الأَمْرُ الَّذِي يَخَافُ فَوْتَهُ، فَلْيُصَلِّ هَذِهِ الصَّلَاةَ".

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(محمد بن عبد الله بن بَزِيع) -بفتح الموحدة، وكسر الزاي- أبو عبد الله البصري، ثقة، توفي سنة 247، من [10]، أخرج له مسلم والترمذي والنسائي.

وثقه أبو حاتم، ومسلمة بن قاسم، وقال النسائي: صالح، وقال مرة: لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال صاحب الزهرة: رَوَى عنه مسلم تسعة أحاديث.

2 -

(يزيد بن زُرَيع) بتقديم الزاي مصغرًا- أبو معاوية البصري، ثقة ثبت، من [8]، تقدم في 5/ 5.

3 -

(كثير بن قَارَوَنْدَا) -بفتح القاف، والمهملة، بينهما ألف، والواو، ثم نون ساكنة

(1)

أبو إسماعيل الكوفي نزيل البصرة، مقبول،

(1)

هكذا ضبطه في الخلاصة ص320.

ص: 458

من [7]،

رَوَى عن سالم بن عبد الله بن عمر، وعدي بن ثابت، وعون بن أبي جحيفة، وأبي جعفر، وعطية.

وعنه يزيد بن زريع، ويوسف بن خالد السمتي، والفضيل بن سليمان، والنضر بن شُمَيل. ذكره ابن حبان في الثقات وقال: إنه يكنى أبا إسماعيل، روى له النسائي هذا الحديث فقط.

وقال الخطيب: كثير أبو إسماعيل الذي روى عن إبراهيم بن الحسن هو كثير النوَّاء، وهو كثير بن قارَوَنْدَ، كذا قال. وقال القطان: لا يعرف حاله، وأورد ابن عدي في ترجمة فضيل بن سليمان من طريق فضيل، عن كثير، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه:"حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زلنا نصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا"، فقال: لم يروه عن كثير إلا فضيل، وكثير عزيز الحديث. انفرد به المصنف. والله تعالى أعلم.

تنبيه:

نسخ "المجتبى"، و"السنن الكبرى"، قَارَوَنْدَا بألف بعد الدال، وهو الذي في "تهذيب الكمال"، و"الكاشف" للذهبي؛ والذي في "التقريب"، وأصله، و"الخلاصة": قَارَوَنْد، بدون ألف، والله أعلم.

4 -

(سالم بن عبد الله) بن عمر بن الخطاب العدوي المدني ثقة

ص: 459

ثبت فاضل فقيه، توفي في آخر سنة 106 على الصحيح، من كبار [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 490.

5 -

(عبد الله بن عمر) بن الخطاب الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 12/ 12. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف.

ومنها: أن رجاله موثقون، بصريون، إلا سالمًا، وأباه فمدنيان.

ومنها: أن سالمًا أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال.

ومنها: أن ابن عمر أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى 2630 حديثًا، وقد تقدم غير مرة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(قال) كثير بن قَارَوَنْدَا (سألت سالم بن عبد الله) بن عمر بن الخطاب (عن صلاة أبيلى) أي عن كيفية صلاة عبد الله بن عمر (في) حالة (السفر، وسألناه هل كان يجمع بين شيء من صلاته في سفره؟) جملة "وسألناه الخ" عطف تفصيل لما قبله، والظاهر أن السؤال وقع من كثير، ومعه غيره، فأسند إليه السؤال في الأول لكونه تولاه، وأسنده إليهم في الثاني لكونهم أرادوه، أو أمروه به. والله أعلم.

ص: 460

(فذكر أن صفية بنت أبي عُبَيد) بن مسعود الثقفية، امرأة ابن عمر، وهي أخت المختار، رأت عمر بن الخطاب، وَحكتْ، وَرَوت عن حفصة، وعائشة، وأم سلمة؛ أمهات المؤمنين، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق. وروى عنها سالم بن عبد الله، ونافع، وعبد الله بن دينار، وعبد الله بن صفوان بن أمية، وحميد بن قيس الأعرج، وموسى بن عقبة.

قال العجلي: مدنية تابعية ثقة، وذكرها ابن حبان في "الثقات"، وذكرها ابن عبد البر في الصحابة. وقال ابن منده: أدركت النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصح لها منه سماع. وقال الدارقطني: لم تدرك النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر الواقدي عن موسى بن ضمرة بن سعيد المازني، عن أبيه: أنها تزوجت عبد الله بن عمر في خلافة أبيه عمر. علق لها البخاري، وأخرج لها الباقون إلا الترمذي.

(كانت تحته) أي كانت زَوْجَتَهُ (فكتبت إِليه، وهو في زَرَّاعة) بزاي مفتوحة، وراء مشددة مهملة: الأرض التي تزرع، والجملة في موضع نصب على الحال. (له) متعلق بصفة محذوفة لزراعة (أني في آخر يوم من أيام الدنيا، وأول يوم من أيام الآخرة) يحتمل فتح "أن" على المفعولية لقوله: كتبت، ويحتمل كسرها على أنها كتبت إليه هذا الكلام، وهذا الوجه أوضح والمراد قرب موتها.

(فركب) ابن عمر (فأسرع السير إليها) ليدركها قبل الموت. (حتى اذا حانت صلاة الظهر) أي قرب وقتها (قال له المؤذن:

ص: 461

الصلاة، يا أبا عبد الرحمن) بنصب الصلاة على أنه مفعول لفعل محذوف، أي صل الصلاة، ويحتمل الرفع مبتدأ حذف خبره، أي الصلاة دخل وقتها. (فلم يلتفت) أي لم يستجب ابن عمر لما قاله المؤذن، لكونه أراد الجمع بين الصلاتين.

(حتى إِذا كان بين الصلاتين) أي بين صلاة الظهر وصلاة العصر، قال العلامة السندي رحمه الله: ظاهره أنه جمع تقديم في آخر وقت الظهر، ويحتمل أنه جمع فِعلًا، وأما التأخير فهذا اللفظ يأبى عنه. والله أعلم. اهـ.

(نزل) ابن عمر عن دابته (فقال) للمؤذن (أقم) أي بعد الأذان (فإِذا سلمت) أي من صلاة الظهر (فأقم) وفي الرواية الآتية "فأقم مكانك" والمراد به عدم الفصل بين الصلاتين بنافلة ونحوها.

(فصلى) وفي الرواية الآتية "فصلى الظهر ركعتين، ثم سلم، ثم أقام مكانه، فصلى العصر ركعتين". (ثم ركب) فأسرع السير.

(حتى إِذا غابت الشمس، قال له المؤذن: الصلاة) تقدم إعرابه.

(فقال) ابن عمر للمؤذن. (كفعلك في صلاة الظهر والعصر) الجار والمجرور الأول نعت لمصدر محذوف، أي افعل فعلًا كائنًا كفعلك الأول، في صلاة الظهر والعصر، وهو تأخيرهما، ثم الجمع بينهما.

ص: 462

(ثم سار حتى إِذا اشتبكت النجوم) أي كثرت، وانضمت، وتداخلت. (نزل، ثم قال للمؤذن: أقم، فإِذا سلمت) أي من صلاة المغرب (فأقم) أي للعشاء.

(فصلى، ثم انصرف) أي سلم من الصلاة.

(فالتفت إِلينا، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذا حضر أحدَكُم") بالنصب مفعول مقدم على الفاعل.

(الأمر الذي يخاف فوته، فليصل) بتشديد اللام، مضارع "صلَّى صلاة". (هذه الصلاة) مفعول ليصل، على حذف مضاف، أي مثل هذه الصلاة في كميتها وكيفيتها، قال السندي:"فليصل هذه الصلاة" بضم الياء، وتشديد اللام، والمراد فليصل هكذا، أو بفتح الياء، وتخفيف اللام، فليجمع هذه الصلاة. اهـ.

يعني أنه على الثاني من الوَصْل، هذا إن صحت الرواية بالوجهين، وإلا فما صحت به الرواية هو المتعين. فتنبه. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

تنبيه:

حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا حديث حسن.

وهو من أفراد المصنف أخرجه هنا (588)، وفي "الكبرى"(1564) عن محمد بن عبد الله بن بزيع، عن يزيد بن زريع، عن كثير

ص: 463

ابن قارَوَنْدَا عن سالم عنه. وفي (597) عن عبدة بن عبد الرحيم، عن النضر بن شُمَيل، عن كثير به، وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير".

وبقية مباحث الحديث تقدمت في الماضي، وأيضًا ستأتي في الأحاديث الآتية، إن شاء الله تعالى.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 464

‌44 - الْوَقْتُ الذِّي يَجْمَعُ فِيهِ الْمُقِيمُ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على الوقت الذي يشرع للمقيم أن يجمع فيه بين الصلاتين في الحضر.

والظاهر أن المصنف يرى أن الجمع للمقيم جمع صوري بدليل أنه أورد حديث ابن عباس هذا، وفيه قوله:"أخر الظهر، وعجل العصر" الخ لكن هذا مدرج من ظن جابر بن زيد، كما يأتي تحقيقه، فالصواب أن الجمع جمع حقيقي، والله أعلم.

589 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ ثَمَانِيًا جَمِيعًا، وَسَبْعًا جَمِيعًا؛ أَخَّرَ الظُّهْرَ، وَعَجَّلَ الْعَصْرَ، وَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ، وَعَجَّلَ الْعِشَاءَ.

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي البَغْلاني، ثقة ثبت، من [10]، تقدم في 1/ 1.

2 -

(سفيان) بن عيينة المكي، ثقة حجة ثبت، من [8]، تقدم في 1/ 1.

3 -

(عمرو) بن دينار الجمحي الأثرم أبو محمد المكي، ثقة، من

ص: 465

من [4]، تقدم في 112/ 154.

4 -

(جابر بن زيد) أبو الشعثاء الأزدي اليُحْمديُّ ثم الجَوْفي -بفتح فسكون-

(1)

البصري، مشهور بكنيته، ثقة فقيه، من [3].

قال عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس: لو أن أهل البصرة نزلوا عند قول جابر بن زيد لأوسعهم علمًا من كتاب الله. وقال تميم ابن حُدَير، عن الرَّباب: سألت ابن عباس عن شيء؟ فقال: تسألوني، وفيكم جابر بن زيد. وقال داود بن أبي هند، عن عَزْرَةَ: دخلت على جابر بن زيد، فقلت: إن هؤلاء القوم ينتحلونك، يعني الإباضية، قال: أبرأ إلى الله من ذلك.

وقال ابن معين، وأبو زرعة: ثقة.

قال البخاري، وغيره: مات سنة 93، وقال ابن سعد: سنة 103، وقال الهيثم بن عدي: سنة 104، وقال العجلي: تابعي ثقة.

وفي "تاريخ البخاري" عن جابر بن زيد، قال: لقيني ابن عمر، فقال: يا جابر إنك من فقهاء أهل البصرة. وقال ابن حبان في "الثقات": كان فقيهًا، ودُفِنَ هو، وأنس بن مالك في جمعة واحدة، وكان أعلم الناس بكتاب الله.

(1)

هكذا ضبطه في الخلاصة ص 320.

ص: 466

وفي كتاب الزهد لأحمد: لما مات جابر بن زيد قال قتادة: اليوم مات أعلم أهل العراق. وقال إياس بن معاوية: أدركت الناس، وما لهم مفت غير جابر. وفي تاريخ ابن أبي خيثمة: كان الحسن البصري إذا غزا أفتى الناس جابر بن زيد. وفي الضعفاء للساجي عن يحيى بن معين: كان جابر إباضيًا، وعكرمة صُفْريًا

(1)

. وأغرب الأصيلي، فقال: هو رجل من أهل البصرة، انفرد عن ابن عباس بحديث:"من لم يجد إزارًا، فليلبس السراويل"، ولا يعرف هذا الحديث بالمدينة. أخرج له الجماعة اهـ تت جـ 2 ص 38 - 39.

5 -

(ابن عباس) عبد الله رضي الله عنه، تقدم في 27/ 31. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات، اتفقوا على التخريج لهم، وأنهم ما بين بَغْلاني وهو: قتيبة، ومكيين: سفيان، وعمرو، وبصريين: جابر، وابن عباس، وفيه رواية تابعي عن تابعي، عمرو عن جابر، وفيه ابن عباس أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن ابن عباس) رضي الله عنهما، أنه (قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ثمانيًا جميعًا) أي ثماني ركعات؛ أربع ركعات للظهر، وأربع

(1)

الصُّفْرية من الخوارج نسبة إلى زياد بن الأصفر. اهـ "لب اللباب" جـ 2 ص 73.

ص: 467

ركعات للعصر (و) صليت (سبعًا جميعًا) أي سبع ركعات؛ ثلاثا للمغرب، وأربعًا للعشاء.

(أخر الظهر، وعجل العصر، وأخر المغرب، وعجل العشاء) ظاهر سياق الصنف رحمه الله تعالى يوهم أن جملة "أخر الظهر" الخ من كلام ابن عباس رضي الله عنهما، وليس كذلك، بل هو مدرج من كلام جابر بن زيد، كما بينته رواية الشيخين ممت طريق ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، فذكر هذا الحديث، وزاد: قلت: يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر، وعجل العصر، وأخر المغرب، وعجل العشاء، قال: وأنا أظنه

(1)

.

وأخرج البخاري من طريق حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار بعد ذكر الحديث أن أيوب قال لجابر: لعله في ليلة مطيرة؟ قال عسى. فتبين بهذا أن الظن من جابر، لا من ابن عباس.

وأما الذي ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما لما سئل عن سبب الجمع فهو قوله: "لئلا يكون على أمته حرج"، كما يأتي برقم 602 إن شاء الله تعالى.

فليس في هذا الحديث ما يدل على أن الجمع جمع صوري، كما يرشد إليه ظاهر صنيع المصنف، حيث ترجم بقوله:"الوقت الذي يجمع فيه المقيم "، لأن قوله: أخر الظهر إلخ من ظن أبي الشعثاء، وما

(1)

صحيح البخاري جـ 2 ص 72 - 73، صحيح مسلم جـ 5 ص 216 - 217 بشرح النووي.

ص: 468

جزم به ابن عباس رضي الله عنهما -وهو عدم حصول الحرج على الأمة- أولى من ظنه، فيكون الجمع جمعًا حقيقيًا، كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى في المسائل. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا متفق عليه، دون المدرج من قول جابر بن زيد.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا (589) عن قتيبة، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عنه.

وفي (590)، والكبرى (1565) عن أبي عاصم خشيش بن أصرم، عن حبان بن هلال، عن حبيب بن أبي حبيب، عن عمرو بن هرم، عن جابر بن زيد، عنه.

وفي (601)، و"الكبرى"(573) عن قتيبة، عن مالك، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عنه.

و (602)، و"الكبرى"(1574) عن محمد بن عبد العزيز أبي رِزْمَةَ، عن الفضل بن موسى، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد، عنه.

و (603) عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد بن الحارث، عن

ص: 469

ابن جريج، عن عمرو بن دينار به. والله أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود؛ فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن أبي النعمان، عن حماد- وعن آدم، عن شعبة- وفي "صلاة الليل" عن علي بن عبد الله، عن سفيان- ثلاثتهم عن عمرو بن دينار عنه.

وأخرجه مسلم في "الصلاة" عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن سفيان به. وعن أبي الربيع الزهراني، عن حماد به.

وأخرجه أبو داود فيه عن سليمان بن حرب، ومسدد، وعمرو بن عون، ثلاثتهم عن حماد به. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في اختلاف أهل العلم في جواز الجمع في الحضر: قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: اختلف أهل العلم في الجمع بين الصلاتين في الحضر، وفي الحالة التي يجوز أن يجمع بينهما، فقالت طائفة: يجمع بين المغرب والعشاء في الليلة المطيرة، ولا يجمع بين الظهر والعصر في حال المطر، هذا قول مالك، قال مالك: ويجمع بينهما وإن لم يكن مطر، إذا كان طينًا وظلمة.

وكان أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه يريان الجمع بين المغرب والعشاء في الليلة المطيرة، وممن رأى أن يجمع بين المغرب والعشاء في حال المطر عبد الله بن عمر بن الخطاب، ثم أخرج بسنده عن نافع، قال: إذا كانت ليلة مطيرة كانت أمراؤهم يصلون المغرب، ويصلون

ص: 470

العشاء قبل أن يغيب الشفق، ويصلي معهم ابن عمر، لا يَعِيبُ ذلك.

وفعل ذلك أبان بن عثمان، وعروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، ومروان بن الحكم، وعمر بن عبد العزيز.

وقالت طائفة: يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في حال المطر، إذا جمع بينهما، والمطر قائم، ولا يجمع بين الصلاتين إلا في حال المطر، هكذا قال الشافعي، وأبو ثور.

وقال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعي عمن جمع بين الصلاتين: المغرب والعشاءِ في الليلة المطيرة فقال: أهل المدينة يجمعون بينهما، ولم يزلَ مَنْ قَبْلَنَا يصلون كل صلاة في وقتها، قال: وسألت الليث بن سعد، وسعيد بن عبد العزيز فقالا مثل ذلك، وكان عمر بن عبد العزيز يرى الجمع بين الصلاتين في حال الريح والظلمة، وكان مالك يرى أن يجمع بينهما في حال الطين والظلمة.

وقالت طائفة: الجمع بين الصلاتين مباح، وإن لم تكن علة، قال: لأن الإخبار قد ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جمع بين الصلاتين بالمدينة، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع بينهما في المطر، ولو كان ذلك في حال المطر لأدي إلينا ذلك، كما أدي إلينا جمعه بين الصلاتين، بل قد ثبت عن ابن عباس الراوي لحديث الجمع بين الصلاتين في الحضر، لَمَّا سئل لِمَ فَعَلَ ذلك؟ قال: أراد أن لا يُحْرِج أحدًا من أمته.

ص: 471

ثم قد روينا مع ذلك عن ابن عباس في العلة التي توهمها بعض الناس. ثم أخرج بسنده عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: "جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، وبين

المغرب والعشاء، من غير خوف، ولا مطر، قلت لابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: لكي لا يحرج أمته"

(1)

.

وأخرج بسنده أيضًا عن أبي الزبير، عن سعيد، عن ابن عباس، قال: "جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر بالمدينة في غير سفر، وفلا خوف، قال: قلت لابن عباس: ولم تراه فعل ذلك؟ قال: أراد أن لا

يحرج أحدًا من أمته"

(2)

.

قال أبو بكر: فإن تكلم متكلم في حديث حبيب، وقال: لا يصح، يعني المطر، قيل: قد ثبت من حديث أبي الزبير عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قولُهُ: لَمَّا قيل له: لم فعل ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أحدًا من أمته، ولو كان ثَمَّ مطر من أجله جمع بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لذكره ابن عباس عن السبب

(3)

الذي جمع بينهما، فلما لم يذكره، وأخبر بأنه أراد أن لا يحرج أمته، دل على أن جمعه كان في غير حال المطر، وغيرُ جائز دفع يقين ابن عباس- مع حضوره- بشك مالك

(4)

.

(1)

مسلم جـ 5 ص 216 - 217 بشرح النووي.

(2)

مسلم جـ 5 ص 215.

(3)

هكذا نسخة "الأوسط""عن السبب" ولعله سقط منه شيء يصح به المعنى، كما يدل عليه السياق، والأصل "لما سئل عن السبب" فيتأمل.

(4)

يعني قول مالك بعد روايتها "في غير سفر ولا خوف": أرى ذلك كان في مطر.

ص: 472

فإن قال قائل: فإن ابن عمر وغيره ممن ذكرنا قد جمعوا في حال المطر، قيل: إذا ثبتت الرخصة في الجمع بين الصلاتين، جمع بينهما للمطر، والريح، والظلمة، ولغير ذلك من الأمراض، وسائر العلل، وأحق الناس بأن يَقْبَلَ ما قاله ابن عباس بغير شك مَنْ جَعَلَ قولَ ابن عباس لَمَّا ذَكَرَ "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام حتى يُقْبَضَ"، فقال ابن عباس: وأحْسِبُ كلَّ شيء مثلَهُ، حجةً بَنَى عليها المسائل، فمن استعمل شك ابن عباس، وبنى عليه المسائل، وامتنع أن يقبل يقينه لَمَّا أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن لا يحرج أمته، بعيد من الإنصاف. اهـ كلام ابن المنذر رحمه الله بتغيير يسير. "الأوسط" جـ 2 ص 430 - 434.

قال الجامع: هذا الذي قاله ابن المنذر تحقيق حقيق بالقبول، لموافقته لظواهر النقول من غير تكلف، ولا مُيُول، والله أعلم.

وقال في "الفتح" عند شرح قول أيوب لأبي الشعثاء: "لعله في ليلة مطيرة؟ قال: عسى" ما نصه: واحتمال المطر قال به أيضًا مالك عقيب إخراجه لهذا الحديث عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس نحوه، وقال بدل قوله بالمدينة:"من غير خوف، ولا سفر"، قال مالك: لعله كان في مطر، لكن رواه مسلم، وأصحاب السنن من طريق حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، بلفظ:"من غير خوف، ولا مطر"، فانتفى أن يكون الجمع المذكور للخوف، أو السفر، أو المطر.

ص: 473

وجوز بعض العلماء أن يكون الجمع المذكور للمرض، وقَوَّاه النووي، قال الحافظ: وفيه نظر، لأنه لو كان جمعه صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين لعارض المرض لما صلى معه إلا من به نحو ذلك العذر، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم جمع بأصحابه. وقد صرح ابن عباس في روايته بذلك.

قال الجامع: أي حيث قال، كما في رواية المصنف هنا:"صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة"

فإنه نص على أنه صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه.

قال النووي: ومنهم من تأوله على أنه كان في غيم، فصلى الظهر، ثم انكشف الغيم مثلًا، فبان أن وقت العصر دخل، فصلاها، قال: وهو باطل، لأنه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر، فلا احتمال فيه في المغرب والعشاء. اهـ.

وكأن نفيه الاحتمال مبني على أنه ليس للمغرب إلا وقت واحد، والمختار عنده خلافه، وهو أن وقتها يمتد إلى العشاء فعلى هذا فالاحتمال قائم.

قال: ومنهم من تأوله على أن الجمع المذكور صوري، بأن يكون أخر الظهر إلى آخر وقتها، وعجل العصر في أول وقتها.

قال: وهو احتمال ضعيف، أو باطل، لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل. اهـ.

قال الحافظ: وهذا الذي ضعفه: استحسنه القرطبي، ورجحه قبله

ص: 474

إمام الحرمين، وجزم به من القدماء: ابن الماجشون، والطحاوي، وقواه ابن سيد الناس بأن أبا الشعثاء، وهو راوي الحديث عن ابن عباس قد قال به، وذلك فيما رواه الشيخان من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار، فذكر الحديث، وزاد: قلت: يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر، وعجل العصر، وأخر المغرب، وعجل العشاء. قال: وأنا أظنه. قال ابن سيد الناس: وراوي الحديث أدرى بالمراد من غيره.

قال الحافظ: قلت: لكن لم يجزم بذلك، بل لم يستقر عليه، فقد تقدم كلامه لأيوب، وتجويزه لأن يكون الجمع بعذر المطر، لكن يقوي ما ذكره من الجمع الصوري أن طرق الحديث كلها ليسر فيها تعرض لوقت الجمع، فإما أن تحمل على مطلقها، فيستلزم إخراج الصلاة عن وقتها المحدود بغير عذر، وإما أن تحمل على صفة مخصوصة، لا تستلزم الإخراج، ويجمع بها بين مفترق الأحاديث، والجمع الصوري أولى. والله أعلم.

قال الجامع: هذا الذي قاله الحافظ هنا من أولوية الجمع الصوري فيه نظر، ويناقضه ما يأتي له قريبًا إن شاء الله تعالى.

قال: وقد ذهب جماعة من الأئمة إلى الأخذ بظاهر هذا الحديث، فجوزوا الجمع في الحضر للحاجة مطلقًا، لكن بشرط أن لا يتخذ ذلك عادة، وممن قال به: ابن سيرين، وربيعة، وأشهب، وابن المنذر، والقفال الكبير، وحكاه الخطابي عن جماعة من أصحاب الحديث، واستدل

ص: 475

لهم بما وقع عند مسلم في هذا الحديث من طريق سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أحدًا من أمته.

وللنسائي من طريق عمرو بن هَرِم عن أبي الشعثاء: أن ابن عباس صلى بالبصرة الأولى والعصر، ليس بينهما شيء، والمغرب والعشاء، ليس بينهما شيء، فعل ذلك من شغل، وفيه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي

رواية لمسلم من طريق عبد الله بن شقيق أن شغل ابن عباس المذكور كان بالخطبة وأنه خطب بعد صلاة العصر إلى أن بدت النجوم، ثم جمع بين المغرب والعشاء، وفيه تصديق أبي هريرة لابن عباس في رفعه.

وما ذكره ابن عباس من التعليل بنفي الحرج ظاهر في مطلق الجمع، وقد جاء مثله عن ابن مسعود مرفوعًا أخرجه الطبراني، ولفظه "جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فقيل له في ذلك؟ فقال: صنعت هذا لئلا تحرج أمتي"

(1)

.

(1)

حديث الطبراني المذكور فكره الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" جـ 2 ص 161. وقال: رواه الطبراني في "الأوسط"، و"الكبير"، وفيه عبد الله بن عبد القدوس ضعفه ابن معين، والنسائي، ووثقه ابن حبان، وقال البخاري: صدوق، إلا أنه يروي عن أقوام ضعفاء. قلت: وقد روى هذا عن الأعمش، وهو ثقة. اهـ.

وقال الشوكاني: وقد ضعف -يعني هذا الحديث- بأن فيه ابن عبد القدوس، وهو مندفع، لأنه لم يتكلم فيه إلا بسبب روايته عن الضعفاء، وتشيعه. والأول غير قادح باعتبار ما نحن فيه، إذ لم يروه عن ضعيف، بل رواه عن الأعمش. والثاني ليس بقدح معتد به ما لم يجاوز الحد المعتبر، ولم ينقل عنه ذلك. على أنه قد قال البخاري: إنه صدوق. وقال أبو حاتم: لا بأس به. اهـ "نيل" جـ 4 ص 136.

ص: 476

وإرادة نفي الحرج يقدح في حمله على الجمع الصوري، لأن القصد إليه لا يخلو عن حرج. اهـ "فتح" جـ 2 ص 30 - 31.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الحافظ رحمه الله أخيرًا مما يدل على تقويته الحمل على الجمع الحقيقي، هو الصواب، لا ما تقدم من جعله الحمل على الجمع الصوري أولى، لكونه تكلفًا لا داعي له، لمخالفته لظاهِرِ ما صح من النص.

والحاصل أن أرجح الأقوال في المسألة قول من قال بجواز الجمع الحقيقي في الحضر أحيانًا إذا احتيج إليه، دفعًا للحرج. لما قدمنا.

وأما ما أطال به الشوكاني في نيله مُرَجِّحًا قول من قول: إنه جمع صوري، فمما لا يلتفت إليه. لأنه لم يأت بدليل مقنع يرد به حجة المجوزين.

فمن الغريب أنه ذكر من جملة الأدلة، ظن أبي الشعثاء في كونه أخر الظهر وعجل العصر الخ، مع أنه كان ينبغي له تقديم يقين ابن عباس في قوله: أراد أن لا يحرج أمته، وقد أجاب ابن عباس بهذا الجواب لَمَّا سئل عن سبب الجمع في السفر كما في "صحيح مسلم" جـ 5 ص 216، فليس فرق في نفي الحرج بين المسألتين، فكما حمل في السفر على الجمع الحقيقي، فليحمل عليه هنا. فتبصر.

ومن جملة ما ذكره من المؤيدات حديث ابن مسعود الذي أخرجه مالك، والبخاري، وأبو داود، والنسائي، قال: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ص: 477

صلَّى صلاةً لغير ميقاتها، إلا صلاتين: جَمَعَ بين المغرب والعشاء بالمزدلفة، وصلّى الفجر يومئذ قبل ميقاتها".

قال الجامع: هذا الحديث ينافي الجمع أصلًا، سفرًا، وحضرًا، وقد أجابوا عنه في الجمع في السفر بأنه نفي لعلمه، فيقدم إثبات غيره عليه، فما كان جوابًا هناك، فهو الجواب هنا.

ومما ذكره أيضًا مؤيدًا ما أخرجه الترمذي عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من جمع بين الصلاتين من غير عذر، فقد أتى بابًا من أبواب الكبائر". وهذا مما لا يلتفت إليه، لأن في سنده حنش بن قيس،

وهو متروك.

وبالجملة فما ذكر الشوكاني شيئًا له قيمة في الرد على من قال بالجمع الحقيقي، فتبين أن الصواب هو ما قالوه، لظهور حجتهم. والله أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

590 -

أَخْبَرَنَا أَبُو عَاصِمٍ خُشَيْشُ بْنُ أَصْرَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ، حَدَّثَنَا حَبِيبٌ وَهُوَ ابْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ هَرِمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّهُ صَلَّى بِالْبَصْرَةِ الأُولَى، وَالْعَصْرَ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا شَىْءٌ، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا شَىْءٌ، فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ

ص: 478

شُغْلٍ، وَزَعَمَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ الأُولَى وَالْعَصْرَ ثَمَانِ سَجَدَاتٍ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ.

رجال الإسناد: ستة

1 -

(أبو عاصم خُشَيش بن أصْرَم) خشيش -بمعجمات، مصغرًا- ابن أصرم بن الأسود، النسائي، ثقة حافظ، من [11].

قال النسائي: ثقة، مات في رمضان، سنة 253، وله كتاب الاستقامة في الرد على أهل الأهواء، وأرخ ابن يونس وفاته في الغُرَبَاء، وقال: كان ثقة، وكذا قال مسلمة بن قاسم، قال: وأخبرنا عنه غير واحد. انفرد به المصنف، وأبو داود.

2 -

(حَبَّان بن هِلال) حبان -بالفتح، ثم موحدة- الباهلي، ويقال: الكناني، أبو حبيب البصري، ثقة ثبت، من [9].

قال أحمد بن حنبل: إليه المُنتَهَى في التثبت بالبصرة. وقال ابن معين، والترمذي، والنسائي: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة ثبتًا حجة، وكان امتنع من التحديث قبل موته. وقال العجلي: ثقة، لم أسمع منه، وكان عَسِرًا. وقال البزار: ثقة مأمون على ما يحدث به. وقال ابن قانع: بصري صالح. وقال الخطيب: كان ثقة ثبتًا. مات بالبصرة سنة

ص: 479

216، أخرج له الجماعة.

3 -

(حبيب بن أبي حبيب) الجَرْمي البصري الأنماطي، اسم أبيه يزيد، صدوق يخطئ، من [7].

رَوَى عن قتادة، وعمرو بن هَرِم، والحسن، وخالد القسري، وغيرهم. وعنه ابنه محمد، وابن مهدي، ويزيد بن هارون، وأبو سلمة، وسليمان بن حرب، وغيرهم. وسمع منه القطان، ولم يحدث عنه، وقال: لم يكن في الحديث بذاك.

وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عنه؟ فقال: هو كذا وكذا.

وكان ابن مهدي يحدث عنه. وقال ابن أبي خَيْثَمَة: نهانا ابن معين أن نسمع حديثه. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن قانع: مات سنة 162، وقال البخاري في التاريخ: سمع ابنَ سيرين، وقتادة. قال حبَّان: ثنا حبيب بن أبي حبيب ثقة.

وقال ابن خلفون: أخرج له مسلم متابعة. قلت: وأخرج له البخاري في "خلق أفعال العباد"، والمصنف، وابن ماجه.

4 -

(عمرو بن هرِم)

(1)

الأزدي البصري، ثقة، مات قبل قتادة، من [6].

(1)

هرم بفتح الهاء، وكسر الراء، ووقع في بعض النسخ هرمز بالزاي، وهو خطأ.

ص: 480

قال في "تت": وليس بابن هرم بن حبان صاحِب أويس، ذاك عبدي، وهذا أزدي. قال أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، وأبو داود: ثقة. وقال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: صَلَّى عليه قتادة بعد ما دُفِنَ.

وقد علق عنه البخاري موضعًا واحدًا في الطلاق قبل النكاح، ولم يذكره المزي، وكذا روى البخاري في تاريخه بعد أن سَمَّى جده حبان، وتبعه ابن أبي حاتم، وابن أبي خيثمة، وابن حبان، وغيرهم. وقال ابن أبي حاتم في باب الهاء: هرم بن حيان الأزدي، ويقال: العبدي. وقال العجلي: عمرو بن هرم ثقة، لا بأس به. نقله عنه ابن خلفون.

علق عنه البخاري، وأخرج له مسلم، والترمذي، والمصنف، وابن ماجه.

5 -

(جابر بن زيد) أبو الشعثاء البصري، تقدم في السند السابق.

6 -

(ابن عباس) رضي الله عنه، تقدم في السند السابق أيضًا. والله تعالى أعلم.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف، وأن رجاله موثقون، وأنهم بصريون إلا شيخه فنسائي، وقد تقدم بعض اللطائف في السند السابق. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن) عبد الله (بن عباس) رضي الله عنهما (أنه صلى

ص: 481

بالبصرة) وزان تَمْرَة- أصلها كما في المصباح: الحجارةُ الرِّخْوَةُ، وقد تحذف الهاء مع فتح الباء، وكسرها، وبها سميت البلدة المعروفة بالعراق، وأنكر الزجاج فتح الباء مع الحذف، ويقال في النسبة: بصري بالوجهين، وهي محدثة إسلامية بُنِيَت في خلافة عمر رضي الله عنه سنة 18 من الهجرة، بعد وقف السواد، ولهذا دخلت في حده، دون حكمه.

(الأولى) أي الظهر، فإنهم كانوا يسمون الظهر الأولى، لكونها أول صلاة صلاها جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم. قاله السندي (والعصر، ليس بينهما شيء) أي لم يتطوع بينهما (و) صلى (المغرب والعشاء، ليس بينهما شيء، فعل) ابن عباس (ذلك من) أجل (شغل) بضم الشين، والغين، وتسكن الغين للتخفيف.

وقد بيَّن مسلم في "صحيحه" الشغل الذي جمع من أجله ابن عباس، وهو اشتغاله بالخطبة، فقد أخرج من طريق عبد الله بن شقيق العُقَيلي عنه، قال: خطبنا ابن عباس يومًا بعد العصر حتى غربت الشمس، وبَدَتِ النجومُ، وجعل الناس يقولون: الصلاة، الصلاة، قال: فجاءه رجل من بني تميم، لا يَفتر، ولا ينثني: الصلاة، الصلاة، فقال ابن عباس: أتعلمني بالسنة، لا أم لك؟! ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، قال عبد الله ين شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء، فأتيت أبا هريرة، فسألته فصدق مقالته".

ص: 482

"صحيح مسلم" جـ 5 ص 217 - 218 بشرح النووي.

(وزعم ابن عباس) رضي الله عنهما، أي قال، لأن الزعم يطلق على القول الحق، وإن كان أكثر استعماله فيما كان باطلًا، كقوله تعالى:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن: 7] الآية.

قال في المصباح: زَعَمَ زَعْمًا، من باب قتل، وفي الزعم ثلاث لغات: فتح الزاي، للحجاز، وضمها لأسد، وكسرها لبعض قيس، ويطلق بمعنى القول، ومنه زعمت الحنفية، وزعم سيبويه، أي قال، وعليه قوله تعالى:{أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ} [الإسراء: 92]، أي كما أخبرت، ويطلق على الظن، يقال: في زعمي كذا، وعلى الاعتقاد، ومنه قوله تعالى:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} .

قال الأزهري: وأكثر ما يكون الزعم فيما يشك فيه، ولا يتحقق.

وقال بعضهم: هو كناية عن الكذب، وقال المرزوقي: أكثر ما يستعمل فيما كان باطلًا، أو فيه ارتياب. وقال ابن الْقُوطِيَّةِ: زَعَمَ زَعْمًا: قال خَبَرًا، لا يُدرَى أحق هو أو باطل. قال الخطابي: وَلهَذا قيل: زعم مطية الكذب. اهـ المصباح.

(أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) بفتح "أن" لكونها وقعت في موضع المفعول لزَعَمَ.

(بالمدينة الأولى، والعصر ثمان سجدات) أي ثماني ركعات، فأريد بالسجدة الركعة إطلاقًا لاسم الجزء على الكل، وقوله: ثمان هكذا

ص: 483

النسخ بدون ياء، وإن كان الواجب لزومها له، إذ القاعدة أن لفظ ثماني إذا أضيف إلى مؤنث لزمته الياء.

قال العلامة الخضري في "حاشيته على شرح ابن عقيل لألفية ابن مالك" ما حاصله: إن ثماني إذا أضيفت إلى مؤنث كانت بالياء، لا غير، كثماني نسوة، فيقدر عليها الضم والكسر، ويظهر الفتح، كالمنقوص، أو إلى مذكر فبالتاء، لا غير، كثمانية رجال، وكذا إن لم تضف، والمعدود مذكر، فإن كان مؤنثا فالكثير إجراؤه كالمنقوص، كجاءني من النساء ثمانٍ، ومررت بثمانٍ، ورأيت ثمانيًا، بالتنوين، لأنه منصرف، ويقال: رأيت ثماني، بلا تنوين، لشبهها بجوارٍ لفظًا ومعنى، ويَقِلُّ حذف الياء مع إعرابها على النون، كقوله (من الرجز):

لَها ثَنَايا أرْبَعٌ حِسَانُ

وَأرْبَعٌ فَثَغْرُهَا ثَمَانُ

هذا كله فيما إذا لم تركب مع العشرة، وأما إذا ركبت، فتكون بالتاء في المذكر، كثمانية عشر يومًا، وبحذفها في المؤنث، كثماني عشرة ليلة، لكن فيها بعد الحذف حينئذ أربع لغات: فتح الياء، وسكونها، وحذفها مع كسر النون، وفتحها. انتهى ما ذكره الخضري بتقديم وتأخير جـ 2 ص 137.

(ليس بينهما شيء) أي من التطوع. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

تنبيه:

حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا صحيح، وهو من أفراد

ص: 484

المصنف، أخرجه هنا (590) عن خُشَيش بن أصْرَم، عن حَبَّان بن هِلال، عن حبيب بن أبي حبيب، عن عمرو بن هَرِم، عن جابر بن زيد، عنه. وتقدم ما يتعلق به من بقية المسائل في الذي قبله، فلا حاجة إلى إطالة الكتاب بإعادته. والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 485

‌45 - الْوَقْتُ الذِّي يَجْمَعُ فِيهِ الْمُسَافِرُ بَيْنَ الْمَغْرِب والْعِشَاءِ

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على الوقت الذي يشرع للمسافر أن يجمع فيه بين صلاتي المغرب والعشاء. ثم إن ظاهر تصرف المصنف رحمه الله أنه يرى الجمع الصوري والحقيقي في السفر، لأن الأحاديث التي أوردها في الباب بعضها يدل على الجمع الصوري، كحديث رقم (595)، و (596)، و (597)، وبعضها يدل على الجمع الحقيقي كحديث رقم (591)، و (593)، و (594) وهذا هو الصحيح، فللمسافر أن يجمع الجمعين، ويترك الجمع أصلًا، وهو الأولى. والله أعلم.

591 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ، قَالَ: صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ إِلَى الْحِمَى، فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ هِبْتُ أَنْ أَقُولَ لَهُ: الصَّلَاةَ، فَسَارَ حَتَّى ذَهَبَ بَيَاضُ الأُفُقِ، وَفَحْمَةُ الْعِشَاء، ثُمَّ نَزَلَ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ عَلَى إِثْرِهَا، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ.

ص: 486

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(إِسحاق بن إِبراهيم) الحنظلي المروزي ثم النيسابوري الإمام ثقة حجة، من [10]، تقدم في 2/ 2.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الكوفي، ثم المكي، ثقة حجة ثبت، من [8]، تقدم في 1/ 1.

3 -

(ابن أبي نَجِيح) عبد الله بن يَسَار، الثقفي مولاهم، أبو يسار المكي ثقة رُمِيَ بالقدر، وربما دَلَّس، توفي سنة 131 أو بعدها، من [6]، أخرج له الجماعة، تقدم في 112/ 155.

4 -

(إِسماعيل بن عبد الرحمن، شيخ من قريش) هو ابن ذُوَيب، وقيل: ابن أبي ذويب الأسدي. المدني، ثقة، من [3].

رَوَى عن ابن عمر، وعطاء بن يسار. وعنه ابن أبي نجيح، وسعيد ابن خالد القارظي.

قال أبو زرعة: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث. ووثقه الدارقطني. وذكره ابن حبان في "الثقات"، في التابعين، وفي أتباعهم، إلا أنه قال في التابعي: إسماعيل بن عبد الرحمن، وفي الآخر: إسماعيل بن عبد الله. انفرد به المصنف.

5 -

(ابن عمر) عبد الله الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم قريبًا. والله أعلم

ص: 487

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف.

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، اتفقوا عليهم، إلا شيخه، فلم يخرج له ابن ماجه، وإسماعيل بن عبد الرحمن، فهو من أفراده.

ومنها: أنهم ما بين مروزي، ثم نيسابوري، وهو شيخه، ومكيين، وهما سفيان، وابن أبي نَجِيح، ومدنيين، وهما: إسماعيل، وابن عمر.

ومنها: أن فيه ابن عمر أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، وأحد المفتين من الصحابة رضي الله عنهم. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن إِسماعيل بن عبد الرحمن، شيخ) بالجر بدل من إسماعيل، ويجوز رفعه، بتقدير مبتدأ، أي هو (من قريش) جار ومجرور متعلق بمحذوف، صفةٍ لشيخ، أنه (قال: صحبت) عبد الله (ابن عمر) رضي الله عنهما (إِلى الحمى) متعلق بصحبت. اسم موضع.

والحِمَى، كما قال ياقوت الحموي في "مُعْجَمِ البلدان": -بالكسر، والقصر- وأصله في اللغة: الموضع فيه كَلأ يُحْمَى من الناس أن يَرْعُوه،

ص: 488

أي يمنعونهم، يقال: حَمَيتُ الموضع: إذا منعت منه، وأحميته: إذا جعلته حِمىً لا يقرب، والحمى يمد، ويقصر؛ فمن مده جعله من حَامَى يُحَامِي، مُحَامَاةً، وحِمَاءً، ويكتب المقصور منه بالياء، والألف، لأنه قد حكي في تثنيته حِمَوَان، وهو شاذ.

وذكر هناك أسماء من حمى العرب: منها: حِمَى ضَرِيَّة، وهو أشهرها، وكان حِمَى كليب بن وائل، وحِمَى الرَّبَذًة، وحِمَى فَيد، وحمى النِّير -بكسر النون- وحِمَى الشَّرَى، وحِمَى النَّقِيع. وذكر ذلك بالتفصيل. انظر "معجمه" جـ 2 ص 307 - 309.

ولا أدري أيَّ الحمى أراد هنا، لكن السندي قال: موضع بقرب المدينة. وعبارته: قوله: إلى الحمى -بكسر حاء، وفتح ميم، وقصر ألف، وفي بعض النسخ الحمى، وهو بالفتح، والتشديد

(1)

والميم- موضع بقرب المدينة. اهـ.

قال الجامع: ما عزاه لبعض النسخ لم أجده لغيره، فليحرر.

(فلما غربت الشمس، هبت) بكسر الهاء، ويجوز فتحها، قال الفيومي: هَابَهُ يَهَابه، من باب تَعِبَ، هَيْبَةً: حَذِرَهُ قال ابن فارس: الهيبة: الإجلال، فالفاعل: هائب، والمفعول هَيُوب، ومَهِيب، أيضًا، ويَهِيبه، من باب ضرب لغة. اهـ، أي خفت.

(1)

هكذا النسخ، ولعل الصواب: وتشديد الميم.

ص: 489

(أن أقول له: الصلاة) بالنصب مفعولًا لفعل مقدر، أي صَلِّ، أو بالرفع مبتدأ حذف خبره، أي حَضَرَتْ، والجملة في محل نصب مقول القول.

(فسار حتى ذهب بياض الأفق، وفحمة العشاء) -بفتح الفاء، وسكون الحاء-: قال المجد: الفَحْمَةُ من الليل: أوله، أو أشد سواده، أو ما بين غروب الشمس إلى نوم الناس، خاص بالصيف، جمعه. فِحام، بالكسر- وفُحُوم. اهـ "ق" والمراد به غروب الشفق، يعني أنه سار حتى غاب الشفق.

(ثم نزل، فصلى المغرب ثلاث ركعات، ثم صلى ركعتين) أي صلى العشاء ركعتين، لكونه مسافرًا.

(على إِثْرِهَا) بفتحتين، أو بكسر، فسكون، يقال: جئت في أثَرِه، وإثْرِهِ: أي تبعته عن قُرْب، قاله في المصباح، والجار والمجرور متعلق بصلى، وفيه عدم الفصل بين الصلاتين بالتطوع.

(ثم قال) ابن عمر رضي الله عنهما (هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل) أي يجمع بين الصلاتين مثل هذا الجمع، والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

تنبيه:

حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا صحيح، وهو من أفراد المصنف، كما أشار إليه الحافظ المزي، أخرجه هنا (591)، وفي الكبرى (1570) بهذا السند. وقد أشار إليه أبو داود في سننه. تعليقًا. وأخرجه

ص: 490

الطحاوي والبيهقي. وسائر متعلقات الحديث تقدمت فلا حاجة إلى إعادتها. وبالله تعالى التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

592 -

أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، عَنِ ابْنِ أَبِي حَمْزَةَ ح وَأَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ فِي السَّفَرِ يُؤَخِّرُ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ.

رجال الإسناد: ثمانية

1 -

(عمرو بن عثمان) بن سعيد بن كثير بن دينار، القرشي مولاهم، أبو حفص الحمصي، صدوق، توفي سنة 250، من [10]، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجه، تقدم في 535.

2 -

(بقية) بن الوليد بن صائد بن كعب الكلاعي، أبو يُحْمِد -بضم التحتانية، وسكون المهملة، وكسر الميم- صدوق كثير التدليس عن الضعفاء، من [8]. تقدم 30/ 557.

3 -

(ابن أبي حمزة) هو شعيب بن أبي حمزة: دينار، أبو بشر الحمصي، ثقة عابد، قال ابن معين: من أثبت الناس في الزهري،

ص: 491

توفي سنة 162 أو بعدها، من [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 69/ 85.

4 -

(أحمد بن محمد بن المغيرة) بن سنان الأزدي الحمصي، صدوق، توفي سنة 264، من [11]، أخرج له النسائي، تقدم في 69/ 85.

5 -

(عثمان) بن سعيد بن كثير بن دينار القرشي مولاهم أبو عمرو الحمصي، ثقة عابد، توفي سنة 209، من [9]، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجه، تقدم في 69/ 85.

6 -

(الزهري) محمد بن مسلم، أبو بكر القرشي المدني الإمام الحجة الثبت، من [4]، تقدم في 1/ 1.

7 -

(سالم) بن عبد الله بن عمر المدني الفقيه، ثقة ثبت، من [3]، تقدم في 590.

8 -

(عبد الله بن عمر) الصحابي الجليل، تقدم في السند الماضي. والله تعالى أعلم.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف.

ومنها: أن رجاله موثقون، وأنهم حمصيون إلى الزهري.

ص: 492

ومنها: أن فيه رواية الابن عن أبيه.

ومنها: أن فيه سالمًا أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن ابن عمر) رضي الله عنهما، أنه (قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا أعجله السير) هكذا أعجله في "النسخة الهندية"، وفي المصرية "عجله" بدون الهمزة، والأول هو الصواب الموافق لرواية الصحيحين وغيرهما، وكذا لكتب اللغة، ففي "المصباح": عَجِلَ عَجَلًا -من باب تَعبَ، وعَجَلَة: أسرع وحضر، فهو عاجل، وتعجل، واستعجل في أمره كذلك، وأعجلته بالألف: حملته على أن يعجل. اهـ. باختصار. واستدل له من قال: يجمع من جد به السير، وهو قول الليث، والمشهور عن مالك. وسيأتي الجواب عنه.

(في السفر) متعلق بالفعل قبله، وأخرج به ما إذا أعجله السير في الحضر، كأن يكون خارج البلد في بستان مثلًاء قاله في "الفتح".

(يؤخر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء) قال الحافظ رحمه الله: لم يعين غاية التأخير، وبينه مسلم من طريق عبيد الله ابن عمر، عن نافع، عن ابن عمر بأنه بعد أن يغيب الشفق، وفي رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، وموسى بن عقبة، عن نافع "فأخر المغرب بعد ذهاب الشفق حتى ذهب هوي الليل".

ص: 493

وللبخاري في "الجهاد" من طريق أسلم مولى عمر، عن ابن عمر في هذه القصة "حتى كان بعد غروب الشفق نزل، فصلى المغرب والعشاء جمعًا بينهما" ولأبي داود من طريق ربيعة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر في هذه القصة "فصار حتى غاب الشفق وتصوبت النجوم نزل، فصلى الصلاتين جمعًا".

وجاءت عن ابن عمر روايات أخرى. "أنه صلى المغرب في آخر الشفق، ثم أقام الصلاة، وقد توارى الشفقُ، فصلى العشاء"، أخرجه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن نافع، ولا تعارض بينه وبين ما سبق، لأنه كان في واقعة أخرى. اهـ. "فتح" جـ 2 ص 677 والله تعالى ولي التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من هذا الوجه أخرجه البخاري.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرج هنا (592) عن عمرو بن عثمان، عن بقية، عن شعيب بن أبي حمزة- وعن أحمد بن محمد بن المغيرة، عن عثمان بن سعيد، عن

ص: 494

شعيب، عن الزهري، عن سالم، عنه.

وفي "الكبرى"(1567) عن أحمد بن محمد بن المغيرة، عن عثمان، عن شعيب به. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري في "الصلاة" في موضعين عن أبي اليمان، عن شعيب بن أبي حمزة به. والله أعلم.

المسألة الرابعة: في أقوال أهل العلم في الجمع بين الصلاتين في السفر

(1)

:

اختلفوا في هذه المسألة على سبعة أقوال:

أحدها: أنه يجوز الجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في السفر في وقت أحدهما جمعًا حقيقيًا تقديمًا وتأخيرًا مطلقًا، أي سواء كان سائرًا، أم لا، وسواء كان سيرًا مجدًا، أم لا.

وبه قال كثير من الصحابة والتابعين، ومن الفقهاء: الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر، وأشهب، وحكاه ابن قدامة عن مالك أيضًا. وقال الزرقاني: وإليه ذهب مالك في رواية مشهورة. قال صاحب المرعاة: وهو مختار المالكية كما في

(1)

هذه المسألة تقدمت في شرح حديث (586) وإنما أعدتها لزيادة تفصيل بعض الأقوال التي لم يتقدم ذكرها مفصلة.

ص: 495

فروعهم.

واختاره الشاه ولي الله الدهلوي، حيث قال في "حجة الله البالغة" جـ 2 ص 18: من رخص السفر الجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، والأصل فيه ما أشرنا؛ أن الأوقات الأصلية ثلاثة: الفجر، والظهر، والمغرب، وإنما اشتق العصر من الظهر، والمغرب من العشاء، ولئلا تكون المدة الطويلة فاصلة بين الذكرين، ولئلا يكون النوم على صفة الغفلة، فشرع لهم جمع التقديم والتأخير، لكنه لم يواظب عليه، ولم يعزم عليه، مثل ما فعل في القصر. انتهى.

الثاني: أنه يختص الجمع بمن يجد في السير، أي يسرع، قاله الليث، وهو قول مالك في المدونة، واستُدلَّ لهما بما روى في الصحيح عن ابن عمر، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بَين المغرب والعشاء إذا جدَّ به السير، وسيأتي الجواب عنه.

والثالث: أنه يختص بما إذا كان سائرًا، لا نازلًا، قاله ابن حبيب من المالكية، واستدل لذلك بقوله. "إذا كان على ظهر سير".

وأجيب عن ذلك بما وقع من التصريح في حديث معاذ بن جبل المتقدم برقم (587) بلفظ: "فأخر الصلاة يومًا، ثم خرج، فصلى الظهر والعصر جميعًا، ثم دخل، ثم خرج، فصلى المغرب والعشاء".

ص: 496

قال الشافعي في الأم قوله: "ثم دخل، ثم خرج" لا يكون إلا وهو نازل، فللمسافر أن يجمع نازلًا ومسافرًا. وقال ابن عبد البر: هذا أوضح دليل في الرد على من قال: لا يجمع إلا من جد به السير. وهو قاطع للالتباس.

وقال الباجي: مقتضى قوله: "ثم دخل، ثم خرج" أنه مقيم غير سائر، لأنه إنما يستعمل في الدخول في المنزل والخِبَاء، والخروج منهما، وهو غالب الاستعمال، إلا أن يريد أنه خرج من الطريق إلى الصلاة، ثم دخله للسير، وفيه بعد، وكذا حكى عياض هذا التأويل عن بعضهم، ثم استبعده، ولا شك في بعده، وكأنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لبيان الجواز، وكان أكثر عادته التفرقة في حال الجمع بين ما إذا كان سائرًا، أو نازلًا، ومن ثم قالت الشافعية: ترك الجمع أفضل.

والرابع: أن الجمع مكروه، قال ابن العربي: إنها رواية المصريين عن مالك.

والخامس: أنه مختص بمن له عذر، حكي ذلك عن الأوزاعي.

والسادس: أنه يجوز جمع التأخير دون التقديم، وهو اختيار ابن حزم، وسيأتي الكلام فيه.

والسابع: أنه لا يجوز الجمع مطلقًا، إلا بعرفة والمزدلفة، وهو قول

ص: 497

الحسن، والنخعي، وأبي حنيفة، وصاحبيه. ووقع عند النووي أن الصاحبين خالفا شيخهما، وَرَدَّ عليه السروجي في "شرح الهداية"، وهو أعرف بمذهبه.

وأجاب هؤلاء عما ورد من الإخبار في ذلك بأن الذي وقع جمع صوري، وهو أنه أخر المغرب مثلًا إلى آخر وقتها، وعجل العشاء في أول وقتها.

وتعقبه الخطابي في "المعالم" جـ 1 ص 264 بما حاصله: أن الجمع من الرخص العامة لجميع الناس عامهم وخاصهم، فلو كان على ما ذكروه لكان أعظم ضيقًا من الإتيان بكل صلاة في وقتها، لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلًا عن العامة.

وأما أمره صلى الله عليه وسلم للمستحاضة بالجمع الصوري، فهو وارد في شيء يندر وجوده، على أنه صلى الله عليه وسلم قيد ذلك بقوله:"إن قويت" كما تقدم، فإن قدرت المستحاضة على معرفة أوائل الأوقات وأواخرها، وعلى الاغتسال ثلاث مرات جمعت بين الصلاتين فعلًا صورةً.

ومن الدليل على أن الجمع رخصة قول ابن عباس. أراد أن لا يحرج أمته. أخرجه مسلم، وهذا يقدح في حمله على الجمع الصوري، لأن النزول للصلاتين، والخروج إليهما مرة واحدة -وإن كان أسهل من النزول مرتين- لكن لا يخلو ذلك عن حرج ومشقة بسبب عدم معرفة

ص: 498

أكثر الناس أوائل أوقات الصلاة وأواخرها، بخلاف الجمع الوقتي فهو أيسر وأخف من الجمع الفعلي، وهذا ظاهر.

وأيضًا فإن الإخبار جاءت صريحة بالجمع في وقت إحدى الصلاتين، وهي نصوص صريحة، لا تحتمل تأويلًا.

قال الشيخ عبد الحي اللكنوي في "التعليق الممجد" جـ 1 ص 570: حمل أصحابنا -يعني الحنفية- الأحاديث الواردة في الجمع على الجمع الصوري، وقد بسط الطحاوي الكلام فيه في شرح معاني الآثار، لكن لا أدري ماذا يفعل بالروايات التي وردت صريحًا بأن الجمع كان بعد ذهاب الوقت، وهي مروية في صحيحي البخاري، ومسلم، وسنن أبي داود، وغيرها من الكتب المعتمدة على ما لا يخفى على من نظر فيها؟، فإن حمل على أن الرواة لم يحصل لهم التمييز، فظنوا قرب خروجِ الوقت خروج الوقت، فهذا بعيد عن الصحابة الناصين على ذلك، وإن اختير ترك تلك الروايات بإبداء الخلل في الإسناد فهو أبعد، وأبعد، مع إخراج الأئمة لها، وشهادتهم بتصحيحها، وإن

عورض بالأحاديث التي صرحت بأن الجمع كان بالتأخير إلى آخر الوقت، والتقديم في أول الوقت فهو أعجب، فإن الجمع بينها بحملها على اختلاف الأحوال ممكن، بل هو الظاهر. وبالجملة فالأمر مشكل، فتأمل لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا. اهـ. كلام

ص: 499

اللكنوي.

قال الجامع: لا إشكال بحمد الله إلا على من يتعصب لبعض الَاراء، فإن الأمر سهل لمن يتبع الدليل، فأدلة الجمع الحقيقي واضحة صريحة كما اعترف بها اللكنوي نفسه سابقًا، فلا يسع إلا القول بها، وترك التعصب للمذهب كما فعل الطحاوي والعيني، وأمثالهما والله المستعان.

وأيضًا المتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع هو الجمع الوقتي، لا الفعلي. قال الخطابي في "المعالم":

ظاهر اسم الجمع عرفًا لا يقع على من أخر الظهر حتى صلاها في آخر وقتها، وعجل العصر، فصلاها في أول وقتها، لأن هذا قد صلى كل صلاة منهما في وقتها الخاص بها. وإنما الجمع المعروف بينهما أن تكون الصلاتان معًا في وقت أحدهما، ألا ترى أن الجمع بينهما بعرفة والمزدلفة كذلك؟!. اهـ.

ولو سلم أن لفظ الجمع عام يشمل الوقتي والفعلي كليهما، فالروايات الصريحة في جمع التقديم والتأخير معينة للمراد من لفظ الجمع في الروايات المطلقة، وأن المقصود هو الجمع الوقتي أي الحقيقي، لا الصوري، أي الفعلي. قاله في "المرعاة" جـ 4

ص: 500

ص 396 - 398.

قال الجامع: وبالجملة فأدلة الجمع الحقيقي أوضح، وأقوى، فوجب القول بجواز جمع التقديم والتأخير جمعًا حقيقيًا في وقت الأولى أو الثانية. وبالله تعالى التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

593 -

أَخْبَرَنَا الْمُؤَمَّلُ بْنُ إِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: غَابَتِ الشَّمْسُ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ، فَجَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بَسَرِفٍ.

رجال الإسناد: ستة

1 -

(المؤمل بن إِهاب) -بكسر أوله وبموحدة- الرَّبَعِيُّ العِجْلي، أبو عبد الرحمن الكوفي، نزيل الرَّمْلَة، أصله من كرمان، صدوق له أوهام، من [11].

وفي "تت": مؤمل بن إهاب -ويقال: يَهاب أيضًا- ابن عبد العزيز ابن قفل بن سدل الربعي، ثم العجلي، أبو عبد الرحمن الكوفي، نزل الرملة، ومصر، وهو كرماني الأصل. قال إبراهيم بن الجنيد: سئل عنه ابن معين؟ فكأنه ضعفه. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي: لا

ص: 501

بأس به، وقال مرة: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال مسلمة بن قاسم: حدثنا عنه غير واحد، وهو ثقة صدوق. وقال ابن يونس: قَدِمَ مصر، وكُتِبَ عنه، ثم خرج، فمات بالرملة في رجب سنة 254 اهـ. روى عنه أبَو داود والمصنف.

2 -

(يحيى بن محمد الجاري) بن عبد الله بن مِهْران المدني، مولى بني نوفل، يقال له: الجاري

(1)

صدوق يخطئ، من كبار [10].

قال العجلي: ثقة. وقال البخاري: يتكلمون فيه. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يُغْرِبُ. وقال أبو عوانة الإسفرايني: ثنا عباس الدوري: ثنا يحيى بن يوسف الزمي، ثنا يحيى بن محمد الجاري بساحل المدينة، ثقة. وقال ابن عدي: ليس بحديثه بأس. أخرج له أبو داود، والترمذي، والمصنف.

3 -

(عبد العزيز بن محمد) بن عبيد الدراوردي، أبو محمد الجهني مولاهم المدني، صدوق، كان يحدث من كتب غيره فيخطئ، قال النسائي: حديثه عن عبيد الله العمري منكر، توفي سنة 186 أو 187، من [8]، أخرج له الجماعة، تقدم في 84/ 101.

(1)

بفتح الجيم، وبالراء نسبة إلى الجار، بليدة على الساحل بقرب مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وقرية من قرى أصبهان. قاله في اللباب جـ 1 ص 251، وفي "تت": الجار اسم لساحل البحر، مما يلي المدينة النبوية. اهـ.

ص: 502

4 -

(مالك بن أنس) أبو عبد الله إمام دار الهجرة، الحجة الفقيه، من [1]، تقدم في 7/ 7.

5 -

(أبو الزبير) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسدي مولاهم، المكي، صدوق، من [4]، تقدم في 31/ 35.

6 -

(جابر) بن عبد الله الصحابي الجليل رضي الله عنهما، تقدم في 31/ 35. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف، ورواته كلهم موثقون، وهم مدنيون، غير شيخه، فكوفي نزيل الرملة، وأبي الزبير فمكي، وفيه جابر أحد المكثرين السبعة، روى 1740 حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن جابر) بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه (قال: غابت الشمس) أي غربت (ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة) جملة حالية في محل نصب، وربطت بالواو، كما قال ابن مالك:

وَمَوْضِعَ الْحَالِ تَجِيءُ جُمْلَهْ

كَجَاءَ زَيْدٌ وَهُوَ نَاوٍ رِحْلَهْ

وَذَاتُ بَدْءٍ بِمُضَارِعٍ ثَبَتْ

حَوَتْ ضَميرًا وَمِنَ الْوَاوِ خَلَتْ

وَذَاتُ وَاوِ بَعْدَهَا انْوِ مُبْتَدَا

لَهُ الْمُضَارِعَ اجْعَلَنَّ مُسْنَدَا

وَجُمْلَةُ الْحَالِ سِوَى مَا قُدِّمَا

بِوَاوٍ، أوْ بِمُضْمَرٍ، أوْ بِهِمَا

ص: 503

(فجمع) صلى الله عليه وسلم (بين الصلاتين) أي المغرب والعشاء (بسرف) أي بمكان يسمى سرف، بفتح فكسر، يصرف، وترك بعضهم صرفه باعتبار البقعة، كما تفيده عبارة اللسان: موضع قريب من التنعيم، شمال

مكة، بينه وبينها سبعة أميال على الراجح، وقيل: ستة أميال، أو تسعة، أو عشرة، أو اثنا عشر، به تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة، وبنى بها فيه، وتوفيت، ودفنت فيه.

وفيه جواز جمع التأخير جمعًا حقيقيًا، لا صوريًا، لأن المسافة التي بين مكة وسرف لا يمكن قطعها في زمن لا يبقى معه وقت للجمع الصوري. قاله في المنهل جـ 7 ص 73. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه إلتكلان.

تنبيه:

حديث جابر رضي الله عنه هذا صحيح، أخرجه المصنف هنا (593) بالسند المذكور، وأخرجه أبو داود في "الصلاة" عن أحمد بن صالح، عن يحيى بن محمد الجاريّ بسند المصنف. وبقية المسائل واضحة مما سبق فلا حاجة إلى إعادتها. وبالله تعالى التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

594 -

أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ سَوَّادِ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ

ص: 504

عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا عَجِلَ بِهِ السَّيْرُ يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَيُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ.

رجال الإسناد: ستة

1 -

(عمرو بن سَوَّاد

(1)

بن الأسود بن عمرو) بن محمد بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح السَّرْحِيُّ العامري، أبو محمد المصري، ثقة، من [11].

قال أبو حاتم: صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان راويًا لابن وهب. وقال الخطيب: كان ثقة. وقال ابن يونس: توفي يوم الجمعة لعشر بقين من رجب سنة 245، وكان ثقة صدوقًا. وذكره أبو علي الغساني في شيوخ أبي داود. وقال النسائي في أسماء شيوخه: لا بأس به. وقال مسلمة في الصلة: ثقة. وقال الحاكم: ثقة مأمون،

روى عنه مسلم، وأبو داود، والمصنف، وابن ماجه. وفي الزهرة: روى عنه مسلم 26 حديثًا.

2 -

(ابن وهب) عبد الله أبو محمد المصري، ثقة حافظ عابد،

(1)

سَوَّاد: بفتح السين المهملة، وتشديد الواو.

ص: 505

من [9]، تقدم في 9/ 9.

3 -

(جابر بن إِسماعيل) الحضرمي، أبو عَبَّاد المصري، مقبول، من [8].

روى عن عقيل، وحيي بن عبد الله المعافري. وعنه ابن وهب. ذكره ابن حبان في الثقات.

وأخرج ابن خزيمة حديثه في صحيحه مقرونًا بابن لهيعة، وقال: ابن لهيعة لا أحتج به، وإنما أخرجت هذا الحديث لأن فيه جابر بن إسماعيل. أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم، وأبو داود، والمصنف، وابن ماجه.

4 -

(عقيل) بن خالد أبو خالد الأيلي، ثم المصري، ثقة ثبت، من [6]، تقدم في 125/ 187.

5 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري، الإمام الحجة، من [4]، تقدم في 1/ 1.

6 -

(أنس) بن مالك الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 6/ 6. والله تعالى أعلم.

ص: 506

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف، ورواته كلهم ثقات، إلا جابرًا فمقبول، وهم مصريون، إلا ابن شهاب فمدني، وأنسًا فمدني ثم بصري، وفيه أنس أحد المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة بالبصرة.

وشرح الحديث، والمسائل المتعلقة به تقدمت في شرح الحديث (586) مستوفاة، فارجع إليها تستفد. وبالله تعالى التوفيق.

تنبيه:

قوله: "إذا عَجِل به السير" الباء للتعدية، والفعل كسَمِعَ، كما قال السندي.

وقوله: "حتى يغيب الشفق" غاية للتأخير، أي يؤخر المغرب إلى أن يغيب الشفق، لأجل أن يجمع بينها وبين العشاء في وقت العشاء.

ورواية مسلم "حين يغيب الشفق"، وعليه فالظرف متعلق بيجمع. والله أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

595 -

أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جَابِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ فِي سَفَرٍ، يُرِيدُ أَرْضًا لَهُ،

ص: 507

فَأَتَاهُ آتٍ، فَقَالَ: إِنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ أَبِي عُبَيْدٍ لَمَا بِهَا، فَانْظُرْ أَنْ تُدْرِكَهَا، فَخَرَجَ مُسْرِعًا، وَمَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، يُسَايِرُهُ، فَغَابَتِ الشَّمْسُ، فَلَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ، وَكَانَ عَهْدِي بِهِ، وَهُوَ يُحَافِظُ عَلَى الصَّلَاةِ، فَلَمَّا أَبْطَأَ قُلْتُ: الصَّلَاةَ يَرْحَمُكَ اللهُ، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ، وَمَضَى، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي آخِرِ الشَّفَقِ نَزَلَ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَقَامَ الْعِشَاءَ، وَقَدْ تَوَارَى الشَّفَقُ، فَصَلَّى بِنَا، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَقَالَ:"إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا عَجِلَ بِهِ السَّيْرُ صَنَعَ هَكَذَا".

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(محمود بن خالد) بن أبي خالد يزيد السلمي، أبو علي الدمشقي، ثقة، من صغار [10].

قال أحمد بن أبي الحواري: حدثنا محمود بن خالد الثقة الأمين. وقال أبو حاتم: كان ثقة رِضى. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". قال أبو زرعة الدمشقي: قال لي محمود: ولدت في رمضان سنة 76 أي بعد مائة، ومات في شوال سنة 249، وفيها أرخه

ص: 508

عمرو بن دُحَيم، وأبو سليمان بن زبر، روى عنه أبو داود، والمصنف، وابن ماجه.

2 -

(الوليد) بن مسلم القرشي مولاهم، أبو العباس الدمشقي، ثقة لكنه كثير التدليس والتسوية، توفي آخر سنة 194 أو أول 195، من [8]، أخرج له الجماعة، تقدم في 454.

3 -

(ابن جابر) هو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزدي، أبو عتبة الشامي الداراني، ثقة، من [7].

قال أحمد: ليس به بأس. ووثقه ابن معين، والعجلي، وابن سعد، والنسائي، وغير واحد. وقال ابن المديني: يعد في الطبقة الثانية من فقهاء أهل الشام بعد الصحابة. وقال يعقوب بن سفيان: عبد الرحمن، ويزيد ابنا جابر ثقتان، كانا نزلا البصرة، ثم تحولا إلى دمشق. وقال أبو داود: هو من ثقات الناس. وقال ابنه أبو بكر بن أبي داود: ثقة مأمون.

وقال موسى بن هارون: رَوَى أبو أسامة عن عبد الرحمن بن يزيد ابن جابر، وكان ذلك وَهْمًا منه، هو لم يلق ابن جابر وإنما لقي ابن تميم، فظن أنه ابن جابر، وابن جابر ثقة، وابن تميم ضعيف. وقال الفلاس: ضعيف الحديث، وهو عندهم من أهل الصدق، روى عند أهل الكوفة أحاديث مناكير. قال الخطيب: كأنه اشتبه على الفلاس

ص: 509

بابن تميم.

وقال ابن مهدي: إذا رأيت الشامي يذكر الأوزاعي، وسعيد ابن عبد العزيز، وعبد الرحمن بن يزيد فاطمئن إليه. وقال دُحَيم: هو بعد زيد بن واقد في مكحول. وقال أبو حاتم: صدوق لا بأس به ثقة.

قال خليفة، وغيره: مات سنة 153، زاد ابن سعد، وهو ابن بضع وثمانين. وقال صفوان بن صالح: سمعت الوليد، وغير واحد من أصحابنا يقول: مات سنة 54 وقال عبد الله بن يزيد القاري: مات سنة 55، وقال ابن معين: مات سنة 56، وكذا حكاه البخاري، ويعقوب ابن شيبة. وجزم ابن حبان في "الثقات" بالقول الأول. أخرج له الجماعة.

4 -

(نافع) العدوي مولى ابن عمر المدني أبو عبد الله، ثقة ثبت فقيه مشهور، توفي سنة 117 أو بعد ذلك، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 12/ 12.

5 -

(ابن عمر) عبد الله الصحابي الجليل رضي الله عنهما، تقدم في 12/ 12. والله أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات، وأنهم

ص: 510

شاميون، إلا ابن عمر ونافعًا فمدنيان، وفيه ابن عمر أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، وأحد المفتين من الصحابة رضي الله عنهم. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(قال) نافع مولى ابن عمر (خرجت مع عبد الله بن عمر) رضي الله عنهما في سفر (يريد أرضًا له) وتقدم في رواية سالم: "وهو في زَرَّاعة له"، ولأبي داود من رواية نافع: أن ابن عمر استُصْرِخَ على صفيةَ، وهو بمكة، وعند البيهقي:"وهو بمكة، وهي بالمدينة"، وفيه:"وسار ما بين مكة والمدينة ثلاثًا".

ولا تنافي بين الروايات لإمكان الجمع بأنه كان بمكة، ثم أراد أرضًا له، وهي زَرَّاعته، وكانت بين مكة والمدينة، فأخبر بمرض صفية، فأسرع السير، فسار حتى قطع المسافة في ثلاثة أيام.

(فأتاه آت، فقال: إِن صفية بنت أبي عُبَيد) هي زوجة ابن عمر (لما بها) بكسر اللام، و"ما" موصولة أي للذي حَلَّ بها من المرض الشديد، والجار والمجرور متعلق بقوله:(فانظر) والفاء زائدة، والجملة خبر "إن"(أن تدركها) في تأويل المصدر مجرور بفي مقدرة، قياسًا أي انظر في إدراكها، بمعنى فَكِّر في سبيل إدراكها، يقال: نظرت في الأمر إذا تَدَبَّرْتَ، كما في المصباح. وكتب في هامش الهندية ما

ص: 511

نصه: يحتمل أن يكون معنى الكلام: إن صفية بنت أبي عبيد، لما بها من شدة المرض أرسلتني إليك. اهـ.

وقال السندي: قوله (لما بها) بفتح اللام، أي للذي بها من المرض الشديد، أو بكسر اللام، أي هي فى الشدة، والتعب، لما بها من المرض. اهـ.

قال الجامع: هذا الذي ذكره غير واضح، بل الوجه ما ذكرته اللهم إلا إذا صحت الرواية بفتح اللام، فيوجه لأنها لام الابتداء، و"ما" مبتدأ محذوف الخبر، أي للذي بها من المرض شديد، والجملة خبر "إن"، وقال بعضهم: وأظن أن الأقرب من الصواب لو قلنا: هي "ألمَّ بها" أي المرض اهـ.

قال الجامع: لا داعي لهذا، إذ فيه دعوى التصحيف، والتوجيه الذي ذكرناه واضح. والله أعلم.

(فخرج مسرعًا، ومعه رجل) جملة حالية من فاعل "خرج"(من قريش) يحتمل أن يكون هو إسماعيل بن عبد الرحمن الذي تقدم في الحديث (591).

(يسايره) أي يرافق ابن عمر في السير، والجملة صفة لرجل، أو حال منه.

(فغابت الشمس، فلم يصل الصلاة) أي صلاة المغرب. (وكان

ص: 512

عهدي به) أي علمي بابن عمر، أي الذي كنت أعرفه من حاله. (وهو يحافظ على الصلاة) يعني أن عادة ابن عمر رضي الله عنهما المستمرة المحافظة على الصلاة في أوقاتها، لا الجمع بين الصلاتين.

(فلما أبطأ) أي عن أداء الصلاة (قلت: الصلاة - يرحمك الله) فيه تنبيه أهل العلم والفضل إلى فعل الخير، إذا ظُنَّ غفلتهم، وفيه أدب نافع مع ابن عمر، حيث أردف الأمر بالصلاة بالدعاء له تعظيمًا (فالتفت إِلي) إنما التفت إليه لينبهه على عدم غفلته، أو نسيانه للصلاة، بل فعل ذلك قصدًا.

(ومضى) سائرًا (حتى إِذا كان في آخر الشفق) وفي الرواية التالية: "وسار حتى كاد الشفق أن يغيب"، وفيه أن هذا الجمع صوري، لا جمع حقيقي، وأصرح من هذا ما في سنن أبي داود:"من رواية نافع، وعبد الله بن واقد: "أن مؤذن ابن عمر قال: الصلاة، قال سِرْ، حتى إذا كان قبل غيوب الشفق نزل، فصلى المغرب، ثم انتظر حتى غاب الشفق، فصلى العشاء" الحديث. فإنه صريح في الجمع الصوري.

قال الجامع: فإن قيل: هذه الروايات عن ابن عمر تعارض ما ثبت عنه من أنه كان يجمع في وقت الثانية جمعًا حقيقيًا، ففي رواية مسلم من طريق عبيد الله، عن نافع:"أن ابن عمر كان إذا جَدَّ به السير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق". الحديث. وفي رواية

ص: 513

عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، وموسى بن عقبة، عن نافع:"فأخر المغرب، بعد ذهاب الشفق، حتى ذهب هُوِيّ من الليل"

(1)

، وللبخاري في الجهاد من طريق أسلم مولى ابن عمر، عن ابن عمر في هذه القصة:"حتى كان بعد غروب الشفق نزل، فصلى المغرب والعشاء جَمْعًا بينهما"، ولأبي داود من طريق ربيعة، عن عبد الله بن دينار، عن

ابن عمر في هذه القصة "فسار حتى غاب الشفق وتصوبت النجوم نزل، فصلى الصلاتين جمعًا".

أجيب بأنه لا معارضة بين هذه الروايات لإمكان حملها على تعدد الواقعة، ففي بعض الأوقات جَمَعَ جَمْعًا حقيقيًا، وفي بعضها جمعًا صوريًا. كما أشار إليه في "الفتح" جـ 2 ص 677.

قال الجامع: ومما يؤيد هذا الجمع بين هذه الروايات ما أخرجه البيهقي من طريق سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع: "أن ابن عمر استُصْرِخَ على صفية بنت أبي عُبَيد، وهو بمكة، وهي بالمدينة فأقبل، فسار حتى غربت الشمس، وبدت النجوم، فقال له رجل كان يصحبه: الصلاة، الصلاة، فسار ابن عمر، فقال له سالم: الصلاة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا عجل به أمْرٌ في سفر جمع بين هاتين الصلاتين، فسار، حتى إذا غاب الشفق جمع بينهما،

(1)

في "ق" هَوِيّ كغَنِيّ، ويضم، وتَهْواءٌ من الليل: ساعة. اهـ.

ص: 514

وسار ما بين مكة والمدينة ثلاثًا".

فقد بينت هذه الرواية أنه سار ثلاثًا، فيحمل على الجمع الحقيقي في بعض تلك الأيام، وعلى الجمع الصوري في بعضها. فلا تعارض، ولله الحمد ..

(نزل، فصلى المغرب، ثم أقام العشاء، وقد توارى الشفق) أي غاب الشفق عن الأفق.

(فصلى بنا) أي صلاة العشاء (ثم أقبل علينا، فقال: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إِذا عجل به السير) من باب تَعِبَ، والباء للتعدية، أي أعجله السير، وأسند الإعجال إلى السير توسعًا. (صنع هكذا) أي مثلما صنعت من الجمع. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من طريق نافع أخرجه مسلم مختصرًا.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا (595)، وفي الكبرى (1569) عن محمود بن خالد، عن الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن نافع

ص: 515

عنه. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه مسلم وأبو داود، فأخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى، عن مالك، عن نافع عنه. وعن محمد بن المثنى عن يحيى القطان، عن عبيد الله العُمَرِيّ، عن نافع عنه. مختصرًا.

وأخرجه أبو داود في "الصلاة" أيضًا عن إبراهيم بن موسى الرازي، عن عيسى بن يونس، عن ابن جابر عنه. وعن محمد بن عُبَيدٍ المُحاربي، عن محمد بن فُضَيل، عن أبيه، عن نافع، وعبد الله بن واقد كلاهما عنه. وعن سليمان بن داود العَتَكِيّ، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع عنه.

وبقية المسائل تقدمت في الأحاديث الماضية، فلا حاجة إلى إعادتها. وبالله تعالى التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

596 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْعَطَّافُ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ ابْنِ عُمَرَ مِنْ مَكَّةَ، فَلَمَّا كَانَ تِلْكَ اللَّيْلَةُ سَارَ بِنَا حَتَّى أَمْسَيْنَا، فَظَنَنَّا أَنَّهُ نَسِيَ الصَّلَاةَ، فَقُلْنَا لَهُ: الصَّلَاةَ، فَسَكَتَ، وَسَارَ حَتَّى كَادَ الشَّفَقُ أَنْ يَغِيبَ، ثُمَّ نَزَلَ، فَصَلَّى، وَغَابَ الشَّفَقُ، فَصَلَّى الْعِشَاءَ، ثُمَّ

ص: 516

أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: هَكَذَا كُنَّا نَصْنَعُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ.

رجال الإسناد: أربعة

1 -

(قتية بن سعيد) الثقفي الْبَغْلاني، ثقة ثبت، توفي سنة 240، من [10]، تقدم في 1/ 1.

2 -

(العَطَّاف) -بفتح العين المهملة، وتشديد الطاء- بن خالد بن عبد الله بن العاص المخزومي، أبو صفوان المدني، صدوق يَهِم، توفي قبل مالك، من [7].

قال مالك -وقد بلغه أن عطاف بن خالد قد حدث-: ليس من أهل القباب

(1)

.

قال مطرف: قال لي مالك: عطاف يحدث؟ قلت: نعم، فأعظم ذلك، وقال: لقد أدركت أناسًا ثقات، يحدثون ما يؤخذ عنهم. قلت: كيف؟ قال: مخافة الزلل. وقال في رواية عنه: إنما يكتب العلم عن قوم قد جَرَى فيهم العلم مثل عبيد الله بن عمر، وأشباهه.

(1)

هكذا في "تت" من أهل القباب، وفي "تهذيب الكمال": ليس من إبل القباب. وكتب المحقق أن ما في "تت" محرف، وأنه يريد ليس من رءوس الناس. انظر قبب في "لسان". اهـ. قلت: نظرت في "اللسان" فلم أر لدعواه التحريف شيئًا مبررًا. فليحرر.

ص: 517

وقال أحمد: لم يرتضه ابن مهدي. وقال أبو طالب عن أحمد: هو من أهل المدينة صحيح الحديث، يَرْوِي نحو مائة حديث. وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ليس به بأس، قال: سئل عن يحيى ابن حمزة، وعطاف؟ قال: ما أقربهما، عطاف صالح الحديث. وقال الدوري عن ابن معين: ليس به بأس، ثقة، صالح الحديث.

وقال أبو زرعة: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: صالح، ليس بذاك، محمد بن إسحاق، وعطاف بن خالد هما باب الرحمة. وقال الآجري عن أبي داود: ثقة. وقال مرة: صالح، ليس به بأس. قال مالك: عطاف يحدث؟ قيل: نعم. قال: إنا لله، وإنا إليه راجعون.

وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال مرة: ليس به بأس. وقال ابن عدي: لم أر بحديثه بأسًا إذا روى عنه ثقة. ووثقه العجلي. وقال الساجي: رَوَى عن نافع، عن ابن عمر حديثًا لم يتابع عليه، يعني حديثه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم أقاد من خداش". وقال أبو بكر البزار: قد حدث عنه جماعة، وهو صالح الحديث، وإن كان قد حدث بأحاديث لم يتابع عليها. وقال الزبير: كان من ذوي السنن من قريش. وعن عطاف، قال: ولدت سنة 91. وقال ابن حبان: يروي عن الثقات مالا يشبه حديثهم، لا يجوز الاحتجاج به إلا فيما يوافق فيه الثقات. أخرج

ص: 518

له البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود في "القدر"، والترمذي، والمصنف. والله تعالى أعلم.

3، 4 - تقدما في السند السابق.

تنبيهان:

الأول: هذا السند من رباعيات المصنف، وهو أعلى ما وقع له من الأسانيد، وهو 27.

الثاني: حديث ابن عمر هذا من طريق عَطَّاف صحيح، من أفراد المصنف، أخرجه هنا:(596)، وفي "الكبرى":(1568) عن قتيبة، عنه.

وقوله: "حتى كاد الشفق" إلخ، فيه أن هذا الجمع كان صوريًا، وقد تقدم تحقيق القول في ذلك في الحديث الماضي، فارجع إليه.

وقوله: "إذا جد به السير": أي اشتد، قاله صاحب المحكم، وقال عياض: جد به السير: أسرع، كذا قال، وكأنه نسب الإسراع إلى السير توسعًا. قاله في "الفتح". وقال ابن الأثير: أي اهتم به، وأسرع فيه، يقال: جَدَّ، يَجُدُّ، ويَجِدُّ -بالضم، والكسر- وجَدَّ بِهِ الأمْرُ، وأجَدَّ، وجَدَّ فيه، وأجدَّ: إذا اجتهد. اهـ. نهاية جـ 1 ص 244، وقال السندي: الباء للتعدية، أي جعله السير مجتهدًا مسرعًا. اهـ.

ص: 519

وبقية المسائل المتعلقة بالحديث واضحة مما تقدم فلا حاجة إلى إعادتها. وبالله التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

597 -

أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ قَارَوَنْدَا، قَالَ: سَأَلْنَا سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ، فَقُلْنَا: أَكَانَ عَبْدُ اللهِ يَجْمَعُ بَيْنَ شَيْءٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ فِي السَّفَرِ؟ فَقَالَ: لَا، إِلاَّ بِجَمْعٍ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ؟ فَقَالَ: كَانَتْ عِنْدَهُ صَفِيَّةُ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أَنِّي فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَوَّلِ يَوْمٍ مِنَ الآخِرَةِ، فَرَكِبَ، وَأَنَا مَعَهُ، فَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى حَانَتِ الصَّلَاةُ، فَقَالَ لَهُ الْمُؤَذِّنُ: الصَّلَاةَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَسَارَ حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ نَزَلَ، فَقَالَ لِلْمُؤَذِّنِ: أَقِمْ، فَإِذَا سَلَّمْتُ مِنَ الظُّهْرِ، فَأَقِمْ مَكَانَكَ، فَأَقَامَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ أَقَامَ مَكَانَهُ، فَصَلَّى الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكِبَ، فَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ لَهُ الْمُؤَذِّنُ: الصَّلَاةَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ:

ص: 520

كَفِعْلِكَ الأَوَّلِ، فَسَارَ حَتَّى إِذَا اشْتَبَكَتِ النُّجُومُ، نَزَلَ، فَقَالَ: أَقِمْ، فَإِذَا سَلَّمْتُ، فَأَقِمْ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَقَامَ مَكَانَهُ، فَصَلَّى الْعِشَاءَ الآخِرَةَ، ثُمَّ سَلَّمَ وَاحِدَةً، تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ أَمْرٌ يَخْشَى فَوْتَهُ، فَلْيُصَلِّ هَذِهِ الصَّلَاةَ".

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(عبدة بن عبد الرحيم) بن حَسَّان، أبو سعيد المروزي، نزيل نزيل دمشق، صدوق، من صغار [10].

قال أبو حاتم: صدوق. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: شيخ صالح. وقال النسائي: ثقة، وقال في موضع آخر: صدوق لا بأس به. وقال أبو داود: لا أحدث عنه. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن يونس: قدم مصر، وحدث بها، ثم خرج إلى دمشق، فمات بها سنة 244، ووثقه مسلمة، وذكر ابن السمعاني أنه يقال له: الباباني -بموحدتين، وبنون- نسبة إلى موضع بمرو. رَوَى عنه البخاري في "الأدب المفرد"، والمصنف.

2 -

(ابن شميل) هو النضر بن شميل المازني، أبو الحسن البصري

ص: 521

النحوي، نزيل مرو، ثقة، ثبت، توفي سنة 204، من كبار [9]، تقدم في 41/ 45.

3 -

(كثير بن قَارَوَنْدَا) الكوفي نزيل البصرة، أبو إسماعيل، مقبول، من [7]، تقدم في 588.

4، 5 - تقدما قريبًا.

تنبيه:

حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من طريق كثير، عن سالم عنه، حسن، تقدم الكلام عليه مُستَوفَى الشرح، والمسائلِ المتعلقة به برقم (588) فارجع إليه تزدد علمًا.

قوله: "لا": الظاهر أن سالمًا لما سأله في المرة الأولى لم يتذكر، فَنَفَى، ثم لما أتاه مرة أخرى وسأله تذكر، فذكر له جمعه في السفر.

قوله: "إلا بجمع": أي إلا بمزدلفة، قال السندي: ولم يذكر عرفات، وكأنه بناء على أنه يجمع هناك أحيانًا لا دائمًا، لما قال بعض العلماء: إن شرطه الإمام الأعظم. والله أعلم.

قال الجامع: هذا الذي قاله السندي من اشتراط الإمام الأعظم فيه نظر، سيأتي تحقيقه في محله إن شاء الله تعالى.

ص: 522

وقوله: "ثم سلم واحدة تلقاء وجهه": فيه مشروعية السلام مرة واحدة تلقاء وجهه، وفيه اختلاف بين العلماء سيأتي تحقيقه في محله، إن شاء الله تعالى.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 523

‌46 - الْحَالُ التِّي يُجْمَعُ فِيهَا بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ

أي هذا باب في ذكر الأحاديث الدالة على الصفة التي يشرع للمسافر الجمع فيها، بين الصلاتين.

والحال: صفة الشيء، يذكر، ويؤنث، فيقال: حال حسن، وحال حسنة، وقد يؤنث بالهاء، فيقال: حالة. قاله في "المصباح". وقال في حاشية الخضري: الأفصح في ضميره ووصفه التأنيث، وفي لفظه التذكير بأن يجرد من التاء، فيقال: حال حسنة. اهـ. قلت: ومنه قول المصنف هنا: الحال التي إلخ.

والظاهر أن المصنف رحمه الله لا يرى الجمع إلا لمن جَدَّ به السير، وهو مذهب الليث بن سعد، وقولٌ لمالك، كما تقدم، وقد قدمنا أن الصحيح جوازه مطلقًا، وهو رأي أكثر أهل العلم، لصحة الأحاديث بذلك. والله أعلم.

598 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.

رجال الإسناد: أربعة

1 -

(قتيبة بن سعيد) البَغْلاني، ثقة ثبت، من [10]، تقدم في 1/ 1.

ص: 524

2 -

(مالك) بن أنس الإمام المدني، ثقة ثبت حجة فقيه، من [7]، تقدم في 7/ 7.

3 -

(نافع).

4 -

(ابن عمر).

تقدما في السند السابق.

وهذا الإسناد من رباعيات المصنف وهو (28) من رباعيات الكتاب، وسائر لطائفه واضحة. وكذلك شرح الحديث. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وهو عليه التكلان.

تنبيه:

حديث ابن عمر هذا من طريق مالك، عن نافع، أخرجه مسلم في "الصلاة" عن يحيى بن يحيى، عن مالك به. وأخرجه المصنف هنا (598)، وفي "الكبرى"(1572) بهذا السند. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

599 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ، أَوْ حَزَبَهُ أَمْرٌ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.

ص: 525

رجال الإسناد: ستة

1 -

(إِسحاق بن إِبراهيم) الحنظلي المروزي، ثم النيسابوري، ثقة ثبت حجة، من [10]، تقدم في 2/ 2.

2 -

(عبد الرزاق) بن هَمَّام بن نافع، الحميري مولاهم، أبو بكر الصنعاني، ثقة حافظ، مصنف، شهير، عَمِيَ في آخره، فتغير، وكان يتشيع، توفي سنة 111 عن 85 سنة، من [9]، تقدم في 61/ 77.

3 -

(معمر) بن راشد الأزدي مولاهم، أبو عروة البصري، نزيل اليمن، ثقة ثبت فاضل، إلا أن في روايته عن ثابت، والأعمش، وهشام بن عروة شيئًا، وكذا فيما حدث به بالبصرة، توفي سنة 154 وله 58 سنة، من كبار [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 10/ 10.

4 -

(موسى بن عقبة) بن أبي عياش، الأسدي مولى آل الزبير، ثقة فقيه إمام في المغازي، توفي سنة 141، وقيل: قبل ذلك، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 96/ 122.

5 -

(نافع).

6 -

(ابن عمر).

تقدما قريبًا. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات، اتفقوا

ص: 526

عليهم إلا شيخه، فلم يخرج له ابن ماجه، وفيه رواية تابعي عن تابعي؛ موسى، عن نافع، وفيه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أحد المكثرين، وأحد العبادلة. وقد تقدم غير مرة.

وشرح الحديث واضح. والله تعالى أعلم.

تنبيه:

هذا الحديث من رواية موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، صحيح، وهو من أفراد المصنف، أخرجه هنا (599) بهذا السند.

قوله: "أو حزبه أمر": أي نزل به مهم، يقال: حَزَبَهُ أمر، يحزُبه، من باب قتل،: أصابه. كما أفاده في المصباح.

وقال الشيخ ناصر: بعد ذكره لهذا الحديث: صحيح الإسناد، لكن قوله:"أو حزبه أمر" شاذ، لعدم وروده في سائر الطرق عن نافع وغيره، ويمكن أن يكون محرفًا؛ ففي مصنف عبد الرزاق جـ 2 ص 547 بإسناده هذا "أو أجد به المسير". والله أعلم. اهـ. "صحيح النسائي" جـ 1 ص 130.

قال الجامع: عندي أن دعوى الشذوذ غير صحيحة، إذ هذه الجملة غير منافية لسائر الروايات، بل هي بمعنى رواية سالم السابقة. "إذا حضر أحدكم أمر يخشى فوته، فليصل هذه الصلاة". فليتنبه. وبالله التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 527

600 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:"رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ".

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(محمد بن منصور) بن ثابت بن خالد الخزاعي، الجَوَّاز المكي، ثقة، توفي سنة 252، من [10]، تقدم في 20/ 21.

2 -

(سفيان) بن عيينة أبو محمد الكوفي ثم المكي، ثقة ثبت حجة إمام، توفي سنة 198، من [8]، تقدم في 1/ 1.

3 -

(الزهري) محمد بن مسلم أبو بكر المدني، ثقة ثبت حجة إمام، توفي سة 124، من [4]، تقدم في 1/ 1.

4 -

(سالم) بن عبد الله بن عمر.

5 -

(أبوه).

تقدما قريبًا. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف، ورواته كلهم ثقات، اتفقوا

ص: 528

عليهم، غير شيخه فمن أفراده، وفيه رواية تابعي عن تابعي؛ الزهري عن سالم، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه سالم أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال.

والحديث واضح المعنى مما سبق. والله تعالى أعلم.

تنبيه:

حديث ابن عمر رضي الله عنهما من طريق الزهري عن سالم عنه، متفق عليه.

أخرجه البخاري في "الصلاة" عن علي بن عبد الله.

وأخرجه مسلم فيه عن يحيى بن يحيى -وقتيبة- وأبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد- كلهم عن سفيان، عنه، به.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 529

‌47 - الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ فِي الْحَضَرِ

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على جواز الجمع بين الصلاتين في الحضر.

وتقدم أن المصنف ذكر "الوقتُ الذي يَجْمَعُ فيه المقيمُ"، والفرق بين الترجمتين أن الأولى بَيَّنَ فيها المصنف الوقت الذي يشرع فيه الجمع للمقيم، وهذه بين فيها أصل مشروعية الجمع، وكان الأولى له تقديم هذا الباب على الباب المذكور، كما لا يخفى. والله تعالى أعلم.

601 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا، مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ، وَلَا سَفَرٍ.

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي البغلاني، ثقة ثبت، من [10]، تقدم في 1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس الإمام المدني، ثقة ثبت فقيه حجة، من [7]، تقدم في 7/ 7.

ص: 530

3 -

(أبو الزبير) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكي، صدوق، يدلس، من [4]، تقدم في 31/ 35.

4 -

(سعيد بن جبير) الأسدي مولاهم الكوفي، ثقة ثبت فقيه، من [3]، تقدم في 436.

5 -

(ابن عباس) عبد الله الحبر البحر الصحابي رضي الله عنهما تقدم في 27/ 31. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف، ورجاله ثقات، اتفقوا عليهم، وفيه رواية تابعي عن تابعي، أبو الزبير عن سعيد، وفيه ابن عباس أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، وأحد المفتين من الصحابة، وآخر من مات من الصحابة بالطائف. والله تعالى أعلم.

تنبيه:

حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا من طريق أبي الزبير أخرجه مسلم، وأبو داود، وتقدم الكلام في المسائل المتعلقة به مُسْتَوْفًى في الحديث (589) فارجع إليه تستفد. وبالله التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

602 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رِزْمَةَ، وَاسْمُهُ غَزْوَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنِ الأَعْمَشِ،

ص: 531

عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي بِالْمَدِينَةِ، يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ؛ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ، وَالْعِشَاءِ، مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ، وَلَا مَطَرٍ، قِيلَ لَهُ: لِمَ؟ قَالَ: لِئَلاَّ يَكُونَ عَلَى أُمَّتِهِ حَرَجٌ.

رجال الإسناد: ستة

1 -

(محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة) بكسر الراء، وسكون الزاي، (واسمه غزوان) -بفتح المعجمة، وسكون الزاي- أبو عمرو المروزي، ثقة من [10].

قال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي، والدارقطني: ثقة. وقال أبو علي، محمد بن علي بن حمزة المروزي: سمع من ابن المبارك ثلاثة أحاديث. وقال مسلمة: ثقة. مات سنة 241 وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة 240، أو قبلها، أو بعدها بقليل. أخرج له البخاري، والأربعة.

2 -

(الفضل في موسى) السِّيناني -بكسر السين- أبو عبد الله المروزي، ثقة ثبت، وربما أغرب، توفي سنة 192 في ربيع الأول، من كبار [9]، أخرج له الجماعة، تقدم في 83/ 100.

ص: 532

3 -

(الأعمش) سليمان بنِ مِهْران أبو محمد الكاهلي مولاهم الكوفي، ثقة حافظ عارف بالقراءة، ورع، لكنه يدلس، توفي سنة 147، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 17/ 18.

4 -

(حبيب بن أبي ثابت) قيس بن دينار، الأسدي مولاهم، أبو يحيى الكوفي، ثقة فقيه جليل، كثير الإرسال والتدليس، توفي سنة 119، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 121/ 170.

5 -

(سعيد بن جُبير).

6 -

(ابن عباس) رضي الله عنهما.

تقدما في الماضي. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف، ورجاله كلهم ثقات، وهم ما بين مروزيين، وهما: شيخه والفضل، وكوفيين، وهم: الباقون إلا ابن عباس؛ فهو مدني بصري مكي طائفي، وفيه رواية ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض: الأعمش، عن حبيب، عن سعيد. وشرح الحديث واضح مما تقدم. والله تعالى أعلم.

تنبيهات:

الأول: حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا من طريق حبيب بن أبي ثابت أخرجه مسلم. وقد تقدم بيان المسائل المتعلقة به في

ص: 533

شرح الحديث (589) فارجع إليه تستفد.

الثاني: قوله: كان يصلي بالمدينة إلخ، يستفاد منه أن هذا الفعل تكرر منه، بخلاف الرواية السابقة حيث إن فيها: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

" إلخ. فتفطن.

الثالث: في قول ابن عباس رضي الله عنهما: "لئلا يكون على أمته حرج" دليل واضح على أن هذا الجمع جمع حقيقي، لا صوري، ووجه ذلك أن ابن عباس رضي الله عنهما أجاب بمثل هذا الجواب لما سئل عن سبب الجمع في السفر، وقد ثبت هناك أن الجمع حقيقي، لا صوري. فتنبه. وبالله تعالى التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

603 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:"صَلَّيْتُ وَرَاءَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَمَانِيًا جَمِيعًا، وَسَبْعًا جَمِيعًا".

رجال الإسناد: ستة

1 -

(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني ثم البصري، ثقة، توفي سنة 245، من [10]، تقدم في 5/ 5.

2 -

(خالد) بن الحارث الهُجَيمي البصري ثقة ثبت، من [8]،

ص: 534

تقدم في 42/ 47.

3 -

(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز الأموي مولاهم المكي، ثقة فقيه فاضل يدلس ويرسل، توفي سنة 150 أو بعدها، وقد جاوز 70 سنة، من [6]، تقدم في 28/ 32.

4 -

(عمرو بن دينار) أبو محمد الأثرم الجمحي مولاهم المكي، ثقة ثبت، توفي سنة 126، من [4]، تقدم في 112/ 154.

5 -

(أبو الشعثاء) جابر بن زيد الأزدي البصري، مشهور بكنيته، ثقة فقيه، توفي سنة 93، أو 103، من [3]، تقدم في 589.

6 -

(ابن عباس) رضي الله عنهما تقدم قريبًا. والله تعالى أعلم.

تنبيه:

حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا من طريق عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء، أخرجه الشيخان، وأبو داود. وشرحه واضح مما سبق، وكذا تقدم الكلام على المسائل المتعلقة به في الحديث (589) فارجع إليه تستفد. والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 535

‌48 - الْجَمْعُ بَيْنَ الْظُّهْرِ وَالعَصْرِ بِعَرَفَةَ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية الجمع بين صلاتي الظهر والعصر في عرفة.

ومحل الاستدلال من الحديث واضح.

604 -

أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ قَالَ: "سَارَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ، فَرُحِّلَتْ لَهُ، حَتَّى إِذَا انْتَهَى إِلَى بَطْنِ الْوَادِي خَطَبَ النَّاسَ، ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ، ثُمَّ أَقَامَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا".

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(إِبراهيم بن هارون) الْبَلْخي العابد صدوق، من [11].

روى عن حاتم بن إسماعيل، وَروَّاد بن الجَرَّاح، والنضر بن زُرَارة الذهلي، وغيرهم. وروى عنه الترمذي في "الشمائل"، والنسائي،

ص: 536

ومحمد بن علي الحكيم الترمذي. قال النسائي: ثقة، وقال في موضع آخر: لا بأس به.

2 -

(حاتم بن إِسماعيل) أبو إسماعيل الحارثي مولاهم المدني كوفي الأصل، صدوق يَهِم، صحيح الكتاب، من [8].

قال أحمد: هو أحب إليّ من الدراوردي، وزعموا أن حاتمًا كان فيه غفلة، إلا أن كتابه صالح، وقال أبو حاتم: هو أحب إليّ من سعيد بن سالم، وقال النسائي: ليس به لأس. وقال ابن سعد: كان أصله من الكوفة، ولكنه انتقل إلى المدينة، فنزلها، ومات بها سنة 186، كان ثقة مأمونًا كثير الحديث.

وقال البخاري عن أبي ثابت المديني: مات سنة 187، وكذا قال ابن حبان، وزاد ليلة الجمعة لتسع ليال مضين من جمادى الأولى، قاله في الثقات، وكذا قال البخاري أيضًا في "التاريخ الكبير"، و"الأوسط". وقال العجلي: ثقة. وكذا قال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين. وقال ابن المديني رَوَى عن جعفر عن أبيه أحاديث مراسيل أسندها. وقال الذهبي في "الميزان": قال النسائي: ليس بالقوي. أخرج له الجماعة.

3 -

(جعفر بن محمد) بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب

ص: 537

الهاشمي، أبو عبد الله المدني، المعروف بالصادق، صدوق فقيه إمام، توفي سنة 148، من [6]، أخرج له البخاري ومسلم والأربعة، تقدم في 123/ 182.

4 -

(محمد بن علي) بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو جعفر الباقر المدني، ثقة فاضل، توفي سنة بضع عشرة ومائة، من [4]، أخرج له الجماعة، تقدم في 78/ 95.

5 -

(جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام الأنصاري السلمي الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما، تقدم في 31/ 35. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رواته كلهم ثقات، وكلهم مدنيون إلا شيخه فبلخي، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أحد المكثرين السبعة روى 1540 حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن محمد بن علي الباقر (أن جابر بن عبد الله) رضي الله عنهما (قال: سار رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي من منى في اليوم التاسع (حتى أتى عرفة) اسم لموضع الوقوف، قيل: سميت بذلك لأن آدم عرف حواء عليهما الصلاة والسلام هناك، وقيل: لأن جبريل عليه الصلاة

ص: 538

والسلام عَرَّفَهُ المناسك هناك، وجمعت على عرفات، وإن كان موضعًا واحدًا، لأن كل جزء منه يُسَمَّى عرفةَ، ولهذا كانت مصروفة، كقصبات، قال النحويون: ويجوز ترك صرفه، كما يجوز ترك صرف عامات وأذرعات، على أنها اسم مفرد لبقعة. قال الواحدي وغيره: وعلى هذا تتوجه قراءة أشهب العقيلي: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198] بفتح التاء. قال الزجاج: والوجه الصرف بالتنوين عند جميع النحويين. قاله النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" جـ 4 ص 55، 56.

(فوجد القُبَّة) بضم القاف وتشديد الباء: من الخِيام بيت صغير مستدير، وهو من بيوت العرب، والجمع قُبَب، بضم ففتح، وقِباب، بكسر القاف. أفاده في اللسان.

(قد ضُرِبت) أي نصبت (بنمرة) بفتح النون وكسر الميم، ويجوز تخفيفها بإسكان الميم، ويجوز كسر النون مع إسكان الميم. أفاده النووي في تهذيبه جـ 4 ص 173.

وفي المصباح: ونَمِرَة موضع، قيل: من عرفات، وقيل: بقربها خارج عنها. اهـ. والجار والمجرور متعلق بضربت، والجملة حال من القبة.

(فنزل بها، حتى إِذا زالت الشمس أمر بالقصواء) أي أمر برحل ناقته المسماة بالقصواء.

والقصواء كحمراء: اسم ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي في الأصل ما قُطِعَ

ص: 539

طرف أذنها، وكل ما قطع من الأذن فهو جَدْع، فإذا بلغ الربع فهو قَصْو، فإذا جاوزه فهو عَضْب، فإذا استؤصلت فهو صَلْم، ولم تكن ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم قصواء، وإنما كان هذا لَقَبًا لها، وقيل: كانت مقطوعة الأذن. وقد جاء في الحديث أنه كان له ناقة تسمى العضباء، وناقة تسمى الجدعاء، وفي حديث آخر صَلْماء، وفي رواية أخرى: مُخَضْرَمَة، هذا كله في الأذن. ويحتمل أن تكون كل واحدة صفة ناقة مفردة، ويحتمل أن يكون الجميع صفة ناقة واحدة، فسماها كل منهم بما تَخَيَّلَ فيها، ويؤيد ذلك ما روي في حديث علي رضي الله عنه حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم يُبَلِّغ أهل مكة سورة براءة، فرواه ابن عباس رضي الله عنهما: أنه ركب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء، وفي رواية جابر العضباء، وفي رواية غيرهما الجدعاء، فهذا يصرح أن الثلاثة صفة ناقة واحدة، لأن القضية واحدة. وقد روي عن أنس أنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة جدعاء، وليست بالعضباء. وفي إسناده مقال، وفي حديث الهجرة: إن أبا بكر رضي الله عنه، قال: إن عندي ناقتين، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم إحداهما، وهي الجَدْعَاءُ. قاله ابن منظور

رحمه الله.

(فَرُحِلَت له) بالبناء للمفعول، يقال: رَحَلْتُ البعيرَ رحْلًا، من باب نَفَعَ: شَدَدْتُ عليه رحله، والرحل كل شيء يعد للرحيل، من وعاء للمتاع، ومَرْكَبٍ للبعير، وحِلْسٍ، وَرَسَنٍ، وجمعه أرْحُل، ورِحَال،

ص: 540

مثل أفلُس، وسِهَام. قاله في المصباح.

(حتى إِذا انتهى) أي وصل (إِلى بطن الوادي خطب الناس) خطبته البليغة، وسيأتي بيانها في كتاب الحج، إن شاء الله تعالى.

(ثم أذَّن بلال) بن رباح رضي الله عنه (ثم أقام، فصلى) رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس (الظهر، ثم أقام) بلال (فصلى العصر، ولم يصل بينهما) أي لم يتطوع بين الظهر والعصر بنافلة.

فيه أن السنة في عرفة الجمع بين الظهر والعصر بأذان واحد، وإقامة لكل منهما، وأنه لا يفصل بينهما بسنة الظهر. والله أعلم.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث جابر رضي الله عنهما هذا من طريق جعفر بن محمد عن أبيه أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا (604)، وفي الكبرى (1575) عن إبراهيم بن هارون، عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عنه.

ولفظه في الكبرى: دخلنا على جابر بن عبد الله، فقلت: أخبرني عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: سار رسول الله صلى الله عليه وسلم

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

ص: 541

أخرجه مسلم في المناسك عن أبي بكر بن أبي شيبة، وإسحاق بن إبراهيم، كلاهما عن حاتم بن إسماعيل به. وعن عمر بن حفص بن غياث، عن أبيه، عن جعفر به نحوه، وفيه قصة أبي سَيَّارَة.

وأخرجه أبو داود فيه عن النُّفَيْليّ، وعثمان بن أبي شيبة، وهشام بن عمار، وسليمان بن عبد الرحمن، أربعتهم عن حاتم به. وعن يعقوب ابن إبراهيم، عن يحيى القطان، عن حاتم به نحوه.

وأخرجه ابن ماجه فيه عن هشام بن عمار عن حاتم به.

وفوائد الحديث ستأتي في كتاب الحج، إن شاء الله تعالى.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 542

‌49 - الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالعِشَاءِ بِالمزْدَلِفَةَ

المزدلفة: بصيغة اسم الفاعل من ازدلف الشيء: اقترب، وأصله ازتلف، فأبدلت التاء دالًا، سميت بها لقربها من عرفات، وقيل سميت بها لاجتماع الناس بها، وهي علم على البُقْعَة، لا يدخلها ألف ولام، إلا لمحا للصفة في الأصل كالحسن، والعباس. أفاده في "المصباح".

605 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ: أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِيَّ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ جَمِيعًا.

رجال الإسناد: ستة

1 -

(قتيبة بن سعيد) الثَّقَفي البَغْلاني، ثقة ثبت، من [10]، تقدم في 1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس الإمام المدني، ثقة ثبت حجة، من [7]، تقدم في 7/ 7.

3 -

(يحيى بن سعيد) الأنصاري المدني، ثقة ثبت، من [5]، تقدم في 22/ 23.

ص: 543

4 -

(عدي بن ثابت) الأنصاري الكوفي، ثقة رُمِي بالتشيع، من [4].

رَوَى عن أبيه، وجده لأمه عبد الله بن يزيد الخطمي، والبراء بن عازب، وسليمان بن صرد، وعبد الله بن أبي أوفى، وغيرهم. وعنه أبو إسحاق السبيعي، وأبو إسحاق الشيباني، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وغيرهم. قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق، وكان إمام مسجد الشيعة، وقاصهم. وقال العجلي، والنسائي: ثقة. قال ابن عبد البر: عبيد بن عازب هو جد عدي بن ثابت وقال غيره: هو عدي بن أبان بن ثابت بن قيس بن الخطم

الأنصاري الظفري، وثابت صحابي معروف. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مات في ولاية خالد على العراق. وقال ابن قانع: مات سنة 116، قال البرقاني: قلت للدارقطني: فعدي بن ثابت عن أبيه، عن جده؟ قال: لا يثبت، ولا يعرف أبوه ولا جده، وعدي ثقة. وقال الطبري: عدي بن ثابت ممن يجب التثبت في نقله. وقال ابن

معين: شيعي مفرط. وقال الجُوزَجاني: مائل عن القصد. وقال عفان: قال شعبة: كان من الرفاعين. وقال أبو بكر: عدي بن ثابت، عن أبيه، عن معول

(1)

.

وقال السلمي: قلت للدارقطني: فعدي بن ثابت؟ قال: ثقة، إلا

(1)

قوله: معول: هكذا النسخة، ولعله معلول، بلامين، فليحرر.

ص: 544

أنه كان غاليًا -يعني في التشيع- وقال ابن شاهين في الثقات: قال أحمد: ثقة، إلا أنه كان يتشيع. أخرج له الجماعة.

5 -

(عبد الله بن يزيد) بن زيد بن حصين بن عمرو بن الحارث ابن خَطْمَةَ، واسمه عبد الله بن خثيم بن مالك الأوسي الأنصاري، أبو موسى الخطمي، شهد الحديبية وهو صغير، وشهد الجمل وصفين مع علي، وكان أميرًا على الكوفة. قال الآجري: قلت لأبي داود: عبد الله ابن يزيد له صحبة؟ قال: يقولون: له رؤية، سمعت ابن معين يقول هذا. قال أبو داود: وسمعت مصعبًا الزبيري يقول: ليست له صحبة. وقال أبو حاتم: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان صغيرًا في عهده، فإن صحت روايته فذاك. قال الحافظ: وروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري. وقال ابن حبان في كتاب الصحابة: كان أميرًا على الكوفة أيام ابن الزبير، وكان الشعبي كاتبه. وقال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: لعبد الله بن يزيد صحبة صحيحة؟ فقال: أما صحيحة فلا، ثم قال: شيء يرويه أبو بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن أبي بردة، عن عبد الله بن يزيد، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال: وما أرى ذاك بشيء. وقال ابن البرقي: ذكر عبد الله بن عبد الحكم، عن الليث، عن يحيى ابن سعيد، عن عدي بن ثابت أن عبد الله بن يزيد كان أميرًا على الكوفة زمن ابن الزبير. وذكر لبابة: شهد بيعة الرضوان وما بعدها، وهو رسول القوم يوم جسر أبي عبيد. وقال البرقاني: قلت للدارقطني:

ص: 545

موسى بن عبد الله بن يزيد الأنصاري؟ فقال: ثقة، وأبوه وجده صحابيان. أخرج له الجماعة.

6 -

(أبو أيوب الأنصاري) خالد بن زيد بن كليب، من كبار الصحابة، شهد بدرًا، ونزل النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة عليه، مات غازيًا بالروم سنة 50، وقيل: بعدها، أخرج له الجماعة، تقدم في 20/ 20. والله تعالى أعلم.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف، وأن رواته كلهم ثقات اتفقوا عليهم، وهم مدنيون إلا عبد الله بن يزيد، وعدي بن ثابت، فكوفيان، وفيه رواية صحابي عن صحابي. وشرح الحديث واضح، وهو يدل على مشروعية الجمع في المزدلفة، وسيأتي تحقيقه في محله، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، ونعم الوكيل.

تنبيهات:

الأول: حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه هذا من رواية عبد الله بن يزيد عنه متفق عليه.

الثاني: أن المصنف أورده هنا (605)، وفي "الكبرى"(1576) عن قتيبة، عن مالك، عن يحيى الأنصاري، عن عدي بن ثابت، عن عبد الله بن يزيد عنه. وفي "الحج" عن يحيى بن حبيب بن عَرَبيّ، عن حماد بن زيد، عن يحيى الأنصاري به. وعن عمرو بن

ص: 546

علي، عن يحيى القطان، عن شعبة، عن عدي به.

الثالث: أخرج هذا الحديث معه البخاري ومسلم وابن ماجه.

فأخرجه البخاري في "الحج" عن خالد بن مخلد، عن سليمان بن بلال، وفي المغازي عن القعنبي، عن مالك- وأخرجه مسلم في "المناسك" عن يحيى بن يحيى، عن سليمان بن بلال- وعن قتيبة، ومحمد بن رمح، كلاهما عن الليث- ثلاثتهم عن يحيى الأنصاري به. وأخرجه ابن ماجه في الحج عن محمد بن رمح به. أفاده الحافظ المزي في "تحفته" جـ 3 ص 92 وبالله تعالى التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

606 -

أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ حَيْثُ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ، فَلَمَّا أَتَى جَمْعًا جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، فَلَمَّا فَرَغَ، قَالَ:"فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْمَكَانِ مِثْلَ هَذَا".

رجال الإسناد: ستة

1 -

(يعقوب بن إِبراهيم) بن كثير بن أفلح العبدي، مولاهم، أبو يوسف الدَّوْرَقي، ثقة حافظ، توفي سنة 252 عن 96 سنة، من

ص: 547

[10]

، أخرج له الجماعة، تقدم في 21/ 22.

2 -

(هُشيم) بن بَشير بن القاسم بن دينار، السلمي، أبو معاوية الواسطي، ثقة ثبت كثير التدليس والإرسال الخفي، توفي سنة 183، من [7]، تقدم في 88/ 109.

3 -

(إِسماعيل بن أبي خالد) البَجَلي الأحمسي مولاهم، أبو عبد الله الكوفي، ثقة ثبت، توفي سنة 146، من [4]، أخرج له الجماعة، تقدم في 471.

4 -

(أبو إِسحاق) عمرو بن عبد الله السَّبِيعي الهَمْدَاني، ثقة عابد، اختلط بآخره، توفي سنة 127، وقيل: قبل ذلك، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 38/ 42.

5 -

(سعيد بن جبير)، 6 - (ابن عمر) تقدما في السابق. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف، وأن رواته كلهم ثقات، اتفقوا عليهم، وأن شيخه هو أحد التسعة الذين اتفق الستة بالرواية عنهم من دون واسطة، وقد جمعتهم في قولي:

اشْتَرَكَ الأَئِمَّةُ الْهُدَاةُ

ذَوُو الأُصُولِ السِّتَّةِ الْوُعَاةُ

فِي تِسْعَةٍ مِنَ الشُّيُوخِ الْمَهَرَهْ

الْحَافِظِينَ النَّاقِدِينَ الْبَرَرَهْ

أولَئِكَ الأشَجُّ وَابْنُ مَعْمَرِ

قَيْسٌ وَيَعْقُوبُ وَعَمْرٌو السَّرِي

ص: 548

وَابْنُ الْعَلاءِ وَابْنُ بَشَّارٍ كَذَا

ابْنُ الْمُثَنَّى وَزِيَادٌ يُحْتَذَى

قوله: "حيث أفاض" حيث هنا للزمان، فإنها قد تأتي له، كما قال الأخفش، وإن كان أكثر استعمالها للمكان، كما في مغني اللبيب جـ 1 ص 166 - أي في الوقت الذي أفاض فيه من عرفات.

وقوله: "أفاض من عرفات" أي رجع، ودفع منها، يقال: أفاض الناس من عرفات: دَفَعُوا منها، وكل دَفْعَة إفاضة. وأفاضوا من منى إلى مكة يوم النحر: رجعوا إليها، ومنه طواف الإفاضة، أي طواف الرجوع من منى إلى مكة. قاله في "المصباح".

وقوله: "أتى جمعًا": أي جاء إلى مزدلفة، وسميت جمعًا: إما لأن الناس يجتمعون لها، وإما لأن آدم اجتمع هناك بحواء. قاله في المصباح أيضًا.

وشرح الحديث واضح، وكذا المسائل المتعلقة به واضحة مما سبق، فلا حاجة إلى إعادتها. والله أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

تنبيه:

حديث ابن عمر هذا من رواية سعيد بن جبير عنه أخرجه مسلم في الحج عن محمد بن المثنى، عن عبد الرحمن بن مهدي؛ وعن زهير بن حرب، عن وكيع، كلاهما عن شعبة، عن الحكم- وسلمة بن كُهَيل- وعن عبد بن حميد، عن عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن سلمة بن

ص: 549

كُهَيل- وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد الله بن نمير، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن أبي إسحاق- ثلاثتهم عن سعيد به.

وأخرجه أبو داود في "المناسك" عن مسدد، عن يحيى، عن شعبة، عن سلمة- وحده- به. وعن محمد بن العلاء، عن أبي أسامة، عن إسماعيل به. وعن الأنباري، عن إسحاق الأزرق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن سعيد، وعبد الله بن مالك، كلاهما عن ابن عمر.

وأخرجه الترمذي في "الحج" عن بندار، عن يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن مالك، عن ابن عمر، وعن بندار، عن القطان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي إسحاق، عن سعيد، عنه. قال محمد بن بشار: قال يحيى: والصواب حديث سفيان. قال أبو عيسى: حديث ابن عمر رواية سفيان أصح من رواية إسماعيل بن أبي خالد. قال: وَرَوَى إسرائيل هذا الحديث عن أبي إسحاق، عن عبد الله، وخالد ابني مالك عن ابن عمر.

وقال الدارقطني: إن هذا السند وَهِمَ فيه إسماعيل بن أبي خالد على أبي إسحاق، وخالفه شعبة، والثوري، وإسرائيل عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن مالك، عن ابن عمر. قال: وإسماعيل -وإن كان ثقة- لكن هؤلاء أقوم بحديث أبي إسحاق منه. انتهى.

قال الحافظ: ولكن الجواب عن مسلم أنه اعتمد على ما رواه

ص: 550

شريك عن الحسن

(1)

عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، وعبد الله ابن مالك، كلاهما عن ابن عمر، فيدل على أن أبا إسحاق كان: يجمعهما تارة، ويفرد أحدهما تارة. والله أعلم. انظر النكت الظراف: جـ 5 ص 422 - 423. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

607 -

أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ.

رجال الإسناد: ستة

1 -

(عبيد الله بن سعيد) بن يحيى اليَشْكُرِيّ، أبو قُدَامة السَّرَخْسِيُّ، نزيل نَيْسَابُور، ثقة مأمون سُنِّيٌ، توفي سنة 241، من [10]، أخرج له البخاري ومسلم والنسائي، تقدم في 15/ 15.

2 -

(عبد الرحمن) بن مهدي، أبو سعيد البصري، ثقة ثبت حجة، من [9]، تقدم في 42/ 49.

3 -

(مالك) بن أنس الإمام المدني الفقيه الحجة الثبت، من [7]، تقدم في 7/ 7.

4 -

(الزهري) محمد بن مسلم أبو بكر القرشي المدني الإمام

(1)

فيه نظر فإنه لا ذكر للحسن في الأسانيد المذكورة.

ص: 551

الحجة الثبت، من [4]، تقدم في 1/ 1.

5 -

(سالم) بن عبد الله بن عمر العدوي المدني، ثقة فقيه ثبت، من [3]، تقدم في 490.

6 -

(ابن عمر) رضي الله عنهما، تقدم في 12/ 12.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات نبلاء اتفقوا عليهم إلا شيخه فلم يخرج له أبو داود، والترمذي، وابن ماجه. وأن فيه رواية تابعي عن تابعي، وأنه نقل عن أحمد حنبل وإسحاق بن راهويه أنهما قالا: أصح الأسانيد الزهري، عن سالم، عن ابن عمر.

قوله: "صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة": أي جمع بينهما جمع تأخير. والله تعالى أعلم.

تنبيه:

حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من رواية مالك عن الزهري، عن سالم، عنه أخرجه مسلم في "الحج" عن يحيى بن يحيى.

وأخرجه أبو داود عن القعنبي،-والمصنف هنا- (607) عن عبيد الله ابن سعيد، عن ابن مهدي- ثلاثتهم عن مالك به.

وشرح الحديث واضح، وكذا المسائل المتعلقة به واضحة مما سبق،

ص: 552

فلا حاجة لإعادتها. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

608 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ، إِلاَّ بِجَمْعٍ، وَصَلَّى الصُّبْحَ يَوْمَئِذٍ قَبْلَ وَقْتِهَا.

رجال الإسناد: ستة

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثَّقَفي البَغلاني، ثقة ثبت، من [10]، تقدم في 1/ 1.

2 -

(سفيان) بن عيينة الهلالي مولاهم المكي، ثقة ثبت حجة إمام، من [8]، تقدم في 1/ 1.

3 -

(الأعمش) سليمان بن مِهْران الأسدي الكاهلي، أبو محمد الكوفي، ثقة حافظ عارف بالقراءة وَرِع لكنه يدلس، توفي سنة 147، من [5]، تقدم في 17/ 18.

4 -

(عمارة) بن عمير التيمي من بني تيم الله بن ثعلبة، الكوفي، ثقة ثبت، من [4].

قال البخاري عن علي بن المديني: له نحو ثمانين حديثًا. وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عنه؟ فقال: ثقة، وزيادة، يسئل عن مثل

ص: 553

هذا؟ وقال ابن معين، وأبو حاتم، والنسائي: ثقة. وقال العجلي: كوفي ثقة، وكان خيارًا. وقال ابن سعد: توفي في خلافة سليمان بن عبد الملك. وكذا قال ابن حبان في الثقات. وقال: رَوَى عن عبد الله ابن عمر. وخليفة بن خياط

(1)

. وزاد سنة 98، وكذا جزم بروايته عن ابن عمر ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"، وأما ابن أبي خيثمة فَحَكى عن يحيى بن معين أنه مات سنة 82، أخرج له الجماعة.

5 -

(عبد الرحمن بن يزيد) بن قيس النخعي، أبو بكر الكوفي، توفي سنة 83، ثقة من كبار [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 37/ 41.

6 -

(عبد الله) بن مسعود بن غافل بن حَبيب الهُذلي، أبو عبد الرحمن من السابقين الأولين، ومن كبار العلماء من الصحابة، أمّره عمر على الكوفة، ومات سنة 32 أو في التي بعدها بالمدينة، أخرج له الجماعة، تقدم في 35/ 39. والله تعالى أعلم.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسياته، وأن رجاله كلهم ثقات، اتفقوا عليهم، وأنهم كوفيون إلا شيخه فبغلاني، وأن فيه رواية ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض، الأعمش، وعُمَارة، وعبد الرحمن.

(1)

معطوف على قوله: ابن حبان، أي وكذا قال خليفة. فتنبه.

ص: 554

ومنها: أن عبد الله هنا هو ابن مسعود، لأن الراوي عنه كوفي، للقاعدة المعروفة أن عبد الله إذا أطلق في الصحابة، ينظر إلى البلدان، كما قال في ألفية المصطلح:

وَحَيْثُمَا أطْلِقَ عَبْدُ اللهِ فِي

طَيْبَةَ فَابْنُ عُمَرٍ وَإِنْ يَفِي

بمَكَّةٍ فَابْنُ الزُّبَيْر، أوْ جَرَى

بِكُوفَةٍ فَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُرَى

وَالْبَصْرة الْبَحْرُ وَعِنْدَ مِصْرِ

وَالشَّامِ مَهْمَا أطْلِق ابْنُ عَمْرِو

وقد تقدم هذا غير مرة، وإنما أعدته تنبيهًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه، أنه (قال: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بين صلاتين) أي في وقت أحدهما (إِلا بجمع) أي بمزدلفة، وتقدم قريبًا علة تسميتها به. وقد احتج بهذا الحديث الحنفية على منع الجمع بين الصلاتين في السفر؛ لأن ابن مسعود من ملازمي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر أنه ما رآه يجمع إلا في المزدلفة.

وأجاب الجمهور القائلون بجواز الجمع في السفر عنه بأنه نفي لعلمه، والمثبت مقدم عليه؛ لأن معه زيادة علم، كما أفاده النووي في "المجموع" جـ 4 ص 373، وقال في "شرح مسلم" جـ 9 ص 37: والجواب عن هذا الحديث أنه مفهوم، وهم -يعني الحنفية- لا يقولون

ص: 555

تظاهرت الأحاديث الصحيحة بجواز الجمع، ثم هو متروك الظاهر بالإجماع في صلاتي الظهر والعصر بعرفات. والله أعلم. اهـ. كلام النووي.

(وصلى) النبي صلى الله عليه وسلم (الصبح يومئذ) أي يوم إذْ بات بمزدلفة.

(قبل وقتها) أي المعتاد، يعني أنه صلى صلاة الصبح في ذلك اليوم قبل ميقاتها المعتاد، ولكن بعد تحقق طلوع الفجر، فقوله:"قبل وقتها": المراد قبل وقتها المعتاد، لا قبل طلوع الفجر؛ لأن ذلك لا يجوز بإجماع المسلمين، فيتعين التأويل المذكور. وقد ثبت في صحيح البخاري في هذا الحديث في بعض رواياته أن ابن مسعود صلى الفجر حين طلع الفجر بالمزدلفة، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الفجر هذه الساعة، وفي رواية: فلما طلع الفجر قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي هذه الساعة إلا هذه الصلاة في هذا المكان من هذا اليوم".

واستدل به لأبي حنيفة في استحباب الصلاة في آخر الوقت في غير هذا اليوم، ومذهب الجمهور استحباب الصلاة في أول الوقت في كل الأيام، ولكن في هذا اليوم أشد استحبابًا. أفاده النووي رحمه الله في شرح مسلم جـ 7 ص 37.

وقد تقدم تحقيق المسألة، وترجيح مذهب الجمهور بالدلائل في الباب (25) فارجع إليه تستفد. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

ص: 556

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا من رواية عبد الرحمن بن يزيد عنه متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف:

أخرجه هنا (608)، وفي "الكبرى"(1578) عن قتيبة، عن ابن عيينة، عن الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن، عنه. وفي "المناسك"(3038) عن أبي كريب، عن أبي معاوية، عن الأعمش به. و (3010) عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد بن الحارث، عن شعبة، عن الأعمش به. و (3027) عن القاسم بن زكريا، عن مصعب بن المقدام، عن داود الطائي، عن الأعمش به. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري في "الحج" عن عمر بن حفص، عن أبيه.

ومسلم فيه عن يحيى، وأبي بكر، وأبي كريب، ثلاثتهم عن أبي معاوية- وعن عثمان، وإسحاق، كلاهما عن جرير.

وأبو داود فيه عن مسدد، عن عبد الواحد بن زياد- وأبي عوانة- وأبي معاوية- خمستهم عن الأعمش به.

ص: 557

وسائر متعلقات الحديث واضحة مما مر فلا حاجة إلى إطالة الكتاب بإعادتها. والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 558

‌50 - كَيْفَ الْجَمْعُ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على جواب سؤال من سأل: كيف الجمع بين الصلاتين؟

والجواب واضح من قوله: فلما أتى المزدلفة صلى الغرب، ثم نزعوا رحالهم، ثم صلى العشاء. والله تعالى أعلم.

609 -

أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَرْمَلَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْدَفَهُ مِنْ عَرَفَةَ، فَلَمَّا أَتَى الشِّعْبَ نَزَلَ، فَبَالَ، وَلَمْ يَقُلْ: أَهْرَاقَ الْمَاءَ، قَالَ: فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ مِنْ إِدَاوَةٍ، فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا، فَقُلْتُ لَهُ: الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ: "الصَّلَاةُ أَمَامَكَ". فَلَمَّا أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ صَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ نَزَعُوا رِحَالَهُمْ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ.

رجال الإسناد: سبعة

1 -

(الحسين بن حريث) الخُزَاعي مولاهم، أبو عَمَّار المروزي، ثقة توفي سنة 244، من [10]، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود

ص: 559

والترمذي والنسائي، تقدم في 44/ 52.

2 -

(سفيان) بن عيينة أبو محمد الكوفي، ثم المكي ثقة ثبت حجة إمام، من [8]، تقدم في 1/ 1.

3 -

(إِبراهيم بن عقبة) بن أبي عياش الأسدي مولاهم المدني مولى آل الزبير، أخو موسى، ثقة، من [6].

قال ابن المديني: له عشرة أحاديث، وقال أحمد ويحيى والنسائي: ثقة. ونقل الغلابي عن ابن معين أنه قال: إبراهيم أحب إلي من موسى. وقال الدارقطني: ثقة ليس فيه شيء. وقال مصعب بن عبد الله: كانت له هيبة وعلم. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه؟ فقال: صالح لا بأس به، قلت: يحتج بحديثه؟ قال: يكتب حديثه، وقال ابن سعد:

ثقة قليل الحديث.

وقال أبو داود: وإبراهيم، وموسى، ومحمد: بنو عقبة كلهم ثقات. وذكره ابن حبان في الثقات. أخرج له مسلم، وأبو داود، والمصنف، وابن ماجه.

4 -

(محمد بن أبي حرملة) القرشي المدني، مولى عبد الرحمن ابن أبي سفيان بن حويطب وقد ينسب إليه، ثقة، توفي سنة بضع و 130، من [6]، أخرج له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، تقدم في 578.

ص: 560

5 -

(كريب) بن أبي مسلم الهاشمي مولاهم، أبو رِشْدِين المدني مولى ابن عباس، ثقة، توفي سنة 98، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 161/ 253.

6 -

(ابن عباس) عبد الله الحبر البحر رضي الله عنهما، تقدم في 27/ 31.

7 -

(أسامة بن زيد) بن حارثة بن شَرَاحِيل الكَلْبي الأمير، أبو محمد، وأبو زيد، الصحابي المشهور رضي الله عنه، مات سنة 54 بالمدينة، عن 75 سنة، أخرج له الجماعة، تقدم في 96/ 120. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منيها: أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأن كريبًا ليس في الكتب الستة من يسمى باسمه غيره، وفيه رواية صحابي عن صحابي، وفيه ابن عباس أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى 1696 حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أسامة بن زيد) رضي الله عنهما، حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حِبِّهِ (وكان النبي صلى الله عليه وسلم أردفه من عرفة) أي حمله على ظهر راحلته، وفيه جواز ركوب الاثنين على دابة إذا كانت تطيق ذلك، وجملة: وكان

الخ معترضة، أنه قال:(فلما أتى) أي النبي صلى الله عليه وسلم -

ص: 561

(الشِّعْب) -بكسر الشين المعجمة، وسكون العين المهملة-: الطريق، وقيل: الطريق في الجبل، والمراد به الشعب المعهود للحجاج، قاله العيني.

(نزل) أي عن راحلته (فبال، ولم يقل أهراق الماء) أي لم يقل أسامة: أهراق الماء موضع "بال"، بل صرح بذكر البول وأراد بهذا أنه حفظ اللفظ المسموع، وراعاه في التبليغ، وأنهم ما كانوا يتحاشون عن لفظ البول بلفظ كنايته، وهو أهْرَاق الماء.

وأهراق، أصله: أراق، يقال: أراقه، يُرِيقُه، فهو مُرِيق، والمفعول مُرَاق، فأبدلت الهمزة هاء، فقيل: هَرَاقَه، والأصل هَرْيَقَهُ، وزان دَحْرَجَه، ولهذا تفتح الهاء من المضارع، فيقال: يُهَرِيقه، كما تفتح الدال من يُدَحْرِجُه، وتفتح من الفاعل والمفعول أيضًا، فيقال: مُهَرِيق، ومُهَرَاق، والأمر: هرق ماءك والأصل هَرْيِقْ، وزان دَحْرِج".

وقد يجمع بين الهاء والهمزة، فيقال: أهْرَاقَهُ، يُهْرِيقُه، ساكن الهاء تشبيها له بأسْطَاع يُسْطيع، كأن الهمزة زيدت عوضًا عن حركة الياء في الأصل، ولهذا لا يصير الفعل بهذه الزيادة خماسيًا. أفاده في المصباح.

قال الجامع: ما هنا مما جمع فيه بين الهاء والهمزة.

(قال) أسامة (فصببت عليه من إِداوة) بالكسر: المطهرة، وجمعها: أدَاوَى بالفتح. وفيه جواز الاستعانة على الوضوء في صب الماء.

ص: 562

(فتوضأ وضوءًا خفيفًا) يحتمل أن يكون خفيفًا من حيث الكمّ، أي لم يتوضأ ثلاثًا ثلاثًا، أو من حيث الكيف أي لا يبالغ في دلك الأعضاء.

قيل: إنما خففه لأنه لم يرد الصلاة به، وإنما توضأ ليكون مستصحبًا للطهارة في مسيره، فإنه كان في عامة أحواله على طهر. وقال أبو الزناد: إنما لم يسبغه ليذكر الله، لأنهم يكثرون منه عشية الدفع من عرفة. وقال غيره: إنما فعله لإعجاله الدفع إلى المزدلفة، فأراد أن يتوضأ وضوءًا يرفع به الحدث، لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يبقى بغير طهارة.

قال الجامع: فيه نظر، إذ لا دليل على أنه كان لا يبقى على غير طهارة. والله أعلم.

وقال الخطابي: إنما ترك إسباغه ليكون مستصحبًا للطهارة في طريقه، ويجوز فيه لأنه لم يُرِدْ أن يصلي به، فلما نزل، وأرادها أسبغه. ذكره العيني في "عمدته" جـ 2 ص 260.

قال أسامة: (فقلت لى: الصلاة) بالنصب على الإغراء، أو على الحذف، والتقدير: أتريد الصلاة؟ قال الحافظ: ويؤيده قوله في رواية تأتي: فقلت: أتصلي يا رسول الله، ويجوز الرفع على تقدير: حانت الصلاة أو: حضرت.

(فقال) صلى الله عليه وسلم (الصلاة أمامك) برفع الصلاة على الابتداء، والخبر "أمامك"، وهو بفتح الهمزة، أي قدامك، ثم إنه يحتمل نصبه على الظرفية، فيتعلق بمحذوف خبر عن المبتدإ، ويحتمل الرفع على أنه خبر،

ص: 563

لأنه من الظروف التي تقبل التصرف، كما قال ابن مالك:

وَمَا يُرَى ظَرْفًا وَغَيْرَ ظَرْفِ

فَذَاكَ ذُو تَصَرّفٍ فِي الْعُرْفِ

انظر "حاشية الصبان على الأشموني" جـ 2 ص 131.

قال الخطابي رحمه الله: يريد أن موضع هذه الصلاة المزدلفة، وهي أمامه، وهذا تخصيص لعموم الأوقات المؤقتة للصلوات الخمس، لبيان فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

وفيه دليل على أنه لا يصليها الحاج إذا أفاض من عرفة حتى يبلغ مزدلفة، وأن عليه أن يجمع بينها وبين العشاء بجمع على ما سنه صلى الله عليه وسلم بفعله، وبَيَّنه بقوله، ولو أجزأته في غير المكان لما أخرها عن وقتها

المؤقت لها في سائر الأيام.

وقال الكرماني رحمه الله: ليس فيه دليل على أنه لا يجوز، إذ فعلُهُ المجرد لا يدل إلا على الندب، وملازمة الشرطية في قوله: لما أخرها ممنوعة، لأن ذلك لبيان جواز تأخيرها، أو بيان ندبية التأخير، إذ الأصل عدم الجواز.

قال البدر العيني رحمه الله: قلت: لا نسلم نفي الدليل على عدم الجواز، لأن فعله قارنه قوله، فدل على عدم الجواز، وإنما يمشي كلامه أن لو كان أسامة عالمًا بالسنة، ولم يكن يعلم ذلك، لأنه عليه الصلاة والسلام أول ما سنها في حجة الوداع، والموضع موضع الحاجة إلى البيان، فقِرَانُ فعله بقوله دليلٌ على عدمِ الجواز، ووجوبِ تأخيرها إلى غير وقتها المَعهود. والله أعلم. اهـ. كلام العيني في "عمدته" جـ 2 ص 260.

ص: 564

قال الجامع: ما قاله العيني ردًّا لكلام الكرماني تحقيق حقيق بالقبول. قال أبو محمد بن حزم: وأما قولنا: لا تجزئ صلاة المغرب تلك الليلة إلا بمزدلفة، ولابدّ، وبعد غروب الشفق، ولابد، فَلِمَا رَوَينا من طريق البخاري

فذكر حديث الباب، ثم قال: فإذا قد قصد عليه السلام ترك صلاة المغرب، وأخبر بأن المصلَّي من أمام، وأن الصلاة من أمام، فالمُصَلَّى هو موضع الصلاة، فقد أخبر بأن موضع الصلاة ووقت الصلاة من أمام، فصح يقينًا أن ما قبل ذلك الوقت، وما قبل ذلك المكان ليس مُصَلّى، ولا الصلاة فيه صلاة. اهـ. المحلى جـ 7 ص 129.

قال الجامع: هذا تحقيق نفيس، والحاصل أن الراجح من أقوال أهل العلم أن صلاة المغرب لا تجزئ إلا في المزدلفة وقت العشاء. والله تعالى أعلم.

قال العيني رحمه الله: فإن قلت: "الصلاة أمامك" قضية حملية، فكيف يصح هذا الحمل؟ لأن الصلاة ليست بأمام. قلت: المضاف فيه محذوف، تقديره وقتُ الصلاة أمامك، إذ نفسها لا توجد قبل إيجادها، وعند إيجادها لا تكون أمامه، وقيل: معناه: "المُصَلَّى أمامك"، أي مكان الصلاة، فيكون من قبيل ذكر الحالِّ وإرادة المَحَلّ، وهو أعم من أن يكون مكانًا أو زمانًا. اهـ.

(فلما أتى المزدلفة صلى المغرب) أي بعد وضوئه بالإسباغ، وبعد

ص: 565

الأذان والإقامة، ففي رواية البخاري: "فلما جاء المزدلفة نزل، فتوضأ، فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة، فصلى المغرب

(ثم نزعوا رحالهم) أي أنزلوا الرِّحَال عن ظهور جِمَالهم، والرِّحال جمع رَحْل، كسَهْم وسِهَام، ويجمع على أرْحُل، كَفَلْس وأفْلُس، والرحلُ: كل شيء يُعَدُّ للرَّحِيل من وِعَاءٍ للمتاع، ومَرْكَبٍ للبعير، وحِلْسٍ وَرَسَنٍ. كما قاله الفيومي. وفي رواية البخاري:"ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله" وإنما فعلوا ذلك لئلا يحصل منها التشويش بقيامها.

وفيه جواز الفصل بين الصلاتين بقليل مثل إناخة الجمال، ونحوه.

(ثم صلى العشاء) أي بعد الإقامة، ففي رواية البخاري:"ثم أقيمت العشاء، فصلى، ولم يُصَلِّ بينهما"، وفيه أنه لا يشرع الفصل بين الصلاتين، بالتطوع. والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أسامة رضي الله عنه هذا متفق عليه بنحوه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له: هذا الحديث من رواية ابن عباس عن أسامة رضي الله عنهم من أفراد المصنف رحمه الله. أخرجه هنا (609)، وفي "الكبرى"(1579) عن الحسين بن الحريث، عن ابن عيينة، عن إبراهيم، ومحمد بن أبي حَرْمَلَة، وفي

ص: 566

الكبرى عن إبراهيم وحده، كلاهما عن كريب، عن ابن عباس عنه.

وقال الحافظ أبو الحجاج الْمِزِّيُّ رحمه الله: والصحيح عن أسامة. اهـ. "تحفة الأشراف" جـ 1 ص 48 يعني أن الصحيح كونه من رواية كريب عن أسامة، لا عن ابن عباس عنه. ولعله لمخالفة ابن عيينة لغيره، فقد رواه عبدُ الله بنُ المبارك، وزهيرُ بن معاوية عند مسلم، والثوريُّ، وحمادُ بن زيد عند المصنف، كلهم عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب، عن أسامة، وفي بعض الطرق تصريحه بأنه سأل أسامة رضي الله عنه.

قال الجامع: لكن الجمع ممكن بأنه سمعه عن ابن عباس عنه، ثم سأل بعدُ أسامةَ، فأخبره به، فإن ابن عيينة ثقة ثبت حافظ فمخالفته لهم لا تضره، لما ذكرنا. فتنبه. والله أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرج معه:

قد ذكرنا آنفًا أنه من رواية كريب عن ابن عباس عن أسامة من أفراد المصنف، وأما من رواية كريب عن أسامة نفسه، فقد أخرجه البخاري في "الطهارة" عن القعنبي- وفي الحج عن عبد الله بن يوسف- كلاهما عن مالك، عن موسى بن عقبة، عن كريب، عن أسامة رضي الله عنه. وفي "الطهارة" عن محمد بن سَلام، عن يزيد بن هارون - وفي "الحج" عن مسدد، عن حماد بن زيد، كلاهما عن يحيى بن سعيد، عن موسى به.

وأخرجه مسلم في الحج عن يحيى بن يحيى، عن مالك به. وعن محمد بن رُمْح، عن ليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد به. وعن أبي

ص: 567

بكر، وأبي كريب، كلاهما عن ابن المبارك، وعن إسحاق، عن يحيى ابن آدم، عن زهير، كلاهما عن إبراهيم بن عقبة، وعن إسحاق، عن وكيع، عن سفيان، عن محمد بن عقبة- كلاهما عن كريب به.

وأخرجه أبو داود في "الحج" عن القعنبي به.

وأخرجه المصنف فيه عن محمود بن غَيْلان، عن وكيع، عن سفيان، عن إبراهيم بن عقبة به. وفي "الكبرى" عن أحمد بن سليمان، عن يزيد بن هارون به. وعن قتيبة، عن مالك به. وعن قتيبة، عن حماد بن زيد، عن إبراهيم به

(1)

. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: جواز الإرداف على الدابة إذا أطاقت ذلك.

ومنها: جواز الاستعانة في الوضوء في صب الماء.

ومنها: مشروعية التخفيف في الوضوء.

ومنها: استحباب الوضوء للدوام على الطهارة، وإن لم يصل به صلاة، إذ هي عبادة تَرَتَّب عليها تكفير الذنوب، فقول من قال بكراهة الوضوء إثر الوضوء ما لم يؤدّ بالأول صلاة فلا وجه له، وقد تقدم تحقيق هذا في كتاب الطهارة، في باب "ثواب من توضأ كما أمِر" 108/ 147 فارجع إليه تزدد علمًا.

(1)

راجع تحفة الأشراف جـ 1 ص 58.

ص: 568

ومنها: أن صلاة المغرب في الطريق قبل الوصول إلى مزدلفة لا تُجْزِئُ، على القول الراجح، لقوله:"الصلاةُ أمامُك".

ومنها: أن الفصل بين الصلاتين بتنزيل الرحل ونحوه لا يضر في الجمع.

ومنها: أنه لا يشرع الفصل بينهما بأداء سنة المغرب، لقوله:"ولم يُصَلِّ بينهما" كما في الرواية التي أشرنا إليها سابقًا.

وأما تفصيل المذاهب في حكم الصلاة في الطريق، وفي جواز الفصل بينهما بالنافلة، وفي حكم الأذان والإقامة لكل منهما، وغير ذلك فسيأتي مستوفًى في محله إن شاء الله تعالى.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 569

‌51 - فَضْلُ الصَّلاةِ لِمَوَاقِيتِهَا

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على فضل الصلاة في مواقيتها المحددة لها. فاللام هنا بمعنى "في"، لأن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض عند الكوفيين، كما في قوله تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47]، وقوله:{لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187] أفاده العيني في عمدته جـ 4 ص 154.

اعلم: أن كل ما تقدم من الأحاديث في الأبواب السابقة مما يدل على جواز الصلاة لغير وقتها المعتاد لها إنما هو من باب التيسير والتسهيل، إلا ما كان بعرفة ومزدلفة فالأولى لمن لا يشق عليه أن يصلي كل صلاة لوقتها، إلا في هذين الموضعين على خلاف فيهما أيضًا، سيأتي تحقيقه في محله إن شاء الله تعالى.

فكأن المصنف رحمه الله يشير بهذه الترجمة إلى ما ذكرته، تنبيهًا على أن الأفضل أداء كل صلاة في وقتها المحدد لها، لحديث ابن مسعود رضي الله عنه المذكور في الباب، فإنه صريح في أن أداء الصلاة لوقتها أحب العمل إلى الله تعالى. والله أعلم.

610 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْوَلِيدُ بْنُ الْعَيْزَارِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا

ص: 570

عَمْرٍو الشَّيْبَانِيَّ، يَقُولُ: حَدَّثَنَا صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ- وَأَشَارَ إِلَى دَارِ عَبْدِ اللهِ- قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَ: "الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ عز وجل".

رجال الإسناد: ستة

1 -

(عمرو بن علي) بن بَحْر بن كُنَيز، أبو حفص الفَلاس الصَّيْرفي الباهلي البصري، ثقة حافظ، توفي سنة 249، من [10]، أخرج له الجماعة، تقدم في 4/ 4.

2 -

(يحيى) بن سعيد بن فَرُّوخ القطان، أبو سعيد البصري، ثقة متقن حافظ إمام قُدْوَة، توفي سنة 198، من كبار [9]، أخرج له الجماعة، تقدم في 4/ 4.

3 -

(شعبة) بن الحجاج بن الوَرْد العَتَكِيُّ مولاهم أبو بِسْطَام الواسطي، ثم البصري، ثقة حافظ متقن، توفي سنة 160، من [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 24/ 26.

4 -

(الوليد بن العَيْزَار) بن حُرَيث العبدي الكوفي، ثقة، من [5].

وفي الخلاصة: العَيْزار -بفتح المهملة، وإسكان التحتانية، ثم

ص: 571

زاي-، رَوى عن أبيه، وعكرمة، وأبي عمرو الشيباني، وعنه يونس بن أبي إسحاق، وأبو يعقوب الصغير، ومالك بن مِغْوَل، وإسرائيل والمسعودي، وشعبة، وغيرهم. قال ابن معين، وأبو حاتم: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال العجلي: كوفي ثقة. انتهى. أخرج له الشيخان، والترمذي، والمصنف.

5 -

(أبو عمرو الشيباني) سَعْد بن إياس الكوفي، ثقة مخضرم، من [2].

قال إسماعيل بن أبي خالد عنه: تكامل شبابي يوم القادسية، فكنت ابن أربعين سنة، وكانت وَقْعَة القادسية سنة 16، وقال أيضًا: بُعِثَ النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا أرْعَى إبلًا لأهلي بكاظِمَةَ.

وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ثقة. وقال هبة الله بن الحسن البصري: مُجْمَع على ثقته.

وقال إسماعيل بن أبي خالد: عاش عشرين ومائة سنة. وقال الحافظ: فتكون وفاته سنة 96، وأرخه ابن عبد البر في الاستيعاب سنة 95، وسماه ابن حبان في "الثقات": سعيدًا، وقال: حج في الجاهلية، وليست له صحبة.

ورَوَى عن عمر وغيره. وعنه الناس، حضر القادسية، وهو ابن أربعين سنة، ومات بعد أن تم له 120 وكانت القادسية سنة 21، قال: فكأنه مات سنة 101، وقال أبو نعيم في الصحابة: سعد بن إياس،

ص: 572

ويقال: سعيد. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث. ووثقه العجلي أيضا، وذكر الصريفيني أنه مات سنة 98، والله أعلم. أخرج له الجماعة.

6 -

(عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه، تقدم قريبًا. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات، اتفقوا عليهم إلا الوليد، فما أخرج له أبو داود وابن ماجه، وأن شيخه ممن اتفق الستة على الرواية عنه بدون واسطة، كما تقدم غير مرة، وفيه رواية تابعي عن تابعي: الوليد، عن أبي عمرو الشيباني. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(قال) الوليد بن العيزار (سمعت أبا عمرو) سعد بن إياس (الشيباني) بفتح الشين المعجمة، وسكون التحتانية، بعدها باء موحدة، ثم ألف، ثم نون: نسبة إلى قبيلة شيبان بن ثعلبة، كما قاله الصنعاني في العدة.

(يقول) في محل نصب على الحال من المفعول، أو مفعول ثان لسمعت على رأي بعض النحاة.

(حدثنا صاحب هذه الدار) كذا رواه شعبة مبهمًا، وقد صرح أبو معاوية النخعي في الرواية التالية بأنه عبد الله بن مسعود.

ص: 573

(وأشار) أبو عمرو حينما قال: حدثنا صاحب هذه الدار (إِلى دار عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه؛ فيه الاكتفاء بالإشارة المُفْهِمَة عن التصريح. قاله في "الفتح".

(قال) صاحب تلك الدار، وهو ابن مسعود (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أيُّ العمل أحب إلى الله تعالى؟) وفي رواية مالك بن مغول:"أي العمل أفضل؟ "، وكذا لأكثر الرواة، فإن كان هذا اللفظ هو المسئول به،

فلفظ حديث الباب ملزوم عنه. قاله في "الفتح".

فإن قيل: جاء إن إطعام الطعام خير أعمال الإسلام، وجاء إن أحب العمل إلى الله أدومه، وغير ذلك مما قيل فيه: إنه أحب الأعمال إلى الله، أو أفضل الأعمال إلى الله. فما وجه التوفيق بين تلك النصوص؟

أجيب بأن الجواب اختلف لاختلاف أحوال السائلين بأنْ أعْلَمَ كلَّ قوم بما يحتاجون إليه، أو بمالهم فيه رغبة، أو بما هو لائق بهم، أو كان الاختلاف باختلاف الأوقات، بأن يكون العمل في ذلك الوقت أفضل منه في غيره، فقد كان الجهاد في ابتداء الإسلام أفضل الأعمال، لأنه الوسيلة إلى القيام بها والتمكن من أدائها، وقد تضافرت النصوص على أن الصلاة أفضل من الصدقة، ومع ذلك ففي وقت مواساة المضطر تكون الصدقة أفضل، أو أن أفضل ليست على بابها

(1)

بل المراد

(1)

قال الصنعاني: ولا يخفى ضعفه، وأنه خلاف طَلِبَةِ السائل، فلا يطابقه الجواب. اهـ. قال الجامع: والذي بعده أيضًا مثله. فتنبه.

ص: 574

بها الفضل المطلق، أو المراد من أفضل الأعمال، فحذفت "من"، وهي مرادة.

وقال ابن دقيق العيد الأعمال في هذا الحديث محمولة على البدنية، وأراد بذلك الاحتراز عن الإيمان، لأنه من أعمال القلوب، فلا تعارض حينئذ بينه وبين حديث أبي هريرة "أفضل الأعمال إيمان بالله

" الحديث. وقال غيره: المراد بالجهاد هنا ما ليس بفرض عين، لأنه يتوقف على إذن الوالدين، فيكون برهما مقدمًا عليه. اهـ "فتح الباري"

جـ 2 ص 12، 13.

(قال) صلى الله عليه وسلم (الصلاة على وقتها) مبتدأ حذف خبره، لدلالة السؤال عليه كما قال في الخلاصة:

وَحَذُفُ مَا يُعْلَمُ جَائِزٌ كَمَا

تَقُولُ: زَيْدٌ بَعْدَ مَنْ عِنْدَكُمَا؟

أي أحب الأعمال إلى الله.

قال العيني: واستعمال لفظة "على" هنا بالنظر إلى إرادة الاستعلاء على الوقت والتمكن من أدائها في أيّ جزء من أجزائها.

قال ابن بطال: فيه أن البِدَار إلى الصلاة في أول وقتها أفضل من التراخي فيها، لأنه إنما شرط فيها أن تكون أحب الأعمال إذا أقيمت لوقتها المستحب. قال الحافظ: وفي أخذ ذلك من اللفظ المذكور نظر. قال ابن دقيق العيد: ليس في هذا اللفظ ما يقتضي أولًا ولا آخرًا، وكأن المقصود به الاحتراز عما إذا وقعت قضاءً، وتعقب بأن إخراجها عن

ص: 575

وقتها محرم، ولفظ أحب يقتضي المشاركة في الاستحباب، فيكون المراد الاحتراز عن إيقاعها آخر الوقت.

وأجيب بأن المشاركة إنما هي بالنسبة إلى الصلاة وغيرها من الأعمال، فإن وقعت الصلاة في وقتها كانت أحب إلى الله من غيرها من الأعمال، فوقع الاحتراز عما إذا وقعت خارج وقتها من معذور، كالنائم والناسي؛ فإن أخراجهما عن وقتها لا يوصف بالتحريم، ولا يوصف بكونه أفضل الأعمال، مع كونه محبوبًا، لكن إيقاعها في

الوقت أحب. والله تعالى أعلم.

تنبيه:

اتفق أصحاب شعبة على اللفظ المذكور في الباب، وهو قوله:"على وقتها"، وخالفهم علي بن حفص -وهو شيخ صدوق من رجال مسلم- فقال:"الصلاة في أول وقتها". أخرجه الحاكم، والدارقطني، والبيهقي من طريقه، قال الدارقطني: ما أحسبه حفظه؛ لأنه كبر، وتغير حفظه.

قال الحافظ: ورواه الحسن بن علي المعمري في "اليوم والليلة" عن أبي موسى محمد بن المثنى، عن غندر، عن شعبة، كذلك. قال الدارقطني: تفرد به المعمري، فقد رواه أصحاب أبي موسى عنه بلفظ:"على وقتها"، ثم أخرجه الدارقطني عن المحاملي، عن أبي موسى كرواية الجماعة، وهكذا رواه أصحاب غندر عنه، والظاهر أن المعمري

ص: 576

وَهِمَ فيه، لأنه كان يحدث من حفظه. وقد أطلق النووي في "شرح المهذب" أن رواية "في أول وقتها" ضعيفة. اهـ.

قال الحافظ: لكن لها طريق أخرى أخرجها ابن خزيمة في "صحيحه"، والحاكم، وغيرهما من طريق عثمان بن عمر، عن مالك بن مغول، عن الوليد، وتفرد عثمان بذلك، والمعروف عن مالك بن مغول كرواية الجماعة، كذا أخرجه البخاري وغيره، وكأن من رواها كذلك ظن أن المعنى واحد، ويمكن أن يكون أخذه من لفظة "عَلَى" لأنها تقتضي

الاستعلاء على جميع الوقت، فيتعين أوله. قاله في "الفتح".

(وبر الوالدين) هكذا في رواية المصنف هنا وفي "الكبرى": "وبر الوالدين"، وفي رواية الشيخين وغيرهما:"قال: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين".

والبر -بالكسر: الإحسان، وبر الوالدين: الإحسان إليهما، والقيام بخدمتهما، وترك العقوق والإساءة إليهما، قال الفيومي رحمه الله: وبَرِرْت والدي- أي من باب عَلِمَ -بالفتح- بِرًا -بالكسر- وبُرُورًا: أحسنت الطاعة إليه، ورَفَقْتُ به، وتَحَرَّيْتُ مَحَابَّهُ، وتوقيت مكارهه. اهـ.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: وأما بِرُّ الوالدين، فقد قدم في هذا الحديث على الجهاد، وهو دليل على تعظيمه، ولا شك في أن أذاهما بغير وما يجب ممنوع منه، وأما ما يجب من البر في غير هذا ففي ضبطه

ص: 577

إشكال كبير. اهـ.

قال الصنعاني رحمه الله: وذلك أن البر هو الإحسان، ودرجات الإحسان متفاوتة، والواجب منها للوالدين غير منضبط.

وقد ضبط ابن عطية الدرجات المتفاوتات في المباحات فعلًا وتركًا، واستحبابها في المندوبات وفروض الكفايات كذلك، ومنه تقديمها عند تعارض الأمرين، وهو كمن دَعَتْه أمه ليمرضها مثلًا بحيث يفوت عليه فعل واجب إن استمر عندها، ويفوت ما قصد به من تأنيسه لها، وغير ذلك، فلو تركها وفعله، وكان مما يمكن تداركه مع فوات الفضيلة، كالصلاة أول وقتها، وفي جماعة. اهـ. كلامه. قال الصنعاني: وليس بواضح، ولا شك أن ترك العقوق بر، وفقدان هذا المذكور من واجب البر، وليس هو كل ما يجب منه. اهـ. "العدة" جـ 2 ص 14.

تنبيه:

قد تقدم في رواية الشيخين وغيرهما "قال: ثم أيُّ؟ قال: بر الوالدين"، الحديث. قال الفاكهاني: إن "أي" غير منون لأنه غير موقوف عليه في الكلام، والسائل ينتظر الجواب، والتنوين لا يوقف عليه، فتنوينه ووصله بما بعده خطأ، فيوقف عليه وقفة لطيفة، ثم يؤتى بما بعده. وقال ابن الجوزي في هذا الحديث:"أيُّ" مشدد منون، كذلك سمعت من ابن الخشاب، وقال: لا يجوز إلا تنوينه، لأنه معرب غير مضاف.

ص: 578

قال الحافظ: وتعقب بأنه مضاف تقديرًا، والمضاف إليه محذوف لفظًا، والتقدير: ثم أي العمل أحب؟ فيوقف عليه بلا تنوين. اهـ. "فتح الباري" جـ 2 ص 14.

وقال العيني بعدما تقدم: قلت: قال النحاة: إن أيًا الموصولة، والشرطية، والاستفهامية معربة دائمًا، فإذا كانت "أي" هذه معربة عند الإفراد، فكيف يقال: إنها مبنية عند الإضافة؟. ولما نقل سيبويه هذا هكذا أنكر عليه الزجاج، فقال: ما تبين لي أن سيبويه غلط إلا في موضعين هذا أحدهما، فإنه يُسَلِّم أنها تعرب إذا أفردت، فكيف يقول ببنائها إذا أضيفت. اهـ. كلام العيني في "عمدته" جـ 4 ص 155، 156.

(والجهاد في سبيل الله عز وجل وعند الشيخين وغيرهما: قال: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله".

والجهاد: بالكسر مصدر جاهد، وهو محاربة الكفار لإعلاء كلمة الله، وإظهار. شعائر الإسلام بالنفس والمال.

فإن قلت: ما الحكمة في تخصيص هذه الأشياء الثلاثة بالذكر، قلت: هذه الثلاثة أفضل الأعمال بعد الإيمان، فمن ضَيَّع الصلاة التي هي عماد الدين مع العلم بفضيلتها كان لغيرها من أمر الدين أشد تضييعًا، وأشد تهاونًا واستخفافًا، وكذا من ترك بر والديه فهو لغير ذلك من حقوق الناس أشد تركًا، وكذا الجهاد في سبيل الله؛ من تركه مع قدرته عليه عند تعينه عليه، فهو لغير ذلك من الأعمال التي يتقرب

ص: 579

بها إلى الله تعالى أشد تركًا. اهـ. "عمدة القاري" ببعض تغيير.

وقال العلامة ابن دقيق العيد رحمه الله: وأما الجهاد في سبيل الله تعالى فمرتبته في الدين عظيمة، والقياس يقتضي أنه أفضل سائر الأعمال التي هي وسائل؛ فإن العبادات على قسمين: منها ما هو مقصود لنفسه، ومنها ما هو وسيلة إلى غيره، وفضيلة الوسيلة بحسب المتوسل إليه، فحيث تعظم فضيلة المتوسل إليه تعظم فضيلة الوسيلة، ولما كان الجهاد في سبيل الله وسيلة إلى إعلان الإيمان ونشره، وإخمال الكفر، ودحضه، كانت فضيلة الجهاد بحسب فضيلة ذلك. والله أعلم. اهـ. "إحكام الأحكام" جـ 2 ص 15. والله تعالى أعلم.

تنبيه:

زاد في رواية الشيخين في آخر هذا الحديث: "قال: حدثني بهن، ولو استزدته لزادني". والقائل هو: ابن مسعود رضي الله عنه، وفيه تقرير، وتأكيد لما تقدم من أنه باشر السؤال بنفسه.

وقوله: ولو استزدته. إلخ، يحتمل أن يريد من هذا النوع، وهو مراتب أفضل الأعمال، ويحتمل أن يريد من مطلق المسألة المحتاج إليها، وزاد الترمذي من طريق المسعودي عن الوليد: فَسَكَتَ عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو استزدته لزادني. فكأنه استشعر منه مشقة، ويؤيده ما في رواية مسلم:"فما تركت أن أستزيده إلا إرعاء عليه"، أي شفقة

ص: 580

عليه لئلا يسأم. قاله في "الفتح" جـ 2 ص 14. والله ولي التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا من رواية أبي عَمْرو الشيباني عنه متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا (610) وفي "الكبرى"(1580) عن عمرو بن علي، عن يحيى القطان، عن شعبة، عن الوليد بن العيزار، عن أبي عمرو، عنه. و (611) عن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن، عن ابن عيينة، عن أبي معاوية النخعي، عن أبي عمرو، عنه. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري ومسلم والترمذي؛ فأخرجه البخاري في "الصلاة"، وفي "الأدب" عن أبي الوليد، وفي "التوحيد" عن سليمان بن حرب، كلاهما عن شعبة- وفي "الجهاد" عن الحسن بن الصباح، عن محمد بن سابق، عن مالك بن مِغْول- وفي "التوحيد" أيضًا عن عباد بن يعقوب الأسدي، عن عباد بن العَوَّام، عن أبي إسحاق الشيباني- ثلاثتهم عن الوليد بن العيزار، عنه به.

ص: 581

وأخرجه مسلم في "الإيمان" عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، وعن بندار، عن غندر- كلاهما عن شعبة به. وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن علي بن مسهر، عن أبي إسحاق الشيباني به. وعن محمد بن يحيى بن أبي عمر، عن مروان بن معاوية، عن أبي يعفور عبد الرحمن بن عبيد ابن نسطاس، عن الوليد بن العيزار به. وعن عثمان بن أبي شيبة، عن

جرير، عن الحسن بن عبيد الله، عنه به.

وأخرجه الترمذي في "الصلاة" عن قتيبة، عن مروان الفزاري به. وفي "البر والصلة" عن أحمد بن محمد المروزي، عن ابن البارك، عن المسعودي، عن الوليد بن العيزار به، وقال: حسن صحيح. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف، وهو فضل الصلاة في وقتها المعتاد.

ومنها: فضل بر الوالدين، وأن أعمال البر يفضل بعضها على بعض، وأن فيه السؤال عن مسائل شتى في وقت واحد، والرفق بالعالم، والتوقف عن الإكثار عليه خشية إملاله، وما كان عليه الصحابة من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، والشفقة عليه، وما كان هو عليه من إرشاد المسترشدين ولو شق عليه، وفيه أن الإشارة تنزل منزلة التصريح إذا كانت مُعَيِّنةً للمشار إليه مُمَيِّزَةً له عن غيره.

قال ابن بزيزة: الذي يقتضيه النظر تقديم الجهاد على جميع أعمال البدن لأن فيه بذل النفس، إلا أن الصبر على المحافظة على الصلوات،

ص: 582

وأدائها في أوقاتها، والمحافظة على بر الوالدين أمر لازم متكرر دائم، لا يصبر على مراقبة أمر الله فيه إلا الصديقون، والله أعلم. قاله في "الفتح". جـ 2 ص 14. والله تعالى ولي التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

611 -

أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ النَّخَعِيُّ، سَمِعَهُ مِنْ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ عز وجل؟ قَالَ: "إِقَامُ الصَّلَاةِ لِوَقْتِهَا، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل".

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن) بن المِسْور بن مَخْرَمَة الزهري البصري، صدوق، توفي سنة 256، من صغار [10].

قال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي: ثقة. وقال الدارقطني: من الثقات، قليل الخطأ، وذكره ابن حبان في الثقات. رَوَى عنه مسلم 14 حديثًا. روى عنه الجماعة إلا البخاري.

2 -

(سفيان) بن عيينة المكي أبو محمد الحافظ الحجة الإمام، من [8]، تقدم في 1/ 1.

ص: 583

3 -

(أبو معاوية النخعي) عمرو بن عبد الله بن وهب الكوفي، ثقة، من [6].

ويقال: أبو سليمان. قال ابن معين: ثقة. وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال أبو حاتم: ثقة، صالح الحديث. وقال أيضا: أخطأ زيد بن الحباب، حيث قال: عمرو بن وهب بن عبد الله، يعني أنه قلبه، وذكره ابن حبان في الثقات. أخرج له البخاري، والمصنف، وابن ماجه.

4 -

(أبو عمرو الشيباني).

5 -

(عبد الله بن مسعود).

تقدما في السند السابق.

وكذلك شرح الحديث، وسائر متعلقاته، واضحة مما مر قريبًا، فارجع إليها، وبالله التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

612 -

أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، وَعَمْرُو بْنُ يَزِيدَ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ كَانَ فِي مَسْجِدِ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَجَعَلُوا يَنْتَظِرُونَهُ، فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ أُوتِرُ، قَالَ: وَسُئِلَ عَبْدُ اللهِ: هَلْ بَعْدَ الأَذَانِ وِتْرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ وَبَعْدَ الإِقَامَةِ، وَحَدَّثَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ

ص: 584

نَامَ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى. وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى.

رجال الإسناد: ثمانية

1 -

(يحيى بن حكيم) المُقَوِّم -بتشديد الواو المكسورة- ويقال: المقومي، أبو سعيد البصري، ثقة حافظ عابد مصنف، توفي سنة 256، من [10].

قال أبو داود: كان حافظًا متقنًا. وقال النسائي: ثقة حافظ. وقال أبو عروبة: ما رأيت بالبصرة أثبت من أبي موسى ومن يحيى بن حكيم، وكان يحيى بن حكيم ورعًا متعبدًا. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان ممن جمع وصنف. وقال مسلمة: بصري ثقة. روى عنه أبو داود، والمصنف، وابن ماجه.

2 -

(عمرو بن يَزِيد) أبو بُرَيد

(1)

الجَرْمي البصري، صدوق، من [11]، أخرج له النسائي، تقدم في 100/ 130.

3 -

(ابن أبي عدي) محمد بن إبراهيم بن أبي عدي، وقد ينسب إلى جده، وقيل: هو إبراهيم، أبو عمرو البصري، ثقة، توفي سنة 194 على الصحيح، من [9]، أخرج له الجماعة، تقدم في 122/ 175.

(1)

أبو بريد تصغير برد بالباء الموحدة.

ص: 585

4 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الجليل الثبت الحجة، من [7]، تقدم في 24/ 26.

5 -

(إِبراهيم بن محمد بن المنتشر) بن الأجدع الهمداني الكوفي، ثقة، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 417.

6 -

(محمد بن المنتشر) الهَمْدَاني الكوفي، ثقة، من [4]، أخرج له الجماعة، تقدم في 417.

7 -

(عمرو بن شرحبيل) الهمداني، أبو ميسرة الكوفي، ثقة عابد مخضرم، توفي سنة 63، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود، والترمذي والنسائي، تقدم في 180/ 285.

8 -

(عبد الله بن مسعود) رضي الله عنه تقدم قريبًا. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سباعيات المصنف، ورجاله كلهم ثقات، وأنهم ما بين بصريين؛ وهم إلى شعبة، وكوفيين؛ وهم الباقون، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم بعض: إبراهيم، وأبوه، وعمرو بن شرحبيل. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(محمد بن المنتشر) الهمداني (أنه كان في مسجد عمرو بن شرحبيل) بضم الشين المعجمة، وفتح الراء، وسكون المهملة.

ص: 586

(فأقيمت الصلاة) الظاهر أنها الصبح (فجعلوا ينتظرونه) أي شرعوا في انتظار عمرو، بكونه إمامًا لهم (فقال) معتذرًا من تأخره عنهم (إِني كنت أوتر) أي أصلي صلاة الوتر.

وفيه أن الإمام إذا تأخر ينبغي له أن يبين للناس سبب تأخره؛ لئلا ينسب إلى التساهل.

(قال) عمرو (وسئل عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه (هل بعد الأذان وتر؟) أي هل يُقْضَى الوتر بعد أذان الصبح؟ (قال: نعم، وبعد الإِقامة) يريد أن الصلاة لا تسقط بذهاب الوقت، بل تقضي، ثم إن قيل بخصوص القضاء بالمكتوبات يكون الحديث دليلًا على وجوب الوتر عند عبد الله، وإلا فلا. قاله السندي.

قال الجامع: فيما قاله نظر، إذ القضاء لا يختص بالفرائض فقط، بل النوافل تقضى، مثل قضاء النبي صلى الله عليه وسلم لركعتي الظهر بعد العصر، وقضائه لركعتي الفجر بعد طلوع الشمس، وكقوله صلى الله عليه وسلم:"من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل"، وسيأتي برقم (1790)، وغير ذلك من الأدلة التي تدل على أن القضاء لا يخص الفرض.

والراجح أن الوتر ليس بواجب، كما تقدم تحقيقه في شرح حديث "خمس صلوات كتبهن الله على العباد

" (461) فتبصر. والله تعالى أعلم.

ص: 587

(وحدث) عبد الله (عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نام عن الصلاة) أي صلاة الصبح.

(حتى طلعت الشمس، ثم صلى) فيه دليل على أن من نام عن الصلاة حتى خرج وقتها، ثم استيقظ فليصل تلك الصلاة، وهذا لا يخص الفرض، بل النوافل، كالرواتب مثله، كما يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

(واللفظ ليحيى) أي أن هذا اللفظ الذي ساقه لشيخه يحيى بن حكيم، وأما شيخه عمرو بن يزيد فرواه بالمعنى. وبالله تعالى التوفيق.

تنبيهات:

الأول: هذا الحديث غير مطابق للباب المذكور، فإنه ليس فيه فضل الصلاة لوقتها، وقد ترجم له في الكبرى ترجمة خاصة به؛ حيث قال:"باب فيمن نام عن الصلاة". فالظاهر أن بعض النساخ حذفه من "المجتبى". والله أعلم.

الثاني: حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا من رواية عمرو بن شرحبيل عنه، صحيح، وهو من أفراده، أخرجه هنا (612) عن يحيى ابن حكيم، وعمرو بن يزيد، كلاهما عن ابن أبي عدي، عن شعبة، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه، عنه، عن عمرو عنه، وفي الكبرى (1581) عن عمرو بن يزيد وحده.

ص: 588

الثالث: أنه ذكر الشيخ الألباني في "صحيح النسائي" في هذا الحديث أنه صحيح الإسناد إن كان محمد بن المنتشر سمع ابن مسعود، وقصة النوم صحيحة. اهـ. جـ 1 ص 132.

قال الجامع: هذا الذي قاله مبني على أن الضمير في قوله: "ينتظرونه"، وقوله:"إني كنت أوتِرُ" لمحمد بن المنتشر، وهذا غير صحيح، بل هو لعمرو بن شرحبيل، كما مَرَّ إيضاحه في شرح الحديث، وقد بين ذلك الحافظ أبو الحجاج المزي في "تحفته" حيث أورد هذا الحديث في ترجمة عمرو بن شرحبيل، عن ابن مسعود، ولم يتعقبه الحافظ في "النكت". فهو صحيح متصل من رواية عمرو بن شرحبيل عن ابن مسعود رضي الله عنه. فتنبه. والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 589

‌52 - فِيمَنْ نَسِيَ صَلاةً

أي هذا باب في ذكر الحديث الدال على حكم من نسي صلاة، حتى خرج وقتها.

613 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا".

رجال الإسناد: أربعة

1 -

(قتيبة) بن سعيد البَغْلاني، ثقة ثبت، من [10]، تقدم في 1/ 1.

2 -

(أبو عوانة) الوَضَّاح بن عبد الله اليشكري الواسطي البزاز، ثقة ثبت، توفي سنة 175 أو 176، من [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 41/ 46.

3 -

(قتادة) بن دعامة السدوسي، أبو الخطاب البصري، ثقة ثبت، من [4]، تقدم في 30/ 34.

4 -

(أنس) بن مالك الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 6/ 6. والله تعالى أعلم.

ص: 590

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من رباعياته، وهو أعلى ما وقع له من الأسانيد، وهو 29 من رباعيات الكتاب.

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات اتفقوا عليهم.

ومنها: أنهم ما بين بغلاني؛ وهو شيخه، وواسطي؛ وهو أبو عَوَانة، وبصريين؛ وهما قتادة وأنس.

ومنها: أن فيه أنسًا أحد المكثرين السبعة، وآخر من مات في البصرة من الصحابة رضي الله عنهم. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أنس) بن مالك رضي الله عنه، أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من) شرطية، جوابها جملة "فليصلها".

(نسي صلاة فليصلها إِذا ذكرها) زاد في رواية البخاري من طريق هَمّام عن قتادة: "لا كفارة لها إلا ذلك {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه:14].

قال البدر العيني رحمه الله: فإن قلت: هذا يقتضي أن يلزم القضاء في الحال إذا ذَكَر، مع أن القضاء من جملة الواجبات الموسعة اتفاقًا.

قلت: أجيب عنه بأنه لو تذكرها ودام على هذا التذكر مدة وصلى في أثناء تلك المدة صدق أنه صلى حين التذكر، وليس بلازم أن يكون في أول حال التذكر.

ص: 591

وجواب آخر أن إذا للشرط، كأنه قال: فليصل إذا ذكر، يعني لو لم يذكره لا يلزم عليه القضاء، أو جزاؤه مقدر، يدل على المذكور، أي إذا ذكر فليصلها، والجزاء لا يلزم أن يترتب على الشرط في الحال، بل يلزم أن يترتب عليه في الجملة. اهـ. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أنس رضي الله عنه هذا من رواية قتادة عنه متفق عليه.

المسألة الثمانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا (313) وفي "الكبرى"(1586) عن قتيبة، عن أبي عوانة، عن قتادة، عنه. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه؛ فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن أبي نعيم- وموسى بن إسماعيل- قال: وقال حبان- كلاهما عن همام بن يحيى، عن قتادة عنه.

وأخرجه مسلم فيه عن هُدْبَة بن خالد، عن همام بن يحيى، به.

وعن يحيى بن يحيى- وسعيد بن منصور- وقتيبة بن سعيد- كلهم عن أبي عوانة به.

ص: 592

وأخرجه الترمذي فيه عن قتيبة- وبشر بن معاذ- كلاهما عن أبي عوانة به.

وأخرجه ابن ماجه فيه عن جبارة بن المُغَلِّس، عن أبي عوانة به. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: هذا الحديث يدل على وجوب القضاء على من نسي صلاة إذا ذكرها وإن كان في أوقات النهي، وقد اختلف أهل العلم في ذلك:

قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: اختلف أهل العلم فيمن نسي الصلاة فذكرها في الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، فقالت طائفة: لا يقضي الفوائت في الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، وروي ذلك عن أبي بكرة، وكعب- قال ابن المنذر: أحسبه ابن عجرة، رضي الله عنهما.

وقد احتج بعضهم لهذا القول بالأخبار التي رويناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نهيه عن الصلاة في الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم لما استيقظ عند طلوع الشمس أخر الصلاة حتى ترتفع الشمس، ثم صلاها.

وقال آخرون: يقضي في تلك الأوقات الواجب من الصلاة، وقالوا: النهيُ للتطوع فقط. لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر".

ص: 593

ولقوله: "لا يتحرى أحدكم، فيصلي عند طلوع الشمس، وعند غروبها"، وإنما نهي عن ذلك مَنْ قصد التطوع دون الفرض، لأن من نسي الفرض فلم يذكره إلا وقت طلوع الشمس أو وقت غروبها لم يتحر الصلاة في ذلك الوقت، إنما أدركه فرض الصلاة فيه.

وأما من تأول ارتحال النبي صلى الله عليه وسلم من المكان الذي انتبهوا فيه، فليس لهم فيه حجة، لأنهم لم ينتبهوا إلا بحر الشمس، وإنما ارتحل النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك المكان للعلة التي أخبر بها، قال: إن هذا مكان حضرنا فيه شيطان، فارتَحِلُوا منه.

وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها". وتلا أيضًا: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14].

وممن رُوِي عنه أنه قال: إذا نام عن صلاة أو نسيها صلاها متى استيقظ أو ذكر: علي بن أبي طالب، وقال ابن عباس في رجل نسي صلاة: يصليها إذا ذكرها، وتلا:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14].

وروي عن عمران بن الحصين، وسمرة أنهما قالا: يصليها إذا ذكرها، وهذا قول أبي العالية، والنخعي، والشعبي، والحَكَم، وحماد، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور.

وفيه قوله ثالث: قاله أصحاب الرأي في رجل نسي صلاة، فذكرها حين طلعت الشمس أو حين انتصف النهار، أو ذكرها حين تغرب

ص: 594

الشمس، قال: لا يصليها في هذه الأوقات الثلاث، والوتر كذلك، ما خلا العصر، فإنه إذا ذكر العصر من يومه ذلك قبل غروب الشمس صلاها، وإن كانت العصر قد نسيها قبل ذلك بيوم أو بأيام لم يصلها في تلك الساعة، وكذلك سجدة التلاوة، والوتر، والصلاة على الجنازة، لا تقضى في شيء من هذه الساعات الثلاث.

قال الإمام ابن المنذر: إذا كان مذهب أهل الرأي أن يجعلوا نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس، واقعًا على التطوع دون الفرض، فاللازم أن يجعلوا نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وعند انتصاف النهار، واقعًا على التطوع دون الفرض، ثم ليس بين عصرِ يَوْمِهِ وبين عصرٍ قد نسيها قبل ذلك فرق. والله أعلم. انتهى كلام ابن المنذر في "الأوسط" باختصار جـ 2 ص 408 - 413.

قال الجامع: الصحيح عندي في هذه المسألة قول من قال: من نسي صلاة فليصلها إذا ذكر مطلقًا، أي سواء ذكرها في الأوقات التي تباح فيها الصلاة، أم في الأوقات التي تنهى فيها، لظهور دليله، فإن قوله:"فليصلها إذا ذكرها" أي وقت ذكرها نص صريح في الموضوع عام في كل وقت. والله أعلم.

المسألة الخامسة: في اختلاف العلماء في وجوب القضاء على من فاتته الصلاة عامدًا:

ص: 595

قال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى عند قوله: "من نسي صلاة": ما حاصله: تمسك بدليل الخطاب من قال: إن العامد لا يقضي الصلاة، لأن انتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط، فيلزم منه أن من لم ينس لا يصلي. وإلى هذا ذهب داود، وابن حزم، وبعض أصحاب الشافعي، وحكاه في البحر عن ابني الهادي، والأستاذ، ورواية عن القاسم، والناصر.

قال ابن تيمية حفيد المصنف: والمنازعون لهم ليس لهم حجة قط يُرَدُّ إليها عند التنازع

(1)

، وأكثرهم يقولون: لا يجب القضاء إلا بأمر جديد، وليس معهم هنا أمر، ونحن لا ننازع في وجوب القضاء فقط، بل ننازع في قبول القضاء منه، وصحة الصلاة في غير وقتها، وأطال البحث في ذلك، واختار ما ذكره داود، ومن معه.

قال الشوكاني: والأمر كما ذكره، فإني لم أقف مع البحث الشديد للموجبين للقضاء على العامد، وهم من عدا من ذكرنا على دليل، يَنْفِقُ في سوق المناظرة، ويصلح للتعويل عليه في مثل هذا الأصل العظيم إلا حديث:"فدين الله أحق أن يُقْضَى" باعتبار ما يقتضيه اسم الجنس المضاف من العموم، ولكنهم لم يرفعوا إليه رأسًا.

قال الجامع: لا ينقضي عجبي من مثل الشوكاني القائل بهذا

(1)

بل لهم حجة واضحة، كما يأتي قريبًا، بل الذين ليس لهم حجة واضحة هم القائلون بعدم القضاء.

ص: 596

الكلام، فأيَّ دليل يطلب بعد هذا النص العظيم، وعن أيِّ حجة يُبحث مع وضوح الحجة، واستنارة المَحَجَّة؟ فيا للعجب، إنه لم يستطع أن يرد هذه الحجة النَّيِّرَة، بل تَحَيَّر، فإنه بعد ما طول كلامه في الرد على حجج القائلين بوجوب القضاء على العامد قال: والمحتاج إلى إمعان النظر ما ذكرنا لك سابقًا من عموم حديث: "فدين الله أحق أن يقضى"، ولاسيما على قول من قال: إن وجوب القضاء بدليل، هو الخطاب الأول الدال على وجوب الأداء، فليس عنده في وجوب القضاء على العامد فيما نحن بصدده تردد، لأنه يقول: المتعمد للترك قد خوطب بالصلاة ووجب عليه تأديتها فصارت دينًا عليه، والدين لا يسقط إلا بأدائه. وإذا عرفت هذا علمت أن المقام من المضائق. اهـ "نيل الأوطار" جـ 2 ص 85، 86.

قال الجامع: وأنا أقول: هذا مبلغ ما انتصَرَ به قول من يقول بعدم وجوب القضاء على العامد، حيث تحير في دفع حجة الموجبين لقوته ووضوحه، واعترف بأن المقام من المضائق، ونحن بحمد الله لا نقع في المضائق، بل نقول بالأسهل الذي لا تضايُق معه، وهو وجوب القضاء. ولقد أحسن العلامة الصنعاني رحمه الله في المسألة، وأجاد وأفاد، حيث قال في "حاشية إحكام الأحكام": وأقوى شيء عندي في الاستدلال لمن أوجب على العامد القضاء حديث: "فدين الله أحق أن يُقْضَى"، فإنه عام لكل دين لله، ومعلوم أن التارك للصلاة هي دين في

ص: 597

ذمته، وإلا لما عوقب عليها، ووجبت التوبة عن تركها بالاتفاق بين الفريقين، وكما أن دين الآدمي لا يُسقِطُهُ عن الذمة إلا قضاؤه، كذلك دين الله، بل قد جعله صلى الله عليه وسلم أحق بالقضاء، وسواء قلنا: القضاء بأمر

جديد، أو بالأمر الأول، إذ قد صارت ذمته مشغولة بها بالأمر الأول، وصارت بتركه أداءها في وقتها دينًا لله يعاقبه على عدم القضاء. اهـ. "العدة" جـ 2 ص 495.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الصنعاني رحمه الله هو التحقيق الحقيق بالقبول، لوضوح دليله المنقول.

والحاصل أن المذهب الراجح هو القول بوجوب القضاء على من ترك الصلاة متعمدًا. والله تعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 598

‌53 - فِيمَنْ نَامَ عَنْ صَلاة

أي هذا باب في ذكر الأحاديث الدالة على حكم من نام عن صلاة. وهو وجوب قضائها.

614 -

أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ الأَحْوَلُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرَّجُلِ يَرْقُدُ عَنِ الصَّلَاةِ، أَوْ يَغْفُلُ عَنْهَا؟ قَالَ:"كَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا".

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(حميد بن مَسْعَدَة) بن المُبَارك السَّامِيُّ الباهلي البصري، صدوق، توفي سنة 244، من [10]، تقدم في 5/ 5.

2 -

(يزيد) بن زُرَيْع، أبو معاوية البصري، ثقة ثبت، توفي سنة 182، من [8]، تقدم في 5/ 5.

3 -

(حجاج الأحول) بن حجاج الباهلي البصري، ثقة، من [6]، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وثقه ابن معين، وأبو داود، وابن حبان، وقال أبو حاتم: ثقة من الثقات صدوق، أروى الناس عنه إبراهيم بن طهمان، هو أحد أصحاب قتادة،

ص: 599

قال يزيد بن زريع: مات في الطاعون، وقال غيره: كان الطاعون بالبصرة سنة 131، أخرج له الجماعة إلا الترمذي.

4 -

(قتادة) بن دعامة أبو الخطاب البصري، ثقة ثبت رأس [4]، تقدم في 30/ 34.

5 -

(أنس) بن مالك الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف.

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات.

ومنها: أنهم بصريون.

ومنها: أن فيه أنسًا أحد المكثرين من الصحابة، وآخر من مات منهم بالبصرة. وأكثرهم خدمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم سفرًا وحضرًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أنس) بن مالك رضي الله عنه، أنه (قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن) حكم (الرجل، يرقد) بضم القاف، يقال: رَقَدَ، يَرْقُدُ، رَقْدًا، ورُقُودًا، ورُقَادًا: نام ليلًا كان أو نهارًا، وبعضهم يخصه بنوم الليل، والأول هو الحق، ويشهد له المطابقة في قوله تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا

ص: 600

وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف: 18]. ورَقَدَ عن الأمر: بمعنى قعد، وتأخر. قاله الفيومي.

والجملة في محل نصب على الحال عن الرجل، إذ الجُمَل وشبهها بعد المعارف أحوال، وبعد النكرات صفات، أو في محل جر صفة له، على جعل "أل" للجنس، إذ المُعَرَّف بها في حكم النكرة، كما في قول الشاعر:(من الوافر):

وَلَقَدْ أمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي

فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ: لا يَعْنِينِي

واستبعد السندي كونه حالًا، ولا وجه لاستبعاده.

(عن الصلاة) متعلق بيرقد.

(أو يغفل عنها) من باب قعد، يقال: غَفَلَ يَغْفُلُ، غُفُولًا، وغَفْلَةً، وغَفَلًا، كسَبَبٍ. وقد أثبت بعض أهل اللغة غَفِلَ، وزان فَرِح يَفْرَحُ والغَفْلَةُ، كما في المصباح: غَيْبَةُ الشيء عن بال الإنسان، وعدمُ تذكره له، وقد استعمل فيمن تركه إهمالًا، وإعراضًا، كما في قوله تعالى:{وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} . اهـ.

ثم إنه يحتمل أن تكون "أو" للشك من الراوي، وأن تكون عاطفة، وهو الظاهر، فيكون من عطف العام على الخاص.

(قال) صلى الله عليه وسلم (كفارتها) مبتدأ، خبره قوله (أن يصليها إِذا ذكرها) فيه دلالة على أنه لا يخلو عن تقصيرٍ مَّا بترك المحافظة، لكن يكفي في محو تلك الخطيئة القضاء، وما سيجيء أنه لا تفريط في النوم فبالنظر إلى الذات. قاله السندي.

ص: 601

تنبيه:

حديث أنس رضي الله عنه هذا من طريق حجاج الأحول صحيح، أخرجه المصنف هنا (614) بهذا السند، وأخرجه أيضًا ابن ماجه في "الصلاة" عن نصر بن علي، عن يزيد بن زريع بسند المصنف. وبقية مباحث الحديث تقدمت في الباب الماضي، فارجع إليها. والله أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

615 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: ذَكَرُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَوْمَهُمْ عَنِ الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: "إِنَّهُ لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ، فَإِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ صَلَاةً، أَوْ نَامَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا".

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(قتيبة) بن سعيد الْبَغْلاني، ثقة ثبت، من [10]، تقدم في 1/ 1.

2 -

(حماد بن زيد) بن درهم، أبو إسماعيل الأزدي ثقة ثبت فقيه، من [8]، تقدم في 3/ 3.

3 -

(ثابت) بن أسلم البُنَاني البصري، ثقة ثبت، من [4]، تقدم في 45/ 43.

ص: 602

4 -

(عبد الله بن رَبَاح) الأنصاري، أبو خالد المدني، سكن البصرة، ثقة، من [3].

قال العجلي: بصري تابعي ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث. وقال ابن خراش: هو من أهل المدينة، قَدِمَ البصرة، لا أعلم مدنيًا حدث عنه، وهو رجل جليل، وكذا قال ابن المديني. وقال النسائي: ثقة. وقال خالد بن سُمَير: قدم علينا، وكانت الأنصار تفقهه. وقال خليفة: قتل في ولاية ابن زياد. وقال أبو عمران الجوني: وقفت مع عبد الله بن رباح ونحن نقاتل الأزارقة مع المهلب. قال الحافظ: هذا يدل على أنه تأخر بعد ولاية ابن زياد بمدة. قال وقرأت بخط الذهبي أنه توفي في حدود سنة 90 فهذا أشبه. اهـ. أخرج له مسلم، والأربعة.

5 -

(أبو قتادة) الأنصاري، الحارث، ويقال: عمرو، أو النعمان ابن رِبْعِيّ بن بُلْدُمَةَ السَّلَمِيُّ المدني، شهد أحُدًا وما بعدها، وتوفي سنة 54، وقيل: 38، والأول أصح، أخرج له الجماعة، تقدم في 23/ 34. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسياته، وأن رجاله كلهم ثقات، اتفقوا عليهم، إلا ابن رباح، فما أخرج له البخاري، وأنهم بصريون، إلا شيخه فبغلاني، والصحابيَّ فمدني، وفيه رواية تابعي عن تابعي: ثابت عن عبد الله بن رباح.

ص: 603

شرح الحديث

(عن أبي قتادة) الحارث بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه، أنه (قال: ذكروا) أي الصحابة رضي الله عنهم (للنبي صلى الله عليه وسلم نومهم عن الصلاة) هذه الرواية مختصرة، وقد ساقه أبو داود في "سننه" عن موسى ابن إسماعيل، عن حماد بن زيد، عن ثابت، عن عبد الله بن رَبَاح، قال: ثنا أبو قتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر له، فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَمِلْتُ معه، فقال:"انظر"، فقلت: هذا راكب، هذان راكبان، هؤلاء ثلاثة، حتى صِرْنا سبعة، فقال:"احفظوا علينا صلاتنا"، يعني صلاة الفجر، فضرب على آذانهم فما أيقظهم إلا حر الشمس، فقاموا، فساروا هُنَيَّةً، ثم نزلوا، فتوضؤوا، وأذَّن بلال، فَصَلُّوْا ركعتي الفجر، ثم صلوا الفجر، وركبوا، فقال بعضهم لبعض، قد فَرَّطْنا في صلاتنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنه لا تفريط في النوم، وإنما التفريط في اليقظة، فإذا سها أحدكم عن صلاة فليصلها حين يذكرها، ومن الغد للوقت". وساقه مسلم في صحيحه بأطول من هذا.

يعني أنهم شَكُوْا إليه صلى الله عليه وسلم نومهم عن أداء صلاة الصبح (فقال: إِنه) الهاء ضمير الشأن، أي إن الأمر والشأن. (ليس في النوم تفريط) أي ليس في حالة النوم تقصير.

(إِنما التفريط في اليقظة) بفتحات خلاف النوم، أي إنما التقصير الذي يتعلق به الإثم في حال اليقظة، لأنه حالة اختيار. قيل: فيه دليل لمن قال: إن النائم ليس مكلفًا، إنما القضاء بأمر جديد. وفيه نظر، إذ لا

ص: 604

يلزم من عدم تفريطه عدم تكليفه، بل هو مكلف معذور.

وقال السندي رحمه الله: قوله: (إِنه ليس في النوم تفريط) ليس المراد أن نفس فعل النوم والمباشرة بأسبابه لا يكون فيه تفريط، أي تقصير، فإنه قد يكون فيه تفريط إذا كان في وقت يُفْضِي فيه النومُ إلى فَوَاتِ الصلاة مثلًا، كالنوم قبل العشاء، وإنما المراد أن ما فات حالة النوم فلا تفريط في فوته، لأنه فات بلا اختيار، وأما المباشرة بالنوم

فالتفريط فيها تفريطٌ حَالَةَ اليقظة. اهـ.

(فإِذا نَسِيَ) وزان تَعِبَ (أحدكم صلاة) نَكَّرها ليعم كل صلاة، فيشرعُ قضاءُ النافلة إذا نسيها، كالسنن الرواتب، وسيأتي تمام البحث فيه.

(أو نام عنها، فليصلها إِذا ذكرها) فيه إيجاب القضاء على الناسي والنائم، وهو مذهب كافة العلماء، وشذ بعضهم فيمن زاد على خمس صلوات، بأنه لا يلزمه قضاء، حكاه القرطبي. اهـ عمدة القاري جـ 4 ص 251.

قال الجامع: هذا القول إن صح فهو باطل. وبالله تعالى التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى. في درجته:

حديث أبي قتادة رضي الله عنه هذا من طريق ثابت أخرجه مسلم.

ص: 605

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا (615)، وفي "الكبرى"(1582) عن قتيبة، عن حماد ابن زيد، عن ثابت البناني، عن عبد الله بن رَبَاحَ، عن أبي قتادة رضي الله عنه، وفي (616)، و"الكبرى"(1583) عن سُوَيد بن نصر، عن ابن المبارك، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت به، وفي (617) عن عمرو بن علي، عن أبي داود، عن شعبة عن ثابت به، مختصرًا. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي، فأخرجه مسلم في "الصلاة" عن شيبان بن فَرُّوخ، عن سليمان بن المغيرة به. مطولًا.

وأخرجه أبو داود فيه عن عباس العنبري، عن سليمان بن داود، عن سليمان بن المغيرة به.

وأخرجه الترمذي فيه عن قتيبة، عن حماد بن زيد، به. مختصرًا. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من شدة حرصهم على أداء الصلاة في وقتها.

ومنها: أن من فاتته الصلاة نائمًا ليس عليه إثم، إذ لا تفريط منه، وإنما الإثم على من ترك الصلاة وفرط فيها وهو يقظان.

ص: 606

ومنها: وجوب قضاء الصلاة على من نام عنها أو نسيها.

ومنها: أن الصلاة التي فاتت بسبب النوم أو النسيان وقتُها حينما يذكرها المكلف، وذلك يَعُمُّ جميع الأوقات، كما تقدم البحث عنه قريبًا. وبالله التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

616 -

أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللهِ، وَهُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ فِيمَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الأُخْرَى حِينَ يَنْتَبِهُ لَهَا".

رجال الإسناد: ستة

1 -

(سُوَيد بن نصر) أبو الفضل المروزي، راوية ابن المبارك، ثقة، من [10]، تقدم في 45/ 55.

2 -

(عبد الله بن المبارك) الحنظلي مولاهم أبو عبد الرحمن المروزي، ثقة ثبت حجة، من [8]، تقدم في 32/ 36.

3 -

(سليمان بن المغيرة) القَيْسي مولاهم البصري، أبو سعيد، ثقة، من [7].

قال قُرَاد أبو نوح: سمعت شعبة يقول: سليمان بن المغيرة سيد أهل

ص: 607

البصرة، وقال أبو داود الطيالسي: ثنا سليمان بن المغيرة، وكان خيارًا من الرجال، وقال عبد الله بن داود الخُرَيبي: ما رأيت بالبصرة أفضل من سليمان بن المغيرة ومرحوم بن عبد العزيز، وقال أبو طالب عن أحمد: ثبت ثبت، وقال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: ثقة ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة ثبتًا. وقال ابن المديني: لم يكن في

أصحاب ثابت أثبت من حماد بن سلمة، ثم بعده سليمان بن المغيرة، ثم بعده حماد بن زيد. وقال النسائي: ثقة. وقال البخاري عن محمد ابن محبوب: مات سنة 165، وذكر أبو زرعة الدمشقي، عن سليمان ابن حرب أنه قال: ثنا سليمان بن المغيرة الثقة المأمون. وقال يعقوب بن شيبة: سمعت عبد الله بن مسلمة بن قعنب

(1)

: ما رأيت بصريًا أفضل منه. وقال ابن شاهين في الثقات: قال عثمان بن أبي شيبة: هو ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. ونقل ابن خلفون عن ابن نمير، والعجلي، وغيرهما توثيقه. وقال أبو مسعود الدمشقي في الأطراف في مسند أنس: ليس لسليمان بن المغيرة عند البخاري غير هذا الحديث الواحد، وقرنه بغيره، وقال البزار: كان من ثقات أهل البصرة. أخرج له الجماعة. اهـ. "تت".

والباقون تقدموا في السند الماضي. والله تعالى أعلم.

(1)

هكذا نسخة "تت" وينبغي أن يتلفظ بكلمة "يقول" قبل قوله: ما رأيت.

ص: 608

تنبيه:

قوله: "فيمن لم يصل" إلخ هكذا في نسخ "المجتبى" بفي، وهو متعلق بمحذوف خبر للتفريط، أي إنما التفريط موجود في الشخص الذي لم يصل، وفي "الكبرى":"على من لم يصل"، وهو واضح.

وقوله: "حتى يجيء": قال السندي رحمه الله: ظاهره أنه لا يجوز الجمع وقتًا بتأخير الأولى إلى وقت الثانية، كما يقول علماؤنا الحنفية، لكن قد يقال: إطلاقه ينافي جمع مزدلفة في الحج، وهو خلاف المذهب، وعند التقييد يمكن تقييده بما يخرجه عن الدلالة بأن يقال: أن يؤخر صلاة بلا مبيح شرعًا.

وأيضًا المراد بقوله: "حتى يجيء وقت الأخرى": أي حتى يخرج وقت تلك الصلاة بطريق الكناية، لأن الغالب أنه بدخول الثانية يخرج وقت الأولى، وذلك لأن خروج الأولى مناط للتفريط، ولا دخل فيه لدخول وقت الثانية، وأيضًا مورد الكلام صلاة الصبح، والتفريط فيها يتحقق بمجرد الخروج بلا دخول وقتِ أخْرى، فمضمون الكلام أن المذموم هو التأخير إلى خروج الوقت، وإذا جاز الجمع في السفر فلا نسلم خروج وقت الأولى بدخول وقت الثانية لأن الشارع قرر وقت الثانية وقتًا لهما، فكل منهما في وقتها حينئذ. والله أعلم. اهـ.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله العلامة السندي رحمه الله مخالفًا لمذهبه هو عين الإنصاف، الذي كان واجبَ كُلِّ عاقل ممن لم

ص: 609

يُعْمِهِ ويُصِمُّهُ الجمود على رأي بعض الناس، فيمنعه عن سماع النصوص الجلية، والآثار القوية.

وحاصله أن هذا الحديث لا يتناول من كان يجمع لسفر أو نحوه، فإنه لا تفريط في حقه، إذ لم يُخرِج الأولى عن وقتها لأن وقتها؛ لمن نَوَى الجمعَ هو وقت الثانية بالنص الصريح الصحيح قولًا وفعلًا، كما مضى تحقيقه مستوفًى. فلا حجة لمن منع الجمع في السفر محتجًا بهذا الحديث على أنه يتناقض قوله حينما يجيز الجمع بالمزدلفة. فإن وقت المغرب قد خرج في زعمه. والله المستعان على تعصب يمنع من قبول البرهان.

وقوله: "حين ينتبه لها" ظرف ليجيء، يعني أنه لم يصل الصلاة في وقتها، بل أخرها حتي يجيء وقت الصلاة الثانية في وقت انتباهه لها. والظاهر أنه أشار به إلى أن انتباهه لتلك الصلاة ما وجد إلا في وقت الثانية، ويفهم منه أنه لو كان مشتغلًا لشروطها، مثلًا، ففاته وقتها لا يكون مفرطًا لأنه منتبه لها، لا مهمل. والله أعلم. وفي الكبرى:"حتى ينتبه لها". وهو أيضًا في بعض نسخ "المجتبى".

وسائر متعلقات الحديث تقدمت في الذي قبله. فارجع إليها تزدد علمًا. والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 610

‌54 - إعَادَةُ مَنْ نَامَ عَنِ الصَّلاةِ لوَقْتِهَا مِنَ الغَدِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على إعادة من نام عن الصلاة تلك الصلاة في وقتها من الغد.

يعني أنه يصليها مرة ثانية إذا جاء وقتها من اليوم الثاني. وهذا الذي قاله المصنف من الإعادة مرة ثانية في الوقت هو خلاف ما عليه الجمهور، بل لم ينقل عن أحد من السلف، كما قاله في "الفتح"، واستدلاله بالحديث الآتي غير صحيح، لما يأتي، وقد ترجم البخاري في "صحيحه" بعكسه، فقال: "باب من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها،

ولا يعيد إلا تلك الصلاة". اهـ. وهو الصواب. والله تعالى أعلم.

617 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نَامُوا عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "فَلْيُصَلِّهَا أَحَدُكُمْ مِنَ الْغَدِ لِوَقْتِهَا".

رجال الإسناد: ستة

1 -

(عمرو بن علي) الفَلاس الصَّيْرَفي، أبو حفص البصري ثقة حافظ، من [10]، تقدم في 4/ 4.

ص: 611

2 -

(أبو داود) سليمان بن داود الطيالسي البصري، ثقة حافظ غَلِطَ في أحاديث، توفي سنة 204، من [9]، أخرج له الجماعة، تقدم في 343.

3 -

(شعبة) بن الحجاج، أبو بِسْطَام الواسطي البصري ثقة حجة إمام، من [7]، تقدم في 24/ 26.

والباقون تقدموا في السند الماضي. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي قتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا نَامُوا) أي هو والصحابة (عن الصلاة) أي صلاة الفجر. (حتى طلعت الشمس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فليصلها أحدكم من الغد لوقتها") أي في وقتها المعتاد، فاللام بمعنى "في" وقال السندي: أي ليصل الوقتية من الغد للوقت، ولما كانت الوقيتة من الغد عَيْنَ الْمَنْسِيَّة في اليوم باعتبار أنها واحدة من خمس كالفجر والظهر مثلًا صح رجوع الضمير عليها، والمقصود المحافظة على مراعاة الوقت فيما بَعْدُ، وأن لا يتخذ الإخراج عن الوقت والأداء في وقت آخر عادة له، وهذا المعنى هو الموافق لحديث عمران بن حصين: أنه صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم قلنا: يا رسول الله ألا

نقضيها لوقتها من الغد؟ فقال: "نهاكم ربكم عن الربا، ويقبله منكم؟ "

ص: 612

ولم يقل أحد بتكرار القضاء. والله أعلم. انتهى.

وفي "الزهر": قال ابن سيد الناس: روي أنهم قالوا: يا رسول الله أنقضيها لميقاتها من الغد؟ قال: "أينهاكم الله عن الربا، ويقبله منكم؟ " والجمع أن ضمير "فليصلها" راجع إلى صلاة الغد، أي فليؤد ما عليه من الصلاة مثلما يفعل كل يوم بلا زيادة عليها، فتتفق الألفاظ كلها على معنى واحد، لا يجوز غيره. اهـ. جـ 1 ص 295، 296. والله تعالى أعلم

تنبيه:

الظاهر أن المصنف فَهِمَ من هذا الحديث أن المراد به إيجاب قضاء الصلاة التي نام عنها مرتين: مرة إذا ذكرها، ومرة إذا كان وقتها من الغد، ولذا ترجم بقوله:"إعادة من نام عن الصلاة لوقتها من الغد".

لكن الصحيح في معنى الحديث هو ما قاله النووي رحمه الله في شرح مسلم أنه إذا فاتته صلاة فقضاها لا يتغير وقتها، ويتحول في المستقبل، بل يبقى كما كان، فإذا كان من الغد صَلَّى صلاةَ الغد في وقتها المعتاد، وليس معناه أنه يقضي الفائتة مرتين، مرة في الحال ومرة في الغد، وإنما معناه ما قدمناه، فهذا هو الصواب في معنى الحديث، وقد اضطربت أقوال العلماء فيه، واختار المحققون ما ذكرته. والله أعلم. اهـ. "شرح مسلم" جـ 5 ص 187.

وقال الحافظ في "الفتح" عند قول البخاري: "باب من نسي صلاة،

ص: 613

فليصل إذا ذكرها، ولا يعيد إلا تلك الصلاة، وقال إبراهيم: من ترك صلاة واحدة عشرين سنة لم يعد إلا تلك الصلاة الواحدة". ما نصه: قال علي بن المُنَيِّر: صرح البخاري بإثبات هذا الحكم مع كونه مما اختلف فيه، لقوة دليله، ولكونه على وفق القياس، إذ الواجب خمس صلوات لا أكثر، فمن قضى الفائتة كمل العدد المأمور به، ولكونه على مقتضى ظاهر الخطاب، لقول الشارع: "فليصلها" ولم يذكر زيادة، وقال أيضا: "لا كفارة لها إلا ذلك"، فاستفيد من هذا الحصر أن لا يجب غير إعادتها.

وذهب مالك إلى أن من ذكر بعد أن صلى صلاة أنه لم يصل التي قبلها، فإنه يصلي التي ذكر، ثم يصلي التي كان صلاها مراعاة للترتيب. انتهى.

ويحتمل أن يكون البخاري أشار بقوله: ولا يعيد إلا تلك الصلاة. إلى تضعيف ما وقع في بعض طرق حديث أبي قتادة عند مسلم في قصة النوم عن الصلاة، حيث قال:"فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها" فإن بعضهم زعم أن ظاهره إعادة المقضية مرتين، عند ذكرها، وعند حضور مثلها من الوقت الآتي، ولكن اللفظ المذكور ليس نصًا في ذلك لأنه يحتمل أن يريد بقوله:"فليصلها عند وقتها"، أي الصلاة التي تحضر، لا أنه يريد أن يعيد التي صلاها بعد خروج وقتها.

لكن في رواية أبي داود من حديث عمران بن حصين في هذه

ص: 614

القصة: "من أدرك منكم صلاة الغداة من غد صالحًا فليقض معها مثلها"، قال الخطابي: لا أعلم أحدًا قال بظاهره وجوبًا قال: ويشبه أن يكون الأمر فيه للاستحباب ليحوز فضيلة الوقت في القضاء. انتهى.

قال الحافظ: ولم يقل أحد من السلف باستحباب ذلك أيضًا، بل عدوا الحديث غلطًا من راويه. وحكى ذلك الترمذي عن البخاري، ويؤيد ذلك ما رواه النسائي من حديث عمران بن حصين أيضًا: أنهم قالوا: يا رسول الله ألا نقضيها لوقتها من الغد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "لا ينهاكم الله عن الربا، ويأخذه منكم". اهـ. "فتح" جـ 2 ص 84، 85.

وقال البيهقي في "المعرفة": وقد روى الأسود بن شيبان، عن خالد ابن شمير، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة في قصة نومهم عن الصلاة وقضائهم لها، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فمن أدركته هذه الصلاة من غد صالحًا، فليصل معها مثلها". ولم يتابعه -يعني خالد بن شمير- على هذه الرواية ثقة، وإنما الحديث عند سليمان بن المغيرة، عن ثابت البناني، عن عبد الله بن زياد، عن أبي قتادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة، قال:"ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى، فإذا كان ذلك فليصلها حين يستيقظ، فإذا كان من الغد، فليصلها عند وقتها". رواه مسلم في الصحيح. وإنما أراد والله أعلم أن وقتها لم يتحول إلى ما بعد طلوع الشمس بنومهم عنها، وقضائهم لها بعد الطلوع، فإذا كان الغد فليصلها

ص: 615

عند وقتها، يعني صلاة الغد. هذا هو اللفظ الصحيح، وهذا هو المراد به، فحمله خالد بن شمير عن عبد الله بن رباح على الوهم. انتهى ما في المعرفة باختصار جـ 2 ص 89، 90.

وقال في "السنن الكبرى": قال محمد بن إسماعيل البخاري: لا يتابع في قوله: "من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، ولوقتها من الغد". انتهى جـ 2 ص 217.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبين بهذا كله أن الصحيح في معنى الحديث: أن من فاتته صلاة فليقضها إذا ذكرها، وإذا جاء وقتها من الغد فليصلها لوقتها، ولا تتحول إلى الوقت الذي صلى فيه الفائتة، ولا يستحب له قضاؤها مرة ثانية، وأن الضمير في قوله:"فليصلها لوقتها" لصلاة الغد، لا للصلاة المنسية، وأن حديث خالد بن شمير خطأ، فعلى هذا فليس لما ترجم به المصنف دليل، فلينتبه. والله أعلم.

وبقية مباحث الحديث واضحة تعلم مما سبق. وبالله التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

618 -

أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ وَاصِلِ بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا نَسِيتَ الصَّلَاةَ، فَصَلِّ إِذَا ذَكَرْتَ،

ص: 616

فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى، يَقُولُ:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] ".

قَالَ عَبْدُ الأَعْلَى: حَدَّثَنَا بِهِ يَعْلَى مُخْتَصَرًا.

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(عبد الأعلى بن واصل بن عبد الأعلى) الأسدي الكوفي، ثقة من كبار [10].

قال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحاكم عن الدارقطني: ثقة. قال مطين: مات سنة 247 روى عنه الترمذي، والمصنف.

2 -

(يعلى) بن عُبَيد بن أبي أمية الكوفي، أبو يوسف الطنافسي، ثقة إلا في حديثه عن الثوري ففيه لين، توفي سنة بضع و 20 وله 90 سنة، من كبار [9]، أخرج له الجماعة، تقدم في 105/ 140.

3 -

(محمد بن إِسحاق) بن يسار، أبو بكر المطلبي مولاهم، المدني، نزيل العراق، إمام المغازي، صدوق، يدلس، ورمي بالقدر

والتشيع، توفي سنة 150، من صغار [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 480.

4 -

(الزهري) محمد بن مسلم، أبو بكر الإمام الحجة الحافظ المدني، من [4]، أخرج له الجماعة، تقدم في 1/ 1.

ص: 617

5 -

(سعيد) بن المسيب بن حَزْن بن أبي وهب المخزومي المدني، ثقة ثبت فقيه، توفي سنة 94، من كبار [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 9/ 9.

6 -

(أبو هريرة) الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسياته، وأن رجاله كلهم ثقات، اتفقوا عليهم إلا شيخه، فانفرد هو به، والترمذي، وأنهم مدنيون إلا شيخه ويعلى فكوفيان، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: ابن إسحاق، والزهري، وابن المسيب، وفيه أبو هريرة أحد المكثرين السبعة، روى 5374 حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي هريرة) رضي الله عنه، أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذا نَسِيت الصلاة، فصل إِذا ذكرت) تلك الصلاة. (فإِن الله تعالى) الفاء للتعليل، أي لأن الله تعالى (يقول:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]) بالإضافة إلى ياء المتكلم، وهي القراءة المشهورة، لكن ظاهرها لا يناسب المقصود، فأوّله بعضهم بأن المعنى وقت ذكر صلاتي على حذف المضاف، أو المراد بالذكر المضاف إلى الله

ص: 618

تعالى ذِكرُ الصلاة، لكون ذكر الصلاة يفضي إلى فعلها المفضي إلى ذكر الله تعالى فيها، فصار وقت ذكر الصلاة كأنه وقت لذكر الله تعالى، فقيل في موضع أقم الصلاة لذكرها لذكر الله.

وفي بعض النسخ (لِلِذِّكْرَى) بلام الجر، ثم لام التعريف، وآخره ألف مقصورة، وهي قراءة شاذة، لكنها أوفق بالمقصود، وهو الموافق لما سيجيء، قلت للزهري: هكذا قرأها رسول صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. والله أعلم. قاله السندي.

وقال في "الفتح": واختلف في المراد بقوله: {لِذِكْرِي} ، فقيل: المعنى لتذكرني فيها، وقيل: لأذكرك بالمدح، وقيل: إذا ذكرتها، أي لتذكيري لك إياها، وهذا يعضده قراءة من قرأ:(لِلِذِّكْرَى). وقال النخعي: اللام للظرف، أي إذ ذكرتني، أي إذا ذكرت أمري بعدما نسيت، وقيل: لا تذكر فيها غيري، وقيل: شُكْرًا لِذِكْرِي،، وقيل: المراد بقوله: (ذكري) ذكر أمري، وقيل: المعنى: إذا ذكر الصلاة، فقد ذكرتني، فإن الصلاة عبادة لله، فمتى ذكرها ذكر المعبود، فكأنه أراد لذكر الصلاة.

وقال التوربشتي: الأولى أن يُقصَدَ إلى وجه يوافق الآية والحديث، وكأن المعنى أقم الصلاة لذكرها، لأنه إذا ذكرها ذكر الله تعالى، أو يقدر مضاف، أي لذكر صلاتي، أو ذكر الضمير فيه موضع الصلاة لشرفها. انتهى.

ص: 619

فائدة:

قوله: "فإن الله تعالى يقول: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] من تتمة الحديث، فهو مرفوع، كما يأتي في كلام الزهري. والله تعالى أعلم.

فائدة أخرى:

في الحديث دليل على أن شرع من قبلنا شرع لنا؛ لأن المخاطب بالآية المذكورة موسى عليه الصلاة والسلام، قال الحافظ: وهو الصحيح في الأصول ما لم يرد ناسخ. اهـ. "فتح" جـ 2 ص 86. والله تعالى أعلم.

تنبيه:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا عن طريق ابن إسحاق حديث صحيح، من أفراد المصنف رحمه الله، أخرجه هنا (618) عن عبد الأعلى ابن واصل، عن يعلى بن عبيد، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عنه.

وأخرجه أيضًا (619) عن عمرو بن سَوَّاد، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري به، و (620) عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري به. والله أعلم، ومنه التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

619 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ سَوَّادِ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ:

ص: 620

أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] ".

رجال الإسناد: ستة

1 -

(عمرو بن سَوَّاد) بتشديد الواو (بن الأسود بن عمرو) بن محمد بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري السَّرْحِيُّ، أبو محمد المصري، ثقة، من [11].

قال أبو حاتم: صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات، وكان راويًا لابن وهب. وقال الخطيب: كان ثقة. وقال ابن يونس: توفي يوم

الجمعة لعشر بقين من رجب سنة 245، وكان ثقة صدوقًا. وقال النسائي: لا بأس به. وقال مسلمة: ثقة. وقال الحاكم: ثقة مأمون. روى عنه مسلم 26 حديثًا. أخرج عنه أيضًا أبو داود، والمصنف، وابن ماجه.

2 -

(ابن وهب) عبد الله المصري، ثقة حافظ، عابد، من [9]، تقدم في 9/ 9.

3 -

(يونس) بن يزيد الأيلي، ثقة ثبت، من [7]، تقدم في 9/ 9.

ص: 621

والباقون تقدموا في السند السابق. وكذا شرح الحديث. والله أعلم، ومنه التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

620 -

أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} ".

قُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ: هَكَذَا قَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ.

رجال الإسناد: ستة

1 -

(سويد بن نصر) المروزي أبو الفضل، ثقة، من [10]، تقدم في 45/ 55.

2 -

(عبد الله) بن المبارك الإمام الجليل المروزي، ثقة حجة، من [8]، تقدم في 32/ 36.

3 -

(معمر) بن راشد، أبو عروة البصري، ثم الصنعاني، ثقة ثبت، من [7]، تقدم في 10/ 10.

والباقون تقدموا قريبًا. وكذا شرح الحديث واضح مما سبق،

ص: 622

وقوله: قلت للزهري الخ القائل هو معمر، وهذه القراءة بلامين وفتح الراء مقصورًا مصدر بمعنى التذكر، أي لوقت تذكرها، وليست في السبع. قاله في "زهر الربى". والله تعالى أعلم.

تنبيه:

قال الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث: روى أبو أحمد الحاكم في مجلس من العالية من طريق معمر، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسْرِيَ به نام حتى طلعت الشمس، فصلى وقال:"من نام عن الصلاة، أو نسيها، فليصلها حين ذكرها، ثم قرأ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] ".

قال الشيخ ولي الدين العراقي في مجموع له، ومن خطه نقلت: إسناده صحيح، قال: ويحسن أن يكون جوابًا عن المشهور، وهو لم يقع بيان جبريل إلا في الظهر، وقد فرضت الصلاة بالليل، فيقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم نائمًا وقت الصبح، والنائم ليس بمكلف، قال: وهذه فائدة جليلة.

قال السيوطي: قلت: وقد أخذت هذا منه على ظاهره، وذكرته في كتاب أسباب الحديث، ثم خطر لي أنه ليس المراد بقوله:"ليلة أسري به" الإسراء الذي هو المعراج، بل أسرى في السفر، ونام هو، ومن معه حتى طلعت الشمس، فإن هذا الحديث معروف بذكره في هذه القصة، وقد أورده المصنف من حديث أبي قتادة، وفي حديث بُرَيد بن أبي

ص: 623

مريم، عن أبيه، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فأسرينا ليلة، فلما كان في وجه الصبح نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنام، ونام الناس، فلم يستيقظ إلا بالشمس الحديث. فهذا هو المراد بالإسراء. اهـ. "زهر" جـ 1

ص 296.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله السيوطي غير واضح، بل ما قاله ولي الدين هو الذي يتبادر إلى الذهن؛ لأن الحديث فيه بلفظ "ليلة أسري به"، وفي الحديث الثاني:"أسرينا ليلة"، فتأمل الفرق بين العبارتين. والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 624

‌55 - كَيْفَ يَقْضِي الْفَائِتَ مِنَ الصَّلاةِ؟

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على جواب سؤال من سأل بقوله: كيف يقضي من فاتته الصلاة فائتته؟

621 -

أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَأَسْرَيْنَا لَيْلَةً، فَلَمَّا كَانَ فِي وَجْهِ الصُّبْحِ نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَنَامَ، وَنَامَ النَّاسُ، فَلَمْ نَسْتَيْقِظْ إِلاَّ بِالشَّمْسِ، قَدْ طَلَعَتْ عَلَيْنَا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمُؤَذِّنَ، فَأَذَّنَ، ثُمَّ صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ، ثُمَّ أَمَرَهُ، فَأَقَامَ فَصَلَّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ حَدَّثَنَا بِمَا هُوَ كَائِنٌ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ.

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(هناد بن السَّرِيّ) بنُ مُصْعَب التميمي، أبو السري الكوفي، ثقة، توفي سنة 243 هـ، وله 91 سنة، من [10]، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم والأربعة. تقدم في 23/ 25.

ص: 625

2 -

(أبو الأحوص) سَلام بن سُلَيم الحنفي، الكوفي، ثقة، متقن، صاحب حديث، توفي سنة 179، من [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 79/ 96.

3 -

(عطاء بن السائب) أبو محمد، ويقال: أبو السائب، الثقفي الكوفي، صدوق اختلط، توفي سنة 136، من [5]، أخرج له

البخاري، والأربعة، تقدم في 152/ 243.

4 -

(بُرَيد بن أبي مريم) مالك بن ربيعة السَلُولي -بفتح المهملة- البصري، ثقة، توفي سنة 144، من [4]، وثقه ابن معين، وأبو زرعة، والنسائي، وابن حبان، والعجلي. وقال أبو حاتم: صالح.

وقال الدارقطني: على شرط الصحيح.

وأخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، والأربعة.

5 -

(أبو مريم) مالك بن ربيعة السَلُولي، من أصحاب الشجرة، سكن الكوفة، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في النوم عن الصلاة. وعنه ابنه بُرَيْدُ بن أبي مريم.

روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، دعا له أن يبارك له في ولده، فولد له ثمانون ذكرًا. ذكره ابن حبان في الصحابة، ثم ذكره في ثقات التابعين. أخرج له المصنف. والله تعالى أعلم.

ص: 626

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسياته، وأن رجاله موثوقون، وأنهم كوفيون إلا بريدًا فبصري، وفيه رواية تابعي، عن تابعي، ورواية الابن عن أبيه. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن بريد بن أبي مريم) السَّلُولي البصري (عن أبيه) أبي مريم مالك بن ربيعة الصحابي رضي الله عنه، أنه قال (قال: كنا مع

رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فأسرينا ليلة) لغة في سَرَينا، يقال: سَرَيْت الليلَ، وسَرَيْتُ له سَرْيًا، والاسم السّراية: إذا قطعته بالسَّيْر، وأسْرَيْتُ بالألف لغة حجازية، ويستعملان متعديين بالباء إلى مفعول، فيقال: سريت بزيد، وأسريت به. قاله الفيومي.

قال الجامع: وما هنا من اللازم.

(فلما كان) اسم "كان" ضمير يعود إلى الليلة بتأويلها بالليل، أي فلما كان الليل (في وجه الصبح) الوَجْهُ، كما قال الفيومي: مستقبل كل شيء. والمراد به هنا قرب وقته، أي قريبًا من وقت الصبح (نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن مركوبه (فنام، ونام الناس)، الذين معه (فلم نستيقظ إلا بالشمس) أي إلا بسبب حرها (قد طلعت علينا) جملة في محل نصب على الحال من الشمس (فأمر رسول الله

ص: 627

- صلى الله عليه وسلم المؤذن) بالأذان، والمؤذن يحتمل أن يكون بلالًا، ويحتمل غيره (فأذن، ثم صلى) النبي صلى الله عليه وسلم (الركعتين قبل الفجر) الظرف متعلق بحال محذوف، أي حال كون الركعتين كائنتين قبل صلاة الفجر (ثم أمره) بالإقامة (فأقام، فصلى بالناس، ثم حدثنا بما هو كائن حتى تقوم الساعة) أي من الأمور التي تَعْنِيهم، كالفتنة التي تكون في آخر الزمان. والله تعالى أعلم.

تنبيهان:

الأول: حديث أبي مريم مالك بن ربيعة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا (621) بهذا السند، وفيه عطاء بن السائب، وهو مختلط، لا يصح حديثه إلا إذا رَوَى عنه من أخذ قبل اختلاطه، وهم على ما قال الحافظ في تهذيب التهذيب جـ 7 ص 207: سفيان الثوري، وشعبة، وزهير بن معاوية، وزائدة، وحماد ابن زيد، وأيوب، قال: ومن عداهم يتوقف فيه، إلا حماد بن سلمة، فاختلف قولهم، والظاهر أنه سمع منه مرتين، مرة مع أيوب، ومرة بعد ذلك، لما دخل إليهم البصرة، وسمع منه مع جرير، وذَويهِ. اهـ.

فعلى هذا فأبو الأحوص ليس من الذي ذكرهم الحافظ استثناء.

وقال الشيخ الألباني في "صحيح النسائي": صحيح بحديث أبي هريرة الآتي وغيره. اهـ. جـ 1 ص 133.

قال الجامع: عندي في هذا الإطلاق نظر، لما ذكرت من العلة،

ص: 628

وحديث أبي هريرة وغيره لا يشهد لكله، فإن قوله:"ثم حدثنا بما هو كائن" إلخ ليس في حديث غيره.

وبالجملة فالحديث صحيح بما قاله الشيخ، إلا الأخير منه ففيه توقف فتنبه. والله تعالى أعلم.

الثاني: في الحديث فوائد:

منها: ما ترجم له المصنف، وهو صفة قضاء الفوائت، وذلك أنه لا يختلف من الأداء، فيؤذن ويقيم، ويصلي الرواتب، وأنه تشرع فيه الصلاة جماعة.

ومنها. مشروعية السّرَى بالليل.

ومنها: جواز النوم عند قرب وقت الصلاة لمن له من يوقظه، كما بينته الروايات الأخرى.

ومنها

(1)

معجزة النبي صلى الله عليه وسلم حيث أطلعه الله بما هو كائن إلى قيام الساعة، فأخبر بذلك أصحابه.

والله أعلم، ومنه التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

622 -

أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتَوَائِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ

(1)

هذا على تقدير صحة الزيادة. لكن ثبت إخباره صلى الله عليه وسلم بما هو كائن إلى قيام الساعة في أحاديث أخرى. فتنبه.

ص: 629

بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَحُبِسْنَا عَنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ، وَالْعِشَاءِ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيَّ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي سَبِيلِ اللهِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِلَالاً، فَأَقَامَ، فَصَلَّى بِنَا الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ، فَصَلَّى بِنَا الْعَصْرَ، ثُمَّ أَقَامَ، فَصَلَّى بِنَا الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى بِنَا الْعِشَاءَ، ثُمَّ طَافَ عَلَيْنَا، فَقَالَ:"مَا عَلَى الأَرْضِ عِصَابَةٌ يَذْكُرُونَ اللهَ عز وجل غَيْرُكُمْ".

رجال الإسناد: سبعة

1 -

(سويد بن نصر) المروزي، راوية ابن المبارك، ثقة، من [10] تقدم في 45/ 55.

2 -

(عبد الله) بن المبارك المروزي الإمام الحجة الثبت، من [8] تقدم في 32/ 36.

3 -

(هشام الدستوائي) بن أبي عبد الله سَنْبَر، أبو بكر البصري، ثقة، ثبت، رمي بالقدر، توفي سنة 154، من كبار [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 42/ 47.

4 -

(أبو الزبير) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكي الأسدي

ص: 630

مولاهم، صدوق، من [4]، تقدم في 31/ 33.

5 -

(نافع بن جبير بن مطعم) النوفلي، أبو محمد، أو أبو عبد الله المدني، ثقة فاضل، توفي سنة 99، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 96/ 124.

6 -

(أبو عبيدة بن عبد الله) بن مسعود الهذلي، مشهور بكنيته، والأشهر أنه لا اسم له غيرها، ويقال: اسمه عامر، كوفي

ثقة، من كبار [3]، والراجح أنه لا يصح سماعه من أبيه.

قال شعبة: عن عمرو بن مرة: سألت أبا عبيدة، هل تذكر من عبد الله شيئًا؟ قال: لا.

وقال المفضل الغَلابي

(1)

عن أحمد: كانوا يفضلون أبا عبيدة على عبد الرحمن.

وقال الترمذي: لا يعرف اسمه، ولم يسمع من أبيه شيئًا.

وقال شعبة عن عمر بن مرة: فُقِدَ عبدُ الرحمن بن أبي ليلى، وعبدُ الله بن شداد، وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود ليلة دجيل،

وكانت سنة 81، وقيل: سنة 83.

وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: لم يسمع من أبيه شيئًا.

(1)

الغلابي بالفتح والتخفيف وموحدة: نسبة إلى غَلَاب جد أبي بكر محمد بن زكريا شيخ الطبراني، وبالتشديد نسبة إلى غَلاَّب، والد خالد بن غَلاَّب الصحابي. قاله في اللب جـ 2 ص 138. قلت: ولا أدري إلى ماذا ينسب المفضل هذا.

ص: 631

وقال أبو حاتم في "المراسيل" قلت لأبي: هل سمع أبو عبيدة من أبيه؟ قال: يقال إنه سمع، قلت: فإن عبد الواحد بن زياد يروي عن أبي مالك الأشجعي، عن عبد الله بن أبي هند، عن أبي عبيدة، قال: خرجت مع أبي لصلاة الصبح، فقال: ما أدري ما هذا، وما أدري عبد الله بن أبي هند من هو؟.

وقال الترمذي في "العلل الكبير": قلت لمحمد: أبو عبيدة ما اسمه؟ فلم يعرف اسمه، وقال: هو كثير الغلط.

وقال الدارقطني: أبو عبيدة أعلم بحديث أبيه من حنيف مالك، ونظرائه.

وقال صالح بن أحمد: ثنا ابن المديني، ثنا سَلْم بن قتيبة، قال: قلت لشعبة: إن عثمان البُرِّيَّ حدثنا عن أبي إسحاق أنه سمع أبا عبيدة أنه سمع ابن مسعود. فقال: أوَّهْ، كان أبو عبيدة ابن سبع سنين، وجعل يضرب جبهته. انتهى.

قال الحافظ: هذا الاستدلال بكونه ابن سبع سنين على أنه لم يسمع من أبيه ليس بقائم، ولكن راوي الحديث؛ عثمان ضعيف. والله أعلم. اهـ.

أخرج له الأربعة.

7 -

(عبد الله بن مسعود) الهذلي، الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 35/ 39. والله تعالى أعلم.

ص: 632

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سباعياته، وأن رجاله كلهم ثقات، وأنهم ما بين مروزيين، وهما: شيخه وعبد الله، وبصري، وهو: هشام، ومكي، وهو: أبو الزبير، ومدني، وهو: نافع، وكوفيين، وهما: أبو عبيدة وأبوه، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: أبو الزبير، ونافع، وأبو عبيدة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عبد الله بن مسعود) رضي الله عنه، أنه (قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي يوم الخندق، ففي رواية المصنف الآتية (662)"إن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق"، زاد في رواية الترمذي حتى ذهب من الليل ما شاء الله

الحديث (فحُبِسْنا) بالبناء للمفعول، أي منعنا المشركون (عن) أداء (صلاة الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء) وفي الرواية الآتية (622)"عن أربع صلوات"، قال الحافظ. في قوله:"أربع صلوات" تجوز؛ لأن العشاء لم تكن فاتت.

وفي رواية جابر عند الشيخين أن التي فاتت هي صلاة العصر، فاختلف العلماء في الجمع في ذلك؛ قال اليعمري: من الناس من رجح ما في الصحيحين، وصرح بذلك ابن العربي، فقال: إن الصحيح أن الصلاة التي شغل عنها واحدة، وهي العصر.

ص: 633

قال الحافظ: ويؤيده حديث علي في مسلم "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر"، قال: ومنهم من جمع بأن الخندق كانت وقعته أيامًا، فكان ذلك في أوقات مختلفة في تلك الأيام، وقال: وهذا أولى. اهـ. "فتح" جـ 2 ص 83.

ويؤيد هذا كما قال الحافظ أنه ذكر في رواية ابن مسعود هذه وقوع القضاء بعد خروج وقت المغرب، وفي رواية جابر أنه وقع عقيب غروب الشمس، فدل على تعدد الواقعتين.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: (فاشتد ذلك عَلَيَّ، فقلت في نفسي: نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله) أي في الجهاد. قال ابن الأثير: وقد تكرر في الحديث ذكر سبيل الله، وابن السبيل، والسبيل -في الأصل- الطريق، والتأنيث فيها أغلب. قال: وسبيل الله عامّ يقع على كل عمل خالص، سُلِكَ به طريق التقرب إلى الله تعالى بأداء الفرائض، والنوافل، وأنواع التطوعات، وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه، وأما ابن السبيل، فهو المسافر الكثير السفر، سمي ابنًا لها لملازمته إياها. اهـ نهاية جـ 2 ص 338، 339.

(فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالًا فأقام) أي بعد الأذان، ففي الرواية الآتية (662): "فأمر بلالًا، فأذن، ثم أقام

" الحديث (فصلى بنا الظهر) فيه مشروعية الجماعة في الفوائت (ثم أقام، فصلى بنا

ص: 634

العصر، ثم أقام، فصلى بنا المغرب، ثم أقام فصلى بنا العشاء) فيه مشروعية الإقامة لكل واحدة من الفوائت، وفيه دليل على أن

الفوائت تقضى مُرَتَّبَةً، الأولى، فالأولى، وهو على الوجوب عند الجمهور، خلافًا للشافعي، وسيأتي تحقيق القول فيه في المسائل

الآتية، إن شاء الله تعالى.

(ثم طاف علينا) أي دار النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة الحاضرين (فقال: ما على الأرض عصابة) بالكسر، كالعُصْبة بضم العين، وسكون الصاد من الرجال، والخيل، والطير، ما بين العشرة إلى الأربعين. أفاده في "ق"، وقال في "المصباح": العِصَابة، الجماعة من الرجال، والخيل، والطير. اهـ. قلت: وهذا هو الموافق هنا.

(يذكرون الله عز وجل غيركم) بالرفع خبر "عصابة". وإنما قال ذلك، تبشيرًا، وتذكيرًا لهم بما أنعم الله به عليهم، حيث خصهم

بذكره تعالى، دون غيرهم من الناس، وتهوينًا لما لحقهم من المشقة بسبب فوات تلك الصلوات وأن الذي حصل لهم في فواتها ليس بتقصيرهم، بل لكونهم مشغولين بالجهاد في سبيل الله تعالى، فلا ينبغي أن تنكسر قلوبهم لذلك. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا فيه انقطاع، لأن

ص: 635

أبا عبيدة لم يسمع منه، ولكن يشهد له حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الآتي برقم (661) فهو صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكره عند المصنف:

أخرجه هنا (622) عن سُويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن هشام الدستوائي، عن أبي الزبير عن نافع بن جبير، عن أبي عبيدة، عنه.

وفي (662) عن هناد، عن هشيم بن بشير، عن أبي الزبير به.

وفي (663) عن القاسم بن زكريا بن دينار، عن حسين بن علي، عن زائدة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن هشام الدستوائي به. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه الترمذي في "الصلاة" عن هناد بن السري، عن هشيم به.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما بوب له المصنف، وهو بيان صفة القضاء للفائتة، وهو واضح من الحديث.

ومنها: وجوب قضاء الصلاة إذا فاتت بأشغال، ولو كان الشغل دينيًّا، كالجهاد في سبيل الله.

ومنها: مشروعية الترتيب بين الفوائت، وهل هو واجب، أم لا؟ سيأتي تحقيقه في المسألة التالية.

ومنها: مشروعية الأذان والإقامة لأول الفوائت، والاكتفاء في

ص: 636

البواقي بالإقامة.

ومنها: مشروعية الجماعة في قضاء الفوائت، وبه قال أكثر أهل العلم، إلا الليث مع أنه أجاز صلاة الجمعة جماعة، إذا فاتت، قاله في الفتح.

ومنها: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من حسن المعاشرة مع أصحابه، حيث إنه رآهم متأسفين على فوات تلك الصلوات، فقام يُذَكِّرُهم بما مَنَّ الله به عليهم من ذكره تعالى دون غيرهم من الناس وأن فواتها ليس بسبب تساهلهم، بل بسبب اشتغالهم بالعدوِّ. والله تعالى أعلم.

المسألة الخامسة: في اختلاف أهل العلم في الترتيب بين الفوائت المقضية والمؤداة؟ فأبو حنيفة، ومالك، والليث، والزهري، والنخعي، وربيعة قالوا بوجوب تقديم الفائتة، على خلاف بينهم. وقال الشافعي، والهادي، والقاسم: لا يجب، واستدل الأولون بحديث الباب، وغيره، قال الشوكاني: ولا ينتهض الاستدلال به، لأن الفعل بمجرده لا يدل على الوجوب، قال الحافظ: إلا أن يستدل بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، فيقوى، قال: وقد اعتبر ذلك الشافعية في أشياء غير هذا. انتهى. قال الشوكاني: وقد استُدِلَّ للموجبين أيضًا بأن توقيت المقضية بوقت الذكر أضيق من توقيت المؤداة، فيجب

تقديم ما تضيق.

ومثله الترتيب بين الفوائت نفسها، فقال بوجوبه زيد بن علي، والناصر، وأبو حنيفة. وقال الشافعي، والهادي، والإمام يحيى: إنه

ص: 637

غير واجب، قال الشوكاني رحمه الله، وهو الظاهر، لأن مجرد الفعل لا يدل على الوجوب، إلا أن يستدل بعموم قوله صلى الله عليه وسلم "صلوا كما رأتيموني أصلي"، ولكنه غير خالص عن شوب اعتراض، ومعارضة. اهـ "نيل" جـ 2 ص 91، 92.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يترجح عندي هو وجوب الترتيب سواء كان بين الوقتية والفائتة، أو بين الفوائت نفسها، لأمور:

الأول: فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لم ينقل عنه غير الترتيب.

الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي".

الثالث: أنها وجبت في الأصل مرتبة، ولم يوجد دليل يعارض هذا الأصل، فلزم القول به.

والحاصل أن مجموع هذه الأمور يفيد وجوب الترتيب، وأما القائلون بعدمه، فليس عندهم دليل قوي يعارض ما ذكرنا، فلا يلتفت إلى رأيهم. فتبصر. والله تعالى أعلم.

المسألة السادسة: في اختلاف العلماء فيمن ذكر صلاة فائتة، وهو في أخرى:

قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: اختلف أهل العلم في الرجل يكون في الصلاة، فيذكر أن عليه صلاة قبلها، فقالت طائفة: تفسد عليه صلاته التي هو فيها، فعليه أن يصلي التي ذكرها، ثم التي

ص: 638

كان فيها، هذا قول النخعي، والزهري، وربيعة، ويحيى بن سعيد، وقال الأوزاعي: إذا دخل مع الإمام في العصر، فذكر الظهر، يجعل صلاته معه سبحة، ثم يصلي الظهر، ثم يصلي العصر.

وقالت طائفة: يصلي الصلاة التي دخل فيها، ثم يقضي الفائتة، وليس عليه أن يعيد الصلاة التي صلاها، وهو ذاكر الفائتة، هذا قول طاوس، والحسن البصري، وبه قال الشافعي، وأبو ثور.

وفيه قول ثالث: قاله الحكم، وحماد، قالا: إن ذكرها قبل أن يتشهد، أو يجلس مقدار التشهد ترك هذه وعاد إلى تلك، وإن ذكرها بعد ذلك اعتد بهذه، وعاد إلى تلك، وثبت عن ابن عمر أنه قال: من نسي صلاة، فلم يذكرها، إلا وهو وراء الإمام، فإذا سلم الإمام فليصل الصلاة التي نسي، ثم يصلي بعدُ الصلاةَ الأخرى، وبه قال مالك بن أنس، والليث بن سعد، ويحيى بن عبد الله بن سالم.

وعن أحمد، وإسحاق قالا: إذا فاتته الظهر، وهو مع الإمام في العصر، فذكرها يتم، ويعيدها. وذكر ابن المنذر تفريق أصحاب

الرأي بين كون الفوائت ستًا، وبين كونها أقل، فقالوا بوجوب الترتيب في الأقل دون الأكثر، ثم رد عليهم، ورجح عدم البطلان مطلقًا.

فانظر "الأوسط" جـ 2 ص 416 - 419.

قال الجامع: الذي يترجح عندي -والله أعلم- وجوب الترتيب مطلقًا للأدلة التي ذكرناها في المسألة الخامسة، لكن إن نسي فدخل في

ص: 639

صلاة، فإن الترتيب يسقط بسبب النسيان، لحديث:"إن الله تعالى تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه". أخرجه أحمد وغيره، وهو حديث صحيح

(1)

. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

623 -

أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:"عَرَّسْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ نَسْتَيْقِظْ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "لِيَأْخُذْ كُلُّ رَجُلٍ بِرَأْسِ رَاحِلَتِهِ، فَإِنَّ هَذَا مَنْزِلٌ حَضَرَنَا فِيهِ الشَّيْطَانُ، قَالَ: فَفَعَلْنَا، فَدَعَا بِالْمَاءِ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ صَلَّى سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَصَلَّى الْغَدَاةَ".

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(يعقوب بن إِبراهيم) الدَّوْرَقِي، أبو يوسف، ثقة، من [10]، تقدم في 21/ 22.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطان البصري، ثقة، حجة، ثبت،

(1)

انظر صحيح الجامع الصغير جـ 1 ص 358.

ص: 640

من [9]، تقدم في 4/ 4.

3 -

(يزيد بن كيسان) اليشكري، أبو إسماعيل، أو أبو مُنَين -بنونين مصغرًا-، الكوفي، صدوق يخطئ، من [6]، أخرج له

البخاري في الأدب المفرد ومسلم والأربعة، تقدم في 173/ 270.

4 -

(أبو حازم) سلمان الأشجعي الكوفي، ثقة، توفي على رأس سنة 100، من [3]، تقدم في 173/ 270.

5 -

(أبو هريرة) الصحابي الجليل رضي الله عنه تقدم في 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسياته، وأن رجاله كلهم ثقات، اتفقوا عليهم، إلا يزيد، فلم يخرج له البخاري، إلا في الأدب المفرد، وأن شيخه ممن اتفق الستة بالرواية عنه مباشرة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي هريرة) رضي الله عنه، أنه (قال: عرسنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) من التعريس، قيل التعريس: نزول القوم في السفر من آخر الليل، يقعون فيه وَقْعَةً للاستراحة، ثم يُنِيخُون، ويَنَامُونَ نَوْمَةً خَفِيفَة، ثُم يثُورُون مع انْفِجَار الصبح سائرين. وقيل التعريس: النزول أول الليل، وقيل: النزول أيَّ حين كان، من ليل أو نهار.

ص: 641

أفاده في اللسان.

(فلم نستيقظ حتى طلعت الشمس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليأخذ كل رجل برأس راحلته) أي ليخرج كل منا من هذا المحل، ثم علل أمره بالخروج بقوله (فإِن هذا) المنزل (منزل حضرنا فيه الشيطان) فيه دليل على استحباب اجتناب مواضع الشيطان، وهو أظهر المعنيين في النهي عن الصلاة في الحمام. قاله النووي في شرح مسلم.

(قال) أبو هريرة رضي الله عنه (فَفَعلنا) أي ما أمروا به من الخروج من ذلك المنزل (فدعا) النبي صلى الله عليه وسلم (بالماء، فتوضأ، ثم صلى سجدتين) أي ركعتين، تسمية للكل باسم جزئه، وهما سنة الفجر، وفيه استحباب قضاء النافلة الراتبة.

(ثم أقيمت الصلاة، فصلى الغداة) أي صلاة الصبح، وفيه جواز تسمية صلاة الصبح بالغداة، وأنه لا يكره ذلك.

فإن قيل: كيف نام النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس مع قوله صلى الله عليه وسلم: "إن عيني تنامان، ولا ينام قلبي"، فجوابه من وجهين:

أصحهما، وأشهرهما: أنه لا منافاة بينهما، لأن القلب إنما يدرك الحسيات المتعلقة به كالحَدَث والألَمِ، ونَحْوهما، ولا يدرك طلوع الفجر، وغيره مما يتعلق بالعين، وإنما يدرك ذلك بالعين، والعين نائمة، وإن كان القلب يقظان.

ص: 642

والثاني: أنه كان له حالان: أحدهما ينام فيه القلب، وصادف هذا الموضع، والثاني لا ينام، وهذا هو الغالب من أحواله. قال النووي رحمه الله: وهذا التأويل ضعيف، والصحيح المعتمد هو الأول. اهـ "شرح مسلم" جـ 5 ص 183 - 184.

تنبيه:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من طريق يزيد بن كيسان أخرجه مسلم في "الصلاة" عن محمد بن حاتم، ويعقوب الدورقي، كلاهما عن يحيى بن سعيد، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عنه. وأخرجه المصنف هنا (623) وفي الكبرى (1558) عن يعقوب الدورقي. والله أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

624 -

أَخْبَرَنَا أَبُو عَاصِمٍ، خُشَيْشُ بْنُ أَصْرَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ يَكْلَؤُنَا اللَّيْلَةَ؛ لَا نَرْقُدَ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ؟ ". قَالَ بِلَالٌ: أَنَا، فَاسْتَقْبَلَ مَطْلَعَ الشَّمْسِ، فَضُرِبَ عَلَى آذَانِهِمْ، حَتَّى أَيْقَظَهُمْ حَرُّ الشَّمْسِ، فَقَالَ:"تَوَضَّئُوا"، ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ، فَصَلَّى

ص: 643

رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّوْا رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، ثُمَّ صَلَّوُا الْفَجْرَ.

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(أبو عاصم، خشيش

(1)

بن أصرم) بن الأسود النسائي، ثقة حافظ، توفي سنة 253، من [11]، أخرج له أبو داود والنسائي، تقدم في (590).

2 -

(يحيى بن حسان) بن حيان، أبو زكريا، التِّنِّيسي -بكسر المثناة، والنون الثقيلة، وسكون التحتانية، ثم مهملة-، من أهل

البصرة، ثقة، من [9].

قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ثقة رجل صالح. وقال الأثرم عن أحمد: ثقة صاحب حديث. وقال العجلي: كان ثقة مأمونًا عالمًا بالحديث. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال مروان بن محمد. لم نكن نحسن طلب الحديث حتى قَدِمَ يحيى بن حسان.

ووثقه البزار ومطين. وقال ابن يونس: كان ثقة حسن الحديث، وصنف كتبًا، وحدث بها، وتوفي بمصر سنة 208، وكذا قال

(1)

خشيش: بمعجمات مصغرًا. اهـ. ت.

ص: 644

البخاري عن الحسن الجزري، وفيها ذكره جماعة، وقيل: مات سنة 207، وقال دُحَيم: ولد سنة (144)، أخرج له الجماعة، إلا ابن ماجه.

3 -

(حماد بن سلمة) بن دينار البصري، أبو سلمة، ثقة، عابد، أثبت الناس في ثابت، وتغير حفظه بأخرة، توفي سنة 167، من

كبار [8]، أخرج له البخاري تعليقًا، ومسلم، والأربعة، تقدم في 181/ 288.

4 -

(عمرو بن دينار) أبو محمد الأثرم الجمحي مولاهم المكي، ثقة ثبت، توفي سنة 126، من [4] أخرج له الجماعة، تقدم في 112/ 154.

5 -

(نافع بن جبير) ابن مطعم النوفلي، المدني، ثقة فاضل، توفي سنة 99، من [3]، تقدم في 96/ 124.

6 -

(جبير) بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، القرشي النوفلي، صحابي عارف بالأنساب، مات سنة 58 أو 59، أخرج له الجماعة، تقدم في 158/ 250. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها أنه من سداسياته، وأن رجاله كلهم ثقات، وأنهم ما بين نسائي وهو: شيخه، وتنيسي وهو: يحيى، وبصري وهو: حماد، ومكي وهو: عمرو، ومدنيين وهما: جبير وأبوه. والله تعالى أعلم.

ص: 645

شرح الحديث

(عن نافع بن جبير، عن أبيه) جبير بن مطعم رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من) استفهامية مبتدأ، خبر جملة قوله:(يكلؤنا) من باب نَفَع، قال الفيومي: كَلأهُ الله يَكْلَؤُهُ مهموز، بفتحتين، كِلاءةً بالكسر والمد: حفظه، ويجوز التخفيف، فيقال: كَلَيْتُهُ، أكْلَاهُ، وَكِليتُهُ، أكْلاهُ، من باب تَعِب لغة لقريش، لكنهم قالوا: مكْلُوٌّ بالواو أكثر من مَكْلِيٍّ بالياء (الليلة) بالنصب على الظرفية متعلق بيكلؤ (لا نرقد) من باب نصر، رَقْدًا، ورُقادًا، ورُقودًا: نام ليلًا كان، أو نهارًا، وبعضهم يخصه بنوم الليل، والأول هو الحق، قاله الفيومي.

قال السندي: "لا نرقد" جملة مستأنفة في محل التعليل. وقال في "الزهر": قال أبو البقاء: التقدير: لئلا نرقد، فلما حذف اللام و"أن" رُفِعَ الفعل، ويجوز أن يُرْوَى بالنصب على جواب الاستفهام، إلا أنه حُذِفَ الفاءُ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال، أي يكلؤنا غير راقدين، فيكون حالًا مقدرة، أي يكلؤنا، فنفضي إلى تيقظنا وقت الفجر. اهـ.

(عن صلاة الصبح) متعلق بنرقد (قال بلال) بن رباح المؤذن رضي الله عنه (أنا) مبتدأ حذف خبره لدلالة الاستفهام عليه، كما قال في الخلاصة:

ص: 646

وَحَذْفُ مَا يُعْلَمُ جَائِزٌ كَمَا

تَقُولُ "زَيْدٌ" بَعْدَ مَنْ عِنْدَكُمَا

أي أنا أكلؤكم (فاستقبل) أي توجه بلال جِهَةَ (مطلع الشمس) والمطلع بفتح اللام وكسرها: محل الطلوع. وإنما فعل ذلك حرصًا على حفظ أول الوقت.

(فضرب على آذانهم) أي ألقى عليهم نوم شديد مانع عن وصل الأصوات إلى الآذان حتى كأنه ضرب الحجاب عليها. أفاده السندي.

وقال في النهاية: هو كناية عن النوم، ومعناه حجب الصوت والحس أن يلح آذانهم فينتبهوا، فكأنها ضرب عليها الحجاب. اهـ.

(حتى أيقظهم حر الشمس، فقال) صلى الله عليه وسلم (توضئوا) وظاهر هذه الرواية أنهم ما ارتحلوا من ذلك الموضع، ولعل هذه واقعة أخرى غير ما تقدم في قصة أبي هريرة رضي الله عنه، ويحتمل أن تكون هي، ولكن الراوي اختصره.

(ثم أذن بلال، فصلى) النبي صلى الله عليه وسلم (ركعتين) أي صلى ركعتي الفجر (وصلوا ركعتي الفجر، ثم صلوا الفجر) أي صلوا صلاة الفجر جماعة. والله أعلم.

تنبيه:

حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه هذا صحيح، وهو من أفراد المصنف، أخرجه هنا (624) بالإسناد المذكور، كما أفاده الحافظ أبو الحجاج المزي في "تحفته": جـ 2 ص 417.

ص: 647

وسائر متعلقات الحديث تعلم مما تقدم، فلا حاجة إلى إعادتها، والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

625 -

أَخْبَرَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ: حَدَّثَنَا حَبِيبٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ هَرِمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَدْلَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ عَرَّسَ، فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، أَوْ بَعْضُهَا، فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ، فَصَلَّى، وَهِيَ صَلَاةُ الْوُسْطَى.

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(أبو عاصم) خشيش بن أصرم السابق في السند المتقدم.

3 -

(حبان بن هلال) بفتح الحاء أبو حبيب البصري، ثقة ثبت، توفي سنة 216، من [9]، تقدم في 590.

3 -

(حبيب) بن أبي حبيب الحرمي البصري، الأنماطِيُّ، اسم أبيه يزيد، صدوق يخطىء، توفي سنة 162، من [7]، أخرج له

البخاري في "خلق أفعال العباد" ومسلم، والنسائي، وابن ماجه، تقدم في 590.

ص: 648

4 -

(عمرو بن هَرِم) بفتح الهاء وكسر الراء، الأزدي البصري، ثقة توفي قبل قتادة، من [6]، أخرج له مسلم والترمذي والنسائي

وابن ماجه، تقدم في 590.

5 -

(جابر بن زيد) أبو الشعثاء البصري، ثقة فقيه، توفي سنة 103، تقدم في 589.

6 -

(ابن عباس) رضي الله عنه، تقدم في (21/ 31). والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن ابن عباس) رضي الله عنهما، أنه (قال: أدلج رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال في النهاية: أدلج بالتخفيف: إذا سار من أول الليل وادلج بالتشديد: إذا سار من آخره، والاسم منهما الدلجة، والدلجة بالضم، والفتح، ومنهم من يجعل الادلاج لليل كله. اهـ.

(ثم عرس) قال في النهاية: التعريس نزول المسافر آخر الليل للنوم والاستراحة، يقال منه: عرس تعريسًا، وأعرس، والمُعَرَّس

موضع التعريس. اهـ.

هكذا قال، لكن الذي في "المصباح": أن عرس بالتثقيل، لنزول المسافر، وأعرس بالهمز لدخول الرجل بامرأته. (فلم يستيقظ حتى طلعت الشمس أو بعضها) تقدم في الرواية السابقة "حتى أيقظهم حر

ص: 649

الشمس"، ولعل هذه واقعة أخرى (فلم يصل حتى ارتفعت الشمس قد يستدل بهذا من قال: لا يصلي من استيقظ حتى ترتفع الشمس، لكن يجاب عن هذا بأنه أخر حتى ترتفع بسبب اشتغاله بالخروج عن محلٍّ حضرهم الشيطان فيه، على أن هذا الحديث فيه مقال (فصلى) صلاة الصبح (وهي صلاة الوسطى) أي أن هذه الصلاة هي صلاة الوسطى، التي أمر الله تعالى بالمحافظة عليها بقوله:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] الآية.

وقد تقدم تحقيق القول في المراد بها وأن الصحيح أنها العصر، للدلائل الصحيحة الصريحة في ذلك، فارجع إلى (14) "باب

المحافظة على صلاة العصر" رقم (472، 473) تستفد علمًا. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

تنبيه:

حديث ابن عباس رضي الله عنه هذا من طريق عمرو بن هرم رجاله ثقات، غير حبيب بن أبي حبيب فمختلف فيه، لكن في متنه نكارة، قال الشيخ الألباني: منكر بزيادة "وهي صلاة الوسطى"، والصحيح أنها صلاة العصر. اهـ "ضعيف النسائي" ص 18. وبالله سبحانه وتعالى التوفيق، وعليه التكلان.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 650

‌7 - كِتَابُ اْلأذَانِ

أي هذا كتاب في ذكر الأحاديث الدالة على مشروعية الأذان للصلاة.

والأذان: بالفتح اسم من التأذين، قال الفَيُّومِي رحمه الله تعالى: وأذَّنَ المؤذِّنُ بالصلاة: أعْلَمَ بها، قال ابن بَرِّي: وقولهم: أذَّنَ العصْرُ بالبناء للفاعل خطأ، والصواب أُذِّنَ بالعصر بالبناء للمفعول مع حرف الصلة، والأذان اسم منه، والفَعَال بالفتح يأتي اسمًا من فَعَّل بالتشديد، مثل وَدَّعَ وَدَاعًا، وسَلَّمْ سَلامًا، وكَلَّمَ كَلامًا، وزَّوجَ زَواجًا، وجَهَّزَ جَهَازًا. اهـ.

وقال الإمام النووي رحمه الله: قال أهل اللغة: أصلُ الأذَان: الإعلام، والأذان للصلاة معروف، يقال فيه: الأذان، والأذِينُ والتَّأذِيْنُ، قاله الهَرَوِيُّ في الغَرِيبين، قال: وقال شيخي: الأذِين المُؤْذِنُ المُعْلِمُ بأوقات الصلاة، فَعِيل بمعنى مُفْعِل.

قال الأزهري: يقال: أذَّن المُؤَّذِنُ تأذينًا، وأذَانًا: أي أعلم الناس بوقت الصلاة، فوضع الاسم موضع المصدر، قال: وأصله من

الأذُنِ، كأنه يُلقِي في آذان الناس بصوته ما يدعوهم إلى الصلاة، اهـ. المجموع جـ 3 ص 75.

وقال في "الفتح". الأذان لغة الإعلام، قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ

ص: 651

مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3]، واشتقاقه من الأذن بفتحتين، وهو الاستماع، وشرعًا: الإعلام بوقت الصلاة بألفاظ مخصوصة. اهـ. "فتح الباري" جـ 2 ص 92. والله تعالى أعلم.

فائدتان:

الأولى: قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: اعلم أن الأذان كلام جامع لعقيدة الإيمان مشتمل على نوعه، من العقليات، والسمعيات؛ فأوله إثبات الذات، وما يستحقه من الكمال، والتنزيه عن أضدادها، وذلك بقوله:"الله أكبر"، وهذه اللفظة مع اختصار لفظها دالة على ما ذكرناه، ثم صرح بإثبات الوحدانية، ونفي ضدها من الشركة المستحيلة في حقه سبحانه وتعالى، وهذه عمدةُ الإيمان والتوحيد، المقدَّمةُ على كل وظائف الدين، ثم صرح بإثبات النبوة، والشهادة بالرسالة لنبينا صلى الله عليه وسلم، وهي قاعدة عظيمة بعد الشهادة بالوحدانية، وموضعها بعد التوحيد، لأنها من باب الأفعال الجائزة الوقوع، وتلك المقدمات من باب الواجبات، وبعد هذه القواعد كملت العقائد العقليات فيما يجب، ويستحيل، ويجوز في حقه سبحانه وتعالى، ثم دعا إلى ما دعاهم إليه من العبادات، فدعا إلى الصلاة، وجعلها عقيب إثبات النبوة، لأن معرفة وجوبها من جهة النبي صلى الله عليه وسلم، لا من جهة العقل، ثم دعا إلى الفلاح، وهو الفوز، والبقاء في النعيم المقيم، وفيه إشعار بأمور الآخرة من البعث والجزاء،

ص: 652

وهي آخر تراجم عقائد الإسلام، ثم كرر ذلك بإقامة الصلاة للإعلام بالشروع فيها، وهو متضمن لتأكيد الإيمان، وتكرار ذكره عند الشروع في العبادة بالقلب واللسان، وليدخل المصلي فيها على بينة من أمره، وبصيرة من إيمانه، ويستشعر عظيم ما دخل فيه، وعظمة حق مَن يَعبُدُهُ، وجزيل ثوابه. انتهى كلام القاضي عياض، قال النووي: وهو من النفائس الجليلة. اهـ. "المجموع" جـ 3 ص 75.

وقال في الفتح بعد ذكر نحو ما ذُكِرَ من كلام القاضي ما نصه:

ويحصل من الأذان الإعلام بدخول الوقت، والدعاءُ إلى الجماعة، وإظهار شرائع الإسلام.

والحكمة في اختيار القول له دون الفعل سهولة القول، وتيسره لكل أحد في كل زمان ومكان اهـ. "فتح الباري" جـ 2 ص 92.

الثانية: اختلف أيهما أفضل: الأذان، أو الإمامة؟ على أقوال:

الأول: أن الإمامة أفضل من الأذان، لأن النبي صلى الله عليه وسلم تولاها بنفسه، وكذلك خلفاؤه الراشدون، ولم يتولوا الأذان، ولا يختارون إلا الأفضل، ولأن الإمامة يُختَار لها من هو أكمل حالًا، وأفضل، واعتبارُ فضيلته دليلُ أفضلية منزلته.

الثاني: أن الأذان أفضل منها، لكثرة ما ثبت في فضيلة الأذان من النصوص، كما يأتي بعضها في "فضل التأذين" 30/ 670،

ص: 653

ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داود بإسناد صحيح، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإمام ضامن، والمؤذن مُؤْتَمَنْ، اللهم أرشد الأئمة، واغفر للمؤذنين"، والأمانة أعلى من الضمان، والمغفرة أعلى من الإرشاد، ولم يَتَولَّهُ النبي صلى الله عليه وسلم، ولا خلفاؤه لضيق وقتهم عنه، ولهذا قال عمر رضي الله عنه:"لولا الخلافة لأذنت".

قال ابن قدامة: وهذا اختيار القاضي، وابن أبي موسى، وجماعة من أصحابنا. اهـ. "المغني" جـ 2 ص 55.

الثالث: أنه إن علم من نفسه القيام بحقوق الإمامة، فهي أفضل، وإلا فالأذان، قال في "الفتح": وفي كلام الشافعي ما يومئ إليه.

واختلف في الجمع بينهما؛ فقيل: يكره، وفي البيهقي من حديث جابر مرفوعًا النهي عن ذلك لكن سنده ضعيف، وصح عن عمر "لو أطيق الأذان مع الخلافة لأذَّنْتُ"، رواه سعيد بن منصور، وغيره، وقيل: هو خلاف الأولى. وقيل: يستحب، وصححه النووي. اهـ. "فتح" جـ 2 ص 92، والله أعلم.

(قال الجامع): هذا الذي صححه النووي رحمه الله هو الذي يظهر لي ترجيحه، والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 654

‌1 - بَدْءُ الآذَانِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على بَدْء الأذان، أي ابتدائه.

والبدء بفتح الموحدة، وسكون الدال، وهمز آخره، مصدر بَدَأتُ الشيءَ، وبالشيءِ، أبْدَأ، وابتدأتُ بِهِ: إذ قَدَّمْتَهُ، وأبْدَأتُ لغة. قاله

الفيومي. والله تعالى أعلم.

626 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلَاةَ، وَلَيْسَ يُنَادِي بِهَا أَحَدٌ، فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ: اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ قَرْنًا مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُودِ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: أَوَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلاً يُنَادِي بِالصَّلَاةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا بِلَالُ، قُمْ فَنَادِ بِالصَّلَاةِ".

ص: 655

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(محمد بن إِسماعيل) بن إبراهيم بن مِقْسَم الأسدي المعروف أبوه بابن علية، أبو عبد الله، ويقال: أبو بكر البصري، نزيل

دمشق، وولي القضاء بها، ثقة، توفي 264، من [11] أخرج له النسائي، تقدم في 489.

2 -

(إِبراهيم بن الحسن) بن الهَيثَم الخَثْعَمِيُّ، أبو إسحاق المِصِّيصيُّ الْمِقْسَمِيُّ، ثقة، من [11]، أخرج له أبو داود والنسائي

وابن ماجه في التفسير، تقدم في 51/ 64.

3 -

(حجاج) بن محمد المصيصي الأعور، أبو محمد، ترمذي الأصْلِ، نزيل بغداد، ثم المصيصة، ثقة ثبت، اختلط لَمَّا قَدِمَ بغداد في آخر عمره، توفي سنة 206، من [9]، تقدم في 28/ 32.

4 -

(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، أبو الوليد، وأبو خالد، المكي، ثقة فقيه فاضل، يدلس ويرسل، توفي سنة

156 أو بعدها، من [6]، أخرج له الجماعة، تقدم في 28/ 32.

5 -

(نافع) العَدَوِيّ مولاهم، أبو عبد الله المدني، ثقة ثبت، فقيه، توفي سنة 127، من [3]، تقدم في 12.

6 -

(عبد الله بن عمر) بن الخطاب الصحابي الجليل رضي الله عنهما، تقدم في 12/ 12.

ص: 656

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات.

ومنها: أنهم ما بين بصري، ثم دمشقي، وهو شيخه محمد بن إسماعيل، ومصيصيين وهما: إبراهيم، وحجاج، ومكي وهو ابن

جريج، ومدنيين وهما: نافع، وابن عمر

ومنها: أن شيخه محمد بن إسماعيل من أفراده.

ومنها: أن فيه ابن عمر أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة من الصحابة رضي الله عنهم. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عبد الله بن عمر) رضي الله عنهما (أنه كان يقول: كان المسلمون حين قدموا المدينة) أي من مكة مهاجرين (يجتمعون) أي للصلاة جماعة (فيتحينون الصلاة) بالحاء المهملة، أي يقدرون حينها، ليأتوا إليها، وهو من التَّحيُّنِ، من باب التفعل الذي وُضِعَ للتكلف غالبًا، وهو من الحِينِ، وهو الوقت، والزمن. قاله العيني.

(وليس يُنَادِي بها أحد) بالبناء للفاعل، و"أحد" فاعله، و"بها" متعلق به.

قيل: كلمة "ليس" بمعنى "لا" النافية، وهي حرف، فلا اسم لها، ولا خبر، وقيل: بل فيها ضمير الشأن، أو اسمها "أحد" قد

ص: 657

أخر. اهـ. سندي.

وعند البخاري: "ليس يُنَادَى بها" بالبناء للمفعول.

قال ابن مالك رحمه الله: هذا شاهد على جواز استعمال "ليس" حرفًا، لا اسم لها، ولا خبر لها، أشار إليها سيبويه، ويحتمل أن

يكون اسمها ضمير الشأن، والجملة بعدها خبرًا. اهـ. عمدة القاري جـ 5 ص 105.

(فتكلموا يومًا في ذلك) أي في شأن وقت الصلاة، ثم بين الكلام الذي تكلموا به بقوله:(فقال بعضهم اتخِذوا) بكسر الخاء بصيغة الأمر، قال الحافظ: لم يقع لي تعيين المتكلمين في ذلك، واختصر الجواب في هذه الرواية، ووقع لابن ماجه من وجه آخر عن ابن عمر:"أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار الناس لِمَا يجمعهم إلى الصلاة، فذكروا البوق، فكرهه من أجل اليهود، ثم ذكروا الناقوس، فكرهه من أجل النصارى".

وفي رواية روح بن عطاء، عن خالد الحذاء عن أبي قلابة، عن أنس، عند أبي الشيخ، فقالوا: لو اتخذنا ناقوسًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ذاك للنصارى"، فقالوا: لو اتخذنا بُوقًا، فقال:"ذاك لليهود"، فقالوا: لو رفعنا نارًا، فقال:"ذاك للمجوس".

(ناقوسًا، مثل ناقوس النصارى) الناقوس: خشبة طويلة، تضرب بخشبة أصغر منها، وقال الفيومي: خشبة طويلة، يَضْرِب بها

ص: 658

النصارى إعلامًا للدخول في صلاتهم، وَنَقَسَ نَقْسًا، من باب قَتَلَ: فَعَلَ ذلك. انتهى.

وقال ابن منظور: والناقوس مِضْرَاب النصارى الذي يضربونه لأوقات الصلاة، قال جرير:(من البسيط):

لَمَّا تَذَكَّرْتُ بِالدَّيْرَيْنِ أرَّقَنِي

صَوْتُ الدَّجَاجِ وَقَرْعٌ بِالنَّوَاقِيس

وذلك أنه كان مُزْمِعًا سفرًا صباحًا، ويروى: وَنَقْسٌ بالنَّوَاقِيسِ، والنَّقْسُ الضرب بالناقوس، والنَّقس: ضرب من النواقيس، وهي

الخشبة الطويلة، والوَبيلة، والوَبِيلُ: الخشبة القصيرة. اهـ.

(وقال بعضهم: بل) اتخذوا (قرنًا مثل قرن اليهود) أي قرنًا يُنْفخُ فيه، فيخرج منه صوت يكون علامة للأوقات، كما كانت اليهود يفعلونه، وهذا هو الذي يسمى بُوقًا، بضم الباء، قاله السندي.

وقال في "الفتح": والبوق، والقرن: معروفان، والمراد أنه ينفخ فيه، فيجتمعون عند سماع صوته، وهو من شِعَار اليهود، ويسمى أيضًا "الشَّابُّور" بالشين المعجمة المفتوحة، والموحدة المضمومة الثقيلة. اهـ.

(فقال عمر رضي الله عنه: أولا تبعثون رجلًا) الهمزة للاستفهام، والواو للعطف على مقدر، أي أتقولون بموافقتهم، ولا تبعثون، وقال الطيبي: الهمزة إنكار للجملة الأولى، أي المقدرة، وتقرير للجملة الثانية.

ص: 659

(ينادي بالصلاة) بالبناء للفاعل، والجملة صفة لـ "رجلًا".

قال السندي: حُمِلَ النداءُ ها هنا على نحو: "الصلاة جامعة"، لا على الأذان المعهود، لأن ظاهر الحديث أن عمر قال ذلك وقت المذاكرة، والأذان المعهود إنما كان بعد الرؤيا، وعلى هذا فإدراج المصنف الحديث في الباب لأن هذا النداء كان من جملة بداءة الأذان، ومقدماته، وقيل يمكن حمله على الأذان المعهود باعتبار أن في الكلام تقديرًا للاختصار، مثل فافترقوا، فرأى عبد الله بن زيد الأذان، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقص عليه رؤياه، فقال عمر: أولا تبعثون رجلًا؟ ويرد عليه أن عمر حضر بعد أن سمع صوت ذلك الأذان على ما يفيده حديث عبد الله بن زيد رائي الأذان، فلا يصح بالنظر إلى ذلك الأذان أن عمر قال: أولا تبعثون رجلًا؟ وقد يجاب بأنه يجوز أن يكون عمر في ناحية من نواحي المسجد حين جاء عبد الله ابن زيد برؤيا الأذان عنده صلى الله عليه وسلم، فلما قص الرؤيا سمع الصوت حين ذلك، فحضر عنده صلى الله عليه وسلم، وأشار بقوله: أولا تبعثون رجلًا؟ إلى أن عبد الله لا يصلح لذلك، فابعثوا رجلًا آخر يصلح له. والله أعلم، انتهى كلام السندي.

قال الجامع: العمل الأول هو الصحيح، لما يأتي في كلام الحافظ. فتنبه.

وقال القرطبي: يحتمل أن يكون عبد الله بن زيد لما أخبر برؤياه،

ص: 660

وصدقه النبي صلى الله عليه وسلم بادر عمر، فقال: أولا تبعثون رجلًا ينادي -أي يؤذن- للرؤيا المذكورة؟، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"قم يا بلال"، فعلى هذا فالفاء في سياق حديث ابن عمر هي فاء الفصيحة، والتقدير فافترقوا، فرأي عبد الله بن زيد، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقص عليه فصدقه، فقال عمر

قال الحافظ رحمه الله: وسياق عبد الله بن زيد يخالف ذلك، فإن فيه أنه لما قص رؤياه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: ألقها على بلال، فليؤذن بها، قال: فسمع عمر الصوت فخرج، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لقد رأيت مثل الذي رأى، فدل على أن عمر لم يكن حاضرًا لما قص عبد الله بن زيد رؤياه.

والظاهر أن إشارة عمر بإرسال رجل ينادي للصلاة كانت عقيب المشاورة فيما يفعلونه، وأن رؤيا عبد الله بن زيد كانت بعد ذلك. والله أعلم.

وقد أخرج أبو داود بسند صحيح إلى أبي عمير بن أنس عن عمومته من الأنصار، قالوا: "اهتم النبي صلى الله عليه وسلم، كيف يجمع الناس لها؟، فقال: أنصب راية عند حضور وقت الصلاة، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضًا، فلم يُعْجِبْهُ

" الحديث، وفيه ذكروا القُنْع -بضم القاف، وسكون النون، يعني البوق- وذكروا الناقوس، فانصرف عبد الله بن زيد، وهو مهتم، فأري الأذان، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:

ص: 661

وكان عمر رآه قبل ذلك، فكتمه عشرين يومًا، ثم أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما منعك أن تخبرنا؟ " قال: سبقني عبد الله بن زيد، فاستحييت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا بلال قم، فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد، فافعله"، ترجم له أبو داود "بدء الأذان".

وقال أبو عمر بن عبد البر: روى قصة عبد الله بن زيد جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة، ومَعَانٍ متقاربة، وهي من وجوه حِسَان، وهذا أحسنها.

قال الحافظ: وهذا لا يخالف ما تقدم أن عبد الله بن زيد لما قص منامه فسمع عمر الأذان، فجاء، فقال: قد رأيت، لأنه يحمل على أنه لم يخبر بذلك عقب إخبار عبد الله، بل متراخيًا عنه، لقوله:"ما منعك أن تخبرنا"، أي عقب إخبار عبد الله، فاعتذر بالاستحياء، فدل على أنه لم يخبر بذلك على الفور، وليس في حديث أبي عمير التصريح بأن عمر كان حاضرًا عند قص عبد الله رؤياه، بخلاف ما وقع في روايته التي ذكر بها "فسمع عمر الصوت، فخرج، فقال"، فإنه صريح في أنه لم يكن حاضرًا عند قص عبد الله. والله أعلم. اهـ. "فتح الباري" جـ 2 ص 96، 97.

قال الجامع: والحاصل أن الراجح في معنى قول عمر رضي الله عنه: أوَلا تبعثون رجلًا، يُنَادِي بالصلاة؟، هو النداء المطلق، كقوله:"الصلاة جامعة"، لا النداء المعهود. والله أعلم.

ص: 662

(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال قم). قال عياض، وغيره: فيه حجة لشرع الأذان قائمًا، قال الحافظ: وكذا احتج ابن خزيمة، وابن المنذر، وتعقبه النووي بأن المراد بقوله:"قم" أي اذهب إلى موضع بارز، فناد فيه بالصلاة ليسمعك الناس، قال: وليس فيه تعرض للقيام في حال الأذان. انتهى.

قال الحافظ: وما نفاه ليس ببعيد من ظاهر اللفظ، فإن الصيغة محتملة للأمرين، وإن كان ما قاله أرجح.

قال الجامع: بل الأرجح عكس ما قاله، لكونه أوفق لظاهر اللفظ، فالحديث دليل على شرعية القيام للأذان. فتنبه. والله أعلم.

ونقل عياض أن مذهب العلماء كافة أن الأذان قاعدًا لا يجوز، إلا أبا ثور، ووافقه أبو الفرج المالكي، وتعقب بأن الخلاف معروف عند الشافعية، وبأن المشهور عند الحنفية كُلِّهم أن القيام سنة، وأنه لو أذن قاعدًا صح، والصواب ما قاله ابن المنذر أنهم اتفقوا على أن القيام من السنة. اهـ. فتح الباري جـ 2 ص 97. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من طريق ابن جريج متفق عليه.

ص: 663

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا (626) وفي "الكبرى"(1591) عن محمد بن إسماعيل ابن علية، وإبراهيم بن الحسن كلاهما عن حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن نافع عنه. والله أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي، فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن محمود بن غيلان، عن عبد الرزاق.

وأخرجه مسلم فيه عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق- وعن إسحاق بن إبراهيم، عن محمد بن بكر- وعن هارون بن عبد الله، عن حجاج بن محمد- ثلاثتهم عن ابن جريج به.

وأخرجه الترمذي فيه عن أبي بكر بن أبي النضر، عن حجاج به. والله أعلم.

المسأله الرابعة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف، وهو بيان ابتداء الأذان، وهذا إذا قلنا: إن قوله: "قم يا بلال فناد بالصلاة" محمول على النداء المعهود، وقد عرفت ما فيه.

ومنها: حرص الصحابة على أداء الصلاة جماعة، حيث إنهم يجتمعون من غير أن يكون هناك أذان.

ص: 664

ومنها: مشروعية التشاور في الأمور المهمة، وإبداء المرءوس ما عنده من الرأي إلى الرئيس فيما يراه مصلحة.

ومنها: أنه يجب أن نخالف اليهود والنصارى فيما يستعملونه في عباداتهم.

ومنها: مشروعية القيام للأذان على ما قيل في: "قم يا بلال"، وهو الذي تقدم ترجيحه. والله تعالى أعلم.

المسألة الخامسة: في بيان مذاهب العلماء في حكم الأذان:

قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: "ذكر الأمر بالأذان، ووجوبه:

قال الله عز وجل: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] الآية. وقال تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} [المائدة: 58] الآية.

قال أبو بكر: ولا نعلم أذانًا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا للصلاة المكتوبة، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالأذان، والإقامة للمسافر، ثم أخرج بسنده عن مالك بن الحويرث أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم هو وصاحب له، فقال:"إذا سافرتما، فأذنا، ثم أقيما، وليؤمكما أكبركما". قال أبو بكر: فالأذان والإقامة واجبان على كل جماعة في الحضر والسفر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالأذان، وأمره على الفرض، وقد

ص: 665

أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا محذورة أن يؤذن بمكة، وأمر بلالًا بالأذان، وكل هذا يدل على وجوب الأذان.

وقد اختلف أهل العلم فيمن صلى بغير أذان ولا إقامة، فروي عن عطاء أنه قال فيمن نسي الإقامة: يعيد الصلاة، وبه قال الأوزاعي، ثم قال الأوزاعي فيمن نسي الأذان يعيد ما دام في الوقت، فإن مضى الوقت، فلا إعادة عليه.

وكان يقول في الأذان والإقامة: يجزئ أحدهما عن الآخر، وقد روي عن مجاهد أنه قال: من نسي الإقامة في السفر أعاد.

وقال مالك: إنما يجب النداء في مساجد الجماعة التي يجمع فيها الصلاة.

وقالت طائفة: لا إعادة على من ترك الأذان والإقامة، وروينا عن الحسن أنه قال: من نسي الإقامة في السفر فلا إعادة عليه، وكذلك قال النخعي، وقال الزهري وقتادة: من نسي الإقامة لم يعد صلاته، وقال مالك: لا شيء عليه إذا صلى بغير إقامة، وإن تعمد يستغفر الله، ولا شيء عليه. وقال أحمد، وإسحاق، والنعمان، وصاحباه في قوم صلوا بغير أذان، ولا إقامة، قالوا: صلاتهم جائزة. اهـ. "الأوسط" جـ 3 ص 24، 25.

وقال أبو محمد بن حزم رحمه الله: ولا تجزئ صلاة فريضة في جماعة -اثنين فصاعدًا- إلا بأذان وإقامة، سواء كانت في وقتها، أو

ص: 666

كانت مقضية لنوم أو لنسيان، متى قضيت، السفرُ والحضرُ سواء في كل ذلك؛ فإن صلى شيئًا من ذلك بلا أذان ولا إقامة، فلا صلاة لهم، حاشا الظهر والعصر بعرفة، والمغرب والعتمة بمزدلفة، فإنهما يجمعان بأذان لكل صلاة، وإقامة للصلاتين معًا

(1)

، للأثر في ذلك.

ثم ذكر حديث مالك بن الحويرث المتقدم، ثم قال: وما نعلم لمن لم ير ذلك فرضًا حُجَّةً أصلًا، ولو لم يكن إلا استحلال رسول الله صلى الله عليه وسلم دماء من لم يسمع عندهم أذانًا، وأموالهم، وسبيهم لكفى في وجوب فرض ذلك، وهو إجماع متيقن من جميع من كان معه من الصحابة رضي الله عنهم بلا شك. انتهى "المحلى" جـ 3 ص 122 - 125.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن وجوب الأذان والإقامة هو الراجح، للأدلة الكثيرة.

منها: حديث مالك بن الحويرث الآتي (634) بلفظ الأمر "فأذِّنَا، وأقيما"، وفي رواية "فليؤذن لكم أحدكم".

ومنها: حديث أنس المتفق عليه الآتي (627) أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالًا أن يشفع الأذان، وأن يوتر الإقامة.

ومنها: حديث عبد الله بن زيد، حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"إنها لرؤيا حق إن شاء الله، ثم أمر بالتأذين" رواه أبو داود وغيره،

(1)

هكذا عبارة "المحلى" ولعل الصواب "بأذان للصلاتين معًا، وإقامة لكل صلاة" فليحرر.

ص: 667

وصححه ابن خزيمة، وغيره.

ومنها: حديث عثمان بن أبي العاص "اتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا، يأتي برقم (672)، ومنها حديث أنس رضي الله عنه عند البخاري وغيره، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا بنا قومًا، لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذانًا كف عنهم، وإن لم يسمع أذانًا أغار عليهم".

ومنها: طول الملازمة من أول الهجرة إلى الموت، لم يثبت أنه ترك ذلك في سفر ولا حضر.

والحاصل أن أدلة الوجوب كثيرة قولًا، وفعلًا، فوجب القول بالوجوب، كما قال ابن المنذر، وابن حزم رحمهما الله تعالى. والله

أعلم.

تنبيه:

الذين قالوا بوجوب الأذان والإقامة خصوه بالرجال دون النساء، واستدلوا بحديث "ليس على النساء أذان، ولا إقامة" رواه البيهقي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بإسناد صحيح، إلا أنه قال ابن الجوزي: لا يعرف مرفوعًا، وقد رواه البيهقي، وابن عدي من حديث أسماء مرفوعًا، وفي إسناده الحكم بن عبد الله الأيلي، وهو ضعيف جدًا. أفاده في "التلخيص الحبير" جـ 1 ص 211. والله تعالى أعلم.

المسألة السادسة: الأصل في الأذان هو ما أخرجه أبو داود في

ص: 668

سننه بسند صحيح عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه، قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يُعمل ليُضرَب به للناس لجمع الصلاة، طاف بي وأنا نائم رجل يَحمِلُ ناقوسًا في يده، فقلت: يا عبد الله، أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت: بلى، قال: فقال: تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.

قال: ثم استأخر عني غير بعيد، ثم قال: وتقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا

رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله.

فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بما رأيت، فقال:"إنها لرؤيا حق، إن شاء الله، فقم مع بلال، فألق عليه ما رأيت، فليؤذن به، فإنه أندى صوتًا منك"، فقمت مع بلال، فجعلت ألقيه عليه، ويؤذن به، قال: فسمع عمر بن الخطاب، وهو في بيته، فخرج يجر رداءه، ويقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله، لقد

ص: 669

رأيت مثل ما رأى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فلله الحمد".

وأخرج ابن ماجه نحوه، وزاد: قال أبو عبيد

(1)

: فأخبرني أبو بكر الحكمي، أن عبد الله بن زيد الأنصاري، قال في ذلك (من الخفيف):

أحْمَدُ اللهَ ذَا الْجَلالِ وَذا الإِكْـ

ـرَامِ حَمْدًا علَى الأذَانِ كَثِيرَا

إِذْ أتَانِي بِهِ البَشِيرُ مِنَ اللَّـ

هِ فَأكْرمْ بِهِ لَدَيَّ بَشِيرَا

فِي لَيَالٍ وَالَى بِهِنَّ ثَلاثٍ

كُلَّمَا جَاءَ زَادَنِي تَوْقِيرَا

المسألة السابعة: أنه قد استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبد الله ابن زيد، لأن رؤيا غير الأنبياء لا ينبني عليها حكم شرعي، وأجيب باحتمال مقارنة الوحي لذلك، أو لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بمقتضاها، لينظر أيقر على ذلك أم لا، ولاسيما لما رأى نظمها يبعد دخول الوسواس فيه، وهذا ينبني على القول بجواز اجتهاده صلى الله عليه وسلم في الأحكام وهو المنصور في الأصول، ويؤيد الأول ما رواه عبد الرزاق، وأبو داود في المراسيل من طريق عبيد بن عمير الليثي أحد كبار التابعين: أن عمر لما رأى الأذان جاء ليخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فوجد الوحي قد ورد بذلك، فما راعه إلا أذان بلال، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"سبقك بذلك الوحي".

قال الحافظ: وهذا أصح مما حكى الداودي عن ابن إسحاق أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان قبل أن يخبره عبد الله بن زيد، وعمر

(1)

هو شيخ ابن ماجه، محمد بن عبيد بن ميمون المدني صدوق، من الطبقة العاشرة مات سنة 251، والحديث عند ابن ماجه حديث حسن، لكن الأبيات فيها انقطاع.

ص: 670

بثمانية أيام، وأشار السهيلي إلى أن الحكمة في ابتداء شرع الأذان على لسان غير النبي صلى الله عليه وسلم التنويه بعلو قدره على لسان غيره، ليكون أفخم لشأنه. والله أعلم. انتهى "فتح الباري" جـ 2 ص 98.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 671

‌2 - تَثْنِيَةُ الأذَانِ

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على تثنية الأذان، والمراد غير التكبير في أوله، ففيه التربيع، وكلمة التوحيد في آخره، ففيها

الإفراد.

627 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِلَالاً أَنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ، وَأَنْ يُوتِرَ الإِقَامَةَ.

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(قتيبة بن سعيد) البغلاني أبو رجاء، ثقة ثبت، توفي سنة 240، من [10]، تقدم في 1/ 1.

2 -

(عبد الوهاب) بن عبد المجيد بن الصَّلْت الثقفي، أبو محمد البصري، ثقة تغير قبل موته بثلاث سنين، توفي سنة 194 عن نحو 80 سنة، من [8]، أخرج له الجماعة، تقدم في 42/ 48.

3 -

(أيوب) بن أبي تميمة كيسان السختياني، أبو بكر العَنَزي مولاهم البصري، ثقة ثبت حجة من كبار الفقهاء العباد، توفي سنة 131 عن 65 سنة، من [5]، تقدم في 42/ 48.

ص: 672

4 -

(أبو قلابة) عبد الله بن زيد بن عمرو، أو عامر الجرمي البصري، ثقة فاضل كثير الإرسال، قيل: فيه نَصْب يسير، توفي

بالشام هاربًا من القضاء سنة 104، وقيل: بعدها، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 203/ 322.

5 -

(أنس) بن مالك أبو حمزة الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسياته، وأن رجاله كلهم ثقات، اتفقوا عليهم، وأنهم بصريون، إلا شيخه فَبَغْلانِيّ، وفيه أنس رضي الله عنه أحد

المكثرين السبعة، وآخر من مات بالبصرة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أنس) بن مالك رضي الله عنه أنه (قال: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالًا أن يشفع الأذان) بفتح أوله، وفتح الفاء، من باب "نفع"، يقال: شفعت الشيء شفعًا: إذا ضممته إلى الفرد، يعني أن يأتي بألفاظه مرتين، مرتين.

وهذا محمول على التغليب، وإلا فكلمة التوحيد في آخره مفردة، وكذا التكبير في أوله على اختلاف الروايات في ذلك، على ما يأتي

ص: 673

تحقيقه، إن شاء الله تعالى.

(و) أمر أيضًا (أن يوتر الإِقامة) أي يأتي بألفاظها مرة مرة، والمراد أغلبها، وإلا فالتكبير في أولها وآخرها يثنى، وكذا جملة "قد

قامت الصلاة" فإنها تثنى أيضًا، أو معناه أن يجعل على نصف الأذان فيما يصلح للانتصاف، فلا يشكل بتكرار التكبير في أولها وآخرها وجملة "قد قامت الصلاة"، وسيأتي تحقيق القول في ذلك إن شاء الله تعالى، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أنس رضي الله عنه هذا من رواية أبي قلابة عنه متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف:

أخرجه هنا (627)، وفي "الكبرى"(1592)، عن قتيبة عن عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن أبي قلابة عنه. والله أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه الجماعة، فأخرجه البخاري في "الأذان"، وفي ذكر بني إسرائيل عن عمران بن ميسرة، عن عبد الوارث، وفي "الصلاة" عن محمد بن سَلام، عن عبد الوهاب الثقفي- وعن علي بن عبد الله

(1)

عن

(1)

قال الحافظ رواية علي تحتاج إلى مراجعة. اهـ. النكت جـ 1 ص 252.

ص: 674

إسماعيل بن علية- ثلاثتهم، عن خالد الحذاء- وعن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن سماك بن عطية، عن أيوب- كلاهما عن أبي قلابة، عنه.

وأخرجه مسلم في "الصلاة" عن خَلَف بن هشام، عن حماد بن زيد- وعن يحيى بن يحيى، عن ابن علية- وعن إسحاق بن إبراهيم، عن الثقفي- وعن محمد بن حاتم، عن بهز، عن وهيب- أربعتهم عن خالد الحذاء به- وعن عبيد الله بن عمر القواريري، عن الثقفي، وعبد الوارث- كلاهما عن أيوب به.

وأخرجه أبو داود في "الصلاة" عن سليمان بن حرب، وعن عبد الرحمن بن المبارك العيشي، كلاهما عن حماد بن زيد، عن سماك ابن عطية- وعن موسى بن إسماعيل، عن وهيب- كلاهما عن أيوب به. وعن حميد بن مَسْعَدة، عن إسماعيل بن علية، عن خالد به.

وأخرجه الترمذي في "الصلاة" عن قتيبة، عن الثقفي، ويزيد بن زريع، كلاهما، عن خالد به.

وأخرجه ابن ماجه في "الصلاة" عن عبد الله بن الجَرَّاح، عن المعتمر ابن سليمان- وعن نصر بن علي، عن عمر بن علي المُقَدَّميّ- كلاهما عن خالد الحذاء به. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: أنه وقع في رواية حديث الباب عند الشيخين "وأن يوتر الإقامة إلا الإقامة"، بزيادة الاستثناء، والمراد بالمنفي غير المراد

ص: 675

بالمثبت، فالمراد بالمثبت جميع الألفاظ المشروعة عند القيام إلى الصلاة، والمراد بالمنفي خصوص قوله:"قد قامت الصلاة" ففيه الجِنَاسُ.

وادعى ابن منده أن قوله "إلا الإقامة" من قول أيوب غير مسند، كما في رواية إسماعيل بن إبراهيم، وأشار إلى أن في رواية سماك بن عطية هذه إدراجًا، وكذا قال أبو محمد الأصيلي: قوله: "إلا الإقامة" هو من قول أيوب، وليس من الحديث.

قال الحافظ: وفيما قالاه نظر، لأن عبد الرزاق رواه عن معمر عن أيوب بسنده متصلًا بالخبر مفسرًا، ولفظه:"كان بلال يثني الأذان، ويوتر الإقامة إلا قوله: قد قامت الصلاة"، وأخرجه أبو عوانة في صحيحه، والسَّرَّاج في مسنده" وكذا هو في مصنف عبد الرزاق. وللإسماعيلي من هذا الوجه "ويقول: قد قامت الصلاة مرتين".

قال الحافظ: والأصل أن ما كان في الخبر فهو منه حتى يقوم دليل على خلافه، ولا دليل في رواية إسماعيل، لأنه إنما يتحصل منها أن خالدًا كان لا يذكر الزيادة، وكان أيوب يذكرها، وكل منهما روى الحديث عن أبي قلابة، عن أنس، فكان في رواية أيوب زيادة من حافظ، فتقبل. والله أعلم.

وقد استشكل عدم استثناء التكبير في الإقامة، وأجاب بعض الشافعية بأن التثنية في تكبيرة الإقامة بالنسبة إلى الأذان إفراد. قال

ص: 676

الشافعية بأن التثنية في تكبيرة الإقامة بالنسبة إلى الأذان إفراد. قال النووي: ولهذا يستحب أن يقول المؤذن كلَّ تكبيرتين بنفس واحد. قال الحافظ: وهذا إنما يتأتى في أول الأذان، لا في التكبير الذي في آخره. وعلى ما قال النووي ينبغي للمؤذن أن يفرد كل تكبيرة من اللتين في آخره بنفس، ويظهر بهذا التقرير ترجيح قول من قال بتربيع التكبير في أوله على من قال بتثنيته، مع أن لفظ "الشفع" يتناول التثنية والتربيع. فليس في لفظ حديث الباب ما يخالف ذلك. اهـ. "فتح الباري" جـ 2 ص 99.

قال الجامع: قول النووي رحمه الله: يستحب للمؤذن أن يقول كل تكبيرتين بنفس واحد يحتاج إلى دليل. والله أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

628 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي الْمُثَنَّى، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ الأَذَانُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَثْنَى مَثْنَى، وَالإِقَامَةُ مَرَّةً مَرَّةً، إِلاَّ أَنَّكَ تَقُولُ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ.

رجال الإسناد: ستة

1 -

(عمرو بن علي) الفَلاس الصيرفي البصري، ثقة ثبت

ص: 677

حافظ، من [10]، تقدم في 4/ 4.

2 -

(يحيى بن سعيد) القطان أبو سعيد البصري ثقة ثبت حجة حافظ، من [9]، تقدم في 4/ 4.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الواسطي، ثم البصري ثقة ثبت حجة إمام، من [7]، تقدم في 24/ 26.

4 -

(أبو جعفر) محمد بن إبراهيم بن مسلم بن مِهْران بن المُثَنَّى المؤذن الكوفي، وقد ينسب لجد أبيه، ولجد جده، صدوق يخطئ، من [7].

وفي "تت": محمد بن إبراهيم بن مسلم بن المثنى، ويقال: محمد بن مِهْران، ويقال: محمد بن المثنى، ويقال: ابن أبي المثنى، وأبو المثنى كنية جده مسلم، ويقال: كنية مهران، القرشيُّ مولاهم، أبو جعفر، ويقال: أبو إبراهيم الكوفي، ويقال: البصري، مؤذن مسجد العريان. روى عن جده أبي المثنى مسلم بن مهران، وحماد بن أبي سليمان، وسلمة بن كهيل، وعلي بن بَذيمَة. وروى عنه شعبة، وكناه أبا جعفر، ولم يسمه، وأبو داود الطيالسي، فقال: حدثنا محمد بن مسلم بن مهران، وأبو قتيبة، فقال: ثنا محمد بن المثنى، ويحيي القطان، فقال: محمد بن مهران، وموسى بن إسماعيل، فقال كما في أول الترجمة، وأبو الوليد الطيالسي، فقال: محمد بن مسلم بن المثنى.

ص: 678

قال الدوري عن ابن معين: محمد بن مسلم بن المثنى ليس به بأس، روى عنه يحيى القطان، ويروي عنه أبو الوليد، ويروي شعبة عن أبيه مسلم بن المثنى، وروى إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي المثنى، وهو هذا. وقال الدارقطني: بصري يحدث عن جده، ولا بأس بهما. وقال ابن حبان في الثقات: كان يخطئ. وقال ابن عدي: ليس له من الحديث إلا اليسير، ومقدار ماله لا يتبين صدقه من كذبه. له عند أبي داود والترمذي حديث ابن عمر في الصلاة قبل العصر، وعند أبي داود والنسائي حديثه هذا في الأذان. وقال ابن حبان: وهو الذي يروي عنه ابن المبارك عن سلمة بن كهيل، ويصحف اسمه، فيقول: مسلم بن إبراهيم، قال الحافظ: وهذه فائدة جليلة. وقال ابن عدي: يكنى أبا المثنى، وساق من طريق أبي داود الطيالسي: ثنا محمد بن مسلم بن مهران، يكنى أبا المثنى، فلعل مراد أبي داود بالذي يكنى الجد. أخرج له أبو داود، والترمذي، والمصنف.

5 -

(أبو المثنى) مسلم بن المثنى، ويقال: ابن مهران بن المثنى الكوفي المؤذن، ويقال: اسمه: مهران، ثقة، من [4].

روى عن ابن عمر، وعنه حفيده أبو جعفر محمد بن إبراهيم بن مسلم، وإسماعيل بن أبي خالد، وحجاج بن أرطاة. قال أبو زرعة:

ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. أخرج له أبو داود، والترمذي، والمصنف.

ص: 679

6 -

(ابن عمر) عبد الله الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 12/ 12. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسياته، وأن رجاله ثقات، إلا أبا جعفر، فلا بأس به، وهم ما بين بصريين، وهم إلى شعبة، وكوفيين، وهم الباقون، إلا ابن عمر، فمدني، وفيه رواية الراوي عن جده. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن ابن عمر) رضي الله عنهما، أنه (قال: كان الأذان) ولأبي داود: "إنما كان الأذان"(على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي في زمنه (مثنى مثنى) معدول من اثنين اثنين، غير منصرف للوصفية والعدل، كما قال ابن مالك رحمه الله:

وَمَنْعُ عَدْلٍ مَعَ وَصْفٍ مُعْتَبَرْ

فِي وَزْنَ مَثْنَى وَثَلاثَ وَأخَرْ

أي مرتين مرتين، يعني أن المؤذن يقول كل كلمة مرتين، والمراد غير كلمة التوحيد، فإنها مرة، والتكبير، فإن فيه التربيع أيضًا.

(والإِقامة مرة مرة) أي كانت كلمات الإقامة مفردة (إِلا أنك تقول: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة) أي تكررها مرتين.

والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.

ص: 680

تنبيهان:

الأول: حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من رواية أبي المثنى مسلم بن المثنى حديث حسن أخرجه المصنف هنا (628) وفي "الكبرى"(1593) عن عمرو بن علي، عن يحيى القطان، عن شعبة، عن أبي جعفر محمد بن إبراهيم المؤذن، عن أبي المثنى مسلم بن المثنى المؤذن، عنه، وفي (668) عن عبد الله بن محمد بن تميم، عن حجاج، عن شعبة، عن أبي جعفر به، بزيادة "فإذا سمعنا قد قامت الصلاة توضأنا، ثم خرجنا إلى الصلاة".

وأخرجه أبو داود في الصلاة عن محمد بن بشار عن غندر- وعن محمد بن يحيى الذهلي، عن أبي عامر العقدي- كلاهما عن شعبة به.

وفي حديث حجاج عن شعبة، قال: سمعت أبا جعفر، عن مسلم، قال شعبة: لم أسمع أبا جعفر غيره أفاده المزي في تحفته جـ 6 ص 49.

الثاني: أنه يستفاد من هذا الحديث ما ترجم له المصنف، وهو كون الأذان مثنى مثنى، وإفراد ألفاظ الإقامة إلا قوله: قد قامت

الصلاة، فيثنى، وفيه اختلاف بين أهل العلم سنحققه في شرح حديث (630) إن شاء الله تعالى.

ص: 681

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 682

‌3 - خَفْضُ الصَّوْتِ فِي التَّرْجِيعِ فِي الأذَانِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية خفض الصوت بسبب الترجيح في حال الأذان. والترجيع بالتثقيل مصدر رَجَّع،

يُرَجِّع، يقال: رَجَّع في أذانه بالتثقيل: إذا أتى بالشهادتين مرة خفضًا، ومرة رفعًا. قاله الفيومي. والله تعالى أعلم.

629 -

أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ، وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي مَحْذُورَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَبْدُ الْعَزِيزِ وَجَدِّي عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقْعَدَهُ، فَأَلْقَى عَلَيْهِ الأَذَانَ حَرْفًا حَرْفًا، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: هُوَ مِثْلُ أَذَانِنَا هَذَا، قُلْتُ لَهُ: أَعِدْ عَلَيَّ. قَالَ: "اللهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ مَرَّتَيْنِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ بِصَوْتٍ دُونَ ذَلِكَ الصَّوْتِ، يُسْمِعُ مَنْ حَوْلَهُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ مَرَّتَيْنِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ مَرَّتَيْنِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ مَرَّتَيْنِ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ".

ص: 683

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(بشر بن معاذ) العَقَدِي -بفتح العين المهملة، والقاف- أبو سهل البصري الضرير، صدوق، من [10].

قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه؟ فقال: صالح الحديث صدوق. وقال مسلمة: بصري صالح. وكذا قال النسائي في أسماء

شيوخه، وأخرج في كتاب الإخوة عن الفضل بن العباس، عن محمد ابن حاتم، عنه. وقال ابن حبان في الثقات: مات سنة 245 أو قبلها بقليل، أو بعدها بقليل، أخرج عنه المصنف، والترمذي، وابن ماجه.

2 -

(إِبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي مَحْذُورَة) الجُمَحيُّ أبو إسماعيل المكي، صدوق، يخطئ، من [7].

روى عن أبيه، وعن جده، وعنه الحميدي، والشافعي، وبِشْر بن مُعَاذ العقدي، وعبد الله بن عبد الوهاب الحَجَبيُّ، وأبو جعفر النُّفَيْلِي، وغيرهم.

قال الحافظ: نقل عن ابن معين تضعيفه، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ.

وقال الأزدي: إبراهيم بن أبي محذورة، وإخوته يضعفون.

ص: 684

أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد، والمصنف، والترمذي.

3 -

(عبد العزيز بن عبد الملك) بن أبي محذورة الجمحي المكي، مقبول، من [6]، أخرجه له الأربعة.

روى عن جده حديث الأذان، وقيل: عن عبد الله بن محيريز، وعنه ابنه إبراهيم، وابن جريج وأبو سعيد محمد بن سعيد الطائفي.

روى له الأربعة حديث الأذان، ووقع في رواية ابن السني، عن النسائي، عن بشر بن معاذ، عن إبراهيم بن عبد العزيز، حدثني أبي

عبد العزيز، حدثني جدي عبد الملك، عن أبي محذورة .. وهو وَهَم، والصواب ما رواه الترمذي عن بشر بن معاذ، عن إبراهيم،

حدثني أبي وجدي جميعًا عن أبي محذورة. وكذا في رواية أبي علي، عن الأسيوطي، عن النسائي.

وكذا رواه إسحاق بن راهويه، عن إبراهيم، ورواه ابن خزيمة في صحيحه عن بشر بن معاذ بهذا الإسناد، وقال عقبه: عبد العزيز لم يسمع هذا الخبر من أبي محذورة، إنما رواه عن ابن محيريز، عنه.

ثم رواه من طريق ابن جريج، عن عبد العزيز: أن عبد الله بن محيريز أخبره، عن أبي محذورة، فعلى هذا يكون إبراهيم بن عبد العزيز أدرج حديث أبيه على حديث جده، وأسقط شيخ أبيه. والله أعلم. اهـ "تت".

ص: 685

قال الجامع: نسخ "المجتبى" التي بين أيدينا على الصواب. ولم أر النسخة التي أشار إليها أنها من رواية ابن السني. والله أعلم.

4 -

(عبد الملك بن أبي محذورة) الجُمَحِيُّ، مقبول، من [3]، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد وأبو داود والترمذي والنسائي.

روى عن أبيه، وعن عبد الله بن محيريز عنه. وعنه أولاده عبد العزيز، ومحمد، وإسماعيل، وحفيداه: إبراهيم بن إسماعيل، وإبراهيم بن عبد العزيز، والنعمان بن راشد، ونافع بن عمر، وأبو البهلول الهذيل بن بلال. ذكره ابن حبان في الثقات.

5 -

(أبو مَحْذُورَة) القرشي الجُمَحي المكي المؤذن. له صحبة، قيل: اسمه أوس، وقيل: سَمُرَة، وقيل: سَلَمَة، وقيل: سلمان، واسم أبيه مِعْيَر -بكسر، فسكون المهملة، ففتح التحتانية- وقيل: عُمَير ابن لَوْذَان بن وهب بن سعد بن جمح، وقيل: ابن لوذان بن ربيعة بن عويج ابن سعد بن جمح.

روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، روى عنه ابنه عبد الملك، وابن ابنه عبد العزيز ابن عبد الملك على خلاف، وزوجته أم عبد الملك، وعبد الله بن محيريز، والأسود بن يزيد النخعي، والسائب المكي، وأوس بن خالد، وعبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، وأبو سليمان المؤذن.

قال الزبير: كان أحسن الناس أذانًا، وأنداهم صوتًا. قال له عمر

ص: 686

يومًا، وسمعه يؤذن: كدت أن تنشق مريطاؤك

(1)

. قال وأنشدني عمي لبعض شعراء قريش. (من الرجز):

أَمَا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ المْسْتُورَهْ

وَمَا تَلا مُحَمّدٌ مِنْ سُورَهْ

وَالنَّغَمَاتِ مِنْ أبِي مَحْذُورَهْ

لأَفْعَلَنَّ فعْلَةً مَذْكُورَهْ

وقال علي بن زيد بن صوحان، عن أوس بن خالد: كنت إذا قدمت على أبي محذورة سألني عن رجل، وإذا قدمت على الرجل سألني عن أبي محذورة، فسألت أبا محذورة عن ذلك؟ فقال: كنت أنا، وأبو هريرة، وفلان في بيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"آخركم موتًا في النار"، فمات أبو هريرة، ثم مات أبو محذورة، ثم مات ذلك الرجل، وقال ابن جرير وغيره: كان لأبي محذورة أخ يسمى أنَيسًا، قتل يوم بدر كافرًا.

وقال الزبير بن بكار: أبو محذورة اسمه أوس بن مِعْيَر بن لوذان بن سعد بن جمح، من قال غير هذا، فقد أخطأ، قال: وأخوه أنيس قتل يوم بدر كافرًا، وقال ابن عبد البر: اتفق الزبير، وعمه مصعب، وابن إسحاق، والمُسَيَّبي على أن اسم أبي محذورة أوس، ومن قال في اسم أبي محذورة: سلمة، فقد أخطأ، وقال ابن جرير: توفي أبو محذورة بمكة سنة 59، وقيل سنة 79، وقال ابن حبان في الصحابة: ابن معير، أبو محذورة، مات بعد أبي هريرة، وقبل سمرة بن جندب ما

(1)

هي جلدة بين السرة والعانة. اهـ من هامش تت.

ص: 687

بين 58 إلى 60، وَلاه النبي صلى الله عليه وسلم الأذان بمكة يوم الفتح. وقال النووي عن ابن قتيبة أن اسمه سليمان، واستغربه. اهـ. "تت".

أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم، والأربعة. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من رباعيات المصنف وهو 30 من رباعيات الكتاب، وهي أعلى ما وقع للمصنف من الأسانيد، كما تقدم غير مرة.

ومنها: أن رجاله موثوقون، وأنهم مكيون، إلا شيخه، فبصري.

ومنها: أن فيه رواية الراوي عن أبيه، وجده. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي محذورة) أوس بن مِعْيَر على الصحيح القرشي الجُمَحي الصحابي المؤذن المكي رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم أقعده، فألقى عليه الأذان) يقال: ألقيته عليه: إذا أمليته، وهو كالتعليم، كما قاله الفيومي، أي أملى عليه كلمات الأذان (حرفًا حرفًا) أي كلمة كلمة، من إطلاق الجزء وإرادة الكل، وانتصابه على الحال، وإن كان غير مشتق، لأن غير المشتق يقع حالًا بكثرة إذا كان ظاهر التأويل بمشتق، كأن يدل على الترتيب، كادخلوا رجلًا رجلًا، أي مترتبين، وكهذا المثال، قال ابن مالك رحمه الله:

ص: 688

وَيَكْثُرُ الجُمُودُ فِي سِعْرٍ وَفِي

مُبْدِي تَأوُّلٍ بِلا تَكَلُّفِ

(1)

(قال إِبراهيم) بن عبد العزيز (هو) أي الأذان الذي ألقاه النبي صلى الله عليه وسلم على أبي محذورة رضي الله عنه (مثل أذاننا هذا) قال بشر ابن معاذ: (قلت له: أعِدْ علي) يريد وصفه له قولًا: (قال) إبراهيم (الله أكبر، الله أكبر) هكذا في هذه الرواية بتثنية التكبير، لكن أكثر الروايات عن أبي محذورة بالتربيع، وسيأتي تمام البحث فيه، إن شاء الله تعالى.

ومعنى "الله أكبر": قيل: الله كبير، فوضع "أفعل" موضع "فعيل"، كقوله تعالى:{وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]، أي هو هَيِّن

عليه، ومثله قول مَعْن بن أوس:

لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لأوْجَلُ

أي وَجِلٌ. قيل: المعنى الله أكبرُ كَبِيرٍ، وقيل: معناه الله أكبر من كل شيء، فحذف لوضوح معناه، وقيل معناه: الله أكبر من أن يعرف كنه كبريائه، وعظمته. أفاده في اللسان.

(أشهد أن لا إِله إِلا الله مرتين) معناه: أعْلَمُ، وأبَيِّن أنه لا إله إلا الله، ومن ذلك شهد الشاهد عند الحاكم، أي بَيَّن له، وأعلمه الخبر الذي عنده.

(1)

انظر شرح ابن عقيل مع حاشية الخضري على ألفية ابن مالك جـ 1 ص 213.

ص: 689

(أشهد أن محمدًا رسول الله مرتين) أي أعلم، وأبيّن أن محمدًا رسول الله.

والرَّسول: فعول بمعنى مفعول، يقال: أرسلت رسولًا: بعثته برسالة يؤديها، ويجوز استعماله بلفظ واحد للمذكر والمؤنث، والمثنى، والمجموع، ويجوز التثنية، والجمع، فيجمع على رسل بضمتين، وإسكان السين لغة. قاله الفيومي.

(ثم قال بصوت دون ذلك الصوت) أي بصوت منخفض (يُسمِع) من الإسماع، بالبناء للفاعل، حال من "قال"، أي قال بصوت منخفض حال كونه مسمعًا (مَن حولَه) من الحاضرين (أشهد أن لا إِله إِلا الله مرتين، أشهد أن محمدًا رسول الله مرتين) فقوله:

"أشهد إلخ" مقول "قال".

فيه إثبات مشروعية الترجيع في الأذان، وهو أن يخفض صوته بالشهادتين، بعد الجهر بهما، لكن فيه مخالفة لأكثر الروايات عن أبي محذورة، فإن الترجيع فيها يكون بخفض الصوت أوّلًا بالشهادتين، ثم رفعه بهما، ويأتي تحقيق القول في ذلك قريبًا، إن شاء الله تعالى.

(حي على الصلاة مرتين) قال الجوهري: قولهم: "حي على الصلاة": معناه: هَلُمَّ وأقْبِلْ، وفتحت الياء لسكونها وسكون ما قبلها، كما قيل في ليت، ولَعَلَّ، وهو اسم فعل أمر.

ص: 690

(حي على الفلاح مرتين) أي هلموا إلى الفلاح وأقبلوا، والفلاح: الفوز، أي تعالَوا إلى طريق النجاة. وقيل: إلى البقاء، أي أقبلوا على سبب البقاء في الجنة، والفَلَح -بفتح الفاء واللام لغة في الفَلاحَ، حكاهما الجوهري وغيره، ويقال لقولهم:"حي على كذا" الحيْعَلةُ، قال الإمام أبو منصور الأزهري: قال الخليل بن أحمد رحمهما الله: الحاء والعين لا يأتلفان في كلمة أصلية الحروف، لقرب مخرجيهما، إلا أن يؤلف فعل من كلمتين، مثل حيّ على كذا، فيقال: منه حَيْعَل. أفاده النووي في "شرح مسلم" جـ 4 ص 81، 82.

(الله أكبر، الله أكبر) مرتين (لا إِله إِلا الله) مرة واحدة. والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته.

حديث أبي محذورة رضي الله عنه في متنه نكارة.

وقال الشيخ الألباني: منكر مخالف للروايات الأخرى عن أبي محذورة. انظر ضعيف النسائي ص 19، وهو كما قال، فإن فيه أن رفع الصوت بالشهادتين يكون أولًا، بخلاف سائر الروايات عنه فإن فيها خفض الصوت بالشهادتين أوَّلا، ثم رفعه بهما ثانيًا، وهو ظاهر سياق مسلم في "صحيحه".

ص: 691

وأما تثنية التكبير في أوله، فيحمل على اختلاف الرواية عنه تثنية، وتربيعًا، فقد أخرجه مسلم أيضًا بالتثنية في صحيحه من رواية عبد الله ابن محيريز عنه، وكذلك اختلف في حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه تثنية وتربيعًا.

قال النووي رحمه الله تعالى: هكذا وقع هذا الحديث في صحيح مسلم في أكثر الأصول في أوله "الله أكبر" مرتين فقط، ووقع في غير مسلم "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر" أربع مرات، قال القاضي عياض رحمه الله: ووقع في بعض طرق الفارسي في صحيح مسلم أربع مرات، وكذلك اخْتُلِفَ في حديث عبد الله بن زيد في التثنية، والتربيع، والمشهور فيه التربيع. اهـ. شرح مسلم جـ 4 ص 81.

فظهر بهذا أنه اختلف في أذان أبي محذورة بتثنية التكبير في أوله، وتربيعه. فالحديث صحيح، ويرجح التربيع لكثرة من رواه، وكونِه زيادة، أو يفعل بِكُلٍّ، تارة بالتثنية، وتارة بالتربيع.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: كل هذه الوجوه جائزة مُجْزِئة، لا كراهة فيها، وإن كان بعضها أفضل من بعض، لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم جميع ذلك، وعمل به أصحابه، فمن شاء رَبَّع التكبير، ومن شاء ثَنَّى الإقامة، ومن شاء أفردها، إلا "قد قامت الصلاة"، فإن ذلك مرتان على كل حال، وهذا كما قيل في التشهدات والتوجيهات. ولكن ذلك لا ينافي أن يختار الإنسان لنفسه أصح ما ورد، أو أن يأخذ

ص: 692

بالزائدِ، فالزائد.

هذا خلاصة ما في الباب اهـ. كلامه رحمه الله.

قال الجامع: هذا الذي قاله العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى هو الراجح عندي؛ لجمعه بين الروايات المختلفة، فلا ينبغي أن يعمل ببعضها، ويترك بعضها، بل بهذا تارة، وبهذا تارة. ولكن يعمل في أكثر الأوقات بالأصح رواية. والله أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له.

أخرجه هنا (629) عن بشر بن معاذ، عن إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الملك، عن أبيه، وجده، كلاهما عن أبي محذورة رضي الله عنه.

و (630) عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن همام بن يحيى، عن عامر بن عبد الواحد، عن مكحول، عن عبد الله بن محيريز، عنه مختصرًا.

و (631) عن إسحاق بن إبراهيم، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن عامر الأحول به.

و (632) عن إبرهيم بن الحسن، ويوسف بن سعيد، كلاهما عن حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة، عن ابن محيريز، عنه.

ص: 693

و (633) عن إبراهيم بن الحسن، عن حجاج، عن ابن جريج، عن عثمان بن السائب، عن أبيه، وأم عبد الملك بن أبي محذورة،

كلاهما عن أبي محذورة. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه.

فأخرجه مسلم في "الصلاة" عن أبي غسان مالك بن عبد الواحد، وإسحاق بن إبراهيم، كلاهما عن معاذ بن هشام الدستوائي، عن أبيه، عن عامر به.

وأخرجه أبو داود في "الصلاة" عن الحسن بن علي، عن عَفَّانَ، وسعيد بن عامر، والحجاج بن منهال، ثلاثتهم، عن همام، عن

عامر الأحول به نحوه.

وعن مسدد، عن الحارث بن عبيد، عن محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة، عن أبيه، عن جده بمعناه.

وعن الحسن بن علي، عن أبي عاصم، وعبد الرزاق، كلاهما عن ابن جريج، عن عثمان بن السائب عن أبيه، وأم عبد الملك بن أبي محذورة، كلاهما عن أبي محذورة، بمعناه.

وعن ابن بشار، عن أبي عاصم، عن ابن جريج، عن عبد العزيز ابن عبد الملك بن أبي محذورة، عن ابن محيريز، نحوه.

ص: 694

وعن النفيلي، عن إبراهيم بن إسماعيل بن عبد الملك بن أبي محذورة، عن جده عبد الملك، عن أبي محذورة، نحوه.

وعن محمد بن داود الإسكندراني، عن زياد بن يونس، عن نافع ابن عمر الجمحي، عن عبد الملك بن أبي محذورة، عن عبد الله بن محيريز به- والمعنى متقارب.

وأخرجه الترمذي فيه عن بشر بن معاذ، بسند المصنف، وعن أبي موسى، عن عفَّان، عن همام، عن عامر به. مختصرًا. وقال:

حسن صحيح.

وأخرجه ابن ماجه فيه عن بندار، ومحمد بن يحيى، كلاهما عن أبي عاصم، عن ابن جريج، عن عبد العزيز به. وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عَفَّانَ، عن همام به

(1)

. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف، وهو مشروعية الترجيح في حال الأذان، وفيه اختلاف بين أهل العلم، سأذكر تحقيقه في المسألة التالية إن شاء الله تعالى.

ومنها: فضل أبي محذورة رضي الله عنه؛ حيث لقنه النبي صلى الله عليه وسلم الأذان، ووَّلاه إياه في مكة.

(1)

انظر تحفة الأشراف جـ 9 ص 285، 286 - نقلته بتصرف.

ص: 695

ومنها: بيان ألفاظ الأذان.

ومنها: جواز كون التكبير في أوله مثنى، وإن كان التربيع هو الأولى لكثرة من رواه. والله تعالى أعلم.

المسألة الخامسة: في اختلاف العلماء في الترجيع في الأذان:

ذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وجمهور العلماء إلى مشروعية الترجيع في الأذان، وهو العود إلى الشهادتين مرتين برفع

الصوت بعد قولهما مرتين بخفض الصوت.

وذهب أبو حنيفة، والكوفيون إلى أنه لا يشرع الترجيح، عملًا بحديث عبد الله بن زيد، فإنه ليس فيه ترجيع.

واحتج الجمهور بحديث أبي محذورة المذكور في الباب، فإن فيه زيادة، فيقدم، مع أنه متأخر عن حديث عبد الله بن زيد، فإن حديث أبي محذورة كان سنة ثمان من الهجرة بعد حنين، وحديث عبد الله بن زيد في أول الأمر، وانضم إلى هذا كُلِّهِ عملُ أهل مكة والمدينة وسائر الأمصار.

قال النووي رحمه الله: واختلف أصحابنا في الترجيح هل هو ركن لا يصح الأذان إلا به، أم هو سنة، ليس ركنًا، حتى لو تركه صح الأذان مع ذوات كمال الفضيلة، على وجهين، والأصح عندهم أنه سنة.

وقد ذهب جماعة من المحدثين وغيرهم إلى التخيير بين فعل

ص: 696

الترجيح، وتركه، والصوابُ إثباته، والله أعلم. اهـ. شرح مسلم جـ 4 ص 81.

قال الجامع: ما ذهب إليه الجماعة من المحدثين وغيرهم من التخيير عندي هو الراجح، وإن كان الترجيح هو الأفضل، فيعمل به

غالبًا، ويعمل بدونه أحيانًا، عملًا بما ثبت من الأمرين بدون تكلف. والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 697

‌4 - كَم الأذَانُ مِنْ كَلِمَةِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على جواب سؤال من سأل بقوله: كم الأذان من كلمة.

630 -

أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللهِ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا مَكْحُولٌ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَيْرِيزٍ، عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الأَذَانُ تِسْعُ عَشْرَةَ كَلِمَةً، وَالإِقَامَةُ سَبْعُ عَشْرَةَ كَلِمَةً". ثُمَّ عَدَّهَا أَبُو مَحْذُورَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً وَسَبْعَ عَشْرَةَ.

رجال الإسناد: سبعة

1 -

(سُوَيد بن نَصْر) أبو الفضل الشَّاهُ المروزي، راويَةُ ابن المبارك، ثقة، من [10]، تقدم في 45/ 55.

2 -

(عبد الله) بن المبارك أبو عبد الرحمن الحنظلي المروزي، ثقة، ثبت، حجة، إمام، من [8]، تقدم في 32/ 36.

3 -

(هَمَّامُ بن يحيى) بن دينار العَوْذي، أبو عبد الله، أو أبو بكر البصري، ثقة ربما وهم، توفي سنة 164 أو 165، من [7]،

ص: 698

أخرج له الجماعة، تقدم في 465.

4 -

(عامر بن عبد الواحد) الأحول البصري، صدوق يخطئ، من [6]، وهو عامر الأحول الذي يروي عن عائذ بن عمرو المزني الصحابي، ولم يدركه.

قال أبو طالب عن أحمد. ليس بقوي، وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ليس حديثه بشيء، وقال أبو داود: سمعت أحمد يضعفه، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال أبو خيثمة عن ابن معين: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: ثقة، لا بأس به، وقال ابن عدي: لا أرى بروايته بأسًا، وذكره ابن حبان في الثقات، أخرج له البخاري في "جزء القراءة"، والباقون.

5 -

(مكحول) الشامي، أبو عبد الله، ويقال: أبو أيوب، ويقال: أبو مسلم، ثقة، فقيه، كثير الإرسال مشهور، من [5].

ذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من تابعي أهل الشام. وقال الدوري عن ابن معين: قال أبو مسهر. لم يسمع مكحول من عَنْبَسَة ابن أبي سفيان، ولا أدري أدركه أم لا؟. وقال أبو حاتم: قلت لأبي مسهر: هل سمع مكحول من أحد من الصحابة؟ قال: من أنس. قلت: قيل: سمع من أبي هند، قال: من رواه؟ قلت: حيوة، عن أبي صخرة، عن مكحول أنه سمع أبا هند، فكأنه لم يلتفت إلى ذلك، فقلت له: فواثلة بن الأسقع؟ فقال: من يرويه؟ قلت: حدثنا

ص: 699

أبو صالح كاتب الليث، حدثني معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن مكحول، قال: دخلت أنا، وأبو الأزهر على واثلة،

فكأنه أومأ برأسه

(1)

.

وقال الترمذي: سمع مكحول من واثلة، وأنسن، وأبي هند الداري، ويقال: إنه لم يسمع من أحد من الصحابة، إلا منهم. وقال

النسائي: لم يسمع من عنبسة. وقال يحيى بن حمزة، عن أبي وَهْبٍ الكَلاعِي، عن مكحول أعْتِقْتُ بمصر، فلم أدع فيها علمًا إلا احتويت عليه فيما أرى، ثم أتيت العراق، والمدينة، والشام، فذكر كذلك.

وقال ابن زبر عن الزهري: العلماء أربعة، فذكرهم، فقال: ومكحول بالشام. وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: سمعت مكحولًا يقول: طفت الأرض كلها في طلب العلم. وقال أبو مسهر عن سعيد بن عبد العزيز: كان سليمان بن موسى يقول: إذا جاء العلم من الشام عن مكحول قبلناه، وقال مروان بن محمد عن سعيد: لم يكن في زمان مكحول أبصر منه بالفتيا. وقال عثمان بن عطاء: كان مكحول أعجميًا لا يستطيع أن يقول "قل" يقول: "كل"، فكل ما قال بالشام قُبِلَ منه.

وقال ابن عمار: كان مكحول إمام أهل الشام. وقال العجلي: تابعي ثقة. وقال ابن خراش: شامي صدوق، وكان يرى القدر. وقال

(1)

بقية كلام أبي حاتم الرازي "كأنه قَبِل ذلك" من هامش تهذيب الكمال.

ص: 700

مروان بن محمد عن الأوزاعي: لم يبلغنا أن أحدًا من التابعين تكلم في القدر إلا هذين الرجلين: الحسن ومكحول، فكشفنا عن ذلك، فإذا هو باطل. وقال أبو حاتم: ما أعلم بالشام أفقه من مكحول.

وقال ابن يونس: ذكر أنه من أهل مصر، ويقال: كان لرجل من هذيل من أهل مصر فأعتقه، فسكن الشام، ويقال: كان من آل فارس، ويقال: كان اسم أبيه شهراب وكان مكحول يكنى أبا مسلم، وكان فقيهًا عالمًا، رأى أبا أمامة، وأنسًا، وسمع من واثلة، يقال: توفي سنة 118، وقال أبو نعيم: مات سنة 112، وفيها أرخه دُحَيم، وغير واحد. وقال أبو مسهر: مات سنة 112 - وعنه 113 أو 114 وكذا قال الحسن بن محمد بن بكار بن بلال. وقال سليمان بن عبد الرحمن: مات 113 وقال ابن سعد 116 وعن عمر بن سعيد الدمشقي 118 أخرج له البخاري في "جزء القراءة"، والباقون.

6 -

(عبد الله بن مُحيرِيز) بن جُنَادة بن وَهْب الجُمَحي المكي، كان يتيمًا في حجر أبي محذورة بمكة، ثم نزل بيت المقدس، ثقة عابد، توفي سنة 99 وقيل: بعدها، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 61.

7 -

(أبو محذورة) أوْسُ بن مِعْيَر رضي الله عنه، تقدم في السند الماضي. والله تعالى أعلم.

ص: 701

لطائف الإسناد

منها: أنه من سباعياته، وأن رجاله كلهم ثقات، إلا عامرًا فصدوق يخطئ، وأنهم ما بين مروزيَّيْنِ، وهما شيخه، وعبد الله بن

المبارك، وبصريَّيْنِ، وهما همام، وعامر، وشاميِّينَ، وهم الباقون. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي محذورة) رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الأذان تسع عشرة كلمة) أي بتربيع التكبير في أوله، والترجيع للشهادتين (والإِقامة سبع عشرة كلمة) أي بتربيع التكبير في أوله، وتثنية باقي الكلمات، إلا كلمة التوحيد (وعدها أبو محذورة تسع عشرة كلمة، وسبع عشر كلمة) أي ذكر أبو محذورة رضي الله عنه كلمات الأذان مفصلة بعد أن ذكرها مجملة، وكذا الإقامة، وسيأتي ذكر تفصيل الأذان برقم (631) و (632) وتفصيل الأذان والإقامة معًا برقم (633) إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي محذورة رضي الله عنه هذا صحيح. تقدم تخريجه في

ص: 702

الباب السابق.

المسألة الثانية: في مذاهب العلماء في عدد كلمات الأذان:

ذهب إلى أن الأذان تسع عشرة كلمة الشافعية، وطائفة من أهل العلم.

وذهب أبو حنيفة، وَالثَّوْرِيُّ، وأحمد إلى أنه خمس عشرة كلمة، واحتجوا بحديث عبد الله بن زيد.

واحتج الأولون بحديث أبي محذورة هذا، وقالوا: العمل به مقدم، لأوجه:

منها: أن فيه زيادة، وزيادة الثقة مقبولة.

ومنها: أنه متأخر، لأنه سنة ثمان، وحديث عبد الله بن زيد كان أول الأمر.

ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لَقَّنَهُ إياه.

ومنها: أن عمل أهل الحرمين عليه، هكذا قال النووي

(1)

.

وذهب مالك إلى أنه سبع عشرة كلمة، لعدم تربيع التكبير في أول الأذان عنده. واستدل بحديث أبي محذورة المتقدم برقم (629) الباب السابق.

قال العلامة ابن رشد رحمه الله في "بداية المجتهد": اختلف العلماء في الأذان على أربع صفات مشهورة:

(1)

فيه أن عمل أهل المدينة على مذهب مالك، كما يأتي في كلام ابن رشد.

ص: 703

إحداها: تثنية التكبير فيه، وتربيع الشهادتين، وباقيه مثنى، وهو مذهب أهل المدينة، ومالك، وغيره، واختار المتأخرون من

أصحاب مالك الترجيح، وهو أن يثني الشهادتين أولًا خفيًا، ثم يثنيهما مرة ثانية مرفوع الصوت.

قال الجامع: هذا خلاف ما تقدم من معنى الترجيح الذي قال به الجمهور.

والصفة الثانية: أذان المكيين، وبه قال الشافعي، وهو تربيع التكبير الأول، والشهادتين، وتثنية باقي الأذان.

والصفة الثالثة: أذان الكوفيين، وهو تربيع التكبير الأول، وتثنية باقي الأذان، وبه قال أبو حنيفة.

ؤالصفة الرابعة: أذان البصريين، وهو تربيع التكبير الأول، وتثليث الشهادتين، وحَيَّ على الصلاة، وحي على الفلاح، يبدأ بأشهد أن لا إله إلا الله، حتى يصل حي على الفلاح، ثم يعيد كذلك مرة ثانية، ثم يعيدهن ثالثة. وبه قال الحسن البصري، وابن سيرين.

وسبب اختلاف هؤلاء الفرق الأربع هو اختلاف الآثار في ذلك، واختلاف اتصال العمل عند كل واحد منهم، وذلك أن المدنيين يحتجون لمذهبهم بالعمل المتصل بذلك في المدينة.

والمكيون كذلك أيضًا يحتجون بالعمل المتصل عندهم بذلك، وكذلك الكوفيون والبصريون، ولكل واحد منهم آثار تشهد لقوله. أما تثنية التكبير في أوله على مذهب أهل الحجاز، فروي من

ص: 704

طرق صحاح عن أبي محذورة، وعبد الله بن زيد الأنصاري، وتربيعه أيضًا مروي عن أبي محذورة من طرق أخَر، وعن عبد الله بن زيد، قال الشافعي: هي زيادات يجب قبولها مع اتصال العمل بذلك بمكة.

وأما الترجيع الذي اختاره المتأخرون من أصحاب مالك، فروي من طريق أبي قُدامة. قال أبو عمر: أبو قدامة عندهم ضعيف.

وأما الكوفيون فبحديث ابن أبي ليلى، وفيه أن عبد الله بن زيد رأى في المنام رجلًا قام على خرم حائط، وعليه بُرْدان أخضران، فأذن مثنى، وأقام مثنى، وأنه أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقام بلال، فأذن مثنى، وأقام مثنى.

والذي خرّجه البخاري في هذا الباب إنما هو من حديث أنس فقط، وهو أن بلالا أمر أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة، إلا قد قامت الصلاة، فإنه يثنيها.

وخرج مسلم عن أبي محذورة صفة أذان الحجازيين.

ولمكان هذا التعارض الذي ورد في الأذان رأي أحمد بن حنبل، وداود أن هذه الصفات المختلفة إنما وردت على التخيير، لا على إيجاب واحدة منها، وأن الإنسان مخير فيها. اهـ كلام ابن رشد في "بداية المجتهد" ببعض تصرف. جـ 1 ص 105، 106.

وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: ذهب أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وداود بن علي، ومحمد بن جرير إلى إجازة القول بكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وحملوه على

ص: 705

الإباحة والتخيير، قالوا: كل ذلك جائز، لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم جميع ذلك، وعمل به أصحابه، فمن شاء قال:"الله أكبر" أربعًا في أول الأذان، ومن شاء ثنى الإقامة، ومن شاء أفردها إلا قوله:"قد قامت الصلاة"، فإن ذلك مرتان على كل حال. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله هؤلاء الأئمة من التخيير هو الراجح عندي، كما تقدم. والله أعلم.

المسألة الثالثة: في اختلاف العلماء في عدد كلمات الإقامة:

ذهب الشافعي، وأحمد، وجمهور العلماء إلى أن ألفاظ الإقامة إحدى عشرة كلمة، كلها مفردة إلا التكبير في أولها وآخرها، ولفظ "قد قامت الصلاة" فإنها مثنى، واستدلوا بحدث أنس السابق (627)، وحديث ابن عمر (628)، وحديث عبد الله بن زيد.

قال الخطابى رحمه الله: مذهب جمهور العلماء، والذي جرى به العمل في الحرمين، والحجاز والشام واليمن، ومصر، والمغرب إلى أقصى بلاد الإسلام أن الإقامة فرادى، قال أيضًا: مذهب كافة العلماء أنه يكرر قوله: "قد قامت الصلاة" إلا مالكًا، فإن المشهور عنه أنه لا يكررها. وذهب الشافعي في قديم قوليه إلى ذلك. قال النووي: ولنا قول شاذ أنه يقول في التكبير الأول "الله أكبر" مرة، وفي الأخير مرة؟ ويقول:"قد قامت الصلاة" مرة.

وقال ابن سيد الناس رحمه الله: وقد ذهب إلى القول بأن الإقامة إحدى عشرة كلمة عمر بن الخطاب وابنه، وأنس، والحسن البصري،

ص: 706

والزهري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، ويحيى بن يحيى، وداود، وابن المنذر.

وقال البيهقي رحمه الله: وممن قال بإفراد الإقامة سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وابن سيرين، وعمر بن عبد العزيز. قال

البغوي رحمه الله. هو قول الأكثرين.

وذهبت الحنفية، والهادوية، والثوري، وابن المبارك، وأهل الكوفة إلى أن ألفاظ الإقامة مثل الأذان عندهم مع زيادة "قد قامت

الصلاة" مرتين.

واستدلوا بما في رواية من حديث عبد الله بن زيد عند الترمذي، وأبي داود بلفظ "كان أذان رسول الله صلى الله عليه وسلم شفعًا شفعًا في الأذان والإقامة". وأجيب عن ذلك بأنه منقطع، كما قال الترمذي. وقال الحاكم، والبيهقي: الروايات عن عبد الله بن زيد في هذا الباب كلها منقطعة، ويجاب عن هذا الانقطاع بأن الترمذي قال بعد إخراج هذا الحديث عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن زيد: ما لفظه: وقال شعبة عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن زيد رأى الأذان في المنام. قال الترمذي: وهذا أصح. انتهى.

وقد رَوَى ابنُ أبي ليلى عن جماعة من الصحابة: منهم عمر، وعثمان، وعلي، وسعد بن أبي وقاص، وأبَيّ بن كعب، والمقداد،

وكعب بن عجرة، وزيد بن أرقم، وحذيفة بن اليمان، وصهيب،

ص: 707

وخلق يطول ذكرهم. وقال: أدركت عشرين ومائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم من الأنصار، فلا علة للحديث، لأنه على الرواية عن عبد الله بدون توسيط الصحابة مرسل عن الصحابة، وهو في حكم المسند، وعلى روايته عن الصحابة عنه مسند، ومحمد بن عبد الرحمن، وإن كان بعض أهل الحديث يضعفه فمتابعة الأعمش إياه عن عمرو بن مرة، ومتابعة شعبة كما ذكر ذلك الترمذي مما يصحح خبره، وإن خالفاه في الإسناد وأرسلا، فهي مخالفة غير قادحة.

واستدلوا أيضًا بما رواه الحاكم، والبيهقي في الخلافيات، والطحاوي من رواية سُوَيد بن غَفَلَةَ: أن بلالًا كان يثني الأذان والإقامة، وادعى الحاكم فيه الانقطاع. قال الحافظ: ولكن في رواية الطحاوي: "سمعت بلالًا"، ويؤيد ذلك ما رواه ابن أبي شيبة عن جبر ابن علي، عن شيخ يقال له: الحفص، عن أبيه، عن جده، وهو سعد القرظ، قال: أذن بلال حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أذن لأبي بكر في حياته، ولم يؤذن في زمان عمر، وسويد بن غفلة هاجر في زمن أبي بكر.

وأما ما رواه أبو داود من أن بلالًا ذهب إلى الشام في حياة أبي بكر، فكان بها حتى مات فهو مرسل، وفي إسناده عطاء الخراساني، وهو مدلس. وروى الطبراني في مسند الشاميين من طريق جُنادة بن أبي أمَيَّة، عن بلال، أنه كان يجعل الأذان والإقامة مثنى مثنى، وفي إسناده ضعف.

وقال الحافظ: وحديث أبي محذورة في تثنية الإقامة مشهور، عند

ص: 708

النسائي وغيره. انتهى. وحديث أبي محذورة حديث صحيح، ساقه الحازمي في الناسخ والمنسوخ، وذكر فيه الإقامة مرتين مرتين. وقال: حديث حسن على شرط أبي داود، والترمذي، والنسائي. وحديث أبي محذورة متأخر عن حديث بلال الذي فيه الأمر بإيتار الإقامة، لأنه بعد فتح مكة، لأن أبا محذورة من مسلمة الفتح، وبلال أمرَ بإفراد الإقامة أول ما شرع الأذان، فيكون ناسخًا، وقد روى أبو الشيخ: أن بلالًا أذن بمنى ورسول الله صلى الله عليه وسلم ثَمَّ مرتين مرتين، وأقام مثل ذلك.

قال الشوكاني رحمه الله: إذا عرفت هذا تبين لك أن أحاديث تثنية الإقامة صالحة للاحتجاج بها، لما أسلفناه، وأحاديث إفراد الإقامة، وإن كانت أصح منها، لكثرة طرقها، وكونها في الصحيحين، لكن أحاديث التثنية مشتملة على الزيادة، فالمصير إليها لازم مع تأخر تاريخ بعضها، كما عرفناك. اهـ. نيل الأوطار جـ 2 ص 106 - 108.

قال الجامع عفا الله عنه: الأحسن من هذا ما قدمناه من جواز العمل بالروايتين؛ لصحة الحديثين، فيعمل بالإفراد، في أكثر

الأوقات، ويعمل بالتثنية في بعض الأوقات، فهذا أحسن من دعوى النسخ وغيره، فتبصر. والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب.

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} .

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)

ص: 709

وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.

اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

السلام على النبي، ورحمة الله، وبركاته.

"سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، أستغفرك، وأتوب إليك".

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغني القدير، محمد ابن الشيخ علي ابن آدم بن موسى، الإتيوبيّ، نزيل مكة، عفا الله عنه، وعن والديه:

هذا آخر الجزء السابع من شرح سنن أبي عبد الرحمن النسائي رحمه الله تعالى المسمى [ذخِيرةَ العُقْبى في شرح المجتبى] أو [غايةَ الْمُنَى في شرح المجتنى].

ختمته بحمد الله تعالى، وحسن توفيقه ليلة الأحد المبارك

(1)

-13/ 8/ 1414 هـ الموافق 24 يناير/ 1994 م.

وذلك في حي الهنداوية بمكة المكرمة، زادها الله شرفًا وعزًّا، وزادني فيها إقامة وفَوْزًا.

ويليه الجزء الثامن مفتتحًا بـ "كيف الأذان" 50/ 631.

(1)

هذا التاريخ على حسب التجزئة الأصلية، وإلا فقد أخذت بعضه، فأدخلته في الجزء الثامن.

ص: 710